منتقى الأصول المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1413 ه-.ق

الصفحات: 528

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الأول

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 1

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

الصورة

ص: 5

ص: 6

المقدمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

طلب إلي - ولعل الأصح كان من المفروض علي - تقديم الكتاب ، علما بأن ذلك من الصعب جدا ، إذ كان المعني به : تقويم الكتاب ، وتقييم مؤلفه .. وهذا ما يعوزني - جدا - متطلباته ، وأراني فاقدا للصلاحيات المفروضة فيه. ولكن حيث لم يكن الامر بالخيار ، فلا مبرر للاعتذار.

1 - تمهيد :

1

ان علم ( أصول الفقه ) في المصطلح الحوزوي يعنى به : مجموعة من المسائل يقع عليها - بالدرجة الأولى - ثقل علم ( الفقه ) ، أي : اثبات الوظائف الشرعية العملية للمكلفين. ولا ضير إذا اكتفينا - في هذا المجال - بهذا المقدار في تعريف العلم ، حيث لا يتطلب منا الموقف تحديده بالدقة ، بل هو ما يتكفله الكتاب نفسه اذن فعلم ( أصول الفقه ) - في الحقيقة - من العلوم الالية لعلم ( الفقه ) ، رغم أنه - في نفسه - يمثل مرتبة سامية من المعرفة بلغها الادراك البشري عبر تاريخه الطويل.

وقد مر على هذا العلم - شأن لداته من سائر العلوم والفنون - أدوار ومراحل ، دور الابداع والتأسيس ، دور التطور والتكامل ، السريع منهما والمتلكئ

ص: 7

القريب من الجمود في بعض الأحايين. كما كان له - إلى جانب ذلك - نصيبه من التوسع والانكماش حسب تبائن الاتجاهات والنزعات ، ونتيجة اختلاف الظروف والأحوال السائدة في الحوزات والمعاهد العلمية.

2

جرت العادة في التقديم لأمثال علم ( أصول الفقه ) على تحديد المراحل التي مر بها العلم منذ فجر تأسيسه ، وحتى عصر المؤلف ، معتبرين له دور التأسيس والابداع ، ودور النضج والكمال .. ومحددين كل ذلك بزمان خاص ، وعصر أحد أعلام ذلك العلم .. واعتبار كل ذلك بوجه الدقة ، مدعوما بشواهد وأدلة لا ترضخ للنقد والتمحيص ، ويكون بعيدا كل البعد عن ذهنيات الكاتب وميوله ، واتجاهاته الموافقة أو المعاكسة لأولئك الاعلام شئ يصعب المصادقة عليه. وهي سبيل ترتكز - على أغلب الظن - على الحدس والاجتهاد أكثر مما تعتمد الحقائق والواقعيات ، بالإضافة إلى ما قد يستلزمه ذلك من البخس بحق بعض ، والايفاء فوق اللازم لحق الآخرين.

فارتأيت لذلك - وانا لا بد لي من تقديم الكتاب - تجنب الطريقة الكلاسيكية المتبعة من أغلبية الكتبة ، وأن ألج الموضوع من باب آخر ، كي لا أرمى بالاندفاع العاطفي ، وليأتي حديثي أبعد ما يكون من التخرص بالغيب ولذلك أعرضت عن تحديق إلى الزمن البعيد ، وتجنبت الكلام عن العصور الساحقة الضاربة في القدم ، واعتبرت موضوع حديثي عن سير هذا العلم في العصر القريب من عصرنا الحاضر ، المشهود حاله أو بالامكان التعرف عليه - لكل أحد - علما بان هذا العلم مدين بالكثير للمساعي المشكورة التي بذلها أئمة هذا الفن الأقدمون ، كشيخنا المفيد ( 336 - 948 / 413 - 1022 ) والشريف علم الهدى ، المرتضى ( 355 - 966 / 436 - 1044 ) وشيخ الطائفة ، الشيخ الطوسي ( 385 - 995 / 460 - 1067 ) وآية اللّه على الاطلاق ، العلامة الحلي

ص: 8

( 648 - 1250 / 726 - 1325 ) وغيرهم ، شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

3

لقد طرء على علم ( أصول الفقه ) منذ عهد المرحوم ، الشيخ محمد تقي الأصفهاني ( - / 1348 ه - 1833 م ) في جلساته على كتاب ( معالم الأصول ) للشيخ حسن ، بن زين الدين ، الشهيد الثاني ( قدهما ) ( 959 ه - 1553 م / 1011 ه - 1602 م ) تطور ملحوظ ، سواء أكان ذلك في بحوثه ومسائله ، أم في نوعية التدليل والبرهنة عليها. وهذا شئ لا ينكره كل من لاحظ الكتاب المذكور ، وقارنه بما سبقه من كتب الأصول.

ثم بدى - وهو أكثر جدة ، وتهذيبا ، وتنقيحا في البحوث والأدلة - فيما كتبه شيخنا العلامة الأنصاري ( قده ) ( 1214 ه - 1800 م / 1281 ه - 1864 م ) في ( فرائد الأصول ) المشتهر في الأوساط الحوزوية باسم ال ( رسائل ).

ويجدر بنا في هذا المجال أن لا ننسى دور جملة من أفاضل تلامذة الشيخ الأنصاري ( قده ) ممن كان لهم الدور الفعال ، والاسهام المشكور في تطوير العلم ، كالمحقق الرشتي ، المرحوم ميرزا حبيب اللّه ( 1234 ه - 1819 م / 1312 ه - 1894 م ) والسيد المجدد ، ميرزا حسن الشيرازي ( 1320 ه - 1815 م / 1312 ه - 1895 م ) وغيرهم. جزاهم اللّه تعالى عن العلم وأهله خير الجزاء.

ثم جاء دور المحقق ، الآخوند ، ملا محمد كاظم الخراساني ( 1255 ه - 183 م / 1329 ه - 1911 م ) المشتهر في العرف الحوزوي باسم كتابه ( كفاية الأصول ) بالمحقق صاحب الكفاية. فقد قطع علم ( أصول الفقه ) على عهده شوطا كبيرا في مجال التطوير والتقدم ، بالإضافة إلى ما امتاز به المحقق المذكور ( قده ) من القدرة على التلخيص والتهذيب.

ومن هنا أصبح كتابه ( كفاية الأصول ) بجزئيه ، مع كتاب ( فرائد الأصول ) لشيخنا الأنصاري ( قده ) محور الدراسات الأصولية في كافة الحوزات العلمية ،

ص: 9

في المرحلة الأخيرة من الدراسة التمهيدية ، المصطلح عليها في العرف الحوزوي باسم : ( دراسة السطح العالي ). ولا يزال هذا الامر قائما حتى يومنا هذا في كل الحوزات العلمية بلا استثناء.

وان من الاعتراف بالجميل : الإشادة بدور المحقق الكبير ، المرحوم ، السيد محمد الفشاركي الأصفهاني ( 1253 ه - 1837 م / 1316 ه - 1899 م ) الذي لا ينكر اسهامه الوافر في هذا المجال. جزاه اللّه سبحانه وتعالى خير الجزاء.

4

لقد برز على الساحة - بعد انتهاء دور المحقق صاحب الكفاية ( قده ) - بمستوى الدراسات الأصولية العليا ، ثلاثة من الاعلام ، يعدون بحق العصب الرئيس لعلم الأصول في عصرنا الحاضر ، وهم :

المحقق ، الميرزا ، حسين ، النائيني ( قده ) ( 1277 ه - 1860 م / 1355 ه - 1936 م ) والمحقق ، الشيخ ، محمد حسين ، الأصفهاني ، المعروف ب ( الكمپاني ) ( قده ) ( 1296 ه - 1878 م / 1361 ه - 1942 م ) فقد أسهموا - بجد وجهد - في تطوير العلم ، ونضجه ، وتعميقه .. كما كان لهم الفضل في تكوين الصفوة القيادية للحوزات العلمية ، سواء أكانوا بمستوى المرجعية العامة ، أم كانوا بمستوى أساتذة للدراسات العليا - وقد خلفوا للأجيال القادمة ثروة علمية طائلة ، لا ينضب معينها.

2 - الكتاب!

دورة كاملة محاضرات في ( أصول الفقه ) بكلا قسميه الرئيسيين : اللفظي والعقلي - حسب التجزئة الكلاسيكية - ألقاها ، سماحة آية اللّه العظمى ، الأستاذ

ص: 10

الأعظم ، المحقق العبقري ، السيد محمد الروحاني ، دام ظله الوارف ، من دورات محاضراته الأصولية ، بالإضافة إلى ما تجدد له - دام ظله - من نظريات علمية ، وأبانه من دقائق لم تسبق إليها الفكر ، وأجلاه من غوامض وتحقيقات رشيقة لم يهتد إليها النظر من الدورة الثالثة. وندعو اللّه العلي القدير أن يتفضل على سيدنا - دام ظله - بالدوام والاستمرارية في إفاداته ، وإتمام الدورة الحاضرة من بحوثه - وهي الدورة الرابعة - وأن يليها دورات مقبلة ، ان شاء اللّه تعالى.

وأرى نفسي في غنى من الإفاضة في الحديث حول الكتاب ، وحول شخصية الأستاذ الأعظم - دام ظله - فسطور الكتاب - بل كلماته - تنطق كلها بذلك ، وتصدق ما كان هو المعتقد والمعترف به في الأوساط العلمية من عد درس هذا الأستاذ العظيم مجالا خصبا للنمو العلمي بمستوى الدراسات الحوزوية العليا فلا غرو - إذن - إذا كان قد التف حوله - دام ظله - في مختلف بحوثه ومحاضراته سواء أكانت بمستوى الدراسة التمهيدية العالية - السطح العالي حسب المصطلح الحوزوي - أم كانت بمستوى الدراسات العليا - بحث الخارج - بالاصطلاح المشار إليه. لا غرو ، إذا ما التف حوله ذوو الذكاء المتوقد ، والنشاط العلمي المتوثب ...

هذا ، ومن فروض القول علي انه ليس لي الاسترسال في الحديث بأكثر من هذا فقد عرفته - دام ظله - بعيدا كل البعد عن السماح بذكر ما يرجع إليه أو يخصه .. ولكنني وجدت الاغضاء عن هذا اليسير جفاء بحق هذا الأستاذ العظيم. فليمنحني عفوه ودعاءه ، كما منحني من ذي قبل رشحات من سحاب علمه الماطر ، وغيظا من فيض فضله الهاطل .. أمد اللّه تعالى في عمره الشريف.

ص: 11

3 - المؤلف!

اشارة

1

العلامة ، الحجة ، فقيد الفضيلة ، والعلم ، والتقى ، الشهيد ، السعيد آية اللّه ، السيد عبد الصاحب الحكيم ، نجل سماحة آية العظمى ، الفقيد الراحل ، السيد محسن الطباطبائي ، الحكيم ، طيب اللّه ثراهما.

( 1360 ه 1941 م / 1403 ه 1983 م )

2

إذا كان من مقومات الشخصية ، والتي ترسم معالمها وتخطط لها : الأسرة ، البيئة. التربية والتعليم. فان المترجم له - تغمده اللّه تعالى بوافر رحمته - كان قد حظي من ذلك كله بالنصيب الأوفى ، ونال منها الحظ الأوفر :

الف - الأسرة!

انحدر المترجم له من أسرة ، شريفة ، علمية ، تتمتع بالكثير من أعلام الأمة ورجالاتها ولعل في القمة منهم : والده ، الفقيد الراحل ، آية اللّه العظمى ، السيد محسن الطباطبائي الحكيم ، طاب ثراه ، الذي أشغل دست المرجعية العليا للطائفة لمدة ربع قرن من الزمن تقريبا.

وقد نشأ المترجم له من أحضان هذه الأسرة العريقة بشرفها ، المتميزة بتاريخها والمحافظة على أصالتها ، وقد تجلت فيه كل الدوافع الخيرة والعواطف النبيلة التي كانت تحملها الأسرة ، كما تمثلت فيه المواهب العقلية والنفسية التي كانت تتمتع بها أعيان الأسرة ورجالاتها.

ب - البيئة!

هي : النجف الأشرف ، مثوى باب مدينة علم رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، رباني الأمة ، وامام الأئمة ، امام المتقين ، وقدوة أهل النهى واليقين ، أمير

ص: 12

المؤمنين ، علي بن أبي طالب ، صلوات اللّه وسلامه عليه. حاضرة الشيعة العلمية الكبرى ما يربو على الألف سنة. تلك المدينة التي أنجبت الألوف من العلماء ، والأدباء .. وأنتجت الألوف ضعف الألوف من الكتب العلمية ، والأدبية ، والتاريخية .. وساهمت مساهمة قيادية في ما لا تعد ولا تحصى من الحوادث والقضايا الاسلامية ، التي كانت بحق نقطة عطف في تاريخ الأمة الاسلامية جمعاء.

ولد المترجم له في هذه المدينة المقدسة ، ونشأ وتعلم بها ، والتحق بحوزتها العلمية ، التي هي - بحق - حوزة الاسلام العلمية الكبرى. وتدرج فيها من دور النشئ الصالح ، إلى مرحلة التلميذ الذكي اليقظ ، ومن مرحلة الطالب الحوزوي إلى دور الأستاذ للدراسات التمهيدية العليا ( تدريس السطح العالي ) إلى أستاذ الدراسات العليا ( تدريس الخارج ).

ج - التربية والتعليم!

اشارة

حظي المترجم له بتربية وثقافة اسلاميتين ، منذ الطفولة وحتى أخريات أيام دراسته. فقد استهل حياته في رعاية أبوين حريصين على اشباع وليدهما بالتربية الاسلامية ، ضمن مراعاتهما لمتطلبات دور الطفولة وحداثة السن. ثم بقي يتقلب في أدوار تالية من حياته خاضعا لاشراف معلمين أكفاء ، وأساتذة هم قدوة في تطبيق مناهج التربية الاسلامية فيما كان يبدو عليه ( قده ) معالم تلك التربية الصالحة حتى اللحظات الأخيرة من حياته.

3

تتمثل شخصية الفقيد - ره - في ثلاث معالم.

1 - شخصيته الخلقية!

كان - رحمه اللّه - خلقيا - أو متخلفا ، وهو لا يقصر به عن الفضيلة في

ص: 13

شئ - بالمعني الذي تحبذه الشريعة ، وتهيب بالناس إليه حليما ، صبورا ، يدارى الناس ويحسن صحبتهم ، بعيدا عن الأنانية الظاهرة المنفرة ، متميزا بين أقرانه بالجدية والابتعاد عن الانشغالية بالأمور التي لا تهمه ولا تمس هدفه ، مثابرا على وظائفه وأعماله وقورا ، رزينا ، لم تحرجه معاكسات الحياة عن وقاره ورزانته ، محافظا على ظواهر الشريعة في سلوكه ، متفانيا في طلب العلم ، مع عزة النفس وعلو الهمة. متحرجا عما يراه ترفعا على الغير رغم ما كان يفرضه منطق المجتمع الذي كان يعيشه بحكم انتمائه إلى المرجعية ، متباعدا - كل البعد - عن معطيات الزعامة الدينية المتمثلة في عميد بيته وسيد الأسرة.

دع عنك حديث مواظبته التامة على التقيد بالاتيان بالفرائض اليومية في أوقاتها والاستغفار بالاسحار ( صلاة الليل ) ، وقراءة القرآن الكريم كل يوم ... هذا بعض من كل لمسته منه - رحمه اللّه - خلال صلتي به فترة تتجاوز الربع قرن : كزميل لا يدانيه في مجلس الدرس ، وشريك لا يجاريه في مجلس البحث وصديق لا يحاكي ما كان فيه من فضائل وفواضل.

2 - شخصيته العلمية!

الف - درس المقدمات : العلوم العربية والأدبية ، والمنطق ، على أساتذة الحوزة كما وحضر في الدراسة التمهيدية العليا ( أو دراسة السطح العالي في المصطلح الحوزوي ) على أساتذة ، بعضهم من أفاضل أسرته ، كالعلامة ، الحجة ، آية اللّه السيد محمد علي الحكيم والعلامة الحجة ، السيد محمد باقر الحكيم.

واختص في الدراسات العليا ( أو دراسة الخارج ) بآية اللّه العظمى السيد الروحاني ، دام ظله ، فقها ، وأصولا. وحضر قليلا - في الفقه - على آية اللّه العظمى ، السيد الخوئي ، دام ظله ، تقريبا منذ سنة 1975.

ب - قام بتدريس السطح العالي : الرسائل ، والمكاسب ، والكفاية سبع

ص: 14

دورات. كما وبدء بتدريس الخارج - فقها وأصولا - منذ : ( 1399 ه - 1979 م ) وحتى قبض عليه - رحمه اللّه - من قبل السلطة الظالمة. فبلغ في الأصول إلى مسألة حجية الخبر الواحد وأتم من الفقه كتابي الاجتهاد والتقليد والطهارة ، وكان موضوع بحثه الفقهي ، كتاب ( منهاج الصالحين ) لوالده آية اللّه العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم طاب ثراه ( 1306 ه - 1886. / 1390 ه - 1970 م ).

وكان - رحمه اللّه - إلى جانب ذلك كله يقوم بالقاء محاضرات توجيهية أسبوعية - في العقائد والاخلاق - على جملة من أفاضل طلبة الحوزة العلمية ، والشباب المثقف ، وكان دأبه تحرير كل ما يقوم بتدريسه أو القاء محاضرة بشأنه.

ج - آثاره ومؤلفاته :

1 - تقريرات بحث أستاذه ، آية اللّه العظمى الروحاني ، دام ظله ، فقها وأصولا. وبهذه المناسبة نؤكد على أملنا في التوفيق لنشر سائر كتبه - رحمه اللّه - تقريرا لمباحث الخيارات ، والصوم ، والزكاة ، والخمس ، والحج ، وغير ذلك ، إن شاء اللّه تعالى.

2 - محاضراته - رحمه اللّه - في ( أصول الفقه ) من أوله إلى مسألة حجية الخبر الواحد ، وكتاب الطهارة من الفقه.

3 - رسالة في طهارة الخمر ، كتبها بارشاد من سماحة والده ، المرحوم آية اللّه العظمى الطباطبائي الحكيم ( قده ).

4 - محاضراته التوجيهية في العقائد والاخلاق.

3 - شخصيته الاجتماعية!

كان - رحمه اللّه - بحكم ابتعاده عن مظاهر الحياة المادية ومتطلباتها ، إلا ما اقتضته الضرورة ومست به الحاجة إليه منها في استمرارية المعيشة. وبحكم

ص: 15

عزوفه عن أعراف الذي كان يعيشه ، حسبما تتطلبه موقعيته الاجتماعية - ولا أعني بذلك العزوف الشاذ ، بل عزوف الزهد والرغبة عنه - لا يهمه سوى طلب العلم والتزود منه بما أوتي من حول وطول ، فكان مغداه بهذا الامل وممساه على هذه النية. وحينما وجد لنفسه من ذلك الرصيد الكافي واللازم كان همه الانفاق بما اكتسبه وتزود منه على أهله ، وفي سبيل رضاه تعالى. وكأنه كان بعمله هذا يهدف إلى ما أرشدت إليه الحكمة المأثورة ، عن امام الأئمة ، أمير المؤمنين ، عليه الصلاة والسلام : ( المال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الانفاق ).

ولو شئنا أن نوجز حياة الفقيد طاب ثراه ، لحق أن يقال : إنه - رحمه اللّه - في ابتغائه العلم كان أحد المنهومين اللذين عنتهما الكلمة المأثورة عن أمير المؤمنين عليه السلام ( منهومان لا يشبعان : طالب علم ... ) ، وكان في حياته الاجتماعية ، مصداقا حيا لقوله عليه السلام : ( خالطوا الناس مخالطة ، إن متم معها بكوا عليكم وان عشتم حنوا إليكم ). طيب اللّه مثواه.

خاتمة المطاف :

لقد قضي - وللأسف - على حياة الفقيد - رحمه اللّه - التي كانت معقد الآمال في الحوزة العلمية ، بقيام الفئة الباغية المجرمة باعتقال الذكور من أسرة آية اللّه العظمى الحكيم طاب ثراه ، كهولا ، وشيوخا ، وشبانا ، وأطفالا منذ العاشرة من العمر ، ومن بينهم سيدنا الفقيد ، في ليلة الثلاثاء 26 رجب 1403.

وقتل مظلوما صابرا مع اثنين من اخوته وثلاثة من أبناء اخوته في ( 7 / شعبان / 1403 ه - 20 / 5 / 1983 ) ثم تلى ذلك وجبات أخرى من الاعدامات بحق أنجال ، وأحفاد .. آية اللّه العظمى الحكيم ، ولا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم. ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ

ص: 16

جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) صدق اللّه العلي العظيم.

هذا ، وان قضى الظالمون بعملهم الاجرامي على معقد آمال الأمة ، لكنهم لم يقضوا على آمالها وأمانيها ، ففي أنجال سيدنا الفقيد الشهيد ، طاب ثراه الأفاضل الاعلام : السيد علي ، والسيد جعفر ، والسيد أحمد ، كل أمل ورجاء. أمد اللّه تعالى في أعمارهم ، وجعلهم عند آمال الأمة وأمانيها والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين ، وجميع الشهداء والصديقين ، وعباد اللّه الصالحين ، ورحمة اللّه وبركاته.

محمد صادق الجعفري

22 / شهر رمضان المبارك / 1412 ه

* * *

ص: 17

ص: 18

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الميامين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

« رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ».

ص: 19

ص: 20

تمهيد

اشارة

اعتاد الأعلام أن يبتدءوا بالبحث عن بعض الأمور وما يتعلق بها ، كموضوع العلم وخصوص علم الأصول والمائز بين العلوم ونحوها. إلا أنها حيث كانت عديمة الفائدة رأينا أن الإغماض عن ذكرها والبحث عنها أولى. ورأينا أن تكون بداية الكلام في الوضع وما يتعلق به من أبحاث ، وقبل الشروع في ذلك لا بد من البحث في جهة واحدة من تلك الجهات المذكورة بدائيا ، وهي معرفة الضابط للمسألة الأصولية التي به تتميز عن غيرها. فان البحث فيها وان لم يكن بذي فائدة عملية وأثر تطبيقي ، إلا انه حيث جرت سيرة القوم على التعرض لها في كل مسألة بالبحث عن أصولية المسألة وعدمها ، كان البحث فيها هاهنا لازما للحاجة إليها فيما يأتي.

ضابط المسألة الأصولية :

اختلف الاعلام في تعيين الضابط للمسألة الأصولية ، وقد حكي عن المشهور ان المسائل الأصولية هي القواعد الممهدة لاستنباط

ص: 21

الأحكام الشرعية ، وقد كان هذا التعريف هو السائد إلى ان خالفه صاحب الكفاية ، فعرف المسائل الأصولية : بأنها ما يعرف بها القواعد التي تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل (1). والنقطة التي يفترق بها صاحب الكفاية في تعريفه عن تعريف المشهور - غير الاختلاف اللفظي والمفارقة في التعبير بين التعريفين - ، هي زيادته القيد الأخير في تعريفه ، وهو ( أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ). وقد أشار قدس سره إلى الوجه الّذي حدي به إلى هذه الزيادة ، بان تعريف المشهور وتحديده لضابط المسألة الأصولية لا يتناول جميع المسائل المحررة في علم الأصول ، لخروج بعض المسائل عن علم الأصول بمقتضاه ولا وجه لذلك ، إذ لا موجب لخروجها عنه والتزام كون البحث فيها في الأصول بحثا استطراديا ، وهي بهذا القيد المضاف إلى تعريفهم تكون من مسائل الأصول. وتلك المسائل كما ذكرها قدس سره هي مسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية ، ومسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

وقد وجه خروج هذه المسائل عن الأصول بتعريف المشهور ، ودخولها فيه بتعريف صاحب الكفاية ، بأن الأصول العملية بين ما لا يكون مفادها حكما شرعيا ولا يتوصل بها إلى حكم شرعي كالأصول العقلية من براءة واشتغال ، فإن مفادها ليس إلاّ المعذرية أو المنجزية ، وظاهر أن ذلك لا يكون واسطة في الاستنباط ، وبين ما يكون نفس مفادها حكما شرعيا كالأصول الشرعية من أصالة الحل ونحوها والاستصحاب بناء على كونه يتكفل إثبات حكم مماثل - كما قد يظهر من بعض عبارات الكفاية في محله (2) - ، فإن أصالة الحل لا يستنبط بواسطتها حكم شرعي ، بل هي عينها حكم شرعي وهو الحلية.

ص: 22


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتوهم : ان أصالة الحل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، ويتوصل بواسطتها إليه باعتبار وقوعها في كبرى قياس استنتاج الحكم ، فيقال : هذا مشكوك الحلية وكل ما كان مشكوك الحلية فهو حلال ، فينتج بهاتين المقدمتين حلية المشكوك ويعرف بهما هذا الحكم ، ومثل هذا يكفي في كون القاعدة مما يستنبط بها حكم شرعي.

مندفع : بأن أصالة الحل وان كانت كبرى القياس المذكور ، إلاّ ان ذلك لا يعني كونها مما يستنبط بها الحكم الشرعي ، إذ النتيجة وهي حلية المشكوك المعين عين مفاد القاعدة ، فكان ذلك القياس قياسا لتطبيق الحكم الكلي على موارده الجزئية وصغرياته ومنه الصغرى. ولم يستنبط من القياس المذكور بواسطة القاعدة حكم آخر غير مفادها. فلا يصدق الاستنباط.

وأما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة - فلأنه - لا يتوصل بواسطة نتيجة هذه المسألة إلى حكم شرعي ، سواء أريد من الظن على الحكومة حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنّي الملازم للإتيان بالمظنونات والمشكوكات ، أو أريد أن العقل يرى بمقدمات الانسداد حجية الظن حيث يقتصر في مقام الامتثال على المظنونات.

أما على الأول فواضح ، لأن حكم العقل بجواز الاقتصار على الامتثال الظّنّي وعدم لزوم الامتثال اليقيني لا يرتبط أصلا بعالم استنباط الأحكام ، بل هو انما يرتبط بعالم إفراغ الذّمّة والامتثال والتعذير عن الواقع لو كان في طرف الموهومات.

وأما على الثاني ، فلأن مرجع حجية الظن بنظر العقل إلى جعله منجزا بحيث يكون حجة على العبد ، فلا يستنبط منه أي حكم من الأحكام.

فاتضح ، ان هذه المسائل لا تندرج في علم الأصول بناء على تعريف المشهور لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام ، ولكنها مما ينتهى إليها في مقام

ص: 23

العمل بعد اليأس عن الظفر بالدليل ، فتندرج في علم الأصول بناء على تعريف صاحب الكفاية بملاحظة ما أضافه من القيد إلى تعريف المشهور.

بهذا التوجيه وجّه المحقق الأصفهاني نظر صاحب الكفاية في ذكر هذا القيد (1) - ولكنه ذكره بنحو مجمل كان ما ذكرناه توضيحا له - ، ثم أفاد قدس سره بان الإشكال المذكور يسري إلى جل مسائل الأصول بما محصله : ان الأمارات غير العلمية سندا ودلالة يتطرق إليها هذا الإشكال ، وهو ان مرجع حجيتها اما إلى الحكم الشرعي بناء على كون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم المماثل للمؤدى ، أو غير منته إليه أبدا بناء على كون المجعول فيها هو المنجزية والمعذرية فهي على كلا التقديرين لا تقع في طريق استنباط الأحكام.

وتخلصا عن هذا الإشكال في جميع موارده ، وجه الاستنباط بمعنى يحصل بهذه المسائل ، وذلك بدعوى : أن حقيقة الاستنباط ليس إلاّ تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بلا توقف على إحراز الحكم. وظهر ان حجية الأمارات بأي معنى كانت لها الدخل في إقامة الحجة على حكم العمل ، وبذلك جعل الضابط للمسائل الأصولية هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي. وتابعة بذلك في تفسير الاستنباط السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات درسه - (2).

ولا يخفى أن ما ذكره قدس سره وان كان بظاهره التزاما بوجهة نظر صاحب الكفاية التي أبان عنها اللثام ، إلاّ انه في الحقيقة إشكال عليه في اقتصاره في الإشكال على بعض الموارد ، مع كون الإشكال ساريا إلى جل المسائل.

فالتحقيق : انه يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى جهة تختص بهذه الموارد التي نبه إليها في كلامه ، ولا تسري إلى غيرها ، كما لا ترتفع تلك الجهة

ص: 24


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 11 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 9 - الطبعة الأولى.

بما وجه به معنى الاستنباط.

اما جهة الإشكال في الأصول ، فهي ما قرره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري : من ان مفاد دليل الأمارة هو جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل دون مفاد دليل الأصل الشرعي. فانه ليس إلاّ جعل حكم ظاهري يصير به فعليا. واما الواقع ، فلا يكون فعليا لحكم العقل بارتفاع فعليته بفعلية الحكم الظاهري.

وعليه ، فإذا لم يكن الواقع مع الأصل فعليا لم يتصور قيام المنجز له أو المعذر عنه ، لأنها فرع فعليته ، فتحصيل الحجة على الواقع بواسطة الأصل لا أساس له.

ودعوى : ان نفي فعلية الواقع بقيام الأصل كاف في كون الأصل معذرا عن الواقع.

فاسدة : لأن نفي فعلية الواقع ليس مفادا للأصل ، بل يستفاد بحكم العقل باستحالة طلب الضدين. ولو كان مثل هذا كافيا في أصولية المسألة لكان كل حكم شرعي من المسائل الأصولية ، لأن ثبوته يستلزم نفي غيره بحكم العقل.

والسر في المطلب ، ان نفس الحكم لا يتكفل نفي حكم آخر ولو بواسطة الملازمة ، بل الدليل الدال عليه يتكفل بالملازمة نفي غيره ، فنفي الواقع بالدليل على الحكم لا بنفس حكم الأصل ، ونفس الدليل مسألة أصولية لأنه من الأمارات. وان كان نفس المفاد أعني الحكم مسألة فرعية.

وهكذا الكلام في مسألة الظن الانسدادي ، فان نتيجتها أجنبية عن المنجزية والمعذرية كأجنبيتها عن الانتهاء إلى الحكم الشرعي.

وذلك لأن الواقع يتنجز بالعلم الإجمالي المستلزم للإتيان بجميع

ص: 25

المحتملات حتى الموهوم منها ، وشأن هذه المقدمات هو بيان عدم الإلزام بالإتيان بالموهومات أو هي والمشكوكات - على الخلاف الّذي أشرنا إليه - ، واما لزوم الإتيان بخصوص المظنون فهو ليس مفاد هذه المقدمات ، بل هو أمر ينتج من ضم العلم الإجمالي ومنجزيته إلى حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بالموهومات والمشكوكات ، فليس نتيجة المسألة حجية الظن أصلا.

وبالجملة : فما عرفته من توجيه خروج المسألتين لا يسري إلى غيره من المسائل. إذ ليس الوجه هو كون نتيجة هذه المسائل أما حكما شرعيا أو المنجزية كي ينتقض بالأمارات ، بل الوجه انها لا ترتبط بالحكم الشرعي الواقعي بحال لا كشفا عنه ولا حجة عليه ، فلا يصح النقض بالأمارات والالتزام بوسعة الإشكال. كما لا يندفع بما وجه به معنى الاستنباط ، إذ ليس من هذه المسائل ما نتيجته حصول الحجة على الحكم الواقعي نفيا وإثباتا كما لا يخفى فلاحظ.

ثم أن المحقق الأصفهاني بعد ما بين ضابط المسألة الأصولية بما عرفته ، أورد على تعريف صاحب الكفاية بأنه يستلزم محذورين :

الأول : انه لا بد من فرض جامع بين الغرضين المذكورين أعني الاستنباط والمرجعية في مقام العمل ، إذ مع عدم الجامع يستلزم تعدد الغرض تعدد فن الأصول ، لأن التمايز بين العلوم - على رأي صاحب الكفاية - بالتمايز بين الأغراض ، والجامع مفقود لتباين الغرضين.

الثاني : ان الانتهاء في مقام العمل ، اما ان يكون مقيدا بأنه بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم ، أو لا يكون مقيدا بذلك ، بل يكون مطلقا. فإن قيد بذلك لم تدخل الأمارات فيه ، إذ الرجوع إليها ليس بعد اليأس وحجيتها لا تتوقف على ذلك ، فانه شرط في صحة الرجوع إلى الأصول العملية فقط. وان لم يقيد به وعرّى عنه لزم دخول جميع القواعد الفقهية العامة في التعريف لأنها

ص: 26

مما ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق (1).

ولكن الإنصاف انه لا يستلزم كلا من المحذورين.

اما المحذور الثاني : فحاصل المناقشة فيه انه يلتزم بإضافة القيد المذكور. وخروج الأمارات عن الذيل بذلك ليس بمحذور ، لأنه انما يكون محذورا لو فسر الاستنباط بإحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل تحصيل الحجة عليه. إذ بذلك تخرج الأمارات عن صدر التعريف أيضا ، لأن المجعول فيها - كما عرفت - اما المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ، وهي بكلا الوجهين لا تقع في طريق استنباط الأحكام - كما تقدم تقريبه - ، فيلزم من ذلك خروج مسائل الأمارات عن علم الأصول بالمرة.

اما لو التزم بان المراد بالاستنباط المعنى الأعم ، وهو تحصيل الحجة على الواقع ، فمسائل الأمارات تدخل في الأصول بصدر التعريف - كما أشرنا إليه سابقا - ، فخروجها عن الذيل لا محذور فيه ، إذ المحذور المتخيل هو خروجها بذلك عن علم الأصول ، وهو غير تام لشمول الصدر لها ، فتكون من مسائل علم الأصول.

وبالجملة : فالإشكال المذكور يبتني على جعل نظر المحقق الخراسانيّ إلى ما وجهت به عبارته أولا ، وقد عرفت عدم التسليم به والمناقشة فيه.

وأما المحذور الأول : فهو يرتفع بتصور غرض خارجي جامع بين الغرضين ، ويترتب على جميع مسائل علم الأصول. وذلك الغرض هو ارتفاع التردد والتحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم.

توضيح ذلك : ان المكلف إذا التفت إلى شيء بلحاظ حكمه ، فقد يحتمل وجوبه أو يحتمل حرمته ، ومن هذا الاحتمال ينشأ في نفسه التردد والعجز بالنسبة

ص: 27


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.

إلى العمل فهل يفعل أو لا؟ أو هل يترك أو لا؟ والّذي يترتب على المسألة الأصولية سواء كانت واقعة في طريق الاستنباط أو لم تكن هو ارتفاع هذا التردد ، أما ما أوجب العلم منها كالملازمات العقلية فواضح لانكشاف الواقع بها وارتفاع التردد بذلك لارتفاع منشئه تكوينا.

واما الأمارات غير العلمية ، فلأن نتيجة حجيتها هو تنجيز الواقع بها أو التعذير عنه - اما لأجل أن المجعول فيها ذلك ، أو لأنه مما يترتب على المجعول فيها - وهي بذلك ترفع الحيرة والتردد في مقام العمل.

أما الأصول العملية ، فالعقلية منها يكون مفادها التعذير أو التنجيز وهي بذلك ترفع التحير ، لأن مفادها أن المكلف في أمان من الواقع أو في عهدة الواقع ، وهي بكلا المفادين ترفع التردد. واما الشرعية فبناء على انها تفيد حكما شرعيا تترتب عليه المنجزية والمعذرية ، أو ان التعبد بها يرجع إلى جعل المنجزية والمعذرية ، فكونها رافعة للتحير واضح. وأما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم نظرها إلى الواقع أصلا وان مفادها حكم ظاهري ، فلأن نفس جعل الحكم الظاهري كالحلية في مقام التردد والشك رافع للتردد ومعين للوظيفة العملية.

واما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة ، فلأن حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بغير المظنونات أو غير الامتثال الظني رافع للتحير في مقام العمل ، لأن حقيقته التعذير عن الواقع الثابت في مورد الوهم أو الشك.

فالمتحصل ان مسائل الأصول كلها تنتهي بنا إلى غاية واحدة وهي ارتفاع التردد الحاصل من احتمال الحكم الشرعي ، سواء كانت نتيجتها الاستنباط أو لم تكن كذلك وبذلك يرتفع المحذور المذكور.

نعم يبقى هاهنا سؤال وهو : انه لم عدل صاحب الكفاية إلى هذا التعريف المفصل وذكر كلا القيدين ، مع ان نظره لو كان إلى هذه الجهة المذكورة لكان

ص: 28

يكفي في تعريف علم الأصول ان يقول : « هو القواعد التي يرتفع بها التحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم الشرعي » ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل ، فانه لا يعدو كونه إشكالا لفظيا. ولعل نظره قدس سره إلى الإشارة إلى قصور تعريف المشهور وانه يحتاج إلى إضافة قيد ، لا إلى بطلانه كما قد يشعر به تبديله وتغييره.

والّذي يمكن استفادته مما تقدم إمكان بيان تعريف المسائل الأصولية وضابطها بنحو يكون جامعا للمسائل المدونة ومانعا عن دخول القواعد الفقهية العامة. تقريب ذلك : انه قد عرفت ان المكلف إذا احتمل ثبوت الحكم الشرعي واقعيا كان أو غيره يحصل في نفسه التردد والحيرة بالنسبة إلى وظيفته العملية تجاه هذا الحكم المحتمل.

فهاهنا مقامات ثلاث : أحدها : مقام الحيرة والتردد. والآخر : مقام الاحتمال الموجب للتردد. والثالث : مقام واقع الحكم المحتمل من ثبوت ونحوه.

وعليه ، فالقواعد الأصولية ما كانت رافعة بلا ان تكون بمفادها ناظرة إلى نفس الحكم المحتمل بتعيين أحد طرفيه. بل اما ان تكون بمفادها ناظرة إلى مقام التردد والتحير ، بجعل ما يرفعه بلا ارتباط بكيفية الواقع كمسائل الأصول العملية والأمارات ، بناء على جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ونحوها من المسائل كما تقدم تقريبه. أو تكون نتيجتها رفع أساس التردد وهو الاحتمال ، اما تكوينا كالملازمات العقلية ، لأنها تستوجب العلم بالحكم فيرتفع التردد بارتفاع منشئه ولا نظر لها إلى نفس المحتمل ، إذ لا تعين أحد طرفي الاحتمال ثبوتا ، بل تكون واسطة في الإثبات باستلزامها العلم لا واسطة في الثبوت الحقيقي للحكم. واما تعبدا كالأمارات ، بناء على جعل الطريقية وتتميم الكشف ، فانه بها يتحقق العلم تعبدا بالحكم بلا ان يكون النّظر إلى نفس الحكم وثبوته حقيقة في واقعه.

ص: 29

فالجامع بينهما هو ارتفاع التردد بها اما ابتداء أو بواسطة رفع منشأ التحير ، بلا ان يكون لها نظر إلى تعيين الحكم المحتمل بأحد طرفيه.

ومن هنا يظهر الفرق بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية فان الثانية ما يكون نظرها إلى المحتمل ، بمعنى ان مفادها نفس الحكم المحتمل ، وهي بذلك لا ترفع التردد ، إذ نفس الحكم لا يرفع التردد وانما دليله يرفعه وهو مسألة أصولية ، فمقام إحداهما يختلف عن مقام الأخرى ، فالفرق بينهما حقيقي وذاتي.

وبهذا التحقيق يندفع النقض بجملة من القواعد الفقهية العامة ، كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقاعدة الطهارة ، وقاعدة لا ضرر ، وقاعدة نفي العسر والحرج ، ونحوها.

بدعوى : انه قد يستفاد من هذه القواعد حكم كلي ، كاستفادة عدم الضمان في الهبة الفاسدة من قاعدة « ما لا يضمن » ، فانه حيث يشك في ذلك يرجع إلى هذه القاعدة ويستفاد منها عدم الضمان باعتبار عدم الضمان في الهبة الصحيحة.

وكاستفادة طهارة المتولد من الكلب والشاة غير الملحق بأحدهما ، والمشكوك طهارته من قاعدة الطهارة.

وكاستفادة حرمة أو عدم وجوب الوضوء الضرري من قاعدة نفى الضرر.

وكاستفادة عدم وجوب الوضوء الحرجي من قاعدة نفي الحرج. فان المستفاد من هذه القواعد حكم كلي ، ومقتضى ذلك دخول هذه القواعد في الأصول لأنها مما يستنبط بها حكم كلي.

وجه الاندفاع : ما عرفت من عدم كون الملاك في أصولية القاعدة إيصالها إلى حكم كلي لا جزئي ، بل الملاك هو رفعها الحيرة مع كون نظرها إلى مقام غير الحكم المحتمل. فلا يتجه النقض بالتقريب المذكور.

ص: 30

وتحقيق الحال في هذه القواعد على المسلك الّذي قربناه :

أما قاعدة « ما لا يضمن » ونحوها ، فهي انما تنظر إلى نفس المحتمل وهو الضمان وعدمه ، ومدلولها نفس الحكم لا رفع الحيرة والتردد.

واما قاعدة نفي الضرر أو العسر ، فهي تارة تجري في الحكم الكلي الفرعي كنفي وجوب الوضوء الضرري أو الحرجي. وأخرى تجري في الحكم الأصولي كجريانها في نفي وجوب الفحص عن المعارض إذا كان مستلزما للضرر أو العسر ، المساوق لإثبات حجية الخبر الفعلية ، فان وجوب الفحص من المسائل الأصولية. وكجريانها في نفي وجوب الاحتياط عند انسداد باب العلم لاستلزامه الضرر أو الحرج.

وعليه ، فهي بلحاظ جريانها في الحكم الفرعي تكون من المسائل الفقهية ، وبلحاظ جريانها في الحكم الأصولي تكون من المسائل الأصولية. ولا مانع من ان تكون مسألة واحدة من مسائل علمين ، إذ كان فيها ملاكا العلمين - كما يقال في مسألة الاستصحاب من انها أصولية بلحاظ الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وفقهية بلحاظه في الشبهات الموضوعية -.

وأما قاعدة الطهارة فالتخلص عن النقض بها - لثبوت الملاك المزبور فيها لكون المجعول فيها حكما ظاهريا في مقام التردد والشك بلا نظر إلى نفس الواقع المحتمل - بما أشار إليه صاحب الكفاية من أن المسألة الأصولية يعتبر فيها ان تكون سارية في جميع أبواب الفقه أو جلّها فلا يختص بإجرائها بباب دون آخر ولا كذلك أصالة الطهارة لاختصاصها بمشكوك الطهارة فلا تجري في أبواب المعاملات ولا أبواب الفقه الأخرى كما لا يخفى (1). أو انه يعتبر في أصولية المسألة أن تكون نظرية ومحور النزاع ومحل الكلام ، لا واضحة كل الوضوح

ص: 31


1- الخراسانيّ المحق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /337- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كقاعدة الطهارة إذ لا كلام في ثبوتها ولا نظر.

وبالجملة : فالمسألة الأصولية ما كان نظرها إلى رفع التردد في مقام العمل لا إلى الواقع المحتمل ، فما كان من المسائل ذلك كان من المسائل الأصولية بلا أي محذور في هذا الالتزام.

ويقع الكلام بعد هذا في جهتين يرتبطان بالتعريف والضابط المذكور :

الجهة الأولى : في تخصيص مسائل علم الأصول بما كان مجراها الشبهة الحكمية لا الموضوعية وانه بلا موجب ، بل الوجه هو التعميم ، وذلك لأن الظاهر كون الداعي لأخذه في تعريفات القوم هو التحرز عن دخول كثير من المسائل الفقهية في علم الأصول ، إذ لو لا أخذه وكون المسألة الأصولية مما يتوصل بها إلى حكم شرعي كليا كان أو جزئيا يلزم دخول أكثر موارد الفقه في الأصول للتوصل بالقواعد الفقهية إلى أحكام جزئية كوجوب الصلاة ونحوه. وبزيادة قيد التوصل إلى الحكم الكلي تخرج هذه المسائل.

ولا يخفى ان هذا المحذور لا يتأتى على ما ذكرناه من ضابط المسألة كما هو ظاهر جدا ، فلا موجب لأخذ الوصول إلى الحكم الكلي في ضابط المسألة الأصولية ، وعليه فيكون الاستصحاب في الشبهات الموضوعية من المسائل الأصولية بلا كلام ، لأن نظره إلى مقام الحيرة لا مقام المحتمل.

ومن هنا يظهر عدم الموجب لتقييد المسألة الأصولية ، بما كان المتوصل بها إلى الحكم هو المجتهد ، وما كان إجراؤها بيده دون المقلد ، إذ التطبيق في الشبهات الموضوعية بيد المقلد لا المجتهد ، ولا مانع منه لكون الملزم لأخذه في التعريفات غير متأت على ما ذكرناه فلاحظ.

الجهة الثانية : في دفع وهم.

أما الوهم فهو ، ان المراد من كون المسألة الأصولية ما يقع في طريق الاستنباط - كما هو تعريف القوم - ، أو ما يرتفع به التحير والتردد - كما هو

ص: 32

التعريف الّذي اخترناه - ، اما ان يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو ما يرتفع به التحير والتردد مطلقا ولو كان بالواسطة ، بمعنى ان يتخلل بينه وبين استنباط الحكم بعض المسائل الأخرى. أو يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو يرتفع به التردد في مقام العمل مباشرة وبلا واسطة ، بحيث يترتب عليها الحكم الشرعي رأسا. وكل من التقديرين يستلزم محذورا.

اما التقدير الأول : فلأنه يستلزم دخول كثير من القواعد الفلسفية واللغوية والمنطقية وغيرها في مسائل الأصول ، لوقوعها في طريق تنقيح بعض القواعد الأصولية ، فيترتب عليها الاستنباط ويرتفع بها التحير بالواسطة.

واما التقدير الثاني : فلأنه يستلزم خروج كثير من المسائل المحررة في كتب الأصول عن علم الأصول. كمسألة الصحيح والأعم ، ومسألة المشتق ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة ان الأمر ظاهر في الوجوب أو لا ، ومسألة العام والخاصّ في بعض الحالات ، ومسائل المفاهيم.

توضيح ذلك : ان المبحوث عنه في مسألة الصحيح والأعم ، وهو ثبوت وضع اللفظ الشرعي إلى المعاني الشرعية وعدمه ، لا يترتب عليه مباشرة الحكم الشرعي ، إذ لا يعدو هذا البحث البحث عن أمر لغوي. وانما تترتب عليه مسألة أصولية ، وهي جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم وعدم جوازه على القول بالصحيح. بتقريب : ان أساس التمسك بالإطلاق - قبل ملاحظة تمامية مقدمات الحكمة - هو إحراز صدق عنوان المطلق على الفرد الفاقد للخصوصية المشكوك من جهة أخذها في متعلق الحكم ، فمع القول بالصحيح يكون اللفظ مشكوك الصدق على الفاقد للخصوصية المشكوكة ، باعتبار ان كل ما له دخل في متعلق الحكم له دخل في صدق اللفظ. بخلاف القول بالأعم ، لأن يصدق المطلق على الفاقد لا يتوقف على إحراز عدم دخل الخصوصية في المتعلق ، لأنه يصدق على الأعم من واجد الاجزاء والشرائط بتمامها والفاقد لبعضها فليكن هذا منها ،

ص: 33

فان عدمه لا يخل بصدقة.

وعليه ، فالبحث في مسألة الصحيح والأعم ينتهي بنا إلى إثبات أساس الإطلاق ونفيه ، وهذا لا يترتب عليه حكم شرعي ، بل يترتب عليه ما عرفت من المسألة الأصولية ، وهي جواز التمسك بالإطلاق مع الشك بأخذ خصوصية في متعلق الحكم وعدم جوازه ، لأنه تنقيح لموضوعها.

واما مسألة المشتق ، فلان البحث فيها بحث لغوي عن تحقيق الموضوع له اللفظ المشتق ، وظاهر ان الحكم الشرعي لا يترتب عليه مباشرة ، بل بضميمة مقدمات أخرى بلا إشكال.

واما مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلان ما ينتهي إليه بتنقيح أحد طرفيها جوازا أو منعا هو تحقيق موضوع لمسألة أصولية لا معرفة حكم شرعي أو رفع تردد فيه ، وذلك لأنه ان قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بالالتزام بعدم كفاية تعدد العنوان في تصحيحه كان المقام من موارد التعارض ، لتعارض دليلي الحرمة والوجوب. وان قيل بجوازه في نفسه لكنه باعتبار عدم القدرة على امتثال كلا الحكمين لا بد من ارتفاع أحدهما كان المورد من موارد التزاحم ، ومسألة التزاحم كمسألة التعارض من المسائل الأصولية.

أمّا المسائل اللفظية الأخرى ، كمسألة ظهور الأمر في الوجوب ، أو ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في انتفاء الحكم بانتفاء الشرط أو الوصف ، أو ظهور العام في الباقي بعد التخصيص فيكون حجة فيه ، أو ظهوره في العموم الاستغراقي أو المجموعي ، وغيرها من المسائل المشاكلة لها ، فإيصالها إلى الحكم أو ارتفاع التردد بها انما يكون بضميمة كبرى أصولية وهي حجية الظاهر ، إذ بدونها لا يتوصل إلى المطلوب ، فان ظهور الأمر في الوجوب لا يستفاد منه في نفسه الحكم بل لا بد ان يضم إليه ان الظاهر حجة فيثبت الوجوب ويرتفع التردد ، وهكذا غيرها ، فإن مجرد ثبوت الظهور لا يجدي في إثبات الحكم ، بل

ص: 34

يتوقف على ضم كبرى أصولية وهي كون الظاهر حجة ، فيكون ذلك الظاهر حجة في مدلوله. فظهر بهذا البيان : أن اعتبار رفع التردد بالمسألة الأصولية أو استنباط الحكم مباشرة وبلا واسطة يستلزم خروج هذه المسائل ، وهو مما لا يلتزم به أحد ، كما ان إلغاء هذا الشرط يستلزم دخول غير المسائل الأصولية في الأصول ، وهو أيضا مما يفر عنه الاعلام.

واما الدفع فهو ، بالالتزام باعتبار هذا الشرط ، أعني : ترتب الأثر المزعوم عليها مباشرة بلا واسطة.

وخروج مسألتي الصحيح والأعم والمشتق لا محذور فيه ، بل ذلك هو الظاهر من اعتياد ذكرها في مقدمة الأصول ، وأما الوجه في أصل التعرض إليها مع عدم التعرض إلى نظائرها فهو لأجل عدم استيفاء البحث في تحقيقها في محلها أو لعدم التعرض لها في غير محل.

وأما استلزامه لخروج المسائل اللفظية المذكورة ، ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، فهو ممنوع. اما المسائل اللفظية ، فلأن ترتب الحكم عليها وإن كان بواسطة الكبرى المزبورة ، إلاّ انها حيث كانت من الجلاء والتسليم بحد يرى ان الحكم يترتب بمجرد تنقيح موضوعها وهو أصل الظهور لم تخل وساطتها الارتكازية في أصولية هذه المسائل ، إذ الواسطة المعتبر عدمها في أصولية المسألة الواسطة النظرية التي تلحظ في ترتب الحكم على الصغرى بضمها إليها لا الارتكازية التي لا تلحظ في ترتيب الحكم على الصغرى ، بل يرى ان الحكم مترتب بمجرد تمامية الصغرى.

وأما مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلان المذاهب فيها ثلاثة :

الأول : الجواز مطلقا.

الثاني : الامتناع من جهة اجتماع الضدين ، بدعوى عدم كفاية تعدد العنوان في جواز تعلق الأمر والنهي.

ص: 35

والثالث : الامتناع من جهة التزاحم ، لعدم القدرة على امتثال كلا التكليفين لا في نفسه ، بدعوى : كفاية تعدد العنوان لتصحيح تعلق الأمر والنهي بذي العنوانين. وهي على القولين الأخيرين وان لم تنته إلى رفع التردد في مقام العمل ، بل تحقق موضوع المسألتين ، لكنها بالقول الأول مما يترتب عليها هذا الأثر لإثباتها صحة العمل الرافع للتردد. ويكفي هذا في أصولية المسألة ، إذ لا يعتبر انها تكون مما يترتب عليها الأثر الأصولي بجميع محتملاتها ، بل يكفي فيها ان يترتب عليها الأثر الأصولي ولو بلحاظ بعض محتملاتها.

ومن هنا يظهر عدم الموجب للالتزام بخروجها من مسائل الأصول وكونها من المبادي التصديقية للمسألة الأصولية - كما عليه المحقق النائيني (1) - ، فانه إغماض عن وجود المذهب الأول في المسألة الموجب لكونها من الأصول. فتدبر.

إلى هنا يتحصل لدينا ان المسألة الأصولية هي المسألة النظرية التي يتوصل بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية ، سواء كان جريانها في الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية.

ومنه يتضح الفرق بينه وبين الضابط المذكور في الكفاية (2) ، فانه يخصص المسألة الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية ، كما هو مقتضى قيد كون الانتهاء في مقام العمل بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، إذ جريان الأصول في الشبهات الموضوعية لا يشترط فيه الفحص واليأس عن الدليل ، فمقتضى القيد إخراج الأصول والأمارات في الشبهات الموضوعية عن مسائل علم الأصول. وهذه هي الجهة الفارقة بين ما ذكرناه من الضابط وما ذكره

ص: 36


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 333 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

صاحب الكفاية ، وإلاّ فقد عرفت ان نظر صاحب الكفاية في ما ذكره من المائز يمكن ان يكون إلى ما ذكرناه ، من كون الغاية من المسألة الأصولية هو رفع التردد في مقام العمل.

كما ان ما ذكرناه من الضابط أجمع لمسائل الأصول مما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره في بيان الضابط ، من انه هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي (1). إذ قد عرفت انه لا يشمل مسألة أصل الإباحة بناء على كون المجعول فيها الحلية الظاهرية بلا نظر إلى الواقع لا المعذرية ولا الحكم المماثل لعدم تحصيل الحجة على الواقع بها ، ومسألة الظن الانسدادي على الحكومة بالمعنى الّذي عرفته للحكومة ، لأنها لا تنتهي بنا إلى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي كما تقدم تقريبه وقد عرفت دخولها في مسائل علم الأصول على الضابط الّذي ذكرناه لارتفاع التحير بها في مقام العمل.

وقد جعل المحقق النائيني قدس سره ضابط المسألة الأصولية ، ما يقع كبرى في قياس الاستنباط للحكم ، وأضاف إلى ذلك قيدين :

الأول : أن تكون النتيجة حكما كليا.

الثاني : أن لا تصلح هذه المسألة لإلقائها إلى العامي (2).

والسر في إضافة هذين القيدين ، هو أنه مع الاقتصار في الضابط على ما يقع كبرى استنباط الحكم أعم من ان يكون كليا أو جزئيا يلزم دخول أكثر المسائل الفقهية ، كوجوب الصلاة ونحوها ، فانه يستنتج منها أحكاما جزئية في الموارد الجزئية الخاصة ، ولكنها بقيد كون المستنبط حكما كليا لا تندرج في الضابط ، وبذلك تكون أجنبية عن علم الأصول.

ص: 37


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 3 - الطبعة الأولى.

إلاّ انه لما كان هذا القيد بخصوصه لا يجدي في خروج جميع مسائل الفقه عن علم الأصول ، لوجود بعض المسائل الفقهية التي تكون نتيجتها حكما كليا ، كقاعدة « نفي الضمان بالعقد الفاسد الّذي لا ضمان بصحيحه » وشبهها كما عرفت تقريبه ، احتاج في إخراج مثل هذه المسائل إلى إضافة القيد الآخر - أعني : ما لا يصلح إلقاؤها إلى العامي - ، إذ المسائل الفقهية صالحة لإلقائها إلى العامي بحيث يتولى بنفسه التطبيق دون المسائل الأصولية ، إذ معرفة العامي حجية الخبر أو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته لا تفيده شيئا ، فلا تصلح لإلقائها إليه ، بخلاف معرفته لنفي الضمان في الفاسد الّذي لا ضمان بصحيحه.

ولكنه يشكل بوجود بعض المسائل الفقهية لا تصلح لإلقائها إلى العامي ، وهي بهذا الضابط لا بد ان تكون من المسائل الأصولية.

وذلك كمسألة بطلان الشرط المخالف للكتاب والسنة ، فان العامي بمعرفة هذه المسألة لا يستطيع ان يتوصل بها في الموارد الجزئية أو الكلية التي تنطبق عليها ولو بعد بيان المراد بالمخالفة وانها المخالفة للنص أو الظاهر.

وكمسألة التسامح في أدلة السنن ، فان لها عنوانين بأحدهما تدخل في علم الأصول ، وبالآخر تندرج في مسائل الفقه.

اما العنوان الّذي به تدخل في علم الأصول ، فهو عنوان التسامح في أدلة السنن ، لأن مرجع هذا البحث إلى البحث عن دلالة اخبار « من بلغه ... » على كون موضوع الحجية في اخبار السنن أوسع من غيرها ، فيشمل الضعيف وغيره. وعدم دلالتها ، فيكون موضوع الحجية فيها كغيرها فيقتصر فيه على الصحيح والموثق. ومن الظاهر ان البحث عن حجية الخبر الضعيف ونحوه في مقام وعدم حجيته أصولي لارتباطه بمقام الحيرة والتردد.

اما العنوان الّذي به تدخل في علم الفقه ، فهو عنوان استحباب العمل

ص: 38

الّذي قام على استحبابه أو وجوبه خبر لا يعتمد عليه عملا ، إذ مرجع البحث إلى ان هذه الاخبار تدل على استحباب هذا العمل أو لا تدل ، ومثل هذا البحث بحث من فقهي ، لأنه يدور حول الحكم الشرعي ونتيجته ذلك - أعني : الحكم الشرعي - إثباتا أو نفيا.

ولا يخفى ان المسألة لو كانت بالنحو الثاني المبحوث عنه في الفقه ، لا تكون مما يصلح إلقاؤه إلى العامي ، إذ لا يستطيع العامي ان يستفيد بذلك شيئا كيف؟ وهو يتوقف على معرفة الخبر الضعيف من غيره المتوقف ذلك على الاطلاع في أحوال رجال الحديث وشئونهم.

وإذا عرفت ما في تعريفات المحققين من قصور ، وانها ما بين غير جامع لمسائل الأصول ، وغير مانع عن غيرها من مسائل الفقه ، يتضح لك ان الأوجه تعريفه بما ذكرناه وتحديد الضابط بما قررناه. فقد عرفت جمعه ومنعه ، فليكن على ذكر منك والتفات.

* * *

ص: 39

ص: 40

الوضع

اشارة

ص: 41

ص: 42

الوضع

والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في حقيقة الوضع. وقد اختلف فيها المحققون ، فقيل : انه أمر واقعي تكويني (1). وقيل : انه أمر وسط بين التكويني. والجعلي وبرزخ بينهما (2). وقيل : انه أمر جعلي ويتفرع أقوال أربعة :

الأول : انه عبارة عن جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى واعتباره بينهما (3).

الثاني : انه عبارة عن جعل اللفظ على المعنى (4).

الثالث : انه عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى.

الرابع : انه عبارة عن التعهد ، والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى الخاصّ (5).

فالأقوال على هذا ستة.

ص: 43


1- وهو مذهب عباد بن سليمان الصميري وأصحاب التكسير على ما في قوانين الأصول 1 / 194 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 10 - الطبعة الأولى.
3- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 29 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 14 - الطبعة الأولى.
5- وهو لملاّ علي النهاوندي في كتابه تشريح الأصول كما في محاضرات في أصول الفقه 1 / 48.

والّذي يمكن ثبوتا من هذه الأنحاء المتعددة هو القول الأخير والثالث ، أعني : « كونه عبارة عن اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى ، وكونه عبارة عن التعهد والالتزام » ومقام الإثبات دائر بينهما.

أما الأنحاء الأخرى فلا يتصور لها معنى معقول يمكن فرضه إثباتا.

ولا بد في وضوح ذلك من معرفة حقيقة كل نحو والمراد منه وبيان جهة المناقشة فيه.

أما القول الأول : أعني القول بأنه أمر حقيقي تكويني واقعي ، فلا بد في معرفة أنحائه والمناقشة فيها ، من بيان المراد من الأمر الحقيقي والأمر الجعلي ، فنقول : المراد بالحقيقي التكويني ، ما كان له نحو ثبوت في نفس الأمر والواقع بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض ، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل ويقابله الأمر الجعلي ، فان ثبوته يتقوم بجعل الجاعل من دون ان يكون له تقرر في نفس الأمر.

ويترتب على هذا ان اختلاف الأنظار في ثبوت الأمر الحقيقي لا يوجب تغيرا في ثبوته ولا يستلزم التبدل فيه ، بل هو على ما هو عليه من التقرر والثبوت ، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كل من المختلفين للآخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته ، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه ، بل يكون كما كان بلا تغير ولا تبدل ، بخلاف اختلافه في الأمر الجعلي ، فانه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره ، فيوجب تبديلا فيه ويكون ثابتا بالنسبة إلى بعض وغير ثابت بالنسبة إلى آخرين ولا يرجع إلى التخطئة في النّظر ، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر. نظير ما لو اعتبر قوم شخصا رئيسا لهم ولم يعتبره آخرون واعتبروا غيره رئيسا ، فان اختلاف النّظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كل الآخر في دعواه ، إذ لا واقع للرئيس غير الاعتبار ، وانما يرجع إلى الاختلاف في الاعتبار والجعل وذلك يستلزم ان يكون الرئيس لكل غيره للآخر لعدم

ص: 44

اعتباره رئيسا عليهم.

فاللازم الظاهر الّذي يختلف فيه الأمر الحقيقي التكويني مع الأمر الجعلي الاعتباري ، هو ان اختلاف النّظر في الأمر الحقيقي لا يوجب تغيرا فيه ، بل هو على واقعه واختلافه في الأمر الجعلي يوجب تبدله وتغيره.

وبعبارة جامعة : ان الأمور الاعتبارية تختلف باختلاف الأنظار دون الأمور الواقعية الحقيقية ، فانها لا تختلف باختلاف الأنظار ، وان اختلفت فيها الأنظار.

ثم ان الأمور الحقيقية على نحوين :

الأول : ما يكون لها وجود في الخارج ، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا لوجوده ، وهي المقولات العشر الجوهر والاعراض التسعة.

الثاني : ما لا وجود له منحازا ولا ما بإزاء ، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا لنفسه كالملازمات العقلية ، فان الملازمة بين شيئين من الأمور الحقيقية التي لها تقرر في نفس الأمر ولا ترتبط بجعل جاعل ، إلاّ انه لا وجود لها في الخارج ينحاز عن وجود المتلازمين.

إذا عرفت هذا فنقول : ان المراد من كون الوضع والارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى من الأمور الحقيقية.

إن كان انه من النحو الأول الّذي له وجود في الخارج ، فهو ممتنع. إذ قد عرفت ان ما يكون بهذا النحو لا يخرج عن المقولات العشر وليس الارتباط من أحدها ، أما عدم كونه من الجواهر فبديهي ، إذ لا وجود لشيء بين اللفظ والمعنى من قبيل الجسم ونحوه من الجواهر كي يعبر عنه بالارتباط.

وأما عدم كونه من المقولات العرضية ، فلأن وجود المقولات يتقوم بالموجودات ، بمعنى انه لا وجود لها الا في ضمن الموجود ، والمفروض ان الارتباط المدعى كونه من الأمور الحقيقية انما هو بين طبيعي اللفظ والمعنى ، لا بين اللفظ

ص: 45

الموجود والمعنى ، لأن استعمال اللفظ متأخر عن الوضع وثبوت الارتباط بينه وبين المعنى ، ووجود اللفظ انما يكون بالاستعمال ، فالارتباط المدعى حاصل قبل وجود اللفظ ، لأنه ثابت قبل الاستعمال ولو لم يحصل الاستعمال بعد ، وهذا يعني انه ليس من نسخ الاعراض ، وإلا لكان ثبوته متوقفا على وجود اللفظ - وإلى هذا الإشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1) -.

وان كان انه من النحو الثاني الّذي لا وجود له ، بل ليس له إلاّ التقرر في نفس الأمر والواقع ، فان ادعى انه من الأمور الواقعية التي لا دخل لجعل للجاعل في ثبوتها أصلا ، كالملازمات لثبوتها في نفسها ، سواء اعتبرها المعتبر أو لم يعتبرها ، وبذلك تكون من الموجودات الأزلية. إذا ادعى ذلك فهو واضح البطلان ، لوضوح وقوع النقل في الألفاظ الموضوعة لبعض المعاني الموجب لتحديد العلقة الوضعيّة والارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى وتبديل أحد طرفيه وهو المعنى ، وهذا ينافي واقعية الارتباط وذاتيته بنحو لا تمسه يد الجاعل ولا تصل إليه. ألا ترى ان الملازمة بين وجود الزوجية ووجود الأربع خارجا من الأمور التي لا تتغير ولا تتبدل ، بل هي متقررة ولو لم يعتبرها معتبر ، وهكذا الملازمة بين تعدد الآلهة ووجود الفساد ، فانها ثابتة من دون أن تتغير بالاعتبار ، بل من دون ان يكون للاعتبار دخل في ثبوتها؟ وان ادعى انها من الأمور الواقعية المنتهية إلى الجاعل ، بمعنى ان ثبوتها الحقيقي كان بسبب الجعل لا بحسب ذاتها ، فهو معنى معقول ولا يرد عليه النقض السابق ، لفرض كون ثبوته الواقعي بالجعل ، فمع إلغائه وجعل نحو آخر من الارتباط تتبدل العلقة لا محالة. إلاّ ان هذه الدعوى لا شاهد عليها ولا برهان ، فالقائل بها مجازف.

وقد نسبت هذه الدعوى - في تقريرات بحث السيد الخوئي (2) - إلى

ص: 46


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 41 - الطبعة الأولى.

المحقق العراقي قدس سره وأورد عليه بما ستعرفه.

إلاّ أن الإنصاف يقضي بان نظر المحقق العراقي يمكن ان يكون إلى جهة أخرى ، وهي أن الوضع أمر اعتباري إلاّ انه يختلف عن الأمور الاعتبارية الأخرى ، بان ما يتعلق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرر له ثبوت واقعي كسائر الأمور الواقعية. فهو يختلف عن الأمور الواقعية ، من جهة انه عبارة عن جعل العلقة واعتبارها. ويختلف عن الأمور الاعتبارية ، بان ما يتعلق به الاعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الاعتبار ، بل يثبت له واقع في الخارج.

توضيح ذلك : ان الملازمة بين الماهيتين والطبيعتين كالملازمة بين طبيعتي النار والحرارة ، كما يكون بلحاظ اشتمال كل من الماهيتين في وجودها الخارجي على خصوصية توجب عدم انفكاك وجود إحداهما خارجا عن وجود الأخرى بين النار والحرارة في الوجود الخارجي ، كذلك تحصل بالملازمة بين الوجود الذهني لإحداهما ووجوده للأخرى وعدم الانفكاك بينهما في عالم الذهن ، كما إذا كان تصور إحداهما لا ينفك عن تصور الأخرى كما يقال في العمى والبصر فان تصور العمى لا ينفك عن تصور البصر.

فكما ينتزع عن عدم الانفكاك بين الوجودين الخارجيين والملازمة بينهما الملازمة بين نفس الماهيتين الموجودتين ، كذلك ينتزع ذلك عن عدم الانفكاك بين الوجودين الذهنيين. وهذه الملازمة لها تقرر في نفس الأمر وثبوت واقعي لا تصل إليه يد التغيير والتبديل.

وعليه ، فالمدعى ان الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة والعلقة بين اللفظ والمعنى - كما هو شأن كل جعل ، فانه يتعلق بالمفاهيم - ، وقد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقيقية واقعية بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ، بلحاظ ان ذلك الاعتبار أوجب عدم انفكاك العلم بالمعنى وتصوره عن العلم باللفظ وتصوره ، وتلازم الانتقال إلى المعنى مع الانتقال إلى اللفظ وهذا ، يعني حدوث ملازمة واقعية

ص: 47

بين اللفظ والمعنى.

ولم تبق الملازمة رهينة وحبيسة في عالم الاعتبار ، إذ نشأ منها واقع له ثبوت حقيقي. فاختلف الوضع بهذا عن غيره من الأمور الاعتبارية ، إذ المعتبر فيها لا يخرج عن عالم الاعتبار والجعل.

ثم ان هذا قد يكون مورد التساؤل ، فانه لو كان الناشئ من اعتبار الملازمة ملازمة حقيقية ذاتية مرجعها إلى عدم انفكاك تصور اللفظ عن تصور المعنى ، لزم ان لا يختص في فهم معاني الألفاظ أهل اللغة الموضوع فيها تلك الألفاظ ومن يعلم الوضع ، إذ الاختصاص خلف فرض الملازمة ، ولا إشكال في وقوعه ، بداهة عدم علم كل إنسان بلغات العالم بأجمعها.

لذلك نبّه عليه في كلامه ، والتزم بتخصيص المجعول وتقييده بمورد العلم بالجعل ، بمعنى : ان الجاعل يجعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في صورة العلم بهذا الجعل ، بنحو يكون العلم قيد المجعول لا قيد الجعل ، كي يقال : بان أخذ العلم بالشيء في موضوع نفسه محال. وذلك - أعني أخذ العلم بالجعل قيدا للمجعول - أمر ممكن لا محذور فيه ، كما يقرر في بحث التعبدي والتوصلي.

وعليه ، فاختصاص تحقق الملازمة المزبورة بمن يعلم بالوضع والجعل ، انما هو لتقييد المجعول به وقد عرفت انه منشأ الملازمة الواقعية ، فتقييده يستلزم تقييدها.

فدعوى المحقق العراقي تتلخص في ضمن أمور :

الأول : أن الوضع عبارة عن امر اعتباري ، وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى.

الثاني : انه ينشأ من هذه الملازمة الاعتبارية ملازمة حقيقية ، وبذلك يختلف الوضع عن غيره من الاعتباريات.

الثالث : ان المجعول مقيد بصورة العلم بالجعل.

ص: 48

وظاهر ان هذه الدعوى لا محذور فيها ثبوتا ولا إثباتا ، فتتعين لو كان غيرها ممتنعا ، وسيتضح الحال شيئا فشيئا فانتظر.

ومن هذا البيان يظهر الإشكال في كلام السيد الخوئي من جهات :

الأولى : نسبته القول بان الوضع أمر واقعي حصل بالجعل إلى المحقق العراقي ، مع انه غير ظاهر من كلامه ، بل الظاهر خلافه ، وحدوث الملازمة الواقعية لا يستلزم واقعية الوضع ، إذ المجعول رأسا ليس هو هذه الملازمة ، بل مفهومها.

الثانية : الترديد في الإيراد عليه ، بين ان يكون اختياره حدوث الملازمة مطلقا بلا تقييد بالعلم بالجعل ، وان يكون اختياره حدوثها في صورة العلم إذ لا وجه لهذا الترديد بعد ان عرفت ان المحقق المزبور قد تنبه للإشكال وقيد حدوث الملازمة بصورة العلم ، فلا إجمال في كلامه من هذه الجهة كي يكون مجال الترديد.

الثالثة : الإشكال عليه بعد فرض اختياره الشق الثاني من شقي الترديد أعني اختصاص حدوث الملازمة بصورة العلم بالوضع ، بان الأمر وان كان كذلك إلاّ انها ليست بحقيقة الوضع ، بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي ترتبت عليها الملازمة.

فان هذا الإشكال مندفع بما عرفت ، من عدم ادعاء المحقق المزبور كون هذه الملازمة هي حقيقة الوضع ، بل ما ذكره - كما أوضحناه - ظاهر في انها نتيجة الوضع وأثره فلاحظ وتدبر.

واما القول الثاني : - أعني : القول بان الوضع برزخ بين الواقعي والجعلي - ، فهو الّذي ذهب إليه المحقق النائيني كما في تقريرات بحثه (1).

وتقريب ما ذكره : انه لما لم يكن واضع الألفاظ لهذه المعاني من البشر

ص: 49


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 10 - الطبعة الأولى.

لجهتين : إحداهما : - وهي ترتبط بمقام الثبوت - هو ان الألفاظ المتداولة الموضوعة لمعانيها بحد من الكثرة يمتنع عادة ان يوجد من البشر من يستطيع لحاظها جميعا بمعانيها ووضعها لها ، مع ان الوضع يتوقف على لحاظ كل من اللفظ والمعنى. والأخرى : - وهي ترتبط بمقام الإثبات - هي ان عملية الوضع المذكورة لو سلم إمكانها من الأمور المهمة ، والحوادث الجليلة التي تستدعي انتباه الناس وتداول ذكرها من ألسنتهم ومعرفة من قام بها ، فلو كان لها أثر في الخارج لسجلت في أمهات الكتب كما تسجل الحوادث التي هي أقل منها شأنا ولتناقلتها الألسن في مختلف الدهور ، مع ان الأمر ليس كذلك ، إذ لم يجئ في خبر ان شخصا قام بهذا العمل الجبار ، وهو يكشف عن عدم وقوعه من أحد.

وعليه ، فينحصر ان يكون الواضع هو اللّه جل وعلا ، ويكون الوضع من مجعولاته واعتباراته جلّ شأنه. إلا انه جرت العادة ان يكون إيصال المجعولات الشرعية إلى البشر بواسطة الرسل والأنبياء ، وحيث انه لم يثبت ان رسولا ما أخبر عن اللّه تعالى بوضع لفظ خاص لمعنى خاص كان إدراك هذه الحقيقة الثابتة بالإلهام لا بالتبليغ ، فالوضع ليس بالأمر التكويني الواقعي ، لأنه من اعتبارات اللّه عزّ وجل ومجعولاته وليس مما يحتاج إلى جعل ، كما انه ليس كسائر الأمور الاعتبارية ، لأن إيصالها بواسطة الرسل ، مع انه إيصاله بالإلهام ، فهو بهذا اللحاظ برزخ بين الأمر الحقيقي والجعلي.

وظاهر ان الإيراد على الوسطية المزبورة ، بأنه لا يتصور وجود أمر وسط بين الواقعي والجعلي ، لأن الأمر إما ان يكون له ثبوت وتقرر في نفس الأمر والواقع ، بحيث لا تصل إليه يد الجعل ولا يختلف باختلاف الأنظار ، فهو واقعي ، أولا يكون كذلك ، بل كان أمرا دائرا مدار الجعل ويختلف باختلاف الأنظار ، فهو اعتباري جعلي ولا وسط بينهما ، إذ لا ثالث بين النفي والإثبات.

غير وجيه : فان المحقق المزبور لم يدع ان حقيقة الوضع حقيقة ثالثة

ص: 50

ليست بواقعية ولا جعلية وان الوضع وسط بين الواقعي والجعلي في حقيقته ، إذ التزم بأنه امر اعتباري بيد الشارع. وانما الدعوى كونه وسطا بلحاظ عدم ترتب الآثار العادية المترتبة على الاعتباريات الشرعية عليه فهو وسط من حيث اللوازم والآثار لا من حيث الحقيقة كما توهم.

إلاّ ان الّذي يرد عليه قدس سره في جهات كلامه الأخرى ظاهر ، وبيانه :

أما ما ذكره من المانع الثبوتي لكون الواضع من البشر ، فلأنه انما يتم لو التزم بان وضع الألفاظ لا بد وان يكون دفعة واحدة ، وهو غير مسلم إذ الوضع إنما يحتاج إليه لحصول التفهيم والتفاهم بين الافراد في أمورهم الاجتماعية ، والحاجة إلى الألفاظ الموضوعة تختلف سعة وضيقا باختلاف المحيط والمجتمع كما انها تزداد بمرور الزمن وكثرة الموارد المألوفة المتداولة في ما بين الافراد.

وعليه ، فوضع هذه الألفاظ للمعاني لم يكن بنحو دفعي ، بل بنحو تدريجي حسب ما يتطلبه كل زمن من سعة ما يتفاهم به ، كما انه لم يكن شخصيا ، بل كان عاما. فوضع أولا قسم من الألفاظ لقسم من المعاني ، ثم حصلت الحاجة لوقوع التفاهم ببعض المعاني الأخرى فوضع لها بعض الألفاظ وهكذا كما ان هذا المجتمع يضع هذه الألفاظ لهذه المعاني وغيره يضع غيرها لمعاني أخرى لاختلاف حاجتهم وتنوعها.

وظاهر ان المحذور المذكور لا يتأتى في مثل هذا النحو.

ومن هنا يتضح الإشكال في الوجه الإثباتي ، فانه مجد في فرض دعوى وحدة الواضع وانفراده دون فرض دعوى عدم تعينه بشخص دون آخر ولا مجتمع دون غيره ولا زمان دون زمان ، إذ مثل هذا العمل لم تجر العادة بتسجيله والتنبيه عليه من الوضع التاريخ. بل لعله يكون مستهجنا في عرفهم.

واما ما ما ذكره من كون الوضع من اللّه ، وإن إيصاله يكون بالإلهام - بعد

ص: 51

تسليم كونه ممتنعا في حق البشر - ، فلأن إلهام المتكلم الأول تحقق الوضع وان معنى هذا اللفظ هو هذا المعنى لا يجدي بمجرده في حصول التفاهم ما لم يعلم المخاطب بذلك ، فيدور الأمر بين أحد ثلاثة : اما ان يلهم المخاطب أيضا بذلك بلا ان يحتاج تفهيمه إلى تنبيه. أو يلهم المستعمل عملية الوضع فيضع. أو يلهم المستعمل فيخبر بتحقق الوضع.

والأول : باطل ، إذ من البديهي ان المخاطب لا يتمكن من فهم معنى اللفظ بلا تنبيه سابق.

والثاني : خلف فرض كون الواضع هو اللّه تبارك وتعالى.

والثالث : ممنوع التحقق ، إذ لم يعهد من المستعمل الأول الاخبار بالوضع منه تعالى.

وهذا مضافا إلى ان ما ذكره خلاف الضرورة في مثل وضع الاعلام ، إذ من البديهي ان وضعها من قبل البشر ، وانه لا يعبر عن الذات بأي لفظ قبل وضع شخص لفظا لها.

ثم انه قدس سره بعد ان قرر كون الواضع هو اللّه تعالى ، أفاد بان قضية الحكمة البالغة كون وضع اللفظ الخاصّ للمعنى الخاصّ ، انما هو لمناسبة ذاتية بينهما ، وغاية ما يقرب به ذلك : بأنه مع عدم المناسبة لم يكن وجه لوضع خصوص هذا اللفظ دون غيره فوضعه ترجيح بلا مرجح وهو محال.

وأورد عليه : بان المحال هو الترجح بدون المرجح كوجود المعلول بدون العلة ، لا الترجيح بدون المرجح لا مكان تساوي الافراد في تحصيل غرض واحد مطلوب ، كتساوي الرغيفين من الخبز في الإشباع ، فيؤتى بأحدها تخييرا لحكم العقل بالتخيير حينئذ وإلاّ لزم فوات هذا الغرض ، إذ مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح فواته مع تساوي الدخيل فيه من جميع الجهات ، بل عدم إمكان الإتيان بواحد مما له دخل فيه - كما هو مقتضى المحالية - ، مع انه خلاف الوجدان

ص: 52

والعقل لإمكان الإتيان بأحدهما بداهة ، كما انه لا وجه لتفويت الغرض المطلوب.

وثبوت هذا الإيراد وعدمه موكول إلى محله من محالية الترجيح بلا مرجح وعدمها.

فالإيراد الجزمي عليه قدس سره فيما أفاده هو : ان مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح لزوم جهة ما في المرجح تصلح للترجيح ، سواء كانت ذاتية فيه أو غير ذاتية ، فلا وجه للحكم بوجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى ، مع انه يمكن ان يكون الترجيح ووضع خصوص هذا اللفظ لجهة خارجة عن واقع اللفظ والمعنى ترتبط بعالم المصالح والمفاسد الخارجية فلاحظ. والنتيجة الحاصلة مما ذكرناه : انه لا يعلم لما ذكره المحقق النائيني قدس سره وجه محصل فتدبر.

وبذلك يعلم ان الوضع ليس من الأمور الحقيقية الواقعية ، ولا وسطا بين الحقيقي والاعتباري بالمعنى الّذي قرره المحقق النائيني ، بل من الأمور الاعتبارية المحضة التي تختلف باختلاف الاعتبارات والأنظار. فيدور الأمر بين الاحتمالات الأربعة المزبورة ، وقد عرفت تقريب كلام المحقق العراقي بما يمكن إرجاعه إلى الأول وسيأتي تحقيقه ، فيقع الكلام في الاحتمال الثاني ، وهو كون الوضع جعل اللفظ على المعنى ، وقد التزم به المحقق الأصفهاني (1).

وقد مهد لكلامه تمهيدا ، وهو وان لم يرتبط بالنتيجة التي ذكرها الا اننا نذكره لما يترتب عليه من أثر فيما بعد ، وذلك في مبحث الإنشاء ، حيث قيل ان معنى الإنشاء تسبيب إلى جعل الشارع واعتباره ، ومقتضى هذا عدم كون الوضع من المعاني الإنشائية ، لأنه اعتبار مباشري كما تلاحظ.

وهو : ان الأمور الاعتبارية ما لا واقع لها ولا ثبوت الا في عالم الاعتبار ، بحيث لا يخرج المعنى المعتبر عن مفهوميته وطبيعته ، ولا يوجد في الخارج وانما

ص: 53


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 14 - الطبعة الأولى.

ينسب الوجود له باعتبار صيرورته طرفا لاعتبار المعتبر.

وهذه الأمور الاعتبارية تارة تكون من الأمور التسبيبية ، بمعنى ان المنشئ والمعتبر لا يقصد حصول الأمر الاعتباري بمجرد اعتباره ، بل يقصد التسبيب بهذا الإنشاء إلى الاعتبار العقلائي أو الشرعي أو غيرهما. وذلك كالملكية ونحوها من الاعتبارات الشرعية ، فان الملكية توجد في عالم الاعتبار من الشارع مباشرة ، بمعنى ان من يتولى الاعتبار هو نفسه ومن المتعاقدين بالتسبيب. وأخرى تكون من الأمور المباشرية ، بمعنى ان المعنى المعتبر يحصل بنفس اعتبار الفرد لا باعتبار العقلاء أو الشارع وكان الفرد بإنشائه سببا لذلك.

ومن النحو الثاني الاختصاص الوضعي ، فانه لا يحتاج في وجوده الا إلى اعتبار الواضع والاعتبار ، كما هو واضح قائم في نفس المعتبر بالمباشرة لا بالتسبيب ، وان توقف اثره في بعض الأوضاع على إمضاء العقلاء أو مشاركتهم له فيه ، لكنه لا بنحو يكون وضعه تسبيبا لاعتبارهم ، بل يكون حاصلا بوضعه واعتباره مباشرة ولا يتوقف تحقق الاختصاص في عالم الاعتبار على الاعتبار العقلائي ، بحيث يكون اعتبار الفرد تسبيبا له كتسبيب المتعاقدين لاعتبار الملكية.

وبعد هذا أفاد : « بأنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال ، كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، فانه أيضا ينتقل من النّظر إليه إلى ان هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر ان الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانه كأنه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص » (1).

ص: 54


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 14 - الطبعة الأولى.

والنكتة التي تظهر لنا من عبارته الواضحة هي : انه مع اتحاد سنخ دلالة اللفظ على المعنى مع سنخ دلالة سائر الدوال على مدلولاتها ، فلا مفرق حقيقي بينهما إلاّ ان الجعل والوضع في سائر الدوال حقيقي واقعي دونه في اللفظ ، فانه جعلي واعتباري ، فالفرق لا بد وان ينحصر بين هذين في هذه الجهة فقط.

وقد أورد عليه السيد الخوئي بوجهين :

أحدهما : أن هذا المعنى من المعاني الدقيقة للوضع التي لا يلتفت إليها العرف في أوضاعهم ، فلا يتناسب مع كون الوضع من الأمور العرفية التي يتولاها افراد العرف.

ثانيهما : أن ما ذكره يقتضي ان يكون التعبير عن المعنى بالموضوع عليه لا بالموضوع له ، مع ان المتداول التعبير بالثاني دون الأول ، بل ادعاء عدم صحة الأول غير مجازفة (1).

ولا يخفى ان كلا الوجهين غير واردين :

أما الأول : فلأنه ينقض بكثير من الأمور العرفية التي قام الخلاف فيها على قدم وساق كالخبر والإنشاء ، فان استعمال العرف للجمل الخبرية والإنشائية مما لا يخفى ، مع ان الخلاف في معنى الإنشاء والخبر مما لا ينكر ، وهكذا الكلام في معاني الحروف ، فان استعمال العرف للحروف أكثر من ان يحصى ، مع وقوع الخلاف في معنى الحرف ودورانه في كلام القوم بين المعاني الدقيقة التي قد لا يصل إلى مداها الاعلام فضلا عن افراد العرف ، فهذا دليل على ان كون المعنى من الأمور الدقيقة لا يتنافى مع كونه عرفيا. بل التعهد الّذي التزم به من أدق ما ذكر للوضع من معان كما ستعرف ، للاختلاف في تحديده والتعبير عنه. والسر في ذلك الّذي يكون حلا للجميع : هو ان لهذه الأمور معان عرفية ارتكازية ،

ص: 55


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 43 - الطبعة الأولى.

والخلاف والنزاع انما هو في تفسير ذلك المعنى والكشف عنه وتحديده بنحو جامع مانع ، والدقة في هذا المقام لا في نفس المعنى كي يدعى عدم إدراك العرف ووصوله إليه.

وأما الثاني : فلان ما أفاده المحقق المزبور لا ينافي صحة التعبير عن المعنى بالموضوع له ، باعتبار ان اللفظ انما وضع على المعنى للدلالة على المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ ، فالمقصود من كون المعنى موضوعا له انه قد وضع اللفظ للدلالة عليه فاللام بمعنى الغاية. فالمعنى بهذا البيان موضوع عليه وموضوع له ، والتعبير عنه عادة بالموضوع له ، انما هو لأجل كون الغرض من الوضع هو إفادة المعنى والدلالة عليه باللفظ ، ونفس الوضع ملحوظ طريقا إلى هذه الجهة كما لا يخفى. ولكنه مع هذا يصح التعبير عنه بالموضوع عليه بلحاظ جهة نفس الوضع ولا محذور فيه.

فالأولى ان يورد على المحقق الأصفهاني :

أولا : بان الموضوع عليه في سائر الدوال غير المنكشف ، بخلافه في اللفظ. فان العلم انما يوضع على نفس المكان ووجوده كذلك يكون كاشفا عن ان هذا المكان رأس فرسخ. وبعبارة أخرى : ان المكان بوضع العلم عليه يتصف بوصف وهو كونه موضوعا عليه العلم ، وهو بهذا الوصف يكشف عن صفة أخرى فيه كانت مجهولة وهو كونه رأس فرسخ ، وليس الموضوع عليه المكان بوصف كونه رأس فرسخ ، لأن هذا الوصف وصف عنواني لا مدخلية له في تحقق الوضع ، بل الوضع يتقوم بذات المكان ، وهذا بخلاف اللفظ فان الموضوع عليه اعتبارا نفس المعنى والمنكشف به هو نفس المعنى أيضا ، وعليه فلا ينحصر الفرق بين الألفاظ وسائر الدوال بما ذكره ، بل هذا وجه فارق أيضا.

وثانيا : وهو العمدة ، بان الوضع التكويني الواقعي لا يقتضي دلالة الموضوع على الموضوع له بنفسه ، وإلاّ للزم ان يكون كل علم دالا على رأس

ص: 56

فرسخ وهو بديهي المنع. وانما يتوقف أيضا عن سبق بناء وقرار على جعل العلم على رأس فرسخ ، فتحصل الدلالة بسبق هذا القرار والبناء.

وعليه ، فالوضع الاعتباري الجعلي أولى بعدم انتهائه إلى دلالة اللفظ على المعنى بنفسه وتوقفه على سبق القرار والبناء على دلالة اللفظ على المعنى عند الوضع. وإذا انتهى الأمر إلى اعتبار الدلالة وجعلها وعدم كفاية مجرد الوضع تكوينا أو اعتبارا ، فيقتصر عليه ولا احتياج إلى وضع اللفظ على المعنى اعتبارا.

وأما الاحتمال الثالث : فغاية تصويره ، أن اللفظ يعتبر ويجعل وجودا آخر للمعنى في قبال الوجود الحقيقي الواقعي له. وقد اختلف التعبير عن هذا المعنى ، فعبر عنه تارة باعتبار اللفظ نفس المعنى وأخرى بتنزيله منزلة المعنى وجعله وجودا تنزيليا له.

وقد ذكر لهذا الوجه مؤيدات وشواهد لا يهمنا البحث عنها قبل معقولية هذا المعنى وإمكانه ثبوتا ، فان البحث عن المؤيدات الإثباتية فرع الإمكان الثبوتي ، فلا بد من وقوع البحث أولا عن معقوليته.

وقد التزم السيد الخوئي بمعقوليته في نفسه ، ولكن أورد عليه بوجهين :

الأول : ما تقدم في مقام الإيراد على المحقق الأصفهاني من انه معنى دقيق لا تصل إليه أذهان افراد العرف ، مع ان عملية الوضع يقوم بها الصغار فضلا عن الكبار ، بل قد يقوم بها بعض الحيوانات التي لا شعور عندها.

والثاني : ان الغرض المقصود من عملية الوضع هو تحقيق دلالة اللفظ على المعنى لحصول التفهيم بها ، والدلالة كما لا يخفى تقتضي اثنينية الدال والمدلول.

وعليه ، فاعتبار الوحدة بين الدال والمدلول يكون لغوا وعبثا ، لأنه بلا أثر ، إذ لا يترتب عليه أثر الوضع لأنه يقتضي التعدد (1).

ص: 57


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 41 - الطبعة الأولى.

والمناقشة في الوجه الأول قد عرفتها فلا نعيد.

وأما الوجه الثاني : فالمناقشة فيه واضحة ، بيان ذلك : ان اعتبار شيء شيئا آخر يقتضي تحقق الانتقال إلى المعنى المعتبر في ذلك الشيء عند الانتقال إلى ما اعتبر ، سواء كان المعنى الاعتباري مما له وجود حقيقي كاعتبار شخص جاهل عالما ، أو لم يكن له وجود الا في عالم الاعتبار كاعتبار شخص رئيسا. فان الانتقال إلى الشخص الجاهل المعتبر عالما ملازم للانتقال إلى العالم ، وهكذا الانتقال إلى من اعتبر رئيسا ملازم للانتقال إلى الرئيس ، فالتلازم بين الانتقال إلى المعتبر والانتقال إلى ما اعتبر من الآثار التكوينية للاعتبار. ثم ان اعتبار شيء شيئا آخر يكون غالبا بلحاظ ترتيب آثار المعتبر على ما اعتبر ، كترتيب آثار العالم على الجاهل وآثار الرئيس على زيد مثلا. وقد لا يكون بهذا اللحاظ ، بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني على نفس الاعتبار ، أعني الملازمة في الانتقال ، وهكذا الحال في اعتبار اللفظ نفس المعنى - على هذا القول - ، فان اعتبار كون اللفظ هو المعنى ليس بلحاظ ترتيب آثار المعنى على اللفظ ، بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني للاعتبار ، أعني التلازم بين الانتقال إلى اللفظ والانتقال إلى المعنى ، وظاهر ان هذا لا يتحقق إلاّ باعتبار الوحدة وان أحدهما عين الآخر ، فاعتبار الوحدة ليس بلا أثر كي يكون لغوا ، بل له تمام الدخل في ترتب الغرض ، وهو حصول التفهيم والتفهم بحصول الانتقال إلى المعنى عند الانتقال إلى اللفظ. كما انه لا يتنافى مع اقتضاء الدلالة للتعدد ، إذ الدال هاهنا غير المدلول ذاتا ، فان الدال هو اللفظ والمدلول هو المعنى واعتبار الوحدة لا يضير في التعدد الذاتي المعتبر في مقام الدلالة.

فالتحقيق ان يقال : ان التنزيل قد يطلق ويراد به ما هو أعم من الاعتبار ، وقد يطلق ويراد به معنى يقابل الاعتبار.

فالأوّل : بأن يؤخذ شيء ، فيعتبر كونه شيئا آخر ، فان الاعتبار - كما تحقق

ص: 58

- امر خفيف المئونة لأنه لا يخرج عن الفرض غاية الأمر ان الفرض قد لا يكون له أثر عقلائي فيكون خيالا ويعبر عنه بالخيال. وقد يكون ذا أثر عقلائي أو شرعي فيقال عنه الاعتبار ، فاعتبار ان هذا الجاهل عالم لا مئونة فيه ، ويطلق عليه بأنه تنزيل لوجوده منزلة وجود العالم فيترتب عليه آثار العالم المجعولة من قبل المعتبر.

والثاني : ان يكون شيء بديل شيء آخر في ترتب آثاره عليه التكوينية أو غيرها ويقوم مقامه في ذلك ، وهذا أمر واقعي لا جعلي ، إلاّ انه تارة ينشأ من أمر واقعي أيضا ، كما إذا كان الأثر المترتب عليه والمترتب على غيره من الآثار التكوينية ، كترتب الحرارة على النار والشمس ، فيقال ان النار بمنزلة الشمس وتقوم مقامها - ولا يخفى ان مراعاة الأسبقية أو الأكملية في الأثر لا بد منها في الحكم ، بان المتأخر أو الضعيف بمنزلة الأسبق ، وإلاّ كان كل منهما بمنزلة الآخر -. وأخرى ينشأ من أمر جعلي ، كما إذا كان ترتب الأثر المترتب على آخر بواسطة جعل الشارع ( الجاعل ) أو غيره ، فيعبر عنه بالتنزيل بهذا اللحاظ ، فنفس البدلية أمر واقعي وان كان منشؤها اعتبار ترتب الأثر على البدل فيكون بدلا.

وبالجملة : التنزيل تارة يراد به الاعتبار. وأخرى يراد به ترتيب أثر الغير عليه مع المحافظة على واقع الموضوع حتى في عالم الاعتبار. وهو بالمعنى الأول اعتباري ، وبالمعنى الثاني حقيقي واقعي ، فان كون هذا ذاك بالاعتبار دون كون هذا بمنزلة ذاك - أعني نفس عنوان المنزلية والبدلية - ، فانه أمر واقعي انتزاعي.

وعليه ، فهذا القائل اما ان يقصد بتنزيل اللفظ منزلة المعنى التنزيلي بالمعنى الثاني ، فهو غير معقول ، لأن تنزيل اللفظ منزلة المعنى يكون حينئذ بمعنى ترتيب آثار المعنى على اللفظ ، ومن الواضح انه لا أثر جعليا يترتب على

ص: 59

المعنى كي يكون قابلا لاعتبار ترتبه على اللفظ كي يحصل به غرض الوضع من التفهيم والتفهم. وترتب انتقال المعنى على وجوده لا يمكن اعتبار ترتبه على اللفظ ، لأنه امر تكويني وترتبه على وجود المعنى تكويني لا جعلي ، فهو غير قابل للجعل ولا يتحقق واقعه - وهو المرغوب - بواسطة جعله. فلاحظ.

أو يقصد القائل بالتنزيل المعنى الأول ، يعني : اعتبار اللفظ نفس المعنى ، فيكون للمعنى وجودان أحدهما واقعي والآخر اعتباري. فهو أيضا مما لا يمكن الالتزام به وذلك لأن من آثار اعتبار الشيء نفس آخر هو صحة إطلاق المعنى المعتبر على ما اعتبر كما لو كان نفسه حقيقة وواقعا ، بلا فرق من حيث صحة الإطلاق وحقيقته ، وكونه بلا مسامحة وتجوز ، فيكون التجوز في نفس المعنى وادعاء ثبوته لغيره ، فإذا اعتبر زيد الجاهل عالما صح إطلاق العالم على زيد بلا مسامحة ولا تجوز ، بل التجوز في نفس الادعاء والاعتبار كما هو شأن كل حقيقة ادعائية.

وعليه ، فاعتبار اللفظ نفس المعنى يستلزم صحة إطلاق المعنى على اللفظ وصحة حمله عليه بالحمل الأولي الذاتي ان كان الاعتبار بين الماهيتين ، بان اعتبرت طبيعة اللفظ نفس طبيعة المعنى ، كما هو مقتضى الاتحاد في الماهية فيقال للفظ الماء بما انه لفظ جسم سيال خاص ، ويحمل عليه بالحمل الأوّلي الذاتي ، أو بالحمل الشائع الصناعي ان كان المعتبر نفس المعنى هو وجود اللفظ ، كما هو شأن الاتحاد في الوجود فيحمل واقع الماء - أعني الجسم السيال الخاصّ - على لفظه بالحمل الشائع.

وظاهر ان الإطلاق والحمل المزبور بإحدى صورتيه من بديهي البطلان ، وهذا يكشف عن عدم ملزومهما ، وهو الاعتبار المدعى.

والمتحصل : ان هذا الوجه في تحديد حقيقة الوضع غير وجيه أيضا.

يبقى الكلام في الوجهين الآخرين ، وهو كون الوضع عبارة عن اعتبار

ص: 60

الملازمة والارتباط بين اللفظ والمعنى ، وكونه عبارة عن التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ.

وقد كان الثابت لدينا في الدورة السابقة هو معقولية كلا الوجهين ثبوتا وإثباتا ، وان ترجيح أحدهما لا بد فيه من مرجح.

إلاّ ان الّذي نراه فعلا بطلان القول بالتعهد.

وتوضيح ذلك : ان المراد من التعهد يتصور بأنحاء :

النحو الأول : ان يراد به التعهد ، والبناء على ذكر اللفظ بمجرد تصور المعنى والانتقال إليه. فمتعلق التعهد هو ذكر اللفظ.

وهذا المعنى لا يمكن الالتزام به ، إذ من البديهي الّذي لا إنكار فيه ان الإنسان إذا تصور بعض المعاني ولم يذكر اللفظ لم يعد مخالفا لتعهده وناقضا لبنائه ، إذ لا يرى الشخص ملزما بذكر ألفاظ جميع ما يتصوره من المعاني ولو بلغت من الكثرة إلى حد كبير ، كما لو قرأ الشخص كتابا طويلا في ليلة واحدة ، أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها.

النحو الثاني : ان يراد به التعهد والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.

وهذا باطل لوجهين :

أحدهما : أن ذلك يستلزم ان يكون مدلول اللفظ هو نفس إرادة التفهيم لا المعنى ، وانما يكون المعنى من قيود المدلول لا نفسه ، بمعنى ان المدلول هو الحصة الخاصة من الإرادة ، وهي الإرادة المتعلقة بهذا المعنى - نظير ما إذا تعهد بالإشارة بالإصبع عند مجيء زيد ، فان مدلول الإشارة يكون نفس المجيء لا زيد ، بل زيد يكون من قيود المدلول -.

وهذا - أعني كون المدلول والموضوع له هو الإرادة - ينافي دعوى وضع اللفظ للمعنى ، كما هو محور الكلام كما انه مما لا يلتزم به القائل ، فانه يلتزم بان

ص: 61

اللفظ موضوع إلى المعنى ، غاية الأمر المعنى الّذي تعلقت به الإرادة دون غيره ، فالموضوع له بالتزامه هو الحصة الخاصة من المعنى ، وقد عرفت بان إرادة المعنى المزبور من التعهد تستلزم كون المعنى من قيود الموضوع له لا نفسه ، وان الموضوع له هو الحصة الخاصة - وهو الإرادة المعلقة بالمعنى ، لا الحصة الخاصة من المعنى - وهي المعنى المتعلق للإرادة -.

وثانيا : أنه من المتقرر امتناع وضع اللفظ للموجودات الخارجية بما هي كذلك ، بل لا بد من تعلقه بالمفهوم ، لأن المقصود منه تحقق انتقال المعنى الموضوع له بالانتقال إلى اللفظ ، والمعنى القابل للانتقال هو المفهوم دون الموجود ، إذ لا يقبل الموجود وجودا آخر ذهنيا كان أو خارجيا ، والانتقال عبارة عن الوجود الذهني. وعليه فلا يمكن دعوى كون الموضوع له هو إرادة المتكلم التفهيم ، لأنها من الأمور الخارجية الواقعية لا من المفاهيم ، فلا تقبل الوجود الذهني وهو الانتقال. فلاحظ.

النحو الثالث : ان يراد به التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه ، فيكون متعلق التعهد هو نفس التفهيم لا ذكر اللفظ ، فلا يرد عليه ما ورد علي سابقه ، إذ العلاقة مفروضة بين اللفظ ونفس المعنى لا بينه وبين إرادة تفهيمه كما لا يخفى.

ولعله لأجل التفصي عن ما ورد على سابقه غيّر القائل - هو السيد الخوئي ( دام ظله ) (1) - التعبير الأول السابق ، وعبّر بهذا التعبير أو بما يشاكله كالتعهد بإبراز المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه.

ولكنه مع هذا لا يسلم عن المحذور.

بيان ذلك : انه انما يصح في فرض لا ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ

ص: 62


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 45 - الطبعة الأولى.

الخاصّ ، بان كان هناك دال آخر عليه من لفظ أو غيره ، فيكون لهذا التعهد معنى معقول ، كما يقع التعهد باستعمال خصوص هذه الآلة في الضرب دون غيرها. أما مع انحصاره فيه بحيث لم يكن للمعنى مفهم أصلا غير هذا اللفظ الّذي يحتمل مفهميته بالتعهد ، كان هذا التعهد غير معقول ، وذلك لأنه يشترط في صحة التعهد معقولية متعلقه في ظرفه بحيث يصح ان يتعلق به البناء والتعهد ، ومع عدم ذلك لا يصح التعهد ، وما نحن فيه يرجع إلى هذا القبيل ، لأن المتعهد به اما ان يرجع إلى ذكر اللفظ ، وقد عرفت ما فيه. واما ان يرجع إلى مفهمية اللفظ وهي غير اختيارية. واما ان يرجع إلى نفس التفهيم - مطلقا - وهو لا معنى له ، إذ لا معنى لأن يقال : التعهد عند إرادة التفهيم بالتفهيم كما هو واضح ، فينحصر ان يراد التعهد بالتفهيم باللفظ الخاصّ.

ولا يخفى انه مع انحصار المفهم به لا مجال لهذا التعهد ، فان المفهمية - يعني مفهمية اللفظ - وان نشأت بواسطته ، إلاّ انه حيث كان المفهم منحصرا به كان التعهد بالتفهيم به عند إرادة التفهيم بلا وجه ولا محصل ، إذ لا مجال للتفهيم بغيره تعهد أو لم يتعهد ، فالتفهيم به قهري لا محيص عنه فلا معنى للتعهد به.

وبعبارة أخرى : يكون التعهد بذلك مما يلزم من وجوده عدمه ، لأنه بحدوثه كان اللفظ مفهما للمعنى ، وتحصل العلاقة بينه وبين المعنى ، ولما كان المفهم منحصرا باللفظ كان التعهد بقاء لغوا ، فيرتفع التعهد قبيل الاستعمال ، فيلزم من وجوده عدمه وهو محال.

هذا مضافا إلى ما يرد على هذا النحو من محذور الدور ، وتقريبه : ان التعهد يتوقف على مقدورية متعلقه وهو التفهيم ، إذ مع عدم مقدورية التفهيم يستحيل التعهد ، والقدرة على التفهيم بهذا اللفظ غير حاصلة قبل التعهد ، إذ المفروض ان قابلية اللفظ للدلالة على المعنى تكون بالوضع وهو التعهد على هذا القول ، فالقدرة على تفهيم المعنى باللفظ متوقفة على التعهد ، وقد عرفت

ص: 63

انها مما يتوقف عليها التعهد فيلزم الدور.

وقد أجيب : بأنه يكفي في صحة التعهد القدرة على التفهيم في ظرف الحاجة والعمل وهو ظرف الاستعمال ، ولا يلزم حصولها في ظرف التعهد نفسه ، وهي حاصلة في ظرف الاستعمال ، إذ العلاقة بين اللفظ والمعنى تحصل بالتعهد قهرا ويكون اللفظ قابلا للدلالة على المعنى بواسطته فيحصل الشرط في ظرفه.

ولكن هذا الجواب انما يتم لو كان أخذ القدرة على التفهيم في ظرف العمل شرطا لصحة التعهد من باب رفع اللغوية ، إذ مع عدم القدرة يلغو التعهد.

واما لو كان الملاك ليس ذلك ، بل شيئا يرجع إلى نفس التعهد ، بمعنى ان قوام التعهد بذلك ، فتكون القدرة على التفهيم في ظرف الاستعمال شرطا مقوما للتعهد من قبيل الشرط المتأخر فلا يصح الجواب ، إذ القدرة وان كانت متأخرة زمانا عن التعهد إلاّ انها بمقتضى شرطيتها المتأخرة من اجزاء علة حصول التعهد ، فيستحيل ان تكون ناشئة عن التعهد لاستلزامه الدور.

وتحقيق هذا المعنى ليس محله هاهنا ، بل محله مبحث أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وانما ذكرناه هاهنا إشارة إلى تصور الخدشة في الجواب.

وعلى كل ، فلا نستطيع ان نقول بان ما ذكر من محذور الدور دليل على بطلان النحو المذكور للتعهد ، إذ لم يتضح لدينا أخذ القدرة من أي النحوين وبأي الملاكين ، كما انه لم يتضح لنا بذلك بطلان الدور ، فالفرض هو الإشارة إلى تصور محذور آخر في النحو المذكور ، فتدبر.

والّذي ينتج بطلان الالتزام بالتعهد بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة. ويجمعها كون متعلق التعهد جانب اللفظ من ذكره أو التفهيم به في فرض تصور المعنى أو قصد تفهيمه. يبقى هاهنا احتمالات ثلاثة للتعهد ، وذلك بعكس فرض التعهد وموضوع ثبوته في الأنحاء الثلاثة بجعله متعلقا له ومعروضا له ، وعكس متعلقه بجعله فرض ثبوته ، فيكون المراد بالتعهد هو التعهد بتصور

ص: 64

المعنى عند ذكر اللفظ ، أو التعهد بقصد تفهيمه عند ذكره ، أو التعهد بقصد تفهيم المعنى عند تفهيمه باللفظ.

وسخافة المحتمل الأخير وركاكته لا تحتاج إلى بيان.

وأما الاحتمال الأول ، فيبطله ان بقاء التصور غالبا لا يكون من الأمور الاختيارية التي تقبل ان يتعلق بها التعهد ، ومعه يلزم ان يقيد التعهد المزبور بما إذا لم يكن قد سبق تصور المعنى على ذكر اللفظ واستمر إليه ، إذ لا معنى للتعهد به مع تحققه بغير اختياره ، بل تصور المعنى حدوثا قد لا يكون اختياريا فيما لم يكن لتصوره مبادئ ومعدات كي يكون تصوره اختياريا تهيئيا ، فلا معنى لأن يتعهد المتكلم بتصور المعنى عند ذكر اللفظ. هذا مضافا إلى ان المتكلم مع التفاته إلى التعهد لا بد وان يسبق تصوره المعنى قبل التكلم ومع عدم التفاته لا يحصل له تصور المعنى حتى بعد ذكر اللفظ. فهذا الاحتمال مما لا محصل له.

وأما الاحتمال الثاني ، فيدفعه ما أوردناه على الاحتمال الثاني من تلك المجموعة ، وهو كون التعهد عبارة عن البناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، من استلزامه كون طرف الملازمة والعلقة والدلالة هو إرادة التفهيم لا نفس المعنى ، وهو لا يلتزم به القائل مع انه خلاف الفرض ، كما انه غير صحيح في باب الوضع ، لأن الموضوع له لا بد وان يكون من المفاهيم القابلة للتصور والانتقال لا من الأمور الخارجية الموجودة لأنها لا تقبل الانتقال.

كما يرد عليه وعلى سابقه ، من احتمال انه تعهد تصور المعنى عند ذكر اللفظ ، بل وعلى الكل أن ما يترتب على الملازمة الوضعيّة والعلاقة بين اللفظ والمعنى هو تحقق انتقال المعنى عند ذكر اللفظ من دون اعتبار تحقق العلم بثبوت المعنى ، بل قد يكون مما يستحيل ثبوته ، فالفائدة المترقبة من عملية الوضع ليس إلا تصور المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ ، والتعهد بالمعنى المذكور يترتب عليه العلم بطرف الملازمة ، وذلك لأن الملازمة ان قررت بين فعلين وثبتت بنحو

ص: 65

الجزم بينهما كان العلم بحصول أحدهما موجبا للعلم بحصول الآخر.

وحيث أن طرفي الملازمة في التعهد هو الفعلين ، وهما ذكر اللفظ وإرادة التفهيم أو تصور المعنى ، كان ذكر اللفظ موجبا لحصول العلم بالإرادة والتصور - والانتقال إليهما وان حصل إلاّ أنه باعتبار كونه من مقدمات العلم -.

وعليه ، فلا يمكن الالتزام بكون العملية الوضعيّة هي التعهد ، لأن أثر العملية الوضعيّة المترقب ترتبه بلحاظها يختلف عن أثر التعهد وما يترتب عليه. فلاحظ.

وبهذا البرهان الجلي يتضح بطلان القول ، بان حقيقة الوضع هي التعهد والقرار.

ويؤيد ذلك بعض الموارد العرفية.

فان تحقق الوضع من شخص أخرس لا يستطيع الكتابة ولا يأمل البقاء بنحو يتمكن به من الاستعمال مما لا ينكر عرفا ، لو كان مما يعتنى بوضعه كما لو كان قد وضع اسما لولده. مع أنه لا تعهد لديه بذكر اللفظ والتفهيم به عند قصد التفهيم.

كما انه قد يضع الوالد لولده اسما مباركا للتفاؤل وهو لا يقصد بذلك استعماله في مقام التفهيم ، بل يضع لفظا آخر لذلك. أو يضع اسما قبيحا لردع العين الحسودة وإطالة البقاء ولا يرضى بان يتأذى بهذا الاسم أصلا ، وقد يعاقب على استعماله لو كان من شأنه ذلك.

وبالجملة : قد يضع الوالد لولده اسما لا لغرض استعماله فيه ، فيعد وضعا لدى العرف مع عدم التعهد. فتدبر جيدا وتفهم.

ونتيجة بطلان ما ذكر من هذه الوجوه لحقيقة الوضع ، يتعين الالتزام بان حقيقة الوضع هي جعل العلقة واعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى ، فانه معنى معقول لا محذور في الالتزام به ثبوتا ولا إثباتا.

ص: 66

وتوضيحه : أن عدم الانفكاك بين تصور شيئين والتلازم بين وجوديهما الذهنيين ، بحيث إذا انتقل إلى أحدهما ينتقل الآخر ، انما ينشأ من ارتباط خاص بين نفس الشيئين وعلاقة بينهما تسبب التلازم بينهما في الوجود الذهني أو الخارجي ، فمنشأ التلازم في الوجود الذهني هو وجود الرابطة بين الشيئين ، وعليه فكما تكون الرابطة والعلاقة ثابتة في نفس الأمر والواقع ، كسائر الملازمات المعهودة مثل الملازمة بين الحرارة والنار ، كذلك يمكن ان يكون الارتباط متحققا في عالم الاعتبار والفرض العقلائي ، فتنشأ الملازمة على أثر تحقق الربط في عالم الاعتبار.

وبعبارة أخصر وأوضح ، لما كان منشأ الملازمة هو نفس الارتباط بين الشيئين لم يفرق في تحققها بتحققه واقعا أو اعتبارا ، فحقيقة الوضع اعتبار الارتباط والعلقة بين اللفظ والمعنى ، فينشأ قهرا بهذا الاعتبار تلازم واقعي بين تصور اللفظ وتصور المعنى لمن يلتفت إلى وجود الربط الاعتباري.

وهذا المعنى لا يرد عليه أي محذور ، كما أنه يتناسب مع الأمر الحقيقي الّذي يكون منشأ التلازم في الوجود الذهني - أعني الربط -.

وقد مرّ استفادة هذا المعنى لحقيقة الوضع - من كلام المحقق العراقي - ، وهذا يؤيد الالتزام به خصوصا بملاحظة ان الاعتبار خفيف المئونة سهل التحقق لا يحتاج إلى كلفة.

نعم يبقى سؤال وهو : أن الاعتبار انما يكون بلحاظ الآثار الاعتبارية العقلائية ، وليس في مورد الوضع ما يكون أثرا عقلائيا اعتباريا لاعتبار الربط. والجواب : انه يكفي في رفع لغوية هذا الاعتبار ترتب الأثر التكويني للربط المرغوب وهو الانتقال عند الانتقال والملازمة الواقعية الناشئة به ، بل ترتبه هو الملحوظ في هذا الاعتبار دون غيره فلا لغو.

والّذي يتحصل بأيدينا : ان الوضع عبارة عن جعل الربط والملازمة

ص: 67

والعلقة بين اللفظ والمعنى ، وينشأ من هذا الاعتبار مصداق حقيقي للملازمة كما هو واضح.

ومن هنا ظهر : ان الاختصاص والارتباط الحقيقي والواقعي من آثار ونتائج الوضع لا نفس الوضع ، كما يظهر من صاحب الكفاية ، حيث قال : « الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ، ناش من تخصيصه به تارة ، وكثرة استعماله فيه أخرى » (1).

نعم لو كان المراد من الاختصاص الاختصاص الاعتباري الّذي يكون متعلق الاعتبار ، أمكن أن يصحح جعله معنى الوضع ، بحمل كلامه على إرادة الوضع بمعنى اسم المصدر ، لا الوضع بمعنى المصدر ، فانه غير الاختصاص اعتبارا.

إلاّ ان ظاهر دعواه نشوء الاختصاص تارة من كثرة الاستعمال ينافي حمل الاختصاص على المعنى الاعتباري ، إذ لا اعتبار في الاستعمال أصلا بل الاختصاص الناشئ منه ، ليس إلاّ الاختصاص الواقعي الحقيقي فتدبر والأمر سهل.

* * *

ص: 68


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

« اللفظ والاستعمال »

هذا البحث لم يعنون في الأبحاث بعنوان مستقل ، وانما يشار إليه في ضمن الأبحاث الأخرى المتعلقة بالاستعمال.

والمقصود منه بيان حقيقة استعمال اللفظ في المعنى. والأقوال فيها متضاربة - فمنهم من يرى انه إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى باللفظ (1). ومنهم من يرى انه جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات (2) - والمتعارف على الألسن في تحرير النزاع المذكور ، هو ان الاستعمال هل هو من قبيل جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات أو لا؟ وظاهر ان تحرير النزاع على هذا النحو لا يخلو عن شائبة المنع ، لافتراق وضع سائر العلامات عن وضع اللفظ والدلالة الوضعيّة فيهما من جهتين :

الأولى : أن الدلالة الوضعيّة الناشئة بالاستعمال دلالة تصورية ، إذ لا يترتب على ذكر اللفظ سوى تصور المعنى لا غير ، بخلاف دلالة العلامات ، فانها دلالة تصديقية لأن الانتقال منها إلى مدلولها انتقال تصديقي كما هو ظاهر.

الثانية : ان دلالتها ليست بالاستعمال ، فان واضع العلامة لم يقصد حال الوضع التفهيم والكشف عن المدلول بها ، وانما وضعها لينتقل بملاحظة وجودها إلى ذي العلامة ، فالانتقال المتأخر عن الوضع ليس من توابع استعمال ما بل من توابع نفس وجود العلامة والعلم بالوضع لهذه الجهة.

وبالجملة : فتحرير الكلام بهذا النحو غير وجيه ، بل لا بد من تحريره بنحو يكون جميع أطراف احتمالاته من نحو الاستعمال وقبيله.

ص: 69


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /36. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 208 - الطبعة الأولى.

وتحقيق المطلب : ان استعمال شيء للإراءة والكشف عن شيء آخر ..

تارة : يكون بنحو يكون المستعمل فانيا في المستعمل فيه ، بحيث لا يلتفت إليه أصلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ويكون في حال الاستعمال مغفولا عنه ، وذلك كالمرآة بالنسبة إلى الوجه المرتسم بها ، فانه مع استعمالها للكشف عنه يكون الملتفت إليه خصوص الوجه ، وأما نفس المرآة فهي مغفول عنها ولا يلتفت إليها أصلا ، فلا يلتفت في لونها وخصوصيتها في هذا الحال ، فلو التفت إليها كان المستعمل فيه - أعني الوجه - مغفولا عنه وغير ملتفت إليه.

وأخرى : يكون بنحو يكون المستعمل ملتفتا إليه مستقلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ، وذلك كالاستعمالات الكنائية التي يكون المستعمل فيها معنى ويراد منه لازمه أو ملزومه ، فان اللازم والملزوم في هذا الاستعمال ملحوظان مستقلا وملتفت إليهما معا ، ولذا يصح الحكم على كل منهما بحكم في آن واحد وتتعلق بهما الإرادة والقصد في حين واحد.

إذا عرفت هذا ، فهل سنخ استعمال اللفظ في المعنى كاستعمال المرآة في الوجه ، فيكون اللفظ حال الاستعمال فانيا في المعنى ولا يلتفت إليه أصلا؟ أو انه كاستعمال الملزوم وإرادة اللازم ، فيكون كل منهما متعلقا للحاظ مستقل والتفات كامل في نفسه؟ أو لا هذا ولا ذاك ، بل سنخ ثالث؟.

الحق هو الأخير.

أما انه ليس من قبيل استعمال المرآة ، فلأنه من البديهي انه يمكن الالتفات إلى اللفظ وخصوصياته حال الاستعمال ، ولذلك يختار الخطيب الألفاظ الرشيقة والعبارات الشيقة في مقام أداء المعاني ، كما انه قد يجري على طبق القواعد العربية المرسومة في باب الاستعمال التي يتوقف الجري عليها على نحو التفات إلى اللفظ ، كقواعد النحو والصرف والبلاغة.

وأما انه ليس من قبيل الاستعمالات الكنائية ، فلأنه من الظاهر أن اللفظ

ص: 70

في حال الاستعمال لا يكون ملتفتا إليه بالاستقلال وملحوظا في نفسه ، لظهور عدم إمكان الحكم عليه بما انه لفظ في ذلك الحال ، ولو كان ملحوظا استقلالا لصح الحكم عليه بلا إشكال.

وبذلك يعلم أن اللفظ في حال الاستعمال يكون ملحوظا ، لكن باللحاظ الطريقي الآلي لا باللحاظ الاستقلالي النفسيّ ، فالاستعمال على هذا ليس إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى باللفظ ، ولا ذكر اللفظ مستقلا فينتقل منه إلى المعنى كالكنايات ، بل هو إيجاد اللفظ في الخارج بداعي حصول الانتقال إلى المعنى ، فهو منظور طريقا وعبرة للمعنى لا مستقلا ولا مغفولا عنه ، فليكن جميع هذا نصب عينيك لتنتفع به في مبحث جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

* * *

الجهة الثانية : في أقسام الوضع.

* * *

ص: 71

الوضع التعييني والتعيني

اشتهر بين الاعلام تقسيم الوضع إلى قسمين تعييني وتعيني. وعرف الأول بأنه : تخصيص اللفظ بالمعنى من قبل واضع معين. وعرف الثاني : بأنه الارتباط الخاصّ الحاصل بين اللفظ والمعنى الناشئ من كثرة الاستعمال.

ولكن الّذي يختلج في النّفس ان الوضع التعيني لا أساس له ، فانه لا يتصور له معنى معقول ، إذ لا وجه لأن يختص اللفظ بالدلالة على المعنى بكثرة الاستعمال ، مع ان الدلالة في هذه الاستعمالات الكثيرة لا ينفرد بها اللفظ ، بل يشترك معه القرينة. ولو كان لمثل هذا مثال ملموس وواقع ثابت لأمكن ان نقول بأن ملاكه شيء معقول لا تصل إليه أذهاننا إذ إنكار الواقع مكابرة ظاهرة ، إلاّ انه لم يتضح لدينا وجود لفظ كذلك ، يعني استعمل في معنى مع القرينة كثيرا بحيث صار دالا على المعنى بلا قرينة. فلا نستطيع الجزم بمعقولية الوضع التعيني بسهولة.

ثم انه قد ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) ، ان التعهد ان كان ابتدائيا فالوضع تعييني ، وان كان منشؤه كثرة الاستعمال فالوضع تعيني (1).

ولم يعلم الوجه في الكلام الأخير ، لأن كثرة الاستعمال كما لا يخفى من الأمور التشكيكية الصادقة على عدد وأقل منه وأكثر. فان بلغت الكثرة بحد يتحقق به ارتباط بين اللفظ والمعنى وعلاقة بحيث إذا أطلق اللفظ ينتقل المعنى بواسطته إلى الذهن فلا ملاك للتعهد ، لأن الغرض به حاصل بدونه وهو قابلية اللفظ للتفهيم. وان لم تصل إلى ذلك الحد فلم يثبت مقدار ما يكون للتعهد ، كما

ص: 72


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 49 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

انه لم يعلم الوجه في كون الكثرة المزبورة منشئا للتعهد وجهة سببيتها له.

وعلى كل حال فالأمر سهل جدا.

تقسيم الوضع بلحاظ الملحوظ حاله

لا يخفى ان الوضع على جميع المباني فيه لا يخرج عن كونه حكما وعملية ترتبط بطرفين أحدهما اللفظ والآخر المعنى. وهذا يقتضي ان عملية الوضع تتوقف على ملاحظة كل من الطرفين والالتفات إليهما ، إذ الحكم والحمل لا يتحقق في عالم النّفس إلاّ بتحقق ما يحمل ويحكم عليه فيها. ويختلف الوضع عموما وخصوصا باختلاف المعنى الملحوظ حال الوضع فتتعدد اقسامه.

وهي في مرحلة التصور أربعة :

الأول : ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لذلك المعنى العام.

الثاني : ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ لذلك المعنى الخاصّ.

الثالث : ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لمصاديقه وافراده الجزئية.

الرابع : ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ للعام المنطبق عليه.

ويعبّر عن القسم الأول بالوضع العام والموضوع له عام. وعن الثاني بالوضع الخاصّ والموضوع له خاص. وعن الثالث بالوضع العام والموضوع له خاص. وعن الرابع بالوضع الخاصّ والموضوع له عام. هذا في مرحلة التصور.

اما في مرحلة الثبوت والإمكان ، فالقسمان الأولان مما لا إشكال في إمكان ثبوتهما إذ لا يتصور فيهما أي محذور ، فيمكن ان يلحظ الواضع معنى عاما أو خاصا ويضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الملحوظ العام أو الخاصّ بأي معنى من معاني الوضع ، فيعتبر الارتباط بينهما أو ينزل اللفظ منزلة المعنى أو يجعله على المعنى أو يتعهد بتفهيم المعنى به.

ص: 73

وأما القسم الثالث : فقد يشكل في إمكانه بأنه حيث يعتبر لحاظ المعنى الموضوع له في الوضع كما عرفت ، فاما ان يكون الخاصّ الّذي يقصد وضع اللفظ بإزائه ملحوظا مع لحاظ العام أو غير ملحوظ أصلا. فعلى الثاني يمتنع الوضع له. وعلى الأول يلزم ان يكون الوضع خاصا للحاظ الخاصّ نفسه وهو خلف الفرض.

إلاّ انه يدفع : بان لا يعتبر في الوضع أو أي حكم الالتفات تفصيلا إلى المحكوم عليه ، بل يمكن الحكم عليه بواسطة عنوان عام مشير إليه بلا التفات إلى نفس المعنون بالمرة ، اما للجهل بجميع خصوصياته الموجبة لجزئيته ، أو لعدم إمكان الالتفات إليه ، كما لو كان الحكم على مصاديق العام وكانت بحد لا يمكن الالتفات إليها بخصوصياتها جميعا.

وعليه ، فيمكن الوضع للافراد بلا التفات إليها تفصيلا ، بل بواسطة العنوان العام المشير إليها ، فيلحظ طريقا إلى افراده ويوضع لها اللفظ بتوسيطه بلا ان يتعلق بها بخصوصياتها اللحاظ. ببيان : ان العام وجه للافراد وتصوره تصور لها بوجه ، وذلك كاف في صحة الوضع لها بلا لحاظها بخصوصياتها.

وبهذا التقريب بيّن إمكان القسم الثالث.

لكن الحق انه لا يدفع الإشكال هنا ، لأن الموضوع له الخاصّ ليس هو الفرد بوجوده الخارجي ولا بوجوده الذهني ، لأن المقصود من الوضع هو التفهيم وانتقال المعنى الموضوع له عند ذكر اللفظ وخطوره في ذهن السامع ووجوده فيه ، والوجود الخارجي يمتنع ان يكون معروضا للحاظ ، والوجود الذهني ، بمعنى انه يوجد هنا في الذهن لقيام البرهان على ان المقابل لا يقبل المقابل ، ومثله الوجود الذهني يمتنع ان يعرض عليه اللحاظ وان يوجد في الذهن ثانيا بوصف وجوده لقيام الدليل على ان المماثل لا يقبل المماثل ، وعليه فما يفرض وضع اللفظ له لا بد ان يكون هو المفاهيم الجزئية بلا وصف وجودها في الخارج أو في الذهن ، فانها

ص: 74

تقبل الوجود وعروض اللحاظ عليها.

ولا يخفى ان العام لو سلم كونه وجها إجماليا لافراده ، فهو وجه لها بوجودها الخارجي أو الذهني ( وبعبارة أخرى : هو وجه لمصاديقه الخارجية والذهنية ) ، لأنه يتحد معها نحو اتحاد ، ولذا يصح حمله عليها بملاك الاتحاد في الوجود ، وليس هو وجها لافراده في مرحلة مفهوميتها ومعرّاة عن وجودها ، لأن المفاهيم في مرحلة مفهوميتها متباينة ، ولذلك لا يصح حمل المفهوم الكلي على المفهوم الجزئي لا بالحمل الأولي لتغيرهما ذاتا - وملاك الحمل الأولي الاتحاد في المفهوم - ، ولا بالحمل الشائع لكون الملاك فيه الاتحاد في الوجود ، والمفروض كون المفهوم ملحوظا معرّى عن الوجود وان الحمل بين المفهومين ، وإذا تبين عدم ثبوت الاتحاد بين مفهوم العام ومفهوم الفرد وتحقق المباينة بينهما ، امتنع ان يكون تصور العام تصورا لافراده بوجه كي يصح الوضع للافراد بتوسيط تصور العام ، إذ المباين لا يصلح لأن يكون وجها للمباين كي يكون تصوره تصورا له بوجه.

والجواب ان يقال : ان تحقق الوضع لا يتوقف على لحاظ الموضوع له حتى إجمالا ، بل يمكن الوضع لمعنى مع عدم لحاظه بالمرة أصلا ، وذلك بواسطة الإشارة إليه بأدوات الإشارة كأسماء الإشارة والموصولات وبعض الضمائر.

وعليه ، فلو ثبت عدم إمكان لحاظ الافراد وتصورها ، وعدم كفاية تصور العام في لحاظها وتصورها ولو إجمالا ، لمباينته لما يراد الوضع له وهو المفاهيم الجزئية ، أمكن الوضع لها بلا لحاظها أصلا ، بل بتوسيط الإشارة إليها ، ولا تمتنع الإشارة إلى غير الملحوظ والمتصور أصلا فيما لو لم يمكن تصوره ولحاظه كالأفراد ، لعدم تناهيها عرفا ، فيقال : « لفظ الإنسان موضوع لما هو من افراد الحيوان الناطق » فقد أشير إلى الافراد بالموصول - أعني : « ما » - ووضع اللفظ بواسطة الإشارة ومعونتها بلا لحاظها أصلا.

والحاصل : ان الوضع بحكم كونه حكما على الموضوع له لا يستدعي

ص: 75

سوى تعيين الموضوع له وتشخيصه ، والتعيين كما يكون بواسطة إحضار نفس المعنى والحكم عليه مباشرة كذلك يكون بواسطة الإشارة إليه بمشير ما بلا حضوره بنفسه في الذهن كما لو لم يمكن حضوره.

والوضع إلى الافراد من هذا القبيل ، فانه يمكن وضع اللفظ لها بلا توسيط لحاظها ، لعدم إمكانه أحيانا ، ولا توسيط العام المتصور ، لعدم صلاحيته للإراءة والكشف ، بل بواسطة الإشارة الذهنية إليها ، بمعنى ان نشير إلى الافراد المندرجة تحت العام المتصور ونضع اللفظ بإزائها فيكون الوضع عاما باعتبار كون الملحوظ حال الوضع عاما وهو المفهوم العام دون غيره إذ لم تتصور الافراد - كما هو المفروض - والموضوع له خاصا ، لأن الوضع كان بإزاء المفاهيم الجزئية المندرجة تحت العام.

وقد صوّر المحقق العراقي قدس سره الإشكال في الوضع العام والموضوع له الخاصّ بنحو آخر ، تقريره : ان العام باعتبار انتزاعه عما به الاشتراك بين الافراد ، لا يصلح لأن يكون وجها لافراده بخصوصياتها ، ولا يكون تصوره تصورا للخاص بوجه ، لتقوم الافراد بالخصوصيات المفروض إغفالها وتجريد الافراد عنها في انتزاع المفهوم العام ، فهو لا يحكي إلاّ عن القدر المشترك والجامع بينها لا أكثر (1).

وقربه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بنحو ثالث يشابه ما ذكرناه ، وبيانه - كما جاء في تقريرات درسه (2) - : ان المفهوم في مرحلة مفهوميته لا يحكي إلاّ عن نفسه ، فيستحيل ان يحكي مفهوم - كليا كان أو جزئيا - عن مفهوم آخر - كليا كان أو جزئيا - ، فكما لا يعقل ان يحكي المفهوم الخاصّ بما هو خاص عن مفهوم آخر خاص أو عام ، فكذلك لا يعقل ان يحكي المفهوم العام بما هو عن مفهوم

ص: 76


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 39 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 50 - الطبعة الأولى.

خاص أو عام آخر ، بداهة ان لحاظ كل مفهوم وتصوره عين تصور شخصه وإراءته لا إراءة شيء آخر به ، فكيف يكون معرفة لغيره بوجه.

وقد أجاب العراقي عما ذكره من الإشكال : بأنه تام في بعض المفاهيم العامة دون بعض ، فان المفاهيم - على ما ذكره قدس سره (1) - ، منها ما يكون منتزعا عن خصوصية مشتركة بين الافراد ذاتية كانت ، كمفاهيم الجواهر والاعراض كالإنسان والبياض ، أو انتزاعية كبعض المفاهيم الانتزاعية كمفهوم الفوق والتحت ونحوهما. ومنها ما يكون منتزعا عن الافراد والخصوصيات المفردة كمفهوم الفرد ، والمصداق ، والشخص.

فالنحو الأول لا يصلح للحكاية عن افراده ولو إجمالا ، ولا يكون تصورا لها بوجه أصلا ، بل لا يكون حاكيا الا عن القدر الجامع بينها.

والنحو الثاني بخلافه ، فانه يصلح للحكاية الإجمالية عن الافراد والخصوصيات لأنها منشأ انتزاعه ومقوماته. فصحة الوضع العام والموضوع له الخاصّ تتصور في ما إذا كان المفهوم الملحوظ حال الوضع من النحو الثاني دون الأول ، لأن الثاني هو الصالح للحكاية عن الافراد اللازمة في عملية الوضع دون الأول.

وعليه ، فالالتزام بإمكان هذا النحو من الوضع هو المتعين بلحاظ وجود مثل النحو الثاني من المفاهيم.

وبعين مضمون هذا الجواب أجاب السيد الخوئي عن الإشكال الّذي قربه ، فقد جاء في تقريرات درسه بعد تقرير الإشكال : « ان المفهوم في الجملة بما هو سواء كان عاما أو خاصا وان كان لا يحكي في مقام اللحاظ الا عن نفسه ، إلاّ ان تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور افراده ومصاديقه. وتفصيل ذلك ... واما العناوين الكلية التي تنتزع من الافراد والخصوصيات الخارجية

ص: 77


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 37 - 39 - الطبعة الأولى.

كمفهوم الشخص والفرد والمصداق ، فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الافراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال ، وتصورها في نفسها تصور لها بوجه وعنوان. وبتعبير آخر : ان مرآتيتها للافراد والأشخاص ذاتية لها فتصورها لا محالة تصور لها إجمالا بلا إعمال عناية في البين. فإذا تصورنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الإنسان - مثلا - فقد تصورنا جميع افراده بوجه ، ومن ثم جاز الحكم عليها في القضية الحقيقية ، فلو لم يحك المفهوم عن افراده لاستحال الحكم عليها مطلقا مع ان الاستحالة واضحة البطلان » (1). والناظر في هذا الكلام لا يرى اختلافا بينه وبين ما أفاده المحقق العراقي الا في التعبير ، فجواباهما يرجعان إلى مطلب واحد ومفاد متحد.

ولكنه قاصر عن رفع المحذور المقرر ، وإثبات معقولية الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ما لم ينضم إليه ما ذكرناه من الاستعانة في الوضع بالإشارة الذهنية إلى واقع الافراد والمصاديق.

وذلك : فان هذه المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة عليها - بتعبير - ، والكاشفة عنها كشفا ذاتيا - بتعبير آخر - ، مفاهيم عامة وضع بإزائها بعض الألفاظ الدالة عليها كلفظ الفرد والشخص ونحوهما.

ومن الواضح ، ان وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المفاهيم من الوضع العام والموضوع له العام ، لعموم الملحوظ والموضوع له.

ففيما نحن فيه ، لو لاحظ الواضع أحد هذه المفاهيم العامة ، ووضع اللفظ بإزاء الافراد بلا توسيط الإشارة الذهنية إليها بل اكتفي بلحاظ المفهوم وحده فقط ، فقال مثلا : « وضعت اللفظ الكذائي لفرد الإنسان » كان الموضوع له عاما لا خاصا ، إذ الوضع دائما يكون بإزاء الكلي والمفهوم العام لا نفس الافراد ، ويكون حال الوضع هاهنا حال وضع الألفاظ الخاصة بإزائها في كونه من الوضع

ص: 78


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 50 - الطبعة الأولى.

العام والموضوع له العام ، إذ لا معين للوضع للافراد كي يصرف الوضع عن المفهوم إليها سرى الإشارة الذهنية ، والمفروض انتفاؤها ، ومجرد صلاحية المفهوم للانطباق والكشف عن افراده لا تكفي في صرف الوضع للافراد ما لم يوجد صارف بعين الافراد موضوعا له. وإلا لزم ان يكون وضع الألفاظ الخاصة بها - كلفظ الفرد - من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، لعدم انفكاك هذه الجهة عن هذه المفاهيم ، مع انه لا يلتزم بذلك أحد.

وعليه ، فلا بد في صرف الوضع للافراد وكونه بإزائها من الاستعانة بالإشارة إلى المفاهيم الجزئية ، إذ بدونها لا وجه لمعرفة كون الوضع لها ، بل الوضع يكون للمفهوم العام لو اكتفي بلحاظه في مقام الوضع ، إذ كل ما يتصور مما هو حاك عن الافراد يكون كليا والوضع بإزائه يستلزم عموم الموضوع له كما لا يخفى ، فيعود الإشكال والمحذور. والحاصل : ان تعين كون الافراد هي الموضوع له لا يكون بمجرد لحاظ الكلي وتصوره فوضع اللفظ بإزائه ولو بما انه كاشف عن الافراد يكون من الوضع العام والموضوع له العام ، فلا بد في تعيين كون الموضوع له الافراد من معين وهو الإشارة إليها بما يصلح للإشارة. وبذلك اتضح الاحتياج إلى توسيط الإشارة الذهنية في إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ. ومن هنا ظهر أيضا ما في كلام المحقق الخوئي ، من إمكان الحكم على الافراد في القضية الحقيقية باعتبار حكاية المفهوم الكلي عنها ، ولو لا الحكاية لاستحال الحكم عليها. فان الحكم على الافراد لا يتم إلاّ بتوسيط الإشارة الذهنية ، وهي امر ارتكازي للحاكم عند إرادة جعله الحكم على الافراد ، ولو لا الإشارة لما صح الحكم على الافراد بتوسيط المفهوم العام ، بل يكون الحكم على المفهوم بنفسه.

ونتيجة ما ذكرناه : ان الالتزام بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، من باب انّا نملك الإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية المندرجة تحت ما نتصوره من المفاهيم العامة.

ص: 79

ومما ينبغي الالتفات إليه : ان الإشارة الذهنية لا بد من ارتباطها بالمفهوم العام المتصور ، وذلك بتوسيط مفهوم آخر يكون رابطا بينهما. فمثلا ، إذا تصورنا مفهوم الإنسان وأردنا الوضع لأفراده الجزئية نأتي بما يشير إليها ونربطه بمفهوم الإنسان بواسطة مفهوم آخر فنقول : « ما هو فرد للإنسان » أو « ما ينطبق عليه الإنسان » ونحوهما.

والسر فيه واضح : فان الإتيان بالإشارة بلا ربطها بالمفهوم العام المتصور وهو « الإنسان » - مثلا - يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان في عدم الأثر والمناسبة ، ولا يصح الوضع بذلك أصلا لعدم تعين الموضوع له وانه افراد مفهوم معين فلا تتحقق به نتيجة الوضع وغرضه ، وهو حصول الانتقال إلى الموضوع له عند ذكر اللفظ للجهل به. مضافا إلى عدم كونه من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، لعدم ارتباط المفهوم العام المتصور بالموضوع له.

وبالجملة : فضرورة ربط الإشارة بالمفهوم العام المتصور بواسطة رابط ما امر لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فإنه من مقتضيات طبيعة الوضع وغرضه.

واما القسم الرابع : - وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام - فالحق امتناعه وعدم إمكانه.

وذلك : لما عرفت في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، من ان إمكانه كان بواسطة الاستعانة بالإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية ، ولا طريق لإمكانه غير هذا الطريق.

وهذا الطريق لا يتأتى في هذا القسم ، وذلك لأنه لو تصورنا مفهوما جزئيا كمفهوم « زيد » وأردنا الوضع لكلية المنطبق عليه بلا تصوره فلا بد لنا من الإشارة إليه ، وقد عرفت ضرورة ربط الإشارة بالمعنى المتصور ، وكل مفهوم نفرضه رابطا للإشارة بالمفهوم الجزئي المتصور يكون كليا وذلك كمفهوم « كلي » أو « منطبق » ، فنقول : « ما هو كلي زيد أو ما هو منطبق على زيد » ، ومن الواضح

ص: 80

كون هذه المفاهيم كلية. وعليه ، فلا يكون الوضع من الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، لأن المتصور حال الوضع كان معنى عاما والموضوع له أيضا كان عاما.

والحاصل : ان الملحوظ حال الوضع لا يكون خصوص المفهوم الجزئي ، بل ينضم إليه لحاظ مفهوم عام يتحقق به الربط ، وبذلك يكون الوضع عاما لا خاصا.

هذا ، ولا يخفى ان الالتزام بالامتناع في هذا القسم يبتني على تصحيح القسم الثالث بالإشارة الذهنية ، إذ لا يتأتى تصحيح هذا القسم بها كما عرفت.

واما لو كان تصحيح القسم الثالث من جهة ما قرروه من ان تصور العام تصور لافراده بوجه فيكتفي في الوضع لها بتصوره فقط - أمكن الالتزام بإمكان هذا القسم بنحو البيان المذكور في إفادة إمكان القسم الثالث ، وذلك لأن الخاصّ عبارة عن الطبيعي مع الخصوصيات ، فتصور الخاصّ تصور للطبيعي في ضمنه كما ان تصور مفهوم الدار تصور لأجزائه ضمنا من الغرفة والسطح وغيرهما. وعليه ، فيمكن وضع اللفظ للطبيعي المتصور في ضمن تصور الفرد ، كما أمكن الوضع للفرد المتصور بتصور الطبيعي.

وبالجملة : فبنحو البيان المذكور في تقريب إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ يقرب إمكان الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

وقد عرفت عدم قابلية التقريب المذكور للنهوض لإثبات إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وان الوجه فيه ما ذكرناه ، وقد تحقق عدم تأتيه في الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

وبذلك : تثبت محالية هذا القسم من الوضع وامتناعه.

وقد ذكر : لبيان محاليته وامتناعه وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره : من انه لما كان تصور العام بنفسه ممكنا لم يحتج الوضع له الا إلى ملاحظته ، بخلاف الوضع

ص: 81

للافراد غير المتناهية فان لحاظ غير المتناهي غير معقول ، فلا بد من لحاظها بجامع يجمع شتاتها ويشمل متفرقاتها وهو الكلي المنطبق عليها ، فان لحاظها بالوجه لحاظها بوجه (1).

ولا يخفى ان للإشكال في ما أفاده قدس سره مجالا ، بيان ذلك : انه ان التزم بكفاية اللحاظ الإجمالي للافراد بلحاظ العام في الوضع لها بحيث يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، فالالتزام بكفاية اللحاظ الإجمالي للعام في ضمن الخاصّ في الوضع له بحيث يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما متعين ولا محيص عنه ، لأن مبنى الأول على كفاية التصور الإجمالي للموضوع له في الوضع له وعدم تعين التصور التفصيليّ ، وهو يقتضي كفايته في النحو الثاني. وإمكان لحاظ العام تفصيلا لا يقتضي تعين لحاظه بعد فرض كفاية التصور الإجمالي.

والحاصل : لا وضوح للفرق بين النحوين بعد اتحادهما ملاكا.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره ببيان : ان الخاصّ بما هو خاص لا يكون وجها للعام بنحو يكون تصوره تصورا للعام ولو بنحو الإجمال ، وذلك : لأن الخصوصية المقومة للخاص تناقض العموم وتنافيه ، إذ العموم لا يتحصل في معنى إلاّ بإلغاء الخصوصية ، ومعه كيف يمكن ان يكون الشيء مرآة ووجها لنقيضه (2).

وما ذكره قدس سره لا يخلو عن غموض لوجوه :

الأول : ان إشكال المناقضة جارية في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، إذ كما يستحيل ان يكون الخاصّ وجها للعام لأنه نقيضه والنقيض لا

ص: 82


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 15 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 39 - الطبعة الأولى.

يكون وجها لنقيضه ، كذلك يستحيل ان يكون العام وجها للخاص للمناقضة فانها من الطرفين ، فإيراد هذا المحذور في خصوص هذا القسم من الوضع بلا وجه لسريانه في القسمين ، فكيف لا يلتزم بمحالية الوضع العام والموضوع له الخاصّ بهذا الملاك؟!.

الثاني : ان دعوى المناقضة ممنوعة ، لأن لفظ العام لا يوضع للطبيعة بصفة العموم الملازم لإلغاء الخصوصية المقومة للخاص فيلزم التناقض ، بل يوضع لذات الطبيعة وصرفها بلا تقييدها بأي قيد. وعليه فلا يكون الخاصّ مناقضا للعام ، بل يكون متضمنا للعام لأخذه - أي العام - لا بشرط ، فلا ينافيه طرو الخصوصية عليه ، ويكون تصوره - أي الخاصّ - تصورا ضمنيا للعام ، لأنه أحد اجزائه.

الثالث : ان المناقضة حيث كانت بملاك تقوم العموم بإلغاء الخصوصية التي بها يكون الخاصّ خاصا ويتقوم الخاصّ ، لا تكون مطردة في جميع أنحاء العمومات ، لأن من العمومات ما يكون منتزعا عن الخصوصيات - كما عرفت - ، فيستحيل تقومها بإلغاء الخصوصية المخصصة والمفردة. فلا تناقض بين مثل هذا العام وبين الافراد.

وعليه ، فإذا كان المانع من مرآتية الخاصّ للعام هو المناقضة ، لم يجز المانع في مثل هذا القسم من العمومات فلا يستحيل ان يكون الفرد وجها للعام المزبور ، وبذلك يوضع له اللفظ بواسطة لحاظ فرده ، فيوضع لفظ « الفرد » لمفهوم الفرد بواسطة لحاظ الفرد الخارجي الّذي هو مصداق لمفهوم الفرد.

الثالث : ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من ان مفهوم الخاصّ مهما كان لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر ، فان تصور المفهوم بما هو لا يكون إلاّ تصورا لنفسه فيستحيل ان يكون تصورا لغيره بوجه ، بخلاف مفهوم العام كمفهوم الفرد والشخص وغيرهما فانه وجه للمصاديق ، ومن

ص: 83

هنا التزم بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، واما الخاصّ فلما لم يكن كذلك فلا يمكن الوضع الخاصّ والموضوع له العام (1).

ولا يخفاك ان ما ذكره لا يختلف في المضمون عما نصّ عليه في الكفاية ، وان اختلف التعبير ، فقد ذكر صاحب الكفاية قدس سره ان : « العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ افراده ومصاديقه بما هو كذلك فانه من وجوهها ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه. بخلاف الخاصّ فانه بما هو خاص لا يكون وجها للعام ولا لسائر الافراد فلا تكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا ولو بوجه » (2).

وقد عرفت مما سبق الخدشة فيما ذكراه ، فان نفي مرآتية الخاصّ للعام بلا برهان ولا دليل ، وقد تقدم ان التصور الضمني لو التزم بكفايته في الوضع للافراد فالالتزام بكفايته في الوضع للعام متعين ، وقد عرفت ان تصور الخاصّ تصور ضمني للعام. فتدبر جيدا.

وقد التزم المحقق الرشتي قدس سره ، والمحقق الحائري اليزدي رحمه اللّه بإمكان الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

واستدل الأول على رأيه بما حاصله : ان الخاصّ إذا وضع لفظ له ، فتارة يوضع اللفظ بحذائه لنفسه ولأنه الموجود المعين. وأخرى يوضع بإزائه باعتبار اشتماله على خصوصية فيه ، فيسري الوضع إلى كل ما اشتمل على تلك الخصوصية ، بلحاظ ان الوضع قد لوحظ فيه تلك الخصوصية العامة السارية في الافراد الخاصة ، وضرب لذلك مثالا من أسماء الأدوية ، فان الاسم قد يوضع بإزاء دواء معين لكن باعتبار تأثيره الخاصّ وفائدته المخصوصة ، وبذلك يتعدى الاسم إلى كل ما كان له هذا الأثر من الأدوية وان اختلف عن الموضوع له في اجزائه

ص: 84


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 51 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /10- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وخصوصياته. كما مثل له بالاحكام الشرعية المنصوصة العلة ، فان الحكم إذا رتب على شيء وعلل بعلة سارية نظير قولهم : « الخمر حرام لأنه مسكر » يسري شرعا إلى كل مسكر ولو لم يكن خمرا ، ولا يكون هناك فرق بين هذا وبين قوله : « كل مسكر حرام » الا كيفية البيان. والوضع كذلك ، فان الوضع التوقيفي كالحكم التوقيفي ، قد يكون ثابتا لموضوع لأنه ذلك الموضوع ، وقد يكون ثابتا له باعتبار مناط موجود فيه ، بل هو في النتيجة إثبات للحكم بإزاء ذلك الملاك والمناط (1).

وفيه : ان كلا من الوضع والحكم من الأمور الاختيارية للواضع والحاكم. وعليه ، فتمتنع سراية الوضع وتعديه إلى المناط والملاك مع تعيين اللفظ ووضعه بإزاء فرد خاص وبالأحرى تمتنع سرايته إلى فرد آخر وان شاركه في الأثر. نعم لو كان الوضع لا لخصوص الفرد المعين ، بل لكل ما اشترك معه في الفائدة والأثر المعين بحيث يكون الجامع هو التأثير في الأثر الخاصّ ، وكان الفرد الخاصّ واسطة لتصور الجامع ، سرى إلى جميع الافراد ، إلاّ انه لا يكون من الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، بل يكون الوضع عاما للحاظ العام حال الوضع ووضع اللفظ بإزائه.

ومثل الوضع الحكم الشرعي ، فان سراية الحكم في جميع موارد وجود العلة انما هو لأجل فهم العرف من التعليل بالإسكار - مثلا - ، ان الحكم في الحقيقة معلق على كلي المسكر لا خصوص الخمر ، وانما بين هذا الحكم في لسان الدليل بالنحو الخاصّ - أعني : بترتيبه على فرد معين وهو الخمر - مع بيان جهة الحكم التي يتضح بها ان الحكم على هذا الفرد لا خصوصية فيه ، بل من باب انه أحد مصاديق كلي المسكر المنطبق عليه وعلى غيره.

وبالجملة : ان الوضع والحكم بيد الواضع والحاكم وباختياره ، فان اعتبر

ص: 85


1- الرشتي المحقق ميرزا حبيب اللّه. البدائر/ 40 - الطبعة الأولى.

العلقة بين اللفظ وخصوص هذا المعنى ، استحال تعديه إلى غيره وكان الموضوع له كالوضع خاصا. وان اعتبرها بين اللفظ والعام المنطبق على هذا الفرد ، كان الوضع كالموضوع له عاما لكون الملحوظ عاما. وهكذا الحال في ترتيب الحكم على شيء فلاحظ وتدبر.

واستدل الثاني بما تقريبه : بأنا قد نرى شبحا من بعيد من دون ان نعلم بنوعه ولا بجنسه ولا بأي عنوان ينطبق عليه ، بل لا ينطبق عليه في علمنا فعلا سوى عنوان « الشبح » فإذا وضع اللفظ بإزاء العنوان الواقعي المنطبق على هذا الشبح الّذي لم نتصوره أصلا إلاّ بعنوان ما ينطبق على هذا الشبح ، كان من الوضع الخاصّ ، إذ الملحوظ حال الوضع هذا الموجود الخاصّ وهو الشبح والموضوع له عام لأنه الكلي المنطبق على الشبح (1).

وهذا حاصل ما أفاده رحمه اللّه . ولكنه لا يفي بالمقصود ، لأن الوضع للعام عند تصور الخاصّ يتوقف على الإشارة الذهنية إلى العام ليتعين الوضع بإزائه ، وقد عرفت احتياج الإشارة إلى رابطة يربطها بالمتصور والملحوظ حال الوضع ، فلا بد من رابط يربطها - فيما نحن فيه - بالخاص ، ولا يخفى ان الرابط لا يكون إلاّ مفهوما عاما ك- « ما ينطبق على هذا الشبح أو ما هو كليه ونحوهما » ، والمفهوم الرابط الّذي أتى به قدس سره في كلامه عام أيضا وهو « ما هو متحد مع هذا الشخص » ، وإذا كان الرابط مفهوما عاما كان الوضع عاما لكونه ملحوظا حال الوضع وهو من عناوين الكلي الموضوع له اللفظ. فتدبر.

واما مرحلة الوقوع والتحقق في الخارج : فقد ثبت بلا كلام وقوع الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، ومثل للأول بأسماء الأجناس ، وللثاني بالأعلام. ووقع الكلام في وقوع الوضع العام والموضوع

ص: 86


1- الحائري المحقق الشيخ عبد الكريم. درر الفوائد1/ 5 - الطبعة الأولى.

له الخاصّ - واما الوضع الخاصّ والموضوع له العام فلا معنى للبحث في وقوعه بعد ثبوت امتناعه واستحالته - ، وقد ادعى ان وضع الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

ولما كان تحقيق ذلك يتوقف على معرفة معاني الحروف وما هو الموضوع له فيها ، لا بد من نقل الكلام إلى تلك المرحلة - كما فعل الاعلام 5 -.

المعنى الحرفي

وقد اختلف فيها إلى مذاهب ثلاثة :

الأول : ان الموضوع له في الحروف عين الموضوع له في الأسماء ، وان الكل عام.

الثاني : ان الحروف لم توضع إلى أي معنى ، وان حالها حال علامات الإعراب.

الثالث : ان معاني الحروف تختلف ذاتا وحقيقة عن المعاني الاسمية.

أما المذهب الأول : فقد تبناه المحقق الخراسانيّ قدس سره - ونسب إلى المحقق الرضي قدس سره - فقال : « والتحقيق حسبما يؤدي إليه النّظر الدّقيق ان حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء » (1) ، وقد نفى اشتمال معاني الحروف على خصوصية توجب جزئية الموضوع له ، سواء كانت هي الوجود الخارجي أو الوجود الذهني المعبر عنه باللحاظ. اما الأول فلوضوح انه كثيرا ما يستعمل الحرف في معنى كلي كما إذ وقع في حيز الإنشاء والحكم ، نظير « سر من البصرة إلى الكوفة » ، فانه من الواضح تحقق الامتثال في الابتداء بأي نقطة من نقاط البصرة والانتهاء إلى أي نقطة من نقاط الكوفة ، كوضوح تحققه

ص: 87


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -1. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في السير بأي نحو كان مع عدم القرينة على التعيين. وهذا ظاهر في عموم الموضوع له الحرف ، وإلاّ لكان تحقق الامتثال متوقفا على ابتداء خاص وهو ما قصده الأمر ، ولا قائل به. واما الثاني فقد نفي أخذه في الموضوع له بوجوه : - وينبغي ان يعلم بان اللحاظ المتوهم أخذه هو اللحاظ الآلي كما نصّ عليه قدس سره -.

أحدها : ان الاستعمال يستدعي تصور المستعمل فيه ، فلو كان اللحاظ الآلي مقوما للمعنى لزم تعلق اللحاظ بالملحوظ وهو باطل ، ضرورة أن الموجود لا يقبل الوجود ثانيا.

ثانيها : ان اللحاظ لو كان مقوما للمعنى لزم عدم صدقه على الخارجيات ، إلاّ بالتجريد ، لأن المقيد بالوجود الذهني لا وجود له الا في الذهن وبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجي ، وهذا - أعني التجريد - يستلزم ان يكون استعمال الحروف بلحاظ الخارج - إخباريا كان أو إنشائيا - استعمالا مجازيا وهو خلاف الضرورة.

ثالثها : ان اللحاظ الآلي في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء. فكما ان الأخير لا يوجب جزئية الأسماء فكذلك الأول ، فان ادعى عدم أخذ الاستقلالي في معنى الاسم ، يقال : فليكن معنى الحرف كذلك مجردا عن اللحاظ الآلي ، إذ لم يتضح وجه التفريق بين المعنيين.

وبعد ما أفاد هذا أورد على نفسه : بان لازم اتحاد الحرف والاسم في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه في كونه عاما ، بحيث لا فرق ذاتيا بين لفظ « من » ولفظ « الابتداء » ، صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، وهو يقتضي بطلان الملزوم وثبوت الفرق الجوهري بينهما.

وأجاب عن هذا الإيراد بما نصه : « الفرق بينهما انما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف

ص: 88

ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره كما مرت الإشارة إليه غير مرة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضوع الآخر ، وان اتفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته ومقوماته » (1). ولم يتضح المقصود جليا من عبارته هذه ، وبيان الفرق المفرق بين الاسم والحرف في الوضع فوقع موضوع التفاسير والترديد بين احتمالات. وهي ثلاثة :

الأول : ما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدس سره من : إرجاع التقييد باللحاظ الآلي والاستقلالي إلى اشتراط الواضع ذلك في الاستعمال ، فشرط الواضع ان لا يستعمل لفظ الابتداء الا مع لحاظه استقلالا وان لا يستعمل لفظ : « من » في الابتداء الا مع لحاظه آلة (2).

ومع تفسير كلام صاحب الكفاية (رحمه اللّه) بهذا التفسير يرد عليه :

أولا : ان الشرط المأخوذ في الحكم ، ومثله المأخوذ في الوضع ، اما ان يرجع إلى المتعلق والموضوع له بحيث يكون من قيودهما أولا.

فعلى الأول : يلزم تقييد متعلق الحكم به ، وتقييد الموضوع له فيما نحن فيه بحيث يكون مقوما له ، وهذا رجوع عما فرّ منه فانه هو الّذي كان بصدد نفيه وفي مقام الإيراد عليه.

وعلى الثاني : يرجع الشرط إلى تعدد المطلوب ، وكان متعلق الحكم مطلقا غير مقيد بالشرط ، بل يتعلق حكم آخر بالمقيد ، فيكون هناك حكمان ، أحدهما تعلق بذات الشيء ، والآخر تعلق به مقيدا. ولا يخفى ان الإتيان بالفعل بدون القيد - بعد فرض تعدد المطلوب - يكون امتثالا للحكم الأول. ومنه يظهر الحال

ص: 89


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 15 - الطبعة الأولى.

في الوضع ، فان الشرط ان لم يرجع إلى الموضوع له كان المعنى الموضوع له في الحرف والاسم مطلق المعنى بلا قيد ولا شرط. وانما ثبت الاشتراط بالاستعمال الآلي في الحرف ، والاستقلالي في الاسم بنحو الاستقلال بلا دخل له في الموضوع له ، وذلك يقتضي صحة استعمال أحدهما موضع الآخر ، إذ الشرط المزبور لم يحدد ما يقتضيه وضع كل منهما بنفسه بعد ان كان خارجا عن دائرة الموضوع له والاعتبار الوضعي ، بل هو مستقل له اقتضاء مستقل عن الاقتضاء الوضعي.

وعليه ، فيرجع المحذور كما هو بلا اندفاع.

وثانيا : لو سلم ان هذا الشرط وان كان مأخوذا بنحو تعدد المطلوب إلاّ انه لازم الاتباع لجهة ما ، ككون الواضع هو اللّه ، وان ذلك - أعني الاشتراط - يرجع إلى إلزامه تعالى بالاستعمال بهذه الكيفية ، لو سلم ذلك فهو انما يقتضي في صورة المخالفة وعدم الالتزام بالشرط المزبور مخالفة حكم شرعي وعصيان تكليف إلهي ، لا انه يقتضي عدم صحة الاستعمال ان كان الموضوع له هو المعنى المطلق ، فان الشرط يرجع إلى الإلزام منه تعالى - كما عرفت - فمخالفته مخالفة إلزام لا أكثر.

الثاني : إرجاع القيد باللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى العلقة الوضعيّة. وتقريب ذلك : ان العلقة الوضعيّة المصححة للاستعمال الناشئة عن الاعتبار والوضع ، قد تكون ثابتة في مطلق الأحوال بين اللفظ والمعنى ، فيصح استعمال اللفظ في المعنى مطلقا وفي كل حال. وقد تكون ثابتة في حال معين فلا يصح استعمال اللفظ في المعنى الا في ذلك الحال دون غيره من الأحوال. فالفرق بين الأسماء والحروف ، ان الأسماء وضعت للمعاني ولكن قيدت العلقة الوضعيّة - بمعنى قيد حصولها - بين الاسم والمعنى في حال اللحاظ الاستقلالي ، فلا تحصل الا في هذا الحال ، فمع اللحاظ الآلي لا علقة بين الاسم والمعنى فلا يصح الاستعمال ، والحروف وضعت لمعانيها ولكن قيد حصول العلقة بينهما في حال

ص: 90

اللحاظ الآلي ، فلا تحصل الا في هذا الحال ، فمع اللحاظ الاستقلالي لا علقة بين الحروف والمعنى فلا يصح الاستعمال. فالموضوع له في كل من الحروف والأسماء واحد إلاّ ان العلقة بينه وبين الحرف في حال ، وبينه وبين الاسم في حال آخر.

والعبارة بهذا التفسير لا تخلو عن خدشة أيضا ، وذلك لأن ما ذكر يقتضي ان يكون حدوث العلقة الوضعيّة وحصولها بين اللفظ والمعنى متوقفا على الاستعمال ، لوضوح كون المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي اللحاظ في حال الاستعمال ، فيكون حدوث العلقة الوضعيّة بين لفظ الاسم ومعناه عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظ المعنى مستقلا. ويكون حدوثها بين لفظ الحرف والمعنى عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظه آلة ، ولازم ذلك انه لا وضع - علقة وضعية - بين اللفظ والمعنى قبل الاستعمال ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان.

الثالث : ربط اللحاظ الآلي والاستقلالي بالموضوع له لكن لا بنحو التقييد وبيانه : ان يكون الموضوع له لفظ الحرف ولفظ الاسم واحد لا يختلف بحسب الذات ، ولكن يختلف الموضوع له لفظ الحرف عن الموضوع له لفظ الاسم ، في ان الموضوع له الحرف هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ الآلي به ، والموضوع له الاسم هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ الاستقلالي به ، فالموضوع له في كل منهما هو الذات ونفس الماهية بلا دخل للتخصص الخاصّ فيه وان كان طرف العلقة هو المتخصص لكن بذاته. فاللحاظ الآلي والاستقلالي خارج عن الموضوع له ولكنه لازم له لا ينفك عنه ، ونظيره ثابت في مثل حمل « نوع » على « الإنسان » ، فان الموضوع والمحمول عليه انما هو الماهية بنفسها بلا دخل للحاظ فيه مع ان اللحاظ لا ينفك عنه ، إذ حمل النوع على الإنسان أو غيره موطنه الذهن ، إذ لا يصح حمل النوع على الإنسان الخارجي ، ومعه لا ينفك المحمول عليه عن اللحاظ ، وظاهر ان ما يحمل عليه النوع هو نفس الماهية بلا تقييدها باللحاظ ، إذ الماهية المقيدة باللحاظ جزئي

ص: 91

ذهني لا نوع ، فكيف يصح حمل نوع عليها مقيدة باللحاظ؟!.

إذا ظهر ان الموضوع له في كل من الاسم والحرف واحد ذاتا ، وانما يختلف من حيث اللحاظ بالنحو الخاصّ الّذي صححناه ، يظهر عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ العلقة الوضعيّة إذا كانت بين الحرف والمعنى الملحوظ باللحاظ الآلي فلا علقة بينه وبين الملحوظ استقلالا ، فلا يصح الاستعمال. وهكذا الكلام في الاسم.

وهذا التفسير لكلام صاحب الكفاية أوجه من أخويه ، وان كان ارتباطه بالعبارة أبعد ، ولكنه غير صحيح في نفسه كأخويه ، بيان ذلك : ان حال الوضع بالنسبة إلى اللحاظ الآلي والاستقلالي يختلف عن حال حمل مثل نوع على الإنسان بالنسبة إلى اللحاظ ، فان المتحقق في الذهن في حال حمل النوع هو واقع اللحاظ لا مفهومه ، بخلاف المتحقق في حال الوضع فانه مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي ، ولذلك يتعلق بهما واقع اللحاظ.

ثم ان هناك موردين يلازم فيهما شيء شيئا آخر ولا ينفك عنه ولا يكون دخيلا فيما رتب على ذلك الشيء الملزوم من أثر وما تعلق به من حكم.

أحدهما : ما تقدم من حمل مثل « نوع » على « الإنسان » المعبر عنه في الاصطلاح ب- « حمل المعقولات الثانوية » فان هذا الحمل بحكم كون موطنه الذهن وان الاتصاف المصحح للحمل وملاكه في الذهن لا الخارج ، كان المحمول عليه هو الحصة الملحوظة كما عرفت خروج اللحاظ عن دائرة المحمول عليه ، وإلاّ لكان جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا.

ثانيهما : الماهيات الجزئية الخارجية ، فان كل ماهية خارجية مباينة لماهية خارجية أخرى ، فالحصة الموجودة بوجود عمر وغير الحصة الموجودة بوجود بكر ، وتحقق جزئيتها انما يكون بالوجود ، فإذا رتب أثر أو علق حكم على الماهية الجزئية الخاصة كان الحكم مترتبا عليها بلا دخل للوجود اللازم لها - إذ بدونه لا

ص: 92

تخصص لها - في ترتبه مع عدم تعديه إلى غيرها من الحصص ، فإذا وضع لفظ زيد للحصة الخاصة كان الموضوع له هو ذات الحصة بلا تقيد بالوجود الملازم لها غير منفك عنها ، إذ قد عرفت ما في تقيد الموضوع له بالوجود. ولا يتعدى الوضع عن هذه الحصة إلى غيرها من الحصص.

ولا يخفى ان ما نحن فيه لا يشابه أحد الموردين.

أما عدم كونه من قبيل الماهيات الجزئية فلان الالتزام به ملازم للالتزام بخصوصية الموضوع له ، وان الموضوع له في الحرف هو الحصص والجزئيات ، وقد عرفت انه لا يلتزم به وينكر عليه.

واما عدم كونه من قبيل حمل المعقولات الثانوية ، فقد عرفت ان هناك فرقا موضوعيا ينتج عن ان اللحاظ المعتبر في الحمل انما هو واقع اللحاظ فلا يتصور فيه التقييد والإطلاق ، بخلاف اللحاظ الآلي والاستقلالي فيما نحن فيه ، فان المراد به مفهوم اللحاظ لا واقعه فكما يتصور الواضع حال الوضع مفهوم الموضوع له ، كذلك يتصور مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي لو أراد جعل الارتباط بينهما ، وحينئذ يقال : انه مع ملاحظة كل من المفهومين - مفهوم الموضوع له ومفهوم اللحاظ - ، وبعد فرض إمكان انفكاكه عن الآخر ، فاما ان يقيد المعنى باللحاظ ، واما ان يضع اللفظ للمعنى مطلقا أو يهمل.

والثالث ، ممتنع لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. والثاني ، يلزم منه الترادف وصحة استعمال كل منهما موضع الآخر وهو ما بصدد التفصي عنه في كلامه. والأول ، ما نفاه وشدد النكير عليه فالالتزام به رجوع عما فرّ منه.

ثم انه قد أورد على صاحب الكفاية رحمه اللّه : بأنه إذا كان الموضوع له في كل من الحرف والاسم واحدا وانما الاختلاف من حيث اللحاظ ، فلازم ذلك حدوث علاقة بين معنى الاسم والحرف وثبوتها بنحو يصح استعمال كل منهما في معنى الآخر مجازا ، بل العلاقة الثابتة أقوى العلاقات ، إذ علقة الاتحاد الذاتي

ص: 93

والماهوي بين المعنيين لا تفوقها العلقة الناشئة عن مناسبة ما بين معنيين يختلفان حقيقة وذاتا ، فإذا صححت هذه الاستعمال المجازي فتصحيح تلك العلاقة بين معنى الاسم والحرف للاستعمال المجازي لكل منهما في معنى الآخر أولى ، مع ان الوجدان قاض باستهجان استعمال الاسم موضع الحرف أو الحرف موضع الاسم ولو مجازا ، وعدم صحته.

ولكن هذا الإيراد لا يخلو عن مناقشة ، فان العلاقة المصححة للاستعمال المجازي إنما تكون إثباتا ونفيا بنظر العرف لا بالنظر الدقي العقلي ، لأن الاستعمالات عرفية فالحكم في تصحيحها بمصحح هو العرف. ومعنى الاسم وان كان في الحقيقة والدقة يتحد مع معنى الحرف إلاّ انه حيث كان عرفا وبالنظر العرفي مباينا لمعنى الحرف لم يصح استعمال أحدهما موضع الآخر مجازا ، وكان ذلك غلطا ومستهجنا لعدم العلاقة المصححة لتباينهما بنظره.

واما المذهب الثاني : فقد عرفت انه يتلخص في ان الحروف لم توضع إلى أي معنى ، بل هي علامات على حالات خاصة تعرض على مدخولاتها ، فهي على هذا كحركات الإعراب غير الموضوعة لأي معنى ، وانما كانت علامات لبعض حالات الاسم والفعل.

وقد نفي هذا المذهب بمنع ما ذكر في المقيس - أعني الحروف - وفي المقيس عليه - أعني حركات الإعراب -. أما منعه في الحروف ، فلأن هناك معان خارجة عن مدلول الأسماء وتفهم عند انضمام الحرف إلى الاسم ، وبعبارة أخرى : انه بضم الحرف إلى الاسم يفهم معنى وخصوصية ما خارجة عن مدلول الاسم ولا تفهم بذكر الاسم وحده ، فيتعين ان يكون الدال عليها هو الحرف ، إذ ليس في الكلام غيره مما يمكن القول بكونه دالا على المعنى.

واما منعه في حركات الإعراب ، فلنفس الوجه ، فانه يستفاد من حركات الإعراب معان وخصوصيات خارجة عن أصل مدلول الاسم. ولذلك يتغير

ص: 94

المعنى بتغيرها وتبدلها وذلك ظاهر جدا.

واما المذهب الثالث ففيه أقوال :

القول الأول : ما اختاره المحقق النائيني (1) رحمه اللّه ، وبيان ما أفاده قدس سره : انه كما ان للعرض الخارجي في مقام قيامه رابط يربط بموضوعه ونسبة ما بينه وبين موضوعه ، كذلك المفاهيم في مرحلة التصور والوجود الذهني لا بد في قيام بعضها ببعض ذهنا من تحقق الربط بينها ، ولا يخفى ان الرابط بين الموجودات الخارجية والمفاهيم خارج عن حقيقة الموجود الخارجي والمفهوم ، فالربط بين زيد والقيام في الخارج ليست حقيقته من سنخ حقيقة زيد والقيام ، فليس له ماهية وتقرر يعرض عليه الوجود كزيد والقيام ، وإلاّ لاحتاج في وجوده إلى رابط يربطه بغيره لعدم صلاحيته للربط حينئذ بل حقيقته لا تخرج عن حد الوجود ، ومن سنخ الوجود. فالنسبة والربط بين زيد والقيام من خصوصيات وجوديهما. وهكذا الربط بين مفهومي زيد والقيام في الذهن فانه ليس من سنخ المفاهيم التي يتعلق بها التصور واللحاظ ، وإلاّ لاحتاج إلى رابط يربطه بغيره ، إذ يكون حينئذ كغيره من المفاهيم فلا يصلح للربط ، وانما هو من سنخ اللحاظ والتصور ومن خصوصيات لحاظ المفهومين.

وبالجملة : كما ان النسبة الخارجية - أعني النسبة بين الموجودين خارجا - لا تخرج عن حد الوجود وليس لها ماهية يعرض عليها الوجود ، كذلك النسبة الذهنية - أعني النسبة بين المفهومين ذهنا - لا تخرج عن حد اللحاظ وليس لها مفهوم يتعلق به اللحاظ والتصور ، فصح حينئذ ان يعبر عن النسبة الذهنية بالنسبة الكلامية بلحاظ انها النسبة بين المفهومين المدلولين للكلام وانه لا واقع لها إلاّ الكلام ، حيث انه لا تقرر لها في نفسها ولا وجود لها قبل وجود المفهومين.

ص: 95


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 16 - الطبعة الأولى.

فالذي وضع له الحرف هو النسبة الكلامية ، أعني النسبة بين المفهومين في الذهن والربط الحاصل بينهما ، وبذلك يختلف المعنى الحرفي جوهرا وحقيقة عن المعنى الاسمي ، فان المعنى الاسمي عبارة عن مفهوم له تقرر في وعائه الخاصّ يتعلق به اللحاظ ويعرض عليه التصور ، بخلاف المعنى الحر في فانه من سنخ اللحاظ والتصور لا مفهوم يتعلق به اللحاظ.

وبعبارة أخرى : الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي كالفرق بين الربط الخارجي والموجودات الخارجية. فكما انه لا ماهية للربط الخارجي يعرض عليها الوجود ، بل هو من سنخ الوجود ، كذلك لا مفهوم للنسبة الذهنية والربط الذهني يتعلق به التصور ، بل هو من سنخ التصور.

وبهذا يعلم ان المعنى الحرفي له أركان ثلاثة يختلف بها عن المعنى الاسمي :

الركن الأول : ان المعاني الحرفية إيجادية بخلاف المعاني الاسمية فانها إخطارية.

والوجه فيه : ان المعنى الحرفي كما عرفت هو الربط الذهني بين المفهومين ، وقد عرفت ان الربط الذهني ليس شيئا غير الوجود الذهني ومن أنواعه. وعليه ، فهو غير قابل للانتقال والخطور في الذهن ، بل هو يتحقق في الذهن ويوجد ، بخلاف المعنى الاسمي فان له مفهوما يتعلق به اللحاظ والتصور وله تقرر في وعائه المناسب له. وعليه فهو قابل للخطور في الذهن وتعلق التصور به.

وبهذا البيان يتضح ان سنخ دلالة الحروف على المعاني ليس سنخ دلالة سائر الألفاظ على معانيها ، وبعبارة أخرى : ليس سنخ الدلالة الوضعيّة وهي الدلالة التصورية ، لعدم قابلية المعنى الحرفي للتصور والانتقال ، بل نفس المعنى الحرفي يتحقق بذكر الحرف ويوجد في ذهن السامع ، فإذا قيل : « زيد في الدار »

ص: 96

تحقق اللحاظ الخاصّ في الذهن عند السامع.

وعليه ، فكون المعنى الحرفي إيجاديا يصح ان يكون بلحاظ انه من سنخ الوجود غير القابل للخطور والتصور ، وان يكون بلحاظ انه بذكر الحرف يوجد المعنى ويحدث في ذهن السامع ، لا انه - أي الحرف - يوجب تصور معنى ومفهوم ما والانتقال إليه كغيره من الألفاظ. فهي إيجادية بالنسبة إلى المتكلم بالمعنى الأول وبالنسبة إلى السامع بالمعنى الثاني.

ودلالة الحرف على المعنى في ذهن المتكلم لا تكون من باب دلالة المفهوم على مصداقه والعنوان على معنونه ، بل من باب حكاية الفرد عن الفرد المماثل الآخر ، وهكذا دلالته على النسبة الخارجية والربط الخارجي.

الركن الثاني : ان المعاني الحرفية لا واقع لها بما هي معان حرفية في غير التراكيب الكلامية ، بمعنى انه لا مفهوم لها متقرر في وعائه يتعلق به الوجود الذهني ، بخلاف المعاني الاسمية فانها مفاهيم لها تقرر في عالم المفهومية ، وقد اتضح ذلك ببيان إيجادية الحروف ، فان ذلك لازم كونها إيجادية ومن سنخ الوجود ، فانه لا واقع لها حينئذ غير واقع الوجود ، وليست المعاني الاسمية كذلك ، بل واقعها غير واقع الوجود ، ولذا لا تنعدم بانعدام التصور واللحاظ.

الركن الثالث : ان المعنى الحرفي مغفول عنه وغير ملتفت إليه بخلاف المعنى الاسمي.

ووجهه : ان المعنى الحرفي بعد ان كان من سنخ اللحاظ والتصور وكيفية من كيفياته ولم يكن من المفاهيم المتقررة كان غير قابل لتعلق اللحاظ الاستقلالي به والالتفات إليه ، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا ومغفول عنه والالتفات إليه ، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا ومغفول عنه والالتفات لنفس الملحوظ ، فما يكون من سنخ اللحاظ ومن كيفياته كالنسبة والربط لم يكن قابلا للالتفات كما هو ظاهر جدا.

ص: 97

وقد ذكر المحقق النائيني للمعنى الحرفي ركنا رابعا (1) لا يتعلق لنا بذكره غرض ، ولذلك أرجأناه إلى محله في مبحث الخبر والإنشاء. فانتظر.

وقد ناقش السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في الأركان الثلاثة. فناقش في الركن الثاني ، أعني انها لا واقع لها الا في التراكيب الكلامية.

وقد حمل السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) كلام المحقق النائيني رحمه اللّه على ان الحرف موضوع لإيجاد الربط بين الكلمات التي تتألف منها الجملة ، وان الربط لا يحصل بدون الحرف ويكون الحرف سببا لحدوثه ، ولذلك كان معنى الحرف لا واقع له الا في ضمن التراكيب الكلامية ، لأنه الربط بين اجزاء الكلام. فاستشكل عليه : بان هذا مما لا إشكال فيه وان الألفاظ لا تكون مرتبطة بعضها ببعض الا بواسطة الحرف ، إلاّ ان ذلك باعتبار دلالة الحرف على معنى بذلك المعنى يكون الحرف موجدا للربط ، ونحن في مقام تشخيص ذلك المعنى والكشف عن حقيقته ، فالربط بين الكلمات الّذي هو إيجادي ولا واقع له إلاّ في ضمن التراكيب الكلامية أمر مسبب عن معنى الحرف لا انه هو معنى الحرف.

ثم ذكر بعد ذلك أن المعنى الحرفي سنخ مفهوم ، إلاّ انه غير مستقل يخطر في الذهن بتبع غيره ، وهذا وان لم يوجب كونه إخطاريا - بلحاظ ان الإخطاري ما كان يخطر في الذهن استقلالا وبنفسها - إلاّ انه ليس إيجاديا لكونه ذا تقرر في وعائه قبل ذكر الحرف فليس الحرف موجدا له فلا وجه لفرض كونه إيجاديا باعتبار انه لو لم يكن إيجاديا لكان إخطاريا لتصور الواسطة وان لا يكون المعنى إخطاريا ولا إيجاديا. كما انه يظهر ان ما ذكره من ان المعنى الحرفي لا واقع له في غير التراكيب الكلامية غير سديدة.

هذا ما ذكره السيد الخوئي في مقام مناقشته للركنين الأولين - كما يستفاد

ص: 98


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 21 - الطبعة الأولى.

من تقريرات الفياض - (1).

ولكن المناقشة فيه واضحة بعد ما عرفت من توجيه كلام المحقق النائيني ، فان المحقق النائيني لم يذهب إلى ان معنى الحرف هو الربط بين الكلمات - كما تخيله السيد الخوئي - كي يرد عليه ما ذكر ، بل ذهب إلى ان معنى الحرف هو النسبة والربط بين المفهومين ولما كان هذا من سنخ الوجود كان المعنى الحرفي إيجاديا لا يقبل الخطور أصلا ، كما انه لا يكون له واقع في غير التراكيب الكلامية ، بمعنى انه لا تقرر له في وعاء ما يتعلق به التصور ، بل هو موجود بوجود المفهومين ، وبهذا الاعتبار صح التعبير بأنه لا واقع له في غير التراكيب الكلامية ، بلحاظ المحكي بالكلام وهو المفهوم ، لا بلحاظ نفس الكلام كما توهم ، ولعل هذا التعبير وما يماثله كالتعبير بالنسبة الكلامية هو الّذي أوهم السيد الخوئي بما تقدم منه. ولكن مراده قدس سره غير ما ذكر والتعبير المزبور اصطلاحي يمكن ان يكون بلحاظ المحكي بالكلام من المفاهيم ، إذ واقع النسبة والربط في وجود المفاهيم لأنه كيفية وجودها ، لا بلحاظ نفس الكلام واللفظ.

وبالجملة : لا وجه لما ذكره بعد ملاحظة ما بيناه من مراد المحقق النائيني.

ثم إنه ( حفظه اللّه ) ناقش في الركن الثالث - أعني كون المعنى الحرفي مغفولا عنه - بأنه خلاف الوجدان لأن المعاني الحرفية كثيرا ما يكون اللحاظ الاستقلالي والقصد الأولي متعلقين بإفادتها ويكون ذكر الاسم مقدمة لإفادة تلك الخصوصية والتحصص. فتقول في جواب من سألك عن كيفية ركوب زيد مع العلم بأصل تحققه : انه ركب على الدّابّة أو مع الأمير ونحو ذلك.

ولكن الإشكال فيما ذكره بعد تقرير لزوم الآلية للمعنى الحرفي بما تقدم

ص: 99


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 68 - الطبعة الأولى.

لا يحتاج إلى بيان.

واما الاستشهاد بالمثال المذكور فلا وجه له ، لأنه مع العلم بأصل الركوب يعلم جزما بتحقق نسبة ما بينه وبين شيء آخر من زمان أو مكان أو وسيلة أو صاحب ونحو ذلك ، فالسؤال في الحقيقة عن طرف النسبة الآخر المجهول لا عن النسبة كي يكون الجواب ناظرا إلى بيانها المقتضي لتعلق اللحاظ الاستقلالي ، فلا يصلح المثال للاستشهاد على ما ادعاه.

نعم هناك مثال آخر اقرب للاستشهاد مما ذكره ، وهو ما إذا رأينا شخصا في طريق بين البصرة والكوفة ولم نعلم انه آت من البصرة أم ذاهب إليها؟ فنسأله : « أمن البصرة أم إليها » فان السؤال هاهنا يتعين ان يكون عن النسبة بين السير والبصرة وانها النسبة الابتدائية أو الانتهائية لا عن أحد الطرفين للعلم بهما والمجهول هو النسبة كما هو ظاهر. ولكن هذا المثال قابل للمناقشة كسابقه لوجهين :

الأول : ما هو المقرر في علم العربية من تعلق الجار بعامل مقدر ، فالسؤال عنه لا عن النسبة.

الثاني : إنه بعد ان عرفت ان النسبة من المعاني الآلية المغفول عنها حال الاستعمال - والمعنى الحرفي انما كان كذلك باعتبار انه النسبة والربط - سواء كان الحرف موضوعا لها أو لم يكن - وهو أمر لا كلام فيه - ، امتنع أن يتعلق بها الالتفات واللحاظ الاستقلالي ، فلا بد من حمل ما ظاهره تعلق الالتفات بالنسبة - كالمثال لو سلم ذلك - على غير ظاهره مما يتلاءم مع ما يقتضيه حال النسبة والربط.

وبالجملة : فالإيراد المذكور على الالتزام بآلية النسبة والغفلة عنها الّذي هو أمر لازم لواقع النسبة ولا ينكره أحد حتى من لا يقول بوضع الحرف لها ، ولا يكون إيرادا على الالتزام بوضع الحرف للنسبة ، لأن السؤال في المثال

ص: 100

عن نفس النسبة الحاصلة بين الطرفين بلا لحاظ انها معنى الحرف أو غيره.

وعليه ، فإذا ثبت بالبرهان القطعي عدم قابلية النسبة للالتفات ، فلا بد من توجيه المثال بما لا يتنافى مع مقتضى البرهان. فتدبر.

ثم انه لا ينافي ما ذكرناه من آلية المعنى الحرفي - النسبة - والغفلة عنها تعلق القصد والغرض بها نفسها حال الاستعمال ، إذ تعلق الغرض بما يكون آلة وطريقا لا يكاد ينكر كما يتعلق بالنظارة أو المرآة فيما لو قصد معرفة جنسها وكيفية كشفها.

وجه عدم المنافاة : ان تعلق الغرض بما لا يقبل اللحاظ الاستقلالي لا يقتضي تعلق اللحاظ الاستقلالي به كي يتنافى مع فرضه ليس كذلك ، بل يمكن تعلق الغرض به مع عدم انفكاكه عن الآلية وعدم الالتفات الاستقلالي ، وذلك نظير « النظارة » فان الغرض بوضعها على العينين للرؤية وان لم يتعلق بنفس الرؤية وانما تعلق بها لمعرفة جودتها ورداءتها في مقام الرؤية ، إلاّ أنها في مقام الاستعمال لا تكون ملحوظة استقلالا ، بل الملحوظ بالاستقلال انما هو المرئي وهي مغفول عنها حال الرؤية والاستعمال وان تعلق بها الغرض ، إذ الجودة والرداءة تعرف بالتجربة بالرؤية والاستعمال.

وبالجملة : إذا كان المعنى آليا وغير ملتفت إليه حال الاستعمال ، فتعلق الغرض به حال الاستعمال لا ينافي آليته وعدم لحاظه بالاستقلال ، بل الغرض يتعلق به بهذا النحو - أي بنحو استعماله وهو الاستعمال باللحاظ الآلي لا الاستقلالي - ، وبعبارة أخرى : الغرض أمر يترتب على الاستعمال بواقعه وبنحوه ، فلا يقتضي تغيير نحو الاستعمال ، إذ لا يتنافى حينئذ مع طور الاستعمال كيف ما كان. فالغرض من استعمال النظارة يترتب عليه وهو لا يكون إلاّ باللحاظ الآلي ولا يتنافى ذلك مع تعلق الغرض به.

وقد ناقش المحقق العراقي اختيار المحقق النائيني إيجادية المعنى الحرفي

ص: 101

بوجوه أربعة :

الأوّل : ان المعاني التي تتصورها النّفس اما ان تكون مرتبطة بعضها ببعض أو غير مرتبطة ، فما تصورته النّفس فلا يعقل احداث الربط بين اجزائه لأنه تحصيل للحاصل. وما تصورته غير مرتبط لم يعقل احداث الربط فيه لأن الموجود لا ينقلب عما هو عليه. نعم يمكن ان ينفي ويحدث في اثره وجود آخر بخصوصية أخرى. وعليه فلو أراد المتكلم إفادة السامع مفاد : « زيد في الدار » ، فحين تلفظه ب- « زيد » يتصور السامع مفهومه مستقلا لعدم علمه بعد بالربط وبمفاد الجملة. فإذا تلفظ في اثره ب- « في الدار » فلا يخلو مدعي إيجادية الحرف من ان يلتزم بأحد أمرين : اما احداث الربط في الموجود غير المرتبط وقد عرفت امتناعه. أو احداث موجود آخر مرتبط غير المتصور الأول وهو خلاف الوجدان.

الثاني : ان الهيئات الدالة على معنى لا بد وان يكون مدلولها معنى حرفيا ، وعلى فرض كون المعنى الحرفي إيجاديا يلزم ان يكون معنى الهيئة متقدما في حال كونه متأخرا وبالعكس وهو خلف. وبيان ذلك : ان الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة التي مدلولها معنى اسمي ، وبما انها دالة عليه تكون متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول. وعليه فتكون الهيئة متأخرة عن المعنى الاسمي برتبتين لتأخرها عن المادة المتأخرة عن المعنى الاسمي. وبما ان الهيئة توجد معناها في المعنى الاسمي كان معناها متأخرا عنها تأخر المعلول عن علته. وعليه فالمعنى الحرفي متأخر عن المعنى الاسمي بثلاث رتب ، وبما انه مقوم لموضوعه وهو المعنى الاسمي لأنه من خصوصيات وجوده لزم كونه في رتبته فهو في نفس الوقت متأخر ومتقدم.

الثالث : انه لو التزم بإيجادية المعنى الحرفي لزم ان يكون معنى الحرف في حيز الطلب وصقعه لا في حيز المطلوب وصقعه ، لأنه يوجد باللفظ كالطلب

ص: 102

فيكون متحققا حال تحقق الطلب وظاهر تأخر الطلب عن المطلوب رتبة لعروضه عليه ، فعليه يلزم ان يكون المعنى الحرفي متقدما ومتأخرا في حال واحد ، لأنه بملاحظة كونه موجودا مع الطلب كان في رتبة الطلب ومتأخرا عن المطلوب ، وبملاحظة كونه من قيود المطلوب كان متقدما على الطلب وفي رتبة المطلوب وهو خلف.

الرابع : ان كل لفظ سواء كان ذا مدلول افرادي ك- : « زيد » ، أو ذا مدلول تركيبي ككل كلام يدل على معنى مركب تام ك- : « زيد قائم » أو ناقص ك- : « غلام زيد ». لا بد ان يكون له مدلول بالذات وهو المفهوم الّذي يحضر في الذهن عند سماع اللفظ ، ومدلول بالعرض وهو ما يكون المفهوم فانيا فيه مما هو خارج عن الذهن. وهذه الدلالة والمدلول هما المقصودان بالوضع والاستعمال وتأليف الكلام والمحاورة به دون الأول ، ولو التزم بإيجادية معنى الحرف لزم ان ينحصر مدلول الكلام بالعرض في المعاني الإفرادية التي لا يحصل بها شيء من الإفادة والاستفادة.

وذلك : لأن كل كلام لا بد ان يشتمل على نسبة ما وهي التي يحصل بها الربط بين مفرداته. فاما مفرداته فهي بما انها معان اسمية إخطارية يكون لها مدلول بالذات وهو مفهومها ومدلول بالعرض وهو ما يفنى فيه ذلك المفهوم مما هو خارج عن الذهن وهو المعنى الأفرادي. واما النسبة التي تربط تلك المفردات فهي بما انها من المعاني الحرفية الإيجادية حسب الفرض لا يكون لها إلاّ مدلول بالذات وهو الوجود الرابط بين المعاني الاسمية. وعليه لا يكون لشيء من الكلام دلالة يصح السكوت عليها ويحصل بها التفاهم أصلا وهو خلاف الضرورة والوجدان.

هذه هي الوجوه الأربعة ، وقد ذكرناها بنفس عبارة تقريرات بحثه

ص: 103

بتصرف قليل (1) ، إلاّ ان كلا منها لا يخلو عن خدش :

اما الأوّل : فلان الربط كما عرفت من خصوصيات نفس اللحاظ والتصور. وعليه فبذكر لفظ « زيد » يتحقق تصوره ولحاظه بلا أي تقيد ، وبعد ذكر « في الدار » تضاف إلى ذلك اللحاظ والوجود الذهني خصوصية ، وذلك لا يستلزم أحد المحذورين المذكورين لأنه ليس بإحداث موجود مرتبط جديد كما لا يخفى ولا إيجادا للربط في الموجود غير المرتبط ، لأن الربط من خصوصيات الوجود لا الموجود كما عرفت ، وانما هو إضافة خصوصية إلى الوجود ، فهو نظير حدوث الأوصاف على الوجود الخارجي فانها ليست إحداثا لموجود غير الأول كما انها ليست إحداثا لربط في غير المرتبط فلاحظ.

وأما الثاني : فلان المعنى الحرفي ليس مقوما لموضوعه كي يدعى انه في رتبته ، بل هو من خصوصيات وجود المعنى الاسمي الذهني وطوارئه. وعليه فلا بد من فرض وجود معنى اسمي يتعلق به اللحاظ الخاصّ فهو متأخر رتبة عن المعنى الاسمي لا محالة ، فلا يلزم تقدمه أو تأخره على نفسه بثلاث رتب.

وأما الثالث : فلأن تقدم المطلوب على الطلب انما هو في ذهن الآمر المتكلم ، وقد عرفت ان الحروف ليست بموجودة لمعانيها ومحدثة لها في ذهنه ، وانما هي موجدة لها في ذهن السامع وليس المطلوب في ذهنه متقدما رتبة على الطلب. فلا يلزم تقدم المعنى الحرفي على نفسه ولا تأخره كما ادعى ، لأنه وان كان في صقع الطلب بالنسبة إلى السامع إلاّ انه لا تقدم للمطلوب على الطلب في ذهنه ، وأما بالنسبة إلى المتكلم فهو ليس في صقع الطلب لأنه متحقق قبل التلفظ.

وأما الرابع : فلما عرفت من اختلاف دلالة الحروف عن دلالة الأسماء ،

ص: 104


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 43 - 45 - الطبعة الأولى.

فان الأسماء توجب خطور معانيها في الذهن وتحكي عن الخارج حكاية الكلي عن فرده ومصداقه وما ينطبق عليه. بخلاف الحروف ، فان دلالتها على النسبة الخارجية بواسطة النسبة الذهنية من باب دلالة الفرد عن الفرد المماثل له ، فللحرف مدلول بالعرض إلاّ انه بهذه الكيفية من الدلالة لا بكيفية دلالة الأسماء.

والمتحصل : عدم نهوض أي إيراد من هذه الإيرادات.

القول الثاني : ما اختاره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، ومحصله : ان المعنى الحرفي والاسمي متفاوتان ومختلفان بحسب ذاتيهما وحقيقتهما ، والفرق بينهما كالفرق بين الوجود في نفسه والوجود لا في نفسه ، أعني الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي.

وبيان ذلك : ان الفلاسفة - كما قيل - قسموا الوجود إلى أقسام أربعة :

الأول : الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه وهو وجود الواجب تعالى شأنه ، فانه موجود قائم بذاته وليس معلولا لغيره.

الثاني : الوجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره وهو وجود الجوهر ، فانه قائم بذاته ولكنه معلول لغيره.

الثالث : الوجود في نفسه ولكن لغيره وهو وجود العرض ، فانه غير قائم بذاته بل متقوم بموضوع في الخارج ، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع متحقق في الخارج. ويعبر عن هذا القسم في الاصطلاح بالوجود الرابطي.

الرابع : الوجود لا في نفسه وهو المعبر عنه بالوجود الرابط في قبال الوجود الرابطي ، وهو وجود النسبة والربط ، فان حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين بلا استقلال لها أصلا. فهي بذاتها متقومة بالطرفين لا في وجودها. بخلاف العرض فانه بذاته غير متقوم بموضوعه ، وانما ذلك - أعني التقوم بموضوع - من لوازم وجوده وضرورياته.

وقد استدل بتحقق الوجود الرابط خارجا ، بأنا قد نتيقن بوجود الجوهر

ص: 105

كزيد والعرض كالقيام ، ولكن نشك في ثبوت العرض المقطوع وجوده للموضوع المقطوع وجوده أيضا. ومن البديهي لزوم تغاير متعلق الشك واليقين لأنهما ضدان فاتحاد متعلقهما يستلزم اجتماع الضدين في واحد وهو محال.

وعليه ، ففرض تعلق الشك في ارتباط العرض بالمعروض مع اليقين بوجودهما يكشف عن كون متعلق الشك وهو الربط والنسبة ذا وجود غير وجود الطرفين ، وبذلك يثبت تحقق القسم الرابع من الوجود خارجا.

والّذي التزم به المحقق الأصفهاني قدس سره : هو ان المعنى الحرفي كالوجود الرابط في كونه معنى متقوما بالطرفين لا وجود ولا تحقق له الا في ضمن طرفين وليس له وجود منحاز عن وجوديهما. إلاّ ان نقطة الاختلاف بينهما هو ان المعنى الحرفي موطنه الذهن والوجود الرابط موطنه الخارج.

بل يصح ان يقال : ان المعنى الحرفي قسم من الوجود الرابط وهو الوجود الرابط في الذهن القائم بمفهومين الّذي يعبر عنه في طي كلماته بالنسبة والربط بين المفاهيم ، دون الوجود الرابط في الخارج المعبر عنه بالنسبة الخارجية ، والّذي يشهد على ان اختياره كون المعنى الحرفي الربط الذهني ما ذكره في كتابه « الأصول على النهج الحديث » من ان الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي كالفرق بين الوجود الرابط والمحمولي. وما ذكره في نهاية الدراية من توهين تنظيرهما بالجوهر والعرض لأن العرض موجود في نفسه لغيره ، وكون الصحيح تنظيرهما بالوجود المحمولي والوجود الرابط لا الرابطي ، كما انه كان يصرح بذلك في مجلس درسه (1).

وأورد عليه المحقق الخوئي ( حفظه اللّه ) بوجهين :

ص: 106


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث /24- 22 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي - نهاية الدراية 1 - 16 - 19 - الطبعة الأولى.

الأول : انه لو سلمنا تحقق وجود للرابط والنسبة خارجا غير وجود الجوهر والعرض ، فلا نسلم وضع الحروف والأدوات لها ، لما تقدم امتناع الوضع للموجودات الذهنية والخارجية وتعين وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيات ، لأن المقصود من الوضع هو التفهيم ، والتفهيم بحصول صورة المعنى في الذهن باستعمال اللفظ ، والموجود الخارجي لا يقبل الإحضار في الذهن لأنه خلف كونه خارجيا ، والموجود الذهني غير قابل للإحضار ثانيا لأن الموجود الذهني لا يقبل وجود ذهنيا آخر.

وعليه ، فيمتنع الوضع للموجود خارجيا كان أو ذهنيا للغويته وعدم ترتب أثر الوضع عليه.

الثاني : انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكان الوضع للموجود بما هو موجود ، فلا نسلم وضع الحرف للنسبة ، لاستعماله بلا مسامحة في موارد يمتنع فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد « هل » البسيطة. فلا فرق بين قولنا : « الوجود للإنسان ممكن » و « لله تعالى ضروري » و « لشريك الباري مستحيل » ، فان كلمة « اللام » مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد بلا عناية في أحدها ، مع انه يستحيل فرض استعمالها في النسبة في بعضها حتى بمفاد كان التامة ، لعدم تحقق أي نسبة بين الواجب وصفاته ، لأن النسبة انما تتحقق بين ماهية ووجودها نظير « زيد موجود » ، فلاحظ (1).

ولكن الحق عدم ورود كلا الوجهين :

أما الأول : فلان امتناع وضع اللفظ للموجود مما أسسه المحقق الأصفهاني والتزم به وقربه بما تكرر من : « ان المقابل لا يقبل المقابل والمماثل لا يقبل المماثل ». إلا ان ذلك يختص بالأسماء دون الحروف ، فانه التزم بكون

ص: 107


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 76 - الطبعة الأولى.

الموضوع له فيها هو الوجود الذهني ، والإيراد المزبور يدفع بما أشرنا إليه من أن دلالة الحروف وحكايتها تختلف عن دلالة الأسماء ، فانها من قبيل دلالة المماثل على المماثل ، فلا يرد فيه المحذور.

واما الثاني : فلأنه يبتني على أخذ الموضوع له هو الوجود الخارجي ، وقد عرفت خلافه وان الموضوع له هو الربط الذهني فلا يرد عليه الإشكال ، لأن عروض النسبة بين الذات المقدسة والوجود انما يستحيل في الخارج ، وأما في الذهن وعروضها بين المفاهيم المتصورة عنهما ، فلا امتناع فيه. والربط الذهني قوامه بالمفاهيم لا بالوجودات الخارجية.

ثم انه ( حفظه اللّه ) استشكل في أصل تحقق قسم رابع في الخارج يعبر عنه بالوجود الرابط وحكم : بان الصحيح عدم وجود للربط والنسبة خارجا قبال وجود الجوهر والعرض - وعليه فينهدم أساس هذا الاختيار ، أعني اختيار وضع الحرف للنسبة - ، والوجه في ذلك عدم وجود الدليل عليه سوى ما ذكر من البرهان وهو غير تام ، وذلك : لأن صفتي اليقين والشك وان كانتا متضادتين فلا يكاد يمكن ان تتعلقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة. إلاّ ان تحققهما في الذهن لا يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فان الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجا ، ومع ذلك يمكن ان يكون أحدهما متعلقا لصفة اليقين والآخر متعلقا لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ولكن شك في انه زيد أو عمرو ، فلا يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فانهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق اليقين. ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا ان للعالم مبدأ ولكن شككنا في انه واجب أو ممكن ، على القول بعدم استحالة التسلسل فرضا. أو أثبتنا انه واجب ولكن شككنا في انه مريد أولا ، إلى غير ذلك. مع ان صفاته تعالى عين ذاته خارجا وعينا كما ان وجوبه كذلك.

ص: 108

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر والشك متعلق بثبوت حصة خاصة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن فيه من جهة أخرى. وتلخص ان تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلا تعدد متعلقهما في أفق النّفس ، واما في الخارج عنه فقد يكون متعددا وقد يكون واحدا. انتهى كلامه كما جاء في تقريرات بحثه للفياض (1).

القول الثالث : - وهو ما اختاره المحقق العراقي - وقد أطال قدس سره في بيان دعواه ، وحاصل اختياره : - بعد ان قرر التغاير الذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وأنكر على الرّأي القائل باتحادهما في الذات والحقيقة ، وان التغاير بينهما في مرحلة الاستعمال من جهة اللحاظ الاستقلالي واللحاظ الآلي - ان الحروف موضوعة للاعراض النسبية ، وهي الاعراض المتقومة في وجودها إلى طرفين - كالأبوة والبنوة - ، فلفظ « في » - مثلا - موضوعة للظرفية المتقومة بالظرف والمظروف ، و « من » موضوعة للابتداء المتقوم بالمبتدإ والمبتدأ منه.

وأفاد : بان الموضوع إلى نفس الربط والنسبة هو الهيئة التركيبية دون الحروف ، فانها موضوعة إلى المعنى النسبي المعبر عنه في الاصطلاح بالوجود الرابطي.

وبذلك يندفع ما قد يرد من : ان المعاني الإفرادية تحتاج في إفادة المعنى التركيبي الجملي إلى رابط يربط بعضها ببعض ، فإذا كان معنى الحرف نفس العرض النسبي احتاج الكلام إلى رابط يربط بعض اجزائه ببعض ، لعدم صلاحيته للربط إذا كان معناه نفس العرض ، فما الّذي يكون الرابط إذن ان

ص: 109


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 75 - الطبعة الأولى.

لم يكن الحرف؟ ، فانه بما أفاده يتبين ان ما يؤدي وظيفة الربط هو الهيئة التركيبية وقد قرّب قدس سره هذه الدعوى - كما في تقريرات بحثه - بما نصه : « والسيرة العقلائية حسب الاستقراء تدل على ان العقلاء لم يهملوا معنى من المعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة ، من حيث جعل الطريق لها والكاشف عنها وهو الكلام. ولا يخفى ان المعاني الحرفية من أهم المعاني التي يحتاج الإنسان إلى الدلالة عليها في مقام الإفادة والاستفادة. وأيضا حسب الاستقراء والفحص عما يدل من الألفاظ الموضوعة على المعاني المذكورة ، قد وجدنا الأسماء تدل على الجواهر وجملة من الاعراض ، ووجدانا الحروف تدل على جملة الاعراض الإضافية النسبية ، ووجدنا الهيئات سواء كانت من هيئات المركبات أم من هيئات المشتقات تدل على ربط العرض بموضوعه ، مثلا لفظ « في » يدل على العرض الأيني العارض على زيد في مثل قولنا : « زيد في الدار » وهيئة مثل « عالم » و « أبيض » و « مضرب » تدل على ربط العرض بموضوع ما وكذلك بقية الحروف تدل على إضافة خاصة وربط مخصوص بين المفاهيم الاسمية » (1).

والّذي يتحصل من مجموع كلامه ، ان الهيئات موضوعة للربط والنسبة بين العرض ومحله. والحروف موضوعة للاعراض الإضافية النسبية.

وبذلك يتفق مع المحققين النائيني والأصفهاني في جهة - وهي جهة وضع الهيئات - ويختلف معهما في أخرى - وهي جهة وضع الحروف - وذلك واضح.

والّذي يرد عليه أولا : ان المعنى الحرفي إذا كان هو العرض النسبي فهو لا يفترق عن المعنى الاسمي أيضا ، إذ يكون المعنى الموضوع له لفظ « في » ولفظ « الظرفية » واحد وهو العرض النسبي ، وهو يناهض الوجدان الحاكم بثبوت

ص: 110


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 49 - الطبعة الأولى.

الفرق بين معنى اللفظين ، فان العرف يرى فرقا شاسعا بين معنييهما عند إلقاء الكلام إليه ، ويرى ان الاعراض التسع بجملتها النسبية من الوجودات المستقلة في ذاتها وانها من المعاني الاسمية.

وثانيا : انه لا يظهر هناك فرق ذاتي بين الاسم والحرف في المعني ، فان لفظ الابتداء لم يوضع لسوى الابتداء الّذي يكون من الاعراض النسبية والموضوع له الحرف. فما قرره للحرف من معنى لا يخلو عن مناقضة لما أفاده في صدر كلامه من وجود الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والحرفي.

وعلى أي حال ، فما أفاده قدس سره في معنى الحرف وتقريبه دون مقامه العلمي الرفيع وفكره السامي الدّقيق.

وقد أورد عليه السيد الخوئي بثبوت استعمال الحرف في موارد يستحيل تحقق العرض النسبي فيه كالواجب تعالى ، كقوله تعالى شأنه : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (1) ، ومثل : « اللّه عالم بكذا » فان اتصاف الذات المقدسة بالعرض النسبي مما لا إشكال في امتناعه ، فلو بنى على وضع الحرف للعرض النسبي يدور الحال في مثل هذه الاستعمالات بين الالتزام بعدم صحة الاستعمال والالتزام بمجازيته وكونه استعمالا مسامحيا ، وكلاهما خلاف الضرورة العرفية ، فان العرف لا يرى في هذا الاستعمال اية مسامحة وتجوز ، ويرى ان استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ أيّة عناية ولا رعاية علاقة ومناسبة مما يكشف عن كون الموضوع له الحروف معنى آخر غير ما ذكره ، وإلاّ لاختلف الاستعمال حقيقة وتجوزا باختلاف موارده كما لا يخفى (2).

إلاّ ان الإنصاف أن هذا الإيراد لا يوجب الانصراف عن الالتزام بهذا

ص: 111


1- سورة طه ، الآية : 56.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 79 - الطبعة الأولى.

القول لأنه يرد على غيره ، وهو ما التزم به نفس المورد - أعني السيد الخوئي - كما سيتضح فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى ، ولا يختص به. كما انه لا يختص بهذه الناحية ، بل هو ثابت من ناحية أخرى وهي نفس النسبة والربط فانه مما يمتنع في حق الواجب لتقومها باثنين ، ولا اثنينية بين الصفة والذات المقدسة. فلا بد من إيجاد الحل له ، وبذلك يندفع الإيراد ولا يبقى لذكره مجال. مضافا إلى ان ما يطلق في أكثر الموارد المذكورة هو الهيئة التي ترد في الصفات دون الحروف ، فانها قلّ ما تتعلق بطرفين أحدهما الذات الواجبة ، ولا يلتزم قدس سره بوضع الهيئة للعرض النسبي إذ يرى اختصاص ذلك بالحروف فلا يتجه الإيراد المزبور

القول الرابع : - وهو اختيار السيد الخوئي ( دام ظله ) - وقد قرره بقلمه في تعليقته على تقريراته لبحث أستاذه النائيني قدس سره ، فقال : « والتحقيق ان يقال : ان الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية ، بل التضييق انما هو في عالم المفهومية وفي نفس المعاني ، كان له وجود في الخارج أو لم يكن ، فمفاهيمها في حد ذاتها متعلقات بغيرها ومتدليات بها قبال مفاهيم الأسماء التي هي مستقلات في أنفسها ، توضيح ذلك : ان كل مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته ، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيات المنوعة أو المنصفة أو المشخصة. أو بالقياس إلى حالات شخص واحد ، ومن الضروري ان غرض المتكلم كما يتعلق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بإفادة حصة خاصة منه ، كما في قولك : « الصلاة في المسجد حكمها كذا ». وحيث ان حصص المعنى الواحد فضلا عن المعاني الكثيرة غير متناهية ، فلا بد للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصص المعنى وتقيده ، وليس ذلك إلاّ الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة أو التوصيف ، فكلمة : « في » في قولنا : « الصلاة في المسجد » لا تدل الا

ص: 112

على ان المراد من الصلاة ليس هي الطبيعة السارية إلى كل فرد بل خصوص حصة منها ، سواء كانت تلك الحصة موجودة في الخارج أم معدومة ، ممكنة كانت أم ممتنعة ، ومن هنا يكون استعمال الحروف في الممكن والواجب والممتنع على نسق واحد وبلا عناية في شيء منها. فتقول : « ثبوت القيام لزيد ممكن » و « ثبوت العلم لله تعالى ضروري » و « ثبوت الجهل له تعالى مستحيل » فكلمة « اللام » في جميع ذلك يوجب تخصص مدخوله فيحكم عليه بالإمكان مرة وبالضرورة أخرى والاستحالة ثالثة. فما يستعمل في الحرف ليس إلاّ تضييق المعنى الاسمي من دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة ، فضلا عما يستحيل فيه تحقق نسبته كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ونحوهما » (1).

وقد ذكر الفياض في تقريرات بحثه : ان السبب في اختيار هذا القول أمور أربعة :

الأول : بطلان سائر الأقوال.

الثاني : ان المعنى المشار إليه يشترك فيه جميع الموارد الاستعمال الحرف من الواجب والممكن والممتنع. على نسق واحد ، وليس في المعاني ما يكون كذلك.

الثالث : انه نتيجة ما سلكناه في حقيقة الوضع من انه التعهد ، ضرورة ان المتكلم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.

الرابع : موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفي ، فان الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها ، وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم إمكانها ، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذبها صريح الوجدان والبداهة. فهذا يكشف كشفا

ص: 113


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 18 - الطبعة الأولى.

قطعيا عن ان الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره (1).

ولا بد من التكلم فيما ذكره من جهات :

الأولى : في انه هل يمكن تصحيح كلامه بغير إرجاعه إلى ما أفاده المحققان النائيني والأصفهاني ، بحيث يكون المراد به أمرا معقولا غير ذاك ، أو انه لا يصح إلاّ بفرض كون المراد به ذاك المعنى دون غيره.

الثانية : في بيان صحة ما رتب عليه من الأثر.

الثالثة : في بيان صحة الدليل الّذي تمسك به وعدمها.

أما الجهة الأولى : فالحق انه لا يتصور لكلامه معنى معقول غير ما أفاده المحقق النائيني ، بيان ذلك : بعد العلم بان ما ورد في تقرير الفياض من التعبير بالوضع للحصة الخاصة غير مراد قطعا ، لأن الحصة لا تخرج بالتحصص عن المفهومية الاسمية ، وانما المراد الوضع للتضييق والتحصيص ونحوهما مما هو خارج عن ذات الحصة كما هو صريح كلامه في تعليقته - ان التضييق من الأفعال التسبيبية التوليدية التي تتحقق بأسبابها بلا توسيط الإرادة والاختيار في تحققها ، بل الإرادة انما تتعلق بنفس السبب نظير نسبة الإحراق إلى الإلقاء ، وهو - أعني التضييق - مسبب عن الربط والنسبة بين المفهومين بلا اختيار. فالتضييق على هذا مسبب ، والخصوصية والربط سبب ، ولا يمكن حصول التضييق بدون حصول الربط والنسبة بين المفهوم ومفهوم آخر ، فما لم تحصل النسبة بين زيد والدار لا يتضيق مفهوم زيد.

وعليه ، فمراد السيد الخوئي من وضع الألفاظ الحرفية لتضييق المعاني والمفاهيم الاسمية ، ان كان هو وضعها للمسبب - أعني نفس التضييق - دون السبب فهو غير معقول ، لأن الحرف اما ان يوضع لمفهوم التضييق أو لمصداقه

ص: 114


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 84 - الطبعة الأولى.

وواقعه.

ويبطل الأول - أعني الوضع لمفهوم التضييق - وضوح التباين بين ما يفهم من الحرف ومفهوم التضييق بنظر العرف ، مع استلزام الوضع له الترادف بين اللفظين في المعنى ، مضافا إلى ان مفهوم التضييق من المفاهيم الاسمية التي يتعلق بها اللحاظ أصالة واستقلالا.

ويبطل الثاني - أعني الوضع للمصداق - وجوه :

الأول : ما أشرنا إليه من امتناع الوضع بإزاء الوجود ، لكون الغرض منه تحقق انتقال المعنى عند إلقاء اللفظ ، والوجود خارجيا كان أو ذهنيا لا يقبل الانتقال ويأبى الوجود الذهني من باب ان المقابل لا يقبل المقابل أو ان المماثل لا يقبل المماثل. فيمتنع الوضع بإزاء مصداق التضييق الّذي هو فعل خارجي.

الثاني : أن الوضع كذلك لا يتلاءم مع الحكمة الداعية إلى الوضع - أعني وضع الحرف - ، إذ الغرض منه هو التمكن من تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم الاسمي العام ، ولا يخفى ان الغرض لا يتعلق إلاّ بتفهيم ذات الحصة بلا دخل لعنوان تحصصها وتضيقها إذ لا يترتب الأثر على ذلك ، وعليه فمقتضى الحكمة وضع الحرف لنفس الخصوصية الموجبة للتضييق كي يحصل تفهيم الحصة الخاصة من مجموع الكلام وبضميمة الاسم إلى الحرف ، لا الوضع لنفس التضييق والتحصيص فإنه خارج عن دائرة الغرض والداعي.

الثالث : انه لو كان الموضوع له الحرف نفس المصداق لزم تحقق الترادف بين لفظ الحرف وبين الألفاظ الاسمية الدالة على مصداق التضييق ، فيكون لفظ : « في » مرادفا للفظ : « مصداق التضييق » وحصة منه. والوجدان قاض بعدم الترادف وكون المفهوم من أحدهما يختلف عن المفهوم من الآخر (1).

ص: 115


1- هذا الإيراد لا يختص بهذا القول ، بل يجري بناء على ما التزم به النائيني أيضا ، فان لازم الالتزام بان الحرف موضوع لواقع النسبة تحقق الترادف بين الحرف وما يدل على واقع النسبة من لفظ : « واقع النسبة » ونحوه ، ولا إشكال في فساده. والحل : هو ان كل لفظ يشار به إلى واقع النسبة ونفس المعنى الخارجي موضوع لمفهوم كلي كمفهوم واقع النسبة أو مصداقها ونحوه ، وهكذا الحال في مصداق التضييق ، ولم يوضع للفرد الخاصّ من النسبة ، وانما الموضوع له هو لفظ الحرف فقط ، فلا يلزم الترادف حينئذ بين لفظ الحرف ولفظ المصداق ونحوه ، مما لم يوضع إلى واقع المصداق وخارجه ، بل إلى مفهومه المنطبق على كثيرين ، فلا يتفق معناه مع معنى الحرف ، فإن الأول مفهوم اسمي فلاحظ.

الرابع : ان المعنى الاسمي والمفهوم العام لا يخرج عن الاسمية بالتحصص والوجود ، وإلاّ لزم ان يكون جميع المصاديق من المعاني الحرفية ، فوضع الحرف لمصداق التضييق والتحصيص لا يوجب كون المصداق من المعاني الحرفية بعد ان كان مفهومه من المعاني الاسمية. وما هو المائز بينه وبين المعنى الاسمي؟ ومجرد الوضع له لا يكون سببا لكونه معنى حرفيا ومائزا بينه وبين المعنى الاسمي كما لا يخفى.

والحاصل ، ان فرض وضعها للمسبب وهو التضييق مفهوما ومصداقا لا يعرف له وجه وجيه أصلا.

وان أراد وضعها للسبب ، أعني نفس الربط والنسبة - كما قد يظهر من بعض عبارة التقريرات - فهو عبارة أخرى عما قرره أستاذه النائيني ، ولا يكون الاختلاف بينهما الا بالتعبير والبيان.

واما الجهة الثانية : فالتحقيق ان ما رتبه على دعواه من صحة عموم استعمالات الحروف حتى في الموارد غير القابلة للنسبة والربط كصفات الباري ، بدعوى : ان الحرف على هذا موضوع للتضييق وهو يتعلق بالمفاهيم لا بالوجودات كي يتوقف - كالنسبة - على تعدد الوجود الممتنع في ذات الواجب وصفاته. غير تام ، اما مع الالتزام بان الموضوع له هو نفس السبب وهو الربط فواضح جدا ، واما مع الالتزام بان الموضوع له هو المسبب وهو التضييق ،

ص: 116

فلوضوح ان المقصود من وضع الحروف للتضييق ليس وضعها لكلي التضييق ومفهومه العام الشامل لجميع الافراد ، بحيث تكون جميع الحروف مترادفة ، بل الموضوع له كل حرف تضييق من جهة خاصة للمفهوم فالموضوع له لفظ : « في » تضييق المفاهيم الاسمية من جهة الظرفية ، والموضوع له لفظ : « من » تضييقها من جهة خاصة أخرى وهي الابتداء ، وهكذا. وظاهر أن التضييق الخاصّ يتوقف على ثبوت خصوصية وارتباط بين المفهومين الاسميين بحيث ينشأ منه التضييق الخاصّ فيصح استعمال الحرف فيه ، فلا يحصل تضييق مفهوم زيد بكونه في الدار ، إلاّ بتحقق الارتباط والنسبة الخاصة بينه وبين الدار. فيعبر عن ذلك التضييق بالحرف. وعليه فاستعمال الحرف في صفات اللّه تعالى يتوقف على ثبوت النسبة والارتباط بين الصفة والذات كي تتحقق التضييق المعبر عنه بالحرف. فيرجع الإشكال كما هو ، ولا بد من حلّه بحل عام يرتفع به الإشكال في جميع الأقوال. وبعبارة أخرى : ان قولنا : « الوجود لله واجب » يحتاج إلى ثبوت نسبة بين الوجود والذات المقدسة تصحح فرض التضييق في الوجود ونسبته إلى اللّه ، كما يحتاج قولنا : « الوجود لزيد ممكن » إلى ذلك. وهذا واضح لا خفاء فيه ولا غبار عليه.

ثم انه بناء على ان يكون الموضوع له في الحروف هو التضييق يكون معنى الحرف من المعاني الإيجادية ، وهو الأمر الّذي فرّ منه مكررا مدعيا - في مقام إيراده على المحقق النائيني في دعواه تعين الإيجادية لعدم الإخطارية - ثبوت الواسطة بين المعاني الإخطارية المستقلة وبين المعاني الإيجادية وهي المعاني الإخطارية غير المستقلة التي عبر عنها بغير الإخطارية أيضا لعدم استقلالها. فانتفاء كون معنى الحروف إخطارية مستقلة لا يعين كونها إيجادية ، بل يمكن ان تكون إخطارية غير مستقلة ، بل هو المتعين وليس معناها إيجاديا.

وبالجملة : فقد التزم بان المعاني الحرفية من المفاهيم غير المستقلة وان

ص: 117

الفرق بينها وبين المعاني الاسمية بالاستقلال وعدمه.

والوجه في لزوم كونها إيجادية على البناء المزبور : ان المفروض عدم وضعها لمفهوم التضييق لعدم معقوليته ، كما عرفت فهي موضوعة اما لواقع التضييق أو لسببه وهو واضع النسبة والربط.

فعلى الثاني : فإيجادية المعنى الحرفي واضحة فقد تقدم بيانها.

واما على الأول : فحيث انه لا إشكال في تحقق النسبة عند ذكر الحرف ، وقد عرفت ان النسبة سبب لحدوث التضييق فبوجودها يحدث واقع التضييق ويوجد فتحققه في ذهن السامع انما يكون بتبع تحقق النسبة والربط ، وقد عرفت إيجادية النسبة والربط وانها تحصل في ذهن السامع بنفس اللفظ فكذلك التضييق يكون إيجاديا يحصل في ذهن السامع بواسطة اللفظ باعتبار تبعية وجوده لوجود النسبة وهي معنى إيجادي كما عرفت.

كما انه لا واقع له الا في ضمن المفاهيم لأنه مسبب عن الربط والنسبة والقائم بالمفاهيم والّذي لا حقيقة له الا في ضمنها لأنه من كيفيات وجودها.

كما انه بناء على الالتزام بما ذكر يكون المعنى الحرفي من المعاني الآلية لا الاستقلالية.

وذلك : فان وضع الحرف للتضييق باعتبار كون المقصود تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم دون المفهوم على سعته ، ظاهر في ان نفس التضييق ملحوظ آلة لتفهيم الحصة ، وإلاّ فلا يتعلق غرض مستقل به بخصوصه ، بل الغرض واللحاظ الاستقلالي متعلق بتفهيم الحصة وإفادة التضييق طريق إلى ذلك.

ولا يجدي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الحرفي في بعض الأحيان ، لأنه وان كان ممكنا لأن الآلية ليست من لوازم التضييق التي لا تنفك عنه كما كانت من لوازم الربط والنسبة ، إلاّ انه إذا ثبت كون الأغلب بحسب مقتضى الاستعمال كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة وطريقا لا مستقلا لم ينفع لحاظه

ص: 118

الاستقلالي في بعض الأحيان في ترتب الثمرة عليه ، وهي ما سيأتي من إمكان الإطلاق في معناه ، إذ ما يأتي من الحروف يحمل علي الفرد الغالب. وهو الملحوظ آلة فلا يصح التمسك بإطلاقه.

وبالجملة : فنتيجة هذا القول عين نتيجة الالتزام بان الموضوع له هو النسبة وان الآلية من لوازم الموضوع له التي لا تنفك عنه من عدم التمسك بالإطلاق في غير مورد العلم بتعلق اللحاظ استقلالا كما هو الأمر الغالب في الحروف حيث لا يعلم تعلق اللحاظ الاستقلالي بمعناها. فتدبر جيدا.

واما الجهة الثالثة : فقد اتضح وهن ما اعتمد عليه.

أما الأول : فهو مضافا إلى وهنه في نفسه ، إذ بطلان الوجوه الأخرى لا يعني صحة هذا الوجه وتعينه ، ممنوع إذ قد عرفت تصحيح ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني والنائيني وتوجيه كلامهما بنحو لا يرد عليه أي إيراد مما ذكره السيد الخوئي أو غيره ، وقد عرفت توجه بعض ما أورده عليهما على كلامه نفسه.

وأما الثاني : فقد عرفت ان اختياره لا يصحح استعمال الحرف في جميع الموارد ، وان الإشكال الّذي وجهه على المحقق العراقي والأصفهاني من عدم صحة استعمال الحرف في صفات الباري يتوجه على مختاره أيضا.

وأما الثالث : فصدوره منه عجيب ، إذ البحث عن حقيقة المعنى الحرفي ومعرفة الموضوع له الحرف وانه التضييق أو غيره ، انما يأتي في المرتبة المتأخرة عن بيان أصل الوضع وحقيقته بحيث يكون فرض وضعه لهذا المعنى على جميع التقادير لحقيقة الوضع ، فالالتزام بمعنى خاص للوضع لا يقتضي وضع اللفظ إلى معنى معين بحيث يكون نتيجة تعيين حقيقة الوضع هو الوضع المذكور ، فالوضع للتضييق على تقدير تماميته يصلح على جميع تقادير معنى الوضع ولا يتعين ان يكون نتيجة الالتزام بمعنى معين ، وإذا لم يصح في التضييق لا يصلح

ص: 119

على جميع التقادير ، ولا يقتضي كون معنى الوضع هو التعهد الوضع للتضييق ، إذ الإشكال والكلام في معقولية تعلق التعهد بذكر الحرف عند إرادة التضييق كالإشكال في معقولية اعتبار العلقة بينهما أو جعل الحرف على المعنى المذكور.

وبالجملة : الإشكال يتأتى على جميع تقادير الوضع حتى على تقدير التعهد ، ويحتاج الدعوى إلى دليل ولا يكتفي في صحتها باختيار كون الوضع هو التعهد ، إذ الإشكال في صحة خصوص التعهد المذكور.

وأما الرابع : فهو دعوى مجازفة ، إذ بعد ان عرفت ما يرد من الإشكال على المبنى المزبور ، فكيف يكون ارتكازيا؟!.

والّذي ننتهي إليه أخيرا هو الالتزام بما التزم به المحققان النائيني والأصفهاني من انه موضوع للربط والنسبة بين المفهومين الّذي هو من سنخ الوجود ، فانه مضافا إلى معقوليته في نفسه وعدم الوصول إلى أي إشكال فيه امر ارتكازي وجداني لا يحتاج إلى إقامة برهان ، وذلك فان المعنى المزبور يتبادر إلى الذهن عند إلقاء الجملة ، والدال عليه منحصر بالحرف لعدم وجود ما يصلح للدلالة عليه من اجزاء الجملة غيره ، إذ الاسم يدل على نفس المفهوم المرتبط بالآخر لا على الارتباط.

« كيفية الوضع للحروف »

اشارة

ثم انه يتضح بذلك ان الموضوع له في الحروف خاص لا عام - كما ادعاه صاحب الكفاية (1) - لأن الموضوع له إذا كان عاما لم يكن معنى حرفيا بل كان معنى اسميا ، إذ كل ما يفرض كونه عاما يكون من المفاهيم - إذ الوجود لا

ص: 120


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /11- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يقبل العموم والسعة - ، وقد عرفت ان المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بل من سنخ الوجود وان المفاهيم معان اسمية. وبتقريب آخر : ان تصور كون الموضوع له عاما انما يكون بلحاظ الوضع للجامع بين الوجودات الخاصة ، وهو - أي الجامع - غير متحقق ولا يتصور فيما نحن فيه إلاّ بإلغاء خصوصية الطرفين ليكون الجامع كلي الوجود ، إذ مع ملاحظة الطرفين يكون كل وجود مباينا للوجود الآخر لأنه فرد آخر وكل فرد بخصوصيته مغاير للفرد الآخر. ولا يمكن تجريده عن الطرفين والوضع للكلي ، لتقوم المعنى بهما كما عرفت.

وبالجملة : ان لوحظ الطرفان انعدم الجامع ، وان لم يلحظ لم يكن الجامع من المعاني الحرفية فلا وجه لوضع الحرف له ، لأن المعنى الحرفي متقوم بالطرفين كما عرفت.

ثمرة المبحث :

وقد قررت بأنه مع الالتزام بعموم الموضوع له في الحروف يتصور الإطلاق والتقييد في معانيها ويظهر ذلك في موردين : أحدهما : الواجب المشروط ودوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة. والآخر : في مفهوم الشرط والاستدلال على ثبوته بإطلاق أداة الشرط - كما يقرر في محله -. وهذا بخلاف ما لو التزم بخصوص الموضوع له فانه لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد ، فيعلم بعدم رجوع القيد إلى الهيئة ، كما لا يمكن التمسك في إثبات المفهوم بإطلاق الأداة لعدم ثبوت الإطلاق فيها. وقرّرت بنحو آخر : وهو انه مع الالتزام بآلية المعنى الحرفي لم يصح الإطلاق فيه لاقتضاء الإطلاق والتقييد اللحاظ الاستقلالي لأنه حكم على الطبيعة وهو يقتضي لحاظ المحكوم عليه بالاستقلال.

وقد نوقش في التقرير الأول : بان خصوصية الموضوع له لا تنفي صحة

ص: 121

التقييد ، إذ العموم والإطلاق الأفرادي هو الّذي لا يتصور في الخاصّ دون الإطلاق الأحوالي فيمكن التقييد والإطلاق فيه بلحاظ الأحوال.

وفي التقرير الثاني : بأنه كثيرا ما يكون المعنى الحرفي ملحوظا بالاستقلال وأثرا للحكم بنفسه. وعليه فلا تظهر الثمرة بلحاظ الجهتين.

والتحقيق : انه مع الالتزام بان معاني الحروف إيجادية ومن سنخ الوجود يمتنع تصور الإطلاق والتقييد فيها ، لا من جهة خصوصية الموضوع له أو آليته ، بل من جهة ان الإطلاق من شأن المفاهيم ، لأن الإطلاق عبارة عن السعة في الصدق ، والتقييد التضييق في الصدق وهذا شأن المفاهيم - كلية كانت أو جزئية - دون الوجود غير القابل للصدق على شيء بالمرة ، بل ليس هو إلاّ نفسه. مضافا إلى انه يكون آليا ولا يتصور ان يكون استقلاليا في حال من الأحوال كما عرفت تحقيقه ، فالثمرة موجودة كما لا يخفى.

هذا كله بالنسبة إلى الحروف الداخلة على المفردات.

وأما الحروف الداخلية على الجمل كحروف التمني والترجي والاستفهام وغيرها فقد اتفق الجميع - تقريبا - على ان معانيها إنشائية إيجادية ، وقال بذلك من لا يلتزم بإيجادية معنى الحرف ووجه ذلك بان الجملة تكون بدخولها إنشائية.

وعليه ، فلا بد في تحقيق الحال فيها من معرفة مدلول الجملة الإنشائية وأختها الخبرية ، فنقول :

* * *

ص: 122

الإنشاء والإخبار

ذكر صاحب الكفاية رحمه اللّه ان الفرق بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية كالفرق بين الاسم والحرف في كونه خارجا عن دائرة الموضوع له ، فان كلا منهما موضوع للنسبة إلاّ انها ان قصد بها الاخبار كانت خبرية وان قصد بها إيجاد النسبة كانت إنشائية من دون أن يكون قصد الاخبار وقصد الإيجاد دخيلا في الموضوع له (1).

والّذي يظهر انه رحمه اللّه أخذ الموضوع له في الجملة الخبرية والإنشائية ونفس الاخبار والإنشاء مفروغا عنه ، وجهة الإشكال هو الفارق بينهما وان الإنشاء والاخبار دخيلان في معنى الجملة الخبرية والإنشائية أو لا؟ فأناط اللثام عن ذلك بما عرفت.

ولأجل تحقيق الحال ينبغي الكلام في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق معنى الاخبار والإنشاء.

والمقام الثاني : في تحقيق معنى الجملة الخبرية والإنشائية.

اما المقام الأول ، فتحقيق الكلام فيه : أن الاحتمالات المذكورة في معنى الإنشاء أربعة :

ص: 123


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : انه إيجاد المعنى باللفظ في نفس الأمر.

الثاني : انه إيجاد المعنى باللفظ بالعرض ، فلا يخرج عن حقيقة الاستعمال ، بل هو الاستعمال - كما يتضح فيما بعد -.

الثالث : انه إيجاد المعنى باللفظ في وعائه المناسب له.

الرابع : انه إبراز الصفات النفسانيّة باللفظ.

أما القول الأول : فهو مختار صاحب الكفاية وقد أسهب في بيانه في الفوائد ، وبيانه بتصرف : ان الإنشاء إيجاد المعنى في نفس الأمر لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج ، بخلاف الخبر فانه الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه ، والمراد من وجوده في نفس الأمر هو ما لا يكون بمجرد فرض فارض ، لا انه ما يكون بحذائه شيء في الخارج. فملكية المشتري للمبيع لم يكن لها أي ثبوت قبل إنشاء التمليك وانما ثبوتها لا يعدو الفرض كفرض إنسانية الجماد أو جمادية الإنسان ، ولكن بعد إنشائها حصل لها نحو ثبوت وخرجت عن مجرد الفرض وان لم يكن لها ما بإزاء في الخارج.

وبعبارة أخرى : ان المعنى بالإنشاء يوجد بوجود إنشائي ويحصل له نحو تقرر في عالم الإنشاء ، وهذا الوجود الإنشائي من سنخ الاعتباريات ، وإذا كان الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ بنحو وجود فعبر عنه بالوجود الإنشائي لم يختص الإنشاء بالمعاني الاعتبارية كالملكية ونحوها ، بل يعم المعاني الحقيقية الواقعية كالتمني والاستفهام فيمكن إنشاء الصفات النفسانيّة الواقعية كما يمكن إنشاء الأمور الاعتبارية ، إذ لم يعتبر في حقيقة الإنشاء إيجاد نفس المعنى في عالمه كي يتوقف في إمكان إنشاء مثل التمني من الأمور الواقعية لتبعية وجودها للأسباب التكوينية دون الإنشاء ، بل الإنشاء يتحقق ولو لم يكن للصفة الحقيقية وجود في الخارج أصلا ويترتب عليه آثاره لو كانت. كما انه لا يعتبر في الوجود الإنشائي ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه ، ولذلك لو أنشأ المعنى الواحد بلفظ

ص: 124

واحد مكررا لا يخرج كل منها عن الإنشاء ، وان لم يترتب على الأول أثر غير التأكيد في المورد القابل للتأكيد ، بل يوجد المعنى بكل إنشاء بوجود إنشائي مستقل غير الآخر ، ولا يكون من قبيل إيجاد الموجود كي ينفي كونه إنشاء كما تخيله الشهيد رحمه اللّه في القواعد (1) ونفي كون العقد المكرر إنشاء لعدم حصول الإيجاد به. ونظيره صدوره ممن لا يترتب على قوله أثر شرعا وعرفا كالمجنون إذا تأتى منه القصد ، فانه لا يخرج عن الإنشاء وان كان لغوا.

وبالجملة : فالإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي اعتباري غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع ولذلك كان خفيف المئونة ولا يتوقف على ترتب أثر عقلائي عليه ، كما انه يصلح لأن يسري في الصفات الحقيقية الواقعية ، ولا تتوقف صحته على ثبوت تلك الصفات في نفس الأمر والواقع في عالمها الخارجي (2).

ثم انه رحمه اللّه ذكر في فائدة أخرى ان الفرق بين الإنشاء والاخبار من جهتين :

إحداهما : ان مفاد الإنشاء مفاد كان التامة لا مفاد كان الناقصة كما هو مفاد الخبر.

ثانيتهما : ان مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد ان لم يكن ومفاد الخبر يحكى به بعد ان كان أو يكون.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (3). والّذي يتحصل منه انه يريد بالإنشاء إيجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي من قبيل الاعتباريات. فليكن على ذكر منك.

ص: 125


1- الشهيد الأول محمد بن مكي. القواعد والفوائد1/ 112 - قاعدة 86 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /285- المطبوعة ضمن الحاشية.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /289- المطبوعة ضمن الحاشية.

وأما القول الثاني : فهو الّذي اختاره المحقق الأصفهاني ، وادعى انه مراد صاحب الكفاية بتقرير إليك نصه : « ان المراد من ثبوت المعنى باللفظ ، اما ان يراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض ، واما ان يراد ثبوته منفصلا عن اللفظ بآلية اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى كل منهما بالذات ، لا مجال للثاني إذ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني والذهني وسائر أنحاء الوجود من اللفظي والكتبي وجود بالذات للفظ والكتابة. وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى. ومن الواضح أن آلية وجود اللفظ وعليته لوجود المعنى بالذات لا بد من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والعين ، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه. والواقع خلافه إذ لا يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقا للمعنى أو مطابقا لمنشإ انتزاعه ، ونسبة الوجود بالذات إلى نفس المعنى مع عدم وجود مطابقه أو مطابق منشئه غير معقول. ووجوده في الذهن بتصوره لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني والانتقال من سماع الألفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى مع ان ذلك ثابت في كل لفظ ومعنى ولا يختص بالإنشاء ، فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه الأول ، وهو ان ينسب وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأول وبالعرض في الثاني ، وهو المراد من قولهم : ان الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر وانما قيدوه بنفس الأمر مع ان وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضا بالعرض ، تنبيها على ان اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى تنزيلا في جميع النشئات ، فكأن المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود. والمراد بنفس الأمر حد ذات الشيء من باب وضع الظاهر موضع المضمر.

فان قلت : هذا المطلب جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون

ص: 126

اختصاص بالإنشائيات.

قلت : الفرق ان المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللفظ المنزل منزلتها ، وقد يتعلق غرضها بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللفظ المنزل منزلتها ، مثلا مفاد : « بعت » اخبارا وإنشاء واحد وهي النسبة المتعلقة بالملكية وهيئة « بعت » وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية القائمة بالمتكلم والمتعلقة بالملكية ، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها التنزيلي الجعلي اللفظي فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الإنشاء. وقد يقصد زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضا وهو الاخبار ، وكذلك في صيغة افعل وأشباهها فانه يقصد بقوله « اضرب » ثبوت البعث الملحوظ نسبة بين المتكلم والمخاطب والمادة فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي فيترتب عليه إذا كان من أهله وفي محله ما يترتب على البعث الحقيقي الخارجي مثلا. وهذا الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني الخبرية والإنشائية ، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها ، فانها كالإنشائيات من حيث عدم النّظر فيها الا إلى ثبوتها خارجا ثبوتا لفظيا ، غاية الأمر انها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الإنشائية المقابلة للمعاني الخبرية. وهذا أحسن ما يتصور في شرح حقيقة الإنشاء. وعليه يحمل ما أفاده أستاذنا العلامة لا على انه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدمة فانه غير متصور. ومما ذكرنا في تحقيق حقيقة الإنشاء تعلم ان تقابل الإنشاء والاخبار ليس تقابل مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة ، نظرا إلى ان الإنشاء إثبات المعنى في نفس الأمر والاخبار ثبوت شيء لشيء تقديرا وحكاية. وذلك لأن طبع الإنشاء كما عرفت لا يزيد على وجود المعنى تنزيلا بوجوده اللفظي وهو قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال ، فان القائل بعت اخبارا أيضا يوجد معنى اللفظ بوجوده العرضي اللفظي والحكاية غير متقومة بالمستعمل فيه ، بل خارجة

ص: 127

عنه فهي من شئون الاستعمال ، بل الفرق انهما متقابلان بتقابل العدم والملكة تارة بتقابل السلب والإيجاب أخرى ، فمثل : « بعت » وأشباهه من الجمل المشتركة بين الإنشاء والاخبار يتقابلان بتقابل العدم والملكة ، لأن المعنى الّذي يوجد بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لأن يحكى به عن ثبوت في موطنه ، فعدم الحكاية والتمحّض فيما يقتضيه طبع الاستعمال عدم ملكة ، ومثل « افعل » وأشباهه المختصة بالإنشاء عرفا يتقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، إذ المفروض ان البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها نظير البعث الخارجي ، غير البعث الملحوظ بعنوان المادية في سائر الاستعمالات كما سمعت منا في أوائل التعليقة ، فمضمون صيغة « اضرب » مثلا غير قابل لأن يحكى به عن ثبوت شيء في موطنه بل متمحض في الإنشائية ، وعدم الحكاية حينئذ من باب السلب المقابل للإيجاب ». هذا نصّ ما أفاده قدس سره في تعليقته على الكفاية وهو واضح لا يحتاج إلى توضيح (1). والكلام فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في صحة نسبة الوجه المذكور إلى صاحب الكفاية ، والتحقيق عدم الصحة لأنه خلاف ما هو الصريح لكلام صاحب الكفاية ، من ان المراد من نحو الوجود هو الوجود الاعتباري بحيث يكون الإنشاء من سنخ الاعتبار ، فنسبة إرادة الوجود بالعرض الساري في الجمل الخبرية والإنشائية إلى صاحب الكفاية لا وجه لها ، خصوصا بملاحظة ما يصرح به من ان هذا النحو من الوجود لا يتحقق بالجملة الخبرية.

وأما ما ذكره من الوجه في حمل كلام صاحب الكفاية على ذلك فهو لا يفي بذلك ، إذ لم يدع صاحب الكفاية ان المعنى يوجد بالذات بالإنشاء بوجود حقيقي مقولي كي يرد عليه ان الوجود بالذات ينحصر في الحقيقي والذهني.

ص: 128


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 113 - الطبعة الأولى.

والحقيقي لا يكون إلاّ إذا كان له ما بإزاء في الخارج أو له منشأ انتزاع له ما بإزاء وهو غير متحقق فيما نحن فيه. والذهني علته التصور لا اللفظ وهو سار في جميع الاستعمالات دون خصوص الاستعمال الإنشائي.

بل قد عرفت انه يريد من نحو الوجود الحاصل للمعنى بالإنشاء نحو وجود اعتباري ، فلا يرد عليه ما ذكر إذ الاعتبار خفيف المئونة ، وتحقق الوجود الاعتباري مما لا ينكره قدس سره ، كما انه يظهر بأنه لا وجه لحمل « نفس الأمر » على إرادة حد ذات الشيء وان اللفظ وجود للمعنى في جميع النشئات ، خصوصا بملاحظة تعرض صاحب الكفاية في كلامه إلى بيان المراد منه وانه إخراج الشيء عن مجرد الفرض. فتدبر.

الجهة الثانية : في تحقيق صحة هذا الوجه في نفسه وان لم يكن مرادا لصاحب الكفاية. والحق انه غير وجيه لوجهين :

الأول : انه لو كان الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ بلحاظ ان وجود اللفظ وجود للمعنى بالعرض ، بقيد ان لا يكون الغرض الحكاية عن الخارج أو الذهن ، بل الغرض كان في نفس هذا الوجود العرضي للمعنى ، لزم ان تكون الجملة الخبرية غير المستعملة بقصد الحكاية ، بل بداعي استمرار ارتكاز مدلولها في ذهن المخاطب بتكرارها بلا ان يقصد بها الحكاية ، إذ ليس الداعي الا عدم شرود هذا المعنى من ذهن المخاطب ، لزم ان تكون مثل هذه الجملة إنشاء على هذا القول ، مع انها لا تعد في العرف من الجمل الإنشائية كما لا يخفى.

الثاني : ان كون الإنشاء هو إيجاد المعنى عرضا بوجود اللفظ يبتني إمكانه الثبوتي على ثبوت كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، فيكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبذلك يكون وجوده وجودا للمعنى بالعرض ، إذ المنزل نحو وجود للمنزل عليه بالعرض والمسامحة ، فيمكن تصور ان يكون الإنشاء هو هذا النحو من إيجاد المعنى. ولكنك عرفت عدم ثبوت هذا المعنى

ص: 129

للوضع والمناقشة فيه وعدم ارتضائه حتى من المحقق الأصفهاني نفسه ، وكون الوضع هو اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى أو اعتبار اللفظ على المعنى أو غيرهما. ولا يخفى ان اللفظ لا يكون على هذا وجودا بالعرض للمعنى ، إذ طرف العلقة الوضعيّة لا يكون وجودا بالعرض لطرفها الآخر - نظير طرفي السلسلة المشدودين بها فان أحدهما لا يكون وجودا للآخر بالعرض ، والوضع كذلك فانه عبارة عن ربط اللفظ والمعنى برابط وجعل كل منهما طرفا للارتباط - ، وإلاّ لكان المعنى وجودا بالعرض للفظ ، ولا يلتزم به أحد.

وبالجملة : فأساس هذا المعنى للإنشاء وهو كون اللفظ وجودا للمعنى بالعرض غير ثابت فلا : تتجه دعوى ان الإنشاء هو هذا النحو من إيجاد المعنى وأما ما ذكره صاحب الكفاية : فالالتزام به يتوقف على نفي المحذور فيه ثبوتا وإثباتا.

اما المحذور الثبوتي : فلم يتعرض أحد إلى بيان محذور ثبوتي فيه ، ولعله لأجل عدم اهتمامهم فيما ذكره رحمه اللّه أو صرفه إلى معنى غير ما ذكرناه. نعم يمكن استفادة دعوى المحذور الثبوتي في الجهة الثانية في البحث ممن يدعي ان الجمل الإنشائية لها من المعنى ما لا يتلاءم مع تفسير الإنشاء بما فسره به صاحب الكفاية ، فتنقيح وجهة النّظر فيه نوكلها إلى الجهة الثانية.

وأما المحذور الإثباتي : فمعرفة وجوده وعدمه تتوقف على ذكر القولين الآخرين ومعرفة أيها التام ، فان في بطلان الأقوال الأخرى ومعقولية قول الآخوند مؤيدا له وترجيحا للالتزام به كما لا يخفى.

وأما القول الثالث : فهو المشهور في تفسير الإنشاء ، ومحصله كما أشرنا إليه : هو أن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ في عالم الاعتبار العقلائي ، بمعنى ان المعنى الاعتباري في نفسه يوجد له فرد حقيقي بواسطة اللفظ ، فيكون إلقاء اللفظ سببا للتحقق اعتبار العقلاء للمعنى. فالإنشاء هو التسبيب

ص: 130

باللفظ إلى الاعتبار العقلائي للمعنى. فيتفق مع قول صاحب الكفاية في انه إيجاد للمعنى بنحو وجود وفي عالم آخر غير عالم اللفظ أو الخارج أو الذهن. لكنه يختلف عنه في ان وجوده على اختيار صاحب الكفاية نحو وجود إنشائي من سنخ الاعتباريات بحيث يختلف عن سائر الاعتباريات ، فالملكية بإنشائها ب- : « ملكت » توجد - على اختيار صاحب الكفاية - بوجود إنشائي اعتباري غير وجودها الاعتباري في نفسها وفي وعائها المفروض لها. واما على هذا القول فهي توجد بوجودها الاعتباري الثابت لها في حد ذاتها ، وتتحقق في وعائها المقرر لها وهو عالم الاعتبار العقلائي.

والثمرة الفقهية المترتبة على كلا القولين تظهر فيما يحرر من بطلان الصيغة مع التعليق ، وانه يعتبر في صحة العقد أو نفوذه تنجيزه ، ويستثنى من ذلك ما إذا كان التعليق قهريا فانه لا يضر التعليق عليه وعدمه ، بل لا ثمرة فيه بعد ان كان قهريا وذلك كالتعليق على رضا المالك في بيع الفضولي ، فان الأثر بحسب اعتبار العقلاء انما يترتب مع رضا المالك فالإنشاء لا ينفذ الا على تقدير الرضا.

وجه ظهور الثمرة في هذا المبحث : انه إذا التزم بان معنى الإنشاء ما هو المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائي ، يتصور حينئذ قهرية تعليق هذا على أمر ما ، كما لو كان الاعتبار العقلائي متوقفا على شيء - نظير المثال السابق - ، واما لو التزم بان معناه ما اختاره صاحب الكفاية من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائي ، فلا يتصور فيه قهرية التعليق على شيء لأنه مرتبط بنفس المنشئ - بمعنى ان هذا الوجود الإنشائي وان كان عقلائيا إلاّ انه بقصد الإنشاء فارتباطه بالمنشئ - لا بالعقلاء كي يتوقف عندهم في بعض الصور على شيء ما ، لأن ما يقصد إيجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباري العقلائي ، بل المقصود إيجاده هو المعنى

ص: 131

بوجود إنشائي غير وجوده في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره ، وذلك لا يتوقف على شيء من رضا المالك ونحوه كما لا يخفى.

وبالجملة : فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقق مصداق لصورة التعليق القهري ، بخلاف ما لو التزم بمختار صاحب الكفاية ، فيلتزم ببطلان العقد مع التعليق - على القول بالبطلان مع التعليق - مطلقا بلا استثناء. فلاحظ ثم انه قد يستشكل في الالتزام بما هو المشهور من جهتين :

الأولى : انه يلزم اختصاص الإنشاء بما كان وعاؤه الاعتبار كالعقود والإيقاعات ، لمعقولية التسبيب لإيجادها واعتبارها من العقلاء. ولا يشمل ما كان من الأمور الحقيقية الواقعية التكوينية التي لها ما بإزاء في الخارج ، كبعض الصفات النفسانيّة مثل التمني والترجي والطلب والاستفهام ، لأن وجودها في وعائها تابع لتحقق أسبابها التكوينية سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق ، إذ ليست هي من الاعتباريات التي تدور مدار الاعتبار وجودا وعدما ، فلا معنى للتسبيب لإيجادها باللفظ كما لا يخفى. مع ان عدها من الإنشائيات وكون صيغها من الجمل الإنشائية مما لا ينكر ويخفى.

الثانية : ان معرفة تحقق الاعتبار العقلائي تكون بترتيب الآثار من العقلاء عليه ومعاملته معاملة الثابت حقيقة لو تصور له ثبوت حقيقي. ومع عدم ترتب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار ، لأنه يلغو مع عدم ترتيب الأثر.

وعليه ، فيلزم عدم تحقق الإنشاء في المورد الّذي يعلم بعدم ترتيب الأثر ، لعدم تحقق قصد التسبيب من المنشئ مع علمه بعدم تحقق المسبب ، والمفروض تقوم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائي. وذلك يستلزم خروج موارد متعددة عن الإنشاء مع عدها عرفا إنشاء بلا كلام.

منها : الإنشاء المكرر والصيغ المتكررة ، لوجود المعنى في عالم الاعتبار بأول إنشاء ، فلا يوجد بالإنشاء الثاني والثالث ، إذ لا يوجد المعنى في عالم

ص: 132

الاعتبار العقلائي مرة ثانية مع فرض ثبوته للغوية الاعتبار ثانيا.

ومنها : بيع الغاصب ، فانه يعلم بعدم ترتيب الأثر على إنشائه.

ومنها : بيع الفضولي مع علمه بعدم لحوق الإجازة ، فان العقلاء لا يعتبرون الملكية بأثر إنشائه.

ومنها : بيع غير المقدور تسليمه عادة.

ومنها : المعاملة الغررية.

وغير هذه الموارد مما لا يترتب الأثر العقلائي على الإنشاء مع صدقه عرفا ، ولذلك يقال : لا يصح إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبي وهكذا.

ولا يخفى ان هاتين الجهتين لا تردان على مختار صاحب الكفاية ، إذ الإنشاء على مختاره إيجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي لا في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره ، فيمكن تحقق هذا الإيجاد وقصده بلا توقف على تحققه في عالم الاعتبار العقلائي كي ينتفي في مورد لا يتحقق فيه الاعتبار من العقلاء. ولغويته مع عدم الأثر العقلائي ولا تنفي صحة تحقيقه. كما انه يمكن ان يطرأ على الصفات الحقيقية ، إذ يمكن ان توجد بوجود إنشائي غير وجودها الحقيقي وفي وعائها المقرر لها ، فلا يقال : ان تحقق هذه الصفات في وعائها تابع للأسباب التكوينية ولا يرتبط باللفظ والاعتبار ، إذ ليس المقصود بإنشائها تحققها في وعائها بل تحققها بتحقق إنشائي اعتباري في غير وعائها. وقد أشرنا إلى ذلك في بيان كلامه ، وقد تعرض هو إلى الإنشاء المكرر باعتبار. فراجع (1).

وقد تفصى (2) عن الإشكال من الجهة الأولى - أعني اختصاصه بالاعتباريات - بان معنى الإنشاء ليس هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد إيجاده

ص: 133


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /287- المطبوعة ضمن الحاشية.
2- المتفصي هو المدقق الشيخ هادي الطهراني ( قده ).

في عالم الاعتبار ، بل استعماله لا بقصد الحكاية ، سواء قصد به الإيجاد أو لم يقصد ، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الإيجاد.

واما الإشكال من الجهة الثانية - أعني لزوم خروج بعض الإنشائيات عن الإنشاء - فقد أجيب عنه في مورد الصيغ المكررة بالالتزام فيما لا يقبل التأكيد والشدة والضعف كالملكية ، بلغوية الإنشاء الآخر وانه لا يعد إنشاء. وفيما يقبل الشدة والضعف كالطلب ونحوه ، بان الإنشاء الآخر تأكيد للأول بحيث يكون كل منهما دالا على مرتبة ما من الإرادة والطلب فيتأكد ولا يكون لغوا (1).

وأما بيع الغاصب فقد أجيب عن الإشكال به بما ذكره الشيخ في بعض كلماته في المكاسب : من ان الغاصب وان علم بعدم ترتب الأثر العقلائي على تمليكه لعدم كونه مالك المال ، إلاّ انه حيث يكون في مقام الإنشاء يدعي لنفسه الملكية ويبنى على انه هو المالك ومن له حق التصرف من باب الحقيقة الادعائية. وعليه فيترتب عليه ما يترتب على المالك من إمكان قصد الإيجاد ولو لم يتحقق الإيجاد حقيقة. وهذا الجواب لا يتأتى في بيع الفضولي لأنه لا يدعي لنفسه الملكية كالغاصب ، فيبقى الإشكال من جهته على حاله ، كما يبقى الإشكال في الموارد الأخرى.

والتحقيق انه يمكن دفع الإشكال في سائر الموارد ، بان يقال : انه ليس المراد من الإنشاء هو استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في عالمه على ان يكون إيجاد المعنى بمنزلة الداعي - ويراد من القصد معنى الداعوية - ، كي يقال باقتضاء ذلك ترتب الإيجاد على الإنشاء مباشرة وفعلا كما هو شأن كل داع ، فانه سابق بوجوده التصوري متأخر بوجوده العيني الخارجي ومترتب فعلا على

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /287- المطبوعة ضمن الحاشية.

الفعل. فيقع الإشكال حينئذ في بعض الموارد الإنشائية لتخلف الإيجاد عن الإنشاء ، بل المراد به استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى في وعائه المقرر له. والمقصود به ان يكون المنشئ بإنشائه في هذا المقام وبهذا الصدد - لا أن يكون غرضه ذلك - فينشئ ما يقتضي الإيجاد لو انضم إليه سائر ما له دخل في تحقق المعنى ، فان كان ذلك ثابتا حال الإيجاد أو لم يكن هناك ما يتوقف ترتب الأثر على انضمامه تحقق المعنى فعلا ، وإلا روعي في تحققه ثبوت ما له دخل فيه ، فالإنشاء ليس دائما علة تامة لترتب الأثر وللإيجاد كي يرد الإشكال المذكور ، بل قد يكون جزء العلة للإيجاد فيترتب عليه الأثر مع انضمام سائر ما له دخل في التأثير ، ويوجد المعنى المنشأ في وعائه بعد انضمامها ، فالتعبير بالقصد في تفسير الإنشاء بلحاظ تأثيره ودخالته في ترتب الأثر اما بنفسه أو مع غيره وإطلاق القصد في مثله متعارف لا بلحاظ انه علة تامة لتحققه كي يشكل عند تخلف الأثر في صدق الإنشاء ، ولو عبّر بأنه استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى كان أوضح. واندفاع الإشكال - على هذا التوجيه لكلام المشهور - في موارد الجهة الثانية واضح.

أما في الإنشاء المتكرر فلان المنشئ العاقل انما ينشئ ثانيا بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار لو لم يكن الإنشاء الأول كافيا في تحققه لاحتمال تحقق الخلل فيه. ولا يفرق في ذلك بين ما يقبل الشدة والضعف فيؤكد وما لا يقبل كما لا يخفى.

وأما في بيع الغاصب والفضولي ، فلأنهما ينشئان ما يقتضي الإيجاد لو انضم إليه رضا المالك فيتحقق منهما القصد بالمعنى الّذي ذكرناه ويكونان في مقام الإيجاد. وهكذا الحال في سائر موارد الإشكال.

نعم لا يندفع بهذا التوجيه الإشكال من الجهة الأولى ، فان الإنشاء يختص بما كان المعنى المنشأ من المعاني الجعلية الاعتبارية لا الواقعية التكوينية

ص: 135

كالتمني وغيره ، إذ لا معنى لجعلها واعتبارها ، بل وجودها يتبع أسبابها التكوينية اعتبرها معتبر أولا. والتوجيه المزبور لم ينظر فيه إلى هذه الجهة من الإشكال ، بل النّظر فيه متركز على الجهة الأخرى.

وعلى أي فلا ضير في خروج الصيغ الدالة على التمني وغيره مما يشاكله عن الإنشاء وليس هو بمحذور فسيأتي تحقيق الحال فيها.

وإذا تبين عدم ورود أي إشكال في الوجه المشهور للإنشاء دار الأمر بينه وبين مختار صاحب الكفاية.

والّذي يقرب الالتزام به ويبعد مختار صاحب الكفاية : انه لا دليل لما ذكره صاحب الكفاية إثباتا ، بل هو وجه ثبوتي صرف لا شاهد له في مقام الإثبات ، بل ظاهر المرتكز من ان المنشئ ينشئ نفس المعنى قاصدا إيجاده في وعائه المناسب له بحيث يرى نفسه بمنزلة موجد السبب للأمر التكويني ، لا انه ينشئه لإيجاده في عالم غير عالمه ثم يترتب عليه وجوده في عالمه الخاصّ.

ظاهر ذلك إثبات الرّأي المشهور ونفي رأي صاحب الكفاية ، وبذلك يترجح التفسير الثالث على التفسير الثاني (1).

ص: 136


1- لا يخفى انه قد وقع الاتفاق على ان للإنشاء نحو ثبوت قبل تحقق شرائط فعليته ، فللحكم ثبوت قبل تحقق شرط الفعلية ، وهو المعبر عنه بالحكم الكلي في قبال عدمه ، وللملكية نحو وجود بمجرد الإنشاء قبل فعليتها واعتبارها من العقلاء أو الشارع ، وهذا أمر وجداني يعترف به كل أحد على الاختلاف في المراد في الإنشاء. وهذا ما نعبّر عنه بالوجود الإنشائي وبملاحظة هذه الجهة يمكن ان ننفي سائر الأقوال في الإنشاء. اما القول الأول : فمقتضاه انعدام الإنشاء بتصرم اللفظ ، لأن ما به وجود المعنى هو اللفظ والمفروض تصرمه ، الّذي ينافي ما قلناه من وجود المنشأ بنحو مستمر. واما قول المشهور : فلان ثبوته يتوقف على تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي في وعائه المناسب له. وهذا قد يتوقف على شرائط خاصة ، فإذا لم تتوفر لم يتحقق الاعتبار للمنشإ وهو خلاف للوجدان ، لصدور البيع والتمليك عند عقد الفضولي مع الجزم بعدم تحقق الإجازة فضلا عن عدم تحققها فعلا. واما القول الرابع : فان مقتضاه انه لو رفع المنشئ يده عن اعتباره يرتفع المنشأ ، مع ان إجازة المالك تتعلق ببيع الفضولي وعدمه ولو مع رفع الفضولي يده عما أنشأه ، فلو لم يكن الوجود الإنشائي غير الاعتبار الشخصي لم يكن معنى صحيح لتعلق الإجازة بالبيع الفضولي إلا وجود لشيء حال الإجازة على بعض الأقوال.

وأما القول الرابع : - فهو الّذي التزم به السيد الخوئي ( دام ظله ) - وهو كون الإنشاء إبراز ما في النّفس من الصفات من اعتبار أو غيره بواسطة اللفظ (1).

وقد قرب مدعاه بنفي ما ذهب إليه المشهور ، بدعوى ان الاعتبار الشخصي بيد المعتبر نفسه فلا يناط باللفظ ، والاعتبار العقلائي يتوقف على استعمال اللفظ في المعنى فلا بد من تشخيص المعنى. هذا مع ان من الأمور الإنشائية ما لا يقبل الاعتبار كالتمني والترجي ونحوهما من الصفات الحقيقة.

ولا يخفى ان توقف الاعتبار العقلائي على استعمال اللفظ في معنى لا يلازم فرض الإنشاء كما ذكره ، إذ يمكن ان يفرض ان معنى الهيئة هو قصد الإيجاد كما التزم في الهيئة الخبرية بان معناها قصد الحكاية ، فإذا استعملت الهيئة الإنشائية في قصد الإيجاد ترتب عليه الاعتبار العقلائي ، فلا يلزم فرض الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ. فتدبر.

وقد خلط في مقام تعريفه بين المقام الثاني - أعني معنى الجملة - والمقام الأول ، حيث ادعى ان الصيغ الإنشائية وضعت لإبراز الصفات الموجودة في النّفس وان الأثر انما يترتب عليها مع إبرازها لا عليها فقط ولو لم تبرز. والّذي يستفاد من كلامه ان الشخص يتحقق منه الاعتبار - مثلا - ثم يبرزه بالصيغة. فالإنشاء عنده هو نفس الاعتبار أو ان الاعتبار مقوم للإنشاء.

ولذلك يرد عليه :

ص: 137


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 93 - الطبعة الأولى.

أولا : ان الاعتبار الشخصي وان التزم به بعض الأكابر ، إلا انه لا أساس له ولا وجه بعد إمكان التوصل إلى الاعتبار العقلائي باللفظ مباشرة كما هو مقتضى الرّأي الثالث المشهور ، إذ لم يثبت فيه أي محذور ، فالاعتبار الشخصي بعد هذا يكون لغوا محضا وليس بذي أثر. نعم لو فرض امتناع الاحتمال الثالث وثبوت المحذور فيه أمكن دعوى صحة الاعتبار الشخصي من باب انه يكون موضوع الاعتبار العقلائي ، لكن عرفت انه لا محذور فيه.

وثانيا : ان معنى الاعتبار هو بناء المعتبر على ما اعتبره ، فيقال عند اعتبار العقلاء الملكية لزيد انهم بنوا على انه مالك وانهم يرونه مالكا. ونحو ذلك من التعبيرات المرادفة ، وعليه فاعتبار الشخص زيدا مالكا - عند إرادة بيعه شيئا - معناه انه بنى على انه مالك وبعد ذلك يبرز هذا الاعتبار باللفظ.

وهذا المعنى يخالف الوجدان والضرورة ، فان الشخص قبل التلفظ بالصيغة لا يبني على ان زيدا مالك ولا يرتب آثار الملكية عليه في نفسه ولا ينظر إليه نظر المالك بل هو يقصد تمليكه بالصيغة بحيث يبني على مالكيته بعد ذكرها لا قبله كما لا يخفى.

وثالثا : ان من المعاني الإنشائية ما لا يقبل الجعل والاعتبار أصلا كالإنفاذ ، فان نفوذ المعاملة معناه تأثيرها وترتب الأثر المرغوب عليها ، والتأثير غير قابل للاعتبار لما قرر في منع جعل السببية ونحوها من الأمور الانتزاعية ، من انها ان جعلت بنفسها بلا جعل المسبب كان ذلك منافيا للسببية ، لأن معناها تحقق المسبب عند وجود السبب ، وان جعل المسبب استغني عن جعلها بجعله لتحققها قهرا لانتزاعها عن وجود المسبب عند وجود السبب. والنفوذ مثل السببية من الأمور الانتزاعية ، بل هو في معناها لأنه عبارة عن تأثير العقد في المسبب ، فاعتباره ممتنع ، بل المجعول انما يكون هو الأثر وينتزع من جعله التأثير والنفوذ. ولا يخفى ان إجازة المعاملة الفضولية قد تكون بلفظ : « أنفذت » ، وهو - أعني

ص: 138

الإنفاذ - لا يقبل الاعتبار كما عرفت ، فيلزم أن لا تكون إنشاء على هذا التفسير مع ان كون الإجازة من الإنشائيات مما لا يخفى.

واما لو كانت بلفظ القبول مثل : « قبلت » فالإيراد لا يتأتى ، إذ قد يدعى بان الاعتبار تعلق بنفس المسبب ، والمنشأ هو نفسه لا التأثير والسببية. بدعوى : ان القبول عرفا في معنى الإقرار الإقرار بالتمليك الحاصل وجعل طرفه نفسه لا المنشئ الفضولي ، فيكون إنشاء التمليك مباشرة.

وبالجملة : من مجموع ما ذكرنا ومما سيأتي من الإشكال على معنى الصيغة الإنشائية يحصل الجزم بعدم صحة هذا الاختيار. هذا مع انه ( حفظه اللّه ) لم يتعرض لنفي ما ذكره صاحب الكفاية وإبطاله ، وانما تعرض لنفي المذهب المشهور خاصة ، وهذا على خلاف أسلوب التحقيق.

فالمتعين في معنى الإنشاء من بين الآراء هو الرّأي الثالث المشهور بين الاعلام لارتكازه في الأذهان.

هذا كله في الإنشاء. واما الاخبار فلا خلاف في معناه ، وانه هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد الحكاية عن ثبوته في موطنه ووعائه من ذهن أو خارج.

وأما المقام الثاني : فتحقيق الكلام فيه : انه قد نسب إلى المشهور دعوى كون الموضوع له الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج ، فمدلولها ثبوت النسبة في الخارج أو لا ثبوتها. فالثبوت معنى الجملة الإيجابية وعدم الثبوت معنى الجملة السلبية.

وأورد السيد الخوئي على ذلك بوجهين :

الأول : ان مقتضى كون مدلول الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها حصول العلم بثبوتها أو عدمه بمجرد إطلاق الجملة ، مع ان الوجدان قاض بعدم ذلك ، وانه لو لا القرائن الخارجية أو الاطمئنان الشخصي بصدق المخبر لا يحصل العلم من الجملة لو خليت ونفسها ، بل لا يحصل الظن.

ص: 139

والتفصي عنه بان وضع الجملة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها لا يقتضي سوى تصوره وانتقال الذهن إليه عند إطلاق الجملة كالوضع للمفردات ، إذ العلم الّذي يقتضيه الوضع انما هو العلم التصوري لا التصديقي. وحصول تصور ثبوت النسبة أو لا ثبوتها عند إطلاق الجملة لا يكاد ينكر من أحد.

مندفع : بما تقرر من ان دلالة الجملة على معناها تختلف عن دلالة الألفاظ المفردة ، فان دلالة الألفاظ المفردة تصورية ، ودلالة الجملة تصديقية ، والتصديق يعتبر فيه العلم والإذعان ، فمقتضى وضع الجملة لثبوت النسبة - بضميمة كون دلالتها على معناها تصديقية - حصول العلم التصديقي بثبوت النسبة في الخارج عند إطلاق الجملة ، وقد عرفت عدم حصوله.

الثاني : ان الوضع كما عرفت تحقيقه عبارة : عن التعهد بشيء عند ذكر اللفظ ، ولا يخفى ان التعهد لا بد ان يتعلق بأمر اختياري يمكن فعله للمتعهد ، وعليه فيمتنع الوضع لثبوت النسبة ، لأن مقتضاه تعهد الواضع ثبوت النسبة في الخارج عند ذكر الجملة ، وثبوت النسبة ليس من الأمور الاختيارية فلا يصح تعلق التعهد به.

ولأجل ورود هذين الإشكالين عدل عن اختيار المشهور إلى اختيار كون الموضوع له الجملة الخبرية قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والحكاية عنها ، وهو امر اختياري يمكن تعلق التعهد به ، كما ان الدلالة تكون تصديقية ، إذ بإطلاق الكلام وإلقائه يعلم بان المتكلم يقصد الحكاية والاخبار.

فيمكن الالتزام بهذا الرّأي بلا ورود المحذورين السابقين ، واختيار كون الموضوع له الجملة الإنشائية إبراز الصفات النفسيّة من طلب أو تمن أو اعتبار شيء ، فالصيغ الخبرية والإنشائية تتفقان في كون الموضوع له هو إبراز شيء ، وان لهما دلالة تصديقية إلا انهما يختلفان ، في ان موضوع الإبراز في الخبرية امر يحتمل فيه التحقق وعدمه ويحتمل فيه الصدق والكذب ، والمنظور في ما يقال من ان

ص: 140

الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب هو هذا المعنى ، وإلاّ فنفس مدلول الجملة غير قابل للصدق والكذب. بخلافه في الإنشائية فانه لا يحتمل فيه ذلك.

ويتلخص الفرق بين هذا الالتزام وبين الالتزام الآخر في امرين :

الأول : ان الموضوع له على هذا الالتزام هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة. واما الموضوع له على الالتزام الآخر فهو نفس النسبة أو ثبوتها المحكي عنه.

الثاني : ان قصد الحكاية على الالتزام الآخر يكون بمنزلة داعي الداعي للاستعمال ، إذ الداعي الأول للاستعمال هو تفهيم النسبة وإيجاد صورة النسبة في الذهن ، وهذا التفهيم والإبراز ، تارة يكون بداعي الحكاية عنه ، وأخرى يكون بداعي الاستهزاء - مثلا - فداعي الحكاية يكون داعيا إلى التفهيم الّذي هو داع للاستعمال.

واما على هذا الالتزام فهو الداعي الأولي للاستعمال والتكلم ، إذ يوضع الكلام لأمر آخر غيره ، فلاحظ (1).

والكلام مع السيد الخوئي يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في تمامية ما ساقه سببا للعدول من تعريف المشهور للجملة الخبرية واختيارهم في الموضوع له الجملة وعدم تماميته ، والحق انه غير تام.

أما الوجه الأول : فلأن المراد من كون دلالة الجملة الخبرية تصديقية ليس انها بإلقائها توجب الإذعان بالنسبة ، بل ان مدلولها أمر لو تعلق به العلم كان تصديقيا ، بخلاف مدلول المفردات فانه لا يتعلق به الإذعان أصلا.

ويشهد لما ذكرناه : انهم لا يلتزمون بان دلالة الجملة الإنشائية تصديقية ، حتى من يلتزم بما التزم به السيد الخوئي من وضع الصيغ الإنشائية للطلب ونحوه.

ص: 141


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 85 - الطبعة الأولى.

فانه لو كان المراد من الدلالة التصديقية ما ذكره من حصول العلم بمدلولها بإلقائها لم يصح الالتزام به إلاّ بالالتزام بالوضع لتفهيم النسبة لا نفس النسبة ، والالتزام بذلك يقتضي الالتزام بتصديقية الدلالة في الجملة الخبرية والإنشائية ، وقد عرفت انهم لا يلتزمون بذلك في الجملة الإنشائية ، فيكشف عن كون المراد من الدلالة التصديقية معنى غير ما ذكر ، وهو ما بيناه.

وأما الوجه الثاني : فلأنه - مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل المبنى. وتقريبه بنحو آخر أوجه منه وان لم يسلم عن الإشكال أيضا ، وهو جعل متعلق التعهد ذكر اللفظ لا المعنى فراجع - منقوض بالوضع للمفردات ، فان الذوات والطبائع التي توضع بإزائها الألفاظ غير اختيارية للواضع المتعهد ، فيمتنع الوضع له بمقتضى كون الوضع هو تعهد المعنى عند ذكر اللفظ ، لاستلزامه تعلق التعهد بأمر غير اختياري وهو ممتنع.

وبتعبير آخر : ان متعلق التعهد ان كان لا بد ان يكون نفس الموضوع له فلا بد ان يكون اختياريا ، انتقض ذلك بالوضع للمفردات من الذوات والطبائع ونحوهما. وان لم يلزم ان يكون هو الموضوع له ، بل متعلقه قصد تفهيم المعنى ، وذلك يصحح كون المعنى هو الموضوع له كما هو المفروض ، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه - أعني الجملة الخبرية - ، فيكون المتعهد به قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والموضوع له نفس ثبوت النسبة ، كما كان المتعهد به في لفظ : « زيد » لذاته قصد تفهيم الذات والموضوع له نفس الذات ، فلاحظ جيدا.

الجهة الثانية : في صحة ما اختاره معنى للجملة الخبرية والإنشائية وعدم صحته.

والحق عدم تماميته أيضا.

أما عدم صحة ما اختاره للجملة الخبرية من معنى ، وهو كونه قصد الحكاية عن ثبوت النسبة وانها موضوعة لإبراز هذا القصد دالة عليه وعلى كون

ص: 142

المتكلم في مقام الاخبار. فلوجهين :

الأول : تخلفه في بعض الصيغ الخبرية غير المستعملة في قصد الحكاية عن مدلولها ، كجملة : « أن زيدا قائم » في قول القائل : « سمعت أن زيدا قائم » ، فان مجموع الجملة اخبار عن السماع بقيام زيد إلاّ ان جملة : « ان زيدا قائم » غير مقصود بها الحكاية عن ثبوت النسبة بين : « زيد » و: « قائم » ، بل هي دالة على ثبوت النسبة فقط ، وهي بهذا اللحاظ كانت متعلقا للسماع ، وبهذا الاعتبار صح الاخبار عن السماع بها. لأن متعلق السماع هو النسبة والمقصود الحكاية عن السماع بها ، فلو لم تكن دالة على النسبة لم يتم الكلام ، إذ ليس ما يدل على النسبة غيرها ، وكقوله « أخبرني بكر بان عمرا قائم » ، وهو يعلم بكونه زيدا ، فانه ليس بصدد الاخبار عن قيام عمرو ، مع ان جملة « ان عمرا قائم » مستعملة في معناها قطعا.

وكالاستعمالات الكنائية ، فان المقصود الحكاية عن اللازم دون الملزوم مع دلالة الجملة على الملزوم فلو لم تدل على الملزوم وهو ثبوت النسبة الملزومة لنسبة أخرى المقصود الحكاية عنها لما صحت الكناية.

والحاصل : ان من الجمل الخبرية ما لا يستعمل في قصد الحكاية ، بل لا يدل إلاّ على النسبة ، فمقتضى الالتزام المذكور عدم كونها من الجمل الخبرية مع انها كذلك بلا كلام وتوقف.

يضاف إلى ذلك ، أولا : ان نتيجة الوضع لمعنى هو حكاية اللفظ عنه وتفهيمه به وإبرازه به ودلالته عليه ، فلو كان الموضوع له الجملة الخبرية هو قصد الاخبار كان مدلولها ذلك بحيث يكون المحكي بها هو قصد الحكاية ، وذلك مخالف لما عليه الوجدان والعرف ، فان العرف يرى ان مدلول الجملة الخبرية هو ثبوت النسبة لا قصد الاخبار عنها ، فيرى ان المتكلم حكى عن ثبوت النسبة لا انه حكى قصد الحكاية عن ثبوت النسبة ، بل هذا المدعى يمكن ان يستفاد

ص: 143

من كلامه هو ، حيث صرح بان المتكلم يقصد الحكاية عن ثبوت النسبة بالجملة.

وثانيا : ان الدليل الّذي ساقه لاختيار هذا الوجه هو دعوى انه يستفاد عند إطلاق الجملة الخبرية كون المتكلم في مقام الاخبار وانه يقصد الحكاية. ونظير هذا موجود في استعمال الألفاظ المفردة ، فان المتكلم إذا أطلق اللفظ المفرد يفهم انه في مقام تفهيم معناه وإبرازه ، فلما لم يلتزم في المفردات بأنها موضوعة لقصد تفهيم المعنى كما التزم بذلك في الجملة الخبرية؟ ، وانما التزم بأنها موضوعة لذات المعنى لكن مقيدة بتعلق الإرادة والقصد.

ولو أراد ان يلتزم بان الموضوع له في المفردات هو قصد التفهيم والإبراز كما لا تأباه بعض عبارات بعض تقريراته (1) ، للزم ان يلتزم ان الدلالة في باب المفردات تصديقية أيضا كما في باب الجمل ، لوحدة الملاك وهذا مما لا يلتزم به.

فيكشف ذلك عن ان ما استند إليه في إثبات مدعاه غير مجد وانه لازم أعم للوضع فلا يكشف عن الوضع.

وثالثا : ان النسبة المقصود تفهيمها معنى من المعاني التي تحتاج إلى وضع شيء لها ، فإذا كانت الجملة موضوعة لقصد تفهيمها فما هو الموضوع لها؟.

الثاني : ان المتصور في قصد الحكاية الموضوع له الصيغة أمور ثلاثة : أحدها : التصميم والعزم على الاخبار. ثانيها : كون المتكلم بصدد الاخبار وفي مقام الحكاية. ثالثها : كونه قاصدا الحكاية والاخبار بهذه الجملة بحيث يكون الاخبار والحكاية داعيا لذكر الجملة. ومراد القائل هو الثالث دون الأولين ، لأنه يذهب إلى انه بالقصد المذكور يكون الكلام خبرا وفردا من افراد الاخبار ، مع انه قد لا يترتب مباشرة على أصل العزم أو كونه في مقام الاخبار استعمال الصيغة الخبرية بل يستعمل الصيغة الإنشائية ولا يكون اخبارا بلا كلام. فالمتعين هو

ص: 144


1- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 59 - الطبعة الأولى.

الثالث ، فانه المساوق لاستعمال الجملة الخبرية وبه تكون الجملة من افراد الاخبار ، ومصداقا للخبر. ولا يخفى ان الداعي ما يكون بوجوده الذهني سابقا وبوجوده الخارجي لاحقا مترتبا على الشيء بلا فصل. فإذا كانت الحكاية المأخوذة في معنى الجملة الخبرية من قبيل الداعي فلا بد من فرض كون الحكاية عن ثبوت الجملة للنسبة امرا يترتب على الجملة في نفسه كي يكون داعيا إلى الاستعمال ، ويكون الاستعمال بلحاظه ، وهذا انما يتلاءم مع الوضع لنفس ثبوت النسبة لا لقصد الحكاية ، إذ بعد فرض كون القصد هاهنا بمعنى الداعي فلا بد ان يفرض مدلول الجملة أمرا غير القصد يكون مدعاة للاستعمال وموضوعا للقصد.

وقد يقال : إذا كان الموضوع له هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة كان ثبوت النسبة قيد الموضوع له ، فصح ان يكون داعيا ولو بلحاظ دلالة الكلام عليه بالالتزام وبتبع دلالته على المقيد به وهو نفس القصد.

لكنه غير وجيه : لأن ما أخذ قيد الموضوع له هو ثبوت النسبة بنحو الإطلاق وبلا تقييده بنسبة خاصة. والداعي الباعث للاستعمال هو تفهيم النسبة الخبرية الخاصة ، لوضوح تفاوت أنحاء النسب وتفاوت الجمل في الدلالة عليها ، فنحو النسبة المدلول عليها بجملة : « قام زيد » غير نحو النسبة المدلول عليها بجملة : « زيد قائم » أو « ان زيدا قائم ». فالمدلول عليه بالالتزام هو كلي النسبة وهو لا يصلح للداعوية ، فلا يمكن فرض كون الداعي الحكاية عن النسبة الخبرية الخاصة إلاّ بفرض قابلية الكلام بنفسه لتفهيمه في مرحلة سابقة على الداعوية ، وهو يقتضي الوضع لثبوت النسبة.

ومن هنا تتضح تمامية الإيراد على الوجه المزبور - أعني الوجه في وضع الجملة الخبرية - بأنه نرى بالوجدان بأنه عند إطلاق جملة : « زيد قائم » نفهم معنى آخر غير نفس المعاني الإفرادية وهو ثبوت النسبة بينهما. والدال منحصر

ص: 145

بالهيئة التركيبية وذلك يقتضي وضعها لذلك.

إذ الجواب عنه : بان الدلالة على ذلك انما كان بواسطة الدلالة على قصد تفهيم النسبة ، إذ تصور ثبوت النسبة يكون مع ذلك قهريا للعلم بقصد تفهيمه. فلا دلالة لانسباق ثبوت النسبة على الوضع له لأنه يتلاءم مع الوضع لقصد الحكاية عن ثبوتها.

لا يتجه بعد ما عرفت من ان القيد المأخوذ والمدلول عليه بالالتزام - لو تم الوجه المزبور - هو كلي النسبة ، والمتبادر عند إطلاق الجملة ثبوت النسبة الخاصة والتبادر علامة الوضع ، إذ لا مقتضى سواه في المقام.

نعم ، الإيراد عليه : بان المراد بالإبراز ان كان مفهومه ، فيلزم الترادف بين الهيئة وبين لفظ الإبراز وهو باطل كما لا يخفى ، وان كان مصداقه ، فهو مما لا يلتزم به القائل لأنه لا يرى صحة الوضع للموجود الخارجي لعدم قابليته للانتقال الذهني الّذي هو غاية الوضع ، لأن الانتقال يتعلق بالمفاهيم لا بالمصداق.

غير وجيه : لأن الإبراز الوارد في التعبير غالبا لم يؤخذ في الموضوع له ، بل الموضوع له هو القصد ، والإبراز بمنزلة الداعي للوضع ، فاللام في قوله : « وضع لإبراز ... » لام التعليل لا لام الإضافة والملك. ومثله الحال في الإبراز في الجمل الإنشائية ، إذ قد توهم بعض عباراته انه هو الموضوع له بمعنى كونه طرفا للعلقة الوضعيّة ، ولكن مراده انه الموضوع لأجله ، إذ لا معنى لكون الإبراز طرفا للعلقة الوضعيّة ، مع انه لا يوجد إلاّ بالاستعمال. فالاستعمال موجد للإبراز لا كاشف عنه فتدبر.

ولكن يرد عليه نظيره بالنسبة إلى قصد الحكاية الّذي فرضه موضوعا له ، فيقال ان المراد ان كان هو مفهوم قصد الحكاية لزم صحة الترادف بين الهيئة وقصد الحكاية وهو باطل جزما ، لعدم صحة وضع أحدهما موضع الآخر. وان كان هو واقع قصد الحكاية فهو خلاف ما التزم به القائل من لزوم كون الوضع

ص: 146

للمفاهيم.

واما عدم صحة ما اختاره للجملة الإنشائية من معنى - الّذي يتلخص في ان الجملة الإنشائية موضوعة بقصد إبراز الصفات النفسانيّة الحاصلة في النّفس من تمن وترجّ واستفهام واعتبار ، فهي موضوعة لواقع هذه الصفات لا لمفهومها ، بمعنى ان الواضع تعهد بأنه متى ما كان في نفسه إحدى هذه الصفات ذكر الهيئة الخاصة بها ، ولذلك يكون الإتيان بالجملة الإنشائية موجبا للعلم بحصول هذه الصفة في نفس المتكلم فيرتب عليه آثارها ، وليس موجبا للتصور والخطور ، فانه من شأن المفاهيم لا الوجودات - فلوجهين :

الأول : ان ذلك انما يتم في غير ما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانيّة الموضوع لها الهيئة نظير : « ملكت » ، فان الهيئة تدل على الاعتبار القائم بالنفس ، والمادة تدل على الملكية ، وهي غير مفهوم الصفة النفسانيّة ، أعني الاعتبار كما لا يخفى ، فالمجموع من الهيئة والمادة يدل على اعتبار الملكية.

وأما فيما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانيّة مثل : « اعتبرت » ان قصد بها الإنشاء أو : « أتمنى » المقصود بها إنشاء التمني ، فلا يتم ما ذكر ، لأن معنى الكلام - بمقتضى ما ذكر بملاحظة المجموع من الهيئة والمادة - اعتبار الاعتبار وتمني التمني ولا ريب في فساده ولا يلتزم به القائل مع انه لازم قوله.

وهكذا لا يتم ما ذكر فيما كان المنشأ لفظا غير المقصود اعتباره مثل « بعت » ، فان المقصود اعتبار الملكية ، والصيغة بمادتها وهيئتها انما تدل على اعتبار البيع ولا معنى له ، إذ البيع من الأفعال التكوينية الخارجية لا من الاعتباريات ، لأنه يدل على إيجاد التمليك ويشير إلى صدور التمليك عن البائع ، وهو امر تكويني ليس باعتباري ، وبعبارة أخرى : التمليك بلحاظ جهة الصدور ليس اعتباريا كالملكية كما لا يخفى.

ص: 147

الثاني : ان لازم هذا الاختيار ان لا يكون للجملة الإنشائية مدلول تام جملي في عالم المفهومية والتصور ، بل لا يكون هناك الا مفهوم المادة الأفرادي. بيان ذلك : ان الصيغة إذا كانت موضوعة لواقع الصفة النفسانيّة ، وهي - مثلا - الاعتبار القائم بالنفس ، كان وجود الصيغة كاشفا عن ذلك الواقع وموجبا للعلم به بلا خطوره في الذهن ، لفرض كونه موجودا وهو لا يقبل التحقق في الذهن. وعليه فليس في الجملة الإنشائية ما يتعلق به التصور والانتقال سوى مفهوم المادة وهو ما تعلق به الاعتبار. مثلا قول الآمر « صل » يكشف بهيئته عن اعتبار الصلاة في عهدة المكلف ويوجب العلم به ، والمادة توجب الانتقال إلى مفهوم الصلاة وتصوره.

وإذا لم يكن للجملة الإنشائية مفهوم جملي تام ، بل ليس لها إلاّ مفهوم افرادي ، خرج بابها عن باب استعمال الألفاظ الموجب لخطور المعنى في الذهن والانتقال إليه ، إذ يكون حال الهيئة حال الكاشف التكويني عن الصفة ، فلو فرض وجود الكاشف تكوينا عن الصفة غير الهيئة اللفظية وأتى به مع لفظ : « صلاة » لم يكن ذلك من باب الاستعمال أصلا ، بل المستعمل ليس إلاّ لفظ الصلاة في مفهومه. ومثله لو فرض وجود الكاشف الجعلي غير اللفظ بان يتعهد الشخص بأنه متى ما اعتبر شيئا رفع يده وذكر اسم ذلك الشيء ، فان رفع اليد وذكر اسم ذلك الشيء لا يكون من باب الاستعمال في الصفة النفسانيّة ، بل هو أجنبي عنه بالمرة ، فالحال كذلك في الجملة الإنشائية فانها تكون - على هذا القول - خارجة عن باب الاستعمال وأن المستعمل فيه ليس إلاّ مفهوم المادة كالصلاة ونحوها. فلاحظ جيدا وتدبر.

فالتحقيق : ان الموضوع له الجملة والهيئة التركيبية خبرية كانت أو إنشائية هو نفس النسبة بين الموضوع والمحمول التي يصح التعبير عنها في الجمل الاسمية بلفظ الاتحاد ، فيقال في « زيد قائم » : « زيد وقائم متحدان » ، وهذه النسبة

ص: 148

يعرض عليها الثبوت وعدم الثبوت ، والإيجاب والسلب ، والاخبار والإنشاء ، بمعنى انه ان قصد بالجملة الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع المقرر لها كانت الجملة خبرية ، وان قصد بها إيجاد معناها وهو النسبة في وعائه المناسب له كانت الجملة إنشائية ، ومدلول الجملة والمستعمل فيه في كلا الحالين واحد وهو النسبة. فالمستعمل فيه : « أنت حر » أو « زوجتي طالق » اخبارا وإنشاء واحد وهو النسبة لا يختلف في حال الاخبار عنه في حال الإنشاء.

فالاخبار والإنشاء خارجان عن الموضوع له والمستعمل فيه في الجملة الخبرية والإنشائية ، بل هما من أطوار الاستعمال وأنحائه. ولعل مراد المشهور ما ذكرناه من الوضع لنفس النسبة التي يعرض عليها الثبوت وعدمه (1) - لا الوضع لثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، لوضوح ان أداة السلب في الجملة الخبرية انما ترد على نفس النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول ، لا ان الهيئة المركبة من المجموع من الموضوع والمحمول وأداة السلب موضوعة للاثبوت النسبة ، إذ وجود النسبة بين الموضوع والمحمول في الجملة السلبية مما لا يكاد ينكر - من دون أخذ الاخبار والإنشاء في الموضوع له والمستعمل فيه. ويشهد لذلك انهم لا يفرقون بين الجملة الخبرية والإنشائية الا في كون المتكلم في مقام الاخبار وعدمه.

ومن هنا يظهر المراد مما قرر من ان الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه دون الإنشاء ، فان الجملة الخبرية إذا كانت هي الجملة المستعملة في

ص: 149


1- لم يبت - سيدنا الأستاذ ( مد ظله ) - في الدورة اللاحقة بهذا الأمر ، وان أوكل تحقيقه إلى مجال آخر ، وانما كان همّه نفي ما ذهب إليه السيد الخوئي من معنى الجملة الخبرية. والّذي يبدو لي هو اعتبار الثبوت في مدلول الجملة الإيجابية ، لأن المفهوم من الجملة وقوع النسبة وثبوتها لا مجرد النسبة ، والدال منحصر بالهيئة ، إذ لا دال آخر في البين يدل على الثبوت. ولعله مما يدل على ذلك ان النسبة بين المحمول والموضوع ليست أمرا تصديقيا. نعم ثبوتها أمر تصديقي يقبل التصديق. واما السلبية ، فهي أيضا مستعملة في ثبوت النسبة ، وحرف السلب يتوجه إلى مدلول الهيئة ، فهو ينفي الثبوت ، ولا محذور في ذلك. ( منه عفي عنه ).

النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها في الواقع ، فلا بد ان يكون الملحوظ هو الواقع ، فاما ان تكون النسبة في الواقع مطابقة للنسبة الكلامية أولا تكون ، بخلاف الإنشاء ، إذ ليس المقصود منه الحكاية عن الواقع كي يكون الواقع منظورا فيه وتلحظ المطابقة له وعدمها.

ولا يخفى ان هذا الرّأي في الجملة الخبرية والإنشائية هو الأمر الارتكازي لمعناها والمتبادر من الجملة كما يشهد له ملاحظة الاستعمالات العرفية بلا كلام ، كما انه سالم عن جميع المحاذير السابقة وشامل لجميع موارد الاستعمال بلا استثناء.

نعم ، تبقى هناك موارد لا تدخل في الاخبار ولا الإنشاء ، وهي ما أشرنا إليه مما لا يكون المبدأ من الأمور الاعتبارية ، بل كان من الأمور التكوينية ولم يكن القصد هو الحكاية عن تحققه كالتمني والترجي ، فان الجملة في هذه الموارد لا تكون خبرية ، إذ ليس المستعمل فيه هو النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها. ولا إنشائية ، إذ لم تستعمل النسبة بقصد إيجادها المعنى في عالمها ، إذ هي لا تقبل الإيجاد والاعتبار ، بل وجوده يدور مدار تحقق أسبابه التكوينية ، مع ان المقرر انه لا واسطة بين الإنشاء والخبر في الجمل ، بل يمكن ان يقرب هذا الكلام إيرادا على ما اخترناه أو اختاره المشهور في معنى الإنشاء ، وذلك ببيان : انه من المسلم ان موارد التمني والترجي من الإنشائيات ، ومن الواضح انها أمور حقيقة توجد بأسبابها التكوينية ولا توجد باللفظ والاستعمال ، وبضميمة ان الإنشاء في جميع موارده بمعنى واحد يكشف عن بطلان المختار وصحة الالتزام به ، بأنه عبارة عن إبراز الصفة النفسانيّة غير قصد الحكاية.

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بد من التكلم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في تصحيح الارتباط الحاصل بين معنى الحرف ومعنى الجملة المدخولة للحرف. إذ لا إشكال في وجود الربط بين معنى « ليت » ومعنى

ص: 150

الجملة التي تدخل عليها ، والمفروض ان معنى الجملة - وهو النسبة - معنى حرفي آلي لا يقبل التقييد والإطلاق ، فلا يصح ربطه بشيء ، فلا بد من الكلام في تصحيح هذا الارتباط الحاصل.

الجهة الثانية : في بيان معنى نفس الحرف.

الجهة الثالثة : في تصحيح صدق الإنشاء بالمعنى المختار أو المشهور على الجملة.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ، فان أساس البحث هناك في هذا الشأن وتصحيح رجوع القيد إلى الهيئة ، لأنه - أي الواجب المشروط - نتيجته ارتباط أداة الشرط بالهيئة ، وقد صحح ذلك بجهات ، كالالتزام بعموم الموضوع له كما التزم به صاحب الكفاية (1) ، والالتزام بعدم آلية المعنى الحرفي وإمكان استقلاله في اللحاظ كما ذهب إليه السيد الخوئي (2) ، والالتزام برجوع القيد إلى المادة المنتسبة لا نفس النسبة كما اختاره المحقق النائيني (3) ، وليس الكلام في ذلك محله هاهنا ، بل يتضح الحال في مبحث الواجب المشروط فانتظر.

وأما الجهة الثانية : فالتحقيق ان يقال : ان الموضوع له الحرف هو النسبة بين التمني والمتمنى - بالفتح - ( الأمنية ) لأن تعلق التمني بشيء لازمه تحقق نسبة بين التمني وما تعلق به ، فاللفظ موضوع إلى هذه النسبة ، وهو أمر مرتكز عرفا كما انه الأقرب إلى معنى الحرف لتوفر جهات المعنى الحرفي فيه من الآلية والإيجادية ونحوهما. خصوصا بعد وضوح بطلان ما التزم به المحقق صاحب

ص: 151


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /97- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 321 - الطبعة الأولى. بحرالعلوم علاء الدين. مصابيح الاصول 308/1-الطبعة الأولی.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.

الكفاية من وضعها إلى مفهوم التمني كلفظ : « التمني ». وما التزم به السيد الخوئي من وضعها إلى نفس الصفة النفسانيّة أو إبرازها. فلاحظ.

وأما الجهة الثالثة : فقد عرفت انه لا إشكال في إمكان كونها من الإنشائيات بناء علي ما التزم به صاحب الكفاية من معنى الإنشاء ، لقابلية كل شيء اعتباريا كان أو تكوينيا لوجود إنشائي.

وهكذا الحال بناء على ما التزم به بعض ، من كون الإنشاء استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية وان لم يكن بقصد الإيجاد ، لوضوح عدم تأتي قصد الحكاية في جمل التمني والترجي.

وانما الإشكال في ذلك بناء على المذهب المشهور ، لأن التمني من الأمور الواقعية التابع وجودها لأسبابها التكوينية ، سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق ، ولا يكون للاستعمال دخل في وجودها أصلا كي يقصد به إيجادها في عالمها.

وعليه ، فصدق الإنشاء عليها يتوقف على تصور وجود اعتباري لها غير وجودها الحقيقي التكويني ، ويمكن تقريب ثبوت مثل هذا الوجود لها بأمور : - وهي لو تمت لدلت أيضا على صحة الالتزام بالوجود الإنشائي في هذه الموارد -.

الأول : ما يلاحظ في الاستعمالات والمحاورات العرفية العقلائية التي هي الحكم في مثل هذه الأمور من عدم صدق التمني الا بعد الكلام وصدور الجملة ، فيقال للشخص انه تمنى بعد صدور الجملة ، فانه ظاهر في ان للتمني معنى عندهم يتحقق بالجملة ، وليس هو إلاّ الوجود الاعتباري ، ولذا لا يقال انه للتفهيم إذا لم يصدر منه ما يدل على الاستفهام النفسيّ.

الثاني : ان الفعل المشتق من التمني يسند عرفا إلى الفاعل ، بنحو نسبة صدورية المرادف في الفارسية ل- : « تمني كرده يا مى كند » ، مع انه إذا كان الملحوظ في المعنى الاشتقاقي هو الصفة النفسانيّة لم يصح اسناد الفعل إلى الفاعل بإسناد صدوري ، لأن نسبة الصفة النفسانيّة نسبة حلولية المرادف في الفارسية

ص: 152

ل- : « تمني شده » لا صدورية ، كغيرها من الصفات النفسانيّة مثل العلم. فلا بد ان يكون الملحوظ في الإسناد المزبور معنى للتمني يتناسب مع الإسناد الصدوري وهو الوجود الاعتباري.

الثالث : انه لا إشكال في انه يطلق لفظ التمني على نفس الكلام الصادر. وهذا لا يصح إلاّ بملاحظة ان التمني يوجد بوجود اعتباري عقلائي باللفظ ، فيصدق لفظه على الجملة من باب صدق لفظ المسبب على السبب وهو متعارف.

ولا يمكن توجيهه : بان صدقه بملاحظة انكشاف الصفة النفسانيّة باللفظ ، فيصدق على الجملة من باب صدق لفظ المنكشف على الكاشف.

لأن مثل هذا الاستعمال غير متعارف ، ولا إشكال في عدم صحة صدق اللفظ الموضوع لمعنى على لفظ آخر كاشف عن ذلك المعنى.

والمتحصل : انه من ملاحظة مجموع ما ذكرنا يحصل الجزم بان للتمني وجودا آخر غير وجوده الحقيقي يتحقق باللفظ ، فيصدق الإنشاء بالمعنى المشهور على جملة التمني بهذا الاعتبار. فتدبر جيدا.

هذا بالنسبة إلى حروف التمني والترجي.

وأما حروف النداء ، مثل : « يا ». فالتحقيق فيه : ان النداء ان كان معناه هو التصويت بقصد جلب توجه المخاطب المراد في الفارسية ل- « صدا كردن » ، كان حرف النداء بمجرد حصوله محققا للنداء باعتبار انه صوت في هذا المقام - أعني في مقام جلب توجه المخاطب - بلا ان تصل النوبة إلى تعيين وضعه إلى معنى ، بل لا أثر لذلك. وان كان معناه جلب توجه المخاطب فقط أمكن البحث في الموضوع له لفظ النداء بحيث يفهم منه ان المتكلم في مقام جلب التوجه. والتحقيق ان يقال : انه موضوع كسائر الحروف للنسبة الحاصلة بين جلب التوجه والمنادى والربط القائم بهما ، فانه لا إشكال في حصول نسبة وربط بينهما حين يكون المتكلم في مقام جلب التوجه وقاصدا تحقيق هذا الأمر.

ص: 153

وأما الاستفهام : فكونه من المعاني الإنشائية الحاصلة بالاستعمال مما لا إشكال فيه ، لوضوح عدم صدقه قبل الكلام الاستفهامي ، فانه لا يقال للشخص انه استفهم الا بعد الكلام وإنشائه المعنى. وأما حروف الاستفهام ، فهي موضوعة للنسبة الحاصلة بين المتكلم وبين المعنى المقصود فهمه فانها تحصل بمجرد كونه في مقام طلب الفهم.

ولا يخفى أن المخاطب عند إلقاء الكلام المشتمل على حرف النداء أو الاستفهام أو التمني ونحوها لا يوجد في ذهنه نسبة مماثلة للنسبة الحاصلة في ذهن المتكلم كسائر الحروف ، لفرض تقوم النسبة المزبورة بالمتكلم لأنه أحد طرفيها دون النسب بين المفاهيم التي هي مدلول الحروف الأخرى ، كما انه لا تحصل في ذهنه نفس تلك النسبة لامتناع تعلق اللحاظ بنفس الموجود بما هو موجود ، وانما تحصل في ذهنه صورة تلك النسبة فيرتب عليه الأثر لو كان له أثر.

ومن جميع ما ذكرنا يتحصل ان الحروف بأسرها موضوعة لأنحاء النسب والربط ، وبذلك كانت معانيها متقومة بالآلية والإيجادية كما تقدم تفصيله.

يبقى الكلام في الأسماء الملحقة بالحروف ، كأسماء الإشارة وضميري المخاطب والغائب ، وتعيين الموضوع له فيها وبيان عمومه أو خصوصه.

وقد التزم المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه بان الموضوع له فيها عام كالحروف لا خاص ، بدعوى : ان الموضوع له فيها انما هو المعنى الكلي الّذي تتعلق به الإشارة والتخاطب ، وتشخصه الحاصل عند الإشارة انما ينشأ من طور الاستعمال ، ونفس الإشارة أو التخاطب لاستدعاء كل منهما الشخص ليس مأخوذا في الموضوع له. فالموضوع له لفظ : « هذا » انما هو المفرد المذكر ، والمستعمل فيه هو ذلك أيضا ، وهو وإن تشخص بالاستعمال ، إلاّ انه لأجل كونه من شئون الاستعمال حيث كان بالإشارة وهي لا تكون الا إلى الشخص ، لا المستعمل فيه.

ص: 154

وبالجملة : أسماء الإشارة موضوعة لمعاني يشار إليها بها من دون أخذ الإشارة والتشخص الخارجي في الموضوع له ، كما لم يؤخذ اللحاظ في معنى الحرف والاسم (1).

ويرد على ما ذكره - بحسب النّظر الأولي - وجهان :

الأول : ان الإشارة الخارجية إنما تتعلق بالفرد دون الطبيعة والكلي بما هو كلي ، وعليه فيمتنع ان تكون أسماء الإشارة موضوعة ليشار بها إلى معانيها مع الالتزام بان معانيها كلية.

ولا مجال لتوهم إمكان إرادة الفرد من اللفظ وان كان موضوعا للكلي - فيمكن دعوى تعلق الإشارة بمعنى اسم الإشارة بهذا الاعتبار لأن الفرد يكون على هذا معنى اسم الإشارة في مرحلة الاستعمال - كسائر الألفاظ الموضوعة للطبائع ، فانه يمكن إرادة الفرد منها كقولك : « أكلت الخبز » و « دخلت السوق » ، إذ الأكل والدخول انما يتعلقان بفرد الخبز والسوق لا بالطبيعة.

لأن ذلك - أعني دعوى إرادة الفرد من اللفظ - خلاف المدعى أيضا ، إذ المدعى ان المستعمل فيه عام كالموضوع له.

مضافا إلى انه ممنوع في نفسه ، فان اللفظ الموضوع للطبيعة لا يستعمل في الفرد في أي مورد كان لاستلزامه شيوع المجاز في المحاورات ، لكثرة إرادة الفرد من اللفظ مع انه غير الموضوع له ، فالالتزام باستعمال اللفظ فيه التزام بالمجاز في جميع هذه الموارد وهو خلاف الوجدان ، لذلك التزم القوم في مثل هذه الموارد بان المستعمل فيه ليس هو الفرد ، بل هو الكلي لكن بلحاظ انطباقه على هذا الفرد وبتطبيقه على الشخص المعين ، فذكر اللفظ الموضوع للمعنى الكلي وإرادة الفرد يكون من باب الإطلاق لا من باب الاستعمال في الفرد ، فلا يكون

ص: 155


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الاستعمال مجازيا ، لأنه فيما وضع له وهو الكلي.

وبالجملة : ففيما نحن فيه الإشارة الحسية لا تتعلق بالكلي لعدم قابليته لها ، بل كل ما يشار إليه فهو فرد لتقومه بالوجود ، ففرض كون المعاني - وضعا واستعمالا - كلية ينافي فرض تعلق الإشارة بها ، لأن ما تتعلق به الإشارة هو الفرد وهو ليس بمعنى اسم الإشارة لا وضعا ولا استعمالا كما عرفت تحقيقه.

الثاني : ما قد يستشعر من كلام المحقق الأصفهاني ، وهو : انه لا إشكال في عدم إرادة الإشارة الناشئة من قبل وضع اللفظ لمعنى والمساوقة لبيان المعنى باللفظ - كما يقال المعنى المشار إليه ، أو أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ، فان المراد المعنى المبين وبيان المعنى - ، لأنه أمر عام وثابت في جميع الألفاظ الموضوعة ولا يختص بأسماء الإشارة ، وانما المراد معنى آخر لا تحقق له في غير لفظ ولا تقتضيه طبيعة الوضع ، وهو - كما يظهر من ذيل كلامه وتعبيره باستلزام الإشارة التشخص الخارجي - الإشارة الحسية لأنها هي الموجبة للتشخص الخارجي. ولا يخفى ان هذه الإشارة الحسية ليست من آثار اللفظ وخصوصياته التكوينية ، وإلاّ كان كل لفظ كذلك. بل لا تتحقق باللفظ إلاّ بالجعل والاعتبار. وعليه فلا بد من تحقق الإشارة الحسية بلفظ اسم الإشارة من اعتبار الإشارة وأخذها في الموضوع له ، إذ لا يمكن تحققها بدونه (1). وللمحقق الأصفهاني في المقام كلام لا يخلو عن غموض أخذه المقرر الفياض وصاغه بعبارة أخرى (2). إلاّ انه لم يؤد المطلب بتمامه ولعله لم يصل إلى فهم مراده ، ولما لم يكن في التعرض إلى تفصيل ذلك أثر فيما نحن فيه ، فالإعراض عنه أولى وأجدر ، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية.

ثم ان المحقق الأصفهاني بعد ان استشكل في كلام صاحب الكفاية ، قال :

ص: 156


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 21 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 90 - الطبعة الأولى.

« بل التحقيق ان أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلق الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو من الأنحاء ، فقولك هذا لا يصدق على زيد مثلا إلاّ إذا صار مشارا إليه باليد أو بالعين مثلا ، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ هذا هو الفرق بين العنوان والحقيقة ، نظير الفرق بين لفظ الربط والنسبة ، ولفظ من وفي وغيرهما ، وحينئذ فعموم الموضوع له لا وجه له أصلا ، بل الوضع حينئذ عام والموضوع له خاص كما عرفت في الحروف » (1). وتابعة على هذا الاختيار السيد الخوئي ، إلاّ انه خص الموضوع له بما تعلقت به الإشارة الخارجية كما هو صريح تقريرات الفياض (2).

والّذي يرد على هذا الاختيار وجهان :

أولهما : وهو جدلي ، انه يستلزم الوضع إلى الموجود بما انه موجود ، وذلك لأن الإشارة لا تتعلق الا بالموجود ، فإذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة إليه كان معنى اسم الإشارة هو الموجود لا المفهوم ، والوضع للموجود - وان لم يتضح لدينا امتناعه إلاّ انه - مما يلتزم بامتناعه كلا المحققين.

وثانيهما : انه إذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة الخارجية - كما يلتزم به السيد الخوئي - امتنع استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية ، لامتناع تحقق الإشارة الخارجية إليها ، مع ان استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية مما لا يحصى بلا تجوز ولا مسامحة ، فيقال : « هذا الكلي كذا وذاك كذا » و: « المعنى الّذي في ذهنك لا أقصده » وغير ذلك من الأمثلة. هذا مع انه قد يستعمل لفظ الإشارة في المعنى الخارجي بلا انضمام إشارة خارجية إليه ، كما لو لم يكن المتكلم قاصدا اطلاع غير المخاطب على ارتباط الحكم

ص: 157


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 21 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 91 - الطبعة الأولى.

بالمشار إليه ، فيأتي بلفظ الإشارة بلا ان يضم إليه الإشارة الخارجية ، فيقول : « هذا عالم أو جاهل ». ولا يخفى انه لا يرى في هذا الاستعمال تجوز ومسامحة ، مع ان لازم مختاره ان يكون مثل هذا الاستعمال مسامحيا.

والتحقيق ان يقال : اما في اسم الإشارة. فالموضوع له لفظ الإشارة هو نفس الإشارة الذهنية ، وبيان ذلك بعد ذكر أمرين :

الأول : في بيان معنى الإشارة الذهنية ، والمراد بها هو توجه النّفس نحو المعنى الحاضر بنحو توجه يختلف عن أصل التصور واللحاظ ، فانه قد يكون هناك معاني كثيرة متصورة ، إلاّ انه قد يتوجه إلى بعضها بسنخ توجه ويحكم عليه بحكمه ، ولا نستطيع التعبير عن حقيقة هذا التوجه باللفظ ، إلاّ انه يمكن تقريبه بتشبيهه بالإشارة الخارجية إلى المعنى الخارجي ، فان نحو الإشارة الذهنية كالإشارة الخارجية بالعين مثلا في اشتمالها على خصوصية تختلف بها عن أصل التوجه والتصور ، كاشتمال الإشارة بالعين على خصوصية تختلف عن أصل النّظر.

الثانية : ان كلا من الإشارة الذهنية والخارجية فعل من الأفعال ، إلاّ انه يختلف عن سائر الأفعال بان الالتفات والتوجه لا يتعلق به بنفسه ، بل يتعلق بما جعل طريقا إليه وآلة لتعيينه - أعني المعنى المشار إليه - ، فالالتفات المتعلق بالإشارة بما هي إشارة طريقي وآلي لا استقلالي ، وانما التوجه الاستقلالي يتعلق بنفس المعنى ، بخلاف سائر الأفعال كالقيام والأكل والشرب ونحوها ، فانه يتعلق بها اللحاظ الاستقلالي لا الآلي.

إذا تبين ذلك فنقول : ان اسم الإشارة موضوع لنفس الإشارة الذهنية ، فيكون ذكر اللفظ كاشفا عنها وموجبا للعلم بها ، فينتقل منها إلى المشار إليه - كما ينتقل الذهن إلى المشار إليه بالإشارة الخارجية بمجرد رؤيا الإشارة الخارجية - ، وهذا المعنى - أعني الإشارة الذهنية - من المعاني الآلية كما تقدم ، وبذلك شابه اسم الإشارة الحروف. وهذا المعنى لاسم الإشارة معنى معقول وارتكازي تصوره

ص: 158

مساوق للتصديق به فانه قريب إلى الأذهان ، فلا يحتاج إلى إقامة برهان.

وأما ما قيل في تقريب دعوى السيد الخوئي : من ان مقارنة استعمال اسم الإشارة للإشارة باليد أو العين أمر ارتكازي في الاستعمالات ولا ينفك عن الاستعمال فيكشف ذلك ان كون الموضوع له هو المعنى حال مقارنته للإشارة الخارجية.

فهو لا يكشف عن المدعى ولا يدل عليه بعد ما عرفت ، وذلك لأنه من المتعارف في الاستعمالات اقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية لو كان له مرادف ، فان رفع الرّأس إلى أعلى في استعمال كلمة : « فوق » وتشبيه المتكلم حركات من ينقل عنه بعض الأفعال من جلوس وأكل وشرب ، أمر لا يكاد يخفى ، وعليه فإذا كان اسم الإشارة موضوعا للإشارة الذهنية ولم يكن في الخارجيات ما يصلح للتعبير عنها غير الإشارة الخارجية لكونها من سنخ واحد كان من الطبيعي انضمام الإشارة الخارجية للفظ الإشارة مثل : « هذا ».

وبالجملة : فالاستعانة باليد والعين وغيرهما من أعضاء الجسم في تأكيد الكشف عن المعاني عند استعمال اللفظ الموضوع إلى المعنى امر متعارف ، ولا يكون دليلا على الوضع للمعنى بقيد المقارنة للفعل الخارجي. فلاحظ.

* * *

ص: 159

استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له

هذا البحث لا أثر له في المجال العملي أصلا ، وقد أطال القوم فيه ، ولكنه تطويل بلا طائل ، لذلك رأينا الاقتصار على بيان مطلب الكفاية لا أكثر. فنقول :

ان موضوع النزاع ، هو ان صحة استعمال اللفظ فيما يناسب المعنى الموضوع له هل هي أمر يرجع إلى الطبع والذوق أم انه أمر يرجع فيه إلى الواضع؟ فان رخص فيه الواضع صح وإلاّ لم يصح ، سواء كان سليما وغير مستهجن لدى الطبع والذوق أو كان لم يكن كذلك. وأما على الأول فالامر على العكس ، فان صحة الاستعمال تدور مدار جريانه على طبق الذوق والطبع ، فان حسنه الطبع صح وان لم يرخص الواضع ، وان استهجنه الطبع لم يصح وان رخص الواضع وأجاز. وهو الّذي اختاره صاحب الكفاية موكلا تعيينه إلى الوجدان ، وانه يرى ان صحة الاستعمال كذلك أمر يرتبط بالطبع ولا دخل للواضع فيه أصلا ، وان الوجدان قد يحسن استعمال كذلك لم تثبت فيه إجازة الواضع - كما يمثل له باستعمال لفظ « حاتم » في الكريم مع انه يعلم بان أب حاتم أو غيره ممن وضع لفظ حاتم لذاته لم يتصور استعمال هذا اللفظ في غير ولده فضلا عن تحقق الإجازة منه ، بل لعل المرتكز في وضع الاعلام الوضع لنفسه دون غيره من الذوات بحيث يمنع ارتكاز استعماله في غير ذات ، مع ان صحة هذا الاستعمال لا يختلف فيها اثنان -. وقد يقبح استعمال كذلك وان ثبتت فيه إجازة الواضع ، كما يمثل له - وان نوقش في المثال - باستعمال لفظ : « العذرة » في الأكل بلحاظ علاقة الأول ، فان هذه العلاقة ثابتة لغة في الاستعمالات المجازية ، مع وضوح عدم صحة مثل هذا الاستعمال في المثال المزبور. وليس ذلك إلاّ من جهة

ص: 160

ارتباط صحته بالطبع لا بالوضع (1).

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه

هذا المبحث كسابقه في عدم الأثر والجدوى العملية ، ولهذه الجهة رأينا وجاهة الاقتصار على مجرد الإشارة إلى أصل البحث ببيان عبارة الكفاية ، والكلام فيه في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، كما يقال « زيد لفظ » ويقصد به نفس الزاء والياء والدال الصادر من اللافظ فعلا.

واستشكل في صحته صاحب الفصول رحمه اللّه بتقريب : ان القضية الذهنية مركبة من اجزاء ثلاثة موضوع ومحمول ونسبة كالقضية الخارجية واللفظية.

وعليه ، فان التزم بوجود الدال في القضية اللفظية أعني « زيد لفظ » وهو الموجب لانتقال صورة المدلول في الذهن ، لزم اتحاد الدال والمدلول ، إذ المدلول ليس إلا نفس موضوع القضية اللفظية وهو لفظ « زيد » ، والمفروض انه هو الدال ، فيكون الدال عين المدلول وهو ممتنع لامتناع اتحاد الحاكي والمحكي ، لأن الدلالة والحكاية من سنخ العلية واتحاد العلة والمعلول ممتنع. وان التزم بعدم الدلالة والحكاية عن ذات الموضوع باللفظ لزم تركب القضية الذهنية من جزءين النسبة والمحمول ، لعدم الحكاية عن الموضوع كي ينتقل إلى الذهن ، وتركبها من جزءين ممتنع لأن النسبة متقومة بطرفين فلا توجد بطرف واحد (2).

وأجاب صاحب الكفاية عن هذا الاستشكال : بأنه لنا ان نختار كلا الشقين ولا يلزم أي محذور. فنلتزم بوجود الدلالة ولا يلزم محذور اتحاد الدال

ص: 161


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /13- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /22- الطبعة الأولى.

والمدلول ، لكفاية التغاير الاعتباري بين الدال والمدلول وان اتحدا ذاتا ، وهو موجود فيما نحن فيه ، إذ في اللفظ جهتان : جهة كونه صادرا من اللافظ. وجهة كونه مقصودا له ، فهو بالجهة الأولى دال وبالجهة الثانية مدلول.

كما انه يمكن ان نلتزم بعدم الدلالة ولا يلزم محذور تركب القضية من جزءين ، لأن انتقال الذهن إلى ذات الموضوع لا يتوقف على ثبوت الحاكي عنه ، بل يتحقق بإحضار نفس الموضوع خارجا ، والحكم عليه وما نحن فيه يمكن ان يكون من هذا القبيل ، فان ذات الموضوع نفس لفظ « زيد » وقد أحضر بنفسه ، فتتحقق صورته في الذهن بواسطة ذلك. ثم يحكم عليه بواسطة اللفظ الحاكي عن معناه الّذي يكون به الحكم.

إلاّ ان هذا النحو يخرج عن كونه من استعمال اللفظ في المعنى ، لأنه إحضار لنفس المعنى (1) المقام الثاني : في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه. والأول : كقولك : « ضرب فعل ماض » قاصدا نوع هذا اللفظ ، والثاني كقولك : « ضرب » في : « ضرب زيد فعل ماض » قاصدا كل ضرب تأتي في هذا المثال لا خصوص ضرب في المثال المزبور - والمراد بالصنف هو النوع متخصصا بخصوصية عرضية كما اتضح بالمثال -.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى : انه يمكن ان يلتزم ان مثل هذا الإطلاق من باب الاستعمال والحكاية ، بان يستعمل اللفظ ويراد به نوعه بحيث يجعل حاكيا عنه ودالا عليه دلالة اللفظ على المعنى ، وان يلتزم انه من باب إحضار نفس الموضوع - كإطلاق اللفظ وإرادة شخصه - بان يكون [ يجعل ] الموضوع نفس اللفظ ويحكم عليه ، لكن لا بما هو ، بل بما انه فرد لنوعه فيسري الحكم إلى

ص: 162


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /14- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

سائر الافراد ، لأنه في الحقيقة حكم على النوع. وبتقريب آخر : انه يحكم على نفس النوع الموجود في ضمن فرده بلحاظ ان وجود الفرد وجود للكلي.

هذا ثبوتا ، واما إثباتا فالأنسب بملاحظة موارد الإطلاق هو ان يكون من باب الاستعمال ، بل هناك موارد لا يمكن إلاّ ان تكون من هذا الباب كالمثال المزبور - أعني ( ضرب فعل ماض ) - لأن ضرب في نفس المثال ليس فعلا ماضيا بل هي مبتدأ ، فيمتنع الحكم عليها بأنها فعل ماض ، بل لا بد ان يلحظ فيها الحكاية (1).

المقام الثالث : في إطلاق اللفظ وإرادة مثله ، مثل : « ضرب » في : « ضرب زيد » : « فعل ماض » وقصد بها ضرب في خصوص المثال.

وهذا يتعين ان يكون من باب استعمال ، لأن المفروض فيه هو الحكم على الفرد المماثل ، وكل فرد يغاير الآخر ، فيمتنع ان يكون وجودا له ، فلا بد ان يقصد الحكاية به عن المماثل (2).

ثم ان صحة الإطلاق في هذه المقامات الثلاثة هل ترتبط بالاستحسان والطبع أو ترتبط بترخيص الواضع وإجازته؟ ذهب صاحب الكفاية إلى الأول ، واستشهد على ذلك بأنه قد يطلق اللفظ المهمل على نوعه أو غيره فيقال : « ديز مهمل » أو : « لفظ » ، فلو ارتبط صحة الاستعمال بالوضع لزم ان يكون مثل : « ديز » من المهملات موضوعا وهو خلف فرض كونه مهملا.

هذا بيان مطلب الكفاية في كلا الأمرين (3) ، وقد أطيل الكلام حوله ونوقش في بعض خصوصياته ، وقد تقدم ان الإطالة فيه بلا طائل فالاكتفاء بما ذكرناه متعين.

ص: 163


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /14- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /15- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /13- 16 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإرادة والموضوع له

الكلام يمكن ان يقع في جهات :

الجهة الأولى : في أن الموضوع له هل هو ذات المعنى أو انه المعنى المتعلق للإرادة. وبتعبير آخر : - كما ورد في الكفاية - ان اللفظ موضوع للمعنى بما هو أو بما هو مراد؟ (1).

الجهة الثانية : في ان الوضع هل يقتضي دلالة اللفظ والكلام على تحقق الإرادة أو لا؟.

الجهة الثالثة : في ان العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى هل هي مقيدة بصورة تعلق الإرادة بالمعنى أو لا؟ ، وبتعبير آخر ان الدلالة هل تتبع الإرادة أو لا؟.

والفرق بين الجهة الأولى والأخريين هو انه لو بنى على كون الألفاظ موضوعة للمعنى بما هي مرادة لم يكن اللفظ كاشفا عن ثبوت الإرادة في الخارج ، بل لا يقتضي سوى حصول صورة المعنى المتعلق للإرادة في الذهن ، كما لو وضع اللفظ إلى نفس واقع الإرادة مستقلا ، فان استعماله لا يدل على ثبوت نفس المعنى خارجا ، لأن شأن الوضع ليس إلاّ وساطته في حصول صورة المعنى في الذهن دون دلالة الكلام على تحققه خارجا ، إذ لا تتوقف صحة الاستعمال على تحقق المعنى في الخارج.

وهذه غير نتيجة البحث في الجهتين الأخريين ، فان نتيجتهما على أحد القولين - أعني القول بدلالته على تحقق الإرادة والقول بالتبعية - هو ثبوت

ص: 164


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /16- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإرادة عند الكلام اما من جهة كشفه عنها أو تبعية دلالته لتحققها.

وبعبارة أخرى : ان البحث في كلتا الجهتين ممكن على كلا القولين في الجهة الأولي ، لأن الالتزام بكون اللفظ موضوع للمعنى بذاته أو بما أنه مراد لا يتنافى مع الالتزام بان الكلام لا يدل على تحقق الإرادة ، أو أن العلقة الوضعيّة انما تكون في صورة ثبوت الإرادة وانه مع عدمها لا علقة وضعية ، فالالتزام بكلا القولين في الجهة الأولى لا ينفي تحقق الكلام في الجهتين الأخريين.

وأما الفرق بين الجهة الثانية والثالثة. فواضح ، لأن مقتضى الالتزام بتبعية الدلالة للإرادة هو توقف الدلالة على ثبوت الإرادة وإحرازها بغير طريق اللفظ ، وهذا بخلاف مقتضى الجهة الثانية فان الالتزام بدلالة اللفظ على الإرادة يقتضي صلاحية اللفظ للكشف عنها وان طريق إحرازها يكون هو اللفظ ، فالجهتان يختلفان أثرا ونتيجة.

وإذ تبين الفرق بين هذه الجهات وصلاحية كل منها للبحث في عرض الأخرى ، فلا بد من تحقيق منهما على حدة.

وقد اقتصر صاحب الكفاية في كلامه على الجهة الأولى ، وقد وقع الخلط في بعض الكلمات بين الجهات ، والمهم تحقيق كل مبحث بنفسه. فنقول :

اما الجهة الأولى من جهات البحث : فقد التزم صاحب الكفاية بكون اللفظ موضوعا للمعنى بما هو لا بما هو مراد ، لاستلزام الأخير بعض المحاذير :

منها : ان الإرادة من شئون الاستعمال كاللحاظ ، فيمتنع أخذها في الموضوع له جزءا أو قيدا كامتناع أخذ اللحاظ فيه كذلك كما بين.

ومنها : لزوم التصرف في ألفاظ أطراف القضية من موضوع ومحمول ، لأنه من الظاهر ان حمل الوصف على ذات ما انما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجي على الذات الخارجية ، فالمراد من « زيد قائم » حمل الذات المتلبسة بالقيام في الخارج على ذات زيد الخارجية ، وإذا كان الموضوع له لفظ « زيد » و « قائم » هو

ص: 165

المعنى المتعلق للإرادة كان المعنى امرا ذهنيا لتقيده بما هو ذهني وهو الإرادة ، فلا بد من الالتزام بتجريده عن الخصوصية عند الحمل وهو يستلزم المجازية بل لغوية أخذ الخصوصية في الموضوع له.

ومنها : لزوم كون الموضوع له مطلقا خاصا ، لأن الإرادة المدعى أخذها في الموضوع له انما هي واقع الإرادة لا مفهومها ، فيلزم ان يكون المعنى جزئيا ، لتقيده بواقع الإرادة وهو خلاف الوجدان والتسالم على ثبوت الموضوع له العام.

ثم انه بعد ذلك تعرض لما حكي عن كلام العلمين - الشيخ الرئيس والخواجة نصير الدين - من ان الدلالة تتبع الإرادة ، وانه لا ينافي ما التزم به من عدم الوضع للمعاني بما هي مرادة ، لأنه ناظر إلى الدلالة التصديقية وهي دلالة الكلام على إرادة المتكلم تفهيم المعنى وقصده له. لا الدلالة التصورية وهي مجرد خطور المعنى في الذهن التي هي محل الكلام. وتبعية الدلالة التصديقية للإرادة لا يكاد ينكر ، بل هو مما لا شبهة فيه كتبعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت والكاشف عن المنكشف ، لأن كشف الكلام عن تحقق الإرادة متفرع على أصل تحققها وثبوتها كما لا يخفى (1).

هذا محصل كلام الكفاية بتوضيح.

ولا يخفى عليك ان الّذي يظهر منه انه لم يتصور لفرض تبعية الدلالة للإرادة وجه سوى أخذ الإرادة في الموضوع له.

ولذا حاول ان يوجه كلام العلمين وبحمله على غير الدلالة الوضعيّة لوضوح بطلان أخذها في الموضوع بنحو لا يمكن اسناد ذلك إلى مثلهما من العلماء.

ولكن سيجيء في تحقيق الجهة الثالثة بيان إمكان فرض الدلالة الوضعيّة

ص: 166


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /16- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تابعة للإرادة من دون أخذها في الموضوع له.

ثم انه قد يورد على ما ذكره قدس سره من الوجه الأول : ان دخل أخذ الإرادة في الموضوع له لا ينحصر بأخذها جزءا أو قيدا كي يرد عليه ما ذكر ، بل يمكن تقريبه بنحو ما قرب دخل اللحاظ الآلي والاستقلالي في معنى الاسم والحرف من كون الموضوع له هو الحصة الخاصة ونحوه ، فلا وجه لنفيه حينئذ بما ذكر.

ومن هنا يندفع الوجه الثاني من وجوه الإشكال لترتبه على قيدية الإرادة للمعنى ، وقد عرفت عدمها وإمكان دعوى دخل الإرادة مع الالتزام بان الموضوع له هو ذات المعنى.

نعم يبقى الإشكال الثالث ، إلاّ انه ليس بمحذور ولا ضير في الالتزام به.

وعليه ، فإذا ثبت إمكان دخل الإرادة في الموضوع له ثبوتا تصل المرحلة في الكلام إلى مقام الإثبات ، وانه هل هناك ما يقتضي دخلها أو لا؟ قيل : نعم ، باعتبار ان الحكمة الداعية إلى الوضع انما هي حصول التفهيم والتفهم بواسطة اللفظ. وإذا كان المنظور في الوضع ذلك كان مقتضاه حصر الوضع في الحصة الخاصة من المعنى وهي المعنى الّذي تعلقت به إرادة التفهيم دون مطلق المعنى لعدم تحقق ملاك الوضع فيه.

هذا ما أورد به على صاحب الكفاية وهو بمقدار كونه إلزاما لصاحب الكفاية ، وجيه ، إلاّ انه حيث عرفت في الكلام حول عبارة صاحب الكفاية في المعنى الحرفي عدم تصور وجه معقول لدخل اللحاظ في الموضوع له بلا ان يكون قيدا أو جزءا للموضوع له كان دخل الإرادة في المعنى بلا ان يكون جزءا أو قيدا له كذلك.

وعليه ، فيرد ما ذكره صاحب الكفاية من المحاذير الثبوتية ، ومعه لا تصل النوبة إلى الكلام في مرحلة الإثبات لامتناع دخله ثبوتا.

ص: 167

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية متين في موضوع بحثه ، وهو أخذ الإرادة في الموضوع له. وبذلك يكون اختيارنا هو كون اللفظ موضوعا لذات المعنى وبما هو هو.

واما ما وجه به صاحب الكفاية كلام العلمين من حمله على ان الدلالة التصديقية تتبع الإرادة ، فبظني انه واضح الإشكال بلا حاجة إلى إثبات خلافه من تصريحاتهم وتكلف المشقة في نقل كلامهم. وذلك لأن تفرع الدلالة التصديقية عن الإرادة أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان كما لا يحتاج تفرع الكاشف عن المنكشف ، إليه فيبعد تصديهم بهذا الكلام إلى بيان مثل هذا الأمر البديهي ، وعلى كل فالامر سهل.

واما الجهة الثانية من جهات البحث ، فتحقيقها : أنه لا وجه لدعوى كون مقتضى الوضع هو تحقق الإرادة التفهيمية حال الاستعمال الا ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : من ان ذلك مقتضى الالتزام بان الوضع هو التعهد ، فانه إذا كان الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم وتحقق إرادته كان ذكر اللفظ بمقتضى الالتزام النفسيّ والعهد الّذي أخذه الواضع على نفسه كاشفا لا محالة عن تحقق الإرادة. وإلاّ كان مخالفا لعهده وهو خلاف الأصل العقلائي (1).

ولا يخفى انه يرد عليه :

أولا : ان أصل المبنى - أعني كون حقيقة الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم ، أو بتعبير آخر : وهو التعهد بقصد التفهيم عند ذكر اللفظ - فاسد كما عرفت.

وثانيا : لو سلم أصل المبنى لم يثبت المدعى ، لأن التعهد المذكور انما يثبت كون قصد التفهيم سببا لذكر اللفظ ، وهذا لا ينافي ان يكون لذكر اللفظ سبب

ص: 168


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 104 - الطبعة الأولى.

آخر غير قصد التفهيم ، فلا يكون ذكره مع تعدد السبب كاشفا عن خصوص أحدها وهو التفهيم. وبتعبير آخر : ان التعهد المزبور محصله : انه متى ما قصد التفهيم ذكر اللفظ ، لا انه لا يذكر اللفظ الا عند قصد التفهيم ، ولا يخفى انه إذا ذكر اللفظ ولم يكن قاصدا للتفهيم لا يعد انه خالف تعهده ، وانما يخالف تعهده فيما لو قصد التفهيم ولم يذكر اللفظ. فلا بدّ من ثبوت المدعى بذلك من الالتزام بكون قصد التفهيم علة منحصرة لذكر اللفظ ، ولكنه لا أثر لذلك في كلام القائل. ولو التزم به تنزلا فيرد عليه :

ثالثا : ان انحصار السبب لذكر اللفظ بقصد التفهيم امر يخالف الوجدان ، لوضوح انه كثيرا ما يذكر اللفظ مع عدم قصد التفهيم كموارد الحفظ والتذكر ، أو موارد التلقين ونحوها.

وعليه ، فالمتعين هو الالتزام بعدم اقتضاء الوضع لثبوت حقيقة الإرادة عند ذكر اللفظ.

وأما الجهة الثالثة : - وهي الظاهرة من كلمات القوم ، والأوفق بصيغة البحث - فالكلام فيها من جهتين الثبوت والإثبات. اما ثبوتا فالالتزام بالتبعية معقول - كما تقدم في المعنى الحرفي لتوجيه كلام الكفاية - فيلتزم بان العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى مقيدة بإرادة التفهيم ، فلا يكون الوضع والاختصاص فعليا الا عند الإرادة ، وبدونها يكون إنشائيا وهو مما لا محذور فيه. واما إثباتا فغاية ما يقرب به الالتزام المذكور ، بأنه يتناسب مع حكمة الوضع الداعية إليه ، لأن الحكمة فيه التوسعة في طريق إبراز المقاصد والتفهيم ، وهو يقتضي تقييد الاختصاص الوضعي بصورة الإرادة التفهيمية. وقربه السيد الخوئي أيضا بأنه ضرورة حتمية لمبناه في الوضع ، وانه عبارة عن التعهد ، لأن التعهد بذكر اللفظ انما هو عند إرادة التفهيم. واما إشكال تحقق الدلالة ولو كان اللفظ صادرا من غير ذي شعور ، فقد أجيب عنه : بان ذلك ناش من الأنس الحاصل في الذهن لا

ص: 169

من الوضع.

ولا يخفى عليك ان مقتضى الالتزام بذلك هو تبعية الدلالة للإرادة بحيث لا تتحقق الدلالة الا بعد إحراز الدلالة ، ولا يكون اللفظ بمقتضى الوضع دالا على الإرادة ، ولكن جاء في تقريرات الفياض دعوى ان التزامه المزبور يستلزم كون اللفظ دالا بمقتضى الوضع على الإرادة وكاشفا عنها (1). ونحن لا نعرف أي وجه للملازمة أصلا ، بل مقتضى الوجه المزبور كما عرفت هو توقف دلالة اللفظ وحدوث العلقة الوضعيّة على تحقق الإرادة وإحرازها ، لأن إحراز المشروط يتوقف على إحراز شرطه.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره بعد ان صوّر أخذ الإرادة في الموضوع له بأنحاء : منها : أن تكون مأخوذة في الموضوع له بنحو التقييد ، على ان يكون التقيد داخلا والقيد خارجا. أورد على هذا النحو : بأنه يستلزم أن يكون اللفظ موضوعا للمركب من المعنى الاسمي وهو ذات المعنى والمعنى الحرفي وهو التقيد. وهو امر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبع (2).

وقد ذكر المقرر الفياض هذا المطلب وأورد عليه :

أولا : بان الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي اختلاف بالذات لا باللحاظ الاستقلالي والآلي ، فالمعنى الاسمي اسمي وان لوحظ آليا ، والمعنى الحرفي حرفي وان لوحظ مستقلا. وعليه فالإرادة معنى اسمي وان لوحظت آليا ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتى يلزم وضع اللفظ للمركب من معنى اسمي وحرفي.

إلاّ ان يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالإرادة لا نفس

ص: 170


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 104 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 92 - الطبعة الأولى.

الإرادة فانه معنى حرفي. ولكنه مدفوع. أولا : بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركبة أو المقيدة ، فان معانيها متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة ، إذ كل جزء مقيد بجزء آخر والتقيد معنى حرفي. وثانيا : انه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي إذ دعت الحاجة إليه ، والاستقراء على تقدير تماميته لا يدل على استحالة الوضع المزبور.

وثانيا : انه لا أساس لهذا الإيراد ، فانه مبتن على أخذ الإرادة في الموضوع له ، واما إذا لم تؤخذ فيه أبدا ، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعيّة فلا مجال للإيراد (1).

وأنت خبير : بان ما ذكره أولا لا وجه له ، بعد أن كان مفروض كلامه هو دخل التقيد لا نفس الإرادة ، فحمل كلامه على ذلك - أعني على دخل الإرادة - والإيراد عليه ثم إبداء احتمال إرادة دخل التقيد تصحيحا لكلامه لم يعرف له معنى محصل أصلا.

وأما ما ذكره من النقض بالوضع للمعاني المركبة ، فتماميته تبتني على دخل ارتباط الاجزاء بعضها ببعض في الموضوع له. واما بناء على كون اللفظ موضوعا لذوات الاجزاء بلا لحاظ ارتباط بعضها بالبعض والارتباط في بعض المركبات مأخوذ في موضوع الأمر لا في الموضوع له اللفظ ، فلا يتم ما ذكره. وتحقيق أحد الوجهين قد يتضح في ضمن بعض المباحث اللاحقة ، كمبحث الوضع للصحيح أو للأعم ، ومبحث مقدمة الواجب ، وشمولها - أي المقدمة - للاجزاء فانه يبتني على كون المركب هل هو ذوات الاجزاء بالأسر أو انه الاجزاء بوصف الاجتماع ، فانتظر. ثم ان العراقي قدس سره لم يدع استحالة ما ذكر من الوضع للمعنى المركب من معنى اسمي وحرفي بالاستقراء ، بل ان دعواه ترجع إلى استكشاف

ص: 171


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 107 - الطبعة الأولى.

عدم الوضع لمثل ذلك بمعرفة مذاق الواضع بالتتبع ، فلا وجه لدعوى ان الاستقراء لا يستلزم المحالية لأنها نفي ما لم يدع. واما الإيراد الأخير وهو كون الإرادة مأخوذة في العلقة الوضعيّة لا الموضوع له ، فهو لا يعد إشكالا ونفيا لما ذكره العراقي ، لأن ما ذكره العراقي مرتب على خصوص فرض أخذ الإرادة في الموضوع له بهذا النحو ، وليس مرتبا على فرض دخل الإرادة في الموضوع له بجميع أنحائها كي ينفي بأنه تام على بعض التقادير دون بعض. فتدبر جيدا.

وضع المركبات

موضوع البحث هو تحقق وضع المركب من المادة والهيئة ، وبعبارة أخرى : تحقق الوضع للجملة التركيبية بهيئتها ومادتها. والّذي لا إشكال فيه هو تحقق الوضع للمواد ، فان المفردات موضوعة لمعانيها كلية أو جزئية ، وكذلك تحقق الوضع للهيئات - أعني هيئة الجملة - فانها موضوعة للنسبة كما عرفت.

وعليه ، فإذا ثبت الوضع لمجموع اجزاء الجملة من موضوع ومحمول ونسبة بوضع كل المادة والهيئة ، كان وضع المركب من الهيئة والمادة - مع غض النّظر عن أصل ثبوت المحذور فيه وعدمه - عديم الفائدة ولغوا محضا بلا كلام ، وهو لا يتحقق لأن الوضع من الأعمال العقلائية الملحوظ فيها ترتب الأثر وتحقق الفائدة. فلاحظ. ولا يحتاج المبحث إلى أكثر من هذا البيان لأنه بغير طائل وانما كان المقصود الإشارة إليه بهذا المقدار من الكلام.

* * *

ص: 172

علامات الحقيقة

هذا المبحث كبعض سوابقه عديم الأثر في مجال العمل ، وذلك لأن المدار في معرفة المراد من الكلام على ظهور الكلام في المعنى سواء كان حقيقيا أو مجازيا ، فان الظاهر حجة بلا كلام ، أما مجرد كون المعنى حقيقيّا فلا يجدي في الحكم بكونه مرادا من اللفظ ما لم يكن للفظ فيه ظهور.

نعم تظهر الفائدة بناء على الالتزام بأصالة الحقيقة تعبدا ، فانه يلتزم بكون المراد هو المعنى الحقيقي ولو لم يكن اللفظ ظاهرا فيه ، فتعيين المعنى الحقيقي بإحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء. لكن التحقيق عدم البناء على أصالة الحقيقة تعبدا ، وكون المدار في تعيين المراد ظهور الكلام ، وهو لا يرتبط بتعيين الحقيقة ، لأن ما يكون الكلام ظاهرا فيه يكون متبعا وان لم يكن معنى حقيقيا ، وما لا يكون ظاهرا فيه لا يبنى على إرادته وان كان معنى حقيقيا قد وضع اللفظ له.

وبهذا اللحاظ كان البحث اللازم في علامات الحقيقة بحثا سطحيا لا أكثر.

وعليه ، فنقول : قد ذكر للحقيقة والوضع علامات.

منها : التبادر ، وهو انسباق المعنى من اللفظ حال إطلاقه بلا قرينة ، فانه

ص: 173

دليل الوضع لذلك المعنى. لأن انسباق المعنى منه لا يخلو سببه ، اما ان يكون علاقة ذاتية بين اللفظ والمعنى وهي منتفية كما تقدم. أو يكون قرينة صارفة ، وهو خلاف المفروض لأن الفرض عدم القرينة ، فيتعين ان يكون السبب هو الوضع والعلاقة الجعلية ، إذ لا يتصور سبب آخر لذلك ، وذلك هو المطلوب ، ويكون التبادر على هذا علامة للوضع بطريق الإن وكاشفا عنه كشف المعلول عن علته.

ويرد على كون التبادر علامة للوضع بان ذلك يستلزم الدور ، لأن التبادر لا يحصل بدون العلم بالوضع كما هو ظاهر ، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على التبادر كما هو فرض علامية التبادر ، لزم الدور.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان التبادر المفروض كونه علامة ، اما ان يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم ، واما ان يراد به التبادر لدى العالم وأهل اللغة فيكون علامة له على الوضع.

فعلى الأول : فالتبادر وان توقف على العلم بالوضع إلاّ انه العلم الارتكازي الإجمالي ، وهو حصول صورة الشيء في النّفس ارتكازا من دون التفات إليها - فان كثيرا من الصور تكون مخزونة في النّفس بلا التفات إليها وانما يلتفت إليها بموجبات - والعلم الّذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالوضع والالتفات إليه. وعليه فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر بالإجمال والتفصيل وهو كاف في رفع غائلة الدور.

وعلى الثاني : فالتغاير واضح ، لأن الموقوف عليه التبادر هو العلم الحاصل لدى أهل اللغة ، والعلم الموقوف على التبادر والحاصل به هو علم المستعلم ، وتغايرهما لا يحتاج إلى تنبيه وبيان (1).

ثم ان السيد الخوئي أضاف إلى ذلك أمرين :

ص: 174


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /18- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : أن التبادر انما يكون كاشفا عن الوضع وعلامة له في ظرفه. يعني : انه يكشف عن الوضع في زمان التبادر أما قبله فلا يكشف عن الوضع. وعليه فتبادر المعنى فعلا من اللفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في إثبات انه هو المعنى الموضوع له سابقا وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بان الشارع اراده ، فلا بد من ضم أصل عقلائي للتبادر ينفع في المقصود وهو الاستصحاب القهقرى ، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان ، وهذا الاستصحاب وان كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع لأن ملاكها اليقين السابق والشك اللاحق ، على العكس في هذا الاستصحاب لأن الشك سابق واليقين لا حق وبهذا الاعتبار سمي بالقهقرى ، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب ، لكنه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور ، ولولاه لما قام لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص أساس ، إذ ظهورها في معنى في زماننا لا يكون دليلا على الحكم ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان الاستعمال ، ولا مثبت لذلك سوى هذا الاستصحاب ، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط.

الثاني : - وهو ما أشار إليه في الكفاية - ان التبادر كما عرفت علامة للوضع إذا كان مستندا إلى حاق اللفظ بلا انضمام قرينة إليه ، فلو شك في استناده إلى قرينة أو إلى حاق اللفظ لم يكن علامة للوضع إذ لم يعلم انه مستند إلى حاق اللفظ المقوم لكونه علامة.

والتمسك بأصالة الحقيقة ، وان الأصل ان يكون الاستعمال حقيقيا.

غير صحيح ، لأن المرجع في هذا الأصل اما ان يكون هو الشارع أو بناء العقلاء ، فان كان المرجع هو الشارع لم يصح إجراؤه ، إذ لا يثبت كون المتبادر مستندا إلى حاق اللفظ وبلا قرينة إلاّ بالملازمة كما لا يخفى ، فيكون من الأصول المثبتة وهي غير معتبرة شرعا. وان كان بناء العقلاء ، فهم انما يتمسكون بأصالة الحقيقة في مورد يشك فيه في أصل المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي الناشئ

ص: 175

من احتمال نصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي ، اما مع العلم بالمراد والشك في انه معنى حقيقي أو مجازي للشك في نصب قرينة فلا يتمسكون بأصالة الحقيقة ، ولذلك اشتهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

وبالجملة : للشك في نصب قرينة موردان : أحدهما ما يشك فيه في أصل المراد ، فانه ينشأ من الشك في القرينة. والآخر : ما يشك في نحو المراد وانه حقيقة أو مجاز للشك في نصب قرينة. وأصالة الحقيقة تجري في الأول دون الثاني الّذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه ، فأصالة الحقيقة انما تجري لإثبات إرادة المعنى الحقيقي ، ولا تجري لإثبات حقيقة المعنى المراد (1).

منها : عدم صحة السلب وصحته ، أو صحة الحمل وعدم صحته : فان الأول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

ولا بد قبل تقريب ذلك من بيان المراد من صحة الحمل أو السلب ، إذ قد يتوهم عدم المعنى له ، إذ الغرض معرفة وضع لفظ لمعنى فما هو شأن المحمول والموضوع؟ والحقيقة ان المراد منه هو حمل المعنى المشكوك وضع اللفظ له على اللفظ بما له من معنى ارتكازي أو بالعكس ، بان يحمل اللفظ بما له من المعنى على المعنى المشكوك وضعه له ، فان صح الحمل كان دليلا على الحقيقة وإلاّ كان قرينة على عدم وضع اللفظ له. فالمأخوذ محمولا أو موضوعا هو اللفظ بما له من معنى ، لا اللفظ بما انه لفظ كي يقال بأنه لا معنى للحمل. وإذا تبين ذلك : فتقريب كون صحة الحمل علامة للحقيقة هو ان الحمل على نحوين :

الأول : حمل أولي ذاتي ، وملاكه الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوما.

والثاني : حمل شائع صناعي ، وملاكه الاتحاد بينهما وجودا.

وعليه ، فإذا شك في لفظ كلفظ « إنسان » في انه موضوع لمعنى ك :

ص: 176


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 114 - الطبعة الأولى.

« الحيوان الناطق » أولا ، فإذا حمل الإنسان بما له من المعنى على الحيوان الناطق أو بالعكس فقيل : « الإنسان حيوان ناطق ، أو الحيوان الناطق إنسان » بالحمل الأولي الذاتي وصح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الإنسان الارتكازي مع الحيوان الناطق وانه عينه ، فيستكشف بذلك وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق. فدلالة الحمل الأولي الذاتي على الوضع لأنه بملاك الاتحاد المفهومي ، فصحته تعني اتحاد معنى اللفظ الارتكازي مع نفس المعنى الّذي يشك في وضع اللفظ له ، وذلك دليل الوضع له كما لا يخفى.

وأما الحمل الشائع الصناعي ، فدلالته على الوضع من جهة ان ملاكه الاتحاد في الوجود ، فإذا علم ان هذا الفرد وجود لمعنى معين ، فإذا حمل عليه اللفظ بما له من المعنى على الفرد بما انه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني ان الفرد بما انه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ ، وذلك معناه اتحاد المعنيين الكاشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين وإلاّ لما كان الفرد بما انه وجود لأحدهما وجودا للآخر. وذلك نظير حمل الإنسان لما له من المعنى على زيد بما انه وجود للحيوان الناطق ، فان صحته كاشفة عن وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق بالتقريب الّذي ذكرناه. وبذلك يظهر اختصاص دلالة الحمل الشائع على الوضع بما إذا كان الحمل بين الكلي وفرده ، أما إذا كان بين كليين متساويين أو بينهما عموم وجه فصحة حمل أحدهما على الآخر لا تكشف عن الوضع ، وذلك لأن أساس الكشف يبتني على ان الموضوع لوحظ فيه كونه وجودا للمعنى الّذي يشك في وضع اللفظ له ، وأخذ موضوعا بهذا القيد ، ولا يبتني على مجرد دلالة الحمل على الاتحاد في الوجود ، إذ قد يكون فرد واحد فردا لكليين متغايرين من جهتين لكنه بما هو فرد لأحدهما ليس فردا للآخر.

وعليه ، ففي صورة حمل أحد المتساويين على الآخر أو أحد العامين من وجه على الآخر ، لم يفرض الا بيان اتحاد الموضوع والمحمول وجودا لا غير - لا

ص: 177

أن الموضوع بما انه كذلك وجود للمحمول بما هو محمول ، وإلاّ لم يصح الحمل كما لا يخفى -. وقد عرفت انه لا يكفي في الكشف عن الوضع. وقد تعرض بعضهم لتفصيل الكلام في صور الحمل والاتحاد ، لكننا أهملناه لعدم الأثر بالتطويل.

ثم ان إشكال الدور المتقدم بيانه في التبادر يأتي هاهنا أيضا ، لأن صحة الحمل تبتني على العلم بمعنى اللفظ وإلاّ فلا يعلم صحة الحمل من عدمها ، فكون العلم بالوضع موقوفا على صحة الحمل يستلزم الدور. والإجابة عنه كما تقدم اما بالفرق بالإجمال والتفصيل بين العلم الموقوف عليه صحة الحمل والعلم الموقوف على صحة الحمل. أو بالفرق بالعالم والمستعلم. فلا نعيد.

ثم ان المحقق الأصفهاني بعد ان أشار إلى حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي بلا قرينة ، ذكر ان التحقيق يقضي جعل نفس الحمل والسلب علامة للحقيقة والمجاز فيما كان النّظر إلى صحة الحمل وعدمها عند العرف ، لا جعل صحة الحمل وصحة السلب علامة للحقيقة والمجاز ، لأن العلم بصحة الحمل يحتاج إلى سبب آخر من تنصيص أهل اللسان أو التبادر أو نحوهما ، فيخرج عن كونه علامة ابتدائية مستقلة ، بخلاف نفس الحمل والسلب فانه بنفسه علامة الاتحاد والمغايرة من دون توقف على امر آخر (1).

كما ان السيد الخوئي أنكر دلالة صحة الحمل بنوعية الأولي والصناعي على الحقيقة والوضع. ببيان : ان الحمل الأولي لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتا ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال ، وانه حقيقي أو مجازي ، فقولنا : « الحيوان الناطق إنسان » لا يدل إلاّ على اتحاد معنييهما حقيقة ، أما ان استعمال لفظ الإنسان فيما أريد به حقيقي أو مجازي فذلك أجنبي عن مفاد

ص: 178


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 28 - الطبعة الأولى.

الحمل ، فلا يدل على الوضع ، إذ قد يكون المعنى المراد باللفظ مجازيا. وهكذا الحال في الحمل الشائع ، فانه لا يكشف إلاّ عن اتحاد الموضوع والمحمول وجودا بلا نظر إلى حال استعمال المحمول في ما أريد به وانه حقيقي أو مجازي ، وظاهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز. وبعبارة أخرى : - كما قال - ان صحة الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتحاد المفهومين ذاتا يصح الحمل وإلاّ فلا ، واما الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال. وبين الأمرين مسافة بعيدة (1).

وأنت خبير بضعف هذا الكلام ، فان المفروض ان المحمول هو اللفظ بما له من معنى ارتكازي وبلا قرينة ، ولا يخفى أن ذلك معناه فرض حمل اللفظ بمعناه الموضوع له المرتكز في النّفس ، لا الأعم من الحقيقي والمجازي ، كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني ، وبعد هذا الفرض في أصل الكلام في صحة الحمل لا وجه لما ذكره وقرره فانه عجيب جدا كما لا يخفى فلاحظ.

منها : الاطراد ، وبيانه : هو ان يستعمل لفظ في شيء أو يطلق عليه بلحاظ معنى ، فإذا اطرد استعمال ذلك اللفظ بلحاظ هذا المعنى بحيث صح استعماله مطلقا ومطردا بلحاظه كان ذلك علامة ودليلا على كون اللفظ موضوعا لذلك المعنى.

لكنه يشكل : بان الاطراد حاصل بالنسبة للمعاني المجازية ، فان اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بلحاظ العلاقة المصححة ، ويطرد في جميع موارد وجود العلاقة بلحاظها ، نظير استعمال أسد في زيد بلحاظ الشجاعة ، فانه يصح استعمال لفظ أسد في غير زيد من افراد الإنسان أو غيره بلحاظ الشجاعة. فجعل الاطراد علامة الحقيقة ينتقض بالمجاز.

ص: 179


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 117 - الطبعة الأولى.

وقد يدفع النقض - كما احتمله صاحب الكفاية (1) - بان الملحوظ في الاستعمال المجازي نوع العلاقة ، وبملاحظتها لا يطرد الاستعمال ، فالملحوظ في استعمال أسد في زيد علاقة المشابهة لا خصوص المشابهة بالشجاعة. وظاهر انه لا يصح استعمال لفظ أسد في كل ما شابهه بلحاظ المشابهة ، إذ لا يصح استعماله في الجبان الأبخر ولا الجبان ذي العينين وهكذا.

لكنه فاسد ببطلان أساسه : فان الملحوظ والمصحح للاستعمال المجازي هو العلاقة الخاصة لا نوعها ، كالمشابهة في الشجاعة في استعمال أسد في زيد. لا كلي المشابهة - وإلاّ لكان مطردا - ، وظاهر ان الاستعمال بلحاظ خصوص المشابهة مطرد.

ومن هنا - أي من الانتقاض بالاستعمال المجازي - زاد بعضهم قيد ، على وجه الحقيقة أو بدون تأويل - بلحاظ الخلاف في حقيقة المجاز ، وانه مجاز في الكلمة أو في الادعاء - ، فيكون الاطراد علامة الحقيقة إذا كان على وجه الحقيقة أو بلا تأويل ، فلا ينتقض بالاستعمال المجازي لأنه مطرد لكنه لا على وجه الحقيقة.

واستشكل فيه صاحب الكفاية باستلزامه الدور : لأن معرفة الحقيقة والوضع تتوقف على حصول الاطراد على وجه الحقيقة ومعرفة ذلك تتوقف على معرفة الحقيقة. فيلزم الدور (2).

والتفصّي عن إشكال الدور في التبادر بالإجمال والتفصيل بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر لا يتأتى فيما نحن فيه ، لأنه بعد أن أخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع ، فلا بد من حصولها تفصيلا ، وحصول الالتفات إليها يعلم بحصول الدليل والعلامة بها إلى مدلولها ،

ص: 180


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /20- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /20- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والعلم الارتكازي الإجمالي لا يجدي في التوصل إلى المطلوب ، إذ لا يعلم به ثبوت العلامة والدليل فلاحظ جيدا. وللاعلام في المقام بعض التحقيقات أعرضنا عن ذكرها لأنه يستلزم التطويل بلا طائل ، واكتفينا بهذا المقدار لمجرد الإشارة إلى المطلب.

أحوال اللفظ

ذكر صاحب الكفاية قدس سره : انه قد ذكر للفظ أحوال خمسة : المجاز ، والنقل ، والاشتراك ، والتخصيص ، والإضمار ، والمراد من كل منها واضح لا يحتاج إلى بيان والكلام فيها في مقامين :

الأول : فيما إذا دار أمر اللفظ بينها ، كما إذا دار بين ان يكون مستعملا في هذا المعنى بنحو المجاز أو الاشتراك ، أو دار بين ان الأمر بين المجاز والنقل ، وهكذا ...

وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض مرجحات إلاّ انها لا تغني ولا تسمن من جوع ، لعدم الدليل على الترجيح بها تعبدا ، كما انها لا توجب الجزم بالترجيح ، نعم إذا أوجب المرجح ظهور اللفظ في أحد النحوين كان ذلك النحو متعينا تحكيما لأصالة الظهور.

الثاني : فيما إذا دار امر اللفظ بين أحد هذه الأحوال وبين المعنى الحقيقي كدورانه بين الحقيقة والمجاز وانه مستعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي (1).

وقد التزم صاحب الكفاية بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. وهذا في الجملة واضح ، وانما الإشكال والالتباس في فرضه دوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين سائر الأحوال ، لأنه ظاهر في دوران الأمر بين الحقيقة

ص: 181


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /20- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والمجاز ، أما دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والاشتراك والنقل فلا يتصور له معنى ، لأن المعنى المشترك حقيقي ، وهكذا المعنى المنقول فانه معنى حقيقي لأنه موضوع له اللفظ ، ومثله الحال في دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والتخصيص ، لأن التخصيص لا يوجب المجازية على بعض الآراء فلا يعد قسيما ومقابلا للمعنى الحقيقي. نعم على بعض الآراء يكون موجبا للمجازية فيصح عده قسيما للمعنى الحقيقي.

وتوجيه مراده : بأنه لا يريد من المعنى الحقيقي المعنى المقابل للمجاز ، بل يريد به المعنى الأصلي والّذي جعل اللفظ بإزائه أولا ، ففي مورد تعدد الحقيقة كمورد النقل والاشتراك والتخصيص يراد دوران الأمر بين المعنى الحقيقي الأولي والمعنى الحقيقي الثانوي وهو المعنى المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له اللفظ ثانيا أو المعنى الخاصّ. وان كان يجدي في ردع الإشكال في العبارة ، لكنه يورد عليه :

بأنه لم يثبت حمل الكلام على المعنى الحقيقي الأولي في صورة دوران الأمر بينه وبين الاشتراك - وان ثبت تقديم العموم على الخصوص في مورد الشك بأصالة الظهور ، والتزم بتقديم المعنى الحقيقي الأولي في مورد احتمال النقل بأصالة عدم النقل - ، لعدم جريان أصالة الظهور في المقام ، لأن اللفظ لا يكون ظاهرا في أحدهما إلاّ بقرينة على تقدير الاشتراك ، فاحتماله مانع من تمامية الظهور ، كما انه لا أصل عقلائيا ينفي الاشتراك نظير الأصل النافي للنقل - لو سلم بجريانه -.

وعليه ، فالحكم بالصيرورة إلى المعنى الحقيقي مطلقا لو دار الأمر بينه وبين غيره من أحوال اللفظ لا يخلو من جزاف.

* * *

ص: 182

الحقيقة الشّرعيّة

اشارة

ص: 183

ص: 184

الحقيقة الشرعية

هذا المبحث كسوابقه غير ذي ثمرة عملية كما سيتضح فيما بعد ، لذلك كان الاكتفاء بذكر مطلب الكفاية وما يتعلق به هو المتعين كغيره من المباحث المتقدمة التي لا ثمرة فيها.

وموضوع البحث : هو انه لا إشكال في وجود معان شرعية مستحدثة قد استعمل الشارع فيها ألفاظا كانت موضوعة لغة إلى معان معينة ، فهل نقل الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية ووضعها للمعاني الشرعية فتثبت الحقيقة الشرعية ، أو لم ينقلها بل كان يستعمل الألفاظ في المعاني الشرعية بنحو المجاز وبالقرينة فلا تثبت الحقيقة الشرعية؟ وذلك كلفظ « الصلاة » فانه موضوع لغة إلى الدعاء - كما يقال - وقد استعملت في لسان الشارع في الواجب الخاصّ والفعل المعهود المشتمل على اجزاء وشرائط.

فهل وضع الشارع - ناقلا - لفظ الصلاة إلى هذا الواجب المعين ، أو انه لم يضع اللفظ للفعل الخاصّ بل استعمله فيه مجازا وبالقرينة؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية ان في المسألة أقوالا ، ثم شرع بيان الحق في المسألة ، إلاّ انه قبل بيانه تعرض إلى بيان شيء دخيل في التحقيق ، وهو : ان الوضع التعييني يتصور حصوله بنحوين :

ص: 185

الأول : أن ينشأ بالقول ، ثم بعد تحققه بذلك يستعمل اللفظ في المعنى فينشأ بصورة « وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى » شأنه شأن غيره من الإنشائيات والاعتباريات ، لأنه كما عرفت امر اعتباري.

الثاني : ان ينشأ بالاستعمال ، بان يستعمل اللفظ في المعنى رأسا ، ويقصد بهذا الفعل - أعني الاستعمال - تحقق الوضع له وإنشائه بلا ان يسبق الاستعمال تصريح بالوضع أصلا. وتقريب ذلك : ان استعمال اللفظ في معنى وقصد دلالته عليه بنفسه لمكان من لوازم الوضع ، إذ بدونه لا يكون اللفظ دالا على المعنى بنفسه ، كان الاستعمال دالا بالدلالة الالتزامية على الوضع وموجبا لحضوره في ذهن المخاطب بالالتزام ، وعليه فيقصد إيجاد الوضع وتحققه خارجا بهذه الدلالة الالتزامية ، وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، إذ لا يعتبر في المنشأ ان يكون مدلولا عليه مطابقة كالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني.

ثم انه لا بد من نصب قرينة في هذا الاستعمال ، إلاّ انها على تحقق الوضع بهذا الاستعمال لا على دلالة اللفظ على المعنى واستعماله فيه ، وبذلك اختلفت هذه القرينة عن قرينة المجاز.

والإشكال في هذا الاستعمال بأنه ليس استعمالا حقيقيا ، لأنه ليس فيما وضع له لفرض تحقق الوضع به ، ولا مجازيا لعدم كونه فيما يناسب الموضوع له ، إذ قد لا يكون اللفظ موضوعا إلى معنى آخر أو كان ولكن لا مناسبة بينه وبين المستعمل فيه.

غير وجيه ، بعد ما عرفت من إمكان ان لا يكون الاستعمال حقيقيا ولا مجازيا ، كاستعمال اللفظ في مثله ونحوه. ثم انه ادعى بعد ذلك : ان دعوى الوضع التعييني بهذا النحو غير مجازفة للتبادر ، وقد عرفت انه علامة الحقيقة. وانما لم يلتزم بالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني مع صلاحية الدليل لإثباته وهو التبادر بل هو لا يكشف عن النحو الثاني ، وانما يكشف عن أصل الوضع لا

ص: 186

كيفيته ، لوجود المانع الثبوتي عنه ، وذلك لأن النحو الأول لما كان فعلا صريحا مستقلا من الشارع وبادرة ملفتة منه. كان تحققه مستلزما لظهوره عندنا بالنقل ، إذ قد نقل إلينا من افعال النبي صلی اللّه علیه و آله ما هو أقل من الوضع أهمية. وحيث انه لم ينقل ذلك نجزم بعدم كون الوضع بهذا النحو ، ومن هنا تظهر الثمرة في تعرض صاحب الكفاية إلى بيان هذا القسم من الوضع - أعني الوضع بالاستعمال - ، فانه لو لم يثبت لم تثبت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني ، للجزم بعدم تحققه إنشاء بالقول ، إذ لو كان لبان.

وعليه ، فالوضع التعييني بالنحو الثاني ثابت بأمرين منضمين : أحدهما : التبادر المثبت لأصل الوضع ، والآخر : العلم بعدم ثبوت الوضع التعييني بالنحو الأول بعدم نقله النافي للنحو الأول والمعين للنحو الثاني. ثم انه أيد دعواه الوضع بأنه لو لم يلتزم بالوضع كانت الاستعمالات الواردة في لسان الشارع مجازية وهو ممتنع في بعض الاستعمالات ، لشرط العلاقة المصححة بين المعنى الحقيقي اللغوي والمعنى الشرعي المستعمل فيه اللفظ ، وقد لا تكون ، كما في الصلاة فانها لغة موضوعة للدعاء ولا علاقة بينه وبين المعنى الشرعي.

وما قد يدعى من وجود علاقة الجزء والكل ، إذ الدعاء من اجزاء الصلاة شرعا.

لا يفيد في صحة الاستعمال ، لأن جواز استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل انما يثبت في فرض كون الجزء أساسيا وذا أهمية في تحقيق الكل ، وليس الدعاء كذلك ، لأنه ليس من أركان الصلاة. ولو تنزل عن دعوى الوضع التعييني ، فدعوى حصول الوضع التعييني باستعمال الشارع هذه الألفاظ في معانيها الشرعية ليست دعوى جزاف ، لكثرة استعماله.

ثم انه حيث كان المراد بالحقيقة الشرعية وضع الألفاظ لهذه المعاني في شرعنا ، كان ثبوت الحقيقة الشرعية يتوقف على عدم ثبوت هذه المعاني قبل

ص: 187

شرعنا وكونها مستحدثة من قبله.

ولكن الّذي يظهر من بعض الآيات ثبوتها في الشرائع السابقة ، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ ) (1) ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى ويحيى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (2) ، وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (3). وعليه ، فتكون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.

والتخلص من ذلك باختلاف نحو العبادات السابقة عن نحوها في شريعتنا لا يجدي. لأن الاختلاف في المصداق - كاختلاف الصلاة عندنا بحسب اختلاف الحالات - ، فانه لا يدل على اختلاف المعنى بل المعنى واحد. غاية الأمر ان المصداق في شرعنا يختلف عن المصداق في الشرائع السابقة كاختلاف المصاديق في شرعنا (4).

هذا بيان ما ذكره صاحب الكفاية في المقام وتوضيحه. واتضح بذلك ان أساس ثبوت الوضع التعييني والحقيقة الشرعية به ركنان :

الأول : إثبات نحو آخر للوضع التعييني وهو الإنشاء بالاستعمال.

والثاني : عدم ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة.

وقد أورد على الركن الأول - أعني إمكان تحقق الوضع التعييني بالاستعمال - من جهتين :

الجهة الأولى : ان ذلك يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد. وقد قرب ذلك بوجهين :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه : من ان الوضع جعل

ص: 188


1- سورة الحج ، الآية : 27.
2- سورة مريم ، الآية : 31.
3- سورة البقرة ، الآية : 183.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -/21- 22 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اللفظ بحيث يحكى عن المعنى ، فالحكاية والدلالة مقصودة في الوضع وملحوظة بنحو الاستقلال ، لأن الحكاية المأخوذة فيه ليست الحكاية الفعلية التي تحصل مغفولا عنها ، بل الحكاية الشأنية. بخلافها في الاستعمال فانها ملحوظة ومقصودة على الوجه الآلي دون الاستقلالي ، لأن النّظر الاستقلالي فيه متعلق بالمعنى. واما ما به الحكاية وهو اللفظ ونفس الحكاية ، فهما متعلقان للحاظ الآلي.

وعليه ، فإذا أريد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال لزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في شيء واحد ، وهو الدلالة ، في حين واحد (1).

ويندفع : أولا : بان حيثية الدلالة لم تؤخذ في معنى الوضع أصلا ، بل الوضع كما تقدم ليس إلاّ مجرد اعتبار العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى ، أو اعتبار اللفظ على المعنى ، أو اعتباره المعنى ، وليس للدلالة أي دخل في عملية الوضع ولم يؤخذ النّظر إليها من شرائطه كما لا يخفى.

وثانيا : لو سلم أخذ الدلالة في الوضع وتعلق النّظر والقصد الاستقلالي بها ، فلا يخفى ان متعلق اللحاظ والقصد فيه هو طبيعي الدلالة ومفهومها لا مصداقها إذ لا تلحظ الدلالة الفعلية ، إذ متعلق الوضع هو طبيعي اللفظ للمعنى. وظاهر ان الدلالة الملحوظة حينئذ هو مفهومها لا مصداقها لعدم قابلية طبيعي اللفظ بما هو طبيعي للدلالة فعلا.

كما انه من الظاهر كون الدلالة الملحوظة حال الاستعمال هي الدلالة الفعلية ، فمتعلق اللحاظ فيه هو مصداق الدلالة.

وعليه ، فلا يستلزم إنشاء الوضع بالاستعمال تعلق اللحاظين بشيء واحد ، بل اللحاظ الاستقلالي يتعلق بمفهوم الدلالة ، والآلي بمصداقها ، وهما متغايران.

ص: 189


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث -/32- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. الاصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية31/1- الطبعة الاولی.

وهذا هو الصحيح في الجواب ، لا ما ذكره المرحوم الأصفهاني من ان إنشاء الوضع حيث كان بالمدلول الالتزامي للاستعمال لأنه لازم الوضع ، كانت الحكاية متعلقة للحاظ الآلي في مقام يختلف عن مقام تعلق اللحاظ الاستقلالي ، فانها ملحوظة استقلالا فمرحلة التسبيب إليها بإنشاء لازمها ، وملحوظة آليا في مرحلة نفس الاستعمال وهو لازمها (1).

وذلك : لأن تعدد مرحلة تعلق اللحاظ واختلاف مقامه لا يجدي في رفع غائلة المحذور وهو اجتماع اللحاظين في شيء واحد في زمان واحد ، إذ اختلاف المرحلة لا يوجب اختلاف الزمان.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي رحمه اللّه : من ان الوضع لما كان جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى أو نظير ذلك ، كان اللفظ في حال الوضع متعلقا للحاظ الاستقلالي لأنه طرف الحكم والاعتبار ، وحيث ان الاستعمال جعل اللفظ حاكيا عن المعنى وفانيا فيه كان اللفظ في حال الاستعمال ملحوظا آلة نظير المرآة. إذ النّظر الاستقلالي يتعلق بالمحكي دون الحاكي. وعليه فإنشاء الوضع بالاستعمال يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في اللفظ في زمان واحد. وهو محال.

ويندفع بما قرره المحقق العراقي : من ان متعلق اللحاظ الاستقلالي في حال الوضع هو طبيعي اللفظ ، لأن الوضع جعل العلقة بين طبيعي اللفظ لا مصداقه الخاصّ. ومتعلق اللحاظ الآلي في حال الاستعمال هو مصداق اللفظ ، إذ به تكون الحكاية. وعليه فلا يلزم في إنشاء الوضع بالاستعمال اجتماع لحاظين في شيء واحد ، لاختلاف متعلق كل منهما عن متعلق الآخر (2).

وهذا هو الوجه في الاندفاع لا ما ذكره السيد الخوئي من تأخر الاستعمال

ص: 190


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية /31- الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 33 - الطبعة الأولى.

رتبة عن الوضع (1).

لأن التأخر الرتبي لا يستلزم عدم اجتماع اللحاظين في شيء واحد في زمان واحد. كما انه لا يرفع المحذور بنفسه ، فان فرض تأخر أحد الضدين عن الآخر رتبة لا يسوغ اجتماعهما في شيء واحد في آن واحد. فلاحظ وتأمل.

الجهة الثانية : انه لما كان أساس صحة إنشاء الوضع بالاستعمال هو كون الاستعمال ودلالة اللفظ بنفسه على المعنى من لوازم الوضع ، فيكون الاستعمال دالا بالالتزام على الوضع وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، لما كان أساسه ذلك كان مبتنيا على الالتزام بان قرينة المجاز جزء الدال على المعنى المجازي. إذ اللفظ لا يدل بنفسه على المعنى المجازي ، فتكون الدلالة بنفسها من لوازم الوضع.

ولكنه غير ثابت ، بل التحقيق على ان القرينة تكون على إرادة المعنى المجازي من اللفظ ، فيكون اللفظ بنفسه دالا على المعنى ، والقرينة تدل على دلالته عليه وإرادة المعنى منه ، فنفس « الأسد » في قولنا « هذا الأسد » مشيرا إلى زيد مستعمل في زيد ودال على زيد ، والإشارة ليست دخيلة في الدال بل هي تعيّن الدلالة ، والدال هو اللفظ.

وعليه ، فدلالة اللفظ بنفسه ليست من لوازم الوضع ، بل هي امر مشترك بين صورتي الوضع وعدمه. فلا يكون الاستعمال موجبا لخطور الوضع في الذهن لأنه لازم أعم. فليس إنشاء الوضع بالاستعمال من سبيل.

وأنت خبير بوهن هذا الإشكال ، فان المراد من كون دلالة اللفظ بنفسه من لوازم الوضع ، هو دلالته على المعنى بلا معونة واسطة ، كما في المجاز فانه بمعونة القرينة ، وليس المراد دلالة اللفظ ذاته ومستقلا الّذي هو امر مشترك بين الحقيقة والمجاز ، كي يرد ما ذكر.

وبالجملة : تارة يراد من « دلالة اللفظ بنفسه » دلالته على المعنى بلا

ص: 191


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 128 - الطبعة الأولى.

واسطة في البين ، بإرجاع « بنفسه » إلى الدلالة لا اللفظ.

وأخرى : يراد دلالته بذاته ومستقلا على المعنى بلا اشتراك لغيره معه ، بإرجاع القيد إلى اللفظ الدال ، والمعنى الأول من خصائص الوضع ولوازمه ، إذ دلالة اللفظ على المعنى المجازي بمعونة القرينة ، والمعنى الثاني مشترك بين الوضع وغيره فهو لازم أعم للوضع. والمراد في تقريب إنشاء الوضع بالاستعمال هو الأول ، فان الغرض بالاستعمال المقصود إنشاء الوضع به ، جعل اللفظ دالا بنفسه وبلا قرينة على المعنى ، وهو من لوازم الوضع ، والإيراد المزبور يبتني على الخلط بين المعنيين واشتباه المراد منهما وتخيل انه الثاني. فلاحظ.

وأورد على الركن الثاني - بما هو منسوب إلى ولده (1) - : من ان ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يكفي في ثبوت كون هذه الألفاظ فيها حقائق لغوية ، إذ ثبوت المعاني سابقا لا يستلزم وضع هذه الألفاظ المخصوصة لها ، ونقل القرآن ليس بدليل على تحقق وضعها لها ، إذ يمكن ان يكون نقلا بالترجمة وبذكر المرادف لما كان موضوعا سابقا لهذه المعاني من الألفاظ ، كما هو شأنه في نقل المحاورات الكلامية باللغة العربية ، إذ يعلم بان التفاهم لم يكن سابقا باللغة العربية (2).

والإيراد على هذا : بان الظاهر ان النبي صلی اللّه علیه و آله حين كان يلقي هذه الألفاظ بالآيات ، كان العرب يفهمون منها معانيها الشرعية ، ولم يكونوا يرونها غريبة عن أذهانهم ، ولو لم تكن معلومة الوضع لديهم ، لم يكادوا يفهمون معانيها منها ولرأوها غريبة عن أذهانهم.

مندفع : بأنه من جهة ان النبي صلی اللّه علیه و آله كان قد أعلمهم قبل

ص: 192


1- ولد صاحب الكفاية.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول1/ 33 ( في الهامش ) - الطبعة المحشاة بحاشية المشكيني (رحمه اللّه).

نقل الآيات بهذه المعاني بأسمائها الشرعية وبحكمها في الشريعة ، ثم كان يذكر الآية استشهادا وبيانا لحكمه. وهذا لا يدل على كون هذه الألفاظ موضوعة لهذه المعاني سابقا ، فتأمل.

والمتحصل : هو ان دعوى الوضع التعييني بالاستعمال غير بعيدة ، ولو تنزل عنه فدعوى الوضع التعيني لا تخلو من وجاهة.

لكن الإنصاف انه لا طريق لدينا لإحراز الوضع التعيني الاستعمالي ، بحيث يحرز به انه قصد الوضع في أول استعمال ، إذ لا طريق لإحراز التبادر في الاستعمال الأول.

ثم انه قد ذكر لهذا المبحث ثمرة : وهي انه مع الشك في إرادة المعنى الشرعي أو غيره من اللفظ الوارد في كلام الشارع بلا قرينة تعين أحد المعنيين. يحمل اللفظ على المعنى الشرعي بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعلى المعنى اللغوي بناء على عدم ثبوتها لأصالة الحقيقة.

لكن الظاهر انه لا مورد لهذه الثمرة - كما أفاد ذلك المحقق النائيني - (1) ، فان جميع الاستعمالات الواردة في كلام الشارع ممّا يعلم بمراد الشارع فيها ، وليس هناك مورد يشك فيه في مراده كي تصل النوبة إلى ما ذكر. وبعبارة أخرى : ان الكبرى وان كانت ثابتة إلاّ ان تحقق الصغرى غير ثابت ، لعدم الشك في مورد ما وظاهر ان ذلك ينفي كون الكبرى ثمرة عملية.

وعليه ، فمبحث الحقيقة الشرعية مبحث علمي صرف ليس بذي ثمرة وأثر عملي.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر امرا آخر : وهو ان الثمرة المزبورة انما تتم في مورد العلم بتاريخ الوضع وتأخر الاستعمال عنه. واما مع الجهل بتاريخهما ، فلا أثر. إذ غاية ما يمكن ان يذكر في إثبات تأخر الاستعمال وجهان :

ص: 193


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 33 - الطبعة الأولى.

أحدهما : أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع. وهو مردود لوجهين :

أولهما : معارضته بأصالة تأخر الوضع.

وثانيهما : انه من الأصول المثبتة ، لأن مرجع هذا الأصل إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع ، ولا يخفى ملازمة ذلك لتأخر الاستعمال عن الوضع وثبوته بعده ، فثبوت تأخر الاستعمال بهذا الأصل يبتني على ثبوت الأصل المثبت. وتحقيق ذلك في أوائل التنبيه الحادي عشر من تنبيهات الاستصحاب في الكفاية فراجع (1).

الوجه الثاني : أصالة عدم النقل ، بمعنى انه يستصحب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال ، فانه أصل عقلائي ، وهو المسمى بالاستصحاب القهقرى ، ويثبت به تأخر الاستعمال عن الوضع وكون الوضع قبله ، وان كان ذلك بالملازمة لحجية الأصول العقلائية في لوازم مفادها.

ولكنه مردود : بان الثابت بناء العقلاء على عدم النقل مع الشك في أصل النقل ، اما مع العلم به والشك في تقدمه وتأخره فلم يثبت بناء العقلاء على استصحاب عدم النقل إلى زمان ما ، فلا دليل على حجية أصالة عدم النقل فيما نحن فيه (2).

ومنه يعلم انه لا بد من ان يكون المراد من التبادر المستدل به على ثبوت الوضع التعييني ، هو التبادر في زمان الشارع لا في زماننا ، إذ التبادر في زماننا لا يثبت الوضع من الشارع الا بأصالة عدم النقل ، وقد عرفت عدم ثبوتها في مورد العلم بأصل النقل والشك في زمانه.

* * *

ص: 194


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /22- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الصّحيح والأعمّ

اشارة

ص: 195

ص: 196

الصحيح والأعم

موضوع البحث والكلام : هو ان الألفاظ هل هي موضوعة للصحيح من معانيها أو للأعم من الصحيح والفاسد؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية أمورا قبل الخوض في أصل المطلب ، رأى ضرورة الاطلاع عليها وتحقيقها قبل تحقيق المقصود لدخله في تحقيقه.

الأمر الأول : في تصوير النزاع. ولا يخفى ان تصويره على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، إذ يقال : ان الشارع هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد؟ ولكن تصويره على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية صار محل الخلاف ، إذ لا وضع كي يقال بان الموضوع له هو الصحيح أو الأعم - ولا يخفى انه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص النزاع بالقول بثبوتها ، لا يكون هذا المبحث مبحثا مستقلا في مقابل المبحث السابق - أعني مبحث الحقيقة الشرعية - ، بل يكون من فروعه ومترتبا عليه ، لأنه نتيجة أحد القولين في تلك المسألة ، إذ لا يجري الكلام في هذه المسألة على كلا تقديري تلك المسألة -. والّذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم إمكان تصوير النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه ، وبصورة تتناسب مع علمية المبحث والنزاع ، إذ ادعى ان تصويره في غاية الإشكال.

وقد صوره بعض بما بيانه - كما في الكفاية - : ان النزاع يكون في ان

ص: 197

الأصل في الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيح أو الأعم بمعنى ان أيهما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ابتداء ولوحظت المناسبة بينهما أولا ، ثم استعمل اللفظ في الآخر بتبعه ومناسبته ، فينزل كلام الشارع عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي فقط وعدم قرينة أخرى معينة للآخر ، بلا احتياج لقرينة معينة له بخصوصه.

وقد استشكل صاحب الكفاية هذا التصوير : بأنه ليس تصويرا للبحث العملي الّذي يتصور لكلا شقيه وجه للثبوت ، وذلك لأن إثبات كلا الشقين على هذا التصوير ، أعني كون الأصل في الاستعمال هو الاستعمال في الصحيح أو كونه الاستعمال في الأعم ، يتوقف على أمرين لا سبيل علمي لإثبات كل منهما. وهما :

أولا : ثبوت اعتبار العلاقة أولا بين المعنى اللغوي وأحد المعنيين الصحيح والأعم بعينه.

وثانيا : تنزيل كلام الشارع على ما لوحظت العلاقة ابتداء بينه وبين المعنى اللغوي - لو ثبت ذلك - بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للمعنى الآخر ، بلا حاجة إلى قرينة خاصة معينة كغيره.

فانه لا يخفى انه ليس لدينا من الطرق المتعارفة في باب الظهورات وغيرها ما يثبت أحد هذين الأمرين ، فكيف يكون النزاع المتوقف عليهما نزاعا علميا يقصد فيه تحقيق أحد طرفيه؟! (1).

ويمكن النّظر فيما أفاده قدس سره : بان التقريب المزبور بأسلوبه العلمي الصناعي قد يبدو مشكل الإثبات. ولكنا نغض النّظر عن ذلك ، ونقول : ان طريق إثبات أولوية أحد المعنيين هو الظهور الثابت لأحدهما ولو كان مجازيا ، فانه لا إشكال في ظهور الكلام في أحد المعنيين ، وبضميمة عدم القول بالوضع الشرعي نعلم ان المعنى الظاهر مجازي ، فإذا ثبت الظهور ولو كان مجازيا حمل اللفظ عليه كما قد يقال بمثله في المجاز الراجح أو المشهور. فتدبر.

ص: 198


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /23- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لتصوير النزاع لا يتوقف الا على إثبات الأمر الأول ، ولا يعنينا التعرض إليه بشيء بعد ان اعترف مقرره بتوقفه على ما لا طريق لإثباته عادة (1).

وللمحقق النائيني وجه في رفع الإشكال في التصوير المذكور للنزاع ، وحاصله : ان طريق إثبات لحاظ العلاقة ابتداء بين أحد المعنيين بعينه والمعنى اللغوي ممكن ، وذلك لأنه ان لم تثبت الحقيقة الشرعية فثبوت الحقيقة لدى المتشرعة لا ينكر ، لتبادر هذه المعاني من الألفاظ عندنا. ولا يخفى ان الحقيقة الشرعية انما حصلت بكثرة الاستعمال من زمان الشارع إلى زمان المتشرعة ، وعليه فيلحظ ما هو المتبادر عندنا نحن المتشرعة من الصحيح أو الأعم ، فينزل كلام الشارع عليه ويبنى على ان الأصل استعماله فيه ، لأن التبادر والوضع التعيني عندنا انما حصل بتبع استعمال الشارع والمتشرعة بتبعه ، فيكشف عن الأصل في استعمالات الشارع وان كانت مجازا (2).

وهذا الوجه ضعيف للغاية لوجوه :

الأول : انه لا وجه لاستكشاف الأصل في استعمالات الشارع بما هو المتبادر عندنا ، لأن التبادر انما نشأ من كثرة الاستعمال الناشئ من كثرة الحاجة إلى تفهيم المعنى ، ولا يبعد ان يكون الشارع قد استعملها في الصحيح مثلا ، إلاّ ان الاستعمال من قبل المتشرعة كان في الأعم بكثرة لكثرة الحاجة إلى تفهيمه ، فيتحقق الوضع التعيني لدى المتشرعة في الأعم دون الصحيح ، فالمتبادر منه معنى معين لا يكون كاشفا عن ان ذلك المعنى هو الأصل في استعمالات الشارع ، لإمكان ان يكون الأصل غيره ، لكن تبدل ذلك عند المتشرعة للحاجة الكثيرة لتفهيم غيره.

الثاني : ان الوجه المذكور على تقدير تسليمه في إثبات نحو استعمال

ص: 199


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 34 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 34 - الطبعة الأولى.

الشارع ، فهو لا يثبت كون الأصل فيه ذلك الاستعمال ، وان العلاقة لوحظت ابتداء بين المعنى المعين والمعنى اللغوي ، إذ يمكن ان تكون العلاقة لوحظت أولا بين غيره والمعنى اللغوي ، لكن كثر الاستعمال من الشارع في هذا المعنى لكثرة الحاجة إليه.

الثالث : انه على تقدير تسليم كشفه عن المعنى الّذي لوحظت العلاقة فيه ابتداء ، فهو لا يجدي ما لم يقم الدليل على ثبوت كون المعنى الّذي لوحظت العلاقة فيه ابتداء ، هو الأصل في الاستعمال ، وان الكلام يحمل عليه بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للآخر. وقد عرفت انه لا طريق عادة إلى إثبات ذلك.

وبالجملة : فمن مجموع ما ذكرناه يتضح ضعف ما ذكره قدس سره .

وبذلك تكون النتيجة هي ما انتهى إليه صاحب الكفاية من عدم تحقق النزاع المزبور على القول بعدم الحقيقة الشرعية ، وكون هذه المسألة من متفرعات مسألة الحقيقة الشرعية.

والعجب من السيد الخوئي انه يبني على جريان النزاع بالوجه المذكور في الكفاية ، بلا تعرض لدفع ما استشكله صاحب الكفاية وكلام أستاذه النائيني (1) ، مع ان القواعد تقتضي بضرورة التعرض إلى مثل ذلك نفيا أو إثباتا كما لا يخفى.

ثم انه لو بنى على تصوير النزاع وجريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بما ذكر في الكفاية ، يتضح جريانه على الرّأي المنسوب إلى الباقلاني القائل بان الألفاظ دائما مستعملة في معانيها اللغوية وإفادة إرادة الاجزاء والشرائط بقرينة خاصة ، كما أشار إليه في الكفاية فراجعه (2).

ص: 200


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 134 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /23- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر الثاني : في معنى الصحة وتحديد موضوع النزاع والبحث.

اتفق الكل على ان معنى الصحة هو التمامية ، إلاّ انه وقع الكلام في جهات :

الأولى : انه هل للتمامية واقع مستقل غير ما ذكر من الآثار كموافقة الأمر وإسقاط القضاء والإعادة ، أو انها أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر؟. وبعبارة أخرى : ان موافقة الأمر ونحوها من الآثار هل هي من لوازم التمامية وآثارها ، أم انها من مقومات معناها؟. ذهب صاحب الكفاية إلى ان هذه الآثار لوازم التمامية ومن آثارها ، وان تفسير الصحة في كلام الفقهاء بإسقاط الإعادة والقضاء ، وفي كلام المتكلمين بموافقة الأمر ، تفسير لها بلوازمها وآثارها التي هي محط النّظر ، وان ذلك لا يكون دليلا على ان للصحة معنى غير التمامية (1). وظاهر كلامه في مبحث دلالة النهي على الفساد ، ان اتصاف العمل بالتمامية انما هو بلحاظ ترتب الأثر (2).

وذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني ، فادعى ان مثل موافقة الأمر وإسقاط الإعادة من مقومات التمامية حيث انه لا واقع للتمامية الا التمامية من حيث موافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء أو ترتب الأثر المرغوب ، فالتمامية متقومة بهذه الحيثية المضافة إلى الأثر ، ولا يخفى انه يمتنع ان يكون الأثر حينئذ من لوازم التمامية ، لأن ما يكون من مقومات الشيء لا يكون من لوازمه وآثاره ، لأن نسبة اللازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة المعلول إلى العلة ، وهو خلف فرض كونه مقوما للشيء.

ثم انه تعرض في حاشية له على المقام لبيان الفرق بين لازم الماهية ولازم

ص: 201


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /182- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوجود ، ولما لم يكن ذا علاقة ماسة بما نحن فيه أهملنا ذكره (1).

وقد ذهب السيد الخوئي إلى ان للتمامية واقعا مع قطع النّظر عن هذه الآثار (2) ، وهي التمامية بمعنى جامعية الاجزاء والشرائط فانها بهذا المعنى لا تتقوم بشيء من الآثار ، بل لها وجود في ذاتها. واما موافقة الأمر وإسقاط الإعادة والقضاء وغيرهما من الآثار ، فهي من لوازم التمامية بهذا المعنى وآثارها. وادعى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني ناشئ من الخلط بين تمامية الشيء في نفسه المراد بها جامعيته للاجزاء والشرائط. وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء فانه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النّظر عن هذه الآثار واللوازم ، بل كونه تاما في مقام الامتثال والاجزاء لا يعنى به الا كونه مسقطا للإعادة والقضاء وموافقا للأمر. أو من الخلط بين واقع التمامية وعنوانها ، فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي ينتزع عن الشيء بلحاظ اثره ، فحيثية ترتب الآثار متممات حقيقة هذا العنوان. ولكنه خارج عن محل الكلام ، فان كلمة « الصلاة » مثلا لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة ، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه وهو الاجزاء والشرائط ، ومن الظاهر ان

ص: 202


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 35 - الطبعة الأولى.
2- أشرنا في التحقيق الوارد في ذيل الكلام : انه استجماع الاجزاء والشرائط ، لا واقع له الا ملاحظة جهة واحدة ، بالإضافة إليها يقال انه تام أو ناقص ، وإلا فلا وجه لأن يقال عن الركعة الواحدة انها مركب ناقص ، وإذا لم تكن جهة الوحدة هي الأثر ، أو موافقة الأمر كما هو الفرض ، فلا بد ان تكون هي التسمية ، بان يلاحظ تسمية مجموعة من الاجزاء والشرائط باسم الصلاة مثلا. ولا يمكن ان يراد ذلك في المقام ، إذ لا معنى ، لأن البحث عما هو الموضوع له وما هو المسمى باسم الصلاة ، ولا معنى لأن يقال ان الموضوع له لفظ الصلاة هو التام بلحاظ اسم الصلاة ، بل لا مجال للنزاع حينئذ. وبتقرير آخر : نقول ان الجزئية تنتزع عن ملاحظة الجزء مع غيره أمرا واحدا. فإذا كانت جهة الوحدة هي التسمية باسم واحد ، كان الجزء جزء المسمى ، ولا معنى للكلام في الوضع حينئذ. هذا مع ان النقصان والتمامية في الاجزاء لا يستلزم مطلقا صدق الفساد والصحة ، فليس الجسم الناقص فاسدا ، إذ الفساد يصدق بلحاظ عدم ترتب الأثر ، فالفساد أخص من النقصان. والكلام هاهنا في الصحة في مقابل الفساد لا مقابل النقصان.

حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الاجزاء والشرائط. هذا بيان ما ذكره السيد الخوئي إيرادا على أستاذه الأصفهاني بعبارة تقريرات الفياض تقريبا (1).

والتحقيق في المقام : ان الجزئية والشرطية ليس لهما واقع ، وانما هما ينتزعان عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الأمور المتكثرة واحدا بالإضافة إليه والتي ينتزع لها عنوان المركب ، كالأثر التكويني أو إسقاط القضاء أو الأمر. فالركوع مثلا بنفسه وبلحاظه ، ذاته لا يعد جزءا ، بل هو فعل تام مستقل ، وانما يعد جزءا بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الأمر ، فهو جزء المأمور به ، فجهة تعلق الأمر الواحد بالأمور المتكثرة دفعة واحدة ملحوظة في انتزاع الجزئية ولولاها لما كان جزءا ، أو بلحاظ دخله في حصول الأثر كالنهي عن الفحشاء فهو جزء المؤثر ، أو بلحاظ دخله في ترتب سقوط القضاء ، فهو جزء ما يترتب عليه إسقاط القضاء والمؤثر فيه. وهكذا لو وضع لفظ « زيد » مثلا للذات وامر خارج عن حقيقتها ، فان عد ذلك الأمر جزءا انما يكون بلحاظ مقام التسمية ودخله في المسمى بلفظ « زيد ». وإذا ثبت ان الجزئية والشرطية تنتزع عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الوحدة بالإضافة إليه ، لم يكن للتمامية من حيث استجماع الاجزاء والشرائط تحقق في عرض التمامية بلحاظ ترتب الأثر وموافقة الأمر وإسقاط القضاء ونحو ذلك ، لأن انتزاع الاجزاء والشرائط انما يكون بلحاظ أحد هذه الأمور ، فتكون التمامية من حيثية اجتماع الاجزاء والشرائط في طول التمامية بلحاظ أحد هذه الأمور ، فلا وجه لجعلها في عرضها والبحث عن إرادة أيها ، كما وقع في كلام المحققين الأصفهاني والخوئي.

وبعد ذلك نقول : ان التمامية أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة الملحوظة في الشيء ، فلا يكون الشيء تاما وناقصا في نفسه وبلا لحاظ أي جهة خارجية

ص: 203


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 135 - الطبعة الأولى.

أصلا ، من ترتب أثر أو حصول شيء منطبق على المركب كالمأمور به والمسمى ونحو ذلك. فلا يقال للصلاة ذات الركعة انها ناقصة بلحاظ ذاتها وبلا لحاظ أي شيء ، إذ هي وجود مستقل ، غاية الأمر انه غير وجود الصلاة ذات الركعتين ، وانما يقال لها انها ناقصة بلحاظ عدم حصول الأثر المترقب منها ، لعدم اجتماع جميع ما له الدخل في حصوله. أو بلحاظ عدم حصول المأمور به ومتعلق الأمر المترتب على الركعتين مثلا وهكذا.

وعليه ، فالتمامية لا يتصف بها الشيء في نفسه أصلا ، بل اتصاف الشيء بها وبالنقصان انما هو بلحاظ جهة خارجية عن الشيء يترقب حصولها من الشيء ، أو تكون ملحوظة في مقام لحاظ الوحدة والتركيب.

وأما الصحة ، فهي نحو من أنحاء التمامية ، لا التمامية بقول مطلق ، وهو التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا من حيثية أخرى ، لوضوح عدم صدق الفاسد على ناقص بعض الأجزاء بلحاظ شيء أجنبي عن ترتب الأثر المترقب مع حصول الأثر ، بل يصدق عليه الصحيح بلحاظ تاميته من حيث ترتب الأثر المترقب ، وان صدق عليه النقصان من حيثية أخرى وهي حيثية الحكم أو غيرها.

وبهذا البيان يظهر ما في كلام السيد الخوئي من الضعف وعدم الوضوح. إذ اتضح تقوم التمامية بالحيثيّات المزبورة وكونها من مقومات معناها. كما يظهر ما في إطلاق الكل بان الصحة هي التمامية ، فانك عرفت ان الصحة ليست هي التمامية بقول مطلق بل التمامية من حيث ترتب الأثر المرغوب والمترقب.

والمحصل : ان هناك جهة إشكال في كلام الأصفهاني والخوئي وهي فرض التمامية من حيث استجماع الاجزاء والشرائط في عرض التمامية من الحيثيات الأخرى ، وجهة مختصة في كلام السيد الخوئي ، وهي فرض التمامية للشيء في نفسه بلا لحاظ أنّه جهة خارجية ، وجهة عامة في كلام الكل ، وهي فرض الصحة بمعنى التمامية بقول مطلق فلاحظ.

ص: 204

ويقع الكلام بعد ذلك في الجهة الثانية : وموضوع البحث فيها تشخيص الملحوظ من افراد التمامية في معنى الصحة المأخوذة في موضوع البحث في المسألة ، وانه هل التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو التمامية من حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، أو التمامية من حيث ترتب الأثر التكويني ، وهو النهي عن الفحشاء - مثلا -؟.

والتحقيق : عدم إمكان إرادة الصحة بمعنى التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، وعدم كونها من إحدى هاتين الحيثيتين محلا للبحث.

وذلك لأن الشيء لا يتصف بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء الا بعد تعلق الأمر. فلا يمكن الالتزام بان اللفظ موضوع للشيء الصحيح من حيثية موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ، لأن المفروض أخذ المسمى في موضوع الأمر ، ويمتنع أخذ الشيء بما انه موافق للأمر في موضوع الأمر فانه خلف كما لا يخفى ، فلا بد ان يفرض المسمى مما يمكن أخذه في حيز الأمر ومما يمكن فرضه في مرتبة متقدمة عليه ، وهو غير الصحيح من إحدى الحيثيتين المزبورتين.

وعليه ، فيتعين ان يكون موضوع الكلام ومحل البحث هو الصحيح بمعنى التمام من حيث ترتب الأثر ، وانّ الموضوع له هو الصحيح بهذا المعنى أو الأعم ، إذ لا محذور فيه سوى ما يتوهم من انه يلزم أخذ ما هو خارج عن الذات فيها ، وذلك لأن الصحيح بهذا المعنى انما ينتزع عن الشيء بلحاظ ترتب الأثر عليه ، فالأثر خارج عن ذات الشيء لأنه بمنزلة المعلول لها ، وظاهر خروج المعلول عن العلة.

وعليه ، فأخذه في المسمى ولو بلحاظ تقيده ودخل التقيد به وان كان نفس القيد خارجا يلزم أخذه في الذات ، وهو خلف فرض خروجه عن ذات المؤثر.

وهو مندفع : بان خروج الأثر عن حقيقة المؤثر وتأخره رتبة عن وجود

ص: 205

المؤثر ، لا يمنع من إمكان دخله في المسمى واعتباره في التسمية ، بان يوضع اللفظ للفعل القائم به الأثر والمترتب عليه ، إذ لا يلزم من ذلك فرض دخله في حقيقة المؤثر كي يكون خلفا.

وبعبارة أخرى : ان الخروج عن الذات والتأخر الرتبي عن المؤثر ، انما هو في مقام الوجود والتحقق ، وهو أجنبي عن مقام التسمية. فلا يمتنع ان يوضع للأثر والمؤثر لفظ واحد مع الاحتفاظ بما لكل منهما من مرتبة ووجود. لأن الدخل في المسمى لا يوجب الدخل في الذات. كما هو شأن كل لفظ موضوع لمركب ، فان كل جزء دخيل في المسمى لكنه ليس دخيلا في حقيقة الجزء الآخر كما لا يخفى. فلاحظ.

وبالجملة : الصحيح هو ملاحظة التمامية بالإضافة إلى الأثر.

ولا يخفى انه تارة يفرض كون الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر بالفعل. وبعبارة أخرى : ما هو المؤثر ، وفي مثله لا يمكن فرض الأثر من لوازم الصحة ، بل من مقوماتها نظير المبدأ الملحوظ في إطلاق المشتق على الذات. وأخرى يكون بمعنى الحصة الملازمة لترتب الأثر ، يعني بلوغ المركب حدا يترتب عليه الأثر ، كما هو الحال في العلة التامة فان بلوغ العلة التامة بمعنى بلوغ العلة حدا يترتب عليه المعلول ، وفي مثله يصح ان يقال : ان المعلول من لوازم العلة وآثارها ، في الوقت الّذي يكون الاتصاف بالتمامية بلحاظ المعلول.

وبالجملة : تارة يراد بالصحيح ما هو المؤثر ، وأخرى يراد به وصوله إلى حد يترتب عليه الأثر. ففي الأول يكون الأثر مقوما لصدق الصحة بخلافه في الثاني فان الأثر من لوازم الصحة ، لأن الصحة منتزعة عن ذات المؤثر لا عن ترتب الأثر عليه فعلا. وبذلك ويمكن الجمع بين ما أفاده في الكفاية هنا من ان إسقاط القضاء ونحوه من لوازم التمامية ، وبين ما ذكره في مبحث دلالة النهي على الفساد من كون التمامية بلحاظ الأثر. إذ عرفت إمكان الجمع ، فلا وجه لإيراد الأصفهاني عليه هنا ، بان الأثر إذا كان ملحوظا في الصحة كان مقوما لها لا أثرا

ص: 206

لها ، كالمبدإ في قولنا « قائم » (1). ومن الغريب انه يذكر ما ذكرناه من معنى الصحة الآخر في ذيل مطلبه ، مع انه يمكن حمل كلام الكفاية عليه.

وإذا تعين كون موضوع البحث هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر ، فعليك ان تعرف ان المراد بها الصحة الشأنية لا الفعلية ، بمعنى ان اللفظ - على القول بوضعه للصحيح - يكون موضوعا لما يترتب عليه الأثر لو وجد ، الّذي هو معنى الصحّة الشأنية ، لا انه موضوع لما ترتب عليه الأثر فعلا ، لأنه - يعنى ترتب الأثر - يتوقف على الوجود ، وظاهر ان اللفظ لا يوضع للفرد الموجود بل لنفس الطبيعة المأخوذة في متعلق الأمر.

وبعد هذا يقع البحث في الجهة الثالثة من جهات الكلام ، وموضوع الكلام فيها : تعيين كون المبحوث عنه - بعد فرض كون حقيقة الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر - هل هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر من جميع الجهات وبقول مطلق أو لا؟. بيان ذلك : انه يعتبر في ترتب الأثر على العبادة أمور : تحقق الاجزاء والشرائط ، وعدم النهي ، وعدم المزاحم ، وقصد القربة. فالكلام يقع في ان الموضوع له هل هو التام من حيث ترتب الأثر من جميع هذه الجهات وبقول مطلق ، فلا يحتاج في ترتبه عليه فعلا سوى وجوده خارجا.

أو انه التام من حيث ترتب الأثر من بعض هذه الجهات ، فيكون الموضوع له هو ما يترتب عليه الأثر لو انضم إليه سائر الجهات والوجود؟ ثم يقع الكلام في انه خصوص التام من حيث ترتب الأثر من جهة الاجزاء فقط. أو الاجزاء والشرائط ، أو الاجزاء والشرائط وعدم النهي والمزاحم؟.

والمنسوب إلى الشيخ هو تخصيص النزاع بالاجزاء ، وان الكلام في وضع اللفظ لواجدها بالخصوص أو للأعم ، وخروج الشرط عن محل النزاع ، لأن الشرط في رتبة متأخرة عن الاجزاء ، باعتبار كون الاجزاء بمنزلة المقتضي

ص: 207


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 35 - الطبعة الأولى.

للتأثير ، والشرط متأخر عن المقتضي بحسب الرتبة ، لأنه ما به تكون فعلية التأثير ، والفعلية انما تفرض في صورة وجود ما يقتضي التأثير كي يصير الشرط فعلي التأثير. وعليه فأخذ الشرط في المسمى مع الاجزاء يلزم فرض كونهما في رتبة واحدة ، وهو خلف (1).

وأجيب عنه : بان الاختلاف الرتبي بين المقتضي والشرط انما هو في مقام التأثير في المعلول ، وهو أجنبي عن مقام التسمية كما لا يخفى ، فلا يلزم من أخذهما معا في المسمى واعتبار اللفظ لهما نفي اختلافهما في الرتبة في مقام التأثير ، بل هما على ما عليه في ذلك المقام ، فان ذلك نظير وجود العلة والمعلول في مكان واحد أو الحكم عليهما معا بحكم واحد ، فانه لا يتنافى مع تأخر المعلول عن العلة رتبة وهذا واضح جدا (2).

وعليه ، فلا مانع من دخول الشرائط في محل النزاع.

وأما عدم النهي وعدم المزاحم ، فقد ذهب المحقق النائيني إلى خروجهما عن مورد البحث ، لعدم إمكان أخذهما في المسمى جزما ، فلا مجال للكلام ، ببيان :

انهما فرع المسمى لفرض تعلق النهي به ووجود المزاحم له فينتفي أمره ، فلا بد من فرضه في رتبة سابقة على تعلق النهي وعدمه ووجود المزاحم وعدمه ، فيمتنع أخذ عدم النهي عنه في المسمى وكذلك عدم المزاحم له (3).

والتحقيق : أما في عدم النهي فلا يتجه ما ذكره ، إذ تعلق النهي لا يلزم ان يكون بما هو المسمى بما هو كذلك. وبعبارة أخرى : لا يلزم ان يكون هو الاجزاء والشرائط بما انها صلاة مثلا ، بل يمكن ان يتعلق بذوات الاجزاء والشرائط بلا لحاظ تسميتها بلفظ ما ، فليس عدم النهي في نفسه في رتبة متأخرة عن المسمى ، إذ لا ملزم لفرض متعلقه المسمى كي يكون متفرعا عليه. نعم هو متفرع

ص: 208


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /7- الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 138 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 35 - الطبعة الأولى.

على ذوات الاجزاء والشرائط ، لكنه لم يفرض بعد كونها هي المسمى فانه محل كلامنا ، فتدبر.

وأما بالنسبة إلى عدم المزاحم ، فان أريد من المزاحم هو المزاحم لنفس الشيء بلحاظ انه متعلق لأمر أقوى داعوية فيزاحم نفس العمل الآخر ، فلا يتجه ما ذكره أيضا ، إذ لا يتوقف فرض المزاحم على تحقق التسمية كي يكون عدمه فرع المسمى ، إذ المزاحمة تتعلق بنفس العمل ، وهو ذوات الاجزاء والشرائط بلا توقف على كونها مسماة بلفظ ما أصلا. فلا مانع من أخذ عدم المزاحم في المسمى. وان أريد به المزاحم لأمر الشيء ، فالإزالة مزاحمة لأمر الصلاة لا نفس الصلاة. كان ما ذكره وجيها ، لأن المزاحمة على هذا المعنى متفرعة على تحقق الأمر ، لأنه موضوع المزاحمة ، والمفروض - كما أشرنا إليه - ان الأمر يتعلق بالمسمى. فتكون المزاحمة متأخرة عن التسمية ، فيمتنع ان يؤخذ عدم المزاحم في التسمية لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه. إلاّ انه بعد تصور المعنى الأول للمزاحمة ، لنا ان نلتزم به وبلازمه من كون أخذ عدم المزاحم في المسمى موضوع الكلام. ولعله هو الّذي يظهر من كلامه هاهنا ، حيث فرع المزاحمة على المسمى رأسا ورتب عليها انتفاء الأمر ، فانه ظاهر في كون طرف المزاحمة هو الفعل المسمى لا أمره. فلاحظ.

وأما قصد القربة ، فقد نفي المحقق النائيني دخوله في محل النزاع أيضا ، بتقريب : انه متأخر عن المسمى برتبتين ، لأنه متأخر عن الأمر وهو واضح ، وهو - أي الأمر - متأخر عن المسمى لتعلقه به ، فلا يعقل ان يؤخذ في المسمى فانه خلف (1).

وأنت خبير بان هذا البيان لا يجدي في نفي إمكان أخذ قصد القربة في المسمى ، لأن ما هو متأخر عن المسمى برتبتين هو واقع قصد القربة ، لأنه هو المتفرع عن الأمر والمتأخر عنه. والّذي يراد أخذه في المسمى هو مفهوم قصد

ص: 209


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 35 - الطبعة الأولى.

القربة ، وهو لا يتفرع على الأمر كي يتأخر عن المسمى.

وعلى هذا ، فلا مانع من أخذ قصد التقرب في المسمى من هذه الجهة ، وانما الإشكال من جهة أخرى ، وهي عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، فانه ينافي أخذه في المسمى ، لأن المفروض كون الأمر متعلقا بالمسمى ، وان تعيين المسمى لأجل تشخيص متعلق الأمر. فيمتنع ان يكون المسمى هو الفعل بجميع جهاته حتى قصد القربة ، لامتناع ان يكون الفعل بقيد قصد القربة متعلقا للأمر.

لكن هذا يختص بالرأي القائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر الأول ، أما من لا يلتزم بذلك ويرى إمكانه فلا إشكال لديه في إمكان أخذ قصد القربة في المسمى. فتدبر جيدا.

تنبيه : بعد ان عرفت أن الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا مطلقا ، تعرف ان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف الأنظار والحالات ، إذ قد يختلف النّظر في الأثر فيكون الأثر المترقب بنظر شيئا خاصا ويكون غيره بنظر آخر ، فترتب أحدهما دون الآخر موجب لاتصافه بالصحّة بالإضافة إلى أحد النظرين ، وبالفساد بالإضافة إلى النّظر الآخر ، كما أنه قد يختلف ترتب الأثر المترقب بحسب الحالات ، فيترتب على الشيء في حالة دون أخرى ، فيكون صحيحا بالإضافة إلى حالة وفاسدا بالإضافة إلى الأخرى.

وهذا هو مراد صاحب الكفاية رحمه اللّه .

وهل يترتب على كونهما إضافيين أو غير إضافيين ثمرة عملية ، أو لا يترتب فيكون كلاما علميّا محضا؟. هذا ما لم نتوصل إليه بعد ، ولم نعرف مدى النتيجة العملية التي تلمس بتحقيق أحد النحوين.

الأمر الثالث : في تصوير القدر الجامع بين الافراد الصحيحة ، وبين الافراد الصحيحة والفاسدة. وقبل الخوض في أصل المطلب يجدر بناء التعرض لحل ما قد يظهر من التهافت في عبارة الكفاية ، حيث حكم صاحبها قدس سره في هذا المطلب بلابديّة تصوير الجامع على كلا القولين ، في الوقت الّذي لا

ص: 210

يجزم بكون الموضوع له في ألفاظ العبادات عاما ، بل يلتزم به من باب الاستظهار واستبعاد كونه خاصا لبعض الجهات المبعدة ، كما يلاحظ في المطلب الّذي يعقب هذا ، والّذي موضوعه تعيين عموم الموضوع له أو خصوصه (1) ، مع كون لزوم تصوير الجامع ولا بديته فيما نحن فيه مترتب على الجزم بان الموضوع له عام.

وقد حاول المحقق النائيني توجيه كلام الكفاية - وان لم يصرح بذلك في التقريرات - : بان ضرورة تصوير جامع للافراد الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة لا تترتب على الالتزام بعموم الموضوع له ، بل لا بد من تصوير الجامع ولو التزم بان الموضوع له خاص.

أما على الالتزام بعموم الموضوع له ، فضرورة تصوير الجامع لا تحتاج إلى بيان ، فانه لتعيين الموضوع له ، إذ الموضوع له يكون هو الجامع على الالتزام المزبور.

وأما على الالتزام بان الموضوع له هو الخاصّ وانه هو الافراد الخاصة الجزئية ، فلأن الوضع لها يستدعي لحاظها وتصورها بأجمعها ، ولا يمكن ذلك لعدم تناهيها أو حصرها ، وعليه فلا بد من فرض جامع لها مشير إليها يكون واسطة في الوضع للافراد ، ويكون الحكم الوضعي على الافراد بواسطة ذلك الجامع (2).

وأنت خبير بان هذا لا يصلح رافعا وحلا لما يظهر في عبارة الكفاية من التهافت وان كان في نفسه تاما - ، لأن الظاهر من عبارة الكفاية ان الكلام في تعيين الجامع الّذي حكم بلا بدية تصويره ، انما هو لأجل تعيين الموضوع له ومن جهة فرض وضع اللفظ له ، كما هو ظاهر جدا من إيراد صاحب الكفاية على كون الجامع للأعم هو معظم الاجزاء ، بأنه يستلزم ان يكون الشيء الواحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى ، فانه صريح في ان الكلام في تعيين المسمى كما انه في تعيين الجامع ، وان فرض الجامع فرض المسمى ، لا ان البحث في مقامين كما

ص: 211


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- 27 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 35 - الطبعة الأولى.

هو ظاهر المحقق النائيني.

وعليه ، فالحكم بضرورة تعيين الجامع وتصويره المساوق للمسمى لا بد وان يلائم مع عدم جزمه بعموم الموضوع له ، بغير هذا البيان ، فانه غير مفيد في رفع الإشكال في العبارة.

والّذي أراه حلا للمشكلة : ان صاحب الكفاية أخذ الموضوع له أمرا مفروغا عنه على القول بالوضع للصحيح أو للأعم. فحكم بضرورة ولا بدية تصوير الجامع مترتبا على ذلك ، وقد علق اللابدية على كلا القولين ، والمفروض انه لا قائل بالوضع للخاص والافراد.

وبعبارة أخرى : حكم باللابدية معلقا ومرتبا على كلا الادعاءين والقولين ، وليس من أحد من المختلفين من يلتزم بخصوص الموضوع له ، فالحكم باللابدية أشبه بالحكم الشرطي والبنائي ، لا الجزمي الفعلي ، وعليه فلا تهافت. فلاحظ.

وبعد هذا فيقع الكلام في المهم في المقام.

وقد ذهب المحقق النائيني إلى إمكان الالتزام بما لا تصل النوبة معه إلى تصوير الجامع على كلا القولين وحصول النزاع في الوضع لأيهما ، وهو الالتزام بوضع لفظ العبادة كالصلاة للمرتبة العليا من مراتبها بالخصوص ، وهي المرتبة الواجدة لتمام الاجزاء والشرائط. وكون الاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها من باب الادعاء والتنزيل.

فالموضوع له على كلا القولين هو المرتبة العليا ، وأما باقي المراتب الصحيحة أو الأعم فيستعمل اللفظ فيها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، كما في بعض الاستعمالات. أو من باب اكتفاء الشارع به والمشاركة في الأثر كما في مثل صلاة الغرقى ، إذ لا يصحّ استعمال اللفظ فيها من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، لفقدان جل الاجزاء والشرائط لو لم يكن كلها. نعم استعمال لفظ الصلاة في فاسد صلاة الغرقى من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد المنزل منزلة التام الاجزاء والشرائط من باب الاكتفاء في مقام الامتثال ، فبعد البناء على كون

ص: 212

الصحيح فردا للطبيعة من جهة الاجزاء يصح تنزيل الفاقد منزلته أيضا ، ولا يكون من سبك مجاز في مجاز كما لا يخفى. نعم هذا الكلام لا يجري بالنسبة إلى القصر والإتمام ، لأنهما بالقياس إلى المرتبة العليا في عرض واحد ، إذ ليس الأمر بأحدهما تنزلا وفي فرض عدم التمكن من الآخر ، بل كل منهما تام الاجزاء والشرائط ، ولكن الأمر فيهما سهل فانه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط. وعلى ما ذكره قدس سره يبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأسا ، لأن ثمرة النزاع كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى صحة التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته على القول بالأعم لو تمت مقدمات الحكمة ، لصدق المسمى على الفاقد ، وعدم صحته على القول بالصحيح لإجمال الخطاب وعدم صدق المسمى على الفاقد. وهذا الكلام لا يتأتى على ما ذكره قدس سره ، لأنه بعد الالتزام بان الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وكون إطلاقها على غيرها من المراتب من باب المسامحة والتنزيل لا الحقيقة ، يكون اللفظ مستعملا في المرتبة العليا دائما ، والقائل بالأعم انما يلتزم باستعماله في غير الصحيح هاهنا والتنزيل ، فصحة التمسك بالإطلاق على القول بالأعم بالادعاء انما تثبت في صورة إحراز ثبوت الادعاء والتنزيل وملاحظتهما ، إذ اللفظ مستعمل في المرتبة العليا وإرادة غيرها تكون بواسطة تنزيلها منزلة المرتبة العليا ، ولا طريق لدينا إلى إحراز تحقق التنزيل وإرادة الأعم بهذه الواسطة. وعليه فلا يمكن التمسك بالإطلاق في نفى اعتبار جزئية شيء أو شرطيته ، لأن اللفظ المطلق مستعمل في المرتبة العليا ولم يثبت إرادة الأعم ادعاء كي يتمسك بإطلاقه فيكون مجملا ، لفرض دخل الجزء أو الشرط لو كان دخيلا في المأمور به واقعا في المرتبة العليا كما لا يخفى.

ثم انه قدس سره استشهد على ما أفاده بالوجدان العرفي وقرّبه ونفى البعد عنه ، بأنه أمر عرفي ليس في مقام فهم المفاهيم امر أوضح منه. فاختياره هذا المذهب ليس لإمكانه ثبوتا ، بل لقيام الوجدان عليه إثباتا. ولعله لأجل كون الطريقة العرفية في الوضع للماهيات المخترعة جارية على الوضع لأقصى ما

ص: 213

يتصوره المخترع من المراتب والجامع للاجزاء والشرائط بكاملها ، ثم يستعمل اللفظ في غيرها من المراتب مسامحة وادعاء.

هذا تقرير ما أفاده قدس سره نقلناه بأغلب عباراته مع بعض التوضيح (1).

والّذي يؤاخذ به هذا المسلك ، ويرد عليه بوضوح : ان افراد المرتبة العليا كثيرة وليست متعينة ومنحصرة في خصوص القصر والإتمام ، كما نبه عليه قدس سره ، فان صلاة الصبح ، والظهر ، والمغرب ، والصلاة اليومية ، وصلاة الآيات ، وصلاة العيدين ، كلها في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا ، فان الأمر بكل منها في عرض الأمر بالأخرى وليس تنزيلي كصلاة الغريق بالنسبة إلى صلاة غيره.

وعليه ، فلا بد لنا من فرض جامع لهذه الافراد يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ولا يكون ما أفاده قدس سره موجبا للتخلص من مرحلة تصوير الجامع وكون وصول النوبة إلى تصويره بعد التنزل عنه. ومن العجيب منه انه قدس سره غفل عن ذلك وانتبه إلى ورود الاستشكال في خصوص القصر والإتمام وحلّه بان تصوير الجامع بينهما سهل وممكن كما تقدم.

وعلى كل فالالتزام بما أفاده قدس سره لا يغني عن لزوم تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة. فيقع الكلام حينئذ في مقامين :

المقام الأول : في ثبوت الجامع للافراد الصحيحة ، وقد ذكر في تصويره وجوه :

الوجه الأول : ما جزم به صاحب الكفاية من وجود جامع حقيقي مقولي بسيط للافراد الصحيحة ، إلاّ انه ليس لدينا طريق إلى تعيينه بالاسم ومعرفة حقيقته ، وانما الثابت هو وجود جامع بسيط مقولي متحد مع الافراد وجودا

ص: 214


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 36 - الطبعة الأولى.

وخارجا. والدليل على ذلك ، هو ما نراه من ترتيب بعض الآثار على العبادة كترتيب النهي عن الفحشاء على الصلاة ، والّذي يقتضيه قانون السنخية الثابت في باب العلية هو كون المعلول والأثر الواحد لا يصدر إلاّ عن علة واحدة ومؤثر واحد ، واستحالة صدور الواحد عن متعدد بما هو متعدد يعني دخل الخصوصيات المفردة في التأثير. وعليه فمقتضى وحدة الأثر المترتب على الصلاة مثلا وقانون السنخية ، هو ان يكون المؤثر في الأثر الخاصّ هو جهة جامعة بين الافراد ، بحيث يستند تأثير الفرد إلى وجودها فقط بلا دخل خصوصيته فيه ، إذ يلزم بذلك صدور الواحد عن متعدد وقد عرفت امتناعه. وعليه فلا بد من فرض جامع يكون هو المؤثر والموضوع له ، إذ لا يمكن فرض المؤثر كل فرد بخصوصه. ثم ان عدم معرفة حقيقة هذا الجامع وحده لا يضير فيما نحن فيه ، إذ يمكن التوصل إلى الوضع له بواسطة بعض العناوين المشيرة إليه بلحاظ آثاره ، كعنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة.

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره - و - بعد ان ذكر هذا المطلب ، تعرض إلى ذكر إيراد الشيخ الأنصاري قدس سره على تصوير الجامع للافراد الصحيحة والرد عليه.

أما الإيراد ، فبيانه : ان الجامع المفروض اما ان يكون مركبا أو بسيطا.

فعلى الأول : لا يتصور ان يكون جامعا للافراد الصحيحة ، إذ كما يفرض جامعا يختلف صحة وفسادا بحسب الحالات ، ولا يكون صحيحا مطلقا وفي جميع الحالات. فيمتنع كونه جامعا للافراد الصحيحة.

وعلى الثاني : اما ان يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له.

ويرد على الالتزام بالأول وجوه :

أحدها : لزوم الخلف ، بأخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب في متعلق الطلب ، لأن عنوان المطلوب انما يتحقق وينتزع عن الشيء بعد تعلق الطلب

ص: 215

به ، إذ قبله لا يكون الشيء مطلوبا ، والمفروض كون الجامع هو المأخوذ في متعلق الأمر ، لأنه المسمى ، فيلزم أخذ المطلوب في متعلق الطلب ، وهو خلف لأنه فرض المتأخر في رتبة سابقة عليه.

ثانيها : استلزامه حصول الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ المطلوب ، وهو ممنوع إذ لا ترادف عرفا بينهما ، كما هو ظاهر.

ثالثها : استلزامه عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته وجريان الاشتغال. وذلك لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل لا في المأمور به ، لأن المأمور به أمر بسيط معلوم لا إجمال فيه ، فلا يكون الشك في جزئية شيء شكا في المأمور به ، إذ ذلك خلف كونه بسيطا غير ذي اجزاء ، فيرجع الشك إلى المحصل والمحقق للامتثال ، ومقتضاه جريان قاعدة الاشتغال ولزوم الاحتياط ، وذلك يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة ممن يلتزم بالوضع للصحيح غالبا ، وهذا الأخير يرد على الالتزام بالثاني ، لأنه يرتبط ببساطة الجامع بلا خصوصية كونه عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له (1).

وأما الرد : - فهو بعد اختيار كونه بسيطا وانه ملزوم المطلوب لا عنوانه - ان جريان قاعدة الاحتياط فيما كان المأمور به أمرا بسيطا ، انما يكون في المورد الّذي يكون وجود ذلك الأمر البسيط منحازا عن وجود الاجزاء والشرائط ومسببا عنها ، بحيث يكون الشك فيها شكا في المحصل والفراغ حقيقة ، كما قد يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء أو الغسل. واما في المورد الّذي يكون وجوده بوجود الاجزاء والشرائط وليس له وجود مستقل منحاز عن وجودها ، كان الأصل الجاري عند الشك هو البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في الحقيقة شك

ص: 216


1- - حمل السيد الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الكفاية - في الدورة المتأخرة - على إرادة الجامع الحقيقي ، وانه ردّ الشيخ ، بان الجامع لا ينحصر فيما فرضت ، من المركب ، والبسيط العنواني ، بل يمكن فرض الجامع الحقيقي المدلول عليه بالآثار وهو المتحد مع الخارج.

في المأمور به ، لأن المأمور به في الحقيقة والنتيجة هو الاجزاء والشرائط والأمر متعلق بها حقيقة ، لأنه يتعلق به بلحاظ وجوده ، والمفروض ان وجوده وجود الاجزاء والشرائط. فالشك في جزئية شيء شك في المأمور به ، ويكون الشك المذكور موجبا للإجمال في نفس المأمور به لا في محققه ، وهو مورد أصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن نسبة الجامع البسيط إلى الاجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ، وعليه فوجوده بوجودها وليس له وجود منحاز عن وجودها ، فالشك في جزئية شيء شك في المأمور به ، لأنه يشك في دخالة هذا الشيء في وجود المأمور به ، فيشك في تعلق الأمر به والمرجع في مثل الحال إلى البراءة.

وعليه ، فلا يلزم من الالتزام ببساطة الجامع ، الالتزام بجريان قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته ، دون البراءة المنافي لما عليه المشهور من القول بالبراءة مع القول بالصحيح.

هذا بيان ما قرره صاحب الكفاية رحمه اللّه في تصوير الجامع وما يتعلق به من الإشكال والرد ، والّذي يتلخص : انه يلتزم بوجود جامع بسيط حقيقي متحد مع الافراد خارجا ، ولا طريق إلى معرفته بحدوده وانما يشار إليه بعنوان مشير منتزع عن مقام ترتب الأثر ، كعنوان الناهي عن الفحشاء ، والدليل على ذلك وحدة الأثر المترتب على الافراد (1).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجوه :

الأول : انه لا يتصور وجود جامع ذاتي مقولي لافراد الصلاة ، وذلك لأن الصلاة مؤلفة من عدة مقولات متباينة كمقولة الكيف ومقولة الوضع ومقولة الفعل ونحوها. وليست اجزاء الصلاة من مقولة واحدة ، وعليه فلا يمكن فرض جامع مقولي لمرتبة واحدة من مراتب الصلاة فضلا عن فرض الجامع لجميع مراتب الصلاة المتنوعة ، ووجهه : ما تقرر في محله ، من ان المقولات أجناس عالية

ص: 217


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- 25 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فلا جنس لها وفرض الجامع فيما نحن فيه مساوق لفرض جنس أعلى من المقولات يكون جامعا بينها ، وهو خلاف المقرر الثابت. ويمتنع ان يكون المركب نفسه مقولة برأسها لاعتبار الوحدة والبساطة في المقولات.

الثاني : أن فرض الجامع البسيط المقولي المتحد مع الافراد خارجا ، يلزم منه فرض اتحاد البسيط مع المركب ، وكون المركب وجودا للبسيط وهو ممتنع ، ولو فرض وحدة المقولة في جميع الاجزاء. وذلك لأن المفروض ان وجود الجامع بوجود الافراد الخارجية ، والفرد الخارجي مؤلف ومركب من اجزاء ، فيلزم ان يكون البسيط متحدا مع المركب وموجودا بوجوده ، وهو ممتنع ، لأنه خلف كونه بسيطا. ولأن معنى البسيط ما لا جزء له ، فاتحاده مع الاجزاء يلزم ان يكون ذا جزء ، وذلك أشبه باجتماع المتناقضين ان لم يكن بعينه ، ونتيجة كل من هذين الوجهين عدم معقولية الجامع البسيط المقولي. ولو تنزل عن ذلك والتزم بمعقوليته ، فيرد الوجه ...

الثالث : الّذي يرجع إلى المطالبة بالوجه الإثباتي والدليل على ثبوت مثل هذا الجامع إذ معقوليته لا تعني تحققه وثبوته. والإشكال فيما ذكره لإثباته من وحدة الأثر المترتب على الافراد الكاشف عن وحدة المؤثر وانه جهة جامعة حقيقية بين الافراد. بان ما يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة انما هو وحدة الأثر ذاتا وحقيقة إما شخصا أو نوعا ، واما وحدة الأثر بالعنوان وتعدده حقيقة فلا يكشف الا عن وحدة المؤثر بالعنوان لا وحدته بالحقيقة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الأثر المترتب وهو النهي عن الفحشاء ليس أثرا واحدا بالحقيقة والذات ، بل هو أثر واحد عنوانا ، لاختلاف أنحاء الفحشاء المنفية بالصلاة من كون بعضها من الصفات كالرياء والشرك النفسيّ ونحوهما ، وبعضها من الأفعال كالغصب ونحوه ، وتغاير أنحاء الفحشاء يوجب تغاير نحو النهي عنها ونفيها وحقيقته ، فحقيقة النهي عن الغصب تختلف عن حقيقة النهي عن الرياء والشرك ومغايرة لها ، وانما يجمعهما عنوان واحد وهو عنوان النهي عن الفحشاء ،

ص: 218

كما ان كل مرتبة من مراتب الصلاة تؤثر في النهي عن مرتبة من مراتب الفحشاء وتختلف عن المرتبة التي تؤثر فيها مرتبة أخرى من الصلاة.

وعلى الجملة : فالنهي عن الفحشاء أثر واحد عنوانا لا حقيقة ، لاختلاف أنحائه حقيقة باختلاف مراتب أنحاء المنكر والفحشاء ، وعليه فلا يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة ، بل عنوانا وهو عنوان الناهي عن الفحشاء.

الرابع : ان كل ما يفرض جامعا للصحيح يمكن فرضه جامعا للأعم ، وذلك لأن الجامع المفروض يفرض اتحاده مع ذات الاجزاء والشرائط ، بلا لحاظ جهة إضافتها إلى الفاعل وصدورها من المكلف ، لأن هذه الجهة اعتبارية ، ولا يعقل دخل الاعتبارية في فرض الجامع المقولي ، إذ يمتنع تأثير الأمر الاعتباري في أمر حقيقي واقعي ، وإذا فرض ان الملحوظ ذات الاجزاء والشرائط ، فهي في نفسها قابلة للصحة والفساد بلحاظ اختلاف حالها ، إذ لم تقيد بصدورها من الفاعل المكلف بها كي تلازم الصحة ، فالجامع المفروض لها المتحد معها قابل لأن يكون جامعا للأعم في الوقت الّذي يكون جامعا للصحيح (1).

وقد أضاف المحقق النائيني إيرادا خامسا ، يتلخص : في ان الغرض انما هو تصوير جامع للافراد الصحيحة يدركه العرف ويتوصل إليه لفرض كونه هو المسمى والمأمور به ولا بد من ان يفرض المسمى والمأمور به امرا عرفيا وجدانيا يتوصل إليه الذهن العرفي ، لا ان يكون طريق إثباته قاعدة فلسفية لا يعرفها العامة ولا تدركها أذهان العرف لأول وهلة ، فلا يجدي تصوير الجامع بالطريق المزبور ، بل لا بد من تصويره بنحو عرفي قريب إلى الذهن (2).

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكر ، عدم وجاهة ما ذكره صاحب الكفاية وعدم تماميته.

وقد ذكر السيد الخوئي هذه الإيرادات بترتيب آخر لا يخلو عن إشكال

ص: 219


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 38 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 37 - الطبعة الأولى.

من الناحية العلمية ، لأنه قدم الإيراد الثالث على الأولين ، ثم ذكر الأولين بنحو التنزل عن الإيراد الأول (1) ، ولا يخفى انه بعد تسليم عدم ورود الثالث ، وان الواحد بالعنوان كاشف عن وحدة المؤثر بالحقيقة ، لا وجه للإيراد بعد ذلك بما هو مقتضى الأولين من عدم معقولية الجامع ، لحصول التصادم بين الأمرين والعلم بعدم تمامية أحدهما ، وهذا بخلاف النحو الّذي ذكرناه وذكره المحقق الأصفهاني في ترتيب ذكر الإيرادات. فتدبر ، والأمر سهل.

الوجه الثاني - من وجوه تصوير الجامع - أن يفرض للافراد الصحيحة جامع عنواني لا حقيقي مقولي كعنوان الناهي عن الفحشاء ويكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ولا يرد عليه المحاذير السابقة الواردة على الجامع المقولي.

إلاّ ان تصويره بذلك يشكل من وجوه :

الأول : لزوم الترادف بين لفظ الصلاة وعنوان الناهي عن الفحشاء ، وهو غير متحقق عرفا.

الثاني : لزوم كون استعمال اللفظ في الذات المعنونة بالعنوان مسامحيا ومجازيا لأنه موضوع للعنوان لا المعنون ، فاستعماله في المعنون يكون استعمالا له في غير ما وضع له. مع ان العرف لا يرى أي مسامحة وعناية في استعمال اللفظ في المعنون.

الثالث : لزوم إجراء قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شيء للمأمور به ، لأن المأمور به انما هو العنوان الانتزاعي ، وهو يتحصل ويتحقق بالاجزاء والشرائط جمعا ، فيكون الشك في جزئية شيء مستلزما للشك في في تحققه وحصوله عند عدم الإتيان به ، فيكون المورد من موارد الاحتياط لقاعدة الاشتغال لا من موارد البراءة. وبعبارة أخرى : لما كان العنوان الانتزاعي انما ينتزع عن مجموع الاجزاء والشرائط ولا يحصل بحصول أول جزء ويكون

ص: 220


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 144 - الطبعة الأولى.

تدريجي الحصول فمع الشك في جزئية شيء يشك في تحقق منشأ انتزاعه ، فيشك في حصول العنوان المأمور به والمطلوب تحصيله وإيجاده - إذ المطلوب تحصيل العنوان - ، فيكون المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا البراءة ، ولا يلتزم به المشهور القائلون بالوضع للصحيح.

ولعل نظر الشيخ الأعظم قدس سره في إيراده على كون الجامع بسيطا ، باستلزامه عدم جريان البراءة إلى ذلك ، أعني فرض الجامع البسيط جامعا عنوانيا لا حقيقيا مقوليا ، وكأنّ الجامع المقولي معلوم الاستحالة لديه ، وانما البحث في الجامع العنواني كما قد يشعر به فرض أحد طرفي الترديد في الجامع هو العنوان المطلوب. ولا يندفع هذا الإشكال بجواب المحقق صاحب الكفاية ، لأن المأمور به هو نفس الجامع البسيط ، وهو غير متحد مع الاجزاء والشرائط حقيقة وذاتا كالجامع الحقيقي ، كي يكون الأمر به امرا بالاجزاء والشرائط ، باعتبار انه ليس شيئا غير الاجزاء والشرائط ، بل هو أمر منتزع عنها باعتبار تلبسها بعرض خاص فهو غيرها.

الوجه الثالث : ما قرره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، من انه يمكن فرض جامع مبهم من جميع الجهات الا بعض الجهات المعرفة كجهة النهي عن الفحشاء ونحوها ، ولا يكون هذا جامعا مقوليا ولا عنوانيا ، بل هو جامع مركب من جملة أجزاء.

وتوضيح مراده : ان المفاهيم والعناوين المنتزعة عن الخارجيات ...

منها : ما يكون متعينا ومبينا بجميع جهاته كمفهوم الإنسان ونحوه.

ومنها : ما يكون مرددا بين فردين أو افراد ، بمعنى انه مفهوم ينطبق عليها بنحو البدلية بلحاظ ذاته ، وهو المعبر عنه بالمفهوم المردد ، كمفهوم أحدها واحدهما أو هذا أو ذاك. وهذا - أعني المفهوم المردد - لا وجود له في الخارج كما حقق في محله ، بل ليس الموجود الا كل فرد بنفسه وبذاته لا هو أو غيره ، وهناك قسم ثالث ، وهو المفاهيم المبهمة غير المتعينة والمحددة وغير المرددة بحسب

ص: 221

حقيقتها ، القابلة للانطباق على كل فرد محتمل ، فهي من حيث الصدق تتلاءم مع الترديد ، وهي ثابتة في الخارج وتكون نسبتها إلى الافراد نسبة الطبيعي إلى فرده ، ومن هنا لم تكن من المفاهيم المرددة ، إذ لا وجود لهذه في الخارج كما عرفت ، كما لم تكن من المفاهيم المبينة المعينة لإبهامها ، ويمكن الاستشهاد لوجود هذا النوع من المفاهيم بما ينتزع عن رؤيا الشبح من بعيد من صورة إجمالية مبهمة غير معينة قابلة للانطباق على كل فرد يحتمل ان يكون هو الشبح فان هذه الصورة ليست من المفاهيم المعينة كما لا يخفى ، كما انها ليست بالمفهوم المردد لثبوتها وجدانا وانطباقها على الخارج ضرورة وبلا كلام. فهي صورة مبهمة إجمالية. ثم انه لا يخفى أن دائرة الصدق تختلف سعة وضيقا باختلاف سعة الإبهام وضيقه ، فكلما زاد الإبهام وقلت جهات التعيين كانت دائرة الصدق أوسع وأشمل ، وكلما قل الإبهام بكثرة القيود المعينة كانت دائرة صدق المفهوم المبهم أضيق.

فالمدعى في باب العبادات : ان اللفظ موضوع إلى جامع محصله ، انه سنخ عمل مبهم من جميع الجهات الا من جهة كونه ناهيا عن الفحشاء ونحوه ، فيصدق اللفظ بذلك على جميع مراتب العمل القليل منها والكثير من حيث الاجزاء والشرائط. فانه مضافا إلى الالتجاء إلى الالتزام به من القائل بالوضع للصحيح - بعد عدم معقولية الجامع الحقيقي وعدم الوضع للجامع العنواني بما عرفت - ، هو المتبادر عرفا من لفظ الصلاة مثلا ، فانه إذا وقعت الصلاة في متعلق الأمر يتبادر منها عرفا تعلق الأمر بسنخ عمل مبهم قابل للانطباق على مراتب الصلاة وأنحائها.

كما انه ليس عديم النظير في العرفيات ، بل له في العرف نظير ، كلفظ الخمر. فان الخمر فيه جهات كجهة اللون ، وجهة المادة كاتخاذه من التمر أو العنب ، وجهة الرائحة وغيرها من الجهات التي يختلف افراد الخمر فيها. والمتبادر من لفظ الخمر عند إطلاقه هو سنخ مائع مسكر لا أكثر ، بحيث يكون من الجهات الخاصة مبهما ، فلذلك يقبل الانطباق على كل نحو من أنحاء الخمر وأصنافه.

ص: 222

وبالجملة : فيمكن الالتزام بثبوت جامع للافراد الصحيحة لا يكون جامعا حقيقيا ولا عنوانيا ، وهو ان يلتزم بأنه سنخ عمل مبهم يعرّفه جهة نهيه عن الفحشاء ، وبذلك يقتصر في صدقه على خصوص الافراد الصحيحة ويكون جامعا لها بخصوصها دون الأعم كما ان نظيره لفظ الدار والكلمة فتدبر.

هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره فيما يهم المقام وهو بظاهره لا إشكال فيه ولا محذور في الالتزام به (1).

وأما ما جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من الإيراد عليه :

أولا : من إنكار الإبهام في الماهيات الاعتبارية ، وان للصلاة حقيقة متعينة لدى مخترعها ، بل لا يعقل دخول الإبهام في تجوهر ذات الشيء فان الشيء في مرتبة ذاته متعين ، وانما الإبهام يكون بلحاظ الطواري الخارجية ، وعليه فالعمل المبهم لا يمكن ان يكون جامعا ذاتيا ، لعدم معقوليته ، ولا عنوانيا لما عرفت من نفيه.

وثانيا : من ان المقصود في تصوير الجامع تعيين المسمى المأخوذ في متعلق الأمر ، وظاهر عدم كون الجامع المزبور متعلقا للأمر ، وانما متعلق الأمر هو نفس الاجزاء المتقيدة ببعض القيود. ومن هنا كان المتبادر عرفا كمية من الاجزاء والشرائط المأخوذة في متعلق الأمر ، لا العمل المبهم الا من حيث كونه مطلوبا كما يدعيه المحقق الأصفهاني.

وثالثا : بان المقصود بالنهي عن الفحشاء المأخوذ في هذا الجامع ، ان كان هو النهي الفعلي توقف ذلك على قصد القربة في المسمى لدخالته في فعلية النهي عن الفحشاء ، ولا يلتزم بدخوله القائل لامتناع أخذه في متعلق الأمر. وان كان النهي الاقتضائي كان ذلك أعم من الصحيح والفاسد ، لأن العمل الفاسد بالنسبة إلى شخص فيه اقتضاء النهي عن الفحشاء ، بحيث لو صدر من أهله

ص: 223


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 39 - الطبعة الأولى.

كان مؤثرا فعلا (1).

ما جاء في التقريرات مما عرفت لا يرجع إلى محصل.

أما الأول : فقد عرفت وجود نحو ثالث من المفاهيم ليس من المفاهيم المقولية ولا العنوانية ، وهو مفهوم مركب ، ولا مجال لإنكاره بل نفس السيد الخوئي يلتزم بنظيره في الجامع الأعمي. وعليه فلا دوران بين الجامع الحقيقي والمقولي وبين الجامع العنواني ، بل هناك شق ثالث وهو الجامع المبهم ، وهو ينطبق على الافراد انطباق الكلي على الفرد ، نظير الصورة الناشئة من الشبح ، إذ ليست هي بصورة عنوانية ولا مقولية لعدم تميز الشبح كي يخترع له صورة كذلك.

واما الثاني : فقد اتضح الإشكال فيه إذ بعد فرض انطباق هذا الجامع على الافراد انطباق الكلي على الفرد ، واتحاده معها خارجا ، كان متعلق الأمر في الحقيقة هو الاجزاء والشرائط أما ما ذكره من كون المتبادر كمية من الاجزاء والشرائط لا العمل المبهم ، فهو عجيب إذ ما الفرق بين العمل المبهم وكمية من الاجزاء والشرائط ، كي ينكر تبادر الذهن إلى الأول ويثبت تبادره إلى الثاني؟!.

واما الثالث : فلان المأخوذ هو النهي اقتضاء لا فعلا ، لكن بنحو خاص ، وهو ما أشرنا إليه من ان الصحيح ما ترتب عليه الأثر لو انضم إليه قصد القربة ونحوه من الشرائط التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر ، وعليه فينحصر هذا الجامع بخصوص افراد الصحيح ، لأن الفاسد لا يترتب عليه الأثر ولو انضم إليه قصد القربة وغيره ، فلاحظ ما تقدم يتضح لك الحال واما ما ذكره في ضمن كلامه من إشكال لزوم الترادف بين الصلاة والعمل المبهم. فيدفعه : ان المقصود بالعمل المبهم ليس هو مفهومه ، بل هذا العنوان أخذ مشيرا إلى امر واقعي مبهم ، وهو عدة اجزاء فصاعدا القابل للانطباق على الكثير والقليل.

وبالجملة : فلا نعرف فيما أفاده المحقق الأصفهاني وجها للإشكال ، فالمتعين الالتزام به.

ص: 224


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 154 - الطبعة الأولى.

ومن الغريب ان المحقق النائيني يلتزم به في الجامع الأعمي ، ويدعي بنفس الوقت استحالة تصوير الجامع على القول بالصحيح ، مع انه يمكن تأتي نفس تصوير الأعمي على الصحيح بزيادة قيد يخص العمل المبهم بالصحيح (1).

ثم ان المحقق العراقي صور الجامع بتصوير آخر ، إلاّ انه صرح بأنه انما يلتزم به مع بعده عرفا ، باعتبار الضرورة وانحصار التصوير الصحيح به - لأجل انه لم يرتض تصويره بما ذكره المحقق الأصفهاني - وبما انه قد عرفت تصوير الجامع بنحو صحيح خال عن الإشكال وقريب عرفا ، فلا حاجة إذا للتعرض إلى ما ذكره المحقق العراقي بعد تصريحه نفسه بأنه كان من جهة الالتجاء. فتدبر (2).

المقام الثاني : في ثبوت الجامع للأعم من الصحيح والفاسد ، وقد صور بوجوه ذكرها في الكفاية :

الوجه الأول : ما ينسب إلى المحقق القمي ، من كونه خصوص الأركان ، واما باقي الاجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به لا في المسمى ، بل المسمى خصوص الأركان (3).

وناقشه في الكفاية بوجهين :

الأول : عدم اطراده وانعكاسه ، إذ لازمه عدم صدق الصلاة على فاقد ركن مع استجماعه لسائر الاجزاء والشرائط لعدم الموضوع له وهو مجموع الأركان ، وصدق الصلاة على فاقد جميع الاجزاء والشرائط سوى الأركان ، مع ان صدق الصلاة في الأول وعدم صدقه في الثاني مما لا ينكر عرفا.

الثاني : لزوم مجازية استعمال اللفظ في مجموع الاجزاء والشرائط ، لأن

ص: 225


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 43 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 80 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- المحقق القمي ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول1/ 44 - الطبعة الأولى.

اللفظ موضوع إلى خصوص الأركان فاستعماله في المجموع وإطلاقه على الواجد لجميع الاجزاء والشرائط استعمال للفظ الموضوع للجزء في الكل وهو مجاز (1).

وناقشه المحقق النائيني رحمه اللّه بما حاصله : ان الدعوى المذكورة تنحل إلى دعويين : إحداهما : الوضع للأركان. الثانية : عدم دخول سائر الاجزاء والشرائط في الموضوع له.

اما الدعوى الأولى فيردها : كون المراد بالأركان جميع مراتبها بحسب اختلاف الموارد من القادر والعاجز والغريق ونحوهم ، فلا بد على هذا من تصوير جامع للأركان بجميع مراتبها ليكون هو الموضوع له ، فيرجع الإشكال.

واما الدعوى الثانية فيردها : انه اما ان يلتزم بخروج سائر الاجزاء والشرائط مطلقا ودائما ، واما ان يلتزم بخروجها عند عدمها.

فالأوّل : ينافي الوضع للأعم وكون المسمى ما يصدق على الصحيح والفاسد ، إذ لازمه عدم صدق اللفظ على الصحيح.

والثاني : يلزمه ان يكون شيء واحد داخلا في الماهية عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه. وهو محال (2).

ومن مجموع ما ذكر يظهر وهن هذا الوجه لتصوير الجامع.

الوجه الثاني : ما ينسب إلى المشهور من كون الجامع والموضوع له هو معظم الاجزاء.

وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين :

الأول : ما أورده ثانيا على الوجه الأول ، من لزوم المجازية في استعمال اللفظ في الكل.

الثاني : - ما ذكرناه توضيحا لعبارة الكفاية ، إذ لم يتعرض للشق الأول ،

ص: 226


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /25- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 41 - الطبعة الأولى.

ولعله للمفروغيّة عن عدم الوضع له ولا ادعاء الوضع له ، وانما المنظور واقع المعظم. فلاحظ. - ان الموضوع له اما ان يكون مفهوم معظم الاجزاء أو واقعه. فان قيل انه المفهوم ، فيرده انه يستلزم الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ معظم الاجزاء ، وبطلانه واضح. وان قيل انه واقع المعظم وحقيقته ، فيرده ان معظم الاجزاء لا تعين له بكمية معينة من الاجزاء ، بل يختلف باختلاف الحالات والافراد ، وعليه فيلزم التبادل في الماهية والمسمى وان يكون شيء واحد داخلا فيه تارة وخارجا أخرى. بل يلزم التردد في تعيين الداخل والخارج عند اجتماع جميع الاجزاء والشرائط ، إذ لا معين لدخول أحدها دون الآخر ، فكل جزء يصلح ان يكون دخيلا في المعظم (1).

وبعين هذا الإيراد أورد المحقق النائيني على الوجه المذكور ، لكنه صحح كون الجامع هو المعظم بنحو آخر سنشير إليه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى (2).

الوجه الثالث : ان يلتزم بكون وضع ألفاظ العبادات كوضع الاعلام الشخصية كزيد ، فكما لا يضر في التسمية في باب الاعلام تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر والصحة والمرض والنوم واليقظة وغيرها ونقص بعض الاجزاء وزيادته ، بل يكون الاسم صادقا بنحو واحد في جميع هذه الأحوال ، كذلك الحال في ألفاظ العبادات فلا يضر في صدق الاسم اختلاف الحال وزيادة الاجزاء ونقصها.

وناقش فيه صاحب الكفاية بثبوت الفرق بين المقامين ، وان الموضوع له في باب الاعلام أمر معين محفوظ في جميع الحالات ، دون باب العبادات ، بيان ذلك : ان الموضوع له العلم هو الشخص ، ولا يخفى ان التشخيص يكون بالوجود الخاصّ ، فما دام الوجود باقيا كان الشخص باقيا وان تغيرت عوارض

ص: 227


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /26- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 42 - الطبعة الأولى.

الوجود من زيادة ونقصان وغيرهما من الحالات ، فالموضوع له وهو الشخص أمر ثابت محفوظ في جميع هذه الحالات ، صدق الاسم لصدق المسمى دائما ، وليس الأمر كذلك في ما نحن فيه ، لاختلاف المركبات بحسب الحالات فلا بد من ان يفرض ما يجمع الشتات كي يوضع اللفظ بإزائه ، وهو ما نحن بصدده الآن (1).

لكن الّذي يؤاخذ به صاحب الكفاية ، هو ان وضع العلم اما ان يكون بإزاء الوجود أو بإزاء الشخص - أعني العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالوجود - فان كان الموضوع له هو الشخص ، فاما ان يكون مفهوم الشخص أو واقعه ومصداقه.

فالأوّل : ممنوع ، إذ لازمه الترادف بين لفظ « زيد » مثلا ومفهوم الشخص وفساده ظاهر.

والثاني ، يرده : أن الشخص اما ان تلحظ فيه عوارضه الخارجية بحيث كانت دخيلة في الموضوع له أو لا تلحظ ، بل كانت خارجة عنه.

فعلى الثاني : يلزم ان يكون صدق اللفظ على الشخص بخصوصيته مجازا لعدم وضع اللفظ له.

وعلى الأول : يسأل عن مقدار العوارض الملحوظة ونحوها ، وهل هي بعض معين كي يلزم عدم الصدق مع انتفائها أو غير معين ، بل الكل ، فما هو الجامع؟.

وان كان الموضوع له هو الوجود ، فلا بد من عدم إرادة الوجود المطلق غير اللّه تعالى شيء ، لأن الوجود المطلق هو اللّه تعالى ، بل المراد وجود شيء معين ، فيقع السؤال عن ذلك المضاف إليه الوجود ما هو؟ فهل هو المبهم الخاصّ ، فيلزم عدم الصدق مع نقصه أو تغير حاله ، أو الأعم ، فما هو؟ وما هو الجامع؟.

ص: 228


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /26- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبالجملة : لا يظهر لما ذكره صاحب الكفاية محصل.

واما ما قيل : من ان الموضوع له العلم هو النّفس المتعلقة بالبدن ، وتشخص البدن ووحدته محفوظ بوحدة النّفس وتشخصها ، إذ المعتبر مع النّفس مطلق البدن ، بتقريب فلسفي ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية لا داعي إلى ذكره (1).

فهو لو تحقق في محله وبلحاظ القواعد الفلسفية لا يمكننا الالتزام به ، لأن ذلك المعنى مما لم تدركه افهام بعض الاعلام - كما يقول الأصفهاني - فكيف يلتفت إليه أقل العوام ذهنا ، لأن وضع الاعلام يصدر من العوام والجهلة. فلا بد ان يلتزم بكون الوضع فيها لمعنى مبهم الا من جهة امتيازه عن سائر المعاني ، وهي التشخص الخاصّ ، كما قرره المحقق الأصفهاني في الجامع الصحيحي.

الوجه الرابع : ان الموضوع له ابتداء هو الصحيح التام الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ، إلاّ ان العرف يتسامحون - كما هو شأنهم - فيطلقون اللفظ على الفاقد تنزيلا له منزلة الواجد ، بل يمكن ان يدعى صيرورة اللفظ حقيقة فيه بالاستعمال دفعة أو دفعات للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في الأثر ، نظير أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لمركبات خاصة بحدود معينة ، فانه يصح إطلاقها على فاقد بعض الاجزاء مسامحة أو حقيقة للمشابهة أو المشاركة.

وقد ناقش صاحب الكفاية بمثل ما أوردنا به على اختيار المحقق النائيني في التزامه بالوضع للمرتبة العليا ، وحاصله : وجود الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فان الصحيح التام في أسماء المعاجين معلوم الحد والمقدار ، فيمكن الوضع بإزائه واستعمال اللفظ في الفاقد منه بلحاظه. وليس الصحيح في العبادات معلوم

ص: 229


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 48 - الطبعة الأولى.

الحد لاختلاف مراتب الصحة وافراد كل مرتبة بحسب اختلاف الحالات ، فلا بد من فرض جامع بينهما يوضع بإزائه اللفظ (1).

الوجه الخامس : ان يكون حالها حال أسماء المقادير والأوزان ، فانها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة ، اما بوضع الواضع أو بكثرة الاستعمال في الأعم.

والمناقشة فيه واضحة ، إذ الصحيح الّذي يحاول فرض لحاظ الزيادة والنقصان بالإضافة إليه يختلف في باب العبادات كما عرفت دون باب المقادير والأوزان.

وعلى كل ، فنفس التقريب والإيراد عليه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

والّذي تلخص عدم تمامية الوجوه المذكورة لتصوير الجامع بين افراد الأعم.

وقد حاول السيد الخوئي ( دام ظله ) ان يصحح أخذ الأركان جامعا وان تكون هي الموضوع له ، فقد جاء في تقريرات الفياض بعد ذكر كلام المحقق القمي والمحقق النائيني وصاحب الكفاية ، ما نصه : « والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي رحمه اللّه ، ولا يرد عليه شيء من هذه الإيرادات أما الإيراد الأول - يريد به الإيراد من المحقق النائيني باستلزامه أخذ الاجزاء الأخرى في الموضوع له عند وجودها ، وعدم أخذها عند عدمها ، باستلزامه لدخول شيء في الماهية تارة وخروجه عنها أخرى - ، فلان فيه خلطا بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية ، فان المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة ، ولكل واحد من الجزءين جهة افتقار بالإضافة إلى الآخر ، لا يعقل فيها تبديل الاجزاء بغيرها ، ولا الاختلاف فيها كما وكيفا ، ... فما ذكره قدس سره

ص: 230


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /27- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تام في المركبات الحقيقة ولا مناص عنه ، واما المركبات الاعتبارية التي تتركب من امرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزءين جهة اتحاد حقيقة ولا افتقار ولا ارتباط ، بل ان كل واحد منهما موجود مستقل على حياله ومباين للآخر في التحصل والفعلية ، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية لاستحالة التركب الحقيقي بين امرين أو أمور متحصلة بالفعل ، فلا يتم فيها ما أفاده قدس سره ، ولا مانع من كون شيء واحد داخلا فيها عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه.

وقد مثلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ ال « دار » ، فانه موضوع لمعنى مركب ، وهو ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة ، وهي أجزاؤها الرئيسية ، ومقومة لصدق عنوانها ، فحينئذ ان كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من اجزائها وداخلة في مسمى لفظها وإلاّ فلا.

وبالجملة : فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركبا من اجزاء معينة خاصة ، وهي الحيطان والساحة والغرفة ، فهي أركانها ولم يلحظ فيها موادا معينة وشكلا خاصا من الإشكال الهندسية ، واما بالإضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط ، بمعنى ان الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى ، وعلى تقدير عدمه خارج عنه ، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد ...

وبتعبير آخر : ان المركبات الاعتبارية على نحوين : أحدهما : ما لوحظ فيه كثرة معينة من جانب القلة والكثرة ، وله حد خاص من الطرفين كالأعداد ، فان الخمسة - مثلا - مركبة من أعداد معينة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة. وثانيهما : ما لوحظ فيه اجزاء معينة من جانب القلة فقط وله حد خاص من هذا الطرف ، واما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد أخذ لا بشرط ، وذلك مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك ، فان فيها ما أخذ مقوما للمركب ، وما أخذ المركب بالإضافة إليه لا بشرط ، ومن الظاهر ان اعتبار

ص: 231

اللابشرطية في المعنى كما يمكن ان يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن ان يكون باعتبار دخول الزائد في المركب ، كما انه لا مانع من ان يكون المقوم للأمر الاعتباري أحد أمور على سبيل البدل. وقد مثلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى ، فانه موضوع للمركب المطبوخ من سكر وغيره ، سواء كان ذلك الغير دقيق أرز أو حنطة أو غير ذلك.

ولما كانت ال « صلاة » من الأمور الاعتبارية فانك عرفت انها مركبة من مقولات متعددة ، كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها ، وقد برهن في محله ان المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة ، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين ، بل لا يمكن بين افراد مقولة واحدة فما ظنك بالمقولات ، فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعدا. والوجه في ذلك : هو ان معنى كل مركب اعتباري لا بد ان يعرف من قبل مخترعه سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره ، وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثيرة ان حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجودا وعدما ، عبارة عن التكبير والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، على ما سنتكلم به عن قريب إن شاء اللّه تعالى. واما بقية الاجزاء والشرائط ، فهي عند وجودها داخلة في المسمى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضر بصدقة ، وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى الزائد. وقد عرفت انه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية ، وكم له من نظير. وان شئت فقل : ان المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقا بيد معتبرها ، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أمور بشرط لا كما في الاعداد. وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد كما هو الحال في كثير من تلك المركبات ، فالصلاة من هذا القبيل فانها موضوعة للأركان فصاعدا ، ومما يدل على ذلك هو ان إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كما وكيفا على نسق واحد بلا لحاظ عناية

ص: 232

في شيء منها ، فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا لم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الاجزاء والشرائط بلا عناية ، مع انا نرى وجدانا عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد وإطلاقها على الفاقد. وقد تلخص من ذلك : ان دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرة وخروجه عنها مرة أخرى ، انما يكون مستحيلا في الماهيات الحقيقية دون المركبات الاعتبارية. وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضا يريد به الإيراد على القائل - وهو المحقق النائيني - بالحاجة إلى جامع الأركان بخصوصها - ، فان لفظ ال « صلاة » موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كما وكيفا ، وله عرض عريض فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد ، كصدق كلمة « الدار » على جميع افرادها المختلفة زيادة ونقيصة كما وكيفا ، إذا لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال. وبتعبير واضح : ان الأركان وان كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الأستاذ - قدس سره - إلاّ انه لا يضر بما ذكرناه من أنّ لفظ الصلاة موضوع بإزاء الأركان بعرضها العريض ، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة ، فانه موضوع لها كذلك على سبيل البدل ، وقد عرفت انه لا مانع من ان يكون مقوم المركب الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل ... فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية » (1).

والكلام معه في نقطتين :

إحداهما : ما التزم به من جواز فرض بعض الاجزاء دخيلا في المسمى حال وجوده وغير دخيل حال عدمه. فانه عجيب. وذلك لأنه يقتضي ان الوضع انما يتحقق لسائر الاجزاء ، وأن العلقة بينها وبين اللفظ انما تحدث بعد وجودها ،

ص: 233


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 159 - 162 - الطبعة الأولى.

لأنها انما تكون جزء المسمى والموضوع له بعد وجودها ، ولا يلتزم بذلك - أعني كون حدوث العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى حال وجوده خارجا - أحد حتى القائل المزبور ، لأن العلقة بين اللفظ وطبيعي المعنى ، سواء وجد أم لم يوجد ، بل سواء أمكن وجوده أم لم يمكن. ولا يفترق الحال في ذلك بين المركبات الاعتبارية وغيرها. هذا مع انه خلاف ما صرح به في بعض الموارد من عدم الوضع للموجود بما هو موجود ، بل للمفهوم والطبيعي.

ثانيتهما : ما التزم به من عدم لزوم فرض جامع بين الأركان ، لجواز كون مقوم الأمر الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل. فانه بظاهره غريب جدا ، لأن الفرد على البدل مفهوما غير مراد لهذا القائل جزما ، إذ لا ترادف بين معنى اللفظ ومفهوم أحدهما على البدل ، والفرد على البدل مصداقا لا وجود له ولا تقرر حتى يكون مقوما [ للمسمى ] للمركب وموضوعا له اللفظ. فيمتنع ان يكون المسمى هو أحدها على البدل ، إذ لا وجود له ، فلا ينطبق على الافراد الخارجية المفروض صدق اللفظ عليها.

نعم لو كان المقصود - ما لا يظهر منه - ان المسمى معنى جامع بين سائر الأركان وسائر الاجزاء ، بحيث يصدق على الافراد المتبادلة بنحو البدل ، لا انه أحد هذه الافراد على البدل ، كان وجيها لكنه يرجع إلى ما التزم به المحقق الأصفهاني من كون الجامع معنى مبهم قابل للصدق على القليل والكثير ، ووافقه عليه المحقق النائيني فيرد عليه :

أولا : أنه لا يصلح إيرادا على المحقق النائيني لتوافقهما في المدعى.

وثانيا : إنّ عليه ان يلتزم بمثله في الافراد الصحيحة ، لأنه نفاه بدعوى انحصار الجامع في الجامع المقولي والعنواني. والأول غير معقول. والثاني لم يوضع له اللفظ جزما ، فيرد عليه مثله هاهنا ، فإذا فرض انه تصور هاهنا نحو ثالث للجامع ، وهو الجامع المبهم ألزم به في الصحيح ، ومما ذكرنا يظهر : ان ما أورده من

ص: 234

الأمثلة كلفظ الدار والكلام والحلوى وانها موضوعة لمعنى معين أخذ لا بشرط بمعنى دخول غيره في المسمى لو وجد غير وجيه ، لأن الكلام في هذه الموارد ونظائرها عين الكلام في الصلاة ، ولا نلتزم بان الموضوع له فيها معنى معين أخذ لا بشرط بالمعنى الّذي يذكره لهذا الاصطلاح ، بل الموضوع له فيها معنى مبهم من جميع الجهات الا بعضها قابل للانطباق على الكثير والقليل.

واما ما ساقه دليلا على كون الموضوع له الأركان من النص الدال على ان الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود ، بضميمة ما دل على تقوم الصلاة بالتكبير ، فهو مما لا يمكن الالتزام به لوجوه :

الأول : ان تصدي الإمام علیه السلام لبيان الموضوع له لفظ الصلاة بعد مدة طويلة من ظهور الإسلام ، وإيجاب الصلاة على المسلمين ، وخلوّ سائر النصوص عن ذلك ، مما لا نتصور له أثرا عمليا ، فلو نسلم ظهوره في ذلك فلا بد من صرفه إلى جهة أخرى.

الثاني : ان ظهور كلام المعصوم علیه السلام في كون بصدد التشريع ، ينافي حمله على بيان الموضوع له لفظ الصلاة ، إذ لا يترتب على هذه الثلاثة بمجموعها أي حكم شرعي.

الثالث : منافاة هذا النص للنصوص الظاهرة في مغايرة الطهارة للصلاة ، كالنصوص الدالة على انه إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور ، فانه لا يصح هذا العطف لو كان الطهور جزءا للصلاة ، فانه نظير ان يقال : يجب الركوع ، والصلاة.

الرابع : انه لو كان مفاد النصّ : ان الصلاة عبارة عن الطهور والركوع والسّجود حقيقة ، كان ذلك منافيا - لا محالة - لدخالة التكبير فيها. فإذا وجد ما يدل على دخالة التكبير فيها كان ذلك مصادما لظهور النص في التثليث مباشرة ، فانه - حينئذ - لا تكون الصلاة ثلاثة أثلاث ، بل أربعة أرباع

ص: 235

.. فيعلم منه : عدم إرادة المعنى المذكور من النصّ ، وأنّه لا بد من حمله على بيان أهمية الأمور الثلاثة في الصّلاة ، وكونها العمدة من اجزائه ، فكأنّها هي هي. فتدبر.

وبعد هذا كله يتضح انه لا يمكن تصوير الجامع بنحو يكون معقولا وخاليا عن المحذور ثبوتا وإثباتا ، الا ما التزم به المحقق الأصفهاني ووافقه عليه المحقق النائيني ، من كونه سنخ عمل مبهم الا من بعض الجهات ، وهو قابل للانطباق على الكثير والقليل ، وتكون نسبته إلى الافراد نسبة الكلي إلى افراده والطبيعي إلى مصاديقه ، وقد مر توضيحه في المقام الأول فلا نعيد.

الأمر الرابع : في بيان الثمرة العملية لهذا النزاع. وقد ذكر له ثمرات عديدة.

منها : إمكان التمسك بالإطلاق على القول بالأعم ، وعدم إمكانه على القول بالصحيح. بيان ذلك : ان شرط التمسك بإطلاق اللفظ في مورد الشك هو إحراز صدق اللفظ بمعناه على المورد المشكوك فيه ، بحيث يكون الشك في أخذ خصوصية زائدة على أصل المعنى في موضوع الحكم المانع من ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه ، فيتمسك بإطلاق اللفظ في نفي الخصوصية ، ويثبت الحكم لمورد الشك ، نظير ما لو ورد : « أكرم العالم » وشك في ثبوت الحكم للعالم النحوي للشك في أخذ العالم الفقيه في موضوعه ، جاز التمسك بإطلاق « العالم » لنفي أخذ الخصوصية ، فيثبت الحكم للنحوي المحرز كونه عالما.

أما مع عدم إحراز صدق اللفظ بمعناه على الفرد المشكوك فلا وجه للتمسك بالإطلاق في إثبات الحكم له ، إذ ليس الشك في خصوصية زائدة كي تنفي بالإطلاق ، بل الخصوصية المشكوك فيها على تقدير دخلها ، فهي مقومة لمعنى المطلق وثبوته في الفرد المشكوك فيه ، فلو تمسك بالإطلاق وأثبت ان المراد هو المعنى المطلق غير المقيد ، لم يثبت بذلك ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه ، إذ لا يعلم انه من أفراد المطلق أصلا.

ص: 236

وبعد هذا نقول : انه لما لم يكن صدق العنوان المطلق على الفرد المشكوك فيه ، مع الشك في اعتبار جزء أو شرط محرزا على القول بالوضع للصحيح ، لأن كل ما يفرض دخله في المأمور به فهو دخيل في المسمى ، فالشك في اعتبار جزء مساوق للشك في تحقق المسمى بدونه ، إذ على تقدير اعتباره واقعا يكون دخيلا في المسمى. فلا يجدي التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو شرط في المأمور به ، إذ نفي اعتباره لا يجدي في ثبوت الحكم للمشكوك فيه للشك في صدق عنوان المطلق عليه ، فشرط التمسك بالإطلاق غير محرز على القول الصحيحي ، وهو إحراز صدق المطلق على المشكوك فيه ، فليمكن التمسك به. وهذا بخلاف القول بالوضع للأعم ، إذ صدق اللفظ على المشكوك فيه مع التمسك في اعتبار جزء محرز ، إذ المفروض انه يصدق على الأعم من الصحيح والفاسد فعلى تقدير دخالة الجزء المشكوك فيه واقعا في المأمور به كان العنوان صادقا على فاقده بلا كلام. فالتمسك بالإطلاق في نفي الخصوصية الزائدة المشكوك فيها يجدي في إثبات الحكم للمشكوك فيه ، لأنه من أفراد المطلق على كل حال ، كانت الخصوصية ثابتة واقعا أو لم تكن. نعم ينبغي ان يكون الجزء المشكوك فيه مما لا يكون مقوما للموضوع له حتى على القول بالأعم - كما لو كان المشكوك فيه على تقدير دخالته ركنا للصلاة ، فانه دخيل في المسمى على القول بالوضع للأركان - ، وإلا تساوى القولان الأعمي والصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق.

ثم ان ما ذكرناه لا يعني فعلية التمسك بالإطلاق عند الشك على القول الأعمي ، بل هو لا يقتضي إلاّ قابلية المورد للتمسك بالإطلاق ، فإذا تمت مقدمات التمسك به من كون المتكلم في مقام البيان وعدم البيان ، صح التمسك به فعلا.

وعليه ، فلا وجه للإيراد على هذه الثمرة ونفيها ، بأنه لا يتمسك بالإطلاق ، سواء قلنا بالأعم أم بالصحيح ، لعدم وجود مورد من موارد استعمال اللفظ يكون المولى فيه في مقام البيان ، فلا يصح التمسك بالإطلاق حتى على القول بالأعم

ص: 237

لاشتراط كون المتكلم في مقام البيان في صحة التمسك بالإطلاق.

أو بما يقرره المحقق العراقي : بان النصوص الواردة بين ما ليس في مقام البيان وما هو في مقام بيان الاجزاء والشرائط ببيانها بخصوصياتها. فالأوّل لا يصح التمسك بإطلاقه حتى على القول بالأعم ، والثاني يصح التمسك بإطلاقه حتى على القول بالصحيح ، لأنه إذا علم ان المولى في مقام بيان ما هو دخيل في المأمور به فسكوته عن المشكوك فيه دليل على عدم إرادته ، إذ إرادته وعدم بيانه خلف فرض كونه في مقام بيان جميع ما له الدخل (1).

وجه عدم توجه الإيراد : ما أشرنا إليه من ان المفروض في الثمرة إمكان التمسك بالإطلاق ، لا فعليته ، فعدم فعلية التمسك لعدم تمامية بعض مقدمات الحكمة لا ينفي إمكان التمسك وقابلية المورد في نفسه - لا فعلا - للتمسك بالإطلاق فيه. واما ما ذكره المحقق العراقي من إمكان التمسك بالإطلاق على الصحيح في مورد بيان الاجزاء والشرائط ، فهو لا ينفي ما ذكرناه ، إذ الثمرة هي عدم إمكان التمسك بالإطلاق اللفظي على الصحيح ، وما يتمسك به في نفى دخالة المشكوك في المورد المفروض هو الإطلاق المقامي وهو غير المنفي.

نعم الإيراد المزبور صالح لنفي عملية الثمرة وكونها علمية محضة ، لا نفى أصل الثمرة فلاحظ.

ثم ان هناك وجها آخر ذكر لنفي الثمرة المزبورة ، بيانه :

ان اللفظ وان كان ينطبق على الصحيح والفاسد على القول بالوضع للأعم ، إلاّ ان المأمور به خصوص الصحيح ، ومعه لا يصح التمسك بالإطلاق على هذا القول عند الشك ، وذلك : لأن تقييد المراد الجدي كتقييد المراد الاستعمالي ، وظهور اللفظ مانع من التمسك بالمطلق مع الشك في دخوله في المقيد

ص: 238


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 96 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أو غيره ، فكما انه إذا قيد المراد الاستعمالي بالصحيح وقيل : « ائت بالصلاة الصحيحة » وشك في دخالة جزء في المأمور به يمتنع التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز كون الفاقد صحيحا ، لأن الجزء على تقدير اعتباره دخيل في الصحة كما لا يخفى ، فلا يحرز صدق المطلق على المشكوك فيه ، كذلك إذا قيد المراد الجدي دون المراد الاستعمالي ، بان كان اللفظ مطلقا ، لكن قيد المراد الحقيقي منه بخصوص الصحيح ، وعلم انه لا يراد منه غير الصحيح. فمع الشك في اعتبار جزء لا يصح التمسك بالإطلاق ، لأنه انما يتمسك به في المورد الّذي يحرز كون المراد الجدي على طبقه ، والمفروض انه لا يعلم كون المراد الجدي على طبق المطلق الا في خصوص الصحيح ، فلا بد من إحراز كون الفرد المشكوك فيه صحيحا كي يتمسك بإطلاق اللفظ فيه ، والفرض انه لا يحرز صدق الصحيح على الفاقد للجزء المشكوك اعتباره ، فلا يصح التمسك بالإطلاق.

وعليه ، فنحن نعلم بحكم العقل ان المأمور به ليس إلاّ الفرد الصحيح وان كان اللفظ في لسان الدليل أعم من الصحيح والفاسد ، إذ الشارع لا يأمر بالفاسد ، فلا يسعنا - مع هذا - التمسك بإطلاق اللفظ عند الشك في اعتبار جزء أو شرط بالتقريب الّذي ذكرناه.

وبكلمة واحدة : يكون التمسك بالإطلاق في مورد الشك بعد إحراز تقييده بالصحيح من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية وهو ممنوع.

وقد اختلف كلمات الاعلام في الإجابة عن هذا الإيراد وقد قيل في رده وجوه :

الأول : انه لا مانع من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية ، إذا كان المقيد لبيا لا لفظيا.

وهو غير وجيه ، إذ التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في المقيد اللبي لا يلتزم به الا بعض قليل من الاعلام ، والمفروض ان المشهور يتمسكون

ص: 239

بالإطلاق في مورد الشك ، وهو ينافي التزام الأكثر بعدم جواز التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية. فلا بد من جواب آخر.

الثاني : - وهو ما جاء في تقريرات بحث العراقي - ان الصحة على الصحيح قيد من قيود المعنى المأمور به ، فهي دخيلة في قوام المعنى ، ولهذا لا يصح التمسك بالإطلاق. واما على الأعم فهي غير دخيلة في قوام المعنى المأمور به ، وانما تعلق الأمر بشيء مشروط بأمور أخرى ، فإذا أتى المكلف بالمأمور به على وجهه المعين له شرعا ينتزع العقل من المأتي به انه صحيح لمطابقته للمأمور به ، فالصحة على الصحيح متقدمة رتبة على الأمر ، وعلى الأعم متأخرة رتبة على الأمر ، وفي مثله يصح التمسك بالإطلاق لتقدم موضوعه.

وأورد عليه في التقريرات : بان الصحة على الصحيح لم تؤخذ قيدا للموضوع له أو للمستعمل فيه ، لا على نحو دخول القيد والتقييد ولا على نحو دخول التقييد فقط ، بل الموضوع له أو المستعمل فيه هي الحصة المقارنة للصحة ، والمأمور به على الأعم أيضا تلك الحصة ، لاستحالة الأمر بالفاسد واستحالة الإهمال في متعلق إرادة الطالب. فلا فرق في متعلق الأمر بين القول بالصحيح والقول بالأعم إلاّ بالوضع لخصوص الحصة المقارنة للصحة على الأول ، وعدم الوضع لخصوصها على الثاني ، وفي مثل هذا الفرق لا أثر له في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه (1).

الثالث : ما ذكره الشيخ في الرسائل ، وسيأتي بيانه.

والتحقيق ان يقال : - بعد فرض كون المراد بالصحّة ترتب الأثر كما تقدم دون غيرها من المعاني - ان ما ذكر من مانعية تقييد المراد الجدي عن التمسك بالمطلق في مورد الشك مسلم. كمانعية تقييد المراد الاستعمالي ، ولا كلام فيه لما

ص: 240


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 130 - الطبعة الأولى.

تقدم من تقريبه.

إلاّ انه يمكن الالتزام في ما نحن فيه بما يتفق مع التقييد في النتيجة بلا تقييد المراد الجدي أصلا ، وعليه فلا يجري فيه الحكم.

بيان ذلك : ان للصلاة فردين : أحدهما يترتب عليه الأثر. والآخر لا يترتب عليه الأثر ، وكل منهما عبارة عن كمية خاصة من الاجزاء والشرائط ، وقد علمنا بان الأمر انما تعلق بالكمية الخاصة التي يترتب عليها الأثر ، ولكن بلا ان يكون ترتب الأثر ملحوظا في مقام تعلق الأمر ومأخوذا في المأمور به ، وذلك لأن ترتب الأثر على الكمية المعينة في نفس المولى أمر تكويني قهري ، فلا يكون المورد قابلا للإطلاق والتقييد ، إذ الإطلاق والتقييد انما يكونان في المورد الّذي يمكن فيه أخذ القيد وعدم أخذه ، فيقال : ان المراد الجدي اما ان يكون مطلقا أو مقيدا لامتناع الإهمال من حيث القيد. اما المورد الّذي لا يقبل التقييد لقهرية حصول القيد فلا يجري فيه ما ذكر ، إذ عدم الإطلاق والتقييد لا يستلزم الإهمال لثبوت القيد لا محالة بلا توقف على لحاظه وأخذه.

وعليه ، فالمأمور به ليس إلاّ الكمية الخاصة الملازمة لترتب الأثر ، بحيث تكون جهة ترتب الأثر جهة معرفة للمأمور به لا دخيلة فيه. والمراد الجدي انما هو مقدار معين في نفس المولى من الأجزاء والشرائط ، فإذا تردد المراد الجدي بين الأقل والأكثر وانه الاجزاء التسعة أو العشرة ، وكان هناك ظهور يعين لنا مقداره كان التمسك به متعينا ، كما فيما نحن فيه. لأن لفظ الصلاة على الأعم يصدق على الأقل والأكثر فهو ظاهر فيهما ، فإذا تردد المراد الجدي من هذا الظاهر - إذ الفرض حصول العلم بكون المراد الجدي منه كمية معينة من الاجزاء والشرائط والتردد في مقدارها وانه الأقل أو الأكثر - أمكن التمسك بظهوره الإطلاقي في تعيين المراد الجدي وانه الأقل دون الأكثر لعدم القرينة عليه ، كما هو شأن كل ظاهر حيث انه تحقق بناء العقلاء على كشف المراد الجدي بظاهر

ص: 241

الكلام ، ولا يأتي هذا الكلام على القول بالصحيح ، لأن اللفظ موضوع لتلك الحصة المعينة واقعا المرددة عندنا ، فهو ظاهر في تلك الحصة ولم يعلم انها الأقل كي يتمسك بظهوره فيه في تعيين المراد الجدي ، بل يكون مجملا من جهة الأقل والأكثر. بخلاف القول بالأعم ، إذ اللفظ ظاهر في الأقل ، فيعين انه المراد الجدي بالظهور.

وبالجملة : ليس ما نحن فيه - على ما ذكرناه - من باب التمسك بالعامّ بعد إحراز المراد الجدي منه في الشبهة المصداقية كي يمنع ذلك ، بل من باب التمسك بظهور المطلق في الإطلاق في إحراز المراد الجدي وهو لا محذور فيه ، ويفترق الحال فيه بين القول بالصحيح والأعم كما عرفت.

ويمكن ان يقرب الجواب بنحو آخر وهو : انه لا إشكال في ان الأمر لم يتعلق بذات الصلاة وماهيتها المطلقة من كل قيد وشرط ، بل تعلق بها مقيدة ببعض الاجزاء والشرائط ، وقد علمنا بحكم العقل عدم تعلق الأمر إلا بما يترتب عليه الأثر. ونحتمل ان يكون ما يترتب عليه الأثر هو خصوص الكمية المعلومة فعلا دون الأكثر منها ولا نعلم بأنها الكمية الأكثر ودخل بعض الاجزاء في ترتب الأثر.

وعليه ، فلا يعلم بان المراد الجدي ، وهو خصوص الأجزاء والشرائط المعلومة ، مقيد أصلا ، لاحتمال أنه هو الّذي يترتب عليه الأثر بلا دخل لشيء آخر فيه.

وعليه ، فلا مانع من التمسك بإطلاق اللفظ في نفي القيد الزائد وكون المقدار المعلوم هو المأمور به لعدم البيان - نظير ما لو قال : « أكرم جيراني » وعلمت بأنه لا يريد إكرام أعدائه ، ولكن لم اعلم بوجود عدو له من جيرانه ، بل يحتمل ان يكون الجميع غير أعداء له ، فبذلك لا أعلم بتقييد المراد الجدي من العام وهو : ( الجيران ). وعليه فيمكن التمسك بإطلاقه في إثبات وجوب إكرام من

ص: 242

يحتمل عداؤه من جيرانه -. ولا يتأتى ذلك على القول بالصحيح ، إذ المفروض ان اللفظ موضوع للحصة الملازمة لترتب الأثر ، فمع احتمال عدم كون هذه الحصة المعلوم تعلق الأمر بها مما يترتب عليها الأثر بخصوصها ، بل تتوقف على تحقق الجزء المشكوك لا يمكن التمسك بإطلاق اللفظ لعدم إحراز صدقه على المشكوك.

وبهذا البيان يرتفع الإشكال الّذي لا أعلم من تصدى لحلّه بنحو يرتفع به الإيراد من الاعلام.

ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأنصاري في جوابه عن الإشكال حيث قال : « ودفعه يظهر مما ذكرناه : من ان الصلاة لم تقيد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ، وانما قيدت بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للأمور التي دل الدليل على تقييد الصلاة بها ، لا ان مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم الصحيحة ... » (1). إذ لا يظهر له وجه وجيه غير ما ذكرناه فلاحظ وتدبر.

هذا ، ولكن الإنصاف ان الوجهين المذكورين لا يخلوان عن بحث ، فالعمدة في الجواب ان يقال : ان الحكم العقلي بعدم تعلق الأمر الا بالصحيح بمعنى واجد الملاك والمصلحة لا ينافي دليل تعلق الأمر بالعمل كي يكون مقيدا له ببعض حصصه ، إذ التقييد فرع المنافاة بين الدليلين بنحو لا يمكن اجتماعهما. وذلك لأن دليل الأمر بالعمل يدل بالملازمة على ثبوت الملاك في الفعل ، فيكون بجميع افراده صحيحا واجدا للملاك. وبذلك تكون نسبة دليل الأمر إلى الحكم

ص: 243


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /281- الطبعة الحجرية.

العقلي نسبة الوارد إلى المورود وموجبا لارتفاع موضوعه.

وبالجملة ، لا يكون الحكم العقلي المزبور موجبا لإخراج بعض افراد دليل الأمر ، إذ لا يقتضي ذلك أصلا ، فتدبر تعرف.

الرابع : ما ذكره المحقق الخوئي من : ان هذا الإيراد يبتني على أخذ الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجا ، وهي غير مأخوذة قطعا ، بل لا يعقل أخذها - لما تقدم منه - ، وانما المأخوذ في المأمور به الصحة الاقتضائية التي هي الصحة بمعنى تمامية الاجزاء والشرائط ، وعليه فيفترق الحال بين القول بالصحيح والقول بالأعم ، إذ لا يحرز صدق اللفظ على الفاقد الجزء المشكوك اعتباره بناء على الصحيح فيمتنع التمسك بالإطلاق.

بخلافه على القول بالأعم ، إذ صدقه على الفاقد محرز فيكون الشك في أمر زائد لا في أصل تحقق المعنى كما هو على القول بالصحيح -. وعليه فلا مانع من التمسك بالإطلاق في إثبات كون المأمور به هو الطبيعي الجامع بين الفاقد والواجد (1).

وأنت خبير بان هذا تقرير لأصل الثمرة وليس جوابا على الإيراد الموجه عليها وحلا للإشكال فيها. فان المستشكل يعلم بصدق الصلاة على الفاقد بناء على الأعم ، إلا انه لا يرى صحة الأخذ بظهور الكلام الإطلاقي لتقييد المراد الجدي بالصحيح ، فلا يكون ما ذكر جوابا ، بل هو تقرير لموضوع الإشكال.

واما ما ذكره المحقق النائيني في دفع الإشكال من : ان المأمور به أو قيده البسيط على الصحيح مشكوك الصدق على الفاقد كما عرفت ، فلا يمكن معه التمسك بالإطلاق ، بخلافه على الأعم فان المأمور به على هذا ليس إلا نفس الاجزاء والشرائط ، والصحة ليست إلا منتزعة عن كون الشيء موافقا للمأمور

ص: 244


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 181 - الطبعة الأولى.

به ، فالصحة متأخرة عن تعلق الأمر ويستحيل أخذها في المأمور به (1).

ففيه : انه لا يخلو عن غرابة ، لأن الصحة لا تختلف حقيقتها على القول بالصحيح أو بالأعم ، فكيف يفرض تعلق الأمر بالعمل بوصف الصحة على القول بالصحيح واستحالة ذلك على القول بالأعم لتأخر وصف الصحة عن الأمر رتبة؟ فلاحظ.

فالذي ينبغي ان يقال في الجواب ما عرفت.

وبذلك يظهر : ان الإيراد على الثمرة ينحصر بالوجه الأول ، وهو انها ثمرة غير عملية بل علمية محضة ، وهو لا يكفي في تحرير المسألة الأصولية فان المقصود بها مقام الاستنباط والعمل.

وقد تصدى السيد الخوئي لدفع هذا الإيراد بإثبات كون الثمرة عملية بإنكار دعوى عدم وجود المطلق في الكتاب والسنة الوارد مورد البيان ، وأنّ دعوى ذلك رجم بالغيب ، إذ قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2) ، وارد مورد البيان ، فيكون موردا للثمرة المزبورة ، إذ المفهوم من كلمة الصيام عرفا كفّ النّفس عن الأكل والشرب وهو المعنى اللغوي ، وهو بهذا المعنى ثابت في الشرائع السابقة ، وهو وان اختلف بكيفيته باختلاف الشرائع ، لكن الاختلاف يرجع إلى الخارج عن ماهية الصيام ، بل قد يعتبر فيه كما في الشرع الإسلامي الكف عن بعض القيود الأخر ، كالجماع والارتماس وغيرهما. فإذا شك في اعتبار شيء قيدا أمكن التمسك بالإطلاق في نفيه كما يتمسك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (3) مع الشك في اعتبار شيء في المعاملة البيعية. ومثل قوله تعالى ما في السنة من الروايات الموردة مورد البيان

ص: 245


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 46 - الطبعة الأولى.
2- سورة البقرة : الآية : 183.
3- سورة البقرة : الآية : 275.

كقوله علیه السلام في التشهد : « يتشهد » (1) فان مقتضى إطلاقه نفى الخصوصيات الزائدة على أصل الشهادة مع الشك في اعتبارها (2).

ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به ..

اما الآية الشريفة : فلا نسلم ورودها مورد البيان ، بل هي واردة لبيان أصل الوجوب وبيان اشتراك المكلفين به فعلا مع غيرهم ممن سبقهم ، وانه ليس تكليفا مختصا بهم تخفيفا لوطأة التكليف على نفوسهم ، فوزانه وزان قوله تعالى :

( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (3) وقوله : ( وَآتُوا الزَّكاةَ ) (4) ونحوهما. والاستشهاد بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) في غير محله ، إذ لم نلتزم في محله بأنه في مقام البيان كما هو ظاهر ، إذ هو في مقام التفرقة بين البيع والرّبا في الحكم وان الأول حلال والثاني حرام ردا على من ادعى عدم الفرق والتسوية بينهما في الحكم. فلاحظ الآية تعرف.

مضافا إلى انه لا يمكن الاستشهاد بآية : « كتب عليكم الصيام .. » في إثبات الثمرة العملية ، حتى لو كانت واردة في مقام البيان. إذ التمسك بإطلاقها ممكن على القول بالصحيح. وذلك لأن الصوم - على القول بالصحيح - لا بد ان يلحظ فيه جميع ما له دخل فيه من اجزاء وشرائط. ولما كنا نسلم بان الواجب في شريعتنا يختلف عما كان هو الواجب في الشرائع السابقة ولو قيدا ، وقد قرر في الآية ثبوته علينا كثبوته في السابق ، فيعلم ان المراد من الصيام في الآية غير الصوم الصحيح ، إذ لا يتلاءم مع القول بالاختلاف.

وعليه ، فيمكن التمسك بالإطلاق فيها ولو قيل بالصحيح ، لعدم إرادته

ص: 246


1- وسائل الشيعة 4 - باب : 13 من أبواب التشهد ، حديث : 1 و 2 و 3 و 4.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 178 - الطبعة الأولى.
3- سورة المزمل : الآية : 20.
4- سورة المزمل : الآية : 20.

من اللفظ المانع من الثمرة. فالثمرة لا تظهر في المقام فلا يصلح نقضا على إنكار وجود المورد للثمرة.

واما الرواية : فلا تصلح شاهدا على ما يقول ، إلا بناء على شمول النزاع المزبور لاجزاء العبادة وعدم اختصاصه بنفس العبادة. وهو فاسد ، إذ لا ملزم له بل يمكن الالتزام بالوضع اللغوي لها من دون تغيير ، كما هو ظاهر في مثل التشهد ، فان إطلاق لفظ التشهد على ذكر الشهادتين انما كان بالوضع اللغوي لا الشرعي كما لا يخفى.

منها : جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته على القول الأعمي دون القول الصحيحي ، بل لا بد من الاحتياط.

بيان ذلك : انه إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر بان علم إجمالا بكون المأمور به اما الاجزاء الخمسة أو الستة ، فهل يكون المورد من موارد البراءة أو الاحتياط؟.

قيل : بجريان الاحتياط للعلم الإجمالي المنجز الموجب للاحتياط بقاعدة الاشتغال التي تقتضي لزوم اليقين بالامتثال ، وهو لا يحصل إلاّ بالاحتياط بالإتيان بالأكثر.

وقيل : بالبراءة بدعوى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل - وهو الخمسة - وشك بدوي في وجوب الزائد فيكون مورد البراءة. ثم ان دعوى الانحلال تارة تكون في حكم العقل. وأخرى في حكم الشرع. وليس محلّ تحقيقه هنا.

وانما المهم ان نقول : ان الثمرة المدعاة مترتبة على القول بالانحلال ، بمعنى : انه بعد تسليم الانحلال وعدم العلم الإجمالي المنجز الموجب للاحتياط ، يدور الأمر في الالتزام بالبراءة والاشتغال ، مدار القول بالوضع للصحيح والأعم ، فان قلنا بالوضع للصحيح كان المتعين هو قاعدة الاشتغال. وان قلنا بالوضع

ص: 247

للأعم كان المتعين هو قاعدة البراءة.

وذلك ببيان : ان مرجع الشك في الزائد على القول بالصحيح إلى الشك في محقق المأمور به ومحصله ، لأن المأمور به ليس هو نفس الاجزاء والشرائط ، بل امر يتحقق بها ويحصل ، والشك في المحقق والمحصل مورد الاشتغال للعلم بالتكليف والشك في الفراغ. ومرجع الشك على القول بالأعم إلى الشك في المأمور به ، لأن المأمور به عين الاجزاء والشرائط فيرجع الشك في الجزء الزائد إلى الشك في تعلق الأمر به وهو مورد البراءة.

وبتقرير أوضح : ان العنوان المأخوذ في متعلق الأمر ..

تارة : تكون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ويكون وجوده بوجودها ، بحيث يكون وجودها وجوده بلا انحياز له عنها أصلا في الخارج لاتحادهما حقيقة ، ولذلك يصدق على الاجزاء والشرائط ويحمل عليها.

وأخرى : تكون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة المسبب إلى السبب ، فلا يكون وجودها وجوده ، بل لكل منهما وجود مستقل عن الآخر لكن أحدهما المعين يحقق الآخر فلا يصلح لأن يكون عنوانا للاجزاء والشرائط ، كما لا يصلح ان يكون المعلول عنوانا للعلة ، وذلك نظير ما يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء ، فانها عنوان بسيط يتحقق بالوضوء ولا يقال للوضوء طهارة ولا للطهارة وضوء.

فالشك في جزء زائد على الأول يرجع إلى الشك في المأمور به ، لأن المأمور به حقيقة هو الاجزاء والشرائط ، فيكون مورد البراءة لكون الشك شكا في التكليف.

واما على الثاني ، فالشك يرجع إلى المحقق والمحصل ، إذ المأمور به امر معلوم متقرر في نفسه والاجزاء والشرائط سبب وعلة لوجوده ، فالشك فيها شك في محقق المأمور به وهو مورد الاشتغال والاحتياط ، إذ بترك المشكوك يشك في

ص: 248

الفراغ الّذي يحكم العقل بلزوم إحرازه.

وهناك نحو ثالث من العناوين يشابه النحو الأول في كون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة العنوان إلى المعنون والطبيعي إلى مصداقه ، ويختلف عن النحو الثاني في هذه الجهة ، لكنه يشابهه ويختلف عن النحو الأول في عدم اتحاده حقيقة مع الاجزاء والشرائط ، وعدم اتحاده ذاتا معها ، بل هي من محققاته وسبب لوجوده ، فهو عنوان بسيط مسبب عنها ، نظير عنوان الوفاء بالنذر فانه ينطبق على واقع الوفاء ، وهو أداء المال لزيد المنذور ، انطباق الكلي على فرده ، لكنه غير متحد مع أداء المال لزيد ذاتا وحقيقة ، بل بالأداء يتحقق عنوان الوفاء ويحصل. ومثله : عنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة فانه غير الاجزاء والشرائط حقيقة وذاتا. وهكذا عنوان الدار لو قلنا بأنه موضوع لما يسكن ، فان ما يسكن عنوان ينطبق على الغرف والساحة والحيطان لكنه يختلف عنها في ذاته وحقيقته.

وهذا النحو :

تارة : لا يكون تشكيكيا ، بمعنى انه لا ينطبق على القليل والكثير ولا يتحقق بهما ، بل انما يتحقق بمجموع الأجزاء والشرائط ، كعنوان الناهي عن الفحشاء ، فانه لا يتحقق إلا بتحقق جميع الاجزاء والشرائط.

وأخرى : يكون تشكيكيا يتحقق بالأقل والأكثر وينطبق عليهما بنحو واحد ، كالدار فان عنوان ما يسكن يتحقق بغرفة وساحة وحيطان فقط ، ويتحقق بغرف وساحات وسرداب وغيرها من الاجزاء ، وينطبق على الثاني كما ينطبق على الأول.

فعلى الأول : لو شك في دخل جزء أو شرط في المأمور به يكون الشك في المحقق ، إذ يشك في تحقق العنوان البسيط بالخمسة أو بخصوص الستة ، فيكون المورد من موارد الاشتغال.

وعلى الثاني : يكون الشك في المأمور به لتحقق العنوان بالأقل ، فيكون

ص: 249

الشك في الزائد شكا في التكليف الزائد وهو مورد البراءة.

فالشك على الأول مورد الاشتغال. وعلى الثاني مورد البراءة.

وفي حكم هذا العنوان : ما إذا تعلق الأمر بنفس الأجزاء والشرائط ولكن مقيدة بالأمر البسيط ، ولم يتعلق بنفس العنوان المنتزع بان تعلق الأمر بالحصة المتقيدة بتحقق الأمر البسيط ، كما لو تعلق الأمر بالاجزاء والشرائط التي تنهى عن الفحشاء ويترتب عليها النهي عن الفحشاء. فانه مع الشك في اعتبار جزء أو شرط يشك مع عدم إتيانه في حصول التقيّد بالأمر البسيط للشك في تحققه نفسه. وبعبارة أخرى : المأمور به هو المقيد ، وبدون الإتيان بالمشكوك لا يحرز تحقق المقيد بما هو كذلك ، فيكون من الشك في المحصل ، وهو مورد قاعدة الاشتغال.

نعم إذا كان الأمر البسيط المأخوذ قيدا من الأمور التشكيكية الحاصلة ببعض الاجزاء والشرائط ، لم يكن الشك في المورد شكا في المحصل لإحراز تحقق المقيد وانما الشك في تعلق الأمر بجزء أو شرط زائد فالأصل البراءة لأنه شك في التكليف.

بعد وضوح هذا الأمر نقول : انه لو التزم بان الجامع على القول بالصحيح جامع بسيط حقيقي ذاتي مقولي كما التزم به صاحب الكفاية رحمه اللّه (1) ، كان مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر من موارد أصالة البراءة لا الاشتغال ، لاتحاد المأمور به - وهو الجامع - مع الاجزاء والشرائط ذاتا ووجودا ، فهي في الحقيقة المأمور به ، فيكون الشك في الأكثر شكا في التكليف.

وهكذا لو التزم بأنه جامع مركب يعرّفه النهي عن الفحشاء لا مقيد به وهو الجامع المبهم ، لأنه متحد مع الافراد وجودا وحقيقة ومنطبق عليها انطباق

ص: 250


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /25- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الكلي على الفرد كما عرفت ، فيكون الشك فيها شكا في المأمور به.

واما لو التزم بأنه جامع بسيط عرضي عنواني منتزع عن الذات بلحاظ ترتب أثر خاص عليها كعنوان الناهي عن الفحشاء ، فالشك في اعتبار جزء شك في تحقق العنوان البسيط بدونه ، إذ هو ليس تشكيكيا ، بل ينطبق على المجموع ويحصل به ، فيكون المورد من موارد الاشتغال بلا كلام ، إذ المأمور به امر معلوم والشك في حصوله.

ومثله لو التزمنا بان المأمور به في باب الصلاة والجامع هو الاجزاء والشرائط مقيدة بحصول النهي عن الفحشاء كما عرفت.

وبالجملة : بناء على كون الجامع الصحيحي جامعا بسيطا مقوليا أو مركبا مبهما يعرفه النهي عن الفحشاء ، يكون الشك في الأقل والأكثر من موارد البراءة. وبناء على كونه جامعا بسيطا عنوانيا أو مركبا مقيدا بالنهي عن الفحشاء يكون مورد الشك في الأقل والأكثر من موارد الاشتغال.

والمحقق النائيني قدس سره لما لم يتصور جامعا يوضع له اللفظ ويتعلق به الأمر على القول الصحيحي ، إلا بأحد النحوين الأخيرين - أعني الجامع البسيط العنواني ، والمركب المقيد بالنهي عن الفحشاء - جعل مما يترتب على القول بالصحيح هو الالتزام بعدم جريان البراءة عند الشك في الجزئية أو الشرطية وجريان قاعدة الاشتغال.

ولما كان الجامع المفروض للأعم - بأي نحو كان - مما يتحد مع الاجزاء حقيقة كان مما يترتب على القول بالأعم هو الالتزام بالبراءة عند الشك في الجزئية أو الشرطية ، لأن الشك في نفس المأمور به.

فجعل رحمه اللّه ثمرة النزاع هو جريان البراءة على الأعمي ، والاشتغال على الصحيحي (1).

ص: 251


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 45 - الطبعة الأولى.

ولا يرد على المحقق النائيني في فرضه هذه الثمرة شيئا ، إذ لا إشكال فيها بناء على ما التزم به من عدم إمكان فرض جامع للصحيح يتعلق به الأمر إلاّ بأحد ذينك النحوين ، وعدم جريان البراءة مع الالتزام بأحدهما لا ينكر.

لكن الإيراد على أصل المبنى لا البناء إذ عرفت إمكان تصوير جامع مركب بنحو مبهم يعرّفه النهي عن الفحشاء ولا يكون قيدا له.

وعليه ، تجري البراءة عند الشك في الجزئية.

والمتحصل : ان الثمرة المذكورة مما قرّرها المرحوم النائيني رحمه اللّه لالتزامه بما يستلزمها ، ما قد عرفته ، وهي بمقدار كونها ثمرة مبنائية لا إشكال فيها ، إلاّ ان الإشكال في المبنى كما عرفت.

ومن هنا يظهر انه لا وجه لما جاء في تقريرات الفياض من إنكار فرض الثمرة على المحقق النائيني قدس سره بدعوى : ان الجامع الصحيحي اما ان يفرض من الماهيات المتأصلة المركبة أو البسيطة أو من الماهيات الاعتبارية ، والبراءة تجري عند الشك في الجزئية أو الشرطية على جميع التقادير. اما على تقدير كونه جامعا حقيقيا بسيطا ، فلأنه متحد مع افراده خارجا ، فالامر به أمر بها ، فالشك فيها شك في المأمور به كما سبق تقريبه. واما على تقدير كونه جامعا مركبا ، فلأنه عين الاجزاء والشرائط ، فالاجزاء والشرائط تكون بنفسها متعلقة للأمر. فيرجع الشك في اعتبار جزء زائد إلى الشك في التكليف. واما على تقدير كونه جامعا انتزاعيا عنوانيا ، فلان الأمر الانتزاعي ليس له ما بإزاء في الخارج فلا يصح تعلق الأمر به ، وانما الأمر متعلق في الحقيقة بمنشإ انتزاعه وهو نفس الاجزاء والشرائط ، فيكون الشك في الجزئية شكا في المأمور به والتكليف (1).

فان ما ذكر غير وجيه لوجهين :

ص: 252


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 171 - الطبعة الأولى.

الأول : ان الجامع المركب لا يمكن جعله هو نفس الاجزاء والشرائط بذاتها ، إذ كل مقدار يفرض يمكن وقوعه صحيحا وفاسدا ، بل لا بد من تقييدها بجهة بسيطة كالنهي عن الفحشاء.

ومعه لا مجال لجريان البراءة عند الشك في الجزئية لرجوعه إلى الشك في المحصل ، وقد صرح المحقق النائيني بما ذكرناه ، فإغفاله عجيب.

الثاني : ان الأمر الانتزاعي وان لم يكن له وجود في الخارج وكان الموجود منشأ انتزاعه ، إلا انه من الواضح ان منشأ انتزاع عنوان ( الناهي عن الفحشاء ) ليس نفس الاجزاء والشرائط بلحاظها ذاتها ، بل بلحاظ ترتب النهي عن الفحشاء عليها ، إذ العناوين الانتزاعية انما تنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بوصف أو جهة تصحح انتزاع العنوان عنها ، فعنوان العالم والقائم انما ينتزع عقلا عن الذات بلحاظ اتصافها بوصف العلم أو القيام ، لا بلحاظها نفسها ، وإلاّ لصح انتزاع العنوان المذكور من جميع الذوات حتى ممن لم يتلبس بالعلم أو القيام وبطلانه واضح.

وعليه ، فالمأمور به - لو سلم انه لا يكون نفس العنوان بل المعنون - هو الاجزاء والشرائط مقيدة بالنهي عن الفحشاء التي هي جهة الانتزاع ، ومعه يكون مورد الشك في الجزئية من موارد الاشتغال لرجوعه إلى الشك في المحصل كما عرفت. هذا مع ان ترتب الحكم على العناوين الانتزاعية كثير بحيث لا يلتزم بإناطته بمنشإ الانتزاع ، ولذا لا يلتزمون بإجراء الأصل الجاري في منشأ الانتزاع في ترتب الحكم المعلق في لسان الدليل ، على العنوان الانتزاعي كعنوان الفوت في القضاء ، وعنوان الوفاء في النذر ، ونحو ذلك.

نعم ، على تقدير كون الجامع حقيقيا بسيطا يكون المورد من موارد البراءة ، لكن المحقق النائيني لا يلتزم بأصل التقدير كما عرفت.

والخلاصة : انه عرفت فعلا ان لهذا المبحث ثمرتين :

ص: 253

إحداهما : إمكان التمسك بالإطلاق وعدمه.

والأخرى : جريان البراءة وعدمه.

وكلتاهما ثمرتان مهمتان تصححان تحرير مثل هذا البحث وتنقيح أحد قوليه.

اما الثانية : فواضح لما عرفت من ترتبها على بعض تقادير الصحيحي ، ويكفي في ثمرة البحث ترتبها ولو على بعض التقادير. وهي ثمرة عملية كما لا يخفى.

واما الأولى : فهي وان تقدم الإشكال فيها من جهة عدم كونها عملية لعدم المورد لها ، إلاّ ان التحقيق ان ذلك لا ينفي كونها ثمرة مهمة ، وذلك فان الفقيه لا يستغني عن تنقيح هذا المبحث للوصول إلى نتيجته المزبورة ، إذ قد يرى بعض المطلقات واردة في مقام البيان كما ادعي في آية : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) ، وعدم العثور فعلا على مثل ذلك لا ينفي ما ذكرنا ، إذ قد يتبدل نظر الفقيه فيرى ان هذا المطلق في مقام البيان بعد ان لم يكن يرى ذلك. أو قد يختلف الفقهاء في نظرهم فيرى أحدهم بخلاف ما يرى الآخر في هذا الموضوع. وعليه فيتوقف استنباطه من معرفة جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه ، وهو يتوقف على تحقيق أحد قولي المسألة ، فتدبر.

نعم الإيراد على الثمرة بأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية ، لأن ثمرتها لا بد ان تكون استنباط حكم فرعي كلي - على رأي - أو رفع التحير الحاصل للمكلف في الحكم بلا واسطة - على المختار - كما أشرنا إلى ذلك في تحقيق ضابط المسألة الأصولية ، وهذه المسألة ليست كذلك ، إذ لا يترتب عليها الاستنباط مباشرة ، بل لا تقع في طريق الاستنباط ، لأن مسألة جواز التمسك بالإطلاق وعدمه مسألة أصولية بنفسها ، كما انه لا يرتفع بها التحير إلا بواسطة المسألة الأصولية أعني جواز التمسك بالإطلاق وعدمه.

ص: 254

وبالجملة : ما يترتب على المسألة ليس مسألة فقهية بل مسألة أصولية وهو ليس بثمرة للمسألة الأصولية ، والكلام بنفسه يجري بالنسبة إلى ترتب جريان البراءة وعدمه ، لأنه من المسائل الأصولية التي يتوصل فيها إلى حكم شرعي أو إلى رفع الحيرة في مقام العمل.

والإيراد بذلك له وجه - كما عرفت تقريبه ، وقد ذكرنا ذلك في مبحث ضابط المسألة الأصولية فراجع -. إلاّ انه لا يعنى نفي الثمرة وكون البحث أشبه بالعلمي منه بالعملي ، بل غاية ما ينفي أصولية المسألة وكونها من المبادي ، وهو غير نفي ثمرة المسألة من حيث العمل ، فلاحظ.

ومنها : مسألة النذر ، كما لو نذر شخص بان يعطي درهما لمن صلى ، فانه بناء على الصحيح لا يحصل الوفاء بالنذر الا بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة. وبناء على الأعم يحصل الوفاء بالنذر بإعطاء الدرهم لمن صلى مطلقا ولو صلاة فاسدة.

وأورد على هذه الثمرة بوجهين :

الأول : ان الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر دون ما تلفظ به ، فان قصد من الصلاة خصوص الصلاة الصحيحة لم يحصل الوفاء الا بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة ولو قلنا بالأعم. وان قصد الأعم من الصلاة الصحيحة والفاسدة يحصل الوفاء بإعطاء الدرهم لمطلق المصلي ولو كانت صلاته فاسدة وان قلنا بالصحيح. فلا يبتني تحديد موضوع وجوب الوفاء وانه الضيق أو الواسع على البحث المتقدم بل على معرفة قصد الناذر.

الثاني : انه لو سلم ابتناء معرفة موضوع وجوب الوفاء على البحث المذكور ، إلاّ انه لا يتناسب مع المسألة الأصولية ، لأن ذلك أجنبي عن الاستنباط المأخوذ في ثمرة المسألة الأصولية ، إذ هو يرتبط بتنقيح موضوع الحكم وتطبيقه على موارده ، وذلك ليس من شأن المسألة الأصولية بل أي مسألة علمية ولو كانت

ص: 255

من المبادئ.

ولكن التحقيق يقضي بعدم ورود كلا الوجهين :

اما الأول : فلأنه وان كان موضوع وجوب الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر سعة وضيقا ، إلاّ أنه إنما يجدي في نفي الثمرة فيما لو تعلق قصده بمعنى معين حاضر في ذهنه من الصحيح أو الأعم - كما فرض في الإيراد - ، اما إذا قصد إعطاء الدرهم لمن جاء بمسمى الصلاة عرفا ولمن جاء بما يصدق عليه اسم الصلاة في العرف ، كانت سعة موضوع الحكم وضيقه دائرة مدار تحقيق ان الموضوع له عرفا لفظ الصلاة هل هو الأعم أو خصوص الصحيح؟. فتترتب الثمرة المذكورة بلا إشكال. ونظيره في باب المعاملات ما يقال في ما لو باع مالك النصف المشاع النصف بلا تعيين انه المشاع أو المفرز - إذ تختلف النتيجة على الحالين - ، من انه لا عبرة بلفظ إنشائه ، بل العبرة بقصده وترتيب الأثر عليه ، فان كان قاصدا بيع النصف المشاع أخذ به ، وان كان قاصدا بيع النصف المفرز كان المبيع نصفه المشاع لأنه يملك نصفه بنحو الإشاعة ، ويجاب عنه في محله : بأنّ مورد التردد ما لو لم يقصد نصفا معينا من المشاع أو المفرز وانما قصد بيع ما يدل عليه لفظ النصف وما هو ظاهر فيه عرفا ، فيقع التردد في ان الظاهر عرفا بحسب حاله هل هو بيع النصف المشاع أو المفرز؟.

واما الثاني : فلأنه وان اشتهر في العبارات وعلى الألسن حتى بلغ المسلمات التي لا يشكك فيها أحد ، إلاّ ان الّذي يقرب إلى الذهن عدم تماميته وانه لا يخلو عن مغالطة ، وذلك لأنّ مرجع الشك في ان موضوع الحكم هل هو الأعم أو خصوص الصحيح إلى الشك في التعيين والتخيير ، فتعيين أحد الطرفين في المسألة التزام بأحد شقي الشك من التعيين والتخيير ، وهو يرجع إلى الاستنباط. بيان ذلك : انه إذا ورد دليل يدل على وجوب التيمم على الصعيد ، وتردد الموضوع له لفظ الصعيد بين ان يكون خصوص التراب أو الأعم منه ومن

ص: 256

الجص ، فان مرجع التردد المذكور إلى التردد في انه هل يتعين على المكلف التيمم بالتراب أو يتخير فيه بين التراب والجص. فإذا كان هناك مبحث يعين المراد من الصعيد وانه خصوص التراب ، فانه يترتب على معرفة تعيين كون الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب. أو أنه الأعم من التراب والجص فيترتب عليه الحكم بالتخيير وانّ التيمم يكون بالتراب أو الجص.

وبعبارة أخرى : ان التردد في معنى الصعيد يرجع إلى التردد في ان الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب أو التراب والجص مخيرا. فتعيين معنى الصعيد يترتب عليه استفادة تعلق الحكم بخصوص التراب أو بأحدهما مخيرا. وما نحن فيه كذلك ، فان التردد في معنى الصلاة يرجع إلى التردد في التعيين والتخيير في الحكم ، بوجوب الوفاء ، فتعيين معنى الصلاة يستفاد منه أحد النحوين في الحكم ، إما تعيين الوفاء بإعطاء الدرهم لمن صلى صحيحا أو التخيير فيه بإعطاء مطلق المصلي ولو فاسدا. وهذا حكم شرعي وليس هو مجرد تطبيق للحكم على موضوعه كي يكون أجنبيا عن الاستنباط.

وبعبارة واضحة : يكون حال المسألة بالنسبة إلى النذر وتعيين أحد الطرفين من التعيين والتخيير حال مسألة الأصل الجاري في مورد الشك في التعيين والتخيير وتعيين أحدهما ، فكما ان مسألة تعيين الأصل في مورد الشك بين التعيين والتخيير من المسائل الأصولية بلحاظ ما يترتب عليها من الأثر كذلك مسألة الصحيح والأعم ، إذ حال الالتزام بالصحيح أو الأعم حال الأصل العملي أو الدليل الاجتهادي القائم على التعيين أو التخيير.

نعم ، يكون الإشكال في أصولية المسألة من جهة أخرى ، وهي انها مختصة بباب النذر ونحوه ولا تعم أبواب الفقه ، نظير قاعدة الطهارة ، إذ قد تقدم اشتراط سريان نتيجة المسألة في جميع أبواب الفقه في أصولية المسألة.

هذا كله مضافا إلى إمكان دعوى عدم الحاجة إلى ترتب ثمرة المسألة

ص: 257

الأصولية على مسألة الصحيح والأعم ، إذ لم يلتزم بنحو متسالم عليه بأصوليتها ، بل يمكن دعوى كونها من المبادئ ، ولذلك تذكر في مباحث المقدمة والتعرض إليها بخصوصها باعتبار عدم البحث فيها في غير مكان.

وعليه ، فيكفي في صحة البحث فيها ترتب أثر فقهي عليها ولو كان في مورد خاص ، إذ ذلك يرفع لغويتها ، وهو ثابت في مسألة النذر ولو كان من باب التطبيق بلا كلام.

منها : فيما ورد من النهي عن الصلاة وبحذائه امرأة تصلي ، فانه بناء على الصحيح يختص المنع عن الصلاة بصلاة المرأة الصحيحة ، فإذا كانت صلاتها فاسدة لا تمنع من صحة صلاة الرّجل. واما بناء على الأعم فيكون المانع من صحة صلاة الرّجل الأعم من الصلاة الصحيحة التي تؤديها المرأة أو الفاسدة.

وقد أورد على هذه الثمرة : بعدم كونها ثمرة للمسألة الأصولية لأنها ترجع إلى تطبيق الحكم الثابت على موضوعه بتنقيح موضوعه وتعيينه ، وذلك أجنبي عن مقام الاستنباط.

وقد اتضح الجواب عن هذا الإيراد بما تقدم :

أولا : من انه يكفي مجرد الترتب الأثر الفقهي على المسألة ولو لم يكن بأثر المسألة الأصولية ، لعدم الالتزام بأصولية المسألة.

وثانيا : بان الأثر المترتب أثر المسألة الأصولية ، لأنه يعين أحد طرفي الشك من التعيين والتخيير ، فلاحظ.

وبعد كل هذا يقع الكلام في تعيين الموضوع له وأنه الصحيح أو الأعم منه ومن الفاسد ، وإقامة البرهان على ذلك.

ولا يخفى ان من يلتزم بثبوت الجامع بين خصوص الأفراد الصحيحة وعدم إمكانه بين الأعم كالمحقق صاحب الكفاية (1). أو بثبوته بين افراد

ص: 258


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- 25 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأعم دون خصوص الأفراد الصحيحة كالمحقق النائيني (1). - بعد التنزل عن دعواه في الموضوع له السابقة - ، في راحة عن الاستدلال لكلا الطرفين بل حدهما ، إذ عدم إمكان تصور الجامع على الطرف الآخر كاف في نفيه وتعيين الوضع للطرف الّذي أمكن تصوير الجامع بين افراده وهو الصحيح على رأي صاحب الكفاية والأعم على رأي المحقق النائيني ، بلا حاجة لإقامة الدليل على الوضع له ، لأن عدم إمكان تصور الجامع يلزم عدم إمكان الوضع له ثبوتا. فلا تصل النوبة إلى مرحلة الإثبات ، فالذي يحتاج إلى إقامة الدليل على الوضع لأحدهما اما الصحيح أو الأعم من يلتزم بإمكان تصوير الجامع على كلا القولين كالمحقق الأصفهاني (2) ، الّذي تابعناه على رأيه ، لإمكان كل منهما إثباتا ، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل معين.

وقد ذكر صاحب الكفاية أدلة الطرفين وإليك بيانها مع توضيح ما يحتاج إلى توضيح :

ص: 259


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 40 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 40 - الطبعة الأولى.

أدلة القول بالصحيح

الأول : تبادر الصحيح من اللفظ وهو علامة الحقيقة.

الثاني : صحة سلب اللفظ عن الفاسد بالحمل الشائع الصناعي بنحو الدقة ، مما يكشف عن عدم كونه من افراد الموضوع له الكاشف عن عدم الوضع للأعم والوضع لخصوص الصحيح ، وإلاّ لما صح سلبه.

الثالث : الروايات الظاهرة في تحقق الوضع للصحيح ، وهي على طائفتين :

إحداهما : ما مفادها إثبات بعض الآثار للمسميات ، وهي لا تترتب على غير الصحيحة ، مثل ما ورد من : « ان الصلاة عمود الدين » ، أو : « انها تنهى عن الفحشاء والمنكر » ، ونحوهما (1).

والأخرى : ما مفادها نفي الطبيعة والماهية بمجرّد انتفاء جزء أو شرط نظير : « لا صلاة إلا بطهور » و: « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » (2) ، ولو كان الموضوع له لفظ الصلاة هو الأعم لم يلزم انتفاء الطبيعة بانتفاء أحد اجزائها وشرائطها ، إذ لا يلزم بانتفائه إلا انتفاء الصحة وهو لا يلازم انتفاء الطبيعة بعد ان كانت تنطبق على الفاسدة.

ودعوى : إرادة نفي الصحة أو الصلاة الصحيحة في هذه الطائفة والصلاة الصحيحة من الطائفة الأولى باعتبار شيوع مثل هذا الاستعمال في نفي الكمال لا الحقيقة أو الصحة ، نظير ما ورد من انه : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (3).

ص: 260


1- الكافي 3 / 99 باب النفساء الحديث 4.
2- غوالي اللئالي 1 / 196 الحديث 2.
3- تهذيب الأحكام 3 / 261 - باب 25 فضل المساجد والصلاة فيها ، الحديث 55.

ممنوعة ، بعدم الوجه في التقدير المذكور بلا قيام قرينة خاصة ، بل يمكن دعوى ان المراد من نفي الصلاة في الموارد التي يعلم بإرادة نفي الكمال هو نفى حقيقة الصلاة لكن بنحو الادعاء ، لكي يكون آكد في الدلالة على المبالغة التي تقصد بالحديث كما لا يخفى.

الرابع : دعوى ان طريقة الواضعين في الوضع للمركبات هو الوضع للمركبات التامة بلحاظ الحكمة الداعية إليه وهي غلبة الحاجة إلى تفهيمه ، دون الناقص فانه وان دعت الحاجة إلى تفهيمه أحيانا إلاّ انه ليس غالبا ، فيمكن الاستعمال فيه بنحو المجاز أو الادعاء ، والشارع لم يتخط هذه الطريقة العقلائية ، فيثبت الوضع للصحيح.

إلا ان هذه الدعوى عهدتها على مدعيها ، وقد ناقش فيها صاحب الكفاية ، بدعوى كونها قابلة للمنع (1). ولعل الوجه فيه ما قيل : من أنه على تقدير تسليم مجاراة الشارع مسيرة العقلاء وعدم تخطيه طريقتهم ، إلا ان أساس تحقق الوضع للتام - في هذه الدعوى - هو كونه قضية الحكمة الناشئة من كثرة الحاجة إلى تفهيمه وقلة الحاجة إلى تفهيم الفاسد ، وهذا غير مسلم في المركبات الشرعية لكثرة الحاجة إلى تفهيم الفرد الفاسد منها ، فالوضع للأعم لا ينافي الحكمة الداعية إلى الوضع ، فتدبر.

وعليه ، فالوجوه التي يظهر اعتماد صاحب الكفاية عليها في إثبات الوضع للصحيح هي الثلاثة الأول (2).

اما الوجه الأول والثاني : فهما وجهان يرجعان إلى تحكيم الوجدان ، لذلك كانت المناقشة فيهما سهلة لإمكان إنكار التبادر وصحة السلب ودعوى العكس وان المتبادر هو الأعم ، كما حدث فعلا ، فقد جاء في استدلال الأعمي على دعواه

ص: 261


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /30- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /29- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ادعاء التبادر وعدم صحة السلب.

وعليه ، فالالتزام بأحد الطرفين مما لا يمكن الجزم به وفرضه ، بل أمر يوكل إلى ما يلمسه وجدان كل فرد من أهل العرف.

واما الوجه الثالث : فهو وجه أشبه بالبرهاني ، والاستدلال بالطائفة الثانية واضح التقريب ، ولكنه قابل للخدشة بأنه من المعلوم ان الصلاة الصحيحة يتحقق بدون فاتحة الكتاب في بعض الحالات ، فلا يمكن ان يراد نفى الحقيقة بانتفاء فاتحة الكتاب حتى على القول بالصحيح ، إذ الجامع يشمل الفاقدة والواجدة فكيف يقيد بالواجدة؟. فلا بد ان يكون النفي راجعا إلى غير الحقيقة من الكمال أو غيره. فتدبر.

وانما الإشكال في تقريب الاستدلال بالطائفة الأولى من الأخبار. فقد قرب : بأنه حيث يعلم بان المراد من : « الصلاة » في الحديث خصوص الصلاة الصحيحة ، لأن الأثر انما يترتب عليها ، وعليه فيدور الأمر بين الوضع لخصوص الصحيح فيكون الاستعمال حقيقيا والوضع للأعم فيكون مجازيا لعدم إرادة الأعم. وبما ان ظاهر الاستعمال كونه حقيقيا - كما هو مقتضى أصالة الحقيقة - يستكشف من استعمال اللفظ في الرواية في خصوص الصحيح الوضع لخصوصه.

وللإشكال في هذا التقريب مجال واسع ، فان أصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي. اما في مورد يعلم بالمراد إلا انه يشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز فلم يثبت جريان أصالة الحقيقة فيه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني للعلم بان المراد هو الصلاة الصحيحة وانما الشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز للشك في الوضع لخصوص الصحيح أو الأعم فلا تجري فيه أصالة الحقيقة ، بل هو مورد لما اشتهر من قولهم : « الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ».

مضافا إلى ان الأمر لا يدور بين الحقيقة والمجاز ، لأن إرادة الصحيح مع

ص: 262

الوضع للأعم لا تستلزم المجاز ، إذ هي من باب التطبيق كما هو شأن كل لفظ موضوع للكلي ويراد به فرده ، لا من باب الاستعمال فلا مجاز في البين كي ينفى بأصالة الحقيقة.

وقد أشير إلى التقريب المذكور والإشكال فيه أولا في حاشية منسوبة إلى صاحب الكفاية رحمه اللّه على المقام (1). لكنه يبعد منه ذلك لوضوح الإشكال في التقريب المذكور ، فيبعد ان يلتزم به وهو مما لا يخفى على مثل صاحب الكفاية.

فالأولى - بل المتعين - ان يقال في تقريبه : إن الأثر رتب على الصلاة بما لها من معنى مرتكز في الأذهان ، وحيث انه يعلم ان هذا الأثر الّذي رتب على الصلاة انما يترتب على الصحيح منها يكون ذلك كاشفا عن كون معنى الصلاة هو الصحيح. وبعبارة أخرى : انه حين أطلق لفظ : « الصلاة » كان لها معنى إجمالي في الذهن غير متميز من حيث كونه خصوص الصحيح أو الأعم ، وقد رتب الأثر وحمل العنوان المنتزع عن مقام ترتب الأثر على اللفظ بما له من المعنى الإجمالي ، ونحن نعلم بان الأثر انما يترتب على الصحيح دون الأعم ، فقد علمنا بان ذلك المعنى الارتكازي هو الصحيح دون الأعم ، ولم يحدث بذلك أي تغيير في المنتقل له من لفظ الصلاة قبل الحكم والحمل ، بل المنتقل إليه واحد في كلا الحالين - قبل الحكم وبعده - ، فيعلم بالوضع للصحيح فيكون الحمل المزبور نظير التبادر الموجب للعلم التفصيليّ بان المعنى الارتكازي الإجمالي هو الصحيح.

وهذا وجه متين - في نفسه - ، وهو لا يرجع إلى التبادر ونحوه كما لا يخفى على من تأمل فيه واستوضحه.

ومن مجموع ما ذكرنا يتضح ان عمدة أدلة القول بالوضع للصحيح هو الوجه الثالث.

ص: 263


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 30 هامش رقم (1) طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أدلة القول بالأعم

الأول : التبادر ، واستشكل فيه صاحب الكفاية بما تقدم من دعوى تبادر الصحيح ، مضافا إلى امتناع دعواه هاهنا بعد امتناع تصوير الجامع الأعمي ، إذ ليس هناك ما يتبادر إليه مما يجمع بين الصحيح والفاسد.

الثاني : عدم صحة السلب عن الفاسد ، ومنعه صاحب الكفاية لما تقدم من صحة السلب.

الثالث : صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والفاسد ، فيقال : « الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ».

وقد منعه صاحب الكفاية بما نصه : « وفيه : انه انما يشهد على انها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح وقد عرفتها ، فلا بد ان يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ولو بالعناية » (1).

وقد حملت عبارته قدس سره على ان نظره في تقريب الاستدلال إلى انه حيث استعمل اللفظ في الأعم كما يدل عليه التقسيم ، فيدور الأمر بين كونه حقيقيا - فيثبت الوضع للأعم لأنه لازمه - أو مجازيا ، فلا يثبت الوضع للأعم ، وأصالة الحقيقة تعين الأول فيثبت الوضع للأعم.

فيشكل فيه بما ذكره من : ان أصالة الحقيقة انما تجري مع عدم وجود الدليل على خلافها لأن موضوعها الشك وهو يرتفع بالدليل. وقد عرفت قيام الدليل على الوضع للصحيح من التبادر ونحوه الموجب للعلم بمجازية الاستعمال ، فلا مجال لإجراء أصالة الحقيقة.

ص: 264


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /30- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن يبعد ان يكون نظره ذلك ، لما عرفت من وضوح وهن جريان أصالة الحقيقة في إثبات كون الاستعمال حقيقيا ، فيبعد ان يستدل بهذا الطريق أحد ، وذلك مما لا يخفى عليه قدس سره . مضافا إلى انه أهمل الإشكال فيه بما هو واضح ، وما تكرر منه مرارا من ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز وان أصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد لا مع العلم به والشك في كيفيته ، مع أنه أولى بالذكر.

والّذي يخطر في البال في تقريب الدليل هو : ان من المعلوم كون التقسيم بلحاظ ما للصلاة من معنى ، ولا يخفى انّه لا يرى في استعمال لفظ الصلاة في المثال المزبور أي تجوز وعناية ، فهو دليل على انّ معنى الصلاة هو الأعم وقد وضع له اللفظ ، وإلاّ لكان استعمال اللفظ فيه عنائيا وهو خلاف الفرض. ولا يخفى ان هذا أجنبي عن التمسك بأصالة الحقيقة ، كما انه لا يعرف لعبارة الكفاية وجه يتلاءم - في مقام الإشكال - مع هذا التقريب فتدبر.

الرابع : استعمال الصلاة وغيرها في الأخبار في الأعم ، فقد جاء في الخبر : « بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه. فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة » (1). ومركز الاستشهاد موردان :

الأول : قوله علیه السلام : « بالأربع » ، فانه ناظر إلى الأربع المذكورة في صدر الحديث ، ولا يخفى انه بقرينة ترك الولاية يعلم ان المراد ليس الصحيح ، إذ لا صحة بدون الولاية ، فكان يلزم ان يقال لم يأخذ الناس بشيء منها ، بل المراد منها الأعم.

ص: 265


1- الكافي 2 / 18 باب : دعائم الإسلام ، حديث : 3.

الثاني : قوله علیه السلام : « فلو ان أحدا صام نهاره » ، فان المفروض ان الصيام هاهنا بدون ولاية وهو غير صحيح ، فيكشف عن إرادة الأعم من اللفظ لا خصوص الصحيح.

وجاء في الخبر أيضا : « دعي الصلاة أيام أقرائك » (1) ، فان النهي قد تعلق بالصلاة ، وليس المراد بها الصحيحة ، إذ الحائض لا تقدر عليها وأخذ القدرة في متعلق النهي - كسائر أنواع التكليف - ضروري ، فلا بد ان يكون المراد هو الأعم.

وجهة الاستدلال بالاستعمال في الأعم في الروايتين ليس ما قد يتوهم من ظهوره في كونه بنحو الحقيقة ، كي يستشكل فيه رأسا بان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

بل هي : انه مما لا ينكر ان اللفظ قد استعمل في الأعم بلا عناية ومسامحة في البين ، إذ لا يرى بهذا الاستعمال أي تجوز وعناية ، بل مما تقتضيه طبيعة اللفظ.

وقد استشكل صاحب الكفاية في الرواية الأولى بإنكار المقدمة الأولى - أعني الاستعمال في الأعم - بدعوى : ان المراد بها خصوص الصحيح ، وذلك بقرينة كونها مما بني عليها الإسلام ، وظاهر أن الإسلام انما بني على الصحيح دون الأعم.

واما قوله علیه السلام : « فأخذ الناس بالأربع » ، فلا يتنافى مع ذلك ، إذ يمكن ان يراد به الأخذ بحسب اعتقادهم لا الأخذ حقيقة ، فيكون المستعمل فيه هو الصحيح. وهكذا قوله « فلو ان أحدا صام نهاره » ، فان المراد به يمكن ان يكون أنه صام بحسب اعتقاده لا حقيقة ، فيكون الاستعمال في الصحيح ، ويمكن ان يكون الاستعمال في الأعم ولكن يكون مجازيا بعلاقة المشابهة والمشاكلة في

ص: 266


1- تهذيب الأحكام 1 / 384 باب 19 الحيض والاستحاضة والنفاس.

الصورة.

واما الرواية الثانية ، فقد استشكل في الاستدلال بها أيضا بإنكار كون الاستعمال في الأعم ، بدعوى : ان النهي هاهنا إرشاد إلى عدم قدرة الحائض على الصلاة الصحيحة لحدث الحيض. وعليه فالمستعمل فيه هو خصوص الصحيح ، وليس مولويا كي يأتي فيه ما ذكر ، وإلاّ للزم منه ما لا يلتزم به أحد ، وهو حرمة الإتيان بصورة الصلاة وما يصدق عليه لفظ الصلاة بلا قصد القربة ذاتا ، لتعلق النهي بالأعم (1).

الخامس : ان هناك امرين وقع التسالم عليهما :

أحدهما : انعقاد النذر وشبهه - العهد واليمين - إذا تعلق بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، كالصلاة في الحمام.

والآخر : حصول الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان الّذي تعلق النذر بترك الصلاة فيه كالحمّام. وذلك يدل على ان متعلق النذر ليس هو الصلاة الصحيحة بل الأعم ، وذلك لأنه لو كان المنذور تركه هو الصلاة الصحيحة لزم ..

أولا : عدم حصول الحنث أصلا لفساد الصلاة المأتي بها لتعلق الحرمة بها بعد النذر ، فلا يكون المأتي به هو المنذور تركه فلا يحصل الحنث.

وثانيا : المحال ، وذلك لأن انعقاد النذر يستلزم عدم تحقق الصلاة الصحيحة للنهي عن الصلاة ، وذلك يعني عدم القدرة على الصلاة الصحيحة ، وهو يستلزم عدم انعقاد النذر لاشتراط القدرة على متعلقه في انعقاده. وعليه ، فيكون انعقاد النذر مستلزما لعدم انعقاده ، واستلزام وجود الشيء لعدمه محال.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : أولا : بان غاية ما يثبته هذا الوجه هو امتناع تعلق النذر بالصحيح ، وهو أجنبي من نفي الوضع له ، فانه يمتنع ذلك ولو

ص: 267


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /31- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

قلنا بالوضع للأعم. فهذا الوجه لا يثبت الوضع للأعم كما لا يخفى ، لأنه أجنبي عن مقام التسمية.

وثانيا : بإنكار امتناع تعلقه بالصحيح ، فان متعلق النذر - على تقدير كونه هو الصحيح - هو الصحيح لو لا تعلق النذر وهو الجامع لجميع ما يعتبر من اجزاء وشرائط في مرحلة سابقة على النذر ، فلا ينفيه تعلق النهي به من قبل النذر.

وعليه ، فيحصل الحنث بالإتيان بما هو جامع لجميع الاجزاء والشرائط سوى عدم النهي من قبل النذر. كما انه لا يلزم من وجوده عدمه ، لأن الفساد الناشئ من قبل النذر لم يؤخذ عدمه في متعلق النذر كي لا يكون مقدورا بعد النذر فيلزم ذلك.

ومما يدل على ان المتعلق هو الصحيح بهذا المعنى لا الفاسد ولا الأعم : ان الناذر لا يقصد نذر ترك العمل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط ولذا لو صلى بدون طهارة لم يكن حنثا لنذره (1).

لكن الّذي ينبغي ان يقال : هو إنكار صحة تعلق النذر بترك الصلاة في الحمام ومثله. وذلك لأن الصلاة في الحمام وان تعنونت بعنوان مرجوح وهو الكون في الحمام ، إلا انه لا يستلزم مرجوحيتها بنفسها ، بل انما يستلزم تقليل جهة رجحانها وكون غيرها من افراد الصلاة أرجح منها - كما هو معنى الكراهة في العبادة - فان مرجوحية الصلاة لا تتحقق الا باستلزامها لجهة مبغوضة شرعا. وبعبارة أخرى : استلزامها لجهة محرمة بحيث يرتفع الأمر بها. وليس الكون في الحمام كذلك ، وإلاّ لما تحقق الأمر بها لعدم ملاكه. وعليه ، فإذا اعتبر ان يكون متعلق النذر راجحا كما هو المفروض امتنع تعلق النذر بمثل ترك الصلاة في الحمام ، لأن تركها ليس براجح بعد ان كان فعلها راجحا. فلا وجه للالتزام بصحة تعلق النذر وحصول الحنث كي يفرض ذلك دليلا على الوضع للأعم.

ص: 268


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /32- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

نعم ، إذا فرض كون متعلق النذر عنوانا ملازما لترك الصلاة في الحمام - وهو الإتيان بالصلاة في غير الحمام - فانه امر راجح في نفسه صح النذر لتحقق شرطه ، إلاّ انه لا يستلزم حصول الحنث بالصلاة في الحمام وفسادها ، بل يحصل التزاحم بين الأمر النذري بخصوص الصلاة التي تعلق النذر بها والأمر بالصلاة في الحمام المحرز بالإطلاق ، فتبتني صحة الصلاة فيه وفسادها على ما يتقرر في باب المزاحمة من صحة المزاحم المهم وعدم صحته ، والمتأخرون على صحته وعدم تعلق النهي به ، فيكون الإتيان بالصلاة الصحيحة بعد النذر مقدورا.

وهكذا لو فرض كون متعلقه هو الكون في الحمام الملازم للصلاة. وبتعبير آخر : الحصة الخاصة من الكون في الحمام ، فانه لا مانع من صحة النذر لمرجوحية متعلقه ، إلاّ انه لا يستلزم النهي عن العبادة وعدم صحتها لعدم تعلق النذر بتركها ، بل تقع صحيحة ولو بملاك الأمر ، لو التزم بعدم الأمر للنهي عن الملازم وامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

ومحصل ما ذكرناه : ان النذر ان فرض متعلقه ترك نفس العبادة - كما هو ظاهر كلامهم حيث يلتزمون بحرمة العبادة وحصول الحنث بها بنفسها - ، فصحته ممنوعة لعدم رجحان متعلقه لبقاء العبادة على رجحانها وان قلّت مرتبته. وان فرض متعلقه ترك الكون الملازم للعبادة فهو وان صح لرجحان متعلقه لكنه لا يستلزم فساد العبادة بل تكون صحيحة. وان فرض متعلقه الإتيان بالعبادة في غير الحمام الملازم لتركها في الحمام ، فهو وان صح أيضا لكن لا يستلزم بطلان العبادة ، بل تكون صحيحة على التحقيق.

وعليه ، فما ذكر من الوجه لا يظهر له محصل.

ومن مجموع ما ذكرناه يتضح : ان عمدة أدلة القول بالأعم هو الثالث - أعني صحة التقسيم -. كما ان عمدة أدلة القول بالصحيح هو الثالث أيضا ، أعني الروايات المثبتة للآثار. اما دعوى التبادر وصحة السلب فقد عرفت انها

ص: 269

دعاو ليست برهانية يسهل إنكارها ودعوى خلافها ، كما ثبت ذلك بدعوى تبادر الأعم وعدم صحة السلب عن الفاسد.

وقد عرفت تقريب الوجه الثالث من أدلة القولين بنحو متشابه ومن جهة واحدة. فقد قربت دلالة الروايات : بان الأثر أثبت الصلاة بما لها من المعنى المرتكز في الأذهان ، وهو لازم خاص للصحيح. وقربت صحة التقسيم بان التقسيم للصلاة بما لها من المعنى. وعليه فهما دليلان وجيهان أحدهما ينفى الآخر ، ولا مجال لنا لنفي أحدهما وتعيين الآخر فانه بلا وجه ظاهر.

لكن الّذي نستطيع ان نقوله فاصلا في المقام هو : ان أسامي العبادات عند العرف لا تفترق عن سائر أسامي المركبات وكون حالها حال غيرها ، ونحن نرى بالوجدان القاطع بان اللفظ لا يختص في المركبات العرفية بالصحيح فقط ، بل يصدق عليه وعلى الفاسد ، فيقال : بيض صحيح وفاسد ، ودار عامرة وخربة - صحيحة وفاسدة - ونحو ذلك. ولا أرى أن هذا مما يقبل الإنكار ، وحال أسامي العبادات حال أسامي المركبات الأخرى عند العرف بمعنى ان العرف لا يرى لها نحوا آخر من الصدق والوضع ، ولا يراها تفترق في الانطباق على الصحيح والفاسد عن غيرها. وهذا يثبت الوضع للأعم ، وهو غاية ما يقال في إثباته.

ويبقى في المقام شيء وهو : انه بعد ثبوت الوضع للأعم لا بد من تعيين المقدار الّذي يتقوم به معنى الصلاة ويتحقق به الصدق لوضوح وجود بعض الموارد من الفاسد لا يصدق عليه اللفظ أصلا كالإتيان بالتكبير والقراءة فقط ، فهناك مقدار يتقوم به الصدق ومعنى الصلاة ، وهو يدور في كلمات الاعلام بين ان يكون معظم الاجزاء ، وان يكون اجزاء معينة خاصة. والتزم السيد الخوئي بالثاني وان المقدار الّذي يتقوم به معنى الصلاة على الأعم هو التكبير والركوع والسجود والتسليم والطهارة.

والوجه فيه ما ذكره : من ان المرجع في تعيين قوام المسمى هو نفس

ص: 270

المخترع للعمل المركب ، وعليه فالمرجع في تعيين قوام مسمى الصلاة هو الشارع ، وقد ورد في النصوص ما يدل على ان الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم (1). وان ثلثها ركوع وثلثها سجود وثلثها الطهارة (2). وذلك ظاهر في ان قوام الصلاة بهذه الخمسة. هذا مجمل ما ذكره (3).

ولكنه غير ظاهر ، ولا يمكن الالتزام به ، وذلك فان ما ذكره تمهيدا لمدعاه من كون المرجع في تعيين المسمى هو المخترع ، يمكن منعه بان المرجع انما هو الواضع سواء كان هو المخترع أو غيره ، إذ لا ملازمة بين الاختراع والوضع فقد يختلف الواضع عن المخترع.

وهذا الأمر ليس بذي أهمية ، وانما المهم ما ذكره دليلا على الدعوى من ورود النص الدال على تقوم الصلاة بهذه الخمسة ، وهو واضح المنع ، فانه من الظاهر كون الشارع ليس في مقام بيان قوام المسمى ، بل في مقام بيان قوام المأمور به. وذلك : فان الظاهر من النص ابتداء وان كان ما ذكره من أن قوام الصلاة بهذه الخمسة ، إلاّ انه بملاحظة مقام الشارع وما يتناسب معه بما انه شارع المقتضي لعدم كونه في مقام بيان المسمى ، فانه لا يرتبط به بما انه شارع ، بل كونه في مقام بيان المأمور به وأهمية هذه الاجزاء فيه وفي دخلها في الأثر المترتب عليه ، فانه هو الّذي يتناسب معه بما انه شارع ، بملاحظة هذا الأمر يكون النص ظاهرا في ان هذه الخمسة قوام المأمور به لا المسمى ولا يبقى الظهور الابتدائي للكلام.

ويؤيد هذا المطلب ، بل يدل عليه : انه لم تكن لبيان المسمى وتحديده حاجة في تلك العصور - أعني عصور الأئمة علیهم السلام - اما لأجل وضوح

ص: 271


1- وسائل الشيعة 1 / 366 باب وجوب الوضوء للصلاة حديث : 4.
2- وسائل الشيعة 1 / 366 باب وجوب الوضوء للصلاة حديث : 8.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 162 - الطبعة الأولى.

المسمى في ذلك العرف لقربهم من زمان الشارع واطلاعهم على كيفية استعماله ، أو لعدم ترتب أثر عملي على معرفته بالنسبة إليهم من تمسك بإطلاق ونحوه ، لقربهم من الأئمة وإمكان استفسارهم عن كل شيء يشك فيه عندهم ، فلا يعقل مع هذا ان يكون الإمام علیه السلام في مقام بيان المسمى للسائل.

وبالجملة : لا يظهر لما ذكره السيد الخوئي وجه وجيه ، فالمتعين الالتزام بان المقوم للمسمى هو معظم الاجزاء بلا تعيين جزء خاص دون غيره ، وأما تحديد المعظم فذلك أمر مرجعه العرف وتعيينه بنظره.

ومن هذه الجهة فقط يكون الجامع المبهم المفروض لافراد الأعم مبينا ، فهو عمل مبهم من جميع الجهات إلا من جهة كونه يشتمل على معظم الاجزاء ، وبذلك لا ينطبق على الجزء الواحد أو الجزءين ونحوهما في القلة ، فلاحظ وتدبر واللّه ولي التوفيق ، هذا تمام الكلام في العبادات.

ويقع الكلام بعد ذلك في المعاملات.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان ألفاظ المعاملات إن قلنا بأنها موضوعة للمسببات فلا يقع النزاع أصلا في الوضع للصحيح أو للأعم ، لعدم اتصاف المسببات بالصحّة والفساد ، بل إنما تتصف بالوجود والعدم. وان قلنا بأنها موضوعة للأسباب ، فللنزاع مجال لقابلية السبب للصحة والفساد.

ثم التزم بالوضع للعقد المؤثر - يعني الصحيح - المؤثر لأثر ما شرعا أو عرفا. ثم تعرض إلى دفع ما قد يتوهم من : انه من المتسالم عليه ان الشارع ليس له اختراع خاص في باب المعاملات ، بل المعاملات عرفية عقلائية أمضاها الشارع. ومن الواضح ان العقد الصحيح المؤثر قد يختلف لدى الشارع عنه في العرف ، فعقد الصبيّ مؤثر عرفا ، ولكنه غير مؤثر شرعا. وعليه فان التزم بالوضع للأعم من الصحيح والفاسد فلا إشكال ، وان التزم بالوضع لخصوص الصحيح فيلزمه ان يختلف الموضوع له شرعا عن الموضوع له عرفا ، وهذا خلاف

ص: 272

ما تقرر أولا من ان الشارع في باب المعاملات جرى مجرى العرف وليس له استقلال في الوضع والجعل.

وبيان ما ذكره من الدفع : هو ان اختلاف الشرع والعرف في صحة العقد لا يرجع إلى الاختلاف في أصل الموضوع له ومفهومه ، بل يرجع إلى الاختلاف في مصداق الصحيح وتخطئة الشرع العرف في اعتباره الفرد مصداقا للصحيح لمعرفته بدقائق الأمور واطلاعه الأوسع على خصوصيات الأشياء ، فمفهوم الصحيح لدى كل من الشرع والعرف واحد وهو العقد المؤثر ، لكن اختلافهما في المصداق وان أيّ العقود هو المؤثر ، فالعرف باعتبار عدم معرفته بدقائق الأمور يبني على تأثير عقد ، ولكن الشرع بما انه مطلع على الدقائق يرى عدم قابلية العقد للتأثير فيخطئ العرف في ذلك. نظير ما يفرض ان اللفظ المخصوص موضوع للدواء المسهل ، فيرى بعض الأطباء ان التركيب الخاصّ مسهل ، ولكن طبيبا آخر أوسع علما يرى عدم تأثيره في الإسهال لبعض الخصوصيات التي اطلع عليها فيه دون الطبيب الأول ، فان ذلك لا يعدو أن يكون اختلافا في المصداق ومن باب تخطئة الثاني للأول دون ان يكون اختلافا في المفهوم بل هما متفقان على وحدة المفهوم.

هذا مجمل ما ذكره في الكفاية (1) ، وقد أوضحنا الجهة الأخيرة في كلامه.

ولا بد في تحقيق الحال من الكلام في كل جهة من جهات كلامه وبيان ما لا بد ان يذكر فيها.

اما ما ذكر قدس سره من : عدم جريان النزاع لو التزم بوضع الألفاظ للمسببات وجريانه لو التزم بوضعها للأسباب. فتوضيحه يتوقف على بيان المراد من السبب والمسبب ، وبيان ذلك : ان في كل معاملة يحصل أمران :

ص: 273


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /32- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أحدهما : القول أو الفعل المقصود به إيجاد المعنى في وعائه المناسب له ، كالإيجاب والقبول أو إشارة الأخرس.

ثانيهما : المعنى المقصود إيجاده كالملكية الحاصلة بعقد البيع أو التمليك - إذ لا فرق بينهما ذاتا ، بل الاختلاف اعتباري كالاختلاف بين الإيجاد والوجود -.

ويصطلح على الأول - أعني ما يستعمل لغرض إيجاد المعنى به في عالم الاعتبار - سبب ، لأنه يتسبب به إلى حصول المعنى وبدونه لا يحصل. كما يصطلح على الثاني مسبب ، لأنه يحصل بالعقد وينشأ من حصوله ، فهو مسبب عن العقد لترتبه عليه كما يترتب المسبب على السبب.

وإذا عرفت المراد من المسبب وانه الملكية أو التمليك ونحوهما ، يتضح الوجه في عدم جريان النزاع لو قيل بالوضع للمسبب ، وذلك لأن جريان النزاع انما يجري في المورد القابل للاتصاف بالصحّة والفساد بان يكون له وجودان أحدهما يترتب عليه الأثر والآخر لا يترتب عليه الأثر ، إذ يقال حينئذ بان اللفظ موضوع لخصوص ما يترتب عليه الأثر أو للأعم منه ومن غيره. اما ما لا يقبل الاتصاف بهما لعدم تعدد نحو وجوده ، بل ليس له إلا نحو وجود واحد فلا مجال للنزاع فيه في الوضع للصحيح أو للأعم ، إذ هو لا يقبل الصحة والفساد بل الوجود والعدم ، وما نحن فيه كذلك ، لأن الملكية لا تتصف بالصحّة والفساد ، إذ ليس لها نحو وجود ، بل هي ان وجدت ترتبت عليها الآثار العقلائية وإلاّ فهي معدومة ، فأمرها دائر بين الوجود والعدم ، لا بين الصحة والفساد.

وهذا هو الوجه العرفي الواضح لبيان عدم جريان النزاع لو قيل بوضع اللفظ للمسبب ، فلا حاجة إلى تكلف الدقة في بيانه ، كما نهجه المحقق الأصفهاني ، وان كان ما ذكره متينا في نفسه ، فراجع حاشيته على الكفاية (1).

ص: 274


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 57 - الطبعة الأولى.

واما الأسباب ، فحيث انها تقبل الاتصاف بالصحّة والفساد ، لأن لها وجودين أحدهما يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر ممن له أهلية الإنشاء شرعا. والآخر لا يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر من غير من له أهلية الإنشاء شرعا كالصبي ، فان العقد في كليهما واحد وهو له شأن التسبيب لإيجاد المعنى ، إلاّ انه فعلي التسبيب في صورة ويترتب عليه الأثر ، وليس بفعليّ التسبيب ولا يترتب عليه الأثر في صورة أخرى ، وبذلك يقال : هذا العقد صحيح وذاك فاسد.

كان للنزاع فيه مجال ، إذ يمكن ان يقال : بان اللفظ موضوع لخصوص العقد المؤثر أو للأعم منه ومن غير المؤثر كما لا يخفى. لكن قد يقال : إن إمكان جريان النزاع ثبوتا لا يصحح فعلية جريانه وتحققه إثباتا ، إذ ذلك يتوقف على فرض ترتب ثمرة عملية على النزاع ، وإلاّ لما تحقق ، لصيرورته لغوا ، والثمرة العملية منتفية - برأي صاحب الكفاية (1) - في المعاملات ، لأنه يرى إمكان التمسك بالإطلاق حتى على الصحيح ، فلا ثمرة. ففرض النزاع بمجرد القول بالوضع للأسباب ليس بوجيه بعد ان بنى على عدم الثمرة ، لأن القول بالوضع للأسباب انما يوجب قابلية المورد للنزاع ، اما فعلية النزاع فيه فهي تتوقف على ترتب ثمرة عملية عليه.

ويدفع : بان ما ذكر انما يتجه لو كان التمسك بالإطلاق في المعاملات على الصحيح من الأمور البديهية المسلمة التي لا تقبل المناقشة والخلاف ، اما لو كان من الأمور النظرية المبتنية على بعض المقدمات التي يمكن ان يقع فيها الخلاف والمناقشة - كما هو الحال فيما نحن فيه ، إذ لم يؤخذ إمكان التمسك بالإطلاق بنحو مسلم لا جدال فيه ولا مراء ، بل كان موضع المناقشة والفرد والبدل - ، فلا يتجه ما

ص: 275


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ذكر ، إذ يمكن فرض ترتب الثمرة على النزاع ولو عند بعض ، فلا بد من تعيين أحد طرفي الخلاف كي تترتب عليه الثمرة.

وبالجملة : من لا يرى جواز التمسك بالإطلاق على الصحيح يلزمه تنقيح هذه المسألة واختيار أحد طرفيها ليتوصل إلى النتيجة ، وذلك كاف في تحرير النزاع كما لا يخفى.

ثم انه هل يتصور الوضع للأسباب أو المسببات بالمعنى الّذي ذكرناه لهما ، أولا يتصور ذلك ثبوتا؟. التحقيق عدم إمكان الالتزام به.

اما السبب : فقد عرفت انه اللفظ المستعمل بقصد إيجاد المعنى في وعائه ، أو انه استعمال اللفظ بهذا القصد. ولا يخفى ان كلا من اللفظ والاستعمال ليس من المعاني الإنشائية ، بل من الأمور الواقعية التي لا تقبل الإنشاء.

وعليه : فدعوى ان البيع - مثلا - موضوع للفظ المستعمل في إيجاد المعنى في عالم الاعتبار أو للاستعمال وإنشاء المعنى باللفظ ، يردّها استعمال لفظ البيع في الإنشاء ، فيقال : « بعت » ، وذلك لا يتفق مع وضع المادة لما ذكر ، إذ قد عرفت ان معناها غير إنشائي فلا معنى لإنشائه. مضافا إلى ان معنى : « بعت » يكون بذلك : استعملت اللفظ في المعنى بقصد إيجاده ، أو نفس اللفظ المستعمل في معناه بقصد إيجاده اعتبارا ، وهو مما لا محصل له ظاهرا.

واما المسبب : فقد عرفت انه الأثر المترتب على الإنشاء الحاصل باعتبار العقلاء ، كالملكية المترتبة على البيع. ولا يخفى ان ذلك من فعل الشارع أو العقلاء ، وليس من فعل الشخص ، فوضع اللفظ له ينافيه اسناد اللفظ بما له المعنى للشخص ، فيقال : ان الشخص قد باع ، إذ لازمه ان يقال : الشارع باع ، أو العقلاء باعوا ، لأن البيع بهذا المعنى من فعلهم لا من فعل الشخص. كما انه بذلك يمتنع توجه النهي عنه إلى المكلف ، كما يفرض ذلك ، بل تفرض دلالة النهي عن المسبب على صحة المعاملة - كما هو رأي صاحب الكفاية تبعا لأبي

ص: 276

حنيفة (1) - ، إذ ليس من أفعاله ، فلا معنى لنهيه عنه.

وبالجملة : فلا يتصور وجه معقول يتضح به جواز الوضع للسبب أو المسبب بالمعنى المشهور لهما.

وعلى كل ، وللتخلص عن الإشكال الّذي ذكرناه ينبغي ان يقال : ان الإنشاء كما عرفت عبارة عن استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى ، وقد عرفت ان صاحب الكفاية يختلف عن المشهور في ان المعنى يوجد بوجود إنشائي من قبيل الاعتباريات يكون موضوعا لوجوده في عالم الاعتبار العقلائي - لو كان من المعاني الاعتبارية كالملكية - ، بخلاف المشهور فانهم يذهبون إلى ان المعنى يوجد بالإنشاء في وعائه المناسب له وهو الاعتبار العقلائي ، ولذلك يشكل عدّ صيغ التمني ونحوها من الإنشائيات كما عرفت. فالملكية بقول الموجب : « بعت » توجد - على رأي صاحب الكفاية - بوجود إنشائي غير وجودها في وعائها المقرر لها ، ثم يترتب على ذلك الاعتبار العقلائي. وتوجد - على الرّأي المشهور - في عالم الاعتبار وهو الوعاء المناسب لها. وعلى ذلك : فالإشكال ينحل على رأي صاحب الكفاية في الإنشاء بوضوح وسهولة ، إذ يمكن دعوى ان الموضوع له هو الشيء بوجوده الإنشائي ، فانه قابل للإنشاء ويستند إلى نفس الشخص فلا محذور فيه ، كما ان هذا الوجود الإنشائي بلحاظ ترتبه على الإيجاب والقبول يسمى بالمسبب ، وبلحاظ انه موضوع للاعتبار العقلائي ويترتب عليه الاعتبار من قبل العقلاء يسمى بالسبب ، فهو بلحاظ مسبب وبلحاظ آخر سبب.

وعليه ، فلا يبقى فرق بين دعوى الوضع للمسبب والوضع للسبب في الحقيقة ، وانما الفرق في الملحوظ حال الوضع ، فمن لاحظ جهة ترتبه على العقد ادعى الوضع للمسبب لأن الموضوع له بهذا اللحاظ مسبب ، ومن لاحظ جهة

ص: 277


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /189- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ترتب الاعتبار العقلائي عليه ادعى الوضع للسبب لأنه بهذا اللحاظ سبب.

وبما ان هذا الوجود قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ قد يترتب عليه الاعتبار العقلائي فيكون صحيحا وقد لا يترتب فيكون فاسدا ، كان للنزاع مجال على كلا القولين ، القول بالوضع للسبب والقول بالوضع للمسبب ، بالمعنى المشار إليه.

ويمكن ان يقال : انه ان أريد من المسبب هو الوجود العقلائي للأثر أمكن ان يتصف بالصحّة والفساد أيضا ، إذ الأثر الشرعي ان ترتب عليه كان صحيحا وان لم يترتب عليه كان فاسدا ، فالنزاع في الوضع للصحيح أو للأعم كما يجري بناء على إرادة الوجود الإنشائي ، كذلك يجري بناء على إرادة الوجود العقلائي.

واما ما تقدم من الإشكال : بان الوجود العقلائي ليس من فعل الشخص والحال ان لفظ المعاملة يسند إلى الشخص نفسه ، فيقال : « باع زيد داره ».

فيمكن دفعه : أولا : بالنقض بإسناد الأحكام الشرعية الصرفة إلى المكلف ، كالطهارة والنجاسة والحل والحرمة ، فيقال : طهّر الثوب ونجسه وحلل الذبيحة وحرّم الأكل على نفسه ، بل وقع التكليف لحرمة تنجيس المسجد.

وثانيا : بالحل ، بأنه بعد جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المقدر الوجود تكون فعلية الحكم منوطة بوجود موضوعه ، فمن يوجد الموضوع يصح إسناد الحكم إليه ، نظير من رمى رصاصة فدفع شخص شخصا وجعله في طريق الرصاصة فأصابته ، فان القتل كما يسند إلى الرّامي يسند إلى الدافع أيضا.

هذا ولكن لا ينفع ذلك في فرض اتصاف المسبب بالصحّة والفساد.

واما على الرّأي المشهور ، فقد يشكل حل الإشكال ، باعتبار عدم تحقق وجود للمنشإ غير وجوده في وعائه ، كي يدعى الوضع له.

إلاّ انه من المسلم انه ينتزع من إنشاء المنشئ وجود إنشائي للمنشإ غير

ص: 278

وجوده الاعتباري ، بل هو الّذي يكون موضوعا للاعتبار ، فان من المسلم انه يتحقق بقول البائع : « بعت أو ملكت » تمليك إنشائي غير التمليك الاعتباري ، وهو يسند إلى نفس الشخص ، فيقال : ملكه إنشاء ونحوه.

وعليه ، فيمكن ان يدعى كون اللفظ موضوعا بإزائه ، وهو - أيضا - بلحاظ ترتبه على الإنشاء مسبب وبلحاظ ترتب الاعتبار عليه سبب ، وإلى اختلاف اللحاظ يرجع الاختلاف في الوضع للسبب والمسبب لا إلى اختلاف واقع الموضوع له وحقيقته ، ولا يرد على الالتزام بذلك أي محذور مما تقدم ، فانه قابل للإنشاء ومن فعل الشخص نفسه ، ولذلك يسند إليه ، فيمكن الوضع له.

وبالجملة : الموضوع له هو المعنى الإنشائي ، فلفظ البيع موضوع للتمليك الإنشائي لا للعقد ولا للتمليك الاعتباري ، وهو قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ قد لا يترتب عليه الأثر العقلائي ، فللنزاع مجال حينئذ على كلا القولين أيضا.

وبما ذكرنا ينحل الإشكال ويتجه الالتزام بالوضع للسبب وللمسبب بالمعنى الّذي ذكرناه أخيرا لهما ، ولا نعرف وجها آخر لحل الإشكال ولا طريقا يلتزم به بلا ورود محذور.

هذا بناء على تفسير الإنشاء بما عرفت. واما بناء على تفسيره بالاعتبار الشخصي القائم بالنفس وإبرازه باللفظ ، وانه متقوم بهذين الأمرين : الاعتبار النفسانيّ ، والمبرز. وانه ليس هناك شيء آخر وراء هذين الأمرين ، فلا يبقى موضوع للإشكال وحلّه ، إذ لا سبب ولا مسبب في البين ، إذ ليس هناك إلاّ ما عرفت من الاعتبار النفسانيّ واللفظ المبرز ، فليس أحدهما سببا للآخر ، إذ وظيفة اللفظ ليس إلاّ الإبراز والكشف ، والاعتبار حاصل بأسبابه التكوينية لأنه فعل الشخص ولا يترتب على اللفظ ، فلا يكون مسببا عنه ولا اللفظ سببا له ، فلا مجال بعد هذا لدعوى كون الموضوع له هو السبب أو المسبب.

ص: 279

وللمحقق النائيني قدس سره كلام حول سببية العقد للأثر لا يخلو عن ارتباك كما سيتضح ، فانه جرى أولا مجرى المشهور من دعوى كون العقد سببا والأثر مسببا. ثم ادعى ان التحقيق خلاف ذلك ، وان نسبة العقد إلى المعاملة والأثر نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب التوليدي إلى المسبب ، ولذلك فهما موجودان بوجود واحد ، وليس هناك موجودان خارجيان هما السببية والمسببية. وعليه بنى كون إمضاء - المعاملة - المسببات على الرّأي المشهور إمضاء للأسباب - للعقد -.

ثم ذكر بعد ذلك ان الفرق بين العقد والمعاملة كالفرق بين المصدر واسم المصدر ، وان العقد بمنزلة المصدر والمعاملة بمنزلة اسم المصدر.

والّذي يظهر منه هو إطلاق السبب على نفس العقد. غاية الأمر أن الاختلاف في كونه سببا أو آلة.

وقد قرب قدس سره كون نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذيها لا السبب إلى المسبب ، بان المسبب التوليدي ما كان يترتب على سببه بمجرد وجوده بلا توسط أي إرادة له ، بل ترتبه قهري ، ولذلك لم يكن بنفسه متعلقا للإرادة بل الإرادة تتعلق به بتبع تعلقها بالسبب ، وذلك نظير الإحراق بالنسبة إلى الإلقاء ، فانه يترتب قهرا على الإلقاء أريد أم لم يرد ، بخلاف ذي الآلة فانه اختياري بنفسه وبالمباشرة فلا يترتب على تحقق الآلة قهرا ، بل تتعلق به الإرادة بنفسه ، نظير الكتابة بالنسبة إلى القلم والقطع بالنسبة إلى السكين ، فان آلة الكتابة القلم وآلة القطع السكين وهما - أعني الكتابة والقطع - من الأمور الاختيارية بنفسها والتي تتعلق بها الإرادة مباشرة ، فلا تترتب على وجود القلم والسكين قهرا - كما لا يخفى -. ومن ذلك العقود والإيقاعات ، فان البيع والأثر من الأمور الاختيارية ، التي يتعلق بها الاختيار بنفسها ولا تتحقق بمجرد تحقق العقد ما لم تتعلق به الإرادة كما لا يخفى. فلا تكون النسبة بينهما نسبة السبب

ص: 280

التوليدي إلى المسبب (1).

ولا بد لنا ان نعرف أولا : مدى ما ذكره من كون النسبة بين العقد والمعاملة نسبة الآلة إلى ذيها. وثانيا : مدى ما رتّبه على ذلك من نفي تعدد الوجود ، وانه ليس لدينا موجودان متغايران. وثالثا : مدى صحة ما قرره من كون الفرق بينهما كالفرق بين المصدر واسم المصدر.

اما الأول : فهو غير متجه ، لأن الفرق بين الآلة والسبب بحسب الفهم العرفي في ان السبب فعل اختياري للشخص والآلة ليست من افعال الشخص ، بل هي من الأمور التكوينية التابعة في وجودها لأسبابها التكوينية ، فآلة القطع هي السكين وهي ليست من الأفعال ، وسببه تحريك السكين وهو من الأفعال ، فالعرف يرى ان الآلة هي السكين والسبب هو التحريك دون العكس. وعليه ، فكون العقد من قبيل الآلة إذا لوحظ بألفاظه من دون لحاظ الاستعمال والإنشاء ، وليس الأمر كذلك ، فان جهة الإنشاء واستعمال اللفظ هي الدخيلة في التأثير ومقومة للعقد ، وليس العقد عبارة عن ذات الألفاظ بنفسها. وعليه فبمقتضى ما ذكرنا يكون العقد من الأسباب لأنه من الأفعال الاختيارية.

واما الثاني : فهو غريب جدا ، فان كون العقد آلة لا يعني انه ليس بموجود آخر غير الأثر ، إذ لا ملازمة بين الآلية واتحاد الوجود ، إذ وجود السكين غير وجود القطع ، ووجود القلم غير وجود الكتابة ، وتغاير وجود نفس الإنشاء والعقد مع وجود الملكية أمر لا يكاد يخفى ، وكون العقد آلة لا يغير هذا الواقع عما هو عليه ، فان الأثر أمر اعتباري والآلة امر تكويني ، فكيف يكون وجودهما واحدا؟!. هذا ان أراد اتحاد وجوديهما كما قد يظهر من ذيل عبارته. وان أراد اتحاد إيجاديهما مع تعدد الوجود. ففيه : ان تغاير الإيجاد والوجود اعتباري ، وإلاّ فهما

ص: 281


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 49 - الطبعة الأولى.

متحدان واقعا فكيف يتحد الإيجاد ويتعدد الوجود؟.

واما الثالث : فهو مما لا محصل له ان كان المراد به ما هو ظاهره. والمصرح به في غير هذا المكان - في النهي عن المعاملة - من كون الفرق بين العقد والأثر فرقا اعتباريا غير حقيقي ، كالفرق بين المعنى المصدري والمعنى الاسمي المصدري ، نظير الإيجاد والوجود ، فان حقيقتهما واحدة والفرق بينهما اعتباري ، فان الإيجاد ينتزع من إضافة الشيء إلى الفاعل والوجود ينتزع من إضافته إلى المورد القابل. ووجه بطلانه : هو استلزامه لأن يكون الشيء مؤثرا في نفسه ، وهو ممتنع ، إذ الشيء لا يكون علة لنفسه ، وذلك لأن ذلك لازم اتحاد العقد المؤثر والأثر في الوجود وعدم تغايرهما في جهة حقيقية ، ولو تنزلنا عن محذور وحدة الوجود - كما هو الفرض - فهو غير متجه أيضا. وان أريد ان العقد مرتبط بالجهة المصدرية لا انه هو الجهة المصدرية ، بتقريب : ان هناك ملكية وتمليك ، فالملكية بمعنى اسم المصدر والتمليك بمعنى المصدر والعقد المسمى بالسبب أو الآلة يترتب عليه التمليك ، فهو مرتبط بالجهة المصدرية. وعليه فإمضاء الملكية إمضاء للتمليك لعدم الفرق بينهما الا اعتبارا ، وإمضاء التمليك إمضاء للعقد لأنه ناشئ منه ومترتب عليه - انه أريد ذلك كما هو المناسب لمقام المحقق النائيني العلمي - ، فهو معقول ، إلاّ انه ممنوع : بان ما يترتب على العقد هو الملكية ، والتمليك ينتزع عن ترتبها على العقد الصادر من المنشئ كما لا يخفى. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجه الارتباك في كلامه قدس سره بلا خفاء.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من : كون الموضوع له اللفظ هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعا وعرفا (1). فالكلام يقع أولا : في معرفة المراد من كلامه. وثانيا في تمامية دعوى الوضع للصحيح وعدم تماميتها.

ص: 282


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتحقيق المقام الأول : ان الظاهر من العبارة ان الموضوع له اللفظ هو العقد المؤثر عند العرف والشرع ، بحيث يكون قوله : « عرفا وشرعا » قيدا للمؤثر. فيكون التأثير لدى الشرع والعرف معا مقوما للموضوع له.

ولا يمكن الالتزام بهذا الظاهر لوجهين :

الأول : ان المفروض انه ليس للشارع اختراع خاص في باب المعاملات ، بل لم يكن منه سوى إمضاء المعاملات العرفية أو الردع عنها ، وهذا يعني ان هذه المعاملات كانت ثابتة قبل زمان الشارع ، وعليه فلا معنى لأن يوضع اللفظ لها في تلك الأزمنة ويكون الموضوع له هو المؤثر عند الشرع والعرف ، إذ لا شارع في زمان الوضع ولا يعترف به كي يكون التأثير عنده مقوما للموضوع له.

الثاني : ان الغرض من تعيين الموضوع له في ألفاظ المعاملات هو تنزيل استعمالات الشارع عليه ، وهذه النتيجة لا تحصل على هذا البيان للموضوع له ، إذ استعمالات الشارع لألفاظ المعاملات بين ما تكون في مقام الإمضاء ، نظير قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ، وما تكون في مقام الرّدع والإلغاء نظير ما ورد : « نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » (2). ولا يخفى ان البيع إذا كان معناه العقد المؤثر شرعا وعرفا لم يقبل الإمضاء ولا الإلغاء ، إذ لا معنى لإمضاء الشارع ما هو مؤثر عند الشارع للغويته ، كما لا وجه لإلغاء الشارع ما هو مؤثر عنده ، لأنه تهافت واضح وتناقض ظاهر.

وإذا تبين ان هذا الظاهر لا يمكن الالتزام به ، فلا بد من توجيه الكلام بنحو لا يرد عليه شيء في نفسه ولو احتاج ذلك إلى تكلف وتقدير ، ويمكن ان توجه العبارة بان المراد كون الموضوع له هو المؤثر عرفا. والشارع تابع العرف على ذلك ، فالتأثير شرعا لم يلحظ قيدا للموضوع له ، ولكن هذا التوجيه بعيد

ص: 283


1- سورة البقرة : الآية : 275.
2- وسائل الشيعة 12 / 330 باب : 40 من أبواب آداب التجارة ، حديث : 3.

جدا عن ظاهر العبارة كما لا يخفى. مضافا إلى انه لا يتلاءم مع ما ذكره بعد ذلك من رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة ، إذ لا موضوع للتخطئة على هذا التوجيه لفرض تبعية الشارع للعرف وعدم استقلاله في شيء ما.

فالمتعين ان يحمل مراد صاحب الكفاية على ان الموضوع له اللفظ عند الشرع والعرف هو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء لا بنحو الفعلية ، ويراد من اقتضاء التأثير هو كون العقد تام الجهات بنحو لو التفت إليه العاقل الحكيم رتب عليه الأثر بلا توقف ، وذلك هو العقد الصحيح. فقوله : « عرفا وشرعا » لا يرجع إلى تقييد التأثير ، بل إلى تقييد الموضوع له ، بمعنى ان الموضوع له عند الشرع والعرف هو العقد المؤثر. والوجه في حمل التأثير على التأثير الاقتضائي لا الفعلي هو ظهور ذلك من عمل العقلاء ، فان العقلاء حين يمضون المعاملة ويرتبون الأثر عليها ، يرون بحسب ارتكازياتهم أنهم يمضون البيع - مثلا - وهذا يقتضي ان البيع موضوع لما له التأثير اقتضاء ، إذ لو كان موضوعا لما هو مؤثر فعلا كان صدق البيع مترتبا على تحقق الإمضاء منهم واعتبار الأثر بأثر العقد ، وهو يتنافى مع ما يرونه من ورود الإمضاء على البيع وترتبه عليه وان موضوعه هو البيع وهذا المعنى لعبارة الكفاية ليس ببعيد عن الظاهر ، وهو خال عن المحذور السابق فكما لا يخفى. وبذلك يتضح جدا رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة ، وذلك لأن مرجع اختلاف الشارع مع العرف إلى ان الشارع يرى عدم اقتضاء العقد للتأثير بدون الشرط الّذي يعتبره لاطلاعه على دقائق الأمور وتأثيراتها التكوينية. بخلاف العرف فان اطلاعه محدود جدا ، فيرى ان للعقد اقتضاء التأثير بدون الشرط ، فالشارع باعتباره شرطا يخطئ العرف في نظره الراجع إلى تأثير العقد بدون ذلك الشرط. ولا يرجع الاختلاف إلى الاختلاف في الموضوع له فانه عندهما واحد وهو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء في أثر ما ، بل يرجع إلى الاختلاف في تعيين مصداق المؤثر بنحو

ص: 284

الاقتضاء. ولا يختلف الحال فيما ذكرنا فيما إذا كان الأثر من الأمور الواقعية أو كان من الأمور الاعتبارية ، لأن الاختلاف في تحقق الاقتضاء للتأثير وعدمه وهو أمر واقعي تختلف فيه الأنظار ويقبل التخطئة والتصويب لأن النّظر طريق إليه. وهو أجنبي عن نفس الأثر وتحققه كي يقال - كما أفاد المحقق الأصفهاني - بان الاختلاف انما يكون من باب التخطئة لو كانت الملكية مثلا من الأمور التكوينية الواقعية دون ما إذا كانت - كما هو الحق - من الأمور الاعتبارية ، وذلك : لأن الأمور الواقعية لها تقرر في الواقع وفي حد ذاتها ويكون النّظر طريقا إليها وكاشفا ، وبذلك تتصور التخطئة والتصويب ، إذ قد يرى جماعة أو شخص تحقق هذا الأمر في مورد ما ويرى آخرون أو آخر عدم تحققه بلحاظ اطلاعه على بعض الخصوصيات. وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية فانه لا وجود لها إلاّ بالاعتبار والجعل ، فالنظر له موضوعية بالنسبة إليها وليس طريقا إليها ، إذ لا تقرر لها كي يكشف عنها. وعليه ، فلا تتصور فيها التخطئة والتصويب ، إذ لا واقع لاعتبار كل معتبر إلا نفسه ، فالملكية الموجودة باعتبار العرف موجودة عند كل أحد ولا مجال لإنكارها لأنها حصلت بالاعتبار الّذي هو فعل العرف ، نعم هي لا وجود لها في اعتبار الشارع في بعض الأحيان وذلك لا يعني التخطئة ونفى الوجود والتحقق إذ تحققها في اعتبار العرف امر لا ينكره الشارع المفروض ان واقع الأمر الاعتباري واقع الاعتبار ونفسه.

وملخص الفرق : ان للأمور الواقعية واقعا محفوظا في نفسه تختلف فيه الأنظار ، وليس للأمور الاعتبارية واقع وتقرر ، بل واقعها لا يعدو الاعتبار وواقعه ، فلا تختلف فيه الأنظار. ولأجل ذلك قيل : ان الأمر الواقعي تختلف فيه الأنظار والأمر الاعتباري يختلف باختلاف الأنظار.

وقد حمل المحقق الأصفهاني - بعد ذلك - كلام المحقق صاحب الكفاية على التخطئة في مقام آخر ، وهو مقام اقتضاء السبب للتأثير. ببيان : ان الأثر وان

ص: 285

كان من الأمور الاعتبارية إلاّ ان كون هذا السبب مقتضيا للاعتبار أمر تابع لما يراه العقلاء من مصالح ومفاسد ومقتضيات قائمة بالسبب ، وليس امرا جزافا ، وإلاّ لكان على حد المعلول بلا علة.

وعليه ، فالعقول متفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد ، ولا ريب ان نظر العرف يقصر عن إدراك خصوصيات الأمور ودقائقها ، فقد يرى بحسب نظره القاصر صلاحية الشيء للتأثير ولكونه سببا للاعتبار ، ولكن يرى الشارع بحسب نظره الواسع الدّقيق عدم صلاحية ذلك الشيء للسببية وخطأ العرف في نظره فيخطّئه فيه ، فالتخطئة والتصويب في هذه المرحلة دون غيرها ، ويكون المراد من عبارة الكفاية هو تخطئة الشارع العرف في الوجه الباعث على جعل الشيء سببا لا في نفس السبب ولا المسبب (1).

ولكن عرفت ان عبارة الكفاية - بناء على ما حملناها عليه من المعنى - لا تحتاج إلى هذا التكلف ، بل التخطئة والتصويب في تشخيص مصداق الموضوع له وهو العقد المؤثر ، ولو كان الأثر من الأمور الاعتبارية.

واما المقام الثاني : فظاهر صاحب الكفاية كون الموضوع له هو الصحيح بالمعنى الّذي ذكرناه ، وهو العقد الحاوي لجميع جهات التأثير ، بحيث يترتب عليه الأثر من قبل العقلاء بمجرد الالتفات إليه.

ولكن الإنصاف عدم تمامية هذه الدعوى ، فان المرتكز في الأذهان من اللفظ هو المعنى الأعم من الصحيح والفاسد ، فان إطلاق لفظ البيع على بيع الغاصب الّذي لا يرى العرف نفوذه لا يختلف عرفا عن إطلاقه على بيع المالك في كون إطلاق كل منهما حقيقيا لا مسامحة فيه ، وهذا أمر لا يقبل الإنكار بحسب الظاهر ، ولا نعرف الوجه الّذي به نفي صاحب الكفاية استبعاد الوضع للصحيح.

ص: 286


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 59 - الطبعة الأولى.

والّذي تلخص من مجموع ما ذكرنا امران :

الأول : ان الموضوع له اللفظ ليس هو العقد ولا الأثر ، بل التمليك الإنشائي ونحوه من الآثار بوجودها الإنشائيّ ، ويعبر عنه بالسبب وبالمسبب باعتبار لحاظين. وعليه ، لا بد ان تحمل دعوى صاحب الكفاية الوضع للسبب وان كان ظاهرها الوضع للعقد ، إذ قد عرفت انه لا معنى لكون الموضوع له هو العقد.

الثاني : ان الموضوع له أعم من الصحيح والفاسد ، وليس هو خصوص الصحيح.

هذا كله بالنسبة إلى تعيين الموضوع له.

ويقع الكلام بعده في ثمرة النزاع وإمكان التمسك بالإطلاق في ألفاظ المعاملات وعدمه. وبيان الحال : انه قد يدعى عدم إمكان التمسك بإطلاق دليل إمضاء المعاملة لو شك في إمضاء فرد خاص ، بناء على الوضع للصحيح.

وذلك : لأن اللفظ موضوع إلى ما هو المؤثر واقعا أو ما له اقتضاء التأثير بنحو خاص من الاقتضاء - وهو الّذي بيناه - ، فالمراد به حينئذ العقد المؤثر في الملكية الواقعية أو المقتضي للتأثير. فإذا شك في فرد أنه ممضى أو لا يشك - جزما - في أنه مؤثر واقعا أو في أنه مقتضي التأثير أولا. ومعه لا مجال للتمسك بإطلاق اللفظ في إثبات الإمضاء له لعدم إحراز صدق المطلق عليه ، فلا مجال للتمسك بقوله تعالى : « أحل اللّه البيع » في حلية بيع الغرر. إذ الشك في حلية بيع الغرر يرجع إلى الشك في انه مؤثر في الملكية الواقعية أو انه مقتضي للتأثير فيها بنحو يترتب عليه الأثر بمجرد الالتفات إليه ، فلا يحرز مع هذا صدق البيع عليه كي يتمسك بإطلاقه ، إذ الفرض ان لفظ البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا أو ما هو مقتضي للتأثير ، ولا يحرز انطباق إحدى الحقيقتين على بيع الغرر.

وقد تصدى المحقق صاحب الحاشية لتصحيح التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح ، ودفع هذه الدعوى. وتقريب كلامه : ان المدلول المطابقي

ص: 287

للدليل المتكفل إمضاء العقد وان كان هو إمضاء العقد المؤثر واقعا وهو غير محرز الصدق على الفرد المشكوك إمضاؤه ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في إثبات الحكم له ، إلاّ انه حيث لا طريق لدينا من الخارج لتعيين مصداق موضوع الإمضاء وتشخيصه بنحو جزمي فيعين ان هذا العقد مؤثر واقعا في الملكية بنحو يوجب العلم والجزم. كان مقتضى عدم تعرض الشارع في الدليل إلى بيان مصاديق الموضوع والعقد المؤثر وتحديدها بنظر العرف وبحسب الظهور العرفي ، هو الاعتماد على العرف في تشخيص المصداق ، وان ما هو بنظر العرف مؤثر واقعا فهو بنظر الشارع مؤثر. وعليه ، فإذا شك في فرد انه ممضى أولا ، فإذا كان بنظر العرف مؤثرا واقعا شمله الدليل لكونه من افراد الموضوع نعم إذا كان الشك في اعتبار شيء عرفا لم يمكن التمسك بالإطلاق لعدم إحراز كونه - أي الفاقد - من المؤثر واقعا عند العرف أيضا ، فلا يحرز انطباق المطلق عليه وهو مانع عن التمسك بالإطلاق.

وبالجملة : دليل الإمضاء يتكفل بيان أمرين : أحدهما : إمضاء العقد. والآخر : ان ما هو المؤثر واقعا عند العرف مؤثر عند الشارع. والأول يتكفله المدلول المطابقي للكلام. والثاني يتكفله المدلول الالتزامي الاقتضائي. وبذلك يصح التمسك بدليل الإمضاء مع الشك في اعتبار شيء في عقد شرعا لإحراز التأثير واقعا عند العرف فينطبق عليه المطلق. دون الشك في اعتبار شيء عرفا في العقد ، لعدم إحراز كون العقد بدونه مؤثرا واقعا.

وبهذا البيان يصحح التمسك بدليل الإمضاء لو كان الموضوع له اللفظ هو العقد المقتضي للتأثير ، فانه بمثل التقريب المذكور يحمل كلام الشارع على إرادة العقد المقتضي للتأثير عرفا ، وان ما هو كذلك عند العرف كذلك عند الشرع ، فيصح التمسك بدليل الإمضاء مع الشك لإحراز انه مقتض للتأثير

ص: 288

عرفا ، فلاحظ (1).

هذا هو الّذي نعلمه في توضيح كلام المحقق صاحب الحاشية ، وهو الّذي أشار إليه صاحب الكفاية (2). وبذلك يندفع الإشكال ويتضح ان التمسك بدليل الإمضاء ممكن على القول بالصحيح.

ولم يتعرض المحقق النائيني إلى بيان المطلب بشكل مفصل ، بل لم يزد على أكثر من ان الدليل إذا كان في مقام إمضاء الأسباب العرفية ولم يزد شيئا على ما هو سبب عند العرف ، فلا مناص من التمسك بإطلاق كلامه في دفع ما يتوهم دخله (3).

واما المحقق الأصفهاني فقد تصدى لتوضيح كلام صاحب الحاشية بغير ما بيناه. ومحصله : ان البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا ، ونظر العرف والشرع طريق إليه ، فإذا كان المولى في مقام البيان وحكم بنفوذ كل ما هو مؤثر واقعا في الملكية بلا تقييده بمصداق خاص وسبب معين ، يكون هذا الإطلاق حجة على ان ما هو المملك في نظر العرف مملك في نظر الشارع ويكون المتبع في تعيين المصداق هو العرف ، ولا مجال لأن يقال : بان المتبع من نظر العرف هو نظره في المفاهيم دون المصاديق ، وذلك لقيام الحجة الشرعية على جواز اتباعه في تعيين المصداق ، والأخذ بنظره فيها ، وتلك الحجة هي الإطلاق وعدم التقييد ، وقد ارتضى قدس سره هذا التقريب لو لا المناقشة في أساسه من كون الملكية من الأمور الواقعية ، لبنائه على كونها أمرا اعتباريا (4).

وأنت خبير بان هذا التوجيه غير تام ، إذ ليس على المتكلم ان يبين واقع

ص: 289


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين /109- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 48 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 59 - الطبعة الأولى.

المصاديق وتعيين محققات المفهوم المأخوذ موضوعا لحكم من الأحكام ، بل الّذي عليه ان يبين ما هو الموضوع للحكم وقد بينه بأنه المؤثر في الملكية واقعا ، اما مصاديق هذا الموضوع وبيان افراد المؤثر فذلك ليس من وظائفه كي يكون عدم تقييده اللفظ بمصداق معين دليلا على إرادة المصاديق العرفية ، فالطبيب إذا أمر المريض بأكل الحامض ولم يبين مصاديقه لا يعد ذلك دليلا على تحكيم نظر معين في المصاديق. وإلاّ لكان خلف فرض كونه في مقام البيان.

نعم سكوت المولى عن بيان ما هو المصداق مع عدم الطريق إلى تعيينه غير نظر العرف ظاهر عرفا في تحكيم نظر العرف ، كما ذكرنا ، ولكنه أجنبي عن التمسك بإطلاق الكلام في إثبات ذلك كما قرره المحقق الأصفهاني قدس سره ، فانه غير وجيه كما عرفت ، إذ عدم تقييده بمصداق مخصوص كاشف عن إمضاء جميع افراد المؤثر واقعا لا إرادة المؤثر بنظر العرف كما لا يخفى.

هذا كله بناء على كون ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب.

اما بناء على كونها موضوعة للمسببات ، فهل يمكن التمسك بإطلاق الدليل في إثبات صحة المعاملة مع الشك في إمضاء السبب ، كما إذا شك في صحة العقد بالفارسية ونحوه. أولا يمكن ، بل دليل الإمضاء يتكفل إمضاء المسبب دون السبب؟.

وتقريب الإشكال في التمسك بالإطلاق ونفي تكفل دليل إمضاء المسبب إمضاء السبب : ان الدليل انما يتكفل إمضاء المسبب ، وتكفله إمضاء السبب يتوقف على ان يكون نظره إلى ذلك ، إلاّ ان العرف في مثل ذلك لا يرى نظر الدليل إلى ذلك ، بل لا يرى سوى نظره إلى إمضاء المسبب بلا لحاظ أسبابه. وعليه ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق في إثبات إمضاء السبب المشكوك لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، ويشهد لما ذكرنا ملاحظة الموارد العرفية ، فان الشخص إذا أمر أحد عبيده بقتل شخص وعلم من حاله انه يكره استعمال

ص: 290

السكين في القتل ، فانه لا يرى ان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين ، ولو كان الدليل المتكفل لإثبات حكم على المسبب ناظرا إلى جهة السبب لكان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين بنظر العرف. وليس كذلك ، وما ذلك إلاّ لأن العرف لا يرى ان الدليل ناظر إلى جهة السبب وإمضائه.

بهذا الوجه لا بد ان يقرب الإشكال على التمسك بالإطلاق وحاصله : ان العرف لا يرى ان الدليل المتكفل لحكم على المسبب من إمضاء ونحوه ناظر إلى إثبات ذلك الحكم أو لازمه للسبب.

وقد بيّن المحقق النائيني الإشكال بنحو آخر وهو : ان الدليل إذا كان متكفلا لإمضاء المسببات مع قطع النّظر عن الأسباب التي يتوسل بها إليها ، فلا يدل على إمضاء الأسباب العرفية مع وجود القدر المتيقن (1).

ولا يخفى ان هذا ليس تقريبا للإشكال بحسب القواعد ، وأنه أشبه بالقضية المأخوذ موضوعها بشرط المحمول ، إذ فرض فيه عدم النّظر إلى الأسباب في الدليل وأنه مفروغ عنه. وعليه ، فلا يتمسك بالإطلاق. وليس هناك من يدعي - بعد هذا الفرض - إمكان التمسك بالإطلاق حتى يكون هذا تقريبا للإشكال. ثم يدفع بما قرره : من أن نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب إلى المسبب ، فليس هناك موجودان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر ، بل موجود واحد. غاية الأمر انه يتنوع بتنوع آلته ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون آخر يستكشف عمومه لجميع الأنواع.

وأنت خبير بان هذا لا يدفع الإشكال بالنحو الّذي ذكره ، فانه إذا ثبت

ص: 291


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 48 - الطبعة الأولى.

ان الدليل ناظر إلى المسبب لا إلى جهة السبب أو الآلة - كما يسمّيه ( قده ) - لم يصح التمسك بإطلاق دليل إمضاء المسبب والمعاملة في نفي الشك من جهة العقد والآلة ، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، سواء كان العقد والمعاملة من قبيل السبب والمسبب أو الآلة وذي الآلة ، إذ وحدة وجودهما لا تصحح التمسك بالإطلاق بعد ان فرض عدم النّظر إلى جهة العقد في الدليل وان النّظر متمحض بجهة المعاملة ، فما قرره من ان العقد والمعاملة موجودان بوجود واحد وليسا موجودين بوجودين لا يجدي في تصحيح التمسك بالإطلاق بعد تقرير الإشكال بما عرفته من نفي نظر الدليل إلى جهة العقد والسبب ، إذ كونه آلة أو سببا لا يغير واقعه وعدم النّظر إليه.

هذا مع ان في ما أفاده مواقع للنظر ، منها : ان ما ذكره تحقيقا لدفع الإشكال عن الشهيد الّذي التزم بان الموضوع له العقود هو الصحيح. مدفوع بما تقدم : من ان إشكال التمسك بالإطلاق يتوجه على بناء الأصحاب على الرجوع إلى مطلقات المعاملات.

ولا يخفى عليك انه يبتني على الوضع للأسباب لا المسببات ، فان الوضع للمسببات مناف للاتصاف بالصحّة باعترافه قدس سره ، فلا ربط لهذا الكلام بدفع الإشكال عن الشهيد.

وما يقال : من انه قدس سره في مقام تحقيق أصل المطلب ، وليس بناظر إلى خصوص دفع الإشكال عن الشهيد.

فهو خلاف ظاهر العبارة. وعليك بالملاحظة تعرف.

وقد حاول السيد الخوئي تصحيح التمسك بالإطلاق بوجه آخر بعد إبطاله لما ذكره المحقق النائيني في وجه التصحيح.

ومحصله : ان ما ذكر انما يصح لو كان المسبب واحدا له أسباب عديدة ، فان إمضاءه لا يقتضي إمضاء أسبابه ، بل لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن

ص: 292

ونفي تأثير المشكوك بأصالة عدم ترتب الأثر. نعم لو لم يكن قدر متيقن أمكن القول باستلزامه إمضاء المسبب إمضاء أسبابه جميعها ، لأن الحكم بإمضاء بعضها دون آخر ترجيح بلا مرجح ، والحكم بعدم إمضائها كلها يستلزم اللغوية. واما بناء على التحقيق من تعدد المسبب بتعدد السبب ، بمعنى ان لكل سبب مسبب على حدّه فإنشاء زيد سبب لملكية غير الملكية الحاصلة بإنشاء عمرو وهكذا ، ولا يختلف ذلك باختلاف مباني الإنشاء فلا يتم ذلك - أعني عدم كون إمضاء المسببات إمضاء الأسباب - ، وذلك لأن كل مسبب لا ينفك عن سببه ، فالدليل المتكفل لإمضاء المسبب بقول مطلق يستلزم إمضاء المسبب مطلقا ، إذ لا ينفك إمضاء المسبب عن إمضاء سببه حينئذ ، وإلاّ لكان إمضاء المسبب لغوا (1).

ولا يخفى ما في هذا الوجه ، فانه لا يصلح ردا للإشكال الذي ذكرناه ، فانه بعد ثبوت ان الدليل المتكفل لإمضاء المسبب لا يكون ناظرا عرفا إلى جهة السبب ويكون مجملا من هذه الجهة ، فلا يجدي تعدد المسبب في إثبات إمضاء السبب المشكوك ، لعدم العلم بإمضاء المسبب الناشئ من السبب المشكوك للشك فيه من جهة السبب ، والمفروض إجمال الكلام من هذه الجهة فلا إطلاق للكلام كي يتمسك به.

ومن هنا يظهر انه لا يجدي في إثبات إمضاء السبب كونه من قبيل المبرز والكاشف عن الاعتبار النفسانيّ لا السبب والمسبب - كما هو مذهب السيد الخوئي في باب الإنشاء - ، وانه ليس لدينا سبب ومسبب ، بل كاشف ومنكشف ، إذ إمضاء الاعتبار النفسانيّ لا يستلزم إمضاء كاشفه - بعد فرض دخله في تحقق الأثر - ، إذا ثبت عدم نظر الدليل عرفا إلى جهة العقد وسمي كاشفا أو سببا أو آلة ، لإجمال الدليل من جهة العقد. نعم لو ادعي - كما ثبت ذلك - كون الموضوع

ص: 293


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 188 - الطبعة الأولى.

له اللفظ هو المركب من العقد والاعتبار النفسانيّ ، فيكون دليل الإمضاء متكفلا لإمضاء الأسباب - أعني العقود - ، لأنه يتكفل إمضاء المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والنكاح ، والمفروض صدق العناوين على المركب فيتمسك بإطلاقها في إثبات إمضاء كل عقد شك في سببيته. لو ادعى ذلك فله وجه ، لكن عرفت ما في أصل المبنى من الوهن.

وللمحقق العراقي كلام مرتبك جدا لا يجدي ذكره وبيان ما فيه فلتلاحظ تقريرات بحثه للآملي (1).

وعليه ، فالذي ينبغي ان يقال في حل الإشكال : ان المراد بالمسبب - كما تقدم - هو التمليك الإنشائي الحاصل بالعقد والّذي يترتب عليه التمليك الاعتباري العقلائي ، ولا يخفى ان نسبة هذا التمليك إلى العقد نسبة العنوان إلى المعنون ، إذ يقال للعقد انه تمليك إنشائي ، نظير نسبة التعظيم إلى الفعل الصادر من المعظم ، فان التعظيم أمر اعتباري لكنه ينطبق على الفعل ويتعنون به الفعل ، ولذلك يسند الفعل والتعظيم إلى الشخص لا العقلاء.

وعليه ، فالذي نقوله : ان أخذ المسبب موضوعا وورود الحكم عليه بهذه الكيفية كورود حكم الإمضاء عليه يختلف عن سائر الأحكام المأخوذ فيها المسبب متعلقا للحكم في كون العرف يرى نظر الدليل المتكفل للأول ناظرا إلى ناحية السبب وجهته دون الدليل المتكفل للثاني. وبعبارة أخرى : ان الحكم إذا رتب على المسبب بلحاظ تحققه في الخارج بحيث أخذ موضوعا يرى العرف ان الدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية سببه ، فإذا قال أحب التعظيم ، يرى العرف ثبوت الحكم لأسباب التعظيم. بخلاف ما إذا رتب الحكم على المسبب بلحاظ إيجاده في الخارج بان أخذ متعلقا فان العرف لا يرى نظر الدليل إلى ناحية

ص: 294


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 140 - الطبعة الأولى.

أسبابه كما لو قال : « عظم زيدا » فانه لا يدل إلاّ على طلب التعظيم ولا نظر له الا إلى جهة التعظيم دون أسبابه ، والمسبب فيما نحن فيه أخذ موضوعا للإمضاء ، فالدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية السبب بنظر العرف.

وجملة المدعى : ان الدليل المتكفل للإمضاء ونحوه يختلف عن غيره بنظر العرف ، فان العرف يرى أنه ناظر إلى جهة الأسباب ، ومعه يمكن التمسك بالإطلاق لكون المتكلم في مقام البيان.

فالجواب يرجع إلى إنكار أساس الإشكال من كون الدليل غير ناظر إلى جهة الأسباب.

ونتيجة ما ذكرناه : انه يمكن التمسك بإطلاق لفظ المعاملة سواء قلنا بوضعه للسبب أو للمسبب ، فلا ثمرة في البحث عن تعيين الموضوع له منهما.

يبقى في المقام أمر تعرض إليه صاحب الكفاية ، ومحصله : ان الشيء الّذي يتعلق به الأمر الدخيل في المأمور به ..

تارة : يكون مقوما للمأمور به ونفس الماهية بنحو الجزئية أو الشرطية كالسورة والطهارة.

وأخرى : يكون مقوما للفرد والتشخص بنحو الجزئية أو الشرطية أيضا ، كالصلاة في المسجد والصلاة جماعة والقنوت في الصلاة.

وثالثة : لا يكون مقوما لأحدهما ، وانما تكون نسبة المأمور به إليه نسبة الظرف إلى المظروف ، بمعنى ان المأمور به أخذ ظرفا له لا أكثر ، كالتصدق في الصلاة فيما لو نذره ، فان التصدق خارج عن حقيقة الصلاة ماهية وفردا (1).

ولا بد من معرفة صحة التقسيم إلى هذه الأقسام الخمسة ومعرفة المقصود من هذا التقسيم.

ص: 295


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فنقول : ان جزء التشخص والفرد أو شرطه لا يعلم له محصل الا في بعض الموارد المذكورة له ، وذلك لأن ما يتقوم به الفرد مع قطع النّظر عن ماهيته عبارة عن لوازم وجوده غير المنفكة عنه كالمكان والزمان ، اما ما ينفك عنه فلا يعد مقوما للفرد ، بل من عوارضه. ولأجل ذلك لا يتصور ان يكون شيئا مأخوذا مقوما للفرد إلا مثل كون الصلاة في المسجد باعتبار تقوم الفرد بمكان ما ومنه المسجد ، لأن من لوازم وجود الصلاة وقوعها في مكان ما من الأمكنة. أما مثل الصلاة جماعة أو القنوت في الصلاة فلا يعقل ان يكون مقوما للفرد ، لأنه ليس من لوازم وجوده بل يمكن ان ينفك عن الصلاة فلا تقع جماعة ولا يؤتى بالقنوت في الصلاة. مضافا إلى ان وجوده لو كان لم يكن من باب اللزوم والقهر وعدم إمكان تجرد الوجود عنه ، بل من جهة اعتباره شرعا والأمر به من قبل الشارع ، ومثل هذا لا يعد من لوازم الوجود كي يكون من مقومات الفردية والتشخص.

وإلى هذا الإشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وأجاب عنه بما لا يعد الألفاظ من دون ان يكون له معنى محصل ظاهر فلاحظه (1).

ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكان تصور مثل القنوت مقوما للفرد والتشخص ، فالذي يظهر لنا بعد التأمل ان نظر صاحب الكفاية إلى الجزء المستحب دون الجزء الواجب ، وذلك لأن الأمر يتعلق بالمركب من الاجزاء ، فالجزء الواجب المدعى كونه جزء الفرد لا الطبيعة اما ان يكون متعلقا لوجوب آخر غير الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فيكون من القسم الخامس - أعني الواجب في واجب وليس جزء للفرد - ، واما ان يكون متعلقا لنفس الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فلا يعقل ان يختلف عنها ، لأن الوجوب يتعلق بها جميعا

ص: 296


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 61 - الطبعة الأولى.

بنحو واحد وعلى شكل متحد ، فيمتنع ان يفرض كون أحدها جزء الفرد والأخرى اجزاء الطبيعة والمأمور به. مضافا إلى انه لا يختلف عن سائر الاجزاء في الأثر وان عد جزء الفرد لاتحاد الوجوب المتعلق بها. وعليه فلا بد ان يفرض الجزء المأخوذ مقوما للفرد جزء مستحبا كي يرتفع الإشكال - كما سيتضح -. وعليه فتبنى صحة ذلك على تصور الجزء المستحب للواجب وإمكانه ثبوتا. وقد قيل بامتناعه في الواجب ذي الاجزاء الارتباطية ، نظرا إلى ان مرجع الارتباطية إلى ارتباط الاجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال ، الّذي يعني : ان امتثال كل جزء انما يحصل بالإتيان بالاجزاء الأخرى بحيث انه مع عدم الإتيان بأحدها لا يحصل امتثال المجموع ، فالارتباطية ترجع إلى تقيد امتثال كل منها بالإتيان بالآخر.

وعليه ، فامتثال الاجزاء الواجبة اما ان يكون متوقفا على الإتيان بالجزء المستحب ، بمعنى انها مرتبطة به في مقام الامتثال. واما ان لا يكون كذلك ، بل يتحقق الامتثال بدون الإتيان به.

فعلى الأول ، يلزم ان يكون الجزء واجبا ولازما لا مستحبا لتوقف الامتثال عليه وهو خلف الفرض.

وعلى الثاني ، يلزم ان لا يكون جزءا للواجب.

وعليه ، فالجزء المستحب للواجب غير معقول ثبوتا.

فما يعبّر عنه بالجزء المستحب للصلاة كالقنوت اما ان يحمل على كونه مستحبا في واجب ، فيكون من القسم الخامس كالواجب في الواجب ، بمعنى ان ظرفه الواجب لا انه جزء الواجب. واما ان يحمل - كما صرح به - على تعلق امر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على هذه الخصوصية غير الأمر الوجوبيّ المتعلق بنفس الطبيعة. نظير ما يقال في توجيه الكراهة في بعض العبادات ، من ان الأمر التنزيهي لم يتعلق بنفس العبادة كي يتنافى مع رجحانها

ص: 297

والأمر بها وعباديتها ، بل هو متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ ، فالامر التنزيهي متعلق بتطبيق الصلاة على الصلاة في الحمام لا بنفس الصلاة في الحمام ، ومثله ما نحن فيه ، فان الأمر الاستحبابي متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على الخصوصية كالصلاة مع القنوت أو جماعة. فهناك أمران : أحدهما :

متعلق بذات الطبيعة وهو الوجوبيّ. والآخر : متعلق بتطبيقها على فرد خاص وهو الاستحبابي.

لكن التحقيق يقضي بإمكان تصور الجزء المستحب للواجب ومعقوليته ثبوتا. بيان ذلك : ان الخصوصية الزائدة على أصل الطبيعة المتعلقة للإرادة والأمر ..

تارة : تكون ذات مصلحة مستقلة بلا ارتباط لمصلحة الطبيعة بها ، بحيث يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى تحقق مصلحة الطبيعة بحدّها على حدّ سواء وبلا تفاوت ، فمصلحة الطبيعة تتحقق بتمام حدّها جيء بالخصوصية أو لم يؤت بها. ونظير ذلك ما إذا تعلق الأمر والإرادة بالصلاة ثم تعلقت الإرادة بالتصدق حال الصلاة باعتبار النذر ، فان التصدق لا يزيد من مصلحة الصلاة ولا يوجب تفاوتها عما لو لم يتحقق في أثنائها ، لاستقلال مصلحته عن مصلحة الصلاة ، ومثله ما لو تعلقت الإرادة والأمر بإعداد وليمة لزيد وكان الآمر يرغب في نفسه لبس القباء الأبيض ، فان لبس المأمور به القباء الأبيض وعدمه في الوليمة لا يوجب تفاوت نفس الوليمة في المصلحة ، بل لكل منهما مصلحة وأمر يترتب عليه الثواب ونحوه ، والأمر بهذا النحو يكون من المطلوب في مطلوب كالمستحب أو الواجب في واجب ، ويكون لكل من الأمرين امتثال على حدة.

وأخرى : لا تكون لها مصلحة مستقلة ، بل مصلحته ضمنية مرتبطة بمصلحة الطبيعة ، بحيث تتفاوت مصلحة الطبيعة بوجودها وعدمها ، كما لو تعلقت الإرادة بإعداد الغذاء وكانت خصوصية كونه من الرّز مرغوبا فيها ، فان وجود خصوصية الرّز في الغذاء يوجب تفاوت مصلحة الغذاء عما لو لم تكن

ص: 298

موجودة بل كان من الحنطة.

ومثل هذه الخصوصية لا يمكن ان تكون متعلقة للأمر الاستحبابي بنفسها لعدم استقلالها في المصلحة ، والأمر تابع لملاكه من المصالح ، فإذا لم يكن فيها مصلحة مستقلة امتنع تعلق امر مستقل بها لعدم ملاكه. وعليه ففي هذه الصورة لا يمكن ان يلتزم يكون الخصوصية من قبيل المطلوب في المطلوب ، فيدور الأمر ثبوتا بين ان يتعلق الأمر الاستحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على الخصوصية ، أو يتعلق الأمر الاستحبابي بنفس الطبيعة مشتملة على الخصوصية ، فيكون هناك أمران أمر وجوبي بذات الطبيعة وأمر استحبابي بالطبيعة بقيد الخصوصية ، ولما امتنع اجتماع أمرين في شيء واحد لأنه من اجتماع الضدين ، يتداخل هذا الأمران وينقدح عنهما امر وجوبي مؤكد بالطبيعة مع الخصوصية.

فالامر يدور بين هذين الاحتمالين : تعلق أمر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ. وتعلق أمر وجوبي مؤكد بالطبيعة المشتملة على الخصوصية. ولا محذور في هذا الأخير ، بل هو الثابت في التكوينيات ، فان من يرغب في الغذاء ويرغب في ان يكون من الرز يجد في نفسه إرادة مؤكدة تتعلق بالغذاء من الرّز ، وإرادة غير مؤكدة تتعلق بأصل الغذاء ، ومن هاتين الإرادتين ينقدح الأمر ، فيكون هناك امر بنفس الطبيعة وأمر آكد بالغذاء من الرّز.

وبعد هذا ، ففيما نحن فيه حيث يظهر من الأدلة انّ مثل القنوت ونحوه من اجزاء الصلاة ، فيكون مقتضى ذلك ارتباط مصلحة القنوت بمصلحة الصلاة بحيث تتفاوت مصلحة الصلاة بوجود القنوت وعدمه. وعليه ، فلا يمكن تعلق امر مستقل به حيث يكون من قبيل المطلوب في مطلوب ، لعدم وجود ملاك الأمر المستقل فيه ، بل يدور الأمر بين أن يكون الأمر الاستحبابي متعلقا بتطبيق الطبيعة على الفرد أو يكون متعلقا بالطبيعة مع الخصوصية ويتداخل مع الأمر الوجوبيّ المتعلق بالطبيعة الشامل لمورد الخصوصية فينقدح عنهما أمر وجوبي آكد

ص: 299

بالطبيعة بقيد الخصوصية ، إلاّ انه حيث كانت المصلحة الموجبة للتأكد غير ملزمة - كما دل على ذلك الدليل - جاز ترك الخصوصية اختيارا لتعلق الأمر بنفس الطبيعة - إذ لو كانت ملزمة امتنع تعلق الأمر بنفس الطبيعة ، ولو كانت ذات مصلحة ملزمة نظير مصلحة الجهر ، فان الإلزام بالجهر مع الاكتفاء بالصلاة الإخفاتية حال النسيان والغفلة كاشف عن ان الصلاة الإخفاتية ذات مصلحة ملزمة ، إلا ان الجهرية ذات مصلحة ملزمة آكد بحيث يلزم بها المكلف مع الالتفات ويرتفع الأمر بكلي الطبيعة ويتعين الأمر بالطبيعة بخصوصية الجهر ، وان اكتفى بالإخفاتية مع الغفلة لعدم إمكان تدارك مصلحة الجهر وان كانت ملزمة كما هو مقتضى دليل الاكتفاء - ، فيمتثل نفس الأمر بالطبيعة دون الأمر الآكد المتعلق بها مشتملة على الخصوصية. ومن هنا صح تسمية القنوت بالجزء المستحب ، فانه وان كان متعلقا للأمر الوجوبيّ الآكد كسائر الاجزاء ، إلاّ انه حيث علم بالدليل جواز تركه وعدم العقاب على عدم إتيانه بحيث لا تترتب عليه آثار الواجب كان مستحبا أو بمنزلة المستحب ، لأن المكلف وان ترك هذا الفرد إلاّ انه جاء بفرد آخر بديل له ومتعلق للأمر بالطبيعة ، والمصلحة التي يشتمل عليها هذا الفرد الموجبة لتأكد الوجوب غير ملزمة فلا مانع من تركه. وبعبارة أخرى : المكلف لم يخالف في الحقيقة إلا جهة التأكد لا أصل الأمر ، وهي غير ملزمة فلا مانع من مخالفتها.

وعلى كل ، فالامر ثبوتا يدور بين هذين الاحتمالين ، إذ كل منهما معقول ثبوتا ، إلاّ ان الثاني أولى إثباتا من الأول ، وذلك لأن الأمر يتبع الملاك والمصلحة وهو يتعلق بما فيه الملاك ، ومقتضى ذلك ان يتعلق الأمر الاستحبابي بالطبيعة المشتملة على الخصوصية فانها تحوي المصلحة والملاك ، لا تعلقه بتطبيق الطبيعة على الفرد ، فان نفس التطبيق لا يشتمل على المصلحة وان أوصل إليها وأنهى إلى حصولها.

ص: 300

وعليه ، فتصور الجزء المستحب للواجب ممكن ، إذ عرفت ان الأمر الوجوبيّ المؤكد يتعلق بالطبيعة بقيد الخصوصية ، وتكون الخصوصية متعلقة للأمر الوجوبيّ ضمنا ، لكنها في نفس الوقت يجوز تركها ومن هنا يسمى الجزء مستحبا وان كان متعلقا للأمر الوجوبيّ ، بلحاظ عدم ترتب آثار الوجوب عليه.

وعلى هذا فلا بد من ان يكون الإتيان بالقنوت بداعي الأمر الصلاتي لا امره ، إذ لا امر يتعلق به كما لا يخفى.

ثم انه تظهر الثمرة في الالتزام بالجزء المستحب في موارد :

منها : عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في صحة الصلاة وهو في التسليم - لو قيل باستحبابه - بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب للصلاة ، لعدم تحقق الفراغ من الصلاة المقوّم للقاعدة بخلاف ما لو التزم بأنه مستحب في واجب أو كون المستحب تطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ فان القاعدة تجري لتحقق الفراغ عن الصلاة بانتهاء التشهد لعدم تقوم الصلاة بالتسليم وكونه من اجزائها.

ومنها : جريان قاعدة التجاوز فيما لو شك في السورة وهو في القنوت بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب فيما لو التزم في صحة جريان القاعدة ان يكون كل من المشكوك والمدخول فيه مرتبطا بالآخر في المحل المجعول له ، بمعنى ان يكون الغير الداخل فيه مرتبا على المشكوك وان يكون المشكوك مأخوذا سابقا على الغير - ولأجل ذلك بني على عدم جريان القاعدة فيما لو شك في التسليم أو الصلاة وهو في التعقيب ، لأن التعقيب وان كان محله متأخرا عن الصلاة شرعا إلاّ انه لم يؤخذ في الصلاة سبقها على التعقيب إذ لا إشكال في صحتها بدون التعقيب - بخلاف ما لو لم يلتزم بكونه جزء مستحبا ، بل كونه مستحبا في واجب أو كالمستحب في الواجب ، وذلك لأنه مع كونه من اجزاء الصلاة يكون كل منهما مرتبطا بالآخر ويؤخذ السابق سابقا على القنوت ومقيدا بترتب القنوت عليه ،

ص: 301

فيتحقق ملاك القاعدة. واما إذا كان مستحبا في واجب أو نحوه لم يكن مثل السورة مأخوذا سابقا على القنوت لعدم لزوم الإتيان به وعدم كونه من اجزاء الصلاة كي يفرض الترتب بينها.

ومنها : ما لو جاء بالقنوت فاسدا ، أو لم يأت به بالمرة فانه بناء على عدم كونه جزء مستحبا بل مستحبا في واجب أو نحوه لا يوجب فساد القنوت فساد الصلاة بالمرة ، لأنه لا يرتبط بأمر الصلاة ، بل هو امتثل أمر الصلاة بالإتيان بسائر الاجزاء وخالف امر القنوت وهو مستقل عن امر الصلاة كما هو المفروض.

واما بناء على كونه جزء مستحبا فقد يقال بكون فساده موجبا لفساد الصلاة لأنه جزؤها ، والمركب ينتفي بانتفاء أحد اجزائه ، إلاّ انه ينبغي التفصيل بين ما لو كان قصده الإتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي المؤكد بنحو التقييد ، وما لو كان قصده الإتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي لكنه اعتقد أنّ القنوت دخيل فجاء به فاسدا من باب الخطاء في التطبيق.

فعلى الأول ، تبطل الصلاة ، لأن المقصود امتثاله ، وهو الأمر المؤكد ، لم يمتثل ، وغيره لم يقصد امتثاله ، فلا يكون المأتي به امتثالا له.

وعلى الثاني ، لا تبطل لأنه جاء بما يوافق الأمر الصلاتي المقصود موافقته ، وترك القنوت أو فساده لا يضير فيه وان اعتقد لزوم الإتيان به ودخله في الصلاة.

وعلى كل ، فالثمرة موجودة في هذا المورد ولو في بعض صور الفرض.

وهناك موارد كثيرة للثمرة ، تظهر بملاحظة باب الخلل في الصلاة ، ولا حاجة لذكرها بعد بيان الموارد الثلاثة لها.

ولعل نظر صاحب الكفاية في عقد هذا الأمر إلى بيان الجزء المستحب وإمكانه فلاحظ. اما دخول أي الأقسام في المسمى وعدمه فذلك معلوم مما تقدم في بيان معنى الصحة وتحديدها ، فلا نعيد فلاحظ ، وتأمل واللّه ولي التوفيق والتسديد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 302

الاشتراك

هذا المبحث عديم الجدوى والأثر ، وانما تعرض إليه الأعلام تمهيدا للمبحث التالي وهو : « استعمال اللفظ في أكثر من معنى » وان لم يبتن عليه ، ولأجل هذا كان الاعراض عن تحقيق الأقوال فيه أولى ، وان كان إمكانه ، بل وقوعه من الأمور البديهية تقريبا ، وما قيل في امتناعه أو وجوبه يعلم وهنه مما جاء في رده في الكفاية (1) وغيرها. ولكن السيد الخوئي جزم باستحالته بناء على ما ذهب إليه في معنى الوضع من انه تعهد تفهيم المعنى عند ذكر اللفظ ببيان مفصل مذكور في تقريراته (2). ولا يهمنا التعرض إليه بعد ان تقدم منّا بيان فساد أصل المبنى ووهن كون الوضع عبارة عن التعهد بجميع محتملاته ، وبالخصوص المحتمل الّذي يبني عليه هنا ، فلاحظ وراجع.

ص: 303


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /35- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 202 - الطبعة الأولى.

ص: 304

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

هذا المبحث من المباحث المهمة التي تعرض لتحقيقها الاعلام ، وله آثار فقهية عملية تعرف في محلها من أبواب الفقه ، فمن الموارد التي يظهر فيها أثر هذا البحث ما إذا جاء امر واحد بالأذان والإقامة معا ، فان مقتضى ظاهر الأمر كونه وجوبيا وكون الطلب المدلول له إلزاميا. ثم جاء دليل منفصل يدل على عدم وجوب الأذان وكونه مستحبا وليس بواجب. فمقتضى الجمع العرفي تقديم الدليل المنفصل وحمل الأمر المتعلق بالأذان على الأمر الاستحبابي لا الوجوبيّ فيتصرف في ظاهره. فإذا بني على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، أمكن البناء على ظهور الأمر في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة لعدم الموجب لرفع اليد عنه ، والبناء على إرادة الاستحباب منه بالنسبة إلى الأذان للقرينة ، إذ لا يمتنع إرادة الوجوب والاستحباب من الأمر في استعمال واحد. واما إذا بني على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى كان الدليل المنفصل موجبا للتصرف في ظهور الأمر وحمله على الاستحباب أو على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب بالنسبة إلى الإقامة والأذان كليهما ، إذ إبقاؤه على ظهوره في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة وحمله على الاستحباب بالنسبة إلى الأذان يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممتنع كما هو الفرض ، فلا بد ان يحمل على معنى واحد

ص: 305

بالنسبة إلى كليهما يتفق مع الدليل المنفصل وهو الاستحباب أو الجامع ، ويعلم إرادة الفرد الاستحبابي بالقرينة المنفصلة الموجودة.

هذا أحد الموارد التي يظهر فيها أثر هذا المبحث. وغيره كثير يشار إليه في محله.

ثم انه لا بد من معرفة محور الكلام وموضوع النزاع الّذي يدور في كلمات الاعلام بين النفي والإثبات أو التفصيل. لأنّ تصور استعمال اللفظ في أكثر من معنى بنحو واضح الإمكان وبنحو واضح الاستحالة بحيث لا يكون الإمكان والامتناع بتقديريه امر يحتاج إلى بيان ومورد الخلاف ، فانه ...

ان أريد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعماله في معان متعددة مستقلة غير مرتبطة إلاّ انه بكشف واحد ، نظير العام الاستغراقي الّذي يراد به كل فرد فرد بلا ارتباط له بغيره من الافراد ويجعل اللفظ العام كاشفا عن الجميع - ان أريد من الاستعمال في أكثر من معنى ذلك - ، فهو واضح الإمكان ، لبداهة صحة استعمال العام وإرادة افراده بنحو الاستغراق والشمول ولا يرى في ذلك أي محذور مما قد يتصور ، ولا يتوقف في صحته أحد.

وان أريد منه استعماله في كل معنى على حدة ومستقلا بحيث لا يلحظ مع معنى آخر ولا يستعمل اللفظ في غيره ، فهذا واضح الاستحالة إذ الاستعمال في المتعدد خلف فرض التزام ان لا يكون معه آخر ولا يلحظ غيره بلحاظ آخر.

إذن فما هو موضوع الكلام؟ وما الّذي يتصور في استعمال اللفظ في أكثر من معنى مما يقبل الخلاف والنزاع؟.

موضوع النزاع هو ما أشار إليه صاحب الكفاية : من انه استعمال اللفظ في كل معنى بنحو الاستقلال ، وبان يكون اللفظ كاشفا عن كل منهما مستقلا ، فيكون بمنزلة ان يستعمل فيهما مرتين وعلى حدة ، بحيث يكون هناك كشفان ، ويكون هذا الاستعمال بمنزلة استعمالين لاشتماله على خصوصياتهما.

ص: 306

هذا هو محل النزاع ، فقد اختلف في إمكانه وامتناعه. وظاهر صاحب الكفاية هو ابتناء الإمكان والامتناع على حقيقة الاستعمال (1) ، فان كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى كان الاستعمال في أكثر من معنى ممكنا ، إذ لا يمتنع ان يكون الشيء الواحد علامة وكاشفا عن أمرين مع كونه ملحوظا بلحاظ واحد ، كما هو شأن العلامة ، فانه من الظاهر إمكان نصب العلم لغرض بيان جهتين كرأس الفرسخ وأرض بني فلان. وان كان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى بجعله مرآة ووجها له بحيث يكون كأنه هو الملقى رأسا كان الاستعمال في المتعدد ممتنعا ، وذلك لأن الاستعمال إذا كان كذلك استدعى ان يلحظ اللفظ آلة وطريقا إلى المعنى لفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه. وعليه فاستعماله في معنيين يستلزم إفناءه مرتين ، وهو يقتضي ان يلحظ بلحاظين آليين وهو ممتنع لاستحالة اجتماع المثلين في شيء واحد في آن واحد - كما تحقق في محله - ، ولامتناع ان يعرض الوجود على الموجود بما هو كذلك ، فيمتنع ان يتعلق اللحاظ بما هو ملحوظ ، إذ الموجود لا يوجد ثانيا بوجود آخر ، كما لا يخفى ، ولا يتأتى هذا الكلام بناء على كون الاستعمال جعل اللفظ علامة ، إذ لا يستلزم لحاظ اللفظ آلة ، بل يمكن تعلق اللحاظ الاستقلالي به ويقصد به تفهيم معنيين كما هو واضح.

إلاّ انه قد ذكر لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بناء على كونه جعل اللفظ علامة ، محذور.

وتقريبه - كما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني (2) - : ان جعل اللفظ علامة للمعنى معناه انه سبب لحصول العلم والانتقال إلى المعنى ، فهو سبب

ص: 307


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /36- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 63 - الطبعة الأولى.

للاعلام والتفهيم الّذي معناه إيجاد العلم والفهم. وعليه ، فيمتنع ان يكون اللفظ محققا لإعلامين وتفهيمين لامتناع ان يكون الوجود الواحد إيجادين لاتحاد الوجود والإيجاد حقيقة وتغايرهما اعتبارا.

ولكنه يشكل أولا : بان اتحاد الوجود والإيجاد ذاتا وحقيقة لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ، إذ الوحدة بلحاظ ما يضاف إليه الوجود والإيجاد معا ، وهو مختلف فيما نحن فيه فان الوجود الواحد هو وجود اللفظ خارجا ، والإيجاد المتعدد هو إيجاد المعنى وإحضاره في الذهن ، وأي شخص يدعي ضرورة وحدة الوجود الخارجي مع الإيجاد الذهني كي يستحيل تعدد أحدهما وحدانية الآخر.

ولو تنزل ولوحظ اللفظ بوجوده الذهني في ذهن المخاطب بحيث يكون كل منهما موطنه الذهن وهو ذهن المخاطب ..

فيشكل ثانيا : بان الوجود الواحد وجود للفظ ، وهو انما يقتضي وحدانية إيجاده لا إيجاد المعنى ، إذ وجود اللفظ في الذهن يباين ويغاير وجود المعنى فيه ، ومقتضى وحدة الوجود والإيجاد في الذات مغايرة إيجاد اللفظ لإيجاد المعنى حقيقة لتغاير وجوديهما كذلك ، فلا محذور في وحدة وجود اللفظ وإيجاده مع تعدد وجود المعنى وإيجاده. فلاحظ وتدبر.

وقد أورد (1) على دعوى امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى بالنقض بموردين :

المورد الأول : العموم الاستغراقي ، ويتصور النقض به بوجهين :

أحدهما : ان كل فرد من افراد العام ملحوظ مستقلا وعلى انفراده ، فكما صحّ تعلق الحكم الواحد بكل فرد على انفراده كذلك يصحّ استعمال اللفظ الواحد في كل معنى على انفراده عند لحاظ المعاني كل على حدة.

ص: 308


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 64 - الطبعة الأولى.

وفيه : ان نحو تعلق الحكم يختلف عن الاستعمال ، فان اللفظ في حال الاستعمال يكون فانيا في المستعمل فيه ، وليس كذلك الحكم ، فانه لا يفنى في موضوعه ، بل لا يتوقف إلاّ على تصور موضوعه بأيّ نحو كان ، فلا محذور في الحكم على المتعدد.

ثانيهما : ان افراد العام قد لا تكون متناهية ، فلا يمكن لحاظ كل منها بنحو الاستقلال والحكم عليها ، بل يحكم عليها بتوسط عنوان يكون كاشفا عنها ، ويكون لحاظه لحاظا لها. فعليه فكما يمكن ان يكون المفهوم الواحد فانيا في افراده المتعددة كذلك يمكن ان يكون اللفظ الواحد فانيا في المعاني المتعددة. أو يقرّب : بان لحاظ العنوان إذا كان لحاظا لمطابقاته بوجه ، وكان اللازم لحاظ الافراد مستقلا في مقام الحكم ، لزم تعلق لحاظات استقلالية بالعنوان متعددة بعدد افراده الواقعية ، فكما يصح ذلك فليصح تعدد اللحاظ في اللفظ.

وفيه : ان ألفاظ العموم غير فانية وحاكية عن كل فرد فرد مستقلا ، أما ما كان من قبيل : « كل عالم ، والعلماء » فواضح ، ضرورة عدم انطباق عنوان العلماء على كل فرد من افراد العالم ، وهكذا كل عالم بل هو عنوان لجميع الافراد ، فليس هذا العنوان الا فانيا في الجميع بفناء واحد. وأما ما كان من قبيل المطلق الشمولي كالعالم ، فلأنه بمادته وهيئته موضوع للذات المتلبسة بالمبدإ ، فهو موضوع للطبيعة المهملة ، فلا يمكن ان يكون عنوانا لكل فرد وفانيا فيه لعدم انطباقه على الخصوصيات بعد ان كان موضوعا للطبيعة ، فاستفادة العموم منه بدليل آخر وقرينة خارجية.

وبالجملة : فليس من العمومات ما يكون عنوانا لكل فرد بانفراده كي يكون فانيا فيه فيتعدد فناء العنوان ويصح النقض به على ما نحن فيه.

المورد الثاني من موردي النقض : الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فانه كما يمكن وضع اللفظ إلى كل واحد من الافراد بخصوصه بتوسط عنوان

ص: 309

عام ، فليكن كذلك باب الاستعمال ، فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني بتوسط عنوان عام.

ويدفع هذا النقض : بالفرق بين باب الاستعمال وباب الوضع ، بان اللفظ يكون في باب الاستعمال فانيا في المعنى وليس كذلك في باب الوضع ، فانّه ملحوظ بالاستقلال. واما نفس الوضع فهو كالحكم لا يحتاج إلاّ إلى لحاظ الموضوع له ، فلاحظ.

ثم انه قد ذكر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى وجه آخر غير ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية. وبيانه بالإجمال : ان لازم استعمال اللفظ في أكثر من معنى اجتماع لحاظين للمعنيين في آن واحد وهو ممتنع (1).

ويندفع هذا الوجه بما حقق من قابلية النّفس لحصول صورتين لمعنيين في آن واحد ، ويستشهد على ذلك بشواهد :

منها : ان الشخص قد يفعل فعلين في آن واحد ، كأن يقرأ ويكتب مع ان الفعل امر اختياري يتوقف على اللحاظ والتصور ، فانه من مبادئ الإرادة.

ومنها : الحكم على الموضوع بالمحمول ، فانه يتوقف على لحاظ كل من المحمول والموضوع كي يتّجه حكمه به عليه وحمله على الموضوع.

وبالجملة : فاندفاع هذا الوجه واضح.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، توضيحه : إن الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي ، بمعنى ان يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبما ان الإيجاد متحد مع الوجود حقيقة وذاتا وان اختلف بحسب الاعتبار امتنع استعمال اللفظ في معنيين ، إذ يستحيل ان يكون الوجود الواحد إيجادا لكل من المعنيين بنحو يكون إيجادين

ص: 310


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 64 - الطبعة الأولى.

للمعنيين ، نعم الوجود الواحد يكون إيجادا لكلا المعنيين ممكن ، لكن ان يكون إيجادين ممتنع ، لأنه إذا كان إيجادا لهذا المعنى فقد امتنع ان يكون في نفس الوقت إيجادا آخر للمعنى الآخر.

هذا توضيح ما ذكره ، وقد اختلف تعبيراته. فعبر في الحاشية : بان الاستعمال إيجاد المعنى تنزيلا (1). وعبر في الأصول على النهج الحديث : بأنه إيجاد للمعنى بالعرض (2). وعلى كل فغرضه ما ذكرناه من امتناع ان يكون الوجود الواحد إيجادا لهذا المعنى وإيجادا لذلك المعنى.

وقد أورد عليه :

أوّلا : بان الوجود الواحد لا يمكن ان يكون إيجادا لمعنيين انما هو في الوجود الحقيقي العيني لا التنزيلي ، لأنّ التنزيل ترجع سعته وضيقه إلى المنزل ، فيمكن ان ينزل اللفظ منزلة المعنيين.

وثانيا : بان الشيء الواحد يمكن ان يكون وجودا بالعرض لمعان متعددة إذ يمكن ان يتعنون الشيء بعناوين متعددة بلا كلام (3).

ويردّ الأول : بان المدعى امتناع كون اللفظ الواحد إيجادين لمعنيين ولو تنزيلا لا إيجادا لهما. فإمكان تنزيل اللفظ منزلة المعنيين لا يعني إمكان كون اللفظ إيجادين لمعنيين.

ويردّ الثاني : بان تعدد العناوين المنطبقة على شيء واحد انّما هو لتعدد الجهات التي يشتمل عليها الشيء ، فينتزع عن كل جهة عنوان خاص ، وإلاّ فيمتنع انتزاع عناوين متعددة عن جهة واحدة في الشيء كما لا يخفى.

ص: 311


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 64 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث /42- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 148 - الطبعة الأولى.

والمتحصل : ان ما ذكره المحقق الأصفهاني وجيه في نفسه ، إلاّ أنّ الإشكال في أصل مبناه ، وهو كون الاستعمال إيجاد المعنى تنزيلا باللفظ ، فانه وان وقع في كلام الفلاسفة ، إلاّ انه لا يعلم له وجه ظاهر ولم يذكر دليل عليه ، بل هو يقع في الكلمات بنحو إرسال المسلمات ، فهو قابل للإنكار لأنه دعوى بلا دليل ، بل قد مر عليك ما يوهنه من عدم تصور معنى معقول لتنزيل اللفظ منزلة المعنى فراجع (1).

والّذي ننتهي إليه انّ امتناع الاستعمال في أكثر من معنى وإمكانه يبتني على تفسير الاستعمال وحقيقته ، وكونها إفناء اللفظ في المعنى أو جعله علامة عليه ، فيمتنع على الأول ويمكن على الثاني كما تقدم.

وقد بنى السيد الخوئي كون حقيقة الاستعمال أحد هذين المعنيين على ما يختار في حقيقة الوضع ، فان اختير انها تنزيل اللفظ منزلة المعنى كان الاستعمال إفناء للفظ في المعنى وإيجادا للمعنى باللفظ ، فيمتنع ان يكون الاستعمال في أكثر من معنى كما عليه صاحب الكفاية. وان اختير - كما هو الحق لديه - ان حقيقة الوضع هي التعهد والقرار كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى ، لأن الاستعمال ليس إلاّ فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلم تفهيمه ، فلا مانع من ان يكون علامة لإرادة المعنيين المستقلين. كما ان تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له أو بجعل اللفظ على المعنى اعتبارا لا يستدعي فناء اللفظ في المعنى في مقام الاستعمال.

والّذي ينتهي إليه أخيرا هو جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأنه يختار كون حقيقة الوضع هي التعهد الّذي لازمه كون الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى المقتضي لإمكان الاستعمال في أكثر من معنى (2).

ص: 312


1- راجع 1 / 58 من هذا الكتاب.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 207 - الطبعة الأولى.

هذا محصل كلامه. ولكنه غير سديد ، وذلك لأن حقيقة الاستعمال وكونها إفناء اللفظ في المعنى أو جعل اللفظ علامة للمعنى لا ترتبط بحقيقة الوضع ولا تبتني عليها أصلا ولم يظهر وجه الملازمة بينهما ، بل يمكن دعوى ان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى ولو ادعى ان الوضع هو التعهد ، إذ ما يحصل بالوضع أيا كانت حقيقته هو العلاقة بين اللفظ والمعنى والارتباط بينهما ، فيكون اللفظ قابلا للكشف عن المعنى ، فيتكلم حينئذ ان الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو جعله مرآتا له؟ ، سواء كان الوضع هو التعهد أو غيره ، وما يستدل به على أحد الطرفين في باب الاستعمال جار على جميع تقادير الوضع ، وما ادعي من الملازمة لا يعلم له وجه.

ويشهد لذلك : بعض الموارد العرفية ، فمثلا لو تعهد شخص بأنه متى ما أراد ان يقرأ فهو يضع النظارة على عينيه ويستعملها ، أو متى ما أراد ان يرى وجهه يستعمل المرآة ، فانه إذا استعمل النظارة أو المرآة جريا على طبق تعهده لا يشك أحد أن كلا من النظارة والمرآة يكون فانيا في المقصود الأصلي وملحوظا طريقا وآلة إليه ، مع ان الاستعمال كان جريا على طبق التعهد والالتزام النفسيّ لا شيء آخر. فان ذلك دليل على ان التعهد لا يلازم تعلق النّظر الاستقلالي بالمستعمل ولا يتنافى مع تعلق النّظر الآلي به.

كما يدل على ما ذكرناه : ان عنوان النزاع أعم من الوضع ، لأنه يتعدى إلى الاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي أو المعنيين المجازيين ، مع انه لا وضع هاهنا كي يبتنى جواز الاستعمال وعدمه على تحقيق حقيقته. ومقتضى ما ذكر عدم جريان النزاع في ذلك المورد مع ان جريانه وتأتي كلا القولين في الاستعمال أمر لا شبهة فيه ولا تتوقف عنده ، فتدبر.

ونتيجة ما ذكرناه : انّ البناء على إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى وامتناعه يبتني على تحقيق انّ الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو

ص: 313

جعله فانيا فيه؟ ، فيجوز الاستعمال في أكثر من معنى على الأول لعدم المحذور فيه كما قدمنا ، ويمتنع على الثاني لمحذور اجتماع اللحاظين في آن واحد. وبما ان صاحب الكفاية اختار الثاني بنى على الامتناع عقلا. كما انه قد تقدم منّا في أوائل مبحث الوضع ان الاستعمال جعل اللفظ طريقا وفانيا في المعنى ، فالمتعين الالتزام بامتناع الاستعمال في أكثر من معنى عقلا ولا يفرق في ذلك بين المفرد وغيره والمعنى الحقيقي والمجازي لسريان المحذور في جميع صور الاستعمال بلا فرق.

ثم انه لو تنزلنا وقلنا بإمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى بمقتضى الحكم العقلي ، فما هو حكم ذلك بحسب القواعد الأدبية وبمقتضى أصل الوضع؟. الحق هو الجواز ، إذ لا مانع من ذلك ، إلاّ ما قيل من انّ اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء لقيد الوحدة ، فلا يكون الاستعمال فيما وضع له اللفظ ولكنه موهون جدا ، إذ فيه :

أولا : ان الموضوع له ذات المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة فيه. ويدل على ذلك مراجعة الوجدان ، وتبادر أهل العرف في عملية الوضع ، فان الإنسان حال الوضع لا يلحظ سوى ذات المعنى ويضع له اللفظ.

وثانيا : انه لو سلم كون الموضوع له هو المعنى بقيد الوحدة ، فلا يستلزم منع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ يكون حينئذ استعمالا مجازيا للمحافظة على ذات الموضوع له ولا مانع منه. فتأمل. وهناك إيرادات تذكر على هذا الإشكال لا حاجة إلى التعرض إليها لوضوح وهن الإشكال.

واما البحث في تحقيق مقتضى الظهور العرفي للكلام بعد تسليم الجواز ، وان الظاهر من الكلام عند عدم القرينة جميع المعاني الموضوع لها اللفظ أو أحدها غير المعين فيكون الكلام مجملا؟ كما تعرض إليه السيد الخوئي ( حفظه

ص: 314

اللّه ) (1) ، فهو غير متين بناء على الالتزام واقعا بالامتناع ، إذ البحث التنزيلي لا يجدي في تحقيق المطلب ، لأن الحكم على العرف ، باستظهاره وعدم استظهاره لا بد وان يلحظ فيه استعمالات العرف ونظرهم في ترتيب الآثار عليها ، فمع الالتزام بامتناع الاستعمال وانه لا يصدر من أحد لا يمكن الحكم بان الظاهر عند الاستعمال - لو قيل بالجواز - كذا ، إذ هو رجم بالغيب ولا أساس له في الخارج. نعم من يقول بالجواز وصدور الاستعمال خارجا - كالسيد الخوئي - اتجه له البحث عن هذه الجهة. فتدبر.

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره أشار إلى تفصيل صاحب المعالم رحمه اللّه في المقام وناقشه.

اما تفصيل المعالم : فهو القول بالجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في التثنية والجمع. وعلله في المعالم : بان اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور ، فيكون استعمالا في غير ما وضع له ، ويكون مجازيا بعلاقة الجزء والكل ، إذ اللفظ الموضوع للكل استعمل في الجزء. ولا يجيء هذا البيان في غير المفرد لأن التثنية والجمع في قوة تكرار اللفظ فيكون لهما حكم التكرار ، فكما يصح إرادة معنى معين من لفظ : « عين » وإرادة غيره من لفظ : « عين » آخر ، يصح إرادة المعنيين معا من لفظ : « عينين » بلا تجوّز لأنهما في قوة قولك : « عين وعين » (2).

واما المناقشة : فبان اللفظ لم يوضع الا إلى نفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة ، وإلاّ لامتنع استعمال اللفظ في الأكثر ، إذ الأكثر يباين المعنى الموضوع له مباينة الشيء بشرط لا والشيء بشرط شيء ، إذ الموضوع له هو المعنى بشرط

ص: 315


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 209 - الطبعة الأولى.
2- العاملي جمال الدين ، معالم الدين / 32 - الطبعة الأولى.

ان لا يكون معه غيره والمستعمل فيه هو الشيء بشرط ان يكون معه غيره ، فلا علاقة بينهما كما ادّعي كي يصحح الاستعمال المجازي ، بل بينهما المباينة المانعة من الاستعمال.

هذا بالنسبة إلى المفرد ، واما بالنسبة إلى التثنية والجمع ، فالمناقشة فيهما بوجهين :

أحدهما : ان التثنية والجمع وان كانا بمنزلة تكرار اللفظ ، إلاّ ان الظاهر ان المراد من كل لفظ فرد من افراد معناه ، فيراد من المثنى فردان من طبيعة واحدة لا معنيان.

والإيراد على ذلك بتثنية الاعلام ، فانّ المراد من المثنى معنيان ، إذ الموضوع له كل لفظ مباين للآخر ، وليس الموضوع له هو الطبيعة كي يقبل الافراد ، بل الموضوع له هو الفرد ، فلا معنى لأن يراد به فردان بل معنيان.

مدفوع : بالتزام التأويل بورود التثنية على المسمّى ، فيكون المعنى من :

« زيدين » فردين من مسمى زيد مثلا ، والمسمى طبيعة يتصور لها افراد.

ثانيهما : انه لو قلنا بعدم التأويل ، وان الموضوع له المثنى هو المتعدد أعم من ان يكون فردين من معنى واحد أو معنيين ، بحيث يكون استعماله وإرادة معنيين استعمالا حقيقيا ، لو قلنا بذلك ، لم يكن إرادة معنيين من المثنى من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأنه هو معنى اللفظ فيكون المستعمل فيه اللفظ معنى واحد ، كما لو أريد فردان من معنى واحد. نعم يكون استعمال اللفظ وإرادة فردين من معنى وفردين من آخر من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ولكنه لا دليل على جوازه حقيقة ، إذ حديث التكرار لا يجدي حينئذ لإلغاء قيد الوحدة فيه ، لأن الموضوع له هو المتعدد من معنيين أو فردين بقيد الوحدة. فتدبر.

هذا ملخص ما ذكره صاحب الكفاية وهو وجيه ، كما لا يخفى (1).

ص: 316


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /37- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لكن السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) نهج في مناقشته لصاحب المعالم نهجا آخر ، فقد جاء في مناقشته ما محصله : ان في التثنية والجمع وضعين : أحدهما للمادة. والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون. اما الهيئة فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. واما المادة فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتى الخصوصية اللابشرطية ، فإذا أريد من العين مثلا معنى واحد وهو الذهب ، فلا يعقل ان يراد من المثنى أكثر من طبيعة واحدة ، إذ المراد بالمادة معنى واحد وطبيعة واحدة والمراد بالهيئة المتعدد من مدخولها ، فمقتضى ذلك إرادة فردين من مدخولها لأن مدخولها طبيعة واحدة ، فالتعدد فيها يكون بإرادة فردين منها ولا دليل آخر يدل على إرادة طبيعتين كما لا يخفى (1).

ولكنه وان كان تاما في نفسه واقعا أو تنزلا ، إلاّ انه لا يتجه ان يكون نقاشا مع صاحب المعالم ، فانه انما يصلح ذلك لو كان ما ذكره من تعدد الوضع في التثنية والجمع وجهة الوضع أمرا مسلما لدى صاحب المعالم فيؤاخذ به ويلزم بمقتضاه. ولكنه لم يثبت بناء صاحب المعالم عليه ، فقد يرى ان التثنية ليس لها إلاّ وضع واحد والموضوع له هو المتعدد ، ولعله هو المستظهر من كلامه ، فالمتعين هو المناقشة بما ذكره صاحب الكفاية فلاحظ.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره قد حرر النزاع في التثنية والجمع بنحوين : الأول : الامتناع في المفرد والجواز في المثنى والجمع. الثاني : الجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في المثنى والجمع (2).

ولا يخفى ان تحرير النزاع بالنحو الثاني له وجه. واما تحريره بالنحو الأول فلا يتناسب مع البحث العلمي - وان كان ذلك من جملة أقوال المسألة - ،

ص: 317


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 211 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 152 - الطبعة الأولى.

وذلك لأنه بعد اختيار الامتناع بالمحذور العقلي الّذي ذكرناه لا تتجه دعوى الجواز في التثنية والجمع ، لسراية المحذور في جميع الصور كما تقدم. وعلى كل فالامر سهل جدا.

تذييل : ورد في الحديث : « ان للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا » (1). فقد يتوهم منافاة ذلك لما قرر من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ ظاهره ان المعاني المقصودة من الألفاظ القرآنية بهذا العدد ، وهو لا يجتمع مع الالتزام بمحالية إرادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد ، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن جوازه.

وقد دفع صاحب الكفاية رحمه اللّه هذا الوهم بعدم دلالة الحديث عن كون قصد هذه المعاني من باب قصد المعنى من اللفظ ، بل يحتمل فيه أحد وجهين :

الأول : ان يراد منه إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى الواحد ، لا انها مرادة من اللفظ.

الثاني : ان يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كانت تلك اللوازم المتعددة خفيّة بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها (2).

وقد رجّح السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات بحثه - الاحتمال الثاني ونفي الأول بوجهين :

الأول : ان إرادة المعاني في أنفسها لا توجب عظمة القرآن وعلو منزلته ، إذ يمكن ذلك في غير الاستعمالات القرآنية من الاستعمالات العرفية ، بل يمكن ذلك في مورد الكلام بالألفاظ المهملة ، إذ يمكن ان ترد على الذهن في حال

ص: 318


1- الكافي 2 / 599 باب فضل القرآن. حديث : 2.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /38- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التكلم معان كثيرة.

الثاني : انه يلزم ان لا تكون هذه المعاني بطونا للقرآن ، إذ هي بذلك تكون أجنبية عنه.

وهذان الأمران يخالفان مقتضى الروايات الواردة في مقام بيان عظمة القرآن بذلك ، وان هذه المعاني معاني القرآن وبطونه لا انها أجنبية عنه. ثم ذكر بعض الروايات الناطقة بذلك ، وبعد ذلك رجح الثاني وادعى ظهور الروايات الكثيرة فيه (1).

ونحن ان لاحظنا أصل المطلب من وجود البطون للقرآن وأغمضنا النّظر عن ما يكشف المطلب من نصوص ، فان التحقيق في نحو دلالتها يحتاج إلى بحث مفصل طويل ، نرى ان الكفّة الراجحة في جانب الاحتمال الأول لا الثاني ، إذ لا عظمة للقرآن بوجود لوازم لمعناه المقصود خفية عن أذهان الناس لا تصل إليها عقولهم وإدراكاتهم ، فانه لا يتصف بذلك بالعظمة وشرف المنزلة كما لا يخفى. اما كون الجمل القرآنية قابلة في نفسها للتطبيق على معان متعددة مرادة في نفسها ودالة في حد ذاتها على عدد كبير من المعاني وان أريد منها معنى واحد لا الجميع ، بحيث يمكن للفكر الدّقيق الثاقب ان يصل إلى بعض تلك المعاني بالتأمل والتعمق في آيات الكتاب ، فهو من عظمة القرآن والتركيب الكلامي لجمله ، إذ قلّ من الجمل العرفية ما يمكن تطبيقه على متعدد من المعاني ، فإيراد تركيب قابل للتطبيق على عدد كبير من المعاني وفرض ورود تلك المعاني في نفس المتكلم والتفاته إليها وتحرّيه في إيراد ما يمكن تطبيقه عليها من التراكيب الكلامية دليل على عظمة ذلك المتكلم وسعة أفق تفكيره في الاطلاع على دقائق الألفاظ ومعانيها.

ص: 319


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 213 - الطبعة الأولى.

وقد يضرب تقريبا لذلك بعض الأمثلة العرفية ، ولا أظنني بعد هذا البيان بحاجة إلى ذكرها فتدبر.

تتمة : يحسن بنا ان يكون ختام البحث في هذه المسألة تحقيق ما جاء في بعض كلمات الفقهاء من عدم جواز قصد معاني آيات الكتاب الّذي تقرأ في الصلاة ، لأن ذلك محل الابتلاء ولعلاقته بالمسألة.

وقد وجّه امتناع ذلك : بان المطلوب في الصلاة هو القراءة ، وهي - أعني القراءة - استعمال اللفظ في اللفظ ، فإذا قصد بالآية المعنى الّتي استعملت فيه كان ذلك من استعمال اللفظ في المعنى ، وهو يوجب عدم تحقق القراءة لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فإذا استعمل في المعنى امتنع استعماله في اللفظ فلا تتحقق القراءة ، مع انه قد ورد في الروايات استحباب ذلك والحث عليه وان كمال الصلاة بقصد المعنى والالتفات إليه (1).

وقد أجيب عن هذا الوجه بوجوه :

الأول : ان قصد المعنى من اللفظ لا يكون في عرض القراءة ، بل في طولها ، بمعنى انه يقصد الحكاية عن اللفظ باللفظ ويقصد في نفس الوقت الحكاية عن المعنى باللفظ المحكي لا الحاكي فلا محذور فيه ، إذ لم يستعمل اللفظ في معنيين بل كل لفظ مستعمل في معنى (2).

وهذا الوجه واه جدا. وقد قيل في إبطاله وجوه متعددة. والوجه الواضح في الإشكال فيه : هو انه يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد. بيان ذلك : ان اللفظ المحكي باللفظ بما انه محكي ومستعمل فيه يكون ملحوظا بالاستقلال ، وبما انه حاك عن المعنى وفان فيه يكون ملحوظا آلة ،

ص: 320


1- وسائل الشيعة 4 / 826 باب : 3 من أبواب قراءة القرآن. حديث : 6 و 7.
2- ذهب إليه السيد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى 6 / 288 - 289.

فيجتمع فيه اللحاظان في آن واحد. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لإبطاله ، لا نطيل البحث بذكره ، بعد وضوح بطلان الوجه (1).

الثاني : ان يحمل ما ورد من الروايات في هذا المقام على الحث على قصد المعنى مقارنا للقراءة لا قصده بها ، فتطلب الهداية مقارنا لقراءة : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (2) ، لا انها تطلب بها (3).

وهذا الوجه وان كان يتخلص به عن المحذور المذكور ، إلاّ انه في الحقيقة التزام به والتخلص بتأويل ، كما لا يخفى.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية ، وإليك نصّ عبارته : « ويمكن ان يجاب أيضا : بان القراءة ليست الحكاية عن الألفاظ بالألفاظ واستعمالها فيها ، بل ذكر ما يماثل كلام الغير من حيث انه يماثله في قبال ذكره من تلقاء نفسه ، وهذا المعنى غير مشروط بعدم إنشاء المعنى به حتى يلزم الجمع بين اللحاظ الاستقلالي والآلي فيما يماثل كلام الغير من حيث انه يماثله بقصد المعنى ، فان من مدح محبوبه بقصيدة بعض الشعراء ، فقد قرأ قصيدته ومدح محبوبه بها ، نعم لو لم يلتفت إلى ذلك ومدحه بها أنشأ من تلقاء نفسه لم يصدق القراءة وان كان مماثلا لما أنشأه الغير. فتدبر جيدا » (4).

والتحقيق في المقام ان يقال : ان القراءة إيجاد طبيعي المقرو بفرده مع قصد ذلك.

بيان ذلك : ان الشعر عبارة عن تصوير المواد اللفظية بصورة خاصة ، فانه هو عمل الشاعر. اما نفس المواد فهي موجودة في نفسها ولا يوجدها الشاعر ، والصورة التي يحدثها الشاعر للمواد اللفظية عارضة على طبيعي الألفاظ في

ص: 321


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 68 - الطبعة الأولى.
2- سورة الحمد : الآية : 6.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 68 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 68 - الطبعة الأولى.

ذهنه ، ثم بعد ان ينظمها بالنظم الخاصّ في ذهنه يلقيها خارجا بتلك الصورة ، فالموجود خارجا فرد من افراد الشعر لا نفس الشعر ، وانما الشعر موجود في الذهن فانه الصورة الخاصة والكيفية المعينة لطبيعي الألفاظ. وعليه ، فإذا جاء المتكلم بتلك الألفاظ بصورتها الخاصة ، فقد أوجد الشعر بوجود فرد من افراده ، فيقال : انه قرأ الشعر بهذا الاعتبار. نعم شرطه ان يقصد إيجاد الشعر بفرده ، فإذا لم يقصد ذلك بل قصد إلقاء هذا الكلام على أنّه منه لم يعدّ عرفا قارئا للشعر ، بل يعدّ سارقا لشعر غيره.

والقرآن كالشعر ، فانه الألفاظ المعينة المصورة بصورة خاصة ، وتلك الصورة واردة على طبيعي اللفظ أو متحققة في نفس الوحي أو النبي صلی اللّه علیه و آله ، وما يلقيه خارجا من الكلام القرآني يعد فردا من افراد القرآن ، ولذلك يقال : انه قرآن لوجوده به ، فقراءة القرآن عبارة عن إيجاد طبيعي القرآن بفرده بهذا اللحاظ ، فيقال للقارئ انه قرأ القرآن لأنه قرأ ما يعبر عنه بالقرآن لكونه وجودا له لأنه فرده. وعليه ، فليست القراءة من استعمال اللفظ في اللفظ وحكايته عنه فلا يمتنع قصد المعنى معها.

واما ما ذكره المحقق الأصفهاني ، فهو انما يتجه لو أريد من القرآن أو الشعر نفس الكلام الملقى خارجا فيكون الفرد الآخر من المماثل له ، ومعه لا نسلم صدق القراءة على إيجاد المماثل بعنوان انه مماثل فقط ، إذ إيجاد المماثل لا يعد عرفا إيجاد المماثلة كي يقال انه قرأ الشعر أو القرآن ، بل يقال انه أوجد ما يماثل شعر فلان أو ما يماثل القرآن. نعم انّما يكون إيجادا له ويعد عرفا كذلك لو قصد الحكاية عنه والكشف بالمماثل ، ولكنه بذلك يعود المحذور.

وبالجملة : فما ذكره المحقق الأصفهاني لا يمكننا التسليم به بسهولة ، إذ قراءة الشعر انما تكون بأحد نحوين : اما إيجاد اللفظ بقصد الحكاية عن الشعر ، فيقال انه قرأ الشعر. واما إيجاد فرد للشعر ، فيقال عن الموجد انه شعر فلان وعلى

ص: 322

قراءته انها قراءة شعره ، وهو ما حققناه وهو لا يتجه إلاّ بفرض الشعر ونحوه كليا يوجد بهذه الافراد. اما صدق قراءة الشعر بدون أحد هذين النحوين ، بل بإيجاد فرد مماثل بعنوان المماثلة فهو ممنوع ، بل لا يصدق سوى إيجاد فرد مماثل للشعر وقراءته لا انه الشعر.

ونتيجة ما ذكرناه : انه لا مانع من قصد المعنى مع صدق القراءة في الصلاة ولا وجه للإشكال فيه.

ص: 323

ص: 324

المشتقّ

اشارة

ص: 325

ص: 326

المشتق

لا إشكال في ان المشتق ك- : « العالم » حقيقة في المتلبس فعلا ومجاز في من يتلبس في المستقبل. وانما الإشكال في انه في المتلبس في الماضي بنحو الحقيقة أو المجاز ، والنزاع انما يقع في ان مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ هو خصوص المتلبس ، أو الأعم منه وممن انقضى عنه التلبس ، لا في مرحلة الصدق والحمل مع غض النّظر عن الجزم بمفهومه واسعا أو ضيقا بان يكون في ان صدق المشتق على المنقضي هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز؟. إذ لا مجال للنزاع في ذلك بعد معرفة مفهومه والموضوع له ، فان المفهوم ان كان واسعا ، بمعنى انه كان الأعم من المنقضي والمتلبس كان صدقه على المنقضي عنه التلبس حقيقة بلا إشكال.

وان كان ضيقا كان صدقه عليه مجازا بلا ريب.

ولكن المحقق الشيخ هادي الطهراني حاول ان يجعل النزاع في هذه المرحلة جاريا لا في مرحلة المفهوم. بتقريب : ان وجه النزاع في الحمل مع عدم الاختلاف في المفهوم هو ان الّذي يقول بعدم صحة الإطلاق على المنقضي عنه التلبس يرى ان سنخ الحمل في المشتقات كسنخه في الجوامد ، فلا يصح إطلاق لفظ المشتق على من زال عنه التلبس بالمبدإ - كما لا يصح إطلاق لفظ الماء على ما زالت عنه صورة المائية - باعتبار أن المشتق عنوان انتزاعي ، فصدقه تابع لمنشأ

ص: 327

انتزاعه فبعد الانقضاء يرتفع منشأ الانتزاع فلا يتجه صدق المشتق. ومن يقول بصحة الإطلاق يرى وجود الفرق بين حمل الجوامد وحمل المشتقات ، فان الأول حمل هو هو فلا يصح لأن يقال للهواء انه ماء. والثاني حمل ذي هو وحمل انتساب فيكفي فيه مجرد حصول الانتساب ولو في آن ما فيصح إطلاق المشتق على المنقضي بهذا اللحاظ. بهذا التقريب وجّه جريان النزاع في مرحلة الصدق مع غض النّظر عن المفهوم وحقيقته (1).

وقد تحامل عليه المحقق الأصفهاني بما لم يعهد منه بالنسبة إلى علم من الاعلام كالمحقق الطهراني.

وحاصل الإشكال في كلامه : انه خلط بين حمل مبدأ الاشتقاق وبين حمل نفس المشتق ، فان حمل الأول حمل ذو هو ، إذ لا يصح حمل البياض على الجسم حمل مواطاة وحمل هو هو ، بل يحمل عليه بواسطة ذي ، فيقال : الجسم ذو بياض. بخلاف نفس المشتق فان حمله حمل هو هو المعبر عنه بحمل المواطاة ، إذ يمكن إثبات المشتق للذات وانه هو الذات فيقال : الجسم أبيض ، ولا يحتاج في حمله إلى واسطة فلا يقال الجسم ذو أبيض ، فليس حمل المشتق حملا ذا هو بل حملا هو هو ، فيكون كحمل الجوامد ، فلاحظ جيدا (2).

وإذا اتضح موضوع النزاع وجهته وانه في سعة مفهوم المشتق وضيقه فلا بد من بيان أمور :

الأمر الأول : في بيان المراد من المشتق المأخوذ في موضوع المسألة.

والّذي يراد به كل وصف يحمل على الذات ويجري عليها بملاحظة اتصافها بمبدإ ما ، سواء كان مشتقا في الاصطلاح وهو ما كان له وضع لمادته

ص: 328


1- الطهراني المحقق الشيخ هادي. محجة الأصول /- الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية1/ 69 - الطبعة الأولى.

ووضع لهيئته كالعالم والقائم ونحوهما. أو كان جامدا بحسب الاصطلاح وهو ما كان له وضع واحد بمادته وهيئته كالزوج والحرّ وغيرهما. اما ما لا يجري على الذات من الأوصاف وغيرها فلا يدخل في محل النزاع وان كان مشتقا بحسب الاصطلاح كالمصدر والفعل بأقسامه ، إذ لا يصح حملها على الذات فلا يتجه النزاع في صدقها على المنقضي عنه التلبس أو عموم مفهومها للمتلبس كما هو واضح.

وبذلك يتبين كون النسبة بين المشتق في مورد النزاع والمشتق بحسب الاصطلاح هي العموم من وجه ، إذ يفترق الأول عن الثاني في الجوامد بحسب الاصطلاح ، ويفترق الثاني عن الأول في بعض المشتقات الاصطلاحية كالمصدر.

والوجه في تعميم النزاع في المشتق فيما نحن فيه لكل ما يجري على الذات بملاحظة اتصافها بمبدإ ما ولو كان جامدا هو عموم الملاك لجميع الأقسام ، مضافا إلى ما جاء في كلمات الأصحاب مما يظهر منه تعميم النزاع ، كما ورد في الإيضاح لفخر المحققين (1) ، والمسالك للشهيد (2) من ابتناء حرمة الزوجة الكبيرة الثانية للصغيرة على مسألة المشتق فيما لو كان له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرة ، فانه تحرم عليه بذلك الكبيرة والصغيرة ، لصيرورة الكبيرة بالإرضاع أم الزوجة والصغيرة بنت الزوجة ، ثم أرضعت الثانية الصغيرة ، فان حرمتها تبتني على ان يكون المشتق حقيقة في المنقضي ، إذ يصدق على الكبيرة الثانية أنها أم زوجته فعلا ، ومع عدم كونه حقيقة في المنقضي لا تحرم الكبيرة لعدم صدق أم الزوجة عليها فعلا.

ونحن لسنا في مقام تحقيق صحة ترتيب هذه الثمرة بلحاظ المقام وعدمها

ص: 329


1- إيضاح الفوائد 3 / 52 ، أحكام الرضاع.
2- مسالك 1 / 379 ، كتاب النكاح.

إذ لا يهمنا ذلك وهو موكول إلى بحث الرضاع بل كان المهم بيان جريان النزاع في الجوامد وسريانه إليها ، إذ عنوان الزوج والزوجة منها كما هو واضح.

نعم لا بد من بيان شيء ، وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني (1) من ابتناء حرمة الكبيرة الأولى على مسألة المشتق وعدم اختصاص حرمة الثانية بذلك. ببيان : ان التي تحرم هي أم الزوجة وبنتها ، وأمومة المرضعة وبنية المرتضعة متضايفتان ، فانه لا يعقل صدق إحداهما بدون صدق الأخرى ، كما ان بنتية المرتضعة للزوجة وزوجيتها متضادتان شرعا ولا يمكن اجتماعهما. وعليه ففي مرتبة حصول أمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة للتضايف ، وفي تلك المرتبة تزول الزوجية لتضادها. وعليه ، فالمرضعة لا تكون أم الزوجة فعلا لزوال الزوجية في مرتبة حصول الأمومة ، فتبتني الحرمة على تحقيق ان المشتق حقيقة في المنقضي عنه التلبس فيصدق على الكبيرة انها أم الزوجة ، وإلاّ فلا يصدق عليها هذا العنوان فلا تحرم بذلك فتدبر (2).

ص: 330


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 70 - الطبعة الأولى.
2- وتحقيق مسألة الرضاع بالنسبة إلى المرضعة الأولى : انه .. ان كان المقصود من بنت الزوجة وأم الزوجة هي بنت الزوجة فعلا وأمها فعلا ، كان كل من الدليلين رافعا لموضوع الآخر ، لأن تحريم بنت الزوجة يرفع صدق أم الزوجة على المرضعة ، وتحريم أم الزوجة يرفع صدق بنت الزوجة على المرتضعة ، فيكون المورد من موارد التوارد والتحاكم ، وفي مثله يسقط الدليلان عن الاعتبار. وان كان المقصود من بنت الزوجة بنت من كانت زوجة ، كان دليل تحريم البنت رافعا لموضوع تحريم الأم ولا عكس. فيعمل بأحدهما دون الآخر. كما انه لو بني على ان المشتق حقيقة في الأعم لم يكن كل من الدليلين رافعا لموضوع الآخر ، فيعملان معا وتحرمان معا. هذا تحقيق المسألة. واما ما سلكه المحقق الأصفهانيّ ، فهو أشبه بالمصادرة ونفس الدعوى ، إذ كان عليه ان يبين السر في تحريم بنت الزوجة دون أمها ، وقد أخذ تحريم بنت الزوجة مفروغا عنه. مضافا إلى انه عبر بوحدة الرتبة بين البنتية وعدم الزوجية ، مع ان عدم الزوجية حكم لبنت الزوجة ، فهو متأخر عنه.

ثم انه لا يدخل في موضوع النزاع ما كان من الجوامد منتزعا عن نفس الذات كالإنسان والحجر والشجر ، فانها تنتزع عن مرحلة تحصل الأجناس بفصولها وهي مرحلة الذات والتقرّر. والوجه في عدم شمول النزاع لها هو : انه بانعدام منشأ انتزاعها لا تبقى الذات كي يقع الكلام في صدق المشتق عليها أو كون المشتق حقيقة فيها أولا؟ إذ مع عدم بقاء الذات في صورة زوال التلبس يكون النزاع عديم الأثر والثمرة ، بل لا معنى له إذا كان في الصدق لا في المفهوم.

وبذلك يتضح ان موضوع النزاع ما كان من الأوصاف جاريا على الذات ولم يكن منتزعا عن نفس الذات بحيث يكون ارتفاع منشأ الانتزاع مساوقا لارتفاع الذات ، لأن النزاع في كون المشتق حقيقة في الذات المنقضي عنها التلبس أو في صدقه عليها ، ولازم ذلك فرض بقاء الذات بعد زوال التلبس في موضوع الكلام. فلاحظ.

ومن هذه الجهة قد يشكل وقوع النزاع في أسماء الزمان باعتبار ان الزمان ينقضي ويتصرم ولا استقرار له. وعليه فلا يتصور فيه وجود ذات انقضى عنها التلبس كي يقال ان اسم الزمان حقيقة فيها أولا ، فالذات غير محفوظة في كلتا الحالتين.

وقد أجاب عنه في الكفاية بوجهين :

الأول : - حلّي - وهو ان النزاع في مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ وانه هو خصوص المتلبس أو الأعم ، وذلك لا يرتبط بتحقق مصداقي العام خارجا وعدم تحققه ، إذ البحث في المفهوم لا ينظر فيه إلى المصاديق فلا يكون عدم تحقق المصداق وانحصاره في فرد موجبا لنفي صحة النزاع في المفهوم من جهة سعته وضيقه.

الثاني : النقض بلفظ الواجب ، فانه موضوع للمفهوم العام مع انحصاره

ص: 331

في ذات الباري جل اسمه ، وبوقوع النزاع في الموضوع له لفظ : ( اللّهِ ) وانه هل هو مفهوم واجب الوجود أو انه علم للذات المقدسة؟ ، مع انحصاره خارجا بالذات المقدسة (1).

والتحقيق ان يقال : ان صيغة : « مفعل » ، كمقتل ومضرب ومرمى ونحوها ، اما ان يلتزم بأنه موضوع بوضعين أحدهما للزمان والآخر للمكان. أو يلتزم بوضعها لمعنى واحد جامع بين الزمان والمكان ، وهو وعاء المبدأ وظرفه سواء كان زمانا أو مكانا. فمقتل موضوع لوعاء القتل سواء كان زمانا أو مكانا لا انه موضوع بوضع مستقل لزمان القتل وبوضع آخر لمكان القتل.

فعلى الأول : لا يتجه النزاع في اسم الزمان للغويته وعدم ترتب الأثر عليه ، لعدم مصداق مورد الأثر ، وهو الذات المنقضي عنها التلبس.

وعلى الثاني : يتجه النزاع ، إذ يكفي في صحته ترتب الثمرة بالنسبة إلى بعض المصاديق التي ينطبق عليها العنوان وهو المكان وان لم تكن هناك ثمرة بالنسبة إلى الزمان ، إذ الوضع واحد فيبحث عن سعة دائرة الموضوع له وضيقه لترتب الثمرة على ذلك ولو في بعض الموارد والمصاديق. فانه كاف في تصحيح وقوع النزاع.

ومن هنا يظهر الفرق بين اسم الزمان والوصف الجامد المنتزع عن الذات. إذ الوصف الجامد موضوع لخصوص الذات لفرض كونه جامدا فلا يتجه البحث عن خصوصية الموضوع له فيه بعد ان لم يكن للذات بقاء مع زوال المبدأ ومنشأ الانتزاع. بخلاف اسم الزمان على المبنى الثاني ، فانه لم يوضع لخصوص الزمان كي يكون البحث فيه لغوا كما هو مقتضى المبنى الثاني ، بل وضع للأعم من الزمان والمكان فيمكن وقوع البحث عنه ولو بلحاظ ترتب الثمرة في المكان.

ص: 332


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبالجملة : البحث في النتيجة لا يكون عن الموضوع له اسم الزمان ، بل عن الموضوع له صيغة : « مفعل » التي تعم الزمان والمكان والأثر يترتب عليه بالنسبة إلى المكان.

ومما ذكرنا يظهر : ما فيما قرره المحقق النائيني من خروج الأوصاف المشتقة المنتزعة عن مقام الذات كالممكن والواجب ، إذ زوال المبدأ وهو الإمكان يساوق زوال نفس الذات ، إذ لا يعقل بقاء الذات وزوال صفة الإمكان عنها بعد ان كانت ثابتة لها. وعليه ، فلا يتصور وجود الذات التي يزول عنها المبدأ كي يقال ان المشتق حقيقة فيها أولا؟ أو انه يصدق عليها حقيقة أولا؟ (1).

فانه قد اتضح وهن ذلك مما بيناه ، إذ البحث لا يقع في وضع كل فرد من افراد المشتق كالممكن والعالم والقائم وهكذا كي يلحظ ترتب الأثر ومعقولية النزاع في كل فرد ، إذ الهيئة موضوعة بالوضع النوعيّ كهيئة : « فاعل » لاسم الفاعل ونحوها ، ولم توضع في كل فرد فرد. فالمبحوث عنه وضع كل هيئة والنزاع واقع فيها ، ويكفي ترتب الأثر في بعض المصاديق وان لم يترتب في البعض الآخر.

وبالجملة : المطلوب ترتب الأثر على النزاع في الموضوع له ولو بلحاظ بعض الافراد ، فالبحث لا يقع في ان لفظ الممكن موضوع لخصوص المتلبس أو للأعم كي يقال انه عديم الأثر ، بل يقع في ان اسم الفاعل من المشتقات موضوع لخصوص المتلبس أو للأعم ، فيعم عنوان الممكن وغيره من العناوين. ويترتب عليه الأثر المرغوب في بعض مصاديقه ، فتدبر (2).

ص: 333


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 53 - الطبعة الأولى.
2- بالنسبة إلى اسم الزمان : تحرير الإشكال كما في الكفاية غير وجيه. والعمدة في الإشكال هو : عدم تصور الجامع بين حالتي الحدوث والبقاء في الزمان ، إذ بعد فرض التصرم والانعدام فيه لا يمكن تصور البقاء له. وبهذا الإشكال لا يرتبط جواب الكفاية. ويمكن حل هذا الإشكال بما نسب إلى الشيخ هادي الطهراني من : تصور البقاء للزمان بملاحظة _ الاجزاء شيئا واحدا مستمرا بحيث يصدق الحدوث بحلول أول جزء. كالنهار والشهر والسنة وغير ذلك. وعلى هذا الأساس يبتني استصحاب الزمان وغيره من الأمور التدريجية. إذن فيتصور انقضاء التلبس مع بقاء الذات. وبهذا الجواب يندفع إشكال اللغوية ، إذ يتصور للزمان بقاء فيبحث عن صدق المشتق عليه. نعم على ما جرى عليه القوم يرد إشكال اللغوية ولا حلّ له إلا ما في المتن من ان اسم الزمان لم يوضع للزمان خاصة ، بل للأعم من الزمان والمكان فراجع. ثم ان ما أفاده المحقق النائيني في حل الإشكال ، وان كان مجملا وقد أورد عليه في التعليقة _ راجع أجود التقريرات 56/1 - ، لكن يمكن إرجاعه إلى ما أفاده الطهراني ، وان مراده بالكلي والشخص هو ملاحظة الزمان بكل آن آن منه ، أو ملاحظة امرا واحدا مستمرا يحصل بأول جزء منه ، بحيث تكون نسبته إلى كل جزء نسبة الكلي إلى جزئياته لا نسبة المركب إلى اجزائه.

الأمر الثاني : في بيان خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن موضوع النزاع.

وذلك لما قد عرفت من ان المراد بالمشتق المأخوذ موضوعا للكلام هو الوصف الجاري على الذات والّذي يصح حمله عليها ، دون ما لا يصح ، ولما كان المصدر - المجرد والمزيد - لا يدل إلا على نفس الحدث والمبدأ مع نسبة الحدث إلى ذات ما - وهو الفرق بينه وبين اسم المصدر ، فانه لا يدل إلاّ على نفس الحدث بلا جهة انتسابه كالغسل والغسل ومثل : « زدن » و « كتك » في الفارسية ، فان الأولى تدل على الحدث مع النسبة كالضرب ، دون الثانية فانها اسم لنفس الحدث بلا دخول النسبة في معناه - لم يصح حمله على الذات وجريه عليها لتغاير وجود الذات والمبدأ ، كما انهما متغايران مفهوما ، فلا يصح ان يقال : « زيد ضرب أو أكل » كما لا يخفى.

واما الأفعال ، فهي كالمصادر لا تجري على الذات ، لأنها لا تدل الا على نسبة المبدأ إلى الذات وقيامه بها ، ومعه لا يصح حملها على الذات وجريها عليها للتغاير بين وجود الذات والنسبة وعدم الاتحاد بينهما بوجه ما ، فلا يصح ان يقال : « زيد ضرب » من باب الحمل بمفاد ان زيد هو ضرب وضرب هو زيد ، وان صح

ص: 334

ذلك من باب الإسناد والنسبة ، بمعنى نسبة الضرب إلى زيد ، فلاحظ.

وحيث تعرضنا إلى الفعل في كلامنا ، فلا بأس في تحقيق الكلام في معناه ومعرفة مقدار صحة ما اشتهر من دلالته على الزمان ، فقد بحث في ذلك الأعلام في هذا المقام وليس له مقام آخر. فنكون بذلك قد عرفنا معنى الحرف والفعل ويبقى الاسم الّذي هو محل البحث فسيأتي تحقيق معناه ، فان مسألة المشتق معقودة لذلك.

فنقول : انه قد اشتهر في ألسنة النحاة وغيرهم دلالة الفعل على الزمان ، بل أخذت الدلالة على الزمان في مفهومه كما لا يخفى ذلك على من لاحظ تعريفاتهم للفعل.

وقد استشكل في ذلك - كما جاء في الكفاية - ومنعت دلالة الفعل على الزمان بتقريب : ان مفهوم الزمان مفهوم اسمي فيمتنع ان يكون مدلولا للهيئة فانها من الحروف ، ويلزم ان يكون لها معنيان حرفي وهو النسبة واسمي وهو الزمان وهو واضح المنع.

وأجيب عن ذلك : بأنه لم يؤخذ في مفهوم الفعل مفهوم الزمان ، وانما مدلوله هو الحصة الخاصة من الحدث ، وهي الملازمة للزمان مع النسبة ، فالمدلول ليس هو مطلق الحدث بل الحدث المقيد بالزمان الخاصّ.

وقد قرب صاحب الكفاية عدم دلالة الفعل بأقسامه على الزمان ببيان : ان فعل الأمر لا يدل إلا على طلب الفعل أو تركه من دون دلالة له على الزمان الحال أو المستقبل ، إذ مادته تدل على الفعل والهيئة تدل على إنشاء الطلب ، فليس فيه ما يوجب الدلالة على الزمان ، نعم الإنشاء يكون في الحال ولكنه أجنبي عن الدلالة على الحال ، إذ هو من باب انه فعل صادر من زماني فيقع قهرا في الزمان كسائر الأفعال ، مثل الاخبار بالماضي.

واما فعل الماضي والمضارع ، فلا يمكن الالتزام بدلالته على الزمان ، إذ

ص: 335

قد يسند إلى ما لا يقع في الزمان كنفس الزمان ، فيقال مضى الزمان ، فيقال مضى الزمان ، ويأتي ، وكالمجردات عن الزمان كالذات المقدسة ، فيقال : علم اللّه سبحانه ، فلو دل الفعل على الزمان لم يصح اسناده إلى مثل الزمان والمجردات إلا بالتصرف فيه بتجريده عن الخصوصية ، في حين انه لا يرى العرف في الاستعمال المذكور والإسناد أي تصرف ومسامحة.

وقد أيد صاحب الكفاية ما ذكره من نفي دلالة الفعل على الزمان : بأنه لا معنى لما يقال من ان المضارع للحال والاستقبال إذا أريد منه انه يدل على زمان يعمها ، إذ لا جامع بينهما. كما أيده بأنه قد يكون زمان الفعل الماضي مستقبلا وزمان المضارع ماضيا ، وانما يكون الأول ماضيا والثاني مستقبلا بالإضافة كما لو قيل : « يجيء زيد بعد أسبوع وقد ضرب قبله بيوم » ، و: « جاء زيد قبل سنة وهو يضرب بعده بيوم ». فلاحظ (1).

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية من نفي دلالة الفعل على الزمان مما لا إشكال فيه. فيتساءل حينئذ : بأنه إذا لم يكن الفعل دالا على الزمان وانما كان دالا على خصوص نسبة المبدأ إلى الذات ، فما هي جهة الفرق المحسوس بين الفعل الماضي والمضارع ، إذ من الواضح وجود الفرق بينهما وعدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر؟. وقد أجيب عن ذلك : بان لكل من الفعل الماضي والمضارع خصوصية بحسب معناه تختلف عنها في الآخر تلازم هذه الخصوصية الزمان الماضي في الفعل الماضي والحال أو الاستقبال في المضارع في ما يقبل الزمان من الفواعل كالزمانيات. وتلك الخصوصية هي جهة الفرق بين الفعلين (2).

وقد وقع الكلام في الكشف عن هذه الخصوصية وبيان حقيقتها.

فقيل : انها تحقق الفعل في الماضي وترقبه في المضارع ، وتحقق الفعل من

ص: 336


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الفاعل الزماني لا بد ان يكون في الزمان الماضي كما ان ترقبه منه يلازم صدوره منه فعلا أو بعد حين في الزمان المستقبل.

ولكنه يشكل ذلك : بان الفعل المضارع قد يستعمل في مورد لا يشتمل فيه على هذه الخصوصية بلا مسامحة ولا عناية ، مثل قول القائل : « إني أترقب أن يعلم زيد ، أو يأكل ، أو يسافر » ، فانه لا معنى لاشتمال الفعل في مثل المثال على خصوصية الترقب ، إذ يكون المعنى معه « إني أترقب ترقب علم زيد » وهو غير مقصود بلا كلام.

وقيل : ان الخصوصية ليست هي التحقق في الماضي والترقب في المضارع كي يرد هذا الإشكال ، بل هي النسبة التحققية في الماضي والنسبة الترقبية في المضارع ، بمعنى ان مدلول المضارع هو النسبة القابلة لورود الترقب عليها والتي من شأنها تعلق الترقب بها ، كما ان مدلول الماضي هو النسبة التحققية شأنا لا فعلا.

وأنت خبير : بان هذا ليس تفريقا وبيانا لجهة الفرق بل هو عين المدعى ، إذ المطلوب بيان الجهة الواقعية التي بها كانت النسبة المدلولة للفعل الماضي هي غير النسبة المدلولة للفعل المضارع والكشف عن حقيقة الخصوصية المفرقة ، وما ذكر لا يفي بذلك ، إذ هو لا يعدو كونه بيانا لأن مدلول الماضي والمضارع هو النسبة ولكنها مختلفة فيهما بخصوصية ما بلا بيان لتلك الخصوصية ، وظاهر ان هذا هو عين التساءل السابق الّذي صرنا في مقام الإجابة عنه. فلاحظ جيدا.

فالتحقيق ان يقال : ان الخصوصية التي يدل عليها الفعل الماضي الملازمة للزمان في الزمانيات هي السبق ، فهو يدل على سبق تحقق النسبة ، والخصوصية التي يدل عليها الفعل المضارع هي اللحوق ، فهو يدل على لحوق تحقق النسبة.

وتوضيح ذلك : ان السبق واللحوق لا يتقومان بالزمان كما قد يتوهم

ص: 337

بلحاظ ان السبق ينتزع عن وجود الشيء قبل آخر وفي زمان سابق على زمان الآخر ، بل هما أمران انتزاعيان ينتزعان عن وجود الشيء في فرض عدم الآخر ، وذلك يلازم الزمان الماضي والمستقبل في الفاعل الزماني الّذي يحتاج في فعله إلى الزمان ولا يمكن ان يقع في غير الزمان ، فالشيئان إذا لوحظ أحدهما بالإضافة إلى الآخر ، فتارة : يكون أحدهما موجودا في فرض وجود الآخر ، وأخرى : لا يكون أحدهما موجودا في فرض وجود الآخر ، فعلى الأول ينتزع عنوان التقارن ، وعلى الثاني ينتزع عنوان السبق واللحوق ، فالشيء الموجود فعلا يكون سابقا والّذي يوجد بعد ان لم يكن في فرض وجود الآخر يكون لاحقا ، فالسبق واللحوق عنوانان انتزاعيان ولا يتقومان بالزمان ، بمعنى انهما يصدقان في المورد غير القابل للزمان كالزمان نفسه ، فيقال الزمان السابق واللاحق ، نعم هما يلازمان الزمان في الزماني الّذي يحتاج في وجوده إلى الزمان ، وعليه فالفعل كالقيام - مثلا - حيث انه قابل لأن يوجد في فرض عدم الآخر فيكون سابقا كما انه يوجد بعد ان وجد غيره فيكون لاحقا فيمكن ان يراد تفهيم الحصة الخاصة السابقة أو المقارنة للسبق ، كما انه يمكن ان يراد تفهيم الحصة المقارنة للحوق ، فوضع الماضي للأولى والمضارع للثانية ، فيكون دالا على الزمان بالالتزام فيما كان الفاعل زمانيا لملازمة السبق واللحوق للزمان في الزمانيات ، تأمل تعرف (1).

ص: 338


1- الكلام في الفعل ودلالته على الزمان : ما أفاده في الكفاية. وما أفاده الأصفهانيّ من كونه مقيدا بالسبق واللحوق كما أشرنا إليه في المتن - والفرق بين دعوى صاحب الكفاية ودعوى الأصفهاني أو المشهور هو : ان مرجع دعوى الكفاية إلى اختلاف مدلول الماضي عن المضارع سنخا وحقيقتا ، كالاختلاف في مدلول : « من وإلى ». فمدلول الماضي أمر بسيط يختلف سنخا عن المضارر. ونصطلح عليه بالتحقق والترقب اما مرجع دعوى المشهور أو الأصفهاني فهي إلى ان الاختلاف في القيد ، وإلا فذات المقيد واحدة وهي النسبة الصدورية ، أو التلبس لكنه مقيد بالسابق في الماضي وباللحوق في المضارع. فيكون السبق أو الزمان مدلولا ضمنيا للفعل. بخلافه على الأول ، فانه مدلول التزامي. والصحيح هو ما أفاده في الكفاية لوجهين : الأول : ان أخذ التقيد بالسبق أو بالزمان في مدلول الفعل يستدعي لحاظ الطرفين تفصيلا ، سواء قلنا ان المعنى الحرفي عبارة عن الربط أو تضييق المفاهيم الاسمية ، ومن الواضح ان عند استعمال الفعل لا يلحظ السبق أو الزمان تفصيلا ، والمفروض أخذ أحدهما طرفا للتقيد والنسبة. الثاني : ان اختلاف نسبة المضارع والماضي إذا كانت بالتقيد ، كان مقتضى ذلك جواز استعمال أحدهما موضع الآخر مجازا كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية ، مع بداهة غلطية قولنا : « يجيء زيد أمس » أو : « جاء زيد غدا » : فيكشف ذلك عن اختلاف مفهوميهما سنخا وحقيقة وهو ما التزمنا به. واما ما ذكره في الكفاية مؤيدا من ان المشهور كون المضارع للحال والاستقبال مع امتناع الاشتراك اللفظي والمعنوي ، فيلازم كون المدلول خصوصية تلازم الزمانين. توضيحه : ان الفعل إنما يقع في واقع الزمان لا عنوانه. وعليه ، فقد يقال : بان الجامع بينهما موجود وهو غير الماضي أو نحوه ولا يخفى ان عنوان غير الماضي معرف إلى واقع الزمان وإلا فهو ليس ظرفا ، وليس هناك زمان واقعي يكون جامعا بينهما. وإنما ذكره مؤيدا لا دليلا ، ولأجل احتمال عدم إرادة الحال الدقي ، بل قيل انه غير متصور ، بل المراد بالحال هو الحال العرفي وهو مستقبل دقة ، فلا يكون للفعل إلا زمان الاستقبال فيندفع الإشكال.

الأمر الثالث : قد عرفت ان النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ ، ودلالة الهيئة على خصوص المتلبس أو عليه وعلى المنقضي عنه التلبس.

فقد يتوهم اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ فعليا كالضرب والأكل ، دون ما كان حرفة أو ملكة ، كالصياغة والشعر ، لوضوح صدق الصائغ على من له حرفة الصياغة ولو لم يكن متلبسا بالصياغة فعلا ، فلا نزاع في ذلك.

ولكنه توهم فاسد فان اختلاف المبادئ لا يوجب اختصاص النزاع بمورد دون آخر ، بل هو يتأتى في الجميع ، لكن الفرق في التلبس وعدمه ، فان المبدأ إذا كان فعليا كان التلبس به بمباشرته فعلا ويصدق الانقضاء عند عدم مباشرته ، واما إذا كان حرفة فالتلبس به يصدق ما دام محترفا ولو لم يباشر الفعل ، إذ لا يعتبر فيه المباشرة ، ولا يصدق الانقضاء إلاّ إذا انقطع عن الاحتراف. فالنزاع يقع حينئذ في صدق المشتق على من انقضى عنه المبدأ بمعنى انقطع عن الاحتراف.

ص: 339

وبالجملة : فالنزاع جار في الجميع ، وانما الاختلاف في فعلية التلبس والانقضاء ، فانها تختلف بحسب اختلافها كما عرفت.

الأمر الرابع : في بيان المراد بالحال المأخوذ في عنوان المسألة.

وهذا الأمر عديم الأثر والجدوى بالمرّة ، إذ لم تحرر المسألة كما حررها صاحب الكفاية كي نحتاج إلى شرح المراد ، إذ تحرير المسألة بان مفهوم المشتق هل هو خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا أو الأعم منه وممن انقضى عنه التلبس؟ لا يحتاج معه إلى تحرير هذا الأمر بل وجوده كعدمه.

ولكنه حيث كانت عبارة الكفاية لا تخلو عن غموض وصارت محط النقاش تعرضنا لشرح مراده فقط وتوضيح عبارة الكفاية لا غير.

وتوضيح ذلك : ان المراد بالحال ليس حال النطق ، بمعنى انه لا يعتبر في صدق المشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدإ حال النطق ، إذ من المسلم ان قول القائل : « كان زيد ضاربا أمس ، أو سيكون ضاربا غدا » حقيقة إذا كان قد تلبس بالضرب أمس أو يتلبس به في الغد ، مع انه لا تلبس في حال النطق والتكلم.

وانما المراد بالحال حال التلبس وليس المقصود زمان التلبس كما استظهر - من عبارة الكفاية - المحقق النائيني قدس سره ، فأورد عليه : بأنه يلزم أخذ مفهوم الزمان في مفهوم الاسم ، وهو مما قام الإجماع على خلافه (1).

بل المقصود هو اتحاد الجري والإسناد والتلبس بحيث يكون الإسناد والجري في فرض فعلية التلبس ، فالمراد بالحال فعلية التلبس ، فيعتبر اتحادها مع الجري والإسناد.

وقد أيّد ما ذكره بالاتفاق الحاصل من أهل العربية القائم على عدم دلالة الاسم على الزمان ومنه المشتق ، فلو أريد من الحال حال النطق كان دالا على

ص: 340


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 57 - الطبعة الأولى.

الزمان كما لا يخفى.

واما اشتراط العمل في اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال ، فهو لا يتنافى مع الاتفاق المزبور ، إذ المراد انه بمعنى الحال أو الاستقبال بواسطة القرينة ، ويدل عليه اتفاقهم على مجازية اسم الفاعل في الاستقبال.

وقد يستشكل فيما ذكره المحقق الخراسانيّ لوجهين :

الأول : الاتفاق القائم على مجازية مثل : « زيد ضارب غدا » ، فانه لو كان المراد بالحال فعلية التلبس واعتبار اتحادها مع الجري لم يكن ذلك مجازا كما تقدم نظيره.

الثاني : ان الظاهر من الحال عند إطلاقه وعدم تحديده بشيء هو زمان الحال المساوق لحال النطق ، كما انه - أي زمان الحال - الظاهر من المشتق لانصرافه من الإطلاق ، أو لمقدمات الحكمة. وعليه فلا بد ان يراد بالحال في عنوان النزاع حال النطق وزمان الحال.

ويدفع الأول : بان مجازية مثل المثال المزبور انما هو لأجل انفكاك الجري عن فعلية التلبس ، إذ الظاهر من الإطلاق وقضيته كون الجري في الحال ، والقيد المذكور وهو : « غدا » بيان لزمان التلبس ، فالجري في الحال والتلبس في الاستقبال وهو مجاز.

وبالجملة : الظاهر من المثال إسناد الضرب الحاصل في الغد إلى زيد في الحال وذلك مجاز بلا كلام.

ويدفع الثاني : بان المقام مقام تعيين الموضوع له المشتق وبيانه ، وانه هل خصوص المتلبس في حال النطق أو مع فعلية التلبس ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه ، فلا يثبت بحديث الانسباق والقرينة العامة ، فانه وان سلم لكنه لا يجدي فيما نحن بصدده من تعيين الموضوع بالعنوان المأخوذ في مورد الكلام وانه ما هو؟.

ص: 341

وبالجملة : ثبوت الانسباق لا يرتبط بعالم الموضوع له وتعيينه ، وان المقصود في العنوان ما هو؟ بل هو أجنبي عنه فلاحظ وتدبر (1).

الأمر الخامس : في تأسيس الأصل في المورد ، بمعنى انه مع التردد وعدم قيام الدليل على أحد الاحتمالين فهل هناك من الأصول ما يعين أحدهما أو تكون نتيجته توافق أحدهما؟.

والكلام تارة : في قيام الأصل في المسألة الأصولية ، أعني في مقام الوضع والموضوع له. وأخرى : في الأصل في المسألة الفرعية ، أعني في مقام ثبوت الحكم للمشتق مع عدم تعيين الموضوع له.

اما الأصل في المسألة الأصولية ، فهو غير ثابت ، إذ لا أصل لدينا. يعين ان الموضوع له خصوص المتلبس أو الأعم منه.

وما يدعى من جريان أصالة عدم ملاحظة الخصوصية فيثبت بها الوضع للأعم ، يدفع :

ص: 342


1- ذكر الأعلام : ان المراد بالحال في موضوع النزاع هو حال التلبس أو فعلية التلبس لا حال النطق ، واستشهدوا على ذلك بالمثالين. ولا يخفى ان المثالين لا يرتبطان بما نحن فيه بالمرة ، إذ البحث فيما نحن فيه اما عن حمل المشتق على المنقضي أو المتلبر. أو إطلاقه عليه. والمثالان أجنبيان ، إذ لم يطلق : « ضارب » على الذات ولم يحمل عليها فعلا ، وانما يدل على كونه كذا أمس أو غدا لا انه كذا ، فكأنه يقول : « ان زيدا مصداق للضارب أمس » وهذا لا حمل فيه بالمرة ، وكذا الحال في مثل : « زيد ضارب أمس » فان أمس بيان لوقت انطباق ضارب عليه ولا حمل بالفعل أصلا ، ومثله قد يتأتى في الجوامد التي لا نزاع في وضعها للأعم أو المتلبر. بل هي مختصة بالمتلبس قطعا ، فيقال : « سيكون هذا تمرا غدا وكان هذا رطبا أمس » .. والشاهد الّذي ينبغي ان يكون للمقام هو مطلق العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام ك- : « العالم يجوز تقليده ». و: « العادل يصح الائتمام به » وهكذا ، فانه لا إشكال في عدم إرادة خصوص المتلبس حال الكلام مع انه لا تجوز في الاستعمال أصلا. واما ما ذكره في الكفاية تحت عنوان : « لا يقال ... فانه يقال » .. فهو لا يخلو عن إجمال سؤالا وجوابا ، فان ارتباط السؤال بما تقدم لا يخلو عن إجمال. كما ان تسليم صاحب الكفاية بظهور المشتق في الحال غير واضح ، والمتيقن هو ظهور المشتق في الحال ، بمعنى فعلية التلبس عند فعلية الحكم في قبال التعليق لا الحال في قبال الاستقبال. فتدبر.

أولا : بأنها معارضة بأصالة عدم ملاحظة العموم ، إذ الوضع للأخص كما يقتضي ملاحظة الخصوصية فتنفى بالأصل ، كذلك الوضع للأعم يستدعي لحاظ العموم للزوم ملاحظة الموضوع له ولا يكتفي في لحاظه بعدم لحاظ الخاصّ ، لأنّ الخاصّ والعام متباينان بحسب المفهوم ، إذ لكل منهما حدّه الوجوديّ المميز له عن غيره ، فعدم لحاظ أحدهما لا يكون لحاظا للآخر ، فتنفى ملاحظة العموم بالأصل أيضا.

وثانيا : ان الأصل المذكور ان كان المقصود منه الأصل العقلائي ، فلا دليل عليه إذ لم يثبت بناء العقلاء على نفي ملاحظة الخصوصية مع الشك بها. وان كان المقصود منه الاستصحاب فيستصحب عدم ملاحظة الخصوصية من باب أصالة عدم الحادث ، فيمنع : بأنه يعتبر في المستصحب ان يكون ذا أثر شرعي ان لم يكن هو حكم شرعي ، كما هو الحال فيما نحن فيه ، وليس لعدم ملاحظة الخصوصية أثر شرعي إلا بواسطة أو وسائط ، لكنه لا ينفع في جريان الاستصحاب إلا بناء على الأصل المثبت.

واما ما يدعى من ترجيح الاشتراك المعنوي اللازم للوضع للأعم على الحقيقة والمجاز اللازم للوضع للأخص ، عند الدوران بينهما ، من جهة غلبة الاشتراك المعنوي ، فيدفع :

أولا : بمنع الصغرى ، إذ لم تثبت الغلبة.

وثانيا : بمنع الكبرى ، إذ لا دليل على الترجيح بالغلبة لو سلم ثبوتها.

واما الأصل في المسألة الفرعية ، فقد ذكر صاحب الكفاية بأنه يختلف باختلاف الموارد ، فقد تكون نتيجته في بعض الموارد تلائم الوضع للأخص كما لو ورد : « أكرم كل عالم » وكان زيد قد انقضى عنه العلم قبل الإيجاب فانه حيث يشك في صدق العالم عليه فعلا للشك في الوضع يشك في ثبوت الحكم له أيضا ، فأصالة البراءة عن وجوب إكرامه تنفي ثبوت الحكم له. وقد تكون نتيجته تلائم

ص: 343

الوضع للأعم كالمثال المزبور وكان زيد متلبسا بالعلم حال الإيجاب لكنه انقضى عند بعد ورود الوجوب ، فانه حينئذ يشك في بقاء الحكم له للشك في عالميته فيستصحب وجوب إكرامه (1).

هذا ما أفاده قدس سره في المقام ، وقد صار محل الإشكال بحكمه بجريان استصحاب الوجوب وتحقيق المقام ، لأن الاستصحاب ذو جهتين : جهة الحكم وجهة الموضوع. فيقع الكلام في إمكان جريانه في الحكم وجريانه في الموضوع ، اما من يقول بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية فهو في راحة من عدم جريان استصحاب الحكم هنا ، فالكلام في جريان استصحاب الحكم هاهنا وعدمه مبني على جريان الاستصحاب في نفسه في الشبهات الحكمية ومنشأ التوقف في جريانه هو الشك في بقاء الموضوع. فالكلام يقع في جهتين :

الأولى : جريان الاستصحاب في الموضوع ، بمعنى يستصحب كونه عالما بعد ان كان كذلك للشك فيه.

وقد استشكل فيه هنا ، بل في كل استصحاب للموضوع ، ومنشأ الشك فيه من جهة الشبهة المفهومية كاستصحاب النهار لتردده بين سقوط القرص وذهاب الحمرة بان المستصحب اما ان يكون ذات الموضوع ، أو الموضوع بوصف كونه موضوعا للحكم. فان كان ذات الموضوع وبقائه في العالم ، فهو لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت. وان كان الموضوع بما هو موضوع ، فهو كاستصحاب الحكم ، لأن الموضوعية انما تنتزع عن مقام ثبوت الحكم لموضوعه ، فهي عارضة على الذات فلا يمكن استصحابها للشك في بقاء معروضها ، ويعتبر في الاستصحاب بقاء المعروض لتقوم صدق النقض والإبقاء ببقائه ، إذ مع عدم بقائه لا يكون عدم الحكم بثبوت عارضه في فرض الشك نقضا لليقين بالشك

ص: 344


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /45- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كما ان الحكم بثبوته لا يعد إبقاء ، بل إسراء للحكم الثابت لموضوع إلى موضوع آخر. وعليه فإذا اعتبر بقاء المعروض في الاستصحاب فمع الشك في بقائه لا يجري الأصل للشك في صدق النقض والإبقاء ، فتكون الشبهة مصداقية لا يتمسك فيها بعموم دليل الاستصحاب.

والإنصاف : أن هذا الإشكال لا يمنع من جريان الاستصحاب فيما نحن فيه ، لأنه وان سلم في نفسه ، إلا ان الأمر لا يدور بين الاحتمالين المذكورين بل هناك شق ثالث ، وهو جريان استصحاب انطباق المفهوم على الموجود الخارجي. بل هو الّذي يقصد استصحابه ، فان المقصود استصحاب عالمية هذا الشخص ، فانها كانت ثابتة له قبل الانقضاء ، فمع الشك فيها بعد الانقضاء تستصحب.

وبعبارة أوضح : يستصحب كون هذا الشخص عالما واتصافه بالعالمية لليقين السابق والشك اللاحق ، ولا محذور فيه مما ذكر أصلا كما لا يخفى ، فيثبت له الحكم لتمامية الموضوع تعبدا.

نعم ، هذا غير تام من جهة أخرى ، وهي ان خصوصية التلبس لو كانت مأخوذة في الموضوع له كانت مقومة للصدق والانطباق ودخيلة في موضوعه ، بحيث إذا انتفت ينتفي الانطباق والاتصاف لانتفاء موضوعه ، فمع الشك في دخالة هذه الخصوصية في الموضوع له لفظ المشتق ، يحصل الشك عند انتفائها في بقاء معروض الانطباق ، فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء موضوعه ، فلا يحرز انه إبقاء للحالة السابقة ، بل يمكن ان يكون إسراء للمستصحب من موضوع إلى آخر.

الثانية : جريان الاستصحاب في الحكم ، وقد استشكل فيه من جهة الشك في بقاء موضوعه وهو العالم في المثال المذكور ، فلا يحرز كون إثبات الحكم في صورة الشك إبقاء وعدمه نقضا كي يكون مشمولا لعموم الأدلة ، بل يكون المورد من موارد الشبهة المصداقية كما أشرنا إليه.

ص: 345

والإنصاف : ان الحكم بعدم جريانه على إطلاقه ممنوع ، بل يختلف باختلاف موارده ، فالمورد الّذي يرى العرف تقوم الموضوع ومعروض الحكم بالعنوان بحيث يكون العنوان في نظره من الجهات التقييدية ، نظير جواز تقليد المجتهد ، يمتنع إجراء الاستصحاب للشك في بقاء معروض الحكم ، واما المورد الّذي يرى العرف ان الحكم ثابت للذات وان معروض الحكم هو نفس الذات وان العنوان جهة تعليلية للحكم نظير وجوب إكرام العالم ، فان الإكرام يعرض على نفس الذات ، لم يمتنع إجراء الاستصحاب لإحراز بقاء الموضوع ، إذ ليس المراد بالموضوع الا معروض الحكم لا كل ما كان دخيلا في ثبوت الحكم.

وقد أوضحنا الكلام في الجهتين في الأمر الأول من خاتمة الاستصحاب في الدورة السابقة فلاحظ.

ولعل نظر المحقق صاحب الكفاية في إجراء استصحاب الحكم مع التزامه باعتبار بقاء الموضوع في باب الاستصحاب إلى النحو الثاني ، فتدبر (1).

وبعد هذا كله شرع صاحب الكفاية في تحقيق الحق في المسألة وبيان ان الموضوع له هل هو خصوص المتلبس - كما ذهب إليه الأشاعرة ومتأخرو الأصحاب - ، أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ - كما ذهب إليه المعتزلة ومتقدموا الأصحاب -؟. وقد أشار قدس سره إلى تفرع الأقوال وتكثرها

ص: 346


1- في نفي أصالة عدم ملاحظة الخصوصية يقال : ان جريان الأصل يتوقف على .. أولا : على كون الحكم المردد موضوعه انحلاليا بلحاظ قيد المشكوك ، كالوجوب المتعلق بالمركب ، اما إذا لم يكن انحلاليا كإمضاء المعاملة المرددة بين كونها مطلق البيع أو البيع الخاصّ ، فان إمضاء البيع الخاصّ لا ينحل إلى إمضاء ذات البيع وإمضاء الخصوصية كي يكون هناك قدر متيقن. وثانيا : على كون التردد. بالإطلاق والتقييد كالتردد بين العالم والعالم العادل. اما إذا كان التردد بالتباين نظير زيد والإنسان ، لأن زيد ليس عبارة عن كلي وإضافة ، فلا يجري الأصل أيضا لعدم القدر المتيقن. والوضع للمتلبس من هذا القبيل ، فانه ليس مما يقبل الانحلال أولا فهو كالإمضاء ، والأعم والمتلبس متباينان مفهوما وليست النسبة هي الأقل والأكثر فلاحظ.

أخيرا الناشئ من توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه ، أو بتفاوت أحواله من كونه محكوما عليه أو محكوما به ونحوهما ، وقد اتضح فساد هذا التوهم ونظيره مما تقدم كما لا يخفى.

والّذي اختاره قدس سره هو الوضع لخصوص المتلبس مستدلا على ذلك بالتبادر وصحة السلب عن المنقضي ، وصدق نقيض الصفة عليه حال الانقضاء أو ضدها (1).

ووافقه المحقق النائيني قدس سره في هذا الاختيار ، لكنه نهج في استدلاله على المدعى نهجا برهانيا لا عرفيا وجدانيا.

ومحصل ما جاء في تقريرات بحثه للسيد الخوئي ( دام ظله ) : ان النزاع في الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم منه ومن المنقضي عنه المبدأ يبتني على القول بالبساطة أو التركيب ..

فلازم القول بان مفهوم المشتق مفهوم مركب الوضع للأعم ، إذ معنى المشتق يكون ذات المنتسب لها المبدأ ، فالركن الركين حينئذ يكون هو الذات وانتساب المبدأ إليها وان أخذ في مفهوم المشتق لكنه بنحو الجهة التعليلية ، لصدق المشتق على الذات ولم يؤخذ في النسبة التقييدية زمان دون زمان ، فيكفي في صدق المشتق تحقق التلبس والانتساب في الجملة مع بقاء الذات ، فيكون صادقا على المنقضي بحسب ذات المعنى في نفسه.

كما ان لازم القول ببساطة مفهوم المشتق الوضع للأخص ، إذ مرجع القول بالبساطة إلى القول بان مفهوم المشتق هو نفس المبدأ ، وهو الركن الركين فيه ، فمعنى قائم هو القيام ، غاية الأمر انه ملحوظ بنحو يصحّ حمله على الذات وجريه عليها دون نفس المصدر. وعليه فمفهوم المشتق بتقوم بالمبدإ ، فمع انعدامه

ص: 347


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /45- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لا يصدق المشتق لعدم معناه. فيكون المشتق أشبه بالجوامد من هذه الجهة.

ثم انه بعد ان أوضح الفرق بين المشتق والجوامد من جهة أخرى ، وبعد ان ذكر الاستدلال بالتبادر وصحة السلب ذكر : ان القول بالوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ متعين حتى مع الالتزام بالتركيب ، وان المسألة لا تبتني بقوليها على القول بالبساطة والتركيب ، بتقريب : ان من يقول بالتركب يدعى تركبه من الذات والمبدأ ولكن لا على الإطلاق ، بل الذات متضمنة لمعنى حرفي ، وهو نسبة المبدأ إلى الذات. وعليه ، فوضع المشتق للأعم يتوقف على أخذ الزمان في مفهوم المشتق ، فانه هو الجامع بين المتلبس والمنقضي ولا جامع غيره ، ومن المقرر والواضح ان مفاهيم المشتقات عارية عن الزمان فلا يكون هناك ما يجمع بين الفردين فلا يصح الوضع للأعم لعدم الجامع ، فيدور الأمر حينئذ بين وضعه لخصوص المنقضي ، أو له بوضع آخر على سبيل الاشتراك ، أو للمتلبس فقط ، والأولان لا يقول بهما أحد ، بل هما خلاف الالتزام بالوضع للأعم ، فيتعين الثالث ، وهو المطلوب (1).

وقد استشكل السيد الخوئي فيما ذكره قدس سره أخيرا من عدم الجامع بدعوى : إمكان تصور الجامع بين المنقضي والمتلبس بأحد وجهين :

الأول : ان يقال ان الجامع هو اتصاف الذات بالمبدإ في الجملة أعم من ان يكون فعليا أو قد انقضى في مقابل الذات التي لم تتصف بالمبدإ أصلا.

الثاني : ان يقال بوجود الجامع الانتزاعي لو أنكر وجود الجامع الحقيقي ، وهو عنوان أحدهما. وهو كاف في مقام الوضع فلا يتوقف على الجامع الحقيقي لأن المطلوب تصور الموضوع له بنحو ما وهو يحصل بالجامع العنواني (2).

ص: 348


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 74 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 250 - الطبعة الأولى.

والتحقيق : تمامية ما أفاده المحقق النائيني من عدم إمكان تصور الجامع سوى الزمان.

بيان ذلك : انه قد عرفت فيما تقدم ان المعاني الحرفية من سنخ الوجود لا المفاهيم. وعليه فكل منها يغاير الآخر لتغاير الوجودين ، فلا يتصور الجامع بين سنخين من النسبة والربط. نعم الجامع بين افراد سنخ واحد من الربط ممكن كالجامع بين النسب الظرفية ، وهو ( النسبة الظرفية ) وغيرها ، ومن الظاهر ان نسبة المبدأ إلى الذات في حال التلبس تختلف عنها في حال الانقضاء ، فان الربط بين المبدأ والذات في حال التلبس ربط حقيقي واقعي ، وفي حال الانقضاء ربط مسامحي ادعائي ، إذ لا ارتباط حقيقة بينهما عند انعدام المبدأ لانعدام أحد طرفي النسبة. وعليه ، فسنخ نسبة المبدأ إلى الذات حال التلبس يختلف عن سنخ نسبته إليها في حال الانقضاء ، فالوضع للأعم مع أخذ النسبة في مفهوم المشتق يتوقف على تصور جامع بين هاتين النسبتين يشار به إليهما ويوضع اللفظ إليها بواسطته ، وقد عرفت ان الجامع بين سنخين من النسبة مفقود لتغاير أنحاء النسب وتباينها. ولعل نظر المحقق النائيني إلى هذا المعنى.

وعليه ، فيختص المشتق بالوضع لخصوص المتلبس كما لا يخفى. ومن هنا يظهر عدم وصول النوبة إلى الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس بالتبادر وصحة السلب ونحوهما ، فلاحظ جيدا وتدبر (1).

ص: 349


1- في بيان الحق لمسألة المشتق : ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى استحالة الوضع للأعم على البساطة وعلى التركيب ، لعدم تصور الجامع. ويمكن المناقشة بذلك بدوا .. اما على البساطة ، فلأنه إنما يتم كلامه لو كان معنى المشتق هو المبدأ لا بشرط ، لعدم تصور الجامع حينئذ ، اما إذا كان معناه واجدية الذات للصفة فيمكن تصور الجامع كما لا يخفى. واما على التركيب ، فيرد عليه : أولا : النقض بقضايا الأحكام المثبتة للحكم على الموضوع بوجوده الحدوثي واستمرار الحكم بعد عدم الموضوع ، كالتغير في نجاسة الماء. وثانيا : بالحل ، فانه لا نحتاج إلى تصور الجامع في الموضوع ، بل الملحوظ وجود موضوع المطلق وتلبس الذات بالمبدإ مطلقا ولو انقضى عنها بعد ذلك ، ونقول في الوضع كذلك لأنه من سنخ الحكم على المعنى فلاحظ. وعليه ، فلا بد من إيقاع الكلام في مرحلة الإثبات ، وقد ذكر في الكفاية وجودها لإثبات الوضع للمتلبس خاصة. وتعرض في ضمن استدلالاته للاستدلال بصحة السلب. وأورد عليه في ذيل كلامه وأجاب عنه. وفي الجواب نظر ، يرجع إلى تسليمه الإشكال لو رجع القيد إلى المسلوب ، فان التسليم ممنوع ، فان رجوعه لا يضر ، لأن السلب إذا انصب على الموصوف ، فان كانت الصفة لازمة كان مقتضاه نفي الطبيعة ، كما لو أخذ بياض زيد فقيل انه ليس إنسان أبيض ، فان معناه نفي الإنسانية عنه. وما نحن فيه كذلك ، لأن الفرض تحقق المبدأ ، فقولنا : « ليس زيد بضارب الآن » مع تحقق الوصف فيه يكشف عن عدم اسناد الطبيعة بقول مطلق إليه فلاحظ. ثم ان ظاهر الكفاية اختيار صحة السلب مقيدا ، وتسليم عدم سداد صحة السلب المطلق. وهو قابل للخدشة أيضا ، إذ يصح ان يقال : « زيد ليس بضارب » مع الانقضاء. ودعوى : انه لا يصح ان يقال : « زيد ضارب أمس ». تندفع : بما عرفت من عدم تكفل هذه الجملة للحمل أصلا ، بل تتكفل صلاحية الحمل أمس ، فلا تتكفل الحمل الفعلي ، إذ الحمل هو الاتحاد في الوجود ، وضارب أمس معدوم ، فكيف يتحد مع زيد الفعلي. وعليه ، فيصح السلب المطلق وعدم الحمل المطلق الآن بالنسبة إلى زيد ، فيقال : « زيد ليس بضارب » ولا إشكال فيه. وكيف كان ، فقد تحصل من جميع ما تقدم : إمكان الوضع للمتلبس وإمكان الوضع للأعم ، ولكن الدليل إثباتا يساعد على الأول. هذا والإنصاف تمامية ما أفاده المحقق النائيني مع عدم تصور الوضع للأعم. واما ما ذكرناه سابقا _ في المتن _ من قياس الوضع بجعل الحكم على الموضوع بملاحظة حدوثه خاصة. ففيه : ان باب الوضع يختلف عن باب الحكم ، لأن الحكم يتعلق بالموضوع بنحو القضية الحقيقية ويصير فعليا بفعلية موضوعه ، والملحوظ في الموضوع هو وجود العنوان الخارجي لا نفس المفهوم بما هو. بخلاف الوضع فانه يرتبط بالمفهوم ولا نظر له إلى الخارج ، ولذا تتحقق العلقة الوضعيّة بالفعل ولو لم يكن للمفهوم وجود أصلا ، فالموضوع له هو المفهوم. ومن الواضح ان التلبس والانقضاء من عوارض الوجود لا من عوارض المفهوم ، فالموضوع له هو الطبيعي وهو لا يتصف بالتلبس والانقضاء ، وما يتصف بالتلبس والانقضاء لا يوضع له اللفظ. وعليه ، فإذا فرض ملاحظة مفهوم الذات المتلبسة ووضع اللفظ لها فلا تنطبق مع غير المتلبسة ، والوضع للذات الأعم لا مجال له ، لأن نفس مفهوم الذات لم يوضع لها الذات ، بل مع ملاحظة ارتباطها من مبدأ ، ولا جامع بين التلبس والانقضاء كي يوضع للمفهوم الجامع. ولا بأس بالإشارة إلى وجوه تصور الجامع وملاحظتها ، فقد ادعي وجود الجامع بوجوده : الأول : دعوى انه هو الذات المتصفة بنحو الموجبة الجزئية في قبال عدم الاتصاف بالمرة وهي تصدق على المنقضي والمتلبس بالفعل .. وفيه : ان مفهوم الاتصاف لم يلحظ في الموضوع له جزما ، وانما يراد به واقعه ، وهو النسبة ، ولا جمع بين النسبتين كما لا يخفى ، لأن النسبة معنى حرفي ولا يتصور الجامع في الخارج لتباين النسب. الثاني : الالتزام بالجامع العنواني نظير ما يلتزم به في الوجوب التخييري كعنوان أحدهما .. وفيه : انه يلزم وضع الهيئة لهذا العنوان ومقتضاه الترادف وهو باطل جزما مع انه معنى اسمي والهيئة من الحروف. ثم ان أريد أحدهما المعين في الواقع فهذا غير جامع. وان أريد على سبيل البدل فيلزم تعدد الموضوع له وهو خلف. مع انه لا وجود خارجا لو أريد واحد منهما لا كليهما. فتأمل. الثالث : ان يكون الجامع من وجدت فيه الصفة. وفيه : انه يلزم عدم صحة : « زيد ضارب الآن » لعدم صدق الماضي في حقه ، مع استلزامه لبعض المحاذير الأخرى التي أشار إليها المحقق الأصفهاني فراجع. واما جواب الكفاية عن استدلال للأعم بالآية الكريمة. فهو قابل للمناقشة ، بان يمكن للخصم ان يدعي ان استدلال الإمام عليه السلام كان بسبب الظهور الأوّلي للكلام وبضميمة ظهور الكلام في فعلية الموضوع عند فعلية حكمه. نعم يثبت ان عنوان الظالم كان ينطبق على الخلفاء. واما دعوى كون المورد ليس من تلك الموارد ، فهذا خلاف الظاهر الأولي في كل قضية. ولا بد ان يكون احتجاجه بملاحظة ذلك والاسهل على الخصم إنكاره. فالحق في الجواب : ان سؤال إبراهيم عليه السلام لا يمكن ان يكون لمن هو متلبس بالظلم فعلا ومن ينطبق عليه عنوان الظالم فعلا ، فلا بد ان يكون للأعم من المتلبس سابقا ولمن لم يتلبس أصلا. فالجواب هو التفصيل فالمراد بالآية هو خصوص المتلبس سابقا فلاحظ. ثم انه لا عبرة لبعض الأجوبة المذكورة عن الاستدلال بالآية لوضوح الإشكال فيها. واما الاستدلال على الوضع للمتلبس أو نفي الثمرة في الخلاف بعدم الإشكال في نفي الحكم بانقضاء المتلبس ، كما في موارد الحيض. فهو ضعيف ، لأن فعلية الحكم تدور مدار فعلية الموضوع ، فإذا كان الموضوع هو الأعم كان فعليا. وأحكام الحيض انما لا تثبت ، للأدلة القطعية على ان المانع حدث الحيض لا عنوان الحائض. فلاحظ.

ص: 350

ص: 351

ص: 352

« تنبيهات المسألة »

التنبيه الأول : في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركيبه.

ولا بد قبل الخوض في المطلب من بيان المراد بالبساطة والتركيب وتعيين محل الكلام فيهما.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى تحديد المتنازع فيه ، فذكر : ان المبحوث عنه هو البساطة في عالم التصور واللحاظ لا الواقع وبحسب التعمل العقلي. وبيان ذلك : ان الشيء قد يكون بسيطا في عالم اللحاظ بمعنى انه لا يتحقق في الذهن عند التعبير عنه إلا صورة واحدة لا أكثر ، ولكنه في الواقع والحقيقة قد يكون كذلك كالبياض ، فانه في ذاته بسيط ، كما انه صورة ولحاظا كذلك. وقد يكون مركبا بالتركيب الحقيقي كالإنسان ، فانه حقيقة ذو جزءين الحيوان والناطق ، ولكنه واحد صورة ولحاظا ، أو بالتركيب الاعتباري كالدار ، فانه بحسب الاعتبار ذو اجزاء ، إذ هو اصطلاح عرفي على مجموعة أمور كالساحة والغرفة والسطح ، ولكن صورته الذهنية واحدة. فالكلام في ان المشتق بسيط في عالم التصور أو مركب؟ ، بمعنى انه حين إطلاق اللفظ هل تأتي في الذهن صورة لشيء واحد أو أشياء؟ وليس الكلام في واقع المشتق وحقيقته (1).

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /54- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن ما ذكره قدس سره غير تام كما قيل (1).

والوجه فيه : انه لا كلام في بساطة المشتق بحسب التصور واللحاظ ، إذ الموضوع له إذا كان معنى واحدا لحاظا وان كان مركبا حقيقة أو اعتبارا ، كان المتصور عند إطلاق اللفظ ذلك المعنى الواحد والموجود في الذهن صورته لا صورتان فشأن المشتق لا يقل عن شأن المركبات الاعتبارية في جهة كونها بسيطة إدراكا ، فلا إشكال في بساطته من حيث الإدراك ولا كلام في هذه الجهة ، انما الكلام في بساطة وتركيب ذاته وحقيقته ، وهي محط الكلام بين الاعلام ، كما تشعر به عباراتهم في المقام ، فلاحظها.

وإذا اتضح لك موضوع الكلام ، فقد وقع الكلام في بساطة المشتق وتركيبه ، وقد ذهب صاحب الكفاية إلى بساطته وفاقا للسيد الشريف ، وتعرض إلى ذكر استدلاله على البساطة ونفي التركيب : بان مقتضى التركيب ان يكون معنى المشتق ذاتا لها المبدأ ، فحينئذ يقال : بان الذات المأخوذة اما مفهوم الذات أو مصداقها الخاصّ ، فعلى الأول : يلزم دخول العرض العام في الفصل في مثل : « الإنسان ناطق ». وعلى الثاني : يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاصّ في القضايا إلى الضرورة ، إذ يكون الموضوع جزء المحمول وحمل الشيء على نفسه ضروري ، لأن المعنى يكون في مثل : « الإنسان ضاحك » و « الإنسان إنسان له الضحك » (2).

وأجاب في الفصول عن كلا شقي الإشكال :

اما عن الأول : فبان الناطق انما كان فصلا في عرف المنطقيين ولم يثبت انه كذلك لغة ووضعا.

ص: 354


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 91 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /51- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

واما عن الثاني : فبان المحمول ليس هو الموضوع على إطلاقه كي يكون الحمل ضروريا ، بل المحمول هو الموضوع المقيد بالضحك ، وحيث ان ثبوت القيد غير ضروري فلا يكون حمل المقيد ضروريا (1).

واستشكل صاحب الكفاية في الجواب الأول : بأنه من الواضح ان المنطقيين جعلوا الناطق فصلا بما له من المعنى لغة وعرفا بلا نقله من معنى آخر.

واستشكل في الجواب الثاني : بان المحمول وان كان مقيدا ، إلاّ انه لا يخلو الأمر من أحد حالين ، اما ان يكون المحمول هو ذات المفيد بلا دخل للقيد والتقييد أصلا ، بل لوحظ التقييد مرآتا وعنوانا للذات. واما ان يكون المحمول هو المقيد ، بما انه مقيد ، بحيث يكون جهة التقيد والقيد دخيلة في المحمول وليست معرفة فقط. فعلى الأول يكون الحمل ضروريا لحمل الشيء على نفسه. وعلى الثاني تنحلّ القضية إلى قضيتين ، أحدهما : « الإنسان إنسان ». والأخرى : « الإنسان له النطق ». والقضية الأولى ضرورية ، وجهة الانحلال : ما تقرر من ان الوصف قبل العلم به خبر في الحقيقة ، فقولنا : « زيد شاعر ماهر » يشتمل على خبرين حقيقة الاخبار بالشعر وبالمهارة فيه ، وان لم تؤخذ المهارة بنحو الخبر بل بنحو الوصف ، فالقيد وان أخذ وصفا لكنه في الحقيقة اخبار ، فينحل المحمول إلى خبرين (2). وللانحلال تقريب آخر ليس محل ذكره هاهنا.

ثم ان صاحب الفصول نفسه تنظر في الجواب الثاني : بان المحمول وان كان مقيدا ، لكن الذات المقيدة به اما ان تكون مقيدة به واقعا أو لا. فعلى الأول يصدق الإيجاب بالضرورة. وعلى الثاني يصدق السلب بالضرورة. فالانقلاب لازم لا محالة.

ص: 355


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /61- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /52- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتنظر فيما ذكره صاحب الكفاية : بأن الانقلاب المدعى لا يثبت بما ذكر ، إذ المناط في الجهات ومواد القضايا انما هو ملاحظة نسبة المحمول إلى الموضوع بحسب ذاته بلا لحاظ الواقع وثبوتها له واقعا وعدم ثبوتها له ، بل لحاظ ثبوت النسبة واقعا للموضوع يوجب صدق الضرورة في جميع القضايا ، لأن القضية بشرط المحمول تكون ضرورية لا محالة. وما ذكره صاحب الفصول انما هو من باب الضرورة بشرط المحمول ، وهو أجنبي عن موضوع الكلام ، كما عرفت (1).

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره قد استشكل الشق الأول من استدلال المحقق الشريف - أعني لزوم دخول العرض العام في الفصل - : بان الناطق ونحوه مما يعد فصلا ليس فصلا في الحقيقة ، فان معرفة الفصل الحقيقي تكاد تخفي على كل أحد ، كما قرر ذلك ، ولا يعرفها سوى علام الغيوب ، وانما هو ونظائره من الآثار واللوازم الخاصة للفصل الحقيقي فتعرف بها الذات. وعليه ، فأخذ مفهوم الذات أو الشيء في مفهومه لا يستلزم سوى دخول العرض العام في الخاصة ولا محذور فيه ، إذ لا يلزم منه دخول العرضي في الذاتي (2). ولم يناقش قدس سره في الشق الثاني من الدليل ، ولكن المناقشة في الشق الأول كافية في إبطال الدليل ، إذ يمكن اختياره دون الشق الثاني.

ولكنه رحمه اللّه ذكر بعد كل هذا دليلا آخر على البساطة ونفى التركيب ، وهو : عدم تكرار الموصوف في مثل : « زيد كاتب » فان : « كاتب » لو كان مركبا من الذات والنسبة والمبدأ لزم تعدد الموصوف مع أنه واحد ضرورة (3).

والّذي يتحصل : ان الدليل على نفي التركيب بأخذ الذات في مفهوم المشتق عند صاحب الكفاية انما هو عدم تعدد الموصوف وتكراره.

ص: 356


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /53- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /52- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /54- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن هناك قولا آخر في التركيب لا يرجع إلى أخذ الذات في مفهوم المشتق ، بل إلى أخذ خصوص النسبة ، فمفهوم المشتق مركب من النسبة والمبدأ.

وقد أورد على هذا : بوجود موارد يصدق فيها المشتق بلا لحاظ النسبة فيها ، فانه يقال للبياض : انه أبيض ، قبل ملاحظة انه من الاعراض المتقومة بالغير أو المتقومة بذاتها ، بل بملاحظته ذاته. ومن هنا ادعي : أن مفهوم المشتق بسيط وان مفهومه نفس المبدأ ، فمفهوم قائم عين القيام وأبيض عين البياض ، إلا انهما يختلفان اعتبارا ولحاظا ، فقد لوحظ المبدأ في المصدر بما انه موجود مغاير للذات ومباين لها ، ولذلك لم يحمل عليها ، ولوحظ في المشتق بما انه من أحوال الذات وأطوارها وعوارضها ، فصار له مع الذات نحو اتحاد فصح حمله عليها.

وبالجملة : لا فرق بين قائم والقيام ونحوها إلا بالاعتبار ، فانهما بحسب المعنى متحدان ، واختلافهما اعتباري وهو الّذي أوجب صحة حمل أحدهما على الذات دون الآخر ، فان المصدر ملحوظ بشرط لا والمشتق ملحوظ لا بشرط الحمل.

وأورد عليه صاحب الفصول : بان ذات المعنى إذا كانت مغايرة للذات وجودا ومفهوما ومباينة لها لم يفد لحاظها من عوارض الذات وأوصافه وأطواره في تصحيح حمله عليها بالحمل الشائع ، إذ هذا اللحاظ لا يرفع المغايرة الذاتيّة بين الوجودين ولا يوجب وحدتهما في الوجود ، وهذا يدل على ان للمشتق سنخ معنى غير المبدأ متحد مع الذات في نفسه دون المصدر ، كما لا يخفى (1).

وقد حمل صاحب الكفاية كلام أهل المعقول ودعواهم بان المشتق مأخوذ لا بشرط والمصدر مأخوذ بشرط لا ، على تغاير مفهوميهما سنخا ، وان مفهوم

ص: 357


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /62- الطبعة الأولى.

المشتق سنخ مفهوم لا يأبى الحمل على الذات ولا بشرط من حيث الحمل دون مفهوم المصدر ، فان مفهومه بنحو يأبى الحمل على الذات وبشرط لا (1).

ولكن استشكل المحقق الأصفهاني رحمه اللّه : بان من يلاحظ كلام أهل المعقول يجده صريحا في دعوى وحدة مفهوم المشتق ومبدئه ، وان الاختلاف بينهما باللابشرطية وبالشرطلائية ، اعتباري لا غير (2).

وعليه ، فلا يتصور لدعوى البساطة بهذا المعنى وجه قريب.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إلى بساطة مفهوم المشتق بمعنى آخر وتصوير غير هذا التصوير (3). ومحصل دعواه : ان الموضوع له المشتق سنخ معنى مبهم. التنبيه الثاني : في ملاك الحمل.

وهو الاتحاد من جهة والتغاير من جهة ، وذلك لأن مقتضى الحمل هو الهوهوية بين شيئين وبيان ان المحمول هو الموضوع ، فمع التغاير من جميع الجهات لا يصح فرض كون المحمول هو الموضوع ، كما انه مع الاتحاد من جميع الجهات يمتنع الحمل لتقومه بفرض شيئين يكون أحدهما هو الآخر ، ومع الاتحاد عن جميع الجهات لا تعدد أصلا فلا محمول وموضوع. ثم ان الاتحاد المفروض في ملاك الحمل ان كان هو الاتحاد مفهوما وحقيقة سمّي الحمل بالأولي الذاتي ، وان كان هو الاتحاد في الوجود مع التغاير في المفهوم سمّي بالحمل الشائع الصناعي ، - كما أشرنا إليه فيما سبق -.

هذا تمام الكلام في ملاك الحمل.

وقد أشار المحقق صاحب الكفاية إلى ما جاء في الفصول من : لزوم

ص: 358


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /55- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية/1 95 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية/1 92 - الطبعة الأولى.

ملاحظة التركيب بين المتغايرين بملاحظتهما شيئا واحدا وحمل أحدهما على الآخر (1).

وأورد عليه :

أولا : بان هذه الملاحظة توجب عدم صحة الحمل لاستلزامها مغايرة المحمول للموضوع في الكلية والجزئية ، إذ الكل والجزء متغايران ، فإذا لوحظ المجموع امرا واحدا كان كلا ، فحمل أحدهما عليه حمل الجزء على الكل وهو ممتنع للمغايرة بينهما.

وثانيا : انه من الواضح انه لا يلحظ في الموضوع والمحمول الا ذاتهما ومعناهما بلا لحاظ شيء آخر معه في جميع القضايا وموارد الحمل (2).

وقد استشكل كلام المحقق الخراسانيّ من جهتين :

الأولى : لفظية ، وهي تعبيره ب- : « لا يعتبر » ، لأن صاحب الفصول لم يفرض اعتبار ذلك في ملاك الحمل ، بل صحح به حمل أحد المتغايرين وجودا على الآخر ، فكان الأصح التعبير ب- : « لا يكفى ».

الثانية : فيما أورده أولا ، فان صاحب الفصول لم يفرض حمل أحدهما على المجموع كي يدعى تغاير الكل مع الجزء ، بل فرض حمل أحدهما على الآخر ، وان هذا اللحاظ يوجب بينهما نوع اتحاد ، كما لو قال : « زيد وعمرو واحد » ، فان حمل أحدهما على الآخر بهذا اللحاظ يؤدي معنى زيد وعمر وواحد كما لا يخفى.

فالأولى - كما قيل - الإيراد عليه : بان صحة الحمل تابعة لتحقق ملاكه وهو الاتحاد ، وطبيعي أن الحمل بذلك تابع لظرف ملاكه ، فإذا كان الاتحاد خارجيا صح الحمل في الخارج ، وإذا كانت الوحدة لحاظية لا خارجية كان ظرف الحمل

ص: 359


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /62- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /56- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وان هذا ذاك في اللحاظ والذهن لا الخارج ، إذ لا وحدة بينهما خارجا كي يقال ان هذا ذاك خارجا. فملاحظة المجموع واحدا لا تصحح الحمل في الخارج مع المغايرة ، وانما تصحح الحمل في ظرف الوحدة المفروضة وهو الذهن واللحاظ ولا فائدة فيه. فتدبر.

وعلى كل فلا يحتاج المقام إلى زيادة تحقيق لعدم ترتب الأثر عليه. التنبيه الثالث : في حمل صفات الباري كالعالم والقادر وصدقها على ذاته المقدسة.

فقد يستشكل صحته من جهتين :

الجهة الأولى : ان الحمل لا بد فيه من تغاير المحمول والموضوع. والمفروض ان صفاته جل اسمه عين ذاته فلا تغاير بينهما.

الجهة الثانية : ان المشتق يعتبر في صدقه تلبس الذات بالمبدإ وانتسابه إليها ، لاشتماله على النسبة بناء على التركيب كما هو واضح ، وعلى جهتها بناء على البساطة ، إذ عليه يلحظ كون المبدأ بنحو من أطوار الذات وصفاتها ، وهذا يتقوم بفرض النسبة في صدقه وان كانت خارجة عن ذاته.

وبالجملة : فالمشتق انما يصدق في مورد تتحقق فيه النسبة بين المبدأ والذات ، وظاهران النسبة تقتضي التغاير والاثنينية كما لا يخفى ، فلا تحقق لها بين صفات الباري وذاته ، لكون المفروض انها عين ذاته ، ولا تغاير بينهما خارجا.

ولأجل ذلك التزم في الفصول بالتجوز أو النقل في صفات اللّه جل شأنه. لكون استعمالها في معناها غير ممكن (1).

وقد تصدى صاحب الكفاية قدس سره لدفع الإشكال من جهتيه وعقد لكل منهما تنبيها على حدة ..

ص: 360


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /61- الطبعة الأولى.

فدفع الجهة الأولى من الإشكال : بان صفات الباري عزّ وجل وان كانت متحدة مع ذاته خارجا ووجودا إلا ان المبدأ يغايرها مفهوما ، فان مفهوم العلم يغاير مفهوم الذات المقدسة ، وهذا التغاير المفهومي يصحح الحمل بلا إشكال ولا ريب ، كيف؟ وقد عرفت ان من أقسام الحمل ما كان التغاير فيه بين المفهومين والاتحاد بين الوجودين وهو الحمل الشائع ، فلا يعتبر التغاير بين الوجودين في صحة الحمل كما لا يخفى (1).

والإنصاف ان الأمر كما ذكره ، بل لا يحتاج إلى ذلك أصلا ، فان حلّ هذه الجهة أهون من ان يعقد لها تنبيه مستقل وتكون مورد الاهتمام بهذا النحو ، ولم تكن كفاية المغايرة المفهومية بين المبدأ والذات محل الإشكال بحسب الظاهر.

وعلى كل فيكفي في صحة الحمل مغايرة نفس المحمول مع الموضوع - كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني (2) - ولا يحتاج إلى إثبات مغايرة مبدئه ، فان المعتبر هو وجود المغايرة بين المحمول والموضوع لا غير ، ومن الواضح ان مفهوم المشتق يختلف عن مفهوم الذات حتى فيما كان مبدؤه متحدا مع الذات مفهوما ، نظير : « السواد أسود والوجود موجود ».

وعليه ، ففي مثل صفات البارئ وان كان المبدأ متحدا مع الذات وجودا إلا ان المحمول هو الصفة لا المبدأ ، والصفة مغايرة للذات ، ومغايرتها تكفي في صحة الحمل.

وبالجملة : فاندفاع هذه الجهة من الإشكال في غاية الوضوح ، فلا تحتاج إلى مزيد بحث وتفصيل كلام.

واما الجهة الثانية : فقد دفعها المحقق صاحب الكفاية - بعد التزامه

ص: 361


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /56- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 99 - الطبعة الأولى.

باعتبار التلبس وقيام المبدأ بالذات في صدق المشتق ، ودفع توهم من توهم عدم اعتباره لأجل صدقه في موارد لا يقوم المبدأ فيها بالذات ، كالضارب والمؤلم فان الضرب والألم يقومان بالمضروب والمؤلم ، مع ان صدق الضارب والمؤلم على من صدر منه الضرب والألم حقيقي لا إشكال فيه - : بان أنحاء القيام والتلبس تختلف باختلاف أنحاء المبادي وأطوارها ، فتارة : يكون القيام صدوريا. وأخرى : حلوليا. وثالثة : بنحو الوقوع عليه. ورابعة : بنحو الوقوع فيه. وخامسة : يكون بنحو الانتزاع. وسادسة : يكون بنحو الاتحاد خارجا. فالقيام على أنحاء ، ومنه القيام بنحو الاتحاد خارجا كما في صفات الباري تعالى ، فان العلم قائم بذاته ، لكن قيامه بنحو العينية والاتحاد. وعدم اطلاع العرف على مثل هذا النحو من التلبس وكونه بعيدا عن الأذهان العادية لا يضر صدقها عليه ، مع وجود مفهوم صالح للصدق عليه حقيقة ولو بعد الدقة والتأمل العقلي ، فان العرف مرجع في تشخيص المفاهيم دون المصاديق وما ينطبق عليه المفهوم (1).

وأنت خبير بان ما ذكر صاحب الكفاية من صدق التلبس في صفات اللّه عزّ اسمه وتحقق القيام وانه نحو قيام لا يدرك إلا بالدقة ، امر لا يعدو هذه الألفاظ ومعانيها ، وإلاّ فهو غير قابل للتصور والتسليم بعد ان عرفت ان التلبس يستتبع النسبة بين الذات والمبدأ ويتقوم بها ، والنسبة تتوقف على وجود اثنينية وتغاير بين المنتسب والمنتسب إليه ولا اثنينية بين صفات اللّه وذاته فلا تتصور النسبة والتلبس بينهما ، ففرض وجود التلبس والقيام بنحو خاص وهو القيام بنحو الاتحاد أمر لا يسهل التسليم به ولا يعرف كنهه. وما ذكره قدس سره أشبه بالفرار عن الإشكال والانحراف به إلى عالم آخر وجهة ثانية. فتأمل.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) لدفع الإيراد المزبور : بعنوان توضيح

ص: 362


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /57- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عبارة الكفاية : بان من مصححات صدق المشتق عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع ، كما في صدق الأسود على السواد والموجود على الوجود ، ببيان : ان اتصاف الجسم بالأسود بواسطة أمر خارج عن ذاته يوجب أولوية اتصاف السواد به ، لأن وجدان الشيء لنفسه ضروري ، ومن هذا الباب صدق صفات الكمال والجمال والجلال على ذات الباري عزّ اسمه ، فان مبادئها عين ذاته ، وهو نحو من القيام ، بل هو أعلى مراتب القيام (1).

والإنصاف انه لا يخلو عن شيء من التوقف ، فانه ان كان المراد كما قد يظهر انه لا يعتبر في صحة الحمل وصدق المشتق التلبس والنسبة ، بل يكفى واجدية الذات للمبدإ ، فما ذكره من ضرورة واجدية الشيء لنفسه لا يكاد يتعقل ، فان الظاهر من الواجدية عرفا كونها إضافة خاصة تتقوم بالواجد والموجود ، وظاهران الإضافة بطبعها تقتضي الاثنينية ، فلا معنى لأن يقال ان الشيء واجد لنفسه ، بل - إذ هو عين نفسه - فواجديته لنفسه لا محصل لها. وعليه ، فالتخلص عن الإيراد بما ذكر لا يتحقق ، إذ ما ذكر يقتضي الاثنينية أيضا.

وقد تصدى السيد الخوئي ( دام ظله ) لتصحيح اعتبار الواجدية في صحة الحمل وعدم اعتبار التلبس بتقريب : ان التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه غير معتبر بلا إشكال ، ضرورة صحة صدق المشتقات الاعتبارية مع عدم كونها من الاعراض وليست بقائمة بالذات قيام العرض بمعروضه ، فلا بد أن يكون المصحح للصدق واجدية الذات للمبدإ كي تشتمل المبادئ الاعتبارية ، بل جاء في تقريراته : ان المراد من التلبس هو ذلك ، ثم ذكر أن واجدية الذات لنفسه ضرورية (2).

ص: 363


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 100 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 292 - الطبعة الأولى.

ولا يخفى ان ما ذكره انما يتم لو دار الأمر بين التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه والواجدية بحيث لم يكن هناك واسطة ، إذ نفي أحدهما يعين الآخر قهرا ، ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن ان يؤخذ في تصحيح الحمل وجود النسبة والربط بين المبدأ والذات فيعم المبادئ الاعتبارية ولا يرجع إلى الواجدية ، فنفي أخذ التلبس بذاك المعنى لا يعين الواجدية كما لا يخفى. بل يمكن اعتبار التلبس ولكن بمعنى قيام المبدأ بالذات لا قيام العرض بمعروضه ، فيعم أيضا الأوصاف الاعتبارية.

ثم ان ما ذكر في كلام العلمين من تصحيح الحمل بواجدية الذات للمبدإ بنحو واجدية الشيء لنفسه وكونه من الحمل اتحاد الواجدية يمكن ان يورد عليه :

أولا : ان مقتضاه صحة حمل المشتق على ما يدل على المبدأ في جميع الموارد ، مع انه لا يصح ان يقال : « القيام قائم ، والعلم عالم ، والضرب ضارب » ونحو ذلك.

وثانيا : ان المدار في تشخيص مفاهيم الألفاظ على الفهم العرفي ، والعرف يفهم من المشتق الواجدية المتقومة باثنين ، والحاصلة بين أمرين ، ولا يفهم منه ما يعم واجدية الشيء لذاته ولو كان هذا ناشئا عن عدم إدراكه لها ، وهذا ليس من الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق بل من الرجوع إليه في تعيين المفاهيم. فلاحظ.

وبالجملة : ما ذكره لا يرجع إلى محصل.

والّذي يتحصل : انه لم يتم لدينا وجه لدفع الإشكال في صدق صفات الباري على ذاته حقيقة ، لعدم النسبة والربط لعدم التغاير بين الذات والصفات ، فلا محيص عن الالتزام بما التزم به صاحب الفصول من كون استعمالها بنحو المجاز أو النقل.

نعم يبقى هنا إيرادان :

ص: 364

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية على الالتزام بالنقل ، من لزوم الإلحاد أو التعطيل ، وذلك لأن المعنى الّذي يراد استعماله فيه ، اما ان يكون المعنى العرفي المفهوم كمن ينكشف لديه العلم في عالم ، أو ما يقابله كالجهل ، أو لا يراد بها أي معنى.

فالأوّل : هو المدعى والمفروض انه لا يقول به. والثاني ، يستلزم نسبة الجهل إليه تعالى وهو محال. والثالث ، يستلزم ان يكون اللفظ صرف لقلقة لسان (1).

ولا يخفى ان هذا الإيراد انما يتأتى لو أراد صاحب الفصول بالنقل نقل المادة ، اما لو كان مراده نقل الهيئة وانها تستعمل في معنى آخر غير المعنى الموضوعة له لم يلزم ما ذكر ، فان المبدأ يراد به معناه ، وهو من ينكشف لديه العلم ، وإنما التصرف في الهيئة ، فانها هي مورد الإشكال.

الثاني : ان التجوز لا يتصور في الحروف ، إذ الموضوع له فيها هو النسبة والربط وهو من سنخ الوجود ، فإذا لم يستعمل فيه الحرف واستعمل في غيره ، فاما ان يكون الغير من المعاني الحرفية أو من المعاني الاسمية ، فعلى الأول يعود الإشكال. وعلى الثاني لا علاقة بين المعنيين كي تصحح الاستعمال للتغاير الموجود بينهما ، مضافا إلى خروج الحرف عن كونه حرفا.

والجواب : انه لا ملزم لأن يكون المجاز في الكلمة كي يورد ما ذكر ، بل يمكن ان يكون المجاز في الإسناد ، بمعنى ان يكون في اسناد الصفة إلى الذات مسامحة وتجوز ، مع استعمالها هيئة ومادة في معناها الموضوع له.

وبالجملة : يتعين الالتزام بما التزم به صاحب الفصول ، ولا محذور فيه عقلا. واللّه العالم.

ص: 365


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /58- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تذييل : عقد صاحب الكفاية في آخر مبحث المشتق امرا لم يتضح المراد به والأثر منه وعبارته لا تخلو من ارتباك وتهافت ، إذ قال أولا : « الظاهر انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدإ حقيقة ... بل يكفي التلبس به ولو مجازا كما في الميزاب الجاري » ، ثم قال بعد ذلك : « فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي وان كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازي » (1). إذ ظاهر العبارة الأولى عدم اعتبار التلبس بالمبدإ حقيقة في جري المشتق على الذات حقيقة. وظاهر العبارة الثانية انه لا يعتبر في صدق المشتق في نفسه وبما انه مشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدإ ، بل يكون التجوز في الإسناد لا في الكلمة ، نظير اسناد الجريان بما له من المعنى إلى الميزاب.

وعلى كل فليس ما أفاده أخيرا بذي إفادة وأثر فلا يهمنا تحقيقه والبحث فيه. واللّه ولي السداد والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تم بحث المشتق درسا وحضورا يوم السبت 30 رجب سنة 1384 ه -. وقد تم تسويده يوم الثلاثاء 3 شعبان سنة 1384 ه -. ويأتي الكلام بعده في مبحث : « الأوامر » ونستمد من اللّه تعالى العون.

ص: 366


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /58- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأوامر

اشارة

ص: 367

ص: 368

الأوامر

الكلام في مطالب :

المطلب الأول : في مادة الأمر.

ولأجل تحقيق الحال فيها يتكلم في جهات :

الجهة الأولى : في معنى الأمر لغة وعرفا واصطلاحا.

وقد ذكر صاحب الكفاية : بأنه ذكر له معان عديدة ، كالطلب. والشيء. والشأن. والغرض. والحادثة. والفعل ، إلا انه قدس سره استشكل كون هذه كلها من معاني الأمر ، وادعى أن عدّ بعضها من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، بمعنى : انه لم يستعمل في الموارد التي يستشهد بها في المفهوم ، بل يراد منه ما هو مصداق المفهوم ، ولكن لا بما انه مصداق المفهوم فيتخيل انه مستعمل في المفهوم وموضوع له ، فمثلا قوله : « جئت لأمر كذا » لم يستعمل لفظ الأمر في مفهوم الغرض كما قيل. بل اللام دلت على الغرض لكونها تعليلية ، وانما استعمل في مفهوم آخر كان هذا بدلالة اللام مصداقا للغرض. ونحوه غيره ، ومن هنا خطأ صاحب الفصول حيث التزم بان لفظ الأمر حقيقة في الطلب والشأن (1).

ص: 369


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /61- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تعبير صاحب الكفاية عن الاشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق ، ببيان : ان اشتباه المفهوم بالمصداق انما يكون في مورد يوضع اللفظ للمصداق بما انه مصداق وبما هو كذلك ويستعمل فيه مع هذا اللحاظ ، فيدعى وضعه للمفهوم كما لو وضع اللفظ للغرض بالحمل الشائع ، فيدعى وضعه للغرض بالحمل الأولي. اما مع عدم الوضع للمصداق فلا يكون ادعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بين المفهوم والمصداق. والحال في المعاني المذكورة كذلك ، إذ لم يوضع اللفظ لمصاديقها جزما. فالمتجه على هذا : التعبير بالاشتباه ، لا غير (1).

وأنت خبير بان هذا التعبير كما يمكن ان يراد به ما ذكره المحقق الأصفهاني يمكن ان يراد به ما قصده المحقق الخراسانيّ ، إذ يصح التعبير به عن دعوى الوضع للمفهوم مع استعماله في المصداق لتخيل استعماله في المفهوم.

ويكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق في مقام الاستعمال الّذي لوحظ طريقا لمعرفة الوضع.

وبالجملة : ليس في وضع التركيب المذكور ما يعين كون مفاده ما ذكره الأصفهاني ، بل هو تركيب يمكن ان يقصد منه ما يتلاءم معه. فلاحظ ، والأمر سهل ، لأن الإيراد أدبي لا جوهري علمي.

ثم ان صاحب الكفاية بعد هذا لم يستبعد كون الأمر موضوعا للطلب في الجملة - يعنى بلا تعيين كونه الوجوبيّ أو الأعم أو غير ذلك من الخصوصيات التي يتكلم في أخذها فيه - وللشيء وحقيقة فيهما (2).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بان وضع الأمر للشيء يقتضي

ص: 370


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 103 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /62- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مرادفتهما الموجب لصحة استعمال كل منهما في كل موضع يستعمل فيه الآخر ، مع ان الأمر ليس كذلك ، فان هناك موارد يستعمل فيها الشيء ولا يستعمل فيها الأمر ، كالأعيان الخارجية ، فانه لا يقال : « رأيت أمرا » إذا رأى فرسا ، مع انه يقال : « رأيت شيئا » فان الأمر يختص في صدقه بالصدق على الأفعال. كما ان من موارد استعمال الأمر ما لا يحسن إرادة الشيء فيه كقولك : « امر فلان غير مستقيم » ، فانه لا يحسن أن يقال : « شيء فلان غير مستقيم » (1).

واختار المحقق النائيني قدس سره : ان معنى الأمر هو الطلب والواقعة ذات الأهمية في الجملة ، ثم تدرّج وادعى إمكان القول بان الأمر بمعنى الطلب من مصاديق الواقعة ذات الأهمية ، لأن الطلب من الأمور التي لها أهمية. وعليه فللأمر معنى واحد يندرج فيه الكل ، وهو الواقعة ذات الأهمية ، وهو ينطبق تارة على الطلب. وأخرى على الغرض. وثالثة على الحادثة. وهكذا. نعم هو لا يستعمل في الجوامد بل في خصوص الأفعال والصفات. وقد ذكر قدس سره بان تصوير الجامع القريب بين الجميع وان كان صعبا ، لكننا نرى بالوجدان ان الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد ، فيكون الاشتراك اللفظي أبعد (2).

ولكن الإنصاف يقتضي عدم تمامية ما ذكر ، إذ يرد عليه :

أولا : انه من الواضح استعمال لفظ الأمر فيما لا أهمية له من الوقائع بلا لحاظ عناية وعلاقة ولا وجود مسامحة بحسب النّظر العرفي ، فيقال : « هذا الأمر لا أهمية له » ، فدعوى كون الموضوع له هو الواقعة ذات الأهمية ممنوعة.

وثانيا : ان لفظ الأمر يجمع بنحوين : الأول : بنحو أوامر. والآخر : بنحو أمور. وهذا التعدد يكشف عن تعدد معنى الأمر بحيث يختلف الجمع لاختلاف

ص: 371


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 103 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 86 - الطبعة الأولى.

المعنى المقصود ، فدعوى وحدة معنى الأمر ممنوعة. فلاحظ.

وقد ذهب المحقق العراقي رحمه اللّه إلى ان لفظ الأمر له معنيان :

أحدهما : عبارة عن مفهوم عرضي عام مساوق لمفهوم الشيء والذات من جهة كونهما من المفاهيم العامة العرضية ، ولكنه أخص مما يساوقه من هذين العنوانين ، وهو بهذا المعنى من الجوامد يجمع بنحو : « أمور ».

والآخر : ما يساوق الطلب المظهر بالقول أو بغيره من كتابة أو إشارة ، لا مطلق الطلب ولو لم يظهر ، ولا مطلق إظهاره ولو لم يكن في الواقع طلب ، وهو بهذا المعنى من المشتقات فيصلح الاشتقاق منه اسما أو فعلا ، فيقال : أمر يأمر فهو آمر. ويجمع بنحو : « أوامر » (1).

ولا يخفى انه لا يرد عليه ما ورد على صاحب الكفاية ، لالتزامه بأخصية معنى الأمر عن مفهوم الشيء ، بل هو مفهوم آخر يشارك مفهوم الشيء في كونه مفهوما عاما عرضيا لا غير. كما لا يرد عليه ما ورد على المحقق النائيني من تعدد الجمع ، لالتزامه بتعدد المعنى المستتبع لتعدد الجمع. وقد التزم المحقق الأصفهاني رحمه اللّه بوحدة معناه ، وانه بمعنى الطلب والإرادة ، وهو بهذا المعنى يصدق على التكوينيات ، فانها متعلقة لإرادة اللّه التكوينية ومشيئته الإلهية فيطلق عليها لفظ المصدر ، ويكون بمعنى المفعول بمعنى ان المقصود بالأمر فيها المراد. فيطلق على الأعيان الخارجية بلحاظ هذا المعنى. ثم انه قدس سره تعرض لإبطال ما قيل من ان معنى الأمر هو الفعل. ببيان : ان الموضوع له اما ان يكون مفهوم الفعل وما هو بالحمل الأولي فعل. أو يكون مصداقه وما هو بالحمل الشائع فعل. اما الأول : فهو واضح المنع لوضوح عدم مرادفة الأمر للفعل ، فليس امر وفعل بمعنى واحد لا محالة ، واما الثاني : فالوضع لذوات المصاديق بلا جهة جامعة بينها ،

ص: 372


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 156 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كالأكل والشرب والقيام وغيرها سخيف جدا ولا يلتزم به أحد.

والجهة الجامعة بين افراد الفعل بما هي كذلك ليست إلا حيثية الفعلية المتقومة بقابلية تعلق الإرادة بها ، فانها هي الجهة الفارقة بين الأفعال والصفات. وعليه فيكون إطلاق الأمر عليها من جهة قابليتها لأن تكون موردا للإرادة فيطلق لفظ الأمر بمعناه المصدري المبنى للمفعول على الأفعال ، كما يطلق المقصد والمطلب على ما يقع في معرض القصد والطلب وان لم يكن هناك طلب ولا قصد.

وبالجملة : فالامر في جميع استعمالاته بمعنى واحد ، وهو الإرادة والطلب ، لكنه يستعمل في متعلق الإرادة بمعنى المفعول.

يبقى إشكال اختلاف الجمع. ويدفع : بان الأمر حين يطلق على الأفعال لا يلحظ فيه تعلق الطلب بها تكوينا أو تشريعا فعلا ، بل لا يلحظ إلاّ قابليتها لذلك ، فيكون اللفظ متمحّضا في معناه الأصلي الجامد ، فيجمع على وزن أمور كما هو الغالب فيما هو على هذا الوزن ، بخلاف إطلاقه على الطلب ، فان الطلب فعلا ملحوظ فيه كيف؟ وهو المستعمل فيه ، فلا يتمحض في معناه الأصلي فيجمع على وزن أوامر.

ثم انه قدس سره بعد تحقيق هذا بتفصيل اختصرناه ، ذكر ان تحقيق الحال لا أثر فيه ولا طائل تحته فالاقتصار على هذا المقدار متعين وأولى (1).

ومن الواضح ان مرجع ما ذكره قدس سره إلى عدم الملزم للالتزام بتعدد المعنى للأمر بنحو الاشتراك اللفظي ، مع إمكان فرض معنى واحد له بلا ورود أي إشكال.

وما ذكره لا أرى فيه خدشا ، فلا ضير في الالتزام به فتدبر.

هذا كله في بيان المعنى اللغوي والعرفي. واما المعنى الاصطلاحي : فقد

ص: 373


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 104 - الطبعة الأولى.

نقل صاحب الكفاية بأنه موضوع في الاصطلاح للقول المخصوص ، واستشكل صاحب الكفاية بأنه على هذا لا يكون معنى الأمر حدثيا بل جامدا. فلا يصح الاشتقاق منه ، مع ثبوت الاشتقاق الظاهر كونه بلحاظ ما له من المعنى عندهم ، وذلك يتنافى مع دعوى أنّ معناه القول المخصوص. ثم ذكر انه يمكن ان يراد بان المعنى الاصطلاحي للأمر هو الطلب بالقول لا نفس القول ، وانما ذكر القول فقط تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه.

وبعد ان ذكر هذا ، أفاد ان تحقيق المعنى الاصطلاحي غير مهم ، بل الأمر سهل ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح ، وانما المهم تحقيق معناه العرفي ليحمل عليه الاستعمال الوارد في الآيات والروايات مع عدم القرينة على التعيين (1).

ثم انه قدس سره ذكر انه قد استعمل في غير واحد من معانيه. وهو بظاهره يتنافى مع ما تقدم منه من انه حقيقة في خصوص الطلب والشيء ، فلاحظ. والأمر سهل كما ذكر فلنكتف بهذا المقدار ، فالتطويل بلا طائل.

الجهة الثانية : في أخذ العلوّ أو الاستعلاء في معنى الأمر.

لا إشكال في ان الطلب الموجه من طرف - شخص - إلى آخر بلا علوّ ولا استعلاء لا يعد عرفا أمرا ، بل يسمى التماسا المرادف بالفارسية ل- :

« خواهش ». وانما الإشكال في أن الطلب الّذي يكون معنى الأمر هل هو الطلب مع خصوص العلوّ ، أو مع خصوص الاستعلاء ، أو أحدهما؟.

ادعى صاحب الكفاية : بان الأمر هو خصوص الطلب من العالي. واستدل على دعواه بظهور ذلك عرفا ، وان الطلب من العالي ولو كان مستخفضا لجناحه يعد امرا (2).

ص: 374


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /62- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /63- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد يستدل على كفاية الاستعلاء في تحقق الأمر وعدم اعتبار العلو بتقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه ، وهو قد يقرب بوجهين :

أحدهما : ان نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب امرا ، إذ أمر السافل العالي قبيح.

والآخر : إطلاق الأمر على طلبه في مقام التوبيخ بقولهم : « لم تأمره؟ » ، فانه كاشف عن كون طلبه أمرا ، إذ الظاهر كون الاستعمال حقيقيا وبما له من المعنى لا مجازيا.

ولكن كلا الوجهين مدفوعان :

اما الأول : فلان التوبيخ لم يكن على الأمر ، بل على استعلائه على من هو أعلى منه وإثبات ما ليس له من المقام لنفسه ، لا على نفس الأمر.

ومنه يتضح اندفاع الوجه الثاني ، فان إطلاق الأمر على طلبه جريا على اعتقاده وبنائه لا حقيقة. فان الطالب السافل يدعى لنفسه مقام الآمر والأمر. فيجري في مقام توبيخه على مجرى بنائه ويوبخ على ما هو أمر بنظره. كما يقال لمن يدعي الأعلمية وهو ليس كذلك : أيها الأعلم بين هذه المسألة بوضوح. فلاحظ.

وأنت خبير بان تحقيق هذه الجهة لا أثر له أصلا ، لأن الأمر الّذي نبحث فيه ما يصدر من المولى جل شأنه وهو مستجمع للعلو والاستعلاء كما لا يخفى.

وانما تعرضنا لها تبعا لصاحب الكفاية فالدقة فيها غير لازمة. وانما الأمر الّذي لا بد من التنبيه عليه : ان مطلق الطلب من العالي لا يسمى أمرا ، وانما هو خصوص الطلب الصادر منه بحسب مقام مولويته أو علوه دون ما يصدر منه بغير لحاظ هذه الجهة ، كالتماسات الملوك لإخوانهم أو لغيرهم لا بنحو الأمر المستتبع لغضبهم وعقابهم ، فانها لا تسمى أوامر بلا إشكال.

الجهة الثالثة : قد عرفت ان الأمر بمعنى الطلب من العالي ، فهل هو

ص: 375

خصوص الطلب الإلزامي والّذي يكون بنحو الوجوب ، أو الأعم منه ومن الطلب الندبي ، أو أنه خصوص الطلب الندبي.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأول وان لفظ الأمر حقيقة في الوجوب ، مستدلا على ذلك : بانسباقه عند إطلاقه. وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره. وأيده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المطولة ، ولذلك جعلها تأييدا ومقربا لا دليلا وشاهدا.

وأنكر الاستدلال على الوضع للأعم بصحة تقسيم الأمر للوجوب والندب ، فيقال : الأمر وجوبي وندبي. بأنه انما يكون دليلا على إرادة الأعم من لفظ الأمر في مقام التقسيم ومن اللفظ المستعمل ، والاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

كما أنكر الاستدلال على الوضع للأعم بان فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهي فعل المأمور به. بان المراد من المأمور به ان كان معناه الحقيقي ، فالكبرى ممنوعة لاختصاص الأمر بالوجوب. وان كان الأعم من معناه الحقيقي ، فالكبرى وان سلمت لكن لا تفيد في إثبات المدعى (1).

ولكن الإنصاف : ان صحة التقسيم إلى الإيجاب والندب انما يكون بلحاظ ما للأمر من معنى عرفي لا بلحاظ ما يستعمل فيه اللفظ حال التقسيم. وعليه ، فهو دليل على كون اللفظ موضوعا للأعم من الطلب الوجوبيّ والندبي.

ولكن يعارض هذا الدليل بدوا صحة مؤاخذة العبد بمجرد مخالفة الأمر ، فانه ظاهر في ظهور الأمر في الوجوب.

ويمكن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الأمر للأعم مع الالتزام بأنه ينصرف مع عدم القرينة إلى الطلب الوجوبيّ والإلزامي وينسبق إليه. فيتحفظ على

ص: 376


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /63- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ظهور كلا الأمرين المزبورين - أعني التقسيم والمؤاخذة - ، وتكون النتيجة موافقة لمدعى صاحب الكفاية وان خالفناه في المدعى والموضوع له. فتدبر.

الجهة الرابعة : هل الموضوع له لفظ الأمر هو الطلب الحقيقي أو الإنشائي ، أو الحقيقي المنشأ بقول أو بغيره من كتابة أو إشارة؟.

التحقيق كونه موضوعا للطلب الإنشائي ولو لم يكن طلب حقيقي ، وهو مختار صاحب الكفاية (1). لوضوح عدم صدق الأمر على مجرد حصول الطلب في النّفس لو علم به بلا إظهار له إنشاء ، كما انه يصدق بلا مسامحة على الأوامر الامتحانية ، مع عدم ثبوت الطلب فيها حقيقة.

ولا بد من التنبيه على امرين :

الأمر الأول : ان الأمر إذا كان موضوعا للطلب الإنشائي - كما اختاره صاحب الكفاية وهو الظاهر - ، امتنع إنشاء الطلب بلفظ الأمر حقيقة ، لأن الطلب الإنشائي هو الطلب المنشأ باللفظ والموجود بوجود إنشائي بواسطته ، وهذا غير قابل للإنشاء ثانيا ، إذ ما هو موجود لا يقبل الإيجاد ، وانما الإنشاء والوجود الإنشائي يطرأ على ذات المعنى ونفس المفهوم. وعليه ، فإذا كان لفظ الأمر موضوعا للطلب الموجود في عالم الإنشاء - بأي معنى أريد من الإنشاء - امتنع ان يستعمل في إنشاء الطلب حقيقة ، لأنه يستلزم إنشاء الطلب المنشأ ويكون معنى : « أمرتك » إنشاء الطلب المنشأ وقد عرفت امتناعه.

ونظير هذا الأمر يورد على تعريف البيع : بأنه تمليك إنشائي ، فانه يقتضي عدم صحة إنشاء التمليك بلفظ البيع ، كقوله : « بعت » ، لأن التمليك الإنشائي الّذي هو معنى البيع غير قابل للإنشاء.

وقد غفل من وجّه تعريف الشيخ للبيع في مكاسبه : بأنه إنشاء التمليك

ص: 377


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /64- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بكون مراده كون البيع هو التمليك الإنشائي لا إنشاء التمليك ، لعدم قابلية الإنشاء للإنشاء ، لأنه عبارة عن استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى - اعتبارا أو إنشاء - أو نفس إيجاد المعنى ، وهو بذلك غير قابل للإنشاء ، بل لا معنى لإنشائه - كما لا يخفى ونبهنا عليه في بيان الإشكال في وضع لفظ المعاملة للسبب (1) -. غفل من وجه كلام الشيخ رحمه اللّه بذلك عن ورود عين الإشكال على ما وجّهه به ، إذ عرفت ان التمليك الإنشائي غير قابل للإنشاء كالطلب الإنشائي ، وعليه فيشكل إنشاؤه بلفظ البيع كما يقع كثيرا.

والطريق إلى التخلص عن هذا الإيراد ينحصر في أحد امرين :

أحدهما : الالتزام بان لفظ الأمر والبيع ونحوهما مستعمل في مقام الإنشاء في ذات المعنى كالطلب والتمليك بلا أخذ خصوصية إنشائه فيه ، وان وضع اللفظ للمعنى مع الخصوصية ، فتكون هذه الاستعمالات مجازية.

والآخر : التنزل عن دعوى وضع اللفظ للطلب الإنشائي أو التمليك الإنشائي ، والتزام ان الموضوع له لفظ الأمر هو مفهوم الطلب ، أعم من كونه حقيقيا أو إنشائيا ، وان الموضوع له لفظ البيع هو كلي التمليك سواء كان حقيقيا أو إنشائيا. نعم ينصرف اللفظ إلى الفرد الإنشائي من الطلب والتمليك ، لكنه مع عدم القرينة فهو مستعمل في مقام الإنشاء في معناه الحقيقي ، وهو نفس المفهوم ، ولا ينصرف في هذا الحال إلى الفرد الإنشائي ، لأن استعماله في مقام الإنشاء بضميمة عدم إمكان إنشاء المنشأ قرينة قطعية على عدم إرادته. وعليه فيلتزم بانصرافه إلى الفرد الإنشائي في مقام الاخبار لا في مقام الإنشاء لوجود القرينة في هذا المقام المانعة عن الانصراف. فتدبر.

وعلى كل فالإشكال متين ، وهذان الطريقان فرار منه والتزام بوروده كما

ص: 378


1- راجع 1 / 276 من هذا الكتاب.

لا يخفى.

الأمر الثاني : فيما يتعلق بعبارة الكفاية في المقام لظهور وجود تهافت بين صدرها وذيلها.

وبيان ذلك : انه قدس سره ادعى ان الطلب الموضوع له لفظ الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الّذي يحمل عليه الطلب المطلق بالحمل الشائع الصناعي ، بل هو الطلب الإنشائي الّذي لا يحمل عليه الطلب بقول مطلق بالحمل الشائع ، بل يحمل عليه الطلب الإنشائي. ثم ذكر انه لو أبيت إلاّ عن كونه موضوعا لمطلق الطلب الأعم من الحقيقي والإنشائي ، فلا أقل من دعوى انصرافه إلى الطلب الإنشائي ، كما ان لفظ الطلب ينصرف إليه (1).

فان الّذي يظهر من صدر العبارة ان للطلب مفهوما لا يشمل الطلب الإنشائي ، ولذلك لا يحمل عليه بالحمل الشائع لأنه ليس فرده ، وهذا ينافي ما جاء في العبارة الأخرى من انصرافه إلى الطلب الإنشائي ، إذ مع عدم كونه من افراده كيف ينصرف إليه؟!. فان الانصراف فرع فردية المنصرف إليه للمفهوم الكلي كما لا يخفى. ثم انه إذا لم يحمل عليه بقول مطلق عرفا ، فكيف ينسبق عنه إلى الذهن؟.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه العبارة ورفع ما يظهر من التهافت هو :

ان الحمل الشائع الصناعي ينصرف عرفا إلى ما كان الاتحاد بين المحمول والموضوع في الوجود الخارجي الا ما قامت القرينة فيه على كون الاتحاد في غير الخارج ، بل نسب إلى صدر المتألهين : القول بان ملاكه الاتحاد في الخارج.

وعليه ، فلا يحمل المفهوم على فرده غير الخارجي مع كونه فردا له. وبما ان الطلب الإنشائي ليس موجودا خارجا فلا يحمل عليه الطلب المطلق ، وانما يحمل

ص: 379


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /64- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

على الطلب الحقيقي لأنه وجوده الخارجي.

واما الانصراف فهو لا يرتبط بعالم الحمل والصدق ، وانما هو يرتبط بعالم اللفظ واستعماله ، فيجوز ان ينصرف اللفظ إلى الفرد الإنشائي لكثرة استعماله فيه ، ولو لم يصح حمل المفهوم عليه.

وبالجملة : صحة الحمل لا ترتبط بالاستعمال ، بل بالملاك الواقعي للحمل ، بخلاف الانصراف فان ملاكه كثرة الاستعمال ولو كان مجازيا ، فالانفكاك بينهما جائز. فلاحظ وتأمل.

إلى هنا ينتهي الكلام في جهات مادة الأمر.

ص: 380

الطلب والإرادة

أقحم صاحب الكفاية مبحث الطلب والإرادة ، وحديث اتحادهما وتغايرهما ، في البحث عن مادة الأمر ، وقد انتقل إليه بنحو واضح التكلف. فانه بعد ما انتهى من الحديث عن مادة الأمر ، وان الطلب الموضوع له لفظ الأمر هو الإنشائي ، أو انه هو المنصرف إليه من لفظ الأمر كما انه المنصرف من لفظ الطلب ، ذكر أن الأمر في لفظ الإرادة بالعكس ، فان المنصرف منها الإرادة الحقيقية ، وهو الّذي أوجب إيهام تغايرهما ذاتا ، فقيل به ثم بدأ بذكر ما اختاره في المقام ، والاستدلال عليه بشكل مفصل.

وعلى كل فقد تبعه في هذا المبحث سائر الاعلام ممن تأخر عنه ، فاللازم متابعتهم والبحث في هذا الموضوع.

وقد اختار صاحب الكفاية اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وإنشاء وخارجا ، بمعنى ان مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، والإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي ، وواقع الإرادة عين واقع الطلب ، ولا فرق بينهما ذاتا ووضعا ، وانما الفرق بينهما لفظي لا أكثر ، فلفظ الطلب ينصرف إلى الطلب الإنشائي ولفظ الإرادة ينصرف إلى الإرادة الحقيقية. وقد نسب قدس سره هذا الرّأي إلى المعتزلة ، ونسب دعوى تغايرهما إلى الأشاعرة (1).

وتحقيق المقام : انه قد قيل : ان النزاع يمكن ان يكون بأنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني غير الإرادة عند

ص: 381


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /64- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر بشيء. وهو بهذا النحو يكون عقليا.

الثاني : ان يكون النزاع في ان مدلول الأمر هل هو الإرادة والطلب متحد معها ، أو منطبق على الكاشف عنها كي يكون الصيغة كاشفة عن الإرادة ، فيترتب عليه ما يترتب على إحراز إرادة المولى ، أولا فتكون الصيغة كاشفة عن الطلب المغاير للإرادة ، فلا يترتب عليها ما يترتب على إحراز إرادة المولى. والمسألة بهذا النحو تكون أصولية.

الثالث : ان يكون النزاع في مرادفة لفظ الطلب للفظ الإرادة بلا نظر إلى ثبوت صفة أخرى في النّفس ولا إلى مدلول الصيغة. والمسألة بهذا النحو تكون لغوية محضة.

وعليه فالكلام يقع في الأنحاء الثلاثة :

اما في ثبوت صفة أخرى نفسانية غير الإرادة ، فقد التزم به الأشاعرة ، وعبروا عنها بالكلام النفسيّ في الجمل الاخبارية وبالطلب في الإنشائيات. ومنشأ التزامهم بثبوت هذه الصفة في النّفس هو : انه مما لا ريب فيه ان اللّه جلّ اسمه يطلق عليه متكلم ويوصف بالتكلم كما يوصف بالعلم والإرادة وغيرهما. وبما ان صفاته جلّ شأنه عين ذاته وجودا لزم ان تكون قديمة كقدم ذاته. فيلزم ان يكون الكلام الموصوف به اللّه قديما ، فيمتنع ان يراد به هو الكلام اللفظي لوضوح حدوثه وتصرمه فليس هو بقديم ، فلا بد ان يكون امرا قديما في نفس المولى كشف عنه الكلام اللفظي ، فهناك صفة أخرى في النّفس غير الإرادة هي الكلام النفسيّ ، لأنه يوصف بهما فيقال : مريد ومتكلم ، وهو يقتضي المغايرة. ومن هنا قال شاعرهم :

« ان الكلام لفي الفؤاد وانما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا »

فالكلام اللفظي كاشف عن وجود صفة نفسانية من سنخه وحاك عنها ، سواء

ص: 382

كان إخباريا أو إنشائيا. وعليه ففي مورد الأمر والإنشاء تكون في النّفس صفة غير الإرادة يحكي عنها الكلام اللفظي الإنشائي ، فعبر عنها الأشاعرة بالطلب لأنها من سنخ الكلام اللفظي ، وبذلك يختلف الطلب عن الإرادة ذاتا وحقيقة.

هذا هو الأساس في ذهاب الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة ، كما قيل.

والإشكال فيه واضح : فان ما ذكروه انما يتم لو كان التكلم من صفات الذات لاتحادها مع الذات المستلزم لقدمها.

ولكنه ليس كذلك ، بل هو من صفات الفعل التي يصح سلبها عن الذات في حين ما ، وهو الفارق - كما قيل - بينها وبين صفات الذات ، كالرازق والخالق ، وهي لا يلزم ان تكون قديمة لعدم اتحادها مع الذات ، بل هي حادثة ولذلك يقال :

« خلق اللّه زيدا الآن ، ورزقه كذا فعلا » ، ولم يكن كل من الخلق والرزق قديما كما لا يخفى ، فالكلام كذلك. وعليه فلا يمتنع ان يراد من الكلام هو الكلام اللفظي ، ولا موجب للالتزام بثبوت الكلام النفسيّ.

بل قيل : بامتناع الالتزام بالكلام النفسيّ وانه صفة من صفات النّفس غير الإرادة ، لإقامة البرهان في محله على تعيين الكيفيات النفسانيّة وتحديد صفات النّفس وامتناع غيرها ، وليس منها الكلام النفسيّ (1).

ولا موجب لذكر الدليل وملاحظة صحته أو سقمه.

وانما نقول : انه على تقدير تسليم الدليل على امتناع وجود صفة نفسانية غير الإرادة والعلم وغيرهما مما قيل بانحصار الكيفيات النفسانيّة فيه ، فيمكننا الالتزام بالكلام النفسيّ ، لا على ان يكون من صفات النّفس ، بل يكون من افعال النّفس ومخلوقاتها وموجوداتها ، فان النّفس لها قابلية إيجاد الصور وحمل أحدها على الأخرى ، والحكم بان هذا ذاك والتصديق والجزم به ، فان هذا مما لا

ص: 383


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 109 - الطبعة الأولى.

ينكره أحد ، فان كل شخص حين يحمل المحمول على الموضوع خارجا ، لا بد له من لحاظ الموضوع والمحمول والجزم بان هذا ذاك في نفسه ، والبناء على ذلك ، والتصديق به ، وكل من التصور والجزم أو الحمل أو الحكم - بأي لفظ يعبر عما يجده في النّفس حال الحمل - من موجودات النّفس ومخلوقاتها. وقد أشار إلى هذا المعنى أمير المؤمنين علیه السلام في قوله : « كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم » (1).

وعليه ، فيمكن ان يدعى كونه كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي.

والإشكال فيه : بان الموجود الخارجي أو الذهني غير قابل للمدلولية وانما هي شأن الماهيات ، لأن المدلولية مرجعها إلى انتقال المعنى إلى الذهن بواسطة اللفظ والموجود غير قابل للانتقال ، كما تقدم من ان المماثل لا يقبل المماثل والمقابل لا يقبل المقابل.

يمكن التخلص عنه : بان استعمال اللفظ وإرادة الموجود الخارجي منه كثيرا ما يقع في الكلام ، كاستعمال الاعلام أو استعمال اللفظ الموضوع للكلي وإرادة فرد منه معين. ويصحح ذلك : بان الموضوع له والمدلول للفظ هو نفس الماهية الكلية أو الجزئية وإرادة الفرد المعين والموجود المتميز بالتطبيق. فليكن ما نحن فيه كذلك ، فالكلام اللفظي يكون دالا على نفس المفهوم وذاته لا بما انه موجود وإرادة ما هو موجود في النّفس منه من باب التطبيق لا الاستعمال والكشف والحكاية.

وعليه ، فالالتزام بوجود فعل للنفس يسمى بالكلام النفسيّ ، وهو الجزم والحكم ، ويكون مدلولا للكلام اللفظي ، لا نرى فيه محذورا.

ولكن ما ذكرناه يختص بالجمل الخبرية كما لا يخفى ، إذ الحكم والتصديق

ص: 384


1- والكلام للإمام محمد الباقر علیه السلام كما في حق اليقين 1 / 47 للسيد الشبر.

يرتبط بالأخباريات ، فالالتزام به لا ينفع الأشاعرة فيما رتبوه عليه من تغاير الطلب والإرادة ، فانه يتوقف على ثبوته في الإنشائيات.

ولكن الالتزام في الإنشائيات بوجود صفة نفسانية أو فعل للنفس غير الإرادة ونحوها يكون مدلولا للكلام اللفظي ويعبر عنه بالكلام النفسيّ مشكل ، بل ممنوع ، لأن القوم ما بين منكر لوجود صفة في النّفس غير الإرادة ومقدماتها من تصور الشيء والجزم بفائدته وغيرهما. ومدّع لوجود صفة أخرى تتوسط الإرادة والفعل عبر عنها بالاختيار وسمّاها بالطلب.

وبيان ذلك : ان معظم الفلاسفة أو كلهم يدعون بأنه ليس في النّفس غير الإرادة ومقدماتها التي يحصل بها الفعل. فلا واسطة بين الفعل والإرادة وليس لهم شاهد على ما ذهبوا إليه سوى دعواهم الوجدان ، وان كل من يراجع وجدانه يرى انه لا يحصل لديه سوى تصور الشيء ، والجزم بفائدته ، والميل إليه والشوق إليه ، المستتبع للفعل بلا توقف. ولا يجد صفة أخرى غير هذه في نفسه. والوجدان أكبر شاهد على إثبات المدعى. وتابعهم على ذلك صاحب الكفاية (1).

إلاّ ان المتكلمين وبعض الأصوليين خالفوا الفلاسفة في ما ذهبوا إليه ، وادعوا وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل عبروا عنها بالاختيار وبحملة النّفس ومشيئتها.

وممن ذهب إلى ذلك المحقق النائيني قدس سره (2) ، وقد قرب الدعوى : بأنه لا إشكال ان العقلاء يفرقون بين حركة المرتعش والحركة الصادرة عن غيره بفعله ، فيسندون الثانية إلى الشخص ، بحيث يقال انه فعله ويلام عليها أو يثاب على اختلاف موارده. دون الأولى فانه لا يقال له : لم فعلت ذلك ، أو حبذا ما

ص: 385


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /65- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 89 - الطبعة الأولى.

فعلت. فالأفعال بنظر العقلاء على نحوين : نحو يستحق المدح والذم ، كرمي الشخص نفسه من شاهق. ونحو لا يستحق المدح والذم ، بل لا يسند إلى الشخص القائم به الفعل ، كما لو رمي شخص من شاهق. فلو لم تكن هناك صفة أخرى غير الإرادة ومقدماتها ، للزم ان يكون الفعل الإرادي كغيره ، فلا فرق بين حركة المرتعش وحركة غيره ، وذلك لأن حصول الإرادة ومقدماتها التي هي العلة التامة للفعل - كما يدعى - ليس أمرا بالاختيار ، بل هو قهري الحصول ، فالفعل الحاصل بها يكون كعلته قهريا لعدم انفكاكه عنها ، فتكون الإرادة التي تنشأ منها الحركة كالمرض الّذي ينشأ منه الارتعاش ، فالفعلان بالنسبة إلى الشخص على حد سواء. فلا بد ان يكون السبب في الفرق المحسوس وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل يستطيع بها الشخص الفعل وعدمه ، بحيث انه بعد الإرادة له ان يفعل وله ان لا يفعل. تسمى هذه الصفة أو الفعل النفسيّ بالاختيار أو حملة النّفس أو مشيئة النّفس ، وهي المفرقة بين مثل حركة المرتعش وغيره ، لأنه لا اختيار للمرتعش في حركته فليس له ان يفعل وان لا يفعل ، بخلاف غيره فان له الاختيار ، فتارة يفعل. وأخرى لا يفعل. وبذلك يستحق المدح والذم وغيرهما من آثار الفعل الاختياري.

وبهذا التقريب وعلى أساسه تنحل مشكلة الجبر ، إذ يثبت توسط الاختيار بين افعال الناس وإراداتهم ، فلا جبر كما قد يتوهم. كما تنحل مشكلة التفويض به مع إضافة شيء بسيط. وعلى كل فليس ذلك محل بحثنا ، انما المهم هو التنبيه على ان ذلك لا ينفع الأشاعرة.

اما على قول من لا يقول بوجود صفة غير الإرادة ومبادئها فواضح جدا.

واما بناء على الالتزام بوجود صفة أو فعل هو الاختيار المتوسط بين الإرادة والفعل فلان المفروض في كلامهم ان الصفة يعبر عنها بالكلام النفسيّ المدلول للكلام اللفظي ، وليس الاختيار كلاما نفسيا ، إذ لا دلالة للفظ عليه

ص: 386

بالمرة ، فانه مربوط بالفعل الخارجي لا بالكلام كما ستعرف.

هذا مضافا إلى : انه مما يلتزم به في افعال الشخص الخارجية والتكوينيات دون مثل الأمر من الإنشائيات ، إذ المفروض ان الاختيار يتعلق بنفس الفعل ، فله ان يفعل وله ان لا يفعل ، وهو انما يتم لو كان الفعل فعل الشخص نفسه ، وفي مورد الأمر لا يتصور ذلك ، إذ الفعل ليس فعل الآمر كي يتعلق به اختياره ، وانما هو فعل المأمور ، والّذي يتعلق به اختيار نفس المأمور ، وانما تتعلق به إرادة الآمر فيأمر به العبد ، فلا يتصور حصول صفة الاختيار في مورد التكليف والأمر فلا تحقق لها في مورده. وثبوتها في مورد آخر لا ينفع الأشاعرة.

والمتحصل : انه لا محذور في موافقة الأشاعرة في وجود صفة في النّفس غير الإرادة في الإخباريات دون الإنشائيات.

لكن هذا لا يعني القول باتحاد الطلب والإرادة مفهوما ، بل هما متغايران مفهوما.

وقد قيل : ان التغاير بينهما بنحو العموم المطلق ، فالطلب هو خصوص الإرادة من الغير دون الإرادة ، فانها مطلق الشوق سواء كان من الغير أو لا.

ولكنه غير صحيح ، لوضوح صدق الطلب في موارد لا تتعلق الإرادة فيها بالغير ، كما يقال : طلب الدنيا أو طلب العلم بواسطة المطالعة ونحو ذلك.

فالإنصاف : ان الإرادة تطلق على الصفة النفسانيّة التي هي عبارة عن الشوق والرغبة إلى الشيء مطلقا ، والطلب يطلق على التصدي لحصول المراد والمرغوب ، ولذلك لا يقال طلب الضالة إلا لمن تصدى خارجا للبحث عنها دون من أرادها نفسا فقط ، فالطلب ليس هو الشوق نفسه ، بل هو إظهاره وإبرازه بالتصدي لتحصيل المشتاق إليه. ولذلك يطلق الطلب على نفس صيغة الأمر لأنها تتعنون بعنوان التصدي وبها إظهار الإرادة. وبذلك يتضح اختلاف الطلب والإرادة مفهوما ، وانه ليس مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، بحيث يكون

ص: 387

اللفظان مترادفين - كما ادعاه صاحب الكفاية - كما يتضح ان إطلاق الطلب على الاختيار في التكوينيات - كما ارتكبه المحقق النائيني - لا يخلو عن تسامح ، فان التصدي ينشأ عن الاختيار ، وليس هو الاختيار كما لا يخفى. وقد نبه قدس سره على ذلك بتقريب : ان التوجه والقصد لما كان إلى الغاية لا إلى المبدأ أطلق اسم الغاية على المبدأ من باب أخذ الغاية وترك المبدأ ، كما يطلق الأكل على مجرد البلع بلا مضغ. فلاحظ.

يبقى الكلام في الجهة الثانية من جهات النزاع - أعني النزاع في مدلول صيغة الأمر -.

فقد تقدم الكلام فيما مضى عن معنى الحروف وهيئة الاسم وهيئة الماضي والمضارع من الأفعال. وبقي الكلام في هيئة الأمر ك- : « افعل » و « صلّ » و « كل » ونحوها وموضعه هاهنا.

وعلى كل فقد ذكر صاحب الكفاية : انها موجدة لمعناها في نفس الأمر (1) ، وقد تقدم منه ان الصيغ الإنشائية تتكفل إيجاد المعنى بوجود إنشائي (2).

ولكن ما ذكره هنا ليس بيانا لمعنى الصيغة ، إذ لم يعلم ما هو معناها الّذي توجده إنشاء. وكلامنا في معرفة معناها وما هي موضوعة له لا في بيان أثرها وعملها.

ولكنه قال في موضع آخر ما مضمونه : إن صيغة افعل تستعمل في إنشاء الطلب ، وان معناها ذلك وان اختلفت دواعي إنشائه ، من طلب ، وتهديد ، وتعجيز ، واستفهام ، ونحوها (3).

ومن الواضح ان الالتزام بوضع الصيغة لإنشاء الطلب مثار المناقشة ، لأن

ص: 388


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /66- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /286- المطبوعة ضمن حاشية الفرائد.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 69- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإنشاء كما عرفت غير قابل للإنشاء والإيجاد مرة أخرى. وعليه فلا تصلح الصيغة لإنشاء معناها كما ذكره ، لأن معناها هو الإنشاء وهو غير قابل للإيجاد. ومن هنا حاول البعض تصحيح كلامه بحمله على إرادة كون الموضوع له والمستعمل فيه هو الطلب الإنشائي لا إنشاء الطلب ، كما وجهت عبارة الشيخ الدالة على ان البيع هو إنشاء التمليك بإرادة التمليك الإنشائي ، كما أشرنا إليه. ولكنك قد عرفت عدم ارتفاع الإشكال ، فان الطلب الإنشائي معناه هو الطلب الموجود بوجود إنشائي ، فلا يقبل الإنشاء ثانيا لامتناع إيجاد الموجود. وعليه فلا تصلح الصيغة لإيجاد معناها لأنه غير قابل للإيجاد ، إذ هو الطلب الإنشائي.

فالأولى ان يقال في توجيه عبارته قدس سره : ان الموضوع له والمستعمل فيه هو الطلب ، لكن قيد الوضع - بمعنى العلقة الوضعيّة - بان تستعمل في مقام الإنشاء والإيجاد ، فان الطلب تارة يقصد الأخبار عنه. وأخرى يقصد إيجاده وإنشاؤه. فصيغة افعل وضعت لنفس الطلب لكن بقيد استعمالها في مقام الإنشاء والإيجاد ، بحيث لا يجوز أن تستعمل في الاخبار عن الطلب ، ولذلك لا تدل عليه بوجه. فاللام في قوله : « لإنشاء » لم يقصد بها لام الإضافة بل لام الغاية ، فمراده انها موضوعة للطلب لأجل إنشائه بتقييد الوضع بذلك. وإذا كانت موضوعة لمفهوم الطلب صح استعمالها فيه بقصد إيجاده ، ويتحقق الطلب فيها بتحقق إنشائي كغيره من المفاهيم المنشأة.

وعليه ، فلا إشكال في كلامه من هذه الجهة. انما الإشكال في أصل دعواه الوضع لمفهوم الطلب المبتني على دعواه في مبحث الحروف بعدم الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وان كلا من الحرف والاسم موضوع لمعنى واحد ، والفرق في جهة خارجة عن الموضوع له ، وهي اختصاص الاسم باللحاظ الاستقلالي ، والحرف باللحاظ الآلي.

فانك قد عرفت فيما تقدم وجود الفرق الذاتي الجوهري بين معنى الاسم

ص: 389

والحرف ، فيمتنع ان توضع الهيئة إلى مفهوم الطلب كلفظ الطلب ، لأن الهيئة من الحروف.

ولكنه ليس بإيراد خاص بهذه الدعوى ، بل هو راجع إلى أصل المبنى ، فالهيئة والطلب ك- : « من والابتداء » و « في والظرفية ».

وعلى كل ، فما ذكره في معنى الصيغة لا يمكن الالتزام به لما عرفت من ان معنى الحروف ليس من سنخ المفاهيم ، فيمتنع الالتزام بان الصيغة موضوعة لمفهوم الطلب. فلاحظ.

وقد ادعي : انها موضوعة لإبراز الاعتبار النفسانيّ (1).

وتحقيق الحال فيه يقتضى التكلم في جهتين :

الجهة الأولى : في ان المعتبر ومتعلق الجعل هل هو كون الفعل في عهدة المكلف ، أو انه البعث نحو الفعل؟. وبعبارة أخرى : ان الأمر هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف الّذي يرجع ثبوته إلى اشتغال ذمة المكلف بالفعل ، أو انه جعل الباعث نحو العمل والمحرك إليه؟. ويترتب على تحقيق أحد الاحتمالين آثار عملية في الأصول جمّة تظهر بوضوح في باب التزاحم والعلم الإجمالي ، فان التكليف إذا كان من باب اشتغال الذّمّة لا يعتبر فيه القدرة على العمل ، لعدم توقفه عليه ، بل يكون كالدين الّذي في الذّمّة مع عدم القدرة على الأداء ، بخلاف ما إذا كان جعل الباعث ، فان الباعثية والمحركية تتوقفان على القدرة لتوقف الانبعاث عليها.

كما انه بناء على الأول لا يعتبر في تنجز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه محل الابتلاء ، لعدم اعتبار كون الشيء في موضع الابتلاء في صحة التكليف به ، بناء على انه من باب اشتغال الذّمّة بالفعل. بخلاف ما لو كان جعل الباعث

ص: 390


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 130 - الطبعة الأولى.

لاشتراط موضعية الشيء للابتلاء في التكليف به ، فيعتبر في تنجيز العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محل الابتلاء.

وبالجملة : فالالتزام بالأول له آثار جمّة قد تغير من سير الفقه والاستنباط الفعلي.

والصحيح : انه لا يمكن ان يلتزم بجعل الفعل في العهدة - كما عليه السيد الخوئي - ولا جعل البعث واعتباره تشبيها بالبعث التكويني - كما عليه المحقق الأصفهاني -.

وتحقيق هذه الجهة ليس محله الآن بل يكون في مورد التزاحم أو نحوه إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثانية : في صحة كون الموضوع له الصيغة هو الاعتبار بأحد احتماليه أو إبرازه. وقد تقدم تحقيق ذلك في مبحث الإنشاء والاخبار ، وتقدم ان هذه الدعوى باطلة لا محصل لها. فراجع (1).

والمشهور كون الصيغة موضوعة للنسبة الطلبية كغيرها من الحروف الموضوعة للنسب الخاصة.

وتوضيحه : ان الشخص حينما يطلب شيئا من غيره تكون هناك نسبة ذات أطراف أربعة ، وهي : الطالب ، والطلب ، والمطلوب ، والمطلوب منه. ويعبر عن هذه النسبة بالنسبة الطلبية ، وهي معنى إيجادي ، كما عرفت في تحقيق حقيقة النسب. ولها مماثل في الذهن ، فالهيئة تستعمل في النسبة الطلبية المتحققة في ذهن المتكلم بقصد إيجاد البعث وإنشائه.

واما اعتبار البعث ففيه :

أولا : ان البعث التكويني لا يترقب منه سوى تحقق الفعل ولو بدون

ص: 391


1- راجع 1 / 137 من هذا الكتاب.

اختيار الشخص. وهذا لا يمكن ان يلتزم به في باب التكليف ، فكيف يكون متعلقا للاعتبار؟.

وثانيا : انه خلاف ما يصرح به القائل نفسه من كون الحكم المجعول هو ما يمكن ان يكون داعيا الّذي يرجع إلى جعل الداعي والباعث ، وهو غير جعل البعث.

وثالثا : ان الاعتبار شيء لا بد ان يكون بلحاظ ترتب أثر عليه بوجوده الحقيقي ، فيقصد ترتيبه عند اعتباره ، كما في الملكية ونحوها. وهذا انما يكون إذا لم يكن الأثر مما يترتب بدون الاعتبار وإلاّ كان لغوا ، والأثر المترقب من جعل التكليف هو لزوم الطاعة عقلا. وهذا يترتب بمجرد وجود الغرض الملزم مع تصدي المولى لتحصيله ، سواء تحقق اعتبار البعث أم لا ، فإذا حصل التصدي وجبت الطاعة ولو لم يعتبر أي شيء وعليه يكون الاعتبار لغوا لا أثر له.

ويتحصل من ذلك : ان مفاد الصيغة ليس امرا مجعولا ، بل مفادها ما عرفت من نسبة صدور الفعل إلى الإرادة النفسيّة وغيرها من الصفات ، والمتكلم حيث يستعملها في هذا المقام يتحقق به مصداق التصدي ، فتلزم الحركة على طبق الغرض الملزم ، فالطلب عنوان الصيغة لا مدلول لها ، كما انها لا تكشف إلا عن أمر تكويني لا جعلي.

هذا هو المشهور. وقد نسب إلى المحقق الشيخ هادي الطهراني رحمه اللّه دعوى كون الهيئة موضوعة للنسبة الصدورية بين الفعل والمخاطب بداعي الطلب ، فان استعمال الهيئة في النسبة الصدورية قد يكون بداعي الاخبار كما هو الحال في الجمل الخبرية ك- : « ضرب زيد » ونحوه. وقد يكون بداعي الإنشاء والإيجاد ، كما هو الحال في الألفاظ الموضوعة لما يقبل الإيجاد ك- : « بعت » ونحوه. وقد لا يكون بكلا الداعيين بل بداع آخر ، كداعي الطلب. فهيئة الأمر مستعملة في النسبة الصدورية ولكن بداع الطلب ، وقصد تحقق الفعل ، لا بداعي الاخبار ،

ص: 392

ولا بداعي الإيجاد ، لعدم قابلية الطلب للإيجاد ، وبذلك يحصل الانبعاث نحو الفعل والتحريك إليه ، كما لا يخفى.

والّذي حدا به إلى هذه الدعوى : ما أشرنا إليه ، من الإشكال في إنشائية بعض الصيغ كصيغ التمنّي لعدم كون معانيها قابلة للإيجاد ، إلا بناء على رأي صاحب الكفاية في الإنشاء. وقد أشرنا هناك إلى تخلصه عن الإشكال بان الإنشاء ليس هو استعمال اللفظ بداعي الإيجاد كي يستشكل في إنشائية بعض الصيغ ، بل هو استعمال اللفظ في المعنى لا بداعي الحكاية والاخبار. سواء كان بداعي الإيجاد أو غيره من الدواعي ، كالتمني والطلب ونحوهما.

وقد عرفت إمكان التخلص عن الإشكال بوجه آخر مع المحافظة على ما هو المشهور من معنى الإنشاء. فلاحظ تلك المباحث.

وعلى كل ، فالوجه الّذي ذكره في معنى الصيغة لا محذور فيه ثبوتا ، فيدور الأمر إثباتا بين الالتزام به والالتزام بما هو المشهور ، ولا دليل من الصناعة يعين أحدهما.

فالأولى إحالتهما على الوجدان ، والّذي يعينه الوجدان هو المعنى المشهور ، فان العرف لا يجد من الآمر انه استعمل اللفظ في صدور الفعل من المخاطب بداعي الطلب ، بل يرى انه استعمل الهيئة في مقام أسبق من مقام الصدور وهو مقام التسبيب إلى الصدور والبعث نحو الفعل.

وبعبارة أخرى : ان الّذي يجده كل آمر من نفسه ويفهمه العرف منه هو انه عند الأمر واستعمال الصيغة لا يلاحظ نسبة صدور الفعل من المخاطب بحيث يستعمل اللفظ فيها ، بل لحاظه يتركز على ما هو السبب في ذلك وهو نسبة الطلب والبعث.

وعليه ، فالمتعين الالتزام بان الموضوع له صيغة الأمر هو النسبة الطلبية ، على حد سائر الحروف من وضعها لأنحاء النسب والربط.

ص: 393

وهذا هو مراد من صرح بان الموضوع له الصيغة هو الطلب أو البعث النسبي - وهو المحقق الأصفهاني (1) - ، وليس مراده كون الموضوع له هو نفس مفهوم البعث المتقوم بطرفين والملحوظ حالة لغيره في قبال البعث الملحوظ بنفسه ومستقلا ، إذ ذلك لا يخرجه - عند هذا القائل - عن كونه مفهوما اسميا لا حرفيا ، إذ اختلاف اللحاظ لا يوجب اختلافا في حقيقة المفهوم ، بل يبقى اسميّا وان لوحظ حالة لغيره ، لأن الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي لدى القائل جوهري ذاتي. بدعوى ان المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بالمرة وانما هو نحو وجود المفهوم في الذهن. وبتعبير أوضح : المعنى الحرفي هو النسبة الذهنية بأنحائها ، فلا بد ان يكون مراده من تعبيره بوضع الهيئة للبعث النسبي - بقرينة ما سبق منه في المعنى الحرفي - هو النسبة الطلبية والبعثية ، وإلاّ كان المعنى اسميا وهو خلف كون الهيئة من الحروف.

وقد تابع المحقق المذكور في التعبير المزبور مقرر المحقق العراقي رحمه اللّه فذكر : ان الهيئة موضوعة للبعث النسبي (2).

ويغلب الظن أنه اشتباه من المقرر ، وانه ليس من تعبيرات نفس المحقق العراقي ، وانما أخذه المقرر من المحقق الأصفهاني ، فانه يختار في الهيئات والحروف غير المستقلة كونها موضوعة للنسب كما تقدم ، مضافا إلى استبعاد توافق المحققين في التعبير الواحد وتوارد ذهنيهما على لفظ فارد ، ولذلك لم يجئ هذا التعبير في المقالات ، وعبر بالوضع للنسبة الإرسالية بين المبدأ والفاعل (3) ، فلاحظ (4).

ص: 394


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 125 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 210 - الطبعة الأولى.
3- العراقي المحقق الشيخ آقا ضياء. مقالات الأصول /70- الطبعة الأولى.
4- لا يخفى انه يصرح قدس سره بكونها - الصيغة - موضوعة للنسبة الإرسالية كما في نهاية الأفكار 1 / 178.

وعلى كل فالأمر سهل.

المطلب الثاني : في صيغة الأمر.

وتحقيق الحال فيها يستدعي بيان جهات :

الجهة الأولى : في بيان معنى الصيغة وما هو الموضوع له الهيئة.

وقد تقدم بيانه في ذيل مبحث الطلب والإرادة ، وقد عرفت انه النسبة الطلبية.

وقد وقع الإشكال والكلام في استعمالها في موارد لا يكون هناك طلب حقيقي ، كاستعمالها في مقام التهديد أو الامتحان أو التعجيز أو السخرية والاستهزاء.

وجهة الإشكال - كما أشار إليها صاحب الكفاية - هي : انها - أعني الصيغة - في هذه الموارد هل هي مستعملة في هذه المعاني كالتهديد والتعجيز والتمني والترجي وغيرها؟ فيكون الاستعمال مجازيا فيها لوضعها للطلب ، إلاّ أن يدعى الوضع لكل منها ، أو الجامع ان كان. أو انها مستعملة في معناها الموضوعة له بلا اختلاف؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني ، فادعى : ان المستعمل فيه في الجميع واحد وهو الموضوع له ، واختلاف الموارد من جهة أخرى خارجة عن دائرة المستعمل فيه. ببيان : ان الموضوع له الصيغة هو مفهوم الطلب بقصد إيجاده في عالم الإنشاء ، وهذا المعنى قد تختلف الدواعي له ، فتارة : يكون الداعي له هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي. وأخرى : يكون الداعي له هو التهديد. وثالثة : يكون هو التمني. ورابعة : التعجيز. وهكذا .. فالمستعمل فيه في جميع هذه الموارد واحد وهو مفهوم الطلب بقصد الإنشاء ، وانما الاختلاف من جهة

ص: 395

الدواعي ، وغاية ما يمكن دعواه : هو ان الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك ، فإذا كان الإنشاء بداع آخر لزم المجاز ، ولكنه لا بمعنى استعمالها في التهديد ونحوه ، بل كل هذه الأمور خارجة عن دائرة المستعمل فيه.

ثم أضاف قدس سره إلى ذلك تأتّي ما ذكره في جميع الصيغ الإنشائية ، فالمستعمل فيه صيغة الاستفهام هو مفهوم الاستفهام بقصد إنشائه ، وانما يختلف الداعي إلى ذلك ، فتارة : يكون ثبوت الاستفهام حقيقة. وأخرى : يكون بداع آخر كالاستنكار أو التقرير أو نحوهما. وهكذا الحال في صيغ التمني والترجي وغيرهما. ومن هنا يظهر انه لا وجه للالتزام بانسلاخ صيغ الاستفهام عن معانيها إذا وردت في كلامه تعالى واستعمالها في غيرها - كما أشار إليه الشيخ في رسائله ، في مبحث حجية خبر الواحد ، في آية النفر حيث قال : « ان لعل - بعد انسلاخها عن معنى الترجي - ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلم » (1) - ، لاستحالة ثبوت الاستفهام حقيقة في حقه تعالى ، لانتهائه إلى الجهل. واستحالة ثبوت الترجي والتمني حقيقة في حقه لانتهائه إلى العجز كما لا يخفى ، وتعالى اللّه عنهما علوا كبيرا. وذلك لأن معانيها ليس إلا الفرد الإنشائي لا الحقيقي ، والمستحيل في حقه هو الحقيقي منها دون الإنشائي ، فالمستعمل فيه في كلامه تعالى وفي كلام غيره واحد ، إلا ان الداعي في كلامه لا يمكن ان يكون ثبوت الصفات حقيقة ، بل يكون شيئا آخر كالاستنكار وإظهار المحبة ، كما يقال في سؤاله تعالى لموسى علیه السلام عن ما في يمينه. فلاحظ (2).

والتحقيق : انه لا بد أولا من معرفة صحة ما ذكره من كون الصيغة مستعملة لإيجاد الطلب إنشاء ، وانما يختلف الداعي إليه ، وان ذلك معقول ثبوتا

ص: 396


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /78- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /69- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أو غير معقول. ثم يقع الكلام إثباتا بعد ذلك.

والإنصاف انه غير معقول ثبوتا ، فان الداعي بحسب ما يصطلح عليه هو العلة الغائية ، بمعنى ما يكون في تصوره سابقا على الشيء وفي وجوده الخارجي مترتبا على الشيء متأخرا عنه. فيقال : « أكل » بداعي تحصيل الشبع ، فان الشبع تصورا سابق على الأكل ، وبلحاظ ترتبه على الأكل ينبعث الشخص إلى الأكل ، ولكنه وجودا يترتب على الأكل ويتأخر عنه.

وعليه ، فصلاحية الأمور المذكورة من تمن وترج وتعجيز وتهديد وامتحان وسخرية لأن تكون داعيا للإنشاء في الموارد المختلفة يصح في فرض ترتب هذه الأمور على الإنشاء وجودا وأسبقيتها عليه تصورا. وليس الأمر فيها كذلك ، فان ..

منها : ما يترتب على صورة الأمر ولو لم يكن استعمال أصلا كالامتحان في مقام الإطاعة ، لأن الاختبار يتحقق بذكر ما صورته أمر ولو كان مجرد لفظ ولقلقة لسان ، إذ الانبعاث نحو الفعل يحصل بوجود ما يتخيل المنبعث كونه أمرا حقيقة ، فيعلم بذكر الصيغة ولو لم يقصد بها أي معنى أنه في مقام الإطاعة أو العصيان.

ومنها : ما يترتب على الأمر حقيقة وبداعي البعث والتحريك ، كالامتحان في المأمور به واختباره في مقدار معرفته في أداء المأمور به ، فان المأمور به مراد واقعا كامتحان الطفل بأمره بالكتابة أو القراءة.

منها : ما يكون في تحققه وترتبه أجنبي بالمرة عن الأمر حقيقة وصورة ، كالتهديد والتمني والترجي ونحوها ، فان هذه الأمور تحصل بأسبابها الخاصة ولا تترتب على الأمر ، كما لا يخفى.

نعم في ما كان الداعي السخرية والاستهزاء ، أمكن أن يدعى ترتب الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع ، فيصلح الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع ، فيصلح الاستهزاء للداعوية لو لم نقل بأنه - أعني الاستهزاء - يتحقق بمجرد الإنشاء صورة ولو لم يكن استعمال ، فان إنشاء الأمر صورة بلا قصد أي معنى من المعاني ،

ص: 397

بل ليس المقصود إلا هذه الألفاظ الخاصة ، يعد استهزاء عرفا. فتأمل.

وإذا تبين ان جميع هذه الأمور لا تصلح للداعوية ما عدا الاستهزاء - على إشكال فيه - فلا وجه لأن يقال : ان الصيغة هنا مستعملة في معناها ، ولكن لا بداعي البعث والتحريك بل بداع آخر.

فالأولى ان يقال في هذه الموارد : ان الصيغة مستعملة فيها في معناها الحقيقي وبداعي البعث والتحريك ، إلا ان موضوع التكليف مقيد ، فالتكليف وارد على الموضوع الخاصّ لا مطلق المكلف ، ففي مورد التعجيز يكون التكليف الحقيقي معلقا على قدرة المكلف بناء على ادعائه ، فيقال له في الحقيقة : « ان كنت قادرا على ذلك فأت به » ، فحيث انه لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه لا يكون مكلفا ، لا بلحاظ عدم كون التكليف حقيقيا ، بل بلحاظ انكشاف عدم توفر شرط التكليف فيه وعدم كونه مصداقا لموضوع الحكم ، فموضوع الحكم هاهنا هو القادر لا مطلق المكلف. وهكذا يقال في التهديد فان الحكم فيه مشروط بمخالفة الأمر في مكروهة وما لا يرضى بفعله وعدم الخوف من عقابه ، فيقول له : « افعل هذا إذا كنت لا تخاف من العقاب ومصرا على فعل المكروه عندي » ، فالموضوع خاص في المقام ، وهكذا الكلام في البواقي.

ومثل هذا يقال في الأوامر الواردة في أجزاء الصلاة ، فان المشهور على انها أوامر إرشادية تتكفل الإرشاد إلى جزئية السورة مثلا وغيرها.

ولكن للفقيه الهمداني تحقيق فيها لا بأس فيه وهو : انها أوامر مولوية حقيقية إلا انها واردة على موضوع خاص ، وهو من يريد الإتيان بالمركب الصلاتي كاملا وعلى وجهه ، فكأنه قيل لهذا الشخص : « ائت بالسورة » ، فمن لا يريد ذلك لا يكلّف بهذا التكليف ، فالامر مولوي لكن موضوعه خاص (1).

ص: 398


1- الهمداني الفقيه آغا رضا. مصباح الفقيه / 133 كتاب الصلاة - الطبعة الأولى.

والمتحصل : انه إذا أمكن الالتزام بان الصيغة في هذه الموارد مستعملة في النسبة بداعي البعث والتحريك جدا ، فلا وجه لتكلف جهة أخرى في حل الإشكال في هذه الموارد ، كما تصدى لذلك صاحب الكفاية.

وبعد هذا نقول : ان ما ذكره صاحب الكفاية من كونها ظاهرة في الطلب والبعث الحقيقي (1) ، سواء ادعى انها موضوعة لمطلق النسبة الطلبية ، أو النسبة الطلبية إذا كان الداعي هو البعث الحقيقي ، أمر لا ينكره أحد ، فان العرف يفهم ذلك من الصيغة بمجرد إطلاقها ، ولا يهمنا بعد ذلك تحقيق الموضوع له ، إذ الّذي يفيد الفقيه والأصولي تحقيق ظاهر الكلام المنسبق منه عند إطلاقها سواء كان بالوضع أو بغيره ، فلا يهمه تحقيق ان هذا الظهور وضعي أو ليس بوضعي.

الجهة الثانية : في ظهور الصيغة في الوجوب.

فقد وقع الخلاف في انها ظاهرة في خصوص الطلب الإلزامي المعبر عنه بالوجوب ، أو الطلب غير الإلزامي المعبر عنه بالندب ، أو مطلق الطلب بلا خصوصية الإلزام وعدمه فيحتاج تعيين كل منهما إلى قرينة خاصة وبدونها يكون الكلام مجملا.

وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الخلاف واختار وضعها للطلب الوجوبيّ (2).

إلا ان المحقق النائيني سلك نحوا آخر في تحقيق المسألة مدعيا عدم الوجه في البحث في تشخيص الموضوع له وانه الوجوب أو الندب أو الأعم ، لأن الطلب الوجوبيّ ليس سنخا آخر غير الطلب الندبي ، بل هما من سنخ واحد ومعنى فارد ، فان الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى.

ص: 399


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /69- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /70- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فليس هناك نحوان من الطلب ثبوتا كي يتنازع في كون أيهما الموضوع له دون الآخر. وبيان ما أفاده - كما جاء في تقريرات بحثه للسيد الخوئي - : إن بناء المتقدمين كان على كون كل من الوجوب والاستحباب معنى مركبا ، فالوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، والاستحباب هو طلب الفعل مع الترخيص في الترك. وقد رفض المتأخرون هذا القول وذهبوا إلى أنهما أمران بسيطان وهما مرتبتان من الطلب ، فمرتبة منه ضعيفة يعبر عنها بالاستحباب ومرتبة شديدة يقال عنها الوجوب ، والمنع من الترك والاذن فيه من لوازم شدة الطلب وضعفه لا دخيلان في حقيقة الوجوب والاستحباب ، وهذا المعنى أمر عرفي ظاهر لا يقبل الإنكار.

ولكنه قدس سره لم يرتض هذا المعنى ذاهبا إلى : ان الطلب غير قابل للشدة والضعف ، وان المستعمل فيه في كلا الحالين ، سواء كان الفعل ضروري الوجود أو غير ضرورية ، ليس إلاّ النسبة الإيقاعية بمعنى إيقاع المادة على المخاطب من دون ان يكون شدة وضعف في المستعمل فيه ، ولا يجد الآمر اختلافا في المستعمل فيه في نفسه.

واما الطلب القائم بالنفس المتعلق بالافعال التكوينية ، فهي غير قابل للشدة والضعف أيضا ، لأنه - كما عرفت - عين الاختيار ، وهو واحد في كل الحالات.

واما الإرادة فهي وان كانت في نفسها قابلة للشدة والضعف ، لكن الإرادة فيما نحن فيه هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات ، وغيره لا يكون إرادة ، وذلك غير قابل للشدة والضعف.

وبذلك يتبين ان الوجوب والاستحباب ليسا من كيفيات المستعمل فيه حتى يدعى ظهور أو انصراف صيغة في أحدهما ، بل المستعمل فيه واحد ، وهو النسبة الإيقاعية ، والاختلاف من حيث المبادئ ، فان إيقاع المادة على المخاطب

ص: 400

ينشأ - تارة - عن مصلحة لزومية. وأخرى : عن مصلحة غير لزومية.

إذا تمّ ذلك ، فاعلم ان الصيغة إذا صدرت من المولى يحكم العقل بمجرد صدورها بلزوم امتثال التكليف والجري على طبقه ، قضاء لحق العبودية والمولوية ، إلاّ إذا صرح المولى بعدم لزوم الفعل وجواز الترك ، وقد قرّب هذا المعنى بوجه فلسفي لا نعرف ارتباطه. فلاحظه. وعلى كل فالذي يتخلص من مجموع كلامه : ان استفادة الوجوب انما هو من طريق حكم العقل بلزوم الإطاعة ولا يرتبط بعالم اللفظ والمستعمل فيه (1).

ولتحقيق الحق لا بد ان نتكلم في إمكان وجود الفرق بين الوجوب والاستحباب ثبوتا وإثباتا. فنقول : انه لا إشكال في ان صدور الصيغة الطلبية من المولى يختلف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى ..

اما من حيث المبدأ. فلان الأمر وطلب الفعل انما يكون بلحاظ ما يترتب على الفعل من مصلحة ، وهذه المصلحة تختلف فقد تكون لزومية وقد تكون غير لزومية ، وباختلاف المصلحة من هذه الجهة تختلف الإرادة وتتفاوت شدة وضعفا ، فان إرادة الفعل الّذي تكون مصلحته لزومية تكون أشد من إرادة الفعل ذي المصلحة غير اللزومية ، ويكون الشوق إليه آكد ، وهذا أمر وجداني لا ينكر.

واما حديث ان الشوق ما لم يصل لحد تحريك العضلات لا يسمى إرادة ، ومع وصوله لا يقبل الشدة والضعف حينئذ. فهو ان سلم تام بالنسبة إلى الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية ، إذ ليس في الإرادة التشريعية تحريك العضلات ، لأن الإرادة التشريعية إرادة الفعل من الغير فلا معنى لاستتباعها تحريك العضلات ، وإرادة الفعل من الغير يتصور فيها الشدة والضعف حسب اختلاف المصالح الموجبة لانقداح الإرادة. فما ذكر - منه قدس سره - من

ص: 401


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 94 - الطبعة الأولى.

الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

واما من حيث المنتهى ، فلان الأمر ينشأ بداعي البعث والتحريك نحو الفعل ، فيمكن ان يكون المقصود تارة : هو البعث المسمى اللزومي. وأخرى : البعث والتحريك غير الحتمي. ونظيره في البعث التكويني دفع الشخص غيره بقوة وشدة ، ودفعه دفعا خفيفا غير شديد ، وعلى كل فاعتبار البعث والتحريك بنحويه الحتمي وغير الحتمي متصور وليس فيه إشكال وريب ، فالفرق من حيث المنتهى ثابت أيضا ، كما لا يخفى.

وإذا ثبت الاختلاف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى ، أمكن دعوى رجوع اختلاف الوجوب والاستحباب إلى الاختلاف في المدلول اللفظي ، بان يقال : ان الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتمية الأكيدة. والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتمية ، وان اللفظ موضوع للنسبة الطلبية التي يكون إنشاؤها عن إرادة حتمية أو عن مطلق الإرادة.

وبالجملة ، يمكن دعوى اختلاف الوجوب والاستحباب وضعا ، وان الصيغة التي يراد بها الوجوب تستعمل في غير ما تستعمل فيه لو أريد بها الندب. وبكلمة مختصرة : انه بعد فرض وجود نسبتين : إحداهما : طرفها الشوق الأكيد. والأخرى : طرفها الشوق الضعيف. فيمكن أن يقع النزاع في أن الموضوع له هذه النسبة أو تلك النسبة أو الجامع؟.

واما ما عن المحقق العراقي من تصوير النزاع بملاحظة الاختلاف في مرتبة الشوق ، فيقع الكلام في إرادة أي المرتبين (1).

ففيه : ان الكلام ليس مسوقا لبيان الشوق كي يتنازع في مدلوله من مراتب الشوق. هذا بلحاظ مقام الثبوت.

ص: 402


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 214 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

اما مقام الإثبات (1) : فما ذكره قدس سره من ان العقل يحكم بلزوم الإطاعة بمجرد إنشاء الصيغة. بدعوى (2) جزافية ، فانك خبير بأنه بعد إدراك العقل ان إنشاء الطلب يمكن أن يكون عن إرادة حتمية ، كما يمكن ان يكون عن إرادة غير حتمية ، وان المنشأ عن إرادة غير حتمية لا يلزم امتثاله بعد إدراكه هذا المعنى ، كيف يحكم بلزوم الامتثال بمجرد الإنشاء ما لم يدع ظهور الصيغة في كون الإنشاء عن إرادة حتمية ، وهو خلاف المفروض؟!.

وإذن هل يجد الإنسان في نفسه ذلك؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به بل يمكن الجزم بخلافه. وإذا ظهر وجود الاختلاف بين الوجوب والاستحباب ثبوتا وعدم تعين أحدهما في نفسه إثباتا ، لا بد من بيان ان أيهما الّذي يظهر فيه اللفظ بوضع أو إطلاق ، كي يحمل عليه اللفظ إذا ورد بلا قرينة معينة للآخر ومن هنا يتضح ان تحرير الكلام بنحو ما حرره صاحب الكفاية لازم.

وقد ادعى صاحب الكفاية تبادر الوجوب من اللفظ بلا قرينة. وقد عرفت ان التبادر علامة الحقيقة. وأيد دعواه بعدم صحة اعتذار العبد عن مخالفة الأمر باحتمال إرادة الندب وعدم القرينة الحالية والمقالية عليه ثم أشار إلى بعض الإيرادات ودفعها.

كالإيراد بكثرة الاستعمال في الندب في الكتاب مما يجب نقله إليه أو حمله

ص: 403


1- التعرض إلى مقام الإثبات بعد بيان الفرق الثبوتي إنما هو لأجل بيان بطلان ما ذكره المحقق النائيني ، لأنه مع تماميته يلغو النزاع في ظهور الصيغة ووضعها وان ثبت الفرق ثبوتا لعدم الأثر عليه. فتدبر. ( منه عفي عنه ).
2- هذا ما ذكرناه سابقا. لكن نقول. فعلا : انه لا بد من القول بمقالة النائيني ، لتوقف ما التزم به من تقديم النص أو الأظهر على الظاهر - كتقديم دليل جواز الترك أو الفعل على الدليل الظاهر في الوجوب أو التحريم - على الالتزام بهذه المقالة ، إذ على المبنى المشهور تكون دلالة الظاهر على المدلول قطعية كدلالة النص أو الأظهر ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر. وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث التعادل والترجيح فراجع تعرف.

عليه. وفيه أولا : بكثرة استعماله في الوجوب وثانيا : بان الاستعمال وان كثر في الندب لكنه مع القرينة ، والاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يستلزم صيرورته مشهورا فيه كي يبنى على الخلاف في المجاز كما لم ينثلم ظهور العام بكثرة استعماله في الخاصّ حتى قيل : ما من عام إلاّ وقد خصّ.

وفيه : أن الوجه الثاني يبتني على ان الدالّ على المعنى المجازي هو مجموع اللفظ والقرينة بحيث يكون اللفظ جزء الدال ، وما إذا كان تمام الدال هو بواسطة القرينة فلا يتم ، لحصول الأنس بين ذات اللفظ بكثرة الاستعمال. وأمّا النقض بكثرة التخصيص تام بناء على مبناه في التفصيل في استعمال العام في الخاصّ بين المخصّص المتصل والمنفصل في باب العموم. فراجع.

وقد استشكل المحقق العراقي - كما جاء في تقريرات بحثه (1) - وضع الصيغة للوجوب لعدم العلم باستناد التبادر إلى حاق اللفظ ونشوئه عن الوضع ، ولكنه وافق صاحب الكفاية في نفس ظهور الصيغة في الوجوب مع عدم القرينة.

ووجّه ذلك : بأنه مقتضى الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة في الإرادة التي تستتبع الإنشاء. ببيان : ان الإرادة الوجوبية هي الإرادة التامة التي لا ضعف فيها ولا نقصان ، بخلاف الإرادة الاستحبابية ، فانها تشتمل على جهة نقص لضعفها. وعليه فلا بد من حمل الكلام على ما يتمحض في الإرادة ، بحيث كان ما به امتيازه عن غيره عين ما به اشتراكه معه ، وهو الإرادة ، لأن شدة الإرادة إرادة ، وهي الإرادة الشديدة التامة ، لأنه لا يحتاج في بيانها إلى غير اللفظ ، دون الإرادة الضعيفة فانها تحتاج في بيانها إلى غير لفظ الإرادة أو ما يؤدى معناه ، لكي يبين جهة النقص فيها وعدم وصولها إلى المرتبة الخاصة من الإرادة مما يكون امتيازها بغير ما به اشتراكها ، لأن نقص الإرادة غيرها كما لا يخفى.

ص: 404


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 212 - الطبعة الأولى.

وإلى هذا البيان أشار صاحب الكفاية في أواخر كلامه (1).

وقد استشكل على نفسه : بان مقدمات الحكمة انما تجري في المفاهيم لكونها قابلة للسعة والضيق الّذي يرجع إليه الإطلاق والتقييد لا الأشخاص ، لأنها غير قابلة للإطلاق والتقييد ، فإذا دار الأمر بين أحد فردين خارجا كان من دوران الأمر بين المتباينين ، والحال في الإرادة كذلك ، فان الإرادة الموجودة في نفس المولى أمر شخصي يدور أمره بين أحد نحوين ، فيكون من دوران الأمر بين المتباينين ، وليس اللفظ يقصد منه بيان مفهوم الإرادة كي يقبل الإطلاق والتقييد.

والتفصي عن هذا الإشكال : بان الفرد الخارجي وان كان بحسب مفهومه غير قابل للإطلاق والتقييد ، لكنه من حيث الأحوال قابل لهما ، والشدة والضعف من أحوال الإرادة الطارئة عليها ، فيمكن لحاظ الإطلاق والتقييد من حيث الأحوال.

ممنوع : لأن الشدة والضعف في الإرادة من لوازم وجودها وليسا من الأحوال الطارئة عليها بعد وجودها. فهي توجد إما شديدة أو ضعيفة ، والمفروض هو تعيين أحد النحوين في الفرد بالإطلاق ، لا إثبات إرادة صرف الفرد بلا لحاظ شدته وضعفه.

وانما الصحيح ان يجاب بما حررناه في محله ، من جريان مقدمات الحكمة في تعيين أحد الفردين ، إذا دار الأمر بينهما وكان أحدهما يحتاج في بيانه إلى مئونة زائدة على اللفظ الموضوع للطبيعي ، فانه بالإطلاق يثبت إرادة الفرد الآخر ، كما هو الحال فيما نحن فيه. هذا محصل كلامه.

وفيه أولا : انه يبتني على الالتزام بجريان مقدمات الحكمة في الأشخاص

ص: 405


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

إذا دار الأمر بين فردين أحدهما يحتاج في بيانه إلى مئونة والآخر لا يحتاج في بيانه إليها. وتحقيق ذلك في محله.

وثانيا : ان أساس مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يقصد التمسك بالإطلاق فيها ، وليس المتكلم فيما نحن فيه في مقام البيان من جهة الإرادة شدة وضعفا ، بل في مقام إنشاء الطلب واستعمال اللفظ في النسبة الطلبية. اما نحو الإرادة فليس الآمر والمنشئ في مقام بيانه ، كي يتمسك بإطلاق كلامه.

ثم ان المحقق النائيني ، بعد ما أفاد ما عرفته ، ذكر : انه بما عرفت يندفع الإشكال المشهور في استعمال الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا ، مثل : « اغتسل للجمعة والجنابة » بل لا يرد الإشكال أصلا (1).

وتوضيح الإشكال : ان الطلب جنس لا بد في تحققه من الانفصال بفصل ، لأن الفصل هو الّذي يحصل الجنس وبه يتحقق. كما انه لا بد ان يتحدد بحدّ من الشدة والضعف ، فلا يمكن ان يوجد في الخارج منفكا عنهما معا.

وعليه ، فلا يمكن ان يلتزم ان المستعمل فيه مطلق الطلب ، كما لا يمكن ان يلتزم بان المستعمل فيه الطلب الوجوبيّ والطلب الاستحبابي ، لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال ، وإرادة أحدهما ممنوعة ، لأنها خلف فرض كون المتعلقين مختلفين وجوبا واستحبابا.

ولا يخفى انه يندفع بل لا يرد ، بناء على ما التزم به المحقق النائيني كما ذكر ذلك قدس سره ، لأن المستعمل فيه في حالتي الوجوب والاستحباب واحد وهو النسبة الإيقاعية ، والاختلاف من جهة المبادئ ، وهو لا يضير في المستعمل فيه ، واستفادة الوجوب بحكم العقل ، ولا ربط له بالمستعمل فيه.

ص: 406


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 96 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : نسبة المستعمل فيه إلى كلا المتعلقين بنحو واحد ، والوجوب والاستحباب أجنبيان عن عالم المستعمل فيه ، إذ استفادتهما من الخارج لا من اللفظ ، فكون أحدهما واجبا والآخر مستحبا لا يستلزم أي إشكال ، كما هو ظاهر جدا.

ولكن اندفاع الإشكال لا ينحصر بالالتزام بما ذكره ، بل يمكن دفعه بناء على ما ذكرناه. فان اللفظ في حالتي وجود الإرادة الحتمية وغيرها انما يستعمل في النسبة الطلبية. غاية الأمر : ان منشأه تارة : يكون هو الإرادة الحتمية المنبثقة عن وجود المصلحة اللزومية. وأخرى : يكون هو الإرادة غير الحتمية الناشئة عن وجود المصلحة غير اللزومية.

وعليه ، فيمكن ان يقال في دفع الإشكال : ان اللفظ مستعمل في النسبة الطلبية في كلا المتعلقين بمقتضى وضعه لها ، لكنه ناشئ عن إرادتين إحداهما :

حتمية وهي المتعلقة بالجنابة لكون مصلحتها لزومية. والثانية : غير حتمية وهي المتعلقة بالجمعة لكون مصلحتها غير لزومية ، فالمستعمل فيه واحد ، وهو المعنى الموضوع له اللفظ ، أعني النسبة الطلبية ، ولكن منشأ الاستعمال متعدد ، ولا محذور فيه ، سوى مخالفته لمقتضى الوضع لو قيل : بان الموضوع له هو النسبة الناشئ إنشاؤها عن الإرادة الحتمية ، فيكون الاستعمال مجازيا. لكنه خال عن المحذور ، كما قد يتوهم.

ودعوى كون الطلب جنسا ، فلا بد ان يتحصل بأحد فصليه.

تندفع : بان الأمر كذلك ثبوتا ، وهو لا ينافي إرادة الكشف عن الكلي خاصة دون فصله كما يقال : « الإنسان والبقر حيوان ». ولا يخفى ان مقتضى هذا الجواب عدم إمكان استفادة الوجوب من الكلام بالنسبة إلى غير ما قام الدليل على استحبابه.

ويمكن الجواب بوجه آخر ، وهو ان يقال : ان العطف في قوة تكرار

ص: 407

الصيغة فأداته تدل على نسبة أخرى غير النسبة المدلول عليها بنفس الصيغة.

وعليه ، فلدينا نسبتان مدلول عليهما بدالين ، فيمكن ان تكون إحداهما وجوبية والأخرى ندبية ، ويبقى ظهور الصيغة في الوجوب بالنسبة إلى غير ما قام الدليل على استحبابه على حاله. فتدبر جيدا.

الجهة الثالثة : في تحقيق الكلام في مدلول الصيغة الخبرية الواردة في مقام الطلب ، وبيان ما تظهر فيه من وجوب أو استحباب أو غيرهما.

وبيان ذلك : انه كثيرا ما يجيء في النصوص في مقام الطلب صيغة خبرية نظير : « يعيد » أو : « يتوضأ » ونحوهما. فهل هي ظاهرة في الوجوب أو لا؟.

قيل : بعدم ظهورها في الوجوب ، باعتبار انها غير مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاخبار بثبوت النسبة ، والمعاني المجازية المحتملة متعددة ، ولا مرجح للوجوب لعدم أقوائيته.

وقد التزم صاحب الكفاية بظهورها في الوجوب ، بدعوى : ان الصيغة لم تستعمل في غير معناها ، بل انما استعملت في معناها وهو النسبة ، إلاّ إنه لم يكن بداعي الاخبار والاعلام - وهو غير مقوم للموضوع له كما تقدم - ، بل بداعي البعث والتحريك بنحو آكد ، فانه أخبر بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون ظهوره في البعث آكد من ظهور الصيغة.

ثم تعرض بعد ذلك لا يراد لزوم وقوع الكذب في كلامه تعالى - إذا كان المستعمل فيه هو النسبة - لعدم وقوع المطلوب غالبا.

والجواب عنه : بان الكذب انما يتحقق لو كان الاستعمال بداعي الإعلام لا بداعي البعث كما فيما نحن فيه ، وإلاّ لزم الكذب في غالب الكنايات (1).

ولا يخفى ان ما ذكره قدس سره مجرد دعوى ليس لها صورة دليل

ص: 408


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /70- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبرهان ، ولم يذكر لها تقريب وتوجيه ، وذلك لا يكفي في إثبات المطلوب ، بل يمكن الإيراد فيه : بان الاخبار بالوقوع لا يكشف إلا عن إرادة الوقوع باعتبار المناسبة بينهما ، اما كون الإرادة بنحو خاص بحيث لا يرضى بتركه فلا دلالة للجملة على ذلك.

وقد قرّب ظهور الصيغة في الوجوب بتقريب دقيق حاصله : انه قد تقرر في علم الفلسفة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، بمعنى : انه ما لم توجد علته التامة المقتضية لضرورة وجوده - لعدم انفكاك المعلول عن العلة - لا يوجد الشيء فإذا أخبر بوجود الشيء وتحققه كان ذلك كاشفا عن ضرورة وجوده ولا بديته ، والمناسب لذلك في مقام الطلب هو الوجوب التشريعي والطلب الإلزامي ، فيدل الإخبار على الوجوب بالملازمة.

وأنت خبير بأن ما اعتمد عليه في إثبات دلالة الصيغة على الوجوب من القاعدة المحررة ، وهي ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ليس أمرا عرفيا واضحا ، بل هو أمر دقيق لا يدركه كل أحد بالإدراك البدوي ، فلا يمكن دعوى الظهور العرفي للفظ استنادا إلى ذلك.

فالأولى في تقريب ظهور الصيغة في الوجوب ان يقال : ان وقوع الفعل خارجا من المنقاد يلازم الوجوب والطلب الحتمي ، فان الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجا من المنقاد ، إذ يمكن ان يفعل ويمكن ان لا يفعل ، لأن عدم الفعل لا ينافي الانقياد لعدم الإلزام. فالإلزام والوجوب مستلزم وعلة لوقوع الفعل ، وعليه فالوجوب ملزوم ووقوع الفعل لازم ، فيكون اللفظ مستعملا في اللازم ويدل على الملزوم بالدلالة الالتزامية. فظهور الصيغة الخبرية الواقعة في مقام البعث في الوجوب بنحو الالتزام والدلالة الالتزامية ، لملازمة الوقوع للإرادة الحتمية.

ولعل نظر صاحب الكفاية في دعواه إلى ذلك فتأمل.

ص: 409

ثم ان صاحب الكفاية ذكر : انه لو لم نقل بان المناسبة المذكورة بين وقوع الفعل وعدم الرضا بالترك موجبة لظهور الصيغة في الطلب الوجوبيّ ، فلا أقل من الالتزام باستلزامها بتعين الوجوب من سائر المحتملات عند الإطلاق وعدم القرينة ، فإذا تمت مقدمات الحكمة كان مقتضاها حمل الكلام على إرادة الوجوب ، لأن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب توجب تعين إرادة الوجوب مع عدم القرينة على غيره وكون المتكلم في مقام البيان (1).

الجهة الرابعة : لو لم نقل بظهور الصيغة في الوجوب وضعا ، فهل هي ظاهرة فيه بسبب آخر من انصراف أو غيره؟.

ادعي انصرافها إليه باعتبار كثرة الاستعمال فيه ، أو بلحاظ غلبة وجوده ، أو من جهة أكمليته.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان استعمال الصيغة في الندب وهكذا وجوده لا يقل عن استعمالها في الوجوب ووجوده لو لم يكن بأكثر ، وأكملية الوجوب لا توجب انصراف اللفظ إليه ، إذ الظهور انما ينشأ من شدة أنس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها ومرآة له ، والأكملية وحدها لا توجب ذلك (2).

ثم انه قدس سره قرب ظهور الصيغة في الوجوب عند الإطلاق وتمامية مقدمات الحكمة بما مرت الإشارة إليه في كلام المحقق العراقي ، وقد عرفت الإشكال فيه فلا نعيد.

ص: 410


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /71- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التعبدي والتوصلي

اشارة

الجهة الخامسة : الواجبات على قسمين : تعبدي وتوصلي.

وقد وقع الكلام في بيان المراد من التعبدي والتوصلي.

فقيل : ان الوجوب التعبدي ما لا يحصل الغرض فيه إلا بإتيان متعلقه بقصد القربة. ويقابله التوصلي ، وهو ما يحصل منه الغرض بلا قصد القربة (1).

وقيل : بان الواجب التعبدي ما شرع الإتيان به بنحو العبادة وللتعبد به. ويقابله التوصلي وهو ما شرع لغرض حصوله بذاته لا بعنوان العبادة (2).

وقيل : بان التعبدي ما اعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي ما لم يعتبر فيه قصد القربة (3).

ولا يخفى ان تحقيق كون التعبدي أي المعاني من هذه ، أو تحقيق ان التعبدية والتوصلية هل هي صفة الوجوب أو الواجب؟. ليس بذي أهمية فيما هو المهم في الكلام كما سيتضح ، كما لا يخفى ان هذه التفسيرات كلها تشير إلى معنى واحد ، وهو كون التعبدي ما لا يسقط به الأمر إلا بقصد القربة دون التوصلي.

وعليه ، فلا يهمنا إثبات أيها معنى للتعبدي والتوصلي ، فليكن موضوع الكلام فعلا ، هو التعبدي ، بمعنى ما يعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي بمعنى ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

وقد أشير إلى أن للتعبدي معنى آخر ، وهو : ما لا يسقط به الأمر إلا بالمباشرة ، وان يكون عن إرادة واختيار ، وان لا يكون بفعل محرم. بخلاف

ص: 411


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 96 - الطبعة الأولى.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 139 - الطبعة الأولى.

التوصلي ، فانه ما يسقط الأمر بمجرد وجوده وتحققه خارجا ولو كان بفعل الغير ، أو بلا إرادة واختيار ، أو بفعل محرم من المحرمات كتطهير الثوب (1).

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : ان محل الكلام في أن مقتضى الأصل - مع الشك في كون الواجب تعبديا أو توصليا - هل هو العبادية أو التوصلية؟. والمراد بالأصل الأعم من الأصل اللفظي والعملي ، فان المناسب لمبحث الألفاظ وان كان هو البحث في الأصل اللفظي دون العملي ، لكن حيث جاء في كلام الأعلام البحث عن كليهما جرينا على منوالهم.

ولا يخفى ان البحث لا بد ان يكون أولا عن الأصل اللفظي ، وانه هل هناك إطلاق أو نحوه يعين أحد النحوين؟ ، فانه مع ثبوته ووجوده لا تصل النوبة للأصل العملي ، فإذا لم يثبت الأصل اللفظي يبحث ثانيا عما يقتضيه الأصل العملي من أحد النحوين وما تكون نتيجته منها.

ثم ان البحث يقع أولا عن التعبدية بالمعنى الأول - أعني الجامع بين الأقوال الثلاثة -. ثم نبحث أخيرا عن العبادية والتوصلية بالمعنى الآخر ، فيتكلم في أن الأصل هل يقتضي المباشرة في الواجب أو الإرادية أو عدم تحققه بالفعل المحرم ، أو لا يقتضي شيئا منها ، أو بعضها؟. فان تحقيق ذلك مما له فائدة جمة في مباحث الفقه.

وعلى كل ، فيقع الكلام فعلا في : أن مقتضى الأصل هل هو اعتبار قصد القربة في الواجب أولا؟. والكلام في مرحلتين :

المرحلة الأولى : في الأصل اللفظي ، ومحل البحث هو وجود أصل لفظي كالإطلاق يعين أحد النحوين وعدمه. فالكلام في اقتضاء إطلاق الصيغة التوصلية ونفي اعتبار قصد القربة وعدمه.

ص: 412


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 139 - الطبعة الأولى.

والمشهور في كلامهم هو : عدم إمكان التمسك بالإطلاق ، لأجل عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، بضميمة كون الإطلاق إنما يثبت في المورد القابل للتقييد دون غير القابل له كالمورد.

ولا يخفى ان التقرب كما يحصل بقصد امتثال الأمر كذلك يحصل بما يكون موجبا للقرب من القصود ، كقصد المحبوبية أو قصد الإتيان بالفعل له تعالى ونحوه ، إلا ان كلامهم أولا ينصب على تحقيق إمكان وعدم إمكان أخذ قصد امتثال الأمر والإتيان بالفعل بداعي الأمر في متعلق الأمر ، ومنه يبتّون في الأنحاء الأخرى من القصد.

ولأجل ذلك فيكون الكلام فيه أولا في إمكان أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر نفسه وعدم إمكانه ، جريان على منوال القوم.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع أخذه في متعلق الأمر شرعا ، معللا ذلك باستحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلق ذلك الأمر ، سواء كان أخذه فيه بنحو الجزئية أو الشرطية ، وأعقب ذلك بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها » (1).

وكلامه في المقام لا يخلو عن إجمال ، إذ لم يتضح منها ان وجه عدم إمكان أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر شرعا هو استلزامه لمحذور واحد أو لمحذورين ، وعبارته قابلة للحمل على كلا الاحتمالين ، كما ان لكل منهما قرينتين ، فلا يمكن الجزم بإرادته أحدهما ، ويحسن بنا بعد ان نبهنا على ذلك الإفصاح عما ذكرناه فنقول :

يمكن حمل عبارته على استلزام أخذ قصد القربة في متعلق الأمر لمحذورين :

ص: 413


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : ان متعلق الأمر لا بد وان يكون في رتبة سابقة على نفس الأمر ، لأنه معروض الأمر ، والعارض متأخر عن معروضه رتبة ، وداعي الأمر معلول لوجود الأمر لاستحالة تحققه بدونه فهو متأخر عنه تأخر المعلول عن علته. وعليه فلا يمكن أخذه في متعلق الأمر ، لأنه متأخر عن الأمر ، ففرض كونه في متعلق الأمر يستلزم فرض تقدمه على الأمر وهو خلف.

والثاني : ان الأمر انما يتعلق بما هو مقدور دون ما هو ليس بمقدور ، والإتيان بالصلاة بداعي الأمر غير مقدور إلا بتعلق الأمر بذات الصلاة. وأوضح ذلك فيما بعد بان الأمر انما يدعو إلى ما تعلق به ، وقد تعلق بالصلاة مقيدة بقصد القربة ، فلا يمكن الإتيان بالصلاة بداعي الأمر ، إذ لا أمر قد تعلق بها كي يدعو إليها ويؤتى بها بداعيه.

وإلى هذا المحذور أشار بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة .. ». وإلى الأول أشار بقوله : « لاستحالة أخذ ... ».

كما انه يمكن حمل عبارته على ذكر محذور واحد وهو محذور عدم القدرة بتقريب : انه قدس سره ذكر أولا استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه ، ولم يبين السّر والوجه في الاستحالة ، وانما ذكر ذلك بنحو الإجمال ، لكنه عقب ذلك ببيان مثال ذلك مشيرا في مثاله إلى نكتة الامتناع ، وهي عدم القدرة ، وذلك بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة ... ».

وقرينة هذا الاحتمال :

أولا : ظهور الفاء في قوله : « فما لم تكن » في التفريع على ما سبق. وهو يتناسب مع وحدة المحذور لا مع تعدده إذ على الثاني لا معنى للتفريع ، بل كل منهما محذور مستقل.

وثانيا : حكمه بفساد التوهم الّذي ذكره مع تسليمه بجهة من جهاته ، فلو كان النّظر إلى وجود محذورين لم يكن مجموع التوهم فاسدا ، بل يكون دفعه

ص: 414

للمحذور الآخر فاسدا دون الأول ، فحكمه المذكور ظاهر في وحدة المحذور ، وانه لا يندفع به المحذور. وان سلمت إحدى الجهتين به ، فهو واضح الفساد. ويؤيد ذلك انه أصر على ما ذكره من الكلية - أعني استحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه - في غير مكان من الكفاية ، فلو كان نظره فيه إلى ما ذكر من المحذور بنحو التعدد لم يتجه ذلك لاندفاعه بكفاية تصور المتعلق في مرحلة الأمر وتسليمه قدس سره به. فتأمل.

كما أنه على الاحتمال الأول قرينتان :

إحداهما : التعرض في التوهم إلى دفع جهتين والتخلص من إشكالين ، وهما اللذان ذكرناهما وهو ظاهر في تعدد المحذور.

ثانيتهما : عدم مناسبة التفريع مع الكلية المذكورة أولا ، وذلك لأن عدم القدرة على الإتيان بقصد امتثال الأمر لم ينشأ عن جهة كون قصد الأمر مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر ، بل لخصوصية في قصد الأمر بنفسه ، ولذا لا يسري إلى كل ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر كالعلم بالحكم ونحوه. فظاهر الكلية كون المحذور ناشئا عن جهة كون قصد الأمر مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر ، وهو أجنبي عن عدم القدرة على المتعلق ، بل ظاهره كون المحذور فيه هو المحذور في غيره مما يشابهه في عدم تأتيه الا من قبل الأمر وهو غير عدم القدرة. ولذا يلتزم البعض بعدم استحالة أخذ العلم بالحكم في المتعلق ببعض التأويلات ، مع ان المحذور لو كان جهة القدرة لم يقبل التأويل كما هو واضح جدا. وبواسطة وجود القرينة على كلا الاحتمالين يمكننا دعوى كون كلام صاحب الكفاية من المجملات. فلاحظ.

وعلى أي حال فالمهم هو بيان ما ذكر من الوجوه لمنع أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر وهي كثيرة ربما أوصلها البعض إلى عشرة :

الأول : إشكال الدور الّذي أوضحناه في مقام بيان عبارة الكفاية ، والّذي

ص: 415

محصله : ان الأمر يتوقف على ثبوت متعلقه ، وقصد الأمر يتوقف على ثبوت الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه ، وقد عرفت توقفه على الأمر. وهذا هو الدور أو الخلف وهو محال.

والجواب عنه واضح ، وقد أشار إليه في الكفاية ، وبيانه : ان الأمر لا يتوقف على وجود متعلقه خارجا ، بل يتوقف على وجوده ذهنا وتصورا ، فيتعلق به ويبعث الأمر بعد تصوره. وداعي الأمر انما يتوقف على الأمر بوجوده الخارجي لا التصوري ، إذ يمكن تصور داعي الأمر ولو لم يكن أمر أصلا. وعليه فالذي يتوقف عليه الأمر هو قصد الأمر بوجوده التصوري وهو لا يتوقف على الأمر ، بل الّذي يتوقف على الأمر هو قصد الأمر بوجوده الخارجي وهو لا يتصور عليه الأمر فلا دور ، إذ الموقوف عليه الأمر غير الموقوف على الأمر.

الثاني : استلزامه الدور بلحاظ مقام الامتثال ، وذلك لأن الأمر يتوقف على القدرة على متعلقه ، إذ لا يصح الأمر مع عدم القدرة ، فإذا كان قصد الأمر مأخوذا في متعلق الأمر كان الأمر متوقفا على القدرة عليه ، مع ان القدرة على قصد الأمر تتوقف على الأمر ، إذ لا يتحقق قصد الأمر بدون الأمر.

وأجيب عن ذلك : بان القدرة المصححة للأمر إنما هي القدرة على المتعلق في ظرف الامتثال لا في ظرف الأمر.

وتوضيح النّظر في الجواب يتوقف على بيان المقصود من شرطية القدرة.

فنقول : ان الشرط قد يطلق ويراد به معناه الفلسفي ، وما هو المصطلح به عليه عند أهل ذلك الفن ، وهو جزء العلة التامة وما يكون دخيلا في وجود المشروط. وقد يطلق ويراد به معنى غير ذلك ، بل ما يكون مصححا لإيجاد الفعل ورافعا للغويته وموجبا لكونه من الأفعال العقلائية وان أمكن وجود الفعل بحسب ذاته بدونه ، وذلك نظير ما يقال شرط اعتبار الملكية ترتب الأثر عليها ، فان ترتب الأثر ليس دخيلا في وجود الملكية ، بل هو مصحح لإيجادها من قبل

ص: 416

العقلاء وبه يخرج الفعل على تقدير وجوده عن اللغوية. ومن الواضح ان الشرط بالمعنى الأول سابق رتبة على المشروط ، فيمتنع ان يفرض تأخره عنه رتبة في حال من الأحوال سواء كان في وجوده لا حقا أم سابقا على وجود المشروط.

واما الشرط بالمعنى الثاني ، فليس هو في الرتبة سابقا على المشروط ولا يتوقف المشروط عليه ، فلا يمتنع ان يفرض تأخره عنه في الرتبة.

وشرطية القدرة للتكليف لو أريد بها المعنى الأول كان الإشكال في محله ، إذ القدرة على قصد الأمر يتوقف عليها الأمر مع ان قصد الأمر معلول لوجود الأمر.

ولا ينحل الإشكال بان القدرة التي هي شرط الأمر هي القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف التكليف والأمر ، إذ القدرة في مقام الامتثال على قصد الأمر معلولة للأمر ، فلا يمكن أن تؤخذ شرطا للأمر وجزء علته ، فان ذلك يستلزم الدور والخلف كما هو واضح.

لكن الّذي يهون الخطب ان شرطية القدرة للتكليف ليس المقصود بها المعنى الفلسفي للشرطية ، بل المقصود بها المعنى الثاني ، فالقدرة مصححة للأمر والتكليف ، إذ بدونها يكون لغوا ومعها يخرج عن اللغوية ، فهي شرط للتكليف الصادر من المولى الحكيم ، فلا يمتنع ان تكون ناشئة عن نفس التكليف ، كما أنها ثابتة ، إذ ما هو شرط ومصحح للأمر انما هو القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف الأمر كي يدعي عدم القدرة عليه بدون الأمر ، والقدرة على قصد الأمر في ظرف الامتثال حاصلة لتحقق الأمر.

وبالجملة : فإشكال الدور يبتني على الخلط بين الشرط بالمعنى الفلسفي والشرط بمعناه الآخر. وبعد تبين الخلط والمراد بالشرط يتضح عدم تأتي الإشكال ، ويتبين ما هو محط النّظر في الجواب المشار إليه فتبصر.

الثالث : وهو ما يرتبط بعدم القدرة على المأمور به أيضا. لكنه بتقريب

ص: 417

آخر ، وهو ما أشار إليه في الكفاية أولا ثم أوضحه في طيات كلماته.

وبيانه : ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم عدم القدرة على الإتيان بالفعل بقصد الأمر. وذلك : لأن قصد الأمر إما ان يؤخذ بنحو الشرطية للفعل أو بنحو الجزئية ، بحيث يكون المأمور به مركبا من الفعل وقصد الأمر.

فعلى الأول : فحيث ان الأمر إنما يتعلق بالمقيد بما هو مقيد بحيث لا يكون إلا أمر واحد متعلق بموضوع واحد وهو المقيد ولا ينحل الأمر إلى أمرين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالخصوصية أو بتقيده بها ، لأن التجزؤ إنما يكون بالتحليل العقلي ..

لم تكن ذات الفعل متعلق للأمر. وعليه فلا يمكن الإتيان بها بداعي الأمر المتعلق بها لعدم وجوده ، والأمر الموجود إنما يدعو إلى المقيد بما هو مقيد لأنه متعلقه ، لا إلى الذات إذ لم يتعلق بالذات ، والمفروض ان المقيد - وهو الفعل بقصد الأمر - غير مقدور لتوقفه على تعلق الأمر بذات الفعل حتى يصح الإتيان به بداعي أمره.

وعلى الثاني : فالفعل وان كان بذاته متعلقا للأمر لأنه جزء ، والمفروض ان الكل عين أجزائه فالأمر المتعلق به متعلق بها ، إلا أن في أخذه جزء محذورين :

أحدهما : لزوم تعلق الأمر بغير الاختياري ، وهو قصد القربة ، لأنه إذا كان جزء كان متعلقا للأمر وهو غير اختياري ، لأن الإرادة ليست بالاختيار ، وإلا لزم التسلسل - وهو واضح - ويمتنع تعلق الأمر بما هو غير اختياري.

ثانيهما : عدم القدرة على الإتيان بالمأمور به ، وذلك لأن المركب الارتباطي لا يمكن الإتيان بكل جزء منه على حدّه ومستقلا ، بل لا يتحقق امتثاله إلا بالإتيان بكل جزء مع غيره من الأجزاء - ولذا لا يمكن قصد الأمر في الإتيان بالركوع وحده -.

وعليه ، فلا يمكن الإتيان بذات الفعل بداعي وجوب الكل ما لم ينضم

ص: 418

إليه الجزء الآخر وهو قصد الأمر ، فيكون المأتي به هو الفعل بداعي الأمر لداعي الأمر ، وذلك محال لا من باب ان داعي الأمر لا يمكن ان يتحقق بداعي الأمر - إذ ذلك بنفسه لا محذور فيه ، ولذا يرتفع المحذور المذكور في صورة الالتزام بتعدد الأمر مع انه يستلزم ان يكون داعي الأمر عن الأمر - بل من جهة ان الأمر لا يكون محركا نحو محركية نفسه ، فانه بوزان علية الشيء لعلية نفسه ، بيان ذلك : ان المفروض انه لا أمر إلا واحد ، وعليه فإذا جيء بالصلاة - مثلا - بقصد أمرها - وهو الأمر بالمجموع المركب - وكان المحرك نحو ذلك هو الأمر بالمجموع ، كان الإتيان بالصلاة بداعي الأمر بالمركب منبعثا عن الأمر بالمركب ، فالأمر بالمركب يكون داعيا للإتيان بالصلاة بداعي الأمر نفسه ، فيلزم ان يكون الأمر داعيا لداعوية نفسه وهو محال بملاك علية الشيء لعلية نفسه (1). وعلى هذا الوجه حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية وبين جهة المحالية بما عرفته (2).

وهذا توضيح ما أفاده صاحب الكفاية ويقع الكلام في ما أفاده في موارد ثلاثة :

الأول : فيما ذكره من عدم انحلال الأمر بالمقيد وانبساطه ، بل يكون امرا واحدا متعلقا بالمقيد بما هو مقيد.

وتحقيق الكلام في صحة هذه الدعوى ليس محله هاهنا ، بل له محل آخر في هذا العلم وهو مبحث البراءة والاشتغال عند البحث عن جريان البراءة مع الشك في الشرطية ، فان جريان البراءة الشرعية والاشتغال يبتني على تحقيق أن الأمر بالمشروط هل ينحل إلى أمرين ضمنيين ، أمر بذات المشروط وامر آخر

ص: 419


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /73- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 134 - الطبعة الأولى.

بتقيده بالشرط ، فيكون الحال في الشروط كالحال في الاجزاء ، إلاّ ان الجزء يختلف عن الشرط في أنه بذاته متعلق الأمر الضمني دون الشرط فان متعلق الأمر الضمني فيه هو التقيد به لا نفس الشرط؟. أو انه لا ينحل ، بل لا يكون هناك إلا أمر واحد متعلق بالمشروط بما هو كذلك ، فنفس الفعل لا يكون مأمورا به بالأمر الضمني أصلا ، إذ المأمور به يكون أمرا بسيطا متعلقا لأمر واحد ولا وجه للانحلال حينئذ؟.

فعلى الأولى : يتجه إجراء البراءة عند الشك في شرطية شيء ، لأنه يعلم تفصيلا بتعلق الأمر بذات المشروط ويشك بدوا في تعلقه بالتقيد بالشرط ، فيكون الشك شكا في التكليف وهو مجرى البراءة.

واما على الثاني : فلا مجال للبراءة ، إذ العلم الإجمالي لا ينحل لفرض وحدة الأمر على تقدير تعلقه بالمشروط ، فالأمر دائر بين المتباينين ، إما الأمر بذات المشروط ، أو الأمر بالمشروط بما هو كذلك ، وهو مجرى الاشتغال.

وعليه ، فالتزام المحقق الخراسانيّ هنا بعدم انحلال الأمر بالمشروط ينافى التزامه بجريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية ، وعلى كل فتحقيق الحال فيما ذكره له محل آخر كما عرفت. والحق - كما سيأتي - هو الالتزام بالانحلال ورجوع الشرطية إلى أخذ التقيد بالشرط جزء.

وعليه ، فيبتني إمكان أخذه شرطا في متعلق الأمر وعدمه على تحقيق إمكان أخذه بنحو الجزئية أولا ، إذ الملاك فيهما يتحد بعد ما عرفت من رجوع الشرطية إلى جزئية التقيد بالشرط.

الثاني : فيما ذكره من عدم إمكان تعلق الأمر بقصد الأمر لعدم اختياريته ، وهو ممنوع ، إذ يرد عليه :

أولا : النقض بتعلق الإلزام بقصد الأمر ولو بحكم العقل ، فان العبد يرى نفسه ملزما بالإتيان بالفعل مع هذا القصد ، بحيث يرى ان هناك فرقا بينه وبين

ص: 420

غيره من الواجبات غير العبادية في مقام الامتثال وإسقاط التكليف ، وإذا لم يكن القصد اختياريا فكيف يتعلق به الإلزام؟ ، سواء كان من العقل أو الشرع.

وثانيا : إنكار عدم اختياريته ، فان ذلك يبتني على الخلط والاشتباه في المراد منه ، فان القصد يطلق ويراد به تارة : ما يرادف الإرادة والاختيار. وأخرى : ما يرادف الداعي والباعث فيقال قصدي من هذا الفعل كذا. ومن الواضح ان المراد بقصد امتثال الأمر ليس الإرادة بل الداعي ، بمعنى ان الإتيان بالمأمور به حيث يترتب عليه موافقة الأمر وامتثاله يكون الإتيان بداعي حصول الموافقة والامتثال والتقرب إلى المولى ونحو ذلك.

فالمراد (1) بالقصد هو هذا المعنى لا الإرادة ، لأن امتثال الأمر من المسببات التوليدية فلا تتعلق بها الإرادة ، بل انما تتعلق بالسبب بداعي تحقق المسبب. ومن الواضح أن الداعي يمكن تعلق الأمر به ، فان الأمر كثيرا ما يتعلق بما يتقوم بالداعي كالتعظيم ونحوه مما يتقوم بالإتيان بالفعل بداعي التعظيم ولا إشكال في اختياريته.

وثالثا : إنكار عدم اختيارية الإرادة ، والالتزام بما التزم به المتكلمون من أن اختيارية الأشياء بالإرادة واختيارية الإرادة بنفسها بواسطة الالتزام بوجه من الوجوه التي ذكروها لذلك ، وإلاّ لوقع الإشكال في اختيارية الأفعال باعتبار استنادها إلى ما ليس بالاختيار.

ص: 421


1- علل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) في مجلس الدرس إرادة هذا المعنى من القصد دون الإرادة : بان الإرادة انما تتعلق بفعل الشخص نفسه لا بفعل غيره ، فلا معنى لتعلقها بالأمر ، لأنه فعل المولى فلو أريد من القصد الإرادة لم يكن معنى لقولهم قصد الأمر. لكنه عدل عن ذلك بعد مذاكرته ، لأن المفروض الإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر لا بقصد الأمر ، والامتثال أمر اختياري ومن فعل الشخص نفسه. مضافا إلى أن قصد الأمر لا معنى له مطلقا ، ولو أريد من القصد الداعي ، لأن الأمر لا يترتب على الفعل ، والداعي ما يترتب خارجا على الفعل ، وانما يكون بوجوده الذهني سابقا عليه ، فتأمل. ( منه عفي عنه ).

وبالجملة : فلا محيص عن الالتزام باختيارية الإرادة بوجه من الوجوه ، وتحقيق ذلك موكول إلى محله في علم الكلام.

الثالث : فيما ذكره من عدم إمكان الإتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

والّذي علله المحقق الأصفهاني باستلزامه محركية الشيء لمحركية نفسه.

وقد جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) نسبة هذا المحذور إلى نفس المحقق الأصفهاني ، وحمل كلام الكفاية على معنى آخر ، ثم أورد عليه : بان الأمر بالكل ينحل إلى أوامر ضمنية تنبسط على الاجزاء وتتعدد بتعدد الاجزاء ، فيختص كل جزء بأمر ضمني لنفسه ، ويكون محركا نحو الجزء وباعثا إليه وعلى هذا فالأمر بالمركب من الفعل وقصد الامتثال ينحل إلى أمرين ضمنيين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر يتعلق بقصد الامتثال ينحل إلى أمرين ضمنيين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر يتعلق بقصد الامتثال ، فيكون الأمر المتعلق بقصد الامتثال داعيا وباعثا إلى الإتيان بالفعل بقصد أمره الضمني المتعلق به. فلا يكون الأمر محركا نحو محركية نفسه بل محركا نحو محركية غيره ، فان الأمر الضمني المتعلق بقصد الامتثال يكون محركا نحو محركية الأمر الضمني المتعلق بالفعل ، فلا محذور (1).

ولكن صدور هذا الإيراد من مثل السيد الخوئي عجيب جدا. بيان ذلك : ان تمامية الإيراد الّذي ذكره تبتني على أمرين :

الأمر الأول : الالتزام بانحلال الوجوب المتعلق بالمركب إلى أوامر ضمنية يتعلق كل منها بجزء من أجزاء المركب ، توضيح ذلك : انه وقع الكلام في ان الأمر بالمركب هل هو امر واحد بسيط متعلق بمجموع الاجزاء ولا يقبل التعدد والانحلال بل ينسب إلى كل الاجزاء على حد سواء ، ولا يقال عن كل جزء انه

ص: 422


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 163 و 170 - الطبعة الأولى.

مأمور به ، نظير الحمى التي تعرض على البدن ، فانه يتصف بها جميع اجزاء البدن لكنها عرفا حمى واحدة ، ولذا لا يقال لليد وحدها انها محمومة ، بل يقال عن جميع البدن انه محموم وان عرضت الحمى على كل الاجزاء؟ أو انه أوامر متعددة بتعدد الاجزاء ، بحيث يكون كل جزء متعلقا لأمر مختص به ، ويقال انه مأمور به كالبياض الطارئ على الجسم الإنساني فانه يعرض على جميع الاجزاء ويوصف به كل جزء ، فيقال وجهه أبيض ويده بيضاء وهكذا ، كما انه يقال لمجموع جسمه أنه أبيض؟.

فعلى الالتزام بعدم انبساط الأمر بالمركب على الاجزاء ، وانه ليس إلا أمر واحد لا معنى لما ذكره من كون الحصة من الأمر المتعلقة بقصد الامتثال تكون محركة نحو محركية الحصة المتعلقة بذات الفعل ، فلا يكون الأمر محركا نحو محركية نفسه ، إذ لا يتحصص الأمر وليس هو إلا امر واحد متعلق بالمركب فلا يتجه الإيراد. كما انه لا يكفي في صحة الإيراد الالتزام بتحصص الأمر وانحلاله وانبساطه على الاجزاء ، بل يتوقف على ثبوت.

الأمر الثاني : وهو الالتزام بان الأمر الضمني المنحل عن الأمر بالكل يصلح للداعوية نحو ما تعلق به وإلاّ فلا يتم الإيراد ، لأنه وان كان كل من الفعل وقصد الامتثال متعلقا للأمر الضمني ، لكن كلا منهما لا يصلح للمحركية كي يكون أحدهما محركا نحو محركية الآخر ، ويرتفع بذلك محذور محركية الشيء نحو محركية نفسه ، بل الّذي يصلح للمحركية هو الأمر الاستقلالي بالمجموع فيعود المحذور.

والحاصل : ان الإيراد يتم لو التزم بانبساط الوجوب وانحلاله وصلاحيته الأمر الضمني للمحركية ، إذ يقال حينئذ : ان كلا من الفعل وقصد الامتثال يكون متعلقا للأمر الضمني ، ويكون الأمر المتعلق بقصد الامتثال محركا نحو قصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بالفعل عند إتيانه. فيكون الأمر محركا نحو محركية

ص: 423

غيره لا نفسه كما عرفت تقريره.

إذا تبين ذلك : فبما ان الظاهر من كلام الكفاية هو عدم انبساط الوجوب وانحلاله كما يشير إليه قوله : « ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل » (1).

وان كان هذا خلاف التزام المحقق الأصفهاني ، فانه يلتزم بانحلال الوجوب وانبساطه (2).

وعليه ، فان حملنا عبارة الكفاية على ما تقدم وكان الإيراد عليه ، كان الإيراد مبنائيا لما عرفت من انه يبتني على القول بانحلال الأمر وصاحب الكفاية لا يلتزم به. وان لم يكن الإيراد على صاحب الكفاية. بل كان على المحقق الأصفهاني ، بلحاظ ان المحذور منه نفسه لا مقصود الكفاية ، فهو عجيب جدا ، لأنك عرفت انه يبتني على الالتزام بداعوية الأمر الضمني والمحقق الأصفهاني لا يلتزم بها ، بل انه يصرح في كلامه بابتناء المحذور على عدم داعوية الأمر الضمني ، وذلك لا يفوت السيد الخوئي لاطلاعه على آراء أستاذه الأصفهاني ، وكذلك يكون نحو إيراده المزبور محل العجب منه ، إذ كان المناسب التصدي للمناقشة معه في هذه الجهة ، أعني داعوية الأمر الضمني وعدمها ، لا المناقشة معه في أصل المحذور مع إغفال جهة الداعوية بالمرّة.

وإذا كانت النكتة - التي هي أساس المحذور - هي عدم صلاحية الأمر الضمني للداعوية ، فلا بد لنا من تحقيق الحال في هذه الجهة ، والّذي يبدو لنا بعد التأمل موافقة المحقق الأصفهاني والالتزام بعدم داعوية الأمر الضمني. والسر في ذلك : ان الشيء انما يكون داعيا للعمل وباعثا نحوه ، اما لكونه بنفسه أثرا مرغوبا ، فيقصد بالعمل ترتبه عليه. أو لكونه ذا أثر مرغوب ، بحيث يكون تصور

ص: 424


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /73- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 264 - الطبعة الأولى.

ترتبه على الفعل باعثا نحو العمل باعتبار ان لوجوده أثرا مرغوبا عقلا أو شرعا أو عرفا أو نفسيا إلى غير ذلك.

وبالجملة : الشيء لا يصلح للداعوية ما لم يكن بوجوده ذا أثر محبوب ، أو كان هو بنفسه محبوبا ، اما بدون ذلك فلا يصلح للداعوية نحو العمل بل يكون العمل لغوا.

وعليه ، فالأمر الضمني إنما يصلح للداعوية إذا كان لموافقته أثر مرغوب شرعا أو عقلا من تحصيل مثوبة أو دفع عقوبة أو حصول التقرب ونحوها ، اما إذا لم يكن لموافقته أي أثر بل كانت هذه الآثار التي يترتب على الموافقة انما يترتب على موافقة الأمر بالكل لم يكن الأمر الضمني صالحا للداعوية ، والأمر كذلك ، فإن حصول الامتثال والطاعة والثواب انما يكون على موافقة الأمر بالمركب ولذا لا تتعدد الطاعة والمعصية ولا يتعدد الثواب والعقاب ، بل ليس هناك إلا إطاعة واحدة وعصيان واحد وثواب واحد وعقاب كذلك تترتب على موافقة الأمر بالمركب أو مخالفته ، وليس لموافقة الأمر بالجزء أي أثر من ذلك. ولا يخفى ان موافقة الأمر بالكل أمر بسيط غير قابل للتعدد لأنه ينتزع عن الإتيان بجميع الاجزاء والشرائط ، فهي تكون داعية للمجموع بما هو كذلك وليست أمرا قابلا للتعدد كي يترتب الإطاعة والأثر على كل حصة بنفسها فيصلح الأمر بها للداعوية ، لترتب الأثر على المجموع ، فيكون كل جزء دخيلا في ترتب الأثر ، بل يترتب عليه بعض الأثر بنسبته. فلاحظ.

وبالجملة : مما ذكرنا يظهر ان الأمر الضمني غير صالح للداعوية.

وعليه ، فيتم المحذور المزبور - ويندفع الإيراد -. وحاصله : ان الأمر انما يتعلق بمتعلقه ليكون داعيا إليه وباعثا نحوه ، فإذا كان داعي امتثال الأمر نفسه جزء المتعلق كان الأمر به للدعوة إليه مستلزما لأن يكون الشيء داعيا لداعوية نفسه.

ص: 425

وبهذا التقريب يكون الإشكال أجنبيا عن عدم القدرة على الامتثال وان أمكن حمل عبارة الكفاية عليه وربطه بعدم القدرة لعدم الأمر كما تقدم.

والمحصل : ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم داعوية الأمر لداعوية نفسه وهو محال ، وهذا محذور تام يمنع من أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ولا يهم فيه كونه مراد الكفاية أو لا ، فلاحظ.

الرابع : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر لاستلزامه المحذور في مقام الفعلية والإنشاء والامتثال. بيان ذلك : ان الأحكام الشرعية معلقة على موضوعاتها بنحو القضايا الحقيقية ، يعني ان الحكم يترتب على تقدير وجود موضوعه فلا يكون الحكم فعليا إلا بعد فعلية الموضوع وتحققه خارجا ، فالموضوع في مرحلة ثبوت الحكم يكون مفروض الوجود.

وعليه ، فيمتنع أخذ ما يترتب على الحكم في وجوده في موضوع ذلك الحكم ، كالعلم بالحكم ، فيستحيل تقييد موضوع الحكم بالعلم بالحكم بحيث لا يترتب الحكم إلا في فرض تحقق العلم به. وذلك لأن أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم يستلزم أن تكون نسبة العلم بالحكم إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول لما عرفت من أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه وعدم تحقق الحكم إلا بتحقق موضوعه. فالحكم موقوف على العلم بالحكم ، ومن الظاهر ان العلم بالحكم انما يثبت في فرض ثبوت الحكم ، إذ مع عدمه لا معنى لتعلق العلم به ، فالعلم بالحكم موقوف على الحكم ، فيكون الحكم موقوفا على العلم به والعلم به موقوفا على الحكم وهو دور. فأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم يستلزم محذور الدور. هذا بالنظر إلى مرحلة الفعلية ، وقد اتضح عدم صحة أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه.

واما بالنظر إلى مقام الإنشاء فأخذ العلم بالحكم ممتنع أيضا لوجهين :

ص: 426

أحدهما : ان الإنشاء جعل المنشأ وإيجاده ، فنسبة الإنشاء إلى الحكم نسبة الإيجاد إلى الموجود ، فإذا كان المنشأ مما يستحيل تحققه لما عرفت ، امتنع إيجاده وتحقيقه ، إذ الإيجاد لا يتعلق بالمحال. والمفروض ان الإنشاء يتعلق بالاحكام الشرعية.

ثانيهما : ان باب إنشاء الأحكام على موضوعاتها ليس من باب الفرض والتقدير المحض كالخيال نظير : « أنياب الأغوال » كي يقال انه خفيف المئونة ولا يستدعي أكثر من تصور الموضوع والحكم ، بل إنما ينشأ الحكم على فرض وجود موضوعه بلحاظ مرآتية هذا المفروض عن الخارج بحيث يكون الملحوظ حال الإنشاء ملحوظا طريقا للخارج فيرتب عليه الحكم.

وعليه ، فلا بد ان يفرض وجود الموضوع ومنه العلم بالحكم في مقام الإنشاء ، وفرض وجود العلم بالحكم فرض وجود نفس الحكم فيلزم ان يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده وهو محذور الدور وان لم يكن دورا بنفسه.

هذا بالنسبة إلى العلم بالحكم ونحوه مما يترتب في وجوده على وجود الحكم. وليس هذا هو محور الكلام بل هو تمهيد إلى ما نحن فيه من امتناع أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه. ولذلك شرع قدس سره بعد بيان ما عرفت في بيان امتناع أخذ قصد الأمر في متعلق التكليف. ولا بد قبل الشروع في بيان ما أفاده في هذا الموضوع من بيان شيء ، وهو : ان ما يكون في المرتبة السابقة على الأمر على نحوين : متعلق وموضوع. ويصطلح بالمتعلق على ما يكون التكليف داعيا على نحوين : متعلق وموضوع. ويصطلح بالمتعلق على ما يكون التكليف داعيا إليه وملزما للعمل والإتيان به ، نظير الصلاة في : « صل » ، فان الأمر يدعو إليها ولا بد من إتيانها بمقتضى الأمر. ويصطلح بالموضوع على ما يكون في رتبة سابقة على الأمر ولا يدعو الأمر إليه ولا يلزم الإتيان به ، بل الحكم يحصل في فرض وجوده سواء كان غير اختياري ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة فانه تجب الصلاة في الوقت ، فالذي لا بد من الإتيان به هو إيقاع الصلاة في الوقت اما

ص: 427

نفس الوقت فليس كذلك ، أو كان اختياريا كالعقد بالنسبة إلى وجوب الوفاء بالعقد ، فان المتعلق هو الوفاء ، بمعنى انه إذا حصل العقد فيلزم الوفاء به ، اما نفس العقد فلا يلزم إتيانه وتحصيله بل الحكم يثبت على تقدير حصوله ، ويعبر عن هذا بمتعلق متعلق التكاليف ، فان العقد متعلق الوفاء والوفاء متعلق التكليف الوجوبيّ.

ولعل هذا الفصل بين هذين النحوين والاصطلاح عليهما بما عرفت من مبتكرات المحقق النائيني قدس سره ، إذ لم نعثر في كلام غيره على هذا التفكيك ، وكثيرا ما يقع الخلط في كلام الأعلام ، فيعبر عن المتعلق بالموضوع.

وعلى كل فقد عرفت في مقدمة كلامه ان ما ينشأ عن الحكم يمتنع أخذه في موضوع الحكم ، لأن الحكم انما يثبت في فرض وجود موضوعه ، فالموضوع يكون مفروض الوجود في مرحلة ثبوت الحكم. اما أخذه في متعلق الحكم فلا محذور فيه من هذه الجهة ، إذ المتعلق ليس مفروض الوجود كما لا يخفى.

وعليه ، فما ارتباط ما ذكره من امتناع أخذ العلم بالحكم ونظيره في موضوع الحكم بما هو محل البحث من أخذ قصد الامتثال في متعلق الحكم؟.

والجواب : ان الكلام في امتناع أخذ قصد الامتثال ليس مركزا على نفس قصد الامتثال ومنظورا فيه ذلك كي يقال ان نسبة قصد الامتثال إلى الحكم نسبة المتعلق لا نسبة الموضوع ، بل هو مركز على الأمر نفسه ، وذلك لأن فرض أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الحكم يلازم فرض كون الأمر موضوعا لأنه متعلق لمتعلق التكليف ، لأنه متعلق لقصد الامتثال الّذي هو متعلق الأمر ، وقد عرفت ان مثل هذا يكون موضوعا للحكم ، فقصد الامتثال وان كان متعلقا للحكم لكن الأمر الّذي هو متعلق قصد الامتثال موضوع للحكم فالكلام فيه. فجهة ارتباط ما ذكره أولا بمحل البحث هو استلزام أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر أخذ ما يتفرع على الأمر في موضوع الأمر ، فموضوع الحديث في قصد الامتثال

ص: 428

هو : « الأمر » وهو السر في الامتناع.

وإذا تبين ذلك ، فقد أفاد قدس سره : ان أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ممتنع في مقام الإنشاء ومقام الفعلية ومقام الامتثال. وذلك ..

اما امتناعه في مقام الإنشاء فلما عرفت من انه لا بد من فرض وجود الموضوع في ذلك المقام ، فيلزم فرض وجود الأمر لأنه موضوع الحكم قبل وجوده ، وهو يستلزم تقدم الشيء على نفسه.

واما امتناعه في مقام الفعلية ، فلما عرفت من ان فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، فإذا كان الأمر دخيلا في موضوع الأمر كانت فعلية الأمر متوقفة على فعليته ، وهو يستلزم تقدم فعليته على فعليته وهو محال.

واما امتناعه في مقام الامتثال ، فلان قصد الامتثال متأخر بالطبع عن تمام الأجزاء ، لأنه يكون بها فيقصد بالأجزاء قصد الامتثال ، فإذا فرضنا ان من الأجزاء قصد امتثال نفس الأمر ، فلا بد ان يكون المكلف في مقام امتثاله قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدم قصد الامتثال على نفسه.

فالمحذور المستلزم لأخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه في جميع المراحل ، هو لزوم تقدم الشيء على نفسه وهو محال كالدور (1).

هذا محصل وتوضيح ما أفاده المحقق النائيني ، والّذي يظهر ان عمدة المحذور هو أخذ قصد امتثال الأمر بلحاظ مرحلة الفعلية ، وان تعليق فعلية الحكم على فعلية ما لا يكون إلا به هو الأساس في الإشكال ، إذ مقام الإنشاء يتفرع عليه كما عرفت. فان المحذور كما عرفت هو انه لا بد من فرض الموضوع مطابقا لما هو الواقع في مقام الإنشاء ، وبما ان الواقع محال لم يمكن فرض ما هو يطابقه لعدم تحققه ، وما هو مفروض لا يكون مرآتا ومطابقا للواقع.

ص: 429


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 105 - 108 - الطبعة الأولى.

وقد استشكل المحقق العراقي رحمه اللّه فيما أفاده بان هذا الكلام إنما يتأتى بالنسبة إلى ما يكون متعلقا لمتعلق التكليف لا ما يكون متعلقا للتكليف بقصد الامتثال ، إذ مثله لا يكون مفروض الوجود ، بل فرض وجوده مساوق لسقوط الأمر لا فعليته (1).

وأنت خبير بان نكتة المحذور في كلام المحقق النائيني والتي أوضحناها أولا مغفول عنها في كلام المحقق العراقي. فان المحذور نشأ من جهة نفس الأمر باعتبار انه يكون متعلق متعلق التكليف لا من جهة قصد الامتثال نفسه ، فالإشكال فيما أفاده بهذا النحو بعيد عن كلام النائيني ومحط نظره. فالذي لا بد من معرفته لتحقيق صحة ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه هو انه هل كل ما يكون متعلّقا لمتعلق التكليف ولا يدعو الأمر إليه لا بد من فرض وجوده وكونه مفروض الوجود في فعلية الحكم؟ أولا.

فإذا ثبت عدم الملازمة بين كونه متعلقا لمتعلق التكليف وفرض وجوده في فعلية الأمر ، وإمكان أن يكون أمر لا يدعو التكليف إليه ولا يحرك نحوه وليس مفروض الوجود قبل الحكم ، لم يثبت ما أفاده لأن الأمر وان كان متعلقا لمتعلق التكليف ولا يصلح التكليف للداعوية إليه لأنه فعل المولى لا العبد إلا انه لا يلزم ان يكون مفروض الوجود وتكون فعلية الحكم متوقفة على فعليته.

وان ثبتت الملازمة بنحو الكلية ، فالأمر كما أفاده من امتناع أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر لما ذكر من لزوم تقدم الشيء على نفسه فمعرفة صحة ما أفاده قدس سره تبتني على تحقيق هذه الجهة. هذا بالنسبة إلى مقام الفعلية.

واما بالنسبة إلى مقام الامتثال. فما أفاده من محذور أخذ قصد الامتثال بالنسبة إليه لا يرتبط بمحذور مقام الفعلية ، فانه مرتبط بنفس المتعلق ، أعني قصد

ص: 430


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 76 - الطبعة الأولى.

الامتثال لا متعلقه أعني الأمر.

ولكنه غير وجيه ، فان قصد امتثال الأمر الّذي يؤخذ جزء إما ان يراد منه امتثال الأمر الضمني المتعلق بالأجزاء أو امتثال الأمر الاستقلالي النفسيّ المتعلق بالمركب.

فعلى الأول : لا يلزم ما ذكره من تقدم الشيء على نفسه فان قصد الامتثال المأخوذ جزء هو قصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل ، وقصد امتثال الأمر الّذي يؤتى بالمجموع معه هو قصد امتثال الأمر الاستقلالي المتعلق بالكل ، بمعنى ان الفعل يؤتى به بداعي أمره الضمني بقصد امتثال الأمر بالكل المتعلق به وبقصد امتثال امره فالذي يكون جزء وفي مرتبة الأجزاء غير الّذي يكون متأخرا عنها. فلم يفرض الشيء في رتبة سابقة عليه.

وعلى الثاني : فالمحذور انما يمكن القول به لو فرض ان قصد امتثال الأمر المعتبر واحد لا غير ، فيقال ان اعتباره في مرتبة الأجزاء لا يتلاءم مع كونه في رتبة متأخرة عن الأجزاء ، إذ الفرض ان الأجزاء بمجموعها يؤتى بها بقصد الأمر. ولا ملزم بذلك ، بل يمكن ان يدعى ان هناك قصدين لامتثال الأمر أحدهما متعلق للأمر وفي مرتبة الأجزاء ، والآخر يؤتى بالكل معه ، فما هو في مرتبة الاجزاء فرد آخر غير الّذي يؤتى بالاجزاء معه. فلا يلزم ان يتقدم الشيء على نفسه لتعدد الفرد وكون المتقدم فردا غير المتأخر ، فيؤتى بالفعل بداعي الأمر.

نعم ، في ذلك محذور من جهة أخرى ، وهي ما ذكرناها من استلزام كون الأمر داعيا لداعوية نفسه ، ولكنه كلام آخر ، والمهم بيان ان جهة المحذور ليست ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من استلزام فرض الشيء سابقا على نفسه.

ص: 431

وبالجملة : فأخذ قصد الامتثال لا يستلزم ما أفاده بالنسبة إلى مقام الامتثال. والمهم تحقيق ما أفاده في مقام الفعلية ، وقد عرفت انه يبتني على امرين :

الأول : ان كل ما يؤخذ في متعلق الحكم ولم يكن الأمر داعيا إليه كان مفروض الوجود.

الثاني : ان كل ما هو مفروض الوجود يكون الحكم متأخرا عنه بحيث لا يصير فعليا إلا بعد وجوده.

فانه بتمامية هذين الأمرين يثبت توقف فعلية الأمر على الأمر وهو محال.

ولا يخفى ان كلا الأمرين محل بحث وكلام ، فان تسليم الأول لا يستلزم تسليم الثاني. والبحث في الأمر الثاني ليس محله هاهنا ، بل محله مبحث الواجب المعلق ، وقد التزم به - كما التزم بالأول - المحقق الثاني ، ولذلك بنى على ان وجوب الحج مثلا لا يصير فعليا الا بحلول وقته للغوية فعلية الوجوب قبل الوقت مع عدم إمكان الامتثال إلا في الوقت.

وانما البحث مع المحقق قدس سره في الأمر الأول - بفرض تسليم الأمر الثاني له وعدم مناقشته فيه لو ثبت الأمر الأول - ، فيقع الكلام فعلا في ان كل ما يكون مأخوذا في متعلق الخطاب ولم يصلح الأمر للداعوية إليه يلزم ان يكون مفروض الوجود ، فتتوقف فعلية الأمر على فعليته ، أو ليس الأمر كذلك ، بل يمكن ان يتصور ما هو مأخوذ في متعلق الأمر وليس الأمر بصالح للدعوة إليه ولم يكن مفروض الوجود؟.

ولا يخفى ان الكلام يقع أولا بلحاظ مقام الثبوت ، اما مقام الإثبات فهو متفرع على مقام الثبوت ، فان ثبتت الملازمة بنحو الكلية فلا مجال لتحرير الكلام إثباتا ، واما إذا لم تثبت الملازمة الكلية فلا بد حينئذ من لحاظ الدليل على الحكم واستظهار فرض وجود الشيء وعدمه. فالكلام بدوا في مرحلة الثبوت ومعرفة وجود الملازمة كليا أو جزئيا.

ص: 432

وقد جزم السيد الخوئي بالثاني ، فذهب إلى تصور ما لا يكون مفروض الوجود مع أخذه في متعلق الخطاب وعدم صلاحية الأمر للباعثية نحوه ، بتقريب : ان كون الشيء مفروض الوجود اما ان يكون لأجل قيام البرهان العقلي عليه كالأمور غير الاختيارية ، أو لظهور الدليل المتكفل لبيان الحكم في ذلك ، ومع عدم البرهان العقلي وظهور الدليل لا وجه لكون الشيء مفروض الوجود كما لا يخفى (1).

ويرد عليه : بان مفروض الكلام اما ان يكون مرحلة الثبوت ، بمعنى كون البحث في ثبوت أصل الدعوى بان كل ما يؤخذ في متعلق الخطاب ولم يصلح للداعوية إليه يكون مفروض الوجود مع غض النّظر عن مقام الإثبات والدليل. واما ان يكون مرحلة الإثبات وما يستفاد من دليل الحكم.

فان كان فرض البحث مع المرحوم النائيني قدس سره في مرحلة الثبوت - كما هو اللازم - فذلك لا يتلاءم مع ما ذكره من ان استفادة فرض الوجود تكون بالبرهان العقلي وبظهور الدليل ، فان البحث الثبوتي لا يلاحظ فيه الدليل الخارجي وما يستفاد منه في موضوع الكلام ، لأنه بحث عن الضرورة والإمكان بحسب ما يدركه العقل ، وعالم الأدلة والنصوص مغفول عنه في هذا البحث بالمرة ، لأنه ترتبط بمقام الكشف عن الواقع وتشخيص الثابت فيه وإثباته ، وان كان فرض البحث في مرحلة الإثبات بدعوى ان معرفة كون الشيء مفروض الوجود والكشف عنه تكون تارة بواسطة برهان العقل. وأخرى بواسطة ظهور الدليل الشرعي في ذلك ولا طريق آخر لتشخيص ذلك ، فله وجه ولا إشكال فيه من هذه الجهة - أعني جهة أسلوب الإيراد -. لكن يورد عليه : بان ما ينظر إليه من البرهان العقلي في الأمور غير الاختيارية لا يفي بإثبات

ص: 433


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 158 - الطبعة الأولى.

فرض الوجود في هذه الأمور. وذلك لأن محصل الدليل العقلي هو لزوم التكليف بما لا يطاق. بتقريب : ان التكليف اما ان يتحقق عند وجود الأمر غير الاختياري ، كالوقت بالنسبة إلى وجوب الصلاة. أو قبله مع اشتراطه في الفعل. فالأوّل هو المطلوب وهو معنى فرض الوجود وتوقف فعلية الحكم على تحقق ذلك الأمر. والثاني يستلزم التكليف بما لا يطاق ، لأن اشتراط الوقت ونحوه من الأمور غير الاختيارية مع تحقق الحكم قبل حصولها يستلزم التكليف وتعلق الحكم بغير المقدور فعلا ، وهو محال على المولى الحكيم. فلا بد ان يترتب الحكم على تحققه وذلك هو معنى فرض الوجود.

وأنت خبير : بان القدرة على المكلف به من الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم على رأي الأكثر - ومنهم السيد الخوئي - فالحكم لا يصير فعليا بدون القدرة على امتثاله. وعليه فإذا كان منشأ أخذ الأمور غير الاختيارية مفروض الوجود في موضوع الحكم هو استلزام عدم ذلك للتكليف بغير الاختيارية مفروض الوجود في موضوع الحكم هو استلزام عدم ذلك للتكليف بغير المقدور ، كان أخذ شرط القدرة على الامتثال في موضوع الحكم ومفروض الوجود كاف عن أخذ كل منها كذلك ، إذ بدونها لا تحصل القدرة ، فعدم التكليف يكون لأجل عدم القدرة لا من جهة عدم الوقت مثلا ، وان كان تحقق الوقت ملازما لحصول القدرة ، لكنه مع أخذ القدرة في الموضوع لا حاجة لأخذ الوقت ونحوه مما تتوقف عليه القدرة في الموضوع أيضا. ولا يخفى ان الحكم وان لم يحصل الا بحصولها لتوقف القدرة عليها لكنه لا يستلزم ذلك كونها مأخوذة في الموضوع ومفروض الوجود ، بل تكون من ملازمات الموضوع لا من مقوماته ، فلا يترتب عليها آثار الموضوع وفرض الوجود في غير المقام.

وبالجملة : لا وجه ولا ملزم لأخذ الأمور غير الاختيارية في موضوع الحكم بملاك لزوم التكليف بما لا يطاق بدونه بعد كون القدرة عند هذا القائل من الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم ، لأن تحقق هذه الأمور محصل للقدرة

ص: 434

لا أكثر ، فاشتراط القدرة يكفي عن اشتراطها ، فتدبر.

فالأولى : في مقام الإيراد على المحقق النائيني - في ذهابه إلى ان كل قيد وارد في الخطاب ، ولم تكن للأمر صلاحية الدعوة إليه ، يكون دخيلا في الموضوع ويؤخذ مفروض الوجود - ان يقال : ان كون الشيء مفروض الوجود ودخيلا في الموضوع لا بد ان يكون له منشأ يدعو إلى ذلك ، وهو لا يخلو عن أحد وجهين : إما ان يكون لأجل مطابقة الأمر للإرادة ، أو لأجل ترتب أثر مرغوب على ذلك. بيان ذلك : انه قد ذكر - كما عليه المحقق النائيني رحمه اللّه - ان القيود والأوصاف المرتبطة بالفعل الخارجي على نحوين. نحو يكون مقوما لاتصاف الفعل بالمصلحة ، بمعنى انه بدونه لا يكون الفعل ذا مصلحة نظير حدوث المرض بالنسبة إلى الدواء فانه بدون المرض لا يكون الدواء ذا مصلحة. ونحو يكون منشأ لفعلية المصلحة وتحققها ، بمعنى ان ترتب المصلحة فعلا يكون متوقفا عليه ، وان كان أصل ثبوت المصلحة في الفعل حاصلا بدونه ، وذلك نظير إعداد الدواء بطبخه أو نحو ذلك ، فانه بدون الاعداد لا تترتب عليه المصلحة فعلا وان ترتب عليه شأنا.

وبالجملة : فالقيود منها ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة. ومنها ما يكون دخيلا في فعلية المصلحة. فإرادة الفعل لا تتحقق الا بعد اتصافه بالمصلحة ، فهي متأخرة عن وجود النحو الأول من القيود ، بمعنى ان تحققها انما يكون بعد تحقق هذه القيود وبدونها لا تتعلق الإرادة بالفعل لخلوّه عن المصلحة. بخلاف النحو الثاني فان إرادة الفعل تكون محركة نحو الإتيان بها وتحقيقها ، كي تصير المصلحة فعلية ولا يتوقف حصول الإرادة على حصولها ، وهذا أمر عرفي وجداني لا إشكال فيه.

وحينئذ نقول : بان الأمر حيث يكون على طبق الإرادة وينبعث عن تعلق الإرادة بالفعل ، بل هو الإرادة نفسها - على قول - فلا بد ان يكون جعله في

ص: 435

المورد التي تتحقق فيه الإرادة ، فهو بالنسبة إلى القيود التي تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة متأخر ، بمعنى ان اعتباره وفعليته في فرض وجودها وتحققها بخلاف القيود التي تكون دخيلة في فعلية المصلحة ، فانها تكون مأخوذة في متعلق الأمر ويكون الأمر باعثا نحوها. فكون الشيء مأخوذا مفروض الموجود من باب مطابقة الأمر للإرادة ومن جهة كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة.

وإذا لم يعترف بهذا المعنى ، وقيل بان الأحكام قد لا تكون تابعة للمصلحة في متعلقها كي يتأتى ما ذكر ، ففرض الوجود في قيد وتأخر الأمر عنه وعدم تحققه بدونه لا بد وان يكون بلحاظ ترتب أثر عقلائي وإلاّ لم يكن له داع لأنه ذو مئونة زائدة ، وذلك نظير إيجاب الصلاة بالنسبة إلى الوقت ، فانه يتصور لفرض الوجود في الوقت بالنسبة إلى الحكم وتوقف الحكم عليه أثر ، وهو عدم صيرورة المكلف قبل الوقت في عهدة التكليف ، فانه إذا تحقق الحكم قبل الوقت مع قيدية الوقت في المتعلق يكون المكلف قبل الوقت من حين ثبوت الحكم في عهدة التكليف. بخلاف ما إذا كان التكليف مترتبا على حصول الوقت ، فانه لا يكون قبل الوقت في العهدة إذ لا تكليف ، فترتيب الحكم على الوقت وأخذه مفروض الوجود يكون لأجل الأثر المترتب عليه وهو عدم كون المكلف قبل الوقت في عهدة التكليف. اما مع عدم ترتب أثر على أخذه كذلك بالمرة فلا وجه له لأنه يكون عملا لغوا.

والحاصل : ان كون القيد مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم اما ان يكون منشؤه مطابقة الأمر للإرادة ، فيتحقق ذلك فيما كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة من القيود. واما ان يكون المنشأ ترتب أثر عقلائي عليه فينتفى بالنسبة إلى ما لا يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كما ينتفي فيما لا أثر على فرض وجوده في ترتب الحكم ، لعدم المنشأ لأخذه كذلك. ومن هذا القبيل

ص: 436

نفس الأمر ، فانه ليس دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، بل هو ينبعث عن المصلحة ، لا ان الفعل به يكون ذا مصلحة ، كما انه لا يتصور لأخذه مفروض الوجود أثر ، فان الأثر المذكور للوقت لا يتأتى هنا ، إذ لا يمرّ زمان على المكلف يكون في عهدة التكليف قبل حصول القيد وهو الأمر كما هو واضح جدا. ولا يعرف لأخذه كذلك أثر آخر. وعليه فلا وجه لأخذ الأمر مفروض الوجود وان كان متعلقا لمتعلق التكليف.

والخلاصة : انه قد ظهر انه ليس كل ما يكون متعلقا لمتعلق التكليف يكون مأخوذا مفروض الوجود ويصطلح عليه بالموضوع ومن ذلك نفس الأمر ، فكونه متعلقا لمتعلق التكليف لا يستلزم أخذه في الموضوع بعد عدم المنشأ لذلك. ومنه يظهر عدم تحقق المحذور في مقام الإنشاء لتفرعه على ثبوت المحذور في مقام الفعلية ، وقد عرفت عدم ثبوته. وبذلك يتبين عدم تمامية الوجه الّذي أقامه المحقق النائيني على محالية أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر. فتدبر جيدا ولاحظ.

الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية وفي مقام بيان مراد الكفاية وهو محذور الخلف. بتقريب : ان متعلق الأمر متقدم بالطبع على نفس الأمر تقدم المعروض على عارضه ، لا بمعنى ان نسبته إليه كذلك بلحاظ وجوده الخارجي ، فان المتعلق بوجوده الخارجي معلول للأمر لا أن الأمر يعرض عليه بوجوده الخارجي ، بل المقصود من التقدم الطبعي هو أن المتأخر لا يمكن فرض وجوده بلا فرض تقرر للمتقدم ولو ذهنا ولا عكس ، ولا يخفى انه لا يمكن فرض ثبوت الأمر بدون المتعلق الّذي يرد عليه الأمر - فالمتعلق له تقرر ونحو ثبوت ما في مرتبة سابقة على الأمر -. بخلاف نفس المتعلق فانه يمكن فرض وجوده خارجا بلا ان يكون هناك امر ، بل يوجد بأسبابه التكوينية. وهذا نظير العلم والمعلوم ، فانه لا يمكن فرض تحقق العلم

ص: 437

بلا تحقق المعلوم وثبوته ، ويمكن فرض ثبوت ذات المعلوم بلا ان يثبت العلم به. وعلى كل : فمتعلق الأمر متقدم طبعا على الأمر ، وقصد الأمر حيث أنه معلول الأمر يكون متأخرا عن الأمر تأخر المعلول عن العلة في الرتبة ، فان داعوية الأمر فرع وجود الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم أخذ المتأخر متقدما وفي رتبة سابقة عليه وهو خلف.

وقد أجاب عنه : بان قصد الأمر ليس معلولا للأمر بوجوده الخارجي بل للأمر بوجوده العلمي - فان ذلك مقتضى برهان السنخية بين المعلول والعلة - ، فقصد الأمر حيث أنه من الأمور النفسانيّة فيمتنع ان يؤثر فيه ما هو خارج عن دائرة النّفس وحيزها ، بل لا بد ان يكون المؤثر أمرا في حدود النّفس ، فيتعين ان يكون هو العلم بالأمر لا نفس الأمر ، فانه موجود خارج عن أفق النّفس. كما يعضده الوجدان ، فان القصد والدعوة انما تتحقق بعد الاطلاع على الأمر وانكشافه لا بمجرد وجوده خارجا ، ولو لم يطلع عليه ، نظير الخوف من الأسد ، فانه انما يحصل وتترتب عليه آثاره إذا علم بوجود الأسد في الدار ، ومع عدم العلم لا يكون للخوف أي أثر ، بل الإنسان يكون على استقراره النفسيّ وان كان الأسد موجودا في الدار حقيقة ، فهو متأخر عنه رتبة ، والأمر الّذي يفرض قصد الأمر في متعلقه هو الأمر بوجوده الخارجي فلا يلزم الخلف ولا الدور ، لأن ما هو متأخر عن قصد الأمر غير ما يكون قصد الأمر متأخرا عنه ، كما ان ما يكون متوقفا على قصد الأمر غير ما يكون قصد الأمر متوقفا عليه. فتدبر (1).

هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني ، وقد عرفت انه لا يرتبط بمحذور الدور المزبور ، بل هو تقرير لمحذور آخر هو محذور الخلف. والسر في ذكرنا له مع جوابه مع انه تفسير لمطلب الكفاية وقد أشرنا إليه ، هو معرفة

ص: 438


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 131 - الطبعة الأولى.

ارتباطه بما ذكره المحقق العراقي محذورا في المقام والتزم به.

فقد ذكر المحقق العراقي لأخذ قصد الأمر في متعلق الأمر محذورا بنى عليه والتزم به. وهو وان اختلف صورة عما ذكره المحقق الأصفهاني إلا انه في الحقيقة يرجع إليه وهما بملاك واحد.

ومحصل ما أفاده المحقق العراقي هو : ان موضوع الأمر متقدم على الأمر رتبة ، فهو في اللحاظ متقدم بحيث يرى انه متقدم على الأمر. وقصد الأمر حيث انه معلول للأمر يرى متأخرا عن الأمر ، بمعنى انه في الذهن وبحسب اللحاظ يرى أنه متأخر عن الأمر ، فيكون متأخرا عن موضوع الأمر بحسب اللحاظ بمرتبتين ، فإذا أخذ في موضوع الأمر لزم ان يلحظ متقدما على نفسه ، فيلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ وذلك امر ممتنع ، إذ يمتنع ان يرى الشيء الواحد متأخرا ومتقدما ، وقد ذكر ان ذلك لا يختص بقصد الأمر بل بكل ما ينشأ عن الأمر كالعلم بالأمر ونحوه.

ثم ذكر إيراد المحقق الأصفهاني : بان قصد الأمر معلول للأمر بوجوده العلمي ومتأخر عنه ، والمفروض انه يقصد أخذه في موضوع الأمر بوجوده الخارجي فلا يلزم تقدم المتأخر لحاظا كما عرفت تقريبه.

وقد أجاب عنه - كما في تقريرات الآملي - : بان قصد الأمر وان كان معلولا للأمر بوجوده العلمي ، إلا ان العلم به لم يؤخذ بنحو الموضوعية ، بل بنحو الطريقية إلى الواقع ومن باب انكشاف الواقع به بحيث يكون العلم في مقام الدعوة فانيا ومرآتا ، ولا يرى المكلف المنقاد من نفسه إلا أنه منبعث عن نفس الأمر الثابت في الخارج ، نظير حدوث الخوف في نفسه بعد علمه بوجود الأسد ، فانه لا يلتفت إلى علمه بحيث لو سئل عن سبب خوفه لأجاب وجود الأسد لا العلم به. وإذا كان دعوة الأمر وقصده ناشئة في الحقيقة عن نفس الأمر الخارجي وكان العلم طريقا إليه لا أكثر ، عاد المحذور ، فان قصد الأمر يكون متأخرا عنه

ص: 439

بوجوده الخارجي فأخذه في موضوعه يستلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ وهو خلف (1).

ولم يتعرض في المقالات إلى الإشكال ودفعه ، وانما أشار إلى دفعه بما أفاده من ان العلم بالأمر متأخر بحسب اللحاظ عن الأمر فكل ما يكون من شئون العلم ومتأخرا عنه كداعوية الأمر ، يكون متأخرا قهرا عن الأمر كما لا يخفى (2).

والإنصاف : تمامية إيراد المحقق الأصفهاني وعدم صحة الجواب المذكور ، فانه ناشئ عن الغفلة عن نكتة دقيقة في المقام. بيان ذلك : ان ما يؤخذ في متعلق الأحكام هو المفاهيم والطبائع لا المصاديق الخارجية كما لا يخفى. والعلم الّذي يكون فانيا في متعلقه ومرآتا له بحيث لا يلتفت إليه انما هو مصداق العلم والفرد الخارجي منه ، اما مفهوم العلم وطبيعته فليس كذلك ، فان العلم الطريقي بحسب مفهومه ليس فانيا في المعلوم ومرآتا له ، بل يكون متعلقا للنظر الاستقلالي ولتوجه النّفس إليه بخصوصه. وهذا هو الّذي يؤخذ في موضوعات الأحكام ، فإذا قيل : « إذا علمت بوجود زيد تصدق بدرهم » فان موضوع وجوب التصدق هو العلم بوجود زيد بنحو الطريقية - مثلا - ، إلا أنه في مرحلة موضوعيته لا يكون فانيا في متعلقه ومرآتا له ، بل يكون ملحوظا بنحو الاستقلال ، والّذي يكون فانيا في متعلقه هو مصداق العلم وفرده الخارجي.

وعليه ، فقصد الأمر إذا ثبت انه معلول للأمر بوجوده العلمي فيكون مأخوذا في المتعلق بهذه الخصوصية ، فالمتعلق يكون هو الفعل بقصد الأمر المعلوم ، ولا يخفى ان العلم المأخوذ في المتعلق ليس مصداق العلم كي يقال انه فان في متعلقه ، بل المأخوذ مفهومه وطبيعيه ، وهو لا يفنى في متعلقه كما عرفت ، فالقصد

ص: 440


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 229 - الطبعة الأولى.
2- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 75 - الطبعة الأولى.

متفرع في مرحلة موضوعيته عن الأمر المعلوم لا الأمر الخارجي ، فلا خلف. فالجواب ناشئ عن الخلط بين مفهوم العلم ومصداقه.

ونظير هذا الاشتباه ما جاء عن المحقق النائيني من عدم إمكان أخذ العلم الطريقي تمام الموضوع ، لأن العلم الطريقي فان في متعلقه ، وأخذه موضوعا يستلزم لحاظه الاستقلالي وهو ممتنع ، لاستلزامه اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي (1).

فانه خلط بين مفهوم العلم ومصداقه ، فان العلم الملحوظ آليا هو العلم الخارجي ومصداق العلم لا مفهومه ، والمأخوذ في موضوع الحكم هو مفهوم العلم الطريقي وهو لا يلحظ آليا أصلا. فلا يستلزم كونه تمام الموضوع اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي فيه. وتوضيح الحال في محله.

وبالجملة : فما أفاده المحقق الأصفهاني في دفع المحذور لا نرى فيه إشكالا ولا نعلم له جوابا. فيتعين ان يكون المحذور لأخذ قصد الأمر في متعلق الأمر هو استلزام داعوية الأمر لداعوية نفسه. فتدبر.

ومما ينبغي التنبيه عليه هو : ان كلام التقريرات - أعني تقريرات الآملي - يظهر منه ذكر المحذور بنحو آخر ، وهو ان موضوع الأمر حيث كان متقدما في الرتبة على الأمر لزم ان يكون لحاظه متقدما على الأمر ، وحيث ان قصد الأمر متأخر عن الأمر رتبة كان لحاظه متأخرا عن لحاظ الأمر ، فأخذه في الموضوع يستلزم تقدم لحاظه مع فرض تأخره ، فجهة المحذور هو تقدم وتأخر نفس اللحاظ لا الملحوظ.

ولا تخفي ركاكة هذا البيان ، فان توقف الأمر على موضوعه لا يستلزم ان يكون لحاظ الموضوع قبل لحاظ الأمر ، كما ان معلولية قصد الأمر لنفس الأمر

ص: 441


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 5 - الطبعة الأولى.

لا يستلزم تأخر لحاظه عن لحاظ الأمر ، فان المعلولية انما تستلزم التأخر الرتبي لا اللحاظي ، إذ يمكن لحاظ المعلول قبل لحاظ العلة ، بل بدون لحاظ العلة بالمرة وهذا أمر واضح.

ولكن عبارة المقالات تشير إلى ما ذكرناه في بيان المحذور من كون التقدم والتأخر في الملحوظ لا اللحاظ فتدبر.

هذا كله في أخذ قصد الأمر في متعلقه بنفس ذاك الأمر. اما أخذه فيه بأمر آخر :

أخذ قصد الأمر في متعلقه بأمر آخر

فقد قيل : بجوازه عقلا ، فيجوز ان يتعلق الأمر بذات الفعل وأمر آخر. بتعلق بالفعل بداعي أمره الأول ، إذ لا يرد عليه شيء من المحاذير السابقة كما لا يخفى على المتأمل فلا حاجة إلى بيان ذلك (1).

إلا ان صاحب الكفاية رحمه اللّه استشكل في صحة ذلك عقلا. وانتهى بإشكاله إلى منعه بحكم العقل أيضا.

وتقريب ما أفاده : ان الغرض من الأمر الثاني انما هو جعل الأمر الأول تعبديا ، بمعنى عدم سقوطه وحصول الغرض منه بدون قصد القربة ، وليس له داع غير ذلك كما هو الفرض. وعليه فإذا أتى العبد بالفعل بدون قصد امتثال امره فلا يخلو الحال ثبوتا عن أحد نحوين : اما ان يسقط الأمر الأول أو لا يسقط. فإذا سقط الأمر الأول وانتفى موضوع امتثال الأمر الثاني كما لا يخفى كشف سقوطه عن عدم صيرورته بالأمر الثاني تعبديا ، إذ لو كان تعبديا لم يكن يسقط بدون قصد القربة ، فلا يحصل الغرض المطلوب من الأمر الثاني وهو تعبدية الأمر الأول به ، فيكون الأمر الثاني لغوا لعدم ترتب الأثر المرغوب عليه. وان لم يسقط

ص: 442


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /60- الطبعة الأولى.

الأمر كشف ذلك عن توقف حصول الغرض الباعث للأمر الأول على الإتيان بالفعل بقصد القربة ، وبدونه لا يحصل الغرض فلا يسقط الأمر ، إذ لو حصل بدونه لزم سقوط الأمر لتبعية الأمر للغرض حدوثا وبقاء.

وعليه ، فإذا علم توقف حصول الغرض وتحقق امتثال الأمر على الإتيان بالفعل بقصد الأمر ، فالعقل يحكم حينئذ بلزوم الإتيان بقصد القربة تحصيلا للغرض وتحقيقا للامتثال بمقتضى حكمه بوجوب إطاعة المولى. لتوقف الإطاعة والامتثال على قصد القربة كما فرض.

ومع حكم العقل بذلك لا يسع الشارع الحكيم ان يأمر عبده به ويلزمه مولويا بذلك ، لأنه عمل لغو بعد إلزام العقل به تبعا للشارع في أمره الأول. وبتعبير آخر : ان الأثر المولوي انما يكون بداعي جعل الداعي ، ولا يخفى ان داعويته ولزوم اتباعه بحكم العقل ، وإلاّ فبدون انضمام حكم العقل لا يكون داعيا. والمفروض ان حكم العقل بلزوم الإتيان بقصد القربة لإسقاط الأمر موجود فلا داعي لإنشاء الأمر بذلك فيكون لغوا. فالمتحصل : ان الأمر الثاني المولوي على كلا التقديرين لغو محض فيستحيل على الحكيم وقوعه منه (1).

وقد استشكل الأعلام في ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه ، وهم ما بين من أغفل الشق الأول من الترديد واقتصر في الإيراد على الشق الثاني ، وما بين من تصدى في إشكاله إلى كلا شقي الترديد وهو المحقق الأصفهاني رحمه اللّه . ولنذكر أولا ما جاء من الإيراد على الشق الأول من الترديد.

فقد ذكر المحقق الأصفهاني : بان لنا الالتزام بهذا الشق - أعني سقوط الأمر الأول - ، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء المجال لموافقة الأمر الثاني - كما ادعي - بيان ذلك : انه سيجيء من المصنف - في مبحث الإجزاء - ان الإتيان

ص: 443


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /74- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالفعل إذا لم يكن موجبا لحصول الغرض الأوفى من الأمر جاز للعبد تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر غير الفرد الأول وان جاز له الاقتصار على الأول في مقام الامتثال ، مثلا لو أمر المولى عبده بالإتيان بالماء للشرب ، فجاء العبد بماء غير بارد كان للعبد أن يأتي بماء آخر بارد قبل ان يشرب المولى الماء الأول ، نعم له ان يقتصر على الأول ويعدّ ممتثلا. واما إذا كان الفعل سببا لحصول الغرض لم يكن مجال لتبديل الامتثال لسقوط الأمر به.

وعليه ، فنقول : ان الأمر الأول وان كان يسقط لو اقتصر على الإتيان بمتعلقه ، إلاّ انه حيث لم يكن علة تامة لحصول الغرض الأوفى أمكن الإتيان بالفعل بداعي امره ثانيا ، فيمكن امتثال الأمر الثاني وبمقتضاه يلزم العبد به امتثالا للأمر. وعليه فلا بد للعبد من الإتيان بالفعل بداعي الأمر وان أتى به أولا مجردا عن ذلك لبقاء الغرض الملزم وإمكان الاستيفاء وإعادة الفعل بداعي الأمر ، وتعلق الأمر به (1).

وفيه :

أولا : انه يبتني على التزام صاحب الكفاية بجواز تبديل الامتثال ولو مع سقوط الأمر.

اما مع الالتزام بجوازه من باب بقاء الأمر لعدم حصول غرضه الأوفى فلا يتأتى ما ذكر هاهنا ، لأن المفروض سقوط الأمر بمجرد الفعل فلا يكون المورد قابلا لتبديل الامتثال بعد سقوطه ، ومن العجيب انه رحمه اللّه يفرض في كلامه إمكان الإتيان بالفعل بداعي امره لبقاء الأمر الأول ، مع ان ذلك خلاف فرض كلام صاحب الكفاية من سقوط الأمر الّذي صحح الالتزام به والقول بتعدد الأمر كما عرفت في صدر كلامه.

ص: 444


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 135 - الطبعة الأولى.

وثانيا : ان هذا الإيراد جدلي إلزامي ، لأن جواز تبديل الامتثال انما يلتزم به خصوص صاحب الكفاية دون من تأخر عنه ، ومن البعيد أن يلتزم به المحقق الأصفهاني. ولا يحضرني كلامه في مبحث الإجزاء فعلا لكن الّذي ببالي انه لا يلتزم به ، فلا ينفع في رفع المحذور الّذي ذكر في الكفاية بالنسبة إليه.

وقد أورد على الشق الأول : بان الأمر الأول وان كان يسقط لحصول متعلقه فيستحيل بقاؤه لكونه طلب الحاصل ويتبعه الأمر الثاني في ذلك ، لكن حيث ان الغرض من تعدد الأمر باق على حاله فيحدث أمران آخران ، وهكذا إلى ان يحصل الغرض بالإتيان بالفعل بداعي الأمر.

ولا يخفى وهن هذا الإيراد - كما جاء في حاشية الأصفهاني (1) -. لأن الغرض إذا كان علة لحصول الأمر ، فبدون حصوله لا يسقط الأمر لأنه معلول للغرض وبقاء المعلول ببقاء علته بديهي ، ولا يلزم من بقائه طلب الحاصل لأن مقتضاه ليس الموجود الخارجي حتى يلزم من طلبه طلب الحاصل وان لم يكن علة لم يكن موجبا لحدوثه أولا فضلا عن إيجابه له ثانيا وثالثا كما هو المدعى. وبتعبير آخر : ان لم يحصل الغرض من الأمر بنفس الفعل لم يسقط الأمر ، وان حصل فلا وجه لحدوث أمرين آخرين فتدبر.

واما الشق الثاني من الإيراد. فقد أورد عليه المحقق العراقي رحمه اللّه - كما جاء في تقريراته - : بعد بيان ان إمكان تعدد الأمر وصحته أو عدمها تبتني على القول بالبراءة أو الاشتغال في مورد الشك في توصلية الواجب وتعبديته ، فانه إذا قيل بالاحتياط في مورد الشك لا مجال للأمر الشرعي المولوي الثاني لحكم العقل بلزوم الإتيان بما يكون مقوما للعبادية ، فالامر الثاني لو كان يكون أمرا إرشاديا إلى حكم العقل لا مولويا بمعنى صدوره بداعي جعل الداعي. واما

ص: 445


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 135 - الطبعة الأولى.

إذا قيل بالبراءة كان الأمر الثاني ممكنا ولا مانع منه بنحو المولوية لتحصيل غرضه وبيان مرامه لعدم حكم العقل بلزوم التحصيل ، وبيان ان بناء صاحب الكفاية في التزامه بعدم صحة امر آخر مولوي لحكم العقل واستقلاله بلزوم الإتيان بكل ما يحتمل دخله في امتثال الأمر الأول على عدم جريان البراءة في مثل المقام.

أورد عليه بعد ذلك : بأنه منظور فيه مبنى وبناء ، اما المبنى فلما سيأتي من كون المرجع في مورد الشك في التعبدية والتوصلية هو البراءة. واما البناء فلمنع ما ذكره من امتناع أمر ثان مولوي مع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، إذ لا ينحصر غرض المولى المولوي في جعل الداعي إلى فعل ما يحصل به الغرض ، بل يمكن تصور أغراض أخرى تتوقف على الأمر المولوي ونحوه ، كمعرفة المكلف به تفصيلا ورفع الشك عن المكلف ليعمل على بصيرة من أمره ، فانتفاء قابلية الأمر للداعوية لا يستلزم امتناع ثبوته بعد تصور غرض آخر له كإيضاح المأمور به للمكلف (1).

ولكن ما ذكره قدس سره من ابتناء التزام صاحب الكفاية بامتناع الأمر الثاني مولويا على عدم جريان البراءة في مورد الشك في التعبدية والتوصلية وإجراء الاحتياط فيها عجيب منه قدس سره ، كيف؟ وصاحب الكفاية انما لا يلتزم بالبراءة ويلتزم بالاحتياط ، لأجل امتناع بيان العبادية بالأمر شرعا. بيان ذلك : انه إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر فقد قيل : بان مقتضى العلم الإجمالي الاحتياط ولا تتأتى البراءة العقلية ، وقيل : بان المورد مجرى البراءة العقلية لانحلال العلم الإجمالي ، وصاحب الكفاية ممن لا يلتزم بالبراءة العقلية في المورد المذكور ، وانما يلتزم بالاحتياط عقلا بمقتضى العلم الإجمالي. نعم يلتزم بجريان البراءة شرعا لكون المورد من مواردها. ومن الظاهر

ص: 446


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 232 - الطبعة الأولى.

إنهم يلتزمون بجريان البراءة شرعا - بل عقلا - في المورد القابل للجعل والوضع شرعا ، اما ما لا يقبل الوضع شرعا فلا يكون الشك فيه مشمولا لحديث الرفع ، لأن ما لا يقبل الوضع شرعا لا يقبل الرفع. وتوضيح ذلك موكول إلى محله وانما المهم هو الإشارة.

ومن ذلك يذهب صاحب الكفاية عند الشك في اعتبار قصد الامتثال في سقوط الأمر وتحصيل الغرض إلى كون المورد من موارد الاحتياط لا البراءة ، لعدم قابلية المورد للبيان الشرعي والجعل من قبل المولى لامتناع أخذه في متعلق الأمر ، فالالتزام بالاحتياط دون البراءة بلحاظ عدم إمكان البيان والوضع شرعا (1) ، فكيف يفرض ان التزامه بعدم إمكان جعله شرعا وأخذه في متعلق الأمر مستند إلى التزامه بالاحتياط في مورد الشك في التعبدية والتوصلية؟ فانه فرض دوري كما لا يخفى.

اما مناقشته قدس سره في أصل المبنى فسيأتي الكلام في تحقيق الأصل ، فليس محله هاهنا بل نوكله إلى ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

واما ما ذكره في مقام المناقشة له في البناء ، فهو ممنوع بان الظاهر ان الأثر العقلائي للأمر ينحصر بجعل الداعي والمحركية نحو العمل ، ولا نعرف له أثرا عقلائيا يصححه غير هذا ، فإذا فرض وجود الداعي كان الأمر لغوا إلا ان يكون إرشاديا واقعه الإخبار.

وقد أورد على هذا الشق المحقق النائيني قدس سره : بأنه ليس وظيفة العقل هي الإلزام والحكم على العبد بلزوم العمل ، بل ليس شأنه إلا إدراك تعلق إرادة الشارع بشيء وعدمه ، اما الآمرية فليست من شئونه حتى يكون شارعا في قبال الشارع. وعليه فلا بد في حصول غرض المولى واستيفائه من تعدد الأمر

ص: 447


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /76- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وكون الأمر الثاني داعيا إلى ما لا يصلح الأمر الأول للدعوة إليه ، لعدم دعوة العقل إليه ومحركيته نحوه (1).

وأنت خبير بان ما أفاده قدس سره بعيد عن كلام الكفاية ، فانه لم يدع كون شأن العقل الآمرية والشارعية ، بل ما أفاده يرجع إلى ان العقل يرى بمقتضى لزوم إطاعة امر المولى - وهو الأمر بذات العمل - لزوم الإتيان بالفعل بداعي القربة خروجا عن عهدة الأمر وتحقيقا للامتثال وإطاعة الأمر - لا انه يأمر العبد بلزوم قصد القربة مع غض النّظر عن حكم الشارع - ، بل هو يرى لزوم إطاعة الأمر الأول المتوقفة على الإتيان بقصد القربة لتوقف حصول الغرض عليه ، ومن الظاهر ان الإلزام بوجوب الإطاعة حكم عقلي لا شرعي وإلاّ لزم التسلسل - ، سواء رجع هذا الحكم إلى إدراك تحقق المفسدة أو العقاب في المخالفة ، أو إلى الإلزام والبعث بالفعل من جهة أخرى ، والأمر الظاهر على كلا التقديرين ان الانبعاث والتحرك يحصل منه وهو مما لا إشكال فيه.

وبالجملة : فما أفاده انتقال بكلام صاحب الكفاية إلى ما لا يريده ولا يظهر من عبارته. فان الظاهر منها ما عرفت وهو مما لا إشكال فيه.

وقد أورد السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - كما في مصابيح الأصول - على هذا الشق : بأنا نلتزم بعدم السقوط مع وجود الأمر الثاني ، ولكن حيث كانت أخصية الغرض عن الفعل وعدم وفائه بذاته في حصول الغرض مما لا طريق إليه إثباتا وخارجا إلا بنحوين : اما الاخبار والكشف عنه بالجملة الخبرية ، أو بالإنشاء والأمر بما يحصل الغرض والدعوة إليه ، فلا امتناع من تحقق الأمر الثاني بنحو المولوية وبقصد جعل الداعي ، لعدم تحقق الدعوة عقلا إلى قصد القربة بدونه لعدم العلم بأخصية الغرض (2).

ص: 448


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 116 - الطبعة الأولى.
2- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 239 - الطبعة الأولى.

وفيه : انه إذا كان الموضوع قابلا للدعوة عقلا والتحريك بمقتضى حكم العقل ، وانما كان ذلك معلقا على تحقق موضوعه وهو العلم بأخصية الغرض وعدم وفاء ذات الفعل بتمام الغرض ، فلا يحتاج إلى الأمر المولوي الثاني وجعل الداعي لفرض وجود ملاك البعث والمحركية وقابلية المورد لذلك ، بل يكفي الكشف عنه بالجملة الخبرية أو الإنشائية على ان يكون الأمر إرشاديا لا مولويا ، لعدم الاحتياج إليه بعد تحقق الدعوة عقلا بمجرد الانكشاف ، فلا تكون للأمر وظيفة الداعوية ، بل وظيفة الكشف عن أخصية الغرض وبها يكون إرشاديا لا مولويا.

وقد حمل المحقق الأصفهاني قدس سره عبارة الكفاية على ما أفاده المحقق العراقي تقريبا ، فانه بعد ان بيّن الفرق بين الجزء والشرط بان الأول ما له دخل في أصل الغرض ، والشرط ما له دخل في فعلية التأثير ، وان الشرط تابع في الإرادة والدعوة للجزء ، فان ما يدعى إليه بالأصالة وأولا وبالذات وهو ذات ما يفي بالغرض ، اما ما له دخل في فعلية التأثير فلا يدعو إليه الغرض في عرض السبب ، بل الدعوة إليها وإيجادها انما تكون بأغراض تبعية تنتهي إلى الغرض الأصلي وان من الشرائط قصد القربة - بعد ان ذكر هذا المعنى بنحو مفصل تقريبا ، اختصرناه لعدم كونه محل الكلام هنا بل الكلام فيه في مبحث مقدمة الواجب - ، ذكر : ان لزوم الإتيان بقصد القربة اما من باب حكم العقل بلزوم الإتيان به بعنوانه ، وهو ممنوع. أو من باب حكم العقل بلزوم الإتيان بما يحتمل دخله في الغرض ، وهو ممنوع أيضا ، لأنه انما يحكم بذلك في المورد الّذي لا يتمكن الآمر من بيانه ولو بأمر آخر والمفروض إمكانه بأمر ثان (1).

وقد أشرنا سابقا في مناقشة المحقق العراقي إلى : ان نظر المحقق صاحب الكفاية ليس إلى حكم العقل من باب الاحتياط ، بل من باب آخر ، إذ التزامه

ص: 449


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 135 - الطبعة الأولى.

بالاحتياط عقلا يبتني على امتناع الأمر.

ولتوضيح ذلك لا بأس بالإشارة إلى بعض ملاكات حكم العقل في باب الإطاعة مما يرتبط بما نحن فيه ، فنقول : ان العقل ..

تارة : يحكم بلزوم الإتيان بالفعل من باب لزوم تحصيل غرض المولى الملزم ، مع عدم الأمر أصلا ، كما إذا رأى العبد ابن مولاه في حالة الغرق ولم يكن يعلم سيده بذلك ، فانه ملزم عقلا بإنقاذه ولا حجة له في عدم إنقاذه ولا يصح اعتذاره بعدم امره له.

وأخرى : يحكم بلزوم الإتيان بالفعل من باب الاحتياط وتحصيل العلم بالامتثال وموافقة الأمر كما في موارد العلم الإجمالي.

وثالثة : يحكم بلزوم الإتيان بالفعل من باب وجوب إطاعة امر المولى لتوقف حصول الامتثال وسقوط الأمر عليه.

ومن الواضح ان الملاك لحكمه في جميع الصور الثلاث هو وجوب الإطاعة ، ولكنها تختلف موضوعا وأثرا كما سيتضح.

ولا يخفى ان مراد صاحب الكفاية من حكم العقل عند عدم سقوط امر المولى بمجرد الفعل بلزوم الإتيان بالفعل بقصد القربة ليس الصورة الأولى والثانية ، بل الثالثة ، وذلك لأن حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى انما يلتزم به عقلائيا في المورد الّذي لا يتمكن المولى من الأمر كالمثال الّذي سقناه. اما لو كان المولى متمكنا من الأمر ولم يأمر عبده. فلا يرى العقل ان العبد ملزم بالإتيان بالفعل ، كما لو رأى السيد ابنه يغرق وكان العبد بمنظر منهما ولم يأمر السيد عبده بإنقاذ ولده ، فانه لا يحق للسيد مؤاخذة العبد على عدم إنقاذه لولده ، إذ للعبد ان يحتج بعدم الأمر. وعليه فلا يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى هذا المعنى ، إذ للمدعي ان ينكر حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى بدون الأمر لتمكنه في نفسه مع غض النّظر عن حكم العقل

ص: 450

المدعى.

وبالجملة : حكم العقل المذكور يبتني على عدم إمكان الأمر الثاني فلا يمكن ان يستند إليه عدم إمكان الأمر.

واما عدم كونه من باب حكمه بلزوم الاحتياط ، فلما ذكرناه من انه يبني مسألة الاحتياط على عدم إمكان الأمر بقصد القربة ولو بأمر ثان ، فيمتنع ان يكون نظره في حكم العقل هاهنا حكم العقل بالاحتياط ، فان المسألة تكون دورية كما أشرنا إليه.

وانما نظره في حكم العقل ، هو حكم العقل بإطاعة أمر المولى ولزوم الامتثال ، فان المفروض ان المولى أمر عبده بالفعل ، وكان هذا الأمر معلولا لغرض في نفس المولى لا يحصل إلا بالفعل مع قصد القربة ، وبدون ذلك لا يسقط الأمر لعدم حصول الغرض ويمتنع انفكاك المعلول عن العلة (1). فيحكم العقل من باب لزوم إطاعة امر المولى وامتثاله بلزوم الإتيان بالفعل بداعي الأمر بقصد الامتثال حتى يحصل الغرض ويسقط الأمر ، فلا يبقى مجال للأمر الثاني للغويته بعد داعوية العقل إلى متعلقه.

وهذا المعنى لا إشكال فيه ولا نعلم السبب في حمل كلام صاحب الكفاية على غير هذا المعنى مع وضوحه من كلامه.

وبالجملة : فما ذكره صاحب الكفاية في منع تعدد الأمر وأخذ قصد القربة في متعلق الأمر الثاني بالتقريب الّذي ذكرناه لا نرى فيه إشكالا فالالتزام به متجه. وبذلك يتبين ان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ممنوع عقلا.

هذا كله في أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ، اما أخذ غيره مما يكون محققا للتقرب ، كقصد المحبوبية ونحوه ، فهل هو ممكن أو غير ممكن؟. ولا

ص: 451


1- فلا يقال : ان العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الغرض مع التمكن من الأمر وعدم الأمر ، لأن المفروض تعلق الأمر بالفعل ، فلا بد من تحصيل غرضه منه. ( منه عفي عنه ).

يخفى انه لا بد من الكلام في تحقيق ما به يتحقق التقرب وما به يكون الفعل عباديا ، وسيأتي ذلك فيما بعد ، وليكن الكلام فعلا في إمكان أخذ قصد المحبوبية في متعلق الأمر ، فانه مما لا إشكال في مقربيته ، واما غيره كقصد المصلحة ونحوه فسيأتي الكلام فيه.

وقد التزم صاحب الكفاية بإمكان أخذه في متعلق الأمر لعدم ورود أي محذور فيه مما سبق ، لأن قصد المحبوبية غير متفرع على الأمر كي يلزم الدور ، كما لا يلزم داعوية الشيء لداعوية نفسه كما لا يخفى. لكنه ذهب إلى عدم اعتباره قطعا ، لأنه ان كان معتبرا فاما ان يكون معتبرا بنحو التعيين ، أو بنحو التخيير بينه وبين داعي الأمر - كالواجب التخييري -. فان كان معتبرا بنحو التعيين لزم عدم صحة العمل بدونه كسائر الشروط المعتبرة. مع انه لا إشكال في كفاية داعي الأمر في حصول الامتثال وان لم تقصد المحبوبية. وان كان بنحو التخيير لزم أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر ، لأن النتيجة تكون : « صل » بقصد المحبوبية أو بقصد الأمر ، فيعود المحذور المذكور في أخذ قصد الأمر في متعلقه (1). هذا ما يمكن ان توجه به عبارة الكفاية.

ويرد عليه.

أولا : إنا نلتزم باعتبار قصد المحبوبية بنحو التخيير بنحو لا يلزم منه ما ذكر ، وذلك لأن أخذه بنحو التخيير يتصور بنحوين : أحدهما : ان يكونا من قبيل الواجب التخييري ، بحيث يتعلق الأمر بهما بنحو التخيير ويدعو إليهما كذلك. وثانيهما : ان يؤخذ عدم الإتيان بداعي الأمر قيدا لموضوع الوجوب المتعلق بقصد المحبوبية ، بمعنى ان يقال : « صلّ بقصد المحبوبية ان لم تأت بها بداعي الأمر » ، فان النتيجة نتيجة الوجوب التخييري لأنه إذا أتى بالصلاة بداعي

ص: 452


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /74- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر لا يجب عليه الإتيان بقصد المحبوبية وإذا لم يأت بداعي الأمر وجب عليه الإتيان بقصد المحبوبية ، لكن الأمر لم يتعلق بداعي الأمر ولم يدع إليه لأنه مأخوذ في موضوعه لا في متعلقه ، فيكون حاله حال السفر في قولك : « ان لم تسافر فتصدق بدرهم » بالنسبة إلى عدم تعلق الأمر بالسفر وعدم دعوته إليه ، ولكن المكلف نتيجة يرى نفسه مخيرا بين السفر وبين التصدق. نعم قد يدعى بثبوت محذور الدور وهو لزوم أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في موضوعه. ولكنك عرفت الإشكال فيه بكفاية تصور الأمر وتسليم صاحب الكفاية بالإشكال وتركز المحذور في كلامه في لزوم داعوية الأمر لداعوية نفسه ، وهو غير متحقق في الفرض لفرض عدم تعلق الأمر بقصد الأمر.

وثانيا : لو تنزلنا وسلمنا ورود محذور الدور في المقام ، فهو لا ينافي التخيير أيضا ، وذلك لأنه إذا فرض ان قصد الأمر لا يمكن أخذه في متعلق الأمر ولا موضوعه كان الحكم بالنسبة إليه مهملا في مقام الثبوت لا مطلقا ولا مقيدا. وعليه فإذا حكم الشارع بوجوب الفعل بقصد المحبوبية بلا تعليق له على عدم الإتيان بقصد الأمر لعدم تمكنه كان اعتبار القيد المذكور - أعني قصد المحبوبية بالنسبة إلى تعليقه على عدم الإتيان بقصد الأمر وعدم تعليقه عليه - مهملا غير مطلق ، فيرجع إلى حكم العقل في المقام. ومن الواضح ان العقل يرى كفاية قصد الأمر في تحقيق الامتثال ، فينتفي موضوع قصد المحبوبية معه لسقوط الأمر ، فيكون المكلف مخيرا عقلا بين قصد الأمر وقصد المحبوبية ، فلا مانع من أخذ قصد المحبوبية في متعلق الأمر وتكون النتيجة هي التخيير بينه وبين قصد الأمر لا تعينه كي يقال بكفاية غيره. ولا محذور في ذلك.

وقد جاء في تعليقة المحقق الأصفهاني قدس سره على الكفاية ما حاصله : ان التسالم على الاكتفاء بالإتيان بالفعل بداعي أمره كاشف عن تعلق الأمر بذات الفعل لا به مع قصد المحبوبية ونحوه من الدواعي ، لأن تعلق الأمر

ص: 453

بالمجموع يستلزم صدور الفعل عن داعيين أو يكون داعي المحبوبية في طول داعي الأمر ، وكلاهما خلاف الفرض ، لأن المفروض الاكتفاء بداعي الأمر وحده وهو يستلزم تعلق الأمر بذات العمل وإلاّ لم يمكن الإتيان به وحده (1).

وفيه :

أولا : انه لا ينسجم مع عبارة الكفاية ، إذ لا ظهور لها في كون الإتيان بالفعل بداعي امره كي يقال باستلزام ذلك لتعلق الأمر بذات العمل ، بل يمكن ان يكون المراد الإتيان بالفعل بداعي الأمر بالكل لا بداعي أمره ، فلا ظهور لكلامه في تعلق الأمر بذات العمل.

وثانيا : ان ذهاب المشهور أو الكل إلى الاكتفاء بداعي الأمر لا يكشف عن تعلق الأمر بذات العمل ، بل يمكن ان يكون لأجل ذهاب البعض إلى مقربية الأمر الضمني وداعويته ، أو إلى صحة الإتيان بالعمل بداع قربي أي داعي الأمر مع الغفلة عن اعتبار داعي المحبوبية ونحوه.

وبالجملة : الاتفاق على الاكتفاء بداعي الأمر لا يكشف عن الاتفاق على تعلق الأمر بذات العمل.

وثالثا : ان ما ذكره لا يقتضي إلا عدم أخذ غير قصد الأمر في متعلق الأمر لا عدم إمكانه ، ولا يخفى ان صاحب الكفاية بصدد إثبات عدم إمكان أخذ قصد القربة بقول مطلق في متعلق الأمر لينتهي منه إلى النتيجة الأخيرة. وهي عدم صحة التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية. فان هذه النتيجة لا تتم إلا بثبوت عدم إمكان أخذ قصد القربة بجميع أنحائه في متعلق الأمر. لا بثبوت عدم أخذه فلاحظ.

وبعد هذا الكلام كله يقع البحث في أصل المبحث ، وهو صحة التمسك

ص: 454


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 136 - الطبعة الأولى.

بالإطلاق في إثبات عدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر فيكون الواجب توصليا ، وعدم صحته.

وقد أفاد البعض في مقام منع التمسك بالإطلاق : بأنه بعد ثبوت امتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بضميمة ان الإطلاق انما يصح في المورد الّذي يقبل التقييد ، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فالإطلاق عدم التقييد في المورد الّذي يقبل التقييد فلا يصح الإطلاق في المورد الّذي لا يصح التقييد - بعد ذلك - ، لا يصح التمسك بإطلاق الكلام لنفي أخذ قصد القربة لامتناع الإطلاق (1). وقد وقع الكلام في صحة ذلك - أعني كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة -. كما وقع في استلزامه منع الإطلاق - لو ثبت - عند امتناع التقييد.

والّذي يبدو لنا عند التحقيق : انه لا وقع في المقام لهذه الكلمات أجمع ، فانها بعيدة عن واقع المطلب. بيان ذلك : ان امتناع التقييد وورود الحكم على الحصة المقيدة تارة : يكون من جهة عدم قابلية الذات الخاصة والحصة المعينة لورود الحكم عليها ، بان كان الحكم لا يتلاءم مع نفس الذات الخاصة ، فالامتناع من جهة التنافي وعدم التلاؤم بين الحكم ونفس الذات. وأخرى لا يكون من هذه الجهة ، بان يكون ورود الحكم على نفس الذات لا محذور فيه ، وانما المحذور في تخصيص الحكم وقصر الحكم عليها ، فالمحذور في نفس التقييد لا في ورود الحكم على ذات المقيد.

فان كان امتناع التقييد من الجهة الأولى - أعني لأجل عدم قابلية نفس الذات المقيدة للحكم - لزم امتناع الإطلاق في موضوع الحكم أيضا ، وذلك لأن الإطلاق معناه إسراء الحكم إلى جميع الافراد ومنها الفرد المقيد ، وقد فرض عدم

ص: 455


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 113 - الطبعة الأولى.

قابليته لورود الحكم عليه ، فيمتنع الإطلاق ، بل يختص الحكم بغير المقيد على تقدير قابليته له.

وان كان امتناع ثبوت الحكم للحصة المقيدة من جهة نفس تخصيص الحكم بها وقصره عليها لا من جهة منافاتها له بذاتها ، فالاحتمالات ثبوتا ثلاثة : اما ان يثبت الحكم لغير المقيد بخصوصه. أو يثبت الحكم للمطلق ، أو يكون مهملا. فيدور الأمر ثبوتا بين هذه الاحتمالات الثلاثة. فإذا فرض امتناع اختصاص الحكم بغير المقيد وثبوت المحذور فيه دار الأمر حينئذ بين الإطلاق والإهمال. وحينئذ فان كان المحذور في التقييد من جهة امتناع لحاظ القيد امتنع الإطلاق أيضا لتوقفه على لحاظ القيود وفرض عدم دخلها في الحكم ، فإذا فرض امتناع لحاظ القيد أصلا امتنع الإطلاق لامتناع موضوعه فيتعين الاحتمال الثالث ، أعني الإهمال في موضوع الحكم ، لعدم تمكن المولى من تعيينه مقيدا أو مطلقا.

اما إذا أمكن لحاظ القيد وكان محذور التقييد جهة أخرى غير اللحاظ ، تعين الإطلاق لامتناع الإهمال في مقام الثبوت والتردد في ثبوت الحكم في ما لا يتعين فيه الإهمال بحسب ذاته لعدم إمكان الإطلاق. فانه إذا فرض امتناع التقييد بالوجود والعدم وامتناع الإهمال فيما يقبل عدم الإهمال لأن الحاكم لا يمكن ان يتردد في حكمه تعين الإطلاق قهرا.

وبالجملة : مع امتناع التقييد وإمكان الإطلاق يتعين الإطلاق ويمتنع الإهمال.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام في تطبيقه على ما نحن فيه ، فنقول : بناء على امتناع كون المتعلق هو الفعل بقصد القربة ، فالامتناع انما هو من جهة تقييد الحكم لا من جهة منافاة نفس الذات المقيدة للحكم ، إذ لا منافاة بين الأمر ونفس الصلاة المقيدة بقصد القربة ، بل المحذور في أخذ القيد وتقييد المتعلق به ،

ص: 456

وحينئذ يدور الأمر ثبوتا بين ان يكون متعلق الأمر هو الفعل مقيدا بعدم قصد القربة أو ذات الفعل مطلقا سواء جيء به بقصد القربة أو بدونها ، أو يكون مهملا.

ومن الظاهر ان تقييد المتعلق بعدم قصد القربة ، بمعنى الأمر بالفعل بشرط ان يؤتى به بداع آخر لا يرتبط بالأمر أصلا ، ممتنع ، لأن الأمر انما هو لجعل الداعي وإيجاد التحريك ، فيمتنع ان يتعلق بشيء بقيد ان يكون الداعي إليه غير الأمر ، فان ذلك مساوق لعدم الأمر كما يظهر بقليل من التأمل.

وعليه ، فيدور الأمر بين الإطلاق والإهمال ، فلو بنى على ان محذور أخذ قصد القربة هو لزوم الخلف أو الدور للحاظ ما هو المتأخر عن الأمر متقدما على الأمر تعين الإهمال ، لامتناع لحاظ هذا القيد أصلا ، فيمتنع الإطلاق لتوقفه على لحاظ القيود ونفي دخلها في موضوع الحكم كما عرفت. ولكن حيث عرفت دفع هذا المحذور وان المحذور يتمحض فيما هو خارج عن دائرة اللحاظ وهو داعوية الشيء لداعوية نفسه ، فلا يمتنع لحاظ قصد القربة. وعليه فيتعين الإطلاق لامتناع الإهمال - كما عرفت - ، فيكون متعلق الحكم واقعا هو ذات العمل من دون دخل للقيد فيها ، ولا محذور فيه كما لا يخفى.

والّذي يتلخص إن امتناع أخذ قصد القربة في موضوع الأمر ومتعلقه يستلزم ضرورية الإطلاق ، فلا شك في متعلق الأمر لفرض تعين الإطلاق ، وإذا كان الأمر كذلك فما هو معنى الشك في التعبدية والتوصلية؟ لتعين متعلق الأمر ومعرفته بمعرفة امتناع قصد القربة.

والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، فان مرجع الشك في التعبدية والتوصلية إلى الشك في دخل قصد القربة في حصول غرض المولى من الأمر وان لم يؤخذ في متعلقه ، إذ قد عرفت إمكان ان لا يكون متعلق الأمر وافيا بتمام الغرض.

ص: 457

وعليه ، فمتعلق الأمر وان كان معلوما ، إلا أن وفائه في الغرض بنفسه بدون قصد القربة غير معلوم وهو موضع الشك.

وأنت خبير بعد هذا بان الشك وموضوعه أجنبي بالمرة عما هو متعلق الحكم وموضوعه ، كيف؟ والمفروض العلم بمتعلق الأمر ، ومعه لا يبقى مجال للكلام في صحة التمسك بإطلاق الكلام في نفي قصد اعتبار القربة ، وان متعلق الأمر هو ذات العمل ، لأن ما يثبت بالإطلاق وما يتكفله الكلام بعيد عما هو موضوع الشك ولا يرتبط به ، فإن ما يتكفله الإطلاق هو ثبوت الحكم لمتعلقه لا أكثر ، وقد عرفت ان مورد الشك غير هذا المعنى ، بل هذا المعنى مقطوع به ومعلوم بلا حاجة إلى بيان إثباته بالإطلاق أو عدم إمكان إثباته.

والخلاصة : ان مورد الشك بعيد عن مفاد الإطلاق وعالم الكلام. ومن هنا نجزم بعدم صحة التمسك بإطلاق الكلام ، بل لا معنى له بعد الجزم بمفاده بالتقريب الّذي عرفته ، فما سلكه الأعلام ( قدس اللّه سرهم ) في بيان عدم صحة التمسك بالإطلاق من ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا فائدة فيه ولا وجه له.

ولعل ما ذكرناه هو مراد صاحب الكفاية ، فانه حكم بعدم صحة التمسك بالإطلاق ولم يبين الوجه فيه ، فيمكن ان يكون نظره قدس سره إلى ما ذكرناه من ان مورد الشك لا يرتبط بعالم الإطلاق ، ولذا استدرك بعد ذلك بأنه إذا علم كون المولى بصدد بيان ما هو دخيل في الغرض وان لم يؤخذ في متعلق الأمر ولم يذكر قصد القربة كان للتمسك بإطلاقه الكلامي أو المقامي مجال وأثر في نفى دخالة قصد القربة في الغرض. وهو استدراك وجيه كما لا يخفى.

وقد قرب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه عدم صحة التمسك بالإطلاق : بان عدم إمكان التقييد وان لم يستلزم عدم إمكان الإطلاق ، إلا أن إمكانه لا يجدي في صحة التمسك به لنفي التقييد ، لأن من مقدمات الحكمة عدم بيان ما

ص: 458

يمكن ان يكون بصدد بيانه ، ولما كان المفروض عدم إمكان بيان التقييد وان أمكن الإطلاق ثبوتا لم يصح التمسك بالإطلاق الكلام في نفي القيد لعدم تمامية إحدى مقدماته ، إذ يمكن ان يكون القيد دخيلا ولكنه لا يمكنه بيانه ، فعدم البيان لا يكون دليل الإطلاق لعدم إمكانه البيان (1).

وقد تابعة في هذا التقريب السيد الخوئي دام ظله - كما جاء في مصابيح الأصول (2) -.

ولكن هذا التقريب عجيب منه قدس سره ، فانه انما يتم ، لو كان أخذ القيد ودخله في المتعلق ممكنا ثبوتا لكن كان هناك مانع من بيانه بواسطة الدليل. وبعبارة أخرى : كان الممتنع هو أخذ القيد في المتعلق إثباتا لا ثبوتا ، فانه يقال : ان عدم بيان الآمر القيد في كلامه لا يكشف عن عدم دخله في المتعلق لإمكان دخله وعدم تمكنه من بيانه لوجود محذور فيه.

واما في مثل ما نحن فيه من كون دخل القيد ثبوتا ممتنع ، فلا معنى لهذا الكلام بالمرة ، إذ لا معنى لأن يقال ان عدم ذكر القيد لا يدل على عدم دخله ، لإمكان دخله وامتناع بيانه ، كيف؟ والمفروض عدم إمكان دخله ثبوتا.

وبالجملة : فما ذكره قدس سره امر يرتبط بما إذا كان الامتناع إثباتيا فلا ربط بما نحن فيه ، لأن الامتناع فيه ثبوتي والشك في أخصية الغرض وأعميته ، فلا يهم فيه تحقيق إمكان بيان القيد وعدم إمكانه ، كيف؟ والمفروض انه موجود مع إحراز الإطلاق. فكان اللازم نقل الكلام إلى مرحلة الثبوت كما مرّ عليك.

وعلى كل ، فالذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه : انه ان بنى على امتناع

ص: 459


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 137 - الطبعة الأولى.
2- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 232 - الطبعة الأولى.

أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، لم يصح التمسك بالإطلاق في نفي دخل قصد القربة في الغرض الّذي هو موضوع الشك ، وان بنى على إمكانه كغيره من قيود المتعلق نظير الطهارة في الصلاة ، أمكن التمسك بالإطلاق في نفي دخله في المتعلق الّذي هو موضوع الشك مع تمامية مقدمات الحكمة ، لأنه يكون كسائر القيود المحتمل الأخذ ، فمع الإطلاق ينفي أخذها. فالتمسك بالأصل اللفظي - وهو الإطلاق - في نفي اعتبار قصد القربة على القول بامتناعه غير صحيح.

وقد ذكر لإثبات كون الأصل في الواجبات هو التعبدية - في قبال التمسك بالإطلاق الّذي يقتضي التوصلية - وجوه :

الوجه الأول : ان الأمر لما كان من الأفعال الاختيارية للمولى ، فلا بد من صدورها عن غرض مصحح ، والغرض من الأمر ليس إلا جعل الداعي والمحرك للعبد نحو العمل المأمور به. فلا بد من الإتيان بالعمل بداعي الأمر تحصيلا لغرض المولى ما لم يقم دليل خاص على حصوله بدون ذلك. فالأصل في الواجب الإتيان بها بداعي الأمر.

وقد أورد عليه المحقق النائيني رحمه اللّه : بان المراد من كون الأمر بغرض جعل الداعي والمحركية ..

ان كان ان الأمر انما هو بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا ومحركا لو لم يكن له داع آخر من قبل نفسه ، بمعنى ان العبد المنقاد إذا لم يكن في نفسه ما يدعوه إلى الإتيان بالعمل فلا أمر صالح لداعويته إليه ومحركيته نحوه.

وبعبارة أخرى : ان كان المراد كون الغرض من الأمر جعل ما يقتضي الداعوية وما له قابلية المحركية وشأنيتها.

فهو مسلم لا ينكر ، لكنه لا يثبت التعبدية لأنه مشترك بين جميع الواجبات التوصلية والتعبدية ، إذ لا ملزم فيه للإتيان بالفعل بداعي الأمر كما لا يخفى.

ص: 460

وان كان المراد جعل ما يكون داعيا فعلا بحيث لا بد من صدور الفعل بداعي امر المولى دون غيره من الدواعي.

ففيه :

أولا : ان يبتني على انحصار التقرب بقصد الأمر كما عليه صاحب الجواهر (1) وهو ممنوع كما تقدم.

وثانيا : انه يستلزم المحال ، وذلك لأن الملحوظ حال الأمر بالاستقلال هو نفس العمل ، اما إرادة المكلف للعمل فهي ملحوظة باللحاظ غير الاستقلالي الآلي ، فلو كان إرادة العبد العمل بداعي الأمر ملحوظة حال الأمر كان ذلك مستلزما للحاظ الإرادة بنحو الاستقلال وهو خلف فرض لحاظها آليا (2).

والإنصاف : ان ما ذكره أخيرا من استلزام المحال - وهو عمدة الإيراد على المدعى - غير وارد ، فللمدعي ان يلتزم بالشق الثاني من شقي الترديد ، أعني كون الغرض هو المحركية والداعوية الفعلية لا الاقتضائية. بيان عدم وروده : انه بنفسه يرد على الشق الأول الّذي فرض التسليم به واختياره ، وهو كون الغرض هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا لو لم يكن هناك داع آخر ، فان ذلك يستلزم أيضا تعلق اللحاظ الاستقلالي بإرادة الفعل ولزوم صدورها عن داعي الأمر إذا لم يكن داع آخر.

وعليه ، فاما ان يلتزم بكفاية اللحاظ الآلي في ذلك فهو جار في الشق الثاني. واما ان لا يلتزم فيسري الإشكال إلى الشق الأول. فمحصل الإيراد عليه قدس سره هو النقض بالشق الأول. فتدبر.

ولعل هذا الوجه هو الّذي حدا بالسيد الخوئي إلى عدم ارتضاء إيراده -

ص: 461


1- النجفي الشيخ محمد حسين. جواهر الكلام2/ 87 - 88 - الطبعة الثانية.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 114 - الطبعة الأولى.

إذ لم يبين الوجه فيه - والإيراد على المدعى بوجهين :

أحدهما : انه لا دليل على لزوم تحصيل غرض المولى من الأمر ، بل الواجب عليه بحكم العقل الإتيان بما تعلق به التكليف وتحصيل الغرض في نفس المأمور به ، وهو - أي المأمور به - مطلق غير مقيد بداع من الدواعي. فلو فرض ان غرض المولى ما ذكر فلا يلزم تحصيله ، بل يكفي الإتيان بذات العمل المتعلقة للأمر.

والآخر : إنكار كون الغرض من الأمر جعل الداعي فعلا ، لأن الغرض ما يترتب على الشيء ترتب المعلول على علته ، ونحن نرى ان الإتيان بالفعل بداعي الأمر يتخلف كثيرا عن الأمر كما في موارد الكفر والعصيان ، فالغرض انما هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا وهو لا يتخلف عن الأمر أصلا (1).

أقول : ما أورده أولا ليس محل بحثه هنا ، بل له مجال آخر.

واما الوجه الثاني ، فهو غير تام ، بيان ذلك : ان الغرض قد يطلق ويراد منه ما يساوق العلة الغائية وهو المعنى الاصطلاحي للغرض والداعي ، وهو ما يترتب على نفس الفعل ترتب المعلول على علته. وقد يطلق ولا يراد منه هذا المعنى ، بل يراد منه معنى عرفي يساوق المقصود ، وقد يعبر عنه في الاصطلاح بالغرض - الأصلي أو الأقصى ، وهو بهذا المعنى قابل الانفكاك عن العمل وان عبر عنه بالغرض ، فيقال : غرضي من هذا العمل ومقصودي كذا ، مع عدم ترتبه عليه ، بل يمكن ان يترتب ويمكن ان لا يترتب ، كأكل الخبز بغرض الشبع وشرب شيء بقصد العافية من المرض والإتيان بالماء بغرض الوضوء ونحو ذلك. ولا يخفى انه يطلق على مثل ذلك الغرض مع تخلفه عن العمل أحيانا ، فقد يكون مراد المدعي من كون الداعوية الفعلية غرضا للأمر هذا المعنى من لفظ الغرض

ص: 462


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 189 - الطبعة الأولى.

لا المعنى الاصطلاحي كي يورد عليه بما ذكره.

وبالجملة : الإيراد المذكور يبتني على حمل لفظ الغرض على المعنى الاصطلاحي ، مع انه بلا ملزم ، فقد يكون المراد منه الغرض الأصلي والأقصى ، بل لا ملزم للتعبير بلفظ الغرض كي يتحقق هذا الالتباس ، بل نقول : ان النّظر والقصد الأصلي في الأمر هو جعل الداعوية الفعلية ، ولا يخفى صحة التعبير بذلك عرفا. فيرجع الإشكال إلى التعبير بلفظ الغرض ، وان هذا - أعني الداعوية الفعلية - لا تسمى غرضا ، وهو إشكال لفظي ، والمهم هو الالتزام بواقع الدعوى وما ذكر لا يصلح إيرادا عليها كما عرفت من كون الغرض الأصلي ممكن التخلف عن العمل ، بل مع الالتفات إلى هذه الجهة - أعني إمكان التخلف - يعبر عنه أيضا بالغرض الأصلي والمقصود بلا توقف ، ويجيب الفاعل عند سؤاله عن مقصوده في فعله ، بان غرضي كذا. فتدبر.

وعليه ، فالكلام مع المدعي يقع في ان الغرض الأصلي من الأمر هل هو جعل الداعي فعلا أو جعل ما يصلح للداعوية وما له اقتضاء الدعوة لا فعليتها؟.

والحق هو الثاني ، توضيح ذلك : انه قد تقرر في محله ان الأوامر تابعة للمصالح الموجودة في متعلقاتها ، فالغرض من الأمر غرض تبعي وطريقي للوصول إلى مصلحة المتعلق وليس له استقلالية في الغرض ولا انفراد به ، ومن الواضح ان المصلحة في المتعلق تارة : تتقوم بذات الفعل وتترتب عليه بأي نحو تحقق وبأي صورة حصل. وأخرى : لا تترتب عليه إلا إذا جيء به بنحو قربي عبادي ، فالأمر الّذي يتعلق بالنحو الأول لا يكون الغرض منه سوى جعل ما يقبل التحريك وما من شأنه الباعثية والداعوية لا أكثر ، إذ عرفت انه يتبع المصلحة في المتعلق ، فإذا فرض ان المصلحة تتحقق بتحقق الفعل بأي كيفية وبأي داع حصل ، لم يكن الداعي من الأمر سوى التحريك نحو العمل وجعل

ص: 463

ما يمكن ان يكون داعيا إذا لم يكن داع آخر ، فإذا تحقق الفعل بداع آخر لا ينافي غرض الأمر لأنه يتبع الغرض من الفعل. وإذا لم يكن للعبد داع خارجي للفعل يكون الأمر صالحا للداعوية والمحركية.

وعليه ، فإذا فرض إمكان كون مصلحة المتعلق لا تقتضي سوى الأمر بهذا النحو - أعني بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا - ، فكيف يستظهر في الا وامر كونها بداعي جعل الداعي الفعلي؟.

الوجه الثاني : - ويمكن ان يكون تقريبا آخر للوجه الأول - ، وهو : ان الأمر لما كان بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا لزم ان يقتصر في تعلقه بمن لا يكون في نفسه داع خارجي غير الأمر للفعل ، فان من يكون في نفسه داع في نفسه لتحقق الفعل قبل الأمر يمتنع عقلا تعلق الأمر به وتوجه البعث نحوه للغويته بعد كونه منبعثا ، أو في مقام الانبعاث ، فلا معنى لأمره بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا بعد تحقق الداعي الفعلي للعمل عنده.

وعليه ، فالأمر انما يصح في مورد لا يكون للمكلف داع آخر غير الأمر ولم يكن المكلف في مقام الإتيان بالعمل بدون الأمر. والتقريب بهذا المقدار لا تثبت به التعبدية ، إذ غاية ما يثبت عدم صحة تعلق التكليف بمن له داع غير الأمر للفعل وانه انما يصح في المورد الّذي لا يكون للمكلف أي داع ومحرك نحو الفعل. وهذا لا يقتضي التعبدية كما لا يخفى ، فلا بد من تتميمه بان يقال : انه حيث يعلم بان التكاليف مطلقة ولا تختص بطائفة من المكلفين دون غيرهم ، بل تشمل الجميع ، وحيث ان شمولها للبعض ممتنع في ذاته لتحقق الدواعي النفسيّة للفعل عندهم ، فشمولها لهم يقتضي ان يكون مفاد الأمر هو الإتيان بالفعل لا عن هذه الدواعي ، بل بداعي الأمر فيرتفع عن اللغوية وتثبت به العبادية.

ويمكن الخدش فيه من وجهين :

أحدهما : ان تعلق الأمر بجميع المكلفين مسلم لا ينكر ، إلا انه لا يمتنع

ص: 464

ان يختلف مفاده باختلاف المكلفين ، فيكون مفاده الداعوية الفعلية والبعث الفعلي بالنسبة إلى من لا داعي له نحو الفعل ، ويكون مفاده الداعوية الشأنية بالنسبة إلى من له داع آخر غير الأمر ، فيكون الأمر متعلقا به بداعي جعل الداعي على تقدير عدم الداعي الآخر أو عدم الانبعاث عنه. وهذا التعليق مصحح للأمر ولا تتوقف صحته ورفع لغويته على عدم الداعي الخارجي ، لأن الغرض انه جعل للداعوية بنحو التعليق. وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها. فلاحظ.

وبالجملة : لا مانع من الالتزام باختلاف نحو تعلق الأمر بالمكلفين أجمع إذ لا دليل على خلافه.

ثانيهما : انه سلمنا عدم إمكان توجه الأمر لمن له داع خارجي للفعل إلا بان يكون مفاده تجريد الفعل عن هذه الدواعي والإتيان به بداعي الأمر - كما هو مفاد التقريب المزبور -.

فلا نسلم اقتضاء ذلك لتعبدية الأمر ، وذلك لأن ارتفاع اللغوية لا يتوقف على تعلق الأمر بالفعل على ان يكون الأمر نفسه داعيا ، بل يكفي لزوم تحقق الفعل عن الأمر وكون الأمر منشأ لوجود الفعل خارجا دون غيره من الدواعي ، وهذا لا يلازم العبادية ، إذ يمكن ان يكون الإتيان بالفعل بتحريك الخوف من العقاب أو الرغبة في الثواب الّذي يقتضيه الأمر لا بتحريك نفس الأمر. وسيأتي ان هذا الداعي ليس من الدواعي المقربة ، مع صدور الفعل به عن الأمر ، إذ لو لا الأمر لما جاء به. أو يكون الإتيان به رياء ولتعريف الناس انه يمتثل الأمر ، فان هذا الداعي متفرع على وجود الأمر ، إذ موضوعه الأمر ، مع انه ليس من الدواعي المقربة بلا كلام.

وبالجملة : الدليل يقتضي لزوم صدور الفعل بمنشئية وجود الأمر بحيث لو لا وجود الأمر لا يتحقق الفعل خارجا - لارتفاع اللغوية بذلك - ، وصدور

ص: 465

الفعل عن الأمر لا يلازم العبادية والتقرب كما عرفت.

الوجه الثالث : الآية الشريفة : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1). وتقريب الاستدلال بها على المدعى : حصر الأوامر في الآية الكريمة في العبادية ، وحصر جهة الأمر والغاية منه في العبادة ، فيقتضي ان يكون الأصل هو العبادية ، إلا إذا قام دليل خاص على عدمه فيخصص الآية الشريفة.

ولكن الاستدلال بها غير مستقيم لوجهين :

الأول : ما قيل من ان الآية بملاحظة صدر السورة وذيلها واردة في الكفار وتفنيد ما زادوا في دينهم على عبادة اللّه ، وبيان انهم لم يأمروا بغير عبادة اللّه وترك الأوثان ، وان ما يدعونه من الدّين لم يأمرهم به اللّه. وبذلك تكون الآية بعيدة وأجنبية عن إثبات تعبدية الأوامر وكونها عبادية كما لا يخفى.

الثاني : انه لو سلم عدم اختصاص الآية بالكفار وعمومها لجميع المكلفين ، فهي لا تدل على حصر الأوامر بالعبادية ، بل انما تدل على حصر الأوامر العبادية بعبادة اللّه ، بمعنى ان الأوامر العبادية انما كانت ليعبدوا اللّه تعالى لا ان نفس الأوامر كانت لأجل تحقق العبادة منهم ، فهي لا تتكفل بيان عبادية الأوامر ، بل بيان جهة عبادة اللّه في الأوامر العبادية وهذا المعنى أجنبي عن المدعى.

وتوضيح ما ذكرناه : انه إذا قال القائل : « ما أمرت زيدا إلا لأجل تحصيل العافية التامة أو لأجل الذهاب إلى الطبيب الحاذق » ، فانه ظاهر في حصر الأوامر بالذهاب إلى الطبيب أو بتحصيل العافية في الأمر بالذهاب إلى الطبيب الحاذق دون غيره ، وبتحصيل العافية التامة لا الناقصة ، نعم لو قال : « ما أمرته إلا لأجل الذهاب إلى الطبيب » ، كان ظاهرا في حصر الأوامر في الذهاب إلى

ص: 466


1- سورة البينة : الآية : 5.

الطبيب ، أو حصر أوامر الذهاب بالذهاب إلى الطبيب. فتأمل. وما نحن فيه من قبيل الأول ، فان الظاهر ان الغرض المسوق له الكلام هو بيان انحصار العبادة بعبادة اللّه ونفي عبادة غيره ، ولزوم الإخلاص في عبادته جلّ اسمه وعدم إشراك غيره فيها ، لا بيان أصل العبادة فتكون الآية ظاهرة في ان الأمر العبادي انما كان لأجل تحقق عبادة اللّه تعالى. فلا دلالة لها على ان مطلق الأوامر عبادية كما لا يخفى.

الوجه الرابع : الروايات كقوله صلی اللّه علیه و آله : « انما الأعمال بالنيات » (1) وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لكل امرئ ما نوى » (2) وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا عمل إلا بنية » (3) ونحو ذلك مما يدل على توقف العمل على نية القربة إلا ما خرج بالدليل الخاصّ المخصص.

وقد ناقش الشيخ رحمه اللّه في دلالتها على المدعى بكلام مفصل حاصله : ان الكلام لو حمل على ظاهره من توقف تحقق العمل على نية القربة وقصد التقرب بحيث لا يتحقق عمل بدونها ، فهو كاذب قطعا ، لأن الأعمال تحصل بدون قصد القربة ، بل بدون نية أصلا ، لأنها أمور واقعية تحصل بأسبابها.

وان أريد منها نفي صحة العمل بدون نية القربة لا نفي أصل العمل لزم تخصيص الأكثر بنحو مستهجن جدا ، لأن الأعمال الشرعية العبادية قليلة جدا ونسبتها إلى غير العبادية منها نسبة متفاوتة جدا ، فلا معنى لهذا العموم وبهذا اللسان مع إرادة افراد قليلة منه لصحة الواجب التوصلي بدون نية القربة ، إذ لا يعتبر فيه قصد التقرب ، وانما المتوقف صحته على قصد التقرب هو الأفعال

ص: 467


1- وسائل الشيعة 1 / 34. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 7.
2- وسائل الشيعة 1 / 35. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 10.
3- وسائل الشيعة 1 / 34. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 9.

العبادية وهي قليلة كما عرفت.

وان أريد من مثل قوله : « لا عمل إلا بنية » ان نسبة الفعل إلى الفاعل وكون الفعل فعلا له انما تكون إذا صدر الفعل عن قصد واختيار وبدونه لا يكون العمل عملا اختياريا له ، فيكون المراد من النية ما يساوق القصد والاختيار لا نية القربة. ويكون المعنى : ان العمل الصادر عفوا وبلا إرادة لا يكون عملا للشخص ، بل الإسناد إلى الشخص يتقوم بالقصد ونية العمل ، فلا يقال لمن أكرم هاشميا مع عدم العلم بهاشميته أنه أكرم هاشميا بما هو هاشمي لعدم القصد إلى العنوان ان أريد ذلك فهو معنى متجه ، لكنه أجنبي عن المدعى - أعني إثبات كون الأصل في الأوامر العبادية كما لا يخفى -. مضافا إلى انه يدفعه ظاهر بعض الروايات التي تقتضي عدم إرادة هذا المعنى ، كقوله : « لا قول إلا بعمل ولا عمل إلاّ بنية ولا نية الا بإصابة سنة » (1) ، فان ظاهر السياق عدم إرادة نفي اختيارية العمل لعدم القصد لتحقق القول اختيارا بدون عمل ، بل الّذي يظهر من الروايات بملاحظة موارد تطبيقها في النصوص كما ورد في باب الجهاد من ان المجاهد ان كان قد جاهد لله فالعمل له تعالى ، وان جاهد لطلب المال والدنيا فله ما نوى (2) -. وهو كونها ناظرة إلى بيان توقف ترتب الإثابة على نية كون العمل لله وان ظاهر نفس العمل لا يكفي في ترتب الأثر المرغوب ما لم يقصد من ورائه ذلك. فلا يعد العمل لله ما لم ينو اللّه ويقصد به التقرب إليه ، وان ما يحصله المرء هو ما نواه وقصد ، من خير أو شر. فلا ترتبط بالمرة بما نحن فيه من تعبدية الأوامر (3).

وبهذه النتيجة أورد المحقق النائيني على الاستدلال بهذه الروايات مهملا

ص: 468


1- وسائل الشيعة 1 / 33. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 1 / 35. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 10.
3- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /63- الطبعة الأولى.

ما ذكره الشيخ مقدمة لها (1).

وبالجملة : الظاهر من الروايات الكثيرة هو ما أفاده الشيخ وتابعة غيره عليه من ان تقدير الثواب وتحصيله على نية التقرب فقط. لا توقف صحة العمل على نية القربة بحيث يترتب العقاب على تركها ، بل نتائج الأعمال وغاياتها تتبع النيات ولا تتحقق بدون النية بل تتبع النية.

وخلاصة ما تقدم : انه لا دليل تعبديا على كون الأصل في المأمور به ان يكون عباديا ، كما انه - بناء على عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق - لا يمكن التمسك بالإطلاق في إثبات التوصلية ونفي التعبدية. فلا دليل اجتهاديا على أحد الأمرين ، فتصل النوبة قهرا عند الشك في التعبدية والتوصلية إلى الأصل العملي من براءة أو اشتغال. فيقع الكلام فعلا في ..

المرحلة الثانية : وهي في مقتضى الأصل العملي بعد فرض عدم إمكان التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية الّذي هو محور الكلام. وعدم قيام دليل على إثبات التعبدية.

فنقول : ذهب صاحب الكفاية إلى ان الأصل العملي في المقام هو الاشتغال ، فلا بد من الإتيان بقصد القربة تحصيلا للعلم بالفراغ ، وانه لا مجال لجريان البراءة ولو قلنا بها في مسألة الأقل والأكثر. فان الشك في ما نحن فيه يرجع إلى ان الوظيفة اللازمة هل هي الأقل أو الأكثر؟ لكنه لا يتأتى فيه حكم الأقل والأكثر (2).

ووجه المحقق النائيني قدس سره كلامه بأنه ناظر إلى التفريق بين الأسباب والمسببات العادية ، والأسباب والمسببات الشرعية ، فان للشارع التصرف في الأسباب الشرعية وبيان حدّها ، فمع الشك فيها بين الأقل والأكثر

ص: 469


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 115 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /75- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يرجع فيه إلى البراءة لأنها مجعولة شرعا. بخلاف الأسباب العادية ، فانه ليس للشارع التصرف فيها باعتبار ان تأثيرها في المسببات تكويني لا جعلي ، فإذا تردد السبب العادي بين ان يكون الأقل أو الأكثر لم يكن المورد مجرى البراءة لأن المرفوع بها ما يمكن جعله شرعا وليس السبب العادي بخصوصياته من مجعولات الشارع. وبما ان الشك فيما نحن فيه يرجع إلى الشك في دخل قصد القربة في الغرض لا في المأمور به لفرض عدم إمكان أخذه فيه ، فمرجع الشك في التعبدية إلى الشك في دخل قصد التقرب في الغرض ، ولا يخفى ان تأثيره في ترتب الغرض - لو كان - ليس بجعلي وانما تأثير تكويني ، فليس للشارع رفعه بالبراءة. فيكون مقتضى الأصل هو الاشتغال لا البراءة.

وأورد عليه بعد ذلك : بأنه فاسد مبنى وبناء.

اما المبنى ، فلعدم الفرق بين المسببات العادية والشرعية في كون الشك في ترتبها على أسبابها مجرى قاعدة الاحتياط ، ولذا يقرر الاحتياط عند الشك في تحقق الطهارة بفقدان بعض خصوصيات الوضوء وهو أمر مسلم.

واما البناء ، فببيان ان متعلقات التكاليف ليست نسبتها إلى الغرض نسبة السبب إلى المسبب ، وانما نسبتها إليه نسبة المعد للمعد له (1). وقد بين ذلك بنحو مفصل ليس تحقيقه محل بحثنا فعلا ، وانما ذكرنا ملخص كلامه ، فالإيراد الصحيح على الوجه المذكور ما ذكره من عدم الفرق بين الأسباب والمسببات الشرعية والعادية في كون الشك في المسببات مطلقا مورد الاحتياط ، فالتفريق بين ما نحن فيه ومسألة الأقل والأكثر بهذا الوجه واللحاظ غير سديد.

لكن الحق ان هذا المعنى ليس مراد صاحب الكفاية ، فانه غير ظاهر من العبارة أولا ، ولا يلتزم بجريان البراءة عند الشك في المسبب الشرعي ثانيا ، فلا

ص: 470


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 119 - الطبعة الأولى.

يمكن ان يجعل وجه التفريق ما لا يلتزم به. فما ذكر في توجيه عبارته غير صحيح.

وقد حمل السيد الخوئي مراد الكفاية على معنى آخر محصله : انه ناظر إلى جهة الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية الموجبة لعدم جريان الأولى في مسألة الأقل والأكثر وجريان الثانية ، وهي ان الشك في الأقل والأكثر يرجع إلى الشك في حصول غرض المولى بالأقل والبراءة العقلية لا توجب رفع هذا الشك ، فيلزم الإتيان بالأكثر تحصيلا للغرض اللازم تحصيله. بخلاف البراءة الشرعية فانها تقتضي إطلاق متعلق الأمر في مرحلة الظاهر الّذي يكشف عن حصول الغرض به.

وعليه ، فما نحن فيه حيث يشك في حصول الغرض بدون قصد القربة فلا تجري البراءة العقلية لعدم ارتفاع الشك بها ، كما انه لا مجال لجريان البراءة الشرعية ، لأن المرفوع بها ما يكون قابلا للوضع والجعل الشرعي ، فغيره كقصد القربة لا يكون من مواردها. فيتعين الاحتياط.

وأورد عليه : بان التفكيك بين البراءتين بهذا البيان غير صحيح ، لأنه إذا كان تحصيل غرض المولى لازما عقلا وان لم يقم عليه دليل شرعي ، فجريان البراءة الشرعية لا يجدي ، لأن البراءة انما تتكفل نفي المشكوك عن متعلق الأمر ، اما نفي دخالته في الغرض فهو أجنبي عن مفادها ، فيبقى الشك على حاله مع جريان البراءة الشرعية ، وليس للشارع نفي لزوم تحصيله بعد حكم العقل بلزومه. وإذا لم يكن تحصيل الغرض لازما إلا بالمقدار الّذي تقوم عليه حجة شرعية ، فجريان البراءة العقلية ممكن ومجد ، لنفي دخل المشكوك في المتعلق بها ، فيكون الغرض المتقوم به غير لازم التحصيل لعدم الحجة عليه شرعا وعقلا.

ودعوى : عدم إمكان جريان البراءة العقلية فيما نحن فيه - كالبراءة الشرعية - لفرض عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق فلا يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لعدم إمكان البيان.

ص: 471

مندفعة : بان المحقق عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق ، وهذا لا يلازم عدم إمكان بيان عدم دخله في الغرض ولو بالجملة الخبرية ، فيمكن للمولى بيان ذلك بنحو الإخبار كما لا يخفى (1).

والإنصاف : ان ما حمل عليه كلام الكفاية خلاف ظاهر الكفاية جدا. مضافا إلى ان الّذي يخطر بالبال فعلا ان الوجه في نفي صاحب الكفاية إجراء البراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر ليس هو الشك في حصول الغرض بدون المشكوك ، فيلزم الإتيان به تحصيلا للغرض ، بل من باب العلم الإجمالي بان متعلق التكليف اما الأقل أو الأكثر وعدم انحلال هذا العلم الإجمالي المانع من جريان البراءة عقلا لعدم كون العقاب بلا بيان بعد وجود العلم الإجمالي. وهذا المعنى كما لا يخفى لا ينطبق على ما نحن فيه ، إذ لا علم إجماليا بل يعلم تفصيلا بعدم أخذ قصد القربة في المتعلق ، فالمسألة في الحقيقة يختلف موضوعا عن مسألة الأقل والأكثر ، لأن متعلق التكليف معلوم الحدّ ولا شك فيه. نعم الأمر يدور بين الأقل والأكثر في مقام الامتثال لا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان إجراء أصالة الاشتغال ليس من باب كون المقام من قبيل المسببات التوليدية العبادية ولا من باب لزوم تحصيل الغرض ، بل من جهة أخرى وهي لزوم إطاعة امر المولى. بيان ذلك : انه بعد تعلق الأمر بذات العمل فقط دون قصد القربة ، يشك في ان الأمر هل يسقط بمجرد الإتيان بالفعل أو لا بد من ضم قصد القربة إليه؟. ومنشأ الشك هو الشك في حصول الغرض بدون قصد القربة ، فانه يوجب الشك في سقوط الأمر لأن الأمر معلول للغرض والمعلول تابع لعلته وجودا وعدما. فإذا تحقق الشك في سقوط الأمر لزم الاحتياط تحصيلا للعلم اليقيني بالامتثال والإطاعة ، فانه حكم عقلي مسلم من باب لزوم

ص: 472


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 193 - الطبعة الأولى.

إطاعة أمر المولى ، فما ذكره يبتني على أمرين : أحدهما : حكم العقل بوجوب إطاعة امر المولى المعلوم تفصيلا. والآخر : تبعية سقوط الأمر لحصول الغرض لأنه علة ثبوته. فمع الشك في حصول الغرض يشك في حصول الإطاعة فيحكم العقل بلزوم الاحتياط تحصيلا للإطاعة لا من باب لزوم تحصيل الغرض.

وبالجملة : حكم العقل بالاحتياط هنا بعين الملاك الّذي قربنا حكمه فيما تقدم بتحصيل غرض المولى.

ولا يخفى انه لو التزم بالبراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر بدعوى انحلال العلم الإجمالي ، فلا يلتزم بها هنا للعلم التفصيليّ بالمكلف به وعدم الشك في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وانما الشك في الأقل والأكثر بلحاظ مقام امتثال التكليف المعلوم المبين لا في متعلق التكليف كي يكون مجرى البراءة العقلية مع عدم البيان ، كما انه لا تجري البراءة الشرعية ، لأن موضوعها ما يكون قابلا للوضع والجعل شرعا دون ما لا يقبل ذلك كقصد القربة.

وبهذا البيان الظاهر من عبارة الكفاية يظهر انه لو التزم بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فالأصل العملي هو الاشتغال بلا كلام للزوم العلم بالامتثال.

واما لو التزمنا بإمكان أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فيكون كسائر الاجزاء والشرائط المشكوكة مجرى لأصالة البراءة فينفي أخذها في المتعلق بالبراءة كما هو الحال في سائر موارد الأقل والأكثر على ما يأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى.

فخلاصة الكلام في الأصل العملي : انه إذا التزمنا بعدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلق الأمر كان الأصل هو الاشتغال كما عليه صاحب الكفاية ، وإذا التزمنا بإمكان أخذه في متعلق التكليف كان الأصل هو البراءة. فالأصل يختلف باختلاف المبنيين فتدبر.

ص: 473

الدواعي القربية

وبعد كل هذا لا بأس بصرف الكلام إلى تحقيق ما يتحقق به التقرب وما به قوام العبادة.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في هذا المقام ما حاصله : ان استحقاق المدح والثواب عقلا على شيء يتوقف على أمرين :

الأول : ان ينطبق عنوان حسن بالذات أو بالعرض عليه ، وإلاّ فمجرد المشي إلى السوق لا يمدح عليه العقلاء ما لم يتعنون بعنوان حسن ، حتى إذا جيء به بداعي الأمر لأن الداعي المذكور لا يوجب المدح ما لم يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن.

الثاني : ان يؤتى به مضافا إلى من يستحق من قبله الثواب والمدح ، فان الفعل بدون ارتباطه بالمولى نسبته إلى المولى وغيره على حد سواء. وارتباط الفعل بالمولى تارة : يكون بنفسه كتعظيم المولى. وأخرى : بواسطة الأمر كالصلاة فانها بنفسها لا يمكن ربطها بالمولى ، لأنها ليست من الأفعال المضافة إلى الغير نظير التعظيم.

وعليه ، فالإتيان بالفعل بداعي الأمر يكون موجبا لاستحقاق المدح ، لأنه بذلك يتعنون بما هو حسن في نفسه وهو الانقياد والإحسان مع ارتباطه بالمولى بقصد امره. اما الإتيان به بالدواعي القربية الأخرى كداعي أهلية المولى أو الشكر والتخضع أو المصلحة أو تحصيل الثواب والفرار من العقاب ، فلا يوجب مدحا ولا ثوابا. بيان ذلك :

اما داعي أهلية المولى ، فموضوعه العبادة الذاتيّة ، وهو ما كان حسنا في

ص: 474

ذاته ، لأن ما لا يكون بذاته حسن لا يكون المولى أهلا له ، وإذا فرض ان مورده هو العبادة الذاتيّة وما هو حسن في ذاته فهو مرتبط ومضاف إلى المولى بذاته - لغرض كونه عبادة للمولى - ، فلا يكون هذا الداعي موجبا لربطه بالمولى ولا لحسنه ، بل هو في طول الداعي المقرب فيمكن ان يكون بنحو داعي الداعي.

ومثله الكلام في داعي الشكر والتخضع ونحوهما ، فان الإتيان بالفعل بهذه الدواعي يتوقف على كون الفعل بنفسه شكرا وتخضعا كي يؤتى به بهذا الداعي ، إذ لو لم يكن كذلك لا معنى لأن يؤتى به للشكر ، لأنه ليس شكرا ، ومع فرض كونه شكرا في نفسه أو تخضعا فيكون بنفسه ذا عنوان حسن ومرتبطا بالمولى أو منتهيا إلى ما يكون كذلك ، فلا يكون الداعي مقوما للتقرب بل هو في طوله.

واما داعي استحقاق الثواب أو الفرار من العقاب ، فهو أيضا في طول العبادية والتقرب ، لأن الفعل بنفسه لا يوجب الثواب ما لم يكن عباديا وذا عنوان حسن ومرتبطا بالمولى ، ومعه يكون داعي الثواب غير مقوم لاستحقاقه لفرض ان نفس الفعل مؤثر فيه لاجتماع كلا الجهتين فيه. وهكذا الفرار من العقاب ، فانه إذا لم يكن بنفسه موجبا لمنع العقاب لا يتجه الإتيان به بهذا القصد ، ولا يكون الفعل مانعا عن العقاب إلا بكونه حسنا ومرتبطا بالمولى.

واما داعي المصلحة ، فان قصدت المصلحة بما انها فائدة ونفع ، فلا إشكال في عدم كون الداعي مقربا ، إذ لا ارتباط للفعل بالمولى كما انه لا يكون حسنا بمجرد ترتب فائدة عليه. اما إذا قصد الإتيان به بداعي المصلحة بلحاظ انها داعية للمولى إلى الأمر لو لا المزاحمة بالأهم أو غفلته ومن باب رغبة المولى في تحققها ، فيكون مقربا لانطباق عنوان حسن عليه وهو الانقياد وارتباطه بالمولى ، بل الانقياد في هذا الحال أعظم منه في صورة وجود الأمر كما لا يخفى (1).

ص: 475


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 129 - الطبعة الأولى.

هذا محصل كلامه قدس سره . ويقع الكلام في جهات ثلاث من كلامه :

الجهة الأولى : فيما أفاده من تقوم استحقاق المدح والثواب على الفعل باشتماله على أمرين العنوان الحسن وارتباطه بالمولى.

وتحقيق الحق فيها : ان الاستحقاق تارة : يراد منه ان يكون للمستحق على غيره حقا في عهدته له المطالبة به ويلزم الوفاء به ممن عليه الحق. كالحق الثابت بالمعاملة البيعية ونحوهما. وأخرى : يراد منه قابلية المستحق لما استحقه وشأنيته ولياقته ، بمعنى انه لو أعطي ذلك ، كان في محله لا ان له حقا لازما في عهدة غيره ، وبعبارة أخرى : يراد بالاستحقاق تارة : انه له حق لازم في العهدة. وأخرى : انه ذو لياقة للحق واستعداد. والمراد به فيما نحن فيه هو المعنى الثاني ، فالكلام في أن العبد بأي فعل يكون لائقا للمدح والثواب ، بحيث إذا مدحه العقلاء يكون المدح في محله ولا يكون ارتجاليا وبدون ما بإزاء ، لا المعنى الأول فانه ليس محل الكلام ، كما يصرح به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته.

بملاحظة المعنى الثاني يمكن الجمع بين القول بان الثواب على العمل من باب الاستحقاق والقول بأنه من باب التفضل ، فيراد من الاستحقاق اللياقة للثواب لا لزومه وثبوته في عهدة المولى.

وعلى كل ، فالكلام في ما تتحقق به لياقة العبد للثواب والمدح ولا يخفى انه لا يلزم اشتمال الفعل المحقق لذلك على الأمرين ، بل كونه ذا عنوان حسن كاف في لياقته للمدح من العقلاء ، وذلك فان المكلف إذا جاء بما هو حسن عند العقلاء يكون بنفس هذا الفعل وان لم يربطه بأي جهة ذا لياقة للمدح ، بحيث إذا مدح وجوزي عليه كان ذلك عن لياقة ولا يكون كمن لم يفعل أصلا ، وبما ان الشارع سيد العقلاء ورئيسهم فالعبد يكون لائقا لمدحه الّذي هو الثواب ، وعليه فلا يلزم ان يكون الفعل الحسن مرتبطا بالمولى ، إذ لياقة الجزاء والمدح تتحقق بفعل الحسن سواء أضافه إلى المولى أو لم يضفه. نعم قد يكون الفعل

ص: 476

بذاته لا يشتمل على عنوان حسن ، وانما يتقوم حسنه بإضافته إلى المولى بالإتيان به بداعي أمره أو بداعي محبوبيته للمولى ، فيستحق العبد الثواب بذلك لكنه غير لزوم إضافته إلى المولى في استحقاق الثواب ، بل من باب انه لا يكون حسنا - الّذي هو ملاك الاستحقاق - إلا بإضافته لتعنونه حينئذ بعنوان الخضوع والتخشع. ومن هنا يظهر ان البحث مع المحقق الأصفهاني علمي لا عملي ، لأن سائر العبادات الفعلية من صلاة ونحوها ليست بنفسها ذات عناوين حسنه ، بل يتقوم حسنها بإضافتها إلى المولى بالإتيان بها بداعي الأمر ، فاستحقاق الثواب عليها لا يكون إلا مع إضافتها إلى المولى لتقوم حسنها بذلك.

وجملة القول : ان استحقاق الثواب والمدح بمعنى لياقة العبد لهما - الّذي هو المقصود بالبحث - لا يتوقف إلا على الإتيان بفعل حسن. غاية الأمر ان الحسن قد يتوقف على إضافته للمولى ولكنه لا يعني تقوم الاستحقاق بالإضافة إلى المولى فلاحظ.

الجهة الثانية : فيما أفاده من ان قصد الخضوع والتعظيم ونحوهما يتوقف على ان يكون الفعل في نفسه قابلا لذلك كي يكون ذلك داعيا إليه ، إذ لا يصلح ما لا يكون مترتبا على نفس الفعل ان يكون داعيا إلى الفعل. فانه قد وقع الكلام بالنسبة إلى قصد التعظيم بالفعل مع ان التعظيم لا يتحقق إلا بالقصد وبدونه لا يعد الفعل تعظيما ، وجرى البحث في ان التعظيم هل هو من الأمور الاعتبارية أم انه من الأمور الواقعية؟ وتحقيق هذه الجهة بالنسبة إلى التعظيم ونحوه لا يهمنا فعلا وليس محله هنا ، بل له مجال آخر فنوكله إليه.

الجهة الثالثة : فيما قرره من ان الانقياد الناشئ عن الإتيان بالفعل لاحتمال الأمر أو لملاكه مع عدمه أعظم لدى العقلاء من الانقياد الناشئ عن الإتيان بالفعل للأمر في صورة وجوده. فان هذا الأمر وقع محل البحث في مسألة جواز الاحتياط والامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيليّ التي جزم

ص: 477

فيها المحقق النائيني رحمه اللّه بعدم جوازه وعدم تحقق الإطاعة به ، لأن الإطاعة التفصيلية مقدمة على الإجمالية واكتفي بهذا المقدار من الدعوى والدليل الّذي هو دعوى محضة أيضا (1). وفي قباله جزم المحقق الأصفهاني رحمه اللّه بجواز الامتثال الإجمالي لأن الانقياد عن احتمال الأمر أعظم من الانقياد عن وجود الأمر.

ولم يحقق البحث بشكل يتضح به أحقية أحد الرأيين ، بل اكتفي سلبا وإيجابا بما يشبه الدعوى. فلا بد لنا من تحقيقه هنا. كما انه لا بد من معرفة موضوع النزاع وما يدور عليه النفي والإثبات واقعا وفي الحقيقة ، فنقول : الكلام ليس في حسن الانقياد فانه ليس من أحد ينكر حسن الانقياد ومقربيته. وانما الكلام في ان الانقياد هل هو من صفات الفاعل فقط والفعل على ما هو عليه في الواقع ، أو انه يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن ويستلزم طرو عنوان الحسن على الفعل المنقاد به؟. فإذا كان الانقياد من صفات الفاعل ولا يسري حسنه إلى الفعل لم يكن الفعل مقربا فلا يتحقق به الامتثال إلاّ إذا كان بذاته حسنا. وإذا كان حسنه يسرى إلى نفس الفعل ويكون الانقياد من عناوين الفعل لا من صفات الفاعل يكون نفس الفعل مقربا فيتحقق به الامتثال والإطاعة. ومثل هذا الكلام يجري بالنسبة إلى التجري ، فيقال ان التجري القبيح من صفات الفاعل أو انه من العناوين المنطبقة على الفعل فيكون نفس الفعل قبيحا؟. كما يجري نظيره في التشريع ، فيقال انه هل ينطبق على نفس الفعل فيكون الفعل محرما ولذا يفسد إذا كان عبادة ، أو لا ينطبق عليه بل هو من صفات الفعل فلا يكون الفعل بنفسه محرما.

وبالجملة : فيقع البحث في ان الانقياد من صفات الفاعل أو من صفات

ص: 478


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 26 - الطبعة الأولى.

الفعل وعناوينه المتقومة به ، ولا بد من تحقيق هذه الجهة. ولا يخفى ان الشك في ذلك يقتضي بعدم جواز الانقياد في مقام الامتثال للشك في تحقق الامتثال به مع الشك في هذه الجهة. وعلى كل ..

فالحق : ان الانقياد من صفات الفاعل وموجب لحسن الفاعل لا الفعل ولا ينفك الفعل المنقاد به عن عنوانه المبغوض لو كان في نفسه كذلك. والسر في ذلك : انا نرى بالوجدان ان الفعل قد يكون مبغوضا فعلا مع تحقق الانقياد به ، فلو كان الانقياد من صفات الفعل لزم ان يكون الفعل حسنا ، وهو لا يجتمع مع المبغوضية الفعلية. ومن هنا يقال انه لو صلى في الدار المغصوبة جهلا - بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة - لم تصح صلاته لأنها مبغوضة في حال الإتيان بها ، مع أنه يؤتى بها بقصد الإطاعة ، فلا تكون مقربة.

وبالجملة : تحقق الانقياد بالفعل المذموم والمبغوض في نفسه بالفعل امر لا إشكال فيه ويشهد له ملاحظة الأمثلة العرفية الكثيرة - فلو ضربك شخص بداعي الاحترام لتخيل ان هذا مصداق الاحترام ، فان الضرب لا يخرج بمقارنته للداعي المذكور عن المبغوضية لديك - ولو كان حسن الانقياد يسري إلى الفعل كان الفعل المنقاد به ممدوحا ومرغوبا فيه لا مبغوضا. فالحق ان الانقياد من صفات الفاعل لا الفعل.

ومن هنا يكون الاحتياط من باب الانقياد غير مجز وليس بموجب للامتثال ، سواء كان الامتثال التفصيليّ ممكنا أو لم يكن ممكنا ، فلا يكون الاحتياط في عرض الامتثال التفصيليّ ، كما لا يكون في طوله أيضا لعدم كون الفعل به مقربا.

إلا ان يدعى : بان الاكتفاء به مع عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ ، لإلزام العقل به بعد دوران الأمر بينه وبين الإتيان بالفعل بداع آخر غير موجب للحسن الفاعلي ولا الفعلي ، والإتيان بالفعل لا بأي داع لأنه أفضل الافراد ، إذ

ص: 479

يرى العقل انه مع التمكن من الإتيان بالفعل المأمور به جزما فلا أقل من الإتيان بما يوجب الحسن الفاعلي والقرب من جهة الفاعل. فان الانقياد من جهة الحسن الفاعلي أعظم من الإطاعة ، لأنه يكشف عن زيادة قرب العبد من المولى وكونه في مقام العبودية بنحو أشد وآكد.

وبالجملة : الاكتفاء بالاحتياط مع عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ لأجل انه أيسر الافراد المقربة - ولو فاعليا لا فعليا - وأفضلها.

ولكن التحقيق هو صحة الاحتياط مطلقا حتى مع التمكن من الامتثال التفصيليّ ، لكن لا بملاك الانقياد بل بملاك الإطاعة والموافقة. بيان ذلك : ان الأثر في كفاية الاحتياط في مقام الامتثال والثمرة إنما يظهر في مورد يكون الأمر المحتمل ثابتا في الواقع. فيقال : ان الامتثال الإجمالي هل يكفي في إطاعته وسقوطه أم لا؟. اما مع عدم وجوده واقعا فلا أثر للكلام في الاكتفاء بالاحتياط لعدم موضوع الاكتفاء وهو الأمر الواقعي.

وعليه ، فلما كان الاحتياط عبارة عن الإتيان بهذا الفعل بداعي موافقة الأمر الواقعي وامتثاله على تقدير وجوده واقعا ، فإذا فرض ان الأمر الواقعي موجود واقعا فقد تحقق الإتيان بالفعل بداعي موافقته ، لأن المفروض انه علق هذا المعنى وهو الإتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر الواقعي على تقدير حاصل ، وهو وجود الأمر واقعا ، وإذا وجد المعلق عليه يحصل المعلق قهرا طبعا ، وقد علمت ان المعلق هو الفعل بداعي موافقة الأمر الموجود واقعا.

وبالجملة : المعتبر هو الإتيان بالفعل بداعي الموافقة ، وقد تحقق عن قصد واختيار لأنه قصد بنحو التعليق وفرض حصول المعلق عليه ، - وهذا نظير ما لو قصد تعظيم شخص إذا كان زيدا ، فظهر انه زيد فانه يقال انه عظم زيدا ، لأنه قصد تعظيمه وان لم يعلم بذلك ، لكنه قصد معلقا وقد ثبت المعلق عليه -. ولا يخفى ان الفعل بذلك يكون حسنا ومقربا لأنه يتعنون بعنوان موافقة الأمر

ص: 480

وتبعيته وأداء الوظيفة الثابتة في العهدة ، وهو من العناوين المقربة المحسنة كما لا يخفى.

وعليه ، فالاحتياط والامتثال الإجمالي يكون في عرض الامتثال التفصيليّ بملاك الإطاعة والموافقة لا الانقياد.

وملخص الكلام : انه بعد الاحتياط والإتيان بالامتثال الاحتمالي اما ان يكون هناك أمر في الواقع أو لا يكون. فان كان أمر في الواقع فقد تحققت إطاعته بالفعل وقصدت موافقته كما عرفت. وان لم يكن امر فلا كلفة عليه.

فالاحتياط موجب للاطمئنان في مقام الامتثال وعدم بقاء العبد في الحيرة من هذه الجهة ، فيحكم العقل باجزائه كما يحكم باجزاء الامتثال الجزمي. فلاحظ.

يبقى الكلام في امر خارج عما نحن فيه ، لكن نذكره استطرادا لعدم وقوع البحث عنه مستقلا ، وهو التشريع.

ويقع الكلام في انه من صفات الفعل أو الفاعل. والثمرة انه لو كان من صفات الفعل كان مفسدا للعبادة لو تحقق فيها أو في بعض اجزائها. بخلاف ما إذا كان من صفات الفاعل - كما التزم به صاحب الكفاية (1) - فانه لا يسري قبحه إلى الفعل كي يفسده إذا كان عبادة.

والحق انه من صفات الفاعل لا الفعل ، وذلك لأن التشريع كما يعرف عبارة عن إدخال ما ليس في الدين في الدين. ولا يخفى ان الدّين لا يتقوم بالافعال الخارجية وانما يتقوم بالاحكام الكلية ، اما الفعل الخارجي الّذي يطرأ عليه الحكم فليس من الدّين ، بل الدين هو الأحكام الكلية الشرعية. وعليه فالإدخال في الدين انما يتصور بالنسبة إلى الأحكام بالبناء والالتزام بحكم مع عدم كونه ثابتا ، ونسبته إلى الشارع مع عدم تحقق ثبوته ، اما نفس موضوعه الخارجي

ص: 481


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /187- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المطابق له فليس يتصف بعنوان التشريع إذ لا ينطبق عليه تعريفه. فالتشريع صفة وعنوان للفعل النفسيّ أعني البناء والالتزام بان هذا حكم اللّه وليس من صفات الفعل المأتي به خارجا الّذي هو موضوع التشريع.

ويشهد لما ذكرنا : انهم استدلوا (1) على حرمة التشريع بالآية الكريمة : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (2) ، مع ان الافتراء على اللّه انما يكون بنسبة امر له غير صادر منه ، وليس الافتراء يتحقق بالفعل الخارجي ، بل يتحقق بالكذب على اللّه اما قولا أو بناء والتزاما كما لا يخفى.

وبالجملة : التشريع مساوق للبدعة المتحققة بإثبات حكم في الشريعة غير ثابت عن اللّه ، وهو أجنبي عن موضوع الحكم المجهول ومتعلقه الخارجي. فكون التشريع من صفات النّفس والفاعل لا الفعل أمر ظاهر جدا ، فلاحظ وتدبر.

تذييل : هل يعتبر في صحة العبادة ومقربيتها وسقوط الأمر بها إضافتها إلى المولى من طريق الأمر الثابت المقصود امتثاله وإسقاطه ، أو لا يعتبر ذلك ، بل يكفي في سقوط الأمر وقوع العبادة بنحو قربي وبداع مقرب وان لم يكن بإضافته من طريق الأمر؟.

بيان ذلك : ان الأمر العبادي لا إشكال في سقوطه بالإتيان بمتعلقه بقصد امتثاله وإطاعته ، ولكنه هل يعتبر ذلك في سقوطه ، أو انه يكفي فيه الإتيان بمتعلقه مع ربطه بالمولى وإضافته إليه ولو لا من طريق هذا الأمر بل بطريق غيره؟. والكلام يقع في موردين :

المورد الأول : موارد التداخل ، كما إذا تعلق أمران بطبيعة واحدة ولم يكن

ص: 482


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /33- الطبعة الأولى.
2- سورة يونس الآية : 59.

متعلق كل منهما قصديا يتوقف حصوله على القصد إليه ، وقيل بإمكان الإتيان بفرد واحد بداعي امتثال كلا الأمرين فيسقطان معا ويتحقق امتثالهما ، وذلك نظير ركعتي الغفيلة وركعتي النافلة ، فان الأمر قد تعلق بكل منهما ، لكنه حقق انه يجتزئ مع قصد الغفيلة والنافلة بركعتين فقط ولا يحتاج إلى أربع ركعات ، فيقال حينئذ : انه هل يكفي في سقوط الأمر بالنافلة الإتيان بركعتين بقصد الغفيلة بدون قصد امتثال امر النافلة بدعوى كفاية إضافة الفعل إلى المولى من طريق الأمر بالغفيلة في امتثال الأمر بالنافلة فتحتسب الركعتان غفيلة ونافلة ، أو لا يكفي في سقوطه إلاّ بقصد امتثال الأمر بالنافلة؟ ، فلا تحتسب الركعتان الا عن الغفيلة لقصدها بخصوصها. ولا يخفى ان الكلام يبتني على ان لا يكون عنوان النافلة من العناوين القصدية كعنوان التعظيم ، بل من العناوين الواقعية المتحققة بذات العمل ، فانه لو كان من العناوين القصدية لا يتحقق امتثال أمرها بدون قصدها لعدم تحقق متعلق الأمر - أعني النافلة - بدون قصده ، بخلاف ما لو كان من العناوين الواقعية ، فان المتعلق حاصل وان لم يقصد وانما الإشكال في تحقق الامتثال به بدون قصد امره ، كما انه يبتني على عدم استظهار إرادة فردين من الدليل لا فرد واحد ، وإلاّ لم يصح التداخل. فلاحظ.

المورد الثاني : موارد توهم الأمر والإتيان بالفعل بداعي الأمر المتوهم ، كما لو تخيل انقضاء الوقت فصلى بنية القضاء ثم تبين ان الوقت باق وانه لا أمر بالقضاء ، فهل تكفي صلاته بنية القضاء في سقوط الأمر بالأداء أو لا تكفي؟.

اما مورد تعدد الأمر والإتيان بالفعل بداعي امتثال أحد الأمرين فلا إشكال في كونه مسقطا للأمر الثاني غير المقصود امتثاله ، لأن الفعل المأتي به متوفر على جوانب العبادية ومحققاتها على أي بناء في تحقق العبادة ، سواء قلنا بكفاية تعنون المأتي به بعنوان حسن في العبادية والمقربية أو اعتبرنا إضافته إلى المولى. فانه مضافا إلى كونه متعنونا بعنوان حسن وهو عنوان تبعية المولى

ص: 483

وإطاعته وموافقة أوامره مضاف إلى المولى ومرتبط به ، لأنه قد أتى به بداعي امتثال امره ، فهو مقرب وعبادة بلا كلام ، ولا يخفى ان الأمر العبادي ما يسقط بالإتيان بمتعلقه بنحو عبادي وقربي ، فيسقط الأمر الثاني غير المقصود ، إذ قد جيء بمتعلقه بنحو عبادي وقربي وان لم يربط بالمولى من طريقه ولا دليل على أكثر من ذلك.

واما مورد توهم الأمر ، فحيث ان الأمر المقصود امتثاله لا وجود له فلا يتعنون الفعل بعنوان موافقة الأمر ولا يكون الفعل في نفسه ذا عنوان حسن ولا يكون في البين سوى صفة الانقياد الحسنة ، فان قلنا بان الانقياد من صفات الفعل فيكون الفعل به حسنا ، اكتفي بالفعل في امتثال الأمر الموجود غير المقصود لوقوعه بنحو عبادي مقرب ، فيكون قد أتى بمتعلق الأمر بنحو عبادي. واما إذا قلنا - كما هو الحق على ما عرفت - بان الانقياد من صفات الفاعل لا الفعل لم يكن الفعل بنفسه عباديا ومقربا ، فلا يكفي في سقوط الأمر فلاحظ جيدا وتدبر.

هذا تمام الكلام في الواجب التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول - أعني ما لا يسقط الأمر به إلا بالإتيان به بقصد القربة ويقابله التوصلي -.

ويقع الكلام فعلا في التعبدي بالمعنى الثاني ، وهو ما أشرنا إليه في صدر المبحث من : انه ما لا يسقط به الأمر إلا بالمباشرة وان يكون عن إرادة واختيار. وان لا يكون بفعل محرم. ويقابله التوصلي وهو ما يسقط به الأمر ولو لم يكن بالمباشرة ، أو عن إرادة واختيار. أو بفعل غير محرم. وموضوع الكلام هو ان مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة ، أو الإرادية أو عدم تحققه بفعل محرم أو لا؟ ، فيقع الكلام في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في ان مقتضى الأصل الأولي في الواجب هل هو المباشرة فلا يسقط الأمر بفعل الغير أو لا؟.

ص: 484

وهذه الجهة لم تنقح في كلام الاعلام بالنحو اللازم ، وقد وقع الخلط في كلامهم بين ما يرتبط بها وما لا يرتبط ، ولا بد من تحقيق النيابة قبل التعرض لأصل الكلام في لزوم المباشرة وجواز الاستنابة. وتحقيق الحال في النيابة بنحو تعرف وجه الغموض الّذي سنشير إليه في كلمات بعض الاعلام : ان الكلام فيما يرتبط بالنيابة ..

تارة : يوقع في معنى النيابة وبيان حقيقة كون الشخص نائبا عن الآخر. فهل النيابة تنزيل الشخص النائب نفسه منزلة المنوب عنه فيكون وجودا تنزيليا للمنوب عنه؟ ، أو انها تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه؟. أو انها لا ترتبط بالتنزيل ، بل هي عبارة عن الإتيان بالعمل بداعي ترتب آثاره الوضعيّة والتكليفية في حق المنوب عنه كالإتيان بالصلاة بداعي ترتب سقوط الأمر المتعلق بالمنوب عنه أو ترتب حصول الثواب عليه للمنوب عنه أو نحو ذلك؟.

ولا يخفى ان تحقيق معنى النيابة واختيار أحد هذه المعاني لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ، بل الكلام فيما نحن فيه من كون الأصل صحة النيابة في الفعل الواجب وعدمها جار على جميع هذه التقارير في معنى النيابة ، فلا يهمنا فعلا تحقيق ذلك فله محل آخر.

وأخرى : يوقع الكلام في ان ظاهر الدليل المتكفل للأمر بشيء هل تعلق الأمر بالفعل أعم من ان يوجده المكلف مباشرة وتسبيبا أو لا؟. وقبل إيضاح ذلك نشير إلى شيء وهو ان الأفعال التسبيبية الصادرة من غير المسبب على نحوين :

نحو ينسب إلى المسبب ، كما ينسب إلى الفاعل على حد سواء كالقتل ، فانه لو سبب شخص ان يقتل آخر شخصا ، فانه يقال عرفا أنه قتل ذلك الشخص كما يقال ذلك لمن باشر القتل. ومثل هذا على قسمين : الأول : ما يكون له ظهور - ولو بواسطة القرينة العامة - في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء

ص: 485

والخياطة ونحوهما ، فان إطلاقهما ظاهر في إرادة التسبيب لا المباشرة. والآخر : ما لا ظهور له في ذلك كالقتل فانه لا ينصرف إلى القتل التسبيبي.

ونحو لا ينسب إلى المسبب مهما ضعفت إرادة الفاعل وقويت إرادة المسبب كالأكل والمشي ، فانه لو سبب زيد ان يمشي عمرو أو يأكل بنحو أكيد وشديد بحيث كان عمرو مسلوب الإرادة تقريبا ، فلا يقال عن زيد انه مشى أو أكل ، بل ينسب الفعل إلى الفاعل فقط.

فالأفعال التسبيبية على نحوين : ما ينسب إلى المسبب كما ينسب إلى المباشر. وما لا ينسب إلى المسبب وهذا امر عرفي واضح. ولو لا خوف حصول التطويل لأشرنا إلى ضابط كل نحو من الأفعال.

وعلى كل فكل فعل يمكن ان يكلف به الشخص بنحو المباشرة وعلى ان يأتي به بنفسه ، ويمكن ان يكلف به أعم من المباشرة والتسبيب بان يكلف بإيجاد هذا الأمر في الخارج سواء بنفسه أو بتسبيبه لحصوله من الغير. فان إمكان صدور الفعل من الغير بتسبيبه بحيث يكون لتسبيبه جهة دخل في حصول الفعل ولولاه لما حصل ، يصحح تعلق الحكم بفعل الغير بلحاظ هذا المعنى.

فيقع الكلام في ان مقتضى الدليل الأولي هل هو تعلق الحكم بالفعل المباشري أو الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. ويظهر مما ذكرنا ان ثبوت سقوط التكليف بالفعل التسبيبي الصادر من الغير مرجعه إلى كون الواجب أمرا تخييريا مرددا بين فعل الشخص مباشرة والفعل تسبيبا ، فيصير المورد من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأن الفعل التسبيبي إذا كان محصلا للغرض فلا وجه لتعيين الفعل المباشري على المكلف.

ولكن المحقق النائيني قدس سره نفي ذلك بوجهين :

الأول : ان الاستنابة إذا كانت طرفا للوجوب التخييري كان مقتضى ذلك سقوط الوجوب بمجرد الاستنابة ، وهو باطل جزما لعدم فراغ ذمة الولي

ص: 486

بمجرد الاستنابة قطعا.

الثاني : ان الإجماع قام على جواز التبرع في كل ما تدخله النيابة ، ولا معنى لكون فعل الغير من أطراف الوجوب التخييري (1).

ويرد على الأول : ان طرق التخيير ليس هو الاستنابة ، بل فعل الغير الصادر بتسبيب المكلف ، فلا يسقط التكليف بمجرد الاستنابة.

ويرد على الثاني : ان فعل الغير تبرعا إذا كان مسقطا يكون من مصاديق سقوط الواجب بغيره ، وهو ليس ممتنعا ، بل قد التزم بسقوط وجوب الصلاة على الميت بفعل الصبي المميز. وذلك لا ينافي كون الفعل التسبيبي طرفا للوجوب التخييري.

ثم لا يخفى عليك ان محل الكلام في دوران الأمر بين المباشرة أو الأعم منها ومن التسبيب انما هو في غير القسم الأول من أقسام الأفعال التي أشرنا إليها مثل البناء ، لأن هذا القسم عرفت ان الظهور الأولي فيه ما يعم الفعل التسبيبي فلا شك فيه كما لا يتأتى في القسم الثالث إذ أضيفت المادة إلى المكلف مثل : « كل » و: « قم » لأن فعل الغير لا يسند بحال إلى المكلف فلا معنى للتخيير فيه إذا كان المطلوب أكل وقيام المكلف نفسه وانما يقع البحث في هذا القسم إذا لم يتعلق التكليف بالمادة المضافة إلى المكلف ، بل توجه التكليف إلى الشخص بإيجاد المادة بلا إضافتها إليه ، كما لو قال المولى : « أريد منك إيجاد أكل هذا الطعام » ، فانه كما يتحقق بالإيجاد المباشري يتحقق بالإيجاد التسبيبي كما يقع في القسم الثاني وهو ما ينسب إلى المكلف مع التسبيب لكن لا ظهور له أوليا في الأعم منه كالقتل. فمحل الشك هذان القسمان وقد عرفت رجوع الشك إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ص: 487


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 98 - الطبعة الأولى.

ولا يخفى ان صحة التسبيب وإسقاطه الأمر ولو دل الدليل عليها لا يقتضي سقوط الأمر بفعل الغير تبرعا وبدون تسبيب ، بدعوى ان صحة السبب تكشف عن ان المصلحة تتحقق بمجرد حصول الفعل في الخارج من أي شخص كان.

وذلك لإمكان ان لا تتقوم المصلحة بنفس الفعل وذاته بل بالفعل المستند وجوده إلى هذا الشخص بنحو استناد ، اما بالمباشرة أو بالتسبيب. فإذا دل الدليل على إجزاء فعل الغير عن تسبيب فلا يلازم اجزاء فعل الغير لا عن تسبيب ، بل تبرعا لعدم استناده إلى المكلف ، وإمكان تقوم المصلحة بجهة استناد وجود الفعل إليه.

كما انه لا ملازمة بين صحة التسبيب وبين صحة النيابة في الفعل ، فإذا دل الدليل على إجزاء التسبيب فلا دلالة له على اجزاء الاستنابة ، وذلك لأن جواز التسبيب يقتضي إجزاء فعل الغير وسقوط الأمر به إذا وقع عن تسبيب إليه ، ومن الظاهر ان الغير لا يقصد بفعله النيابة عن المسبب ، بل يأتي بالفعل استقلالا فيسقط الأمر بمجرد ذلك. ومن المعلوم انه لا يكفي في باب النيابة مجرد إتيان الغير بالفعل ، بل لا بد من انضمام خصوصية قصد النيابة - بأي معنى فسرنا النيابة - إليه ، فإتيان الفعل لا يكفي في سقوط الأمر - في باب النيابة - ، بل يعتبر ان يكون الإتيان به مع القصد الخاصّ في سقوط الأمر. وعليه فباب النيابة غير باب تعلق الأمر بالفعل أعم من المباشري والتسبيبي.

وانما النيابة عبارة عن الإتيان بالفعل بقصد خاص ، فيقع الكلام في ان مقتضى الأصل الأولي والدليل المتكفل لثبوت الحكم للفعل هل هو عدم سقوطه إلا بفعل الشخص نفسه أو يسقط بفعل الغير مع القصد الخاصّ؟.

وليعلم انه إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فلا ملازمة بينها وبين صحة مطلق النيابة ، فلا يدل على سقوط الأمر بفعل الغير بقصد النيابة تبرعا وبدون

ص: 488

تسبيب ، وذلك لجواز ان يكون الغرض الحاصل بهذا الفعل لا يتقوم بذات الفعل مع القصد الخاصّ ، بل انما يحصل بالفعل الخاصّ المستند إلى المكلف بنحو استناد كالتسبيب ، فدلالة الدليل على صحة الاستنابة لا تلازم دلالته على صحة النيابة مطلقا ولو تبرعا لإمكان دخل جهة التسبيب في تحقق المصلحة وحصول الغرض ، فيكون الغرض حاصلا بفعل الشخص أو بفعل الغير الخاصّ عن تسبيب إليه دون غير ذلك.

ومن هنا يعلم ان باب النيابة يرجع إلى ان الغرض من الأمر يتحقق بالفعل الصادر عن الغير بقصد النيابة ، إما مطلقا ولو لم يكن عن تسبيب لو دل الدليل على صحة النيابة بقول مطلق. أو في خصوص ما إذا كان عن تسبيب لو دل الدليل على صحة الاستنابة فقط. ولكن النيابة في كلا الموردين لا يمكن إرجاعها إلى الوجوب التخييري.

اما المورد الأول : وهو ما كان الغرض يحصل بالفعل الصادر من الغير بقصد النيابة ولو لم يكن عن تسبيب ، فلان فعل الغير بهذه الخصوصية إذا كان وافيا بالملاك ومحصلا للغرض على نحو فعل الشخص نفسه وبحده بحيث لم يختلفا في شيء من ذلك كي يتحقق ملاك الوجوب التخييري بينه وبين فعل الشخص عن استنابة ، لزم ان يتوجه الأمر لذلك الغير بالفعل بالقصد الخاصّ لكونه محصلا للغرض ووافيا بالملاك ، فلا وجه لعدم تعلق الأمر به أيضا كما تعلق بنفس الشخص. ومن البديهي ان الأمر لا يتعلق بالغير بالإتيان بالفعل النيابي وهو مما يكشف عن ان الفعل النيابي وان كان محصلا للغرض ومسقطا للأمر لكنه بنحو لا يستلزم تعلق الأمر به وقاصر عن جعله أهلا للأمر ، اما لوجود المانع أو لقصور المقتضي نفسه. وعليه فكونه مسقطا للأمر ومحصلا للغرض لا يستلزم أهليته لتعلق الأمر ، وعليه فقيام الدليل على النيابة مطلقا لا تكشف عن كون الاستنابة أحد طرفي الوجوب التخييري وتعلق الأمر التخييري بالفعل والاستنابة ، بل

ص: 489

غاية ما يدل عليه الدليل كفاية الاستنابة في حصول الغرض وسقوط الأمر ولا ملازمة بين ذلك وبين علّية الغرض الحاصل ، للأمر التخييري بها. وعليه فإرجاع النيابة إلى الوجوب التخييري لا وجه له ولا دليل عليه.

واما المورد الثاني : وهو ما إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فقط لا مطلق النيابة ، فلأنه وان لم يستكشف كون الغرض بنحو غير مؤهل لتعلق الأمر ، إلاّ ان الالتزام بان فعل الغير التسبيبي متعلقا للأمر التخييري وكونه عدلا لفعل الشخص نفسه وفي عرضه ينافي قصد النيابة فيه. لأن النيابة كما عرفت عبارة عن تنزيل النائب نفسه أو عمله منزلة نفس المنوب عنه أو عمله. أو عبارة عن الإتيان بالفعل بداعي ترتب آثاره في حق المنوب عنه ، ولا يخفى ان قصد هذه المعاني يتوقف على ان يكون الأمر متعلقا بخصوص فعل الشخص كي ينزل عمل آخر منزلته أو شخص آخر منزلة المكلف أو الإتيان بعمل بداعي ترتب آثاره في حق غير الفاعل وهو المنوب عنه ، اما إذا كان الأمر متعلقا بنفس الفعل النيابي ، فلا معنى للإتيان به بهذه القصود لأن فعل المنوب عنه مأخوذ في موضوع الفعل النيابي الّذي يستلزم كونه واجبا ومتعلقا للأمر في حال النيابة ، بحيث يكون الداعي للنيابة إسقاط الأمر المتعلق به ، فيمتنع ان يكون الفعل النيابي عدلا له وفي عرضه ، إذ معنى ذلك انه لو جيء بالفعل النيابي كان فعل المنوب عنه غير واجب أصلا وهو خلف الفرض.

وبالجملة : النيابة في طول تعلق الأمر بفعل المنوب عنه ، فيمتنع ان تؤخذ عدلا له وفي عرضه كما هو شأن الواجب التخييري.

والمتحصل : انه لا يمكن إرجاع الاستنابة - والمقصود منها عمل الغير الخاصّ التسبيبي - إلى الواجب التخييري في كلا الموردين ، بل الدليل الدال على صحة النيابة أو الاستنابة انما يدل على ترتب الغرض على عمل الغير النيابي مطلقا أو مع التسبيب إليه.

ص: 490

وعليه ، فمع الشك في صحة النيابة أو الاستنابة لا يرجع ذلك إلى الشك في التعيين والتخيير ، بل يرجع ذلك إلى ان الغرض الباعث للأمر هل يتحقق بالفعل النيابي مطلقا أو عن تسبيب ، فيسقط الأمر به أو لا يتحقق فلا يسقط الأمر به؟. ومن الواضح ان دليل الحكم لا نظر له إلى هذه الجهة كي تنفي بإطلاقه أو لا تنفي. ولا يرتبط مدلوله بالمشكوك بالمرة ، فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي ، وهو يقتضي عدم صحة النيابة ، لأنه يشك بالفعل النيابي في سقوط الأمر لحصول الغرض وعدم سقوطه لعدم حصول غرضه ، فلا يجزم بحصول الامتثال بالفعل النيابي ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم الإتيان بالعمل مباشرة لتحصيل العلم بالامتثال. فلاحظ.

هذا تحقيق الكلام في المقام فيما يرتبط بالنيابة والاستنابة.

وقد نهج المحقق النائيني قدس سره في تحقيقه نحوا آخر من البيان لا يخلو عن مؤاخذات. وهي : - مضافا إلى ما تعرض إليه من ذكر احتمالات النيابة وبناء المسألة عليها ، إذ قد عرفت ان تحقيق الكلام في النيابة ومقتضى الأصل فيها لا يختلف فيه الحال على جميع احتمالات النيابة ، فالكلام في معنى النيابة وتحقيقه له مجال آخر غير ما نحن بصدده من تحقيق ما يقتضيه الأصل في النيابة - في موارد متعددة من كلامه :

الأول : ما أفاده من امتناع إرجاع الاستنابة إلى تعلق التكليف بالعمل من المكلف ، أعم من المباشرة والتسبيب. بتقريب : ان عمل الغير لا يعد عملا تسبيبيا للمستنيب مع كون النائب ذا إرادة تامة مستقلة ، بل العمل عمل النائب والحال هذه ، وليس للمستنيب غير التسبيب وهو غير الواجب ، نعم انما يستند عمل الغير إلى المسبب فيما إذا لم يكن للمباشرة إرادة أصلا أو كانت له ولكن كانت ضعيفة جدا بحيث يعد العمل عملا للمسبب ، كعمل المجانين والصبيان

ص: 491

الّذي يكون عن تسبيب المكلف (1).

وتتضح المؤاخذة في هذا التقريب بما عرفت : من ان المناط في استناد العمل إلى الشخص المسبب ونسبته إليه ليس عدم توسط إرادة مستقلة من المباشر.

إذ هناك من الأفعال ما لا يصح استناده إلى المسبب وان لم يكن المباشر بذي إرادة أصلا ، أو كان ذا إرادة ضعيفة جدا بحيث تلحق بعدم الإرادة ، كالأكل والمشي ونحوهما من الأفعال والأسباب ، فانه لو سبب شخص ان يأكل مجنون لا يقال عن المسبب انه أكل كما هو واضح جدا.

كما ان هناك من الأفعال ما تصح نسبتها إلى المسبب كما تنسب إلى المباشر ، وان كان المباشر ذا إرادة تامة مستقلة ، كالإحراق والقتل ونحوهما من المسببات التوليدية.

فالمناط على الإسناد وعدمه ليس على توسط الإرادة وعدمها كما عرفت.

هذا مضافا إلى ان استناد وجود الفعل إلى تسبيب المسبب بحيث لو لا تسبيبه لم يحصل ، كاف في تعلق التكليف به وان لم ينسب الفعل إلى المكلف ولا يعد من أفعاله الاختيارية ، فيكلف العبد بإيجاد الفعل في الخارج بطريقه سواء كان بنفسه أو بإحداث الإرادة في نفس الغير المباشر فيأتي به بحيث لو لا تسبيبه لم يتحقق ، فان التكليف بمثل ذلك معقول لا محذور فيه وان لم يكن الفعل من افعال المكلف.

ويشهد لذلك صحة تعلق النذر بما لا يؤتى به مباشرة عادة ، بل بتوسط فعل الغير الإرادي ، ووجوب الوفاء به لاستتباعه التكليف ، كما لو نذر ان يبني مسجدا ، فان البناء لا يباشره المكلف المستنيب مع انه مكلف به.

ص: 492


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 97 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : التكليف لا يتقوم بنسبة الفعل المأمور به إلى المكلف ، بل يتقوم بتمكن المكلف من تحقيق هذا الفعل خارجا بتسبيبه اما بمال أو بغيره ، بحيث يستند وجوده خارجا إليه وان لم ينسب نفس الفعل إليه. فالتكليف بفعل الغير تسبيبا إليه جائز عقلا لتمكن المكلف من تحقيقه.

الثاني : ما أفاده قدس سره من عدم كون النيابة عبارة عن إيجاب العمل على المكلف ، أعم من بدنه الحقيقي أو التنزيلي ، بان ينزل النائب بدنه منزلة بدن المنوب عنه ، بتقريب : ان التنزيل المدعى مما لا يخطر ببال النائب والمستنيب أصلا (1).

وموضوع المؤاخذة في ذلك هو ما يظهر منه قدس سره من الالتزام بإمكان التكليف فيه بنحو التخيير على هذا المبنى وتأتيه لو لا فساده في نفسه ، باعتبار انه أمر على خلاف المرتكز العرفي في باب النيابة.

مع انه يمكن المناقشة فيه ، بان التكليف على هذا المبنى يتصور ثبوتا على نحوين :

الأول : ان يكون متعلقا بالوجود الحقيقي للمكلف وبالوجود التنزيلي له الّذي هو الوجود الحقيقي للنائب ، فيكون موضوعه كلا الشخصين على نحو الوجوب الكفائي.

ولا يخفى انه بهذا النحو خلاف فرض باب النيابة ورجوعها إلى التخيير في الواجب ، كما انه لا يلتزم به أحد حتى المحقق النائيني ، إذ ليس من يلتزم بان النيابة من باب الواجب الكفائي.

الثاني : ان يكون التكليف متعلقا بالشخص بوجوده الحقيقي ، لكن يطلب منه العمل أعم من الصادر عن وجوده الحقيقي أو وجوده التنزيلي فيرجع إلى

ص: 493


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 98 - الطبعة الأولى.

التخيير في الواجب.

ويرد عليه ما أورده قدس سره على التصوير الأول للنيابة من : ان فعل النائب الّذي هو وجود تنزيلي للمستنيب ليس فعلا اختياريا له كي يتعلق به تكليفه ، ومجرد التنزيل والادعاء لا يوجب اختياريته ، إذ لا يغير الواقع عما هو عليه فلاحظ.

الثالث : ما اختاره من ان النيابة عبارة عن تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه ، ثم إرجاعها إلى الوجوب التخييري.

فانه يرد عليه : بان فعل الغير إذا لم يكن اختياريا للمكلف - كما اختاره أولا - ، فتنزيل الغير عمله منزلة عمل المكلف المستنيب لا يصحح نسبة العمل إلى المنوب عنه ولا يوجب كونه عملا اختياريا له بعد فرض كون عمل الغير إراديا للغير ، إذ التنزيل لا يغير الواقع ولا يزيله عما هو عليه.

الرابع : ما ساقه لتحقيق المطلب بعد اختياره لمعنى النيابة بما عرفته من ان العمل الواجب على الولي فيه جهات ثلاثة :

الأولى : الوجوب التعييني من جهة المادة وهو نفس الصلاة مع قطع النّظر عن مصدره بمعنى ان المولى يريد أصل وجود الصلاة خارجا ولا تسقط بمجرد الاستنابة.

الثانية : التخيير من جهة المصدر ، بمعنى ان الولي مخير بين إصدارها بالمباشرة وبين الاستنابة.

الثالثة : الوجوب المشروط بعدم فعل الغير.

وبعد هذا أفاد انه مع الشك في سقوط الواجب بالاستنابة وعدمه ، فمرجع الشك إلى الشك في الوجوب التخييري من ناحية الإصدار. وهذا ينفى بظهور الخطاب في المباشرة ، لأن نفس توجه الخطاب إلى المكلف من دون تقييد يرفع الشك من هذه الجهة ، وادعى ان الظهور من هذه الجهة أقوى من ظهور

ص: 494

الصيغة في التعيين من جهة المادة (1).

والمؤاخذة في هذا الكلام من جهات :

الأولى : سوقه مثال وجوب القضاء على الولي لمورد الاستنابة ، فان المثال أجنبي عن مقام الاستنابة ، بل يرتبط بمقام المباشرة والتسبيب.

وذلك : لأن قد عرفت ان النيابة عبارة عن الإتيان بالفعل الواجب على الغير بقصد خاص ، لا الإتيان به مطلقا بدون قصد النيابة كما هو الحال في باب التسبيب ، فالاستنابة عبارة عن تسبيب خاص وهو التسبيب للفعل بقصد الخصوصية ، لا تسبيب مطلق الّذي يكفي فيه الإتيان بمجرد الفعل الواجب على المسبب.

والّذي يجب على الولي هو الإتيان بالصلاة بقصد النيابة عن الميت ، فالواجب عليه هو الفعل النيابي ، فإذا جاء غير الولي بالصلاة عن الميت بدلا عن الولي بتسبيب الولي فانما يأتي بنفس ما وجب على الولي - أعني الفعل النيابي - بلا ان يقصد فيه النيابة عن الولي ، فهو في الحقيقة نائب عن الميت ، غاية الأمر انه قام بالفعل الواجب على الولي ، فإتيان الغير بالصلاة نائب عن الميت بدلا عن الولي ليس من باب النيابة عن الولي لعدم اعتبار قصد خصوصية النيابة عن الولي في الفعل ، بل من باب التسبيب بلحاظ ان الواجب على الولي الفعل النيابي أعم من المباشري والتسبيبي. وعليه فالشك في إجزاء إتيان الغير به عن تسبيب لا يرجع إلى الشك في صحة الاستنابة فيه وان الواجب هل هو خصوص الإتيان به مباشرة أو انه مخير بين المباشرة والاستنابة؟. بل يرجع إلى الشك في صحة التسبيب وان الواجب هل هو خصوص الفعل المباشري أو انه الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. والدليل الدال على صحة إتيان غير الولي لا

ص: 495


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 98 - الطبعة الأولى.

يدل على التخيير بين المباشرة والاستنابة ، بل يدل على التخيير بين المباشرة والتسبيب.

والخلاصة انه ليس المثال من أمثلة موارد الشك في الاستنابة ، بل من أمثلة موارد الشك في التسبيب ، إذ لا يعتبر في فعل الغير أكثر من الواجب على المسبب المكلف به. نعم لا بد على الغير من قصد النيابة عن الميت ، لكنه باعتبار كونها دخيلة فيما يجب على الولي فإيراد المثال للشك في الاستنابة غير سديد ، ولعل منشأ الاشتباه هو اعتبار قصد النيابة في فعل النائب والغفلة عن انه معتبر في فعل الولي نفسه أيضا.

الثانية : ما ذكره من اشتمال التكليف النيابي على التخيير من جهة الإصدار ، وان المطلوب هو المادة سواء كانت منه مباشرة أو من غيره بنحو الاستنابة.

فانه يرد عليه : ان التكليف اما ان يتعلق بكلا الشخصين ، بمعنى ان يكون كل من المستنيب والنائب موضوعا للتكليف. أو انه يتعلق بخصوص المستنيب لكنه مخير شرعا بين الإتيان به بنفسه أو بالاستنابة.

فالفرض الأول يرجع إلى الوجوب الكفائي ، وهو مضافا إلى عدم تناسبه ، مع التعبير بالتخيير مما لا يلتزم به أحد في باب النيابة ، إذ لا يلتزم بان الفعل يجب كفاية على النائب بالاستنابة. نعم هو يجب عليه بالوجوب الاستيجاري وهو غير الوجوب الكفائي.

والفرض الثاني يتنافى مع ما تقدم منه من ان فعل الغير الإرادي غير قابل لتعلق التكليف به لعدم كونه فعل الشخص ، فلا معنى - بناء على هذا - من توجه التكليف إليه بالإصدار ، اما بالإصدار مباشرة أو بالإصدار من الغير عن تسبيب واستنابة.

الثالثة : ما أفاده من ظهور اعتبار المباشرة من نفس توجه الخطاب إلى

ص: 496

المكلف.

فانه غير سديد ، وذلك لأن توجه الخطاب إلى المكلف أمر يشترك فيه الوجوب التعييني والتخييري ، فان الخطاب في كل منهما متوجه إلى المكلف خاصة والتكليف متعلق به بخصوصه ، إلا أنه تارة : يكون محركا نحو امر واحد معين.

وأخرى : نحو امرين على سبيل التخيير ، فنفس توجه الخطاب إليه - على هذا - لا يدل على تعيين الفعل عليه مباشرة ونفي التخيير بعد فرض ان كلا الفعلين يسندان إليه وانه يمكن ان يكون مخيرا بين الإصدار بنفسه والإصدار بالواسطة ، لأن الخطاب في الواجب التخييري متوجه إلى المكلف أيضا. فغاية ما يظهر فيه توجيه الخطاب هو تعيين التكليف عليه ولزوم إتيانه بالفعل واما إتيانه بنحو المباشرة أو بنحوها ونحو التسبيب ، فهو خارج عن ظهور الخطاب. نعم توجيه الخطاب إليه ينافي الوجوب الكفائي لعدم توجه الخطاب إلى أحدهما خاصة فيه ، لكنه غير الفرض وليس بمفروض في المقام.

وبالجملة : فدعوى ظهور توجيه الخطاب في تعيين المباشرة غير وجيهة.

ودعوى : ظهور ذلك عرفا كما يشهد بذلك ملاحظة موارد استعمال الجملة الخبرية ، فإذا قيل : « صام زيد أو صلّى ». فانه لا إشكال في ظهورها في صدور الفعل منه مباشرة وبنفسه ، فكذلك الجملة الإنشائية ، فإذا قيل : « صم أو صلّ » كانت ظاهرة في طلب الصيام أو الصلاة منه بنفسه. فليس ما ذكر جزافا ، بل له شاهد عرفي لا ينكر.

مندفعة : بما تقدم من بيان اختلاف الأفعال وأنها على أقسام ، فالاستشهاد على ظهور اسناد الفعل في إرادة المباشرة ببعض الأمثلة على حكم مطلق الأفعال في غير محله ، فان الأمثلة المسوقة من قبيل ما لا ينسب إلى الشخص المسبب بالمرة مثل الأكل ، وهي لا تكون قرينة على غيرها مما عرفت نسبتها إلى المسبب كالقتل ، بل عرفت ظهور بعضها في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء. هذا

ص: 497

مع ما تقدم من ان الأفعال التي لا تنسب إلى المسبب داخلة في محل الكلام إذا تعلق الأمر بوجود الطبيعة من دون إضافة إلى المكلف ، كما لو قال : « يجب عليك إيجاد الصلاة أو الأكل ». فانه كما يصدق على الإيجاد المباشري يصدق على الإيجاد التسبيبي.

وبالجملة : الأمثلة المسوقة أمثلة لما هو خارج عن موضوع البحث فلا تصلح شاهدا عليه. فلاحظ.

وتندفع أيضا : بوجود الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية الطلبية باشتمال الجملة الخبرية على خصوصية تستدعي الظهور المذكور. وذلك لأن هيئة الفعل الماضي أو المضارع تدل على النسبة الصدورية والربط الخاصّ الصدوري بين الفاعل والفعل ، وهذا الربط يلازم صدور الفعل منه نظير هيئة الإضافة مثل : « صوم زيد » ، فان الإضافة تدل على ربط خاص ونسبة مخصوصة تلازم صدور الفعل من الفاعل. وليس كذلك الجملة الإنشائية الطلبية ، إذ غاية ما تدل عليه هي النسبة الطلبية بين الآمر والمأمور به والمأمور الملازمة للبعث نحو الفعل والتحريك نحوه. اما نسبة الفعل إلى المأمور الفاعل فلا تتكفله هيئة الطلب ، فلا دلالة لها إلا على توجه الخطاب للمكلف لأنه طرف النسبة ، اما كيفية الفعل والإصدار فهو أجنبي عن مفاد الكلام. فالفرق بين الموردين واضح.

وعليه ، فالدعوى بظهور خطاب الأمر في إرادة الفعل المباشري غير خالية عن الخدشة.

ويقع الكلام بعد ذلك في موضوعه ، وهو ان مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة أو انه لا يقتضيها فيسقط بفعل الغير عن تسبيب ، أو لا عن تسبيب بل عن تبرع من الغير؟ ، بلا نظر إلى النيابة ، بل الكلام في مسقطية إتيان الغير بنفس الفعل الواجب كأداء الدين وغسل الثوب ونحوه.

والبحث في مقامين :

ص: 498

المقام الأول : في مقتضى الأصل اللفظي.

فنقول : انه ان تصورنا إمكان تعلق الحكم بفعل الغير التسبيبي بحيث يمكن التخيير شرعا بينه وبين الفعل المباشري ، بالتقريب الّذي قدمناه من استناد الوجود إلى المسبب وان لم ينسب إليه الفعل ، كان الشك في اعتبار المباشرة أو عدم اعتبارها من الشك في التعيين والتخيير ، لأنه يشك في تعلق التكليف بخصوص الفعل المباشري أو به وبالفعل التسبيبي بنحو التخيير بينهما ، وقد تقرر في محله - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - انه مع دوران الأمر بين التعيين والتخيير فالإطلاق يقتضي التعيين ونفي التخيير ، ولا كلام فيه.

وان لم نلتزم بإمكان التخيير بين فعل الشخص وفعل الغير التسبيبي ، كما لا يلتزم بإمكانه بينه وبين فعل الغير التبرعي فمرجع سقوط الوجوب عن الشخص بفعل الغير - على تقدير قيام الدليل عليه - ليس هو أخذه بنحو الواجب التخييري وكونه عدلا للوجوب ، بل إلى انه محقق لملاك الحكم ومحصل لغرضه فيسقط الأمر لحصول غرضه وتبعية وجوده للغرض كما لا يخفى. وعليه فمع إتيان الغير بالفعل يشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه ، ومقتضى إطلاق الدليل ، ثبوت التكليف مطلقا حتى في حال إتيان الغير بالفعل ، فالإطلاق يقتضي المباشرة. وعدم كفاية التسبيب أو التبرع من الغير.

والمقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي.

اما في المورد الأول - أعني ما كان الشك فيه من الشك في التعيين والتخيير - : فحيث انه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فهو يتبع ما يختار في تلك المسألة من أصالة البراءة أو الاحتياط. والّذي ثبت بالتحقيق هو اختيار الاحتياط الّذي يقضي بالتعيين وعدم كفاية الفعل الآخر المشكوك.

وعلى كل ، فالجزم به هنا تابع لما يجزم به في تلك المسألة ، فان المورد من مصاديقها.

ص: 499

واما المورد الثاني : فهل يتبع في الأصل مسألة التعيين والتخيير ، أو انه مجرى البراءة ولو كانت تلك المسألة مجرى الاحتياط؟ أو يجري فيه الاحتياط ولو كانت تلك المسألة مجرى البراءة؟. احتمالات ثلاثة. وتحقيق الكلام يقتضي بيان الفرق الموضوعي بين المسألتين ليتضح مقدار ارتباط إحداهما بالأخرى وعدم ارتباطهما.

فنقول : ان عمدة ما قيل في حقيقة الوجوب التخييري وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون وجوب كل من الفعلين مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، بحيث يكشف الإتيان بأحدهما عن عدم وجوب الآخر واقعا ومن أول الأمر.

الثاني : ان يكون متعلق الوجوب عنوان : « أحدهما » ، وهو جامع انتزاعي ينطبق على كل من الفعلين.

الثالث : ان يكون كل منهما متعلقا لوجوب خاص ومرتبة خاصة من الإرادة وسط بين الوجوب التعييني الّذي لا يجوز ترك متعلقه ولو إلى بدل ، والاستحباب الّذي يجوز ترك متعلقه مطلقا ولو لا إلى بدل.

تقتضي هذه المرتبة عدم جواز الترك إلا إلى بدل ، فهو يختلف عن الوجوب التعييني سنخا وهكذا عن الاستحباب.

وهذا اختيار صاحب الكفاية (1). الّذي أورد عليه : بأنه خروج عن محل الكلام في الوجوب التخييري (2) ، إذ المقصود تعيين ذلك السنخ وتلك المرتبة ، وقد بينا في محله عدم تمامية الإيراد. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في محله.

ولا يخفى ان ما نحن فيه يختلف موضوعا عن الوجوب التخييري بكل معانيه المتصورة الثلاثة ، إذ ليس متعلق الوجوب فيه هو عنوان أحدهما والجامع

ص: 500


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /141- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 254 - الطبعة الأولى.

الانتزاعي ، بل متعلقه نفس الفعل بعنوانه الخاصّ.

كما انه ليس الفعل متعلقا لسنخ وجوب لا يمنع من الترك إلى بدل ، إذ لا عدل له ولا بدل كما هو الفرض. وسيجيء تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

كما ان وجوبه ليس مشروطا بعدم فعل الآخر فانه وان أمكن تصور ذلك ثبوتا بان يكون وجوب الفعل على الشخص مشروطا بعدم فعل الغير له بحيث لو فعله الغير كشف عن عدم تعلق الوجوب بالشخص أصلا ومن أول الأمر ، لكنه مجرد تصور وخلاف الفرض ، فان المفروض كون فعل الغير له شأنية إسقاط التكليف عن الشخص لا بيان عدم وجوده ، فلا بد من فرض ثبوت التكليف على الشخص ثم يسقط بفعل الغير.

كما انه لا يلتزم بذلك أحد في مورد الثابت ، فلا يلتزم أحد بان قيام شخص بوفاء دين الآخر كاشف عن عدم توجه التكليف للآخر في الواقع ، إذ من البديهي تعلق التكليف به قبل وفاء الغير كما لا يخفى ، وعليه فالالتزام بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير على المسالك الثلاثة ..

بتقريبها على المسلك الأول بأنه مع الإتيان بالفعل الآخر يشك في أصل ثبوت الوجوب ، فهو شك في التكليف وهو مجرى البراءة.

وبتقريبها على المسلك الثاني بان التكليف متعلق بالجامع والخصوصية مشكوكة ، فهو القدر المتيقن وان نوقش فيه بأن تعلق التكليف بالجامع غير متيقن والتردد في تعلق الأمر بهذه الخصوصية أو بالجامع فلا تجري البراءة.

وبتقريبها على المسلك الثالث بان البراءة كما تجري في مورد الشك في زيادة التكليف تجري أيضا في مورد الشك في كيفيته ونحوه. وعلى كل فالالتزام بالبراءة هناك لا يستلزم الالتزام بالبراءة هنا ، لاختلاف الموردين موضوعا ، ولعدم جريان كل تقريب من هذه التقريبات هنا كما لا يخفى. فيرجع الشك هاهنا إلى الشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه به وهو مجرى الاستصحاب أو

ص: 501

الاشتغال لا البراءة ، إذ ليس الشك في أصل التكليف ، وبهذا التزم المحقق النائيني (1). وبعكسه تماما التزم المحقق العراقي فذهب إلى كون المورد مجرى البراءة وان التزم بالاحتياط في مورد الشك في التعيين والتخيير. وذلك ببيان : ان منشأ القول بالاحتياط في مقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو وجود العلم الإجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة - مثلا - مطلقا ولو مع صلاة الجمعة ، واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ، ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به الفراغ اليقيني وهو صلاة الظهر. وهذا العلم الإجمالي غير موجود فيما نحن فيه ، لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا الفعل لعدم كون الفعل الآخر - أعني فعل الغير - عدلا له ، لأنه ليس مقدورا له. وحيث انه يعلم بأنه مخاطب بالفعل في حال ترك الغير له ويشك في وجوبه عليه في حال إتيان الغير به فله ان يجري البراءة في حال إتيان الغير به ولا يلزمه الإتيان بالفعل لأصالة البراءة من وجوبه عليه (2).

ويقع الكلام معه في نقطتين :

إحداهما : في تقريبه جريان الاحتياط في مسألة الشك في التعيين والتخيير بوجود العلم الإجمالي ، فانه غير وجيه ، وذلك : لأن طرف العلم الإجمالي ليس هو أصل وجوب صلاة الظهر للعلم التفصيليّ بوجوبها اما تخييرا أو تعيينا ، وانما طرفه هو إطلاق وجوب صلاة الظهر كما بيّنه قدس سره وشموله لصورة الإتيان بصلاة الجمعة ، فانه يعلم إجمالا اما بوجوب صلاة الظهر مطلقا أو وجوب صلاة الجمعة عند ترك الظهر ، فطرفا العلم الإجمالي في الحقيقة هما وجوب الجمعة عند ترك الظهر ووجوب الظهر عند الإتيان بالجمعة ، وهذا العلم الإجمالي غير مجد

ص: 502


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 99 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 248 - الطبعة الأولى.

في الالتزام بصلاة الظهر. وذلك لأنه اما ان يلاحظ فيه ظرف فعلية المعلوم وهو حال الإتيان بصلاة الجمعة أو يلاحظ فيه ظرفه بمعنى انه يلحظ قبل الإتيان بإحدى الصلاتين ، فالمكلف يعلم فعلا بوجوب الجمعة أو الظهر على تقدير الإتيان بالجمعة ، فان لوحظ فيه ظرف فعلية المعلوم - أعني ظرف الإتيان بالجمعة بحيث يكون الظهر فعلي الوجوب - لو كان الوجوب تعيينيا - لا تقديري الوجوب ، كما كان قبل الإتيان به - ان لوحظ في هذا الظرف - فهو غير منجز لأن أحد أطرافه خرج عن محل الابتلاء للإتيان به ، فلا يكون العلم الإجمالي الحاصل بعد الإتيان بصلاة الجمعة بوجوبها أو وجوب الظهر منجزا ، لأن أحد طرفيه لا بعث نحوه ولا تكليف فعليا بالنسبة إليه. وان لوحظ فيه ظرفه وقبل الإتيان بصلاة الجمعة ، فهو أيضا غير منجز ، لأن تنجيز العلم الإجمالي انما يتكلم فيه ويحقق في المورد الّذي يمكن ان تكون له مخالفة قطعية ، اما الّذي ليس له مخالفة قطعية فلا يكون منجزا ، والعلم الإجمالي المذكور لا مخالفة قطعية فيه ، لأنه ان جاء بصلاة الجمعة فترك الظهر يكون مخالفة احتمالية لأنه قد جاء بأحد طرفي العلم الإجمالي ، وان لم يأت بصلاة الجمعة ، يكون قد خالف أحد الطرفين وهو وجوب صلاة الجمعة ، اما الطرف الآخر فلا مخالفة فيه فعلا وهو وجوب صلاة الظهر لأنه معلق على الإتيان بصلاة الجمعة ، والمفروض انه لم يأت بها.

وبالجملة : حيث ان التكليف في أحد الطرفين معلق على الإتيان بالطرف الآخر فلا تمكن فيه المخالفة القطعية أصلا ، لأنه اما ان يأت بالطرف المعلق عليه الطرف الآخر أولا؟ فان جاء به فقد وافق أحد الطرفين وان لم يأت لم يكن الطرف الآخر فعليا كي يخالف. فما ذكره من العلم الإجمالي وان كان شكلا لا بأس به لكنه مخدوش عند التدبر.

ثانيهما : ما ذكره من جريان البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشك إلى الشك في التكليف ، وقد عرفت الخدشة فيه ، فانه مع إتيان الغير بالفعل وان شك

ص: 503

في تعلق التكليف ، لكنه شك في ارتفاع التكليف لا شك في أصل ثبوت التكليف من أول الأمر ، لأن وظيفة فعل الغير إسقاط التكليف لا نفيه من أول الأمر واقعا ، والشك في ارتفاع التكليف يكون مجرى الاستصحاب الموجب للزوم المباشرة كما لا يخفى فتدبر.

المقام الثاني : في أن الأصل هل يقتضي عدم سقوط الواجب بما لا يكون عن إرادة واختيار أو لا؟. وقد قرب وجه اعتبار كون الفعل عن إرادة واختيار تارة : بان مادة الأفعال منصرفة إلى الفعل الإرادي ، فإذا قيل : « الأكل » انصرف إلى الآكل الاختياري. وأخرى : بان هيئة الأفعال منصرفة إلى ذلك ، ولا يخفى فساد الوجهين : فان المادة موضوعة إلى نفس الطبيعة المهملة غير الملحوظ فيها أي قيد. ولذا نرى صدق الفعل على غير الإرادي فيقال : « فعل كذا » وان صدر منه بلا إرادة ، فدعوى الانصراف جزافية.

كما ان الهيئة موضوعة للربط والنسبة الخاصة القائمة بين المادة والطرف الآخر لا غير بلا تقييد ولا انصراف إلى خصوص ما كانت المادة اختيارية.

وبالجملة : فدعوى الانصراف في المادة أو الهيئة بلا وجه.

والمهم في تقريب اعتبار صدور الفعل عن إرادة وجهان أفادهما المحقق النائيني :

الأول : ان الغرض من الأمر إنما هو جعل الداعي للمكلف إلى الفعل والمحرك له نحو الفعل ، ولا يخفى ان هذا انما يتصور في الأفعال الإرادية التي تصدر عن اختيار ، دون الأفعال غير الإرادية إذ لا معنى لجعل الداعي إليها ، فوظيفة الأمر تقضي بتعلقه بالفعل الإرادي دون غيره.

الثاني : ما دل على اعتبار الإرادة والقدرة على متعلق التكليف في صحة التكليف وتوجهه ، فلا يتعلق التكليف بالفعل غير الاختياري بحكم العقل.

فهذان الوجهان يقضيان بان الأصل الأولي هو اعتبار صدور الفعل عن

ص: 504

اختيار في سقوط التكليف ، لأنه هو متعلق التكليف دون غيره ، فإسقاط غيره يحتاج إلى دليل خاص (1).

ولا يخفى ان الإيراد على الوجهين : بان حقيقة الأمر ليس جعل الداعي والمحرك وانما هو جعل الفعل في عهدة المكلف فيكون نظير اشتغال الذّمّة فلا مانع من تعلقه بغير الاختياري من الأفعال ، إذ لا يمتنع اشتغال الذّمّة بغير الاختياري وغير المقدور.

وبعدم اعتبار الاختيارية والقدرة في صحة التكليف (2).

غير وجيه لأنه إيراد مبنائي.

فاللازم تحقيق صحة ما أفاده بعد الجري على مبناه من كون الأمر بداعي جعل الداعي ، واعتبار القدرة في متعلق الأمر في صحة التكليف.

وقد أورد عليه بعد الجري على ما ذكره بما قرره في مبحث التزاحم (3) من : انه يمكن الالتزام بصحة الواجب المهم مع عدم الالتزام بالأمر به بنحو الترتب ، وذلك باعتبار احتوائه على ملاك الحكم ، وان لم يتعلق به الأمر والحكم بواسطة المزاحمة لما هو الأهم. وبيّن انه يمكن التوصل لمعرفة وجود الملاك مع عدم الأمر بالتمسك بإطلاق المادة ، فانها بإطلاقها من هذه الناحية تقتضي ثبوت الملاك ولو مع انتفاء الأمر بالمزاحمة - وتحقيق ذلك وتوضيحه وبيان صحة ما أورد عليه وسقمه في محله إن شاء اللّه تعالى والمقصود الإشارة -.

وجه الإيراد هو : ان يقال بأنه وان حكم العقل باعتبار القدرة في الواجب ونفي الأمر عن غير المقدور ، إلا انه يمكن التمسك بإطلاق المادة في إثبات وجود الملاك في غير الاختياري وان لم يتعلق به الحكم. فان الإطلاق المذكور في جهة

ص: 505


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 101 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 101 - في التعليقة - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 264 - الطبعة الأولى.

لا تنافي التقييد لأنه في جهة أخرى ، فان الإطلاق من ناحية الملاك والتقييد في ناحية الأمر ، ولا منافاة - كما قرره بنفسه قدس سره - ، وإذا ثبت بالإطلاق ثبوت الملاك في غير الاختياري كان الإتيان به مسقطا للتكليف وان لم يكن متعلقا للحكم ، لتحصيله الملاك ومع حصول الغرض يسقط الأمر.

وعليه ، فمقتضى إطلاق المادة سقوط الوجوب بغير الاختياري والإرادي (1).

والتحقيق : انه ذكر في فرض المزاحمة وانتفاء الحكم لاستكشاف بقاء الملاك ووجوده طريقان :

أحدهما : ما عرفت من إطلاق المادة.

ثانيهما : التمسك بالدلالة الالتزامية ، وذلك ببيان ان دليل الحكم يتكفل بالدلالة المطابقية ثبوت الحكم للمتعلق ، وبالدلالة الالتزامية ثبوت الملاك في المتعلق - لملازمة ثبوت الحكم لثبوت الملاك لأنه معلول للملاك - فإذا اقتضى دليل نفي الدلالة المطابقية عن الحجية لم يستلزم ذلك نفي الدلالة الالتزامية عنها أيضا ، لأنها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية. فالمزاحمة انما تقضي ارتفاع الدلالة المطابقة عن حجيتها في ثبوت الحكم فتبقى دلالة الدليل الالتزامية على ثبوت الملاك على حالها من الحجية.

ولا يخفى انه مع الالتزام بصحة التمسك بإطلاق المادة ، كان الإيراد على المحقق النائيني متوجها وتعين الالتزام بنتيجته وهو كون الأصل سقوط الوجوب مع عدم صدور الفعل عن اختيار. ولكننا بينا في محله كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى عدم صحة هذه الدعوى.

واما الطريق الثاني فهو كبرويا وجيه لكنه لا يتأتى فيما نحن فيه.

ص: 506


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 101 - الطبعة الأولى.

وذلك لأنه انما يجري فيما كان ارتفاع الحكم بدليل منفصل بحيث لا يتصرف في ظهور الكلام ، بل يقتضي نفي حجيته فقط. اما فيما إذا كان الدليل متصلا أو كالمتصل بحيث أوجب التصرف في ظهور الكلام ورفع أصل الدلالة المطابقية لا خصوص حجيتها ، فلا يتأتى ما ذكر لأنه بانتفاء الدلالة المطابقية تنتفي الدلالة الالتزامية لتبعيتها لها في الوجود كما لا يخفى.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن حكم العقل باعتبار الاختيارية والقدرة في متعلق التكليف امر ظاهر عرفا لا يحتاج إلى نظر ، بل هو ارتكازي في النفوس فيكون من قبيل القرينة المتصلة. وعليه فلا يكون ظهور للكلام في الإطلاق من أول الأمر ، بل ينعقد للفظ ظهور في خصوص الفعل الاختياري. فلا دلالة التزامية على ثبوت الملاك في غيره لانتفاء الدلالة المطابقية وجودا.

فالذي يتحصل بعد عدم الطريق لإحراز الملاك في الفعل غير الاختياري هو عدم سقوط التكليف بغير الإرادي ، لأنه متعلق بالفعل الاختياري ، فمع الشك في سقوطه بما لا يكون عن إرادة واختيار يرجع إلى قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه هنا لحكومته على قاعدة الاشتغال.

هذا إذا لم يكن إطلاق ، وإلاّ كان هو المحكم ، وهو يقتضي عدم سقوط التكليف بالفعل غير الإرادي ، لأن مقتضى الإطلاق ثبوت التكليف مطلقا أتى بفعل غير إرادي أو لم يؤت فلاحظ.

المقام الثالث : في ان مقتضى الأصل في الوجوب هل هو عدم سقوطه بالفرد المحرم أو لا؟.

ومن الكلام في المقام الثاني اتضح الكلام في هذا المقام ، فانهما بملاك واحد ، وذلك : لأنه بعد فرض ان الفرد محرم يمتنع تعلق الوجوب به فلا يكون من افراد الواجب ففرض تحريمه مساوق لفرض عدم فرديته للواجب. وعليه

ص: 507

فيرجع الشك فيه إلى الشك في إسقاط غير الواجب للوجوب ، ومعه يتمسك بالإطلاق في إثبات بقائه لو كان وبدونه تجري قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه في المقام.

ومن هنا يظهر انه لا حاجة إلى التفصيل في هذا المقام بين ما إذا كانت نسبة الدليل الدال على التحريم إلى دليل الوجوب نسبة الخاصّ إلى العام ، أو ما إذا كانت نسبته نسبة العموم من وجه - كما جاء في تقريرات المحقق النائيني (1) - وتحقيق الكلام على كلا التقديرين ، وذلك لما عرفت انه بفرض كونه فردا محرما يمتنع تعلق الوجوب به ، سواء كانت النسبة بين الدليل العموم المطلق أو العموم من وجه. والالتزام بجواز اجتماع الأمر والنهي يرجع في الحقيقة إلى الالتزام بان متعلق الأمر غير متعلق النهي ، فالمأمور به ليس محرما ، بل المحرم غيره فلا يكون من الإتيان بالفرد المحرم للمأمور به. فالتفت. فالكلام في هذا المقام لا يحتاج إلى أكثر مما ذكرنا فتدبر.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه ان الأصل الأولي - في بعض المقامات - والعملي يقتضي عدم سقوط التكليف إلا بالفعل المباشري الاختياري المحلل فاعلم واللّه ولي التوفيق. هذا تمام الكلام في التعبدي والتوصلي.

ص: 508


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 102 - الطبعة الأولى.

فصل : إطلاق الصيغة وتعيينية الوجوب ونفسيته وعينيته

ذكر صاحب الكفاية قدس سره وتابعة غيره : ان إطلاق صيغة الأمر يقتضي ان يكون الوجوب تعيينيا نفسيا عينيا (1).

وهذا الأمر قد يكون مثارا للبحث في ان كلا من التعيينية والنفسيّة والعينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيرية والكفائية وكل من الوجوب التعييني والنفسيّ والعيني فرد خاص كالوجوب التخييري والغيري والكفائي ، فكيف يكون مقتضى الإطلاق إرادة هذه الخصوصية دون تلك وتعيين هذا الفرد دون ذاك؟. فان كلا منها فرد يقابل الآخر ، وليس الوجوب العيني النفسيّ التعييني هو نفس طبيعة الوجوب بحيث تطرأ عليها الغيرية والكفائية كما لا يخفى.

وحل هذا الإشكال واضح : فان التعيينية والنفسيّة والعينية وان كان كل منها خصوصية طارئة على الوجوب ، إلا انها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من

ص: 509


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /76- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه ، فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاصّ بالملازمة ، فحيث ان خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقا سواء أتى به آخر أو لم يأت به كان إثبات إطلاق الوجوب في حال إتيان الغير بالمتعلق وعدم إتيانه ملازما لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينيا ، كما ان خصوصية التعيينية ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة الإتيان بشيء آخر وعدمه ، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه ، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه فمع التمسك بالإطلاق في إحدى هذه الجهات تثبت الخصوصية الملازمة له فلاحظ.

ولا بد من التعرض لأمر ، وهو : ما قد يورد على صاحب الكفاية من وجود التهافت في كلماته ، وذلك ببيان : انه قرب في هذا المقام التمسك بإطلاق الصيغة في نفي الغيرية والكفائية والتخيير كما أنه صحح - في مبحث الواجب المشروط (1) - رجوع القيد إلى الهيئة منكرا على الشيخ ما ذهب إليه من عدم إمكانه ، لأن معنى الهيئة معنى حرفي وهو غير قابل للتقييد (2).

ولكنه ذكر في مبحث مفهوم الشرط عدم إمكان التمسك بإطلاق هيئة الشرط لإثبات المفهوم وانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، لأن الهيئة من الحروف غير القابلة للإطلاق والتقييد (3).

فكان هذا الكلام موردا للإشكال النقضي عليه من جلّ من علق على الكفاية أو كلهم. ومطالبته بالفرق بين هيئة الأمر وهيئة الشرط (4).

ولكن الّذي يبدو بعد التأمل إمكان الدفاع عن صاحب الكفاية ونفي ما

ص: 510


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /65- 97 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /45- 52 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 322 - الطبعة الأولى.

يدعى ما التهافت في كلامه.

وتوضيح ذلك : ان الإطلاق كما يتقوم بعموم المعنى كذلك يتقوم بتعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الّذي يراد إفادة إطلاقه. وذلك لأن من قوام الإطلاق كون المتكلم في مقام البيان ، وهذه المقدمة تقتضي توجه المتكلم نحو الجهة التي يقصد إطلاقها ، وذلك يستلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى.

وعليه ، فصاحب الكفاية وان التزم بان الموضوع له الحرف كالموضوع له الاسم في كونه عاما ، لكنه التزم في الوقت نفسه بامتياز الاسم عن الحرف بان الأول ملحوظ استقلالا والثاني ملحوظ آلة ، وعليه فالمعنى الحرفي لا يمكن التمسك بإطلاقه لأنه ملحوظ آليا ، وقد عرفت استلزام الإطلاق للحاظ الاستقلالي ، فمن هنا يظهر الوجه في كلامه في مبحث مفهوم الشرط ، وان عدم صحة التمسك بإطلاق هيئة الشرط من جهة كون المعنى ملحوظا آليا لا من جهة خصوص المعنى.

واما ما ذكره في مبحث الواجب المشروط ، فهو لا يرجع إلى التمسك بإطلاق الهيئة ، بل يرجع إلى قابلية معنى الهيئة للتقييد لعمومه.

واما البحث في اعتبار اللحاظ الاستقلالي في التقييد والكلام في قابلية المعنى الحرفي لأن يكون مقيدا مع عدم قابليته للإطلاق - باعتبار عدم تمامية مقدمات الحكمة - فهو موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ويتضح هناك إن شاء اللّه تعالى.

وعلى كل ، فلو كان هناك إشكال في قابليته للتقييد فهو على الجميع ، ولا اختصاص له بصاحب الكفاية ، لالتزام الكل به. والمهم دفع التهافت في كلام صاحب الكفاية.

واما ما أفاده في هذا المبحث ، فالإيراد عليه انما يتم لو كان مراده قدس سره التمسك بإطلاق الهيئة ، لأنها معنى حرفي لا يلحظ استقلاليا ، ولكنه لم يعلم

ص: 511

منه ذلك فيمكن ان يكون نظره إلى التمسك بإطلاق المادة - أعني الواجب - ، فيكون المراد التمسك بإطلاق الواجب وان الواجب هو الفعل مطلقا جاء به شخص آخر أو لا ، جيء بشيء آخر أو لا ، وجب شيء آخر أولا. ولا إشكال في التمسك بإطلاق المادة لأنها ليست من المعاني الحرفية الملحوظة آلة ، ويمكن استظهار هذا المعنى من بعض كلماته في مفهوم الشرط فراجع. اما ما ذكره هنا فلا صراحة فيه في كون التمسك بإطلاق الهيئة فلاحظ وتدبر.

ص: 512

فصل : الأمر عقيب الحظر أو توهمه

قد عرفت ظهور الأمر في الوجوب - اما ظهورا وضعيا أو إطلاقيا - إلا ان تقوم قرينة على خلافه.

وعليه ، فهل ورود الأمر بفعل عقيب تحريمه أو تخيل تحريمه واحتماله قرينة على عدم إرادة الوجوب وإرادة غيره أو لا؟. وبتعبير آخر : الكلام في تعيين ما يظهر فيه الأمر الوارد عقيب الحظر أو توهمه.

فقيل : انه ظاهر في الوجوب. وقيل : انه ظاهر في الإباحة. وقيل : انه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما ، ان علق الأمر على زوال علة النهي. وقيل : غير ذلك.

وقد ذهب صاحب الكفاية رحمه اللّه إلى إجمالها وعدم ظهورها في شيء مما ادعي إلا بقرينة خاصة (1).

ولكن التحقيق : ان الصيغة ظاهرة في رفع التحريم والترخيص في العمل

ص: 513


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /77- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتجويزه لا أكثر ، كما يظهر من ملاحظة استعمالات العرف ، فليست هي مجملة ليست ظاهرة في شيء أصلا كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فتدبر.

ص: 514

فصل : المرة والتكرار

موضوع البحث هو تشخيص دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، بمعنى انه يبحث في ان الأمر هل يدل على طلب الفعل مرة واحدة ، أو طلبه مكررا ، أو لا يدل على شيء منهما؟. والحق هو الأخير لظهور الأمر في طلب إيجاد الطبيعة لا أكثر.

وقد أسهب صاحب الكفاية في هذا البحث بما لا يغني ولا يسمن من جوع لا علميا ولا عمليا (1).

نعم يتعرض بمناسبة البحث المذكور إلى جهتين :

إحداهما عملية وهي : البحث عن جواز تبديل الامتثال بفرد آخر غير المأتي به أولا ، وقد أشار إليها صاحب الكفاية في أواخر كلماته لمناسبة ، وأوكل تحقيقها إلى مبحث الاجزاء.

وسيأتي البحث فيها هناك لعدم ارتباطها بالمبحث المذكور موضوعا.

ص: 515


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -1. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وثانيتهما علمية وهي : بيان جهة الفرق بين الأمر والنهي المقتضية لاقتضاء النهي التكرار والدوام دون الأمر حيث يكتفي في امتثاله بالمرة. وقد حققها صاحب الكفاية في أول مبحث النواهي (1). وتعرض إليها المحقق العراقي قدس سره في هذا المبحث ، ولعله لخلو المبحث المزبور عن جهة علمية عملية (2).

وعلى كل فالتعرض إلى هذه الجهة في مبحث النواهي أنسب.

ومنه يظهر انه لا طائل في تطويل الكلام في هذا البحث.

ص: 516


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 255 - الطبعة الأولى.

فصل : الفور والتراخي

وموضوع البحث هو معرفة ان الأمر هل يدل على فورية المأمور به ، أو لا يدل عليها بل يدل على جواز التأخير والتراخي فيه؟. وهذا المبحث كسابقه في وضوحه وخلوه عن جهة علمية. ولكن ينبغي التعرض لجهات ثلاث في كلام الكفاية (1).

الأولى : ما ذكره من عدم دلالة الأمر على التراخي ولا على الفورية ثم ذكره ان مقتضى إطلاق الصيغة هو جواز التراخي.

وهذا الكلام منه لا يخلو من مسامحة.

بيان ذلك : ان البحث تارة : يقع في ان الأمر هل يقتضي لزوم الفورية أو لزوم التراخي؟. وأخرى : يقع في ان الأمر هل يقتضي لزوم الفورية أو لا يقتضي لزومها بل يقتضي جاز التراخي؟. فطرفا الترديد تارة : يكونان هما لزوم الفور ولزوم التراخي. وأخرى ، يكونان لزوم الفور وعدم لزومه وجواز التراخي. ومن

ص: 517


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /80- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الظاهر ان موضوع البحث هو الجهة الثانية لا الأولى ، إذ لا وجه لتوهم دلالة الأمر على لزوم التراخي وعدم جواز الفورية. ولا يخفى انه مع الحكم بعدم دلالة الأمر على لزوم الفورية ولا على جواز التراخي - كما ذكره صاحب الكفاية أولا - ، لا معنى لدعوى دلالة إطلاق الأمر على جواز التراخي - كما ذكره ثانيا - فانه لا يخلو عن ركاكة واضحة (1).

نعم لو كان موضوع البحث هو الجهة الأولى كان ما ذكر صحيحا ، إذ عدم دلالة الأمر بوجه من الوجوه على لزوم التراخي لا يتنافى مع دلالته بالإطلاق على جوازه. لكن قد عرفت ان البحث في الجهة الثانية.

الثانية : ما ذكره في مقام الإيراد على الاستدلال بآية المسارعة والاستباق على لزوم الفورية - بعد ان ذكر ظهور الأمر في الإرشاد إلى حسن المسارعة والاستباق لا الإلزام المولوي - بدعواه بعد التنزل عن ذلك بعدم كون الأمر إلزاميا ، بل هو استحبابي باعتبار انه لو كانت المسارعة والاستباق واجبين كان الأنسب بيان ذلك بذكر لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة رأسا.

فان ما ذكره قد يكون مثار الإشكال بان هذا سار في جميع الأوامر الوجوبية ، لأن المقصود فيها بيان لزوم الفعل ، فاللازم على ما ذكره بيان الوجوب ببيان لازمه وهو لا يلتزم به. وإلاّ فما الفرق بين المقام وبين غيره.

والجواب عنه - كما قرر - : ان حسن المسارعة والاستباق إلى الخيرات حيث انه من الأمور المرتكزة في أذهان العرف بنحو الاستحباب وعدم اللزوم ، كان الكلام المتضمن للأمر بهما محمولا عندهم على ما هو مرتكز في أذهانهم لاستظهارهم جري الأمر على ما يرونه إلا ان تقوم قرينة خاصة معينة صارفة للكلام عما هو المرتكز ، وليس في المقام قرينة دالة على إرادة الوجوب سوى بيان

ص: 518


1- يمكن ان يكون النّظر في موضع الكلام هو الظهور الوضعي للأمر في الفور وعدم ظهوره ، لا مطلق الظهور. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة.

الثالثة : ما أفاده أخيرا من انه على القول بلزوم الفورية لو عصى المكلف وأخر المأمور به فهل يجب عليه الإتيان بالعمل فورا ففورا أو لا يجب؟. فقد أفاد قدس سره بان لزوم الإتيان به ثانيا فورا ففورا وعدم لزومه يبتني على دلالة الصيغة على أخذ الفورية بنحو وحدة المطلوب أو تعدده فلا يجب على الأول ويجب على الثاني.

وقد أنهى الكلام بهذا المقدار تقريبا.

ولتوضيح الحال نقول : انه لا بد من الكلام في جهتين طوليتين :

إحداهما : انه بناء على لزوم الفورية لو عصى وأخر ، فهل يجب الإتيان بذات العمل أو لا يجب؟. فان قيل بان الفورية مأخوذة بنحو وحدة المطلوب بحيث يكون العمل الفوري مطلوبا واحدا. لا يجب الإتيان بذات العمل لو أخّر لفوات المأمور به بالعصيان. وان قيل بأنها مأخوذة بنحو تعدد المطلوب بحيث يتعلق طلب بذات العمل وطلب آخر بالإتيان به فورا. كان التأخير عصيانا للطلب الآخر دون الطلب المتعلق بذات العمل ، فيلزم الإتيان بالعمل لبقاء طلبه لعدم عصيانه.

ثانيتهما : انه بناء على كون الفورية مأخوذة بنحو تعدد المطلوب ولزوم الإتيان بالعمل ، فهل يلزم الإتيان به فورا أيضا أو لا؟. ولا يخفى ان الفورية الثانية والثالثة وهكذا ، لا يقتضيها أخذ الفورية في متعلق الأمر بنحو تعدد المطلوب ، إذ ما يقتضيه تعدد المطلوب ليس إلا لزوم الإتيان بالعمل كما عرفت ، اما انه يلزم ان يؤتى به فورا ففورا فهو يحتاج إلى دليل آخر خاص.

وبالجملة : الإتيان بالمأمور به فورا ففورا بعد التأخير أولا لا يرتبط بالالتزام بأخذ الفورية بنحو تعدد المطلوب كما لا يخفى. فما جاء في الكفاية من بناء ذلك على الالتزام بتعدد المطلوب لا يعلم له وجه.

ص: 519

ص: 520

الفهرس

تمهيد... 21

ضابط المسألة الأصولية :... 21

بيان الكفاية للضابط وتوجيهه ... 22

بيان المحقق الأصفهاني للضابط ... 24

ايراد المحقق الأصفهاني على تعريف الكفاية والمناقشة فيه ... 26

المختار في تعيين الضابط... 29

عدم شمول التعريف للقواعد الفقهية... 30

شمول التعريف للشبهات الموضوعية... 32

بيان المحقق النائيني للضابط والمناقشة فيه... 37

الوضع... 43

والكلام فيه في جهتين :... 32

في حقيقة الوضع... 43

الوضع : أمر حقيقي تكويني... 44

الوضع : جعل العلقة بين اللفظ والمعنى... 46

بيان دعوى المحقق العراقي في المقام وعدم ورود ما أورده السيد الخوئي عليه... 47

الوضع : برزخ بين الواقعي والجعلي... 49

مناقشة مع المحقق النائيني ... 51

الوضع : جعل اللفظ على المعنى ... 53

ص: 521

ايراد السيد الخوئي والمناقشة فيه... 55

ما يورد على المحقق الأصفهاني... 56

الوضع : تنزيل اللفظ على المعنى... 57

ايراد السيد الخوئي في المقام والمناقشة فيه... 57

الوضع : هو التعهد... 61

المراد من التعهد... 61

احتمالات ثلاث في المراد من التعهد... 64

المختار في حقيقة الوضع... 66

اللفظ والاستعمال... 69

حقيقة استعمال اللفظ في المعنى... 70

الجهة الثانية : في اقسام الوضع تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني... 72

تقسيم الوضع بلحاظ عموم الموضوع له وخصوصه... 73

تصوير الوضع العام والموضوع له الخاص... 74

كلام المحقق العراقي في المقام والمناقشة فيه... 76

امكان تصوير الوضع الخاص والموضوع له العام... 81

ما افاده المحقق الأصفهاني في محالية هذا القسم والمناقشة فيه... 81

ما افاده المحقق العراقي في محالية هذا القسم والمناقشة فيه... 82

ما افاده السيد الخوئي في محالية هذا القسم والمناقشة فيه... 83

كلام المحقق الرشتي في إمكانية هذا القسم والمناقشة فيه... 84

كلام المحقق الحائري اليزدي في إمكانية هذا القسم والمناقشة فيه... 86

المعنى الحرفي... 87

آلية المعنى الحرفي : مختار صاحب الكفاية... 87

احتمالات ثلاث في تفسير كلام الكفاية... 89

علامية الحروف... 94

ايجادية المعني الحرفي : مختار النائيني... 95

ص: 522

مناقشة السيد الخوئي في ايجادية الحروف... 98

مناقشة المحقق العراقي في ايجادية الحروف... 101

الوجود الرابط : مختار المحقق الأصفهاني... 105

مناقشة السيد الخوئي والرد عليها... 106

الاعراض النسبية : مختار المحقق العراقي... 109

مناقشة مع المحقق العراقي في اختياره... 110

ايراد السيد الخوئي على المحقق العراقي وبيان عدم تماميته... 111

تضييق المعاني الاسمية : مختار السيد الخوئي... 112

مناقشة مع السيد الخوئي في جهات ثلاث من كلامه... 114

كيفية الوضع للحروف... 120

ثمرة البحث... 121

الإنشاء والأخبار... 123

الاحتمالات المذكورة في معنى الإنشاء... 123

مختار المحقق الخراساني في الإنشاء... 124

مختار المحقق الأصفهاني في الإنشاء... 126

مناقشة مع المحقق الأصفهاني... 128

مختار المشهور في الإنشاء... 130

توجيه وتصحيح مختار المشهور ... 133

مختار السيد الخوئي في الإنشاء والمناقشة فيه... 137

الجملة الخبرية ومختار المشهور في مدلولها... 139

مناقشة السيد الخوئي في اختيار المشهور وبيان مختاره في المقام... 139

مناقشة مع السيد الخوئي في مختاره... 141

مناقشة مع السيد الخوئي في مختاره في مدلول الجملة الإنشائية... 147

المختار في الموضوع له الجملة الخبرية والإنشائية... 148

حروف التمني والترجي... 150

الموضوع له في حروف التمني والترجي... 151

ص: 523

صدق الإنشاء على جملة التمني... 152

الموضوع له في حروف النداء والاستفهام... 153

الموضوع له في أسماء الإشارة... 154

كلام المحقق الأصفهاني في المقام والمناقشة فيه... 156

التحقيق في الموضوع له أسماء الإشارة... 158

استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له... 160

اطلاق اللفظ واردة شخصه... 161

اطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه... 162

اطلاق اللفظ وإرادة مثله... 163

الإرادة والموضوع له... 164

هل اللفظ موضوع للمعني بما هو أو بما هو مراد؟... 165

هل الوضع يقتضي دلالة اللفظ والكلام على تحقق الإرادة أم لا؟... 168

هل الدلالة تابعه للإرادة... 169

وضع المركبات... 172

أمارات الوضع... 173

التبادر... 173

صحة الجمل وعدمها... 176

الاطراد... 179

أحوال اللفظ... 181

الحقيقة الشرعية... 185

تحرير حمل البحث... 185

كلام الكفاية في المقام... 185

مناقشة المحقق الأصفهاني مع الكفاية... 188

مناقشة المحقق العراقي مع الكفاية... 190

ثمرة القول بالحقيقة الشرعية... 193

ص: 524

الصحيح والأعم... 197

مناقشة المحقق العراقي مع الكفاية... 190

الأمر الأول : تصوير النزاع... 197

الأمر الثاني : معنى الصحة... 201

التحقيق في معنى الصحة... 205

الأمر الثالث : تصوير القدر الجامع... 210

لزوم تصوير الجامع بين الافراد... 212

تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة... 214

الوجه الأول : مختار المحقق الخراساني... 217

عدم تمامية اختيار المحقق الخراساني... 217

الوجه الثاني : مختار الشيخ الأنصاري... 220

الوجه الثالث : مختار المحقق الأصفهاني... 221

تمامية هذا الوجه ودفع ما أورد عليه... 223

تصوير الجامع للأعم من الصحيح والفاسد... 225

تصوير السيد الخوئي للجامع والمناقشة فيه... 230

الأمر الرابع : ثمرة النزاع... 236

امكان التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح... 236

الصحيح في رد ما أورد على كون النزاع ذا ثمرة علمية... 240

هل الثمرة عملية أيضا... 243

جريان البراءة عند الشك في الجزئية على القول بالأعم... 247

ظهور الثمرة في مسألة النذر... 255

ظهور الثمرة عند النهي عن الصلاة وبحذائه امرأة تصلي... 258

أدلة القول بالصحيح... 260

أدلة القول بالأعم... 264

ألفاظ المعاملات... 272

تحرير النزاع على رأي صاحب الكفاية... 272

ص: 525

تصحيح وضع ألفاظ المعاملات للأسباب والمسببات... 277

تعيين الموضوع له في ألفاظ المعاملات... 282

ثمرة النزاع... 287

امكان التمسك بالاطلاق بناء على كون الألفاظ موضوعة للأسباب... 287

تصحيح التمسك بالاطلاق بناء على كون الألفاظ موضوعة للمسببات... 290

اقسام دخل الشئ في المأمور به... 295

تصوير الجزء المستحب... 296

ثمرة الالتزام بالجزء المستحب... 301

الاشتراك... 303

استعمال اللفظ في أكثر من معنى... 305

المراد من تعدد المعنى... 306

ابتناء الامكان والامتناع على حقيقة الاستعمال... 307

تصحيح المحقق الأصفهاني في دعواه للامتناع... 310

مناقشة مع السيد الخوئي في دعواه للجواز... 312

تفصيل صاحب المعالم... 315

في تفسير حديث : للقرآن سبعة بطون... 318

تصحيح قصد معاني آيات الكتاب في الصلاة... 320

المشتق... 327

تحديد موضوع النزاع... 327

المراد من المشتق في موضوع المسألة... 328

خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن الموضوع... 334

عدم اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ فعليا... 339

المراد بالحال المأخوذ في عنوان المسألة... 340

تأسيس الأصل... 342

تحقيق الحق في المسألة... 347

ص: 526

تنبيهات المسألة... 353

الأول : في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركيبه... 353

الثاني : في ملاك الحمل... 358

الثالث : في حمل صفات الباري كالعالم والقادر وصدقها على ذاته المقدسة... 360

الأوامر... 369

معنى الأمر... 369

أخذ العلو والاستعلاء في معنى الامر... 374

الأمر هو الطلب الإلزامي أو الأعم... 375

موضوع له الأمر هو الطلب الانشائي... 377

الطلب والإرادة... 381

مدلول صيغة الامر... 388

دعوى صاحب الكفاية في موضوع له صيغة الامر... 388

دعوى السيد الخوئي في موضوع له الصيغة... 390

استعمال صيغة الأمر في غير الطلب الحقيقي... 395

دلالة الصيغة وكيفيتها على الوجوب... 399

التعبدي والتوصلي... 411

معاني التعبدي والتوصلي... 411

امكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر نفسه وعدمه... 413

توضيح كلام الكفاية في المقام... 413

وجوه لاستحالة اخذ قصد الأمر في متعلق الامر... 415

اخذ قصد الأمر في متعلقه بأمر آخر... 442

تصحيح كلام الكفاية في المقام... 451

مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في التعبدية... 455

وجوه لاثبات كون الأصل في الواجبات هو التعبدية... 460

مقتضي الأصل العملي عند الشك في التعبدية ... 468

ص: 527

الدواعي القربية ... 474

كلام المحقق الأصفهاني في المقام والتحقيق فيه ... 474

الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي... 477

التشريع ... 481

اعتبار إضافية العبادة إلى المولى في مقر بيتها ... 482

هل مقتضى الدليل الأولي في الواجبات هو المباشرة؟... 484

النيابة في العبادات... 485

ارجاع الاستنابة إلى الواجب التخييري... 486

كلام المحقق النائيني في المقام والمناقشة فيه... 491

ما هو اقتضاء الأصل اللفظي في الواجبات؟... 499

ما هو اقتضاء الأصل العملي في الواجبات؟... 499

اعتبار سقوط الواجب صدوره عن إرادة واختيار... 504

اقتضاء الوجوب عدم سقوطه بالفرد المحرم... 507

فصل إطلاق الصيغة وتعيينية الوجوب ونفسيته وعينيته... 509

فصل الأمر عقيب الحظر أو توهمه... 513

فصل المرة والتكرار... 515

فصل الفور والتراخي... 517

الفهرس... 521

ص: 528

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.