نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله المجلد 10

هوية الکتاب

أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول المؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجراف في 10 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

ص: 1

اشارة

39-5-ISBN 978-9933-582 -

9789933582395

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1215 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI rda

رقم تصنیف LC:

BP38.02.M8 N5 2018 Mod

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجراف في 10 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الاخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة، عهد مالك الاشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد وتفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1)

أعمال المؤتمر العلمي وطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

لسنة 8341 ه - 6102 م

(المحور اللغوي والأدبي)

الجزء العاشر

اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني: www.inahj.org

الايميل: Inahj.org@gmail.com الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمة الله)

الجهة الراعية للمؤتمر: الامانة العامة للعتبة الحسنينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 22 - 24 من شهر ربيع الأول

من العام 1438 ه

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1215 لسنة 2018 م.

الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات 10 مجلد

عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة الفنية: وحدة الاخراج الفني في مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

مرجعيات الخطاب الإحالية في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة تداولية

اشارة

د. حکیم سلمان السلطاني

الكلية الإسلامية الجامعة في النجف الأشرف

ص: 5

ص: 6

المقدمة

يمثل عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر نصا مفتوحا على فضاءات شتى، فهو مكتنِز المعنى، مكثَّف العبارة، متعدد المضامين؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الإنسانية، وكأنّ صاحبه خَبِر مقاليد الحياة، وتصرف الأحوال. فقد برع فيما تراكم من معرفتنا بالأنظمة، وبذّ أهل اختصاصنا فيما طمحوا إليه بعد نصب وعناء. فجاء مع كل ذلك سهل العبارة منساب المعنى يفصح عن قصد واع ونية صادقة في رعاية العباد وسياسة الأمة.

ولقد شككت للوهلة الأولى وأنا أطالع العهد بأنّه قد يكون من نتاج حضارة القرن الرابع الهجري، ومن روح فكرها الفلسفي والمنطقي، ومن صياغة عقلها المتمدن المتحضر، فقد أبهرني ما به من تقسيمات إدارية، وطبقات اجتماعية، وسياسات اقتصادية، لم نكن نسمع عنها في جزيرة العرب التي شكّل وعي الإمام وصاغت ثقافته.

فجاءت دراستي في البحث عن المرجعيات التي يحيل إليها هذا الخطاب (العهد)، ومعرفة مدى انسجام نسقه اللفظي مع أنساق الثقافة المحيل إليها. من خلال الرجوع إلى زمن التداول، والنسق الثقافي، والنظام المجتمعي.

ص: 7

فتوصّلت إلى سر هذا الخطاب من خلال صياغاته الإحالية التي جاءت متناسبة وفهم الخطاب في مجاله التداولي الذي صدر فيه وأشار إليه، فقد تناسب العهد لمالك الأشتر بولاية مصر وجباية خراجها وعمارة بلادها وطبيعة اقتصادها وطبقات مجتمعها وما أُحيل إليه من سياقات مقامية تتعلق بولاة مصر الإسلامية وحتى ما قبلها؛ من مصر الفرعونية إلى الرومانية فالبيزنطية، وكيفية فتح مصر صلحا أم عنوة، ومقدار خراجها، وكيفية استصلاح أرضها، وتعقيدات مجتمعها.

التمهيد: الإحالة في الدراسات اللسانية الحديثة

من المعلوم أنّ لكل نص أو خطاب أدبي إحالة مرجعية وسياقية ومقامية وتداولية، فلا يمكن فهم الملفوظ النصي أو الخطاب باعتباره كلية عضوية متسقة لها مرجعياتها الخاصة القائمة على الفهم المشترك بين المتكلم والمتلقي، إلا إذا راعينا مفهوم الاحالة. ويقصد بها وجود عناصر لغوية لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل وإنها تحيل إلى عنصر آخر؛ ولذا تسمى عناصر محيلة مثل الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة(1).

وقد تحدث هاليداي ورقية حسن، في كتابهما الاتساق في اللغة الإنجليزية 1976 م عن الإحالة كثيرا وذهبا إلى أنّ الإحالة المقامية تسهم في خلق النص؛ لكونها تربط اللغة بسياق المقام، على حين تقوم الإحالة النصية بأثر فعال في اتساق النص(2). فالإحالة المقامية (المرجعية) تعمل على إنتاج النص من خلال تعزيز الفكرة بربطها بسياقها الخارجي المقامي الذي صيغت فيه. فالإحالة من النص وإليه تعمل على انفتاح النص الذي هو سر بقائه.

وإذا كانت الإحالة قدرة الوحدة اللغوية على أن ترجع المتخاطبين (المتكلم والمخاطب) إلى شيء موجود في الواقع هو ما سماه المحدثون «مرجعا» وسماه علماء المعنى في الدراسات اللغوية القديمة «خارجا» فإنّ كل وحدة لغوية تتوافر على الجوانب الآتية:

ص: 8

1. صيغتها اللفظية

2. دلالتها أو معناها

3. مرجعها أو خارجها

والخارج هو الجزء من العالم الذي تحيل عليه الإشارات أي الوحدات الإشارية بوصفها علامات. والملاحظ أنّ هذه الاشارات جزء من العالم وأن عملية التواصل قد تحيل على عملية تواصل أخرى تكون خارجها ومرجعها(3).

وقد لاحظ الدارسون أنّ الوحدات اللغوية لا ترتبط بالخارج على نفس الصورة، فمنها ما يتصل بالخارج اتصالا مباشرا دون وساطة أمر آخر، ومنها ما لا يتم له ذلك إلا بواسطة فلا يتم ارتباطه به إلا بها. ثم ذهبوا إلى التمييز في الضرب الأول بين ما تكون الإشارة به إلى شيء في الواقع مستقل عن عملية التخاطب وما تكون الإشارة به إلى شيء في الواقع لا يكون إلا باعتبار عملية التخاطب. وكان أن أطلق على الضرب الأول من العناصر اسم العناصر الإشارية deictiques، وعلى الضرب الثاني اسم العناصر الإحالية referenciels (4).

وتنقسم الإحالة على قسمين:

1. إحالة نصية: وهي إحالة تقع داخل النص، وتحيل إلى عنصر سابق؛ وفيها يشير العنصر المحيل إلى عنصر آخر سابق عليه. أو تحيل إلى عنصر لاحق؛ وفيها يشير العنصر المحيل إلى عنصر آخر لاحق عليه.

2. إحالة مقامية: وهي إحالة تقع خارج النص، وفيها يحيل عنصر في النص إلى شيء خارج النص یدرکه منتج النص ومتلقيه كلاهما.

ص: 9

ومن خلال التداولية التي لم تعد علما لغويا محضا، ينحصر اهتمامها بالتراكيب اللغوية مجردة عن سياقاتها الاجتماعية، صرنا نحلل النصوص بوصفها رموزا وعلامات تدل على بنى سياسية واجتماعية وثقافية قارة في الواقع الخارجي. ((فالمعنى أصبح لا يعرف البنية اللغوية وحدها كما هو معروف قبل التداولية، بل يعرف من خلال الانفتاح على السياقات التي تستوعب الكلمات والعبارات))(5). وهو ما يندرج من منظور اللسانيات التداولية ضمن إجراءات التسييق العامة Contextualisation، وهي عملية مشتقة من السياق، وتعني: ربط الكلام (الملفوظات) بسياقاتها النصية واللسانية السابقة واللاحقة، وربطها أيضا بملابساتها الاجتماعية الداعية لإجراء الكلام واستخدامه على وجه دون آخر؛ لأنّ اللغة ((ليست حسابا منطقيا دقيقا، لكل كلمة معنى محدد، ولكل جملة معنى محدد، بحيث يمكنك الانتقال من جملة إلى ما يلزم عنها من جمل حسب قواعد الاستدلال المنطقي، لكن الكلمة الواحدة تتعدد معانيها بتعدد استخدامنا لها في الحياة اليومية، وتتعدد معاني الجملة الواحدة حسب السياق الذي تذكر فيه))(6)، ولهذا يصرّح فيرث Firth بأنّ المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة، وهو يرى أنّ الوقت قد حان للتخلي عن البحث في المعنى بوصفه عمليات ذهنية كامنة، والنظر إليه على أنّه ((مركب من العلاقات السياقية، وعليه تكون دراسة المعنى تتطلب على الدوام تحليلا للسياقات والمواقف التي ترد فيها حتى ما كان منها غير لغوي))(7). وبذلك يأخذ السياق مسارا أكثر بعدا مع الدراسات التداولية التي عمّق أصحابها مسألة السياق اعتمادا على تجاوز الإطار اللغوي المحض إلى السياق الاجتماعي والنفسي والثقافي، فالتداولية مثلما حددها (رودلف كارناب) هي اللسانيات وتسعى أساسا للإجابة عن أسئلة المتكلم وعلاقته بالمتلقي، ودراسة اللغة في علاقتها بالعالم الخارجي أي علاقتها بظروف إنتاجها(8).

ويمكن الاستناد في ذلك إلى النظرية السياقية التي اقترنت باسم فيرث. والتي

ص: 10

اقتبسها من الانتربولوجي مالینوفسكي بخاصة في حديثه عن سياق الموقف(9)، إذ عدّ مالینوفسكي اللغة ((متأصلة في حقيقة الثقافة ونظم الحياة والعادات عند كل جماعة، ولا يمكن إيضاح اللغة إلا بالرجوع الدائم إلى المحيط الأوسع، وهو الظروف التي يتم فيها النطق))(10)، وفي هذا الإطار اعترف فيرث أنه مدين لمالينوفسكي بفكرة سياق الحال(11)، ودعا إلى دراسة أبعاد الحديث الكلامي من جميع جوانبه، وذلك بدراسة الخطابات المختلفة من خلال قراءتها في سياقها الحالي والمقامي والثقافي(12). وما هو معروف في الدراسات اللسانية المعاصرة بأنّ اللغة ترتبط ارتباطاً عضوياً بالثقافة بوصفها تراثاً مادياً لشعب من الشعوب. وقد عبّر كثير من علماء اللسانيات عن هذه العلاقة التاريخية الوطيدة، وعلى رأسهم العالم اللساني الفرنسي أنطوان مایه A.meillet (1866 - 1936 م). ومن أبرز ارائه أنّ اللغة ((نتاج اجتماعي أو مؤسسة يرتبط تطورها بمحيطها التاريخي والثقافي والاجتماعي، وتندرج بالنتيجة، بمحيطها هذا وترتبط به ارتباطاً وثيقاً))(13). وإذا كان المستقرئ للنظريات الحديثة يلفي إصرار اللسانيين على اعتبار اللغة ملمحاً من ملامح السياق الاجتماعي، والحضاري، فهذا يعني عدم إمكانية التوصل إلى فهم معطياتها النصية بعيدا عن ظروف تكوينها.

وما يهمنا في هذا البحث هو الإحالة إلى ما هو خارج اللغة؛ مرجعيات الخطاب الخارجية، وهي إحالة عنصر لغوي إحالي على عنصر غير لغوي إشاري موجود في المقام الخارجي؛ كأن يحيل ضمير المتكلم المفرد على ذات صاحبه المتكلم وهو ارتباط عنصر لغوي إحالي بعنصر غير لغوي إشاري هو ذات المتكلم(14). فالإحالة المقامية تعمل على ربط عالم النص بالعالم الأوسع وتدخل فيه ما يبدو بعيدا عنه. مما يؤدي إلى توسيع دلالة النص، والانفتاح على عوالم تكاد تكون مغلقة إلا ببذل الجهد والوسع في إغناء الدلالة ومفصلة المعني.

ص: 11

وعليه فمن خلال الرجوع إلى ما يحيل إليه عهد الإمام علي (عليه السلام) من مرجعيات مقامية سوف نقف على أهم ما تضمنه العهد من إحالات كانت لها الأثر الأبرز في بيان دلالاته ومضامينه من خلال رصد المرجعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العهد.

أولا: مرجعيات الخطاب السياسي

بعد بيان الإمام علي (عليه السلام) للأمر الذي وجّه المالك الأشتر، وهو عهد ولاية مصر وما يترتب على ذلك من جِبَايَةِ خَرَاجِهَا وجِهَادِ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحِ أَهْلِهَا وعِمَارَةِ بِلادِهَا شرع بذكر ما على الحاكم الجديد من استحضار للعمق التاريخي للدول المتوالية على هذه البلاد، بقوله ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّ قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ))(15) وتصنيفه عليه السلام هذه الدول إلى عادلة وجائرة.

ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام لم يصف تلك الدول السابقة على الحكم الاسلامي بالجائرة كلها، وكأنّ المعيار عنده في البعد السياسي وحكم البلاد هو مقدار ما تقدمه تلك الدول من عدالة إنسانية وإن لم تدين بالدين الإسلامي، أو أنه أراد الإشارة إلى مُلكِ يوسف عليه السلام العادل لمصر في عهد الهكسوس(16). وهي الأسرة الخامسة عشرة من عصر الانتقال الثاني وهو العصر الممتد من نحو 1650 ق. م إلى نحو 1550 ق. م(17). وهي إشارة فيها استحضار لكل الماضي السحيق في حكم بلاد مصر الموجّه إليها مالك الأشتر الحاكم الجديد، أو أنه قصد بخطابه المجتمع المصري الآني الذي عايش الفتح الاسلامي سنة 641 م / 20 ه بولاته:

1. عمر بن العاص، في عهد عمر بن الخطاب من 20 ه - 25 ه / 641 م - 646 م.

2. عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، في عهد الخليفة عثمان بن عفان من 25 ه - 35 ه / 646 م - 656 م.

3. محمد بن أبي حذيفة، في عهد الخليفة عثمان بن عفان من 35 ه - 36 ه / 656 م -

ص: 12

657 م.

4. قیس بن سعد بن عبادة الأنصاري، في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) 36 ه / 657 م.

5. وما قبله من الإمبراطورية البيزنطية من نحو 323 م إلى 641 م. فالروم استعبدوا المصريين أثناء حُكمهم وجعلوا مصر ضيعة للإمبراطور البيزنطي ومن قبله الروماني وعُرفت بمخزن غلال روما. وكان اختلاف عقيدة المصريين عن عقيدة الروم سببًا في اضطهادهم من قِبَل الإمبراطوريَّة، فقد اتخذ البيزنطيّون المذهب الخلقدوني الذي ينص على اتحاد الطبيعتين، الإلهيَّة والبشريَّة، في شخص المسيح، اتحادًا غير قابل للانفصام، مذهبًا رسميًّا للإمبراطوريَّة دون غيره، بينما كان المصريّون يأخذون بالمذهب اللاخلقدوني المونوفيزيتي (اليعقوبي)، وقد حاول الروم فرض مذهبهم على جميع الرعایا، فنفر منهم المسيحيّين اليعاقبة، وتميزت الأحوال في مصر إبان هذه الفترة التي استمرت حتى الفتح العربي لمصر بازدیاد سلطة الكنيسة وبانتصار المسيحية وانتشارها في غالبية السكان، إذ قام هيرقليوس (هرقل) امبراطور بيزنطة بتعيين البطرك كيرس (المقوقس)(18) واليا على مصر وبطريرك على كنيسة الاسكندرية سنة 631 م ضد رغبة الأقباط الذين كانوا يتبعون المذهب اليعقوبي وبدأ في تنفيذ خططه بلا هوادة وفي خلال عشر سنوات غدا من أكثر الولاة البيزنطيين المكروهين في تاريخ مصر. ((واستمر تعرض الأقباط المصريون للاضطهاد والثورات الدموية والمذابح البشعة والتي فاقت تلك التي قام بها الأباطرة الوثنيون، وهرب الرهبان والقساوسة إلى الجبال والأديرة والكهوف هربا من القتل والسجن والاضطهاد.. واستمر ذلك الحال حتى شاء الله أن ينقذ المصريين على أيدي جيوش عمرو بن العاص الذي اقتحم بجيوشه حدود مصر عام 641 م في عهد عمر بن الخطاب، وهلل الرهبان والأساقفة المصريون الهاربون في الصحاري والكهوف واعطاهم

ص: 13

عمرو الأمان))(19). وقام المقوقس بمصالحة عمرو بن العاص على أن يفرض على القبط دینارین دینارین، فبلغ ذلك هرقل فتسخطه أشد التسخط، وبعث الجيوش فأغلقوا الإسكندرية، وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب فقاتلهم وفتح الاسكندرية عنوة قسرا بلا عهد ولا عقد(20). وعليه فمصر فتحت صلحا ما عدا الإسكندرية وثلاث قريات.

ولا نتصور الحكم الإسلامي لمصر كله عدل، فعندما تولي عثمان بن عفان الخلافة من بعد مقتل عمر بن الخطاب عزل عمرو بن العاص، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح(21) على مصر سنة 24 ه. وأن سبب عزل عمرو بن العاص وتولية عبد الله بن أبي سرح، أنّ عمرا طلب من عثمان عزل عبد الله بن سعد عن ولاية صعيد مصر، فرفض عثمان وقام بعزل عمرو وتولية عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولاية مصر كلها(22).

وقد اختلفت سیاسة عبد الله ابن أبي سرح عن ولاية عمرو بن العاص فقد تشدد في جمع الضرائب وعامل المصريين بقسوة ترتب عليها أن حرض أهل الإسكندرية دولة الروم على غزو مدينتهم. فعاد الروم يحتلون الإسكندرية وبعض مدن الوجه البحري، فبعث المصريون إلى الخليفة عثمان بن عفان يطلبون منه تكليف عمرو بن العاص بقتال الروم البيزنطيين. فاستجاب عثمان وأرسل عمرو بن العاص والياً على الإسكندرية وأمره بقتال الروم، ونجح عمرو في مهمته وطرد الروم سنة 25 ه / 646 م. واستمرت ولاية عبد الله بن سعد حوالي عشر سنوات، حتى قُتل عثمان بن عفان عام 35 ه، وقام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعزل عبد الله وولي قیس بن سعد بن عبادة ولاية مصر.

ص: 14

ويرى الطبري أنه ((لم يكن في وكلاء عثمان، أسوأ من عبد الله بن أبي سرح))(23) والمعروف تاريخيا أنّ هذا السوء المشار إليه، كان سببا رئيسا في حنق الأمة على عثمان بن عفان و سیاسته في توليته لأقاربه على الرغم من اعتراض الأمة عليهم ومنهم صحابة رسول الله(24).

ومن ثم نلاحظ من خلال تفكيك خطاب الإمام (عليه السلام) والبحث عن مرجعياته الخطابية أننا دخلنا في دائرة تأويلية في تحديد المرجع الخارجي المناسب لمراد الإمام في عهده (قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ) ومَنْ هذه الدول التي انقلبت وتعاقبت من عدل و جور التي قصدها الإمام في خطابه؟.

ومما جاء في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر فيما ينضوي تحت رؤية المجتمع السياسية للحكم، أو ما يسمى سياسيا بالرأي العام قوله: ((وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ)(25)، في هذا النص تذكير الإمام إياه بأنّ الناس سينظرون من أمورك، ويقولون فيك ما کنت تنظر فيه من أمور ولاتك وما كنت تقول فيهم. مما يشير بدلالة واضحة أنّ مالكا كان ذا رأي في ولاته وأنه كان يقول فيهم أقوال قد عرفها الإمام عنه، مما ترتب عليه وجود لغة تواصلية مشتركة بين المتكلم والمرسل إليه ضُمّنت في رسالة العهد أسماها جاكبسون (السنن) وهي عبارة عن نظام ترمیز مشترك كليا أو جزئيا بين المرسل والمتلقي، ويكون نجاح أية عملية إبلاغية معتمدا عليها، بحيث يتمكن المرسل إليه من استقبال الرسالة وتفكيك رموزها بحثا عن القيمة الإخبارية التي شحنت بها. ففعالية الحدث الكلامي، كما يقول جاكبسون ((مرهونة باستخدام شیفرة مشتركة بين المساهمين فيه(26)). ومن تضطلع بكشفها هي الوظيفة المرجعية؛ إحدى وظائف جاكبسون الست، وقد ترجمها بعضهم بالوظيفة المعرفية أو الإيحائية، لكونها تتحدث عن أشياء

ص: 15

وموجودات خارجية وتركز عليها. وما الرسالة سوى رمز لهذه الأشياء وتعبير عنها، فهي توحي بأنها استعاضت عنها وأخذت مكانها أو نابت عنها. فتكون الرسالة بمثابة دليل أو علامة لغوية استعملت في العمليات التخاطبية بوصفها نائبة عن أشياء تتحدث عنها بدل استحضارها داخل السياق الخطابي(27).

وهذا يتوافق مع جعل سوسير العلامة الألسنية متقومة بالدال والمدلول، إذ يقوم الذهن عند حضور الدال من خلال صورته السمعية إلى استحضار مباشر وآلي للمدلول من حيث هو تصور ذهني(28).

وحين نطالع سيرة مالك بن الأشتر نراه كان منافحا عن المظلومين متوعدا الظالمين من الحّكام، فقد اسهم في عزل بعض الولاة المُعيّنين من قِبَل الخلفاء، عبر اعتراضه على سلوكياتهم، مما هيأ الظروف لإنصاف المظلومين والاستجابة لشكاوى المسلمين. ومن جملة ذلك، اعتراضه على جرائم الوليد بن عقبة، مما أدى إلى تنحيته عن ولاية الكوفة. کما اشتكى مالك وبعض الصحابة من ظلم سعید بن العاص، وهو والٍ آخر للكوفة، لكن عثمان کان میالاً بشدة إلى قومه وعشيرته، ولذلك فقد بادر إلى نفي مالکا وعدداً من الأجلاء مثل کمیل بن زیاد و صعصعة بن صوحان و ثابت بن قيس إلى الشام، ثم لمّا لم يستطع معاوية بن أبي سفيان إسكات صوت مالك الصادح بالحقيقة، فقد أُبعِدَ هؤلاء الأكارم بأمر عثمان إلى حمص التي كان يحكمها عبد الرحمن بن خالد وفي نهاية المطاف أثمرت مساعي مالك الشجاعة في خلع سعيد بن العاص أيضا بالقوة عن ولاية الكوفة.

كان مالك من أولئك النفر من الصحابة والتابعين الذين كانوا يكشفون للناس حقيقة الجرائم وأنواع الخيانة التي كانت ترتكب من قبل عثمان وولاته، ما أدى إلى أن ينالوا جزاءهم، وبعد مقتل عثمان، راح مالك الأشتر يدعو الناس بخُطَبِ استدلالية وتصريحات منطقية ومقنعة، إلى مبايعة مولاه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ويهيَئ الظروف المناسبة لخلافته.

ص: 16

ثانيا: مرجعيات الخطاب الاقتصادي

لم يختلف الوضع الاقتصادي كثيرا في مصر بانتقالها من الدولة البيزنطية إلى الدولة الاسلامية، فمثلما كانت مصر خزانة للدولة البيزنطية صارت خزانة للعرب، ومثلها كانت مصر تدفع جزية عينية وترسل قمحا إلى القسطنطينية، أصبحت ترسل إلى مقر الخلافة آنذاك وهي المدينة باسم الخراج، ومثلما كان المصريون يدفعون ضريبة الرأس لكونهم خاضعين للروم، أصبحوا يدفعونها في الاسلام بوصفهم ذميين(29).

بيد أننا نلاحظ في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر تركيزه على عمارة الأرض أكثر من استحصال الخراج بل هو يوصيه بالعمارة، وأنها مقدَّمة على الجباية ((ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَرَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ لأَنَّ ذَلِكَ لا

يُدْرَكُ إِلا بِالْعِمَرَةِ ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَرَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ)(30)، وفي هذا النص مرجعيات مکانية ومقامية، تتطلب معرفة بالبلاد، وطبيعة موقعها، ومقدار خراجها، وكيفية استصلاح أرضها.

تقسّم الأرض من المنظور الإسلامي على أربعة أقسام:

1. أرض تم احياؤها من قبل المسلمين، من قبيل إحياء الموات، فهي أرض عشر، للإمام عشرها.

2. أرض المسلمين، فهم أحق بها، وهي أيضا أرض عشر.

3. أرض افتتحت صلحا، فهي على ما صولحوا عليه من خرج معلوم، لا يلزمهم أكثر منه.

4. وأرض أخذت عنوة، فحكمها والنظر فيها للإمام، إن رأى أن يجعلها غنيمة، فيخمسها ويقسمها، كما فعل رسول الله بخيبر، وإن رأى أن يجعلها فيئا بأن تكون موقوفة على المسلمين عامة، کما صنع عمر بالسواد.

ص: 17

وعندما تم لعمرو بن العاص فتح مصر، طالبه العرب بتقسيمها، إلا أنه عندما استطلع رأي عمر بن الخطاب رفض وقال: «ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم». وقد صالح عمرو بن العاص أهلها على جميع من فيها من الرجال من القبط من راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ على دينارين دينارين، فأحصوا لذلك فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف(31).

وهنا يجدر بنا أن نفرّق بين ما نص عليه الإسلام من تحديد قيمة كل من الجزية والخراج تبعا لطاقة الفرد، وبين السياسة التي طبقت بالفعل من قبل الخلفاء أو من قبل الولاة في البلاد التي تولُّوها. فلمّا استبطأ عمر بن الخطاب الخراج من قبل عمرو بن العاص کتب إليه «أما بعد فإني فكّرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة قد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر وإنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت إنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إلى ذلك فإذا أنت تأتيني بمعاريض تغتالها ولا توافق الذي في نفسي ولست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك»(32).

وكان عمرو قد جباها اثني عشر ألف ألف، وجباها المقوقس قبله بسنة عشرين ألف ألف فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بہا کتب، وشدّد في خطابه ليحصل من خراج مصر بمثل ما كان يحصّله الروم والفراعين من قبله.

ص: 18

. ومن خلال مقارنة نصوص هذه المكاتبات بنص العهد يتضح الفارق المضموني بين سیاسة عمر بن الخطاب وما يريده من واليه (عمرو بن العاص)، وبين سياسة الإمام علي (عليه السلام) القائمة أساسا على عمارة الأرض ومطالبة واليه (مالك الأشتر) بأن تكون العمارة أبلغ في نظره من استجلاب الخراج؛ لأنه من وجهة نظر الإمام الاقتصادية أن الخراج لا يطلب إلا بالعمارة.

والسياسة نفسها التي انتهجها عمر بن الخطاب طبّقها عثمان بن عفان، فحينما استعمل عبد الله بن أبي سرح على مصر، كانت جبايتها أربعة عشر ألف ألف، فقال عثمان لعمرو بعدما عزله عن مصر: يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درّها الأول، فقال عمرو: أضررتم بولدها.

والجزية والخراج متشابهتان بأنهما يؤخذان من غير المسلمين، وهما من جملة أموال الفيء ويجيبان بأوقات معينة كل سنة، ولكنها يختلفان بأن الجزية موضوعة على الرؤوس وتسقط بالإسلام، واما الخراج فيوضع على الأرض ولا يسقط(33). والخراج* هو ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، وهو أقدم أنواع الضرائب(34). وهناك من خلط بين المفهومين (الجزية والخراج) ولكن نجد دقة توظيف الامام لمفردة الخراج على ما يؤخذ من الأرض من خلال قرنه لها بعارة الأرض.

ولما كانت زيادة الضرائب ونقصانها مرتبطة بحالة الاقتصاد الزراعي - خاصة - في مصر، فلذلك أشار الامام علي في عهده المالك أن يهتم بعمارة الأرض من خلال حفر الترع وإقامة الجسور وبناء القناطر وغير ذلك مما يلزم للري والزراعة.

ص: 19

ثالثا: مرجعيات الخطاب الاجتماعي

برز في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر مجموعة مكونات نصية كشفت عن معرفة دقيقة بالطبقات الاجتماعية وأنظمتها مثّلت بمجموعها خطابا اجتماعيا على قدر عال من الوعي والدراية بأحوال المجتمع المصري، فبتحديد البعد المرجعي لهذا الخطاب الاجتماعي تتحدد المعاني داخل النص من خلال بربط مكوناته بعناصر المقام الاجتماعي.

وقد حدّد الإمام علي (عليه السلام) في عهده المالك الأشتر طبقات المجتمع، بقوله: ((واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ والْخَاصَّةِ ومِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ ومِنْهَا عُمَّلُ الإنْصَافِ والرِّفْقِ ومِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ والْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ ومِنْهَا التُّجَّارُ وأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ))(35). ونلاحظ في هذا النص أنّ الإمام جعل المجتمع في ثماني طبقات:

1. جنود الله

2. کتاب العامة والخاصة

3. قضاة العدل

4. عمال الإنصاف والرفق

5. أهل الجزية والخراج

6. التجار

7. أهل الصناعات

8. ذوي الحاجة والمسكنة

ص: 20

وكيف بيّن الإمام في العهد أنّ هذه الطبقات (لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا

غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ) فهي قائمة على التكامل والتعاون، ((إذ إن التفاوت الفكري والتفاوت في القدرة نوعية العمل فضلا عن الميول والأهداف الوظيفية المتنوعة بين الطبقات، تؤكد قيام المجتمعات على فئات تتكامل في الانتاج وتتعاون في العمل الوظيفي والتطوير الحضاري، إذ يأخذ كل فرد دوره واختياره الوظيفي في التخصص المهني أو التجاري أو الإداري... وسواها))(36).

وإذا أردنا الوقوف عند هذه الطبقات المجتمعية وما بينها من ترابط و تکامل، بما يلقي ضوءا عليها يتناسب وفهم الخطاب في مجال التداولي المجتمعي الذي صدر فيه. نرى أنّ الإمام بدأ بطبقة الجند، وتعد مصر الفرعونية أوّل دولة نظمت الجند، فقد جندت جیشا من الزنوج والأحباش حوالي القرن العشرين قبل الميلاد، اخضعت بهم سكان سواحل البحر الأحمر. ثم انتشر أمر التجنيد في الدول القديمة في أشور و بابل وفينيقية واليونان والرومان والإسلام(37).

ويشير الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى وجود قسمين من القوات العسكرية:

القسم الأول ويتمثل في المسترزقة.

القسم الثاني ويتمثل في المتطوعة.

وبالنسبة للقسم الأول وهم المسترزقة، فهم الجنود النظاميون أصحاب الديوان من أهل الفيء والجهاد الذين يفرض لهم العطاء من بيت المال من الفيء بحسب الغني والحاجة. وهؤلاء موقوفون للجهاد لا يشتغلون بغيره من تجارة أو زراعة أو غيرها، وإن فعلوا تعرضوا للعقاب. يقول ابن عبد الحكم: إن عمر بن الخطاب أمر مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد لإبلاغ الرعية (أن عطاءهم قائم، وأن رزق عيالهم سائل، فلا يزرعون ولا يزارعون).

ص: 21

أما بالنسبة لوقت صرف الرواتب (العطاء) للجند، فيذكر الماوردي: أن وقت العطاء كان معلوما يتوقعه الجيش عند الاستحقاق، وهو معتبر بالوقت الذي تستوفي فيه حقوق بیت المال، فإن كانت تستوفي في وقت واحد من السنة جُعل العطاء في رأس كل سنة، وإن كانت تستوفي في وقتين جعل العطاء في كل سنة مرتين، وإن كانت تستوفي في كل شهر جُعل العطاء في رأس كل شهر ليكون المال مصروفا إليهم عند حصوله، فلا يحبس عنهم إذا اجتمع. وإذا تأخر عنهم العطاء عند استحقاقه، وكان حاصلا في بيت المال، كان لهم المطالبة به کالديون المستحقة.

أما طبقة الكتّاب، فقد كانت منصبا من مناصب الحكومة لا يستغني عنه، ولما فتحت الأمصار وتدونت الدواوين عیّن عمر بن الخطاب كاتبا لكل ولاية يكتب في ديوانها. وكان الكاتب يكتب في أول الأمر لديوان الجند و بیت المال. ثم في عهد الإمام علي كانت الكتابة منحصرة في واحد يضبط حساب الديوان من أعطيات الجند وأسمائهم ويكتب المراسلات، وربما كانا اثنين يتولى الثاني كتابة بیت المال(38).

ومن الطبقات التي ذكرت في نص العهد طبقة (قضاة العدل)، وهم أصناف، فعندما فتح العرب مصر أبقوا على النظام القضائي البيزنطي مع تغيير في التسميات من جانب، وتغيير في الوظيفة من جانب آخر. فكانت هناك أربعة أنواع من المحاكم، هي(39):

النوع الأول: المحاكم العادية.

النوع الثاني: محكمة النظر في المظالم.

النوع الثالث: محاكم أهل الذمة.

النوع الرابع: قضاء الجند.

ص: 22

وعندما فتح العرب مصر، کتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بتولية قيس بن أبي العاص القضاء، فولى القضاء عام 23 ه، ثم مات بعد ثلاثة شهور من توليته، وبعد موته كتب إليه أن يستقضي كعبا بن يسار، وكان ممن قضى في الجاهلية. فأبى، وقال: «قضيت في الجاهلية ولا أعود إليه في الإسلام». فولى عمرو بن العاص عثمان بن قیس بن أبي العاص على القضاء بإذن عمر بن الخطاب، فقد كان بعض القضاة يعينهم الولاة بتفويض من الخليفة(40).

وتذكر الدكتورة سيدة اسماعیل کاشف أن القضاة في مصر كانوا أكثر استقلالا في مناصبهم من الولاة، وهو أمر كان يستدعيه حسن سير العدالة. ففي كثير من الأحيان کان القاضي يشغل منصبه في عهود ولاة مختلفين، وكثيرا ما مات القضاة وهم في مناصبهم. فنجد القاضي سليم بن عتر التجيبي يتولى القضاء عشرين سنة (40 - 60 ه)(41).

وكان القاضي في مصر يعيّن من قبل الوالي أو الأمير، إلى أن جاء بني العباس فجعلوا تولية القضاة إليهم(42).

وبعد طبقة القضاة تأتي طبقة (أهل الجزية والخراج)، ويعد صاحب الجزية والخراج الرجل الثاني في الدولة بعد الوالي من حيث المكانة والأهمية. وقد حرص الخلفاء على جعل عمال الخراج مستقلين عن الولاة، وذلك لإضعاف نفوذهم، مثلما فعل عثمان بن عفان عند توليته عمرو بن العاص على الحرب، وعبد الله بن أبي سرح على الخراج، فرفض عمرو ذلك، وقال قولته المشهورة «إذا أنا کماسك البقرة بقرنها وآخر يحلبها»(43).

ولكن هذه السياسة لم يكن يرتضيها الإمام علي (عليه السلام) ولا هي معروفة عنه، فلم يكن ليرسل واليا وفي نيته استضعافه، خاصة ما لمالك الأشتر من منزلة لديه، وحنكة يُعوّل عليها في حكم مصر.

وتأتي طبقة التجار، وقد كانت طبقة التجار في العصر البيزنطي تتركز بصورة رئيسية في الاسكندرية، وكانت تتكون من اليهود خاصة الذين اشتهروا بمهارتهم التجارية،

ص: 23

ومن الروم والأقباط والسوريين وعناصر أخرى. وقد استمرت طبقة التجار في مزاولتها للتجارة تحت الحكم العربي، بعد أن أضيفت إليها طبقة من التجار العرب الذين استوطنوا مصر(44).

وعندما دخل العرب مصر، عملوا على استغلال الوضع التجاري المزدهر فيها لصالحهم، فساروا على نفس سياسة الدولة البيزنطية وهي سياسة حرية التجارة. وفي ذلك يقول الدكتور علي حسني الخربوطلي: إنّ القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) كان عصر تجارة غير مقيدة في البحر المتوسط. حتى يقول الرحالة الأوربي (آرکولف) الذي زار مصر عام 670 م (حوالي 50 ه): إن الاسكندرية أصبحت ملتقى تجارة العالم كله، وتوافدت عليها أعداد غفيرة من التجار لشراء ما بها من بضائع(45).

وأهل الصناعات، على الرغم من أن وسيلة الانتاج الرئيسة في مصر كانت هي الأرض، وكانت الزراعة هي الحرفة الرئيسة لأهلها، إلا أنه كان من الطبيعي أن تنشأ إلى جانب حرفة الزراعة حرفة أخرى تواجه حاجات المجتمع الأخرى من مصنوعات، وكانت هذه الحرفة هي حرفة الصناعة.

وقد كانت طبقة الصناع في مصر قبل الفتح العربي تتكون من الأقباط، واستمر الأقباط يعملون بالصناعة تحت الحكم العربي أيضا، سواء من بقي على دينه، أو من أسلم منهم، فالعرب لم يعملوا في الصناعات وغيرها من المهن، وإنما كانوا يعنون بالأمور السياسية في الدولة، وحتى بعد أن بدأ العرب في الاختلاط بالأهالي وتملك الأرض والاشتغال بالزراعة، وذلك منذ القرن الثاني الهجري، وسقوطهم من الديوان في عهد المعتصم 218 ه ظل أهل البلاد الأصليين يشكلون طبقة الصناع(46).

وأخيرا ذوو الحاجة والمسكنة، وهم الطبقة السفلى التي على الوالي الترأف بهم ورعاية مصالحهم.

ص: 24

الخاتمة:

1. كشفت الدراسة من خلال البحث عن مرجعيات العهد الخطابية أننا دخلنا في دائرة تأويلية في تحديد المرجع الخارجي المناسب لمراد الإمام في عهده.

2. لفت البحث من خلال الوظيفة المرجعية؛ إحدى وظائف جاكبسون الست إلى وجود لغة تواصلية مشتركة بين المتكلم (الإمام علي عليه السلام) والمرسل إليه (وهو هنا مالك الأشتر) ضُمّنت في رسالة العهد أسماها جاكبسون (السنن) وهي عبارة عن نظام ترمیز مشترك كليا أو جزئيا بين المرسل والمتلقي، بحيث يكون نجاح أية عملية إبلاغية معتمدا عليها.

3. بيّن البحث أنّ تضمّن النص مرجعيات مکانية ومقامية، تتطلب معرفة بالبلاد (مصر)، وطبيعة موقعها، ومقدار خراجها، وكيفية استصلاح أرضها.

4. وجد الدارس دقة في توظيف الإمام المفردة الخراج وهي ما يؤخذ من الأرض من خلال قرنها في العهد بعمارة الأرض. بيد أن هناك من خلط بين مفهومي (الجزية والخراج).

5. برزت في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر مجموعة مكونات نصية كشفت عن معرفة دقيقة بالطبقات الاجتماعية وأنظمتها مثّلت بمجموعها خطابا اجتماعيا على قدر عال من الوعي والدراية بأحوال المجتمع المصري.

ص: 25

الهوامش

1. ظ: لسانیات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1991 م، 16 - 19.

2. ظ: م. ن 16 - 17.

3. ظ: أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية ((تأسيس نحو النص))، محمد الشاوش، منشورات كلية الآداب، جامعة منوبة، ط 1، 2001 م، 2 / 960.

4. ظ: م.ن 2 / 963.

5. لسانیات الخطاب وأنساق الثقافة، عبد الفتاح يوسف، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، 2010، 275.

6. في فلسفة اللغة، محمود فهمي زيدان، دار النهضة العربية، بيروت، (د.ت)، 56 - 57.

7. تحليل الخطاب، براون ويول، ترجمة محمد لطفي الزليطني ومنير التريكي، جامعة الملك سعود، 1997 م، 6.

8. ظ: السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة، علي آيت أوشان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط 1، 2000 م، 16.

9. ظ: علم اللسانيات الحديثة، عبد القادر عبد الجليل، دار الصفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2002 م 65. وظ: علم الدلالة، أحمد مختار عمر، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، ط 1، 1982 م، 71.

10. اللغة في المجتمع، م. م لویس، ترجمة تمام حسان، مراجعة إبراهيم أنيس، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه 1959 م، 48.

11. ظ: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، محمود السعران، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992 م، 310.

ص: 26

12. ظ: الخطاب القرآني دراسة في العلاقة بين النص والسياق، خلود العموش، عالم الكتب الحديث، ط 1، 2008 م، 30.

13. الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام، میشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 1983 م، 280.

14. ظ: النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمام حسان، عالم الكتب - القاهرة، ط 2، 2007 م، 174.

15. نهج البلاغة المختار من كلام أمير المؤمنين لجامعه الشريف الرضي، العتبة العلوية المقدسة، مكتبة الروضة الحيدرية 450.

16. وهم الذين احتضنوا يوسف (عليه السلام) وجعلوه على خزائن الأرض، قال تعالى «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)»، سورة يوسف. وقد كان ليوسف (عليه السلام) بين الهكسوس ما يشبه الوضع الملكي «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ»، يوسف / 101 وقد كان الحكم العدل سارياً بين الهكسوس «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ»، يوسف / 29. كل آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن مدة وجود يوسف عليه السلام في مصر تطلق على حاكم مصر لقب الملك وقال الملك «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ»، يوسف / 43، «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ»، يوسف / 50، «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي»، يوسف / 54، «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ»، یوسف / 72، «مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ»، يوسف / 76، أما في مدة النبي موسى عليه السلام فنجد القرآن الكريم يطلق على حاكم مصر لقب (الفرعون). قال تعالى

ص: 27

«نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»، القصص / 3، من خلال هذه الإشارة القرآنية يتضح أن لقب فرعون لم يكن يطلق على الحاكم في زمن النبي يوسف (عليه السلام) وقد أثبت تاريخ مصر القديم أنّ سبب اختلاف اللقب بين هذين الحاكمين في مصر: أنّ النبي يوسف عاش في العهد الملكي القديم / عصر الانتقال الثاني؛ لذا لم يكن اللقب المستعمل عند حكام مصر لقب (فرعون)، بل لقب (الملك)، أما النبي موسى فقد عاش في العهد الملكي الجديد / عصر الدولة الحديثة، الذي بدأ في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وهو العصر الممتد من 1550 إلى 1069 ق.م والذي كان يطلق فيه على الحاكم لقب، (فرعون). ظ: مصر الفرعونية منذ أقدم العصور حتى عام 332 قبل الميلاد، أحمد فخري، مكتبة الأسرة، 2012 م، 205.

17. ظ: تاريخ مصر القديم من أفول الدولة الوسطى إلى نهاية الأسرات، زکیه یوسف طبوزادة، القاهرة، 2008، 10.

18. الذي وصفه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بعظيم القبط في رسالته له «بسم الله الرحمن الرحیم. من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

19. تاريخ وحضارة مصر القديمة، سمير أديب، مكتبة الاسكندرية، 1997 م، 318.

20. ظ: المجتمع في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلى العصر الفاطمي، هویدا عبد العظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994 م، 1 / 78.

21. وهو عبد اللهّ بن سعد بن أبي سرح، أخو عثمان بن عفان من الرّضاع. إرتدّ في عهد

ص: 28

النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وكان من كتّاب الوحي، فلحق بالكفّار، فأهدر النبي دمه، فستره عثمان بن عفان يوم الفتح، مع أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان قد قال في ذلك اليوم: «أربعة لا أومنّهم في حلّ ولا في حرم» وأحدهم ابن أبي سرح، فجاء به إلى النبي، فاستوهبه منه، فعفا عنه. قالوا: وكان رجل من الأنصار قد نذر أن يقتل ابن أبي سرح، إذ رآه إطاعة لأمر النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، فلمّا وجده عند النبي وكان يأبی أن یبایعه هاب قتله، فقال له النبي (صلى الله عليه واله وسلم): انتظرتك أن توفي نذرك. قال: يا رسول اللهّ هبتك، أفلا أومضت. قال: إنه ليس لنبىّ أنْ يغمز أو يومض. وفي رواية: إنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال لمن حوله: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله.

22. ظ: الكامل في التاريخ، ابن الأثير (630 ه)، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1987 م، 3 / 65.

23. تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 310 ه، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط 2، 4 / 255.

24. أخرج ابن عساكر بإسناده عن الزهري قال: ((إنّ عثان لما وليّ، کره ولايته نفر من أصحاب النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، لأنّ عثمان كان يحبّ قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيراً ما يولّي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول اللهّ (صلى الله عليه واله وسلم) صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وكان عثمان يستعتب فيهم، فلا يعزلهم، فلمّا كان في الستّ حجج الأواخر استأثر بني عمه، فولاّهم، وما أشرك معهم، وأمرهم بتقوى اللهّ، ولّى عبد اللهّ بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر یشکونه ويتظلّمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثان هنات إلى عبد اللهّ بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن یاسر،

ص: 29

فكانت بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد خنقت على عثمان لحال عمّار بن یاسر. وجاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فكتب إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبي ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتی عثمان، فقتله. فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيد اللهّ فكلّم عثمان بن عفان بكلام شديد، وأرسلت عائشة إليه، فقالت: تقدّم إليك أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت إلاّ واحدة، فهذا قد قتل منهم رجلاً، فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه علي بن أبي طالب، وكان متكلّم القوم، فقال: إنما يسألونك رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا قبله دماً، فاعزله عنهم، واقض بينهم، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه، فقال لهم: اختاروا رجلاً اُولّيه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقال: استعمل عليه محمد بن أبي بكر، فكتب عهده، وولاّه وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح. فخرج محمد ومن معه، فلمّا كان على مسيرة ثلاث من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ما قصّتك؟ وما شأنك؟ هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين؛ وجّهني إلى عامل مصر، فقال له رجل: هذا عامل مصر قال: ليس هذا أريد وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه رجلاً، فأخذه، فجيء به، قال فنظر إليه، فقال: غلام من أنت؟ فأقبل مرّة يقول أنا غلام أمير المؤمنين، ومرّة يقول أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة، قال: معك

ص: 30

کتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتاباً، وكانت معه إداوة قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحرّكوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإدارة، فإذا فيها كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح. فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا أتاك فلان ومحمد وفلان، فاحتل قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إليّ يتظلم منك، ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء اللهّ، فلما قرؤا الكتاب فزعوا وأزمعوا، فرجعوا إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخوانیم نفر كانوا معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم. وقدموا المدينة، فجمعوا طلحة، والزبير، وعلياً، وسعداً، ومن كان من أصحاب محمد (صلی الله عليه واله وسلم)، ثم فضّوا الكتاب بمحضر منهم، وأخبروهم بقصّة الغلام، وأقرؤهم الكتاب، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمّار، حنقاً وغيظاً، وقام أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتمّ لما قرأوا الكتاب، وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم. فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمّار ونفر من أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، كلّهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف باللهّ ما كتبتُ هذا الكتاب، ولا أمر به، ولا علم به. قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف باللهّ ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجّهت هذا الغلام إلى مصر قط، وأما الخطّ فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى، وكان مروان عنده في الدار. فخرج أصحاب محمد من عنده غضاباً وشکّوا في أمره، وعلموا أن عثمان لا يحلف

ص: 31

بباطل، إلا أن قوماً قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتی نبحثه ونعرف حال الكتاب، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب محمد بغير حق، فإن يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان، ولزموا بيوتهم، وأبي عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف على الناس، فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا، أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فسكت، ثم قال: ألا أحد يبلغ فيسقينا ماء، فبلغ ذلك عليّاً، فبعث إليه بثلاث قرب مملؤة، فيما كادت تصل إليه وجرح في سبها عدّة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه، فبلغ عليّاً أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا، وقال للحسن وللحسين: إذهبا بسیفیکما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدّة من أصحاب محمد أبناءهم، يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان)) تاریخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساکر (ت 571 ه)، تحقيق: عمرو بن غرامة العمر وي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995 م، 39 / 415 - 418.

25. نهج البلاغة 450.

29. نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، د. حسين خمري، ط 1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2007، 265 - 277. وظ: السيميائية وفلسفة اللغة امبرتو ایکو، ترجمة د. أحمد الصمعي، ط 1، المنظمة العربية للترجمة بيروت، 2005 م، 390 - 440.

27. ظ: قضايا أدبية عامة، آفاق جديدة في نظرية الأدب، برنار موراليس، ایمانویل فریس، ترجمة لطيف زيتوني، عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 300، 2004 م، 45 - 46.

ص: 32

28. ظ: م. ن.

29. ظ: المجتمع في مصر الاسلامية 115.

30. نهج البلاغة 458.

31. وهذا نص المعاهدة: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان وملتهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم. لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وما عليهم ما جنى لصوتهم فإن أبر أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم. وذمتنا ممن أبي بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع بقدر ذلك. ومن دخل في دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم. ومن أبي واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثاً في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم. على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً وكذا وكذا فرساً على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله و محمد بناة وكتب وردان وحضر. ظ: كتاب الأموال، أبو عبيد القاسم بن السلام، تقدیم ودراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، ط 1، 1989 م، 62. وظ: تاریخ دمشق، ابن عساکر 2 / 194.

32. ظ: المقريزي 3 / 543 - 544. وفي كتاب آخر «من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي ببنيات الطرق وقد علمت إني لست أرضى منك إلا بالحق البين ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفير الخراج وحسن سیاستك فإذا أتاك كتابي هذا

ص: 33

فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين وعندي من قد تعْلَم قوم محصورون والسلام». فكتب إليه عمرو بن العاص بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص سلام علیکم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد أتاني کتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الحراج ويزعم أني أَعْنَد عن الحق وأنكب عن الطريق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن يخرق بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه والسلام.

33. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان 1 / 220.

* إنّ كلمة الخراج ليست عربية أصلية، وإنما هي نقلت عن اللغة اليونانية عن طريق البيزنطيين، أو هي تعريب الكلمة الآرامية "Choregia" وكانت تعني الضريبة بصفة عامة. غير أنه رأى أن استعارة العرب لهذه الكلمة كانت قبل مجيء الإسلام على اعتبار أنها قد استعملت في القرآن، وتكرر ورودها في الأحاديث، وعلى لسان العرب قبل بدء الفتوح. الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، محمد ضیاء الدين الريس، ط 5، 1985 م، 8.

34. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 1 / 221.

35. نهج البلاغة 454.

36. نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، نعمة دهش فرحان، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد، 2011 م، 150.

37. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 158.

38. ظ: م.ن 1 / 245.

39. ظ: المجتمع في مصر الاسلامية 300.

ص: 34

40. ظ: م. ن 306

41. ظ: مصر في فجر الإسلام من الفتح العربي إلى قيام الدولة الطولونية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، 87

42. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 1 / 239.

43. ظ: المجتمع في مصر الاسلامية 249.

44. ظ: م. ن 194.

45. ظ: الحضارة العربية الإسلامية: حضارة السياسة والإدارة والقضاء والحرب والاجتماع والاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة والفنون، 1994، 45.

46. ظ: المجتمع في مصر الإسلامية 166.

ص: 35

المصادر والمراجع

1 - أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية ((تأسيس نحو النص)، محمد الشاوش، منشورات كلية الآداب، جامعة منوبة، ط 1، 2001 م.

2 - الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام، میشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 1983 م.

3 - الأموال، أبو عبيد القاسم بن السلام، تقدیم ودراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، ط 1، 1989 م.

4 - تاریخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت 571 ه)، تحقيق: عمرو بن غرامة العمر وي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995 م.

5 - تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، منشورات دار مكتبة الحياة، بیروت لبنان.

6 - تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 310 ه، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط 2.

7 - تاريخ مصر القديم من أفول الدولة الوسطى إلى نهاية الأسرات، زکیه یوسف طبوزادة، القاهرة، 2008.

8 - تاريخ وحضارة مصر القديمة، سمير أديب، مكتبة الاسكندرية، 1997.

9 - تحليل الخطاب، براون ويول، ترجمة محمد لطفي الزليطني ومنير التريكي، جامعة الملك سعود، 1997 م.

10 - الحضارة العربية الإسلامية: حضارة السياسة والإدارة والقضاء والحرب والاجتماع والاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة والفنون، 1994.

11 - الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، محمد ضياء الدين الريس، ط 5، 1985 م.

12 - الخطاب القرآني دراسة في العلاقة بين النص والسياق، خلود العموش، عالم الكتب الحديث، ط 1، 2008 م.

ص: 36

13 - السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة، علي آيت أوشان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط 1، 2000 م.

14 - علم الدلالة، احمد مختار عمر، مکتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، ط 1، 1982 م.

15 - علم اللسانيات الحديثة، عبد القادر عبد الجليل، دار الصفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2002 م.

16 - علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، محمود السعران، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992 م.

17- في فلسفة اللغة، محمود فهمي زيدان، دار النهضة العربية، بيروت، (د.ت).

18 - قضايا أدبية عامة، آفاق جديدة في نظرية الأدب، برنار مورالیس ایمانویل فریس، ترجمة لطيف زيتوني، عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 300، 2004 م.

19 - الكامل في التاريخ، ابن الأثير (630 ه)، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1987 م.

20 - لسانیات الخطاب وأنساق الثقافة، عبد الفتاح يوسف، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، 2010.

21 - لسانیات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1991 م.

22 - اللغة في المجتمع، م. م لویس، ترجمة تمام حسان، مراجعة إبراهيم أنيس، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه 1959 م.

23 - المجتمع في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلى العصر الفاطمي، هویدا عبد العظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994.

24 - مصر الفرعونية منذ أقدم العصور حتى عام 332 قبل الميلاد، أحمد فخري، مكتبة الأسرة، 2012.

25- مصر في فجر الإسلام من الفتح العربي إلى قيام الدولة الطولونية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994.

ص: 37

26 - النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمام حسان، عالم الكتب - القاهرة، ط 2، 2007 م.

27 - نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، د. حسين خمري، ط 1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2007.

28 - السيميائية وفلسفة اللغة امبرتو ایکو، ترجمة د. أحمد الصمعي، ط 1، المنظمة العربية للترجمة بيروت، 2005 م.

29 - نهج البلاغة المختار من كلام أمير المؤمنين لجامعه الشريف الرضي، العتبة العلوية المقدسة، مكتبة الروضة الحيدرية.

30 - نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، نعمة دهش فرحان، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد، 2011 م.

ص: 38

أدوات الطلب ودلالتها البلاغية في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

الأستاذ الدكتور حسين لفته حافظ

مركز دراسات الكوفة / جامعة الكوفة

ص: 39

ص: 40

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي الصادق الأمين وال بيته الطاهرين وبعد....

فقد اختط اهل البيت عليهم السلام منهجا صحيحا للعالم باسره من خلال النصائح التي تركوها للأجيال القادمة والتي اشتملت على مواعظ و حکم وارشادات وتوجيهات تربوية واخلاقية تصلح أن تكون دستورا يسلكه كل من أراد النجاة والسير في الدرب الصحيح ومن تلك المواثيق ما خلّفه لنا الامام علي عليه السلام في عهده المشهور الى مالك الاشتر واليه على مصر، فقد احتوى هذا العهد على صور فريدة من الحكم والنصائح بأسلوب بلاغي فريد، وموضوع دراستنا يركز على أساليب الطلب ودلالتها البلاغية، فقد لاحظت تنوع أساليب الطلب في عهد الامام مرة يأتي الطلب بأسلوب الامر ومرة أخرى يأتي الطلب بأسلوب النهي وهما الأكثر استعمالا من بين الأساليب الأخرى، فضلا عن هذا حاول البحث الوقوف على جماليات الايجاز في العهد وتفنن الامام عليه السلام في عرض أفكاره بطريقه شيقة، كذلك نبه البحث إلى قدرة الامام عليه السلام في التضمين القرآني، حتى لا يشعر القارئ معها بوجود تضمين الا بعد التفحص الدقيق والتمعن وذلك باعتماد أسلوب اللمحة الدالة.

اما عن منهج البحث فقد اتبعت فيه المنهج التحليلي وذلك لغرض فهم طبيعة النص ومعرفة دقائق اسراره، فضلا عن الاستعانة بالدراسات السابقه، من هنا تنوعت مصادر البحث لتشمل كتب التاريخ والبلاغة والسياسة والإدارة وغيرها، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ص: 41

التمهيد

بواعث الابداع في الأسلوب الخطابي عند الامام علي (عليه السلام) شكلت الخطابة عنصرا مهما من عناصر الابداع الفني عند العرب ومنذ العصر الجاهلي وذلك لتأثيرها القوي في نفوس الناس، واستمرت العناية بها مع مجيء الإسلام حتى وجدنا نبي الرحمة يستعمل الخطابة في مناسبات عدة وكذلك عند الإمام علي عليه السلام فنجد أن الخطابة قد أخذت أسلوبا متميزا جديدا واكتسبت معنی اصطلاحيا متكاملا إذ تتمثل لنا ذروة البيان العربي بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عند الامام عليه السلام ولذلك أسباب وعوامل ذاتية وسياسية وتاريخية ونفسية اقترنت بالإمام علي عليه السلام.

أ - العامل الذاتي:

لاشك أن الامام علي عليه السلام كان مؤهلا تأهيلا خاصا ومعدا اعدادا ثقافيا من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وقوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسی)، وقوله: علي أقضاكم(1).

والخطابة تتناول العلم والقضاء والإعداد الإسلامي، وتتناول غير ذلك من مهمات رجل الدولة فيما يذيعه ويبينه لعامة المسلمين في الملمات، أليس هو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني)، وقد أجمع مؤرخو السيرة والسلف الصالح أن هذا القول ما ادعاه أحد غيره إلا فضحه الله وكان ميدان السؤال والإجابة عنه في خطبه مهما طال الجواب أو قصر واحتاج الناس إليه في كل شيء، وعدم احتياجه لهم في أي شيء، دليل على مبلغ علمه وتمرسه، وقد ساقه الخليل بن أحمد الفراهيدي دليلا على امامته، ونحن ننظر إليه من وجهة نظر أدبية فقط ومظنة نشر هذا العلم الذي احتاجه الناس هو المنبر، وذلك ما عودنا على ذلك الإمام، مضافا إلى الرسائل والوصايا والعهود والمواثيق التي أبرمها

ص: 42

بشكلها النهائي. وفي طليعة ذلك عهد مالك الاشتر الذي فصل بنوده القانونية المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي في مجلدين هما (الراعي والرعية).

إن كفاية الإمام الشخصية وإعداده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلاغته التي لا يختلف فيها اثنان حتى عادت بديهية لا يحتاج في إثباتها إلى برهان، كل أولئك جعتله إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين من دون منازع.

ب - العامل السياسي:

إن العزل السياسي الذي تعرض له الامام عليه السلام طيلة ربع قرن منذ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهد خلافته فضلا عن الأحداث التي رافقت حقبة خلافته، وهي أحداث دامية فجرت في نفسه الألم وأججت كوامن الأسى والشجي فعبر عن ذلك بخطبته التي تناولت مختلف الأغراض الإنسانية وفي شتى مجالات المعرفة البشرية.

فالناكثون ومشاكلهم والقاسطون وجرائرهم والمارقون ونوازعهم كل أولئك عوامل سياسية جرت إلى حروب طاحنة كان الأسى يعصر فيها قلب الإمام فينفح عن الأمة من جهة، ويهيئ لرد أعداء الإسلام من جهة أخرى، وما يحتاج ذلك من تحذير وإنذار وترغيب وترهيب وسياسة ودفاع وهجوم وتذكير بالله ودفع إلى الجهاد وإصرار على الحق وثبات على المبدأ.

ج - العامل التاريخي:

نشأ من العامل السياسي أن تفرّق المسلمون شيعا وكتلا وجماعات فلكلّ قائد ولكلّ موجّه، وغاية الإمام العودة بالإسلام إلى أصوله الأولى والاغتراف من مناهجه والتذكير بالله تعالى والاستدلال على عظمته وقدرته والتزام سنن الدين في حين بَعُدَ المسلمون عن ذلك وراقتهم الدنيا بزبارجها، وذلك ما اشار هو عليه السلام إلى ذلك في قوله: (كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول)، ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي

ص: 43

الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (. بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا بأعينهم وراقهم زبر جها).(2)

هذا في وقت قد بَعُدَ الناس تاريخيا عن عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان الزمن قد شکل عاملا جديدا في تفجير طاقة الامام علي عليه السلام.

إذن لم يجد الامام عليه السلام محيصا من استفراغ جميع قدراته البيانية وبذل امکاناته الخطابية كافة من أجل العودة بالناس إلى الدين بشتى الأساليب البلاغية فاستغل جميع الفرص والمناسبات للتذكير والوعظ والارشاد والاحتجاج والرد والمجابهة، ولاسيما أن المسلمين ابتعدوا بمواقعهم عن جوهر الإسلام.

د - العامل النفسي:

كان الامام بطبيعته وتركيبه النفسي مجبولا على الزهد والتقوى والاعراض عن الدنيا ومواساة الفقراء ليكون النموذج الاسمى للحاكم العادل ولا أدل على ذلك من قوله:

(أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا اشاركهم بخشونة العيش أو أكون لهم أسوة على مکاره الدهر ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنه يوم الفزع الأكبر وتثبت على جوانب المزلق).(3)

وكان الامام عليه السلام قد ساق هذه الخطبة في معرض عتاب صحابته له على خشونة عيشه وخشونة لبسه، فكان الرد قولا وعمليا ذا قيم انسانية منبثقة عن تكوينه النفسي غير متكلف فيه مطلقاً؛ لذا بدأ يعظ ويخطب بهذا المستوى البلاغي الرفيع.

ومن هذه الخِلال تطورت الخطابة على يديه فأصبحت فناً متكاملا ذا بال في الأدب العربي الأصيل.

ص: 44

المبحث الأول: أسلوب الامر

الامر في اللغة هو نقيض النهي(4) لان الامر هو طلب فعل الشيء والنهي ترك الفعل، اما اصطلاحا فان الامر هو: صيغة تستدعي الفعل، او قول ينبئ عن استدعاء الفعل على سبيل الاستعلاء(5) ومن الجدير بالذكر ان المطلع على عهد الامام علي عليه السلام يلاحظ كثرة الأوامر الواردة فيه واكثر هذه الأوامر تبدا بصيغة (افعل) ومن الأمثلة على ذلك قوله عليه السلام:

(فاملك هواك و شح بنفسك عما لا يحل لك)(6) وقد عبر الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة عن بلاغة الامام علي عليه السلام وقدرته الفائقة خير تعبير في قوله:

(كان أمير المؤمنين علي مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب - وبکلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق و قصّروا - و تقدم و تأخروا. وأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجل، والجَمُّ الذي لا یُحافَل)(7).

وفي موضع آخر يدلل الامام علي عليه السلام أهمية العمل الصالح وانه افضل من حطام الدنيا في قوله:

(فليكن احب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح)(8)

كذلك نجد في أوامره میلا واضحا الى الحث على إشاعة الرحمة والتراحم بين الناس وهي صفة القائد الناجح الذي يجمع كل صفات القوة والتسامح وهي صفة المرؤة عند العرب وذلك في قوله:

(و اشعر قلبك الرحمة للرعية)(9)

ص: 45

وفي إشارة أخرى من أوامر الامام علي عليه السلام يتحدث فيها عن والعدالة مستعملا أسلوب الامر مباشرة بجمل قصيرة في قوله:

(انصف الله و انصف الناس من نفسك و من خاصة اهلك و من لك هوى فيه من رعيتك فانك ان لا تفعل تظلم)(10)

و تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم

المبحث الثاني: أسلوب النهي

النهي في اللغة: ضد الأمر، تقول: نَهَيْتُه عن الشيء، أنهاه نهيًا، فانتهى عنه، وتناهى؛ أي: كفَّ، ومنه تَنَاهَوْا عن المنكر؛ أي: نهى بعضهم بعضًا(11)

وأما في الاصطلاح، فهو: (طلب الكفِّ عن فعل، على جهة الاستعلاء)(12)

نحو قول الامام علي عليه السلام:

(و لا تحقرن لطفا تعاهدتهم به و ان قل فانه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك و حسن الظن بك)

ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه عليه السلام الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه مَن كلام من لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً)(13).

ومن الأمثلة الأخرى التي استعمل فيها الامام علي عليه السلام أسلوب النهي في قوله: (و لا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنا ذلك لهم دونك و عيبه عليك في الدنيا

ص: 46

والآخرة)(14).

نلاحظ هنا ان الامام يعلل أسباب هذا النهي والعلة من ورائه مبينا السبب الحقيقي انه سوف يخلف اثارا تمتد إلى الآخرة ولا تقتصر على الدنيا اذا هو يشدد على السلوك القويم.

ويذكر الشيخ محمد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة، مثل ذلك قائلاً:

(تصفحت بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر - والباطل منكسر.. وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها. وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب کاشرة، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَضَل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى(15).)

ومن الشواهد الأخرى قول الامام عليه السلام:

(ولا تختلن عدوك فانه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي)(16)

امتاز کلام الامام عليه السلام بالانتقاء الشديد للمفردة المناسبة ووضعها في المكان المناسب لها حتى ليصدق عليه القول انه بحرٌ متلاطم التَّيار، متراكمُ الزَّخار، فهُوَ أعظمُ شأناً وأمنعُ جانباً وأجلُ قَدرَا وأبعَدُ قعراً، ضلَّت العُقولُ، وتاهت الحلومُ،

ص: 47

وقَصَرَت الخُطَباءُ، وعجُزَت الأدباءُ وكَلَّت الفُصَحاءُ وعَجُبَت البلغاءُ، وتَحَیُّرَت الحكماءُ، وتصاغَرَت العظماء عن وصف شأنٍ من شأنِه، أو ادراكُ فضيلَة من فضائله(17).

أما النحاةُ ذَکَروا التحذيرَ المفعولَ به لفعلِ الأمر المحذوف أو «المَفعول للمُضارع المحذوف نحو قول الامام علي عليه السلام:

(إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمكانها أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت)(18).

التحذير هنا واضح عن التسرع والعجلة وهي مفاهیم قرآنية اكد عليها القران واستطاع الامام علي أن يوظفها بطريقة مؤثرة.

المبحث الثالث: أسلوب النداء

النداء لغة: هو الدعاء بأي لفظ كأن تنادي على شخص باسمه، أو أن تحدث صوتا يشعر بالنداء، أو أن تصفر، أو أن تشير إلى إنسان فيفهم أنك تناديه فيُقْبِل(19).

اما النداء اصطلاحا: هو طلب الإقبال ب»يا» أو بإحدى أخواتها(20).

ومن الأمثلة على استعمال الامام عليه السلام لهذا الأسلوب قوله:

(ثم اعلم يا مالك إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور)(21).

ص: 48

المبحث الرابع: السمات البلاغية

أولا: الايجاز:

لعل من اهم السمات البلاغية التي يلاحظها المطلع على عهد الامام علي عليه السلام ان الاعم الاغلب من عباراته تمتاز بالايجاز وقد استرعى إيجاز عبارات الإمام علي (عليه السلام) انتباه علماء البيان وكبار الأدباء، وأولهم، (الجاحظ)، إذ علّق على قول الإمام علي (عليه السلام):

«قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنُه» قائلاً:

«فلو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافيةً كافيةً ومجزِئةً مُعفية، بل لوجدناها فاضلةً عن الكفاية، وغير مقصّرة عن الغاية»(22).

ويرتبط (الإيجاز) ب(الحذف) برابطة دلالية، فقد جُبلت (اللغة العربية) على الحذف بسبب ميلها إلى «الإيجاز»(23). والحذف «باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن»(24).

والحذف مما «يمكن ملاحظته في المستوى التركيبي للغة النهج على صعيد واضح(25)».

ثانيا: التوازن التركيبي:

يرى الدكتور زهير زاهد انه إذا اختلف في الإمام المختلفون فهم لا يختلفون في قدرته البلاغية الفائقة التي تبدع الكلام في حينه ومناسبته، إذ هو يلقي كلامه محكما بأسلوب يضيئه المجاز بألوانه، يصدر عن صدقه وإيمانه، وتجاربه التي عرفت الحياة وطبائعها

ص: 49

وخفاياها. فهو امتداد للخطاب النبوي، لذلك كان وعيه عسيراً على الكثير من معاصريه الذين أسرتهم المصالح والعصبيات، فكلامه لا يخطئه من يسمعه أن يشير إليه، بدلالات سیاقية تفتح للسامع آفاق المعاني في التأمل، وألوان المعرفة، فخطابه يمتاز بفنية اللغة وعمق الفكرة والاجتهاد في التوجيه.(26) الامام عليه السلام:

(ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا و لا تولهم محاباة و أثرة فانهما جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدمة فانهم اكرم أخلاقا و اصح أعراضا و اقل في المطامع إشرافا و ابلغ في عواقب الأمور نظرا)(27).

لقد امتاز کلام الإمام وخطبه بخصائص لغوية وبدلالات مقصدية وبنظم ساقية اختص بها، وبذلك كان كلامه دالاً على شخصه فهو امتداد لخصائص الثقافة النبوية، وهنا يتوحد الدال والمدلول كما يتوحد النص ومنتجه فلا نستطيع الفصل بينهما.(28)

وأخيرا إن قارئ عهد الامام علي عليه السلام يجد فيه كل أسباب الفصاحة والبلاغة في تفصيله واجازه وفي تركيبه وأساليبه البلاغية.

ص: 50

قائمة المصادر

1. خير ما نبدا به القرآن الكريم

2. أصول الفقه؛ للخضري محمد الخضري بك, الناشر: المكتبة التجارية الكبرى, سنة النشر: 1389 - 1969

3. البلاغة في نهج البلاغة، الباحث صباح محسن کاظم، منشورات منتدى الكفيل.

4. البيان والتبيين للجاحظ تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، 1998 م.

5. ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي الدكتور طاهر سليمان حموده الناشر: الدار الجامعية الطبعة: طبعة 1998

6. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، العلوي، تحقيق: عبد الحميد الهنداوي المكتبة العصرية - بيروت.

7. دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد، مكتبة الخانجي، د.ت.

8. عليّ بن أبي طالب سلطة الحق المؤلف: عزيز السيد جاسم, مكان النشر والناشر: بغداد: مؤسسة الزمان; تاريخ النشر: د.ت.

9. عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الى واليه على مصر مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه، اعداد المستشار فليح سوادي، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الفكرية الطبعة الأولى 2010 م.

10. المستويات الجمالية في نهج البلاغة، نوفل أبو رغيف دار الشؤون الثقافية الطبعة الأولى 2012 م.

11. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقیق نعیم زرزور، 1987 م

12. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، الدكتور احمد مطلوب، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، 1987 م

ص: 51

13. المقاصد الحسنة فيها اشتهر على الألسنة، السخاوي تحقيق: محمد عثمان، دار النشر: دار الكتاب العربي، بيروت، 2002 م

14. مقدمة لاعراب نهج البلاغة ومعانيه، الدكتور زهير غازي زاهد، كلية الفرقان الجامعة، بابل.

ص: 52

الهوامش

1 - المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة: 20

2 - شرح نهج البلاغة: 167 والاية 83 من سورة القصص

3 - شرح نهج البلاغة: 243

4 - ينظر لسان العرب مادة (امر).

5 - ينظر: الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز: 281

6 - عهد الامام عليه السلام: 30

7 - الشريف الرضي: نهج البلاغة: 123

8 - عهد الامام علي عليه السلام: 34

9 - عهد الامام علي عليه السلام: 18

10 - عهد الامام علي عليه السلام: 22

11 - ينظر لسان العرب مادة نهی.

12 - ينظر مفتاح العلوم: 86، أصول الفقه؛ للخضري ص (199).

13 - البلاغة في نهج البلاغة: 3

14 - عهد الامام علي عليه السلام: 18

15 - مقدمة شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبدة: 3

16 - عهد الامام عليه السلام: 17

17 - علي بن أبي طالب سلطة الحق: 30

18 - عهد الامام مالك الاشتر: 22

19 - ينظر لسان العرب.

20 - معجم المصطلحات البلاغية: 64 ص: 53

21 - عهد الامام علي عليه السلام: 25

22 - البيان والتبيين: 1 / 83

23 - ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي: 9

24 - دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني: 2 / 362

25 - المستويات الجمالية في نهج البلاغة، ص 157

26 - ينظر مقدمة لاعراب نهج البلاغة ومعانيه: 3

27 - عهد الامام علي: 3

28 - مقدمة لإعراب نهج البلاغة وبيان معانيه: 4

ص: 54

التماسك النصي في رسالة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) (العطف والضمير أنموذجا)

اشارة

د. مهدي عبد الأميرمفتن القطراني كلية الدراسات القرآنية - جامعة بابل

د. راسم أحمد عبيس الجريّاوي

كلية التربية الأساسية-جامعة بابل

ص: 55

ص: 56

ملخص البحث

يُعد مصطلح التماسك النصي من المصطلحات التي ظهرت حديثًا في إطار اللسانيات النصية، ويعبر به عن التماسك الوثيق والتلاحم بين الوحدات والعناصر النصية من خلال الروابط التي تنضوي تحت دائرة التماسك.

والتماسك النصي يعطي أهمية بالغة للنص الأدبي على مستوى الجملة أو الفقرة أو صلة الفقرة بأختها أو النص بأكمله، فالنص لا يستطيع أن يقوم من دون هذه الروابط النصية؛ لذلك يُعد النص مفككًا غير مترابط من دون أدوات التماسك النصى التي تعمل على ربط الأجزاء مع بعضها كي تحقق قفزة نوعية في النص الخطابي بإعطائها نغمة متناسقة ذات أجراس لا متناهية ومتشابكة فيما بينها، والمتلقي أو القارئ بوصفه عنصرًا فعالًا لا يمكن إغفاله في إنتاج النص، فهو يستطيع أن يميز تلاحم العناصر أو الأجزاء عبر الجمل النصية التي كونها الباث وجعل منها نصًا متماسكًا، وهذا الأمر جعل من التماسك النصي أمرًا ضروريًا مهمًا لا يمكن بناء أي نص من دونه؛ ولذلك قيل إذا لم يكن في النص تماسك فلن يكون من الممكن تسميته نصًا.

ص: 57

سنتحدث في بحثنا هذا عن أداتين من أدوات التماسك النصي هما: العطف والضمير؛ لدورهما الفعّال في الترابط النصي من جهة، ولأهميتهما في نص الإمام علي (عليه السلام) من جهة أخرى، فهما بارزان بشكل واضحٍ وملفتٍ للنظر، والإمام (عليه السلام) يوظفهما بشكل واع ومقصود في العملية الخطابية الأمر الذي جعلنا نخصها بالبحث والدراسة.

تألف البحث من تمهيد نظري عن مفهوم التماسك النصي وأهميته في الدراسات اللسانية الحديثة، ودورة في فهم النص وتماسكه، وجاء المبحث الأول عن ومهاده النظري وتطبيقاته في نص رسالة الإمام علي (عليه السلام)، والمبحث الثاني عن الضمير ومفهومه وتطبيقاته، وقائمة المصادر والمراجع التي استقى منها البحث أفكاره العطف ونصوصه.

وختامًا نرجو من الله سبحانه يجعل عملنا هذا مسددًا خدمة لأهل بيت النبوة، وأن يجعلنا من أتباعهم ومواليهم إلى يوم نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، والأئمة الهداة المهديين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

ص: 58

التمهيد

يُعد مصطلح التماسك النصي من المصطلحات التي ظهرت حديثًا في إطار اللسانيات النصية، ويعبر به عن التماسك الوثيق والتلاحم بين الوحدات والعناصر النصية من خلال الروابط التي تنضوي تحت دائرة التماسك. ولذلك من الصعب أن نحد مفهوم التماسك بحدٍّ معين نظرا لكثرة المصطلحات التي تتداخل معه، ومن هذه المصطلحات: (الاتساق، السبك، الانسجام الحبك، الترابط) وغير ذلك.

وعلى الرغم من هذا التعدد فقد عُرِّف بأنّه: ((العلاقات أو الأدوات الشكليَّة والدلالية التي تُسهم في الربط بين عناصر النص الداخلية وبين النص والبيئة المحيطة)(1) فضلًا عن أنّه مصطلح ((يعبر عن التماسك الدلالي بين الوحدات اللغوية المكونة للنص الأدبي، سواء أكانت في صورتها الجزئية أم الكلية. وبه يحدث نوع الانسجام الداخلي التام بين وحداته، وتظهر في صورة لحمة واحدة تحمل خصائصها الذاتية والنوعية التي تتميز بها عن غيرها من النصوص))(2).

وهذا كله يعطي أهمية بالغة للنص الأدبي على مستوى الجملة أو الفقرة أو صلة الفقرة بأختها أو النص بأكمله، فالنص لا يستطيع أن يقوم من دون هذه الروابط النصية التي يطلق عليها بأدوات التماسك النصي التي نأخذ بعضها ونقوم بتحليلها، فالتماسك النصي يُعد ((ذو طبيعة دلالية من ناحية، وذو طبيعة خطية شكلية من ناحية أخرى، وأنَّ الطبيعتين تتظافران معًا لتحقيق التماسك الكلي للنص))(3)، وهذا الأمر جعل من التماسك يقوم على وظيفتين، أحدهما: شكلية أو لفظية، والأخرى دلالية أو معنوية عميقة تحتاج إلى كدِّ الذهن لاستنباطها، وهاتان الوظيفتان قد تطرق لهما فاندايك بقوله: ((إنَّ التماسك يتحدد على مستوى الدلالات، حين يتعلق الأمر بالعلاقات القائمة بين التصورات والتطابقات والمقارنات والمشابهات في المجال التصويري، كما يتحدد على

ص: 59

مستوى الإحالة أيضًا، أي ما تحمل إليه الوحدات المادية في متوالية نصية))(4).

ولذلك يُعد النص مفككًا غير مترابط من دون أدوات التماسك النصي التي تعمل على ربط الأجزاء مع بعضها كي تحقق قفزة نوعية في النص الخطابي بإعطائها نغمة متناسقة ذات أجراس لا متناهية ومتشابكة فيما بينها، فالمتلقي أو القارئ بوصفه عنصرًا فعالًا لا يمكن إغفاله في إنتاج النص، فهو يستطيع أن يميز تلاحم العناصر أو الأجزاء عبر الجمل النصية التي كونها الباث وجعل منها نصًا متماسكًا، وهذا الأمر جعل من التماسك النصي أمرا ضروريًا مهمًا لا يمكن بناء أي نص من دونه فهو يُعد ((الكيفية التي تمكن القارئ من إدراك تدفق المعنى الناتج عن تنظيم النص، ومعها يصبح النص وحدة اتصالية متجانسة))(5)، ومن هنا أصبح تفاعل عميق متبادل بين النص والقارئ؛ لأن المتلقي يسعى جاهدًا لإيجاد التواصل بين الأفكار النصية، واكتشاف التسلسل القائم بين معانيه، فهو غير محفور أو ذائب في النص، بل يعد القارئ الفيصل أو الحكم في اكتشافه من عدمه، وهذا متأتٍ من خلال استيعابه له، ومشاركته في إنتاج معناه، فضلًا عن إضافة أبعاد جمالية جديدة قد لا تكون موجودة فيه من قبل(6).

فمفهوم التاسك يقود المتلقي إلى التفرقة بين النص واللانص؛ لأنَّ النص لم يعد مجرد مجموعة من الجمل وجدت بطريقة اعتباطية، بل هو عبارة عن مجموعة من العلاقات المفهومة التي يستعملها المبدع في كتابة نصه، ويستعملها القارئ في فهم النص الإبداعي(7)، وهذا الأمر عبّر عنه أحد الباحثين بقوله: ((هو وجود علاقة بين أجزاء النص أو جمل النص أو فقراته، لفظية أو معنوية وكلاهما يؤدي دورًا تفسيريًا؛ لأن هذه العلاقة مفيدة في تفسير النص، فالتماسك النصي هو علاقة معنوية بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريًا لتمييز النص الذي يحمل مجموعة من الحقائق المتوالية))(8)، ومن هنا أصبح التماسك يقوم بدورٍ مهم في بناء النص ويتطلب جهدًا كبيرًا لكي تتجاذب

ص: 60

عناصره وتتلاقح فيما بينها لكي تحدد بيئتها المترابطة بنسيجها الممتد على طول امتداد النص ليشكل التماسك موقعًا مركزیًا عبر جوهره المتلاحم بالوسائل التي أعطته أهمية في عدم التشتت حتى أصبح الترابط بين العناصر يشكل محورًا بنیویًا يساعد على فهم النص ويخلِّصه من التفكك النصي، وهذا ما يؤكده سمیر شریف بقوله: ((إذا لم يكن في النص تماسك فلن يكون من الممكن تسميته نصًا))(9)، وهذا الأمر جعل من التماسك النصي بنية تركيبية متماسكة ذات وحدة كلية شاملة يستوجب وصفها السير وراء العلامات السيميائية الممتدة أفقيًا، والبحث عن الوسائل المترابطة بينها، فضلاً عن متابعتها القضايا والمعلومات في باطن النص، والتماسك الدلالي وأدواته وإمكانات الربط الداخلي بين الأجزاء الصغرى و تحديد المدى الذي يحتاجه النص من العناصر والوسائل غير اللغوية التحقق له الوحدة والانسجام والتماسك(10). ومن هنا أصبح من الواجب على المبدع أن يراعي في كتابته الإبداعية كل الأدوات والوسائل التي تنضوي تحت دائرة التماسك النصي بوصفه عملاً مهمًا يعمل على الملمة النص وإخراجه بصيغة منمقة عاليو وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا من المبدع لكي يستعمل أدوات الربط النصية في أماكنها الصحيحة ليجعل من نصه نصًا مترابطًا غير مفکكٍ متناثرٍ لأدواته بل مكتوب على وفق صيغ نصية ذكية وجمل مترابطة متماسكة مع بعضها؛ لينتج عبر ذلك نصًا جادًا يمتلك شاعرية عميقة الأفق منتجة لمعاني غائرة في أسلوبها، فضلاً عن متلقٍ يتصف بالإنتاجية والوعي حتى أصبح تحقيق التماسك ((غير ممكن دون كفاءة تتخطى الشخص العادي، كفاءة المفسر الواعي، فهو الذي يبرز خواص أي نظام للتفكير، ويتصف بالدينامية، ويستند إلى أنواع مختلفة من المعارف))(11)، وهذا الأمر جعل من دور القارئ مهمًا منتجًا لتوقعات نصية جديدة عبر تدفقه في بنية النص وتدرجه في القراءة وانطلاقه من بداية صحيحة دالة على الخطاب، وهذه المهمة التماسكية تنطلق من كون التماسك يعد خاصية نحوية للخطاب تعتمد على علاقة كل جملة منه بالأخرى، وهو ما ينشأ غالبًا عن طريق الأدوات التي

ص: 61

تظهر في النص مباشرة كأحرف العطف والوصل والترقيم وغير ذلك(13)، فضلاً عن الضمير والعطف، وهو محور دراستنا وأنموذج اختيارنا، ووجود التماسك النصي في الخطاب ليس اعتباطًا بل عبر وعي عميق لذا لا يمكن لأي نص أن يقوم من دونه حتى تجعل من النص سائرًا على وفق آليات مدروسة متعمقة دالة على معاني مقصودة، ومعنی ذلك أن التماسك ((يعد عاملاً من عوامل استقرار النص ورسوخه، وتكمن أهميته في عدم تشتيت الدلالات الواردة في الجمل المكونة للنص))(13)، وفي نهاية المطاف يعد التماسك النصي علاقة مفتوحة بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريًا لتفسير النص الذي يحمل مجموعة من الحقائق المتوالية، فإن توالي الجمل سوف يشير إلى مجموعة من الحقائق وعلى نحو النص أن يبحث ليكشف عن تلك العلاقة المعنوية بين مجموع هذه الحقائق أو الأدوات. هذه العلاقة المعنوية تأتي غالبًا عن طريق الأدوات في ظاهر النص(14).

وفي ضوء ما تقدم كله نستنتج بأن التماسك النصي يعد أعم وأشمل المصطلحات بوصفه مصطلحًا يتناسب والروابط المتمركزة تحته.

ص: 62

المبحث الأول: العطف

يُعد العطف من أهم الأدوات التي تحقق التماسك النصي فمن دونه يبقى النص مفککًا لا فائدة منه؛ لأنه ينجز عبر ((وسائل متنوعة، تسمح بالإشارة إلى مجموعة المتواليات السطحية، بعضها ببعض، بطريقة تسمح بالإشارة إلى هذه المتواليات النصية))(15)، ولهذا التماسك الشديد الذي يحدثه العطف يبقى وجوده في النص بارزًا غير منفصلٍ يحتوي على علاقات قائمة مع بعضها، ويزيد من ديمومة النص عبر العلاقة المنجزة بين المتلقي وصاحب النص، فهو يعد بمثابة ((الربط بين حدثين يكون أولاً بالشكل ثم ينعكس هذا الربط الشكلي على محتواه الدلالي، والعطف باعتباره رابطة شكلية من روابط النص المختلفة يساهم في التحام أجزاء الكلام المبعثرة ويعطي لها تماسکًا شكليًا يؤدي إلى تماسكها دلاليًا))(16).

إذ أن الصلة بين المعطوف والمعطوف عليه تجعل منهما شيئًا متماسکًا تربط بين أجزائه أدوات شكلية، أي أدوات العطف وروابط دلالي ناتج عن المعنى والمضمون، فتنكمش هذه العلاقات ممن جزء إلى آخر حتى يكون النص كالمفردة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني شديدة الترابط عميقة الانتظام(17). ومن هذا الانتظام والاتساق الشديد الذي يؤديهما العطف يصبح وجوده في النص مهمًا ذا جوهر رائق يقوم بوظيفة الارتباط النصي عبر علاقات إرسالية وعلامات شكلية توحي به، ومن هنا نعده بأنه السند الرئيس الذي يقوم عليه النص ليؤسس دلالة ملفوظية ذات بناء متوازي يكشف عن البني الموجودة في الخطاب، لينتج عبر ذلك كله نظامًا محوريًا ثابتًا يدور بوساطته النص ليجسد موضوعاته في سلسلة من الاحداث المتتالية ليساهم بدوره في عملية تماسك النص من خلال أدواته المتقاربة، وهذه الأهمية المتحققة في النص أتت عبر العطف؛ لأن العطف يعد وسيلة لتماسك النص ويفرق عن الإحالة؛ لأنه لا يتضمن إشارة موجهة إلى سابق، وإنما

ص: 63

يحتاج إلى جزئیات رابطة متنوعة تصل بين أجزاء النص، الذي هو عبارة عن تراکیب أو متابعات متعاقبة خطيّا(18)، حتى يجعل من النص بأكمله متماسکًا ذا بنية متكاملة کالجملة الواحدة متناسقة فيما بينها. وهذا الأمر جعل من العطف وسيلة لفظية معينة تعمل على إبراز العلاقات النحوية السياقية فضلاً عن الربط الذي يحتل المكان الأوسط والمهم بين علاقتين على طرفي نقيض وهما: الاتصال والانفصال، وهو بهذا يؤدي وظيفة التركيبية المهمة في بناء الجملة والنص(19). فضلا عن أنّ العطف أصبح يقوم بتوليد علاقات دلالية أفقية على مستوى الجملة، وعلاقات دلالية رأسية بين الفقرات في بنية النص، فضلا عن أنه يربط بين الجمل على المستوى الخطي، فأدوات العطف تجعل من المتوالية الجملية مسارًا خطیًا متماسکًا(20)؛ ولذلك أصبح دور العطف الربط بين الكلمة والأخرى أو ربط الفقرات مع بعضها أو التركيب الجملي کي يؤسس عبر ذلك كله بناءً كليًا للنص متحققًا عبر المستويات كلها، لذا كلما ازدادت أدوات العطف تكثف وتبرز التماسك بين جزئیات النص وجمله، ليخرج في النهاية نصًا محكمًا متماسکًا(21)، وفي ضوء ذلك نجد الإمام علي (عليه السلام) يستعمل أدوات العطف استعمالاً خاصًا مقصودًا ليبني بواسطته نصه، ولیدل عِبرها على معنى خاص لكلّ واحدة منها.

فأداة العطف (الواو) تستعمل المطلق الجمع أو العطف، و (الفاء) تستعمل للعطف والتعقيب لتدل على قصر المدة والتعقيب، و (ثم) تستعمل للعطف مع وجود فاصل زمني بين الحديث كبير، فتدل على التراخي أو المهلة الزمنية(22)، وهذا ما سنعرضه ونقوم بتحليله في نص الإمام (عليه السلام). فحرف الواو - على سبيل التمثيل - ما هو إلّا أداة ربط بين طرفين لو سقط جدلاً من النص لاستقلت كل جملة لوحدها ولادت معنی دلاليًا مستقلاً عن الأخرى، وهو يختلف عن الحروف الأخرى (الفاء أو ثم(23))، فالفاء من ((حروف العطف في المفردات والجمل، فإذا كانت للعطف في المفردات فمعناها الترتيب لفظا ومعنى أو لفظًا دون معنی... والربط والترتيب لا يفارقها))(24)،

ص: 64

أمّا (ثم) فهي ((حرف عطف، يشرك في الحكم ويفيد الترتيب بمهلة، فإذا قلت: قام زيد ثم عمرو، أذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة))(25) وفي ضوء ما تحدثنا عنه نجد أنَّ ((حروف العطف يتسع مجال تأثيرها أكثر من حروف الجر؛ إذ يمتد هذا التأثير إلى أكثر من جملتين))(26) وهذا ما فهمه قبلهم عبد القاهر الجرجاني في تفرقته بين الواو وهي أشهر حروف العطف، والفاء توجب فضلاً عن الإشراك في الحكم والترتيب و(ثم) تو جب الترتيب مع التراخي، و (أو) تفيد التخيير، و (لكن وبل) كل منهما يفيد الاستدراك والاضراب(27).

وصفوة القول: إن أدوات العطف تمثل روابط شكلية لها معانٍ دلاليّة وفقًا للعلاقات المجودة بين الجمل على مستوى النص، وهذا الربط يتم على وفق أدوات نحوية لها معان محدودة، والسياق قد يفرض أداة محدداً كما قد يفرض معنى محددا على أداة العطف المستعملة، والعطف النصي يشمل العطف بين المفردات والجمل والفقرات والنصوص، والعطف يعين في استمرارية النص على المستوى السطحي للنص، فضلاً عن قيامه بسلامة التماسك النصي، ويسهم في إنتاج الدلالة الكلية للنص(28).

وقد تحقق التماسك النصي في رسائل الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الاشتر عن طریق حروف العطف اذ سجلت الواو مساحة كبيرة في رسائل الإمام (عليه السلام) وهذا يدل على الاهتمام الكبير من لدن الإمام بوسائل التماسك النصي، وذلك قوله:

((اللهَ اللهَ في الطَّبقةِ السُّفلى من الذينَ لا حِيلَةَ لَهُم، والمساكين والمُحتاجين، وأهلِ

البُؤسى والزَّمنَى، فإنَّ في هذهِ الطَّبقةِ قانعًا ومعتزًا، واحفَظ للهِ ما استحفظَكَ من حَقِّهِ

فِيهم، واجعَل لهُم قِسْمًا من بيتِ مالِكَ، وقِسْمً من غَلَّتِ صَوَافِ الإسلامِ في كُلِّ بلدٍ، فإن

للأقصى منهُم مثل الذي لِلأدنى، وكُلٌّ قد استُعِيتَ حَقَّه، فلا يَشْغَلَنَّكَ عنهُم بَطَرٌ، فإنَّك

لا تُعذَر بتضييعِكَ التَّافِهَ لأحكامِك الكثير المُهِمَّ))(29)

ص: 65

فالذي يتأمل في النص المارّ الذكر سيتجلّى له كثرة استعمال (الواو) على اغلب مقاطع النص ليؤدي إلى الربط النصي المتماسك فضلا عن ذلك ان الإمام استعمل حرف العطف (الواو) لمناسبة الواو للجمل المستعملة في الخطاب زيادة على ذلك أن الخطاب الموجه المالك الأشتر استعمل معه الواو ليدل على اجتماع المعطوف والمعطوف عليه وتشابههما في القضية، وتأكيد الإمام على مالك الاشتر بوساطة أداة الربط الواو يدل على مدى اهتمام الإمام بهذه الطبقة الفقيرة الذي تكون (الواو) هي الأداة المثلى لهذه الطبقة المجتمعة. التي تدل على الجمع المطلق بين المتعاطفين من دون استثناء أو وجود مهملة أو افضلية لطبقة من دون اخرى ولهذا استعمل (الواو)، ولذا اصبح النص متماسكا في مقاطعه وجمله وتراكيبه غير متباعد في محاوره الاساسية حتى اصبح النص لا تنسجم معه اداة اخرى غير الواو حتی کتب لنصه خاصية مقتضية صالحة للتماسك المتوزع على طول النص اراد عبرها تقوية العلاقات بين الجمل والعبارات والكلمات التي تكون النص. وهنا الواو في النص السابق كانت من اقوى الروابط ولذلك خصها الإمام من دون غيرها من الادوات حتى اعطت دلالة جامعة صفة متعلقة مع الجمل المكونة للنص. وفي ضوء ذلك نجد ان الإمام يلجأ إلى حرف العطف الواو ليجمع بين المعاني والاسماء المتوافقة حتى اصبح الرابط الدلالي للواو سليما.

وقوله عليه السلام: ((وليس أحدٌ من الرَّعيةِ، أثقَلَ على الوالي مَؤُونَةً في الرَّخاءِ،

وأقلَّ مَعُونةً لهُ في البَلاءِ، وأكْرَه للإنصَافِ، وأسألَ بالإلحَافِ، وأقلَّ شُكرًا عندَ الإعطاءِ،

وأبْطَأ عُذرًا عِندَ المَنْعِ، وأضعَفَ صَبرًا عندَ مُلِمَّاتِ الدَّهرِ من أهلِ الخَاصَّةِ، وإنَّما عِمادُ

الدِّينِ، وَجِمَاعُ المسلمين والعُدَّةُ لِلأعداءِ، العَامَّةُ من الأُمَّةِ، فَليكُن صَغْوُكَ لهُم ومَيلُكَ

معهُم))(30).

اذ اصبحت الواو تشکل رابطا دلاليا رائعا بين عناصره الجملية وهذا ما اكسبها دلالة

ص: 66

منسجمة للمعنى الموجود في النص والذي تجسد عبر متواليات نصية زرعت في النص الحيوية والحركة فالإمام استعماله لهذا الاداة (الواو) ليس عبثا بل لغاية مقصودة بوعي ثاقب وفهم عمیق، فهذا العطف بين الجمل والذي ربطها عبر حرف العطف (الواو) يدل على أن النص متكامل لا يحتمل اداة اخرى ولذا اصبحت اجزائه متماسكة متتابعة متصلة مع بعضها البعض الاخر بأداة ربط مناسبة غير مغايرة للمعنى المنساق في النص با تا دلالة واضحة مقبولة عبر اختيار قصدي اداتي غير مشتت الانسجام تناسق النص. وهذا الامر جعل من استعمال الواو في النص بتتابعية ناضجة عبر منتج واع للفكرة الذي يكتب من خلالها. ولذلك اصبحت تتابعية النص مستعدة مع بعضها ودالة على فعالية تبادلية مستمرة، وهنا نجد (الواو) قائمة على عمل ارتباطي في كل مفاصل النص في اطار تسارق الاحداث و تشابهها ولكن في نهاية النص يستعمل اداة ربط اخرى والاداة هي (الفاء) التي تكون فائدتها الترتيب والتعقيب ليضعها في مكانها المنطقي وليبين عبر ذلك مفاصل النظام الذي يقوم عليه النص. حتى اصبح النص جسدًا متكاملاً مع الادوات المتماسكة الاخرى، فضلا عن ذلك نجد أن الواو عملت على انسياب الفقرات والجمل والمعاني وحققت التماسك بين النص اما الفاء فقد ساهمت على اختزال الحدث والعبارات في جمل قصيرة، أدت إلى التماسك الداخلي للنص. وقوله (عليه السلام): ((ولا تَنقُض سُنَّةَ صالحةً عمِل بها صُدورُ هذه الأُمَّةِ، واجتمعَت بها الأُلفَة، وصَلحَت عليها الرَّعيَّةُ، ولا تُدِثَنَّ سُنَّةً تضُرُ بشيءٍ مِن ماضي تلك السُّنَنِ فيكونَ الأجرُ لِن سَنَّها، والوِزرُ عليك بما نَقَضتَ منها))(31) لعل الناظر في النص سيلحظ بسرعة الكثرة البالغة الحرف العطف (الواو) بدلیل استعماله لهذا الحرف من دون غيره في العطف وهذا ما هو الا دليل على أن العملية النصية تمت من دون فواصل زمنية لمناسبة هذا الحرف لتلك المهمة ولجمع الأحداث المساقة في النص؛ ولذا اصبح النص منسجمًا متماسکًا باتخاذه (الواو) رابطًا نصیًّا له، ومن ثم استعمل حرفًا آخر الا وهو (الفاء) ليدل أن الحدث انتقل

ص: 67

إلى مهمة اخرى وهي التعقيب قليلاً على الأمر. فضلا عن ذلك أن الإمام استعمل حرف العطف (الواو) لربط الأفكار والجمل مع سابقتها وليعطي دورًا مهمًا لهذا الحرف (الواو) الذي يدل على مطلق الجمع والمشاركة ولكن حرف العطف (الفاء) يدل على الترتيب والتعقيب في الاحداث ولذا اختصر حرف العطف (الفاء) جملة وقوع الأحداث، ومن هنا اصبحت حروف العطف تتناوب فيما بينها في تماسك الخيوط النصية لرسائل الإمام (عليه السلام). مما اصبح العطف يمثّل طاقةً وظيفيةً مهمةً ذات حيوية ديناميكية تقوي الدعم الدلالي للجمل النصية مما يبقى تماسكها النصي يمثل بؤرة تعبيرية مستمرة ذات أواصر منسقة. وهذا الاستمرار للربط النصي عبر الواو مرده إلى أن الإمام يعطي دروسًا وعبرًا واسسًا مهمة تبين مدى العلاقة المتصلة بعلاقة الناس بعضهم ببعض عبر محاولة للإمام في توجيه رسالة لمالك الاشتر ویردمن خلالها ترسيخ القيم والمعاني السامية في اذهان الناس ليسيروا على منهج قويم. ومن ثم يلتفت إلى اداة ربط اخرى وهي (الفاء) ليلفت الانتباه وشد الذهن بوساطة ايجاد روابط نصية مختلفة ليعطي ترکيبًا نصیًا متماسکًا يعمل على تحقيق وظائف ذات علاقات متينة. وفي قوله (عليه السلام) يستعمل اداة عطف اخرى الا وهي (أو) اذ يقول: ((وإيّاكَ والمَنَّ على رعيَّتِكَ بإحسانِكَ، أو التَّزيُّدَ فيما كان من فعلِكَ، أو ان تعدَهُم فتُتبِعَ موعِدَكَ بِخُلفِكَ، فإنَّ المَنَّ يُبطِلُ الإحسانَ والتَّزيُّدَ يذهبُ بنورِ الحقِّ، والخُلفَ يُوجبُ المَقتَ عندَ اللهِ والناسِ، قال اللهُ تعالى: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» [الصف: 3]، وإيَّاك والعَجَلةَ بالأمورِ قبلَ أوانِها، أو التَّسقُّطَ فيما عِندَ إمكانِها، أو اللُّجَاجَةَ فيها إذا تَنَكَّرت، أو الوَهنَ عنها إذا استوضَحَت. فضع كُلَّ أمرٍ موضِعَهُ، وأوقِع كُلَّ عملٍ موقِفَهُ))(32) فالمتأمل في النص السابق سيلمس بسرعة شبكة من الروابط التاسكية التي أنبني عليها خطاب الإمام (عليه السلام)، فتنوعت ما بين (الواو) أو (الفاء) ولولاها لأصبح النص عاجزًا عن أن يكون خطابًا متواصلاً مفهومًا بين الباث والمتلقي.

ص: 68

احتل حرف العطف (أو) مكانًا متميزًا وهذا مرده إلى الاهتمام الوثيق والعناية المركزة من لدن الإمام على الألفاظ التي عطف بعضها على البعض عبر حرف العطف (أو) مما دعاه إلى التأمل والتريث والوقوف عنها عبر استعماله لحرف عطف يتسق والظروف المحيطة بالأحداث، مما اصبحت الالفاظ المتعاطفة فيما بينهما متوائمة عبر موقف محکوم بمعطيات سیاقية تحقق تواصلها عن طريق تنظيم الاحداث وتماسك الاجزاء والعبارات. مما اصبح النص متماسكا بواسطة تواجد حروف العطف الرابطة بين الجمل والعبارات وهذه الروابط الموجودة في النص كشفت عن أثرها وتعبيراتها التي أغنت عن جمل وعبارات كثيرة مما أدى إلى أن بلاغة النص وتماسكه لا يقتصر على حرف العطف (الواو) بل يتحقق عبر حروف العطف الاخرى، لما تتمتع به هذه الحروف من دلالات ومعان وطاقات ايحائية ودلالية تزيد من تماسك النص وتقوي من وصله مع بعضه البعض الاخر مما يعطي رؤية اشارية للقارئ باستعمال حروف العطف مرتبطة فيما بينها لتكثف من ترابط النص ولملمة افكاره وصقل جمله وربط خيوط النص مع بعضها حتى تصبح حلقات النص تحقق نصيتها ولتقطع باب التأويل والاجتهاد وهذا الأمر جعل من وجود الروابط النصية كحروف العطف تذكي العنصر الوظيفي وترسخ من عدم تباعده فما يحرر النص من التفكك ويبث فيه عنصر الانسجام والتموضع الاساسي وهذا كله جعل من النص لا ينسجم الا عبر توافر كل هذه الأحرف متفقة فيما بينها فبدأها بالواو لیدل على أن الأحداث. مجتمعة ثم يعقبها بحرف العطف (أو). ليمنع المتلقي المتمثل بمالك الأشتر عنصر التغيير لمجموعة من الصفات السلبية التي يحث عليها الإمام بالابتعاد عنها وعدم التمسك بها. فحرف العطف (الواو) اعطى للنص اضافة وصل للجملة فيها بينهما، ثم يعقبها ب (أو) ليعطيها تخییریًا متفقًا. ثم حرف (الفاء) متصلاً بفعل امر ليلزم الاخرين بها من دون تعثر. وقوله (عليه السلام): ((فان شکو اثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو احالة ارض اغتمرها غرق أو اجحف بها عطش، خففت عنهم با ترجو

ص: 69

ان يصفح به امرهم))(33). فالذي ينظر في النص السابق سيجد مدى الترابط الوثيق لنص الإمام بحيث اسهم حرف (أو) في نسيج النص وفقا للترابط الشكلي المتتابع والذي حقق الاستمرارية في خطابية الإمام المكتوبة وهنا نجد الإمام يستعمل (أو) ليبين مدى الاهتمام بهذه الألفاظ المعطوفة وليلقن ذهن المتلقي الذي قصد به مالك الاشتر نحوها فضلاً عن ذلك ان الاهتمام بهذه الالفاظ والذي عطف بها من خلال حرف العطف (أو) تكشف مدى الاهتمام والتركيز على الانسان وعدم الظلم. فهذا التنوع بحروف العطف يدل على أن العطف ليس حكرًا على حرف معين، بل يستعمل الحرف متى ما استوجب الأمر التماسكي فضلا عن صياغة النص في ضوء بنی ذات تركيبة ممتدة في ترابطها وتعطي فعالية في رصد معطياتها التماسكية والتي أصبحت تشكل علاقة وطيدة بالنص وان المتلقي هو الذي يقوم بالدور الفاعل في اكتشافها. ومن هنا نجد التماسك النصي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأحرف العطف لما فيها من فائدة في تحقيق عنصر النصية وغبق عملية التفكك الذي قد تصيب النص. ومن هنا اصبح حرف العطف (أو) هو الاداة المثلى الذي يعطي الدور الامثل والجوهري لهذه المعطوفات من الاسماء ومن دونها لا يمكن ان يوجد حرف اخر يحقق مثل هكذا مهمة، ومن هنا يأتي الدور المهم للعطف في تقوية وتماسك النص. وقوله (عليه السلام) في استعماله لحرف عطف اخر وهو (ثم) اذ يقول: ((ثم أسبغ عليهِمُ الأرزاقَ فإنَّ ذلك قُوةٌ لهُم على استصلاحِ انفسهِم، وغنىً لهم عن تناولِ ما تحتَ ايديهِم، وحجةٌ عليهِم إن خالفُوا أمرَكَ، أو ثَلَمُوا أمانَتَك))(34). فهنا عمل الإمام على تماسك النص بفضل استعماله لأداة اخرى مناسبة للسياق وللتراضي في العمل؛ لأنَّ الإمام ينصح مالك الاشتر بعدما يتمعن في الأمر وفي اصحاب التجارب والخبرة ليتراضي مدة من الزمن ليسبغ لهم الارزاق ولهذا جيء في عطفه ب (ثم) التي هي للتراضي التي اصبحت منسقة تماما وسياق الفكرة المعبرة ومن هنا اصبحت بنية العطف تؤكد تماسك النص ولذا اصبح يشكل وسيلة مهمة للربط بين العبارات ويزيل

ص: 70

الملابسات التي تحدث عدم الافهام أو التواصل ولذا من خلال يعطي النص دلالته اعتمادًا على مكونات العطف المختلفة وتتابعاتها المتلاحقة لتشكل بمجموعها وسائل ربط تحقق وتؤدي الكفاءة المطلوبة في النص، وفي نهاية المبحث نجد أن القيمة الاحصائية لحروف العطف قد شكلت الواو نسبة كبيرة عن الاحرف الاخرى اي بعدد (428) من مجموع الرسائل، ثم تلتها (الفاء) وقد بلغت (105)، ثم تلتها الاحرف الأخرى بنسبة قليلة جدًا مقارنة بالحرفين السابقين اذ بلغ عدد (أو) (20) في حين بلغت (ثم) (15)، أما النسبة التي لا تكاد تذكر الا وهي (بل) فقد بلغت عدد (1).

ص: 71

المبحث الثاني: الضمير

الضمائر: جمع ضمير. والضمير: هو السر، والشيء الذي تستطيع أن لضمره في قلبك والضمير والمضمر بمعنى واحد، من اخفيت الشيء اذا ضمرته(35)، والضمير اسم جامد مبني، وبسبب بنائه لا نستطيع أن نثنيه أو نجمعه، ولذلك لا تلحقه علامة التثنية أو الجمع. وإنَّما يدل بذاته وصيغته على المفرد أو المثني أو الجمع (المذكر أو المؤنث)(36) . فلعلماء العربية يلجؤون إلى الربط بوساطة لفظية حين يخشون أمن اللبس في فهم الانفصال بين معنيين، في فهم الارتباط بينهما، والوساطة اللفظية، اما ان تكون ضميرا منفصلا أو متصلا، وما يجري مجراه من العناصر التماسكية التي تقوي تماسك النص وتزيد قوته(37)، ومن هنا لا تصبح الادوات التماسكية كلها تؤدي وظيفة معينة بل اصبحت الروابط التماسكية تختلف من رابط إلى اخر ((وليس الربط بالضمیر کالربط بالأداة، فوظيفة الربط بالضمير ناشئة مما سبق الضمير من اعادة الذكر، وفي هذا تعليق وائتلاف وربط))(38). وهذا الأمر جعل من استعمال الضمير في النص ضرورة حتمية لا يمكن أن يكتمل النص من دونه فيه يتم ومن خلاله يتماسك وعن طريقه ينشط دوره. ولذا أصبح معنى الضمير ((وظيفي وهو الحاضر أو الغائب على اطلاقهما فلا يدل دلالة معجمية الا بضميمة المرجع وبواسطة هذا المرجع يمكن أن يدل الضمير على معين)(39)، وقد اصبحت مرجعية الضمير مختلفة بحسب السياق الذي يناسبها، وهو وحدة ذات تركيبة نحوية أو بنسبة لسانية لا يمكن أن نمسك بدلالة معجمية لها، بل تضمر احالات متعددة ذات أهمية بالغة. وفي ضوء ذلك اصبح الضمير يؤدي وظيفة كبيرة في ربط النص، فوظيفته تتسع لتشمل على وصل التركيب، كما تؤديها المعاني الرابطة، لكنه يختلف عنها، بوصفه يقوم على اعادة الذكر، في حين تعتمد تلك الأدوات على معانيها الوظيفية التي تحدد نوع العلاقة المنشأة، كأدوات الشرط، وادوات العطف، وحروف الجر(40)،

ص: 72

فالجملة ((کالعقد الذي يجمع بين حباته سلکًا وثيقًا، ولابد ان يبقى السلك متصلاً، والا ما استطاع الرائي أن يفهم من شكله معنى العقد، وهذا هو الارتباط، فاذا انقطع السلك، يعالج بطريق الربط وذلك ما يعمله الضمير))(41)، وهذا السلك الوثيق لا يمكن أن نقول انه مقتصر على الضمير بل لابد من مشاركته الادوات التماسكية الاخر في عمل الارتباط حتى لا نكون مركزين على اداة وتهمل الادوات الاخر فهذا ليس من متطلبات البحث العلمي الرصين. وبطبيعة الحال تعد الضمائر ((افضل الامثلة على الأدوات التي يستعملها المتكلمون للإحالة إلى كيانات معطاة))(42)، وهو عبارة عن احالات أو عناصر تستوجب متلق واع لكي يفسرها ويكشف عن معانيها، ومن اصح الحاجة إلى الضمير ماسة جدًا بوصفه يؤدي وظيفة الاختصار والايجاز في الكلام ويختصر كلاما كثيرًا لا فائدة فيه ومن هنا عد ((اقوى انواع المعارف ولا يدل على مسمی کالاسم، ولا على الموصوف بالحدث كالصفة، ولا حدث وزمن كالفعل، فالضمير كلمة واحدة تدل على عموم الحاضر والغائب دون دلالته على خصوص الغائب))(42)، ولم تتوقف اهميته عند ذلك بل تتسع لتصبح له ((میزتان الأولى: الغياب عن الدائرة الخطابية، والثانية القدرة على اسناد اشياء معينة، وتجعل هاتان الميزتان من هذا الضمير موضوعا على قدر كبير من الأهمية في دراسة تماسك النصوص))(44). واهميته لم تتوقف عند ذلك بل اصبح يحل ((محل كلمة أو عبارة أو جملة أو عدة جمل. ولا تقف اهميتها عند هذا الحد، بل تتعداه إلى كونها تربط بين اجزاء النص المختلفة شكلا ودلالة، داخليا وخارجيا سابقة ولاحقة(45)). وهذا كله جعل من الضمائر تعطي اهمية فائقة المستوى في تحقيق التماسك وتنقسم الضمائر في العربية إلى قسمين: هما: ضمائر الحضور والاخر ضمائر الغياب وتتفرع ضمائر الحضور إلى ضمائر المتكلم بوصفها مركز المقام الاشاري، فالمتكلم هو الباث وإلى ضمائر المخاطب، لأنَّ المخاطب هو الذي يقابل المتكلم في ذلك المقام ويشاركه فيه فهو المتقبل(46). وهي ضمائر تحيل إلى خارج النص اذ تندرج تحت مظلتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم

ص: 73

والمخاطب، وهناك ضمائر تؤدي دورا مهما ومرموقا في تماسك النص سماها هالداي ورقية حسن (ادوارًا أُخر) تندرج تحتها ضمائر الغيبة أفرادا وتثنية وجمعا اذ تحيل داخل النص، أصبحت الضمائر تتفاوت فيما بينهما في الأهمية والاختصار، فالضمير المتصل أشد اختصارًا من المنفصل، حتى عدَّ استعمال الضمير المتصل أبلغ من الاختصار وادعى إلى الخفة والاقتصار، وهذه العناصر الثلاثة من مطالب الاستعمال اللغوي، لذلك لم يعدلوا عن استعمال المتصل الا عند تعذره(47). وهذا ما سنوضحه في تحليله لرسائل الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر فنلحظ وفرت الضمائر بأنواعها ظاهرة ومستترة في رسائل الإمام على نحو لا يكاد ان يخلو جملة منها فاعلة عملية ترابطية لتماسك أوصال النص. ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((أنصِفِ الله وأنصِفِ النَّاسَ من نفسِكَ، ومِن خاصَّةِ أهلِكَ، ومَن لكَ فيهِ هویً مِن رعیتِكَ، فإنَّك الَّا تفعل تَظلِم، من ظلم عِبادَ اللهِ كانَ اللهُ خصمَهُ دون عبادِهِ، ومَن خاصمَهُ اللهُ أدحَضَ حُجَّتَه وكان للهِ حربًا حتى يَنزِعَ أو يَتوبَ))(48). فلعل الناظر في هذا النص سيلحظ ضمير التخاطب طاغيا على اغلب جمل النص وهذا الضمير نمسك بإحالته ودلالته على مالك الاشتر کانت الرسائل من بداياتها موجه اليه ولذا نجد اغلب جمل الرسالة على طولها الضمائر التخاطبية سارية فيها وهذا امر طبيعي؛ لأنَّ الإمام (عليه السلام) وجه رسالته له من الطبيعي أن سكون ضمير المخاطب هو الضمير الأمثل لتماسك النص وترتيبه وتموضعه، ولذا اصبح ضمير المخاطب يعطي دورا رائعا في ترابط رسالة الامام وايضاحها والمتمثل ب(انت، الكاف) في الأفعال والاسماء (أنصف) مكررة مرتين (أهلك، نفسك، لك، رعيتك، فانك، تعقل، تظلم،.... الخ) مما ادى هذا الضمير وظيفة خدمت العملية الاتصالية ساهمت بشكل فعال في توصيل الرسالة إلى المتلقي مما زالت الالتباس والغموض الذي يتمتع به النص فضلا عن ذلك فقد اعطى اهمية في تشكيل المعنى وقام بإبرازه وكل ذلك جاء عن طريق الربط الصحيح للضمد زيادة عن العناصر التماسكية الاخر، ولولا الضمائر لما عرفنا

ص: 74

عودة الضمير ولأختلط لدينا احالته ولأصبح احالته مبهمة لا نستطيع أن نميزها. وهذا الامر جعل من الضمائر فضلا عن غيرها من الأدوات الاخرى تساهم بشكل كبير في بناء النسيج العم للنص، والإمام في هذا النص لم يكثف بضمير المخاطب بل سرعان ما يغير الاصالة المفهومية للنص عن طريق ضمير الغائب الذي تتغير احالته من فعل لآخر بحسب السياق العام للنص. فقوله (ظلم عبد الله) يعود إلى الانسان وفي قوله (كان الله خصمه) يعود إلى الله تعالى. وهذا التنوع في الضمائر في النص الواحد يمنع النص يمنح النص فرصًا واسعة للقراءة والتأويل ويشد من اهتمام المتلقين. فضلا عن ذلك يجعل من المتتاليات النصية المساهمة في التماسك النص مختلفة. ويرى الباحثين أن الكلام لمالك الاشتر على الرغم من توجيه الإمام الرسالة له من خلال الضمائر المنتشرة على اكثر مفاصل الرسالة نعتقد بانها قصديتها الحقيقة هو الانسان على مدار العصور بوصفها رسالة متجددة شمولية لاتقف عند حد معين بل تستمر إلى قيام الساعة بوصفها رسالة تنطبق على كل زمان ومكان واحداثها المتتالية موصوفة وصفا دقیقا بوعي جاد. ويستمر الإمام احالته الضميرية المساهمة في الربط النصي من ذلك قوله (عليه السلام): ((أطلق عن النَّاس عُقدةَ كُلِّ حقدٍ، واقطع عنكَ سبَبَ کُلِّ وِترٍ، وتَغابَ عن كُلِّ مالا يَصِحُّ لك، ولا تَعجلَنَّ إلى تصدیق ساعٍ، فإنَّ الساعِيَ غاشٌ، وإن تَشَبَّه بالناصحين))(49) فالضمائر التخاطبية على طول النص اجتمعت وكونت نصًا متماسکًا على نحو من الدقة مما اعطت قيمة عليا للنص، ولذا نجد الضمائر حققت المهمة المقصدية للباث والتي اشارت عبر ضمير المخاطب الذي امتد على افعال واسماء النص كلها والذي توفرت بفعل افعال الامر (اطلق، اقطع) ومن هنا نجد مرجعة النص واحدة وهي (مالك الاشتر) المتوزعة في النص بدلیل افعال الامر والضمير الكاف الذي قصد به (مالکًا) وهذه المرجعية الذي زادت من تماسك النص وقوت روابط ابنیته تحققت بفضل ضمير المخاطب و من هنا اصبح ((عودة الضمير على اسم قبله يجعل النص في حالة تماسك مستمرة، ذلك ان

ص: 75

الضمائر تخلق في النص حركة دائرية بين المحيل والمحال عليه، فكل منهما ينزل منزلة الاخر، مما يجعل ذهن المتلقي في حالة استدعاء تام للمحال عليه أو في حالة بحث عنه، مما يضمن تحقيق تماسك النص وترابطه))(50) وإن ما يحد وهذه الضمائر ويزيل الغموض والابهام هو المتلقي الذي يعد عضوا فعالا لا تقل اهميته عن الباث أو صاحب النص فيعد مشارکا داخلا في بوتقات النص ليضمن التماسك الوثيق للنص، وهو بهذا اصبح الضمير عنصر غير منفصل عن التماسك النصي. وهذا الامر جعل من استعمال ضمير المخاطب في النص المار الذكر المناسبة الاحداث والمهام التوجيهية التي لا يتناسب معها ضمیر اخر سوى ضمير المخاطب وهذا ما يتطلبه السياق العام للنص. ولكننا في نص اخر للإمام نجد ضمير الغائب متجلٍّ بشكل واسع على اغلب جمله من ذلك قوله (عليه السلام): ((وليس احد من الرعية، أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرًا عند الاعطاء، وأبطأ عذرًا عند المنع، وأضعف صبرًا عند ملات الدهر من اهل الخاصة، وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الامة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم))(51). فالذي يتأمل النص المار الذكر سيلمس بصورة جلية الضمائر الغائبة الممتدة على أغلب مفاصل النص وهذا الضمير عائد على (الانسان) بصورة عامة أي أنه غير محدد، فالضمير المستتر قام بوظيفة الربط النصي وأغنى النص دلالة وأبعده عن التفكك اللفظي. فتحدد الضمائر الغائبة، في الأفعال الماضية (أثقل، أمل، أكره، أسأل، أقل، أبطأ،.....الخ) والاحالة واحدة تشير إلى عنصر اشاري سابق وهي (الانسان) فالإمام عمد إلى تكشيف الضمائر الغائبة ليعزز من وحدة التماسك وليوسع من دلالة النص فضلا» عن احالته إلى عنصر واحد سابق لكل الضمائر وليجعل من النص کلا متكاملا غير مجزأ ومتقطع. ولذا فكلمة (أحد) أو (الانسان) مثلت عنصرا اشاريا عم النص بأكمله. فضمير الغائب في النص عاد إلى مفسر واحد محدد من لدن المتلقي لا أن يجعل دلالة النص غير محددة بل

ص: 76

جعل منها مأولة بتأويل محدد ضمن اطار معين، ولكن الإمام سرعان ما يعود، ويلتفت إلى ضمير المخاطب ليحيل إلى العنصر الاشاري الرئيس الذي من وجه الكلام اليه منذ بداية كتابته الرسالة وهو محور العملية الإرسالية بأجمعها لا يستطيع ان يتخل عنها مهما صدر، وقوله كذلك ((ثم أسبغ عليهِمُ الأرزاق، فإنَّ ذلك قُوةٌ لهم على استصلاحِ أنفسهِم، وغِنىً لهم عن تناول ما تحتَ ایدیهِم، وحُجةٌ عليهِم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانَتَك))(52)، ولعل الناظر في النص السابق سیمسك بكثرة الضمائر الموجودة في النص واختلاف احالاتها مما تعطي اسهاما فعالا في تماسك النص ولملمة أشتاته لا أن تضعف تماسك وتقلل من وحدة ترابطه. فالضمير المخاطب في فغل الأمر (أسبغ) يحيل احالة وهي (مالك الاشتر) اما الضمير المتصل الجمعي (هم) يحيل احالات على ذوات غير محددة منها (الناس)، فهذه الضمائر المستترة الغائبة والمتصلة الظاهرة في العبارات المارة الذكر عملت مع بعضها وتماسكت لتكون بمجموعها وحدة إحاليّة رئيسة يقوم عليها النظام العام للنص أو الرسالة بأكملها. ولذا نجدها موزعة بصورة منتظمة تعطي نواة نصية متماسكة لتقر في النهاية على احالتها التي تكون لبث النص ويأتي ضمير النصب المنفصل تاليًا في نهاية رسالة للإمام علي (عليه السلام) ويحتل نسبة قليلة مقارنة بالضمير التخاطبي فقوله (عليه السلام): ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها))(53)، وقوله: ((وإياك والإعجاب بنفسك))(54)، ((وإياك والمن على رعيتك بإحسانك))(55) وقوله: ((واياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة))(56) فالذي يتعمق في هذه المقاطع النصية يجد غلبة ضمائر النصب المنفصلة بصورة جلية وهذا مرده إلى أن الإمام جعلها في نهاية الرسالة ليعطي صورة توجيهية بداية الرسالة ومن ثم يعطي قرارًا تحذيریًا شديدًا لمالك الأشتر في نهاي الرسالة، ليرسم من رابطا، نصيا ملتصقا بوظيفية تحذيرية عظيمة، ولذلك حمل، هذا الضمیر کلامًا ملائمًا للسياق العام للنص والرسالة بأكملها فالسر في استعمال هذا الضمير هو للرهبة والوعيد لمن يسير على طريق الحق فضلا عن منحه للنص عنصرا

ص: 77

تشویقیا متعلقا يبعث الشعور من دون ملك أو تشاؤم، وهذه الضمائر المتنوعة والمنتشرة في السياق العام للنص قد كونت لحمة متماسكة بثت في النص شحنة تفجر عبر النص لتصنع في النهاية نصا متكاملا يحمل دلالات متنوعة معناها يتوقف بحسب القارئ أو المتلقي ليمسك بخيوطه، وهذا الأمر جعل من ترتيب الضمائر بصورة منتظمة تعطي دورا في تماسك ابنية الرسالة وترابطها بصورة تكاد تكون جملة واحدة. وهذا الانتشار أو التعدد في الضمائر يبين مدى قوة النص وشدة انتظامه بما يدل يشتمل عليه الضمير من اختصار وايجاز ورصانة شديدة في تحقيق التماسك العام للنص. فكل العبارات التي تتضمن ضمير النصب المنفصل جاء فيها العنصر التحذيري بارزًا يؤدي وظيفة توجيهية تحذيرية يدعو فيها مالك الاشتر إلى الالتزام الوثيق بمبادئ الإسلام بصورة عامة فضلا عن تأكيده عبر تهيئة الذات الانسانية على عظم تلك الامور ومدى تأثيرها النفسي على الانسان بصورة مهمة. اما ضمير المتكلم فانه يكاد لا يذكر في الرسالة غير مقطع قصير جدا جاء في المقطع الأخير وجاء لا يتعدى (أربعة أسطر) وهذا بحسب اعتقاد الباحثين - امر طبيعي لان ضمير لا يناسب المقتضى العام للنص ولا يتفق والفكرة المطروحة من لدن الإمام و وهذا ما يتضمنه قوله ((وأنا أسالُ اللهَ بسعةِ رحمتِهِ، وعظيمِ قدرتِهِ على إعطاءِ کُلِّ رغبةٍ أن يوفِّقني وإياك لمِا فيه رضاهُ من الإقامة على العُذرِ الواضح اليهِ وإلى خَلقِهِ، مع حُسنِ الثَّناء في العِبادِ، وجميل الأثرِ في البلادِ، وتمامِ النِّعمةِ، وتضعيف الكرامةِ، وأن يَختمَ لي ولكَ بالسَّعادةِ والشَّهادةِ، وإنَّا اليه راغبون))(57) فضمير المتكلم قد طغی بصورة واسعة على المقطع النصي مار الذكر والذي ذكر في جمل عدة متتالية مسترسلة مكونة بمجموعها حدثا نصا متكاملا مؤديا معنا مقصودا متماسكا. فالضمير وجد عبر صيغ عدة منها الضمير المنفصل (أنا)، ومنها الفعل (أسأل)، ومنها الضمير المتصل الياء) في (يوفقني) وهذه الصيغ المتنوعة قد ولدت نصا توليديًا يعطي معان متفجرة عبر شحنات عالية الأداء. وهذا الاختلاف الأدائي لضمير المتكلم هو من اجل سبل النص

ص: 78

وترتيبه ليحيل في النهاية احالة متعددة ذات اشارة مقصدية وهي (الله) سبحانه وتعالى، اي بمعنى انه ضمير يحيل به إلى الذات الإلهية، ومن هنا عزز فكرة التماسك وزاد من قوة ارتباطها عبر الوعي والالمام الكبير من لدن الإمام (عليه السلام)، فضلا عن ذلك نجد ان المعنى عبر هذا التعدد قد زاد من حضوره وتعممت دلالته حتى اصبحت عناصره مترابطة یما بينها.

وفي الختام نستطيع أن نقول: إنَّ اغلب الاحالات الضميرية احالات متخذة ضمير المخاطب طريقا لها عبر صور وحالات شتی وهذا التواجد المكثف لضمير المخاطب له وظيفة مهمة في تماسك نص الإمام (عليه السلام) على المستويات كافة حتى ساهمت في دفع الملل عن المتلقي. وختامًا نجد أنَّ الضميرَ يعمل إحالات متنوعة.

ص: 79

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم

2. تحليل الخطاب، براون ويول، تر: محمد لطفي الزليطي، منير التريكي، جامعة الملك سعود، الرياض، 1998 م.

3. التماسك النصي في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي، دراسة أسلوبية، كريمة صوالحية، كلية الآداب واللغات، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج لخضر، باتنه، 2011 م.

4. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعید حسن البحيري، مكتبة الآداب، القاهرة، 2005 م.

5. شرح المفصل، للشيخ العلامة ابن يعيش، تح: احمد السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة.

6. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، سعيد البحيري، الشركة المصرية العالمية للنشر، دار نوتال، القاهرة، ط 1، 1977 م.

7. علم لغة النص، النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد، تقديم: سليمان العطار، مکتبة الآداب، ط 1، 2077، القاهرة.

8. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية، صبحي إبراهيم الفقي، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة: 2000 م.

9. في اللسانيات ونحو النص

10. لسان العرب، طبعة دار صادر، بیروت، ط 1، 1990 م.

11. لسانیات النص، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 2006 م.

12. اللسانيات والمجال والوظيفة والمنهج، سمیر شریف، عالم الكتب الحديث، إربد، ط 1، 2005 م.

ص: 80

13. المصطلحات الأساسية في لسانیات النص وتحليل الخطاب، دراسة معجمية، نعمان بوقرة، عالم الكتب الحديثة للنشر والتوزيع، إربد، د.ط، د. ت.

14. معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر، عمان، ط 2، 2003 م.

15. نحو النص (اطار نظري ودراسات تطبيقية)، د. عثمان أبو زیند، عالم الكتب الحديث، إربد، 2010 م.

16. نحو النص في ضوء التحليل اللساني للخطاب، مصطفى النحاس، مکتبة ذات السلاسل، الكويت، د. ط، 2001 م.

17. نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي، مکتبة زهراء الشرق، ط 1، 2011 م، القاهرة.

18. النحو الوافي، عباس اللامي، دار المعارف، ط 1، 1991.

19. نسيج النص، الأزهر زناد، المركز الثقافي العربي، بیروت، ط 1، 1993 م.

20. نظام الربط والارتباط في تركيب الجمل العربية، مصطفى حمودة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، بیروت، ط 1، 1997 م.

21. نهج البلاغة، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية، د. صبحي الصالح، انوار الهدى للطباعة والنشر، ایران - قم، ط 2، 1429 ه.

ص: 81

المجلات

1. من التماسك في سورة يونس، حسين راضي العابدي، محية جامعة الأزهر، غزة سلسلة العلوم الانسانية، 2013، مج (15)، ع (2).

2. أثر العطف في التماسك النصي في ديوان (على صهوة الماء) للشاعر مروان جميل محيسن، دراسة نحوية دلالية، د. خليل عبد الفتاح، و د. حسين راضي العابدي، جامعة الأقصى، غزة، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإنسانية، مج: 20، ع: 2، السنة 2012 م.

3. اللغة العربية معناها ومبناها من أنواع التماسك النصي (التكرار، الضمير العطف)، أ.م. مراد حميد عبد الله، مجلة جامعة ذي قار، العدد الخاص، مجلد: 5، حزیران، 2010 م.

4. الرسائل الجامعية

5. التماسك النصي بين النظرية والتطبيق سورة الحجر أنموذجًا، فطومة الحمادي، رسالة ماجستير، جامعة محمد خيضر، سبكرة، الجزائر، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، 2004 م.

6. التماسك النصي في بنية حكم این عطاء الله السكندري، محمد محمود عیسی محاسنة، جامعة آل البيت، كلية الآداب والعلوم الانسانية، رسالة ماجستير.

ص: 82

الهوامش

1. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية، صبحي إبراهيم الفقي، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة: 2000 م: 96.

2. أثر العطف في التماسك النصي في ديوان (على صهوة الماء) للشاعر مروان جميل محيسن، دراسة نحوية دلالية، د. خليل عبد الفتاح، و د. حسين راضي العابدي، جامعة الأقصى، غزة، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإنسانية، مج: 20، ع: 2، السنة 2012 م: 329.

3. علم اللغة النصي: 98.

4. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، سعيد البحيري، الشركة المصرية العالمية للنشر، دار نوتال، القاهرة، ط 1، 1977 م: 122.

5. علم لغة النص، النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد، تقديم: سليمان العطار، مکتبة الآداب، ط 1، 2077، القاهرة: 184.

6. ينظر: التماسك النصي في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي، دراسة أسلوبية، کریمة صوالحية، كلية الآداب واللغات، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج لخضر، باتنه، 2011 م: 25 - 26.

7. ينظر: علم لغة النص، عزة شبل: 185.

8. نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي، مکتبة زهراء الشرق، ط 1، 2011 م، القاهرة: 185.

9. اللسانيات والمجال والوظيفة والمنهج، سمير شریف، عالم الكتب الحديث، إربد، ط 1، 2005 م: 198.

10. ينظر: دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعيد حسن البحيري،

ص: 83

مكتبة الآداب، القاهرة، 2005 م: 94.

11. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعید حسن: 94.

12. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات: 121.

13. علم اللغة النصي، الفقى: 74.

14. ينظر: علم النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي: 98 - 99.

15. علم النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي: 128.

16. من أنواع التماسك النصي (التكرار، الضمير العطف)، أ.م. مراد حمید عبد الله، مجلة جامعة ذي قار، العدد الخاص، مجلد: 5، حزیران، 2010 م: 59.

17. ينظر: نحو النص (اطار نظري ودراسات تطبيقية)، د. عثمان أبو زیند، عالم الكتب الحديث، إربد، 2010 م: 132.

18. ينظر: نحو النص في ضوء التحليل اللساني للخطاب، مصطفى النحاس، مكتبة ذات السلاسل، الكويت، د.ط، 2001 م: 72.

19. ينظر: نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية: 158.

20. ينظر: أثر العطف في التماسك النصي في ديوان على صهوة الماء: 337.

21. ينظر: علم اللغة النصي: 248.

22. ينظر: معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر، عمان، ط 2، 2003 م: 206.

23. ينظر: من أنواع التماسك النصي: 59.

24. نسيج النص، الأزهر زناد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1993 م: 370.

25. شرح المفصل، للشيح العلامة ابن يعيش، تح: احمد السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة: 3 / 75.

26. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 250.

27. ينظر: في اللسانيات ونحو النص: 224.

ص: 84

28. ينظر: أثر العطف في التماسك النصي في ديوان على صهوة الماء: 339.

29. نهج البلاغة، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية، د. صبحي الصالح، انوار الهدى للطباعة والنشر، ایران - قم، ط 2، 1429 ه،: 560 - 561.

30. نهج البلاغة: 547.

31. نهج البلاغة: 550.

المصدر نفسه: 568.

32. نهج البلاغة: 557.

33. نهج البلاغة: 557.

34. نهج البلاغة: 556.

35. ينظر: لسان العرب، طبعة دار صادر، بیروت، ط 1، 1990: مادة (ضمر).

36. ينظر: النحو الوافي، عباس اللامي، دار المعارف، ط 1، 1991، 1: 217 - 218.

37. ينظر: التماسك النصي بين النظرية والتطبيق سورة الحجر أنموذجًا، فطومة الحمادي، رسالة ماجستير، جامعة محمد خيضر، سبكرة، الجزائر، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، 2004 م: 70.

38. نظام الربط والارتباط في تركيب الجمل العربية، مصطفى حمودة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، بیروت، ط 1، 1997 م: 155.

39. اللغة العربية معناها ومبناها.111

40. ينظر: نظام الارتباط والربط: مصطفى حمودة: 152 - 153.

41. المصدر نفسه: 195.

42. تحليل الخطاب، براون ويول، تر: محمد لطفي الزليطي، منير التريكي، جامعة الملك سعود، الرياض، 1998 م: 256.

43. المصطلحات الأساسية في لسانیات النص وتحليل الخطاب، دراسة معجمية، نعمان

ص: 85

بوقرة، عالم الكتب الحديثة للنشر والتوزيع، إربد، د.ط، د.ت: 122.

44. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق 1: 161.

45. المصدر نفسه: 1 / 137.

46. ينظر: لسانیات النص، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 2006 م: 18.

47. ينظر: من التماسك في سورة يونس، حسين راضي العابدي، محية جامعة الازهر، غزة سلسلة العلوم الانسانية، 2013، مج (15)، ع (2): 42.

48. نهج البلاغة: 547.

49. نهج البلاغة: 548.

50. التماسك النصي في بنية حكم این عطاء الله السكندري، محمد محمود عیسی محاسنة، جامعة آل البيت، كلية الآداب والعلوم الانسانية، رسالة ماجستير: 51.

51. نهج البلاغة: 547.

52. المصدر نفسه: 556.

53. نهج البلاغة: 567.

54. المصدر نفسه: 567.

55. المصدر نفسه: 568.

56. المصدر نفسه: 568.

57. نهج البلاغة: 569.

ص: 86

أثرُ القَوَائِم فِي تَكشيفِ الدَّلالاتِ عهدُ الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأَشْتر أنموذجًا (مقاربةٌ تداوليّةٌ)

اشارة

أ.م.د رحيم كريم عليّ الشَّريفيّ

جامعة بابل / كلية الدراسات القرآنية

أ.م. د حسين علي حسين الفتليّ

وزارة التربية / الكلية التربوية / بابل

ص: 87

ص: 88

المقدمة

الحمدُ لله الذي لاتُعدُ قوائُم نَعْمائِهِ وآلائه، ولا تُقيَّد عناصرُ فَضْلهِ وإحسانهِ، وصَلّی

اللهُ على محور التقوى والهُدى نبيّ الرحمة محمّدِ، وعلى آله تِبيانِ الدّلالات والرَّشاد،

والأحكام.

أمّا بَعْدُ، فمِن أجلِ الوصول إلى نتائج مُعجِبة لمَنْهَج يُحْيي الدّلالاتِ، ويُشِيعُ ثقافة الفهم السريع، والتصوّر اللامتناهي للمفاهیم، نعتمد آلية منهجيّة لفهم خطاب الإمام عليّ (عليه السلام) عبر صنع منهجيّ منظّم، قائم على نَسْج قوائم وجداول للمفاهیم، والكلمات المحوريّة التي تنتظم في سياق واحد من أجل حصرها مرّة، ومقاربتها دلالیًّا مرّة أخرى، وهي مسألةٌ - فيما نخالُ - لم تطرحْ من قبلُ، ممّا يجعل دراستنا جديدة في بابها، إذ لم نجدْ - بحسب اطّلاعنا صنیعًا سُبقنا إليه على وَفْقِ ما نترسّمه إنْ تنظيرًا أو تطبيقًا(1*).

وهذا ما سيتناوشُه البحثُ في ضوء مباحثتنا التي جعلت الخطاب العلوّي الإصلاحيّ - في ظل عهد الإمام عليّ (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) حينما ولّاه مصر - مادة بحثنا ومحط دراستنا إذ ألفينا كثرة القوائم فيه.

وفي ظلّ هذه المعاينة، والإلماحة المتبصرة في العهد المبارك، نرى أنْ يقوم البحثُ على ثلاثة مطالبَ، هيّ:

المطلب الأول: أثر القوائم في صنع الثقافة

إذ لا يخفى على المتبصّر أنّ القوائم والجداول تُعدّ أساسًا في ضبط البيانات، والحؤول دون تشظيّها وتناثرها، فضلًا عن أنّها تعدّ ركيزةً صلبةً في تكشيف الدلالات التي يرقبها القارئ، والمتدبّر في هذه البيانات (العناصر) التي تنتظم فيها

ص: 89

المطلب الثاني: القوائم في رسالة الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر دراسةً تطبيقيةً

سَنَفْلي في هذا المطلب القوائم التي ترشّحت في العهد المبارك، إذ يمثّل العنوانُ الرئيسُ للقائمة البؤرة المركزيَّة، القادرة على استدعاء مجموعة من العناصر التي تنتظم فيه، عبر نَسْجِ شبكة من المسارات والتتابعات، والمجالات الدّلالية التي تُعدّ عناصر متضافرة في استجلاء مفهوم العنوان.

المطلب الثالث: المقاربات التداولية للقوائم في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر.

في هذا المطلب سنقارب تداولیًّا بين العناصر المنتظمة في القائمة الواحدة بمعاينة السياقات المصاحبة لهذه العناصر سواءٌ أكانت لفظيَّة أم مقامیّةً إذ يعملُ - بلا رَيْبَ - العنوانُ الرئيسُ على استدعائه، فالاقترانات اللفظّية المترشحة في هذه القوائم (العناصر)، أو (المصاحبات) لها أثرٌ في استظهار المعاني، وتكشيف الدّلالات.

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد و آله الطاهرين

ص: 90

المطلب الأول: أثر القوائم في الثقافة (مقاربة تداولية)

في هذا المطلب سنكشف الخِمار عن أمرين مهمّين، نحسب أنّهما يعينانِ على الوصول إلى المقاربات الدّلالية التداوُليّة لمصطلح القوائم من جهة، وبيان أهميتها في الثقافة الاجتماعية التداولية من جهة أخرى.

أولاً: القوائم مقاربة تأصيلية:

1. في اللغة:

تبدّي ل(ابن فارس ت 395 ه) أصلانِ صحيحانِ لمادة (ق وم) ((يَدُلُّ أَحَدَهُمَا عَلَی جَمَاعَةِ نَاسٍ، وَرُبَّمَ اسْتُعِيرَ فِي غَيْرِهِمْ. وَالْخَرُ عَلَی انْتِصَابٍ أَوْ عَزْمٍ))(2).

ويتكشّف لنا في ضوء هذا النصّ أنَّ القائمة حاصلة في ضوء مجموعة من العناصر، وهذا ما عبّر عنه ابن فارس ب(جماعة ناسٍ)، وربّما استعير في غيرهم، زِدْ على ذلك أنَّ القائمة تدلُّ على الحَتْم والعَزْم والضَّبط؛ لمقتضى مجيئها لهذا الغرض.

وتتجلّى دلالة لفظة (القائمة) في الاستعمال الاجتماعيّ التداوليّ، بمجموع العناصر والمكونات فيها كقائمة السرير والدابة وقوائم الخوان، وصولاً إلى قائمة الكتاب، قال الزمخشري (538 ه): ((وقامَتْ الدابةُ على قوائِمَها، وهذه قَائِمَةِ الخِوَانِ والسَّرِيرِ (...) وقامَت لعبةُ الشطرنج صارَتْ قائمَةٌ (...)، ورَفَعَ الكَرْمَ بالقَوَائِم والكَرْمةَ بالقائِمةَ))(3) قال الفيروز آبادي (ت 817 ه): ((والقائمةُ واحدةُ قوائمِ الدابةِ، والورقةُ من الكتابِ،

ومِن السيفِ مقبضُهُ))(4).

ونَرْقُبُ هذا البيان تداوليًا عند مرتضى الزَّبيديّ (1205 ه)، قال: ((القَائِمَةُ: الوَرَقَةُ من الكِتَابِ، وَقد تُطْلَقُ على مَجْمُوع البَنَامَج... قَائِمَةِ الخِوَانِ والسَّرِيرِ والدَّابَّةِ.! وقَوِائِمُ الخِوَانِ ونَحوُهَا))(5).

ص: 91

وتأسيساً على ذلك نَرْصدُ مقاربة تداولية لدلالة القائمة ألصق بمباحثتنا وهي الورقة التي تقيّد بها الأسماء، والأشياء في صنف قائم(6)، وفي صورة صفوة وأعمدة، وتكون على هيأة عناصر زمرة، حَلْقة، أو بنية جبريّة(7)، باستحضار الانتظام، والتتابع، والاطّراد.

ثانياً: في الاصطلاح:

في ظلّ معاينة حدّ القائمة في الكتب التي وقفنا عليها، وجدنا أنّها - بوصفها مصطلحاً - لا تخرج عن الدلالة اللّغوية، التي رَصَدْناها في المعجمات العربية، وهي الورقةُ التي تقيّد بها الأسماء، والأشياء في صفٍّ قائم أو عموديّ رَغْبةً في اختصار الزمن، والمسافات، وتحصيل المعلومات بسرعة(8).

ومن هنا فالقائمة هي الوعاء، أو الظَّرْف الذي تنتظم فيه العناصر والأرقام وغيرها؛ من أجل تحليلها والوصول في ضوئها إلى النتائج المرجوّة(9).

وهي أيضاً مجموعة من العناصر التي تنتظم فيها، ونرغب في دراستها، رَغْبةً في الحصول على بعض النتائج حولها، ومن هنا فهي العتبة القصدية التي يجري البحث عنها، والتي تحقّق أغراض الدراسة(10).

ثالثاً: أهمية القوائم في الثقافة التداولية:

لا يخفى على ذي نُهية أنّ العقلَ قائم على التنظيم والترتيب، وحصر العناصر في قوائمَ وجداولَ خوفاً من تشظّيها وتناثرها، ويبدو أنّ مسايرة العقل الفعّال في هذا الصنيع يدلّ على أنّ الحياة تتطلب التعيين والتخصص، لا العبثية والفوضوية من أجل الوصول إلى المقاربات الحقيقية، والمحددات الواضحة للعلم المراد بیانه بله الموضوعات والمطالب والمفردات المرغوبُ تفضيلها واستظهارها، وتفصيلها، ومن هنا جاءت تلكمُ القوائمُ والجداول.

ص: 92

وتأسيساً لهذا الفَهْم والتصور انبرى العقل إلى التفكير في تقييد العلم، وجَدْوَلته في استشرافه القضية المتحدث عنها، وهذا ما نلمحه، ونرصده في المنظومة الثقافية الإسلامية، وقبل أن نستحضر ما يعنّ لنا من مُثُل بهذا الصدد، يجدر بنا أن نستحضر حقيقة مفادها أنّ القرآن الكريم بوصفة كتاب العربية الأكبر، والمدوّنة الإلهية العظمى الذي انطوى على المسائل العقدية والفقهية والثوابت الأخلاقية والاجتماعية والقضايا الكونية والعلمية، وغيرها، التي جاءت بأسلوب غاير أساليب العرب وفارق نظمهم في السموّ والعلوّ، فجاء نسيج وحده و فرید نظمه بَلْهَ أسره للقلوب، وأخذه بمجاميعها، ونستشعر الوجه التأثيري المتحصل لكتاب الله (عزّ وجلّ) في قلوب سامعيه، إذ نجد الوجه الإعجازي للنصّ القرآني، بوصفه وجهاً له سُهمة في وجوه إعجاز القرآن الكريم، قال أبو سليمان الخطّابيّ (388 ه): ((قُلتُ في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشّاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنّك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللّذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور))(11).

فالنصوص الإبداعية العالية البناء الفنية الأداء غزيرة الوجود إنتاجاً من العقلية البشرية، مهما بلغ مداها، لا تصل إلى مبلغ النص القرآني، أو تقترب منه على استحياء قطُّ، فعامل التأثير في النص القرآني ليس له نظير يشابه، ولا يداني بنظير ألبتة، وبهذا تجلت سمة الاختراق بين ما هو كلام بشريّ، وما هو كلام إلهيّ، فتتحقق في الثاني قوة التأثير الخطابي، وعامل الإقناع النصيّ الذي يُغيّر حياة الإنسان كليّاً، وهذا ما لا يمكن أن يحقّقه أيّ نصّ آخر غير النصّ القرآني(12).

ص: 93

وعَوْدًا على بِدْء والعود أحمدُ، فإنّنا نرى أنّ القرآن الكريم إذا ما استثنينا المدوّنات التي سبقت كتاب الله (عزّ وجلّ) سواء أكانت کتباً سماوية أم كتباً فلسفية ومقالات أخلاقية وأدبية ندّت من لدن كبار فلاسفة اليونان والرومان والهنود، فإنَّنا نجزم قاطعين أنّ القرآن الكريم قد أسّس لتغطية القوائم والجداول في المجالات التداولية الثقافية الإسلامية التي تمثّل العتبات المختارة مادّتها، ودراستها.

ويبدو أنّ النص القرآني قد ألمح إلى هذا التبويب والتفصيل المنظّم للقضايا والمسائل المختلفة التي عرضها، قال تعالى: «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» [سورة هود: 1] وقوله تعالى: «وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ» [سورة يونس: 37]، وقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)» [سورة النحل: 89]، وقوله تعالى:

«وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» [سورة الكهف: 54].

فالتفصيل، والبيان، والتبيان، والتنوير، والنطق بالحق، والتصريف كلّها أمارات ودلائل على القوائم والجداول بوصفها آليّة من آليّات التفصيل والتبيان والبيان في كتاب (الله عزّ وجل).

وإذا ما رُحْنا إلى كتاب الله (جلّ جلاله) و جدنا هذه القوائم والجداول شاخصة أمامنا، ففي سورة الفاتحة بوصفها السورة الأولى في المصحف الشريف نجد هذه التقنية حاضرة، تأمّل معنا أوصاف لفظ الجلالة (الله) على هيأة قائمة مؤلّفة من أربعة عناصر الحمد لله: (ربّ العالمين)، (الرحمن)، (الرحیم)، (مالك يوم الدين)، هذه القائمة آيات عن صفات الله عزّ وجل، وإذا ما صرفنا وجهَنا تلقاء سورة الإخلاص التي تمثّل السورة ال(112) من سور القران ال(114) نجد هذه التقنية حاضرة في وصفِ اللهِ (عزّ وجلّ) أيضاً: (قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد - ولم يولد - لم يكن له كفواً أحد).

ص: 94

ونجد أنواع تكلّم الله (عزّ وجلّ) في الخطاب القرآني بوصفها قوائم واضحة المعالم: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» [سورة الشورى: 51] (وحيّا، مِنْ وراء حجاب، يرسل رسولًا).

ويمكن القول: إنّ الأمثلة كثيرة جداً لا تُعدّ ولا تُحصى نخشى من الإطالة و الخروج عن الإيجاز الذي ننشده في هذا المطلب.

ويبدو أنّ هذا التأسيس القرآني، قد أفاد منه علماء العربية، فنجدُ النحويين يركنون إلى هذا الصنيع من أجل التقييد والتبين والتفصيل قال ابن مالك (ت 672):

کلا منا لفظٌ مفیدٌ کاستقم واسمٌ وفعلٌ ثم حرفُ الكلم(13).

الكلمة ثلاثة أقسام اسم، فعل، حرف، والفعل ماض، مضارع، أمر، وغيرها... وعند البلاغيين أقسام علم البلاغة، علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع(14)، وغيرها من التقسيمات في معارف العربية المختلفة.

المطلب الثاني: القوائم في عهد الإمام عليه السلام (مالك الأشتر) دراسة تطبيقية

لا جَرَمَ أنَّ كلام الإمام علي (عليه السلام) الذي انتظم في النهج المبارك، وغيرها من المدوّنات التي توافرت على نقل كلامه (عليه السلام)، دليل على أنّها تنبع وتمتح من مصدر واحد، إذ إنّ جلاء النصوص ورصفها وتناسب موضوعاتها ومضامينها تدلّ على هذا النبع الخلّاق، والمتح العظيم، وأنّها تجري کالسلسبيل من مجرى واحد(15).

وهذا ما فطن إليه ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه) من قبل قال: ((وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونفساً واحداً، وأسلوباً واحداً کالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم

ص: 95

لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحوّلاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال مَن زعم أنّ الكتاب أو بعضه منحولاً إلى أمير المؤمنين))(16).

وعندما نبصر عهده الشريف ل(مالك الأشتر) نجد النصّ المحكم والمتقن، وهي من أمارات صحة سنده؛ وذلك لما يمتاز به هذا المتن من سبك منقطع النظير في المعنى والمبنى، وإنّ الباحث الخبير ليشعر أنّ روحاً نورانية تكمن وراء كلّ عبارة من عباراته، وأنّ هناك خيوطاً نسجت أفكاره، ومفاهيمه لا يدركها إلّا مَن توغّل في أعماقها، واكتشف الروح السامية والمعاني العالية من وراء الألفاظ التي تعبّر عنها، يقول الدكتور عباس علي الفحّام: ((ومن الغرابة (...) أن يُطعَنَ في صحة نسبة الكلام في نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بحجّة اشتماله على التقسيم العددي (...) وهذا مخالف لما أثبته الأسلوب القرآنيّ، وأكد استعماله وأكثر من الحديث النبويّ في تقسيماته الأخلاقية، أما الإمام علي (عليه السلام) فغير مستكثر عليه أسلوب الحصر والتقسيم العددي، لما عرف من ملکات لغوية هائلة وتنظيم فكري عجيب، يستطيع به التوليد على الأثر القرآني والنبويّ في مجالي الفنّ والموضوع الشائع فيهما هذا الاستعمال))(17).

و آن الأوان أن نستكشف أهم القوائم التي انطوى عليها هذا العهد المبارك، الذي يعدّ من أهمّ النصوص وأغناها، وأجمعها لمحاسن الأخلاق، والقيم والمعارف في مجالات الحكم والسياسة وحقوق الإدارة والاجتماع والاقتصاد والتربية، وهو البرنامج العلمي الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع،(18) في ظلّ استشراف العنوان الرئيس للقائمة الذي يمثل البؤرة المركزية القادرة على استدعاء مجموعة من العناصر والبيانات، والأرقام المنتظمة منها عبر تناسلها على سطح القائمة باسترفاد السياقات والتتابعات الكلامية.

ص: 96

وبدا لنا أنّ استغوار القوائم، واستنباشها من المتن العلويّ المبارك (العهد) يتطلّب خبرة وإحالة عميقة للفكرة، إذ هو ليس متیسّراً لكلّ أحد، إلا لأولئك الذين امتلكوا زمام اللغة، وخبروا دقائقها وأسرارها، ولا سيّما المتكلّم الإمام علي (عليه السلام) الذي أعمل فكره في استظهار عناصر القضيّة المراد بيانها و تنفیلها، فضلاً عن ذلك مقدرته على لَمْلَمة الأفكار وتسييجها من أجل الإحاطة بها من أنحائها جمعاء(19).

القائمة الأولى: أعمال الوالي ووظائفه:

1. جباية الخراج

2. جهاد العدو

3. استصلاح الأهل

4. عمارة البلاد.

قال الإمام علي (عليه السلام): ((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللِّهَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَیْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِباَيَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَرَةَ بِلَدِهَا))(20) هذه الكلمات الأربع (الجباية، الجهاد، الاستصلاح، العمارة) تمثّل عناصر وأرقاماً وبيانات فهي مرتكزات رئيسة، وأركان مهمة تقوم عليها الدولة.

فالعنصر الأول: يمثّل المدار الاقتصادي للدولة، والثاني: يمثل المدار العسكري والأمني، والثالث: يعني بالجانب الإداري والاجتماعي والأخلاقي، والرابع: يتصل بالجانب العمراني الموصول بتنمية البلاد.

ويتجلّى لنا أنّ البؤرة الرئيسة للقائمة هي مسؤولية الحاكم اتجاه شعبة، إذ تنحصر مهامه، وترتكز في أربعة عناصر حدّدها الإمام (عليه السلام) باستشراف تنامي فكره الذي يستدعي نوعاً من الرؤية في حصر الفكرة باسترفاد عناصر منتظمة مستوفية.

ومن الحقيق بالذكر أنّ الإمام علي (عليه السلام) على الرغم من أنَّه قد قدم عنصر

ص: 97

(جباية الخراج)، وأخر عنصر (عمارة البلاد) إلّا أنّه في مطاوي العهد الشريف نراه ينبّه مالكاً على تقديم عمارة الأرض على استجلاب الخراج عند التزاحم، والعمل بالمرجوح دون الراجح(21) قال (عليه السلام): ((وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَرَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَبِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَرَةِ وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ

الْبِلَدَ وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلً))(22).

القائمة الثانية: صفات الوالي والقائد الإيمانية:

1. تقوى الله (جلّ جلاله)

2. إيثار طاعة الله (جلّ جلاله)

3. اتّباع أحكام الله (جلّ جلاله) و فرائضه وسننه.

4. نصرة الله (عزّ وجلّ) بالقلب واليد واللسان.

5. کسر النفس عن الشهوات، ومنعها من المآرب غير صالحة.

قال (عليه السلام): ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللِّهَ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتيِ لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا باِتِّبَاعِهَا وَ لَا يَشْقَى إلِّهَ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ يَنْصُرَ اللهَّ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَ يَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ يَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ)(23).

رصد الإمام علي (عليه السلام) الوصايا الخمس في إصلاح النفس وهي مقدمات لازمة في تحلي الولاة بها، قبل تولي إدارة البلاد، والقيام بأمر العمران، هذه الإشارات العلوية لا تختصّ بوالٍ دون آخر، ولا بلد من البلدان، إنّها تشمل الجميع من أجل تذوّق السعادة المنشودة، والمستقبل المأمول.(24)

وبدا لنا أنّ الإمام (عليه السلام) قد استثمر المعجم القرآني في سرد هذه العناصر

ص: 98

المتصلة بالقائمة، هذا التثمير الماتع الناجع يمثل قرينة سياقية عظيمة الموضوع عالية البيان، قال تعالى: «وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» [سورة البقرة: 197] وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» [سورة محمد: 7] وقوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» [سورة فاطر: 10].

القائمة الثالثة: قائمة ذخائر العمل الصالح والسعادات:

1. العمل الصالح: (كبح جماح النفس، البخل في رغباتها).

2. التعامل مع الناس (الرحمة لهم، المحبة لهم، اللطف بهم، العفو والصفح)

3. الابتعاد عن عداوة الله (عزّ وجلّ).

4. عدم الندم على العفو.

5. عدم التبجح بالعقوبة.

6. عدم التسرع على عمل فيه سعة من العفو.

7. ترك الغرور بإقامة الحدّ.

قال الإمام علي (عليه السلام): ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ

فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ (...)فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَ أَنْ يُعْطِيَكَ اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللهَّ فَوْقَ مَنْ وَلَّكَ وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً))(25).

ممّا لا شكّ فيه أنّ خير ما يذخره الإنسان لدنياه وآخرته هو العمل الصالح؛ لأنّ المال

ص: 99

إلى نفاد وزوال، قال تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» [سورة الكهف: 46] والباقيات الصالحات هي الرصيد الذي يختزنه الإنسان في كتاب لا يضلّ ربي ولا ينسى، وإنّ من أصدق مصادیق العمل الصالح أداء العبادات الشرعية الواجبة والمستحبّة، وقضاء حوائج الناس، وعدم اتّباع الهوى والشهوات(26).

ونلمح الرحمة والمحبة للناس بوصفهما عنصرين أساسين من عناصر نجاح القائد، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» [سورة الانبياء: 107]

القائمة الرابعة: معاييرقبول الأعمال لدى الإنسان

1. أوسطها في الحق.

2. أعمّها في العدل.

3. أجمعها لرضى الرعية، قال الإمام علي عليه السلام: ((وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَ أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ)).(27)

الا جرم أنّ الإمام (عليه السلام) قد ترسّم عناصر ثلاثة متظافرة في استظهار حب الأمور لدى الوالي، من أجل ضمان سعادة الناس وإحراز رضاهم، وقد استعمل الإمام صيغة أمرية مؤدّاة بالفعل المضارع المقترن ب(لام الطلب) قاصداً الوجوب زد على ذلك توخّی عليه السلام استعمال اسم التفضيل أربع مرّات، من أجل شدّ العناصر في القائمة مع البؤرة الرئيسة (عنوان القائمة) أحب الأمور، إذ جاءت العناصر الثلاثة مبتدئة باسم التفضيل (أوسطها، أعمّها، أجمعها).

ص: 100

القائمة الخامسة: صفات المُبعدين عن المشاورة.

1. البخيل

2. الجبان

3. الحريص

4. وزير الأشرار

5. الشريك في الآثام

6. عون الأثمة

7. أخو الظلمة.

قال الإمام (عليه السلام): ((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ

وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ))(28).

ويتجلى لنا في تقسيمات الإمام (عليه السلام) الدقة، والتثبّت من سرد عناصر القائمة، فضلاً عن ذلك بيان صفة كلّ عنصر إتماماً للمعنى، وإزادة في الفكرة والمضمون، ولا يغيب عن الذهب تراتبية هذه العناصر بحسب قوتّها في السلب.

القائمة السادسة: طبقات الرعيّة:

1. جنود الله

2. کتاب العامّة والخاصّة

3. قضاة العدل

4. عمّال الإنصاف والرفق

ص: 101

5. أهل الجزية والخراج

6. مسلمة الناس

7. التجار

8. أهل الصناعات

9. الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة.

قال الإمام (عليه السلام): ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ

وَ لَا غِنىَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنوُدُ اللِّهَ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْاَصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّلُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْجَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ))(29).

في هذه اللوحة من كلام الإمام (عليه السلام) نجد تعمّقاً في الخطاب العلويّ حينما يقسّم الرعية طبقات، معطياً كل طبقة حقها ومستحقّها، وفاقاً لأثرها في المجتمع الإنسانيّ، فهو (عليه السلام) يؤسّس للمدينة الفاضلة التي قوامها العدل والإنصاف، وأساسها التعاون والتحابب والتوادد.(30)

إنّ هذا التقسيم الأنثروبولوجي الرائع للمجتمع من لدن الإمام (عليه السلام) يوحي بدراية طبقات المجتمع وتصوّره الحقيقي المدعوم بالأدلة على الفهم الكامل بالمنظومة المجتمعية كافّة.

القائمة السابعة: واجبات الجنود ومسؤولياتهم:

1. حُصُون الرعية.

2. زَيْنُ الوُلاةِ

3. عِزُّ الدين

4. سُبُل الأمن.

ص: 102

قال الإمام (عليه السلام): ((فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهَّ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَةِ وَ عِزُّ

الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إلَّا بِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إلَّا بِمَا يْخُرِجُ اللُّهَ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَاد عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمَدُونَ عَلَيْهِ فيِمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ))(31).

أبان الإمام (عليه السلام) بتقسيم محکم واجبات الجنود ومهامّهم، بعناصر أربعة أُدّیت بمركبات إضافية ناقصة، ويلحظ أنّ الجامع لهذه التقسيمات الأربعة هو الغرض الأمني المتمثّل بحفظ البلاد والعباد، فأعظم به من غرض عظيم، ومن هنا نلمح أنّ الإمام قد سنّ هم قانوناً لحفظ حقوقهم، وحقوق عوائلهم.

القائمة الثامنة: صفات الجندي المثالي:

1. الناصح لله (جل جلاله)، ولرسول الله (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام).

2. نقيّ الجيب.

3. الحليم.

4. بطيء الغضب.

5. قابلٌ للعذر.

6. رؤوف بالضعفاء.

7. قويّ.

8. صبور.

9. غير مستكين.

10. من أهل المروءة.

11. ذو حسب.

ص: 103

12. أصله کریم.

13. تاريخه مشرّف (حَسَن)

14. شجاع.

15. کریم.

16. سمح.

قال الإمام (عليه السلام): ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ

لِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ وَ

يَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَی الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لَا يُثيِرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمَرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَحَةِ))(32)

نقش الإمام (عليه السلام) مسرداً تفصيلياً بصفات الجنود، مستغرقاً في ذكرها؛ فهي تمثّل حقلاً دلالياً، ويتبدّى لنا أنّ عظمة مهمّة الجندي، وجلالة مسؤوليّته تتطلب صفات خاصّة أشار إليها الإمام (عليه السلام)، وهي صفات عظيمة المضمون، جليلة القدر.

القائمة التاسعة: صفات القاضي:

1. أفضل الرعية.

2. لا تضيق به الأمور.

3. لا تمحّکه الخصوم.

4. لا يتمادى في الزلّة.

5. يتابع الحق إذا عرفه.

6. لا تشرف نفسه على طمع.

7. يتقصّى الفهم.

ص: 104

8. وَقوف بالشبهات.

9. أخوذ بالحجج.

10. قليل التبرّم بمراجعة الخصم.

11. صبور في تكشّف الأمور.

12. قويّ عند اتّضاح الأمور.

13. لا يزهو بالإطراء.

14. لا يُستمال للإغراء.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ

مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَدَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يْحَصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَی تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ))(33)

نبصر كثرة عناصر هذه القائمة التي حفلت بكلمات الإمام (عليه السلام) بخصوص القضاء، وصفات القاضي؛ لأنه من المراكز الحسّاسة في الدولة الإسلامية، إذ اشترط الإمام عليه السلام في القضاة أن يكونوا أفضل أبناء الأمة تقوًى وورعاً وكمالاً ونزاهةً، إذ تُعدّ من العناصر المشرّفة والبيانات العظيمة(34)

القائمة العاشرة: واجبات الوالي تجاه القاضي:

1. تعاهد أحكامه الصادرة.

2. إكرامه وبذل العطاء له.

3. إنزاله منزلة رفيعة.

قال الإمام علي (عليه السلام): ((ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ افْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ

ص: 105

عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَی النَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا))(35)

حرص الإمام (عليه السلام) على إسباغ القاضي جملة من النعم الظاهرة المشجّعة، والحوافز السخيّة؛ من أجل صيانة القضاء والإبقاء على مهابته، لأنَّه بصلاح القاضي، وقوّته يصلح القضاء ويتّسم بالقوة والمهابة، ومن هنا جاءت عناصر هذه القائمة مؤكدة الثقة التامة بأحكام القاضي وتعاهدها، وإجزال العطاء المادي والمعنوي له، وإنزاله المنزلة الرفيعة، مهابة الناس من جهة، ولا يمدّ عينه إلى رشوة أو هبة أو عطية وإلى ذلك؛ العلم الإمام أنّ القضاء أهم جهاز في الدولة وهذا ما ألفيناه في بيان علة هذه العناصر في الخطاب العلويّ.

القائمة الحادية عشرة: معايير اختيار العمّال:

1. الاختبار.

2. الابتعاد عن المحاباة في اختيارهم.

3. استعمال أهل التجربة.

4. العفّة والحياء.

5. قدمة في الإسلام.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّلِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً وَ لَا تُوَلِّهِمْ

مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبيُوُتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً وَ أَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً))(36)

ترسّم الإمام (عليه السلام) معايير وضوابط جليلة في اختبار العمّال باسترفاد تقنيّة

ص: 106

التفصيل من أجل استيفاء الدلالات، والإحاطة بها، إذ كشف عن ماهية كلّ عنصر من هذه العناصر التي انتظمت في هذه القائمة، وهذا ما نستشرفه في النصّ المبارك، ولا يخفى استلماح ثيمة الأفضلية والأحسنية في النصّ بلحاظ كثرة أسماء التفضيل فيه من نحو: أكرم، أصحّ، أقلّ، أبلغ، زد على ذلك معاينة دلالات الكلمات، (اختباراً) توخّ منهم، من أهل البيوتات الصالحة والمتقدّمة؛ لأنّ الإمام (عليه السلام) في باب استظهار معايير التعيين الصائب، و ضوابط الاختبار الموفّق.

القائمة الثانية عشرة: صفات كُتّاب الديوان:

1. استصفاء الخيّر والمحمود السيرة.

2. شاكر للنعمة.

3. فطن لا يعرف الغفلة.

4. مطيع.

5. يثق بنفسه.

6. قويّ في التصريح.

7. عالم بالأمور.

8. له منزلة وأثر في القوم.

9. أمين.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَ

اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الَخْلَقِ

مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَفٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَإٍ وَ لَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّلِكَ عَلَيْكَ وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَ الصَّوَابِ عَنْكَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ وَ لَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ وَ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَ لَا

ص: 107

يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ وَ اسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ خِدْمَتِهِمْ وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَيْءٌ وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً))(37)

ويتجلى الأمن الثقافي في عناصر هذه القائمة المتّصلة بصفات الكتّاب، إذ حرص الإمام (عليه السلام) على سرد صفات الكاتب الذي يجدر بالوالي أن ينتبه عليها، ويحرص على وجودها فيه، فهو موضع سرّه، ويده اليمنى، والأمين على صناعة إنشاء الكتب، والدواوين والرسائل والوصايا التي تخرج من دار الولاية والإمارة.

القائمة الثالثة عشرة: أقسام التجار وأهل الصناعات:

1. المقيم منهم.

2. المضطرب باله. (المتردّد به بين البلدان)

3. المترفّق ببدنه (المكتسب).

قال عليه السلام: ((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً الْمُقِيمِ

مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ))(38)

شخّص الإمام (عليه السلام) أقسام التجار وذوي الصناعات في ثلاثة عناصر، إذ أُدّيت بأسماء الفاعلين: المقيم، المضطرب، المترفّق، لأنّ الثلاثة من جنس واحد، فناسب الا بينها.

ص: 108

القائمة الرابعة عشرة: أعمال التجّار الإيجابية:

1. موادّ المنافع (أصلها).

2. أسباب المرافق (ما ينتفع به من الأدوات والآنية)(39)

3. جُلّاب البضائع من الأماكن القريبة والبعيدة.

4. أمان من العوز والفقر.

5. اطمئنان ووثاقة بمعاملاتهم التجارية.

قال الإمام (عليه السلام): ((فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَ جُلَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ))(40)

فقد عدّ الإمام (عليه السلام) خمسة عناصر من قائمة أعمال التجّار الجيدة، إذ جاءت على هيئة خمس جمل مؤكّدة ب(إنّ) المشبهة بالفعل على نسق يكاد يكون متشابهاً.

القائمة الخامسة عشر: صفات التجّار السلبية:

1. الضيق الفاحش.

2. الشحيح القبيح.

3. المحتكر.

4. المتحكّم بالبياعات.

قال الإمام (عليه السلام): ((إنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً وَ احْتِكَاراً

لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَ عَيْبٌ عَلَی الْوُلَةِ فَامْنَعْ مِنَ

الاِحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهَّ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ

ص: 109

فَنَكِّلْ بِهِ وَ عَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ(41).

فالمتأمّل في النصّ يجدْ أنّ الإمام قَدْ أبانَ عن صفات التجّار السَّلبيّة من عسر المعاملة والبخل، وحَبْس المطعوم، ونحوه عن الناس لا يسمحون به إلَّا بأثمانٍ فاحشةٍ، وقد أطنَبَ الإمام (عليه السلام) بصفة الاحتكار، لما لها من مضرّة للعامة، ومذمّة على الولاة.

ونرصد في النص العلويّ المعايَن قائمة صغرى (البيع السَّمْح) إذ انتظمت في عنصرين؛ الأول: الميزان العدل، والآخر: الأسعار العادلة.

ويتبدّى لنا أنّ تداخل القوائم في النصّ العلويّ دليل على الرؤية العلوية الثاقبة، والإحاطة الوسيعة بأحوال المجتمع.

القائمة السادسة عشرة: أصناف الطبقة السفلى:

1. المساكين.

2. المحتاجين.

3. أهل البؤسی.

4. الزَّمنی.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ

الْمَسَاكِينِ وَ الْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى))(42)

القائمة السابعة عشرة: مساويء احتجاب الوالي عن الرعية:

1. شعبة من الضيق.

2. قلّة علم بالأمور.

3. اشتباه الأمور وخلطها عند العامة.

4. تصغير الرعية للعظيم من الأمور.

5. تعظيم الرعية لصغار الأمور.

ص: 110

6. تحسين الرعية القبيح.

7. تقبيح الرعية الحسن.

8. خلط الرعية العمل الصالح بالعمل الطالح (الحق بالباطل).

قال الإمام (عليه السلام): ((أَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ

الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ الِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ

عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَ يَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ

الْقَبِيحُ وَ يُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ))(43).

أبان الإمام (عليه السلام) عن دراية واسعة بمساوي الاحتجاب عن الرعية، عارفاً بنتائجه ومآلاته، ولا يخفى التسلسل الواعي لهذه العناصر التي تمثل بيانات واضحات للقائمة الرئيسة.

القائمة الثامنة عشرة: وصايا تعامل الوالي مع البطانة (الحاشية):

1. المنع من الاستئثار والتطاول وقلة الانصاف.

2. عدم المِنحِة من الأرض.

3. التمسك بالحقّ.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أوُلَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَ لَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً وَ لَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَی غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أَلْزِمِ الْحَّقَ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَ الْبَعِيدِ وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابرِاً

مُحْتَسِباً))(44).

ص: 111

القائمة التاسعة عشرة: فوائد الصلح المحمود:

1. الدعة للجنود.

2. الراحة من الهموم.

3. أمن للبلاد.

قال الإمام (عليه السلام): ((الْحَقِّ وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ و للهَّ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَدِكَ))(45)

نلحظ أنّ الإمام (عليه السلام) قد استوفي أقسام فوائد الصلح، وهي أقسام جوهرية عامة، بكلمات قصار.

القائمة العشرون: عواقب سفك الدماء:

1. جلب النقمة.

2. سوء العاقبة.

3. زوال النعمة.

4. قِصَرُ العُمُر.

قال الإمام (عليه السلام): ((إِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى

لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ

حَقِّهَا))(46)

وعی الإمام (عليه السلام) مَعلَم حقن الدماء، وحفظها إذ إنّ شرافة الإنسان وقداسته هو أساس الوجود، ومن هنا فإنّ سفك دمه بغير وجه حقّ يوجب عواقب لا تُحمد، ونتائج لا تسرّ.

ولا بدّ من القول: إنّ هناك قوائم ندّت من هذا العهد المبارك دسسناها لقلّة عناصرها، واختلاط بعضها بالقوائم التي ذكرناها، وكذلك رغبة في الإنجاز والاختزال.

ص: 112

المطلب الثالث: المقاربات التداولية في قوائم عهد الإمام (عليه السلام):

في هذا المطلب سَنَفْلي أهم المقاربات التداوُليَّة التي نَحْسَبُ أنّ العهد العلويّ المبارك قَدِ انطوى عليها، وسيكون الإيجاز والاختزال الطريق المُثْلى تماشيًا مع سنن البحث العلميّ تارةً، ولكون البحث متّصِلاً بتكشيف القوائم والجداول التي انتظمت في العهد الشريف، وإنّ الاستغوار في تلكم المقاربات التداولية قد يُبْعدنا عمّا يَمَمْنا و قَصَدْنا تارةً أخرى.

إنّ العناصر أو البيانات التي تحصّلت من القوائم التي سردناها من قبل في المطلب الثاني، - نقطع جازمين - من أنّها جاءت مطابقة للمجتمع الإسلاميّ آنذاك من جهة أنّها تلاطف المجال التداولي وتغازله، وأنّ العهد الشريف يمثّلُ - بلا شكّ - مجتمع الدراسةِ.

ويَظْهَر أنَّ المقاربات التداوُليّة أصبحت مَأْلوفة وسائدة في الدراسات اللسانيّة الحديثة، ولا سيّما في تحليل النصوص المختلفة سواءٌ أكانت التراثية أم المعاصرة، إذ لا تكتفي هذه المقاربات على القراءة، والرؤي من داخل النصّ، بل تستدعي القراءة الفاحصة والدقيقة قراءة الأفكار والمقاصد باستشراف الواقع المعيش فيه، ومعاينة الظروف والقرائن المختلفة سواء أكانت الحالية أم المقامية المحيطة بالنصّ، وكذلك التبصرة بالعوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية المتصلة بالنصّ(47)

وهذا ما ألفيناه في عهد الإمام علي (عليه السلام) ل (مالك الأشتر)، فليس العهد نصّاً أدبياً سارحًا في الخيال، أو نظریات مثالية مجرّدة لا تمتُّ إلى الواقع بلحمة ونَسب، إنَّما هو منهج واقعي، وتعالیم و قواعد وأسس حاضرة في المجتمع الإنساني جسّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكومته الراشدة على الأرض، وفي تجربته السياسية والإدارية المعقّدة في إدارة الدولة(48) ((لقد جسّد الإمام عليّ (عليه السلام) خرائط القيم وسلالها السياسية الإدارية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في أبهى صورة، وأجمل تمثيل، فتلمح

ص: 113

القائد السياسي والإداري والإمام الإنساني المثاليّ، والمعلم التربويّ وغيرها))(49)

وتترسَّم المقاربات التداولية في العهد الشريف باستكشاف حقيقة: أنّ نصوص هذا العهد ودلالاته، ولا سيّما القوائم والجداول والعناصر التي انتظمت فيها تزخر بالقيم والمبادئ والقوانين، وتشعُّ بالتعاليم الأخلاقية والإنسانية من نحو: معلم إصلاح المجتمع، والتعايش السلميّ، وحبّ الفقراء والإحسان إليهم، والعفو والصلح والعدل، وحقن الدماء، وغيرها،(50) وهي بطبيعتها لا ترتبط بالماضي أو تقف عند زمن الإمام عليّ (عليه السلام)، إنّما تلاطف الحاضر والمستقبل، ولا سيّما المجتمعات البشرية - اليومَ - أحوجُ ما تكون إليها خصوصاً في هذا الزمن الذي يشهدُ صراعًا حضاريًا في الفكر والإرادة والهُوِية، كما يشهد هيمنة الغرب، ونظام العولمة، وظلم الحكومات المستبدّة وتعسّفها(51).

ومن المقاربات التداولية التي نَرْقُبُها في العهد الشريف، ما يأتي:

أولاً: المعجم القُرآنيّ والحديثي:

استثمر الإمام (عليه السلام) في عهده المبارك المعجم القُرْآنيّ والحديثي فنجد الذوبان والانصهار الكامل في كتاب العربية الأكبر (القرآن الكريم) إذ تمثل كتاب الله (جلّ جلاله) تمثيلاً عميقاً، فنجد الاستحضار والاستشراف الواعيين للنصّ القرآني، وكذلك السنّة النبوية المطهّرة، فقد انسربت نصوص قرآنية ومضامين ودلالات قرآنية وحديثية في النهج المبارك، ولا سيّما العهد الشريف(52).

ونستشرفُ هذا المتحَ الخلّاقَ من النبعِ الصافي القرآن الكريم، والموردِ العَذْب (السنةِ المطهّرةِ) في ضوء حكم الإمام (عليه السلام) بالنصّ الجليّ، قال ابن طاووس الحليّ (ت 644 ه): ((اللّهم صلّ وسَلّم وزدْ وباركْ على السيد المطهّر والإمام المظفّر والشجاع الغضنفر أبي شُبّر و شُبیر (...) وليّ الدين الوالي الولي السيد الرضيّ الإمام الوصيّ الحاكم بالنص الجليّ المخلص الصفيّ (...) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله

ص: 114

عليه(53)).

ونرصد هذا التثمير الماتع في العهد المبارك في ظلّ الإشارات البيّنات لدى الإمام (عليه السلام) عند حديثه عن عناصر قائمة الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، قال (عليه السلام): ((وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) عَهْداً مِنْهُ

عِنْدَنَا مَحْفُوظاً))(54) وقال (عليه السلام) في ضوء استحضار عناصر قائمة أعمال الوالي المرضيّة: ((وَ ارْدُدْ إِلَی اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللُّهَ تَعَالَی لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ وَ الرَّسُولِ فَالرَّدُّ إِلَی اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ

كِتَابِهِ وَ الرَّدُّ إِلَی الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ))(55).

ویَسْتحْضِرُ الإمام (عليه السلام) السياقات القُرآنية عند سَرْدِه عناصر قائمة (فوائد الصلح) قال عليه السلام: ((وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ و للهَّ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادّكَ))(56) قال تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» [سورة النساء / من الآية 128]، وقوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» [سورة الأنفال / الآية 61].

أمّا فيما يتّصل بالمعجم الحديثي، فنجد المتحَ المثمرَ من النبع الصافي كلام المصطفی (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونَرْصُد هذا الأثر الحديثي في تعابير الإمّام علي (عليه السلام)، قال: ((وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فيِهِ للهَّ الَّذِي خَلَقَكَ وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ

شُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ))(57).

وقال عليه السلام مبيّناً عناصر صلاة الوالي: ((وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللِّهَ (صلى الله

ص: 115

عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنيِ إِلَی الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّ بِهِمْ فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَةِ أَضْعَفِهِمْ وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً))(58).

الا جَرَم أنّ الإحالة المرجعية لها أثر في فهم الخطاب، إذ تعطيه بعدًا حقيقيًا في الأداء، إذ إنّ تتمة الفائدة في الكلام تتوقّف على مدى مطابقة الخطاب للواقع، فكلّ وحدة لغوية تتوافر على الجوانب الاتية: الصيغة اللفظية، والدلالة، والمرجعيّة (الخارج)(59).

ومن هنا فإنّ استثمار المرجعيات هو عملية ((استرجاع المدلولات ذكرت في مرحلة سابقة، أو عملية استقدام مدلولات يتوقع القارئُ مجيئها بمرحلة لاحقة في النصّ، وهذه العملية تتمّ عن طريق العنصر الإحالي الذي يتطابقُ في الخصائص الدلالية مع العنصر المحيل إليه))(60).

وعَوْدٌ على بَدْءٍ، فإنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) كان على درجة كبيرة من الاستثمار الواعي لكلام المصطفى (صلى الله عليه وآله) فقد كان مخصوصاً من دون الصحابة بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ((لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه و آله عن معاني القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه وآله وإذا لم يسال ابتداه النبي صلى الله عليه وآله بالتعليم والتثقيف ولم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من مهابه أن يسأله وهم الذين يحبون أن يجئ الاعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم وفهم المعاني اما بعبادة أو دنيا ومنهم المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال ومنهم المبغض الشاني الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه وانضاف إلى الأمر الخاص بعلي عليه السلام ذكاؤه وفطنته وطهارة طینته وإشراق نفسه وضوءها وإذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا والموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علي عليه السلام - كما قال

ص: 116

الحسن - البصري رباني هذه الأمة وذا فضلها ولذا تسميه الفلاسفة أمام الأئمة وحکیم العرب))(61).

وتتجلّى هذه المقاربة التداولية في استحضار قول النبي (صلى الله عليه وآله) في قول الإمام (عليه السلام) في قائمة الصفات السلبية للتجار، قال: ((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ (...)، فَامْنَعْ مِنَ الِحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ))(62).

ولا يخفى الاستشرافُ الثَّبْتُ من كلام المصطفی (صلى الله عليه وآله) في أحاديثه : ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئ))(63) وقوله صلى الله عليه وآله: ((مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ الله بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ))(64)

أما فيما يتصل بالجنبة الثانية من نصّ الإمام (عليه السلام) المؤدّاة بأسلوب الأمر بصيغة الفعل المضارع المقرون بلام الأمر (وليكنْ البيع سمحًا)، استشرافه حديث المصطفى صلى الله عليه وآله: ((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَی))(56).

ولم يكتف الإمام (عليه السلام) بالاستثمار القرآني والحديثي بوصفهما مجالين تداوليّين عظيمَين بل نراه يلاطف مجالات تداولية أخرى تنبع من البيئات الصالحة والسنن المحمودة قال (عليه السلام) : ((وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَ نَقَضْتَ مِنْهَا))(66).

وقال (عليه السلام): ((وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ

عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله) أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَ شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا))(67).

ص: 117

ثانياً: قواعد التخاطب اللساني:

أصبحت قواعدُ التخاطُب اللسانيّة من المسلّمات التحاوُريّة، وهي تعني مجموعة من المعايير والأسس التي يفترض أنْ يقفَ عندها كلُّ متكلّم في أثناء حديثه مع غيره، بمعنى أنّ الكفاءة التداولية تفرض نفسها في رسم خريطة التواصل والتحاوُر بين المتكلم والمخاطب، وهذا ما نبّه عليه (أوستن) في مقالته (المنطق والتحاور)،(68) إذ وجّه بحثه نحو استخراج مجموعة من المبادئ المنظمة للتواصل المثالي، واهتمّ أيضاً بالمعاني الضمنية اهتماماً واضحاً، وهذا دليل على أنّ تجليات المعني لا تحكمها قواعد لغوية دلالية فحسب، بل تحكمها طريقة إنجاز الملفوظ داخل المقام، والمبادئ العامة للتواصل.

ومن هنا فإننا سنبصر قاعدتين من هذه القواعد التي تترشح من التخاطب اللساني القائم على الحوار، والتواصل المنظم، ولا سيما في عهد الإمام (عليه السلام) ل (مالك الأشتر).

1 - الافتراض المسبق:

يوجه المتكلم حديثه إلى الافتراضات المسبقة اللازمة لنجاح كلّ تواصل کلاميّ، على أساس ما يفترض - سلفاً - أنّه معلوم له، وقد لوحظ أنّ الافتراض السابق يكون مرتبطاً ببعض العبارات اللغوية دون بعض، فإذا قال رجلٌ لآخر: أَغلق النافذة، فالمفترض قبلاً - أنّ النافذة مفتوحة، وأنّ هناك مسوغًا يدعو إلى إغلاقه، وأنّ المخاطب قادر على الحركة، وأنّ المتكلم في منزله الآمر، وكلّ ذلك موصول بسياق الحال وعلاقة المتكلم(69)

لا جَرَمَ أنّ الخطاب أصبح على وَفْق مقولات التداولية الحامل اللغويّ لمقاصد المتكلم موجّهاً إلى المتلقيّ، وبما أنّ الخطاب يولد في سياق تخاطبي، وبلغة مشتركة فهو يقوم على افتراضات مسبقة، ومن هنا فالافتراض المسبق يتّسع ليشمل المعلومات العامّة، وسياق الحال والعرف الاجتماعي، والعهديين المخاطبين الذي يجعل المتلقي يفهم مراد

ص: 118

المتكلم(70).

ومن المواضع التي رصدناها في عهد الإمام (عليه السلام) ل(مالك الأشتر)، قوله (عليه السلام) في بيان عناصر قائمة (صفات المستشار الإيجابية): ((وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ باِلْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتىَّ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ)).

کلام شريف عالٍ يستقي من مورده الحكماء، فإنّ الجامع بين هؤلاء هو سوء الظنّ بالله (عزّ وجلّ) وقد ألمح ابن أبي الحديد المعتزلي إلى مقولات الافتراض المسبق في الكلام العلويّ المعاين، فالجبان يقول في نفسه إن أقدمتُ قتلت، والبخيل يقول: إن سمحتُ وأنفقتُ افتقرت، والحريص يقول: إن لم أجدّ واجتهد وأدأب فاتني ما أروم، وكل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله (جلّ جلاله)، ولو أحسن الظنّ الإنسان بالله، وكان يقينه صادقاً لعلم أنّ الأجل مقدّر وأن الرزق مقدّر، وأنّ الغني والفقر مقدّران وأنَّه لا يكون من ذلك إلّا ما قضى الله تعالى(72).

وقال (عليه السلام) في بيان وتنفيل عناصر قائمة صفات الوالي: ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتيِ لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا باِتِّبَاعِهَا وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا))(73).

تبدّي لنا أنّ الإمام (عليه السلام) في بيان عناصر هذه القائمة (صفات الوالي) أنّه قد اعتمد على الافتراض المسبق، فقد وَعى فهم مالك للفرائض والسنن التي ذكرها الله (عزّ وجلّ) في كتابه، بمعنى أنّ الافتراض مسلّمٌ به من لدن المتكلم الإمام (عليه السلام) و الطرف الآخر في الخطاب (المخاطَب) مالك الأشتر، ولا يخفى تلكم الفرائض والسنن، سواءٌ أكانت أصول الدين أم فروعه (التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد)،

ص: 119

وكالصلاة والصيام والحج والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الأمانة وقول الحقّ وغيرها، ولا بُدّ من القول: إنّ مواضع الافتراض المسبق في العهد المبارك كثيرة، بسبب المعرفة المشتركة بين المتخاطبَين الإمام (عليه السلام) و مالك الأشتر(رضي الله عنه)) إذ إنّ المعرفة المشتركة بينها تعدّ الأرضية التي يتّكئ عليها طرف الخطاب في التواصل والتحاور.

2 - القول المُضْمَر:

هو القاعدة الأخرى من قواعد التخاطب اللّساني، ويرتبط بوضعية الخطاب ومقامه على عكس الافتراض المسبق الذي يحدد على أساس معطيات لغوية، ومن هنا فإنّ القول المضمر هو كتلة المعلومات التي يمكن للخطاب أن يحتويها، ولكن تحقيقها في الواقع يبقى رهن خواص سياق الحديث(74).

إنّ الكلام لا يعني دائماً التصريح، بل يعني أحياناً حمل المتلقي على التفكير في شيء غير مصرّح به، ومن هنا فالعبارات اللغوية تصنّف صنفين المعاني الصريحة، وتدلّ عليها الصيغة الحرفية للعبارة والمعاني الضمنية ونكشف عن قرائن الخطاب وسياقاته(75).

وقد تبدى لنا في ضوء استغوار العهد الشريف أنّ الإمام (عليه السلام) قد أكثر من القول المضمر، ومن ثمّ استتار المعاني الضمنية ويظهر أنّ اضطمام النصّ الشريف على القوائم المتعددة والمتنوّعة، وما تنتظم فيها من عناصر جعل من هذه القاعدة أن تحوز مساحة واسعة، زد على ذلك تقصّد الإمام (عليه السلام) إلى هذا الصنيع من الإضمار من أجل تحقيق مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

تأمّل معنا قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّ قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَ بِلَدٍ قَدْ جَرَتْ

عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فيِهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فيِكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فيِهِمْ وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِينَ

ص: 120

بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ))(76) يتجلّى الإضمار القوليّ: من ذكر البلاد من دون التصريح بها، وهي (مصْر) وذكر الدول التي سبقت حكم مالك، وهي الحكومات التي سبقته من زمن الخليفة عثمان بن عفّان، وما ابتليت به من جور وما نعمت من عدل.

وقوله (علیه اسلام): ((فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَةِ أَضْعَفِهِمْ))(77) فقوله عليه السلام كصلاة أضعفهم كناية استعملها الإمام عن المريض، والذي به عاهة وغير ذلك.

ثالثاً: الأفعال الكلامية المباشرة وغيرالمباشرة:

تعدّ الأفعال الكلامية إحدى الأسس التي قامت عليها نظرية أفعال الكلام فهي: ((التي يتلفظ بها المرسل في خطابه، وهي يعني حرفيّاً ما يقول، وفي هذه الحالة فإنّ المرسل يقصد أن ينتج أثراً إنجازياً على المرسل إليه، ويقصد أنْ ينتج هذا الأثر في ضوء جعل المرسل إليه يدرك قصده في الإنتاج))(78).

ويرى الدكتور محمود أحمد نحلة أنّ الأفعال الكلامية المباشرة تمثل قدراً ضئيلاً في اللغة، وينحصر في ما يسمى الأفعال المؤسّساتية أو التشريعية كالتوكيل والتفويض والوصية والتوريث والإجازة، ونحوها، أما الأفعال غير المباشرة، فتمثل القدر الأكبر في اللغة، ويكثر استعمالها في سياقات التأدب في الطلب(79).

ويتبدى لنا أنّ تقسیم الأفعال الكلامية إلى مباشرة وغير مباشرة بلحاظ القوة الإنجازية والتأثيرية المتحصلة من الجملة، ومن هنا قد قسّمت الأفعال الكلامية المباشرة بحسب تصنيف أوستن إلى خمسة أصناف، هي(80): الحكميات، والتنفيذيات،والوعديات، والسلوكيات، والعرضيات (التبينيات).

وهذه الأصناف تظهر فيها القوة الإنجازية التأثيرية مباشرة، بمعنى تتجلى فيها الدلالات الحقيقية، أما في ما يخص الأفعال الكلامية غير المباشرة، إذ يتحصل التخالف للقوة الإنشائية للجملة بحسب مراد المتكلم وبمعاينة السياق المقامي والحاليّ، فيكون

ص: 121

قوله غير مطابق لما يعنيه، فلم يعد الإخبار والتخاطب هو القصد الوحيد عند المرسِل، وإنَّما عددناه واحداً من مقاصده، فالقصد الرئيس أصبح مختفياً، وظهر بدله قصد آخر، وهذا ما اصطلح عليه ب(المعنى المجازي)، والسياق الإنتاجي التوليدي(81).

وسنتناوش أولاً: الأفعال الكلامية المباشرة في العهد الشريف في ضوء القوائم التي رصدناها، والعناصر التي انتظمت فيها.

ففي قائمة ذخائر العمل الصالح والسعادات تتناسَل الأفعال الكلامية المباشرة فيها، باستر فاد الأفعال الأمرية المؤداة بصيغة الفعل المضارع المقرون باللام مرّة (فليكن) وفعل الأمر المجرّد (امْلِك، شُحّ، أشعِرْ، أعطهم) الدلالة على الوجوب على سبيل الحتم والإلزام، وهي القوة الإنجازية التأثيرية الرئيسة لفعل الأمر باسترفاد قرينة السياق اللفظية والمقاميّة(82) قال عليه السلام: (())فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ

الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنفَسْكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ باِلنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْها فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ للِرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ (...) فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ))(83).

ونترّسم الأفعال الكلامية المباشرة في القائمة نفسها بلحاظ صيغة النهي باستحضار الفعل المضارع المؤكد بنون التوكيد الثقيلة المسبوق ب(لا) الناهية الطلبية (لا تكوننَّ، لا تَنْصبَنَّ، لا تندمنّ، لا تبجّحنَ، لا تسرعنّ) الدالة على الوجوب والحرمة والنهي والمنع من إرادة الفعل على سبيل الحتم والإلزام، بمعاينة السياق اللفظي والمقامي،(84) قال علیه السلام: ((وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَ أَنْ يُعْطِيَكَ اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِ الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّكَ وَ قَدِ

ص: 122

اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَكَ بِهِمْ وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقِمَتِهِ وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً))(85).

أما في ما يتصل بالأفعال الكلامية غير المباشرة التي نلمحها في العهد الشريف في ضوء القوائم التي وقفنا عليها، والعناصر التي انتظمت فيها.

نستشعر دلالة التحذير والإرشاد بوصفها قوة إنجازية للفعل المضارع المسبوق ب(لا) الناهية الطلبية قوله: (ولا تدخلنّ) بهدي السياق الكلامي المقامي في القائمة، قال عليه السلام: ((وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ))(86).

ونقدح بدلالة (البيان والتوضيح) التي تمثل قوة إنجازية غير مباشرة، للفعل الأمري (اعْلَمْ) بلحاظ السياق المقامي، تأمل معنا قائمة(طبقات الرعيّة) قال (عليه السلام): ((وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلَّا بِبَعْضٍ وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللِّهَ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّلُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ الناَّسِ وَ مِنْهَا التجُّارُ وَ أَهْلُ

الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ))(87).

ونترسم دلالة (التنبيه) والسياق الإنتاجي التي تمثل قوة إنجازية غير مباشرة للفعل الأمري (ولِّ) بمعاينة السياق المقامي والحالي، قال: ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَی الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لَا يُثيِرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ

ص: 123

بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ))(88).

وهناك معانٍ مجازية أو سياقات إنتاجية وتوليدية أخرى تمثّل أفعالاً كلامية إنجازية غير مباشرة يمكن رصدها في العهد الشريف، وبدا لنا أنّ السياقات الإنتاجية التي تمثل قوى إنجازية (أفعال كلامية غير مباشرة) هي الأكثر حضوراً ووروداً في العهد المبارك.

ص: 124

خاتمة البحث ونتائجه:

حان الحين أن نستجلي أهمّ قطاف هذا البحث (أثر القوائم في تكشيف الدلالات) عهد الإمام (عليه السلام) ل (مالك الأشتر) أنموذجاً.

أولاً: تبدّى لنا أن القوائم والجداول، وما تنطوي عليها من عناصر وبيانات لها أهمية في حصر المعلومات وتقييدها ومن ثم فهمها واقتناص دلالاتها بسرعة.

ثانياً: وظّف الإمام علي (عليه السلام) في عهده المبارك مجموعة كثيرة ومتنوّعة من القوائم والجداول وقد انتظمت فيها أرقام وعناصر متعددة، وهو أمر يدلّ على الإحاطة المعرفية الوسيعة للإمام علي (عليه السلام)، ودرايته بالمجالات التداولية الثقافية السائدة آنذاك، زد على ذلك المنظور المستقبلي والاستشرافي الذي ترسمه (عليه السلام).

ثالثاً: استثمر الإمام علي (عليه السلام) في ظل معاينتنا للقوائم التي ترشحت من العهد الشريف القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وهذا ما ألفيناه في العهد المبارك في ضوء الإحالات المرجعية الماتعة عليها، تصريحاً وتلميحاً.

رابعاً: كشفت القوائم التي تحصلت في العهد المبارك أن الإمام (عليه السلام) قد وعى فطنة المتلقي مالك الأشتر من جهة، والباصر بالمجال التداولي (الواقع المعيش) لذا رأينا ظهور قاعدتي التخاطب اللساني (الافتراض المسبق)، و(القول المضمر) في تلكم القوائم.

خامساً: في ظلّ معاينة القوائم والجداول التي تحصلت من العهد الشريف وجدنا أنّ الأفعال الكلامية غير المباشرة التي تمثل قوًى إنجازية وتأثيرية (سياقات إنتاجية وتوليدية) هي الأكثر وروداً وبزوغاً، بخلاف الأفعال الكلامية المباشرة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 125

مصادر البحث ومراجعه

- آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، د. ط، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2002 م.

- الأثر القرآنيّ في نهج البلاغة، الدكتور عباس علي الفحّام، ط 1، مطبعة الرافدين، بيروت، 2010 م.

- أساس البلاغة، جار الله أبو القاسم محمود الزمخشري (538 ه) تقديم الدكتور محمود فهمي حجازي، سلسلة الذخائر المؤسّسة العامة لقصور الثقافة، مصر، 2003 م.

- استراتيجيات الخطاب (مقارنة لغوية تداولية) د. عبد الهادي بن ظافر الشهريّ، ط 1، دار الكتاب الجديدة، 2004 م.

- الإيضاح في علوم البلاغة العربية، الخطيب القزويني (ت 739) القاهرة، د. ت.

- البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، السيد حسين بركة الشامي، ط 2، دار الإسلام، بغداد، 1429 ه، 2008 م.

- بلاغة النهج في نهج البلاغة، الدكتور عباس علي الفحام، د 1، دار الرضوان، الأردن، 2014 م، 1435 ه.

- بيان إعجاز القرآن، أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت 88 ه)، مطبوع ضمن کتاب (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للخطابي والرماني والجرجاني)، تحقيق: عبد الوهاب رشيد، ود. عصام فارس الحرستاني، ط 1، دار عمار، الأردن، 1434 ه - 2013 م.

- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد مرتضى الزبيدي (ت 1250 ه) منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، (د.ت).

- التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بيروت، 2005 م.

- التداولية واستراتيجية التواصل، ذهبيّة حمو الحاج، ط 1، دار رؤبة، 2015 م.

ص: 126

التمهيد في أصول الفقه، الدكتور صدر الدین فضل الله، ط 1، دار الهادي، بيروت، 1422 ه - 2002 م.

- الجداول الجامعة في العلوم النافعة، الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين، ط 3، مؤسسة الريان، بيروت، 1431 ه - 2010 م.

- جمع البيانات وطرق المعاينة، د. حسین علوان مطلق، ط 1، العبيكان للنشر، الرياض 1431 ه - 2010 م.

- دروس في علم الأصول، السيد محمد باقر الصدر (1400 ه) مؤسسة النشر الإسلامي، طهران، د.ت.

- دليل الباحثين في المنهجية والترقيم والعدد والتوثيق، د. عبد الرحمن إبراهيم الشاعر، ود. محمود شاکر سعید، ط 1، دار صفاء، الأردن، 2011 م - 1432 ه.

- شرح ابن عقيل: بهاء الدين عبد الله بن عقيل المصري (ت 769 ه) تحقيق محمد محيي الدین عبد الحميد، ط 1، مطبعة منير، بغداد، 1986 م.

- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المدائني المعتزلي (656 ه) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1969 م.

- صحيح مسلم للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج (ت 261 ه)، اعتنى به أبو صهيب البكري، بيت الأفكار الدولية، السعودية، 1998 م.

- فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281 ه)، الطبعة الأولى، المطبعة: باقري، قم، 1419 ه.

- قراءات لغوية في النص الديني (دراسة في النقد التفسيري) الدكتور سيروان عبد الزهرة الجنابي، ط 1، دار الأمير، النجف، 1437 ه - 2016 م.

- القاموس المحيط، مجد الدین محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817 ه)، دار الفکر، بيروت، 1403 ه - 1983 م.

ص: 127

- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، الدكتور طه عبد الرحمن، ط 3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012 م.

- اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني (قراءة استكشافية للتفكير التداولي عند القانونيين) الدكتور مرتضى جبار کاظم، ط 1، مكتبة عدنان، بغداد، 1436 ه - 2015 م.

- المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي (ت 770 ه) ط 1، مكتبة الإيمان، مصر، 2008 م.

- المعالم الحضارية في نهج البلاغة، الشيخ باقر شريف القرشي، تحقيق مهدي باقر القريشي، ط 1، مطبعة ستارة - إيران، 1413 ه - 2012 م.

- معجم اللغة العربية، الدكتور أحمد مختار عمر (ت 1424 ه) ط 1، مصر، 1419 ه - 2008 م.

- المعجم الوسيط، د. إبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات وحامد عبد القادر ومحمد علي النجار، مؤسسة الصادق طهران، د.ت.

- مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 ه) رتّبه وصحّحه إبراهيم شمس الدين، ط 1، شركة الأعلمي، بيروت، 1433 ه - 2012 م.

- مهج الدعوات ومنهج العنايات، رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى ابن طاووس الحلي(664 ه)، ط 1، منشورات الفجر، بيروت، 1433 ه - 2012 م.

- موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي، الدكتور محمد الكتاني، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001 م.

- ميثاق إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، الشيخ زين العابدين قرباني، ط 1، قم المقدسة، 2011 م.

- نظرية أفعال الكلام العامة كيف تنجز الأشياء بالكلام؟ جون أوستن، ترجمة عبد

ص: 128

القادر قنيني، ط 1، أفريقيا الشرق، المغرب، 2008 م.

- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلميّة، الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الأولى، بيروت، 1967 م.

- نهج البلاغة، تحقيق السيد هاشم الميلاني، ط 1، د.ط، إيران، 1436 ه - 2015 م.

الرسائل الجامعية

- رسائل ابن الأثير (دراسة في ضوء علم اللغة النصيّ) علي صبري علوان. (رسالة ماجستير)، كلية التربية، قسم اللغة العربية، الجامعة المستنصرية، 2015 م.

البحوث والدوريات:

- إسهام الحكومة العلوية المثالية في رمزية مدينة الكوفة، الدكتور رحيم كريم الشريفي، بحث مقدم إلى مسجد الكوفة / جائزة سيد الأوصياء (عليه السلام) العالمية للإبداع الفكري، والأدبي، مخطوط.

- السياقات الإنتاجية للخطاب الإنشائي في نهج البلاغة، (أسلوب النداء أنموذجاً) الدكتور رحيم كريم الشريفي، والدكتور حسين المحنى، مجلة دواة، المجلد الأول، العدد الثالث، قسم الإعلام، العتبة الحسينية المقدسة، كربلاء، 1436ه - 2015 م.

- معالم إنسانية الإمام علي (عليه السلام) في عهده ل(مالك الأشتر) (دراسة تحليلية)، الدكتور رحيم كريم الشريفي، والدكتور حسن كاظم أسد، مقدم إلى مؤتمر الغدير العالمي الثالث، العتبة العلوية المقدسة، 2014 م - 1435 ه (مخطوط).

ص: 129

الهوامش

1. نكتة البحث الطريفة - كانت في بَدْء الأمر - فكرة قدح بها الدكتور رحيم الشَّريفيّ إلى طلبة الدراسات العليا في قسم علوم القرآن، كلية الدراسات القرآنية في 8 / 11 / 2016 م.

2. مقاييس اللغة: 730 (مادة قوم) وينظر: المصباح المنير، الفيومي، 338 (مادة قوم)

3. أساس البلاغة: 284. 285 (مادة قوم)

4. القاموس المحيط: 4 / 168 (مادة قوم)

5. تاج العروس من جواهر القاموس: 33 / 314 (مادة قوم)

6. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وزملاؤه، 2 / 768 (مادة قوم)

7. ينظر معجم اللغة العربية المعاصرة، الدكتور أحمد مختار عمر: 1 / 353.

8. ينظر المصدر نفسه، وينظر: موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي، د. محمد الكتاني: 2 / 1911، والجداول الجامعة في العلوم النافعة، جاسم مهلهل الهاشمي: 6

9. جمع البيانات وطرق المعاينة، د. حسين علوان مطلق: 27.

10. ينظر: دليل الباحثين في المنهجية والترقيم والعدد والتوثيق، د. عبد الرحمن إبراهيم الشاعر، ود. محمود شاكر سعيد: 36.

11. بيان إعجاز القرآن: 65

12. ينظر: قراءات لغوية في النص القرآني (دراسة في النقد التفسيري) سيروان عبد الزهرة الجنابي: 2.

13. شرح ابن عقیل، ابن عقيل: 1 / 13.

14. ينظر : الإيضاح في علوم نهج البلاغة، الخطيب القزويني: 1 / 11

15. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام (عليه السلام)

ص: 130

لمالك الأشتر، السيد حسين بركة الشامي: 22. 23

16. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد المعتزلي: 1 / (مقدمة المحقق) 9.

17. ينظر: بلاغة النهج في نهج البلاغة، 183. 184، والأثر القرآني في نهج البلاغة، عباس علي الفحام، 220. 235.

18. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع، 28.

19. ينظر: بلاغة النهج في نهج البلاغة، 180.

20. نهج البلاغة، الإمام علي عليه السلام: 426 - 427.

21. فرائد الأصول: الشيخ مرتضى الأنصاري: 2 / 769.

22. نهج البلاغة: 436

23. نهج البلاغة: 426

24. ينظر: ميثاق إدارة الدولة (في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، الشيخ زین العابدين قرباني: 102.

25. نهج البلاغة: 427.

26. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع: 159. 160

27. نهج البلاغة: 429

28. نهج البلاغة: 430.

29. المصدر نفسه: 431 - 432.

30. ينظر: معالم إنسانية الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده ل(مالك الأشتر) دراسة تحليلية (مخطوط)، د. رحيم الشريفي، ود. حسن كاظم أسد: 11.

31. نهج البلاغة: 432

32. نهج البلاغة: 432 -. 433

33. المصدر نفسه: 434 - 435.

ص: 131

34. ينظر: المعالم الحضارية في نهج البلاغة، باقر شريف القرشي: 67

35. نهج البلاغة: 435.

36. نهج البلاغة: 435.

37. المصدر نفسه 437.

38. نهج البلاغة: 438.

39. نهج البلاغة، تحقيق السيد هاشم الميلاني: 488.

40. نهج البلاغة: 438.

41. المصدر نفسه: 438.

42. نهج البلاغة: 438..

43. المصدر نفسه: 441.

44. المصدر نفسه.

45. نهج البلاغة: 442.

46. المصدر نفسه.

47. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع، 24، والتحليل الإحصائي للسانات، 29.

48. ينظر: المصدر نفسه: 40.

49. إسهام الحكومة العلوية المثالية في رمزية مدينة الكوفة (مخطوط)، د. رحيم كريم الشريفي، 9.

50. معالم إنسانية الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده ل(مالك الأشتر) دراسة تحليلية، د. رحيم كريم الشريفي ود. حسن كاظم أسد: 20.

51. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة: 62.

52. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة، د. عباس الفحام، 83.

ص: 132

53. منهج الدعوات ومنهج العنايات: 336.

54. نهج البلاغة: 433

55. نهج البلاغة: 434

56. نهج البلاغة: 442

57. المصدر نفسه: 431.

58. المصدر نفسه: 440.

59. ينظر: الخطاب القرآني (دراسة في البعد التداولي)، د. مؤيد آل صوينت: 71

60. رسائل ابن الأثير دراسة في ضوء علم اللغة النصيّ (رسالة ماجستير) علي صبري علوان: 25.

61. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي: 11 / 48

62. نهج البلاغة: 438.

63. صحیح مسلم: 3 / 1228

64. سنن ابن ماجه: 2 / 729.

65. صحيح البخاري: 3 / 57.

66. نهج البلاغة: 431.

67. المصدر نفسه: 445.

68. ينظر: استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، 96، واللسان والميزان أو التكوثر الفعلي، طه عبد الرحمن: 238.

69. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمد أحمد نحلة: 26، 27.

70. ينظر: التداولية واستراتيجية التواصل: ذهبية حمو الحاج: 227.

71. نهج البلاغة:430.

72. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 9 / 30.

ص: 133

73. نهج البلاغة: 427

74. ينظر: التداولية عند العلماء العرب، 32

75. ينظر: اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني، د. مرتضی جبار کاظم، 75.

76. نهج البلاغة: 427.

77. المصدر نفسه: 440.

78. استراتيجيات الخطاب مقاربة تداولية، عبد الهادي ظاهر الشهري، 135

79. ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 50

80. ينظر: أفعال الكلام العامة، كيف تنجز الأشياء بالكلام، أوسن، ترجمة عبد القادر قنيني: 186 - 187

81. ينظر: السياقات الإنتاجية للخطاب الإنشائي في نهج البلاغة (أسلوب النداء أنموذجاً) (بحث) د. رحيم الشريفي ود. حسين المحنى: 148

82. ينظر: دروس في علم الأصول، محمد باقر الصدر: 1 / 224.

83. نهج البلاغة: 427.

84. ينظر: التمهيد في أصول الفقه، د. صدر الدين فضل الله، 34.

85. نهج البلاغة: 427.

86. المصدر نفسه: 430.

87. المصدر نفسه: 431.

88. نهج البلاغة: 431 - 432

ص: 134

صور الانزياح البيانية في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي (رضي الله عنه) (دراسة دلالية)

اشارة

م.د. عبادي عبدالعباس حمود الزيَّادي

وزارة التربية - مديرية تربية النجف

ص: 135

ص: 136

مقدمة

هدفت هذه الدراسة إلى تناول ظاهرة الانزياح الدلالي في وثيقة عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله على مصر مالك الأشتر النخعي، وقد اشتملت الدراسة على وثلاثة مباحث، وخاتمة، وعرضت في المقدمة لأهمية الدراسة، ودوافع اختيارها، ومنهجها، وأبرز الصعوبات التي واجهتني. ثم تناولت بالرصد والتحليل الألفاظ أو المفردات التي انحرف معناها ومال عن حقيقته عِبر فنون البلاغة الرئيسة، فقسمتها إلى (صور الانزياح الدلالي المجازي)، كمبحث أول، ومن ثمَّ جاء المبحث الثاني ليحمل عنواناً (صور الانزياح الدلالي الاستعاري)، وجاء المبحث الثالث ليكون عنوانه (صور الانزياح الدلالي الكنائي).

وبذلك يبدو أنَّ الانزياح الدلالي هو أسلوبٌ من أساليب الأداء غير المباشر يتم بوسائل متعددة مستعملاً الفنون البلاغية، ولاسيما ما يتعلق منها بفن البيان كالمجاز، والاستعارة، والكناية فضلاً عن استعماله لألوانٍ بلاغية أخرى، يتمُّ فيها انزياح المعنى وتبدله بأسلوب يُدْخل البلاغة وفروعها في علم الدلالة، فمن يدرس موضوعات علم الدلالة، لا يستطيع أنْ يغفل أَمثال هذه الألوان البلاغية بعدِّها من العوامل المؤدية لتبدلات المعنى وانزياحه، كما أنَّ من يعالج هذه الألوان البلاغية لا بدَّ له أنْ يتعاملَ معها من خلال منظورِ علم الدلالة، وتبعاً لذلك لا غنى للبلاغة عن الدلالة، ولا غنى للدلالة عن البلاغة، إذْ أنَّ القاسم المشترك بينها هو التبدُّل أو التغيّر الدلالي، وهو تغيّر يمكن أنْ يُدرس في معظم الألوان البلاغية، ولاسيما تلكَ الألوان القائمةُ على العدول عن الأداء المباشر، والانزياح بالدلالات الحقيقية إلى دلالات أخرى مجازية لغرض الإبانة والتوضيح، وتوكيد المعنى في نفس المتلقي.

ص: 137

وانطلاقاً من هذا المفهوم سنحاول الوقوف على مظاهر الانزياح الدلالي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله على مصر الأشتر النخعي، إذْ يعدُّ هذا الانزياح من أبرز أنواع الانزياحات التي وظَّفها هذا النصّ للكشف عن خصوصيته في انزياح المعنى الأصلي إلى معنى جديد يُدرك من خلال السياق الذي يرد فيه، وهو أيضاً يفصحُ عن بلاغة النصِّ، وإبراز أهم مظاهر الروعة والجمال فيه، ومن ذلك يمكن ملاحظة الشواهد والنصوص ك (ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهًم) التي تتطلب من المتلقي التأمل، والتدبر المستمر لإدراك ما وراءها من مقاصد وإيحاءات، للوصول إلى عمق الدلالة، وعدم الوقوف عند سطحية النص، وظاهر العبارة.

لذلك يصعب علينا في هذا البحث المقتضب سرد كل مواطن هذا الانزياح لكثرتها وسعتها، ولذا سنقف على بعض من صوره ولاسيما في المجاز، والاستعارة والكناية.

ص: 138

التمهيد

نظرة على مدلول الانزياح الدلالي:

تعدُّ نصوص الانزياح الدلالي من النصوص التي تتطلب وقفة وتأمل من المتلقي والمتكلم قبل الولوج إلى خفايا أسرارها ولو تتبعنا دلالات تلك النصوص التي وظفتها لإبراز المعاني الأصيلة ولاسيما ما وجدناه في نصوص عهد الإمام، لذا وجدناه أفصح عن بلاغة النص وروعة بيانه، وأبرز شواهد جديدة على مقدرة الإمام علي (عليه السلام) في إظهار صور بيانية تنسجم مع الواقع الذي يعيشه آنذاك.

ويبقى الأثر الدلالي والجمالي لأسلوب الانزياح ماثلاً في ذهن المتلقي زمناً طويلاً؛ لأنَّهُ تشكلَ في ذهنه ووجدانه بطريق غير مباشر، فيدفع المتلقي للمشاركة في إعادة ترتيب الناتج الجديد للصياغة الدلالية، بمراحل ثلاث، هي: أ - التنبيه حيث يلفت أسلوب الانزياح انتباه المتلقي بخروج تشكيله اللغوي عن ظاهرة البنية المثالية أو مقتضى ظاهر حال المتلقي. ب - التفاعل بين المتلقي والصياغة لمعرفة دواعي الانزياح عن البنية المثالية والمقاصد الجمالية التي تكمن فيه. ج - إنتاج الدلالة وتكثيف التأثير الجمالي في ذهن المتلقي.

وبذلك يتضح أنَّ بنية الانزياح الدلالي تتسم بانقطاع العلاقات بين الألفاظ ودلالتها الظاهرة؛ لذا لا يكاد المعنى يطفو على السطح فيها إلا بجهد من المتلقي؛ ومعونةٍ من الدوال الأخرى في الصياغة ؛ وإيضاح من السياق المحيط به، فالذي يميّز هذا الأسلوب، الاتجاه الدلالي للبنية السطحية للصياغة يخالف الاتجاه الدلالي للبنية العميقة التي يتوصل إليها المتلقي.

واللافت للنظر في النصِّ تعبيره عن بعض معانيه بأسلوب مغاير، إذْ نجده يسعى بقوة لغرض إثبات معنى من المعاني، لا يذكره باللفظ الذي وضع له بأصل اللغة، بل

ص: 139

يلجأ إلى لفظ مختلف موضوعٍ لمعنى آخر، في جانب من جوانبه يتبع المعنى الأول الذي يريده صاحب النصِّ، فيعبّر بهذا اللفظ عمَّا يريد؛ لعلاقةٍ بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد المراد، وهذه الطريقة التي يوظَّفها النصُّ في التعبير عن المعاني تندرج تحت ما يسمى «بالانزياح الدلالي» الذي يعني الانتقال من المعنى الأساسي أو المعجمي إلى المعنى السياقي الذي تأخذه الكلمة حينما توضع في سياقٍ معينٍ يحدد معنى الجملة بأكملها؛ حيث تنزاح الدوال عن مدلولاتها الحقيقية المألوفة إلى مدلولات مجازية تشكل للفظة الصورة البيانية للنص، وبذلك تبرز دلالات جديدة غير معهودة يسعى إليها المتكلم.

وبذلك يعتقد أنَّ الانزياح الدلالي يقوم على استبدال المعنى الحقيقي أو السطحي للفظة بالمعنى المجازي العميق؛ حيث يتمُّ الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، وهذا ما أشار له جان كوهن بقوله: (من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي)(1). ولعلَّ هذا الانتقال يحصل (عندما يتعادل المعنيان، أو إذا كانا لا يختلفان من جهة العموم والخصوص، كما في حالة الانتقال من المحل إلى الحال، أو من السبب إلى المسبب، أو من العلامة الدالة إلى الشيء المدلول عليه)(2) وهذا ما نجد له تمثيلاً في قول المتنبي:

لهُ أيادٍ إلىَّ سابقةٌ أعد *** منها ولا أعدِّدُها

فعند قراءة البيت يتبادر إلى الذهن أنَّ المقصود بكلمة «أيادٍ» هو المعنى المستقر في المعجم وهو«الجارحة التي للإنسان»، لكنَّ هذا المعنى ليس هو المراد، إذْ أنَّهُ لا يلائم السياق، ولذا يجري البحث عن معنى آخر، ويعوّل الذهن في ذلك على علاقات التجاور، حيث يقوده معنى الجارحة إلى أقرب المعاني الآية وهو الإعطاء، إذ هي وسيلته، والإعطاء يقوده إلى معنى النعمة، وهو المعنى المراد في البيت، والانتقال من المعنى الأول «الجارحة» إلى المعنى الثاني «النعمة» يمثل انزياحاً دلالياً من المعنى المعجمي إلى المعنى السياقي أو الدلالة السياقية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ هذا الانزياح لا يراد به إبدال أحد المعنيين

ص: 140

بالآخر بقدر ما يُراد به عملية التفاعل بين هذين المعنيين، ذلك بأنَّ المعنى الأساسي فيه لا يختفي؛ ولكنَّه يتراجع إلى خطٍ خلفي وراء المعنى السياقي؛ وهكذا تقوم بين المعنيين علاقة تفاعلٍ وتماهٍ؛ ومن خلال هذه العلاقة وهذا التفاعل يبرز الانزياح الدلالي.

ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أنَّ النقادَ والبلاغيين القدامى كان لهم إشارات مبكرة تعدُّ بذورة للبحث في الانزياح الدلالي؛ ومنهم عبد القاهر الجرجاني الذي قسَّم المعنى إلى ضربين:

أ - المعني. ب - معنى المعنى.

فالضرب الأول هو القول على سبيل الحقيقة، إذْ يتقيَّد صاحب الخطاب بالمعنى والدلالة المعجمية؛ أي تفسير ألفاظ اللغة بعضها ببعضٍ، وقد ساه عبد القاهر» تفسيراً»(3). ولا يكون للتفسير إلا دلالة واحدة هي دلالة اللفظ لذلك يمكن استعمال المعادلة الآتية للدلالة على هذا النمط، ولنأخذ مثالا بسيطاً على ذلك (خرج زيدٌ من بيته)

الدال ------ المدلول

أو

اللفظ ------------ المعنى

خرج زيد --------- يعني غادر بیته

أمَّا الضرب الثاني الذي أشار إليه عبد القاهر، هو القول على سبيل المجاز؛ إذ يخرج الكلام إلى معانٍ جديدة غير تلك التي يوجبها ظاهره؛ وهي معانٍ يعقلها السامع من المعنى الظاهر على سبيل الاستدلال؛ أي» معنى المعنى» على رأي عبد القاهر؛ ويمكن تمثيله بالقول المشهور» بعيدة مهوى القرط» فالمعنى القريب هو» بعد المسافة بين أذنها وكتفها»، أما المعنى المجازي البعيد «طول رقبتها» والدلالة على جمالها. ويمكن تمثيله بالمعادلة الآتية:

ص: 141

الدال ------- المدلول الأول ------ المدلول الثاني

أو

اللفظ ------- المعنى ------- معنى المعنى بعيدة مهوى القرط - بعد المسافة بين الأذنين والأكتاف - طويلة الرقبة دالة على الجمال ومن هنا يمكن القول أنَّ آراء عبد القاهر في هذا المجال جاءت متطابقة مع ما اصطلح عليه حديثاً بالانزياح الدلالي.

ومما يلفت الانتباه في نصوص هذا البحث يجد تعبيره مائزاً موضحاً عن بعض معانيه بصورة غير مباشرة فلو اضطر لإثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، بل يلجأ إلى لفظ آخر ولكنه تابع للمعنى الذي يريده، فيعبر بهذا اللفظ عمّا يريد، لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المراد، وهذه الطريقة التي وظَّفتها نصوص هذا البحث في التعبير عن المعاني تندرج تحت ما يسمّى ب «الانزياح الدلالي» الذي يعني الانتقال من المعنى الأساسي أو المعجمي للفظة إلى المعنى السياقي الذي تأخذه الكلمة حينما توضع في سياق معين يحدد معنى الجملة بأكملها، حيث تنزاح الدوال عن مدلولاتها فتختفي - نتيجة لذلك - الدلالات المألوفة للألفاظ لتحلّ محلها دلالات جديدة غير معهودة يسعى إليها المتكلم.

ومعنى هذا أنَّ الانزياح الدلالي يقوم على استبدال المعنى الحقيقي أو السطحي للفظة بالمعنى المجازي العميق، حيث يتم الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، أو كما قال جان کوهن «من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي»(4).

ص: 142

واعتماداً على ما تقدم من دلائل ومحاور يدور في فلكها الانزياح الدلالي؛ سنعمد إلى أسلوب دراسة الصور البيانية التي تمحورت حول نصوص العهد الذي نقل عن الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله على مصر مالك بن الأشتر النخعي بتتبعها في أنموذجات لصور بيانية تمثلت في المجاز والاستعارة والكناية. وبدءاً يكون بحثنا في صور الانزياح للمجاز.

أولاً: صور الانزياح الدلالي المجازي:

وبناءً على ما تقدم يمكن القول أنَّ المجاز يمثل ضرباً من التغيير في الدلالة أو المعنى، ذلك أنَّه يتخذ من اللغة عالماً يتحرك من خلاله لتأدية وظيفته البلاغية، حيث يعمل المجاز على منح الكلمة طاقة متجددة إضافة إلى معناها المعجمي بأقل قدر من الألفاظ، فتأتلف الكلمات في تراكيب جمالية ذات طاقة انفعالية، وبذلك تكون اللغة وسيلة للإيحاء وليست أداة لنقل معانٍ محددة، معنى هذا أنَّ القيمة الدلالية ورفدها بدلالات ثانوية وقيم فنية لا تلمس في الأداء الحقيقي (فاللغة المجازية تبرز الكلام أبداً في صورة مستجدة، وتعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، و تجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر..)(5).

ولعل القول بأنَّ بحوث المجاز تمثل مجالاً رحباً للكشف عن خصوصية النصِّ في الانزياح إلى معنی جدید یُدرك من وحي السياق. ومن المعروف أنَّ البلاغيين تحدثوا عن نوعين من المجاز (عقلي، ولغوي)، ولم يكن النص الذي نحاول الدراسة فيه بمنأى عن هذا التقسيم، فقد اشتملت عباراته وفقراته على نماذج من المجاز العقلي أو اللغوي التي تعدُّ في القمة من الاستعمال البياني، لكنَّ الذي يهمنا في هذا المقام هو المجاز اللغوي بشقيه (المجاز المرسل، الاستعارة) لأنَّهُ يمثل جوهر عملية الانزياح الدلالي، على العكس من المجاز العقلي الذي يخرج من دائرة الانزياح الدلالي ليدخل في دائرة الانزياح التركيبي.

ص: 143

لذلك سيكون محور دراستنا هو المجاز اللغوي لارتباطه الوثيق بالانزياح الدلالي وصوره البيانية، فالمجاز اللغوي هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلاً، لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي(6). وهذا يعني أنَّ الألفاظ لا تحتفظ بدلالتها الأصلية، وإنما تنتقل إلى دلالات أخرى جديدة يسعى المتكلم لإيصالها إلى المتلقي، وبهذا نخلص إلى أنَّ المجاز المرسل دخل في الانزياح الدلالي لدراستنا، وقد تخطى حدود الدائرة اللغوية إلى الدائرة الفنية لينقلنا إلى مناخ الغني في المفردات والمعاني، وصيغ من الابتكار والشمول(7)، وأشهر علاقاته التي سنتناولها بالدراسة والتحليل هي:

1 - العلاقة السببية:

وهي أنْ يذكر السبب، ويراد المسبب، أي أن يكون المعنى الموضوع له اللفظ المذكور سببًا في المعنى المراد فيطلق السبب على المسبب أو النتيجة، ومثال ذلك قول الإمام علي (عليه السلام): (فإنَّ سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة)(8). فقد استعمل النصُّ (السخط) وهو عدم رضى العامة والخاصة استعمالاً حقيقياً؛ في حين انزاحت لفظة (يغتفر) عن معناها الحقيقي إلى معنى المعنى أو دلالة أخرى جديدة فهي ليست على سبيل الغفران الحقيقي الناتج عن ارتكاب ذنب ما، وإنما إشارة لرضى العامة وبقاء من تولى الأمر في محله واستناده على دعامة الشعب وليس من يخصون الأمير حسب. ويمكن توضيح ذلك المعني بالمخطط الآتي:

الدال ------------ المدلول الحقيقي ----- المدلول المجازي

الغفران ------ عدم ارتكاب الذنوب ---- ثبوت الحكم

ص: 144

فالمدلول الحقيقي، هو عدم ارتكاب الذنوب بنيل رضى الخاصة، ولكن اللفظ تحول إلى دلالة أخرى جديدة غير تلك التي جاءت على سبيل الحقيقة وهو عدم حصول الرضى من الخاصة، وتحقق ذلك برضى العامة يتحقق غفران الذنوب التي تساعد على بقاء الأمير في منصبه ومكانته.

وإذا كانت اللغة لا تعمل إلا بتوفر وجهي العلامة اللغوية (الوجه الحسي، والوجه المعنوي) «الدال، المدلول» فكيف يستقیم فهم الكلام المشتمل على وجه من دون الآخر كما في قول الإمام (عليه السلام): (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإنَّ البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله)(9). ويمكن تتبع ذلك من خلال المعادلة الآتية:

العلامة الدالة --- المدلول الحقيقي --- المدلول المجازي

المشورة من الصفات الجيدة -- البخل وغيره من الصفات المذمومة -- الفشل

ففي هذا المثال ينطلق الذهن من العنصر الحاضر المنزاح عنه دلالياً «الفشل» في القيادة عند الاعتماد على عناصره الحقيقية الحسية المباشرة لمن يتصف بالجبن، أو الحرص؛ أو البخل، وبهذا تحققت الدلالة الانزياحية للصورة المجازية التي تحولت من دلالة الاستشارة التي هي محط مدح وإطراء إلى معنى المعنى أو دلالة الفشل.

ويبدو أنَّ الاعتماد على معيار العلاقة السببية، يبرز الخلاف بين الدال والمدلول، وهو خلاف ظاهري لا يتجاوز المستوى السطحي للصياغة، والغاية منه إبراز قوة السببية بين الدال والمدلول.

ص: 145

2 - العلاقة المسببية:

وهي أن يذكر المسبب ویُراد السبب بأن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور مسبباً عن المعنى المراد فيطلق اسم المسبب على السبب، ومنه قول الإمام علي (عليه السلام): (ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور)(10). إذْ يتحدث النصّ عن الحكام الذين حكموا هذه البلاد قبل مالك الأشتر وهذا كان مقتضى ظاهر السياق، لكن النص لم يأتِ بها أشار إليه السياق، وإنما استعمل لفظة (دول) التي تدل على التداول أو كثرة الأموال، وهنا انزياح في المدلول اللغوي الصورة بيانية مجازاً للفظة (دول). ويمكن بيان ذلك بالمخطط الآتي:

الدال ---- المدلول الأول ------ المدلول الثاني

دول ------ التداول وكثرة الأموال --- الحكام

حيث يلاحظ في هذا السياق أنَّ لفظ (دول) يعْبُر عن مدلوله الحقيقي الأول إلى مدلوله المجازي الثاني عن طريق علاقة تجمع بينهما يبصرها الذهن فيهتدي بها إلى تحليل الخطاب التحليل المقبول، وهذه العلاقة هي العلاقة المسبية التي مكنت السياق من الانزياح عن السبب وهو «الحكام» إلى المسبب أو النتيجة التي كثرة الأموال أو التداول، والمقصود هم الأشخاص الذين حكموا قبل مالك، والانزياح هنا ذو حركة أمامية بمعنى أنَّ حركة الذهن تبدأ فاعليتها من الأموال والتداول لتتجاوزها إلى المسبب في هذه الأشياء وهم الحكام(11). ولعلَّ بلاغة هذا الانزياح تبرز في تأكيده على قوة السببية بين لفظ الدول والحكام، وفي ذلك تنبيه للناس وللحاكم نفسه، على وجوب تحقيق العدالة والابتعاد عن الظلم والجور.

ص: 146

3 - علاقة الكلية:

يقصد بها تسمية الكل باسم الجزء، بحيث يستعمل اللفظ الدال على الكل ويُراد منه الجزء، ومن ذلك قول الإمام (عليه السلام): (ثم ألصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة،)(12)، إذ يبرز الانزياح في لفظة «ألصق»؛ لأنَّ اللصق صفة قبيحة في أعمها؛ وأتت اللفظة على لهجة تميم، وتعدُّ من الأفعال الشائنة التي يقوم بها الشخص أو مجموعة من الأشخاص؛ ولكن تكلم باسم الجمع ويقصد المفرد، فقد قصد بألصق تقرب وليكن مستشارك، ومن تسمع منه هو من أصحاب الحسب والأم التي لا تشوبها شائبة والأصل الصحيح ويتمثل الانزياح في الشكل التالي:

الدال -------- المدلول الأول ----- المدلول الثاني

ألصق بذوي الأحساب -- مقاربة الأصل الطاهر للجمع -- مقاربة الأصل الطاهر للمفرد

وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقول: «تقرب من الناس الذين يتسمون بأصول نظيفة..» غير أنه عدل عن ذلك وقال «إلصق بذوي الأحساب» ويبدو أنَّهُ هنا أنه يشير بإشارة خفية عن طريق الانزياح لإشعار من يسيرون بهذا الدرب وهو البحث عن مقاربة الناس بقوة بقوله «أطلبهم» ليؤكد على الصفة الحميدة التي يجب أن يتصف بها من يكون قريبا من الحاكم.

ص: 147

4 - علاقة الجزئية:

يقصد بها تسمية الشيء الجزئي باسم الكلِّ، بحيث يستعمل اللفظ الدال على الجزء ويُراد منه الكل، ومن ذلك قول الإمام (عليه السلام): (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك اطلبهم لمعایب الناس)(13)، إذ يبرز الانزياح في لفظة «أطلبهم»؛ لأنَّ المعايب لا تطلب، وإنما أفعال شائنة يقوم بها شخص أو مجموعة وهنا تكلم بصيغة المفرد وقصد الجمع فهو يقصد لا تقرب من حكمك من يفعل الشائن ليبحث عن معایب الناس، فالمقصود ليس فردا وإنها قصد جمع من فعل ذلك. ويتمثل الانزياح في الشكل التالي:

الدال ------- المدلول الأول ----------- المدلول الثاني

الشخص طالب المعايب --- صفة مذمومة لشخص مفرد -- ذم الجزء والمقصود الكل

وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقول :» الفاعلون لما يضر الناس..» غير أنه عدل عن ذلك وقال «أطلبهم لمعايب الناس» ويبدو أنَّهُ هنا أنه يشير بإشارة خفية عن طريق الانزياح لإشعار من يسيرون بهذا الدرب وهو البحث عن معایب الناس بقوله «أطلبهم» ليؤكد على الصفة المذمومة التي يجب الابتعاد عنها.

هذه أهم علاقات المجاز المرسل التي حفلت بها وثيقة العهد، وتبيّن لنا، من خلال تحليل أمثلتها أنَّهُ لابد للانزياح الدلالي - حتى يكون مقبولاً للنفس مؤثراً فيها من علاقة تربط بين الدلالتين الحقيقية والمجازية للفظ، وهذه العلاقة هي التي تسوغ مثل هذا الاستعمال، لذلك يشترط فيها أن لا تكون واضحة وضوحاً تاماً بحيث لا تحتاج إلى تأمل وتدبر، وفي الوقت نفسه ألاّ تكون بعيدة مبهمة، وذلك لأنَّ وضوحها التام وانکشافها الكامل يفقد الانزياح الدلالي عنصر تأثيره، من حيث يكون عندئذٍ مبتذلاً، لا تحس النفس بلذة الانتقال من الدلالة الأولى إلى الثانية، إذ يقترب حينئذ من خصائص التعبير الحقيقي المباشر، فالعلاقة إذا لم تكن واضحة وضوحاُ تاماً - كما هو الحال في النص

ص: 148

القرآني - فإنَّها تثير في المتلقي انفعال التشوق، والتطلع إلى معرفة الدلالة المجازية التي يريدها المتكلم ويشير إليها هذا الاستعمال المجازي، حتى إذا وصل إليها تحسُّ نفسه حينذاك باللذة والمتعة، مما يستدعي توكيد المعنى المجازي فيها، وزيادة قابليته في إثارة الانفعال المناسب، وقد التفت صاحب الطراز إلى هذه الحقيقة فأشار إليها في أثناء تعليله لقدرة الأسلوب المجازي على التأثير في نفس المتلقي، حيث يقول: (إنَّ النفسَ إذا وقفتْ على كلامٍ غير تامٍ بالمقصود منه تشوّقتْ إلى کمالهِ، فلو وقفت على تمام المقصود منه لم يبقَ لها هناك تشّقٌ أصلا، لأنَّ تحصيل الحاصل محال، وإن لم يقف على شيء منهُ فلا شوق لها هناك، فأمَّا إذا عرفته من بعض الوجوه من دون البعض الآخر، فإن القدر المعلوم يحصلُ شوقاً إلى ما ليس بمعلوم، فإذا عرفت هذا فنقول: إذا عُبِّرَ عن المعني باللفظ الدال على الحقيقة حصل كمال العلم به من جميع وجوهه، وإذا عُبِّرَ عنهُ بمجازهِ لم تعرف على جهة الكمال، فيحصل مع المجاز تشوّق إلى تحصيل الكلام(15).

ومعنى هذا أنَّ المتلقي حينما يصلُ إلى المعنى المراد من الانزياح الدلالي بعد تأملٍ وتدبر فإنّه يحسُّ بالمتعة والسعادة، فالنفسُ بطبيعتها تشعر بسعادة غامرة حينما تظفرُ بالشيء بعد طول معاناة وتفكير من اجل الحصول عليه، إذ يقع الظفرُ بالمعنى المراد من نفس المتلقي موقع البشري لشعورها بحلاوة الفهم، وهكذا فإن قيمة الانزياح الدلالي، وقدرتهُ على بالتأثير في المتلقي تعتمد على مهارة المبدع في اختيار الألفاظ فكل لفظ وضعَ في مكانهِ المناسب في بناءٍ محكم متماسك، بحيث لا يمكن أنْ يُستبدل لفظٌ بآخرَ، ولو حصل ذلك لاختلَّ المعنى وتشوّه البناءُ، فالمفردة قد تكون عادية، فإذا قرئتْ في القرآن وجدنا لها طعماً آخر، وتأثيراً فريداً لا نعرفه في حدوده الطبيعية المتعارف عليها.

ص: 149

ثانياً: صور الانزياح الدلالي الاستعاري:

الاستعارة علم بلاغي له قواعده وأسسه، لكننا في هذا البحث لا نخوض في تعريفاتها وتفرعاتها، وندخل مباشرة إلى العبارات التطبيقية للنص الذي نحن بصدد دراسته.

وترى النظرية الاستبدالية أنَّ الاستعارة لا تتعلق بكلمة معجمية واحدة بغض النظر عن السياق الوارد فيه وقد يكون للكلمة معنيان «حقيقي، ومجازي» وتحصل الاستعارة باستبدال المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي، والواقع أنَّ هذا الاستبدال هو صلب ما في الاستعارة من انزياح، وهذا ما تنبه إليه نفر من النقاد الغربيين وبخاصة »جان کوهن» الذي أطلق على الانزياح المتعلق بالاستعارة «الانزياح الاستبدالي»(15) ومثل له (بالسطح الهادئ الذي تمشي عليه الحمائم)(16) فالحمائم دلت عنده على السفن. وعدَّه خرقاً لقانون اللغة وانزياحاً عنها، وهو ما مثل عند البلاغيين العرب صوراً بلاغية أو بيانية، وعلى الرغم من عدم تصریح کوهن بوضوح بإن ذلك استعارة؛ فقد أشار لها في موضع آخر أنَّ كلَّ فضلٍ للشعر يعزى لها، ويرى أنَّ منبع الشعر الأساسي هو المجازات اللغوية؛ والاستعارة التي تعتمد على تجاوب الحواس(17). وكوهن لم يكن الوحيد في النقد الغربي الذي أهتم بالاستعارة والانزياح للصورة البيانية، فقد جاءت إشارات سابقة منذ عهد أرسطو(18).

وإذا ما انتقلنا للاستعارة للكشف عن طبيعة توظيفها الدلالي في بحثنا (عهد الإمام لمالك)، وقبل ذلك نجد أنَّ الأقدمين قد تطرقوا لذكر أنواع الاستعارة من محسوس لمحسوس بجامع محسوس، أو بجامع عقلي، أو من محسوس لمعقول، أو معقول لمعقول أو لمحسوس، ومن تصريحية أو مكنية، ومن مرشحة أو مجردة أو مطلقة، ومن وفاقية إلى عنادية إلى غير ذلك من ألوان الاستعارة، وهم يذكرون هذه الصور ويمثلون لها بما ورد من نصوص شعرية وقرآنية وغيرها، وربما زاد بعضهم فأجرى الاستعارة مكتفياً

ص: 150

منها في بيان الجمال الفني لهذا اللون من التصوير. لذا ارتينا أن نمعن النظر في الاستعارة في نصوص العهد الذي هو مدار بحثنا ليبرز أثرها الدلالي وقيمتها البيانية والجمالية في التعبير اللفظي، مشيرين بذلك إلى الأثر النفسي المنبعث من تلك الاستعارات من خلال الكشف عن المفارقة بين البنية السطحية الظاهرة؛ ودلالات البنية العميقة للنصوص مستعملين تلك التقسيمات التي سار عليها الأوائل لنلقي الضوء على ما برز من انزياح دلالي في النصوص أخرج الصورة البيانية بشكلها الأجمل. ومن تلك الاستعارات المصوِّرة الموحية في النصِّ قول (الإمام(عليه السلام): (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح)(19) فالمراد بالذخائر معناه المجازي، وهو الحسنات التي تأتي عن طريق العمل الصالح ورضى الله تعالى المقرون برضى العامة على من يتولى الحكم عليهم بحسب ما جاء في نصوص العهد وما ينتج عنه من خلاص من النار وتحقيق مكاسب دنيوية ودينية كثيرة، لكنَّ الأسلوب الدلالي للفظة (الذخائر) المنزاح عن لفظة مدخرات أو مصوغات تحوَّل من دلالته الظاهرية اللفظية إلى دلالة سياقية بأسلوب استعاري، وبهذا خرج عن محتواه الظاهري إلى محتوى سياقي دلالي انزياحي، وأصبحت لفظة (ذخائر) تدلُّ على العمل الصالح الذي تنج عنه الحسنات التي بسببها يدخل المشار إليه الجنة. ويمكن توضيح الانزياح بالشكل التالي:

الدال ------ المدلول الأول -------- المدلول الثاني

الذخائر ---- المدخرات من أموال ومصوغات ومصوغات ---- الأعمال الصالحة

والمتأملُ في هذين المدلولين يلحظ أن هناك علاقة سوَّغت الانزياح عن المدلول الأول الحقيقي للفظة (الذخائر) إلى المدلول الثاني المجازي (الأعمال الصالحة)؛ وهذه المشابهة الحاصلة بين الذخائر والأعمال الصالحة في أنَّ كلاً منها يرفع بصاحبه إلى مستوى يرجوه في نيل رفعة وعلو. والقرينة المانعة من إرادة المدلول الأول «العمل» لأنَّ النصَّ لا

ص: 151

يتحدث عن أموال ومدخرات، ولا معنى أن تذكر لفظة كهذه بتوجيه معنوي.

ومن الاستعارات الأخرى التي تضمنت معنى الانزياح الدلالي في السياق قول الإمام (عليه السلام): (ولا تكوننَّ عليهم سَبعاً ضارياً تغتنم أكلهًم)(20). فكل من لفظ (سبع)، (ضارٍ) لها مجال استعمالي محدد، فالسبع هو الحيوان المفترس الذي يقتنص فريسته حينما يكون جائعا بقوة وشراسة وضراوة وهي السيطرة على الفريسة بسرعة وقوة تجعلها تفقد قواها بالسرعة الممكنة، فهنا جاءت الاستعارة التحذيرية بعدم التحول إلى تلك الصفات الشرسة التي تجعل من الناس يخافون ممن يقودهم، ويقتنص الفرص للإيقاع بهم فجاء المستعار الذي هو (السبع) للمستعار له (الآمر أو المسؤول) فحصل انزياح من الدلالة اللفظية الحقيقية المباشرة التي اتسمت ب(سبع) يمتلك القوة والشراسة على حيوان آخر أضعف منه يكون ضحية له، إلى إنسان يكون في موقع الأمرة والمسؤولية يتخذ من تلك الصفات الحيوانية لذلك السبع وهي المعاقبة بقوة والسيطرة بعنف وليس برفق ولين والتحري عن العوامل النفسية التي يتأثر بها الإنسان. ويمكن تجسيد ذلك بالشكل الآتي:

الدال ------ المدلول الأول ---- المدلول الثاني

السبع ----- الحيوان المفترس --- الآمر أو المسؤول

فقد جاء الانزياح هنا لعدم اتباع السلوك نفسه ممن تقع في يده سلطة تجعل الناس تنفر منه، وتتصرف هاربة أو متخفية عن ذلك السبع الضاري.

وقد كُثر في الاستعارات الانزياحية لهذه النصوص ما تناول الأمور المعقولة المعنوية إلى الأمور المحسوسة زيادة في تصوير المعني وتمثيله للنفس، ومن ذلك قول الإمام (عليه السلام): (وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّةٌ دون ما أعطيت)(21) لو فكرّنا ملياً بهذا النصِّ لوجدنا أنَّ حقيقة الكلام؛ أي أنَّ لفظة «جُنَّة» لا يُراد منها معناها الحقيقي،

ص: 152

وهو الشيء المانع عن المخاطر من سلاح وغيره، ولكن يُراد منها أنَّ الأمير يجعل من نفسه كالساتر الذي يصدُّ أعتى الرياح التي تواجه رعيته ومن يعتدي عليها، ويقف مانعاً مدافعاً عن كل ما بذله، وهنا انزاحت اللفظة عن دلالتها الحقيقية، وأيضا لفظة (أرع) التي جاءت منزاحة عن حفظ الأمانة، والدفاع عن حقوق الرعية.

وعلى هذا النمط في الاستعمال جاءت كلمتا «أرعً» و»جُنَّة» فكلتاهما خرجت عن مدلولها الحقيقي لتكسب مدلولا جديداً يشبهه، فأرعَ أتت لتعطي للنص قوة و»جُنَّة» كذلك، ولعلك تلاحظ أنَّ الانزياح عن ألفاظ الحقيقة إلى ألفاظ المجاز أبلغ في تأدية المعنى، لإخراجها المحسوس إلى المعقول ذلك أنَّ حفظ الأمانة والدفاع أمران يدركان بالحس، فلما استعار لهما النصّ »أرع« و »جُنَّة«، خرج المحسوس إلى ما يُدرك بالعقل ونقل المعنى الحسي إلى الصورة العقلية، فأصبحت المحسوسات، تدرك بالصفات العقلية وغابت عن العين، وهذا يؤكد المعنى ويقرره في ذهن المتلقي(23).

ثالثا: صور الانزياح الدلالي الكنائي:

كعادتنا في المباحث السابقة لا ندخل في دهاليز وتعريفات العنوان المراد البحث فيه، ولكن كلنا نعرف أنَّ الكناية تعني أنَّك تتكلم بلفظ لكن دلالته تذهب باتجاه آخر.

وعلى هذا الأساس يرجح أنَّ المعنيين الحقيقي والمجازي مطروحان في السياق، وعنصر القصد من قبل المتكلم هو الذي يرجّح مجاوزة المستوى السطحي للأسلوب الكنائي، ويحيل المتلقي - بواسطة النسيج الثقافي المشترك بين طرفي الاتصال - إلى المستوى العميق الذي يُدرك من خلال لازم المعنى، فالكناية بنية ثنائية الإنتاج، حيث تكون في مواجهة إنتاج صياغة له إنتاج دلالي موازٍ له تماماً بحكم المواضعة، لكن يتم تجاوزه بالنظر في المستوى العميق لحركة الذهن التي تمتلك قدرة الربط بين اللوازم والملزومات، فإذا لم يتحقق هذا التجاوز، فإنَّ المنتج الصياغي يبقى في دائرة الحقيقة.

ص: 153

ومن يتضح وقوع الكناية في منطقة وسطى بين الحقيقة والمجاز، إذ لا يمكن الميل بها إلى دائرة الحقيقة لتستقل بها، لأنَّ الصياغة لم تنتج معناها فحسب بل أنتجت لازماً مرافقاً لها، كما لا يمكن أن تستقل بها دائرة المجاز، لعدم وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي(23) ولهذا فإنَّ بنية الكناية تمثل صراعاً حاداً بين المعجم »المعنى الحقيقي» والسياق الذي يرشّح المعنى المجازي، فالمعجم يحاول جذب الصياغة إلى منطقة الحقيقة بينما يحاول السياق خلعها من معانيها المعجمية لتفرز الدلالة المجازية فقط، وهنا يكون المتلقي هو الفيصل في تحديد اتجاه الدلالة الذي تسير في الصياغة ويمكن لنا توضيح ذلك بالمخطط الآتي:

المتلقي - السياق (المعنى المجازي) - بنية الكناية - المعجم (المعنى الحقيقي)

وقد جرى تقسيم الكناية على ثلاثة أقسام استناداً لما يراه علاء البلاغة، وهذه الأقسام هي: الكناية عن موصوف، والكناية عن صفة، والكناية عن نسبة(24). وغايتنا في هذا المقام الوقوف على نماذج من الكنايات التي جاءت في عهد الإمام علي إلى عامله مالك بن الأشتر لإبراز ما فيها من انزياح دلالي نتج عنه صورٌ بيانية معبرة عن الصيغ الجمالية التي كثرت في النص، وبيان ما في هذا الانزياح من لطائف وأسرار، فالكناية من التعبيرات البيانية الغنية بالاعتبارات والمزايا والملاحظات البلاغية، ولهذا فإنَّ توظيفها في نصوص العهد يحقق العديد من المقاصد والأهداف، ولعلَّ من أهمها قول

ص: 154

الإمام علي (عليه السلام): (فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل)(25). فقد جاء هذا القول ليوضح حالة كانت دائرة آنذاك وهو انحجاب القائد عن العامة، ونتيجة لذلك تنقلب الأمور رأساً على عقب، لذلك أشار الإمام بكناية هو تولي الباطل وغياب الحق، ويمكن تمثيل ذلك بالشكل التالي:

المعني ------- الوسيط ----- المكنى عنه

من يقبح الحسن ---- المتلقي ------ الباطل

ويحسن القبيح ----- المتلقي ------ الباطل

فالصياغة تهدف إلى مبالغة في نفي ما يتوهمه الذين يدعون الحق وهو اتباع الباطل. فالانزياح الدلالي الحاصل بالمعنى. ومن الكنايات التي جاءت في عهد الإمام علي (عليه السلام) قوله: (فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإنَّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيها أحبت وكرهت)(26). فلو تمعنا في معنى النصِّ الظاهري لوجدنا أنَّ الإمام يوجه مالك لتملك نفسه وما يرغبه في جاه و سلطة أو أموال وأن يكون على قدر من المسؤولية، وأن يبتعد عمّا يحرم. و لكن المعنى الكنائي المجازي الذي انزاح وانحرف عن المعنى الحقيقي هو تولي السلطة بحكمة ورزانة وكسب العامة، وعدم تقريب الخاصة، والقيادة الحكيمة التي تعطي لكل ذي حقٍّ حقّهُ.

ومنه قول الإمام (عليه السلام): (وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات ويردعها عند الجمحات، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله)(27). حيث تهدف الصياغة إلى رسم صورة ايجابية للتعامل مع الرعية، ولكنَّ ملامح الصورة لا تكتمل من خلال البنية السطحية مباشرةً، بل من خلال الحضور الذهني الفعال للمتلقي الذي يبرز المعاني الكنائية الخفية المستقرة في البنية العميقة للصياغة، فالمعنى الحقيقي لذلك يحيل إلى معانٍ کنائية عميقة تحتاج من المتلقي في إدراكها إلى تدبرٍ ونظر في التركيب وربطه بالسياق

ص: 155

فكسر الشهوات سلوك ظاهر يخفي وراءه أموراً كثيرة توازي المعاني الكنائية المتولدة من المعنى الحقيقي الظاهر، وهي التواضع، ولين الجانب، والمبالغة في الرحمة، والبعد عن الترفّع والغطرسة في حقِّ الرعية، والابتعاد عن المحرمات.

فالإنسان يجب أنْ يؤدي الدور المناط به على وفق إنسانيته وترفعه عن الرغبات الشخصية، والملذات الذاتية الوقتية، فكسر النفس عن الشهوات والملذات يجعلها أكثر تقبلاً ورغبة من الرعية

وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأنَّ العلاقة التي تربط الدلالة الأولى بالدلالة الثانية هي علاقة اللزوم، فالنصُّ عبر بالملزوم وهو كسر الشهوات، وأراد ما يلزم وهو التواضع، وهذا التحوّل في التعبير أفاد المبالغة في تأدية المعني.

ص: 156

الخاتمة:

الحمد الله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وله الحمد مرة أخرى على نعمة التوفيق الذي منحني إياه ربُّ العزة والجلال أنْ انفرد لردح من الزمان لأخلو متصفحاً ومطلعاً لمباهج وأنوار وخفايا وأسرار كتاب نهج البلاغة، متعمقاً في دلالاته وانزياحاته ولاسيما في عهد الإمام علي(عليه السلام) لعامله مالك بن الأشتر النخعي، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبدالله رسول الله ونبيِّ رحمته وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد تناولت هذه الدراسة ظاهرة صور الانزياح في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن الأشتر النخعي عامله على مصر تناولاً بيانيا دلاليا، واقفة على أكثر أنماط الانزياح حضوراً في تراكيب نصوص هذا العهد، ومبرزة الأثر الدلالي والبياني لها، وبعد وجدناها خلصت إلى النتائج الآتية:

1 - إنَّ ظاهرة الانزياح التي تعدُّ من أبرز الظواهر الدلالية الأسلوبية في النقد الحديث موجودة في تراثنا البلاغي والنقدي، ومترسخة في نصوص عهد الإمام علي (عليه السلام) بصورة لافتة للنظر، وقد خضعت للمسميات التي أطلقها النقاد العرب القدامي كالعدول والاتساع أو التوسع أو الانحراف، ولهذا يمكن عدُّها من نقاط الالتقاء بين الأسلوبية في الانزياح الدلالي للصور البيانية الحديثة وبين ما أؤثر عن البلاغة العربية في عصرها القديم.

ص: 157

2 - برزت في البحث ظاهرة الطغيان لنصوص من المجاز اللغوي ولاسيما ما كان منه مجازاً مرسلاً، تصدرت علاقاته الرئيسة المشهد فبرزت العلاقة السببية والمسبية والجزئية والكلية فكان النص ينزاح أو ينحرف عن دلالته الحقيقية لصالح العلاقة الجديدة كدلالة الغفران التي لم تبق على مدلولها بل تغيرت إلى دلالة أخرى.

3 - إنَّ الوظيفة الرئيسة للانزياح ماثلةٌ فيما يحدثُ من مفاجأةٍ تثيرُ المتلقي وتلفت انتباهه، وتدفعه للبحثِ عن أسرار هذه الظاهرة، ومثيراتها السياقية، وأبعادها الدلالية. وقد تجسدت في نصوص عهد الإمام علي (عليه السلام) في أغلب النصوص التي انزاحت عن مدلولاتها الأصلية إلى أخرى سواءً أكان في المجاز أم بالاستعارة أم بالكناية ك (الذخائر) التي دلَّت بعد الانزياح على العمل الصالح.

4 - يعدًّ الانزياح الدلالي في المجاز المرسل من أبرز أنواع الانزياح التي وظَّفتها نصوص العهد للكشف عن خصوصيته في الانزياح من المعنى الأصلي إلى معنى جديد يفهم من سياق النصِّ كلفظة «الإلتصاق».

5 - جاءت عبارات الكناية في نصوص عهد الإمام علي لتدلَّ على دلالات الأخرى غير التي يراها المتلقي أو يسمعها بصورتها المباشرة وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على انزياح هذه العبارات من قالبها الأصلي إلى قالب آخر مختلف عنها كلياً كعبارة (فيصغر عندهم الكبير).

ص: 158

الهوامش:

1 - بنية اللغة الشعرية: کوهن: 205.

2 - اللغة: جوزيف فندريس: 256.

3 - ينظر: دلائل الإعجاز: عبدالقاهر الجرجاني (ت 471 ه): 444.

4 - بنية اللغة الشعرية: كوهن: 205.

5 - أسرار البلاغة - الجرجاني (ت 471 ه): 55.

6 - ينظر: الايضاح في علوم البلاغة: القزويني: (5 / 12).

7 - ينظر: مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية: محمد حسين الصغير: 141.

8 - نهج: (3 / 86).

9 - م.ن: (3 / 87).

10- م.ن: (3 / 82).

11 - ينظر: البلاغة العربية قراءة أخرى: محمد عبد المطلب: 164.

12 - نهج: (3 / 91).

13 - نهج: (3 / 88).

14 - كتاب الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: یحیی بن حمزة العلوي: (1 / 82).

15 - ينظر: بنية اللغة الشعرية: جان کوهن: 205.

16 - ينظر: م.ن: 42.

17 - ينظر: م.ن: 170.

18 - ينظر: التحليل الدلالي للصور البيانية عند «میشال لوغوارن»: بسام بركة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 48 - 49، 1988 م: 25.

ص: 159

19 - نهج: (3 / 82).

20 - نهج (3 / 84).

21 - نهج (3 / 106).

22 - ينظر: التحرير والتنوير: ابن عاشور: (7 / 33 - 34).

23 - البلاغة العربية قراءة أخرى: عبدالمطلب: 187 - 188.

24 - ينظر: مفتاح العلوم: السكاكي: 638. والايضاح في علوم البلاغة: القزويني: (5 / 162).

25 - نهج (3 / 104).

26 - نهج: (3 / 83).

27 - نهج (3 / 82).

ص: 160

المصادر:

- أسرار البلاغة - الجرجاني (ت 471 ه)، تحقیق: محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد العزيز شرف، دار الجيل، بیروت - لبنان ط 1، 1991.

- الإيضاح في علوم البلاغة: القزويني (ت 739 ه)، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بیروت - لبنان ط 3، 1993 م.

- البلاغة العربية قراءة أخرى: محمد عبد المطلب، مكتبة لبنان، (د. ط)، (د.ت).

- بنية اللغة الشعرية: جان کوهن، ترجمة: محمد الولي، ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986 م.

- تفسير التحرير والتنوير: ابن عاشور (ت ه)، مؤسسة التاريخ، بيروت - لبنان، ط 1، 2000 م.

* - التحليل الدلالي للصور البيانية عند «میشال لوغوارن»: بسام بركة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 48 - 49، 1988 م.

* - دلائل الإعجاز: عبدالقاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 3، 1992 م.

* - کتاب الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: یحیی بن حمزة العلوي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ط، 1982 م.

* - اللغة: جوزيف فندریس، تعريب: عبد الحميد الدواخلي، ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ط، 1950 م.

* - مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية: محمد حسين الصغير، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1994 م.

* - مفتاح العلوم: السكاكي (ت 626 ه)، تحقيق: أكرم عثمان يوسف، مطبعة دار الرسالة، بغداد، ط 1، 1981 م.

* - نهج البلاغة: الإمام علي بن أبي طالب (ت 40 ه)، شرح: الشيخ محمد عبده، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، د.ت، د.ط.

ص: 161

ص: 162

الثنائيات المهيمنة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر(رضي الله عنه)

اشارة

م. د. عبد الهادي عبد الرحمن الشاوي

مرکز دراسات الكوفة

أ.م. هادي سعدون العارضي

كلية التربية الأساسية - جامعة الكوفة

ص: 163

ص: 164

مقدمة:

يعد نص عهد الإمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي، وثيقة تاريخية ودستورا و معينا فكريا ومعرفيا ظل خالدا، فهو يزاد ثراء وقيمة علمية وجمالية مع تقادم الزمان وتغير الظروف فهو عصي على تأثيراتهما بالغ في قصديته حدود الغاية، متسقا بنائياً اذا ما مانظر في شكله كمنتج لغوي، وهو معين لا ينضب من المعارف، كل هذا دفعنا إلى النظر سماته الفنية والمعرفية، فاستوقفتنا ظاهرة جديرة بالدراسة، إذ لم يسبقنا حسب اطلاعنا أن أحدا خاض في دراستها، ألا إنها ظاهرة (الثنائيات المهيمنة في النص) ولذلك انصبت دراستنا التحليلية عليها، وكانت على الشكل الأتي:

أولا: التمهيد: الذي درسنا فيه مفهوم الثنائيات في اللغة والإصلاح وتطرقنا الى مجموعة من الراء المختلفة فيها، ثم أوضحنا مفهوم الهيمنة، ذاکرین أراء العلماء والنقاد فيها، ولقد اتضح لنا أن الثنائيات المهيمنة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر تنقسم على نوعين هما: الثنائيات المتوافقة، والثنائيات المتضادة أو الضدية، وعلى هذا التقسم جاء البحث على مبحثين:

المبحث الأول: درسنا فيه الثنائيات المتوافقة، وأخذنا نوعين منها هما: ثنائية الخاص

والعام وثنائية الإجمال والتفصيل، ولكل منها حضور واضح سیکشف البحث عنه. أما المبحث الثاني: فقد درسنا فيه الثنائيات المتضادة، ووقفنا عند ثنائية الغياب والحضور كأحد شواهد هذه الثنائية.

ثم ختم البحث بمجموعة من النتائج الى توصل اليها الباحثان بعد الجهد في التحليل والوصف والتنقيب بما يعزز قيمة البحث ويكشف عن ثراء النص والله من وراء القصد.

ص: 165

تمهيد

مفهوم الثنائيات المهيمنة

يتطلب البحث قبل الخوض في مباحثه وتشعباته ان نقف على توضيح المفاهيم التي نعمل على وفقها والتي من خلالها نستطيع ان نسير على هدى واضح في الدلالة على ما نريد مستعينين في ذلك بالجهد العلمية التي سبقتنا في توضيح هذه المفاهيم ومعلقين على ما ورد فيها من محددات شكلت صورة المنهج الذي نسير عليه في الكشف عن هذه الثنائيات التي حضيت بمساحة واسعة من نص العهد، ولذلك وجب التعريف بالثنائيات فماهي:

أولا: الثنائيات:

هي فكرة فلسفية نجد تعريفها في المعجم الفلسفي اذ يقول عن الثنائية بأنها (الثنائي الأشياء ما كان ذا شقين والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المفسرة للكون كثنائية الأضداد وتعاقبها أو ثنائية الواحد والمادة - من جهة ما هي مبدأ عدم التعيين - أو ثنائية الواحد وغير المتناهي، أو ثنائية عالم المثل وعالم المحسوسات عند افلاطون......)(1)

فهي جذر الفلسفة وعليها تقوم كثير من المفاهيم والاراء في الحياة وعليها تبنى فلسفات مختلفة وقد تكون متباينة، وهذه الثنائية كثيرا ما أشار إليها النص القرآني في عديد من المواضع ومنها قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» وهذه الثنائية نوع واحد من أنواع أخر لكنها ثنائية التوافق التي بها تقوم الحياة وتستمر، وهناك ثنائية التضاد التي تتجلى في كثير من النصوص القرآنية لتقوم عليها معان ودلالات ثرة ومن تلك الثنائيات المتضادة قوله تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ

ص: 166

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(3) فلقد جاءت الآية القرآنية وهي تجمع هذه الثنائيات المتضادة (الله (جل وعلا) من طرف والطاغوت (الطرف الضدي) وكذلك جاءت ثنائية (الجنة) و (النار)، وهناك ثنائيات أخر في الحياة تتجلى في مظاهر الانتاج السلوكي للإنسان ومنها في نتاجه اللغوي الذي نحن بصدد توضيح هذه الأنواع، ولقد كانت هذه الثنائيات غير غائبة عن الثقافة العربية، اذ نجد أن نقاد العرب القدامى وعلماءهم قد خاضوا في هذه الموضوعة وأبدعوا في توصيفها وفي الكشف عن ثرائها المعرفي والجالي في النص الأدبي، فهذا الجاحظ (ت 255 ه) مثلا يرى أن الأشياء في الكون أما متفقة أو مختلفة أو متضادة وكلها ترجع إلى الأصل الثنائي المحوري في الوجود المتمثل بالحركة والسكون وفي ذلك يقول (وتلك الأنحاء الثلاثة كلها في جملة القول جماد ونام، وكأن حقيقة القول في الأجسام من هذه القسمة أن يقال :نام وغير نام)(4) وله اسهامات تطبيقية في هذا الموضوع من أهمها كتابه (المحاسن والأضداد)، ونمضي قدما في مساحة الثقافة العربية لنجد عالما أخر قد وقف كثيرا عند هذه الظاهرة وأعطاها ما تستحق من الدراسة حين كشف عن جماليتها في النص الأدبي وعن قدرتها الأبلاغية، إلا أنه الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه) التي وجدها في التضاد والطباق والتكافؤ وهو يدرس الصورة التمثيلية أو التمثيل لبين قدرتها على الإبانة والكشف وإثراء المعنى فيقول في ذلك (وهل تشكُّ في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المُشئِمِ والمُعْرِق، وهو يُريِكَ للمعاني الممثَّلة بالأوهام شَبَهاً في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس، ويُعطيك البيان من الأعجم، ويُريك الحياةَ في الجماد، ويريك التئامَ عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماءِ والنارِ مجتمعين، كما يقال في الممدوحِ هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً)(5) وللآخرين من علماء العربية ونقادها أراء

ص: 167

واستشهادات بارعة في الكشف عن قيمة الثنائيات في النص الأدبي.

أما النقد الحديت فقد أظهر اعتناء فائقا في هذه الموضوعة وتعددت الأراء تبعا للمنهج الفلسفي الذي يعتنقه الناقد ويسير على وفقه، فاذا ما نظرنا في أفكار العالم اللغوي الفرنسي دي سوسير نجداها قائمة على مبدأ الثنائيات، من مثل ثنائية الدال والمدلول وثنائية الكلام واللغة، وهي التي أسست مدارس أخر تناولت موضوعة اللغة بالتحليل القائم على بيان أثر هذه الثنائيات في تقاربها وفي اتفاقها أو تضادها، فقد ذهب أصحاب النظرية البنائية إلى أن العالم برمته ما هو إلا ((مجموعة من الثنائيات المتشابكة والمتقابلة، تنعكس على شبكة العلاقات فتحيلها إلى مجموعة من الثنائيات الخالصة)(6) التي بتفاعلها يستمر بناء الأشياء المادية والمعنوية، وهي تعد عندهم العصب الرئيس في البناء والبقاء، ونرى أن من جاء من بعدهم من المفكرين وخاصة مفكري المنهج التفكيكي لا يرون في هذه الثنائية إلا قيدا وضع للحياة، فهو محطم لها لا أساس بناء ونمو وتطور لأنهم لا يرون ثباتا قائما للمعنى اذ لا حدود معروفة له ولا يمكن الوصول إلى معنی أو دلالة ثابتة للنص فهو مولد للدلات بشكل غير نهائي، وهذا يؤدي الى غياب الدلالة المركزية للنص ومن ثم ضياع المعرفة الحقيقية للنص کا نظن ذلك.

ولسنا هنا في موضع نقد النظرية بل في توضيح الآراء وذكرها للدلالة على التطور الذي أصاب هذه النظرية.

ص: 168

ثانياً: مفهوم المهيمنة:

جاء في لسان العرب أن لفظة مهيمن تعني القائم اذ ذكر أن ((قَالَ ابْنُ الأَنباري فِي قَوْلِهِ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، قَالَ: المُهَيْمِنُ الْقَائِمُ عَلَ خَلْقِهِ؛ وأَنشد:

أَلا إنَّ خَیْرَ الناسِ، بَعْدَ نَبِيِّهِ *** مُهَيْمِنُه التالِيه فِي العُرْفِ والنُّكْرِ

قَالَ: مَعْنَاهُ الْقَائِمُ عَلَی النَّاسِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بأُمور الْخَلْقِ، قَالَ: وَفِي المُهَيْمِن

خَمْسَةُ أَقوال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ المُهَيْمِن المُؤْتَمَنُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ المُهَيْمِنُ الشَّهِيدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الرَّقِيبُ، يُقَالُ هَيْمَن يُهَيْمِنُ هَيْمنَة إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَ الشَّيْءِ، وَقَالَ أَبو مَعْشَرٍ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ))(7) أي أن معناه يشمل دلالة الرقيب والمسيطر والقائم، فهو يمتلك السلطة والتأثير وليس عنصرا خاملا.

أما في الاصطلاح: فهنالك أراء مختلفة فيه ومنها ما قاله العلم اللغوي (رومان ياكوبسون 1935 م) بأن المهيمنة هي ((عنصر بؤري للأثر الأدبي، إنها تحكم وتحدد وتغير العناصر الأخرى، كما أنها تضمن تلاحم البنية))(8) فيما يرى باحث أخر ان العنصر المهيمن في النص الأدبي مكون يقوم بتركيز العمل الأدبي، وكأن له وظيفة محددة في النص لا غنى عنها، إذ يقول ((فهو المكون الذي يحقق تركيز العمل الأدبي، ويعمق تماسك البناء، بل إنه في حقيقة الأمر النظام الكلي في عصر من العصور، أو في أعمال كاتب ما، أو داخل نوع أدبي أو فني بعينه، فهو جوهر النسق))(9) نستدل من ذلك أن العنصر المهيمن في النص الأدبي هو قوام النص ومن دونه ينعدم انسجام النص وتتغير صيرورته بل ربما فقد خاصيته النصية، لذلك يمكننا القول أن لا نص أدبي متماسك ومنسجم يخلو من عنصر يمتلك الهيمنة داخل النص وبه تتحدد خصائص النص الجمالية والمعرفية، وعلى وفق هذه الثنائيات المهيمنة في نص عهد الإمام علي (عليه السلام) سندرس هذه الظاهرة ونكشف عن الثنائيات التي امتلكت مجتمعة عنصر الهيمنة في بناء النص وكان

ص: 169

لها أثر واضح في توجيه دلالاته وفي تأطير معانيه بسمة جمالية خاصة، فقد اتبعنا منهجية الوصف والتحليل لهذه الظاهرة التي وجدناها تتمحور حول محورين رئيسين هما: الثنائيات المتوافقة التي تظهر في بحثنا من خلال دراستنا لثنائية الخاص والعام ولثنائية أخرى هي ثنائية الإجمال والتفصيل، وهذا ما أعتني به المبحث الأول من الدراسة، فيما كان المبحث الثاني منها منصبا لدراسة الثنائيات الضدية، المتمثلة في ثنائية الغياب والحضور في النص الخطابي لعهد الإمام علي (عليه السلام) وعلى وفق هذا التقسيم سوف ندرس هذه الظاهرة (الثنائيات المهيمنة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، اذ بدا لنا أن العنصر المهيمن في العهد هو عنصر الثنائيات باختلافها وتنوعها يشكل ظاهرة تستدعي الدراسة والتحليل ومن أجل ذلك جاء بحثنا هذا.

المبحث الأول: الثنائيات المتوافقة

إن دراسة أي نص أدبي تستوجب امتلاك المنهج الذي على وفقه تسير الدراسة قدما في سبر کنه الخطاب والوقوف على سماته الفنية والمعرفية، وان نصا بليغا كعهد الإمام علي (عليه السلام) مكتنزنا بالمعارف وافرا الدلالات ومتين السبك قوي التأثير، وهذا ما سنحاول کشفه من خلال اظهار هيمنة عنصر الثنائيات المتوافقة في الخطاب فهي الثنائيات التي تكون العلاقة بين طرفيها قائمة على التشابه لا على الاختلاف فهي متوافقة في هدفها متميزة في مساحة تأثيرها وقد تكون متقابلة في الوجود في النص الأدبي، فالثنائية هي ((وسيلة تصنيفية تجعل الفهم ممکنا))(10) وهي القادرة على إثراء المعنى وانارة سبل الوصول الى الدلالات التي يهدف الباحث إلى كشفها ويأمل المتلقي أن تكون واضحة جلية أمام ناظريه، لذلك سندرس في هذا المبحث هذه الثنائيات متمثلة في مطلبين هما:

ص: 170

أولا: ثنائية الخاص والعام

إن انتقال الخطاب من الخاص الى العام لا يحدث الا بتوافر شروط النجاح له في الانتشار والقبول وهذا مرهون بالقيمة المعرفية التي يمتلكها أي نص أدبي، اذ من البديهي أن كل خطاب هو رسالة موجهة لمتلقي وقد تختص بفرد أو فيئة أو أكثير، فشرط توفر المتلقي هو الشرط الأول لاكتساب النص شكل الخطاب ثم أن النص لابد أن يتضمن قصد ما وغاية ولابد أيضا من توافر الوسيلة التي يتم من خلالها التواصل وادامة التأثير، وفي نصنا قد الدرس الذي هو عهد صادر من أعلى إلى أدني من أمر إلى مأمور، فهو قد امتلك سمة الخصوصية التي أيدها ذكر المرسل للخطاب المرسل إليه وهو والي أمير المؤمنين (عليه السلام) على مصر، فالخطاب موجه لمالك الأشر وهو مختص به حين يقول له ((هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أمير المؤمنينَ مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه،))(11).

فالمأمور هنا هو مالك الأشتر والرسالة في معانيها جلية تتمحور في الطاعة أولا التي توجب تنفيد ما تأتي به التراكيب اللغوية المنسجمة التي كانت صياغتها تعتمد المصدر لما فيه من دلالة عدم التقيد بالزمن، اذ يدل ذلك على البعد الذي قد تتخذه إجراءات تنفيد هذه التوجيهات ولتترك للمأمور مساحة من الزمن تنفع في وضع الحجر في موضعه السليم بعد أن وضحت المطالب وبانت فهي (جباية خراج البلاد - وجهاد عدوها - واستصلاح أهلها - وعمارة بلادها.......) وكلها واجب التنفيذ ملزمة لكنها غير محددة بسقف زمني ثابت، وهذا ما يدل على أن مساحة الخطاب قد تتجاوز الخاص الى العام

ص: 171

وذلك عندما تفلت من أسر السياق الذي جاءت من رحمه، لكنها شبت وكبرت فعبرت من الخاص المحدد المعرف الى الخطاب العام الشامل الذي هو خطاب عابر الحدود المكان والزمان وهذه سمة الخطاب المتجدد عبر الزمن، فيحمل المعرفة الراقية الخالدة، وهذا ما نجده في الانتقالة الموفقة من الخاص إلى العام اذ يقول الإمام (عليه السلام) موضحا سمات النفس البشرية مستندا في ذلك الى موروثه الفكري الديني وهو ما جاء به القرآن الكريم إذ يقول ((فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه. وأمره أن یکسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله))(12) ودلالة العموم هذه جاءت للنص من خلال التوظيف الدقيق لقوله تعالى «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ»(13) فالخطاب في تسلسله ينتقل من الخاص الموجه الى العام الذي لا يحده زمان أو مكان ولا ينقضه قول أورأي.

وعند تقصينا للخطاب الخاص وجدنا أن العهد هو في الأصل خطاب موجه خاص، فكيف انتقل من كينونته الى مدى أوسع، سنجد تفسير ذلك عندما نعلم أن منتج النص أراد لنصه الخلود حين انتقل به من سباق المخاطب المعني إلى غيره، بل انتقل الى أفق أوسع ودلالات فاعلة في النفس لأن الخطاب يتجاوز المخاطب المعني الأول الى مخاطبة النفس البشرية لأن الخطاب الذي هو ((كل منطوق به موجه إلى الغير بغرض افهامه مقصودا مخصوصا الذي يستوي فيه المرسل إليه الحاضر أو المستحضر فلا يقتصر توجيهه الى المرسل إليه الحاضر عياناً، بل يتجاوز توجيهه إلى المرسل إليه الحاضر في الذهن))(19) وهذا ما نجده متحققا في نص العهد لعلمه (عليه السلام) بخبايا النفش البشرية وأسرارها فهو حين يرد أن يحث مالك الأشتر على العمل الصالح ويحدد له كيفية الوصول اليه وذلك من خلال قوله له ((فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك)) أي من خلال ألية واضحة تقول

ص: 172

على كبح الهوى الذي يغالب النفس ومن ثم يأمره بالشح بالنفس عما حرمه الله تعالى في كتابه وما أوضحه الدين الحنيف وهديه، ثم ينتقل الخطاب إلى توضيح مفهوم (الشح بالنفس) فيحددها للمخاطب ولمن يأتي بعده (بالإنصاف منها) والخطاب هنا لا يقف عند شخص المخاطب وانما يتخطاه إلى غيره من الناس على اختلاف صلاتهم بمنتج النص وموجهه، لأن الغاية المرجوة من الخطاب هي الابلاغ الأوسع والاشمل وهو يتحقق في تعريف الناس بان الشح بالنفس هو ((فإن الشح بالنفس الانصاف منها)) وبهذه الثنائية المتوافقة يسير الخطاب سلسلا سائغا قابلا للفهم مانحا نفسه لمن أراد التزود والمعين، فقد أشار أحد الباحثين إلى أن الثنائيات التي يقوم عليها الوجود قد تكون ثنائيات متقابلة متكافئة أو متضادة وهذه العلاقات القائمة بينها تؤدي الى کشف شعرية النص والدلالة على سماته الجمالية، اذ ان الوجود هو بمثابة ((شبكة من علاقات التشابه والتضاد))(15) وهذا التشابك في العلاقات يعضد الدلالة بل يساعد على کشف صورتها ومن ثم يسهل للمتلقي الفهم والادراك لما في الخطاب من قصدية سعى إليها منشئ النص أو الخطاب، ولا يخفى على المتلقي أهمية هذا العهد وقيمته المعرفية التي استندت على بناء فني رصين قائم على هيمنة عنصر الثنائيات المتوافقة أو المتكافئة، فهو نسخة منتقاة من وجود قائم جميل.

ومن الشواهد التي تؤيد ما نذهب اليه من هيمنة الثنائيات في نص العهد ما نجده في قول الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر إذ يقول ((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية))(16) فقد أمره بسلوك أوسط الأمور وهو يلمح هنا إلى قوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...»(17) فالوسطية دعوة عامة فضلا عن أنها أمر أراد الامام علي (عليه السلام) من مالك الأشتر الالتزام به والتقيد بشروطه التي يذكرها بقوله ((فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضی

ص: 173

العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء)(18) فلم يكتفي الخطاب بخصوصية الدعوة والأمر بل انتقل الى کشف أهمية سلوك هذا السبيل وفوائده للناس وللحاكم العادل وهذا خطاب يتجاور حدود الفرد المخاطب إلى مساحة أوسع من الناس ويتخطى بفعله المعرفي حدود الزمان ومقيدات السياق المقامي، وهنا فائدة نلمحها وهي: أن الخطاب المعرفي لا يقف عند سياقه الذي ولد من رحمه بل يتخطاه إلى مديات أرحب وتأثير أعم وأشمل وهو ما لمسناه من مجمل خطاب العهد هذا.

ويستمر الخطاب الموجه الى الوالي أساليب بلاغية مختلفة فنرى الخطاب قد يصدر بصيغة أسلوب الامر وهذا ما لمسناه في النصوص التي ذكرنا وقد يأتي بصيغة النهي وهذا يؤكده قوله (عليه السلام) لمالك الأشتر حين يطابه وينصحه بعدم الاحتجاب عن الرعية فيقول: ((وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك،))(19) ولكي ينتقل الخطاب من الخاص الى العام وهو الهدف الأسمى مع أهمية الخطاب الخاص وضرورته الملحة لأنها يعالج مصير أمة ويصلح إدارتها، فانه (عليه السلام) يكشف لنا في طرف الثنائية الاخر وهو العام أسباب هذا الارشاد و مساوئ الاحتجاب عن الناس فيقول ((فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل.))(20) فلم ينهى عن الاحتجاب دون توضيح وهذا البيان كاف لكي ينقل الخطاب من سياقه المقامة وظروف انتاجه وتداوله إلى مساحات أوسع وطاقات أرحب حين يصبح حكمة و دلیل عمل لا يقتصر على وال دون غيره من ولاة أمور المسلمين أو غيرهم، فهو خطاب يكسر حدوده ومقيداته ليحلق عاليا في ساء الحكمة التي لا تمنعها الحدود المكانية ولا تغير الظروف وانتقال الازمان.

ص: 174

وعلى هذا المنوال من الثنائيات المتوافقة يسير عهد الامام علي (عليه السلام) ناشرا مبادئه، ناثرا عطره، موسعا لأفق تأثيره، ففي نص العهد شواهد كثيرة على هذه الثنائية التي نراها عنصرا غالبا مهيمنا يكاد يمتلك زمام النص بأجمعه، مانحا إياه هذه السمة التي هي سمة الوجود ودالة عليه.

لتميزه من غيره، ولتعطي النص سماته الجمالية والفنية وتعضد من دلالته وتعمق من ثرائه المعرفي ذلك المعين الذي لا ينضب.

ثانيا: ثنائية الإجمال والتفصيل:

يتطلب هذا المبحث منا الوقوف على مفهوم الاجمال والتفصيل قبل الخوض في بيان هذه الثنائية التي أخذت مساحة واسعة من نص عهد الإمام علي (عليه السلام) لعامله على مصر مالك الأشتر، وهذه الثنائية هي واحدة من أنواع الثنائيات المتوافقة التي تقوم على أساس المشابهة لا التعارض أو التضاد بين طرفيها.

فما هو الإجمال: تذكر معاجم اللغة معان عدة للفظة (جَمل) فهي عند تتمحور حول جمع الاشياء الى بعضها أو هي دالة على الجمال أو هي مجموعة الحبال وذلك نذكر قول الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 ه) اذ يقول ((والجملة جماعة كل شئ بأكمله من الحساب)(21).

أي فالإجمال يعني ضم شيء الى أخر وهو نقيض التفصيل، وقد يكون بمعنى الإبهام يقول الكفوي (ت 1094 ه) ((وأجمل الأمر، أيهم ومنه: المٌجمل))(22) والمجمل عند أبي هلال العسكري (ت 395 ه) هو ((ما يتناول الأشياء، أو ينبئ عن الشيئ على الجملة دون التفصيل))(23) فالمجمل ما بهم من الأمور واحتاج الى تفسير أو أبانة أو كشف لما غمض ولم يتضح.

ص: 175

أما في الاصطلاح: فلا يذهب المعني بعيدا عن الدلالة اللغوية لكنه يختلف باختلاف زاوية النظر أي باختلاف المنهج والنظرية والتخصص، فللغويين معناهم الاصطلاحي وللبلاغيين والمفسرين وغيرهم مفاهيمهم الخاصة المنسجمة مع حقل اختصاصهم، لكننا لابد أن نأخذ بأحد الأراء من أجل سبر غور هذه الثنائية وإبانة الدلالة من مصطلح الإجمال فهو كما يقول الكفوي ((ما لا يُقف على المُراد منه، إلا ببيان من جهة المتكلم(24) و في رأينا أنسب مفهوم اصطلاحي قابل للتطبيق على النص الذي ندرسه، وهو أكثر ملاءمة وأشد التصاقا بما نحن في صدده من توضيح ما أجمل في النص وما بذله الامام (عليه السلام) من توضيح له وتفصيله بما لا يدع لبسا لفهم أو غموض في دلالة.

أما التفصيل فهو ((ما ظهر به مراد المتكلم للسامع من غير شبهة، لانقطاع احتمال غيره بوجود الدليل القطعي على المراد))(25) لذلك وجب أن تكون النصوص المفصلة جلية واضحة لا يحتمل الشك في دلالاتها، وهي كثيرة في نص العهد سنقف على بعض منها بما يسمح به البحث ثم نذكر كيف كانت مجملة في أول ورودها فاحتاجت إلى تفسير أو وصف أو توضيح كشفه التفصيل وأبان المراد بدقة، فكان بذلك طرفا من ثنائية امتدت على مساحة النص ووشمته بسماتها ومنحتها بعدا دلاليا وسمة جمالية فارقة، وهذه الظاهرة نجد لها شواهد كثيرة في القرآن الكريم، ومن تلك قوله تعالى «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)» سورة البقرة - فقد جاء لفظة المتقين مجملة ثم فصلت بالصفات التي تخصهم وهي الايمان بالغيب أولاً وإقامة الصلاة ثانياً، والانفاق في سبيل مما رزقهم ثالثاً والايمان برسالة الاسلام التي أنزلت على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رابعاً، والايمان بالأنبياء السابقين خامساً، وأن يكونوا على يقين تام بالآخرة ساساً، فهذا فصيل لما أُجمل، وعلى هذا النحو نجد شواهد كثيرة اجتمعت في نص العهد فشكلت ظاهرة

ص: 176

وعنصراً مهيمناً بارزا يتجلى في ثنائية الإجمال والتفصيل، ومن ذلك قول الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر وهو يحمل له الأمر ثم يفصله لكي تعم الفائدة، وتتضح الدلالة ويصل القصد الى غايته عندما يقول: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ...))(26) فقد جاء النص في حالة الإجمال في لفظة (صنفان) فاحتاج إلى تفصيل لكي يوضح هذين الصنفين فاستعمل أداة الربط والتفصيل (إما) حفظا لانسجام النص وتقوية لبنيته، فإذا هما: أولا: أخ في الدين وهو المسلم الذي له حقوق نص عليها الاسلام يجب على الوالي مراعاتها والعمل على صونها التزاما بالشرع وسننه، والثاني: غير المسلم (النظير في الخلق) الذي أوجب الاسلام له الحقوق كالحماية وحسن المعاملة، فلا تفريق ولا تمييز.

بل رعاية ومساواة عجزت عن إدراك أهميتها العقول البشرية طوال قرون عديدة، حتى بان لها أن البشر متساوون، فنبذت الفرقة والتعصب من بعد ظلم وجور، قد نبه عليه الامام علي (عليه السلام) قبل ما يربو على أربعة عشر قرناً، وأمر واليه باتباع منهج المساوة بين الرعية وعدم التمييز بينهم بسبب لون أو دين أو معتقد، فالمجمل الذي جاء به الإمام (عليه السلام) ربما أحتمل الابهام لان من علماء البلاغة من يرى أن المجمل يفيد الإبام وهذا ما ذهب إليه العلوي وهو القائل المجمل هو ((الإبهام الذي ظهر تفسيره))(27) ويبدو أن العلوي قد تنبه إلى أن ((الفائدة المتوخاة المعنى المراد، لتكون المعرفة بعد الجهل أشد ثباتاً وأجل مقاماً لدى السامع من أن يأتي البيان إليه ابتداء))(28)، فالحاجة الى التفصيل ضرورة يمليها النص والمتلقي حتى تكتمل طرفي الثنائية وتؤدي فعلها البلاغي والمعرفي.

ص: 177

وقد يلجأ الامام علي (عليه السلام) في تفصيل المجمل الى النص القرآني الذي فصل كثيرا من المجملات وأبان المراد منها، وذلك ما نجد في قوله ((واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..» فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسته الجامعة غير المفرقة))(29) فيأمر واليه برد الامور التي يصعب عليه حلها الى النص القرآني فهو الكفيل بالحل السليم، وهو يعتمد الصياغة المتقنة التي تحفظ بنية النص فاستعمل (الفاء) وهي أداة ربط و تفسير وهي ((العطفة التي تعطف مفصلا على مجمل))(30) ثم يأتي بالآية الكريمة الداعية إلى الالتزام بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر من المسلمين، ثم يفصل أكثر حين يعرف الرد الى الله بأنه الأخذ بمحكم الكتاب الكريم، والرد الى الرسول هو اتباع سنته الشريف والاقتداء بأفعاله وأقواله ثم يعمق هذا التفصيل بوصف السنة فيقول عنها أنها (الجامعة غير المفرقة) كل ذلك يؤكد أن الخطاب ظل مبنيا على ثنائية مهيمنة على مساحته، مشكلة ملمحا فنيا بارزا، ومضيفة عمقا دلاليا ومعرفيا لأن الاشياء في الكون عبارة عن ثنائيات متوافقة أحيانا ومختلفة في الأخرى، والثنائية هنا هي ثنائية الإجمال والتفصيل التي تعد من الثنائيات المتوافقة المتكافئة التي بني النص عليها، ومن الشواهد الأخر على ثنائية الإجمال والتفصيل ما نجده في قوله (عليه السلام): ((أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله، حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما))(31) فالتفصيل هنا جاء عن طريق التوظيف للحديث الشريف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كشف عن كيفية الصلاة التي على الوالي أداءها مع الرعية، فوجب عليه أن تكون صلاته على وفق أضعف المصلين، وفيها دلالة على عدم المشقة على الناس ومراعاة حالتهم والعمل

ص: 178

على وفقها، ومما سبق يمكننا القول أن ثنائية الإجمال والتفصيل الغالبة على النص منحته تشويقا وأكدت الصلة بين المتلقي ومنتج النص، فضلا عن أن التفصيل ورد في نص الخطاب بثلاثة طرق: أولا: تفصيل يوضحه الامام علي (عليه السلام) دون الاستعانة بنص أخر لغيره.

ثانياً: تفصيل يعتمد على التوظيف الدقيق للنص القرآني المفسر لما أبهم في نص الامام علي (عليه السلام).

ثالثاً: تفصيل يتم من خلال الاستعانة بحديث نبوي شريف کاشف الابهام مدل بوضوح تام على المراد مفصلا لما سبقه من غير اطالة أو تقصير، لأن المجمل في أي نص لابد له من تفصيل من أجل العمل به على وجه الدقة ((لأن حكم المجمل أنه لا يجوز العمل به إلا إذا ورد بیانه من المتكلم به، لأنه هو الذي أبهم مراده من اللفظ، ولا القرائن الخارجية ما يبينه، فيتعين الرجوع إليه في بيان ما أهمه))(33) بأساليب تعين المتلقي على الفهم، ومن تلك ما ذكرنا أنفاً.

وان هذه الثنائية لا يمكن أن تقوم بطرف دون أخر فيا أن يرد المجمل في النص حتى نراه يستدعي التفصيل الذي به يتم تجانس النص وانسجامه الذي يولد رغبة عند المتلقي في سماعه، وادراكا لدى القارئ لما یرید ایصاله من أفكار أو دلالات لا تقوم بأداء غايتها إلا من خلال هذه الثنائية الفاعلة في النص المانحة له ميزاته الفارقة جمالية كانت أم فنية، وقد كان نص هذا العهد الذي قامت دراستنا له قد نظرت الى شیوع هذه الثنائية فيه وغلبتها على الاساليب الباقية وطرق القول المختلفة، لأمور تصب في غاية العهد وتحقق مديات أبعد من الفهم، وتمنح النص الحياة والديمومة العابرة لمحددات السياق المقامي الذي ولد النص فيه، فتجعله نصا لا تقيده الأمكنة بجغرافيتها الصارمة، ولا تستطيع الأزمنة بتقلباتها المتباينة أن تحد من فعله التأثيري في النفس البشرية، أو أن تقف عائقا في طريق المعارف التي يعدها على متلقيه مها بعد بهم الزمن، واختلفت لديهم

ص: 179

الامزجة والأذواق، فالخطاب العابر لهذه الحدود مبني على اسس معرفية راسخة راعت النفس البشرية بتقلباتها وفهمت مجريات التغيرات التي ترافقها فعمدت الى اتخاذ السبيل الأوسط وهو السبيل الأسلم في تحقيق الغايات النبيلة.

وفي النص شواهد كثيرة على هذه الثنائية، اكتفينا بهذا العدد القليل منها للدلالة ومن يتفحص النص سيجده مفعما بها حد الهيمنة التي تفرض نفسها بصورة جلية لا لبس فيها.

المبحث الثاني: الثنائيات الضدّية

إن الجذر اللغوي للضد هو لفظة (ضدد) وفيه يقول ابن منظور في لسان العرب ((ضدد: اللَّيْثُ: الضِّدُّ كُلُّ شيءٍ ضادَّ شَيْئًا لِيَغْلِبَهُ، والسّوادُ ضِدّ الْبَيَاضِ، والموتُ ضِدُّ الْحَيَاةِ، وَاللَّيْلُ ضِدُّ النَّهَارِ إِذا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ ذَلِكَ. ابْنُ سِيدَهْ: ضدُّ الشيءِ وضدَيدُه وضَديدَتُه خلافُه؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وضِدُّه أَيضاً مِثْلُه؛ عَنْهُ وحْدَه، وَالْجَمْعُ أَضداد. وَقَدْ ضادَّه وَهُمَا متضادّانِ، وَقَدْ يَكُونُ الضِّدُّ جَمَاعَةً، وَالْقَوْمُ عَلَی ضِدٍّ واحِدٍ إِذا اجْتَمَعُوا

عَلَيْهِ فِي الْخُصُومَةِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا))(33) وهذا يدل على أن الضد هو المخالف والمفارق والنقيض، وهذه الدلالة نرى مجتمعة في ثنائية فلسفية يقوم عليها الفكر الانساني ويعتمدها في توضيح مفاهيمه ونشر طروحاته، والتضاد في النقد العرب تتمحور مفاهيمه هو الطباق والتكافؤ، وهذا ما ذهب إليه أبو هلال العسكري حين تحدث عن مفهوم الطباق فقال ((أجمع الناس على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيئ وضده في جزء من أجزاء الرسالة أو الخطبة أو البيت من بيوت القصيدة مثل الجمع بين البيض والسواد والليل والنهار والحر والبرد))(36) فالتضاد ظاهرة طبيعة قبل أن تصبح مفهوم أو مصطلحا من مصطلحات النقد أو طريق لكشف اسرار النص وغور معانيه وابانة دلالاته الظاهرة على سطح النص أو المختفية في بنيته العميقة فالثنائيات الضدية

ص: 180

هي ((وليدة فكر معرفي يتحرك وينسج مسار حركته ويتشكل تاريخيا وثمة ثنائيات كثيرة لها أشد الحضور في حياتنا فلا وجود لشيء من دون نقيضه، أما في اللغة فهي أداة تحقيق معاني الحياة))(35) فهي ضرورة لازمة لا استغناء عنها في الحياة أو في وسائل تطور الحياة والمعرفة واللغة اساس تطور المعرفة ووعائها الذي به تنمو وتنضج، أما عن نشأة هذه الثنائية الضدية فيرى العالم اللغوي کوهين ((أن الثنائيات الضدية تنشأ من شعورين مختلفين يوقظان الإحساس، وواحد من هذين الشعورين فقط هو الذي يستثمر نظام الإدراك في الوعي والثاني يظل في اللاوعي))(36) فالشعور الأول يمكن ادراکه من خلال اللغة والسياق، ما الثاني فهو المضمر والغائب وهو المسكوت عنه وهو الذي يقوم الناقد الذكي باکتشافه وتوضیح مراميه وفضح مقاصده المعرفية.

ومن تمثلات هذه الثنائية في النصوص الأدبية هي ثنائية المتحرك والساكن وثنائية الحياة و الموت، وثنائية الحضور والغياب، وهي ما نحاول کشفها والتركيز عليها في هذا المبحث من مجموعة الثنائيات المهيمنة في نص عهد الإمام علي (عليه السلام) فما هي:

ثنائية الحضور والغياب:

هي ثنائية ضدية طرفاها في مقابلة واختلاف، فان حضر أحدهما غاب الآخر، وهي اساس فكري بنيت عليه كثير من الفلسفات وجاءت بآرائها واختلفت وامتزجت و تصادمت كل ذلك مقرون بالواقع الثقافي والنظرة إلى الحياة المتناقضة بين السعادة والشقاء وبين الحضور (الحياة) والغياب (الموت) وهي الثنائية التي طالما شغلت عقول الفلاسفة ولكنها لم تكن بعيدة عن نتاج الشعراء والأدباء فهم في فلكها يدورون، مستغلين مساحتها في جانبه المظلم لإخفاء أراءهم أو طمس مشاعرهم أو لتوهیم عدوهم، فالثنائية هذه عاد النسيج اللغوي الفني الذي انتجه الادباء على مر العصور، فهي حاضرة في النص الشعري والنثري على السواء، فاذا كان الغياب هو ((سمة كل ما

ص: 181

هو غائب عن مكان أو عن موضوع معين، في حين يعتبر مثوله في مكان ما (...) بمنزلة أمر متحقق في ظروف أخرى))(37) والحضور نقيضة أبداً.

ونحن إذ ندرس نص عهد الإمام (عليه السلام) ستفتش عن النص الغائب بعد أن نحلل النص الحاضر، معللين الغياب إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، فالنص الغائب هو ((مالم يقله النص مباشرة، ولكن يوحي به، وهو ما لم يذكره النص لكنه يتضمنه، وهو كذلك مالم يصرح به ولكنه يثيره، والبحث في النص الغائب يرتكز على البحث فيما وراء النص الحاضر بشكل أساسي، وهو استحضار الرموز والدلالات والإشارات التي تستنبط من النص الحاضر لإعادة بنائه وترتيبه وتركيبه وبالتالي فهمه على أفضل شكل))(38) وبها اعادة ترتيب النص يحصل المتلقي على ما غاب من أفكار أو مشاعر تحت سطح النص الحاضر وبأسلوب فني لكل أديب طريقته في اخفاء ما يريد، أو الافصاح عنه، لكننا أمام نص هو موجه الى وال يحكم بلاد اسلامية، فهل هنالك حاجة إلى الإخفاء، أم أن أي نص بليغ يخفي بديهيا أشياء ويظهر أخرى، نحن نظن ذلك، لأن الغياب يوقد الذهن ويثير الانتباه ويجعل الحصول على المعلومة بعد الجهد کالحصول على اللؤلوة بعد کسر الأصداف، فإلى أي مدى سيحالفنا الحظ في الكشف والتحليل لهذا النص البليغ؟ في نص العهد شواهد كثيرة على تواجد هذه الثنائية الضدية، منها ما يسهل معرفته، ومنها ما يحتاج إلى جهد، وسنحاول في ذلك، فقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) أن على الوالي (المخاطب) الأول ((وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بها يجري الله لهم على ألسن عباده.))(39) ومن خلال هذا النص الموجه نستدل على أن حديثاً كان قد جرى بين الإمام علي (عليه السلام) ومالك الأشتر، أشار إليه الإمام (عليه السلام) فعرفنا بمدلوله هو ذم الولاة الظالمين والمسرفين، وأن مالك الأشتر كان لا يستصيغ

ص: 182

تصرفاتهم فهو ناقد لها کاره لما يقومون به من أعمال تشوبها القسوة وعدم الانصاف بين الرعية، فالنص في ثنائيته هذه يكشف عن عمق العلاقة القائمة بين الإمام علي (عليه السلام) وبين مالك الأشتر، بمعنى أن النص يخفي دلالة خاصة كشفها السياق الذي بين ايدينا، وإلا كيف عرف الإمام علي (عليه السلام) رؤية مالك في الولاة السابقين، اذاً لابد أن تكون هنالك معان غائبة كشفتها التراكيب اللغوية الحاضرة التي تجلت في قوله ((وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.)) ومن ينظر في النص ذاته أي في قوله ((وإنما يستدل على الصالحين بها يجري الله لهم على ألسن عباده.)) نجد في النص ضدية واضحة بين ثنائية القول والفعل، فالنص يشير الى معنی مرکزی غائب يقوم على أساس ضرورة توافق الفعل والقول وهي اشارة غير مباشرة تعني أوصيك بتطابق القول والفعل، فهي تلخيص الحالة من سبقه من الولاة، وضرورة تجنبها في القادم من الأمور للمخاطب المباشر الحاضر والغائب هذا في الدلالة المباشرة، أما والنص عابر حدوده السياقية الزمانية والمكانية فهو يحمل دلالة التوحد بين القول الفعل في كل الظروف أي في حالة کنت راعيا تقود رعية، أو كنت أحد أفراد الرعية، وهذا ما أثاره النص الحاضر ليدل على معان ربما كانت غائبة عن المتلقي.

ونسير قدما في البحث عن النص الغائب الذي ألمح إليه الامام علي (عليه السلام) وهو يسوق توجيهاته وأوامره ونصحه الى واليه، ومن خلاله إلى من يتعض من الولاة مع اختلاف الأزمان وتغير المكان فنراه يرشده إلى الابتعاد عن التكبر والعظمة فأنها لله وحده جل وعلا إذ يقول ((وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طاحك، ويكف عنك من غربك، ويفي إليك بها عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال))(40)

ص: 183

ان هذه الارشادات التي حملتها التراكيب اللغوية التي اعتمدت أسلوب الأمر وأسلوب النهي بعد أن تشكلت في نص بني على أداة الشرط غير الجازمة (إذا) وتم ربط جوابها بالفاء ليقوي تماسك النص ويحقق انسجامه، فأنه (عليه السلام) قد لمّح الى مفاهيم القرآن في النهي عن التكبر والغرور وأعطى النص الحاضر اشارات إلى أن من سبقك (الخطاب لمالك) قد ذكر القرآن الكريم حالتهم، وأوضح فعل الله جل وعلا بهم حين دمرهم ولم يبق منهم باقية، اذا الله جل شأنه (يذل كل جبار ويهين كل مختال) فالنص الحاضر قد أخفى اشارات، وقدم ايحاءات يمكن الاستدلال عليها من كشف النص الغائب، وهذا البناء الفني المتقن المعتمد ثنائية الحضور والغياب يجعله مكتنزا بالدلات موغلا في المعارف قابلا للدرس والتحليل ومانحا للمتلقي قراءات متعددة لا تبتعد عن صلب القضية التي يؤكد عليها الإمام (عليه السلام) وهي القضية الاخلاقية على وفق مبادئ الدين الحنيف، فمن يمعن النظر في النص يجد أنه يحمل دلالة مركزية يمكننا أن نوجزها بقيمة (التواضع) فألصق تلك القيمة الى الحاضر الموصى بها والتي تجلت بالألفاظ (أبهة، مخيلة، عظمة، مسماة الله....) وهذه الألفاظ تحمل دلالة غائبة تشرح أو تشير الى حال الولاة الذين سبقوا وبعض منهم من هو معاصر له، قد شاعت فيهم سمة التكبر والخيلاء فاعتنوا بملابسهم وقصورهم وميزوا أنفسهم عن غيرهم من المسلمين وهذا بالضد مما جاء به الإسلام، وهذا المعنى الغائب دلت علية الألفاظ والتراكيب الحاضرة التي سيغت على وفق ما أراده السياق المقامي ((والعلاقات الاستبدالية هي علاقات الغياب وهي الجانب الدلالي في اللغة وإن العلاقات الاستتباعية هي علاقات الحضور وتمثل الجانب التركيبي في اللغة، ومن هاتين المعادلتين نلاحظ أن استعمالنا المصطلح بعينه يحدد حقل نشاطنا فنحن نتكلم عن حضور وغياب عندما ننزل القضية في مدار الفلسفة والتأمل))(41) الذي دل على الغائب من المعاني في النص الحاضر، وهذا ما نجده في كثير من نصوص العهد ومن بينها قول الإمام (عليه السلام) ((ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً

ص: 184

يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله.))(42) فمن يتأمل في النص يجد مجموعة من القيم الحاضرة التي أوردها الإمام (عليه السلام) بصيغة النهي، تقوم على أساس الابتعاد عن استشارة (البخيل، الجبان والحريص) معللا ذلك، وهذا ما يظهره النص، أما النص الغائب فهو يتجلى بإشارات غير مباشرة اختفت وراء النص الظاهر تدعو الى أن تكون الاستشارة لمن يمتلك السيات (الكرم، الشجاعة، السماحة) وان لم يصرح بها من قبل الامام علي (عليه السلام).

ونستنج مما تقدم أن الثنائية الضدية المتمثلة ثنائية الغياب والحضور حملت أبعادا معرفية عمقت المعنى في ذهن المتلقي، والله أعلم.

ص: 185

الخاتمة

بعد دراسة معمقة تحليلية حاولنا فيها قد ما استطعنا من سبر مكونات هذا النص اللغوي المعرفي، توصلنا إلى مجموعة من النتائج يمكن أن نجملها بالآتي:

1 - ان نص عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر قد صيغ بدقة قائمة على توارد الثنائيات على اختلافها فيه بكثرة بارزة شكلت عنصرا مهيمنا لا يمكن تجاهله.

2 - تنوعت الثنائيات المهيمنة في العهد فقد جاءت ثنائيات متوافقة قائمة التشابه لا على الاختلاف فهي تعمق دلالات النص وتثري معانيه وتكسبه سمة جمالية فارقة.

3 - كانت الثنائيات المتوافقة في نص العهد على نوعين بارزين هما: ثنائية الخاص والعام، فالخطاب وان كان موجها بالأساس إلى شخصية الوالي إلى أنه تجاوز محددات السياق فاصبح نصا مكتنزا بالمعاني العامة الصالحة لمختلف الأزمان والناس.

4 - ان الثنائيات المتوافقة في نص العهد بدت واضحة جدا في ثنائية الإجمال والتفصيل، فقد أخذت حيزا كبيرا من مساحة النص وزادت من قيمته الفنية والمعرفية والجمالية، لأن الناس بحاجة دائمة الى تفصيل الحديث بعد إجماله.

5 - ظهور ثنائية أخرى ومن نوع مختلف هي الثنائية الضدية وقد تمثلت بوضوح تام في ثنائية الغياب والحضور، فقد كشف البحث عن معان قيمة ومعارف ودلالات كانت تختفي خلف النص

الظاهر، وهي بذلك تمثل عمق الصياغة ودق إدائها وفنية نظامها المنسجم مع القيم النبيلة التي دعا اليها الإمام علي (عليه السلام) في مجمل هذا العهد الخالد.

ص: 186

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1 - الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبو بكر السوطي، تحقيق، محمد أبو الفضل ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1974 م.

2 - استراتيجية الخطاب (مقاربة لغوية تداولية)، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بنغازي، ليبيا، 2003 م.

3 - أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجاني - قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر - مطبعة المدني - القاهرة

4 - أصول الفقه، أبو العينين بدران، مطبعة دار الشرق الأوسط، مصر، 1995 م:

5 - بناء الأسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب، منشورات عالم الكتب، أربد، 2002 م:

6 - البنيوية والتفكيك تطورات النقد الأدبي، س. رافيندران، ترجمة، خالدة حامد، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2002 م

7 - جدلية الخفاء والتجلي، (دراسات بنيوية في الشعر ) كمال أبو ديب، دار العلم للملايين، بیروت، ط 1، 1979 م

8 - الحيوان - عمرو بن الجاحظ - حققه وشرحه - عبد السلام هارون - المجمع العلمي العربي الإسلامي - بيروت - 1969: 1 / 26

9 - الطراز، یحیی بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1332 ه

10 - الظاهرة الشعرية العربية - الحضور والغياب - دراسة، د. حسين خمري، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2001 م

11 - الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقیق، محمد ابراهيم سليم، دار العلم

ص: 187

والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة

12 - القيمة المهيمنة، ضمن کتاب نظرية المنهج الشكلي - نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: ابراهيم الخطيب

13 - کتاب الصناعتين (الكتابة والشعر) أبو هلال العسكري، تحقیق، مفید قميحة، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1981 م

14 - الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق، عدنان درویش ومحمد المصري، موسسة الرسالة، بيروت: 42

15 - لسان العرب، محمد بن مکرم بن منظور الأنصاري، دار صادر، بیروت، 1414 ه

16 - اللغة العليا، النظرية الشعرية، جان کوهن، ترجمة، أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، 1995 م

17 - المرايا المحدبة من البنيوية الى التفكيك، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة الكويت، 1998 م

18 - المعجم الفلسفي جميل صليبا - دار الكتاب اللبناني - بيروت

19 - معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري، نحقیق، مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، مصر

20 - الموسوعة الفلسفية، اندري لالاند، ترجمة، خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط 2، 2001 م

21 - میزان الأصول في نتائج العقول، ابو بكر محمد بن أحمد السمرقندي (ت 539 ه) تحقیق عبد الملك عبد الرحمن السعدي (اطروحة دكتوراه) جامعة أم القرى، السعودية، 1984 م

22 - النص الغائب -نظرياً وتطبيقياً - د. أحمد الزعبي، مكتبة الكتاني، الأردن، ط 1،

ص: 188

1993 م

23 - نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، لبنان

الرسائل والأطاريح:

- الإجمال والتفصيل في التعبير القرآني - دراسة في الدلالة القرآنية، أطروحة دكتوراه، سیروان عبد الزهره الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة، اشراف أ.د عبد الكاظم محسن الياسري: 2009 م

المجلات:

- مصطلح الثنائيات الضدية، مجلة عالم الفكر، سمير الديوب، العدد 1، المجلد 41، يوليو سنة 2012 م: 116

ص: 189

الهوامش

1 - المعجم الفلسفي - جميل صليبا - دار الكتاب اللبناني - بيروت: 1 / 379.

2 - سورة الحجرات - الآية 13.

3 - سورة البقرة - الآية: 257.

4 - الحيوان - عمرو بن الجاحظ - حققه وشرحه - عبد السلام هارون - المجمع العلمي العربي الإسلامي - بيروت - 1969: 1 / 26.

5 - أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجاني - قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر - مطبعة المدني - القاهرة: 32.

6 - بناء الأسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب، منشورات عالم الكتب، أربد، 2002 م: 149.

7 - لسان العرب، محمد بن مکرم بن منظور الأنصاري، دار صادر، بیروت، 1414 ه: 13 / 437.

8 - القيمة المهيمنة، ضمن كتاب نظرية المنهج الشكلي - نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: ابراهيم الخطیب: 81.

9 - المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998 م: 164.

10 - البنيوية والتفكيك تطورات النقد الأدبي، س. رافیندران، ترجمة، خالدة حامد، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2002 م: 55.

11 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده،: 3 / 85.

12 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 85.

13 - سورة يوسف - الآية: 53.

14 - ينظر: استراتيجية الخطاب (مقاربة لغوية تداولية)، عبد الهادي بن ظافر الشهري دار الكتاب الجديد، بنغازي، ليبيا، 2003 م: 63.

ص: 190

15 - جدلية الخفاء والتجلي، (دراسات بنيوية في الشعر) کال أبو دیب، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1979 م: 268.

16 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 86.

17 - سورة البقرة - الآية: 143.

18 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 86.

19 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 96.

20 - المصدر نفسه: 3 / 96.

21 - معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي: 6 / 146.

22 - الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق، عدنان درویش ومحمد المصري، موسسة الرسالة، بيروت: 42.

23 - الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقیق، محمد ابراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة: 58.

24 - الكليات، الكفوي: 42.

25 - میزان الأصول في نتائج العقول، ابو بكر محمد بن أحمد السمرقندي (ت 539 ه) تحقیق عبد الملك عبد الرحمن السعدي (اطروحة دكتوراه) جامعة أم القرى، السعودية، 1984 م: 1 / 503.

26 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 89.

27 - الطراز، یحیی بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1332 ه: 2 / 85.

28 - الإجمال والتفصيل في التعبير القرآني - دراسة في الدلالة القرآنية، أطروحة دكتوراه، سیروان عبد الزهره الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة، اشراف أ.د عبد الكاظم محسن الياسري: 2006 م: 23.

29 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 93.

30 - الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبو بكر السوطي، تحقيق، محمد أبو الفضل

ص: 191

ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1974 م: 2 / 247.

31 - المصدر نفسه: 3 / 10.

32 - أصول الفقه، أبو العينين بدران، مطبعة دار الشرق الأوسط، مصر، 1965 م: 172

33 - لسان العرب: 3 / 293

34 - کتاب الصناعتين (الكتابة والشعر) أبو هلال العسكري، تحقیق، مفید قميحة، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1981 م: 339.

35 - مصطلح الثنائيات الضدية، مجلة عالم الفكر، سمير الديوب، العدد 1، المجلد 41، يوليو سنة 2012 م: 116.

36 - اللغة العليا، النظرية الشعرية، جان کوهن، ترجمة، أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، 1995 م: 187.

37 - الموسوعة الفلسفية، اندري لالاند، ترجمة، خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بیروت، ط 2، 2001 م: 1 / 4.

38 - النص الغائب - نظرياً وتطبيقياً - د. أحمد الزعبي، مكتبة الكتاني، الأردن، ط 1، 1993 م: 5.

39 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 80

40 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 86.

41 - الظاهرة الشعرية العربية - الحضور والغياب -دراسة، د. حسين خمري، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2001 م: 18.

42 - نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 90.

ص: 192

الإشهار في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ. دعلي صالح رسن المحمداوي

أ. م. دشيماء هاتوفعل

جامعة البصرة - كلية التربية للعلوم الإنسانية - قسم اللغة العربية

ص: 193

الخلاصة

وظف الإمام علي (عليه السلام) فيه كل امكاناته البلاغية التي عرف بها كونه اساس البلاغة والفصاحة، فهناك اساليب عدة إشهر الإمام بها عما قصده من العهد الذي خصه لمالك الاشتر عندما ولاه مصر وكأنما اعطاه دستوراً لقيادة الدولة من أجل نشر المحبة والأمان والسلام، وكيفية التعامل مع المجتمع حتى يسود بينهم العدالة فيعيشوا في استقرار بعيداً عن التفرقة والظلم والعصبية، فقد أكتسب العهد أهميته من قاله الإمام علي (عليه السلام) ومن صاحبه مالك الأشتر الشخصية المعروفة بالشجاعة والبلاغة وشدة البأس، فضلاً عمّا فيه من إشاعة ثقافة الاعتراف بالآخر، وثقافة اللاعنف، والتسامح والود واسس التعامل والمعاملات مع الآخرين.

ص: 194

المدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين بعدد اسمائه ومعانيها، وبعدد نعمائه وآلائه، وبقدر ما في السماء وما علت، نحمده على جميل ما اعطی وجزیل ما وفي وسدد وارضى، إنه على كل شيء قدير وبالاستعانة والاجابة جدير، فقد فضل وانعم علينا وارضى لنا ووضحى طريق الحق والهداية، حتى نكون ممن شملتهم بالهداية والتسليم، فتخط قلوبنا قبل اقلامنا حروفاً وكلماتاً بحق ائمتنا (عليه السلام).

الناظر المتمعن في العهد الذي خص به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مالك الأشتر، يجده تضمن محاور اجتماعية ونفسية وحربية واقتصادية، صنف من خلالها المجتمع وما فيه من طبقات و معاملات بين البشر بعضهم بعضاً، وحسن التدبير والمعيشة واخذ الحيطة والحذر من العدو والصديق، والحث على مجالسة العلماء، ومحادثة الحكماء، والتعامل مع طبقات المجتمع المتعددة من غني وفقير، ومن خلال القراءة المتأنية والتفكر بجواهر الكلمات التي ضمها في طياته نجده عبارة عن حزمة قوانين واحکام خصت المجتمع، يعيش بها ويتعايش معها، تضمن للإنسان العيش بكرامة وحرية واستقرار، وسيادة العدالة والطمأنينة.

وهو يسعى بالفرد إلى الصلاح والكمال ويبعده عن الفساد والفوضى، ويصلح لكل المجتمعات، وينهى عن الفروق الطبقية التي تحد من قدرة الفرد على العيش والسعي من أجل الكسب الحلال، فمن طبقه نجا وأستقر، ومن ابتعد عنه ضاع وتدهور، فهو قانون الله ورسوله وأهل بيته، ومن ذلك قوله: «واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة

ص: 195

ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة و كلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهدا منه عندنا محفوظا»(1) والملاحظ أن هذه القوانين قد اثبتت اجتماعياً ونفسياً؛ لذلك جاء اعتماده من ضمن ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

الإشهار

الإشهار لغة: الشهرة وضوح الامر، تقول عنه، شهرت الأمر أشهره شهرا وشهرة، فأشتهر أي وضح، وكذلك شهرته تشهيرا، ولفلان فضيلة اشتهرها الناس، وشهر سفیه يشهره شهرا، أي سله(2) واصطلاحاً: هو الترويج والإعلان عن أمر ما وإيصال المراد إلى الآخرين، والإشهار مصطلح وآلية حديثة تم تطبيقه على العهد وهو نص قديم كما هو معلوم، وبما أن الاشهار ترویج عن منتج، فالمنتج في هذه الدراسة عهد مالك الاشتر، الذي يتضح في مكونات الصورة الاشهارية كما تشير إليه الدراسات وهي الخطاب اللغوي والخطاب البصري والخطاب الموسيقي، فضلاً عن العناصر التواصلية وهي (المرسل والرسالة الاشهارية والمتلقي) حقق الإمام علي (عليه السلام) فيه عدة وظائف منها التوجيهية والدلالية والوظيفة السياسية والتربوية والوظيفة التعليمية(3)، والاشهار الذي وظف فيه بصري وسمعي يعتمد على النص المكتوب الذي أرسل إلى مالك، بعده شخصية لها ثقلها الاجتماعي المعروف آنذاك بالعدالة والشجاعة والبلاغة وشدة البأس، وكان شاعراً فصيحاً، وزعيم قبيلته نخع، وقد كان من اصحاب الإمام علي (عليه السلام) شارك في العديد من المعارك ومنها الناكثين والمارقين والقاسطين، وان سبب تسميته بالأشتر؛ لأنه ضرب على راسه في معركة اليرموك بالسيف فشترت عينه أي شقت جفنها السفلي(4)

ص: 196

عتبة عنوان العهد إشهار عن المحتوى من خلال سيرة مالك أولاً، والمحتوى الذي هدفه الاصلاح ثانياً، ويندرج تحت ما يسمى (إياك أعني واسمعي يا جارة) فهو ذکر مالك واراد المجتمع، إذ تتضح اهمية الشخصية التي أوكل إليها العهد ومكانتها.

تضمن العهد معاناً إنسانية سامية القصد منها الاشهار وإفشاء ثقافة اللاعنف في المجتمع الذي سادت فيه قیم مغلوطة وتقهقر مبادئ دين الاسلام، وبات المجتمع أسير عادات وتقاليد، انحطت عما أراد النبي تبليغه، واشاعته بين الناس وهو حتماً ما اراده الله، فهو عندما يشير أولاً في افتتاحية وصيته يذكر الله (جل جلاله) والامتثال لأوامره والابتعاد عن نواهيه فهي المدخل الذي أفصح به عما يأتي بعده والاشارة والتلويح إلى إن ما يأتي بعده، لا يخرج عن أطار القرآن الكريم والسنة النبوية، وما على المتلقي إلا الطاعة والسماع، فهي رسائل باثة يفصح عنها العهد الذي وجهه إلى مالك الاشتر.

معاني مفاهيم العهد

أورد أمير المؤمنين (عليه السلام) مفاهیم عدة نشير إليها وهي الآتي:

1 - مما يلحظ على بداية العهد الاستعانة بتقوى الله، والابتعاد عن الجحود والشهوات، لأن الإنسان إذا اتبع ذلك فسوف ينصر الله بقلبه ولسانه ويده بقوله (عليه السلام) «.... وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات...»(5)، ثم في خاتمة المطاف سأل الله (جل جلاله) السعة برحمته، وعظيم قدرته على اعطاء كل رغبة وجميل الأثر لأن الإنسان إذا ما التزم بذلك الأمر فأن له السعادة والشهادة والكرامة، ويبدو ذلك من قوله «وأنا اسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وإنا إليه

ص: 197

راغبون»(6).

2 - يسود العهد نصح وارشاد وحكمة، ويغلب الترغيب على الترهيب بأسلوب واضح يوظف آیات القرآن الكريم ويذكر بها ومنها قوله (جل جلاله) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(7) والاستشهاد بهذه الآية القرآنية جاء دلالة على توجيه الإنسان إلى الرد لسنة الله ورسوله في الأمور التي يشكل عليها ويشتبها بها بقوله «واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الامور»(8) وقول الإمام علي (عليه السلام) «وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيها كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الاحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس»(9) فقد جاء الاستشهاد بقوله تعالى «كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهَّ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(10) بعد تحذيره من المن على رعيته واخلاف الوعد وذلك يوجب الكره والمقت عند الناس تجاه الحاكم، فضلاً عما نجده من حكمة وارشاد من قوله «كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدني من العزة»(11)

3 - ومما تطرق له الإمام (عليه السلام)، إصلاح المجتمعات المتمثلة بإشارته إلى السنة الصالحة، التي وضح ما يجب التمسك به من طاعة الله وتقواه، والابتعاد عما نهى عنه والتمسك بأصول الدين، والسنة المحدثة السيئة التي تضر الإنسان وتفسد المجتمع، فهي اساس خرابه إذ تدعو إلى الغش والكذب والسرقة موضحا ذلك بقوله «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها»(12).

ص: 198

4 - من المعان التي انبثقت من العهد العفو والصفح الذي يعطيه الله من قوله: «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير ...»(13).

5 - ويتجلى من قوله: «فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يُطامِنٌ إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفئ إليك با عزب عنك من عقلك، إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال، أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد»(14) المعاني الآتية: قدرة الله التي تفوق قدرة الجميع وهذا ما ذكرها بقوله فأنظر إلى ملك الله فوقك وقدرته، العظمة والجبروت لله وحده، انصاف الله والناس من النفس والأهل لأن ظلم الناس ذنب لا يغتفر يأتي بالعذاب والويلات، العدل، والحق، وستر عيوب الناس، الاحسان، بينما يتضح تأكيده العمل الصالح، والرحمة واللطف والمحبة والتواضع والبذل والعطاء والصبر من قوله (عليه السلام) «فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فأملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيها أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا

ص: 199

تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم...»(15)

6 - أمر الإمام بإشاعة الحق فإذا ساد بين الناس انتشر العدل، والمساواة، والإنصاف لأن ظلم الناس لا يحبه الله موضحاً ذلك من قوله: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»(16)، ومن المعاني التي اكده في عهده الابتعاد عن البخل والجبان والحرص وفيها يقول «ولا تدخلن في مشورتك بخیلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله»(17).

7 - آن احساس المتلقي (القارئ) وشعوره بحالة السكينة والأمان التي يشعر بها عند قراءته للعهد، يلتمسها الإنسان في الدولة والمجتمع الذي يسير على ما حدده الله ورسوله وآله الطيبين فلا ظلم، ولا فقر، ولا غش، ولا قيود من مجتمع يعيش في ظل الإسلام، ويتعايش مع القهر والاضطهاد، فكل يعرف ما له، وما عليه ويسير على النظام بعيداً عن الخديعة والاستبداد ولهذا نجده يشدد على ذلك بقوله «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شکوا ثقلا»(18) ومن الأمور النفسية التي أشار إليها الإمام، ووجد لها تأثيراً واضحاً على الإنسان الجانب المادي الذي لابد من اشباعه، وإعطاء فئات المجتمع المال، وإيصالهم إلى حد الرضى وعدم الشعور بالحاجة.

ص: 200

8 - ويتجلى الاعتراف بالآخر الإيجابي(19) الذي تركز الحديث عنه بشكل مفصل، ویکاد يستحوذ على عبارات وكلمات العهد، بالدور الفعال الذي تحمله تجاه المجتمع، فالنظرة التي يطلقها الإمام نظرة إيجابية إصلاحية، يراد بها تفعيل الآخر الإيجابي، والتخلص من الآخر السلبي غير النافع، وإنشاء مجتمع قائم على العدالة، والإنصاف يشعر بالآخرين وهذا ما برهنه من قوله (عليه السلام) «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم»(20).

9 - يعكس الآخر (الذات الإلهية) التي تطرق لها الإمام في عهده المالك، ذاكراً إياها بين الحين والآخر مدى التوكل والإيمان ووحدانية الله التي جعلها المنطلق الأساس للمجتمعات الذي يتبلور من قوله «واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقیت وأجزل تلك الاقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص»(21) فتقوى الله وطاعته والامتثال لأوامره سبب سعادة العبد، ولم تتحقق العبودية إلا بطاعة الله واجتناب معاصيه، والعمل من أجل المصلحة، وتوفير مستلزمات الحياة المهمة للفرد والمجتمع، الذي يقوم على حب المنفعة والسلام والابتعاد عن التنافر والتشاحن «واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع» فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع»(22)

ص: 201

10 - خلق مجتمعات متكافئة، بعيدة عن التعصب والعنصرية، والانفتاح على الآخر ونبذ التفرقة في قوله «استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها»(23)

11 - لقد عالج العهد وتطرق إلى دقائق الأمور التي تهم المجتمع، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكرها، ومن باب المدارة والاهتمام بطبقة الجنود يشير إلى الاهتمام بهم، فعند ذهابهم إلى الجيش حتى لا يفكروا بهم وانما يضعون همهم في مجاهدة الاعداء تتشظى بالألفاظ الآتية في قوله «ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيها يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم»(24) وقوله أيضاً «وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»(25) ويأتي من قبيل هذا قوله (عليه السلام) «وإنما يؤتى خراب الارض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر»(26).

12 - لقد بث النص اشارات عدة يمكن الاستدلال عليها من اقواله التي وظفها، وهي افعال الأمر والمضارعة، واسناد الفعل والقول إلى المخاطب الذي جعله المحور الذي دارت حوله الفكرة المراد إيصالها إلى المتلقي المتمثل بالمجتمع الواجب اصلاحه، واذاعة روح المحبة والتعاون والتماسك بين مفاصله، وخلق مجتمع بعيد عن التنافر والعصبية، يسوده التكاتف والإنسانية، تستند عبوديته الله بعيداً عن والاستكبار والإيمان بالله أولاً وآخراً، يتراوح العهد ما بين افعال الأمر أفعل كذا، والنهي بالفعل المضارع المسبوق ب لا الناهية أي الأمر القطعي، لا تفعل كذا.

ص: 202

جماليات العهد الفنية

إذا جئنا إلى تلمس الآليات الاشهارية فأنها تظهر في الاساليب التي اعتمدت في العهد ومنها:

أولاً: أسلوب الاستثناء مستعملا أداة الاستثناء (إِلَّا) حاضراً في فهم مضامینه، عندما جعل الإمام علي (عليه السلام) سعادة الإنسان لا تتحقق إلا بتقوى الله وإيثار طاعته، وجاعلاً شقاء الإنسان وحزنه لا يحدث إلا مع جحوده لله بقوله (عليه السلام): «... أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها»(27) وثمة النفس الامارة بالسوء الا ما رحم ربي ويتضح ذلك من قوله: «فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور»(28) وتصنيف الجنود الذين هم حصون الرعية، فلا تقوم الرعية إلا بهم، ومنها « فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم»(29).

ثانياً: استعمال أسلوب التقسيم في توضيح الأمور لإظهار أقسامها وتعدادها. ومن هذا التقسيم قول الإمام علي (عليه السلام) «فإنهم (الناس) صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق»(30) وقوله «وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده. وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده»(31) وكذلك «ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة »(32).

ثالثاً: غلبة الأفعال التي تصل الفكرة بقوله (أعلم، أحب، أشعر، أنظر، أنصف، ألزم، أحق، أردد، انظر، أحفظ، أجعل، أحوج، أعط، أمنع، أحق، أستر، أطلق، أقطع،

ص: 203

أسأل، )فشیوع افعال الأمر الصادرة من الأعلى المتمثل بالإمام علي (عليه السلام) عدل القرآن والحق وقسیم الجنة والنار وما أمر به واكد عليه فهو اساس العدل وسبب دخول الجنة، وما نهى عنه فهو اساس الباطل وسبب دخول النار، إلى الأدنى المتمثل بصاحبه مالك الأشتر وهو أمر حقيقي واقعي فيه إصلاح المجتمع. ففي زمن الظلم والاضطهاد لا بد من الإشهار عن مبادئ وقوانين يسودها العدالة والإنصاف والحق، فكلما اشهرنا عن امر ما فأننا نقدم الافضلية عنه التي نلحظها منتشرة في اكثر من فقرة من فقرات العهد الأهم والاكثر شيوعاً ومن أجل الترغيب ولفت الانتباه إلى الأمر والتأكيد عليه، ثم الفعل المضارع المسبوق بلا الناهية (لا تنصبن، لا تندمن، لا تبحبحن، لا تسرعن، لا تقولن، لا تقوين، لا تطمحن، لا تكشفن، لا تعجلن، لا تدخلن، لا تحدثن، لا تحقرن، لا تقصرن، لا يدعونك، لا تمحکه، لا يتهادی، لا يحصر، لا يبلغه، لايثيره، لا يقعد، لا يعجز، لا تخاف، لا تصعر، لا تخشى، لا يلتئم، لا تجترئ، لا تختلف، لا تقدر...) و شیوع أفعال المضارع على الجمل الأسمية يدل على الحركية وعدم الاستقرار.

رابعاً: شيوع صيغة أفعل التفضيل المتمثلة بقوله (أفضل، أحب، أكره، أبلغ، أصح، أقل، أهم، أجمل، أشد، أخف، احسن، أثقل، أقل، أكره، أفضل، أكثر، أضعف، أبعد، أبطا، أجهل، أسرع، أخرب، أجحف) بمعنى أن هناك أمراً يعرضه الإمام أفضل وأحسن من الأمر المذكور سلفاً.

خامساً: أما الجانب الموسيقي فيكاد يغلب على جميع فقرات العهد فنلحظ الجناس والتكرار فضلاُ عن الطباق والتقسيم والسجع، وهذه الأساليب إذا جاءت في أية قطعة نثرية، احدثت فيها نغماً موسيقياً وتناسقاً وانسجاماً بين الفاظها وفقراتها حتى يكاد القارئ يكمل بقيتها عندما يقرأ البداية من خلال الألفاظ التي تحدث ذلك التناغم والتساوق الموسيقي.

والجناس نجده في قوله «فإنهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة»(33) وكذلك «ممن

ص: 204

لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة»(34) وقوله «وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا»(35) وقوله «يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل»(36) وفي الجناس حقق نوعاً كبيراً من تنميق الكلام وترتيبه، وساعد على فهم الصورة والموقف الذي وظفت فيه، فضلاً عن سهولة الحفظ والتلقي.

اما التكرار فقد وجد في قوله : «فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا»(37) وقوله «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك»(38) وقوله «فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره»(39) لقد تمكن الإمام من أثارة دلالة الالفاظ واكسابها قوة وتأثيراً، وساعد على استمالة المتلقي وتأكيد المعنى وترسيخه في الذهن.

ونجد أسلوب النصح والارشاد يتجلى في نهايات العهد في توجيه عدد من المحظورات بتكراره للفظة(إياك) ومنها تجنب سفك الدماء بقوله «إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء»(40) والاعجاب بالنفس وحب الاطراء في قوله «وإياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين»(41) ثم التحذير من العجالة في مور قبل أوانها، واللجاجة والوهن وتتمحور هذه في قوله: «وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل عمل موقعه وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الامور وينتصف منك للمظلوم»(42) ومما يلفت الانتباه تكراره لكلمة «إياك» التي يحذر فيها بتوجيه الكلام قصداً، مؤكداً مدى التمسك واجتناب ما يحذر منه، لأن فيه ضرر وإفساد والعاقبة السيئة.

ص: 205

سادساً: الطباق اعتمد العهد على ضديات وظفها الإمام علي (عليه السلام) في توضيح الفكرة وإيصاله إلى المتلقي بسهولة ويسر بعيداً عن التعقيد ومنها (الرضى × السخط، أحبت × کرهت، عدل × جور، النقمة × النعمة، الوزر × الأجر، العامة × الخاصة، خف × اثقل، يأخذ × يعطي، الأقصى × الأدنى، الاحسان × الإساءة، الحق × الباطل، القريب × البعيد، المحسن × المسيء) فالكلمة التي وظفها في الطباق يمكن تسميتها باللفظة الإيجابية تدل على معانٍ إنسانية وسجايا وصفات حميدة، أما الكلمات التي جاءت بالضد منها فأنها تدل على معانٍ إنسانية سلبية سيئة تجلب المضرة للفرد بصورة خاصة، والمجتمع بصورة عامة، وفي الوقت نفسه حققت نوع من التناغم والتناسق الصوتي إذ «إن الغرض من التضاد خلق حالة انفعالية في نفس المتلقي ليوازن بين حالتين وذلك ما يساعد على وضوح الصورة في ذهنه وذلك ما يقصده المبدع»(13).

سابعاً: من المشاهد التصويرية التي نلحظها في العهد استعال اداة التشبيه (مثل) في قوله «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»(42) فهو عندما يحض الحاكم على أن يكون عطوف ورحيم على الناس مثلما يكون الله عطوف ورحیم مع عباده، ولاسيما يقول له مخاطباً إن يعطيه مثل عطاء الله له، فالصورة هنا صورة تقريرية مباشرة بعيدة عن التعقيد والتركيب، وإذا جئنا إلى الصورة الأخرى فنجدها في قوله: «وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده»(45) ومن الصورة الكنائية قوله (عليه السلام) ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم»(46) وهذه الصورة بالغة الدقة رسمها الإمام للحاكم الذي يكون عادلاً منصفاً بين الرعية لا ظالماً مستبداً جائراً فهو انما لجأ لهذا الاسلوب من أجل احداث التشويق وجذب المتلقي للتأويل والكشف عن المعنى المراد.

ص: 206

وبشيء من الايجاز وبعبارات بالغة الدقة رسم الإمام علي (عليه السلام) صور ذهنية فكرية أشار إليها بقوله «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»(47) المتلقي لهذه العبارات المكتنزة بالدلالات قد ضمت في طياتها جميع التفصيلات التي ذكرها فيما بعد، إذ فصل ما رام منها في صفحات عديدة من العهد، ففيها أمور متنوعة ذكرها وهي الخراج وكيفية توزيعها بين طبقات المجتمع بعدالة وانصاف و احقية، والجهاد والدفاع عن الأرض، إذ يقع الجهاد على عاتق الجنود وكيفية التعامل معهم، وتعامل الحكام معهم، ومن ثمة استثمار أهلها في عمارة البلاد والاهتمام بهم واعطاء كل ذي حق حقه.

وهناك الصورة الذهنية التي تستند على الفكرة والعقل في إيصال المطلوب من الالفاظ الموظفة خدمة للمعني، ومنها على سبيل المثال لا الحصر صورة الانصاف التي تطلب انصاف الله، وانصاف الناس من نفسه أولاً ومن خاصة أهله والمقربين من رعیته ثانياً بقوله: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته...»(48) ومن الصور الذهنية العقلية التي نجدها حاضرة في العهد صورة الحاكم العادل من قوله « ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادي في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء»(49).

ص: 207

الخاتمة

كل تشريع يحتمل الصواب والخطأ، والتشريع الذي أقره الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك فيه ما يسعد الأمة والمجتمع، لأنه راعى تركيبة المجتمع، وراعى ما يرضي ويحقق للإنسانية السعادة والرضى الدنيوي والآخروي، فإذا سادت تعاليم دين الإسلام ساد الأمن والاستقرار الذي أراده الإمام علي (عليه السلام) عندما عهد لمالك الاشتر بلائحة من الأمور التي سعى لتطبيقها في بلد مثل مصر، ومن يطالع بنود العهد وقوانينه يشعر وكأن البلد كان يعاني من الظلم والاضطهاد والتفرقة على مستوى الفرد والمجتمع، والملاحظ على العهد أنه عالج كثير من الأمور الاجتماعية والمادية والاخلاقية والنفسية أي كل ما يمس أمن المجتمع واستقراره

لقد تمكن الإمام علي (عليه السلام) من خلال العهد الإشهار عن نظرته في بناء المجتمع، الذي يقوم على الوئام والطمأنينة والأمان، لقد أشهر الإمام عن بنود حكومته وتطلعاته للمجتمع الإسلامي الموحد، ففيها نجد الأساس واللبنة الأولى لقاعدة المجتمع وهو المتماسك.

إذا جئنا إلى المخاطب فأنه يتركز الحديث عنه بمحورين الاول يمثل المخاطب المباشر مالك وهو من صحابة الإمام الثقاة عن طريقه يتم ايصال الفكرة وخدمة المجتمع، و مخاطب غير مباشر ضمني وهو المجتمع المتمثل بطبقاته الذين ذكرهم في عهده بأصنافهم وانواعهم المختلفة.

إن توظيف الإمام للأساليب البلاغية المختلفة من استثناء وسيادة الافعال على الاسماء، والطباق والجناس والتكرار والتقسيم وافعل التفضيل أدت المعنى واوصلت الفكرة إلى المتلقي بأسلوب واضح جزل بعيد عن التعقيد ومحبب، أفصح وأبلغ من الالفاظ والتراكيب الحوشية والمعقدة.

ص: 208

عندما يكون الكلام فيه نصح وارشاد تسود فيه افعال الأمر، والأفعال المضارعة المسبوقة بلا الناهية، وفي بداية العهد يتوجه الحديث من الشخص الأعلى إلى الشخص الأدنى، أي من الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك، وهذا ما فسر استعماله لإقعال الأمر، وما يندرج تحت هذا المعنى مثل معنى هذه الأفعال (أعلم، أنظر، أجعل)

والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل نجح الإمام علي (عليه السلام) في إظهار بنود العهد واستطاع ارساء القوانين الربانية التي اراد الله سبحانه وتعالى؟ وللإجابة نقول: نعم نجح الإمام في ذلك لأن العدالة والانصاف والمساواة والعبودية لله والحق من الحقوق التي ينادي بها المجتمع ولاسيما المجتمعات المظلومة التي تعاني الظلم والاضطهاد.

ص: 209

قائمة الهوامش

1. نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده، مكتبة مصر:3 / 309.

2. الصحاح: الجوهري: 2 / 705.

3. ينظر: الإشهار والصورة: علي حسن الفواز، وسيميولوجيا الصورة الإشهارية: سمير الزغبي، وسيميائية الصورة الإشهارية: جميل حمداوي

4. ينظر: خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، ط 2، مطبعة الحيدرية (النجف 1381): 276، الاعلام: الزركلي، مطبعة دار العلم للملايين، ط 5: 5 / 259.

5. نهج البلاغة: 3 / 305.

6. نهج البلاغة: 3 / 320.

7. سورة النساء: 59.

8. نهج البلاغة: 3 / 311.

9. نهج البلاغة: 3 / 319.

10. سورة الصف: 3.

11. نهج البلاغة: 3 / 308.

12. نهج البلاغة: 3 / 309.

13. نهج البلاغة: 3 / 307.

14. نهج البلاغة: 3 / 307.

15. نهج البلاغة: 3 / 306.

16. نهج البلاغة: 3 / 307.

17. نهج البلاغة: 3 / 308.

18. نهج البلاغة: 3 / 312.

ص: 210

19. للمزيد ينظر: صورة الآخر في شعر المتنبي، محمد الخباز، ط 1، 2009، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت: 23، وتمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: د. نادر کاظم، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت - 2004) 20، والجاحظ ومفهوم الآخر: د. علي محمد ياسين، المؤتمر العلمي السادس لكلية التربية، جامعة ديالى، 14 - 15 نيسان، ج 1، 2010: 251.

20. نهج البلاغة: 3 / 314.

21. نهج البلاغة: 3 / 307

22. نهج البلاغة: 3 / 315.

23. نهج البلاغة: 3 / 314.

24. نهج البلاغة: 3 / 309.

25. نهج البلاغة: 3 / 312.

26. نهج البلاغة: 3 / 313.

27. نهج البلاغة: 3 / 305.

28. نهج البلاغة: 3 / 306.

29. نهج البلاغة: 3 / 309.

30. نهج البلاغة: 3 / 306.

31. نهج البلاغة: 3 / 309.

32. نهج البلاغة: 3 / 308.

33. نهج البلاغة: 3 / 308.

34. نهج البلاغة: 3 / 308.

35. نهج البلاغة: 3 / 308.

36. نهج البلاغة: 3 / 306.

ص: 211

37. نهج البلاغة: 3 / 309.

38. نهج البلاغة: 3 / 306.

39. نهج البلاغة: 3 / 307.

40. نهج البلاغة: 3 / 318.

41. نهج البلاغة: 3 / 319.

42. نهج البلاغة: 3 / 319.

43. قراءة نقدية في خطبة السيدة زينب (عليها السلام): د. فليح کریم خضير الركابي مجلة المورد، مج 37، 26، 2010: 154.

44. نهج البلاغة: 3 / 306.

45. نهج البلاغة: 3 / 306.

46. نهج البلاغة: 3 / 306.

47. نهج البلاغة: 3 / 305.

48. نهج البلاغة: 3 / 307.

49. نهج البلاغة: 3 / 311.

ص: 212

قائمة المصادر

القرآن الکریم

1. الإشهار والصورة، محاولة في صناعة السلعة الثقافية: علي حسن الفواز WWW. iraqicp.com

2.الاعلام: الزركلي، مطبعة دار العلم للملايين، ط 5.

3. تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: د. نادر کاظم، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت - 2004)

4. الجاحظ ومفهوم الآخر: د. علي محمد ياسين، المؤتمر العلمي السادس لكلية التربية، جامعة ديالى، 14 - 15 نيسان، ج 1، 2010.

5. خلاصة الاقوال، العلامة الحلي، ط 2، مطبعة الحيدرية (النجف - 1381)

6. سيميائية الصورة الإشهارية: جميل حمداوي

N si. aimothaqaf. com

7. سيميولوجيا الصورة الإشهارية: سمير الزغبي

S.asp< www.m. ahewar. org

8.الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: الجوهري، تح أحمد بن عبد الغفور عطار، ط 4، مطبعة دار العلم الملايين (1407 - بيروت)

9. صورة الآخر في شعر المتنبي، محمد الخباز، ط 1، 2009، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

10. قراءة نقدية في خطبة السيدة زينب (عليه السلام) : د. فليح كريم خضير الركابي، مجلة المورد، مج 37، 24، 2010.

11. نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده، مكتبة مصر.

ص: 213

ص: 214

حرمة سفك الدماء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) دراسة تداولية

اشارة

أ.م.د. فضيلة عبوسي محسن العامري

جامعة الكوفة - كلية الفقه

ص: 215

ص: 216

المقدمة

يمثل عهد مالك الأشتر انموذجاً متكاملاً للمحاور السياسية والاقتصادية والإدارية لأي إدارة دولية، ولأي حاكم فيها، ولما كانت اللغة هي التمثيل المرئي لل(المقروء والمسموع) بوصفها أصوات يعبر بها كلّ قوم عن أغراضهم، اذ وسيلة هي التعبير التي تجسد المحاور المتكاملة، لذا جاء المحور اللساني في عهد مالك الأشتر مجالاً للدراسة تحت عنوان (حرمة سفك الدماء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) دراسة تداولية) بكل ما تعنيه الدراسة التداولية الحديثة التي تقوم على عناصر مهمة؛ وهي المتكلم، والمتلقي والنص الذي يعتمد على الخزين اللغوي، والموروث الثقافي للمتكلم، وقد ظهر جلياً في نص العهد المبارك الذي يمثل دستوراً تشريعياً؛ كادت أن تتخذ منه الغرب معيارا دوليا بحسب الروايات التي تذكر بأن زوجة كوفي عنان طلبت منه أن يعرض العهد على طاولة الأمم المتحدة ((وهي امرأة لا تمد بالدين الإسلامي بصفة، تطلب الأمر هذا من زوجها وبهذا المنصب وفعلا فعل إمام اكبر وأهم هيأة عالمية، وهي هيأة الأمم المتحدة وفي مؤسسة حقوق الإنسان، حينما قال الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان: قول علي بن أبي طالب يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كل المنظمات))(1)؛ أما في العراق فقد قام مستشار الشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة بجعل عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) كبرنامج متكامل للأسرة والمؤسسات والدوائر وحتى الحكومات ولإتمام الفائدة قام بترجمة العهد باللغة الانجليزية من إحدى المواقع الرصينة (al-islam.org)، ونظراً لأهمية العهد ولما يجري في الوقت الحاضر من سفك للدماء في السلم والحرب وأعني بالسلم النزاعات العشائرية التي تدور هنا وهناك، وآخر ماسمعناه إرسال أفواج من الجيش الى محافظة

ص: 217

میسان؛ وهم أكثرهم شيعة وإمامهم علي (عليه السلام) الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))(2) وهو ولي الله فأين هم من باب علم الرسول (عليه السلام)، وهل سمعوا أو قرأوا عهده (عليه السلام) إلى مالك الأشتر(رضوان الله تعالى عليه)، أما في الحرب فأعني به مايقوم به الدواعش من سفك الدماء وهتك الأعراض تحت شعار الإسلام، فأردت أن أقف عند العهد وتحديداً النص المتعلق بحرمة سفك الدماء؛ لنرى أي الكلمات نطقت، ومن أين اقتبست، وما مدى أثرها في الدراسات اللسانية المعاصرة ومنها التداولية بوصفها محوراً مهماً من محاور اللسانيات الحديثة؛ ومن أجل ذلك كله فقد تضمنت الدراسة مبحثين مثل الأول الجانب النظري بعنوان: مفهوم التداولية في اللغة والاصطلاح، أما الجانب التطبيقي فقد تضمنه المبحث الثاني الذي جاء بعنوان حرمة سفك الدماء في العهد دراسة تداولية، وقد سبقهما تمهید تضمن شذرات لغوية في العهد، ثم ختم البحث بالنتائج التي توصل اليها، معتمدة على عدد من المصادر التي ذكرت في مظانها.

ص: 218

التمهيد

شذرات لغوية في عهد مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)

لماذا سمي بالعهد؟

العهد مصدر الفعل الثلاثي (عهد)، و في اللغة له دلالات عدة منها الأمان، واليمين، والوفاء، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية، والأمر، وقد عهدت إليه أي أوصيته ((ويقال عهد إلي في كذا أَي أَوصاني، ومنه حديث عليّ كرم الله وجهه عَهِدَ إِليّ النبيُّ الأُمّيُّ أَي أَوْصَى، ومنه قوله عز وجل «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ» يس / 60؛ يعني الوصيةَ والأَمر والعَهْدُ التقدُّم إِلى المرءِ في الشيءِ والعهد الذي يُكتب للولاة وهو مشتق منه، والجمع عُهودٌ وقد عَهِدَ إليه عَهْداً، والعَهْدُ المَوْثِقُ، واليمين يحلف بها الرجل تقول: عليّ عهْدُ الله وميثاقُه، وأَخذتُ عليه عهدَ الله، وميثاقَه، وتقول: عَلَيَّ عهدُ اللهِ لأَفعلن كذا، ومنه قول الله تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ» النحل / 91، والعهد أيضاً الوفاء وفي التنزيل «وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ» الأعراف / 102 أَي من وفاء(3)، وفي ضوء ما تقدم نجد أن العهد لا يخرج عن معنى الالتزام والوفاء بما يعهد به إلى المعهود إليه، والسياق الللغوي الذي يرد فيه لفظ (العهد) يحدد المراد منه، فالعهد المتعلق بالبحث هو ما يكتب إلى الولاة، وقد كتبه الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه على مصر الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)، وهو أفصح من تَعَاهَدَ لأن التَّعَاهُدُ إنما يكون بين اثنين و المُعَاهَدُ الذِّميّ(4).

أما العهد في الاصطلاح فهو ((حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ويسمى الوعد الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا))(5)، والمعنى الاصطلاحي للعهد هو الذي يجب مراعاته من طريق الالتزام وحفظ ما ورد في العهد من لآلئ تنير طريق الإنسانية جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة، لاسيما أنه دار بين شخصيتين إسلاميتين بارعتين في السلم والحرب، فقد

ص: 219

كان الإمام علي (عليه السلام) ربيب الرسول ووليد الكعبة، وعرف بالشجاعة والمروءة والولاء في سوح المعارك أسد الله ورسوله دفاعاً عن دين الله القويم حتى ميزه من دون الخلق أجمعين فقال جبرائيل بين السماء والأرض ((لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي))(6)، وكان توليه لمقام الولاية في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وهو يوم اکمال الدين واتمام النعمة في يوم قال فيه الله تعالى قال فيه الله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» المائدة / 3، وتوفي مقتولاً في 21 رمضان سنة 40 على يد عبد الرحمن بن ملجم (عليه لعائن الله)(7)، هذه لمحات من الشخصية الأولى في الطرف التداولي، أما الآخر فهو مالك بن الحارث بن عبد بن يغوث بن سلمة بن ربيعة النخعي، عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم يره ولم يسمع كلامه، وقد ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال فيه ((إنه المؤتمن))(8) وهذه شهادة ما بعدها شهادة، وكان من بين المجاهدين الذين شاركوا في حروب الردة وفي الفتوحات الإسلامية، وكان جنديا مخلصا للإمام علي (عليه السلام) قبل توليه الخلافة وبعدها، وبعد تولي الإمام علي (عليه السلام) الخلافة المسلمين سنة 36 ه جعله والياً على مصر ومعه شهادة من إمام المؤمنين (عليه السلام) جاء فيها: ((أما بعد، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج))(9)، ورزق الشهادة على يد أقذر مجرم لم يعرف التاريخ نظيرا له في موبقاته وجرائمه، وهو نافع مولى عثمان بن عفان، وقد أرسله معاوية (لعنه الله)، لاغتياله فاعتمد على المكر والخديعة كمعاوية، ورافق الأشتر(عليه السلام) في طريقه الى مصر مدعياً أنه مولى عمر بن الخطاب، ولما وصلا الى القلزم(10)، فنزل الأشتر ضيفاً عند إمرأة من جهينة، فرحّبت به، وسألته أي الطعام أحب اليك، فقال :الحيتان، فتناول الطعام فأصابه عطش شديد، فأخذ يكثر من شرب

ص: 220

الماء، فقال له نافع مولى عثمان: لا يقتل سمه الإ العسل، فأحضره نافع وقد دس فيه سماً قاتلاً، ولم يلبث الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) إلا قليلاً حتى طويت حياته التي كانت صفحة من الشرف والكرامة والجهاد في سبيل الله، وقد جعل الخبيث (نافع) يقول ((إن الله تعالى جنوداً من عسل))(11)، وكان ذلك سنة 39 ه(12)، وقد سر معاوية بمقتله إذ قال)): كانت لعلي يمينان قطعت أحداهما بصفين (يقصد عمار بن یاسر)، وقطعت الأخرى بمصر (ويقصد مالكاً)، أما الإمام علي (عليه السلام) المفجوع بصديقه فقد قال فيه: كان لي كما کنت لرسول الله))(13).

ويمثل عهد الامام علي (عليه السلام) دستوراً متكاملاً لأي دولة في العالم ففيه من النظريات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية التي ترسم المناهج الصحيحة في السياسة والإدارة والقضاء، والتي تثمر نتاجها في إدارة العباد والبلاد في ما لو استخدمت - أقول هذا - لأننا في كل مرة نتحدث عن هذا الدستور الخالد ولا نجد له نصاً في المناهج الدراسية لكي يتسنى للجيل اللاحق - على الأقل- أن يجني ثمره من هذا السفر الخالد الذي لم يكن بعيداً عن الإعجاز اللغوي ففيه من الاستعمالات اللغوية التي جعلت منه نصاً حياً يتفاعل مع النظريات اللسانية الحديثة؛ لذا جعلت من التمهید باباً للإطلال على مضامين هذا السفر الخالد لتكون الفكرة واضحة لدى القاريء والسامع عند الولوج في مبحثي الدراسة التداولية اللاحقة، فقد وجدت في العهد الحجج البلاغية العامة الآتية:-

1. حسن الافتتاح بالعهد اذ بدأ بالبسملة: ((بسم الله الرحمن الرحیم 000))(14)

2. التداولية في براعة الاستهلال وهو ((بدء الكلام، ويناظره في الشعر: المطلع؛ وفي فن العزف على الناي: الافتتاحية. فتلك كلها بدايات كأنها تفتح السبيل لما يتلو (15))، اذ صرح الإمام علي (عليه السلام) باسمه (علي) ولقبه (أمير المؤمنين) واسم الإشارة (هذا) ((الذي سبق كلمة (أمر)، ويعني أن هناك جهة اختيار للوظائف العامة

ص: 221

وشاغله وصنع واتخاذ القرار من القيادة العليا المتمثلة بحكومة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهي وحدة أوامر التي تتطلبها القيادة))(16) وفيه دلالة بعدية إلى مضمون العهد فضلاً عن كونها سنة متبعة في التصريح بالاسم منذ عهد النبوة في كتابة الرسائل إلى الملوك، والولاة، والعمال، والأعداء(17)؛ وهذا مثل الطرف الأول (المخاطِب) في التداولية، وجاء الطرف الثاني (المخاطَب) مصرحاً به وهو مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، ثم تخصيص المكان وهو (مصر)، وهنا يلاحظ الترتيب والتنسيق الذي يحقق الانسجام في عرض مضمون النص في قوله (عليه السلام) ((000 هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر))(18)، وهذا القول يمثل إجازة أمير المؤمنين (عليه السلام) له (رضوان الله تعالى عليه) بالولاية.

3. الإشارة إلى المسؤولية التي أوكلت إلى المخاطب معتمداً على عنصر من عناصر الانسجام ألا وهو الإشارة القبلية بالضمير الذي يعود إلى الولاية (مصر) بأسلوب جامع مانع تأتي بيان تفاصيله في أثناء العهد في قوله (عليه السلام): ((000 جباية خراجها، ومجاهدة عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها))(19).

4. العدول في الخطاب من المتكلم إلى الغائب بالإحالة القبلية بضمير الغائب (الهاء) بقوله (عليه السلام): ((000 أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها)).

5. بلاغة الأسلوب من حيث التقديم والتأخير، والأمر والنهي، والتدرج في العرض مبتدئاً بالأهم إلى المهم أي بمصادر التشريع الإسلامي من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة في قوله (عليه السلام): ((000 أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلاّ بإتباعها))(20).

ص: 222

6. استعمل (عليه السلام) أسلوب القصر بالنفي والاستثناء بتقیید السعادة بإتباع مصادر التشريع الإسلامي، والشقاء بحدودها وإضاعتها في قوله (عليه السلام): ((000 التي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها 000))(21).

7. الاقتباس من القرآن الكريم والتصريح ببعض آیاته في الوصية برد الشهوات التي تأمر بها النفس الأمارة بالسوء، وكذلك رد الشبهات إلى كتاب الله تعالى بقوله (عليه السلام): ((000 وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات؛ فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي، إنّ ربّي غفور رحيم، وأن يعتمد کتاب الله عند الشبهات؛ فإنّ فيه تبيان كلّ شيء، وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون. وأن يتحرّى رضا الله، ولا يتعرّض لسخطه، ولا يصرّ على معصيته))(22) ففيه اقتباس من قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» يوسف / 53، وقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» النحل / 89.

8. التضمين من القرآن الكريم والسنة النبوية بالإشارة إلى الالتزام بالتقوى، وبالعدل، والإنصاف، وتحقيق النصر الإلهي في قوله (عليه السلام): ((000 وأن ينصر الله بيده وقلبه ولسانه ؛ فإنه قد تكفّل بنصر من نصره، إنه قوي عزيز))(23) ففيه إشارة إلى قوله تعالی: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» محمد / 7، وقوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحج / 40، ونلحظ في النص توارد المصاحبة اللغوية بين صفتي القوة والعزة لله تعالى وهو في معرض الحديث عن النصر باليد والقلب واللسان ففيهم من القوة إن اجتمع تحقيقهم في آن واحد مالا يتحقق لو انفرد السيف عن القلب أو القلب عن اللسان.

ص: 223

9. حسن البيان في استعمال التشبيه والاستعارة وخاصة في قوله (عليه السلام) ((000 وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم 000؛ ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان؛ إما أخ لك في الدين؛ وإما نظير لك في الخلق(246)))، أي أجعلها كالشّعار له، وهو الثوب الملاصق للجسد، لأن الرعية؛ إما أخوك في الدين، أو انسان مثلك تقتضي رقة الجنسية وطبع البشرية الرحمة له(25).

10. حققت عناصر التداولية من حيث تحقيق عناصر الانسجام والاتساق في طرح الموضوعات التي تضمنها العهد في تحقيق مراعاة الطبقات الاجتماعية التي يصلح بعضها ببعض، وجباية الخراج بقوله (عليه السلام): ((واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولاغنى ببعضها عن بعض 0000))(26)، ثم يشرح (عليه السلام) تلك الطبقات بمصنفاتها من الجنود والكتاب، والقضاة، وعمال الإنصاف والرفق، وأهل الجزية والخراج، والتجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وقدم (عليه السلام) على غيرهم لأنهم حصون الرعية، وعز الدين، وسبل الأمن، ثم تحدث (عليه السلام) عن الخراج مباشرة قائلاً: ((000 ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم، ثم لاقوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب 000))(27)، وهنا يجب علينا الانتباه إلى قضية مهمة ألا وهي كيفية إدارة البلاد، وحماية أمنها، وضمان استقرارها؛ من طريق النظر في سطور هذا العهد، وحسن التأمل في مضامينه، وأخذ الحكمة في كيفية إدارة البلاد، وبما إننا شيعة وإمامنا علي (عليه السلام) فأين نحن من هذا العهد، ولابد من الإشارة إلى أن هذا العهد لا يخص الولاية على مصر بل لنا جميعاً في أي موقع نشغله، والذي يبرهن على ذلك هو استشهاد مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) قبل أن يصل إلى ولاية مصر، وهنا لابد من تحكيم العقل، ومحاسبة

ص: 224

الضمائر والنظر في أمر هذه الأمة (أعني العراقيين الذين عانوا من ولاتهم ما عانوا مع العلم أن أغلب ساستهم هم من الشيعة، ويعرفون الإمام علي (عليه السلام) حق المعرفة، وينادون به في كل صلاة بقولهم (حي على خير العمل)؛ فأين خير العمل من سلوككم؟! ؛لذا ينبغي النظر في كل حرف تضمنه العهد حتى يحققوا مرضاة الله تعالى أولاً، والنجاح في إدارة البلاد و سیاستها ثانياً.

11. تضمن العهد الإدارة السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والإدارة الاجتماعية بمراعاة طبقات المجتمع من الراعي والرعية(28).

12. التقديم والتأخير: قدم (عليه السلام) التقوى إذ إن التقوى تعني مخافة الله و تمثل رأس الحكمة، ثم جاء العدل والإنصاف وما يتعلق بهما(29).

13. العدول ما قبل الختام من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم (أنا) في الدعاء بالرحمة و تمام النعمة، ومضاعفة الكرامة في قوله (عليه السلام): ((000 وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة، أن يوفّقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، و تمام النعمة، وتضعيف الكرامة))(30)، وهذا ماله الأثر في استجابة الدعاء من عبد صالح مؤمن ربیب الرسول وزوج البتول وولي الله، ثم لابد من الإشارة إلى الدلالة الإيحائية التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتصريح بالخاتمة في تحقيق السعادة والشهادة بالعدول إلى ضمير المتكلم المتصل بحرف الجر (اللام) الذي يفيد معنى الإلصاق والتمليك (لي ولك)، مصحوباً بالتأييد الإلهي في قوله (عليه السلام): ((000 وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة؛ إنّا إلى الله راغبون))(31)، ففي النص اقتباس من قوله تعالى: «عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ»، وقوله تعالی: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ» التوبة / 59.

ص: 225

14. التداولية في حسن الختام الذي تمت به الفائدة وحسن السكوت عليه(32)، فقد ختم (عليه السلام) عهده بالسلام والصلاة على محمد وآل محمد بقوله (عليه السلام): ((000 والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله الطيّبين الطاهرين))(33).

المبحث الأول: مفهوم التداولية في اللغة والاصطلاح

التداولية لغة: مصدر صناعي يشير الى المنهج العلمي اللساني الحديث ويصاغ من مصدر الفعل الرباعي (تداول) مع زيادة ياء مشددة مكسور ما قبلها وتاء التأنيث المربوطة(34)، وجاء الفعل (تداول) في اللغة بمعنى المشاركة حيناً ومعنى المبادلة حينا آخر أي مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، كما جاء في المعجمات اللغوية: ((تَداوَلْنا الأَمرَ أَخذناه بالدُّوَل وقالوا دَوالَيْك أَي مُداوَلةً على الأَمر، ودالَت الأَيامُ أَي دارت والله يُداوِلها بين الناس، وتَداولته الأَيدي أَخذته هذه مرَّة وهذه مرَّة))(35)، والتداول ((هو حُصول الشيء في يد هذا مرَّةً وفي يد الآخر أُخْرى وتداولوه: تناولوه وأجْرَوْه بينهم وهو يدلّ على شُهرته ودورانه))(36)، وورد التداول في القرآن الكريم بمعنى الصرف والنقل من ناس الى ناس بتغيير أحوالهم في قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» آل عمران / 140، وفسر القرطبي ذلك بالمداولة بين الناس ((من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر والدولة الكرة قال الشاعر:

فيوم لنا ويوم علينا... ويوم نساء ويوم نسر))(37)، وفسّرها آخر بالصرف بين الناس تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء قائلاً))، ((نداولها بين الناس نصرفها بينهم ندیل لهؤلاء تارة

ص: 226

ولهؤلاء أخرى كقول من قال... فيوما علينا... ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر...)(38).

إذن يفهم من المعنى اللغوي أن صيغة التداولية تشير إلى دلالتين هما المشاركة الفعلية الآنية التي تحصل في وقت واحد في أمر ما، وتدل على المشاركة البعدية في انتقال الفعل أو الحال عينه إلى الآخرين، ونرى أن المعنى الأول هو الذي يرتبط بالتداولية اللسانية لارتباطه بالنص اللغوي المباشر في مخاطبة الآخرين وان انتقل في ما بعد إلى الآخرين فإنه لا يحمل السبب عينه الذي أنشئ من أجله النص.

التداولية اصطلاحاً: لابد من الإشارة إلى أنّ التداولية لم ترد كمصطلح في التراث اللغوي القديم لكن مضامينها قد وردت في التراث اللغوي في استعمال الأدباء والبلاغيين خاصة ما يتعلق بالخطاب القرآني والحديث النبوي وأشعار العرب، ومن ثم دراسة أغلب محاورها في مواضيع الخبر والإنشاء(39)، أما الدراسات اللسانية الحديثة فقد تناولت المصطلح بكثرة حتى وردت عنواناً للعديد من مؤلفاتهم(40)، وعرفوه بتعريفات عديدة منها أن التداولية هي ((فرع من علم اللغة بحث كيفية اكتشاف السامع مقاصد المتكلم، أو دراسة معنى المتكلم، فقول القائل: أنا عطشان تعني أحضر لي كوبا من الماء وليس من اللازم إخبارا له بأنه عطشان، فالمتكلم كثيراً ما يعني أكثر مما تقوله کلماته))(41)، وعرفها مسعود صحراوي بأنها ((مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه، وطرق وكيفية استخدام العلاقات اللغوية بنجاح، والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي ينجز ضمنها الخطاب، والبحث عن العوامل التي تجعل رسالة تواصلية واضحة وناجحة، والبحث عن أسباب الفشل في التواصل باللغات الطبيعية(47))).

وتعدُّ الأفعال الكلامية محور الدراسة التداولية ومنبثقة من مناخ فلسفي هو الفلسفة التحليلية الغربية التي مهّد لها الفيلسوف الألماني غوتلوب فريجة في كتابه

ص: 227

(أسس علم الحساب)، وعمق البحث فيه الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاین مؤسس تیار (فلسفة اللغة العادية)(43)، ثم جاء الفيلسوف الانجليزي أوستين الذي يعدُّ المؤسس الأول لنظرية أفعال الكلام وذلك في عام 1955 عندما القى محاضرات وليام جامس(44)، اذ يقسم أوستين الفعل الكلامي على ثلاثة أقسام: فعل الكلام (التلفظ)، والفعل الكلامي، والفعل التأثيري، ويقسم فعل التلفظ إلى الفعل الصوتي، والفعل ألانتباهي التركيبي، والفعل الدلالي الإيحائي، أما الفعل الكلامي الانجازي فقد صنفه في محاور خمسة هي: أفعال الحكم، وأفعال الممارسة، وأفعال الوعد، وأفعال السلوك، وأفعال الممارسة، وأفعال العرض(45).

فالأفعال الكلامية التي تصدر عن المتكلم ويتلقاها المخاطب أو المتلقي وتحقق التأثير به ويكون الفعل قد حقق انجازاً ما((فكل فعل كلامي هو في الوقت ذاته(46) فعل کلام، أي فعل قول، وفعل كلامياً انجازياً، وفعلاً تأثيرياً، رهين التحقق، والتحقق لا يقتضي التحقيق على أرض الواقع فهو مجرد النطق به يعد فعلاً متحققاً، والآثار رهينة استجابة المخاطب (المتلقي))(47) وبحسب هذا التعريف فالأفعال الكلامية لا يشترط تحقيقها في الواقع الفعلي وإنّما مجرد الشروع بها وقولها يكون قد حقق انجازاً قولياً للمتلقي، وشمل الفعل الكلامي المنجز الكلامي والمنجز الكتابي(48)

ووضع ((أوستين) بعض الشروط التي تحقق النجاح للفعل الكلامي في ثلاث مستويات هي:

1. الشروط الأولية: وهي الشروط التي تتعلق بالمتكلم ووضعه الاجتماعي الذي يخول له الفعل الكلامي بحيث يكون ملائماً لفعل الخطاب الذي يسمح له بفعل خطابي منتج وملائم للمقام.

2. الشروط الجدية: التي تتعلق بسلوك المتكلم الذي عليه الالتزام بالجدية والصدق في أفعاله الكلامية، وإن عدم الجدية لا تعني الفشل، ولكن سيكون المتكلم قد ارتكب

ص: 228

اثم والذي يقر بالفعل الكاذب فهو كاذب.

3. الشروط الأساسية: وهي التي ترتبط بسلوك المتكلم في التعبير عن أفكاره ومعتقداته ومقاصده ((وهو سلوك خاص مستقل عن الصدق والحقيقة إلا أنه جوهري وأساسي بالنسبة للملفوظ))(49).

وخلاصة الشروط الثلاثة هي ارتباطها بالمتكلم ووضعه الاجتماعي والثقافي الذي يرتبط بمعتقداته وأفكاره في انجاز الأفعال الكلامية التي تحقق التأثير بالمتلقي أو لا تحققه على أرض الواقع ولكنها تعبر عن صدق المتكلم لأنها ملائمة لما عرف عنه من السلوك الحسن والمقام الاجتماعي الرفيع وهذا يكفي لإنجاز الفعل الكلامي الذي يعد عنصراً مهماً في موضوع التداولية اللسانية المعاصرة.

المبحث الثاني: حرمة سفك الدماء في العهد دراسة تداولية

من الأمور التي لابد من الإشارة إليها هي أن القرآن الكريم صرح بوسائل العنف من القتل والضرب وسفك الدماء كما هو وارد في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» البقرة / 30، وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» البقرة / 84، وورد الضرب على سبيل المثال لا الحصر في قوله تعالى «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ» الأنفال / 12، وورد القتل في دلالات مختلفة منها في سبيل الله ومنها القتل الخطأ ومنها القتل العمد

ص: 229

وهو ما يتعلق بموضوع البحث قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء / 93، وانطلاقاً من مفاهيم تعاليم الدين الإسلامي التي لا خلاف فيها فإن الدين الإسلامي يدعو إلى السلم والصلاح والبر والتقوى في الوقت الذي يدعو فيه إلى الجهاد ومقارعة الأعداء قال تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ» البقرة / 191، ويتضح من الآية أن القتل ليس كله عنفاً بل يرتبط ذلك بالوسيلة والغاية من القتل المتمثلة بالظلم والاستبداد والتجاوز على حقوق الآخرين في العيش والسكن وممارسة الحياة الدنيا كما أرادها الله سبحانه وتعالى، وأثر ذلك على المجتمع تلك الآثار التي لا يخفى بلاؤها على أحد؛ ومقابل ذلك فقد ورد في القرآن الكريم التصريح بالدعوة إلى السلم والصلح في قوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» سورة الأنفال / 61، ذكر المفسرون(50) أن الآية الكريمة جاءت في بيان مهادنة العدو و أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة وكفوا عن حالة الحرب. فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم، والجنوح: الميل وهو مشتق من جناح الطائر: لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه وهو جناح جانبه الذي ينزل منه قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش:

جوانح قد أيقن أن قبيله *** إذا ما التقى الجمعان أول غالب(51)

فمعنی (وإن جنحوا للسلم) إن مالوا إلى السلم میل القاصد إليه كما يميل الطائر الجانح. وإنها لم يقل: وإن طلبوا السلم فأجبهم إليها للتنبيه على أنه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب لأنهم قد يظهرون الميل إلى السلم کیدا فهذا مقابل

ص: 230

قوله «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» الأنفال / 58 فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم، واللام في قوله (للسلم) واقعة موقع (إلى) لتقوية التنبيه على أن ميلهم إلى السلم میل حق أي: وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره لأن حق (جنح) أن يعدی ب(إلى) لأنه بمعنی مال الذي يعدی ب(إلى) فلا تكون تعديته باللام إلا لغرض ((مصلحة في السلم أو كان أخف ضرا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعوا إليه))(52)، ويظهر من تفسير الآية السابقة أهمية الجنوح للسلم أي الرغبة الحقيقية في تحقيق السلام، وليس وسيلة كيدية هدفها الخيانة، وهنا لابد من اتخاذ الحيطة والحذر من الأعداء، وهذه ومضات من الإشعاع القرآني في الدعوة إلى السلم والسلام، وأخذ الحيطة والحذر من الأعداء، الذي نجد صداه في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) في الدراسة الآتية.

ص: 231

عهد الإمام علي(عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)

دراسة تداولية

أما عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر فليس ببعيد في مضامينه عما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الصلح وحرمة سفك الدعاء كما في النصوص الآتية:

أولاً: الدعوة إلى الصلح

إن الإسلام يدعو الى السلم، وتحريم سفك الدماء، وإزالة جميع وسائل الخوف والإرهاب، لذا نجد أن الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على ضرورة الاستجابة الى الصلح إذا دعا إليه العدو، وكان ذلك واضحاً في سياسته وأعماله وقوله (عليه السلام(53))، وكان أكثر وضوحاً في عهد (عليه السلام) إلى مالك الأشتر إذ قال الإمام علي (عليه السلام): ((000 ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك والله تعالى فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحك، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله تعالى شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم، وتشتت آراءهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيها بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولاتخيسنَّ بعهدك ولا تختلن عدوك، فإنه لايجترىء على الله تعالى إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جداره، فلا إدغال ولا مدالة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر

ص: 232

ترجو انفراجه، وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك..))(54).

إن من مميزات النص السابق هي التداولية في الحجاج الخطابي وهو ((إستراتيجية تواصلية إلى التأثير في الآخر بالاعتماد على تمثلات حجاجية تكون في شكل أفكار وآراء، وبهذا المعنى يصبح الحجاج شکلاً أو نظاماً تواصلياً يتفاعل فيه ماهو لفظي بما هو غير لفظي، وسيلته اللغة وغايته الإقناع))(55)، الذي اعتمد على الأساليب الآتية:

النهي المباشر بفعل المضارع المسبوق ب(لا) الناهية والفعل المضارع المسند إلى نون التوكيد الثقيلة (لا تد فعنّ) الذي يدل على نفي الدفع(56)، والتأكيد على قبول الصلح مع العدو ولكنه جاء مشروطاً برضا الله تعالى مقدماً لفظ الجلالة (الله) على عملية الصلح للدلالة على بيان نوعية الصلح الذي يقبل به، وأفرد لفظ (عدوك) للدلالة على قائدهم الذي يملي بينهما شروط الصلح وليس كل الأعداء، وأسنده إلى كاف الخطاب في (دعاك، وعدوك) مما زاد في قوة الكلام وتمكينه في نفوس السامعين(57) للتنبيه والحيطة عند عقد الصلح، وبعد التنبيه والتخصيص يأتي التأكيد ب(إن) لبيان أهمية الصلح وفائدته في توفير الراحة للجنود من الجهد العسكري، والراحة من الهموم التي تنشأ من العمليات العسكرية، والنتيجة المترتبة عليهما في تحقيق أمن البلاد في قوله (عليه السلام): ((000 ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله تعالى فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك))(58).

الدعوة إلى الصلح مع الحذر من كيد الأعداء، والنهي عن التفريط في الرأي والسكون إلى ظاهر الرأي، والنهي عن الغدر باستعمال (لكن) التي تفيد معنى الاستدراك(59)، وتأكيد ذلك بالتصريح المكرر بلفظ (الحذر) مع لفظ (کل) الذي يفيد التوكيد مع العموم(60) باتخاذ شتى أنواع الوسائل التي تحقق الحيطة والحذر من العدو؛ إذ كان أمير

ص: 233

المؤمنين (عليه السلام) من الدعاة إلى الصلح في قوله (عليه السلام) ((000 ولكنّ الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه))(61).

1. التوكيد ب(إن) التي تفيد معنى التأكيد، و التحقيق، وتأكيد الشيء(62)، والمصاحبة اللغوية مع فعلي الأمر (خذ) و (اتهم) اللذين يدلان على الإلزام (63) في بيان حال العدو من اظهار التغافل باستعمال الفعل المضعف العين(64) الذي يفيد التكثير للمبالغة مع التصيير أي يتظاهر العدو بالتغافل وهو ليس بغافل حقاً، فيضع أمير المؤمنين (عليه السلام) العلاج له بأخذ الحزم واتهام حسن الظن بالعدو كما جاء في قوله (عليه السلام) 000)): فإنّ العدو ربها قارب ليتغقل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن))(65)، وهنا يجب على الوالي أن يراقب بيقظة العدو بعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعاً منه للكيد بالمسلمين(66).

2. الوفاء بالعهد وتحريم الغدر ونكث عهد الأمان المعطى للخصوم، وهذا ما يحقق الأمن والأمان بعدم تحقيق أي خرق من الخروقات إذ إن الوفاء بالعهد، والصبر على الضيق أهم من الانتصار الظاهري الذي تحققه الحرب بالغدر والخيانة الذي فيه خسران الدنيا والآخرة، مستعملاً أسلوب الشرط الذي يتكون من قسمين يرتبط أحدهما بالآخر باستعمال فعل الشرط وجوابه؛ الذي هو وقوع الشيء الوقوع غيره(67)، فالجملة الشرطية تنبني على تآلف جمل، وليس على تألف صيغ مفردة ((فحرف الشرط يجيء لربط جملة بجملة))(68)، فهو يعطي المرونة في الاختيار الصائب أي رسم صورة الفعل والنتيجة المترتبة عليه، وهنا تظهر براعة الخطيب للتأكيد والتفصيل بإجمال ما ذكره (عليه السلام)) في بيان أهمية الأمر المتحدث عنه، وجذب انتباه السامع لما يقال إذ مثل فعل الشرط (عقدت) عقدة أو ذمة، وجواب الشرط (الوفاء بالعهد ورعاية الذمة بالأمانة كما جاء في قوله (عليه السلام) ((000 وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء،

ص: 234

وأرع ذمتك بالأمانة وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله تعالى شيء، الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آراءهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولاتخبسنَّ بعهدك ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترىء على الله تعالى إلا جاهل شقي، وقد جعل الله تعالى عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جداره، فلا إدغال، ولا مدالة، ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثق ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله تعالى إلى طلب انفساحه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه، وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله تعالى فيه طلبة، فلا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك..))(69)؛ فإذا أبرم الوالي الصلح فعليه أن يحيط بنوده بالوفاء والأمانة، ولا يبخس بأي شيء منه، فإن الوفاء بالعهد والوعد من صميم الإسلام(70)، وفي ذلك دلالة إيحائية إلى سياسة السابقين القائمة على الغدر والخيانة ونقض البيعة التي جنوا ثمارها، والتي أطاحت بالأمة وأودت بها إلى التفرقة في الحياة الدنيا، وخسروا ثواب الآخرة بنقضهم ما عاهدوا الله تعالى عليه بالوفاء وعدم نكث البيعة.

3. التداولية بالصيغ التركيبية التي تتألف من (لا) الناهية والفعل المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث في كل زمان ومكان أي ليس في ولاية مصر فقط بل في العالم أجمع، ثم أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة من أجل التأكيد على الوفاء بالعهود ونبذ الغدر في قوله (عليه السلام): ((000 فلا تغدرن بذمتك، ولا تخبسنَّ بعهدك، ولا تختلن عدوك))(71).

4. التأكيد على الوفاء بالعهد حتى في صياغته ليس اللفظية فحسب بل حتى في مضمونه في خلوه من الغدر، والنكث، والخداع؛ اذ جاء التأكيد ب(لا) النافية للجنس

ص: 235

واسمها، وتكرار ذلك للتأكيد على صحة مضمون العهد من الإدغال، والمدالة، والخداع قائلاً (عليه السلام): ((000، فلا إدغال، ولا مدالة، ولا خداع فيه))(72).

5. التداولية بالتكرار لغرض التأكيد(73)، وقد تجسد بتكرار النهي عن نقض العهد بالاستناد إلى بعض العلل اللغوية وهي ما يصرف الكلام عن وجهه ويحوله إلى غير المراد، وذلك يطرأ على الكلام عند ابهامه، وعدم صراحته، وعدم التعويل على لحن القول من التورية والتعريض(74) بقوله (عليه السلام): ((000 ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثق))(75)، ويلاحظ تکرار لفظ (العقد) بالفعل والمفعول المطلق (عقداً) للتأكيد على النهي المباشر عن العقد المبهم الذي يحتمل وجوه عدة تحتمل التورية والتعريض لتكون مدعاة أو ذريعة لنقض العهد، وعدم الوفاء به.

6. تکرار صيغة النهي مع تصريح التأكيد ب(إن) في بيان أن الصبر على الضيق في العهد تكون عاقبته أفضل من فسخ العهد بغير حق وما يتبعه من الغدر، مستعملاً للتفضيل بينهما اسم التفضيل (خير) الذي يدل على أهمية الوفاء بالعهد، ويحث على الصبر عند التعرض لضيق أمر قد يفرجه الله تعالى في قوله (عليه السلام) ((ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله تعالى إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه، وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله تعالى فيه طلبة، فلا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك..))(76).

ثانياً: حرمة سفك الدماء

أكد الإمام في عهده على وجوب احترام الدماء وحرمة سفكها بغير حق إذ ((إن سفك الدماء بغير حق من أعظم الجرائم ومن أفحش الموبقات في الإسلام، فقد أعلن القرآن الكريم أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، وإطلاق النفس شامل

ص: 236

لجميع أصناف البشر من ذوي الأديان السماوية))(77)، فمن أولويات السخط الإلهي على الحكّام والناس، مايتعلق بسفك الدماء بغير حقّها، فلا تقادم في ارتكاب الجرائم عند الخالق تعالى، لكون الظلم لايدوم، ولابد له من نهاية تسحق كلّ ظالم في الدنيا المتمثلة بسخط الناس، وفي الآخرة في تبعية الحساب، والنعمة بالزوال، والمدة بالقصر الكون الظلم لا يدوم(78)، وهذا ما صرّح به قائلاً ((000 إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد؛ لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة مما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم))(79)، تضمن النص ما يأتي:

1 - التحذير والترهيب من سفك الدماء بغير الحق عند اندلاع الحروب فهي تسبب النقمة، وتزول النعمة، ومدعاة لضعف السلطان وزواله ونقله في الحياة الدنيا فضلاً عن المحكمة الإلهية المتمثلة بعقاب الآخرة في يوم القيامة، والله تعالى الحاكم في ذلك اليوم، وسفك الدماء أول محكوم ؛ فأي تحذير هذا! أشار الإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) مستعملاً الخطاب المباشر في التحذير (ايّاك) قائلاً ((000 إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها؛ فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة؛ ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة؛ وانقطاع مدّة، من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوِّینّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله))(80).

2 - التحذير من سخط الله تعالى بارتكاب قتل العمد باستعمال (لا) النافية للجنس التي

ص: 237

النفي المطلق بقوله (لا عذر)، وكذلك قتل المظلومين متنوراً بمضامين القرآن الكريم قائلاً (علیه السلام) ((000 ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأنّ فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليه سوطك أو يدك بالعقوبة، فإنّ في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّي إلى أهل المقتول حقّهم(81)))، وهذا النص جاء متضمناً قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء / 93؛ فقد أعلن القرآن الا أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه نار جهنّم خالداً فيها.

3 - التداولية في استعمال التركيب الشرطي الذي يقوم على جزأين تلفت انتباه المخاطب أو السامع إلى النتيجة المتوقعة أو المحتمل وقوعها من القتل الخطأ، وبيان دية المقتول خطأ في قوله (عليه السلام): ((000 وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة مما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم))(82)، ومن هنا فقد شدد الإمام (عليه السلام) في عهده على ضرورة حفظ دماء المسلمين وحرمة سفكها، وحذر أن يقوى سلطان ولاته بإراقة الدماء، كما إن قتل العمد فيه القود وهو قتل القاتل، کما ذکر دیة المقتول خطأ، وهو الدية، وحذر أشدّ ما يكون التحذير من سفك الدماء(83).

4 - التداولية في استعمال صيغة (أفعل) التي خرجت من دلالة المفاضلة الى المساواة في ثبوت الوصف لمحله (84) بين جريمة سفك الدماء والنتيجة المترتبة عليه من الإلهية، والتبعة الدنيوية من النقمة، وزوال النعمة، وانقطاع المدة إذ لا مفاضلة بينهما، لبيان الأثر المترتب على سفك الدماء العبثي بغير حق في قوله (عليه السلام): ((000 فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة؛ ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة؛ وانقطاع مدّة، من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة))(85).

ص: 238

الخاتمة ونتائج البحث:

1. براعة المخزون اللغوي والفكري عند الإمام علي (عليه السلام) الذي أوحت به مضامين العهد الميمون.

2. الدقة في اختيار الألفاظ وحسن التراكيب اللغوية التي يستطيع من طريقها المتكلم أن يصل إلى مقصوده.

3. بلاغة الأسلوب في عرض محتوى العهد بدءاً من الافتتاح بالبسملة وانتهاءً بالخاتمة.

4. الاقتباس من القرآن الكريم في المواضع التي يحتاج إليها التأكيد والإلزام حيناً، والتضمين من القرآن الكريم في المواضع التي تتطلب ذلك من غير تفكك أو ضعف.

5. العدول في الأسلوب من الغائب إلى المخاطب، ومن المخاطب إلى المتكلم في أثناء بیان مضامين العهد.

6. الأثر القرآني بدا هو الغالب في النص مما يعزز قوته في التطبيق عند الجميع بلا خلاف - إن أخذ به - فليس هناك من أحد على الكرة الأرضية لايحتاج إلى العيش الرغيد في ظل العدل والإنصاف والتقوى والمساواة، والأمن والأمان، وكل ما ذكر سيتحقق الو طبقنا مضامين العهد قولاً وفعلاً.

ص: 239

التوصيات

1. أوصي كل من يتولى منصباً أدارياً أن يقرأ العهد بنفسه، ثم يحكم بما يرضي الله تعالى.

2. على وزارتي التربية والتعليم نشر نصوص العهد في كتب الاجتماعيات في المدارس، وفي درس الأخلاق في الجامعات لإتاحة الفرصة لهم بأن يطلعوا على الأقل جبراً على مضامين العهد لعله يجد صداه، ويحي بعض الضمائر التي لم تمت بعد.

3. عقد ندوات ثقافية تتضمن شرح بعض مضامين العهد ليكون نوراً يهتدي به كل من يرشح لولاية أي منصب، ولو كان بسيطاً؛ لأن العهد أفتتح بتقوى الله والإمام علي (عليه السلام) يقول: ((رأس الحكمة مخافة الله)).

ص: 240

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

1. آفاق جديدة في الأدب اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة ط 1، مصر، 2002 م.

2. أحكام القرآن: أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر (ت 370 ه)، تحقيق: محمد صادق قمحاوي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1405 ه.

3. أخلاقيات العدالة في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعي (رضوان الله تعالى عليه):هاشم حسين ناصر المحنك، جامعة الكوفة، مركز دراسات الكوفة.

4. إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود): محمد بن محمد العادي أبو السعود، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.

5. أسرار العربية: أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري (ت 577 ه)، تحقيق: د. فخر صالح قدارة، ط 1، 1995 م.

6. أسلوب الإمام علي (عليه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه في نهج البلاغة: د.عباس علي الفحام، بحث في مؤتمر نهج البلاغة.

7. الأصول في النحو، ابو بكر محمد السراج، (ت 316 ه)، تحقيق: عبد الحسين الفتلي، مطبعة النعمان، النجف، 1973.

8. أعيان الشيعة: محسن الأمين، تحقیق: حسن الأمين، دار التعارف، بیروت، 1403 ه - 1983 م.

9. الأفعال الكلامية في القرآن الكريم (سورة البقرة) دراسة تداولية: محمد مدور، اشراف: جودي مرداسي (اطروحة دكتوراه)، السنة 1434 ه - 1435 ه، 2013 م - 2014 م.

ص: 241

10. الإيضاح في علوم البلاغة، محمد بن عبد الرحمن القزويني، ت 739 ه، شرح د. محمد عبد المنعم خفاجي، جزءان، الشركة العالمية للكتاب، بیروت، ط 3، 1989 م.

11. بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي، الناشر: إحياء الكتب الاسلامية، قم، طهران.

12. بلاغة الإقناع قراءة حجاجية في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) (بحث): رائد حاكم الكعبي، مجلة العميد، العتبة العباسية، السنة الثالثة، المجلد الثالث، العدد الأول، 1435 ه - 2014 م.

13. تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205 ه)، تحقيق: عبد الكريم الغرباوي، ط 2، مطبعة حكومة الكويت، 1987 م.

14. التحرير والتنوير:، الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت 1393 ه)، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997 م.

15. التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي: د. مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بیروت، لبنان، 2005 م.

16. التوقيف على مهمات التعاريف: محمد عبد الرؤوف المناوي تحقیق: د. محمد رضوان الداية، ط 1، الناشر: دار الفكر المعاصر، دار الفكر - بيروت، دمشق، 1410 ه.

17. الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي): محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله.، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 1427 ه - 2006 م.

18. خزانة الأدب وغاية الأرب: تقي الدين أبو بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري، (ت 837 ه) تحقيق: عصام شعيتو، ط 1، الناشر: دار ومكتبة الهلال، بیروت، 1987 م.

19. الخطابة: أرسطو أطاليس، حققه وعلق عليه: عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بیروت، 1949 م.

20. ديوان النابغة الذبياني: تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعارف، مصر، 1977 م.

ص: 242

21. سلطة الفعل الكلام من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام): أ. دراجي صافية، جامعة بجاية، الملتقى الدولي الخامس ((السيمياء والنص الأدبي).

22. السياق والنص الشعري:علي آيت أوشان، د ط، دار الثقافة، دار البيضاء.

23. شذا العرف في فن الصرف: الشيخ: أحمد الحملاوي، تحقيق: محمود شاكر، ط 1، دار أحياء التراث العربي، 1425 ه - 2005 م.

24. شرح ابن عقیل: بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي المصري الهمذاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 2، الناشر: دار الفكر - دمشق، 1985.

25. شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر: باقر شریف القرشي، تحقيق: مهدي باقر القرشي، ط 1، مط. ماهر، ستاره، 1432 ه - 2011 م.

26. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار احیاء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.

27. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر: المستشار فليح سوادي، تقديم وتمهيد: هاشم محمد الباججي، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، ط 1، 1431 ه - 2010 م.

28. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: جار الله محمود بن عمر الزمخشري (538 ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، ط 2، دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان، 1421 ه - 2001 م.

29. الكنى والألقاب: الشيخ عباس القمي، منشورات مكتبة الصدر.

30. کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علي بن حسام الدين المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة - بیروت 1989 م.

31. لسان العرب: محمد بن مکرم بن منظور الأفريقي المصري (711 ه)، ط 1، الناشر: دار صادر - بيروت.

ص: 243

32. المزهر في علوم اللغة وأنواعها: جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: فؤاد علي منصور، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998.

33. المستدرك على الصحيحين: محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، 1411 ه - 1990.

34. معجم البلدان: یاقوت بن عبد الله الحموي أبو عبد الله، دار الفکر، بیروت.

35. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د. احمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الجزء الاول، سنة 1983 م، والجزء الثاني سنة، 1986 م، والجزء الثالث سنة 1998 م.

36. مقال في جريدة النهار لصباح الموسی بعنوان (وصية الإمام علي إلى مالك الأشتر أحد مصادر التشريع الدولي، صباح الموسى، على الموقع almjdy@hotmail.com

37. المقتضب: ابو العباس محمد بن يزيد المبرد (ت 285 ه)، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، ط 2، القاهرة، 1399 ه، 1979 م.

38. نظرية الفعل الكلامي بين التراث العربي والمناهج الحديثة دراسة تداولية: محمد مدور، مجلة الواحات للبحوث والدراسات، قسم اللغة العربية وآدابها، غرداية، الجزائر، العدد 16، 2012 م.

39. الهواتف: عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان أبو بكر، تحقیق: مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، 1413 ه.

ص: 244

الهوامش

1. ينظر: مقال في جريدة النهار، صباح الموسى، العدد 822، 2009 م، 1931 ه.

2. المستدرك، الحاكم النيسابوري: 3 / 137.

3. لسان العرب، ابن منظور: 3 / 311.

4. ينظر: مختار الصحاج: 1 / 476.

5. التعاريف، المناوي: 529، وينظر: التعريفات 204.

6. کنز العمال، المتقي الهندي: 5 / 902، وينظر: الهواتف، ابن أبي الدنيا: 20.

7. ينظر: بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 35 / 5 (باب تاریخ ولادته وحليته وشمائله صلوات الله علیه).

8. ينظر: الكنى والألقاب، القمي: 2 / 29.

9. الكنى والألقاب، القمي: 2 / 29، وينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 10، وينظر: عهد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)، فليح سوادي: 6 ومابعدها.

10. القلزم: وهي مدينة مبنية على شفير البحر ينتهي بحر القلزم، ثم ينعطف إلى ناحية بلاد البجة، وليس بها زرع ولا شجر ولا ماء، وإنما يحمل إليها من ماء آبار بعيدة منها، وهي تامة العمارة وبها فرصة مصر والشام ومنها تحمل حمولات مصر، والشام، إلى الحجاز، واليمن، ثم ينتهي على شط البحر نحو الحجاز فلا تكون بها قرية، ولا مدينة سوى مواضع بها ناس مقيمون على صيد السمك وشيء من النخيل يسير. ينظر: معجم البلدان: 4 / 388.

11. شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شریف

ص: 245

القرشي: 12.

12. ينظر: عهد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)، فليح سوادي: 6 ومابعدها، وقد اختلفت الروايات في تاريخ وفاته بين سنة (37 ه)، وسنة (ه 39).

13. أعيان الشيعة، محسن الأمين، تحقیق: حسن الأمين:9 / 41.

14. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

15. الخطابة، ارسطو طاليس: 130.

16. اخلاقيات العدالة في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعي، هاشم حسين ناصر المحنك: 9.

17. ينظر: اسلوب الامام علي (عليه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه في نهج البلاغة: د. عباس الفحام: 5.

18. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 26.

19. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 26.

20. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 26.

21. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

22. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

23. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

24. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 17 / 28.

25. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 28.

26. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 39.

27. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 17 / 39.

28. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 39.

ص: 246

29. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 /، 26، 27، 28، 29.

30. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

31. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

32. ينظر:خزانة الأدب: ابن حجة الحموي: 2 / 494.

33. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد:

17 / 90.

34. ينظر: شذا العرف في فن الصرف، أحمد الحملاوي، تحقيق: محمود شاكر، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، 1925 ه - 2005 م: 57.

35. لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب وآخرون، دار صادر، بیروت: 11 / 252.

36. تاج العروس، الزبيدي، تحقيق: عبد الكريم الغرباوي، ط 2، مطبعة الكويت، 1987 م: 1 / 47.

37. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 1427 ه / 2009 م: 4 / 214.

38. تفسير أبي السعود (أرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، دار أحياء التراث العربي، بیروت: 2 / 89.

39. ينظر: التداولية في كتاب دلائل الاعجاز العبد القاهر الجرجاني (رسالة ماجستير): ثقباني حامدة، التداولية والبلاغة العربية، الأستاذ: باديس لهويمل.

40. التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي، التداولية وتحليل الخطاب، د. جميل حمداوي، التداولية والبلاغة العربية، الأستاذ: بادیس باديس لهويمل، وغيرها من المؤلفات.

41. آفاق جديدة في الأدب اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجديدة، مصر، 2002 م.: 13.

ص: 247

42. التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بیروت، 2005 م: 6.

43. ينظر: نظرية الأفعال الكلامية في البلاغة العربية، د. ملاوي صلاح الدين، بسكرة، الجزائر، 2009 م: 8، وينظر: نظرية الأفعال الكلامية بين التراث العربي والمناهج الحديثة دراسة تداولية، محمد مدور، العدد: 1، 2012 م: 47.

44. ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب، أ. دراجي صافية، جامعة بجاية، الملتقى الدولي الخامس (السيمياء والنص الأدبي): 9، وينظر: الأفعال الكلامية في القرآن الكريم (سورة البقرة) دراسة تداولية، محمد مدور، كلية الاداب واللغات، اشراف: جودي مرداسي: 11

45. ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب، أ. دراجي صافية: 8.

46. كذا ورد في النص والصحيح (في الوقت نفسه).

47. ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب، أ. دراجي صافية: 8.

48. ينظر: نظرية الأفعال الكلامية بين التراث العربي والمناهج الحديثة دراسة تداولية محمد مدور: 50.

49. السياق والنص الشعري، علي آيت أوشان: 73، وينظر: سلطة الفعل الكلامي، أ.دراجي صافية: 8.

50. ينظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور: 1 / 1786، أحكام القرآن، الجصاص، تحقیق: محمد صادق قمحاوي: 4 / 254، مفردات القرآن، الأصفهاني، تحقيق: عدنان صفوان الداودي: 268.

ص: 248

51. ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم: 45.

52. الكشاف، الزمخشري، تحقيق: عبد الرزاق المهدي: 1 / 446.

53. شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شریف القرشي: 55.

54. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 82.

55. الحجاج في النص القرآني - سورة الأنبياء أنموذجاً -: ایمان الدروني: 49، وينظر: بلاغة الاقناع قراءة حجاجية في خطب الامام الحسين (عليه السلام)، رائد حاکم الكعبي: 28.

56. ينظر: الاصول، ابن السراج، 2 / 157.

57. ينظر: المثل السائر، ابن الأثير: 1 / 153، خزانة الأدب، ابن حجة الحموي: ! / 320

58. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 90.

59. ينظر: أسرار العربية، أبو البركات الأنباري: 1 / 254.

60. ينظر: أسرار العربية، أبو البركات الأنباري: 1 / 254.

61. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 82.

62. ينظر: أسرار العربية، أبو البركات الأنباري: 1 / 36.

63. ينظر الايضاح، القزويني: 1 / 143. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، محمد عبد المطلب: 1 / 313.

64. ينظر: شرح ابن عقیل: 4 / 260.

65. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 82.

66. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 57.

67. المقتضب، المبرد: 2 / 46.

68. الاصول، ابن السراج: 1 / 44، 45.

ص: 249

69. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 90.

70. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 57.

71. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

72. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

73. ينظر: المزهر، السيوطي: 1 / 330.

74. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 57.

75. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

76. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

77. شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 5.

78. ينظر:اخلاقيات العدالة في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعي، هاشم حسين ناصر المحنك: 47 - 48.

79. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 80.

80. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 80.

81. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 80.

82. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 80.

83. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 59.

84. ينظر: شذا العرف في فن الصرف، الشيخ أحمد الحملاوي: 64.

85. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 80.

ص: 250

التقابل وسلطة المعنى دراسة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر

اشارة

ا.د كاظم فاخر حاجم الخفاجي د. ستار قاسم عبد الله جامعة ذي قار - كلية الآداب

ص: 251

ص: 252

ملخص البحث

نسعى في بحثنا هذا الى تبيان مفهوم «التقابل» في عهد الإمام علي عليه السلام ل«مالك الأشتر»، فأستوى على ثلاثة محاور:

1. تقابل الذوات

2. تقابل الصفات

3. تقابل الشواهد

ومن خلال تلك المحاور نوضح مستوى الاطراف المتخاطبة ومقاماتهم وردود افعالهم، سعيا الى بيان تماسك النص في الشكل العام والحياة التي بثها التقابل مما جعله يتعدى الزمان الذي كتب فيه.

کما حاول البحث قراءة الخطاب في عهد الامام علي عليه السلام ل«مالك الأشتر» بأدوات وامكانيات تحليلية تستند على اس التقابل الاسلوبي، فالمعاني لا تصنع بأبعاد وعلامات متقابلة خارج نظرة المحسن البديعي للتقابل المعهود في معاجم اللغة فقط، وانما تقترح اليات لتوسيع مفهوم التقابل ليشمل التجاور والمحاذاة والتقريب بين المعاني عبر المواجهة بين الذوات والصفات والشواهد على مستوى التصورات والتعرف والادراك من اجل فهم النص وافهامه انطلاقا من بنيته وسياقاته التي تتساند فيما بينها اثناء القراءة والتلقي، وبذلك نكون قد قدمنا فهما مغايرا لقراءة اي خطاب خارج ما هو متعارف في فهم وتحليل النصوص، وهذا يدعونا لإعادة النظر في العديد من النصوص خارج الادوات التقليدية المتبعة.

ص: 253

مدخل

التقابل في اللغة: أصل التقابل والمقابلة في اللغة المواجهة قال: أبو زيد الانصاري (ت 215) يقال: لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبليا وقبيلا وكله واحد وهو المواجهة. ومن معاني التقابل والمقابلة بين الناس في اللغة أن يقبل بعضهم على بعض اما بالذات واما بالعناية والتوافر والمودة(1).

قال تعالى: «مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ»(2)، «إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»(3).

والمقابل في اللغة ضد المدابر فيقال: رجل مقابل ومدابر اذا كان كريم الطرفين من أبيه وأمه. والمقابلة والتقابل واحد وهو قبالك وقبلتك اي اتجاهك(4) ويعني التقابل في اللغة فيما يعني التعادل اذ يقال: وزنه عادله وقابله وحاذاه.(5) وعلى هذا فالتقابل المكاني او المواقفي هو الاصل المعنوي للتقابل.

جاء في لسان العرب: الضد كل شيء ضاد شيئا ليغلبه، والسواد ضد البياض: والموت ضد الحياة وضد الشيء خلافه، يقال ضادني فلان اذا خالفك، فأردت طولا وأراد قصرا وأرادت ظلمه وأراد نورا فهو ضدك وضديك وقد يقال: اذا خالفك فأردت وجها تذهب فيه ونازعك في ضده(6)، والتضاد ((ان يجمع بين المتضادين مع مراعات التقابل))(7) والمتضادان عند العسكري ((هما اللذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه اذا كان وجود هذا على النحو الذي يوجد عليه ذلك كالسواد والبياض))(8).

وعند العودة الى المصطلحات البلاغية القديمة نرى هناك تداخلات في الكثير منهما كما هو الحال في التضاد والخلاف يكشف لنا ذلك أبو الطيب اللغوي بقوله: وليس كل ما خالف الشيء ضدا له....... فالاختلاف أعم من التضاد أذا كان كل متضادين مختلفين وليس كل مختلفين ضدين.(9) وكذلك من المصطلحات المرادفة للتضاد المطابقة ويسمى التطابق او الطباق ومر هذا المصطلح بتحولات كثيره حتى استقر عند العسكري بالجمع

ص: 254

بين الشيء وضده.(10) وهناك مصطلح اخر يدل على الضدية، وهو الاضداد وكادت مباحثه ان تقتصر على كتب اللغة وحدها.(11)

فقد نظر اللغويون القدامى الى كلمات الاضداد على انها تمثل مظهرا من مظاهر الاشتراك اللفظي ودليلا على سعة لغة العرب وضرفها، اذ ان الكلمة نفسها تحمل معنيين متضادين، لكن هذين المعنيين لا يردان في الجملة متقابلين وانما متواترين او متعاقبين.(12)

التقابل اصطلاحا

بالعودة للبلاغين القدامى نلاحظ تعدد التعاريف للموضوع نفسه كل منهم يقدم فهما خاصا وان لم يبتعد كثيرا عن غيره لكنه اما ان يضيف او يحذف او يشعب الموضوع ويدخل فيه تفرعات كثيره لكنهم مجمعون على وضع العديد من الفنون البلاغية تحت عنوان المحسنات اللفظية ولم يتطرقوا اليها على انها وسيلة في ايصال الخطاب كما ينظر اليها في الأسلوبية الحديثة.

کما ان الباحث في التراث النقدي والبلاغي لا يستطيع اغفال الالتفاتات الذكية التي رصدت التضاد وبينت ابعاده العميقة بوصفه وسيلة من وسائل التعبير والايحاء في اللغة وطريقة من طرق العرب في كلامها، على نحو ما نجده عند عبد القاهر الجرجاني، اذ ربط التضاد بالصورة ومزجه بالاستعارة مزجا كاد ان يعده جزءا منها فهو يرى ((ان الاشياء تزداد بيانا بالأضداد))(13).

لم يرد التقابل أسلوبا بديعيا مستقلا ضمن التقسيمات البلاغية، وإنما أشير إليه بوصفه أحد أنواع المواجهة بين الأشياء، والمخالفة المعنوية التي تطرأ على اللفظ بإزاء اللفظ الآخر داخل السياق النصي الذي جمعهما، وقد تجلت هذه الإشارات في مبحث التكافؤ وهو: أن يصف الشاعر شيئا أو يذمه، ويتكلم فيه أي معنى كان، فيأتي بمعنيين متكافئين، بحسب قول قدامه بن جعفر، وقد أشار إلى معنى التكافؤ بقوله: والذي أريد بقولي: متكافئين

ص: 255

في هذا الموضع أي: متقابلين، إما من جهة المصادرة، أو السلب والإيجاب أو غيرهما من أقسام التقابل، مثل قول أبي الشعب العبسي:

حُلُو الشمائلِ وهوَ مرٌّ باسلٌ *** يحمي الذمارَ صبيحة اَلأرهانِ

فقوله: (مرّ وحلو) تكافؤ.(14)

ویری احد الباحثين المعاصرين في الثنائيات الضدية في المنظور النقدي الحديث، ان هناك ثلاث اتجاهات نقدية تدور حول مفهوم التضاد على المستوى البلاغي النقدي، وهي اولهما يدور في الغالب في فلك القديم ويحلق في سماء فكره ويردد العبارات والشواهد نفسها اذ سيطرت فكرة المحسن البديعي والتنميق على بحوث اصحاب هذا الاتجاه اثناء تناولهم للطباق والتضاد واستعان كثيرا منهم بنصوص القدماء، واعادة ملاحظاتهم واستنتاجاتهم دون تعليق او تجديد يلفت الانتباه، او يثير القضية في المنظور الدلالي او السياقي في النص اذ ان اصحاب هذا الاتجاه قلما تأثروا بموجة الحداثة وما رافقها من مناهج اسلوبية.

اما اصحاب الاتجاه الثاني: فهو مخالف في التناول لأصحاب الاتجاه الاول فقد اهتم المعنيون بهذا المعنى بفنون البديع ولاسيما الطباق او التضاد خارج مفهوم التحسين، بل ان بعضهم رفض تسميتها - اصلا - بالمحسنات واصحاب هذا الاتجاه تتبعوا التضاد وآلياته على انه عنصر بنائي في النص وليس شيئا عارضا او دخيلا عليه وانا هو جزء منه فقد سلطوا الضوء عليه من حيث الوظيفة والاستعمال بطريقه تتسم بالعمق والحيوية وتجمع بين الاصالة والتجديد واخيرا اصحاب الاتجاه الثالث: وهم من استفاد من المناهج النقدية الحديثة عموما ومن المناهج البنيوية وامتداداتها التطبيقية في توظيف الثنائيات الضدية على وجه الخصوص حتى طغت على ابحاثهم.

ص: 256

المبحث الاول: تقابل الذوات

نسعى هنا الى تبيان التقابل في عهد الامام علي (عليه السلام) لعامله مالك الاشتر على مستوى الاطراف المتخاطبة (الذوات) ومقامات المتخاطبين وردود افعالهم، وذلك لبيان تماسك النص في الشكل العام والحياة التي بثها التقابل فيه مما جعله يتعدى الزمان الذي كتب فيه، کما وان الباحث في التقابل في المنظور النقدي الحديث يقف على مالم يقف عليه من سبقه.

يبدأ تقابل الذوات في النص من نقطة الشروع الاولى حينما قال (عليه السلام): ((هذا ما امر به عبد الله علي امير المؤمنين مالك الاشتر في عهده اليه حين ولاّه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح اهلها وعمارة بلادها))(15).

يتجلى تقابل الذوات في عتبة النص ومطلعه بين المرسل والمرسل اليه والامر بينهما (الذوات) إذ نلحظ تبلور مكانة الذاتين من خلال الامر الذي يصدر من الاعلى الى الادنى، ومن خلال تتبع صيغ الامر سوف نتعرف على ما كان عليه الامام علي (عليه السلام) من تقواه ومكانته في الزهد وايثار طاعه في حدود الله سبحانه وتعالى وان لم يكن ذلك في النص بشكل صريح، ولكن نلمس ذلك من جملة وصاياه عليه السلام لمالك الاشتر التي كشفها السياق لنا وهو ما يسمى بالبلاغة العربية القديمة (الاكتفاء) اذ يحذف بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب(16)، وهو ظرب من الايجاز البليغ، بعد ذلك تأتي تفرعات الذوات على مستوى عال من الاتقان فقد اضافت قوة حجاجية إقناعية في كلامه (علیه السلام) عندما قابل بين مالك الاشتر والرعية والولاة السابقين في قوله: ((ثم اعلم يا مالك، اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل

ص: 257

وجور وان الناس ينظرون من امورك في مثل ماكنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ماكنت تقول فيهم))(17).

ان هذا النص يعكس التقابل بين الامام ومالك من جهة وبين الامام والولاة الآخرين من جهة ثانية وبين مالك والرعية من جهة ثالثة. وهذا التقابل يأتي بقصد ولغرض عام في تدبير الامور على ما يرام فا الامام كان يعي ما لذي المواجه من قوه واثر في الاقناع عند ابرازها بهذا النسق التعبيري الذي جعل مالك الاشتر وهو الوالي مقام الناس عندما عاد بذاكرته للولاة السابقين وكيف كان ينتظر منهم الاحسان مثل ما الناس تنتظر منه ذلك، وكل ذلك من خلال التقابل وبلاغة القول (اما التجليات التقابلية في انتاج النصوص والرسائل والمخاطبات اليومية فهي كثيرة، وقوية الحضور وحسبنا التأمل والتدبر فيما نقول، وما يقال لنا لنقف على حقيقة هذا الامر كثير ما يكون التفكير التقابلي سببا في احداث بلاغة القول)(18).

من هنا تأتي اهمية التقابل من خلال ترك فسحة تصورية للمتلقي في فهم النص وكشف مكنوناته اذ لم يعد يعرف التقابل بالمواجهة فقط وانما بالإشارة والتلميح والتماثل والتقارب وما الى ذلك من خلال التقابلات المتعددة وبطرق مختلفة. فمنشأ التقابل في صناعة النص هو تطالب المعاني واستدعائها في الذهن بغية التكامل فالمعنى يكمل غيره توسيعا او تفريعا او تأكيدا او تقسیما، او غير ذلك من العلاقات الحادثة بين المعاني في ذهن منشئها سواء اكان هذا التطالب او التداعي بين المعاني الاول اي بين المعنى الاساس قابل للتفريع(19)، وهذا التطالب للمعاني وجدناه في النص، ثم ان الامام (علیه السلام) يكرر في عرض المقابلات ما بين الذوات كما في قوله: ((انصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فأنك الا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده))(20).

ص: 258

الملاحظ ان تقابل الذوات يستمر في النص حتى يأخذ مساحه واسعة منه وهذا الاستمرار لم يأت من فراغ او لمجرد التعبير وإنما لفائدة كان يقصدها المتكلم، كما وان التكرار في الكلام ارجعه البلاغيون الى اغراض عدة وهو احد علامات الجمال البارزة وهو مصدر دال على المبالغة في المعنى العام، يعني الاعادة يأتي لتأكيد الكلام (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون)(21).

ان بلاغة الامام (عليه السلام) ونبعه الفياض كان واضحا في جميع نصوصه التي وردتنا عنه، وانه لم يتخذ وتيره واحده في عرض التقابلات بل نوع في ذلك وبطرق عدة الخطاب مال الى الذكر الصريح في التقابل بين الذوات و الى التلميح والاشارة في احيان اخرى وهنا يصرح في قوله ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فأن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة والزم كل منهم ما الزم نفسة))(23)، كان ذكر الطرفين في الخطاب وعدم ترك مجال للتأويل والتحليل في حال اخفاء المقابل الاخر وذلك لأهمية الطرفين عند القائل الذي عبر عن هذه الأهمية بالذكر.

وقد لمسنا ان التقابل الخفي والظاهر - هو النواة المؤسسة لتصورات النص وفحوى مكنونه، بعد اخراجه من مفهوم البلاغة المعيارية القديمة المرتبط بالطباق والتضاد على مستوى المفردة، الى مفهوم الاسلوبية الحديث، وتوسيع مجال الانشغال في دلالته على التواجه والتفاعل عن طريق عرض الاشياء والافكار على ما يقابلها او يماثلها او يضادها او يجاريها او ينميها او يشرحها او يكشف عللها واسبابها، وفق علامات متباينة بين العناصر والمستويات المتقابلة بوصف النص كون لغوي متقابل يعكس الخطابات الذهنية المتقابلة للمعنى عند منتجة.(24)

فالتقابل أس من أسس تماسك النص وآلية ناجعة لتحليل الخطاب تسمح بتحفيز

ص: 259

الفكر البشري في الفهم والتفهيم والتبليغ والتأويل، فيكون النص بذلك قادرا على التأثير والاقناع وهو يتجه بموضوعاته الانسانية النبيلة، وافكاره الرفيعة، بأسلوب ادبي جميل الى المتلقي الذي يستقبله من حيث هو بناء من العلاقات اللسانية التداولية الجامعة للقضايا وحاملاتها من الالفاظ والجمل والفقرات والمقاطع والنصوص الموازية واشتقاقاتها والتراكيب البلاغية السياقية.(25)

وفي قوله (عليه السلام):((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها))(26)، رسم له طريق عبر بیان عمل الصالحين وسنتهم وما كان لهم من اعمال البر وما بين عمله (الوالي) من خلال ما يسير عليه من اتباع اعمالهم او مخالفتها وما يتحقق عليه من اثر من جراء ذلك، كانت هذه المواجهة في التعبير بارزة في اظهار ذلك التحذير من المخالفة والنهي عن احداث اي تغير في سنن الصالحين وهذا مرده الى قول الحديث الشريف الوارد عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (من سن في الاسلام سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها الى القيامة ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم يوم القيامة)(27).

يهتم الامام (عليه السلام) بالسلوك الواجب اتباعه بين الأطراف المتقابلة فكان على من الوالي كما مر علينا ان يتبع سنة الصالحين وابتعاده عن هوى النفس وما شاكل ذلك الغرائز الانسانية المتعددة عبر مقابلتها بما يناسبها من الحالات والمعاني في التعبير المباشر او الاشارة والتلميح فالأشياء عند الجرجاني تزداد بيانا بالأضداد، كل تلك المقابلات اخرجت لنا نصا بهذه الروعة مفعما بالدلالة والعمق والارشاد، قلما نجد نظيرا له في النصوص التراثية المماثلة، كما وان تحليل النص بهذا الشكل هو لكشف البنيات الدلالية

ص: 260

المتقابلة التي يتأسس عليها خطاب النص في اثناء صياغته اي ادراك الاشياء بمقابلاتها، وليس القصد بالتقابل دوما التضاد - وهو الامر الذي اشرنا اليه في بداية البحث - بل التماثل والتناظر والتشابه الى اخره، وحضور ذوات متعددة في ذهن الكاتب جعلته يضع لكل ذات مقابل لا على أساس التضاد وانا على اساس البيان والارشاد والدلالة.

فصل الامام (عليه السلام) القول في الرعية على أساس بيان الذوات وما يصلح لكل قسم من هذه الرعية وبيان حقوقه وواجباته ((وأعلم ان الرعية طبقات، لا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفض، ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار واهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه))(28)، ان فصل الذوات على هذا الاساس من التخصص اعطى لكل ذات قبالها من عمل على اساس ما تأخذه من وظيفة في المجتمع وما يترتب عليها من اثار فكانت المقابلة ما بين الوظيفة العائدة على الذات وما بين التعامل الذي يجب معها من قبل الوالي (الذات المقابلة).

فالتقابل هو احد مفردات علم البلاغة الذي يشمل عدة مفردات دارت حولها قضايا هذا العلم، كما وان تعريف البلاغة هي قدرة المتكلم على ايصال مقصده الى المستمع على وفق ما يتطلب المقام، ومن زاوية نظر تأويلية التقابل تقوم بتوسيع ما ينطبق على البلاغة الانتاجية ليشمل التأويلية البليغة، القادرة على بلوغ التفهيم، ابلاغ مقاصد النص - موضوع التأويلية الى القراءة بأعلى درجات الايضاح والدقة والتماسك.(29)

عند الاطلاع على القراءات النقدية الحديثة وخصوصا نظرية القراءة والتلقي التي صدح بها (ایزر) وما اعطى من قيمة عالية في النص للقارئ حيث ترك له مجالات واسعة في المداخلة وفهم النص من خلال ما يضيفه هذا القارئ للنص من مخزون ثقافته وهي

ص: 261

تناص لثقافات الاخرين (ذوات الاخرين).

في ظل فهم التقابل خارج فكرة المحسن البديعي وايانا بنظرية القراءة والتلقي والمساحة التي اعطتها للقارئ في فهم النص يمكن من خلال ذلك التعبير عن التقابل بمختلف انواعه (الخفي والظاهر) بروح النص من خلال ما يضيفه من تماسك للنص وجمالية في استرسال معانيه وأفكاره.

في ختام عرض (تقابل الذوات) نقف على ما تحدث عنه (عليه السلام) عن القضاة في قوله: ((ثم أختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحقه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، واخذهم بالحجج، واقلهم تبرما بمراجعة الخصم، واصبرهم على تكشف الامور، واصر مهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه اطراء، ولا يستميله اغراء، واولئك قليل، ثم اكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل مع حاجته الى الناس واعطه من المنزلة لديك، مالا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظرا بليغا، فان هذا الدين قد كان اسيرا في ايدي الاشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا))(30).

كان هذا التفصيل الدقيق لأحوال القضاة وكيفية اختيارهم والذي ميزهم بالعديد من المميزات والمؤهلات التي يحملونها عن غيرهم، ثم أشار للمعاملة الخاصة معهم لان في ذلك امانا لهم ورفع حاجتهم للناس حتى يظهر ذلك على عملهم الذي هو اساس قيام عمله وحكومته وهو العدل.

ص: 262

في المشهد النقدي العربي اليوم غالبا ما تأخذ متابعة الاعمال الدارسة والشارحة لنصوص الادب، خط المقابل المهادن، والحليف المناصر للنص، فلا يعدو ان يكون دورها محصورا في التفسير او التأويل او المقاربة من جانب من الجوانب اعتمادا على لغة واصفة تستند الى مرجعية من المرجعيات النظرية او المنهجية وهو ما نجده عادة في الدراسات الاكاديمية التي انجزت على شكل بحوث جامعية، ثم نشرت بعد ذلك.(31)

هذا الاتجاه يعتمد على التجريب المنهجي، المرتبط بالسياق الذي انجز فيه، وهو يقوم على التطبيق المطلق للمنهج المعتمد في المقاربة ويدفع الى السير في اتجاه واحد دون النظر الى الاتجاهات الاخرى الممكنة ونادرا ما نجد دراسة نقدية هادئة تقارب مستويات العمل وتخلق معه حوارا حقيقيا عبر جهاز منهجي متسق يخرج بنتائج هامه، مدعومة بتبريرات كافية(32).

المبحث الثاني: تقابل الصفات

يعد تقابل الصفات، من العناصر البليغة التي ضمنت لعهد الامام علي(عليه السلام) قوة حجاجية وإقناعية، وفائدة اخلاقية، ولعل ما يشد القارئ لخطابة هو تصور الصفات او الطباع بهذا الشكل المتقابل، وهو دليل على ادراك وتمثيل حقيقي لصفات الانسان وسلوكه راسما في ذلك لوحة تعبيرية هي غاية في الجمال والروعة والانسجام.(33) وبما ان التقابل اساس الحياة وعصبها فقد بنى عليه الامام (عليه السلام) خطابة وتوسع به في الانتاج وصناعة المعنى وقديما قال ابن سيدة:((ومقابلة الشيء بنقيضه اذهب في الصناعة))(34).

ص: 263

غير ان التقابل على وفق النقد الحديث، يتجاوز النقيض وحده، ليسع انماطا أخر مثل: الترتيب او التأذي او التوازي او الترادف او التخالف وغير ذلك من الامكانيات التي يبنى عليها الخطاب.(35)

بدأ (عليه السلام)في عرض الصفات عبر الخطاب في الذكر الصريح عندما قابل في قوله: ((...... جرت عليها دول قبلك من عدل وجور))(36) مقتضى الكلام يتطلب هذا الذكر لكمال الصورة عند المتلقي، والاخذ بمجامع فكره، فالتقابل يضل خاصية لغوية، وتعبيرية وفكرية، وانسانية ولذلك نجده يتجسد امامنا في سائر الانماط التواصلية.

ومن الملاحظ ان تحليل الخطاب بحاجة الى ادوات وبلاغات قادرة على تبين كيفيات تشكل موضوعاته، في الوعي المدرك والباني للأفكار والمعاني لدى الكتاب والمؤلفين والخطاب والسياسيين والاعلامين، ولذلك يُضاف التقابل الى الادوات التي قدمتها نظريات تحليل الخطاب لما يقدمه النموذج التقابلي من مفاهيم وتصورات قادرة على تفكيك الخطاب على مستوى الاستراتيجيات التخاطبين.(37)

كانت دقة الصفات موزعة في النص على حساب ما يقتضيه المعنى في ايصال فكرة القائل للإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر بمعنى أعم لكل من يتلقى هذا النص، لذا الامام عن طبقتين مهمتين في المجتمع مشيرا الى صفات كل منهما، والاثر المترتب في الافراط بإحداهن على الاخرى، وهن الصفات المتعلقة بخاصة الوالي من طرف، وصفات عامة الرعية من طرف اخر فقد قال (علیه السلام): ((وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فأن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، واقل معونة له في البلاء واكره للإنصاف واسأل بالإلحاف، واقل شكرا عند الاعطاء، وابطأ عذرا عند المنع، واضعف صبرا عند ملمات الدهر من عبر

ص: 264

اهل الخاصة، وانا عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الامة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم))(38).

حمل النص كثيرا من التقابلات البنائية التي كان ورائها دلالات كثيرة تدل على عمق النظرة التي كان يحملها مرسل النص، فالعلاقات القائمة بين طبقات المجتمع على اساس تناقض لصفات كل طبقة بحسب مقتضى المصلحة، فالمبدع هو الذي يدرك ما وراء الظاهر العيني، ويغوص الى الاشياء التي يدق المسلك اليها.(39)

فالتقابل سمة من سمات التخاطب وبناء القول عند العرب. ولو تأملنا ما يقال وما يكتب، لتبين لنا ان التقابل المعنوي في الكون وما فيه، ينعكس على البنيات القولية المنتجة، وهو ما یبرر هذا التوجه نحو المعاني المتقابلة في التخاطب.(40)

وبالعودة الى نص الامام الموجه الى مستشاري الوالي يشير(عليه السلام) الى مجموعة الصفات في قوله)) ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الامور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فان البخل، والجبن، والحرص، غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله))(41).

ومن الملاحظ ان تقابلات الصفات الظاهرة على سطح النص تتبلور بشكل خفي في ذهن المتلقي فالإمام «عليه السلام« يريد ضمنا عكس هذه الصفات المعلنة.

قرن الامام في عرض الصفات في هذا النص بأسلوب التعليل الذي يعد وسيلة ضرورية لتوسيع دائرة دلالة النص، لان النص له دلالات عدة قد تتسع وقد تضيق والعلة والسبب في اللغة بمعنى واحد.

بعد عدّهِ (عليه السلام) لتلك الصفات بيّن اسبابها في انها ناتجة عن سوء الظن بالله تعالى، وتأسيسا على ذلك يمكننا ان نحيل بعضا من بواعث التضاد في اسلوب الامام (عليه السلام) لأهمية ما يوصي به وما يترتب علية في حال تركه وعدم الاخذ به وتطبيقه في شؤون الرعية.

ص: 265

كانت نظرة الامام نظرة العارف عن بصيرة فهو يوصف القادة من خلال فرز صفاتهم عن باقي جنود الرعية في قولة: ((فول من جنودك انصحهم في نفسك الله ولرسوله ولأمامك، وانقاهم جيبا، وافضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح الى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الاقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف))(42).

لابد لهذه الصفات من صفات مواجهة اخرى من خلالها امتاز بها القادة عن غيرهم وبموجبها كانت لهم الصدارة.

فاذا شرعنا في تأمل المواجهات المتحكمة في الكنايات البلاغية العربية القديمة بحثنا عن السمات العميقة فيها، فأننا سنقف حتما عند هذه الآلية في صناعة النصوص وتأويلها، وهذا ما يجعل عملنا مركبا يبدأ من الافتراض فالاستكشاف، ثم التحليل والاستنتاج ليأتي بعد التصور، ثم تطبيقه(43).

من يقرأ النص يقف مذهولا من روعة ما فيه من دقة في الوصف والتعبير تارة تراه يصنف المجتمع على اساس ميزات كل صنف وما يتحمله من مهمة في المجتمع فقد وصف القضاة تم بين صفات القادة في الدفاع عن الرعية.

بعد ذلك تعرض الامام لصفات حاشية الوالي في قوله: ((ثم الصق بذوي الاحساب، واهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم اهل النجدة، والشجاعة والسخاء، والسماحة، فأنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف))(44).

بعد بيان هذه الصفات التي يفتقدها غيرهم (المقابل) يتبع تلك الصفات بالتعليل (فأن) والتي تتكرر على طول النص يوصفها تأكيدا لعرض تلك الافكار من خلال بيان الاسباب، ان النظرة السطحية للنص تطلعنا على صفات معينة دون ذكر مقابلاتها اذا ان المتلقي يحصل عليها من خلال التأويل الذي ينشئه على ضوء الاطر المتقابلة الغائبة انطلاقا من الاطر الماثلة.(45)

ص: 266

يقدم النموذج التقابلي على مفاهيم وتصورات قادرة على تفكيك الخطاب على مستوى الاستراتيجيات التخاطبيه، وعلى مستوى اللغة والاساليب، والاسناد الحجاجية الموظفة، ومهارات التعبير، وآداب الخطاب، والتلطف وغير ذلك من ادوات التحليل او التخيل الممكنة التي يستدعيها كل مقام نتج عن خطاب معين.(46)

ومن خلال التصورات التقابلية التي نتجت من تأويل النص نستطيع وصف عهد الامام عليه السلام - بالدستور - قال في دستوره لمالك عن احوال العمال: ))ثم انظر في امور عمالك فأستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة واثرة، فأنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ من اهل التجربة والحياء، من اهل البيوتات الصالحة، والقدم في الاسلام المتقدمة، فأنهم اكرم اخلاقا، واصح اعراضا، واقل في المطامع اشرافا، وابلغ في عواقب الامور نظرا، ثم اسبغ عليهم الارزاق، فأن ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم))(47).

والقارئ لنص الامام يتبين فكره البليغ جليا في النظر بأمر العمال عبر بيانه لصفاتهم ووصاياه فيهم وتعامل الوالي معهم، ثم عدل بعد العمال الى كتاب الوالي وحفظة سره فقال: ((ثم انظر في حال كتابك، فول على امورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكرامة، فيجرأ بها عليك، في خلاف لك بحظرة ملأ ولا تقصر بهم الغفلة عن ايراد مكاتبات عمالك عليك واصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فأن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل))(48).

بعد هذا التفصيل في احوالهم (الكتاب) لم يخف شيء من صفاتهم وما يتميزون به من مهارات على غيرهم حتى حظوا بهذا القدر ثم بعد ذلك استوصى بالتجار فقال: ((واوص بهم خيرا، المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فأنهم مواد المنافع

ص: 267

واسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فأنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد امورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا))(49)، يقدر وضوح التقابل في ذهن منتج النص بقدر وضوحه في النص وفي تلقيه وتأويله وقوة وضوح المقابل دليل على بلاغة القول(50)، وهذا ما كان حاضرا في نص الامام (علیه السلام) من تقابلات عده ناتجة عن حضورها في ذهن الامام.

المبحث الثالث: تقابل الشواهد

الشاهد من الحجج الجاهزة او غير الصناعية كما يسميها أرسطو(51)، والشاهد في الخطاب العربي وسننه القولية يتمثل في الآيات القرآنية الكريمة والحديث النبوي الشريف، والامثال والحكم، والابيات الشعرية، وهي نصوص توسع مدارك المتأمل عبر مقابلتها لمعاني ما حوله من المواقف والحالات، وترغيبه فيما ينفعه، وتنفيره مما يضره لذلك كان الشاهد دعامة قوية وحجة بالغة في جميع المواقف التي يحضر فيها وقد عبر عنه الجاحظ بقوله (ومدار العلم على الشاهد والمثل)(52)، ونجد الشاهد حاضرا بقوة في اغلب التراث العربي عبر امتداد مراحله المتعددة من الشعر الجاهلي، كذلك نجد الشاهد حاضر في الخطاب القرآني: (مثلهم كمثل الحمار يحمل اسفارا)(53)، ويعد الشاهد عند الامام (عليه السلام) عنصرا مرادفا للحجة والدليل والبرهان، ودعامة اساسية لإرساء الحقائق، عبر الخطاب ومن خلاله للمتلقي، في عهده لمالك قال: ((وأردد الى الله ورسوله مايضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الامور، فقد قال الله تعالى لقوم

ص: 268

احب ارشادهم: (ياءيها الذين امنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فأن تنزعتم في شيء فردوه الى الله والرسول)، فالرد الى الله الاخذ بمحكم كتابه، والرد الى الرسول الاخذ بسنة الجامعة غير المفرقة))(54)، من خلال مطالعة النص نلاحظ كيف ان الامام اورد المعنى ثم قابلة في الشاهد الذي كان مماثل لما آورده من معنى مع ذكر الشاهد بين (عليه السلام) كيفية الرد لله وللرسول (صل الله علية واله وسلم)، يقوم التقابل الاستشهادي على الاتيان بمعنى، ثم تأكيده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الاول والحجة على صحته.(55)

من مع الملاحظ ان الاستشهاد في عهد الامام (عليه السلام) لم يأخذ مساحة واسعة في خطابه الموجه لمالك، ولكن اقتصر على مقتضى حاجة المقام اليه، ها هو يورد شاهدا اخرا في قولة ((واذا اقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مطيعا فان في الناس من به العلة وله حاجة، وقد سألت رسول الله (صل الله عليه واله) حين وجهتني الى اليمن كيف اصلي بهم فقال: ((صل بهم كصلاة اضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما))(56)، مع وجود الشاهد الذي يعد تأكيدا للكلام اردف كلامه بالتعليل للتقابل علامات، او سيماء ولا نتكلم عن التقابل الا عبر حضور احد العناصر في مقابل عنصر آخر انه تواجه شيئين، او شخصين، او وضعين، او حالين، قد يدل احدهما على الآخر بصوره وان كان غائبا فهو علامة وسياء على بنية تقابليه قائمة على الحضور التام او الجزئي.(57)

في ظل هذا نلحظ التواجه عبر التوجيه والارشاد في قول الامام (عليه السلام) لمالك ((واياك والمن على رعيتك بإحسانك، او التزايد فيها كان من فعلك او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فان المن يبطل الاحسان والتزايد يذهب بنور الحق والخلف يوجب المقت عند الله والناس(58)، قال الله تعالى: (كبر مقتا عند الله ان تقولو مالا تفعلون(59)).

ص: 269

فالنص القرآني الموظف في سياق خطاب الامام افاد نوعين من التقابل: الاول، کما هو بائن في صلب الشاهد القرآني ومتبلور من فحوى معناه، فالمقت يأتي من القول من دون العمل.

اما التقابل الثاني، فيستشف من معنى الفكرة الاول المقابل للمعنى في النص القرآني المستشهد به، وهو منطلق فعال في صناعة الخطاب وتوهج بلاغة.(60) فقد برع الأمام (علیه السلام) في توظيف شواهده البينية المبينة على التقابل لإدراكه اهميتها في الاقناع والتأثير، فقد نتجت القضية ثم يأتي بمقابلها من الشواهد لغرض التوثيق والتوكيد نراه في النصح بقولة: واردد الى الله ورسوله، يقابلها بالطاعة الله والرسول، ومن ان جميع الشواهد مبنية على التقابل بأنواعه المختلفة وذلك راجع لاتساع نقدية التقابل في بناء العهد ودلالاته فالمعاني يطلب بعضها بعضا من اجل التكامل وتوسيع المدارك والافهام.

وبوسع التأويل التقابلي ان يمدنا بمزيد من المعاني المنبثقة من الافتراضات الدلالية التي يتأسس عليها هذا الخطاب فالمثل يتقابل مع الفكرة المطروحة، ويتموضع بمثابة حجة جاهزة تؤدي وضيفة التدعيم، كونها تكتسب قوتها من مصادقة الناس عليها وتواترها في الفعل الجمعي، فضلا عن كونها تؤدي وضيفة اعادة التوازن بين المرسل والمرسل اليه، عندما يصيب عملية التخاطب خفوت في تفاعلها.

وبذلك يقدر التقابل بالمثل كونه آلية من آليات الخطاب الاقناعي البلاغي غير المباشر في تقريب المعاني من الافهام بضروب من الامثلة المركبة تركيبا تقابليا حتى تناسب التصورات والفكرة التي يدافع عنها ويروم ايصالها.(61)

ص: 270

الخاتمة

حاول البحث قراءة الخطاب في عهد الامام المالك الأشتر بأدوات وامكانيات تحليلية تستند على اساس التقابل الاسلوبي فالمعاني تصنع بأبعاد وعلامات متقابلة خارج نظرة المحسن البديعي للتقابل المعهود في معاجم اللغة فقط، وانما تقترح اليات لتوسيع مفهوم التقابل ليشمل التجاور والمحاذاة والتقريب بين المعاني عبر المواجهة بين الذوات والصفات والشواهد على مستوى التصورات والتعرف والادراك وذلك من اجل فهم النص وافهامه انطلاقا من بنية و سياقاته التي تتساند فيما بينها اثناء القراءة والتلقي وبذلك نكون قد قدمنا فهما مغاير لقراءة اي خطاب خارج ما هو متعارف في فهم و تحليل النصوص وهذا يدعونا لإعادة النظر في العديد من النصوص خارج الادوات التقليدية المتبعة.

الاحالات

1. سورة الواقع ينظر النوادر في اللغة: 569 - 570.

2. ة: الآية 16.

3. سورة الحجر: الآية 47.

4. لسان العرب: 14 - 15 (مادة قبل).

5. المصدر نفسه: (مادة وزن).

6. 6 - ينضر لسان العرب (مادة الضد).

7. التعريفات للجرجاني: 48.

8. الفروق اللغوية، ابو الهلال العسكري: 29.

9. كتاب الاضداد في كلام العرب، ابو الطيب اللغوي: 33.

ص: 271

10. کتاب الصناعين، ابو الهلال العسكري: 319.

11. ينظر على سبيل المثال، المزهر في علوم اللغة وانواعها: السيوطي. والاضداد في اللغة: ابن الانباري.

12. ينضر کتاب الاضداد، ابو الطيب اللغوي: 28.

13. أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني.

14. التقابل بين البلاغة العربية والأسلوبية المعاصرة (بحث) د. خالد کاظم حمیدي، ص 1، نقد الشعر ص 147.

15. ينظر الثنائيات الضدية في شعر ابي العلاء المعري، د. علي عبد الامام الاسدي: 36 - 42.

16. نهج البلاغة: 457.

17. ينظر: العمدة ابن رشيق القيرواني: 1 - 251.

18. نهج البلاغة: 458.

19. نظرية التأويل التقابلي: 306.

20. التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ، بحث، د. على عبد الامام، مجلة اوروك للعلوم الانسانية، جامعة المثنى كلية التربية، المجلد الثامن - العدد الثاني، نیسان 2015.

21. نهج البلاغة: 459.

22. سورة النبأ: الآية، 4، 5.

23. سورة يوسف: الآية 4.

24. نهج البلاغة: 461.

25. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي: 46، 167، 169.

26. ينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ.

ص: 272

27. نهج البلاغة: 463.

28. الاستبصار في مختلف الاخبار، ابي جعفر محمد ابن الحسن الطوسي، تحقيق محمد جواد مغنیه، تصحيح يوسف البغدادي، دار الاضواء الطبعة الاولى.

29. نهج البلاغة: 463.

30. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي: 178.

31. نهج البلاغة، 64 4 - 465.

32. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، 217.

33. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، 218.

34. ينظر التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ.

35. شرح المشكل في شعر المتنبي، ابن سيدة: تحقيق مصطفى السقا و حامد عبد المجيد: 217.

36. ينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ.

37. نهج البلاغة: 458.

38. ينظر نظرية التأويل التقابلي: 302، 303.

39. نهج البلاغة: 459، 460.

40. اسرار البلاغة: 29.

41. ينظر نظرية التأويل التقابلي: 303.

42. نهج البلاغة: 460، 461.

43. نهج البلاغة: 463.

44. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 151.

45. نهج البلاغة: 464.

46. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 194.

ص: 273

47. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 314.

48. نهج البلاغة: 466.

49. نهج البلاغة: 468.

50. نهج البلاغة: 469.

51. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 268.

52. الخطاب الحجاجي انواعه وخصائصه، هاجر مدقن: 63.

53. البيان والتبين: 1 / 271.

54. سورة النساء: اية 59.

55. نهج البلاغة: 465.

56. نظرية التأويل التقابلي: 407.

57. نهج البلاغة: 47.

58. نظرية التأويل التقابلي: 175.

59. نهج البلاغة: 476.

60. سورة الصف: الآية 3. ينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ مجلة اوروك العلمية للعلوم الانسانية، جامعة المثنى، كلية التربية، 65 وينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ مجلة اوروك للعلوم الانسانية، جامعة المثنى، كلية التربية: 69.

ص: 274

المصادر

1. القرآن الكريم

2. الاستبصار في مختلف الاخبار، ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق محمد جواد مغنیه، تصحیح يوسف البغدادي، دار الاضواء، الطبعة الاولى (د، ت).

3. اسرار البلاغة في علم البيان، للإمام عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1988.

4. البيان والتبين لابي عثمان عمر بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة الطبعة الخامسة، 1985 م.

5. الثنائيات الضدية في شعر ابي العلاء المعري، د. علي عبد الامام، تموز للطابعة والنشر، الطبعة الأولى 2013 م.

6. الخطاب الحجاجي (أنواعه وخصائصه)، هاجر مدقن، منشورات الاختلاف الجزائر العاصمة، الجزائر الطبعة الأولى 2013 م.

7. شرح المتكل من شعر المتنبي، لابن سيده، تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد المجيد، الهيئة المصرية العامة للكتب، القاهرة 1976 م.

8. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، لابي علي الحسن بن القيرواني تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر الطبعة الثانية.

9. الفروق اللغوية، للأمام الأديب ابي هلال العسكري (395) دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان (د، ت).

10. کتاب الاضداد في كلام العرب، لابي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي الحلي (ت، 351) تحقيق عزت حسن، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر دمشق، الطبعة

ص: 275

الثانية 1996 م.

11. کتاب التعريفات، للشريف علي بن محمد الجرجاني، دار احياء التراث العربي، بيروت لبنان، الطبعة الاولى 2013 م.

12. کتاب الصناعتين، لابي هلال العسكري، تحقيق علي محمد البنجاوي ومحمد ابو الفصل، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، الطبعة الثانية، 1971 م.

13. لسان العرب، لابن منظور (ت 711)، مطبعة دار احياء التراث العربي، منشورات آداب الحوزة، قم، ایران، الطبعة الاولى 1405.

14. نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي، دار الامان، الرباط الطبعة الاولى 2013 م.

15.النوادر في اللغة، ابو زيدالانصاري، تحقيق ودراسة، محمد عبد القادر احمد، دار الشروق بيروت، الطبعة الاولى.

16. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، تحقیق، فاتن خليل مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الاولى.

البحوث

1. التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ د. علي عبد الامام مهلهل الاسدي، اوروك للعلوم الانسانية مجلة تصدر عن كلية التربية - جامعة المثنى، المجلد الثامن العدد الثاني، نيسان 2015 م.

ص: 276

ألفاظ الأخلاق في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية

اشارة

م. د. كريم حمزة حميدي جاسم

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) - أقسام بابل

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

ص: 277

ص: 278

المقدِّمة

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسلين، أبي القاسم محمَّد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعدُ...

فالعلاقةُ بين اللفظِ والمعنى علاقةٌ أزليَّةٌ لم تمرَّ غفلاً عن الدارسين في حقلِ اللغةِ قديمًا وحديثًا، لذا سارعوا في جمع الألفاظ وتصنيفها فضلًا عن مراعاة دلالاتها في قوالبَ ومناهجَ مختلفة، أطلق عليها اللغويون العربُ القدماء مصطلحات: (المعجم الموضوعي، والرسائل اللغويَّة) وغير ذلك. وقد أفاد الدرس اللغوي الغربي الحديث ممَّا أسَّسه العرب القدماء، ليضعوا منهجًا لغويًّا جديدًا يتيحُ للدارسين جمعَ الألفاظ، أو المعاني المتقاربة وجعلها تحت لفظٍ عام يجمعها بمراعاة الصلة الدلالية بينها، وهو ما يسمَّى ب(نظرية الحقول الدلالية)، التي تُعدُّ واحدة من النَّظريات المهمَّة في مجال الدراسات الدلالية الحديثة.

ولأنَّ عهدَ الإمامِ عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر قد تضمَّن دروسًا أخلاقيَّةً معتبرةً، فيها أُسُسُ القيادة الصحيحة للمجتمع في كلِّ زمان، فضلا عن لغتِهِ العاليَّة ذات المعاني المكثَّفة كان ميدانُ الدراسةِ ذلك العهد. فأحصيتُ فيه الألفاظَ المرتبطةَ بالأخلاق سواء أكانت محمودةً أم مذمومةً، ثمَّ قسمتها على وفق نظرية الحقول الدلاليَّة، فجاء البحث بعنوان: (ألفاظ الأخلاق في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر - دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية). وقد قسم على مبحثين: تناولتُ في أولهما: نظرية الحقول الدلالية تأصيلًا وتعريفًا وتطوّراً. وأمَّا المبحثُ الثاني، فقد تناولتُ فيه الحقول الدلالية في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) دراسة تطبيقية. فكان على قسمين: الأول منهما تناولتُ فيه ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام (عليه السلام)، في حين تناولتُ في القسم الآخر ألفاظ الأخلاق المذمومة في العهد. وقد سبق المبحثين تمهيدٌ

ص: 279

تناولتُ فيه: مفهوم الأخلاق عند العلماء. وخلاصةٌ بیَّنتُ فيها أهم ما جاء في البحث. وقد اعتمدتُ في كتابة بحثي هذا على جملة من المصادر اللغويَّة القديمة والحديثة فضلًا عن كتب الأخلاق والآداب وغير ذلك.

وأخيرًا أسأل الله أن يتقبَّل جهدنا المتواضع هذا، إهداءً منِّي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). واللهُ وليُّ التوفيق، وهو الهادي إلى الطريق القويم.

ص: 280

التمهيد: مفهوم الأخلاق عند العلماء

أولًا: مفهوم الأخلاق عند اللغويين:

لا بُدَّ لنا من وقفة عند معنى الأخلاق في اللغة؛ إذ إنَّ المعنى اللغويّ لكلِّ مفردة هو الطريقُ الموصِلُ إلى المفاهيم والمصطلحات التي يتفقُ عليها العلماء في كلِّ فنّ، ولفظ الأخلاق كما جاء في معجم (العين): «الخَليقةُ: الخُلُق، والخَليقةُ: الطبيعة. والجميع: الخلائقُ، والخلائقُ: نقر في الصفا. والخليقة: الخَلْقُ... وهذا رجل ليس له خَلاقٌ، أي: ليس له رغبة في الخير، ولا في الآخرة: ولا صلاح في الدين»(1). وفي قولِ الخليلِ إشارةٌ للعلاقة بين معنى الطبيعة والأخلاق، فالإنسانُ في سجيَّته يحملُ صفاتٍ خلقيَّةً قد تكونُ حسنةً وقد تكون سيئةً.

وقد أوضح ابن منظور (ت 711 ه) الدلائل الإيجابية والسلبية للأخلاق بقوله: «الخُلُقُ، بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا: وَهُوَ الدِّين والطبْع وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنه لِصورة الإِنسان الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نفْسه وأَوصافها وَمَعَانِيهَا المختصةُ بِها بِمَنْزِلَةِ الخَلْق لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وأَوصافها وَمَعَانِيهَا، وَلَهُمَا أَوصاف حسَنة وَقَبِيحَةٌ، والثوابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بأَوصاف الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكثر مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بأَوصاف الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِهَذَا تَكَرَّرَتِ الأَحاديث فِي

مَدح حُسن الُخُلُقِ»(1). لذا عرَّف أهل الاصطلاح الخُلق بأنَّه: «عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا و شرعًا بسهولة، سميت الهيئة: خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سمیت الهيئة: خلقًا سيئًا»(3). واشترط الشريف الجرجاني (ت 816 ه) أن تكون هيئة الأفعال راسخة؛ لأنَّ من يصدر منه بذل

ص: 281

المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فربَّ شخصٍ خلقه السخاء، ولا يبذل، إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل، لباعث أو رياء(4). ونستنتجُ من کُتُب اللغويين أنَّ الأخلاقَ مرتبطةٌ بسجيَّة الإنسان سواء أكانت محمودةً أم مذمومةً.

ثانيًا: مفهوم الأخلاق عند العلماء المسلمين:

المسلمون يستقون مصادر أخلاقهم من القرآن الكريم، والسُنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، وأهل البيت (عليهم السلام)، قال تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» [سورة الإسراء / من الآية 9]. ومثلما يُعدُّ القرآن الكريم، والنبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أكبر حجة على العباد في المستوى الأخلاقي، كذلك يُعَدُّ أهلُ البيت (عليهم السلام) من الحجج الراسخة؛ لما يحملوه من خُلُقٍ رسالي، قال الإمام علي (عليه السَّلام): «ولو کُنَّا لا نرجو جنَّة، ولا نخشی نارًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، لكان ينبغي لنا أن نطلب مکارم الأخلاق، فإنَّها مما تدلُّ على سبيل النجاح»(5). ومن تعريفات العلماء المسلمين للأخلاق ما قاله الغزالي (ت 505 ه): «عبارة عن هَيْئَةٍ فِي النَّفْسِ رَاسِخَةٍ عَنْهَا تُصْدِرُ الْأَفْعَالَ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَی فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْهَيْئَةُ بِحَيْثُ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ الْجَمِيلَةُ الْمَحْمُودَةُ عَقْلً وَشَرْعًا سُمِّيَتْ تِلْكَ الْهَيْئَةُ خُلُقًا حَسَنًا وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ عَنْهَا الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ سُمِّيَتِ الْهَيْئَةُ الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ خُلُقًا سَيِّئًا، وَإِنَّمَ قُلْنَا إِنَّمَا هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ لأن من يصدر منه بَذْلُ الْمَالِ عَلَ النُّدُورِ لِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ لَا يُقَالُ خُلُقُهُ السَّخَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتُ

ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ثُبُوتَ رُسُوخٍ وَإِنَّمَ اشْتَرَطْنَا أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ الْأَفْعَالُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ لِأَنَّ مَنْ تَكَلَّفَ بَذْلَ الْمَالِ أَوِ السُّكُوتَ عِنْدَ الْغَضَبِ بِجُهْدٍ وَرَوِيَّةٍ لَا يُقَالُ خُلُقُهُ السخاء والحلم»(6).

ص: 282

والخُلُقُ والخُلْق عند العلّامة الحلِّيّ (ت 726 ه) هو: «ملكة نفسانية تقتدر النفس معها على صدور الأفعال عنها بسهولة من غير تقدم روّية»(7)، وهو: «مَلَكة في النفس تحصل من تكرّر الأفعال الصادرة من المرء على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة، كالكرم فإنه لا يكون خُلُقا للإنسان إلا بعد أن يتكرر منه فعل العطاء بغير بدل حتى يحصل منه الفعل بسهولة من غير تكلف»(8).

فالأخلاق عند علماء المسلمين وغيرهم من الفلاسفة القدماء ملكة تصدر بها الأفعال عن النفس تلقائيًّا، من غير تفكير أو روية أو تكلّف، وكلّ ما يصدر عنها عن النفس من سلوك ليس مطبوعًا فيها كغضب الحليم وكرم البخيل لا يعدّ خلقًا وهي صفات راسخة في النفس موجبة لصدور أفعال متناسبة معها، من دون إعمال رويّة وتفكّر، وهيّ قد تكون ذاتيّة، أو وراثيّة، أو تكتسب بالعادة والمران(9).

ولأنَّنا نبحث في ألفاظ الأخلاق عند الإمام علي (عليه السلام)، فلا بُدَّ من القول: إنَّ قيمة الأخلاق الإسلاميَّة عنده (عليه السلام) من مرتكزات خطابه وسلوكه العملي، وأنَّ القاعدة الأخلاقية الإسلامية في فكره (عليه السلام) مشيَّدة على معيار إلهي وعقلي، وتنطلق منه إلى التطبيق العملي. ويشملُ ذلك كل ما نصّ عليه (عليه السلام) من عقائد، وعبارات، وأوامر ونواهي(10).

ص: 283

المبحث الأول: نظرية الحقول الدلالية تأصيلا وتعريفًا وتطوّرًا

إنَّ الدَّرْسَ التَّدَاولِيّ نشأَ في أجواء معرفيَّة ثقافيَّة وسيعة، عَرَّجَت على اللّغة دراسةً وفهمًا وتوضيحًا، وأسهمت إسهامًا مُعْجبًا في تفتيح فضاءات من أجل دراسة ظواهر دَلالِيَّة وتَدَاولِيَّة، كانت تُوسمُ - من قبلُ - بأنَّها مهملة، أو مهمَّشة؛ إذ تم الانتقال من إرث (دي سوسير) وتأثيرات المدرسة البنيويَّة للغة؛ لتهيئة الأجواء لبروز اللسانيّات التَدَاوُلِيَّة، التي بزغ في ضوئها اتجاهات لسانيّة، ووظيفيّة، أَعْطَت الدَّرْسَ اللّغويَّ رُوْحًا متجدِّدةً لم تُؤلَفْ من قبلُ، بطريقةٍ منهجية، وعلميَّةٍ(11).

ومن هذه الاتجاهات والنظريَّات ما يُسمَّى ب(نظرية الحقول الدلالية)، التي تقومُ فكرتها على جمع الكلمات، أو المعاني المتقاربة وجعلها تحت لفظ عام يجمعها، فكلمة (لون) مثلًا تضم ألفاظ: (أحمر، أزرق، أصفر، أبيض...). وقد أثمرت الدراسات المتتابعة التي تبحث العلاقات بين معاني الكلمات عن نظرية الحقول الدلالية، ليتلقاها مجموعة من العلماء في بداية القرن العشرين، منهم العالم الألماني (تر ایر)، الذي استطاع صياغة أجزاء هذه النظرية بشكل متكامل منهجًا وتنظيرًا(12). وقد وضعوا للحقل الدلالي أكثر من تعريف، منها تعريف أولمان أنَّه: قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبر عن مجال معين من الخبرة(13). ويقصدُ بالخبرةِ هنا الموضوع، أو الفكرة، التي يُعبَّرُ عن معناها بألفاظ لغويَّة معیَّنة.

ويُعدُّ الحقل الدلالي كغيره من المصطلحات الحديثة التي لم يتمكّن الباحثون من التوصل إلى إعطاء تحدیداتها وتعريفاتها إلاَّ بعد أبحاث متعددة وجهود كبيرة، وعمق

ص: 284

نظر لدقائق مجالات المعني، ومع ذلك فقد اتّضح لهم أنَّ الكلمة تتحدّدُ دلالتها ببحثها مع أقرب الكلماتِ إليها في إطار مجموعةٍ دلاليةٍ واحدةٍ؛ لذا يقول جون لاينز: «إن من المستحيل أن نقرر أو ربما حتى نعرف معنى كلمة واحدة بدون أن نعرف أيضا معاني الكلمات الأخرى المرتبطة بها»(14). فالنظرية إذن تتألف من عنصرين أساسين هما: تقسیم الألفاظ إلى مجموعاتِ دلالية، وتحديد دلالة اللفظة داخل كل مجموعة ببحثها مع أقرب الألفاظ إليها. فلا نستطيع معرفة الدلالة الحقيقية للكلمة إلّا من خلال مجموعة الكلمات المتصلة بها دلاليًّا «بمعنى أنَّهُ لا يُمكن الوصول إلى تحديد واضح ودقيق (نسبيًّا) لدلالة الكلمة ما بمعزل عن مجموعتها الدلالية، فمعنى الكلمة يتحدد على أساس علاقتها بالكلمات الأخرى الواقعة في مجالها الدلالي»(15).

ويؤكد أصحابُ النظريَّة على أهميَّة السياق في الكشف عن دلالة الكلمة والعلاقات التي تربطها بغيرها من كلمات المجال الدلالي، وأنَّ الكلمات في داخل المجال الدلالي الواحد ليست ذات وضع متساو، فيجبُ التفريقُ بين الكلمات الأساسية والهامشية؛ لأنَّ معرفة الأولى يكشفُ لنا طبيعة العلاقات والتقابلات التي تربط كلمات المجال الدلالي(16). وكان للسياق في حصر دلالة الألفاظ الخلقيَّة في عهد الإمام (عليه السلام) دورٌ مهمٌّ؛ إذ إنَّ بعضَ الألفاظ قد يُعبَّرُ عنها بتركيبٍ، أو عبارةٍ تُفصحُ عن المعنى الخلقي الذي أراده الإمام (عليه السلام).

ولم تعرف الدراسات اللغوية العربية الحديثة مصطلح (الحقل الدلالي) إلاَّ بعد اطلاعها على الدراسات اللغوية الغربية؛ لذا كانت التعاريف المتناثرة في تلك الدراسات متماثلة ومتشابهة ومترجمة، على الرغم من أنَّ الدراسة العربية قد عرفت الحقول الدلالية تطبيقاً وإجراءً في أكثر من مصدر وعبر قرون متعاقبة. يقول محمود سليمان یاقوت: «هناك حقيقة نريد التأكيد عليها هي أنَّ نظريَّة المجالات الدلالية... إنَّما هي ذات أصول عربيَّة،

ص: 285

ويتضح ذلك في المنهج الذي اتبعه أصحاب الرسائل اللغوية، ومعاجم الموضوعات في جمع ألفاظ اللغة التي تندرج تحت معنى واحد»(17). ويُعدُّ أبو منصور الثعالبيّ من اللغويين العرب الذين حاولوا قديمًا تصنيف كلمات اللغة على وفق حقول دلالية معيَّنة في كتابه: (فقه اللغة وسرّ العربيَّة)؛ إذ أورده على شكل حقول دلاليَّة خاصة بالحيوانات، والنباتات، والشجر، والأمكنة، وغير ذلك من أسماء الموجودات، والصفات، والأشياء.

وتتحدّد العلاقاتُ بين الكلمات داخل المجموعة الدلاليةِ الواحدةِ بأمورٍ أهمُّها:

1 - علاقة الترادُفِ(18): الترادف هو: أنْ يدُّلَ لفظانِ أو أكثر على معنىً واحد، وهو ما يعبّرُ عنه في الإنكليزية ب Synonym (19). ويعني دلالة واحدة لألفاظ عدّة(20).

ويعد الترادف عند أنصار الحقول الدلالية من أهم العلاقات بين الألفاظ في المجموعة الواحدة. فالترادف عندهم من الناحية المعجمية يعني اتفاق شبه تام بين معنی الكلمتين المترادفتين.

2 - علاقة الاشتمال: تُعدُّ علاقة (الاشتمال) من أهم العلاقات في علم الدلالة التركيبي، ويختلف الاشتمال عن الترادف في أنّه تضمُّنٌ من طرفٍ واحدٍ. يكون فيه (أ) مشتملاً على (ب)، حين يكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي. مثل (الشجر) الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى هي (النبات). فالشجر متضمن لمعنى النبات، لاشتماله عليه. ومن الاشتال نوع أُطلق عليه اسم (الجزيئات المتداخلة)(21)، والمراد بذلك مجموعة الألفاظ التي كل منها مُضمَّن مثل: ثانية - دقيقة - ساعة - يوم - أسبوع - شهر - سنة -. فالثانية واقعة ضمن ما بعدها وهي: الدقيقة، والدقيقة واقعة ضمن ما بعدها أيضاً وهي الساعة، وهكذا.

3 - علاقة الجزء بالكل(22): وهي كعلاقة اليد بالجسم. والفرق بين هذه العلاقة وعلاقة الاشتمال أو التضمين أي اليد ليست نوعاً من الجسم، ولكنها جزء منه، بخلاف

ص: 286

الإنسان الذي هو من الحيوان وليس جزءًا منه ومثلها الثانية، فهي جزء من الدقيقة وليست نوعًا منها، إذ كلٌّ منهما متميز من الآخر.

المبحث الثاني: الحقول الدلالية في عهد الإمام (عليه السلام)

زخر عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر بألفاظ ارتبطت بالخلق والأخلاق ممَّا لا يُحصى؛ وذلك لكونه وثيقة أخلاقية تُخاطبُ الرَّاعي والرَّعيَّة معًا، وترسمُ طريقًا ناجحًا لإدارةِ الدَّولة على وفق أُسسٍ ومبادئ إسلاميَّة تؤثر في حياة الفرد والمجتمع. وقد عبَّر الإمام (عليه السلام) عن كثيرٍ من الألفاظ الخلقيَّة بعبارات وتراكيب، وهذا أسلوبٌ فريدٌ لا يملكُهُ إلّا من يملك ناصية البلاغة والبيان، كيف لا وكلامه دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقين. وسيكونُ تقسیم الحقول الدلاليَّة لألفاظ الأخلاق في عهد الإمام (عليه السلام) على قسمين: محمودة ومذمومة، يُمكن تفصيلها على النحو الآتي:

حقول الألفاظ المحمودة

ت - ألفاظ اللين - ألفاظ العدل - ألفاظ الصدق - ألفاظ الصبر - ألفاظ الصلة - ألفاظ الإعانة

1 - اللین - العدل - الصدق - الصبر - الصلة - الرِّفْد

2 - الرحمة - الإنصاف - الأمانة - كسر النفس - الإخوة - الرعاية

3 - العفو والصفح - الأوسط - الوفاء - ملك الهوى - القرابة - قضاء الحوائج

4 - العطف - السهم - الطهر - التحمل

5 - الإلف - الحق - لا تُخاف بائقته - قلة التبرم

ص: 287

6 - الرفق - قود البدن

7 - الرأفة - التقسيم

8 - الاحترام والمنزلة - عدم الإجحاف

9 - التواضع - البيع السمح

10 - المودة

أولًا: ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام):

تباينت ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) التي انتظمت في حقول دلاليَّة، وارتبطت دلاليًّا تحت لفظٍ عامٍّ يجمعها إلى ستة حقول، تمثلت بألفاظ: (اللين، العدل، الصدق، الصبر، الصلة، الإعانة)، وتفصيلُها على النَّحو الآتي:

أ - حقل الألفاظ المرتبطة باللين

تعددت الألفاظ المرتبطة بهذا الحقل؛ إذ وصلت إلى عشر ألفاظ، وكان أكثر الحقول ألفاظاً في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)، وسنتناولُ منه في التفصيل أكثر خمس ألفاظ استعمالًا في سياقات العهد على النَّحو الآتي:

1. الرَّحْمَة

الرَحْمَةُ في اللغةِ: الرِقَّةُ والتعطُّفُ. والمرحمةُ مثلهُ. وقد رَحِمْتُهُ وترَحَّمْتُ عليه. وتراحَمَ القوم: رَحِمَ بعضُهم بعضاً. ويقال: ما أقرَبَ رُحْمَ فلانٍ إذا كانَ ذا مَرْحَمةٍ وبرٍّ(23).

وفي عهد الإمام (عليه السلام) وردت لفظة (الرَّحمة) منسوبةً إلى الله تعالى في معظم النصوص، ومنها قولُهُ: ((ثُمَّ اِحْتَمِلِ اَلْخُرْقَ مِنْهُمْ وَاَلْعِيَّ وَنَحِّ عَنْهُمُ اَلضِّيقَ وَاَلْأَنَفَ يَبْسُطِ اَللُّهَ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ)). و(أكناف رحمته): أطرافها وجوانبها. ووردت على لسانه (عليه السلام) في نصٍّ واحدٍ، حيث قال: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَاَلْمَحَبَّةَ

ص: 288

لَهُمْ وَاَللُّطْفَ بِهِمْ))، روى الشيخ الصدوق خبرًا عن الإمام السجّاد (عليه السّلام) في الحقوق إلى أن قال: ((وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم))(24). فالرَّحمةُ من صفات البارئ (عزَّ وجل) مع جحود الإنسان وكثرة ذنوبه، فإذا ما أراد الإنسان (القائد) رحمة ربِّه، فعليه أن يكون رحيمًا مع رعيَّته.

2. اللطف

من الألفاظ المرتبطة باللين والرِّفق، «واللَّطَفُ: من طُرَفِ التُّحَف ما أَلطَفْت به أخاك ليَعْرِفَ به بِرَّك. وأنا لطيف بهذا الأمر، أي: رفيق بمُداراته. واللّطيف: الشّيء الذي لا يتجافي، من الكلام وغيره»(25). ومنه في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَاَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاَللُّطْفَ بِهِمْ))، فاللطف هو من المبادئ الإنسانية التي يجب أن يتحلَّى بها الحاكم في نظر الإمام (عليه السلام)، ومعناه الدقيق البرُّ وجميل الفعل، كما تقول: فلان يبرني ويلطفني، ويسمى الله تعالى لطیفًا؛ لأنه يواصل نعمه إلى عباده(26).

3. المَوَدَّة

(المَوَدَّةُ) مصدرُ الفعلِ (وَدَّ)، وكذلك (الوَدُّ)، ومعناه: الحبُّ، قال الخليلُ: «الوَدُّ مصدر وَدِدْتُ، وهو يَوَدُّ من الأمنِية ومن المَودّة، وَدَّ يَوَدُّ مَوَدَّةً، ومنهم من يجعله على فَعَلَ يفعَلُ. والوِداد والوَدادُ مصدر مثل المَوَدّة. وهذا وِدُّكَ ووَدیدُكَ کما تقول: حِبُّكَ وحَبيبُكَ»(27). والمودة قد تكون بمعنى التمني؛ لذلك يختلفُ معنى المودَّة عن المحبَّة من هذا اللحاظ، فيُمكنك أن تقول: لو قدم زيد، بمعنى: أتمنى قدومه، ولا يجوز: أحب لو قدم زيد(28).

ومن ألفاظ المودَّة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ

ص: 289

اَلْوُلاَةِ اِسْتِقَامَةُ اَلْعَدْلِ فِي اَلْبِلاَدِ وَظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ))؛ إذ تمثَّل بقوله: (وَظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ)، وقوله: (وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ)، فإظهارُ المودَّةِ للرَّعيَّةِ، فضلًا عن استقامةِ العدلِ هما من أفضل الطرق الموصِلة إلى قُرَّةِ عينِ الوالي واستقرارِ حكمِهِ. وبسلامةِ الصدور يُمكنُ ضمان هذه المودَّة.

4. العفو والصفح

ذهب بعضُ المفسرين واللغويين أنَّهما بمعنى واحد، بدلالة قوله تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» [سورة النور / من الآية 22]، قالوا: العفو والصفح بمعنی، فكررهما تأكيدا. ويقال العفو في الأفعال، والصفح في جنایات القلوب، وقيل: الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. وقيل: العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك لومه(29).

وقال الإمامُ عليّ (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: ((فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ

وَصَفْحِكَ مِثْلِ اَلَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَ أَنْ يُعْطِيَكَ اَللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ)). ف(العفو والصفح) من الألفاظ والأفعال التي تُرجى من الآخرين، وفي الوقت نفسه تُعطى لهم. فاقترن حصولها ونيلها بشرط منحها للآخرين.

5. الرِّفْق

قال الخليل: «الرفق: لين الجانب ولطافة الفعل وصاحبه رفيقٌ، وتقول: ارفُقْ وتَرَفَّقْ. ورفقاً معناه ارفُقْ رِفقاً»(30). وزاد ابنُ فارس معاني جديدة محمودةً لهذا الأصل بقولِهِ: «الرَّاءُ وَالْفَاءُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَی مُوَافَقَةٍ وَمُقَارَبَةٍ بِلَا عُنْفٍ. فَالرِّفْقُ: خِلَفُ الْعُنْفِ؛ يُقَالُ رَفَقْتُ أَرْفُقُ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ). هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ يُشْتَقُّ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَی رَاحَةٍ وَمُوَافَقَةٍ»(31).

ص: 290

وورد لفظُ (الرِّفق) في عهد الإمام (عليه السلام) في قولِهِ: ((وَإِنْ ظَنَّتِ اَلرَّعِيَّةُ بِكَ

حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاِعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ)). فقولُهُ: (رفقًا برعيَّتك) تحقَّقَ من أفعالٍ أُخَر، ولم يتحقق من ذاته (الرِّفق)، فإنَّ إظهارك الغدر هو ترويحٌ للنفس ورفقٌ بالرَّعيَّة.

ب - حقل الألفاظ المرتبطة بالعدل:

جاء هذا الحقل في المرتبة الثانية من حيث عدد الألفاظ المحمودة في عهد الإمام (عليه السلام)، وسنتناول خمسًا منها على النَّحو الآتي:

1. العدل

يُعدُّ الإمام علي (عليه السلام) صوت العدالة الإنسانيَّة؛ لذا لا غرابةَ أن تتكرَّر مرادفات هذه اللفظة بكثرة في عهده (عليه السلام)، ومنها لفظةُ (العدل)، التي تعني عند أهلِ اللغةِ: «المَرْضيُّ من الناسِ قولُهُ وحُکْمُهُ. هذا عَدْلٌ، وهم عَدْلٌ، وهم عَدْلٌ، فإذا قلت: فهُمْ عدولٌ على العدّة قلت: هما عدلان، وهو عدلٌ بيّن العدل. والعُدُولَةُ والعَدْلُ: الحكْمُ بالحقّ»(33). والعدل والعدالة من الألفاظ التي أكَّدها الإمام في كلامِهِ وشدَّدَ القولَ فيها، ومنها قولُهُ: ((وَلْيَكُنِ اَلْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْبَائِعِ وَاَلْمُبْتَاعِ))، ف(العدل) موازينه كثيرة، وفي البيع يرتبطُ بالميزان والكيل فضلًا عن السِّعر.

2. الإنصاف

الإنصافُ في اللغةِ مأخوذٌ من (النِّصْف)، ومنه «النَّصَفَةُ: اسْمُ الإِنصافِ، وتفسيرُه [أن تَعطِيَه من نفسِكَ النِّصْف]، أي تُعطي من نَفْسِك ما يَسْتَحِقُّ من الحَقِّ كما تأخُذُه. وانتَصَفتُ منه: أخَذْتُ حَقّي کَملاً حتى صِرتُ وهو على النِّصْفِ سَواء. والنَّصيفُ:

ص: 291

النِّصْفُ»(33). فاللفظةُ ترتبطُ بالعدلِ وإحقاق الحقِّ لطرفين، ومن سياقاتها في عهدِ الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ اَلرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی اَلْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ)). إنَّ تحققَ الإنصافِ لهؤلاء الذين خصَّهم الإمام (عليه السلام) لا يعني ترك الإنصاف مع غيرهم، ولكنَّ حاجة هؤلاء إليه أكثر من غيرهم.

3. الأوسط

أشار عددٌ من اللغويين إلى أنَّ من معاني (الأوسط) هو العدل. فَوَسَطٌ الشيءِ وأَوْسَطُه: أَعْدَلُه، وَرَجُلٌ وَسَطٌ ووَسِيطٌ: حسنٌ مِنْ ذَلِكَ(34). وهو معنی قریب ممَّا فُسِّرَ به قولُهُ تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا». [سورة البقرة / من الآية 143] قال الزَّجاج: «وفي (أُمَّةً وَسَطًا) قولان، قال بعضهم وسطا: عدلًا، وقال بعضهم: أخياراً، واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير والخير عدل»(35).

ومنه في عهد الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي

اَلْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي اَلْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا اَلرَّعِيَّةِ)). فقد جاء لفظ (الأوسط) في قولِهِ لأحبِّ الأمور: (أوسطها في الحقِّ) وربما يكوثنُ اقترابُ لفظ (الأوسط) من العدل جاء بسبب شیوع قاعدة أنَّ أَوْسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُه، أو من وصف العرب للفَاضِل النسب بأنه: من أوسط قومه.

4. السَّهْمُ

من الألفاظ التي تدلُّ على العدلِ، ومن معانيه في اللغة: النصيب(36). قال ابنُ فارس: «السِّینُ وَالْهَاء وَالمِيمُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَی تَغَيُّرٍ فِي لَوْنٍ، وَالْخَرُ عَلَی حَظٍّ وَنَصِيبٍ وَشَيْءٍ مِنْ أَشْيَاءَ. فَالسُّهْمَةُ: النَّصِيبُ. وَيُقَالُ أَسْهَمَ الرَّجُلَنِ، إِذَا اقْتَرَعَا، وَذَلِكَ مِنَ السُّهْمَةِ وَالنَّصِيبِ، أَنْ يَفُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ بِمَا يُصِيبُهُ»(37). وقد ورد لفظُ (السَّهم) بمعنى النصيب في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) حيث قال: ((وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اَللهَّ لَهُ

ص: 292

سَهْمَهُ وَوَضَعَ عَلَ حَدِّهِ)). ف(سهمُهُ) في النَّصِّ (نصيبه)، وقطعًا لا يخلو أن يكون هذا النصيبُ عادلًا؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد سمَّى له ذلك.

5. قَوَد البَدَن

من الألفاظ التي تحملُ معنى العدل کما سنرى عند شُرَّاح نهج البلاغة، وقد ورد معنى الجزء الأول من (قود البدن) في معاجم اللغة؛ إذ قال الخليل: «والقَوَدُ: القتل بالقتيل، تقول: أَقَدْتُه به. واستَقَدْت الحاكم وأقَدْتُه: انتقمت منه بمثل ما أتی»(38). وفيه معنى القصاص وتحقيق العدالة للمقتول. وهذا ما كان الجوهري فيه أكثر وضوحًا بقولِهِ: «والقَوَدُ: القصاصُ، وأقَدْتُ القاتلَ بالقتيل، أي قتلته به. يقال: أقادَهُ السلطانُ من أخيه. واسْتَقَدْتُ الحاكمَ، أي سألته أن يَقيدَ القاتلَ بالقتيل»(39).

وقد ورد هذا اللفظ في عهد الإمام (عليه السلام)؛ إذ قال: ((وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ

وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ اَلْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ اَلْبَدَنِ)). ذكرنا آنفًا معنى (القَوَد)، وهو القِصاصُ إجمالًا، ولكن إضافته إلى (البدن) في قولِ الإمام (عليه السَّلام) تعني العقوبة الجسدية أي: القتل.

ت - حقل الألفاظ المرتبطة بالصِّدق

سنتناول من مجموع هذا الحقل ثلاث ألفاظ فقط هي الأكثرُ دورانًا في عهد الإمامِ (عليه السلام) على النَّحو الآتي:

1. الصِّدق

الصِّدْقُ في اللغةِ: «نَقيض الكذب. ويقال للرجل الجواد والفرس الجواد: إنه لذو مَصْدَقٍ، أي صادِقُ الحملة. وصَدَقْتَه: قلت له صِدْقاً، وكذلك من الوعيد إذا أوقعتهم قلت: صَدَقْتُهم. وهذا رجل صِدقٍ، مضاف، بمعنی نعم الرجل هو، وامرأةِ صْدقٍ،

ص: 293

وقوم صِدْقٍ»(40). وجاء في كتاب (التعریفات) أنَّ الصِّدقَ هو «مطابقة الحكم للواقع، وفي اصطلاح أهل الحقيقة: قول الحق في مواطن الهلاك، وقيل: أن تصدق في موضع لا ينجيك منه إلا الكذب»(41).

ومنه قولُ الإمام (عليه السلام): ((تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَاِبْعَثِ اَلْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ اَلصِّدْقِ

وَاَلْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ)). (الصِّدقُ) من الألفاظ الخُلقيَّة المحمودة، وأهلُهُ جديرون بالثقة؛ لذا أوجب الإمام (عليه السَّلام) التعامل معهم حتى لو كانوا عيونًا.

2. الوفاء

جاء في (تهذيب اللغة): «ورَجُلٌل وَفِيٌّ: ذُو وَفاء. قَالَ أَبُو بكر: قَوْلهم: لَزِم الوَفاء: معنى (الْوَفَاء) فِي اللُّغَة: الخُلق الشَّريف العالي الرَّفيع من قَوْلهم: وَفی الشَّعَرُ فَهُوَ وافٍ، إِذا زَاد. قَالَ ذَلِك أَبُو العبّاس. قَالَ: وَوَفَيْت لَهُ بالعهد أَفِي، ووافَيْت أُوافِي»(47). فهو من الصفات الخُلُقيَّة المحمودة، وقد وردت في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) ألفاظ متعددة تدلُّ على الوفاء، منها قولُهُ: ((فَأَعْطِ اَللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَی اَللِّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ وَلاَ مَنْقُوصٍ))، ويتقيَّدُ معنى الوفاء في النَّصِّ عند تحديد الموفي له. وفي النَّصِّ المتقدِّم يوصي الإمام (عليه السلام) الحاكم بالوفاء للهِ تعالى في العبادات البدنيَّة والرُّوحيَّة من غيرِ نقصٍ أو ثلم.

ومن الوفاء ما قد يكونُ خاصًّا بالعهود مع النَّاس، قال (عليه السلام): ((لَيْسَ مِنْ

فَرَائِضِ اَللِّهَ شَيْءٌ اَلنَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اِجْتِمَعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ

اَلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ)). فالوفاء بالعهد هو أعلى صور الوفاء؛ لذا یُعرِّفُ الفقهاء الوفاء إنَّه: ملازمةُ طريق المساواة ومحافظة العهود وحفظ مراسم المحبة والمخالطة سراً وعلانية حضوراً و غيبة(43).

ص: 294

3. الأمانة

قال ابنُ فارس: «الْهَمْزَةُ وَالْمِيمُ وَالنُّونُ أَصْلَانِ مُتَقَارِبَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَمَانَةُ الَّتِي هِيَ

ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَمَعْنَاهَا سُكُونُ الْقَلْبِ، وَالْآخَرُ التَّصْدِيقُ. وَالْمَعْنَيَانِ كَمَ قُلْنَا مُتَدَانِيَانِ. قَالَ

الْخَلِيلُ: الْأَمَنَةُ مِنَ الْأَمْنِ. وَالْأَمَانُ إِعْطَاءُ الْأَمَنَةِ. وَالْأَمَانَةُ ضِدُّ الْخِيَانَةِ. يُقَالُ: أَمِنْتُ

الرَّجُلَ أَمْنًا وَأَمَنَةً وَأَمَانًا، وَآمَنَنِي يُؤْمِنُنِي إِيمَانًا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ أُمَّانٌ: إِذَا كَانَ

أَمِينًا»(44). ومن الحديث النَّبويّ الشريف: ((الْأَمَانَةُ غِنًى))(45) أَيْ: هي سَبَبُ الغِنَى. ومَعْنَاهُ أَنَّ الرجُل إِذَا عُرِفَ بِهَا كَثُر مُعاملُوه فَصَارَ ذَلِكَ سبَباً لِغِنَاهُ(46).

ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً

أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَاِرْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ)). فالحفاظ على العهد يكونُ وفاءً، والحفاظُ على الذِّمَّةِ تكونُ أمانةً. فما أجملَ هذا التخريج الدقيق لإمامِ الفصاحةِ والبيان (علیه السلام).

ث - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصَّبر

1. الصبر

الصَّبْرُ في اللغة: نقيض الجَزَع، وهو حَبسُ النَّفْس عن الجزع. وقد صَبَر فلانٌ عند المصيبة يَصْبِرُ صَبْراً. وصَبَرْتُهُ أنا: حبسْته(47). وجاء في عهد الإمام (عليه السلام): ((فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو اِنْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَه)). فالصبرُ خيرٌ في معظمِ أحواله؛ لأنَّه يقود إلى نتائج صحيحة لا تقبل الخطأ. وقد جاء معنى الصبر في اللغة موافقا تمامًا لكلامِ الإمام (عليه السلام).

ص: 295

2. قلَّة التبرُّم

من الألفاظ الدالَّة على الصبر؛ والصبرُ نقيضُ الجزع كما تقدَّم؛ لذا التبرُّم هو من صور الجزع، قال الخليل: «وبَرِمتُ بكذا، أي: ضَجِرْتُ منه بَرَماً، ومنه: التَّبَرُّم، وأبر مني فلانٌ إبراما [أي: أَضْجَرني]»(48). ومنه في عهد الإمامِ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ اَلْخَصْمِ وَأَصْبَرَهُمْ عَلَ تَكَشُّفِ اَلْأُمُورِ))، فلفظ (الأقلّ تبرُّمًا) يدلُّ على الأقلِّ ضجرًا وجزعًا، بمعنى أكثرهم صبرًا وتحمُّلًا في مراجعة الخصم وتكشُّف الأمور.

3. كسرالنفس

کسر النَّفس من الألفاظ التي تدلُّ على حبسِ النَّفسِ، أي: الصبر، قال الإمامُ (عليه السلام): ((فَإِنَّهُ جَلَّ اِسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ نَفْسَهُ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ)). وكسرُ النفس لا يكونُ إلّا بالصبرِ. وهو تعبيرٌ مرکَّبٌ بالإضافة للدلالة على (الصبر).

ج - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصلة:

1. الصلة

جاء في مادة (وصل) عند أهل اللغة: «وصلتُ الشيءَ وصلًا وصلًة. ووَصَلَ إليه وُصُولاً، أي بلغ... والوَصْلُ: ضدُّ الهِجرانِ... ويقال: هذا وَصْلُ هذا، أي مثله. وبينهما وُصْلَةٌ، أي اتِّصالٌ وذريعة. وكل شيء اتصل بشيء فما بينهما وُصْلَةٌ، والجمع وُصَلٌ»(49). واشتقتِ الصِّلةُ من الوَصْل، ومنها صلةُ الرَّحِم، التي تكرَّرت كثيرًا في الأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة كما يقول ابن الأثير (ت 606 ه): «قَدْ تَكَرَّرَ فِي الَحْدِيثِ ذِكر صِلَةِ الرَّحِم. وَهِيَ

كِنَايَةٌ عَنِ الإحْسان إِلَی الأقْرَبينَ، مِنْ ذَوِي النَّسَب والأصْهار، والتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، والرِّفْقِ

ص: 296

بِهِمْ، والرِّعايةِ لأحْوالِم. وَكَذَلِكَ إنْ بَعُدُوا أَوْ أسَاءوا. وَقَطْعُ الرِّحِم ضِد ذَلِكَ كُلِّه.

يُقال: وَصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُهَا وَصْلً وصِلَةً، وَالْهَاءُ فِيهَا عِوَض مِنَ الْوَاوِ المَحْذوفة، فَكَأَنَّهُ بالإحْسان إِلَيْهِمْ قَدْ وَصَلَ مَا بَينه وبَينَهم مِنْ عَلاقة القَرابة والصِّهْر»(50). فالصِّلةُ قد تكونُ بمعنى الاتصال المباشر، وقد تكونُ بمعنی بلوغ الشيء، وقد تكون بمعنی صلة الرَّحم وهو الإحسانُ إلى الأقربين والرِّفقُ بهم.

ومن ألفاظ الصِّلة في عهد الإمام (عليه السَّلام) وصيَّتُهُ بالضعفاء من المجتمع: ((وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ اَلرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ وَاَلتَّوَاضُعِ)). فقولُهُ: (مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمُ) بمعنى لا يستطيعُ الوصولَ إليك، أي: لا يبلغُكَ.

وقولُهُ (عليه السَّلام): ((فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَعْدِيدِ

مَا أَبْلَ ذَوُو اَلْبَلاَءِ مِنْهُمْ)). فقد ورد ما يرتبطُ بالصلة في قولِهِ: (وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ)، ويعني لا تتردَّدَ في تقديم الثَّناء الحسن إليهم.

2. الإخوَّة

من المعاني الأخلاقيَّة السامية، والإخوَّةُ لا تقتصرُ في النَّسب، قال الجوهري: «قَالُوا: (أَخَوَانِ) وهم (الإخْوَةُ) - إِذا كَانُوا لأبٍ - وهمُ (الإخْوَانُ) - إِذا لم يَكُونُوا لأبٍ. قلتُ:

هَذَا خطأ - الإخْوَةُ و(الإخْوَانُ) يكونونَ إخْوَةً لأبٍ، وإِخْوَةً للصَّفَاءِ... يُقَال للأصدقاءِ وَغير الأصدقاءِ: إخْوَةٌ وإخْوَانٌ. قَالَ الله جلّ وعزّ: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»[الحجرات: 10] ولم يعن التسب»(51). وجاء في لسان العرب: «وَالاِسْمُ الأُخُوَّة، تَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَهُ أُخُوَّة وإِخاءٌ، وَتَقُولُ: آخَيْتُه عَلَی مِثَالِ فاعَلْته، قَالَ: ولغة طيِء وَاخَيْته. وَتَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخَائِي بِوَزْنِ أَفْعالي أَي مِنْ إِخواني. وَمَا كنتَ أَخاً وَلَقَدْ تَأَخَّيْت وآخَيْت وأَخَوْت تَأْخُو أُخُوَّة وتَآخَيا، عَلَی تفاعَلا، وتأَخَّيْت أَخاً أَي اتَّخَذْت أَخاً»(52).

ص: 297

ومن ألفاظ الإخوَّة في عهد الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً

ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ)).

فقد جاء لفظ الصلة في قوله: (أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ)، ليشير إلى معنًى إنسانيّ لم تعرف البشريَّة مثيله، ويُقدِّم المصلحة الإنسانيَّة وحقّ المواطنة للجميع، ولا سیَّما حقُّ الأقليّات الدينيَّة والعرقيَّة التي تعيش في ظل الحكم الإسلامي في عهده (عليه السلام).

3. القرابة

تُشتقُّ (القرابةُ) من مادَّةِ (قرب)، جاء في معجم (العين): «القريبُ ذو القرابة، ويجمع أقارب، وقريبة جمعها قرائب، للنساء. والقريبُ نقيض البعيد يكون تحويلاً يستوي فيه الذكر والأنثى، والفرد والجميع، هو قريب، وهي قريب، وهم قريب، وهن قریب»(53). وقال ابنُ فارس في أصلِ استعمال هذه المادة: «الْقَافُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْبُعدِ. يُقَالُ قَرُبَ يَقْرُبُ قُرْبًا. وَفُلَنٌ ذُو قَرَابَتِي، وَهُوَ مَنْ يَقْرُبُ مِنْكَ رَحِمًا. وَفُلَانٌ قَرِيبِي، وَذُو قَرَابَتِي. وَالْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَى: الْقَرَابَةُ»(54). وروي أنَّه لما نزل قوله تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» [سورة الشورى / من الآية 123] قيل: یا رسول الله، مَنْ قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: (علي وفاطمة وابناهما)، ويدل عليه ما روي عن الإمام علي (عليه السلام): شكوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسد الناس لي. فقال: (أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين (عليهم السلام)(55).

ومن سياقات هذه اللفظة في عهد الإمام (عليه السلام) قوله: «وَأَلْزِمِ اَلْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ

مِنَ اَلْقَرِيبِ وَاَلْبَعِيدِ وَكُنْ فِ ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَوَاصِّكَ». ف(قرابتك) هم أهلُ بيتك وخاصَّتك.

ص: 298

ح - الألفاظ الأخلاقية المرتبطة بالإعانة

1. الرِّفد والإعانة

(الرِّفْدُ) لفظةٌ تدلُّ على الإعانة بكلِّ أنواعها الماديَّة والمعنويَّة، قال الخليل: «الرِّفدُ المَعُونةُ بالعَطاء، وسَقْي اللَّبَنِ، والقول، وكل شيء. ورَفَدته بكذا، ورفَدَني أي أعانني بلسانه، وترافدوا على فلانٍ بألسنتهم إذا تناصروا»(56). وجاء في عهد الإمام (عليه السلام): ((اَلطَّبَقَةُ اَلسُّفْلَ مِنْ أَهْلِ اَلْحاجَةِ وَاَلْمسْكَنَةِ اَلَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ)). فتكرَّرت لفظتان تدلّان على الإعانة في النَّصِّ المتقدم هما: (الرِّفد، والمعونة)، والرِّفدُ ورد في القرآن الكريم بمعنى العطاء في قوله تعالى: «وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)» [سورة هود / الآية 99]. ومعناه كما ذكر الزمخشريّ: «بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفدٌ للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى»(57).

2. الرِّعاية

تكادُ تكون معظم مشتقات الفعل (رعی) تشتملُ معنى تشتملُ معنى الحِفْظِ والرِّفْقِ وتَخْفِيفِ

الكُلَفِ والأَثْقالِ عن المَرْعي، ومنها لفظةُ (المُراعاة) التي تعني المحافَظة والإِبْقاء عَلَی الشيءِ. والإِرْعَاء: هو الإِبْقاء، والرَّعِيَّةُ: كُلُّ مَنْ شَمِلَه حِفْظُ الرَّاعِي ونَظَرهُ. والرَّاعِي هُنَا: عَيْرُ الْقَوْمِ عَلَی العدوِّ، مِنَ الرِّعايَةِ والحِفْظِ(58). ومنه قولُ الإمام (عليه السلام): ((فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ اَلَّذِي لِلْأَدْنَى وَكُلٌّ قَدِ اِسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ)).

ص: 299

ثانيًا: ألفاظ الأخلاق المذمومة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)

قُسِّمت الألفاظ الواردة في هذا القسم إلى ستة حقول هي: (الخديعة، التعالي، الظلم، الخصومة، التحقير، البخل) على التوالي. وقد تصدَّرت ألفاظ الخديعة حقول ألفاظ الأخلاق المذمومة؛ إذ وصلت إلى أربع عشرة لفظة. وقد كان مجموع ألفاظ هذا القسم أكثر من نظيره الألفاظ المحمودة)؛ ولعلَّ السبب في ذلك هو أنَّ الطابع العام العهد الإمام (عليه السلام) هو التحذيرُ والتنبيهُ من مغبة الوقوع في المذمومِ من الأفعال والأخلاق. ويمكنُ ملاحظة حجم تفاوت هذه الألفاظ في الجدول أدناه، وبعد ذلك سنتناولها تفصيلًا.

ت - ألفاظ الخديعة - ألفاظ التعالي - ألفاظ الظلم - ألفاظ الخصومة - ألفاظ التحقير - ألفاظ البخل

1 - الغش - التبجح - الظلم - الخصومة - التحقير - البخل

2 - الخيانة - الغرور - الجور - الحقد - التعيير - الشح

3 - الختل - حميَّة الأنف - الحيف - الشنآن - السخط - الحرص

4 - خيس العهد - المَنْ - قلة الإنصاف - الكره - المذلة

5 - الغدر - الإعجاب - سطوة اليد - التمحك - الضيق

6 - التغافل - نخوة - سورة الحد - العنف

7 - التصنُّع - تصعُّر الخد - إفراط السوط - الغائلة

8 - الإدغال - البطر - سفك الدماء - الاغتيال

9 - الكيد - الإغراء - قتل العمد

10 - التزيّد - التمادي - الاستئثار

11 - ثلم الأمانة - الزهو

12 - التشبه - الإطراء

13 - الخداع

14 - المدالسة

ص: 300

خ - حقول الألفاظ المتعلقة بالخديعة

هي أكثر ألفاظ الحقول تكرارًا في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)، ولسعة هذه الألفاظ سنقتصر في تناول عددٍ منها على النَّحو الآتي:

1. الغش

الغش يرتبطُ بالخديعةِ وعدم النصح، قال الزَّبيديّ: «غشَّهُ يغشُّه غِشًّا: لم يمحضه النصح، وَأظْهر لَهُ خلاف مَا أضمره، وَهُوَ بِعَيْنِه عدم الإمحاض فِي النَّصِيحَة»(59). ومنه في قولِ الإمام (عليه السلام): ((وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ اَلسَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)).

2. الخيانة

مشتقَّةٌ من الجذر (خون)، جاء في الصحاح: «خانَهُ في كذا يَونُه خَوْناً وخِيانَةً ومَخانَةً، واخْتانَهُ. قال الله تعالى: «تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ» [سورة البقرة / من الآية 187]، أي: يخونُ بعضُكم بعضاً. ورجل خائِنٌ وخائِنَةٌ أيضاً، والهاء للمبالغة مثل علاّمة ونسّابة»(60). وهو من الأفعال الخلقيَّة المذمومة؛ لذا ورد النَّهيُ عنه فِي الحَدِيث النَّبويّ الشريف في قوله (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم): ((المؤْمِنُ يُطْبَعُ عَلَ كُلِّ خُلُقٍ.. إلاَّ الخِيَانَةَ والكَذِبَ))(61).

ومنه قولُ الإمام (عليه السلام): ((فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَ خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا

عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً)). الخيانةُ من الأفعال الخلقية المذمومة التي حذَّر منها الإمام (عليه السلام).

3. الخَتْل:

من ألفاظ المكر والخديعة، والخَتْل: تخادع عن غفلة(62). ولا يشاركُ هذا اللفظ معنى آخر غير معنى الخديعة، قال ابنِ فارس: «الْخَاءُ وَالتَّاءُ وَاللَّمُ أُصَيْلٌ فِيهِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ،

وَهِيَ الْخَتْلُ، قَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْخَدْعُ. وَكَانَ الْخَلِيلُ يَقُولُ: تَخَاتَلَ عَنْ غَفْلَةٍ»(63). وقد ذكره

ص: 301

الإمام (عليه السلام) في قولِهِ: ((فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَ اَللِّهَ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ)). ففي النَّصِّ المتقدم وردت ثلاث ألفاظ ألفاظ الخيانة، هي: (الغدر، وخسيس العهد، والخَتْل).

4. التصنُّع

من الألفاظ التي ترتبطُ بالخداع، وإظهار خلاف الواقع، يقول الأزهريّ: «وَفرس

مُصَانِع، وَهُوَ الَّذِي لَا يعطيك جَمِيع مَا عِنْده من السّير، لَهُ صون يصونه فَهُوَ يصانعك

ببذله سَيْرَه... وَقَالَ اللَّيْث: التصنُّع: تكلّف حُسْن السَّمْت وإظهاره والتزيُّن بِهِ وَالْبَاطِن

مَدْخُول»(64). ومن سياقات استعماله في عهد الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((لاَ يَكُنِ

اِخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَ فِرَاسَتِكَ وَاِسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ اَلرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ

يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ حَدِيثِهِمْ)). فالإمام يُحذِّرُ من اختيار الكُتَّاب اعتمادًا على الفراسة والشعور بالاطمئنان، فالتَّصنُّع وإخفاء الحقيقة بابٌ واسعٌ يمكنُ أن و يدخلَ منه ذوو الأخلاق المذمومة.

د - حقل الألفاظ المرتبطة بالتعالي

1. التَّبَجُّح

دو لله التبجح في اللغة يعني العظمة والافتخار، يُقَالُ فُلَانٌ يَتَبَجَّحُ بِكَذَا أَيْ يتَعظَّم وَيَفْتَخِرُ.

وبَجَّحَني فَبَجَحْتُ أَي فَرَّحَني فَفرِحْت، وَقِيلَ: عَظَّمني فعَظُمَتْ نَفْسِ عِنْدِي. وَرَجُلٌ

باجٍحٌ: عَظِيمٌ مِنْ قومٍ بُجَّحٍ وبُجْحٍ. وتَبَجَّحَ بِهِ: فَخَرَ. وَفُلَنٌ يَتَبَجَّحُ عَلَيْنَا ويَتَمَجَّحُ إِذا

كَانَ يَهْذي بِهِ إِعجاباً، وَكَذَلِكَ إِذا تَمَزَّحَ بِهِ. وفُلَنٌ يَتَبَجَّحُ ويَتَمَجَّح أَي يَفْتَخِرُ وَيُبَاهِي

بشيءٍ مَا، وَقِيلَ: يَتَعَظَّمُ(65). ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی

عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ولاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مِنْهَا مَنْدُوحَةً(65). ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ولاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مِنْهَا مَنْدُوحَةً)). فالتبجح

ص: 302

بالعقوبة من الأفعال غير المحمودة؛ لأنَّها تُشعرُ بالغرور والكبرياء.

2. حميَّة الأنف

من الألفاظ المركبة التي وظَّفها الإمام (عليه السلام) خيرَ توظيف في قولِهِ: ((اِمْلِكْ

حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَسَوْرَةَ حَدِّكَ وَسَطْوَةَ يَدِكَ وَغَرْبَ لِسَانِكَ واِحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ

اَلْبَادِرَةِ وَتَأْخِيرِ اَلسَّطْوَةِ)). وحميَّةُ الأنف كما جاء في معجم العين: «وحَمِيتُ من هذا الشّيء أَحْمَى منه حَمِيَّةً، أي: أَنِفْتُ أَنَفاً وغضباً. ومشى في حَمِيَّتِهِ أي: في حَمْلَتِهِ. وإنّه لَرجلٌ حَمِيٌّ: لا يَحْتمِلُ الضَّيْمَ، ومنه يُقال: حَمِيّ الأَنْفِ. قال:

متى تجمعِ القلبَ الذكيَّ وصارماً *** وأنفاً حَمِيّاً تَجتنْبكَ المظالم(66)

فهي لفظةٌ تدلُّ على التعالي والغرور بغضب، وقولُهُ: (املك حميَّة أنفك)، أي: لا تجعل التعالي المشوب بالغضب متحكِّمًا بقراراتك وأحكامك.

1. النَّخوة

لفظةٌ تدلُّ على الزَّهو والعظمة، يُقَال: فلانٌ يتشاوَسُ فِي نظره، إذا نظَرَ نظَرَ ذِي نَخْوَةٍ وكِبْر(67). وقال الزمخشريّ: «ونخي فلان، وهو منخو: مزهو. وانتخى من كذا: استنكف منه»(68). ومن سياقات استعمالها في عهد الإمام (عليه السلام): ((فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَ أَوْلِيَاءِ اَلْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)). ف-(نخوةُ السلطان) زهوه وعظمته.

2. تصعُّرالخد

من الألفاظ القرآنيَّة التي تدلُّ على التعالي والكبر، قال الخليل: «والتَّصعير إمالة الخدّ النظر إلى الناس تهاوناً من كِبْر وعظمة»(69). ومن استعماله في القرآن الكريم قولُهُ تعالى: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» [سورة لقمان / من الآية 18]. والصعر في أصل استعماله داءٌ يُصيبُ البعير يلوى منه عنقه. ثمَّ استعمل للدلالة على الكبر، ومعناه في

ص: 303

النّص القرآني: أقبل على الناس بوجهك تواضعًا، ولا تولّهم شقَّ وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون(70).

ومنه في عهد الإمام (علیه السلام) قولُهُ: ((فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ

لَهُمْ)) فالإمام (علیه السلام) ينهى عَنِ احْتِقَارِ النَّاسَ وَعَنِ التَّفَخُّرِ عَلَيْهِمْ، باقتباسٍ قرآنيٍّ يدلُّ على عمق فصاحته، ومعرفته بالقرآن الكريم.

ذ - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالظلم

1. الظلم

ذكرَ الإمامُ (عليه السلام) كثيرًا من مظاهر الظلم ووجوهه في عهده إلى مالك الأشتر؛ وذلك لأنَّه قد تضمَّن مفاهيم عدليَّة كثيرة جمعت بين النقيضين العدل والظلم، والظلمُ مشتق من ظَلَمَهُ یَظْلِمُهُ ظُلْماً ومَظْلِمَةً. وأصله وضع الشيء في غير موضعه(71). ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَأَنْصِفِ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إلِا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اَلله كَانَ اَلله خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)). الظالم خصمه الله سبحانه وتعالى قبل أن يكون المظلوم هذا ما يراه الإمام (عليه السلام) بتكراره لفظة (الظلم) في موضعين.

وقد يكون التعبير عن لفظة (الظلم) بالظلامة أو المظلمة كما جاء في قولِهِ: ((فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ اَلنَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ اَلنَّاسِ إِلَيْكَ مَا مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِ مُعَامَلَةٍ)). والمظلمةُ هي مَا تَطْلُبُهُ مِنْ مَظْلَمَتِكَ عِنْدَ الظَّالِمِ.

ص: 304

2. الجور

كان من من ألفاظ الظلم الصريحة، وهو: «نقيض العدل. وقومٌ جارةٌ وجَورَة، أي: ظَلَمَة»(72). وهناك فرقٌ بين الجور والظلم أشار إليه بالتفصيل أبو هلال العسكريّ قائلًا: «أن الجور خلاف الاستقامة في الحكم، وفي السيرة السلطانية تقول جار الحاكم في حكمه والسلطان في سيرته إذا فارق الاستقامة في ذلك، والظلم ضرر لا يستحق ولا يعقب عوضا سواء سلطان أو حاكم أو غيرهما ألا ترى أن خيانة الدانق والدرهم تسمى ظلما ولا تسمى جورا فإن أخذ ذلك على وجه القهر أو الميل سمي جورا وهذا واضح، وأصل الظلم نقصان الحق، والجور العدول عن الحق من قولنا جار عن الطريق إذا عدل عنه وخلف بين النقيضين فقيل في نقيض الظلم الانصاف وهو إعطاء الحق على التمام، وفي نقیض الجور العدل وهو العدول بالفعل إلى الحق»(73).

ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً

اِخْتِبَاراً وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً فَإِنَّهُمَ جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَاَلْخِيَانَةِ)). من شعب الجور: من نواحي الظلم؛ وذلك إن كان اختيار العُمَّال مُحاباةً.

3. الحَيْف

الحَيْفُ مأخوذٌ من الفعل: حاف یَحیِفُ حَيْفاً، ومعناه: المَيْلُ في الحُكْم(74). وذكر الخليل في حديثه عن مادة (جنف) أنَّ الحَيفَ من الحاكِم خاصَّةً(75)، وهذا ما خطَّأه الأزهريّ في قوله: «قلت: أمَّا قَوْله الحَيْفُ من الْحَاكِم خاصَّة، فَهُوَ خطأ، والحَيْفُ يكون مِن كل مَنْ حاف، أَي جارَ»(76). ولأنَّه قد ارتبط بالظلم، فلا فرق في أن يكون مختصًّا بالحاكم أو و و غيره.

و ومنه في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَإِنْ ظَنَّتِ اَلرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ

لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاِعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ)). أي: إن اعتقدوا بظلمك لهم في مسألةٍ ما، فعليك بإظهار العُذر.

ص: 305

ر - حقل الألفاظ المتعلقة بالخصومة

1. الخصومة

الخصوم: جمعُ خصم، ويقع الخصم للواحد المذكر والمؤنث، والاثنين والجميع. وقد ارتبط بالعداوة والبغضاء، قال الخليل: «الخَصْم: واحد وجميعٌ، قال الله عز وجل: «وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ» [سورة ص / آية 21] فجعله جمعاً؛ لأنه بالمصدر. وخَصيمُك: الذي يُخاصِمكَ، وجمعه: خُصَماء. والخُصومةُ: الاسم من التَّخاصُم والاختصام. يقال: اختصم القوم وتخاصموا، وخاصم فلان فلاناً، مُخَاصَمَةً وخِصاماً»(77). ومنه قولُهُ (عليه السلام): ((ثُمَّ اِخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اَلْأُمُورُ وَلاَ تُمَحِّكُهُ اَلْخُصُومُ)). وتُمحِّكه الخصوم: تُلجْلجه، والمَحْك: اللَّجاج، وقولُ الإمام (عليه السلام) المذكور آنفًا ممَّا ذكره اللغويون في معاجمهم في مادة (محك)(78).

2. الحقد

من ألفاظ الخصومة المذمومة، والفِعلُ منه مأخوذٌ من حَقَدَ يَحقِدُ حَقْداً، وهو إمساكُ العَداوة في القلب والتَرَبُّصُ بفُرصتها(79). ومنه قولُ الإمام عليّ (عليه السلام): ((أَطْلِقْ عَنِ اَلنَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ وَاِقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر)). فالعمل على حلِّ مشاكل الرَّعيَّة يُساعدُ على قطع كلِّ أسباب الحقد على الوالي.

3. الشنآن

لفظٌ يدلُّ على الكراهية والبُغض، جاء في (العين): «وشنيء يشنأ شنأةً وشناناً، أي: أبغض. ورجلٌ شناءةٌ وشنائيةٌ، بوزن فعالة وفعاليةٍ: أي: مُبغضٌ، سيءُ الخُلقِ»(80). وقد أشار الإمامُ (عليه السلام) إلى مَنْ يكون أبغض النَّاس عند الوالي، قال: ((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ اَلنَّاسِ)). فأشنأهم: أبغضهم. وهو مَنْ يطلبُ معايبَ النَّاسِ.

ص: 306

ز - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالتحقير

1. التحقير

التحقير هو التصغير، والحَقْرُ في كلّ المعاني: الذِلَّةُ. والفعلُ منه: حَقَرَ يَحْقِرُ حقرًا وحقرية. وتَحقيرُ الكلمة: تَصغيرُها(81). وقال الجوهري: «الحَقيرُ: الصغير الذليل. تقول حَقُرَ بالضم حَقَارَةً. وحَقَرَه، واحْتَقَرَهُ، واستحقره: استصغره. وتَحاقَرَتْ إليه نفسُه: تصاغرت. والتحقيرُ: التصغير»(82).

ومنه قولُ الإمام علي (عليه السلام): ((وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ

تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ اَلرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ)). وتحقرة الرِّجال: تستصغره.

2. التعبير

العار لفظُ تحقيرٍ ومذلَّة، قال الخليلُ: «والعارُ: كلّ شيء لزم به سُبّة أو عَيْب. تقول: هو عليه عارٌ وشَنارٌ، والفعل: التّعيير»(83). ومنه قول الإمام (عليه السلام): ((وَتَحَفَّظْ مِنَ الَأْعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَی خِياَنَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْباَرُ عُيوُنِكَ اِكْتَفَيْتَ

بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ

اَلْمَذَلَّةِ وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَقَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ)). ف(عارُ التّهمة)، وقبله: (المذلَّة) و(سمة الخيانة) كلَّها ألفاظٌ تدلُّ على تحقيرٍ وإهانةٍ.

ص: 307

س - حقل الألفاظ المتعلّقة بالبخل

1. البخل

البخل ضدُّ الكرم، وهو من الصفات الخلقيَّة السيّئة، وفيه لغات، قال ابن سيدة: «البُخْل، والبَخَلُ، والبَخْل، والبُخول: ضد الْكَرم. وَقد بَخِلَ بُخْلا وبَخَلاً، فَهُوَ باخل، وَالْجمع: بُخّال، وبَخيل، والْجمع: بُخلاء. وَرجل بَخَلٌ، وُصِف بِالْمَصْدَرِ، عَن أبي العَمَيثل الْأَعرَابِي، وكَذَلِكَ: بَخّال، ومُبَخَّلٌ. وبَخَّله: رَمَاه بالبُخل. وأبخله: وجَده بَخيلا»(84).

ومنه في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ

بِكَ عَنِ اَلْفَضْلِ وَيَعِدُكَ اَلْفَقْرَ)). فالإمام (عليه السلام) يُشيرُ إلى خطورة التعامل مع البخيل؛ إذ إنَّه قد يبعدك عن أداء الفضل على الآخرين، وفوق ذاك يكونُ واعدًا لك بالفقر.

2. الشُّحَّ

لفظٌ ارتبط بالمنع سواء أكان إيجابًا أو سلبًا، قال ابنُ فارس: «الشِّينُ وَالْحَاءُ، الْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ، ثُمَّ يَكُونُ مَنْعًا مَعَ حِرْصٍ. مِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ، وَهُوَ الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ. وَيُقَالُ تَشَاحَّ الرَّجُلَانِ عَلَی الْأَمْرِ، إِذَا أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَوْزَ بِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ صَاحِبِهِ»(85).

وقد استعمله الإمام (عليه السلام) بمعنى المنع بقوله: ((فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ

عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ اَلشُّحَّ بِالنَّفْسِ اَلْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَ أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ)). فالشُّحّ بالنَّفس يعني منعها ممَّا لا يحلُّه الله لها، ويُعدُّ الشُّحّ عليها بابًا لإنصافها من الوقوع في الرذائل.

ص: 308

نتائج البحث

1. هناك علاقةٌ طبيعيَّةٌ دلاليَّةٌ بين معنى الطبيعة والأخلاق، فالإنسانُ في سجيَّتِهِ يحملُ صفاتٍ خُلُقيَّةً قد تكونُ حسنةً، وقد تكون سيِّئةً.

2. لم تعرف الدراسات اللغوية العربية الحديثة مصطلح (الحقل الدلالي) إلاَّ بعد اطلاعها على الدراسات اللغوية الغربية؛ لذا كانت التعاريف المتناثرة في تلك الدراسات متماثلة ومتشابهة ومترجمة، على الرغم من أنَّ الدراسة العربية قد عرفت الحقول الدلالية تطبيقاً وإجراءً في أكثر من مصدر وعبر قرون متعاقبة. ويُعدُّ أبو منصور الثعالبيّ من اللغويين العرب الذين حاولوا قديمًا تصنيف كلمات اللغة على وفق حقول دلالية معيَّنة في كتابه: (فقه اللغة وسرّ العربيَّة)؛ إذ أورده على شكل حقول دلاليَّة خاصة بالحيوانات، والنباتات، والشجر، والأمكنة، وغير ذلك من أسماء الموجودات، والصفات، والأشياء.

3. زخر عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر بألفاظ ارتبطت بالخلق والأخلاق ممَّا لا يُحصى؛ وذلك لكونه وثيقة أخلاقيَّة تُخاطبُ الرَّاعي والرَّعيَّة معًا، وترسمُ طريقا ناجحًا لإدارةِ الدَّولة على وفق أُسسٍ ومبادئ إسلاميَّة تؤثر في حياة الفرد والمجتمع.

4. قد عبَّر الإمام (عليه السلام) عن كثيرٍ من الألفاظ الخلقيَّة بعبارات وتراكيب، وهذا أسلوبٌ فريدٌ لا يملكه إلّا من يملك ناصية البلاغة والبيان، كيف لا وكلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين. وكان للسياق في حصر دلالة هذه الألفاظ دورٌ مهمٌّ.

5. تباينت ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) التي انتظمت في حقول دلاليَّة، وارتبطت دلاليًّا تحت لفظٍ عامٍّ يجمعها إلى ستة حقول، تمثلت بألفاظ:

ص: 309

(اللين، العدل، الصدق، الصبر، الصلة، الإعانة).

6. يُعدُّ الإمامُ عليّ (عليه السلام) صوت العدالة الإنسانيَّة؛ لذا لا غرابةَ أن تتكرَّر مرادفات لفظة (العدل) بكثرة في عهده (عليه السلام).

7. ربما يكونُ اقترابُ لفظ (الأوسط) من معنى العدل جاء بسبب شيوع قاعدة أنَّ أَوْسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُه، أو من وصف العرب للفَاضِل النسب بأنه: من أوسط قومه.

8. وردت بعض الألفاظ قليلة الاستعمال، وغريبة اللفظ من مثل: (قود البدن، وحميَّة الأنف، والختل، وكسر النفس، وخيس العهد، وسطوة اليد)، و(قود البدن) مثلًا الألفاظ التي تحملُ معنى العدل کما ذکر شُرَّاح نهج البلاغة، وقد ورد معنى الجزء الأول من (قود البدن) في معاجم اللغة؛ وفيه معنى القصاص وتحقيق العدالة للمقتول. وهذا ما كان الجوهري فيه أكثر وضوحًا، ولكنَّ إضافة (قود) إلى (البدن) من في قولِ الإمام (عليه السَّلام) جاء بمعنى العقوبة الجسدية لا غير أي: القتل.

9. جاء لفظ الصلة في قوله: (أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ)، ليشير إلى معنًى إنسانيّ لم تعرف البشريَّة مثيله، ويُقدِّم المصلحة الإنسانيَّة وحقّ المواطنة للجميع، ولا سيَّما حقُّ الأقليّات الدينيَّة والعرقيَّة التي تعيش في ظل الحكم الإسلامي في عهده (عليه السلام).

10. قُسِّمت الحقول الدلاليَّة لألفاظ الأخلاق في عهد الإمام (عليه السلام) على قسمين: محمودة ومذمومة. وكان عددُ الألفاظ المذمومة أكثر من نظيرتها المحمودة. ولعلَّ السبب في ذلك هو أنَّ الطابع العام لعهد الإمام (عليه السلام) هو التحذيرُ والتنبيهُ من مغبة الوقوع في المذمومِ من الأفعال والأخلاق.

11. قُسِّمت ألفاظ الأخلاق المذمومة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى ستة حقول هي: (الخديعة، التعالي، الظلم، الخصومة، التحقير، البخل) على التوالي. وقد تصدَّرت ألفاظ الخديعة حقول ألفاظ الأخلاق المذمومة؛ إذ وصلت إلى أربع عشرة لفظة.

ص: 310

المصادر والمراجع

1. - القرآن الكريم

2. إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المعرفة - بيروت (د.ت).

3. أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفي: 538 ه)، تحقیق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 ه - 1998 م.

4. تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 ه)، المحقق: مجموعة من المحققين، دار الهداية

5. التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفي: 816 ه)، المحقق: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1403 ه - 1983 م.

6. التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية (إعادة صف للطبعة القديمة في باكستان 1407 ه - 1986 م)، الطبعة: الأولى، 1424 ه - 2003 م.

7. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 ه)، المحقق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 2001 م.

8. الخطاب القرآني دراسة في البعد التداولي.

9. دور الكلمة في اللغة: ستيفن أولمان، ترجمه وقدَّم له وعلق عليه: د. کمال بشر، مكتبة الشباب، القاهرة (د.ت).

ص: 311

10. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 ه - 1987 م.

11. صحيح البخاري، للبخاري (ت 256 ه)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / 1401 - 1981 م.

12. علم الدلالة، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط 5 / 1998 م.

13. علم الدلالة، جون لاينز، ترجمة: مجيد الماشطة، كلية الآداب، جامعة البصرة، مطبعة الجامعة / 1980 م.

14. علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي، منقور عبد الجليل، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق / 2001 م.

15. علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، د. هادي نهر، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1 / 2007 م.

16. علم اللغة العام، دي سوسير، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية، بغداد، 1985 م.

17. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 ه)، المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

18. فقه اللغة العربية: د. كاصد ياسر الزيدي، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل / 1407 ه - 1987 م.

19. فكر الإمام علي (عليه السلام) كما يبدو في نهج البلاغة، د. جليل منصور العريّض، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط 1 / 2014 م.

20. فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي (ت 1031 ه)، تحقيق: تصحيح أحمد

ص: 312

عبد السلام، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة : الأولى / 1415 - 1994 م.

21. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة:

الثالثة / 1407 ه.

22. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر - بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 ه.

23. لطائف الإشارات، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفي:

465 ه)، المحقق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر ، الطبعة: الثالثة (د.ت).

24. ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد تحقيق: د. أحمد محمد سليمان أبو رعد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط 1 / 1988 م.

25. المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي [ت:

458 ه)، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه - 2000 م.

26. مدخل إلى علم الأخلاق، شفيق جرادي، ط 1، دار المعارف الحكمية، بيروت، 2014 م - 1435 ه.

27. مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، بیروت، لبنان، ط 2 / 1408 - 1988 م.

28. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفي: نحو 770ه) المكتبة العلمية - بيروت (د.ط).

ص: 313

29. معاجم الموضوعات في ضوء علم اللغة الحديث، محمود سليمان یاقوت، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية / 1994 م.

30. معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفي: 311 ه)، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1408 ه - 1988 م.

31. معجم الفروق اللغويَّة، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه)، المحقق: الشيخ بيت الله بیات، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب«قم»، ط 1، 1412 ه.

32. مقاییس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه)، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر / 1399 ه - 1979 م.

33. المنطق، محمد رضا المظفر، ط 3، دار التعارف، بیروت، 1990 م.

34. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تصحیح و تعلیق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

35. النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 ه - 1979 م.

36. نهاية المرام في علم الكلام، الحسن بن يوسف الحليّ، تحقيق: فاضل العرفان، الطبعة الأولى، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، 1429، (د.ط).

ص: 314

الهوامش

1. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 ه)، المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال: 4 / 151.

2. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 ه: 10 / 87.

3. التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفى: 816 ه)، المحقق: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1403ه - 1983 م: 101.

4. ينظر التعريفات: 101.

5. ينظر مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، بيروت، لبنان، ط 2 / 1408 - 1988 م: 11 / 193.

6. إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المعرفة - بيروت (د.ت): 3 / 53.

7. نهاية المرام في علم الكلام، الحسن بن يوسف الحليّ، تحقيق: فاضل العرفان، الطبعة الأولى، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، 1429 ه (د.ط): 2 / 273.

8. المنطق، محمد رضا المظفر، ط 3، دار التعارف، بيروت، 1990 م: 344.

9. ينظر: مدخل الى علم الأخلاق، شفيق جرادي، ط 1، دار المعارف الحكمية، بيروت، 2014 م - 1435 ه: 12.

10. ينظر فكر الإمام علي (عليه السلام) كما يبدو في نهج البلاغة، د. جليل منصور العريّض، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط 1 / 2014 م: 431.

11. ينظر الخطاب القرآني دراسة في البعد التداولي: 25.

ص: 315

12. ينظر في نشأة النظرية: علم الدلالة، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط 5 / 1998 م: 79، وعلم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، د. هادي نهر، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1 / 2007 م: 563. وعلم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي، منقور عبد الجليل، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق / 2001 م: 79.

13. ينظر علم الدلالة، أحمد مختار عمر: 79.

14. علم الدلالة، جون لاينز، ترجمة: مجيد الماشطة، كلية الآداب، جامعة البصرة، مطبعة الجامعة / 1980 م: 22.

15. علم اللغة العام، دي سوسير، ترجمة: يوئيل يوسف عزیز، دار آفاق عربية، بغداد، 1985 م: 9.

16. المصدر نفسه: 80.

17. معاجم الموضوعات في ضوء علم اللغة الحديث، محمود سليمان یاقوت، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية / 1994 م: 315.

18. دور الكلمة في اللغة: ستيفن أولمان، ترجمه وقدَّم له وعلق عليه: د. کال بشر، مكتبة الشباب، القاهرة (د.ت): 97.

19. فقه اللغة العربية: د. کاصد یاسر الزيدي، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل / 1407 ه - 1987 م: 168.

20. ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد تحقيق: د. أحمد محمد سليمان أبو رعد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط 1 / 1988 م: 47.

21. علم الدلالة، د. أحمد مختار عمر: 99.

22. المصدر نفسه: 101.

ص: 316

23. ينظر العين: 3 / 229، والصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعیل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفي: 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 ه - 1987 م: 5 / 1929.

24. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة: 2 / 621.

25. العين: 7 / 429.

26. ينظر معجم الفروق اللغويَّة، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه)، المحقق: الشيخ بیت الله بیات، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب «قم»، ط 1، 1412 ه: 465.

27. العين: 8 / 100.

28. معجم الفروق اللغوية: 143.

29. ينظر معجم الفروق اللغوية: 362، ولطائف الإشارات، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفي: 465 ه)، المحقق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، الطبعة: الثالثة (د.ت): 2 / 601.

30. العين: 5 / 149.

31. مقاییس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه)، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر / 1399 ه - 1979 م: 2 / 418. وينظر الحديث في صحيح البخاري، للبخاري (ت 256 ه)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / 1401 / 1981 م: 7 / 80.

32. العين: 2 / 38.

33. العين: 7 / 133.

34. ينظر لسان العرب: 7 / 430، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن

ص: 317

محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى: نحو 770 ه) المكتبة العلمية بيروت (د.ط): 2 / 658، وتاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 ه)، المحقق: مجموعة من المحققين، دار الهداية: 20 / 175.

35. معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311 ه)، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1408 ه - 1988 م: 1 / 219.

36. العين: 4 / 11.

37. مقاييس اللغة: 3 / 111.

38. العين: 5 / 197.

39. الصحاح: 2 / 528.

40. العين: 5 / 56.

41. التعريفات: 132.

42. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 ه)، المحقق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 2001 م: 15 / 419.

43. التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية (إعادة صف للطبعة القديمة في باكستان 1407 ه - 1986 م)، الطبعة: الأولى، 1424 ه - 2003 م: 238.

44. مقاييس اللغة: 1 / 134.

45. ينظر الحديث في فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي (ت 1031 ه)، تحقيق: تصحيح أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة : الأولى / 1415 - 1994 م: 3 / 237.

ص: 318

46. ينظر النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 ه - 1979 م: 1 / 71.

47. ينظر العين: 7 / 115، والصحاح: 2 / 706.

48. العين: 8 / 272.

49. الصحاح: 5 / 1842 - 1843.

50. النهاية في غريب الحديث والأثر: 5 / 191 - 192.

51. تهذيب اللغة: 7 / 254.

52. لسان العرب: 14 / 22.

53. العين: 5 / 154.

54. مقاییس اللغة: 5 / 80.

55. ينظر تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزیل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة / 1407 ه: 4 / 219 - 220.

56. العين: 8 / 25.

57. ينظر الكشاف: 2 / 426.

58. ينظر لسان العرب: 14 / 329.

59. تاج العروس: 17 / 289.

60. الصحاح: 5 / 2109.

ص: 319

61. ينظر فيض القدير: 5 / 25. ورواية الحديث فيه هي: ((كل خلة يطبع عليها المؤمن... إلا الخيانة والكذب)).

62. العين: 4 / 238.

63. مقاییس اللغة: 2 / 245.

64. تهذيب اللغة: 2 / 24.

65. ينظر النهاية في غريب الحديث والأثر: 1 / 96، ولسان العرب: 2 / 406.

66. العين: 3 / 318.

67. ينظر تهذيب اللغة: 11 / 266.

68. أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفي: 538 ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 ه - 1998 م: 2 / 258.

69. العين: 1 / 298.

70. الكشاف: 3 / 497.

71. الصحاح: 5 / 1977.

72. العين: 6 / 176.

73. معجم الفروق اللغوية: 172.

74. العين: 3 / 307.

75. العين: 6 / 143.

76. تهذيب اللغة: 11 / 77.

77. العين: 4 / 191.

78. ينظر النهاية في غريب الحديث والأثر: 4 / 303، ولسان العرب: 10 / 486.

79. ينظر العين: 3 / 40.

ص: 320

80. العين: 6 / 287.

81. ينظر العين: 3 / 43.

82. الصحاح: 2 / 635.

83. العين: 2 / 239.

84. المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي [ت: 458 ه، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 ه - 2000 م: 5 / م: 5 / 210 - 211.

85. مقاييس اللغة: 3 / 178.

ص: 321

ص: 322

ظواهر اسلوبية في عهد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) الی مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م.د. موفق مجيد ليلو

جامعة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) - ميسان

ص: 323

ص: 324

ملخص البحث

تحاول هذه القراءة رصد البنى المهيمنة في أعظم وثيقة إدارية في التاريخ، وتتمثل في عهد الامام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)، في ضوء الرؤية الأسلوبية التي تركز على الحدث اللغوي المهيمن، ومن أهم هذه الظواهر: التراكم الكمي لفعل الأمر، وصيغة النهي وأفعل التفضيل والبنية الاستعارية، وهي مما يتلاءم وأدب الوصايا، وختمت هذه القراءة بأهم النتائج التي توصل اليها الباحث.

ص: 325

مقدمة

كثيرا ما دأبت البحوث والدراسات الاسلوبية على تسويد الصفحات بجوانب تنظيرية تتعلق بمعنى الاسلوب والاسلوبية ومناهجها وعلاقتها بالعلوم الاخرى، والحديث عن ركائزها الثلاثة، ولذا فقد نأت هذه القراءة عن الجوانب التنظيرية لهذه المقدمات، بل انصبت الدراسة على الظواهر الثلاثة (اسلوبي الامر والنهي، تكثيف صيغة التفضيل، البنى الاستعارية)، بشيء من التفصيل فيما يتعلق بالدلالة وتطبيق ذلك على نصوص العهد العلوي.

ويرى الباحثون في الدراسة الاسلوبية أنها ((نوع من الحوار الدائم بين القارئ والكاتب من خلال نص معين. ويتم هذا الحوار على مستويات أربعة : النص والجملة واللفظة والصوت))(1)، ومع الاختلاف في تعريف الاسلوب الا أن بعض الدراسين يحدده بأنه (الاسلوب مجموعة التكرارات والمفارقات الخاصة بنص من النصوص)(2)، في الوقت الذي تختلف فيه تعريفات الاسلوبية من باحث الى آخر، في ضوء ركائزها الثلاث (المنشئ، والنص، والمتلقي)، فانه يمكن ان تلخص بأنها ((تحليل لغوي موضوعه الاسلوب وشرطه الموضوعية وركيزته الالسنية))(3)

أما النص فقد مثّل كتاب الامام علي (عليه السلام) الى الاشتر دستورا متكاملا لولاة العهد في ادارة البلاد والعباد، بحيث يقنن لقواعد الادارة والسياسة، وما يلفت الانتباه فيه هو التدرج والتكامل في هذا العهد بحيث يتناول كل زوايا المجتمع وطبقاته، ولو طبق هذا العهد من قبل الساسة لساربهم الى الهدى وحملهم على الصراط المستقيم.

ولما كانت الاسلوبية تؤكد على ان على ان الاستخدام اللغوي المهيمن هو الحدث الاسلوبي(4)، فإننا سنركز على الاستخدام اللغوي المهيمن الذي يطبع النص، وتتركز وظيفة الاسلوبية في تحقيق عناصر الامتاع والاقناع والاثارة والتأثير.

ص: 326

وستحاول هذه القراءة الموجزة في عهد الاشتر ان نسلط الضوء على بعض الظواهر الاسلوبية المهيمنة على النص، وهي: اساليب الطلب وصيغة التفضيل والبنية الاستعارية.

رصدت هذه القراءة لعهد امير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه) أهم الظواهر الأسلوبية، التي تمثلت في أسلوبي الطلب في المبحث الاول: الأمر والنهي بتلويناتها المختلفة من خلال الاحصاء لتكرار هذه الصيغ ودلالاتها في النص، واذا كانت الاحصاءات باتفاق الباحثين ((غير كافية للإحاطة بأسلوب كاتب ما))(5)، وذلك لأننا ((لا نستطيع تشييد أسلوبية صرفة على الاحصاءات الألسنية))(6)، الا انها يمكن ان تقدم - بشكل تقريبي - صورة عن التحليل الاسلوبي. ومن ثم البحث في صور اسم التفضيل وانواعه الاربع وتكرار كل نوع ودلالة ذلك واثره في المتلقي في المبحث الثاني، واخيرا تطرقت الدراسة الى البنية الاستعارية مع توطئة مفصلة لمفهوم الاستعارة عند القدماء والمحدثين وتحليل نماذج استعارية لبيان مواطن الاثارة والتأثير في المبحث الثالث، ثم خاتمة بأهم نتائج البحث.

ص: 327

المبحث الأول اسلوبیة الطلب

كتاب الاشتر عبارة عن وصية طويلة، وادب الوصايا بشكل عام تهيمن عليه الاوامر والنواهي، وهذا ما لا تخلو منه الوصية، فلا غرو ان يمتلأ هذا النص بأساليب الطلب المختلفة التي تمثل بؤرة النص وهي تتوزع بين الامر بصوره المختلفة والنهي والنداء.

واذا كانت الاحصاءات باتفاق الباحثين (غير كافية للإحاطة بأسلوب كاتب ما(7))، وذلك لأننا ((لا نستطيع تشييد أسلوبية صرفة على الاحصاءات الألسنية))(8)، الا انها يمكن ان تقدم - بشكل تقريبي - صورة عن التحليل الاسلوبي.

الصیغة - الامر - النهي - النداء

التکرار - 89 - 44 - 1

أ - اسلوب الامر

الأمر لغة: الأمر في هو ((نقيض النهي))(9) وأمره :كلفه شيئاً(10) لان الأمر طلب لإيقاع الفعل، والنهي طلب لترك إيقاعه، اما في الاصطلاح عند النحويين، فلم اللغة يعرفه سيبويه ولا المبرد على الرغم من ان الأول قد خصص بابا للأمر والنهي(11)، فهو ((طلب إيجاد الفعل))(12) او ((قول القائل لمن دونه : افعل))(13).

يعرفه ابن يعيش: ((الامر معناه: طلب الفعل بصيغة مخصوصة))(14)، وقال الرضي: ((وهو صيغة يطلب بها الفعل من الفاعل المخاطب بحذف حرف المضارع))(15) وعند الحيدرة اليمني وهو: ((قولك لمن تخاطب)): (افعل)، اذا كان حاضراً و (ليفعل فلان) اذا كان غائباً))(16).

ص: 328

اما اللغويون، فقد عرفه ابن فارس بقوله: ((الامر عند العرب ما اذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصيا))(17). وقال السيوطي: (هو طلب فعل غير كفّ، وصيغته (أفعلْ) و(ليفعلْ)(18).

وأما البلاغيون فقد عرفوا الأمر بأنه: ((صيغة تستدعي، او قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء، فقولنا: (صيغة تستدعي، او قول ينبئ)) ولم نقل: (((افعلْ) و (لتفعلْ) كما يقول المتكلمون والأصوليون لتدخل جميع الأقوال الدالة على استدعاء الفعل نحو قولنا : (نزالِ و (صه) فانهما دالان على الاستدعاء من غير صيغة (افعل)))(19). او هو: «طلب فعل غير كف على جهة الاستعلاء»(20)، وحدده د.احمد مطلوب بانه «طلب الفعل على وجه الاستعلاء والالزام»(21). وصيغ الأمر هي: فعل الأمر، المضارع المسبوق بلام الأمر، اسم فعل الأمر، المصدر النائب مناب فعله. فالأمر: طلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء أو «هو صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء، بحيث إذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصياً»(22).

وقد تكرر اسلوب الامر بالفعل في (77) موضعا، وهو الذي غلب على اسلوب الامر، في حين ورد المضارع المسبوق بلام الامر في (12) موضعا، ولم يرد القسمان الاخيران في النص.

الصيغة - الامر بالفعل - الامر باللام - الامر بالمصدر - الامر باسم الفعل

التكرار - 77 - 12 - -

وفعل الامر هو الصيغة الاكثر ورودا، وهي صيغة تقتضي وجود متلق او مخاطب في اكثر الاحيان، وهو ما يوافق طبيعة الرسائل، كما نلحظ التدرج الهرمي الذي يقتضيه الامر من العالي الى الداني، وما في ذلك من اشعار بالوجوب او الالتزام. وثمة امر ينبغي

ص: 329

الالتفات اليه وهو تكرار الفعل (أمر) مدخل الرسالة في اربعة مواضع تنبيها لما سيأتي من أوامر وتأكيدا على عظم المسؤولة الملقاة على عاتق المتلقي (وهذا لا يعني الاشتر فقط)، ولا سيما أن الدراسة الاسلوبية تعنى بالمتلقي بشكل كبير وذلك في قوله:

((هذا ما أمر به عبد اللهّ عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى اللهّ وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه الّتي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر اللهّ سبحانه بقلبه و يده ولسانه، فإنّه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه. وأمره أن يكسر نفسه من الشّهوات ويزعها عند الجمحات، فإنّ النّفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم اللهّ))(23).

تشير فاتحة النص الى أهمية العبء الذي اوكل بالأشتر، وبكل من يتولى شأنا من شؤون ادارة العباد والبلاد، والتكرار لهذا اللفظ (أمر) يرسخ الفكرة في الذهن ويجعلها تدق كالجرس في اذن المتلقي؛ لأن التكرار في حد ذاته من أشد اساليب التوكيد وقعا على المتلقي. فالتكرار هو ((هو الوسيلة الوحيدة والتي لا خلاف حولها لاكتشاف واقعة لغوية وتحديدها في البرغماتية الادبية))(24).

ومن خلال الجدول الاحصائي السابق يتضح هيمنة فعل الامر على الصيغ الاخرى، ويليه المضارع المقترن بلام الامر، وهو في الاعم الاغلب فعل الكينونة (يكن) وهو ابلغ من التعبير المباشر بالفعل، کما ان لام الامر تضفي على الكينونة زيادة في التوكيد لما يحتمله فعل الكينونة من العموم في اثبات الفكرة.

ومن امثلته قوله:

1. ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ))(25).

2. ((فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)).(26)

3. ((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ))(27).

ص: 330

4. ((لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ))(28).

5. ((فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّن))(29).

6. ((وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِ مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ

جِدَتِه))(30).

7. ((وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَرَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ))(31).

8. ((وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ))(32).

9. ((وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ لله بِهِ دِينَكَ: إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتي هِيَ لَهُ خَاصَّةً)(33).

أن التعبير ب(لیکن) اشد وقعا واقدر على التأثير في ذهن المتلقي، فالتأكيد على كون الامر، يراد منه الكون على تلك الصفة، وهو لا شك أبلغ من الاتصاف بها، وهذا الامر يسري في الأمر والنهي، وقد ورد في القران الكريم: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(35).

ب - النهي:

ضد الأمر، وهو قول القائل لمن دونه: لا تفعل(35). فهو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء، وله صيغة واحدة هي لا الناهية مع الفعل المضارع، وهو يجري مجری الأمر في أن يكون للطلب إذا كان على وجه الاستعلاء، والدعاء إذا كان مع الأعلى، والالتماس إذا كان مع النظير، ويستعمل في حق المستأذن ويسمى إباحة وإذا استعمل في مقام تسخيط الترك، سمي تهديداً(36). فغرض النهي (الكف والمنع)، ولكنه يخرج إلى معان أخَر مستفادة من السياق وقرائن الأحوال كالدعاء والالتماس والإرشاد والدوام وبيان العاقبة والتيئيس والتهديد والتوبيخ والكراهة والاستئناس والتحقير والتمني وغيرها(37).

ص: 331

صيغة النهي - بالفعل المؤکد - بالفعل غیر المؤکد - بالتحذیر ب(إیاك)

التكرار - 33 - 5 - 6

من خلال النظرة السريعة في الاستعمال وكثافته في النص تجدر الاشارة الى هيمنة الفعل المضارع المؤكد المسبوق بلا الناهية، وهو ما يشعر بعظمة المؤكد عليه من الوصايا وثقل المسؤولية المناطة بالأشتر. فالتوكيد سمة غالبة على الفعل المضارع في النهي وهو ما يزيد التوكيد فيه.

تتحدد الانماط الأسلوبية في ثلاثة أنماط:

1. لا الناهية + الفعل المضارع + نون التوكيد الثقيلة

2. لا الناهية + الفعل المضارع

3. إياك + و + اسم معرفة

لما كان العهد عبارة عن جملة من الأوامر والنواهي التي تتناسب مع المرسل في مقامه الاعلى والمتلقي وهو الوالي، فقد كان النمط المهيمن على النص هو الأول والذي يتسم بالتوكيد، ويأتي بعده اسلوب التحذير ب(إياك)، والذي يتضمن النهي، ثم النهي بدون توكيد، وهو الاقل حضورا في النص ويقترب من سابقه من حيث التكرار.

وتتصدر صيغة النهي المؤكد، وهي الاكثر استعمالا في مواضع التشديد والاهتمام، مع انها من التوكيد الجائز لا الواجب الذي يشترط فيه ان يكون الفعل واقعا في جواب قسم ومثبتا ومستقبلا وغير مفصول عن اللام بفاصل، ولكن أهمية هذه الوصايا والنواهي حتم أن تأتي في اغلب مواضعها مؤكدة بالنون الثقيلة في النهي. وأما نهي فعل الكينونة فهو كما يرى بعض اللغويين ابلغ من النهي عن الشيء نفسه، اذ يقول: ((والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك: لا تكن ظالماً، أبلغ من قولك: لا

ص: 332

تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك: لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموماً، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون))(38).

وأما النمط الثاني فقد تكرر (6) مرات وذلك في المواضع

1. إياك ومساماة الله في عظمته(39).

2. اياك والدماء وسفكها بغير حلها(40).

3. اياك والاعجاب بنفسك(41).

4. اياك والمن على رعيتك بإحسانك(42).

5. اياك والعجلة بالأمور قبل أوانها(43).

6. اياك والاستئثار بها الناس فيه اسوة(44).

ثمة رابط واضح لمن يتدبر هذه النصوص، اذ يرى أهمية الأمور التي حذر الامام (عليه السلام) منها مالکا، فالتجبر ومساماة الحق سبحانه، كذلك الاعجاب النفس وسفك الدماء، من عظائم الكبائر، ومثلها في التحذير (المن والعجلة والاستئثار) و مهي من مساوئ الأخلاق، وقد ورد التحذير منها في الروايات.

وزبدة المخض أن هذا الاسلوب استعمل في المنهيات الكبرى التي تتفرع منها باقي الاخلاق، فانت ترى على سبيل المثال أن التجبر سبب الطغيان الذي يدفع إلى الفساد والافساد.

ص: 333

المبحث الثاني: أفعل التفضيل

يدل اسم المفضل مشاركة المفضل في المعنى غالباً، وهذه المشاركة على نوعين: حقيقية كقوله تعالى: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ» (46) أي أزيَد، وتقديرية لا حقيقية، وتسمى أحيانا اعتقادية، وإن كان الاعتقاد باطلاً، كقوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ»(47) على اعتقاد أن في مسجد الضرار حقاً (48). وهذا ما يؤكده السيوطي في الجمع قائلا: «والمراد بقولنا: ولو تقديراً مشاركته بوجه ما، كقولهم في البغيضين: هذا أحسن من هذا، وفي الشريرين: هذا خير من هذا، وفي الصّعبين: هذا أهون من هذا، وفي القبيحين: هذا أحسن من هذا، وفي التنزيل ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ))(49) و تأويل ذلك: هذا أقل بغضاً، وأقل شراً، وأهون صعوبةً، وأقل قبحاً»(50).

وقد يستعمل اسم التفضيل متضمنا معنی اسم الفاعل، كقوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ»(51) أي: عالم بكم، أو معنى الصفة المشبهة كقوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»(52) أي: وهو عليه هيّن، لأنّه لا يقال: شيء أهون عليه من شيء.(53)

وربما اريد به «تجاوز صاحبه وتباعده عن غير في الفعل، لا بمعنى تفضيله بالنسبة إليه بعد المشاركة في أصل الفعل، بل بمعنى أن صاحبه متباعد في اصل الفعل، متزايد إلى كماله فيه على وجه الاختصار، فيحصل كمال التّفضيل»(54) كقوله تعالى: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(55) فهنا لم يقصد التفضيل على شيء معين، بل المراد من كل ذلك الزيادة في الحسن، «ولا يمتنع تقدير مفضل عليه كأن تقول : وجادلهم بالتي هي أحسن

ص: 334

من غيرها ونحو ذلك»(56). قال الكفوي: «وقد يستعمل أفعل لبيان الكمال والزيادة في وصفه الخاص، وإن لم يكن الوصف الذي هو الأصل مشتركاً وعليه قولهم: الصيف أحر من الشتاء، أي: الصيف أكمل في حرارته من الشتاء في برودته»(17).

وتبدو صيغة افعل هي الاكثر ظهورا في النص، والتفضيل كما هو معلوم يرتقي بالكلام إلى درجة اكمل واعلى، ولهذا يستعمل في المقارنة بين شيئين اشتركا في صفة وزاد احدهما على الاخر فيها، فهو عدول عن صيغة الوصف إلى صيغة اعمق واشد اثرا في التوكيد وترسيخ الفكرة، وهذا يظهر بشكل واضح من خلال الامثلة فقولك: زید.......... شجاع وصف زید بالشجاعة.

التفضيل في الدرجات حسب القوة

4.......... أشجع من عمرو تفضيل لزيد من حيث الشجاعة على عمرو فقط دون غيره.

3............ أشجع رجل الاضافة الى النكرة لا تفيد تخصيصا ولا تعريفا.

2.......... أشجع الرجال الاضافة الى المعرفة تفيد التعريف والتخصيص.

1.......... الاشجع تفضيل على نحو الاطلاق أي هو اشجع الجميع.

من هنا تكتسب صيغة التفضيل اهميتها في النص موضع الدراسة، فقد تكرر اسم التفضيل بأحواله المختلفة في (60) موضعا من العهد، توزع القسم الاكبر منها على النكرة والمضاف إلى المعرفة، واكثر ما جاء من المضاف إلى معرفة إضافته إلى الضمير (هم)، فقد جاء في (18) موضعا، و(11) موضعا مضافا إلى اسم معرفة.

ص: 335

ونجد اكثر هذه المواضع جاءت للتفضيل

احوال اسم التفضيل - نكرة - معرفة - مضاف الى معرفة - مضاف الى نكرة - المجموع

التكرار - 27 - 3 - 29 - 1 - 60

من خلال معرفة درجة التفضيل والاهتمام التي تتحدد من خلال اسم التفضيل المضاف إلى المعرفة والذي يكون اكثر تكرارا من غيره هنا، اذ نرى في قوله مثلا: ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ))(58).

فليس شيء احب اليك من العمل الصالح لذلك جاء بالتعبير ب (لیکن) مع اسم التفضيل، فيوحي بالاتصاف بتفضيل ذخيرة العمل الصالح على الذخائر كلها ؛ لأنه من يدفن مع المرء في قبره فقط، فحقيق أن يكون افضلها؛ لأن الذخائر كلها تفنى ويبقى العمل الصالح.

ومن صور التفضيل بالنكرة قوله:

((وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَ الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِيالْبَلاَءِ،

وَأَكْرَهَ لِلإْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالإْلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ))(59).

تتميز الجمل الاتية أن التفضيل قد قُيد بالتمييز، وحُدد بالجهة الزمنية، كما سنرى:

أَثْقَلَ عَلَ الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاء

وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ،

وأَکْرَهَ لِلإْنْصَافِ،

وأَسْأَلَ بِالأْلْحَافِ

وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإْعْطَاءِ،

وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ،

ص: 336

وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّتِ الدَّهْرِ

فالملاحظ تقييد هذه المفاضلة بأوقات وظروف وسياقات محدودة، دون أن يكون مطلقا، اذ كل اسم للتفضيل جاء مقيدا بجهة من الجهات او السياقات الاجتماعية. مما يجعله اكثر تحديدا واضيق مساحة واشد ترکیزا.

اما الاضافة إلى النكرة، وهي - كما يرى النحاة - لا تفيد تعريفا ولا تخصیصا، فانها لم ترد الا في قوله: ((ولا يكتفي بأدنی فَهْمٍ دُونَ أَقصَاهُ))(60)، ويلمح فيها الاشعار بقلة الفهم وضعفه، وهو الذي يرفضه الإمام (عليه السلام) في الحاكم، بل لابد ان يكون لديه اقصى الفهم وغايته، واولئك قليل كما يعبر علیه السلام). فالإضافة للنكرة، ومجيء (فهم) نكرة يشعر المتلقي بالتحقير والسذاجة.

في حين ترد صيغة التفضيل المعرفة ب (ال) في ثلاثة مواضع للدلالة على الطلاق في الوصف، وهي (السفلى، الاقصى، الأدنى) في قوله:

((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ)(61).

((فإِنَّ للأقْصَ مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للأدْنَى))(62).

ص: 337

المبحث الثالث: البنية الاستعارية

نالت الصورة الاستعارية الحظ الأوفر لدى الدارسين، بل شکلت بؤرة العمل الإبداعي، وهي کما يعبر ابن رشيق: «أفضل المجاز، وأول أبواب البديع، وليس في حلي الشعر أعجب منها، وهي من محاسن الكلام إذا وضعت موضعها »(63)، وفضّلها عبد القاهر على التشبيه قائلاً: «ان للاستعارة مزيةً وفضلاً»(64)، وهي تتكئ على التشبيه، وترتبط به ارتباطاً ملحوظاً، يمكن أن نلمسه في أولى تعريفات البلاغيين، كقولهم: «اذا تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره، وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه و تجریه عليه»(65). فيما يرى السكاكي، والذي كان أكثر دقة في تحديد نوعيها حيث يصرح قائلاً: «هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه، وتريد به الطرف الآخر، مدعياً دخول المشبه في جنس المشبه به، دالاً على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به»(66). بينما أطلق ابن الأثير مصطلح التشبيه المحذوف على الاستعارة وهو ذكر المشبه دون المشبه به(67).

ويكفي في فضل الاستعارة وجمالها «أنها تبرز هذا البيان أبداً في صورة مستجدة تزيد قدرة ونبلاً، وتوجب له بعد الفضل فضلاً، وانك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة مرموقة، ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدد من الدرر، و تجني من الغصن الواحد أنواع من الثمر»(68). إذ هي «تفعل في نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة»(69).

ص: 338

ويتحدد مستوى الاستعارة وفقا لطبيعة «الصلة بين اللغة المطابقة واللغة الإيحائية، فإذا ما كانت هذه الصلة ضعيفة، فسينعدم تحقق التوسع في اللغة ويتراجع الأثر الدلالي وتضعف التصويرية»(70). ويرى بعض البلاغيين أن حسن الاستعارة وقبحها موقوف على قوة التناسب بين المستعار منه والمستعار له او بعده، فملاكها «بقرب التشبيه ومناسبة المستعار للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في احدهما إعراض عن الآخر... وقال قوم آخرون... خير الاستعارة ما بعد، وعلم في أول وصلته أنه مستعار فلم يدخله لبس... الا أنه لا يجب للشاعر أن يبعد الاستعارة حتى ينافر ولا أن يقربها كثيراً حتى يحقِّق، ولكن خير الأمور أوساطها»(71). والاستعارة اذا توالت في النص مع غموض المعاني وبعد التناسب بين الطرفين، قد تؤدي إلى اللبس، والتنافر في الكلام ولذلك نعى الآمدي على أبي تمام فحش استعاراته وغرابتها وتراكبها وجعلها سببا من أسباب المعاظلة(72). الا أننا نجد القران الكريم والنصوص الشعرية أحياناً تجمع بين عدة استعارات في نص واحد، دون ان تخل بالمعنى أو تسقطه، بل تزيده شرفاً ورونقاً، ولذا فان عبد القاهر الجرجاني يرى أن مما «هو أصل في شرف الاستعارة، أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات، قصداً إلى أن يلحق الشكل بالشكل، وان يتم المعنى والشبه فيما يريد»(73).

وتتعدد الاعتبارات التي تقسم في ضوئها الاستعارة، فتقسم باعتبار ذاتها على: حقيقية وخيالية وباعتبار لازمها على: مجردة ومرشحة، وباعتبار حكمها على: حسنه وقبيحة، وباعتبار كيفية استعمالها على استعارة محسوس المحسوس، أو معقول المعقول، وتصريحية و مكنية باعتبار الطرفين، إلى غير ذلك من أنواع التقسيمات(79).

ولأهمية الاستعارة في الدرس البلاغي والأسلوبي تعددت النظريات التي درستها، ومن تلك النظريات (الإبداعية والتفاعلية والعلاقية)، وهي نظريات حاولت تجاوز

ص: 339

الحدود المنطقية والقيود التي كانت في الدراسات القديمة في مرحلة التأسيس، حيث كان الاهتمام منصباً على ضبط الحدود والتقسيمات وتأكيد هوية البلاغة وفنونها، دون النظر إلى قيمتها الأدبية - هذا اذا استثنينا دراسة الجرجاني والقرطاجني. على أن بعض الدارسين حاول الخروج من بوتقة النظرية الواحدة، والدمج بين النظريات في نظريه متكاملة تحاول استثمار النظريات والاستفادة من تقنياتها(79). فالاستعارة تمثل «الشكل البلاغي الأم التي تتفرع عنه وتقاس عليه بقية الأشكال حتى أطلق بعضهم على الاتجاه البنيوي في التحليل البلاغي للخطاب اسم (البلاغة المقتصرة) لترکیزها واقتصارها على الاستعارة باعتبارها بؤرة المجاز»(76). فالشعر کما یری جان کوهن: «استعارة معمّقة (رأسياً) معممة (أفقياً)، بل ان الكوميديا الإلهية بمفهوم اليوت عبارة عن استعارة ضخمة»(77). والاستعارة هي «الصورة المركزية لكل البلاغة»(78).

ان العلاقة بين عناصر الاستعارة ارتباط من صنع الخيال تذوب فيه هذه العناصر لتخلق صورة جديدة، ولعل تلك هي مهمة الفنان التي تتجلى في «محاربة هذا الروتين الآلي بنزع الأشياء من إطارها المألوف وتجميع العناصر المختلفة على غير انتظار ولذلك فان الشاعر يعمد إلى كسر القوالب (الاكلشيهات) اللغوية ليجبرنا على تجديد تلقينا للأشياء من خلال التحول المجازي (الظاهرة الانزياحية) وهذه هي عملية التشويه الخلاقة التي تعيد لنا حدة التصور بعد ان تثلمها العادة ونكتشف كثافة العالم المحيط بنا بعد ان يفرغه الروتين»(79).

وليس المجاز المعروف وصور الكلام على أيّة حال أكثر من «أسماء للانحرافات عن المعنى الحرفي والممارسة التقليدية التي ظهرت دائماً في اللغة الشعرية»(80)، والاستعارة تأتي لكي تقلل من «سعة المجاوزة الناتجة عن عدم الملاءمة، والعمليتان متكاملتان؛ لأنهما بالتحديد لا تتمان على نفس المستوى، فعدم الملائمة انتهاك لقانون الكلام، وهو

ص: 340

إذن مصنف في المستوى التركيبي، والاستعارة انتهاك لقانون اللغة، وهو إذن مصنف في المستوى التصويري»(81). ففي الاستعارة تتماهى العناصر وتمتزج في خليط متجانس، مع احتفاظ كل عنصر بشكله؛ وهي لا تقتصر على الهدف الجمالي والقصد الشخصى، ولكنها أيضاً ذات قيمة عاطفية ووصفية ومعرفية، أو بتعبير شامل: نحيا بها»(82).

ولذا فقد كان أ... ريتشارد شديد الاحتجاج على معاملة الاستعارة على أنها انحراف عن الممارسة اللغوية المألوفة بدلاً من النظر إليها كمصدر مميز ولا غنى عنه لتلك الممارسة، ويشير إلى ضرورة التمييز بين الاستعارة بوصفها مبدأ الوجود الشامل للغة، والاستعارة الشعرية النوعية، فالأولى من اختصاص النحويين، والثانية من اختصاص البلاغيين، فالنحوي يقدم الكلمات بحسب اشتقاقها، والبلاغي بحسب ما إذا كان لها مفعول على السامع به(83).

والاستعارة تأتي لأغراض كثيرة، کشرح المعنى والإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه... كما أن لها الفضل على التصريح بالحقيقة. والاستعارة ليست استعمالاً للألفاظ في غير مواضعها حسب، وإنما هي «تفاعل بين السياقات المختلفة، على أساس أن النغمة الواحدة في أية قطعة موسيقية لا تستمد شخصيتها ولا خاصيتها المميزة لها الا من النغمات المجاورة لها... كذلك الحال في الألفاظ، فمعنى أيّة كلمة لا يمكن أن يتحدد الا على أساس علاقتها بما يجاورها من الألفاظ »(84).

وهي فوق كل ذلك تمثل «وسيلة لتنظيم محيط الإنسان للعيش فيه والعمل عليه والتفاعل معه والتواصل بنجاح فيه، وهي أداة لإلحاق شيء بشيء أحياناً، وأداة لخلق واقع جديد أحياناً أخرى»(80).

ص: 341

ويربط بعض الباحثين بين الاستعارة وتداعي المعاني، فيجعل التصريحية منها تتضمن عمليتين عقليتين: «الأولى: متمشية مع الحقيقة والواقع، قائمة على قاعدة تداعي المعاني وهي إدراك ما بين المشبه والمشبه به من تشابه، ولأن التشبيه هو أساس الاستعارة فأنهما يشتركان في هذه العملية. والثانية: تتحقق في الاستعارة دون التشبيه وتميزها منه وهي عملية خيالية غير واقعية تلك هي ادعاء أن المشبه والمشبه به متحدان في الحقيقة فهما شخص واحد لا شخصان. أما المكنية: فنجد ثلاث عمليات عقلية هي: العمليتان السابقتان مضافاً إليهما عملية ثالثة متصلة هي تخیل اتصاف المشبه بما هو من خصائص المشبه به»(86).

ويبدو ان الأجدى في دراسة الاستعارة تقسيمها إلى تصريحية ومكنية - کما یری الدكتور احمد مطلوب؛ لأن ذلك عمدتها ما دامت الاستعارة تقوم على التشبيه(87)، تخلصاً من تلك التقسيمات المنطقية العقيمة التي ذهبت بروح البلاغة، وأفقدتها بريقها، فأحالتها علما خاضعا لقواعد صارمة ومعجم خاص لا يحق للأديب أن يخالفه، بعد أن كانت فنا يعتمد الذائقة لاستكناه مواطن الجمال و أسراره في النص.

ومن صور الاستعارة في النص العلوي: قوله: ((وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عن الجمحات))(88).

من خلال اختيار الفعل (یکسر) الذي يتلاءم مع المادة وتوظيفه ببراعة لمعنى امتناع النفس عن الشهوات والكف عنها، تتجلی ابداع الاستعارة التي تتضمن انزياحا عن المعيار، فالعبارة لو كانت بلغة معيارية مباشرة مثل: أن يكف او ان يمتنع عن الشهوات او الابتعاد والحذر، فان ذلك لا يحقق الرسالة؛ لأنها لغة متداولة ومستعملة، الا أن الفجوة / مسافة التوتر - على حد تعبير ابو ديب - تحققت من هذا التركيب: يكسر + نفسه، حيث ينقدح في ذهن المتلقي صورة الانكسار او اللاعودة الى الشهوات في مفارقة

ص: 342

لطيفة يخلقها التركيب، فيثير في المتلقي روح الاجتهاد والدافعية نحو الفعل لما يحمله التركيب من شحنة تحفيزية كبيرة.

ومنه أيضا قوله: ((ولا تنصبنَّ نفسكَ لحربِ اللهِ، فإنَّه لا يدَ لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته))(89).

يقال انه ((نلاحظ أحيانا وجود کناية ما وراء الصورة الاستعارية))(90). وعند التأمل في النص السابق نرى أن اليد وهي التي تحيل الى اكثر من معنى في مرجعياتها السياقية، فاليد الكرم والفضل والقدرة والهيمنة والجارحة والصنيع، والذي يتضح من خلال السياق ان اليد تعني القدرة والطاقة على التعرض لغضب الرب سبحانه، والذي يزيد الصورة الاستعارية توكيدا انها جاءت مسبوقة بلا النافية للجنس بحيث تنفي كل لوازم القدرة عن المتلقي في الوقت الذي تسبقه جملة: (ولا تنصبنَّ نفسكَ لحربِ اللهِ). والذي يبدو جليا هنا أن اليد تمتلك خزينا عاليا من الثراء على مستوى الكناية، وتسبطن الاستعارة فيها معاني كنائية مر ذكرها.

ومن لطائف الاستعارة قوله: ((فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ،

وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ))(91).

يشير البحراني في استعارة لفظ الحصون ((باعتبار حفظهم للرعية وحياطتهم لهم كالحصن،... استعار لفظ الأمن لهم باعتبار لزوم الأمن الوجود الجند في الطرق ونحوها))(92).

تنبني الاستعارة السابقة في (حصون الرعية وسبل الامن)، على صور حسية قريبة تنتمي الى بيئة المتلقي، وينفعل بمجرد سماعها، فتبعث في نفسه الشعور بأهمية هذه الطبقة من الشعب، ودورها الفاعل في حفظ کیان الامة والدفاع عنها، وتحفز المتلقي / الوالي الى العناية والتركيز على تلبية حاجاتهم لما يبذلونه من نفيس في سبيل الحفاظ على النوامیس المقدسة.

ص: 343

خاتمة

1. من خلال هذه القراءة السريعة لنص العد الشريف لامير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الاشتر يمكن أن ندون بعض النتائج في نهاية المطاف:

2. مثّل عهد الامام علي وثيقة متكاملة ودستورا شاملا في القيادة والادارة لكل من يتولى شأنا من شؤون العباد والبلاد.

3. لما كان الكتاب عبارة عن وصية طويلة، فان الغالب عليها هو صيغ الطلب المختلفة وخاصة، اسلوب الأمر والنهي. اذ ورد الامر في (89) موضعا، والنهي (في (44) مرة، ولم يرد النداء الا مرة واحدة لأن المتلقي ملتفت جيدا الى ما يقوله الإمام (عليه السلام) كيف لا؟ وهو مالك الاشتر (رضي الله عنه)، فلم يحتج النص إلى تكرا النداء الذي غايته الاولى والاسمی هي التنبيه.

4. تكرر اسلوب الامر بالفعل في (77) موضعا، وهو الذي غلب على اسلوب الامر، في حين ورد المضارع المسبوق بلام الامر في (12) موضعا، ولم يرد القسمان الاخيران في النص.

5. تكرر اسلوب النهي في صور مختلفة فتارة بالفعل المؤكد بالنون الثقيلة في (33) موضعا، وغير المؤكد في (5) مواضع، وجاء التحذير، وهو يقترب من معنى النهي ايضا في (6) مواضع ب(إياك).

6. فقد تكرر اسم التفضيل بأحواله المختلفة في (60) موضعا من العهد، توزع القسم الأكبر منها على النكرة والمضاف الى المعرفة، وأكثر ما جاء من المضاف إلى معرفة إضافته إلى الضمير (هم)، فقد جاء في (18) موضعا، و (11) موضعا مضافا الى اسم معرفة.

ص: 344

7. تميزت الاستعارة في النص العلوي بتوظيف فكرتي الاختيار والتوزيع التي تستوعب الدراسة الأسلوبية فمن خلال اختيار الفعل (یکسر) الذي يتلاءم مع المادة وتوظيفه ببراعة لمعنى امتناع النفس عن الشهوات والكف عنها، تتجلى ابداع الاستعارة التي تتضمن انزياحا عن المعيار، والتأثير في المتلقي.

ص: 345

الهوامش

1. دليل الدراسات الاسلوبية: 7.

2. دليل الدراسات الاسلوبية: 37.

3. دليل الدراسات الاسلوبية: 37 - 38.

4. الحجاج في القران من خلال اهم خصائصه الأسلوبية، دار الفارابي بيروت ط 2، 2007: 48.

5. دليل الدراسات الاسلوبية: 55.

6. دليل الدراسات الاسلوبية: 56.

7. دليل الدراسات الاسلوبية: 50.

8. دليل الدراسات الاسلوبية: 56.

9. لسان العرب، مادة (امر): 4 / 26 وينظر مقاییس اللغة: 1 / 137.

10. المعجم الوسیط: 1 / 26.

11. ينظر الكتاب: 1 / 137.

12. البحر المحيط: 1 / 181.

13. التعريفات: 38.

14. شرح المفصل: 7 / 58.

15. شرح الكافية: 2 / 267.

16. کشف المشكل في النحو: 141.

17. الصاحبي: 187.

18. الإتقان: 3 / 263.

19. الطراز: 3 / 282.

ص: 346

20. شروح التلخيص، شرح السعد: 2 / 308 - 309.

21. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 1 / 313.

22. ينظر: الصاحبي: 298، بلاغة التراكيب: 209.

23. نهج البلاغة: 544.

24. الأسلوبية: جورج مولينيه: 183.

25. نهج البلاغة: 545.

26. نهج البلاغة: 547.

27. البلاغة: 548.

28. البلاغة: 549.

29. البلاغة: 550.

30. نهج البلاغة: 552.

31. نهج البلاغة: 559.

32. نهج البلاغة: 558.

33. نهج البلاغة: 561.

34. آل عمران: 104.

35. التعريفات: 199.

36. ينظر: مفتاح العلوم: 429.

37. ينظر: بلاغة التراكيب: 212 - 213.

38. البحر المحيط: 1 / 436 - 337.

39. نهج البلاغة: 546.

40. نهج البلاغة: 567.

41. نهج البلاغة: 567.

ص: 347

42. نهج البلاغة: 568.

43. نهج البلاغة: 568.

44. نهج البلاغة: 568.

45. التّفضيل في اللغة: مصدر فَضَّلَ يُفَضِّلُ بالتضعيف، يقال: فَضّلتُهُ على غيره تَفضيلاً، أي حكمت له بذلك وصيرته كذلك، وجعلته أفضل منه، وأفضل عليه: زاد، فهو يدل على زيادة في شيء، ومن ذلك الفضل: الزيادة، يقال: «فَضَلَ الشيء يَفضُل، وربما قالوا: فَضِل يفضُل وهي نادرة، والفضل في القدر غير التَّفَضُّل الذي بمعنی الإفضال والتطوّل. ينظر العين: 7 / 44، ومقاییس اللغة: ابن فارس: 4 / 508.لسان العرب: 2 / 1105.

46. النحل: 92.

47. التوبة: 108.

48. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 8 / 166.

49. يوسف: 33.

50. همع الهوامع شرح جمع الجوامع: السيوطي: 2 / 104.

51. الإسراء: 54.

52. الروم: 27.

53. ينظر: اسم التفضيل في القران الكريم: دراسة دلالية، ریاض یونس خلف الجبوري، رسالة ماجستير، كلية التربية - جامعة الموصل 1929 ه - 2005 م.

54. الكليات:96. 55. النحل : 125. 56. معاني النحو: فاضل صالح السامرائي: 4 / 685.

57. الكليات: 96.

ص: 348

58. نهج البلاغة: 545.

59. نهج البلاغة: 547.

60. نهج البلاغة: 554.

61. نهج البلاغة: 560.

62. نهج البلاغة: 561.

63. العمدة: 1: 225.

64. دلائل الإعجاز: 55، ينظر: أسرار البلاغة: 28.

65. دلائل الإعجاز: 67، ينظر: أسرار البلاغة: 368 - 372.

66. مفتاح العلوم: 477.

67. المثل السائر: 1: 344.

68. أسرار البلاغة: 49 - 50.

69. الصناعتين: 260 - 261.

70. التصوير المجازي في مشاهد القيامة: 55.

71. العمدة: 1: 227.

72. ينظر: الموازنة: 195.

73. دلائل الإعجاز: 79.

74. ينظر: ينظر مفتاح العلوم: 523، المثل السائر: 1 : 351، الطراز: 110.

75. تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص): 81 وما بعدها.

76. بلاغة الخطاب وعلم النص: 159.

77. بناء لغة الشعر: 135.

78. بلاغة الخطاب وعلم النص: 181.

79. نظريه البنائية في النقد الأدبي: 82.

ص: 349

80. بلاغة الخطاب وعلم النص: 227.

81. بناء لغة الشعر: 136.

82. تحليل الخطاب الشعري: 84.

83. ينظر: نظرية الأدب: 253.

84. بلاغة الخطاب وعلم النص: 150 - 151.

85. تحليل الخطاب الشعري: 84.

86. فنون بلاغية: 161 نقلا عن: دراسات في علم النفس الادبي: حامد عبد القادر القاهرة 1949: 43 - 44.

87. ينظر: فنون بلاغية: 145.

88. نهج البلاغة: 544.

89. نهج البلاغة: 545.

90. دليل الدراسات الاسلوبية: 79.

91. نهج البلاغة: 550 - 551.

92. شرح نهج البلاغة للبحراني: 5 / 148.

ص: 350

المصادر والمراجع

1. الإتقان في علوم القران: جلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق: محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 2007 م.

2. أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق: احمد مصطفى المراغي، مطبعة الاستقامة، القاهرة، (د.ت).

3. الأسلوبية: جورج مولينيه: ترجمة وتقديم: د. بسام بركة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 2006 م.

4. اسم التفضيل في القران الكريم: دراسة دلالية، ریاض یونس خلف الجبوري، رسالة ماجستير، كلية التربية - جامعة الموصل 1929 - 2005 م

5. الايضاح: الإيضاح في علوم البلاغة: أبو عبد محمد بن سعد الدين بن عمر القزويني (ت 739 ه) تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1626 ه - 2003 م.

6. البحر المحيط البحر المحيط: أبو حيان محمد بن يوسف الاندلسي (745 ه)، تحت عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، ط 1، 2002 م.

7. بلاغة التراكيب دراسة في علم المعاني: د. توفيق الفيل، مكتبة الآداب، القاهرة، 1991 م.

8. بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل، سلسلة كتب عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1991 م.

9. بناء لغة الشعر: جان کوهن، ترجمة: د. أحمد درویش، دار المعارف، مصر، ط 3، 1993 م.

10. البيان في ضوء أساليب القران: د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر العربي، مصر، ط 2، 1418 ه - 1998 م.

ص: 351

11. تحليل الخطاب الشعري (إستراتيجية التناص): د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب، ط 4، 2005 م.

12. التصوير المجازي أنماطه ودلالاته في مشاهد القيامة في القران الكريم: د0 ایاد عبد الودود، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 1، 2004 م.

13. التعريفات: الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت 816 ه)، مؤسسة التاريخ الإسلامي، بيروت، ط 1، 1424 ه - 2003 م.

14. الجامع لأحكام القرآن: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله (671 ه)، تح: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 1، 2009 م.

15. الحجاج في القران من خلال اهم خصائصه الأسلوبية: 48، دار الفارابي بيروت ط 2 أ 20073

16. دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه) قرأه وعلق عليه: أبو فهر محمود محمد شاکر، دار المدني بجدة، المؤسسة السعودية بمصر مطبعة المدني، ط 3، 1413 ه - 1992 م.

17. دليل الدراسات الاسلوبية: جوزيف ميشال شريم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت، ط 2، 1987 م.

18. شرح الكافية: شرح الكافية: محمد بن الحسن الرضي الاسترابادي (ت 686 ه)، تحقيق: يوسف حسن عمر، مؤسسة الصادق، طهران، 1380 ه.

19. شرح المفصل: يعيش بن علي بن يعيش موفق الدين (643 ه)، ادارة الطباعة المنيرية بمصر.

20. شرح نهج البلاغة: كمال الدين میثم بن علي البحراني (679 ه)، منشورات دار الثقلين بيروت - لبنان، ط 1، 1999 م.

21. شروح التلخيص، وهي مختصر المعني للتفتازاني، ومواهب الفتاح للمغربي،

ص: 352

وعروس الافراح للسبكي، وبهامشه الايضاح للقزويني وحاشية الدسوقي) دار الكتب العلمية بيروت.

22. الصاحبي: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: أبو الحسن محمد بن فارس بن زکریا (395 ه)، تحقيق: السيد احمد صقر، دار ومكتبة إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1977 م.

23. الصناعتين : أبو هلال العسكري (ت 395 ه)، تحقیق : علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بیروت، 2006 م.

24. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز: يحيى بن حمزة العلوي (ت 749 ه)، مراجعة وضبط: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بیروت، ط 1، 1415 ه - 1995 م.

25. العمدة في نقد الشعر وتمحيصه: ابن رشيق القيرواني (ت 463 ه) شرح وضبط: د. عفيف نايف حاطوم، دار صادر، بیروت، ط 2، 2006 م.

26. فنون بلاغية: د. احمد مطلوب، دار البحوث العلمية، الكويت، ط 1، 1395 ه - 1975 م.

27. القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه)، إعداد وتقديم: محمد بن عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2002 م.

28. كتاب سيبويه: أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر (ت 180 ه)، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 2، 1402 ه - 1982 م.

29. الكليات - معجم في المصطلحات والفروق اللغوية: لأبي البقاء أيوب بن موسی الحسيني القريمي الكفوي (ت 1094 ه)، تح: د. عدنان درويش ومحمد المصري، منشورات ذوي القربی - قم، ط 1، 1433 ه.

30. لسان العرب: جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه)،

ص: 353

دار صادر، بیروت، ط 1.

31. المثل السائر: أبو الفتح ضياء الدين بن الأثير الموصلي (ت 637 ه)، تحقيق: کامل محمد محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1998 م.

32. معاني النحو: د. فاضل السامرائي، مؤسسة التاريخ الإسلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1928 ه - 2007 م.

33. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: د. احمد مطلوب، منشورات المجمع العلمي العراقي - بغداد، مطبعة المجمع العلمي، 1983.

34. مفتاح العلوم: أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي السكاكي (ت 626 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2000 م.

35. مقاییس اللغة: أبو الحسن محمد بن فارس بن زکریا (395 ه)، مصر، ط 2، 1969 م.

36. الموازنة بين أبي تمام والبحتري: أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 ه)، تحقیق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2006 م.

37. نظرية الأدب: رينيه ويليك واوستن وارين، ترجمة: محي الدين صبحي، مراجعة: د. حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، مط. الطرابيشي، 1972 م.

38. نظرية البنائية في النقد الأدبي: د. صلاح فضل، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 3، 1987 م.

39. نهج البلاغة: ضبط نصه وعلق وابتكر فهارسه: د. صبحي الصالح، انوار الهدى، قم - إيران مط: وفا، ط 4،، 1431 ه.

40. همع الهوامع شرح جمع الجوامع: جلال الين السيوطي (911 ه) :تح: احمد شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1998 م.

ص: 354

أثر التوازي التركيبي في بنية المفارقة دراسة نصية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

أ. م. د. لمى عبد القادر خنياب

كلية الآداب - جامعة القادسية

ص: 355

ص: 356

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله مستحق الحمد والصلاة والسلام على خير البرية أحمد، وآله الأبرار الأطهار وصحبه الأخيار، وبعد...

لما كان التوازي سمة إيقاعية لصيقة بالشعر، فقد سعى هذا البحث إلى تطبيق مقولة التوازي على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر لاحتساب مدی شعرية هذا النص؛ لأن هذا النمط من النصوص - أعني النصوص النثرية ذات البلاغة العالية - تُعد منطقة وسطى بين لغة الشعر ولغة النشر الاعتيادي أو التأليفي، فلاحتساب مستوى الشعرية فيها جرى اختبار مقولة التوازي فيها.

لكن التوازي التركيبي بوصفه تكراراً لنظم الجمل وأشباهها فهو إذن مقولة شكلية مفرغة من الدلالة، وهذا ما لا يقبله البحث، بل أثبت خلافه: وهو أنَّ التوازي يأتي قالباً شكلياً لجمل متماثلة أو متقابلة دلالياً، لجذب انتباه المتلقي للماثلة بين جملتين أو أكثر أو للتضاد بينهما فجيء بهذا الوعاء الشكلي ليكون إيقاعاً موسيقياً داعماً للمعني.

ونظراً لكثرة المصاديق في هذا المتن لما تقدم سيكتفي البحث برصد الجمل المتقابلة دلالياً؛ ليتسنى لنا الكشف لاحقاً عن بنية المفارقة وأثر التوازي التركيبي في المفارقة اللغوية في هذا النص المدهش.

ص: 357

توطئة:

التوازي صفة لصيقة بالآداب جميعاً أتفق الباحثون على أنَّه من السمات الفنية للشعر خاصة، قال جاكبسون: «إنَّ المسألة الأساسية للشعر تكمن في التوازي وقد لا نخطئ حين نقول: إنَّ بنية الشعر هي بنية التوازي المستمر»(1). «فهو سمة إيقاعية قلما يخلو شعر منها»(2) حتى صار ينظر إلى التوازي باعتباره [كذا] علامة على الشعرية وغيابه علامة على البعد النثري»(3) لكن البحث يسعى إلى اختبار مقولة التوازي - وهي خاصية شعرية بحسب ما تقدم - على نص نثري وما استشفع به في هذا المقام هو إمكانية تلمس التوازي في الفنون النثرية لأنَّ الشعرية سمة للنصوص الإبداعية نثرية وشعرية وليست مقصورة على الشعر فقط، بل تطرد على الفنون النثرية التي جاوزت اللغة الاعتيادية إلى لغة أدبية رفيعة تشتمل على الفنون البلاغية التي ذكرها جاكبسون من تشبيه واستعارة ومقابلة وسجع وغيرها، فضلاً عن أنَّ أول محاولة لرصد التوازي أجريت على نصٍ نثري، وهي المحاولة التي قام بها (روبرت لوث 1753 م) إذ حلل الآيات التوراتية في ضوء التوازي(4).

ثم جرى استثمار مقولة التوازي في الشعر لا حقاً؛ لتمظهرها فيه بشكل لافت بفعل الوزن والقافية التي تضفي عليه إيقاعاً موسيقياً متكرراً.

لما كان التوازي هو «تنمية لنواة معينة بإرکام قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعنوية وتداولية ضماناً لانسجام الرسالة»(5) فهذا يعني أنَّ التوازي يشتغل على مستويات اللغة جميعاً: صوتاً، وصرفاً، ونحواً، ودلالة وما يؤكد هذا أنَّ البنية الشعرية ذات طبيعة تکرارية منتظمة في نسق لغوي ويجمل جاكبسون الأدوات الشعرية التكرارية بقوله: «منها الجناس والقافية والترصيع والسجع والتطريز والتقسيم والمقابلة والتقطيع والتصريع وعدد المقاطع أو التفاعل والنبر والتنغيم ويمكن البنية التوازي هذه أن

ص: 358

تستوعب الصور الشعرية بما فيها التشبيهات واستعارات ورموز»(6).

وما يهمنا في هذا البحث من صور التوازي هو التوازي التركيبي، لكن هذا لا يعني أنَّه توازٍ معرى عن فحواه الدلالي بل التوازي بوصفه وعاء لنمط معين من الدلالة وهي المفارقة اللغوية التي تتأسس على التقابل الدلالي بين بعض المفردات مما يفضي إلى مفارقة بين التركيبين اللذين سُبكا في وعاءٍ شكلي متناظر وسم بالتوازي وتقوم المفارقة على الجمع بين المتناقضات لتحقيق الدهشة عند المتلقي بكسرها نسق توقعاته، بإقامة علاقات ذهنية بين الألفاظ(7)، لتسجل تناقضاً بين ظاهرتين تثير تعجب متلقيها من دون الحاجة إلى تفسير أو تعليل(8). تبدأ المفارقة غالباً من اللغة إذ يتحقق التقابل اللغوي على المستوى السطحي للتركيب، بيد أنَّ عنصر الدهشة يدفع بالمتلقي إلى الغوص في أعماق دلالات التراكيب كشفاً عن مرام منتج النص.

التوازي التركيبي:

تقدم القول: بأنَّه يمكن لنا رصد أشكال التوازي على مستويات اللغة جميعاً ومن بينها المستوى النحوي إذ يستحيل فيها التركيب أوعية متشابهة للمعاني المختلفة أو المترادفة، وقد عرَّفه د. صلاح فضل بقوله : هو «من أشكال النظام النحوي الذي يتمثل في تقسیم الفقرات بشكل متماثل في الطول والنغمة والتكوين النحوي بحيث تبرز عناصر متماثلة في مواقع متقابلة في الخطاب»(9). على حين ذهب د. عفيفي إلى أنَّه «تكرار لنظم الجمل وشبه الجمل مع اختلاف الوحدات المعجمية التي تتألف منها الجمل حيث تبنى بشكلٍ متواز في الشعر أساساً وفي النثر وفق هذا المفهوم»(10). ويريد د. عفيفي بشبه الجمل في كلامه المتقدم أجزاء الجمل وأبعاضها ولا يريد ب(شبه الجملة) المصطلح القار في الدرس النحوي.

وعليه يكون التوازي التركيبي هو تكرار لمباني الجمل(11).

ص: 359

المتوازيات الفعلية

المتوازيات الفعلية في سياق الإثبات:

قال (عليه السلام): «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَ اَلْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ اَلْعُنْفُ وَ لاَ يَقْعُدُ بِهِ اَلضَّعْفُ»(12)

أولى هذه المتوازيات ترد في قوله (عليه السلام) المتقدم ونصها (يرأف بالضّعفاء و ينبو على الأقوياء) تأتي هذه المفارقة منسبكة في التوازي الآتي [فعل مضارع + حرف جر + اسم مجرور]

مشفوعة بإيقاع موسيقي ضمنته الفاصلة (أقوياء / ضعفاء)، وتتوكأ المفارقة في هذا التوازي على المتقابلات اللغوية (يرأف ≠ ينبو، و أقوياء ≠ ضعفاء).

إنَّ هذا التوازي قد جاء في سياق الأوصاف التي سردها (عليه السلام) لقائد الجند حاملاً لمفارقة لافتة (يرأف بالضّعفاء / ينبو على الأقوياء) وقد فسر ابن أبي الحديد قوله (عليه السلام) : (ينبو على الأقوياء) «يتجافى عنهم أي لا يُمکِّنهم من الظلم والتعدي على الضعفاء»(13).

ولا أرى أنَّ معنى الفعل (نبا) هاهنا يراد به جفا وتباعد بدلالة حرف الجر (على) فلو أُريد به التجاني والبعد لتعدی ب (عن) لكنَّه أراد به العلو(14)، وكأنه أراد مَن يشتد عليهم ويعلو ليكف أيديهم عن ظلم الضعفاء(15).

ومنه قوله (عليه السلام): «وَ أَمَّا بَعْدُ فَلاَ تُطَوِّلَنَّ اِحْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ اِحْتِجَابَ

اَلْوُلاَةِ عَنِ اَلرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ اَلضِّيقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ اَلاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ

عِلْمَ مَا اِحْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ اَلْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ اَلصَّغِيرُ وَ يَقْبُحُ اَلْحَسَنُ وَ يَحسُنُ

ص: 360

اَلْقَبِيحُ وَ يُشَابُ اَلْحَقُّ بِالْبَاطِلِ»(16).

يحتشد النص بالمتوازيات أولها: (فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير) يعرب الإمام في هذا التوازي عن معنی جلیل فإنَّ فعل واحد تتأسس عليه نتیجتان متضادتان أما الفعل المؤسس فهو احتجاب الولاة عن الرعية الذي يترتب عليه النتيجة الأولى تصغير العظيم ثم النتيجة الثانية المغايرة للأولى تعظيم الصغير، والنتيجتان متناقضتان على المستوى السطحي لكنهما على المستوى العميق يتماثلان فكلتاهما تكشف عن الجهل وسوء التقدير الناجم عن الابتعاد عن الناس (الحقيقة).

ولا يبتعد التوازي الثاني عن سابقه كثيراً ونصه: (يقبح الحسن و يحسن القبيح) الذي يستند إلى الفعل المؤسس نفسه (احتجاب الولاة عن الرعية) مما يؤدي إلى تزييف الحقائق فيجمل وزراؤه وحجابه ما يريدون تجميله ويقبحون ما يريدون والنتيجتان متضادتان سطحياً متماثلات جوهرياً.

المتوازيات الفعلية في سياق النفي:

قال عليه السلام: «بِسْمِ اَللِّهَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اَللِّهَ عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَرَةَ بِلاَدِهَا أمَرَهُ بِتَقْوَى اَللِّهَ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اِتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ اَلَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَ لاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا»(17).

إنَّ النواة التي يلتف عليها النص بأسره هي (فرائض الله وسننه) فكانت موطن عنايته (عليه السلام) فأراد لها أن تجذب انتباه متلقيه وترسخ في نفوسهم فتخير لها جملة أمور لخدمتها:

ص: 361

أولاً جعلها الحدث الذي تتأسس عليه نتیجتان متقابلتان على المستوى السطحي متحدتان على المستوى العميق: الأولى (لا يسعد أحد إلا بإتباعها) والثانية (لا يشقى إلا مع جحودها) فضمنت بنية المفارقة خيارين متقابلين لمرجع واحد (فرائض الله وسننه) و قد ارتكزت هذه المفارقة على متقابلات لغوية هي: (يسعد ≠ يشقی، إتباعها ≠ جحودها = إضاعتها).

وبالنظر إلى الثنائية الأولى (يسعد ≠ يشقی) نلحظ توظيفاً مباشراً لهذه الألفاظ فقابل عليه السلام بين السعادة والشقاوة(18) مقابلة مباشرة لتسلم إلى النتيجة المرجوة من دون تفکر وطول تدبر، أما الثنائية الأخرى فقد وضعت (اتبع) في مقابل اللفظين (جحد وضاع) وواضح الفارق الدلالي بين هذه الأفعال فكل منها ينتمي إلى حقل دلالي مغایر فالفعل (اتبع) يدل على السير في إثر الشيء وقفاه و تطلَّبه(19)، بخلاف الفعل (جحد) الذي يدل على الإنكار مع العلم بفضله(20)، على حين يدل الفعل (ضاع) على الإهمال(21)، وقد جمع (عليه السلام) بين (جحدها وضياعها) لتوصيف أحوال الولاة في ترك فرائض الله إما بالإنكار المتعمد أو بالإهمال والتقصير.

ثم في المحصلة النهائية سبکت هذه المتقابلات با تفضي إليه من مفارقة في قالب شکلی قوامه: [لا النافية + فعل مضارع + فاعل + إلا الاستثنائية + حرف جر + اسم مجرور + الضمير العائد على الفرائض]، كانت فيه (إلا) بيضة قبان لا يتحقق ما قبلها إلا بتحقق ما بعدها، فلا يسعد المرء إلا بإتباع الفرائض ولا يشقى إلا بتضييعها.

ومنها أيضاً ما جاء في قوله (عليه السلام): « فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ اَلْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَ اَلْأَقْوِيَاءِ»(22)

النص زاخر بالمتوازيات التركيبية المتوالية التي وظفها الإمام في سياق تحديد صفات

ص: 362

قائد الجند منها متوازيات مترادفة : (أنقاهم جيباً و أفضلهم حلماً)، و (يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر) ومنها ما هي متوازيات ضدية (يرأف بالضّعفاء و ينبو على الأقوياء) التي سنأتي على تحليلها لاحقاً و ما يستوقفنا هاهنا قوله (عليه السلام): (لا يثيره العنف و لا يقعد به الضّعف)، واضح مدى الانسجام الصوتي الذي تحققه السجعات (الضعفاء، الأقوياء) و (العنف، الضعف) يظهر التوازي التركيبي في الجملة الفعلية المنفية ب(لا) قالباً شكلياً لبنية المفارقة اللغوية في قوله (عليه السلام): (لا يثيره العنف و لا يقعد به الضّعف) بعد أن ضمن لها الإيقاع الصوتي المناسب ففي قوله (عليه السلام): (لا يقعد به الضّعف) كسراً لأفق توقع المتلقي فالمتلقي يتوقع ترکیباً مترادفاً مع الأول ولا سيما وهو متجانس معه ترکیبياً وإيقاعياً غير أنَّه (عليه السلام) جاء بتركيب مفارق دلالياً عن سابقه، لكن هذا التقابل بين ( عنيف ≠ ضعیف) لا يُعد تقابلاً مباشراً ولو أراد التقابل المباشر لقابل بين القوة والضعف، فالعنف ضد الرفق وهو الحرق بالأمر(23) أما القوة فهي نقيض الضعف(24)، وكأن هذه الثنائية الضدية تكشف عن الصفة التي يريد الإمام توفرها في قائد الجند وهي (لا العنف ولا الضعف) بل هي القوة ؛ لان القوي «هو الذي يقدر على الشيء وعلى ما هو أكثر منه»(25) بحكمة وعدل.

ص: 363

المتوازيات الفعلية في سياق النهي:

يشيع في هذا الضرب من التأليف - أعني العهود والوصايا - استعمال أسلوبي الأمر والنهي فهو في فحواه توجيه من ولي الأمر إلى عماله، ومن قبيل ما جاء في عهده (عليه السلام) لملك الاشتر من المتوازيات الفعلية في سياق النهي قوله (عليه السلام) : لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَ عَفْوٍ وَ لاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لاَ تُسْرِعَنَّ إِلَ بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَ لاَ تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي اَلْقَلْبِ وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ اَلْغِيَرِ»(26).

في النص ثلاث متواليات متوازية تنسبك في القالب الآتي:

[لا الناهية + فعل مضارع + جار ومجرور] وهي:

1. لا تندمنّ على عفو

2. لا تبجحنّ بعقوبة

3. لا تسرعنّ إلى بادرة

تكمن المفارقة في هذه المتوازيات في المتقابلات اللغوية الآتية: (عفو ≠ عقوبة = بادرة)

أما العفو فهو «التجاوز عن الذنب وترك العقاب»(27) على حين يحيل العقاب على الجزاء(28) أما البادرة فهي الحدة «وهو ما يبدو من حدة الرجل عند غضبه من قول أو فعل«(29) وبهذا تكون البادرة والعقوبة في حقل دلالي واحد في مقابل (العفو) وبهذا تكون هذه المتوازيات تعرب عن ثلاث حالات قد تنتاب الوالي والحاكم وهي: الندم على العفو التي تشكل في مستواها السطحي تضاد مع التبجح بالعقوبة والتسرع في الحدة لكن الحقيقة في جوهرها جميعاً تدعو إلى الحلم والوسطية في التعامل مع الرعية.

ومنه أيضاً ما جاء في قوله (عليه السلام): «و لا تَنْقُضْ سُنَّةً صالحةً عَمِلَ بها صُدورُ

ص: 364

هذه الأُمّةِ، و اجْتَمَعَتْ بِها الأُلْفَةُ، و صَلَحَتْ عَلَيها الرّعيّةُ، و لا تُحْدِثَنَّ سُنّةً تَضُرُّ بشيءٍ مِن ماضي تلكَ السُّنَنِ فَيكونَ الأجرُ لمنْ سَنَّها، و الوِزْرُ عليكَ بما نَقَضْتَ مِنْهَا»(30).

يظهر التوازي في قوله (عليه السلام): (لا تنقض سنّة) و (لا تحدثنّ سنّة) المتركب في القالب الآتي [لا الناهية + فعل مضارع + فاعل ضمير مستتر + مفعول به] وفي النص مفارقة بين نقض السنة الصالحة واستحداث سنة سيئة، تتأسس على التقابل اللغوي بين الفعلين (تنقض ≠ تحدث).

ومنه أيضاً قوله (عليه السلام): «لاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ اِمْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لاَ ضَعَةُ اِمْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظِيماً»(31).

المتوازيات الاسمية

ومنها قوله (عليه السلام): «وَ لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اَللِّهَ فَإِنَّهُ لاَ يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ

لا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ»(33). ونص التوازي فيه (لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه)

يأتي التوازي على التركيب الآتي:

[لا النافية + اسمها + خبرها (جار ومجرور (كاف الخطاب)) + جار ومجرور]

يشتمل وعاء التوازي هذا على مفارقة بديعة تتمحور على تقابل دلالي بين (النقمة ≠ العفو) فضلاً عن الاستعارة في (لا يد) التي کنی بها (عليه السلام) عن القوة والقدرة، فیکشف النص عن حاجة العبد لربه في اثنين: لا قدرة له على رد نقمته وفي الوقت نفسه لا غنى له عن عفوه ورحمته.

ص: 365

ومنه أيضاً ما جاء في قوله (عليه السلام): «وَلْيَكُن أحَبّ الأُمُورِ إِلَيكَ أَوْسَطُها في الحَقّ وَأَعَمُّها في العَدلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَی اَلرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ يْجُحِفُ بِرِضَ اَلْخَاصَّةِ وَ إِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَ اَلْعَامَّةِ»(33).

ونص التوازي: (فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة)

يشتمل النص على مفارقة جوهرها جدلية (خاصة الحاكم وبطانته / عامة الناس) فرضا الأولى ينعكس سلباً على الثانية والعكس بالعكس، وهنا يرجح الإمام رضا العامة على رضا الخاصة ويوجه مالكاً لذلك معللاً ذلك بجملة متواليات متوازية إذ قال (عليه السلام): «وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی اَلْوَالِی مَئُونَةً فِي اَلرَّخَاءِ وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي اَلْبَلاَءِ وَ أَكْرَهَ للْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ اَلْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ اَلْمَنْعِ وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الَدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَ إِنَّمَا عِمَدُ الَدِّينِ وَ جِاَعُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ اَلْعَامَّةُ مِنَ اَلْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ».

انظر إلى المتوازيات الآتية: أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء

أقلّ معونة له في البلاء

و قالبه التركيبي لمبتدأ (أفعل تفضيل) + جار ومجرور + تمییز + خبر (جار ومجرور)]

وما ينطوي عليه هذا التوازي من مفارقة تعري أهل الخاصة وحالهم في الرخاء والبلاء صورها الإمام خیر تصویر، شفت عنها المتقابلات اللغوية: (أثقل ≠ أقل، و معونة ≠ مؤونة، و الرخاء ≠ البلاء) مع مراعاة للمناسبة الصوتية بين المتقابلات.

ص: 366

وكذا التوازي الثاني:

أكره للإنصاف

أسال بالإلحاف

ينطوي هذا التوازي أيضاً على مفارقة لحال أهل الخاصة منسبكة في التركيب الآتي: [أفعل تفضیل (مبتدأ) + خبر (جار ومجرور)]. يردفه بتوازٍ ثالث وهو:

أقلّ شكراً عند الإعطاء

أبطأ عذراً عند المنع

أضعف صبراً عند ملمّات الدّهر.

كان التركيب الآتي وعاء لها:

[أفعل تفضيل (مبتدأ) + تمييز + ظرف + مضاف إليه (خبر)].

واشتمل هذا التوازي على مفارقة فضحت بطانة الحكام بتوظيف التقابل بين الإعطاء ≠ المنع) ويعود بنا النص الأخير (أضعف صبراً عند ملمّات الدّهر) لیسبك النص مع ما تقدم فهو تكرار لقوله (عليه السلام): (أقلّ معونة له في البلاء) فضلاً عن تصدر صيغة أفعل التفضيل في المتوازيات جميعاً بوصفها شكل من أشكال الاتساق النصي(34).

ومن قبيل المتوازيات الاسمية ما جاء في قوله (عليه السلام): «وَلاَ يَكُونَنَّ اَلْمُحْسِنُ

وَ اَلْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْأِحْسَانِ وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ عَلَی اَلْإِسَاءَةِ وَ أَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(35).

ص: 367

يشف النص عن متوازيان يبدوان في ظاهرهما متقابلان:

تَزْهِيداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْإِحْسَانِ

تَدْرِيباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ عَلَی اَلْإِسَاءَةِ

لما يشتملان عليه من متقابلات لغوية مباشرة (أهل الإحسان ≠ أهل الإساءة)، و الإحسان ≠ الإساءة) فضلاً عن التقابل غير المباشر في (تزهيداً ≠ تدريباً) بإحالة الأول على القلة ودلالة الثاني على الكثرة، لكنَّهما على المستوى العميق يجريان في المعنى نفسه وهو النهي عن مساواة المحسن بالمسيء لأنَّه يودي إلى نتيجتين: الأولى تتعلق بالمحسن وزهده بالإحسان، وثانية تتعلق بالمسيء وتعوده على الإساءة.

ص: 368

الخاتمة

الحمد لله ثانية، بعد بحث موضوعة التوازي التركيبي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر تبيّن لنا جملة أمر يمكن إجمالها فيما يأتي:

1. على الرغم من عدّ الدراسات النقدية التوازي سمة لصيقة بالشعر لكنَّنا نرى أنَّ للنثر نصيب منها ولا سيما الخطابة والوصايا والعهود التي تتسم بلغتها العالية وبلاغتها الجلية.

2. إنَّ التوازي مظهر من مظاهر الاتساق الشكلية؛ لذا درسها كثير من النصيين في المستوى الصوتي غير أنَّ البحث أثبت عدم خلوها من الدلالة، بل يأتي التوازي وعاء مناسباً لتقديم الدلالة لتكون أكثر تأثيراً في متلقيها.

3. معظم المتوازيات التي وقف عليها البحث في النص المدروس كانت إما وعاء لنصين متقابلين دلالياً أو نصين متماثلين دلالياً، مما يعزز النتيجة السابقة بعدم خلو القالب المتوازي من الدلالة.

4. تنصهر المتقلابلات الدلالية في بنية التوازي محققة في المحصلة النهائية مفارقة لغوية، تكسر أفق التوقع وتحقق الادهاش.

5. هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 369

الهوامش

1. قضايا الشعرية: 105 - 106

2. التوازي في شعر يوسف الصائغ: 9

3. جمالية التوازي في شعر نزار قباني: 32

4. ينظر التشابه والاختلاف: 111

5. تحليل الخطاب الشعري: 25

6. قضايا الشعرية: 7 - 8

7. المفارقة، نبيلة إبراهيم: 123، مجلة فصول، مج: 7، ع 3 - 4، 1987 م.

8. ينظر ابن سينا الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر، عبد العزيز الاهوان: 105

9. بلاغة الخطاب وعلم النص: 198

10. نحو النص: 111

11. ينظر نحو آجرومية للنص الشعري: 159

12. نهج البلاغة: 398

13. شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 17 / 36

14. ينظر لسان العرب (نبا) 15 / 302

15. ينظر شرح نهج البلاغة (محمد عبده): 526

16. نهج البلاغة: 407

17. نهج البلاغة: 392 - 393

18. قال ابن منظور: «السعادة خلاف الشقاوة« (سعد): 3 / 213، وقال في موضع آخر «الشقاء والشقاوة بالفتح ضد السعادة «لسان العرب (شقي): 14 / 438

19. ينظر لسان العرب (تبع): 8 / 27

ص: 370

20. ينظر الفروق اللغوية: 57، و لسان العرب (جحد): 3 / 106.

21. ينظر لسان العرب: (ضيع): 8 / 231

22. نهج البلاغة: 398

23. ينظر لسان العرب (عنف) 9 / 257

26. ينظر لسان العرب: (قوي) 15 / 207

25. الفروق اللغوية: 123

29. نهج البلاغة: 394

27. لسان العرب (عفو) 15 / 74

28. ينظر نفسه: (عقب) 1 / 620

29. نفسه: (بدر) 4 / 48

30. نهج البلاغة: 397

31. نهج البلاغة: 400

32. نهج البلاغة: 394

33. نهج البلاغة: 1395

34. ينظر الإحالة دراسة نظرية: 83

35. نهج البلاغة: 396 - 397

ص: 371

جريدة المصادر

1. القرآن الكريم

2. ابن سينا الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر، د. عبد العزيز الاهواني، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة / 1962 م.

3. بلاغة الخطاب وعلم النص، الدكتور صلاح فضل، عالم المعرفة (164)، 1992 م.

4. تحليل الخطاب الشعري (إستراتيجية التناص)، الدكتور محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، بیروت، 1985 م.

5. التشابه والاختلاف، الدكتور محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط 1، الدار البيضاء، 1996 م.

6. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقیق: محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد، ط 1، 2007 م.

7. الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري (ت 400 ه) علق عليه ووضع حواشيه:

محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 2005 م.

8. قضايا الشعرية، رومان جاكبسون، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1988 م.

9. لسان العرب، للإمام العلامة جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه)، دار صادر، بیروت، د.ت

10. نهج البلاغة الجامع لخطب ورسائل وحكم أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام شرح محمد عبده، أشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل، منشورات مكتبة التحرير، د.ت.

11. نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن

ص: 372

الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام، تحقیق الشيخ فارس حسون.

البحوث والدوريات

1. التوازي في شعر يوسف الصائغ وأثره في الإيقاع والدلالة، سامح رواشدة، مجلة أبحاث اليرموك، الأردن، المجلد (16)، العدد (2) لسنة 1998 م.

2. المفارقة، نبيلة إبراهيم، مجلة فصول، مج: 7، ع 3 - 4، 1987 م.

3. نحو آجرومية للنص الشعري، دراسة في قصيدة جاهلية، سعد مصلوح، مجلة فصول، المجلد (10)، العدد (1 - 2) 1991 م.

4. الرسائل والاطاريح

5. جمالية التوازي في شعر نزار قباني نحو مقاربة سيميائية أسلوبية، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحاج لخضر، بتانة، الجزائر، للطالب يوسف بیدة، لسنة، 2013 - 2019.

ص: 373

ص: 374

عهد الامام علي (عليه السلام) للأشتر (رضي الله عنه) قراءة في ضوء نظرية (بيرلمان) الحجاجية

اشارة

أ. د محمد جواد حبيب البدراني

جامعة الموصل - كلية التربية للعلوم الانسانية

منسب حاليا بجامعة البصرة

ص: 375

ص: 376

تعد نظرية باليرمان الحجاجية واحدة من أهم نظريات الحجاج المعاصرة، وقد عرض هذه النظرية في كتابه (تصنيف في الحجاج الخطابة الجديدة) وهو كتاب شاركه فيه زميله (تیتیکاه)، وطبع في طبعات عديدة وترجم للغات متعددة، فضلا على مؤلفاته الاخرى في الحجاج، وتعد نظريته الحجاجية من اكثر نظريات الحجاج تركيزا على الاقتناع لا الاقناع.

يعرف باليرمان وزميله الحجاج بانه (تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان الى التسليم با يعرض عليها من اطروحات او تزيد في درجة ذلك التسليم.... فانجح الحجاج ما وفق في جعل حدة الاذعان تقوی درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على انجاز العمل المطلوب انجازه او الامساك عنه او هو ما وفق على الاقل في جعل السامعين مهيئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة(1).

ان تعریف بيرلمان للحجاج يتركز على تحديد الوظيفة التي يؤديها وهي (حمل المتلقي على الاقتناع بها نعرضه علیه او الزيادة في حجم هذا الاقتناع)(2)، فالهدف الاساس الذي يرومه المحاجج کسب المتلقي والتأثير فيه واستمالته إلى الهدف المطلوب.

ص: 377

يؤكد باليرمان في كتابه امبراطورية البلاغة ان الحجاج يهدف إلى التأثير ثم العمل حيث ان هذا التاثير ناتج من خلال استخدام العقل والادراك لما يحيط بالمتلقي من حجج اي تاثیر ناجم من ارادته وليس تاثیرا ناتجا من الاجبار او المناورة(3) .......فالمحاجج (بكسر الجيم) يسعى لتعزيز الاقتناع لا الاقناع في ذهن المحاجج (بفتح الجيم) وهذا ما دفع عبد الله صول إلى القول (ان العمل المترتب على الحجاج ليس متوسلا اليه بالمغالطة والتلاعب بالأهواء والمناورة، وانما هو عمل هيأ له العقل والتدبر والنظر، وهكذا تكون قوى الانسان (العقل والهوى) عندهما قوة متضامنة متفاعلة لا قوی منعزلة عن بعضها البعض(4). مما يجعل الاقتناع بموضوع الحجاج اقتناعا تاما لا مناص منه.

يعد عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر واليه على مصر من اهم الوثائق واكثرها شمولية وعمقا في التاريخ الفكري الاسلامي اذ تضمن العهد تفصیلات وافية في السياسة العامة للدولة ونظامها المالي والاقتصادي وترتيباتها الدفاعية وعلاقاتها الخارجية وتفعيل الرقابة الذاتية على سلطات الدولة ورقابة السلطة العليا ورقابة السلطات على بعضها وكيفية معالجة التجاوزات والقضاء على التفاوت الطبقي ومراعاة الظروف العامة للمواطنين ومعاملتهم بالحسنى فضلا على وضع الاسس الدقيقة للتطوير والبناء، ولأهميته الكبرى فقد حظي بدراسات عديدة ومتنوعة ولذلك سعينا إلى دراسة عهد الامام عليه السلام على ضوء نظرية باليرمان للتعرف على القدرة الحجاجية لهذا النص.

اشار باليرمان ان للخطاب قبل استقامته کیانا مشكلا من تقانات حجاجية يواجه بها المتكلم المخاطب لايقاع التصديق مدارها على منطلقات حجاجية ينطلق منها المحاجج بوصفها مسلمات(5) وتهدف هذه المقدمات الى تعزيز القناعة لدى المتلقين وتكون المثابة الانطلاق المحاجج واهمها:

ص: 378

1. الوقائع:

تمثل الوقائع ما هو مشترك بين عدة اشخاص او بين جميع الناس ولا تكون عرضة للدحض والشك وتنقسم الى وقائع مشاهدة واخرى مفتوحة لكن ما يجمعها تسلیم الجمهور واقتناعه بصحتها(6).

ولعل اول تلك الوقائع التي نلاحظها في نص الامام علي عليه السلام لمالك مقدمة العهد التي ورد فيها (امره بتقوى الله وایثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد واحد الا باتباعها ولا يشقى الامع جحودها واضاعتها وان ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فانه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره واعزاز من اعزه(7).

لقد ابتدأ الامام العهد بذكر وقائع مشتركة لا يشك في مدى صحتها ولا يتنازع في وجوبها اثنان من المجتمع الاسلامي المخاطب وهي وجوب تقوى الله واتباع دينه الذي يحقق السعادة في الدارين ولانه في معرض تثبیت حجية الوقائع التي سنتحدث عنها ابتدأ الامام عليه السلام بحقائق راسخة مصدرها القران الكريم فهو يتناص مع العديد من الآيات التي تجعل تقوى الله مصدر سعادة الدارين «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» الحديد 28 ومع قوله تعالى «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحج: 40 ومع قول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبلسانه وذلك اضعف الايمان.

ص: 379

لقد وضع الامام عليه السلام الحقائق الثابتة المتفق عليها امام اعين المتلقين كي يتدرج معهم في سلسلة الاقتناع فهو يسعى لتعزيز الاقناع الذي يتناول الاعتقاد لا المعرفة حول الحق والباطل)(8) اذان المتلقي الافرادي والجمعي يؤمن بحجية القران والنص النبوي الشريف لكن مسعى الأمام يتمثل في ترسيخ هذا الاعتقاد والعمل بموجب لا مجرد الاكتفاء بمعرفته، لذلك سعي لتثبيت الواقعة الاعتقادية قبل البدء بعرض الحقائق.

2. الحقائق:

(وهي انظمة اكثر تعقيدا من الوقائع وتقوم على الربط بين الوقائع ومدارها على نظريات علمية او فلسفية او دينية حيث يعمد المحاجج الى الربط بين الوقائع والحقائق ليحدث موافقة الجمهور علة واقعة معينة غير معلومة كأن يضاف التيقن من الواقعة (أ) إلى النظرية (س) لانشاء التيقن بالواقعة (ب)، ومعنى ذلك أن التسليم بالواقعة (أ) وبالنظرية (س) يعني التسليم بالواقعة (ب).

يقول الامام علي عليه السلام في عهده (ان شر وزرائك من كان قبلك للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فانهم اعوان الاثمة واخوان الظلمة، وانت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم واوزارهم وآثامهم)(9).

ان الامام يتدرج في تعزيز الحقائق وترسيخها في ذهن المحاجج فالإمام حين يدعو مالكا إلى عدم الاستعانة بوزراء كانوا قبله وزراء للاشرار فهو يؤكد حقيقة أن وزیر الحاكم الشرير هو شرير حتما لانه عونه على الاثم واداته في تنفيذ ذلك، وبهذا ينتقل الى الحقيقة التالية وهي مادام الوزراء اشرارا وعملوا مع حاکم شرير فهم بالتاكيد اذا عاودوا العمل مع الحاكم الجديد سيجرونه الى طريق الشر بالتدرج لذلك فمن الواجب عليه عدم الاستعانة بهم وقد استثمر الامام ( مفهوم التدرج الحجاجي والخطاب من

ص: 380

حيث تركيزه على مبدأ التدرج في توجيه الحجج....... واحالة هذا المحتوى على مرجع معين)(10) ليزيد قناعة المتلقي بتلك الحقائق التي يروم ان يهدي الناس اليها ويعلم الحكام على تطبيقها.

3. الافتراضات:

(وهي شأنها شأن الوقائع والحقائق تحظى بالموافقة العامة ولكن الاذعان اليها والتسليم بها لا يكونان قويين حتى تاتي مسار الحجاج عناصر اخرى تقويها)(11).

ولعل ذلك يعود لكون الافتراضات غير يقينية بل تحتمل التصديق والتكذيب فضلا على ان (الافتراضات ليست ثابتة بل هي متغيرة تبعا للوسط والمقام والمتكلم والسامعين لأنها تقاس بالعادي والعادي مفهوم مجرد يختلف باختلاف القدرات والامكانات الفردية والجماعية)(12). من هنا فان الافتراضات لا ترقى لمستوى اليقين لذلك تحتاج الى تعزيز بادلة تزيد من رسوخ الاقتناع لدى المستهدف بالحجاج يقول الامام علي (عليه السلام) في العهد (لا تطيلن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وانما الوالي لايعرف ما توارى عنه الناس به من الامور وليس على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب وانما انت احد رجلين، اما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه او فعل كريم تبدیه، او مبتلى بالمنع فا اسرع كف الناس عن مسالتك اذا ايسوا)(13).

ان الامام مدرك لحقيقة قبح احتجاب الحاكم عن رعيته وذلك لانه يضع هوة بين الحاكم والمحكوم ويعزز الفرقة بينهما فيظل الحاكم معتمدا على اراء من حوله من حاشية لا يعرف احوال الناس واحتياجاتهم فتكون سياساته بمجملها فاشلة وقد روي عن

ص: 381

رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال (ما من امام او وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسالة الا اغلق الله ابواب السماء دون خلته وحاجته ومسکنته)(14).

ان ابتعاد الحاكم عن شعبه مستقبح عقلا ونقلا بيد ان الامام عليه السلام يسعی ليعزز تلك القناعة لدى السامعين يضع الامر بين احتمالين لا ثالث لهما وهو ان ابتعاد الحاكم لا يجلب له الفائدة بل الضرر فالحاكم اما ان يكون کریما يعطي الناس حقوقهم ويبذل لهم من عطاياه او بخيل يمنع عطاياه عن الناس وفي كلا الحالين فان الحجب غير نافع له اذ في الاولى ما مسوغ حجبه عن الناس اذا كان سيعطيهم وفي الثانية أن الناس اذا جربوه ورأوا بخله وتقتيره يأسوا من عطائه فلا يطالبونه بالعطاء، فلم يعد هناك مسوغ مقنع للجمهور في كلا الحالين، وهكذا نجد أن الأمام نجح في الانتقال من الفرضية إلى توليد القناعة الراسخة على وفق الأسس التي وضعها باليرمان.

القيم:

پری باليرمان (ان القيم عليها مدار الحجج بكل ضروبه.... فهي التي يعول عليها في جعل السامع يذعن لما يطرح عليه من اراء، والقيم نوعان قيم مجردة ومحسوسة فالمجردة من قبل الحق والمحسوسة من قبيل الوطن)(15)، ومما لاشك فيه أن القيم المتعارف عليها مهمة جدا في الحجاج وتعزیز بنيته فالحجاج (فعالية تداولية جدلية فهو تداولي لان طابعه الفكري مقامي و اجتماعي اذ يأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الحال من معارف مشتركة ومطالب اخبارية وتوجهات ظرفية، ويهدف إلى الاشتراك جماعيا في انشاء معرفة عملية انشاء موجها بقدر الحاجة وهو ايضا جدلي لان هدفه اقناعي قائم بلوغه على التزام صور استدلالية اوسع واغنى من البنيات البرهانية الضيقة)(16)، لذلك فان الحجاج يستثمر توظيف القيم في تعزيز بنية الاقناع لان القيم ثوابت في التفكير الاجتماعي الجمعي، ولقد وظف الامام علي عليه السلام المنظومة القيمية في اقناع متلقي عهده اذ يقول:

ص: 382

(ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فیکون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها، واکثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبیت ما صلح عليه امر بلادك، واقامة ما استقام به الناس قبلك.)(17)

مما لاشك فيه أن المنظومة القيمية تعد من الأمور التي تحدد مكانة المجتمع ومدی تطوره الحضاري ذلك انها نتاج تجربة اجتماعية امتدت اجيالا عديدة، والقيم تختلف باختلاف المجتمعات وتتطور بتطورها، فهي في حركة دينامية مستمرة، ویری ساجیف ان القيم الانسانية اهداف مرغوبة تتباين في اهميتها وتقيد کمبادئ توجيهية في حياة الانسان، وتضيف کارین اونير ان القیم افکار معیارية توجه السلوك وتزوده بمعايير خارجية وداخلية نحو ما يكافح الانسان من اجله(18).

يسعى الامام عليه السلام لتعزيز تلك القيم ويستند اليها فيوجه باتباع سنن الصالحين من مجايلي رسول الله ومعاصريه لانها اجتمعت عليها الامة الاسلامية وتعزيزا لهذه القيمة الراسخة في أذهان المخاطبين ويستند إلى الحديث النبوي الشريف (من سن في الاسلام سنة حسنة فله اجرها واجرمن عمل بها من غير ان تنقص اجورهم شيء ومن استن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من اوزارهم شيء (19).

ان الامام بتعزيزه لهذه القيمة الاجتماعية الراسخة يجعل من سنة الرسول الاعظم قيمة عظمى ومما ارتضاه في عصره عرفا اجتماعيا لا يصح تغييره فقد بنيت عليه الامة ونشات عليه بنية دولة الرسالة.

ص: 383

الهرميات:

يرى باليرمان ان القيم ليست مطلقة وانما هي خاضعة لهرمية ما، فالجميل درجات وكذلك النافع والهرمية بعد ذلك نوعان مجردة مثل اعتبار العدل افضل من النافع، مادية محسوسة كاعتبار الانسان اعلى درجة من الحيوان..... ان هرمية القيم في البنية الحجاجية اهم من القيم نفسها، فالقيم وان كانت تسلم بها جماهير سامعين عدة، فان درجة تسليمها بها تكون مختلفة من جمهور الى اخر، وهو ما يعني ان القيم درجات وليست كلها في مرتبة واحدة وانا مايميز كل جمهور ليس القيم التي يسلم بها بقدر ما تميزه طريقة ترتيبه ایاها(20).

حافظ الامام علي في عهده على الترتيب الهرمي للقيم المشار اليها اذ ابتدأ بالقيم ذات الاولوية منتقلا منها للقيم الاقل قيمة فهو يقول:

(اياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شيء ادنى للنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام.... ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن.... واياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسنين، واياك والمن على رعيتك بإحسانك او التزيد في ما كان من فعلك او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك.... واياك والعجلة بالأمور قبل اوانها او التسقط فيها عند امكانها او اللجاجة فيها اذا تنكرت او الوهن عنها اذا استوضحت، فضع كل امر موضعه واوقع كل امر موقعه)(21).

راعى الامام ترتيب الاوليات بطريقة هرمية فقد اشار للدماء كونها الاهم واعلى الهرم وقمته في تسلسل الاولويات لتعلقها بحياة الناس واستمرارية النوع البشري، لذلك فقد

ص: 384

اولاها الامام اهمية عظيمة جاعلا اياها بعد العقيدة مباشرة، اذ ان الضروريات التي اهتم الدين بالحفاظ عليها هي حفظ الدين، حفظ النفس، حفض العرض، حفظ النسل، حفظ المال. لذلك اهتم القران الكريم بها اهتماما بالغا فقد «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء: 93، وقال تعالى «وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» الفرقان: 68 - 70 وقال تعالى «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» المائدة: 32.

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف (لزوال الدنيا عند الله اهون من قتل مؤمن بغير حق) وحرم الاسلام قتل حتى الذمي (غير المسلم) مالم يحاد الله ورسوله او يرتكب جرما فقد قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم (من قتل قتيلا من اهل الذمة لم يجد ريح الجنة وان ريحها ليوجد من مسيرة اربعين عاما)(22).

لقد حذر الامام علي عليه السلام واليه من محاولة توطيد ارکان دولته بسفك الدماء موضحا له أن سفك الدماء العامل الاساسي في سقوط الدول واندثارها وضياعها مؤكدا له انه لن يحابيه ولن تأخذه في الله لومة لائم مهددا اياه بانه لن ينفعه عذر عند الله وعند الامام أن قتل انسان عمدا، ثم يحذره من الاعجاب بالنفس لان الاعجاب بالنفس يفقد العمل قيمته وقد قيل (الاعجاب بالنفس والغرور مفتاح كل الشرور) ولذلك نقل عن الرسول قوله (لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) لان

ص: 385

الاعجاب بالنفس يقود الى الغرور ويؤدي إلى التسلط، ثم يحذر واليه من المن على الرعية با قدم لها او التزيد بما قدم وقد وصف الله تعالى المؤمنين بانهم «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ» البقرة: 262 - 263 والمن هو النعمة التي يسديها الشخص لغيره بهدف التقريع والتعيير بها وقد روي عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب الیم: المنان اذا اعطى والمسبل ازاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)(33)، ينتقل بعد ذلك الامام للنهي عن العجلة بالأمور، ويلاحظ أن الاسلام نهي كثيرا عنها والعجلة طلب الشيء وتحريه قبل اوانه ويرى الفيروزابادي أن العجلة من مقتضيات الشهوة لذلك ذمت في القران بأكمله وحتى في قوله تعالى «قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى» طه: 84 فالعجلة وان كانت مذمومة فالذي دعا اليها امر محمود و «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ» الأنبياء: 37 و قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا» الإسراء: 11 وهكذا رتب الامام الاولويات واستطاع أن يقنع المتلقي بحجاجيته ويدخله في دائرة الاقتناع.

المعاني والمواضع:

يستخدم المحاجج القيم وهر ميتها للرفع من درجة اذعان الجمهور کما له ان يستخدم مقدمات اعم منها وتسمى المعاني فالمعاني عند شيشرون عبارة عن مخازن للحجج او مستودعات حجج.... ومن اهم المواضع

أ. مواضع الكم: وهي التي تثبت أن شيئا ما افضل من شيء اخر لأسباب كمية مثل قول ارسطو أن العدل والعفة افضل من الشجاعة لكون العدل والعفة نافعين دائما في

ص: 386

حين ان الشجاعة لاتصلح الافي اوقات معينة.

ب. مواضع الكيف: وتستمد وحدانيتها وتفردها من مثل الحقيقة الالهية والحق الذي يعلو ولا يعلى عليه.

يقول الامام علي (عليه السلام): وليكن احب الامور اليك واوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية فان سخط العامة يجحف من رضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء واقل معونة له في البلاء واكره للأنصاف واسال بالإلحاف واقل شكرا عند الاعطاء وابطأ عذرا عند المنع واضعف صبرا عند ملمات الدهر من اهل الخاصة، وانما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الامة، فليكن صغوك اليهم وميلك معهم(24).

نلحظ ان الامام علي عليه السلام قدم الافضل على المفضول وقدم العام الدائم على غيره لذلك جعل العدل اساسا في تعامله لان العدل اسم من اسماء الله الحسنى وهو اعطاء المرء ماله واخذ ما عليه، وقد عد القرآن الكريم العدل اساسا للرسالات السماوية جميعا فقد قال تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحديد: 25 وقال عز من قال ايضا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» المائدة: 8 وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء: 58، وكان العدل اساسا في التعامل النبوي وتعامل ال البيت الكرام لذلك فقد ركز عليه الامام في عهده ثم انتقل لتوضيح دور العدل في استقرار البلد ورضى الرعية، ويشير الامام بعد ذلك الى قاعدة مهمة في التعامل السياسي تاتي بمرتبة ثانية بعد العدل وهي مراعاة

ص: 387

عامة الناس وعدم الاجحاف بحقهم استرضاء للنخبة (الخاصة) وينبه الى ان الخاصة اكثر ارهاقا للحاكم من العامة فهم الأكثر مؤونة والاقل معونة يبحثون عن ماربهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ويتخلون عن الحاكم بل عن البلد باسره حينما يفقدون امتیازاتهم ومصالحهم ورغباتهم ومطامعهم، ويحث على رضا العامة لانهم الامة والمجموع الذي يمثل الشعب والقادر وحده على مواجهة الأعداء مما يستوجب مراعاتهم.

ولعل ما يمثل مواضع الكيف في العهد قول الامام علي (عليه السلام) (وليكن في خاصة ما تخلص به الله دينك اقامة فرائضه التي هي له خاصة فاعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به الى الله من ذلك کاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ واذا قمت في صلاتك للناس فلا تكن منفرا ولا مضيعا فان في الناس من به العلة وله الحاجة وقد سالت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين وجهني إلى اليمن كيف اصلي بهم فقال (صل بصلاة اضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما).

يدرك الامام ان حقوق البارئ على عباده فوق حقوق البشر فحق الله على العباد لا يعدله حق عبد لذلك حث واليه على اداء حقوق الله وفرائضه فهو الواحد الذي لا عدیل له ولا كفؤا لربوبيته لذلك فالواجب على العبد أن يجتهد في عبادته ورضا ربه، قال معاذ بن جبل کنت ردف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على حمار يقال له غفير فقال یا معاذ اتدري ماحق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله عز وجل ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قال قلت یارسول الله افلا ابشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا)(25).

ص: 388

بعد ذلك ينتقل للحديث عن الصلاة بوصفها الحبل الممتد بين الأرض والسماء وهي اساس صفاء الروح واطمئنان الفؤاد والزاجر الناهي عن ارتكاب المحارم قال تعالی «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» البقرة: 238 «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا» النساء: 103

والصلاة اهم الاعمال في المنجية من النار والمكفرة للذنب وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (ما بين المسلم وبين أن يكفر الا ترك الصلاة الفريضة متعمدا او يتهاون بها فلا يصليها)(26) وعن السيدة الزهراء عليها السلام انها سالت اباها صلى الله عليه واله وسلم فقالت (یا ابتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء قال يافاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله ببخمس عشر خصلة ست منها في دار الدنيا وثلاث عند موته وثلاث في قبره وثلاث في القيامة اذا خرج من القبر فاما التي تصيبه في الدنيا فالاولى يرفع الله البركة عن عمره ويرفع الله البركة عن رزقه ويمحو الله سیمیاء الصالحين من وجهه وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه ولا يرتفع دعاؤه للسماء والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين واما اللواتي تصيبه عند موته فاولاهن أن يموت ذليلا والثانية يموت جائعا والثالثة يموت عطشان فلو سقي من انهار الدنيا لم يرو عطشه واما اللواتي تصيبه في قبره فاولاهن يوكل الله به ملكا يزعجه في قبره والثانية يضيق عليه قبره والثالثة تكون الظلمة في قبره واما اللواتي تصيبه اذا خرج من قبره فاولاهن أن يوكل الله به ملكا يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون اليه والثانية يحاسبه حسابا شديدا والثالثة لا ينظر الله اليه ولا يزكيه وله عذاب اليم)(27).

ص: 389

ومع اهمية الصلاة فان الامام عليه السلام يؤكد على الاشتر ان لا يشدد بها ويبالغ في تطويلها مستندا الى وصية الرسول الاعظم بالصلاة على وفق صلاة اضعف القوم تقديرا من الله ورسوله للاحوال التي يمر بها العبد وما يعانيه بعض المصلين من علل ترهقهم معها اطالة الصلاة وتؤذيهم.

بعض الخصائص الاسلوبية عند باليرمان واثرها الحجاجي:

1. الاطناب

يرى باليرمان ان ان التطويل والترديد تزيد من حضور الحجة في ذهن السامع لان (الاسلوب العجل يدعم توجه الخطاب الاستدلالي والاسلوب البطيء يحدث لدى سامعيه الانفعال ويحرك عواطفهم)(28) تجاه الاقتناع، وقد استند بيرلمان الى قول فيكو (ان القائم بكلامهم على الايجاز والقصر لا يهزون القلوب الا هزا خفيفا ولا يؤثرون الا قليلا)(29).

ان الاطناب من اساليب العربية المعروفة التي عني العرب بها كثيرا ووردت في كتب بلاغتهم وهو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة(30) ولا نريد هنا الوقوف عند فوائد الاطناب وانواعه فقد اهتمت بذلك كتب البلاغة لكن الذي يهمنا وظيفته الحجاجية التي تعمل على تعزيز الفكرة في ذهن المتلقي وزيادة الاقتناع بها.

فالإطناب يحقق وظيفة حجاجية من خلال تعزيز الفكرة وتزيينها يقول الامام علي في العهد (فول من جنودك انصحهم في نفسك الله ورسوله ولإمامك وانقاهم جيبا وافضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب ويسرع الى العذر ويراف بالضعفاء وينبو على الاقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف)(31).

ان الامام يطنب في وصف الجنود وهذا الاطناب مقصود کما يبدو لنا بهدف تعزيز القدرة الحجاجية وتثبيت الفكرة في ذهن المتلقي ليؤكد على ان الجند هم عماد الدولة

ص: 390

واساس الدفاع عن الدولة لذلك يجب الحفاظ عليهم وتعزيز قدراتهم القتالية واحسان اختيارهم كي يكونوا سندا في الملمات الكبار ولذلك اوضح تفصيلات الجندي المثالي لتكون حجته ابلغ ووقعها اكثر تاثيرا

2. التكرار:

يعتمد التكرار وسيلة لابراز شدة حضور الفكرة اذ يقول ليبرمان يكون التكرار التقنية الاكثر بساطة لانشاء هذا الحضور، فتكرار الفكرة تجعل المتلقي وكانه يعيشها الى جانب ابراز شدة حضور الفكرة فان التكرار يظهر الملفوظ الثاني للكلمة محمل القيمة وهذا يعني ان الوظيفة الحجاجية للتكرار تظهر من خلال الملفوظ الثاني.

والتكرار من الامور التي عنيت بها العربية في جميع اطوارها والتكرار الاعادة وهو في الاصطلاح البلاغي (ان ياتي المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء اكان متفق المعنى او مختلفا او يأتي بمعنى ثم يعيده، وهذا من شرطه اتفاق المعنى الاول والثاني فان كان متحد الالفاظ والمعاني فالفائدة في اثباته تاكيد ذلك الامر وتقريره في النفس وكذلك اذا كان المعنى متحدا، وان كان اللفظان متفقين والمعنى مختلفا فالفائدة في الاتيان به للدلالة على المعنيين المختلفين)(32).

هنا ندرك (ان التكرار من الاسس والمنطلقات الاسلوبية التي تسهم في اضفاء متانة خاصة على الاسلوب بما يجعل منه اداة ذات وظيفة واضحة في تراكم الدلالات الشعورية واللاشعورية)(33) التي تعزز فكرة الحجاج وتزيد ثباتها في ذهن المتلقي.

يقول الامام علي عليه السلام (وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله فان في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم الا بهم.... وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في الخراج لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عارة اضر بالبلاد واهلك العباد)(34).

ص: 391

ان الامام هنا يحاجج في مسالة الاصلاح وبخاصة اصلاح الاعمال التي تؤدي الى قوة البلد اقتصاديا ولا يتم ذلك الا بتواشج الزراعة والصناعة والتجارة ليكون الشعب مرفها اقتصاديا يستطيع دفع الخراج وهي ضريبة الدولة، ولقناعة الامام التامة بان الاصلاح سلسلة متكاملة لا تنفك حلقاتها ولا تتم احداها بدون الاخرى يلجأ الى تكرار كلمة الصلاح ومشتقاتها وكلمة العمارة لارتباطهما مع بعضهما وتكاملها، وبذلك فقد ادى التكرار وظيفته الحجاجية واستطاع تثبيت الفكرة في ذهن المتلقي وزيادة قناعته بها.

3. اللفظ الحسي:

من المؤكد ان استخدام اللفظ الحسي اكثر تاثيرا من في المتلقي من اللفظ المجرد لان الصورة تكون اكثر وضوحا وتاثيرا، ومن هنا رأى بيرلمان (ان اللفظ الحسي يساهم في حضور الصورة في الذهن والتاثير على الاحساس مما يؤدي الى التسليم والاذعان للفكرة كقولنا اخترقت الرصاصة صدر الرجل بدل القول قتل الرجل فكأن المتلقي عاش المشهد(35).

يقول الامام علي (عليه السلام) (واجعل لرأس كل امر من امورك راسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشقق عليه كثيرها)(36).

ان الامام علي يجعل لكل امر رأسا وقد اختار لفظة الراس وهي لفظة حسية ليزيد ثبات الحقيقة في ذهن المتلقي فمن المعروف ان الراس عماد كل جسد وهو الذي يقود البدن ويتحكم بتصرفاته.

ان تطبيق نظرية بيرلمان على نص الامام علي يثبت ان نص الامام يصلح لكل العصور والازمنة وهو نص حي تدعمه نظريات الالسنية والنقد المعاصرين، ولنا وقفة اطول مع هذا الموضوع في قادمات الايام

ص: 392

الهوامش

1. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات 1 ص 13.

2. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته: ص 267.

3. الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الاثير ص 21.

4. الحجاج في القرآن من خلال اهم خصائصه الاسلوبية 7 ص 29.

5. ينظر اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية: 307.

6. نفسه.

7. عهد الامام علي: 8 - 9.

8. في بلاغة الخطاب الاقناعي: ص 24.

9. عهد الامام علي: 15.

10. استراتيجية الخطاب الحجاجي: ص 489.

11. في نظرية الحجاج: 24.

12. الحجاج في البلاغة المعاصرة: ص 21.

13. عهد الامام علي 39.

14. سنن الترمذي 1 / 249.

15. اهم نظريات الحجاج / 311.

16. في اصول الحوار وتجديد علم الكلام: طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، 2000 ص 65.

17. عهد الامام علي 17 - 18.

18. ينظر البناء القيمي وعلاقته بالتنشئة ص 65.

19. جامع احاديث الشيعة: 14 / 27.

ص: 393

20. في نظرية الحجاج 242.

21. عهد الامام علي 40 - 41.

22. السنن الكبرى حديث 6743.

23. وسائل الشيعة 17 / 422.

24. عهد الامام علي 13.

25..

26. وسائل الشيعة 4 / 43.

27. مستدرك الوسائل 3 / 24.

28. الحجاج اصوله ومنطلقاته 33.

29. ينظر الحجاج في المثل السائر 26.

30. المثل السائر 2 / 344.

31. عهد الامام علي 20.

32. معجم المصطلحات البلاغية 1 / 287.

33. جماليات التشكيل الايقاعي في شعر السياب / 150.

34. عهد الامام علي 27 - 28.

35. ينظر الحجاج في المثل السائر: 27.

36. عهد الامام علي.

ص: 394

المصادر والمراجع

1. استراتيجية الخطاب الحجاجي: أ.د.بلقاسم دفة، مجلة المخبر، جامعة بسكرة، الجزائر، ع 6 لسنة 2013.

2. اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من ارسطو الى اليوم: عدة مؤلفين، اشراف حمادي صمود، مطبعة الجمهورية التونسية 2011.

3. البناء القيمي وعلاقته بالتنشئة الاجتماعية: ابراهيم السيد احمد، جامعة الزقازيق، مصر 2005.

4. جامع احاديث الشيعة: آقا حسين الطباطبائي البروجردي، دار الاولياء بيروت، د.ت 4.

5. الجامع الكبير: ابو عيسى الترمذي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الاسلامي 1996.

6. جماليات التشكيل الايقاعي في شعر السياب: أ.د.محمد جواد حبيب البدراني، الدار العربية للموسوعات 2013.

7. الحجاج في البلاغة المعاصرة، سالم محمد الامين، دار الكتاب الجديد، بيروت 2008.

8. الحجاج في القرآن من خلال خصائصه الاسلوبية: د. عبد الله صولة، ط 2، دار الفارابي، بيروت 2007.

9. الحجاج في كتاب المثل السائر: نعيمة يعمرانن، رسالة ماجستير، جامعة مولود معمري الجزائر 2012.

10. السنن الكبرى: احمد بن شعيب النسائي، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة 2011.

11. عهد الامام علي لمالك الاشتر: مطبعة الآداب في النجف الاشرف 1971.

ص: 395

12. في بلاغة الخطاب الاقناعي: د. محمد العمري، ط 2، افريقيا الشرق بيروت 2002.

13. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: عبد الله صولة، مسكيلياني للنشر، تونس 2012.

14. المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر: ضياء الدين بن الاثير، تحقيق احمد الحوفي وبدوي طبانة، دار النهضة 1976.

15. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: الميرزا حسين اللوري الطبرسي، مؤسسة ال البيت د.ت.

16. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته: عباس خشاني، مجلة المخبر، جامعة بسكرة، الجزائر العدد السادس لسنة 2013.

17. معجم المصطلحات البلاغية المعاصرة: د. احمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1985.

ص: 396

عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - دراسة تحليلية تطبيقية -

اشارة

أ.م.د. مرتضى عبد النبي الشاوي

م. سری عبد الرؤوف عرار

ص: 397

ص: 398

المقدمة

الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور واقتنع على عين البصر، والصلاة والسلام على محمد عبدالله ورسوله المعلن الحق بالحق والفاتح لما انغلق وعلى آل بيته أعلام النور والهدية وعلى صحبه أجمعين.

أما بعد:

فإنّ الخطاب الأدبي على العموم يعدّ ثروة لغوية ومنبعاً يغرف منه علماء اللغة فكيف، إذ كان الكلام راجع لأمير الفصاحة والبلاغة والعلم والمعرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى أعتبار أنّ التحليل الأدبي له العديد من المناهج لدراسته، فقررنا الاعتماد على مناهج تحليل الخطاب الأدبي فقط، وهي المنهج البنيوي والمنهج السيمائي والمنهج الأسلوبي، ولكنه لا يختلف كثيراً عن المنهج البنيوي؛ لذلك أقتصرنا على جانب واحد منه وهو التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية، ولهذا جاء البحث على شكل تمهيد وثلاثة أقسام، تكفل التمهيد بيان السيرة العطرة لمالك الأشتر من خلال الاطلاع على بعض جوانب حياته العطرة، فله حق علينا أما القسم الأول فكان بعنوان التحليل البنيوي وتضمن المستوى التركيبي والصوتي والصرفي... الخ بالاضافة الى توطئة لبيان معنى البنيوية وفي اللغة الاصطلاح.

ص: 399

أما القسم الثاني فكان بعنوان التحليلل السيميائي وتضمن المستوى السطحي والعميق.... الخ مع توطئة أيضاً لبيان معنى سمياء في اللغة والاصطلاح.

أما القسم الثالث فكان بعنوان التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية تضمن الانزياح الصرفي والبلاغي...... الخ.

مع توطئة لبيان معنى الانزياح في اللغة والصطلاح.

مع خاتمة تضمنت خلاصة البحث.

مع الاشارة إلى أنّ العهد تضمن العديد من النماذج التطبيقية على المناهج الثلاثة السابقة، ولكننا أختصرنا كثيراً منه وذلك لتقليل منه وذلك لتقليل العدد من مثل الانزياح الكنائي والتشبيهي ومثل الانزياح الدلالي... الخ فالعهد كان مليئاً بتلك النماذج الا أننا اقتصرنا على ذكر بعض النماذج لا كلها.

ص: 400

المبحث الأول: التحليل البنيوي

توطئة

التحليل البنيوي يعتمد على تفكيك البنية المتكون منها النص وعلى اعتبار أنّ النصوص ما هي إلا كلمات لغوية فهذا يعني أنّ بنية النص هي بنية لغوية، وبالتالي فأنّ تحليلها يعتمد على على المستويات البنيوية وهو المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي... الخ؟

ولكن قبل البدء في التحليل لا بدّ من معرفة معنى البنيوية ويتحدد مفهوم البنية لغة بالعودة إلا ما ورد في المعاجم اللغوية والبني بمعنى البناء: بنی بیناً(1).

ولكن كلّ هذه المفاهيم تصبّ في مصب واحد يجمعها ما قاله الناقد الامريكي راسون ((انّ الأثر الأدبي يتألف من عنصرين البنية (التركيب) والنسج (السبك) وتعني بالأول المعنى العام للأثر الأدبي وهو الرسالة التي ينقلها هذا الأثر بحذافيرها إلى القاريء بحيث يمكن التعبير عنها بطرق شتي عبر التعبير المستعمل في الأثر الأدبي أما النسج فهو الصدى الصوتي لكلمات الأثر)(2).

المستوى الصوتي:

إنّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بليغ لا خطأ فيه، وبما أنّ النصوص القرآنية والدعائية وخطابات الأئمة (عليهم السلام) تعدّ غنية من الناحية الصوتية؛ لأنّ للصوت دوراً مهماً وأساسيا في اظهار الجانب الجمالي المتمثل في الايقاع المتميز والجانب الدلالي المثمثل في ما يفيد من معان وأغراض وأهمية الصوت تكمن في مدى تأثير الصوت في السامعين(3).

ص: 401

وان كلام الامام علي (عليه السلام) کام مليئاً بالاصوات بعضها كان خافتاً وبعضها مهموماً وبعضه مجلجلاً وبعضها خفيفة وبعضها قوية... الخ.

ولكن أكدنا في التركيز على الصوت البارز على الخطاب الأدبي الذي قمنا بدراسته وهو صوت الهاء فعند مراجعة العهد نجده مليئاً بهذا الصوت بالذات وكان لتكرار هذا الصوت جوانب دلالية ايحائية كثيرة فنجده في: (أمره.. طاعته، كتابه، فرائضه، سننه، جحودها، أضاعتها، بقلبه، يده، لسانه، نصره، أعزه، نفسه، يتركها، املك هواك، هوى، عفوه، صفحه، رحمته، جبروته، من هواك، أهل الورع، أهل الامساك، أهل الاساءة، حلها، سهمه، هماً، احسانه، أهوائهم، أرائهم، بدنه، مرافقتهم، عمله ...... الخ). فهذه مجموعة قليلة من الكلمات التي احتوت على هذا الصوت وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن سبب كثرة هذا الصوت في العهد.

فنجد أنّ لصوت الهاء أهمية في انتاج الصيحات والصرخات الانفعالية والدليل على ذلك أنه ظهر في أسماء الصيحات والصرخات والآهات والتأوهات ويعد الهاء محوراً لهذه الانفعالات كلها، ولهذا عدّ من أكثر الاصوات الانفعالية شيوعاً(4).

فهو صوت قوي انفعالي والهاء هو محور هذه الانفعالات فهو صوت الأم (آه... آه)، وكذلك هو صوت الحزن، وصوت الزجر، ولكون الامام علي (عليه السلام) كان خطابه خطاباً جاداً لكون الامر يخص الرعية ويخص حقوق الانسان وهذه مسألة مهمة عند الله لذلك استعمل الامام علي (عليه السلام) صوتاً انفعاليا لبيان أهمية هذا الامر وللحث على عدم التهاون فيه، وللتأكد على عظم مسؤولية رعاية شؤون الدولة لذلك اختار تکرار هذا الحرف في خطابه من بين سائر الجروف.

ص: 402

المستوى الصرفي:

يعتمد التحليل البنيوي للمستوى الصرفي في معرفة أهم التراكيب والاساليب الصرفية السائدة في النص وكان العهد مليئا بالاساليب الصرفية الواضحة ولكننا اقتصرنا فقط على بيان موضوعين فقط وذلك لكثرتهم في جوانب العهد، و هما:

1 - أفعل التفضيل:

كان العهد زاخراً بأفعال التفضيل ولا سيما في قوله:

(أحبّ.. أوسطه.. أعم... أجمع)، وكذلك في قوله: (ليس أجد في الرعية أثقل على الوالي... أقل معونة.. اكره للانصاف.. اسأل بالألحاف.. أقل شكراً.. أبطأ.. أضعف صبرا..)

فهذه بعض النماذج على أفعل التفضيل ويوجد غيرها الكثير وبما أن أفعل التفضيل هو يقوم على التفاضل بين شخصين أو أكثر وربما كان هذا السبب وراء كثرة تكراره الكون أغلب بنود العهد قامت على أختيار الحكام أو العمال واختيار الجند والعيون والكتاب وأهل الخراج والقضاة.. الخ، وبما أن عملية الاختيار تكون في عامة الشعب اذن لا بد في التفاضل بينهم لرؤية من يستحق هذا أكثر من غيره وهذا ما أدى إلى كثرة أفعل التفضيل في العهد.

2 - صيغة المبالغة:

وهي صيغة صرفية تدلّ على الكثرة والمبالغة(5) في الطلب ويلحظ كثرة الصيغ في العهد نحو: (ليكن أبعد رعيتك منك أطلبهم لمعائب الناس)(6)، كذلك قوله: ((إياك ومساواة الله في عظمته والتشبه به في جبروته)(7) فمعائب دلالة كثرة العيب والجبروت يغة مبالغة بمعنى القدرة والسلطة والعظمة(8).

ص: 403

وبهذا فان الامام (عليه السلام) كان يستخدم هذه الصيغة البيان أهمية الأمر وعظمه الذي ألقاه على عاتق مالك الأشتر(رضي الله عنه).

المستوى التركيبي

ويتمثل المستوى التركيبي في تحليل البنية الممكونة للنص من حيث الالتفات الى أبرز الأساليب المتكررة في النص فمن يطلع على العهد يجده زاخرة بالمصطلحات النحوية وفي أكدنا على أهمّها.

فالدارس للعهد بشكل عميق يلحظ سيادة الأفعال عليه وهذا أمر متوقع على أعتبار أنّ العهد هو وصايا من قبل الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) لا بدّ من اتباعها والاتباع يكون بتنفيذها والتنفيذ ما هو إلا بأداء كل فعل على حدة.

ونحن نعلم أن الفعل في النحو العربي ينقسم من حيث الدلالة الزمانية إلى ثلاثة أقسام هي الماضي والمضارع والأمر(9).

ولكن الغريب أن هذه الأزمان الثلاثة قد وردت جميعها في ربما للدلالة على أن هذا النص لم يقتصر على زمن معين وانما شمل جميع الأزمان وحتى المستقبل.

ولنبدأ بالتحليل البنيوي بصيغة الأمر وذلك لكثرتها فتقریباً نجد أن كل مقطع أو عبارة تبدأ بفعل أمر نحو قوله: (أملك هواك... شح بنفسك كما لا يحل لك... انصف اليه... انصف الناس.. استر العورة.. الصق بأهل الورع.. أعلم أن الرعية طبقات.. أعرف لكل أمريء متهم ما أبلى.. اردد الى الله ورسوله... اختر للحكم أفضل رعيتك... انظر في امور عمالك.. تفقد أمر الخراج... الخ)، وهكذا نلحظ أن العهد كان زاخراً بأسلوب الأمر ولا سيما بصيغة (أفعل) وهو أمر وجوب اي لا بد من فعله.

وبهذا فانّ العهد کان مليئاً بجملة الأمر التي تعرف بانه ما يطلب الفعل من الفاعل المخاطب ويكون الطلب على وجه الاستعلاء.

ص: 404

ثم بعد كثرة فعل الأمر وتكراره نلحظ كثرة في المضارع لا سيما المقترن بلا الناهية، ثم بعد ذلك جاء الفعل الماضي، ولكن أقل من الفعلين السابقين كما في قوله: (آمره بتقوى الله.. ثم أعلم أني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دون قبلك...(10).

(فوجهتك وجرت) هي أفعال ماضية تدل على أن الفعل قد حصل وانتهى.

ومما سبق يتضح أن الأسلوب التركيبي السائد هو الجملة الفعلية بكل أنواع الفعل فالمضارع يدل على الحركية والحيوية والتوضيح في النص أما الماضي فيدل على التغير والخوف والقلق وسرعة الانتقال من حالة إلى أخرى.

أما الأمر فيدل على وجوب الحدوث سواء في زمنه الحالي أو بعده، ومن هذه الوظائف كلها نلحظ سبب اختيار الامام للافعال وبكثرة فهم قد منحوا النص حيوية وحركة وسرعة انتقال من حالة إلى أخرى ومن واقعة إلى أخرى.

وبما أن الجمل الفعلية في دلالتها هي التجرد من زمن إلى أخر فهذا ما أجدى الى تکرارها وبكثرة حتى لا يتوقف مضمون العهد على زمن دون غيره.

المستوى البلاغي

من المعروف أن البلاغة على ثلاثة علوم وهي (البيان والبديع والمعاني) وكان لهذه العلوم أثرها في النص. ولا سيما علم المعاني من خلال أسلوب النهي:

فعند مراجعة النص نجده مليئاً بالنواهي ولا سيما بصيغة المضارع المقترنة بلا الناهية نحو (لا تندمن، ولا تسرعن، ولا تكشفن، ولا تعجلن، ولا تدخلن، ولا تنقضن، ولا يصلح، لا تظهر، لا تدع، لا تضيق، لا يكتفي، لا صلاح، لا يثقلن، لا يشغلنك، لا تشخص، ولا تقولن...الخ).

ص: 405

فهذه مجموعة من النواهي ولا يوجد غيرها المزيد والمعروف أن النهي يكون لدفه المفاسد ولهذا تكرر في العهد اي نهي لدفة الأمور السيئة والفاسدة عن الرعية فدفع المفاسد مقدم على طلب المصالح في الشرع ولهذا كثرت النواهي في العهد.

ولكن رغم هذا نجد أن اسلوب الاممر أي فعل الأمر كان أكثر تکراراً من أسلوب النهي فالمعروف أنّ التكرار من الوسائل اللغوية التي تلعب دوراً واضحاً في النص فتكرار الكلمة أو الاسلوب تدل على هيمنة وسيطرة المتكرر على النص، وهذا ليس غریب لأنّ النهي هو طلب ترك فعل ما بالأداة (لا) من حيث أن الأمر هو طلب المقابل بالقيام بشيء ما.

ونحن نعلم أن القيام بأمر ما يكون أسهل من ترك الفعل لأن العادات التي اعتادها الناس يعب ترکها.

المستوى المعجمي

المستوى المعجمي يتمثل في المعاني التي تشترك بعدة معان تقريباً أي أشبه بالألفاظ المترادفة ولكن يكون أحد الألفاظ له دلالة ايحائية أكثر من الأخر ويضفي على النص جمالا أكثر ونلحظ مثل هذه الألفاظ في العهد متوافرة وبكثرة، نحو قول الامام: (أمره أن يكسر نفسه من الشهوات وينزعها عند الجمحات)(11).

وقوله (وكان الله حرماً حتى ينزع)(13) وقوله: (ان سخط العامة يجحف برضى الخاصة)(13)، وقوله (الجنود.. حصون الرعية)(14) وقوله: (وكل قد سمى الله له سهمه(15)) وقوله: (اردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب)(16) وقوله: (فان في هذه الطبقة قانعاً) وقوله (ثم احتمل الخرق منهم والغي وشح عنهم الضيق)(17)

ص: 406

وهكذا نجد أن العهد کان مليئا بالالفاظ التي لو قرأناها لتبادر الى أذهاننا شيء غير معناها الاصلي فكلمة جمحات تعني الفرس اي تغلب على راكبه في حين لفظة ينزع عندما تفرأها بطريقة سريعة سنعتقد أنها مأخوذة من النزاع ولكن هي تعني يرجع اي حتى يرجع عن محاربة الله أما لفظة (يحجف به) فعند القراءة المباشرة سنعتقد انها من لاجحاف وسوء التصرف ولكن معناها المعجمي تعني يذهب به(18) أي أن رضا العامة وسخطهم يذهب برضا الخاصة، أما في قوله (حصون) فان المتعارف عليه أن الحصون هي جمع حصان ولكن عند التمعن بالنص نجد انها جاءت بمعنى المكان المحمي المنيع(19).

أما لفظة سهمه فالمتعارف انها مأخوذة من السهم أن الفرس وسهمه ولكن جاءت بمعنی نصیبه(20)، كذلك لفظة الخطوب فالمعوف الآن أن الخطوب من الخطب وهي المصائب ولكن جاءت بمعنى الأمور العظيمة(21).

أما قوله (قانعاً) فهي من القناعة أي الرضا بالشيء، ولكن هذا ما نعتقده عن القراءة العادية للنص وعند التعمق به نجدها بمعنى السائل(22).

أما النص الأخير ففيه الحرق والعي ونح، والخرق تعني العنف، والعي هي العجز بالكلام ونح بمعنى أبعد(23).

وهكذا نلحظ أنّ النص احتوى على العديد من الكلمات التي جاءت بمعاني دلالية كثيرة وهذا ما أضاف للنص رونقاً خاصاً.

ص: 407

المبحث الثاني: التحليل السيميائي

توطئة:

يتناول هذا القسم من الدراسة طريقة تحليل عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر على ضوء المنهج السيميائي والاجراءات المتعبة في طريقة التحليل هي السير على مستويات المنهج السيميائي المستخدمة في تحليل النصوص الأدبية والابداعية.

وقد اختلفت الدراسات السميائية من حيث المنهج وأدوات التحليل إلا أن ما يجب التنبيه إليه هو خصوصية الخطاب الأدبي إلا أن المتفق عليه ان السيميائية لا تقف عند التحليل السطحي فقط وانما تحاول البحث عن كيفية توليد النصوص واختلافها سطحيا واتفاقها عميقا، وهذا ما سنعمد اليه في تحليل العهد سيميائيا على وفق مستويين وهما السطحي والعميق والمستوى العميق الذي يحلل كل ماله علاقة بالنص نحو العنوان والشخصيات وأبرز الصور الواردة في النص بالاضافة الى زمان و مکان وقوع النص الأدبي وعلاقته بها ورد داخل النص(24).

ولكن قبل ذلك لا بد من معرفة معنی سیمیاء في اللغة والاصطلاح حتى تتوضح الصورة، فالسيمياء في اللغة اشتق معناه من القرآن الكريم حيث وردت هذه اللفظة في عدة مواضع من القرآن الكريم.

ومنه قوله تعالى: «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ»(25).

وقوله: «وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ»(26).

ص: 408

وفي كلا الايتين كانت سيماهم بمعنی علاماتهم المميزة التي يعرفون بها(27).

أما السيميائية في الاصطلاح فهي دراسة الانظمة من خلال الطواهر الاجتماعية والثقافية الملابسة للنص من منظور انها جزء من اللسانيات(28).

المستوى السطحي:

1. البنية السردية السطحية:

يطلق مصطلح السردية على الخاصية التي تخص نموذجاً من الخطابات غير السردية ومن خلالها تميز بين الخطابات السردية وغير السردية(29).

وقيل هي كل تلفظ يتصور متکلماً ومتلقياً تكون فيه بنية الأول التأثير على الثاني بطريقة ما(30).

والسردية هي عبارة عن بنية حكائية تميز الخطاب الأدبي من الخطاب الأخر.

وبالتالي فان السردية السطحية تعتمد على ثنائية المرسل أو المرسل اليه وبالتالي فهي تعتمد على السارد والمسرود اليه من خلال الرسالة

مرسل ---- الرسالة ----- مرسل اليه

أما الرسالة أو ما تسمى بالمحكي فهي طريقة خطاب السارد(31).

وبما اننا نحلل على وفق السردية السطحية فهي بالتالي لا تعمق في النص ولهذا تهتم فقط بالمؤلف الواقعي والقاريء الواقعي.

وهما شخصيان حقيقتان لاينتميان الى النص الأدبي ويعيشان بمعزل على النص الادبي عشية مستقلة ولكن بينهما تواصل وتفاهم يمكنان المتلقي الواقعي يفك رموز الرسالة ويتقبل ما فيها من استحسان واستهجان لكونه عالما بها يقصد به المتكلم(32).

ص: 409

وبما إن العهد هو خطاب من الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر فهما يعدان المؤلف والقاريء الواقعي وكانت علاقتهما قوية وواضحة للجميع لذلك كان قادرا على معرفة مايريده الامام علي (عليه السلام) من دون أي تأثرات وانفعالات.

كقول الامام له في خطابه: (إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبيهة أو مخيلة فأنظر الى عظم ملك الله)(33).

فلو لم يكن يبين القاريء والمتكلم علاقة تفاهم جدية لأخذها القاريء وهو مالك على نحو الاهانة والاستهجان قول الامام علي (عليه السلام) له وقال: هل من صفاتي التكبر؟.... هل يقصد الامام انني سأغتر بالحكم؟ وهكذا... الخ.

كذلك قوله: (انصف الله وانصف الناس)(34).

وقوله: (أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك)(35) فلربما يسأل القاريء الواقعي لهذه الرسالة هل الامام يقصد أني غير عادل غير منصف... الخ، هل يقصد أني لا أعرف كيف اختار رعيتي... الخ.

فهذه التساؤلات يمكن أن يسألها القاريء لو كان لا يوجد تواصل بينه وبين المتكلم أي معرفة تفاهم ذكاء... الخ ولهذا فان مالك يعلم أن وراء هذه الرسالة مقاصد أخرى فهي ليست رسالة له وحده، ونما مستمر لكل قائد ولكل زمن، ولأن مالك عالم بشخصية الامام علي (عليه السلام) ودوره القيادي والرسالي للأمة لهذا لم يأخذ الأمر على محمل شخصي ولهذا لم يسأل أصلاً ونما عمل بما جاء بالرسالة فقط.

ص: 410

المستوى العميق

البنية السردية العميقة

البنية السردية العميقة يتصف على نحو عميق في محتوى الخطاب الادبي وما يتعلق بعد كانت السردية السطحية تعتمد فقط حول المرسل والمرسل اليه. تدور السردية العميقة على كثير من الأمور الدقيقة التي تعتقد ان لها أدوار ايحائية تنعكس على الخطاب الأدبي من وجهة النظر السميائي نحو:

1 - سيمياء العنوان

2 - سيمياء الشخصيات

3 - سيمياء الزمان والمكان

4 - سیمیاء الصور داخل النص

المستوى العميق

1 - سمياء العنوان

في البداية لميول النقاد والدارسون اهتماماً لعتبات النص الا في الدراسات السيميائية المعاصرة التي اهتمت بكل ما يحيطه في النص من عناوين ومقدمات وهوامش النص وفتح مغاليقه و مجاهیله. ولا سيما العنوان فقد أهتم علم السيمياء أهتماماً واسعاً بالعنوان في النصوص الأدبية عموماً لكونه نظاماً سيميائيا ذا أبعاد دلالية واخرى رمزيةة تغري الباحث بتتبع دلالاته(37).

فالعنوان يعد العتبة الرئيسة لكونه يفرض على الدارس أن يقتحمها ويستنطقها قبل الولوج الى اعماق النص فظهور العنوان يعني سطوته وتجره على:

1 - المبدع

2 - القاريء

ص: 411

فأما على الأول فمن حيث أنه صاحب الخطوة والصدارة في النص، وأما على الثاني فلكونه يلقي بظلال سلطته على القاريء يفرض نفسه عليه لأجل الدخول الى عالم النص فالعنوان لا يخرج الا ليكشف عن نفسه أولاً وليفصح عما في النص ثانياً(37).

ولهذا عرفته الناقدة العربية بشرى البستاني بأنه: (رسالة لغوية تعرف بتلك الهوية وتحدد مضمونها وتجذب القاريء اليها وتعربه بقرائتها وهو الظاهر الذي يدل على باطن النص ومحتواه)(38).

نص ابداعي نلحظ أن العنوان الذي لدينا هو : عهد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر لما ولاه على مصر.

ونحن نعلم أن العنوان كلما كان قصيراً محتوياً على اشارات فنية بديعية كان الافضل هذا في حال النصوص الابداعية التي يكون الغرض من ورائها تحفيز المتلقي أما في هذا النص فلا ينطبق هذا الكلام عليه لعدة أسباب منها: ان كاتب النص وقائله وهو الامام علي (عليه السلام) لم يكتب نصاً شعريا أو ابادعية وانما كتب رسالة سياسية دولية بشكل الخطاب الادبي النثري تحدد مصير أمة من الأمم لذلك لم يعتمد على زخرفة العنوان هذا من جانب أما من جانب آخر نجد أن هذا النص هو عبارة عن رسالة بين رئيس ومن ترأس عليه وهذا النوع من النصوص تحمل في أغلب الأحيان في عنوانها اسم الرئيس ومن ترأس عليه لكونها وصيه أو حدیث بين طرفين كما تلحظ في العنوان السابق من علي (عليه السلام) لمالك.

ولكن ما نلحظه أن هذا النص بالاضافة الى عنوانه السابق المطول أخذ عنوان أخر قصير وهو (العهد) فمجرد ما يسمع أي شخص لفظة العهد حتى يذهب ذهنه مباشرة إلى وصية الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، ولكن ما سر اختبار هذا العنوان بالذات؟.

في حين أننا نعلم أن الرسائل في السابق كانت تسمى بالمكتب نحو کتاب فلان الى

ص: 412

فلان. ولكن من بين كل الكتب الامام لأصحابه أخذ هذا الكتاب عنواناً خاصا به وترسخ في الأذهان وهو العهد.

ولو راجعنا المعنى المعجمي للفظة (عهد) نجد أن مختار الصحاح يذكر في معنى العهد بانه الامان واليمين الموثق والذمة والحفاظ والوصية. وعهد اليه أي أوصاه. وجاء في الحديث أن كرم الايمان من العهد أي رعاية المودة(39).

ومما سبق يتضح سبب اختيار عنوان العهد لهذا الكتاب باذات لكون الكتاب اصلاً كان عبارة على وصايا وبنود من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر في رعاية شؤون مصر ورعيتها ولذلك كان واجباً على مالك تطبيقها وتنفيذها ولذلك سمي وعنون هذا الكتاب بالعهد لكونه ملزماً بتنفيذه وتطبيقه، ولأن فيه شؤون رعية وأرزاق عباد الله وهذا ما يجب الاهتمام به.

ولهذا فعندما يسمع القاريء لفظة العهد فلا حاجة بعد لاكمال بقية العنوان لانه مباشرة يعرف المقصود ووهو كتاب الأمير علي المالك، كما أن من يسمع العنوان يصبح لديه فضول لمعرفة مضمون الكتاب لكونه صادر من شخص عظيم بليغ لا ينطق بغير الحق وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) لذلك يأخذه الفضول للغوص في مضامين النص وهذا ما يحققه العنوان الجيد حيث يدفع القاريء الى قراءة النص.

2 - سيمياء الشخصيات

الشخصيات هي أساسيات العمل الأدبي وعندما نقول سيمياء الشخصيات فهي عبارة عن دراسة للشخصيات الواردة في النص الابداعي، وقد يتساءل البعض عل في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك شخصيات؟ إذ أنّ أغلب الذهن يذهب الى انّ الشخصيات هي من عناصر الرواية أو القصة الطويلة وفي بعض الاحيان القصية ولككن هذا غير صحيح، فمن يتمعن وبدقة في البنية العميقة للنص يجدها زاخرة بالشخصيات

ص: 413

وقد انقسمت الشخصيات في نص العهد الى قسمين:

أ - الشخصيات الرئيسة:

وقد تمثلت بشخصيتين رئيستين هما المؤلف المجرد والقاريء النجرد. ففي السردية السطحية اهتمت بالشخصيات الواقعية أما السردية العميقة فتركز على الشخصيات المجردة والمتصلة بالنص التي يمكن أن تنبع من داخل النص نفسه.

فالمؤلف المجرد والقاريء المجرد هما صورة أدبية منطبقة عن ذات المؤلف الحقيقي والقاريء الحقيقي(40)، ولكن يتم اكتشافها من داخل النص نفسه أي هي عبارة عن (أناه الثانية)

فالمتكلم المجرد هو الشخصية الثانية للامام علي (عليه السلام) ولكن لا يتم التوصيل اليها من خلال حياته الواقعية وعلاقاته بأصدقائه وكيف هو أخو النبي (صلى الله عليه وآله)، لا، وانما هذه الشخصية يتم الكشف عنها واستنتاجها من النص نفسه بمعزل عن كونه أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن خلال النص نجد أن المتكلم هو قائد عظيم عادليعطي لكل شخص حقه يراعي الضعيف والفقير والمحتاج والمظلوم والبسيط والمسكين ويراعي حياة الرعية ويركز على العدالة الاجتماعية بأرائه وآدابه وحكومته وسياسته فهو القائل:

(إنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا بعض..) ويقول: (الله الله في الطبقة السفی من الذين لا حيلة لهم)(41) کما يتضح من قوله عبادته وزهده وایمانه بالله تعالى فهو الذي يقول: (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين.. أمره بتقوى الله وایثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه ) (42) كذلك ما يدل على حقه وعدله قوله: (انصف الله وانصفالناس من نفسك ومن خاصة أهلك) كذلك قوله: (لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء (43)).

ص: 414

كذلك ما يدل على حكمته ودقته وذكاءه من مقابلة الناس وادارة شؤون الدولة بقوله: (الصف بذوي المروءات والاحساب ووأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة)(44).

وهكذا فمن يعلم من هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يدرك أن هذا الكلام وهذه النصائح لا تعد عجيبة من أمام معصوم مثله أما من يدرس النص دون علم بشخصية قائله.

فنستطيع من خلال كلامه في العهد أن يعلم بأنه عادل مؤمن يراعي المحتاج والفقير حکیم ذكي له دراية في ادارة شؤون الدولة.. الخ، ومن كانت هذه صفاته لا بد أن يكون شخصية عظيمة. وهذا نستنتجه من داخل النص نفسه لا من ما نعرفه عنه في الواقع.

أما المتلقي المجرد فهنا بالسردية العميقة يختلف عنه في السردية البسيطة لكون المتلقي الواقعي هو ثابت وغير متغير وهو مالك الأشتر في حين هنا فالمتلقي غير ثابت وانما متغير وعبر الأزمان.

ففي زمن كتابة الخطاب كان المتلقي هو (مالك) أما في الأزمان التي بعدها فقد جاء آخرون لقراءة نص العهد ولكل واحد من قراء العهد شخصية تختلف عن القاريء الآخر.

ولهذا نلحظ أن زمن الخطاب لم يقتصر على الماضي فقط.

ب - الشخصيات الثانوية:

احتوى العهد على العديد من الشخصيات الثانوية التي توضع دقة الأمام وسعة معرفته بالأمور وصغائرها فالامام في عهده لوليه كان دقيقاً في رسم ملامح الشخصيات، ففي كل دولة العديد من الرعاية ولهذا قال الامام:

(اعلم أن الرعية طبقات)(45) والطبقات هي المراتب والمستويات ولهذا يقال أطباق

ص: 415

أي شيء فوق آخر. ولهذا قال له ان الرعية على مرتب ومستويات ثم بدأ الامام يوضح لما بدقة وعمق ملامح وشخصيات الطبقات فمنهم الجنود والكتاب و قضاة العدل والعمال وأهل الجزية والخراج والتجار وأهل الصناعات فهؤلاء كلهم شخصيات ذكرها ذكرها في المقدمة يبين أنهم أصحاب الطبقة العليا ثم قال: (... الله الله في الطبقي السفلى من الذين لا حيلة لهم)(46) أي بعد أصحاب الطبقة العليا يأتي أصحاب الطبقة السفلى وقد وضح لنا بأسلوب واضح شخصيات هذه الطبقة فقال: اصحاب الحاجة والمسكنة، ثم بدأ ببيان علاقة الشخصيات بالوالي كيف تنعكس هذه العلاقة ايجابياً على حكم الدولة فجعل الجنود في مقدمة شخصيات الدولة فقال:

وكل هذا لبيان أهميتهم في كل دولة، ثم بين أن الجنود على الرغم من أهميتهم وقوتهم إلا أنهم لا يؤدون عملهم بصورة صحيحة من دون أهل الخراج لتكوين رواتب الجنود وبقية العمال ثم قال:

أي أن الجنود وأهل الخراج لا فائدة لهم وحدهم لقيام دولة من دون شخصیات أخرى وهو القضاة، ثم العممال ثم الكتاب بعدهم التجار وذوي الصناعات لكونهم بتجارتهم يكونون علاقات مع الدول الأخرى ومن فيها وبالتالي يكثر دخل الدولة.

وهكذا نلحظ أن الدولة كأنها وحدة متكاملة وجسد واحد لا تستغني عن أي عضو من أعضائها ثم بعد أن وضح لنا شخصيات الرعية حسب الطبقات دخل في بيان ملامح شخصيات أخرى وهي الاشخاص الذي على الوالي أن يعمل معهم ويختارهم الحكمه ومساعدته لأن بصلاح الوزراء ورؤساء الدولة تصلح وتتقدم هذه الدولة وبالعكس، ولأهمية الأمر نلحظ أن الأمام رسم لنا ملامح كل شخصية وبدقة وهذا ما يجب الالتفات في هذا الزمن من قبل الحكام فقال: (الصق بذي المرؤات) ولو سألنا من هم ذوي المروءات؟ فقال: (أهل نجدة وشجاعة وسخاء وكرم... الخ)

ص: 416

أي يا مالك الشخصية اتي تتصف بهذه المواصفات الصق بها واجعلها مقربة منك.

ثم بعد ذلك قال اختر للحكم من الناس أفضل رعيتك في نفسك، من هم أفضل الرعية؟ وكيف نتعرف عليهم؟

فقال: هو الشخص الذي لا تضيق به الأمور الا تمحکه الخصوم أي ليس غضوبا ولا لجوجاً ولا عسر الخلق ولا يتمادی في الزلة أي في الخطأ ولا يستنكف من الرجوع الى الفيء أي إلى الحق إن عرفه غير طماع ولا يستنكف في سؤال غيره العلم والفهم عند الحاجة فمن كانت هذه شخصيته اختره للحكم.

ثم دعاه لأن يختار لوزارئه طاقماً جديداً ممن لم يخدم للانظمة الظالمة وممن يثق الناس بهم امناء على مستقبل الرعية فقال: (ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً.. واخوان الظلمة)(47).

ثم بين شخصية العمال فقال: (ثم انظر في عمالك... وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة))(48).

ثم أهل الخراج ثم الكاب ثم التجار... الخ بعد ذلك جاء لرسم شخصية الطبقة السفلى فقال: (الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني فان في هذه الطبقة قانهاً و معتراً)(49).

فوضح لنا أنهم مساكين فقراء وقد جعلهم آخر طبقة وجعل بقية الطبقات في المقدمة من أجل حمايتهم واعانتهم.

الامام (عليه السلام) لكتابة عهده هذا لوليه وكان القصد منه أن يصل إلى الحكام فيما بعد مالك لأن مالك الأشتر رضوان الله عليه كان غنياً عنه فمما عرف عنه أنه كان جديراً بحكم مصر لهذا دعاه الامام علي (عليه السلام) الى الكوفة واعطاه عهده المعروف وبعث به الى هناك فما كان من معاوية الذي كان يدرك أن دخول مالك لمصر فانها تتحول

ص: 417

ال قاعدة قوية وراسخة للخلافة العلوية فدبر خطة لاغتياله وهو ما تحقق له في نهاية المطاف.

ولهذا قال في حقه الامام علي (عليه ا مثله اثنان، بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه)(50).

فيا لها من مرتبة عظيمة فمالك كان نموذجاً واقعياً للانسان المتكامل وشخص مثله لا حاجة للامام علي (عليه السلام) بتوصيته كيف يدير الحكم وهو قد زرع في قلبه بذور حب آل البيت (عليهم السلام).

ولكن كان القصد من ورائه أن يصل العهد الى زمان آخر زمان يكثر فيه الظلم ومكان آخر غير مكانه الاصلي وفي هذه الحالة على الحكام العمل به وتطبيقه بدقة.

3 - سيمياء الزمان والمكان

ان سيمياء الزمان والمكان هي عبارة عن دراسة الزمن وما كان العهد ومدی تاثیر هما على نص العهد نفسه أما بالنسبة للزمان فهو في (38 ه) أي ما يوافق سنة (658 م).

وهو زمن انتشر فيه الفساد على يد الحكام الأمويين والقتل وسلب الرعية حقوقهم أما مكانه فكان ما بين الكوفة ومصر اذ كتب في الكوفة ثم ارسل الى مصر ومصر في تلك الفترة دولة حكمها العديد من الحكام الظالمين مما شكل لدى رعيتها صدمة من الحكام بدليل قول الإمام (عليه السلام): (اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عددل وجود وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك)(51).

فهذا القول يدل على أن هذا المكان قد حكمه العديد ه ينظرون للحكام مثل ما كان مالك ينظر للحكام ولكن كيف کانالك ينظر للحكام في عهده؟

مما ذكر في سيرته الذاتية أن مالك كان يكشف للناس جرائم الحكام وانواع الخيانة

ص: 418

التي كانت ترتكب من قبل عثمان وولاته. فهذ يعني أن مالك كان يندد بالحكام ويقف ضدهم لجرائمهم وفسادهم.

فهذا الزمان الذي انتشر به الفساد وهذا المكان وهو مصر الذي حكمه العديد من الحكام.

المبحث الثالث: التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية

توطئة

تعد ظاهرة الانزياح من أكثر الظواهر الأسلوبية تردداً وأوسعها انتشاراً في النصوص الابداعية الأدبية على اعتبار أنّ الانزياح هو انتاج ابداعي ملازما للخطاب الأدبي لكونه يحتوي على ركيزتين أساسيتين الأولى:

الخروج عن البنية المثالية الاصلية وتجاوز الخطاب العادي المألوف، والثانية: البنية الجمالية التي تقف وراء البنى الابداعية وتدعم تأثيرها(52) في المتلقي ومن هنا تنبع أهمية الانزياح من كونها أي اللغة على مستويين الأولى: عادي مثالي، والثاني: أدبي مزاح أو المستوى الأول يناسب النحاة وعلماء اللغة ومن حذا حذوهم، والثاني: فقد رأى فيه البلاغيون جمالاً وعدوه من متطلبات اللغة الأدبية ولهذا جعلوا المستوى الأول معیاراً يقيمون به مقدار انزياح المستوى الفني(53).

ولأهمية الانزياح قررنا البحث عنه في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر من خلال عهده.

ولكن قبل ذلك لا بد من التعرف على معنى الانزياح في اللغة والاصطلاح.

فهو من نزح الشيء ينزح نزوحاً أي بعد الشيء عن موقعه.

ص: 419

ونزحنا عن الدار بعدنا عنها، ونزحنا عن هذا الحجي أي بعدنا عنه وتخلينا عنه (54).

أما في الاصطلاح فهو البعد عم مطابقة الكلام للواقع باستخدام عبارات متعددة ومختلفة عن المألوف فيها الرمز والتشبيه والاستعارة والخيال.. أي تغيرات لغوية فيه يضفي على النص مسحة من الابداع والجمال اللغوي(25).

كما أنه قد سماه النقاد والبحثون بالعدول أو الانحراف ويعد من أهم ما قامت عليه الأسلوبية(56).

سيمياء الصور:

وللصور في النصوص الخطابية والادبية أهمية كبيرة لكونها تساعد الانسان على أن يبحر في خيال النص وما يقرأه وتسمح له بأن يتخيل نفسه كعضو مشاهد أو مشارك داخل النص ومن هنا تنبع أهميتها وبالتالي على قدر التخيل بهذه الصور ومدى الاعجاب أو الاستهزاء بها يكون التأثر بالنص.

ولكن للصور العديد من الأنواع منها الصور الاستعارية والتشبيهية والرمزية... الخ ولكن النوع السائد في العهد هو الصور المتنامية وهي الصور التي يعتمد فيها الشاعر أو الكاتب في الخطاب على حياة القصة من خلال رسم مشهداً طوياً يستقصي فيه الخصائص وصفات الشخصيات بحيث تعكس ما يحتمل في نفسه(57).

وهذا ما فعله الامام علي (عليه السلام) في عهده حيث عمد الى الصور المتنامية أي تنمو صورة بعد صورة من خلال رسمه لشخصيات العهد وكيف عمل على وصف خصائص وصفات هذه الشخصيات كما ذكرناه سابقاً في سيمياء الشخصيات.

فنلحظ صورة لوقوف في مالك أمام الامام علي السلام العهد، وبعدها صورة لرعية وبعدها صورة للجنود... الخ فيما تكاد تنتهي من المقطع الا ووجدت نفسك دخلت في صورة أخرى وهذا ما أعطى للعهد أهمية وقوة في جذب القاريء فكان عبارة عن سلسلة من الصور والمشاهد ما أن تقرأ أولها حتى لا تستطيع أن تتوقف الى أن تنتهي منه.

ص: 420

الانزياح المعجمي:

وهو عندما يستخدم يستخدم الكاتب كلمتين في نفس المعنى فينزاح من المعنى الاول الى المعنى الثاني وهذا كثيراً ما يحدث في القرآن والكلام البليغ نحو قوله تعالى: «أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»(58).

فنلحظ أن (جزاء وأجر) عى نفس المعنى المعجمي وهما يراد بهما الثواب والمكافأة عن العمل إلا أنه انزاح عن لفظة الجزاء في بداية الآية الى الأجر في نهايتها، كل هذا من أجل أن يبنى قول: أجر العاملين جاء بعد قوله: جزاؤهم لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل والاجر هوذا ما كشفه المعنى المعجمي(59).

ولو جئنا لتطبيق هذا النوع من الانزياح على عهد الامام علي (عليه السلام) لو جدناه واضحاً جلياً في قوله: (ولا تنصب نفسك لحرب الله فإنه لا بد لك في نقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تصبحن بعقوبة)(60).

فالازياح حصل ببين كلمتي (نقمته وعقوبة) فمن حيث المعنى المعمجمي فكلاهما بمعنى واحد وهو العقاب والعذاب على مخالفة أمر من هو أعلى منه ولهذا جاء في مختار الصحاح أن معنى: انتقم الله منه أي: عاقبه(61).

فعلى الرغم من أنهما بمعنى واحد إلا أنه انزاح عن لفظة نقمة الى عقوبة في آخر الكلام ونلحظ أن وراء هذا الانزياح سر دلالي عجيب فهو عندما تكلم عن عذاب الله قال (نقمة) أي يا مالك لا تحارب الله حتى لا ينتقم منك في حين أنه عندما تحدث عن عذاب مالك لرعيته قال عقوبة: أي لا تفرح و تتبجح بعقوبة رعيتك، وربما كان هذا الانزياح لبيان أن النقمة هي الشدة والغلظة في الحكم في حين أن العقوبة تكة ن أخف من النقمة هذا من جهة أما من جهة أخى فان غضب العبد الذي هو مالك أهون من غضب

ص: 421

الله حاكم العوالم ومسير الأمور فمن غضب عليه الله ونقمه لا هاد له بعد ذلك ويشقى ولا يحصل على السعادة أبداً في الدنيا والآخرة.

في حين أن من يغضب عليه حاكمه كمالك أو رئيسه كما في زمننا الآن فربما يعاقب وتؤخذ منه بعض المصالح الدنيوية ولكن لك يشقى والدليل على ذلك قول الامام: (وليس شيء أدعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على الظلم)(62).

فهنا عبر عن عقاب الله أيضاً بالنقمة في حين قال عن عقاب مالك عقوبة في قوله: (.. فبسطت عليه العقوبة في بدنه...)(63).

ومن هنا نلحظ أن الامام انزاح من نقمة العقوبة لأن النقمة هي وصف لعقوبة الله في حين العقوبة هي من قبل البشر لكونها أخف من غضب الله ونقمته.

کما حدث هذا النوع من الانزياح في قوله لمالك: (إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر الى عظم ملك الله فوقك)(64).

فالانزياح المعجمي الدلالي حصل بين (أبهة ومخيلة) فمع أن الكلمتين جاءتا بمعنى الكبر، حيث جاء في مختار الصحاح أن الابهة: الككبر، وعندما يقال: ذو مخيلة، أي: ذو كبر(65).

فعلى الرغم من أن اللفظين ظاهرياً بمعنى واحد فالامام كان يستطيع أن يقول أبهة فقط أو مخيلة فقط أي صفة واحدة دون الاخرى إلا أنه ذكرهما معاً وانزاح من لفظة أبهة الى خيلاء لبيان أن الابهة الشعور بالكبر بالأصل في حين أن الخيلاء هي تخيل الانسان الشعور بالكبر في لحظات معينة، فالأبهة ما كان أصله متكبراً أما الخيلاء فهو من يحصل له جاه أو سلطان ويصبح بعد ذلك متكبراً، أي يا مالك لا تتكبر ولا تصبح متكبراً لما حصل لك من السلطان واذا حدث ذلك فانظر لعظمة الله التي وسعت كل شيء وقدم الابهة على الخيلاء لأن الاول أصلي أما المعنى الثاني فيحدث لنتيجة أمر معين.

ص: 422

كما حدث الانزياح الدلالي في قوله (عليه السلام) (.. ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة...)

فقد حصل الانزياح بين (وسمته وقلدته) فالوسم والقلادة هو بمعنى واحد اهرياً وهو العلمة فوسمته أي جعلت له علامة يعرف بها وقلدته مأخوذة في القلادة وهي ما يوضع في جيد الفتاة من الزينة(66)، وهي أيضاً علامة فمن تضع قلادة كبيرة علامة على غنى هذه الفتاة وسعة رززقها. ومن تضع صغيرة دلالة على أن دخلها محدد وهكذا، وفي كلا الحالتين جاءت الكلمتين بمعنى العلامة للدلالة على الخائن، ولكن الامام انزاح لفظة وسمته التي قلدته للدلالة على أن الوسم هو جعل له علامة يعرف بها أو من من خلالها.

أما التقليد فهو تطبيق هذه العلامة ووضععها عليه لتكشف هويته فيعير بها ويذم بسيء فعله.

وجعل وسمته أولاً لأنها اتخاذ قرار الوضع ثم انزاح الى التقليد لكونه تطبيق وضع العلامة لذلك جاء بعد الوسم.

فهذه جملة من الانزياحات التي حصلت لغرض دلالي تبين لنا دقة الامام في انتقاء مفرداته وعباراته.

الانزياح الصرفي

هو الانزياح الذي يحدث في المستوى الصرفي لاظهار رونق خاص في الخطاب الادبي کالانزياح من صيغة الفعل الى مصدره أو من صيغة المتكلم الى الخطاب وهكذا... الخ. مما يتعلق بالأبنية الصرفية، اذ أن هذا النوع من الانزياح يحدث من صيغة صرفية الى أخرى في السياق نفسه لمعان مقصودة(67).

ص: 423

ومن يمعن النظر في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر يجده كثيراً ما يغاير بين المصادر والمشتقات للدلالة على معنى مقصور من قبله نحو قوله:

(.. وليكن أبعد رعيتك عندك أطلبهم لمعائب الناس فان في الناس عيوباً..)(68).

نلحظ ذلك الانزياج حصل في معائب فانزاح من صيغة (فعول) عيوب الى (مفاعل) معائب لكون (عيوب) تدل على الكثرة أي كثرة العيب من الاشخاص والعيوب تدل على أن الناس أصلهم فيهم عيوب لذلك قالها الامام في نهاية العبارة (فأن في الناس عيوبا) في حين قال في البداية معائب للدلالة على أن هناك رعية تحب أن تظهر عيوب غير موجودة في الناس وهذه الرعية حذر الامام مالك منها وقال ليكونوا بعيدين عنك لكونهم يبحثون عن عيوب حتى غير موجودة (أن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد)(69).

حصل هنا الانزياح في(عين الولاة) فقد انزاح من صيغة المفرد (عين) الى صيغة الجمع (الولاة) فبدل أن يقول عيون الولاة أي جمع بجمع أو (عين الولاة) أي مفرد بمفرد قال: (عين الولاة) لكون عيون تل على العينين الواقعين في وجه الانسان والمتعارف عليه أننا عندمانشير الى رؤية شخص نقول عيونه ترى جيداً ولا نقوله عينان لهذا تركها الامام حتى لا يدل على العيون الواقعية لأنه أراد الاشارة الى العين الضمنية التي يشعر بها الولاة، ولأن كل الولاة لديهم عين واحدة ضمني فقال : عين الولاة.

وكذلك في قول الامام (واسرارك بأجمعهم بوجوه صالح الأخلاق)(70) في هذا النص حصل الانزياح ايضاً ما بين صيغة الجمع والمفرد في عبارة (وجوه صالح الأخلاق) فنلحظ ان العبارة مكونة من(جمع + مفرد + جمع) فقال (وجوه) ثم مفرد (صالح) ثم (أخلاق) للدلالة عن أن العمل الجيد هو واحد ومحدد فالاخلاق منها الجيد ومنها السيء والجيدة من الاخلاق هي فقط الصالحة منها لذلك عبر عنها بالمفرد (صالح) حتى يستثنى الجيدة من السيئة كما في أن النور واحد والظلمات متعددة كذلك الاخلاق الجيدة

ص: 424

واحدة والسيئة متعددة.

وفي قوله (ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة)(71).

حصل الانزياح هنا من صيغة فعالة الى فعال ثم فعالة (شجاعة وسخاء وسماحة) وكان السبب في ذلك أن شجاعة والسماحة تحمل معنى المؤنث المعنوي فكانت صيغة فعالة تناسبها أكثر من (سماح وشجاع) أما سخاء فيحتمل معنى المذكر وهو ما فيه صيغة فعال أكثر وأبلغ.

وفي قوله (وليكن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج)(72).

حصل الانزياح في لفظة عمارة حيث انزاح من الفعل عمر أي عمر الارض الى المصدر عمارة وذلك للدلالة على الحدث(73) أي حدث العمر الذي جاء بصيغة المصدر في حين أن الفعل عمر ماضي ويدل على ما حصل وفات في حين أن الامام كان يوصيه بقضايا في الوقت الحالي لذلك انزاح عن الفعل عمر الى عمارة.

وفي قوله (وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة)(74).

حصل الانزياح في البيوتات الصالحة فبدل أن يقولبيوت قال بيوتات بمجمع المؤنث اي انزاح من جمع التكسير الى صيغة جمع المؤنث حتى تلائم كلمة صالحة المؤنث بالتاء المربوطة مراعيا جانب التأنيث في دلالة رمزها بالتاء المربوطة مع تاء الجمع المؤنث.

کما حصل الانزياح في قوله (فإن العدو ربما قارب)(75).

فانزاح من صيغة فعيل الى فاعل فبدل أن يقول ان عدو الله قريب قال: قارب.

وذلك لكون صيغة فعيل تدل على الثبوت واللزوم(76) فلو قال العدو قريب لكانت النتيجة حتمية أي أنه قريب فيه لا محال لذلك انزاح عنها الى لفظة فاعل أي أنه غير أكيد في قربه لهذا جاء قبله بقرينة لفظية وهي (ربما) غير الحتمية كونها دالة على التقليل اي ربما قريب وربما لا.

ص: 425

وهذا ايضاً ما حصل في قوله: (ووثقوا بصدق موعود الله لهم)(77) فانزاح عن وعد الى موعود اي بدل أن يقول وعد الله لهم قال موعود ايضاً لما في صيغة اسم المفعول من دلالة على الثبوت أي أن وعد الله ثابت ومتحقق لا محالة لهذا عبر عنه بصيغة مفعول التي تدل على الثبوت.

الانزياح التركيبي

وهو ما يحصل في المستوى التركيبي النحوي والانزياحات التركيبية تتصل بالسلسلة السياقية الخطية للاشارات اللغوية عندما تخرج عن قواعد النظم والتركيب مثل الاختلاف في ترتيب الكلمات(78)، أو مثل أن ينزاح من زمن فعل الى زمن آخر نحو قوله:

(انّ الرعية طبقات لا يصلح الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض)(79) فحصل الانزياح من المضارع الى الماضي مع أنه كان يتحدث عن نفس الموضوع ففي البداية قال لا يصلح وهو يتحدث عن الطبقات قم قال لا غنى وهو ايضا يتحدث عن الطبقات فلاذل لم يقل ايضا لا يغني بعضها عن بعض؟

ومكا يدلنا على سبب هذا الانزياح هو وظيفة الفعل فالمضارع يدل على دوام حالة الفعل كما أن الصلح لا يحتاج الى مال أو غيره فالانسان سواء كان محتاجاً أم فقيراً أم شريفاً... الخ يمكن أن يكون صالح في أي زمن لذا جعله بالمضارع ثم امزاح عنه مع لفظة الغنى انزاح عن المضارع الى الماضي لكون الغنى متقلب والانسان ممكن أن يكونغنيا وبسرعة يصبح فقيراً لهذا اختار له صيغة الماضي والتي من دلالاته سرعة التغير والانتقال.

ص: 426

الانزياح البلاغي:

وهو ما يحدث في مواضيع علم البلاغة ولا سيما البيان كالاستعارة والتشبيه واالكتابة... الخ لما لها من وقع رائع في ذهن المتلقي والانزياح هو عبارة عن خروج اللفظ من معنى الى آخر أبلغ منه نحو قوله تعالى: «وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ»(80).

فالمراد بذات ألواح كناية عن السفينة ولكنه بدل أن يقول سفينته كنى بمعان أخرى يقود تركيبها الى المعنى المكنى به صرفاً للأذهان عن استحضار الهيئة الكاملة لسفينة النجاة التي قد توحي بالأمان والاطمئنان وسط الأمواج العالية المحيطة بها ولكنه قال: ذات ألواح تنبيهاً الى الذهن كي يستحضر المكنونات الجزئية للسفينة وهي الالواح والمسامير... الخ(81).

ومثل هذه الانزياحات البلاغية نجدها وبكثرة من عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك كما في قوله: (أمره أن يكسر نفسه عن الشهوات ويزعها عند الجمحات فان النفس أمارة بالسوء...)(82).

فكان الانزياح في قوله: يزعها عند الجمحات كناية عن سيطرة النفس ومنعها من أن ترتكب ما لا يجوز مهما كانت رغبتها في الشيء قوية فالجمحات مأخوذة من جمعح الفرس اذا تغلب على راكبه فبدلا من أن يطول الكلام استراح عن ذلك كله بقوله: يزعها عند الجمحات ليستقر المعنى ولبيان المراد بأسلوب بلاغي جميل وهو ما يعرف بالانزياح الكنائي كما حصل الانزياح الكنائي في قوله: (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً..)(83) فهو حصل في لفظة سبعاً، فبدل أت يقول: ولا تكونن عليهم حيوانا، قال: سبعا لعدة أسباب منها: ان لفظة حيوان مستقبحة بعكس لفظة السبع الذي كان أجمل وقعاً وجرساً، كما ان المراد بالسبع هو المفترس من الحيوان فقط.

ص: 427

ولو قال حيواناً لشمل جميع الحيوانات الأليفة والمفترسة أما السبع فهو للدلالة على الحيوان المفترس فقط. وكانت الكناية من نوع الجزء عن الكل فقال: سبعا وهو جزء من المفترسات وقد اختار السبع لكونه من أسماء الأسد وهو في قمة المفترسات ووالممثل عنها.

فنص العهد مليء وزاخر بالانزياح الكنائي، كما حصل انزياح تشبيهي في قوله: (ليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح)(84).

فنلحظ أت شبه الاعمال كلها الجيدة والسيئة بالذخائر، فبدل أن يقول: ليكن أحب الاعمال اليك العمل الصالح انزاح عن لفظظة اعمال الى ذخائر للدلالة على أن العمل الصالح هو سلاح للمؤمن وان الانسان سوف يحتاجه في يوم لا ينفع مال ولا بنون، فالذخائر هي مايخبوءه المرء لوقت الحاجة.

کما حصل انزياح استعاري في قوله (لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم)(85).

فاستعار لفظة صدورهم بدل نفوسهم أو قلوبهم في حين أن المقصود هو القلب ولكن لفظة صدر تدل على الأهمية وحسن النية لذلك انزاح الى لفظة صدر، فهذه جملة من الانزياحت البلاغية التي تدل على بلاغة الامام(علیه السلام).

ص: 428

الخاتمة

البحث هو عبارة عن دراسة تحليلية تطبقية اعتمدت على التحليل وفق مستويات تحليل الخطاب الأدبي وتطبيق العهد على هذا التحليل وكان أبرز ما توصلنا اليه هو أن العهد كان عبارة عن ثروة لغوية مميزة جداً وزاخرة بالعلوم ففيه البلاغة وفيه النحو وفيه الصرف وفيه البديع الاستعارة والكناية... الخ.

وهذا أمر لا عجب منه لكون العهد أحد أركان نهج البلاغة الكتاب القيم التابع للامام علي (عليه السلام) أنه كان زاخرا بالعلوم اللغوية.

ولهذا جاءت الدراسة على وفق ثلاث مستويات من التحليل الاول وهو التحليل البنيوي، وفيه تمّ الكشف على العديد من الأمور التركيبية والصرفية والبلاغية واالصوية الجميلة ثم جاء التحليل الثاني على وفق المنهج السيميائي الذي اعتمد فيه على المستويات السيميائية وكان أبرز ما توصلنا اليه من خلال هذا التحليل هو الكشف عن أبرز عناصر النص الدقيقة والعميقة والكشف عن جوانب مهمة من الشخصيات الرئيسة والثانوية.

ثم جاء التحليل الثالث وهو على وفق بعض الانزياحات اللغوية كالانزياح الصرفي والنحوي والبلاغي.... الخ

وتم الكشف من خلاله على عناصر دقيقة وعميقة في أسلوب التعبير الخطابي في النهاية كان عبارة عن كنز لغوي مليء بالأفكار والجواهر اللغوية.

ص: 429

الهوامش

1. ينظر: مختار الصحاح للرازي: 42.

2. تحليل الخطاب الادبي ووقضايا النص، موقع: اتحاد الكتاب العرب على شبكة الانترنيت.

3. ينظر: التحليل الصوتي والدلالي للغة الخطاب في شعر المدح: نجية عبابو: 16

4. ينظر: دلالة الالفاظ، ابراهيم أنيس: 127

5. ينظر: شرح ابن عقيل: 4 / 165

6. نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 675

7. نفسه: 674

8. ينظر: هامش نهج البلاغة: 674

9. ينظر: شرح بن عقيل: 1 / 30

10. نهج البلاغة: 672

11. نهج البلاغة: 672

12. نفسه: 674

13. نفسه: 675

14. نفسه: 678

15. نفسه 678

16. نفسه 681

17. نفسه 688

18. ينظر: مختار الصحاح: 56

19. ينظر: مختار الصحاح: 78

ص: 430

20. ينظر: نفسه: 162

21. نفسه: 96

22. نفسه: 269

23. نفسه 226

24. ينظر: التحليل السيميائي للخطاب الشعري في النقد العربي، د. فاتح علاق:

150 - 151

25. الاعراف: 46

26. الاعراف: 48

27. ينظر: مختار الصحاح: 160

28. ينظر: المنهج السيميائي و تحليل البنية العميق للنص: دحلام الجيلالي: 3

29. ينظر: قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، رشید مالك: 121

30. ينظر: تحليل الخطاب: 44

31. ينظر: نفسه: 40

32. ينظر: تحليل الخطاب: 31

33. نهج البلاغة: 673

34. نفسه 674

35. نفسه: 681

36. ينظر: العنوان في النص: عبد القادر رحیم: 5

37. ينظر: نفسه

38. نفسه

39. ينظر: مختار الصحاح: 227

40. تحليل الخطاب: 40

ص: 431

41. نهج البلاغة: 978

42. نفسه: 171

43. نغسه: 674

44. نفسه: 679

45. نهج البلاغة: 678

46. نفسه: 687

47. نهج البلاغغة: 676

48. نفسه 682

49. نفسه: 687

50. ينظر: نفسه

51. نهج البلاغة: 672

52. ينظر: اسلوبية الانزياح في النص القرآني، احمد غالب: 2

53. نفسه: 20

54. ينظر: مقدمة في ظاهرة الانزياح: عبد الله علي باسودان، منتدى منابر ثقافية.

55. نفسه

56. ينظر: أسلوبية الازياح: 5

57. ينظر: جماليات القصيدة المعاصرة، د طه وادي: 94

58. آل عمران / 136

59. ينظر: الكشاف، الزمخشري: 445

60. نهج البلاغة: 673

61. ينظر: مختار الصحاح: 327

62. نهج البلاغة: 677

63. نفسيه: 683

ص: 432

64. نهج البلاغة: 673

65. ينظر: مختار الصحاح: 14

66. ينظر: مختار الصحاح: 267

67. الانزياح في شعر سميح القاسم، وهيبة بو غالي: 52

68. نهج البلاغة: 675

69. نهج البلاغة: 685

70. نهج البلاغة 686

71. نفسه: 679

72. نفسه: 679

73. الجدل في القرآن: 50

74. نهج البلاغة 683

75. نهج البلاغة: 690

76. ينظر: الجدل في القرآن: 201

77. نهج البلاغة: 688

78. ينظر: أسلوبية الانزياح في النص القرآني: 100

79. نهج البلاغة: 678

80. القمر: 14

81. أسلوبية الانزياح: 82

82. نهج البلاغة: 672

83. نفسه: 672

84. نهج البلاغة: 672

85. نفسه: 680

ص: 433

المصادر

1. القرآن الكريم

2. تحليل الخطاب الأدبي وقضايا النص، د. عبد القادر شرشار، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2006 م.

3. جماليات القصيدة المعاصرة، د طه وادي، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1994 م.

4. دلالة الالفاظ، ابراهیم انیس، ط 4، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980 م.

5. شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك، ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقیل، محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الهداية، ط 1، بیروت، (د.ت).

6. قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، رشید مالك، دار الحكمة، 2000 م.

7. الكشاف، محمود بن عمر الزمخشري، ضبط وتوثيق: ابو عبدالله الداني بن منير آل زهوي، دار الكتاب العربي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1427 ه - 2006 م.

8. مختار الصحاح، الرازي، تحقيق: ابراهیم زهوة، دار الكتاب العربي، بيروت، 2007 م.

9. نهج البلاغة، شرح جديد لأكبر عدد من المفردات اللغوية، السيد عباس علي الموسوي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3، 1430 ه - 2009 م.

الرسائل والاطاريح:

1. أسلوبية الانزياح في النص القرآني، أحمد غالب النوري الخرشة، (أطروحة دكتوراه) جامعة مؤتة، اشراف: د زهير المنصور،، 2008 م.

2. الانزياح في شعر سميح القاسم (قصيدة عجائب قانا الجديدة أنموذجاً)، دراسة أسلوبية، وهيبة فواغالي، اشراف: أحمد الهادي، (رسالة ماجستير)، جامعة أكلي محند

ص: 434

أولحاج - البويرة / الجزائر، 2012 - 2013 م.

3. التحليل الصوتي والدلالي للغة الخطاب في شعر المدح ابن سحنون الراشدي أنموذجاً، نجية عبابو (رسالة ماجستير)، اشراف: د. عبد القادر توزان، جامعة حسيبة بو على - الشلف - الجزائر، 2008 - 2009 م.

4. الجدل في القرآن، خصائصه ودلالته.. دراسة لغوية دلالية، يوسف عمر لعساکر، (رسالة ماجستير)، جامعة الجزائر (بن يوسف بن خده)، الجزائر، 2004 - 2005 م.

المجلات:

1. العنوان في النص الابداعي (أهميته وأنواعه)، عبد القادر رحیم. مجلة كلية الاداب والعلوم والانسانية والاجماعية، ع 2 - 3، جامعة محمد خيضر - بسكرة، 2008 م.

2. المنهج السيميائي وتحليل البنية العميقة للنص، د. حلّام الجيلالي، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد 365، أيلول، 2001 م.

شبكة الانترنيت:

1. مقدمة في ظاهرة الانزياح في الشعر، عبد الله علي باسودان، منتدى منابر ثقافية:

2. www.mnaabr.com )

ص: 435

ص: 436

السياق الافتراضي والتأويل التداولي قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

د. حازم طارش حاتم

كلية الامام الكاظم للعلوم الإسلامية الجامعة

ص: 437

ص: 438

ملخص البحث

الكلام وليد السياق، فلا قيمة للكلام وهو خارج السياق، والتغيير الحاصل في أساليب الكلام منشأه السياق، فمنشي الكلام يجب عليه معرفة السياقات حتى يستطيع تحقيق الأهداف المنشودة من الكلام، والسياق الافتراضي واحد من السياقات التي يلتجئ إليها المتكلم وهو يريد إثبات قضية، أو نقض قضية، عن طريق فرض قضية للمتلقي تستدعي القضية المراد إثباتها أو نقضها، والمتلقي يقرئ القضية في ضوء التأويل التداولي، لأنه يدرك بأن القضية المعروضة ليست هي المقصودة، بل ما يترتب عنها من قضايا يفرضها مقتضى الحال، فالمتلقي هو يصل إلى النتيجة، فالقراءة لها قطبان: المتكلم والمتلقي، وفي ضوء تلك القراءة سنقرئ عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)، لنقف على أهداف الكلام وغاياته، وسبل تحقيق ذلك في ذهن المتلقي الحاضر - مالك الأشتر -، والمتلقي الكوني - القارئ العام.

ص: 439

مدخل مفاهيمي: السياق الافتراضي والتأويل التداولي

من الأهمية بمكان الوقوف على المصطلحات التي تعد مفاتيح أساسية في تشكيل المنظومة المعرفية، التي من دونها يقع اللبس والغموض، ولكل علم مصلحاته الخاصة به، قد تتشابه المصطلحات بالتسمية، لكنها تختلف بالمفهوم.

1. السياق الافتراضي:

وهو سياق تخاطبي خاص يقدم فيه المتكلم فرضیات ذات طبيعة لسانية، يقتضيها السياق، والمقتضى يتمحور في مضمرات الخطاب التي تمثل معارف مشتركة بين طرفي الخطاب، وهذه المعارف تمثل قضية يراد بها أثبات قضية أو نفيها، فالسياق الافتراضي يكون في خطاب محل التوجيه، ولكل سیاق فرضية متوقفة على الظروف المحيطة بالمتلقي، والظروف الاجتماعية، فللسياق أثر في تحقيق الملائمة التواصلية في الفعل القولي الذي ((هو وليد قصد معين الذي يستمدّ وجوده من شخصية المتكلم ومستمعيه))(1).

فالمتكلم يفترض قضية ليست هي المقصودة في أصل الخطاب، بل هي الطريق إلى إثبات القضية في ذهن المتلقي، أو توجيه الخطاب إلى متلقي ليس هو المقصود من أصل الخطاب، ولكن اقتضت الصلة والمناسبة ذلك، فالفرضية في الاصطلاح المنطقي ((قضية يأخذ بها الباحث في بداية برهانه على إحدى المسائل))(2)، فهناك ملائمة بين القضيتين أوجدها المتكلم جعل أحداهما مجرّد فرضية لتصديق الأخرى(3)، أي تشابه الظروف المقامية، وهذا مما يساعد في إدراك القصد التواصلي بآلية التأويل التداولي.

وفي الاصطلاح اللساني الفرضية: ((هو ذلك الشيء الذي يفترضه المتكلم قبل التفوه بالكلام))(4)، وتمثل هذه الفرضية الخلفية التواصلية بين طرفي الخطاب، لذا تقول أركون: (هو تلك المعلومات التي لم يفصح عنها، فإنها وبطريقة آلية مدرجة في القول(5)).

فالمتكلم يريد أن يصوغ أفعال توجيهية (Directives) غير مباشرة تحمل المتلقي

ص: 440

على عمل معين(6)؛ لأن ((كلّ عمليّة من عمليّات التبليغ ينطلق الأفراد المتخاطبون من معطيات أساسيّة معترف بها لا يصرّح بها المتكلّمون، وهي تشّكّل خلّفية التّبليغ الضّروري لنجاح عملية التبليغية، وهي المحتواة في القول))(7)، فعناصر الخطاب الافتراضي هي:

- أولاً: الجانب الملفوظ في الخطاب.

- ثانياً: الجانب الإدراكي المفهوم من الخطاب.

- ثالثاً: تركيب الخطاب وبنيته التي تعمل على تلاقي جوانبه الملفوظة والمفهومة(8)، فالأنساق التي يخطها (المتكلم) هي خاصة به، غير بعيدة عن المتلقي، كونه متلقي الخطاب ومنتجه في ذات الوقت؛ لأن مقاصد الخطاب تستهدفه تريد إيقاع الأثر فيه، والمتلقي ربما يكون خاص أو عام، وربما خاص يراد به عام أو العكس، فالافتراض مجموعة المعاني التي ينشأها المتكلم في الأنساق التركيبية، ويدركها المتلقي استدلالياً |؛ لأن هناك فرق بين ما قيل، وما يراد أن يقال.

وقد قدَّم (دان سبيربر) الأنثروبولوجي، و(دیدري ولسن) الفيلسوف التحليلي في عام 1986 نظرية في التواصل والإدراك، تأخذ بمعطيات علم النفس المعرفي في مجال الإدراك والوعي تسمی (نظرية الصلة أو المناسبة) (Relevance)، أحد مبادئها (مبدأ الصلة) مفاده ((يكون الافتراض مناسباً وذا صلة في سياق ما إذا وفقط إذا كان له بعض التأثير السياقي في ذلك السياق))(9).

فنظرية الصلة في ظاهر الأمر تعتني بعملية التلقي، بيد أنها تولي عملية الإنتاج اهتماماً بالغاً من خلال الاختيار المعجمي والتوزيع التركيبي ((فيكون القول والسياق معاً مقدّمات عملية التأويل التداولي التي هي عملية استدلالية))(10).

وفي هذه النقطة يلتقي السياق الافتراضي مع التأويل التداولي، لأن السياق الافتراضي

ص: 441

بنية أساسية تتوقف على معرفة اللغة وأنساقها، ومن أهم وظائف اللغة (القصد التواصلي)، فالمفهوم الأساسي للسياق الافتراضي هو أن المتكلم ينشئ ملفوظاً ملائماً للسياق الاجتماعي، وهو بذلك يسعى إلى الحصول على أقصى قدر من المبادئ السياقية الافتراضية بأقل مجهود معرفي، بحيث يؤول المتلقي هذا الملفوظ تداولياً على أنه أفضل المعلومات المقدمة من قبل المتكلم(11)، فالافتراض أمر يعتمد على بنية الأحكام النحوية للجمل، يفترض المتكلم بالمتلقي معرفتها، وبخلافه يقع اللبس وسوء الفهم(12).

فالدلالة السياقية للأنساق اللغوية لا تفهم من دون معرفة خصائصها الإنجازية المقترنة بها في التواصل اللساني(13)، لذا نجد جاكوبسون أدرك أهمية الحقائق الخارجية، والمقام التخاطبي في تحديد المعاني الكليَّة للأنساق اللسانية(14)، بذلك أصبح السياق ((بنية سيميَّة (Semiotic Struture) عناصرها الأعراف الاجتماعية والقيم الثقافية المأخوذة من النظام السيمي الذي يكوّن الثقافة))(15).

2. التأويل التداولي

يُعدُّ التأويل التداولي فاعلية ذهنية يحتاج إليها المتلقي من أجل فهم البنية الضمنية و المسكوت عنها في الخطاب، والتأويل التداولي يبحث عن (قصدية الخطاب)، أي ما هو غير لساني سياقي يتصل بأغراض المتكلم(16).

إنّ تحقق عملية التواصل مرهون بفهم المعطيات اللغوية، والقدرة على تأويل هذا المعطى؛ لأن الاشتغال التأويلي يعمل على المعلومات الخطابية غير الظاهرة على السطح(17)، فالتوظيف التداولي للمعطيات اللغوية يساعد على إنتاج المعنى، فالتداولي يوظف اللغة على نسق معين حتى يبلغ المتلقي معنى معين مستفيد من الكفاية التواصلية التي يتمتع بها المخاطَب، فضلاَ عن المخزون الثقافي والاجتماعي الذي يتمتع به المخاطَب الذي يمثل مصدر الافتراض الذي يحيل إليه المتكلم، والمتكلم في سياقه الافتراضي قد

ص: 442

يقصد مخاطَب بعينه دون آخر غير أنه يقصد مخاطَب کوني؛ لأن القضايا التي يطرحها عامة تتعلق بعموم الناس، ولا تقصد فرد بعينه، إلا أن المتكلم يمررها عبر المتلقي الخاص، لوجود مناسبة استدعت الخطاب، وهذا الاستدعاء وظفه المتكلم واستثمره في التوجيه والإرشاد، لذا الفعل التأويلي يقوم على ((سلسلة من الاستدلالات التي يقوم بها القارئ أو المستمع الذي يُعوّل كثيراَ على قدرته الاستنتاجية في تحديد ما يعنيه المتكلم))(18)، فالتأويل عنصر مركزي في دينامية المعنى؛ كونه يجد علاقة ملائمة بين (المعنى الضمني) و (المعنى الصريح) المصرح به بالمعطى اللغوي، وهكذا يبدو أن عملية الفهم الاستدلالي عملية غير برهانية، ينطلق المؤول فيها من صياغة فرضية ما، استناداً على المؤشرات المقدمة، وهي فرضية يمكن تأكيدها من دون البرهنة عليها(19).

((ففي أحيان كثيرة لا يعني الكلام ذلك الجانب التصريحي، بل يعني حمل المتلقي على التفكير بأمور ثم التلميح إليها، وليس بأمور غيبية؛ لأنها متضمنة بالأقوال المصرح بها يلتجئ المخاطَب بعدم التصريح، لاصطدامه بعوامل تستمد مشروعيتها من المجتمع(20)))، فحق المخاطَب لا يكتفي بالمعاني الظاهرة في المعطى اللغوي ((بل يلجأ إلى حساب تأويلي يمكّمنه من إدراك المعاني الضمنية))(21).

والمخاطَب يحتاج إلى تأويل الخطاب في ضوء سياقاته، ومقاصده؛ لأن ((اعتماد قصدية النص أساس التأويل قد يعطي مصداقية ويفضي عليه صبغته الشرعية من حيث الفهم))(22).

فالانعکاس خصيصة جوهريَّة للاتصال القصدي، لذا لا يكتفي من المتكلم توجيه خطابه، بل يلزم من المتلقي إدراك قصدية المتكلم في الفعل التواصلي، وبذلك ينعكس القصد التواصلي(23)، من هنا تدخل التداولية في اهتمامها دراسة القدرة الإنجازية والقدرة التأولية، أي كيف يصل المتلقي إلى المعنى المراد من دون إغفال الجانب الثقافي، ومن دون

ص: 443

الخروج عن العرف والاتفاق(24).

في ضوء ما تقدم يمكن القول أن السياق الافتراضي الذي ينتجه (المتكلم) يحمل قصدية من أجلها يفسر الجانب الشكلي للمنجز القولي، وهذه القصدية تستدعي إعادة قراءة من قبل (المتلقي) لبناء المعني من جديد؛ لأن ((معنى الملفوظ ليس هو القصد الدّال على المتكلم بالذّات، بل هو المعنى الذي يستخرجه المخاطَب من الملفوظ منطلقاً في ذلك من بنيته الدّالة، ومعتمداً على مجموعة الكفايات التي يمتلكها هو))(25)، فالآثار السياقية المعرفية هي التي تنتج عملية التأويل انطلاقاً من المقدمات المنطقية للأقوال والقضايا التي يتكون منها السياق (التضمينات السياقية) و (إعادة تقيم المعلومات) و (إلغاء القضية الضعيفة التي تتناقض مع الموجود في الذاكرة)(26)، ويمكن تشجير ذلك:

أنتجه في ضوء السياق الافتراضي

المتکلم

المنجز القولي

المخاطب

إعادة قراءته في ضوء التأويل التداولي

1. وظيفة الأمر بين السياق الافتراض وآليات التأويل.

الأمر وهو طلب حصول الفعل من المخَاطَب لم يكن حاصل وقت الطلب: على وجه الاستعلاء مع الإلزام، وله أربع صيغة:

1. فعل الأمر، قال تعالى: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ» (مریم / 12)

2. المضارع المجزوم بلام الأمر: قال تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» (الطلاق / 7)

3. اسم فعل الأمر: قال تعالى: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا

ص: 444

اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة / 105)

4. المصدر النائب عن فعل الأمر: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» (الانعام / 151).

وقد تخرج صيغ الأمر عن مقتضى الظاهر، فتدلُّ على معانٍ غير معناها الأصلي تُفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال(27)، والمتكلم يوظف هذه الدلالات في سياق افتراضي، من أجل تحقيق مقاصده الخطابية، وإيجاد التواصل، وقد وجدنا في عهد الإمام علي (عليه السلام) كثرة استعماله هذا الأسلوب، فضلا عن خروجه على مقتضى الحال، وأكثر الصيغ دوراناً (فعل الأمر) و(المضارع المجزوم بلام الأمر)، والنحاة يفرقون بين هاتين الصيغتين، فذكروا أنّ فعل الأمر مقتصر على مقام الخطاب، أمّا الفعل المضارع المقترن بلام الأمر يستعمل مع الغائب والمتكلّم(28).

قال الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) بقوله: ((اعلم یا مالك أنّي قد وجّهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دولٌ قبلك من عدلٍ وجورٍ، وأن النّاس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))(29).

يجرّد الإمام رمزية (مالك)، ويضعه في سياقه الافتراضي بعد التنبيه عليه بأن عليه أن يعلم، مع أن (مالك) يعلم بأنه ذاهب إلى بلاد جرت عليها دول من عدل و جور، ثم يعقد تقابل:

ينظرون من أمورك مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك

ويقولون فيك مثل ما کنت تقول فيهم

وهذه معارف مشتركة بين طرفي الخطاب استثمرها المتكلم، ليصل إلى تقرير حقيقة في نفس المتلقي باستعمال القصر ب(إنما) التي تفيد تذكير المتلقي وتنبيه، قال عبد القاهر

ص: 445

الجرجاني ((اعلم أن موضوع (إنما) على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحّته أو لما يُنَزَّل هذه المنزلة تفسير ذلك أنك تقول للرجل: إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته، ولكن لمن يعلمه ويقرُّ به، إلا أنّك تريد أن تنبه للذي يجب عليه من حق الأخ وحُرمة الصاحب))(30)، وهذا السياق المعرفي وفر آليات الإنتاج وتأويل الخطاب في التواصل مركزه (العمل الصالح)، وقد استعان المتكلم بالإشارة وهي أن يتضمن الكلام القليل معانٍ كثيرة، تتأتي من إماء ولمحة دالة(31).

وهذا عين ما أراده الإمام تأكيده وتنبیه مالك (رضي الله عنه) و تثبيتها في ذهن المتلقي، وحثه عليها، وترغيبه بها، لهذا وجهه من جديد بقوله: ((فليكن أحبَّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))، لذا نجد تقدیم خبرها - یکن - (أحبَّ الذخائر) على اسمها (ذخيرة) للتحبيب والترغيب بالعمل الصالح قال سيبويه: ((كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني))(32).

وقال الإمام علي (عليه السلام)) في عهده المالك (رضي الله عنه): ((والصق بأهل الورع والصدق ثم رُضهم على ألا يُطرُوك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الَّزهو، وتدني من العزَّة))(33).

المتكلم في سياقه الافتراضي يوجه المتلقي الكوني، ويرشده إلى ملازمة أهل الورع والصدق، ويجعل هذه الفرضية منطلقه إلى اختبار واختيار من يلازم الحاكم، وبما أن (مالك) عُهد إليه ولآية مصر، واقتضت الصلة والمناسبة خطاب الإمام (عليه السلام).

فمتلقي الخطاب يصل بتأويله إلى قصد الخطاب وهو (النهي عن ملازمة غير الورعين والصادقين)، وهذا يمثل قوة إنجازية متمخضة من أصل الطلب (والصق بأهل الورع والصدق)، وكشف الخطاب عن مزايا هؤلاء، وبرر عدم ملازمتهم؛ لأنهم يكثرون من الإطراء الذي يحدث الزهو، ويدني من العزة.

ص: 446

أمّا الصيغة الثانية التي استعمله الإمام علي (عليه السلام) فكانت (الفعل المضارع المقترن بلام الأمر) قال الإمام (عليه السلام): ((وليكن نَظَرك في عمارة أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً))(34).

الفرضية التي يقدمها المتكلم في سياق الطلب، وهي (الاهتمام والعناية بالعمارة)، ولا يكن نظرك في استجلاب الخراج، لأن الخراج لا يدرك إلا بالعمارة، لهذا نجد تخاطب الشرطي الذي أوجده الخطاب ولَّد قوة إنجازية (لا تطلب الخراج إلا بعد عمارة البلاد)، والمتكلم أستعمل أداة الشرط (من) التي تفيد دلالة العموم(35)، والغرض الذي خرجت إليه هو (التكليف )*، وهو بذلك يريد توجيه خطابه إلى كل من ترأس، فيصبح تکلیفه العمارة، ولا يتسنى له بعد ذلك طلب الخراج قبل العمارة، ويمكن تشجير ذلك:

من طلب الخراج بغير عمارة - أخرب البلاد - القوة الانجازية - وأهلك العباد - لا تطلب الخراج الا بعد عمارة البلاد - ولم يستقم أمره - القوة الانجازية

ومتلقي الخطاب يدرك في سياقه التأويلي التداولية، مقاصد الخطاب، ويتحقق القصد التواصلي، الذي هو هدف كل خطاب، الذي بدوره يولد تأثير في متلقي الخطاب الكوني المعني بأصل الخطاب.

وقال الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك: ((وليكن أحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحق وأعملها في العدل وأجمعها لرضى الرَّعية، فإن سُخط العامة يُجحف برضى الخاصة، وإن سُخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة))(36).

ص: 447

بنائية الخطاب قائمة أساساً على الطلب الذي يفيد التوجيه والإرشاد، وقد وظف الخطاب اسم التفضيل (أحبَّ، أوسط، أعم، أجمع) التي تفيد أن شيئين قد اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر في تلك الصفة(37) في تأكيد مضمون الخطاب من الحث على إرضاء العامة من الرعية، وكسبهم، ولو على حساب الخاصة، لأن رضى العامة هو الأساس، وهو المعيار في عدالة الحكومة، لذا يولد الخطاب قوة إنجازية (لا تسخط العامة برضي الخاصة، ولا ترضي الخاصة بسخط العامة، لأن سخط الخاصة يغتفر)، ويمكن التشجير ذلك:

احب الامور - أوسطها في الحق - أعملها في العدل - أجمعها لرضى الرعية - القوة الانجازية (لا تسخط العامة برضى الخاصة)

وعلى وفق مبدأ الصلة بين التأثير السياقي والجهد الإدراكي يتحقق البعد التأويلي بآلياته المعرفية التواصلية، فينجز فعل التأثير.

2. وظيفة النهي بين السياق الافتراض وآليات التأويل:

النهي وهو طلب الكفّ عن الفعل على وجه الاستعلاء، وله صيغة واحدة، وهي الفعل المضارع المقرون بلا الجازمة قال تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا» (الأعراف/ 56).

وقد تخرج صيغة النهي عن مقتضى الظاهر، فتدلُّ على معانٍ غير معناها الأصلي - طلب الكفّ عن الفعل إلى معانٍ تُفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال (38)، وعن طریق هذه المعاني يحقق المتكلم في سياقه الافتراضي هدفه التخاطبي؛ لأنه لا يقصد

ص: 448

توجيه الخطاب لشخص معين، ولكن اقتضت المناسبة ذلك، وتوجيه الخطاب لذلك الشخص - مالك - بالنهي، وهو لا يتصور منه ذلك، فمن باب أولى أن يكون لغيره.

قال الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه): ((وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فأنّهم صنفان إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظيرٌ لك في الخلق))(39).

السياق الخطابي يأشر أن الطلب خرج من معناه الأصلي إلى معناه المجازي ألا وهو (النصح والإرشاد)، وحقيقة الخطاب أنه ليس موجه إلى شخص مالك الأشتر، بل موجه إلى عموم مَن يريد أن يكون حاكماً، أو هو حاکم بالفعل، ثم قال (ولا تكوننَّ)، طلب الكف عن فعل لمن لا يتوقع منه القيام بذلك، وتعبير ((النهي عن الكون أبلغ عن تلك الصفة، فقولك (لا تكن ظالماً) أبلغ من قولك (لا تظلم)؛ لأن (لا تظلم) نهي عن التلبس بالظلم، وقولك (لا تكن ظالماً) نهي عن الكون بهذه الصفة، والنهي عن الكون على الصفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة))(40)، فأسلوب طلب (فعل الأمر) و (النهي)، التي وظفها الخطاب في سياقه الافتراضي، حتى يولد قوة إنجازية (بما أنه أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق فيجب عليك أن تشعر قلبك الرحمة والمحبّة، واللطف، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً)، أفاد التأويل ذلك من الخصيصة البنائية للتتابع الطلب:

أشعر قلبك - الرحمة - المحبة - اللطف - القوة الانجازية - (ولا تكوننٌ سبعاً ضارياً)

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ولا تنصبنَّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يَدَي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنَّ على عفوٍ ولا تحجبن بعقوبة، ولا

ص: 449

تسرعنَّ إلى بادرةٍ وجدت منها مندوحةً، ولا تقولنَّ إنّي مؤمَّر آمر فأطاع، فإنَّ ذلك أدغالٌ في القلب ومنهكةٌ للدين وتقربٌ من الغير))(41).

المسلمات الحوارية التي أستعملها المتكلم في سياقه الافتراضي تتابع النواهي (ولا تنصبنَّ) و (لا تندمنَّ) و (ولا تبجحنَّ) و (لا تسرعنَّ) و (لا تقولنَّ)، نجد أن الإمام سوغ طلبه، وبرره في قوله (ولا تنصبنَّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يَدَي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته)، ليصل بنا إلى أهداف الخطاب الذي يعد القوة الإنجازية (مع قدرة الله عفى ورحم، فعليك أن تكون عفواً ورحيماً)، أمَّا بناء الخطاب في ضوء بنية التشارط يكون (بما أن الله عفواً ورحيماً إذاً عليك أن تكون عفواً ورحيماً بالعباد)

لا تنصبن نفسك لحرب الله - فانه لا یدي لك بنقمته - القوة الانجازية - (الله مع قدرته عفى ورحم) - ولا غنى بك من عفوه

وفي قوله (ولا تقولنَّ إنّي مؤمَّر آمر فأطاع، فإنَّ ذلك أدغالٌ في القلب ومنهكةٌ للدين وتقربٌ من الغير)، والكشف عن البعد الإشاري (أني)، يولد متناقضات في السلوك، والمبادئ التي يحرص الخطاب على بيانها، والإشارة إليها والتلويح بها في ضوء نظرية الصلة، والكفاية الإدراكية للمتلقي متسعة لكشف المعاني الضمنية المفترضة عبر المنجز القولي المتولد في سياقه الثقافي المعرفي، لذا لم يكتفِ بالكفاية التواصلية السابقة وفعلها التأثيري، بل أخذ يولد كفاءة تأويلية جديد الضمير الإشاري(أنا)، وهذا فيه مفسدة للقلب وإضرار للدين.

ص: 450

لا تقولن اني مؤمر آمر فأطاع - فأن ذلك إدغال في القلب - لا تفسد قلبك، ولا تضر دينك - منهكة للدين وتقرب من الغير

وقال الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك: ((ولا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً و يعدلُ بك عن الفضل، ويعدك الفقر ولا جباناً يُضعفك عن الأمر ولا حريصاً يُزيّنُ لك الشًّر بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتَّى يجمعها سوء الظَّنَّ بالله))(42).

لا يمكن حمل النهي في الخطاب على ظاهره ؛لأنه من غير الممكن أن يقع من متلقي الخطاب المباشر منه هذا الفعل، أنمّا متلقي الخطاب عام؛ لذا خرج النهي إلى النصح والإرشاد، ومقتضى الخطاب يأشر بأن المتلقي مؤمن، ويحمل قيم سماوية تدعوه إلى ترك هذه الأفعال؛ لأنها قبيحة ولا تتلاءم مع ما يؤمن به؛ لذا نجد المتكلم ويولد تضادات، هي مقاصد الخطاب.

1 - لا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر

2 - ولا جباناً يضعفك عن الأمر

3 - ولا حريصاً يُزيّن لك الشَّر بالجور

فالخطاب يستلزم أن يكون الحاكم (لا يعدل عن الفضل) و (ولا يكون ضعيفاً عن الأمر) و (لا يزين له الشرَّ بالجور)، وهذه القيم حسنة، تدلل على إيمان الحاكم، وهذا يدلل على حسن الظن بالله، وحتى يتم تحقيق الفعل التأثير في المتلقي، أتم الإمام علي (عليه السلام) الحجة على متلقي الخطاب بأن البخل والجبن والحرص غرائز يجمعها سوء الظنَّ بالله، وما يريد أن يقوله الخطاب (لا تسوء الظن بالله) فتكون بخيلاً، وجباناً، وحريصاً.

3. وظيفة الشرط بين السياق الافتراض وآليات التأويل:

ص: 451

ينماز أسلوب الشرط بدلالته الافتراضية التي يستدعيها المتكلم من أجل تحقيق قضية يوجبها السياق، ومناسبات القول، وهذا الاستدعاء وليد بنية تلازمية لا غنى لإحداهما عن الآخر إحداهما يسمى شرطاً، والأخرى تسمی جواباً، فمعنى الشرط أن يقع الشيء الوقوع غيره(43) أي: يتوقف الثاني على الأول نحو: إن زرتني أكرمتك، فالإكرام متوقف على الزيارة، ونحو قوله تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ» (محمد / 7).

فالآلية التي يعمل بها التشارط بأن يصل الشرط بالجواب أو السبب بالنتيجة، حتى لا يتصور الانفكاك بينهما، وهذا ما يوظفه صاحب الخطاب في توجيه المتلقي وجهة محددة تستلزم توليد قوة إنجازية، ففي قولنا (إن تدرس تنجح)، فأن القوة الإتجارية المتولدة عن جملة الشرط (ادرس)، كي يقع النجاح، فإن كان هدفك النجاح فعليك أن تدرس، فالنجاح لا يتحقق من دون الدراسة، ولهذا لا يصحّ دخول أدوات على ما كان ماضي اللفظ والمعنى، وأصل العلاقة بين طرفي الشرط سببيّة، إلا أن الاستعمال اللغوي يكشف عن خروج هذه العلاقة عن الأصل، فقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) الأعلى / 9)، فالتذكير لم يكن مسبباً عن نفع الذكر؛ لأن: ((الأمر بالتذكير واقع في كل وقتٍ، والتذكير نفع أو لم ينفع)) (44).

في ضوء ما تقدم يولد المتكلم في سياقه الافتراضي قوة إنجازية، لا تتحقق إلا عن طريق فرضية يفرضها في السبب، أي الشرط، ثم يرتب النتيجة، إي الجواب عليها، وهو بذلك يريد أن يحقق القضية المراد تحقيقها في أصل الخطاب أي: إن الأمر لم يقع بعد ولكن المتكلم يفرضه بسياقه، من أجل تحقيق قضية مترتبة على القضية المفروضة، ولكن ليس المقصود إثبات في ذهن المتلقي المباشر؛ لأنه ليس المقصود بأصل الخطاب، بل المتلقي الكوني، والمناسبة هي التي اقتضت الخطاب، قال الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك (رضي الله عنه) ((إذا أحدث لك ما أنت فيه من سُلطان أبهةً، أو مخيلةً، فانظر

ص: 452

إلى مُلك الله فوقك وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك فإنَّ ذلك يُطامِنُ إليك طماحك، ويكفُّ عنك من غربك، ويفيءُ إليك بما عزب عنك من عقلك))(45).

المسلمة الحوارية التي يفرضها المتكلم في سياقه (إن السلطان يحدث أبهةً أو مخيلةً)، وهذا الفعل قبيح، فعليك (النظر إلى ملك الله فوقك وقدرته منك) عسى أن ترجع عن هذا الفعل، وتتذكر ملك الله وقدرته عليك، وهنا يقيناً لا يقصد بالمخاطَب مالك الأشتر، بل المخاطَب كوني، والإمام وظفَّ المناسبة بتوجيه من يتزعم أو يترأس، والفرضية من المعارف المشتركة عند مالك الأشتر، وبما أن مالك الأشتر يؤمن بملك الله وقدرته، فلا يقع في نفسه الأبهة أو المخيلة، أمَّا الذين لا يؤمنون فيقع في نفوسهم الأبهة أو المخيلة، فالقوة المتولدة الإنجازية (لا يكون في سلطانكم أبهة ولا مخيلة)، (فإن كان ذلك فهذا دليل عدم إيمانكم بملك الله وقدرته)، ومتلقي الخطاب في ضوء نظرية الملائمة يؤول المعطى اللغوي، ليصل إلى هدف الخطاب وهو (التوجيه والإرشاد)، المتمثل بالنهي عن الأفعال القبيحة، الذي سوغ ذلك (الشرط المنفك أو الاحتمالي )(46) أو الشرط الافتراضي، والمراد من هذا الشرط تثبيت السبب المحتمل الذي صير النتيجة محتملة، فالرابط للصيغة إذا كان... إذن كان(47)، وما كان لهذا الفهم أن يكون لولا أن أنسق الشرطي أوجد تأويلاً مناسباً يتناغم مع ما يريد المتكلم أثباته في ذهن المتلقي.

وقد استعمل الإمام علي (عليه السلام) البنية الشرطية المتصدرة بالأداة (إن) في عهده لمالك (رضي الله عنه) فقال: ((فإن شكوا ثقلاً أو علَّةً أو انقطاع شربٍ أو بالةٍ أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطشٌ خفَّفت عنهم بما ترجون أن يصلح به أمرهم(48))).

الفرضية التي يقدمها المتكلم شكوت الناس للحاكم نتيجة الغرق أو إجحاف عطش...، وهذه الفرضية متعارف عليها بين طرفي الخطاب استعمل فيها المتكلم أداة

ص: 453

الشرط (إن) التي تخرج إلى ((المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها، والمستحيلة، وسائر الافتراضات الأخرى، فهي لتعليق أمر بغيره عموماً))(49)، ولكن أوجدها - الفرضية - حتى يستلزم من خلالها، توجيه الحاكم بتخفيف الضرائب عن كاهلهم، ومستوى التخفيف يوازي مستوى الأضرار، حتى يمكّنهم هذا التخفيف من إعادة الانتعاش إلى مزارعهم وإصلاح حالهم، فالقوة الإنجازية التي توفرها بنية الخطاب المتلازم على الحاكم (تخفيف الأضرار على الناس)، ومتلقي الخطاب يفهم ذلك التأويل المعنى تداولياً، لأن دلالات السياق وقرائن الأحوال لأداة الشرط (إن) تحقق أغراض معنوية كثيرة منها: التبكيت والتعجيز، أو الاستبعاد، أو التهكم، أو تقوية الحجاج والإلزام، أو التجاهل... وغيرها(50).

وقال الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك (رضي الله عنه): ((إذا قُمت في صلاتك للنَّاس فلا تكوننَّ منفراً ولا مضيعاً، فإنَّ في النَّاس مَن به العلة وله الحاجة، وقد سألتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجَّهني إلى اليمن كيف أُصلّي بهم، فقال: صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، كُن بالمؤمنين رحيماً))(51).

مقتضى الخطاب الشرطي أن مالك الأشتر يصلي بالناس جماعة؛ كونه الحاكم والمسؤول؛ لذا نجد المتكلم يستعمل الأداة (إذا) التي تدخل على محقق الوقوع أو راجح الوقوع(52) وهي الفرضية التي يقدمها المتكلم، المسَلَّم بها ومتعارف عليها بين طرفي الخطاب، كي يصل إلى النهي عن (التنفير) و (التضييع)، لأن الصلاة في أصلها محبوب، وهي عن فلا يجوز تنفير الناس منها، فضلا عن ذلك التقصير فيها، فالقوة الإنجازية المتولدة بنية التلازم الشرطي (على الحاكم والمسؤول تخفيف صلاته، ولا يثقل، وإلا أحدثت أضراراً بالناس، ولا يخفف بحيث يضيع أجر الصلاة)، ويسند ويعزز مقاصد الخطاب بتسبب هذا التوجيه والإرشاد، لأن في الناس من به علة وحاجة، وهذا العمل من سنة

ص: 454

النبوية، لأن الإمام علي (عليه السلام) استدل بالحديث النبوي الشريف (صلِّ بهم كصلاة أضعفهم)، ومقتضى الخطاب يستلزم الرحمة بالمؤمنين، لاسيما الضعفاء منهم، وأصحاب الحوائج، أي: على الحاكم - العبد - أن يتصف بمعبوده، ففي ضوء هذا السياق الافتراضي نجد المتلقي يؤول الخطاب تداولياً؛ ليقف على القصد التواصلي.

ص: 455

الخاتمة

السياق الافتراضي وليد السياق الثقافي والاجتماعي، والسياق الثقافي والاجتماعي الذي كان حاضر في عهد الإمام علي (عليه السلام)، سياق لا يحترم القيم الإسلامية، ولا يراعي شؤون العباد، لاسيما أن السلطة غرائزها عدَّ، تؤدي بصاحبها إلى المهالك، وتفقد العباد مصالحهم، وهذا ما يفسر (النصح والإرشاد) في عموم العهد.

أمَّا الفعل التداولي التأويلي يمثل إعادة قراءة لإنتاج القول، في ضوء المعارف المشتركة التي دعت المتكلم إلى عدم إظهارها، متوخيه من المتلقي إعادة إنتاجها من جديد، وهذا يعتمد على الكفاءة اللغوية للمتكلم، والكفاءة التأويلية للمتلقي في إيجاد (القوة الانجازية) في الخطاب، التي تمثل القصد التواصلي، والأغراض التي يخرج إليها الخطاب.

أثبت البحث نتائج قراءة جديدة يمكن اجمالها في:

1. أوضح البحث أن وظيفة السياق الافتراضي إثبات قضية في نفس المتلقي عن طريق ملائمة الأنساق التركيبة للسياقات الاجتماعية، وبهذا يتحرك المتلقي في ضوء القدرة التأويلية المؤشر إلها في أصل الخطاب.

2. أثبت البحث بأن الفرضيات متغايرة لتغاير السياقات الخارجية، فللسياق أثر في إيجاد الصلة أو المناسبة بين ما قيل وما يراد أن يقال، وهذا ما يسهم بصورة فاعلة في عمليتي الإنتاج والتلقي.

3. كشف البحث أن السياق الافتراضي في ضوء نظرية الصلة يمثل وحدة بنائية، فلا يكون معطى قبلياً ثابتاً يوجه تأويل الخطاب، بل يمثل متغيراً بنائياً تؤسسه عملية التخاطب.

4. بيَّن البحث أن المعطى اللغوي - الأمر - خرج من دلالته الأصلية إلى دلالته المجازية، وقد وظف ذلك في إنتاج الخطاب الافتراضي؛ لتحقيق التلقي التداولي، لإيجاد

ص: 456

مولدات تأثيرية توجيهه إرشادية.

5. بيَّن البحث أن المعطى اللغوي - النهي - خرج عن دلالته الأصلية إلى دلالته المجازية؛ ليؤدي وظائف توجيهيه، ويكشف عن قيم أخلاقية سلبيه ترافق الحاكم، هذا مما ولد كفاية أنجازية أصبحت هي هدف التخاطب، والقصد التواصلي.

6. بينَّت البحث أن البنية الشرطية لم تغادر معناها المركزي، وأن المعاني الافتراضية التي خرجت إليها معان وظيفية مستفادة من السياق، استثمرها المتكلم في توجيه الخطاب، وبيان القيم التي يجب أن يتحلى بها الحاكم.

6. كشف البحث خصوصية الخطاب الإمام علي (عليه السلام)، بأنه خطاب أرشادي توجيهه، تغايرت فيه الأساليب، لتغاير الثقافة المعرفية للمتلقي، والمتلقي كوني، وليس خاص، يستهدف كل من يريد أن يحكم، أو هو حاكم؛ لذا أصبح هذا العهد وثيقة تاريخية على مر العصور.

ص: 457

الهوامش

- ذكر المتأخرون أغراض متعدد للأداة (من) منها: التكليف، والابتهال، والتهديد...، ينظر: الجنى الداني في حروف المعاني: للمرادي: 110 - 114.

(1) آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: د. محمود أحمد نحلة: 14.

(2) المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا 2: 143.

(3) البلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي: محمود البستاني: 114 - 145.

(4) التداولية عند علماء العرب: د. مسعود صحراوي: 32.

(5) لسانیات التلفظ وتداولية الخطاب: ذهبية حمو الحاج: 124.

(6) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل: جون سيرل: 204 - 205،

(7) مدخل إلى اللسانيات التداولية: الجيلالي دلاش: 34.

(8) ينظر: الاستدلال الحججي وآليات الخطاب: د. رضوان الرقبي: 68 (بحث)

(9) نظرية الصلة أو المناسبة: دان سبيربر و ودیدري ولسن: 135.

(10) القاموس الموسوعي للتداولية: جاك موشلار وآن ریبول: 147.

(11) الترجمة والتأويل التداولي: د. أحمد کروم: 209. (بحث )

(12) ینظر: الافتراض المسبق مفهوماً تداوليا في الفكر اللغوي العربي عند القدامی: د. عصام شحادة: 43.

(13) ينظر: دائرة الأعمال اللغوية: د.شكري المبخوت: 9.

(14) ينظر: اللسانيات الوظيفية: مدخا نظري: د. أحمد المتوكل: 117.

(15) علم اللغة النظامي مدخل إلى النظرية اللغوية عند هاليداي: د. محمود أحمد نحلة: 59.

(16) الترجمة والتأويل التداولي: د. أحمد کروم: 199. (بحث)

(17) ينظر: اللغة والتأويل: عمارة ناصر: 60.

ص: 458

(18) لسانيات النص: محمد الخطابي: 196.

(19) المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: 13.

(20) لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب: د. ذهبية حمو الحاج: 122 - 123.

(21) لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب: 195.

(22) مفهوم التأويل عند المحدثين: أحمد مداس: 118.

(23) ينظر: الاقتضاء في التداول اللساني: عادل فاخوري 145 (بحث).

(24) ينظر: المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: د. هاجر مدقن: 9. (بحث)

(25) التداوليات علم استعمال اللغة: د. حافظ إسماعيل عليوي: 128.

(26) ينظر: المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: د. هاجر مدقن: 12.. (بحث)

(27) تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: للخطيب القزويني: 104.

(28) ينظر: رصف المباني في شرح حروف المعاني: للمالقي: 226 - 227.

(29) نهج البلاغة: شرح د. صبحي الصالح: 544 - 545.

(30) دلائل الإعجاز: للجرجاني: 232 - 233.

(31) ينظر: نقد الشعر: قدامة بن جعفر: 154 - 155.

(32) الكتاب: سيبويه: 1: 15.

(33) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 549.

(34) المصدر نفسه: 556.

(35) ينظر: التركيب الشرطي في النحو والأصول: سعود بن عبد الله الزدجالي: 89.

(36) نهج البلاغة: شرح: د. صيحي الصالح: 547.

(37) ينظر: شرح الكافية في النحو: لرضي الدين الاستربادي: 2: 112 - 114.

(38) تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: للخطيب القزويني: 106.

(39) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 545.

(40) أساليب المعاني في القرآن: جعفر باقر الحسني: 110 - 111.

ص: 459

(41) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 545 - 546.

(42) نهج البلاغة: شرح: صبحي الصالح: 548.

(43) ينظر: المقتضب: للمبرد: 2: 42.

(44) الصاحبي في فقه اللغة: لابن فارس: 438

(45) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 546.

(46) ينظر: التراكيب اللغوية في العربية (دراسة وصفية تطبيقية): د. هادي نهر: 202.

(47) ينظر: النص والسياق: استقصاء البحث في الخطاب الدلالي التداولي: فان دايك: 116.

(48) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 557.

(49) معاني النحو: د. فاضل صالح السامرائي: 4: 59.

(50) ينظر: من نحو المباني إلى نحو المعاني: بحث في الجملة وأركانها: د. محمد طاهر الحمصي: 359 - 361.

(51) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 557

(52) من نحو المعاني إلى نحو المباني: بحث في الجملة وأركانها: 397.

ص: 460

ثبت المصادر والمراجع

- لقرآن الكريم مصدر العربية الأول

1. أساليب المعاني في القرآن: جعفر باقر الحسيني، ط 1، مؤسسة بوستان کتاب، إيران 1428 ه.

2. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: د. محمود أحمد نحلة، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1432 ه - 2011 م.

3. البلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي: د. محمود البستاني، ط 1، دار الفقة، قم 1424 ه.

4. التداوليات علم استعمال اللغة: إعداد وتقديم: د. حافظ إسماعيلي علوي، ط 1، عالم الكتب الحديث، إربد - الأردن، 1432 ه - 2011 م.

5. التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية: د. هادي نهر، (د - ط)، ساعدت الجامعة المستنصرية على نشر، مطبعة الارشاد، بغداد العراق، 1408 ه - 1987 م.

6. التركيب الشرطي في النحو والأصول مقاربة في المفهوم والقضايا النحوية والدلالة والأثر الفقهي: سعود بن عبد الله الزدجالي، (ط 1)، دار الفارابي، بيروت - لبنان، 2008 م.

7. تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: للخطیب (جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني (ت 739 ه)، قرأه وكتب حواشيه وقدم له: د. ياسين الأيوبي، ط 1، المطبعة العصرية، بيروت لبنان، 1428 ه / 2008 م.

ص: 461

8. الجنى الداني في حروف المعاني: حسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه)، تحقيق: د. فخر الدين قباوة والأستاذ: محمد ندیم فاضل، ط 1، المطبعة الصليبية، 1392 ه - 1973 م.

9. دائرة الأعمال اللغوية: د. شکري المبخوت، ط 1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي - ليبيا، 2010 م.

10. دلائل الإعجاز في علم المعاني: الجرجاني (أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد، (ت 471 ه)، تحقيق: د. رضوان الداية، د. فایز الداية، ط 1، دار قتيبة 1983 م.

11. رصف المباني في شرح حروف المعاني: للإمام أحمد بن عبد النور المالقي (ت 702 ه)، تحقيق: أحمد محمد الخراط، ط 2، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1405 ه.

12. شرح الكافية في النحو: لرضي الدين الإستربادي (ت 686 ه)، ط 3 دار الكتب العلمية، بيروت، 1982 م.

13. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: أبو الحسين أحمد بن فارس ابن زکریا (ت 395 ه)، تحقيق: أحمد صقر، (د - ط)، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، د - ت).

14. علم اللغة النظامي مدخل إلى النظرية اللغوية عند هاليدي: د. محمود أحمد نحلة، المعرفة الجامعية، الإسكندرية - مصر 1930 ه - 2009 م.

15. القاموس الموسوعي للتداولية: جاك موشلر - آن ریبول، ترجمة: مجموعة من الأساتذة الباحثين بإشراف: عز الدين المجدوب، مراجعة خالد میلاد، ط 2، المركز الوطني للترجمة - دار سیناتر، تونس، 2010 م.

16. القصدية بحث في فلسفة العقل: جون سيرل: ترجمة: أحمد الأنصاري، دار الكتاب العربي، بیروت لبنان، 2009 م.

ص: 462

17. الكتاب: أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر المعروف بسیبویه (ت 180 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط 4، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1988 م.

18. لتداولية عند العلماء العرب: د. مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2005 م

19. لسانیات التلفظ وتداولية الخطاب: ذهبية حمو الحاج، ط 2، دار الأمل، تيزي وزر، 2012 م.

20. لسانیات النص: محمد الخطابي، ط 1، المركز الثقافي، لبنان - بيروت 1991 م.

21. اللسانيات الوظيفية: مدخل نظري: د. أحمد المتوكل:، منشورات عکاظ، الرباط - المغرب، 1989 م.

22. اللغة والتأويل: مقاربة في الهرمينوطيقا الغربية، والتأويل العربي الإسلامي: عمارة ناصر، ط 1، دار الفارابي، بيروت - لبنان، 2007 م.

23. مدخل إلى اللسانيات التداولية: الجيلالي دلاش، ترجمة: محمد يحياتن، ط 1، دیوان مطبوعات الجزائر، 1992 م.

24. معاني النحو: د. فاضل صالح السامرائي، ط 2، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عمان - الأردن، 1423 ه - 2003 م.

25. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية: جميل صليبا، (د - ط)، الشركة العلمية للكتاب، دار الكتاب العالمي، بیروت، 1994 م.

26. المقتضب: أبو العباس محمَّد بن يزيد المبِّرد، (285 ه)، تحقيق: محمّد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بیروت، (د ت).

27. من نحو المباني إلى نحو المعاني. بحث في الجملة وأركانها: د. محمد طاهر الحمصي، ط 1، دار سعد الدين للطباعة والنشر، سوريا، 1424 ه - 2003 م

28. النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي؛ فان دايك، ترجمة:

ص: 463

عبد القادر قنیني، (د - ط)، إفريقيا الشمالية، المغرب، 2000 م.

29. نظرية الصلة أو المناسبة: دان سبيربر و ودیدري ولسن: ترجمة الأستاذ هشام عبد الله الخليفة ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان 2016.

30. نقد الشعر: قدامه بن جعفر بن زیاد، تحقیق : محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب العلمي بيروت ،(د ت).

31. نهج البلاغة: ضبطه نصَّه وابتكر فهارسه العلمية: د. صبحي الصالح، ط 1، أنوار الهدى، إيران - قم، 1426 ه

البحوث المنشورة في الدوريات والمجلات

1. الاستدلال الحججي وآليات الخطاب: د. رضوان الرقبي، عالم الكتب، العدد: 29، المجلد: 40، أكتوبر - ديسمبر، لسنة 2011 م.

2. الافتراض المسبق مفهوماً تداولياً في الفكر اللغوي عند العرب القدامى: د. عصام شحادة علي، المؤتمر العلمي الخامس للغة العربية وآدابها، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، 2015 م.

3. الاقتضاء في التداول اللساني: عادل فاخوري، مجلة عالم الفكر، العدد: 2، المجلد: 20، الكويت، 1989 م.

4. الترجمة والتأويل التداولي: د. أحمد کروم، عالم الفكر، العدد: 4، المجلد: 41، أبريل - يونيو، لسنة: 2013 م.

5. مفهوم التأويل عند المحدثين: أحمد مداس، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد: 4، لسنة 2009 م.

6. المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: د. هاجر مدقن، مجلة مقاليد، العدد 2 الجزائر، ديسمبر 2011.

ص: 464

تقنية الوصف وأثرها في الإبلاغ في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة في ضوء النظرية التداولية

اشارة

الدكتوره فاطمه عبد الأمير السلامي الكلية الإسلامية الجامعه - النجف الأشرف

ص: 465

ص: 466

المقدّمة

في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر شرح لمجموعة معينة من طبقات المجتمع المدني خصها الإمام (عليه السلام) بأوصاف معينة وحث ولي الأمر على مراعاة اتصاف هذه الفئات بتلك الأوصاف، وتسعى هذه الدراسة للكشف عن البعد التداولي في هذه الأوصاف، ولمَ أكد عليها الإمام (عليه السلام) دون غيرها؟ ولما ذكرها بهذا التسلسل بالذات؟ وما أفادت هذه الأوصاف في أصحابها وفي المجتمع.

وتقف هذه الدراسة عند مفهوم (الوصف) وتعدها إحدى التقنيات الخطابية في الإبلاغ؛ ذلك بأن المبلغ يسعى للتأثير في المبلغ إليه باستعماله لأوصاف معينة بحد ذاتها، ويكون هناك قصد تداولي وراء كل وصف يستعمله المبلغ في ابلاغه للخبر أو الحادثة أو القضية.

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون على خمس فقرات تسبقها مقدمة وتمهيد وتليها خاتمة بأهم نتائج البحث:

أولاً: تصنيف البشر ووصفهم بشكل عام.

ثانياً: تصنیف طبقات المجتمع المدني باعتبارهم (خاصة وعامة) وذكر أوصافهم.

ثالثاً: وصف من لا يصلح للمشورة.

رابعاً: وصف الجند.

خامساً: وصف القضاة.

ص: 467

التمهيد: تقنية الوصف في الخطاب الإبلاغيّ

عند تتبّعنا لجهود علمائنا الأوائل نجدهم وقفوا عند ظاهرة (الوصف) في العربية وقفة متأنّية لاسيّما فيما يتّصل منها بجانب الشعر، فقدامة بن جعفر (ت 327 ه) يعرّف الوصف بأنّه: ((ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات))(1)، في حين لا يقتصر الوصف على ذكر الشيء بما فيه من وجهة نظر ابن رشيق القيروانيّ (ت 456 ه)، وإنّما يتعدّى ذلك فيكون عبارةً عن: إخبار عن حقيقة الشيء(2).

ويبدو على نظرة قدامة للوصف أنّها لا تقوم على تفضيل ممارسة النقل أو الإبلاغ الذي يُقرّب الموصوف إلى ذهن الموصوف له، أو المتلقّي غير المطّلع عليه عياناً، وإنّما يقع التفضيل على ممارسة تقوم على الانتقاء؛ ومن ثَمّ الأداء باختيار أثر الصفات تمثيلاً للمعنى المراد إيصاله، ويضيف ابن رشيق إضافةً جوهريّة، ذات قدرٍ من الأهمّيّة؛ إذ لا يغفل في تفضيلة الأداء الذي يحقّق الوظيفة الأساسيّة للوصف قدرته على الإبلاغ(3).

أمّا في العصر الحديث فقد وقف الدارسون طويلاً عند قضيّة الوصف، ولاسيّما السرديّون منهم(4)، لما له من أثر كبير في التعبير الروائيّ، ومن التعريفات الحديثة المهمّة للوصف تعريفه بأنّه ((الخطاب الذي يسم كل ما هو موجود، فيعطيه تميّزه الخاصّ وتفرّده داخل نسق الموجودات المشابهة له أو المختلفة عنه))(5).

ولم يبقَ الوصف مرتبطاً بالسرد، وإنّما حصل تغيير كبير في علاقتهما معاً، إذ تقدّم الوصف إلى الأمام، وحصل على مكانة خاصّة به(6)، فصرنا الآن أمام مصطلح جديد هو (النصّ الوصفيّ) الذي يتوجّب على قارئه معرفة المعجم وإدراك التصنيفات الدلاليّة والصور المجازيّة الواردة فيه إذا أراد فهمه(7).

ص: 468

ولهذا ف(الوصف) سواء أكان في القرآن الكريم أم في أيّ نصّ من النصوص البشريّة الراقية فهو إحدى تقنيّات الإبلاغ في ذلك النصّ؛ إذ بوساطة هذه التقنيّة يعمل (المبلِّغ) على التأثير في (المبلَّغ إليه) باستعماله أوصافاً معيَّنة بحدّ ذاتها، بل ويعمل على إثارة انتباهه نحوها، إذ يكون هناك قصد تداوليّ وراء كلّ وصف يستعمله (المبلِّغ) في إبلاغه للخبر أو الحادثة أو القضيّة.

ويمكن تقسيم هذه التقنيّة على قسمين:

(1). تقنيّة الوصف البسيط: ويُقصَد بها ((الوصف الذي يُعطى من خلال جملة وصفيّة مهيمنة قصيرة، لا تحتوي إلّا على بعض التراكيب الوصفيّة الصغرى))(8).

(2). تقنيّة الوصف المركب: وهي القطعة الوصفيّة الكاملة التي تتكوّن من مجموعة جمل مترابطة مع بعضها، ومحتوية على أوصاف يكمل بعضها بعضاً.

ولا تُعَدّ هذه التقنيّة وصفاً لظاهرة أو لحدث أو لشخصيّة فقط، وإنّما لها بُعد تداوليّ يُفهم من انتقاء العبارات فيها، وتراتيبها الواحدة تلو الأخرى، والتأكيد على ذکر جزئیّات معيّنة دون أخرى، وإبرازها أكثر من غيرها.

وعند قراءة (عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر) قراءة دقيقة متأنّية، سنلاحظ بأنّ الإمام (عليه السلام) قد استعمل هذه التقنيّة في خطابه الإبلاغيّ، وفي أكثر من موضع، ومن أهمّ هذه المواضع تلك التي تحدّث فيها عن طبقات المجتمع الإنسانيّ، إذ وصف الإمام (عليه السلام) كلّ طبقة منها بأوصاف معيّنة، سعى من خلالها إلى إبلاغ وليّ الأمر أو المسؤول بطبيعة أفراد هذه الفئات وبأهمّ ما يمتازون به سلباً وإيجاباً، وأهم هذه المواضع سنقف عليها ونبيّنها في الفقرات الآتية من البحث.

ص: 469

(أوّلاً): تصنيف البشر ووصفهم بشكلٍ عامّ:

صنّف الإمام علي (عليه السلام) البشر على صنفين من حيث المعاملة في عبارته المشهورة هذه: ((فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق))(9).

وهذا التصنيف يحمل وصفاً أي (تصنیف بالوصف) فتتمّ معاملة البشر بناءً على صفتين: إمّا بوصفه أخاً أو بوصفه نظيراً، وتقنيّة الوصف هنا هي تقنيّة الوصف البسيط، فالعبارة تتكوّن من جملتين كل جملة اختصّت بوصف معيّن لصنف من الناس.

وهذا تقسیم عامّ للإنسانيّة يكشف عن كيفيّة تعامل (الحاکم) مع أبناء رعيّته بعدالة، فجميع طبقات المجتمع نجدها منضوية تحت هذين الصنفين (أخ لك في الدين) و(نظير لك في الخلق).

ومن الملاحظ على كلامه (عليه السلام) أنّه لم يقل (أخ لك في الشريعة الإسلاميّة)، فهو يخاطب مالك الأشتر (رضي الله عنه) وهو (مسلم)، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»(10)، ولكن إذا أردنا فهم البعد التداوليّ لهذا الوصف سنجد فيه تعميماً أوسع، إذ لم تحصر الأخوّة هنا في (شريعة الإسلام) فقط، وإنّما هناك رابط أخويّ يجمع بين أبناء (الدين) الواحد بشتّى شرائعه السماويّة، ذلك إذا فهمنا من الدين هنا معنى الطاعة والانقياد للشريعة الإلهيّة(11). فالدين ((عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلّا به، ولم يبيّن لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلّا إيّاه، ولم ينصب الآيات الدالة إلّا له وهو الإسلام الذي هو التسليم للحقّ الذي هو حقّ الاعتقاد وحق العمل، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبيّة في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كمّاً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنّه ليس في الحقيقة إلّا أمراً واحداً وإنّما اختلاف الشرائع بالكمال الله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله))(12).

ص: 470

فإذا كنت مسلماً عامل المسلمين بوصفهم أخوة لك، لهم ما لك وعليهم ما عليك، وكذلك بالنسبة لباقي أبناء الشرائع الإلهيّة الأخرى، فجميع هذه الشرائع السماويّة تنبع من الدين الإلهيّ الواحد.

هذا بالنسبة للصنف الأوّل، أمّا الصنف الثاني وهم الذين يخالفون الحاكم في الدين وهم من رعیّته و تحت لوائه، ويقع ضمنهم حتّى مَن لا دين له، فقد أمره الإمام (عليه السلام) بأن يعاملهم بوصفهم (نظراء له) في الخلق، ويتّضح ذلك بقول الإمام (عليه السلام): (نظير لك في الخلق)، والنظير في اللغة: يعني (المثل)(13)، فهو إنسان مثلك بغض النظر عن كونه أسوداً أو أبيضاً، عربيّاً أو أعجميّاً، بدويّاً أو حضريّاً، وإذا تبع الحاكم هذه المعاملة فسيتجنّب الطائفيّة والعصبيّة القبليّة والشعوبيّة وكل ما يتعلّق بذلك.

وقد اكتسبت عبارة الإمام علي (عليه السلام) هذه بهذين الوصفين البسيطين بُعداً تداوليّاً عالميّاً، انطلق من تعامل الحاكم مع الرعيّة، ومن ثَمّ طُبّق على تعامل الفرد مع أبناء المجتمع فتتحقّق العدالة المدنيّة والاجتماعيّة ويتمّ الابتعاد عن الفساد والقتل على الهوية ونبذ الطائفيّة وتهميش الآخر والحفاظ على حياة هانئة لجميع الناس.

مسلم - اهل الکتاب - أخ في الدین - لك - نظیر في الخلق - ابيض - اسود - عربي - اعجمي - بدوي - حضري

الحاکم = مالك الاشتر

بعد تداولي

مخطّط رقم (1):

إذا طَبّق كلّ (إنسان) هذا المبدأ في تعامله مع باقي البشر سادت العدالة العالم أجمع

ص: 471

(ثانياً): تصنيف طبقات المجتمع المدنيّ باعتبارهم (خاصّة وعامّة) وذكر:

أوصافهم:

ثمّ بدأ الإمام علي (عليه السلام) باعطاء تصنیف آخر للرعيّة من حيث مكانتهم في المجتمع إلى (أهل العامّة وأهل الخاصّة) ووضّح للحاكم كيفيّة التعامل مع كلِّ منهم من خلال إبلاغه بأوصاف معيّنة موجودة فيهم، وذلك في قوله (عليه السلام): ((وَلْيَكُنْ

أَحَبَّ الاُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ

سُخْطَ الْعَامَّةِ يْجُحِفُ بِرِضَ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلاِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالِاْلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الِاْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ هُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ))(14).

ففي هذا النصّ نلاحظ استعمال الإمام (عليه السلام) لمجموعة من الأوصاف میّز بها أهل الخاصّة وأهل العامة وبما أنّ الوصف هنا تكوّن من مجموعة عبارات ارتبطت مع بعضها فالوصف هنا مرکَّب، ويمكن توضيح تقنيّة الوصف المركَّب بالمخطّط الآتي:

مخطَّط رقم (2):

اهل الخاصة - اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء - اقل معونة في البلاء - اكره للانصاف - اسال بالالحاف - اقل شكراً عند الإعطاء - ابطا عذراً عند المنع - اضعف صبراً عند ملمات الدهر - اهل العامة - عماد الدين - جماع المسلمين - العدة للأعداء - اهل کتاب

التأكيد على اظهار الصفات السيئة (الشخصية) والعامة

التأكيد على إظهار الصفات الحسنة

ص: 472

نلاحظ على صفات (أهل الخاصّة) تأكيد الإمام (عليه السلام) على إبراز صفاتهم الذاتيّة وكيفيّة تعاملهم مع الحاكم في وقت الرخاء (أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء - أقلّ شكراً عند الإعطاء) وفي وقت الشدّة (أقلّ معونةً في البلاء - أضعف صبراً عند ملمّات الدهر)، وقد استعمل الإمام (عليه السلام) صيغة (أفعَل) التفضيل في جميع الأوصاف التي ذكرها كما في: (أثقل - أقلّ - أكره أسأل أبطأ - أضعف) وهذه الصيغة تدلّ على:

1. اشتراك شيئين في صفة واحدة، وقد زاد أحدهما على الآخر في تلك الصفة(15)، أي تحصل مفاضلة بينهما في تلك الصفة، وفي خطاب الإمام (عليه السلام) نلاحظ بأنّه استعمل هذه الصيغة في صفات سيّئة غير حسنة، ليبيّن بأنّ من يتّصف بهذه الصفات قد بلغ أعلى مرتبة فيها من باقي أفراد الرعية؛ إذ أنّ هناك فرقاً بين قولنا مثلاً: (فلان کاره للإنصاف) وبين قولنا: (فلان أكره للإنصاف)، ففي القول الأول بيّنّا موقفه الذاتيّ بأنّه (کاره للإنصاف)، أمّا في الثاني فإنّنا قسناه بغيره فظهر هو الأشدّ كرهاً للإنصاف، وهكذا بالنسبة لباقي الصفات.

2. وكذلك التكرار في استعمال هذه الصيغة، يعمل على تنبيه المتلقّي على مساوئ هؤلاء فيزيد ذلك من نفوره منهم وابتعاده عنهم.

فالحاكم إذا اجتمع بالأغنياء والمترفين وذوي الثروة ولازمهم وصار كالصديق لهم فسيعزلونه عن الشعب، فيخسر شعبه، وإذا خسر شعبه فلن يغني عنه هؤلاء - الذين اتّصفوا بهذه الصفات السيّئة –- شيئاً بل سيخسر نفسه أيضاً(16).

ولهذه القطعة الوصفيّة التي عرّف عن طريقها الإمام ب(أهل الخاصّة) بعد تداولي يفهمه متلقّي هذا الخطاب الكريم، وهو أنّ من كانت هذه أفعالهم مع الحاكم أيام الشدّة والرخاء فلا خير فيهم أبداً، لأنهم يتّصفون بالبخل والطمع والجشع، ويقدّمون مصلحتهم الشخصيّة على كلّ شيء، فإن سيطروا على الحاكم وتفكيره وقراراته فقد

ص: 473

سيطروا على الحكم، وبالتالي انعزل الحاكم عن الرأي العامّ وفسدت الدولة.

أمّا (أهل العامة) فقد أكّد الإمام (عليه السلام) على صفاتهم العامّة (عماد الدين - جماع المسلمين - العدّة للأعداء) بغضّ النظر عن صفاتهم الشخصيّة، ذلك بأنّ المهمّ في الحاكم استماعه لأهل العامّة لأنهم جيشه وعزّته، فبهم ينتصر على الأعداء، و بهم تقوی دولته، فإن رضوا عنه لا يستطيع أحد الوقوف في وجهه، لأنّ الكثرة تغلب القلة والنصر للغلبة.

ولا يعني تفضيل الإمام (عليه السلام) أهل العامّة على الخاصّة، أن لا يكون للحاكم خواصّ من القوم يجتمع معهم في خلواته، فقد ذكر الإمام (عليه السلام) صفات مهمّة يجب توفّرها فيمن يتّخذهم الحاكم خاصّة له من الناس، وذلك في قوله (عليه السلام): ((وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ

وَأوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِمًا عَلَی ظُلْمِهِ، وَلا آثمِاً عَلَی إِثْمِهِ، أوُلئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ))(17).

أهم وصف في اختيار خواص الحاكم أكد عليه الإمام (عليه السلام) و عدّه شرطاً مهماً في اختيار هؤلاء الأشخاص هو (عدم إعانة الظالم على ظلمه أو الآثم على إثمه)، ومن الملاحظ على خطاب الإمام (عليه السلام) أنه أراد الإبلاغ عن قضية مهمة لها انعكاسها على المجتمع وعلى الدولة فيما بعد، فبدأ من الأساس ولم يذكر شروطاً معينة لاختيار خواص الحاكم ووزرائه بل استعمل (عليه السلام) تقنية الوصف المركب هنا، لبيان أهمية توفر هذا الوصف (عدم الإعانة على الفساد)، وقد فصل الإمام (عليه السلام) هذا الوصف، بانتقاء عبارتين تركب منهما الوصف وهما (من لم يعاون ظالماً على ظلمه) و(ولا آثماً على إثمه)، وقد قصد الإمام (عليه السلام) ذكر (الظلم) قبل (الإثم)؛ ذلك

ص: 474

بأنّ دائرة الظلم أوسع وأبشع من الإثم، فالظالم يظلم الآخرين عادةً فضلاً عن ظلمه لنفسه ومن ساعده فإنه يسهم في انتشار هذا الظلم وزیادته، أمّا (الآثم) فهو الذي يقترف الإثم لنفسه أكثر من غيره، وإن لم يجد من يشجّعه أو يعاونه في اقتراف الإثم فسيقلّل من اقتراف هذه الآثام، وبالتالي قلّ الفساد الاجتماعيّ والفرديّ، ومن لم يُعِن أمثال هؤلاء فهو: (أقلّ مؤونة، وأحسن معونة، وأحني عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً) أيّها الحاكم فاتّخذ من اتّصف بهذا الوصف خاصّةً لك.

وإذا قارنّا بين هذه الأوصاف الثلاثة الأخيرة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) وبين المقطع السابق في (العهد) الذي ذكرت فيه الأوصاف السيئة لأهل الخاصّة، سنلاحظ بأن الإمام (عليه السلام) ذکرها بالصيغة ذاتها، (صيغة أفعل)، ولكن هنا جاءت الصيغة التفضيل هؤلاء حقاً على غيرهم، فاستعمال (أفعل) التفضيل هنا إيجابي، وأيضاً تكررت هذه الصيغة، فكأنّما هناك مقابلة بين المقطع السابق في العهد وهذا المقطع، ويمكن بيانه بما يأتي:

أهل الخاصة (المقطع السابق)

خاصة الحاكم من الوزراء (المقطع الحالي)

أثقل مؤونة - أخف مؤونة

أقل معونة - أحسن معونة

أضعف صبراً - أحنى عطفاً على الحاكم

ومن هذه الأوصاف التي أبلغ عنها الإمام (عليه السلام) في المقطع الحالي نفهم بعداً تداولياً مهماً هنا، وهو أنّ من كانت هذه أوصافهم فهم أحسنوا الظنّ بالله تعالى وتوكّلوا عليه، فلم تغن لهم الدنيا وما فيها شيئاً، فهم يبتغون مرضات الله تعالى، لذلك فهم يقدمون أفضل ما لديهم للحاكم وللدولة حتى تقوى ويصلح ما فيها، بينما كان أهل الخاصّة في المقطع السابق متعلقين بالدنيا فهي شغلهم الشاغل فكانوا لا يطيقون صبراً في الأزمات ولا يشكرون في الرخاء، بل يريدون هل من مزيد، وأمثال هؤلاء سبب الخراب للدولة.

ص: 475

وفي نهاية هذا المقطع يبلّغ الإمام (عليه السلام) عن أفضل الخواصّ ويطلب من الحاكم أن يجعله الأقرب إلى نفسه من الجميع وهو من كان (أقولهم بمر الحق لك)، وينبغي علينا هنا التمعّن في هذه العبارة وفي دقّة اختيار الإمام (عليه السلام) لهذا الوصف هنا إذ لم يقل (أقولهم بالحق لك) وإنما قال (أقولهم بمرّ الحق)، إذ هناك حقائق مُرّة، تؤذي عند سماعها، وتتطلّب شجاعةً للتصريح بها، وكثير من المقربين والأصدقاء يتهربون منها ولا يستطيع الإبلاغ عنها لشخص معين، لذلك أكد الإمام (عليه السلام) على الاستشارة بأمثال هؤلاء في الدولة، واستماع الحاكم إليهم دائماً، لأنّ كلام هؤلاء الحقيقي الصادق يهدف إلى صلاح الحاكم وصلاح دولته، ((فالحق مر وثقيل على أهل الهوى والجهل، وأما أهل العلم والعدل فالحق ضالتهم أنّی کان ويكون، ويجهرون به، ولا يخشون فيه لومة لائم))(18)، أي أنّهم يملكون شخصيّة مستقلة وتفكيراً مستقلاً، فهم يعينونك في الحق ولا يعينونك في الباطل(19).

(ثالثاً): وصف من لا يصلح للمشورة:

أبلغ الإمام (عليه السلام) عن بعض الأشخاص الذين لا يصلحون للمشورة في أي أمر من أمور الدولة، فعلى الحاكم الابتعاد عن استشارة أمثالهم، لأنهم يتّصفون بهذه الأوصاف، والتي ذكرها الإمام (عليه السلام) عندما قال: ((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الاُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ))(20).

ومن الملاحظ بأنّه ((ليس المراد بالمشورة هنا النظام الشوري في مقابل الاستبداد والدكتاتورية، بل مجرد الاستئناس برأي من ترى منه الوعي والنصيحة.. والإمام ينهي عن الأخذ برأي الجبان والبخيل والحريص، وهذان الاثنان سواءٌ في القبض والإمساك، ص: 476

ولكن الحريص أكثر جشعاً وشرهاً يكدح ليل نهار في السعي لدنياه، أما البخيل فقد يكون كسولاً، والإنسان على وجه العموم ينظر إلى الأشياء ويتصورها من خلال ذاته... ومن هنا وخوفاً من الفقر يأمر البخيل بالإمساك، والجبان بالاستسلام حرصاً على الحياة، ويأمر الحريص بالكدح لمجرد الجمع والادّخار))(21).

وقد ربط الإمام (عليه السلام) جميع هذه الأوصاف ب: (سوء الظن بالله تعالى)؛ ذلك بأن بخل البخيل وخوفه من الفقر وضياع المال، وخوف الجبان على حياته، وحرص الحريص واستمراره في الجمع والادّخار جميعها تنبع من سوء الظنّ بالله تعالى، وعدم الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره، ومن هنا يفهم المتلقّي الحالي لهذا الخطاب الإبلاغي - فضلاً عن المتلقي الأول لهذا الخطاب - مالك (رضي الله عنه) - بُعداً تداولياً ينشأ من دائرة سوء الظنّ بالله تعالى، وهو افتقار كل من البخيل والجبان والحريص صفة التوكل على الله سبحانه وتعالى، وعدم الإيمان الحقيقي به تعالى، لذلك كان تفكيرهم محدوداً مادياً وآنياً، ولهذا يجب عليه الابتعاد عن استشارة هؤلاء، فالإمام (عليه السلام) في الحقيقة (يوصي بالتحلي بثلاث قيم وملكات مهمة ومؤثرة على مستوى التدبير والإدارة: السخاء، الشجاعة، والقناعة)(22)، ويمكن بيان ذلك في المخطط الآتي:

المخطط رقم (3):

البخيل - يخاف الفقر - الجبان - يستسلم خوفا من الموت - الحریص - دائم الشره ولایشبع خوفاً من الخسارة -سوء الظن بالله بعد تداولي - فقدان جميع هؤلاء لصفة التوكل على الله بعد تداولي تعالى وبأنه قادر على كل شيء

وبما أنّ جميع هؤلاء قد جمعهم سوء الظن بالله تعالى، فعلى الحاكم الابتعاد عنهم وعدم الأخذ بشورتهم، لأن أفكارهم أنانية وفاسدة تؤدي إلى خراب البلد وفساد الحاكم، فإذا أراد مساعدة الفقراء واستشار بخيلاً أو حريصاً زيّنا له الخسارة وضياع الأموال، وإن

ص: 477

أراد قتال المفسدين ثبّطه الجبان عن ذلك وهكذا.

وهذه الأوصاف التي حذّر منها الإمام (عليه السلام) هنا قد أبلغه بها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من قبل، إذ ورد عن الرسول (صلی الله عليه واله وسلم) قوله للإمام علي (عليه السلام): ((يا علي، لا تشاور جباناً فإنه يضيّق عليك المخرج، ولا تشاور البخيل فإنّه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاور حريصاً فإنه يزين لك شرَّها، واعلم یا علي، أن الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن))(23)، وفي هذا بیان لشدة مساوئ هؤلاء على نظام الحكم في الدولة.

رابعاً: وصف الجند:

بما أنّ للجيش دوراً مهمّاً في الحفاظ على أمن وأمان البلد الذي يحمونه ويقاتلون دونه، فقد خصّص له الإمام (عليه السلام) قطعة وصفيّة أبلغ عن طريقها بأهم أوصاف الجند، وقد كان هذا الوصف کما يأتي:

(1). وصف عامّ، وذلك في قوله (عليه السلام): ((فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ))(24).

وقد أبلغ الإمام (عليه السلام) هنا عن مجموعة من الأوصاف العامة في الجيش، والتي تكشف عن مكانتهم وأثرهم في الدولة، فهم حصن أهل الدولة، ومحل شرف الولاة ورفعتهم، فكلما كان الجيش قوياً منظّماً متماسكاً هابه الأعداء، وبالتالي انعكست هذه الهيبة على واليه وقائده، و بهم عزّة الدين، فهم من يحامي عنه ويقف بوجه أعدائه، وفي الوقت نفسه فجيش كل دولة بمثابة صمام الأمان لأهلها، وجميع هذه الأوصاف التي ذكرها الإمام (عليه السلام) و أبلغ عنها الحاكم تدل على وصف يتركب منها جميعاً، وهو التماسك والترابط الذي يجب أن يتصف به جیش الدولة، حتى يحافظ على هيبتها، ومن هذا التماسك والترابط نصل إلى معنى تداولي وهو أن يتحقق جميع هذه الصفات

ص: 478

تتحقق القوة، فجيش الدولة هو مصدر قوّتها.

ومن الملاحَظ بأن ترتیب هذه الأوصاف التي كونّت هذا الوصف المركب للجند، جاء بحسب الجند لكل قضية، إذ قدّم الإمام (عليه السلام) (الرعية) أولاً، فأول عمل للجيش هو الحفاظ على سلامة الرعية، فقال (عليه السلام): (حصون الرعية)، ومن ثَمّ تأتي أهمّيّة الجيش للحاکم (زین الولاة)، ومن ثَمّ ذكر (عليه السلام) بأنهم (عز الدين)، إذن قدّم (عليه السلام) مصلحة الناس والمجتمع أولاً، وأخّر الدين، إذن لا ينبغي القتال باسم الدين في كل وقت، وإنما يجب مراعاة المصلحة العامة أولاً، وأخيراً قال (عليه السلام): (سبل الأمان).

ويمكن توضيح الوصف المركّب للجند بالمخطّط التالي:

الجند - حصون الرعية - زين الولاة - عز الدين - سبل الامان - التماسك والترابط - معنی تداولي (القوة)

(2). وصف خاصّ (لرؤساء الجند)، وذلك في قوله (عليه السلام): ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ

أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلاِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ

يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَی الاْقْوِيَاءِ،

وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ))(25).

فهنا إبلاغ من الإمام (عليه السلام) للحاكم بأن يختار ((لرئاسة الجيش الناصح لأمّته ومهمّته، والمخلص لدينه وضميره، والحليم الذي يملك نفسه، ويكظم غيظه، ويقبل العذر، ويرحم الضعيف، ويشتد على القوي كي لا يطمع في جوره و تحيزه وممن لا يثيره

ص: 479

العنف أي يصبر على الكلمة القاسية والحركة النابية، ويتمهل حتى يتدبر العواقب، فيعمل بموجبها، شأن العاقل الحكيم، ولا يقعد به الضعف، إذا سكت لا يسكت عن عجز بل لحكمة ورويّة، وبكلمة يلين من غير ضعف، ويقوي من غير عنف))(26).

وقد أكّد الإمام (عليه السلام) هنا على الصفات الشخصيّة في اختيار رؤساء الجند، وأوّل وصف هو (معرفة الله تعالى ورسوله ومعرفة الإمام)، ومن ثَمّ ذكر وصفاً مهمّاً هو (أنقاهم جيباً) وهذا تعبير کنائي عن العفّة والأمانة؛ لأنّ الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه عادةً، وقد أكد الإمام (عليه السلام) على هذا الوصف ووجوب تحلّي أمير الجيش به لأجل الغنائم، فهو الذي يقسمها بين جنده(27)، وبعد هذين الوصفين المهمين ذكر (عليه السلام) الأوصاف الباقية التي تتعلق بمعاملة أمير الجيش لجنوده.

ومن تقنيّة الوصف المركب هذه لرؤساء الجند نصل إلى معنىً تداوليٍّ مهمّ لم يصرّح به الإمام (عليه السلام)، وإنّما فهمناه من هذه التقنية، وهو اشتراط صفة العدالة فيمن يعيَّن رئيساً للجند؛ ذلك بأنّه: ((لا تستقيم الحياة وتطيب إلّا بالعدالة، وهي المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين الجميع، فإذا اختلّ ميزانها ساد الظلم، وفسدت الأوضاع.. ومن البداهة أنّه لا عدالة بلا قوّة، والقوّة بلا عدالة استبداد، ومعنى هذا أنّ القوّة والعدالة عنصران أساسيّان للحياة الطيّبة والوجود القديم، والجند هم مصدر القوّة وأساسها، و بهم يُصان الدين والوطن، ویستتبّ الأمن والنظام))(28).

ثمّ اشترط الإمام (عليه السلام) بأن يكون أقرب رؤساء الجند إلى الحاكم مَن ((مَنْ

وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ))(29)، ذلك بأنّه يكون قريباً منهم، عالماً بمشاكلهم وحوائجهم، فإن أراد الحاكم معرفة أحوال جنده سأل هذا الرئيس المقرَّب منهم، والذي قرّبته منهم إنسانيّته التي يمتلكها.

ص: 480

خامساً: وصف القضاة:

يبلّغنا الإمام (عليه السلام) بأوصاف محدَّدة يجب على الحاكم مراعاتها عند اختياره للقضاة، ويتّضح ذلك بقوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلا يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلا يْحَصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَی الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ ...))(30).

ويبدو أنّ كلمة (اختر) في كلام الإمام أعلاه ((تشير إلى أنّ القضاة لا يُنتخَبون بآراء الناس، كما هو المتداوَل في بعض البلدان المعاصرة، بل يختارهم القائد والإمام بشكلٍ مباشر أو بواسطة الأفراد الموثوقين؛ لأنّ مسألة صلاحيّة القضاة ليست شيئاً يمكن الرجوع فيه إلى آراء الناس للحكم في ذلك))(31).

وقد اشترط الإمام (عليه السلام) في القاضي المختار من قبل الحاكم (أن يكون أفضل الرعيّة وأقربهم إلى الحاكم) فهذا وصفٌ عام ذكر بعده الإمام (عليه السلام) مجموعةً من الأوصاف شكّلت لنا الوصف المركّب للقاضي، وقد وصلت إلى اثني عشر وصفاً تقريباً(32)، وكما يأتي:

الوصف - المقصود منه

1. ممن لا تضيق به الأمور - المعرفة والعلم

2. لا تمحِّكه الخصوم - سعة الصدر

3. لا يتمادى في الزلّة - غير لجوج ومعاند

4. لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه - القدرة على الاعتراف بالخطأ

5. لا تشرف نفسه على طمع - لا يطمع بالرشوة

6. لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه - الإحاطة بالقضيّة من جميع الجوانب

ص: 481

7. أوقفهم في الشبهات - محتاط

8. آخذهم بالحجج - يعتمد على الأدلة القوية والمقبولة

9. أقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم - لا ينفعل بسهولة

10. أصبرهم على تكشُّف الأمور - الصبر والتريُّث

11. أصرمهم عند اتّضاح الحكم - الحزم

12. ممن لا يزهيه إطراء ولا يستمليه إغراء - بعيداً عن الغرور والعُجب

وإذا أردنا بيان أهمّ وصف أكّد عليه الإمام (عليه السلام) من خلال تفصيله لجميع هذه الأوصاف، وبهذا الترتيب سنلاحظ بأنّه أكّد على وصفين مهمّين تقع جميع الأوصاف السابقة ضمنها، وهما (العلم) و(الحلم) كما موضَّح أدناه:

العلم - سعة المعرفة - الاحاطة بالموضوع من جميع الجوانب - محتاط في اخذ القرار - الاعتماد على الأدلة - الحزم - الحلم - سعة الصدر - عدم الفساد - عدم الانفعال - الصبر والتريث - القدرة على الاعتراف بالخطا

وصف مركب بعد تداولي

التأكيد على الصفات الذاتيّة في القاضي، لأنّ بيده مصائر الناس، فلا يؤخذ بنظر الاعتبار منصبه أو مكانته أو نسبه في المجتمع لأن جميع ذلك لا يحقّق العدالة في الدولة

وبعد انتهاء الإمام (عليه السلام) من ذكر هذه الصفات، أبلغنا بأنّ ((أُولئِكَ

قَلِيلٌ(33))، فكأنّه (عليه السلام) يجيب الحاكم الذي يتفاجأ بهذه الصفات المذكورة جميعاً

ص: 482

وتأخذه الحيرة بأنّه كيف سيحصل على قضاة لدولته يتّصفون بهذه الصفات النادرة؟ فيبيّن الإمام (عليه السلام) قلّتهم وندرتهم في جميع الأزمان، إذ لم يحدّد القلّة في زمن مالك (رضي الله عنه) فقط، وإنّما تركها مطلقة، وفي هذا إشارة تداولية إلى أنّ إقامة العدالة في الدولة ليست بالأمر السهل، وإنّما تتطلّب من حاكم الدولة السعي الحثيث والبحث عن الأشخاص الجيّدين، فلو تمّ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لاستتبّ الأمن في العالم أجمع، ولكن ربّما أنّ هؤلاء الأشخاص نادرين فلذلك نلاحظ القضاء غير عادلٍ في كثيرٍ من الأحيان.

ص: 483

الخاتمة:

في ختام هذا البحث، نخلص إلى أنّ الخطاب الإبلاغيّ للإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) كان خطاباً غنيّاً بتقنيّات لسانيّة نصّيّة وتداوليّة عدّة، كان من أهمّها (تقنيّة الوصف)، وقد لاحظنا استعمال الإمام (عليه السلام) لهذه التقنيّة بنوعيها (الوصف البسيط، والوصف المركَّب)، مع أنّ الوصف المركّب هو الغالب في عهد الإمام (عليه السلام)، وقد كان إبلاغ الإمام (عليه السلام) عن هذه الأوصاف مقصوداً، إذ أكّد عليها دون غيرها، وذكرها على وفق ترتيب معيَّن فهمنا منه نحن اليوم كمتلقّين لهذا الخطاب الإبلاغيّ الكريم أبعاداً تداوليّة مهمّة لم يصرّح بها الإمام (عليه السلام) وإنّما فهمناها بوساطة إحدى التقنيّات التداوليّة المهمّة والمؤثّرة في الخطاب الإبلاغيّ، ألا وهي تقنيّة الوصف.

ص: 484

هوامش البحث:

(1) نقد الشعر، قدامة بن جعفر: 130.

(2) يُنظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيروانيّ: 2 / 294.

(3) أنساق التداول التعبيري: 54 - 55.

(4) يُنظر: بلاغة السرد في الرواية العربيّة، إدريس الكريوي: 223 وما بعدها، والوصف في الرواية العربية روايات حنان الشيخ نموذجاً، د. حنان إبراهيم العمايرة: 13 وما بعدها.

(5) وظيفة الوصف في الرواية، عبد اللطيف محفوظ: 11.

(6) البناء الفنّيّ في الرواية العربية في العراق / الوصف وبناء المكان، د. شجاع العاني: 8.

(7) في نظريّة الوصف الروائيّ، د. نجوى الرياحيّ: 140.

(8) وظيفة الوصف في الرواية: 48.

(9) نهج البلاغة، جمع السيد الشريف الرضيّ، شرح: محمّد عبده: 458.

(10) آل عمران: 19.

(11) يُنظر: تاج العروس، الزبيدي، مادة (دین): 35 / 56.

(12) الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائيّ: 3 / 93.

(13) ينظر: الصحاح، الجوهري، مادة (نظر): 2 / 831.

(14) نهج البلاغة: 459 - 460.

(15) ينظر: المهذب في علم التصريف، د. صلاح مهدي ود. هاشم طه شلاش: 260.

(16) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 35.

(17) نهج البلاغة: 461.

(18) في ظلال نهج البلاغة محاولة لفهم جديد، محمد جواد مغنية: 4 / 60.

ص: 485

(19) نفحات الولاية: 10 / 343.

(20) نهج البلاغة: 461.

(21) في ظلال نهج البلاغة: 4 / 59.

(22) نفحات الولاية، الشيرازي: 10 / 333 - 334.

(23) علل الشرائع: 2 / 559.

(24) نهج البلاغة: 463.

(25) نهج البلاغة: 463.

(26) في ظلال نهج البلاغة: 4 / 70 - 71.

(27) يُنظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 52.

(28) في ظلال نهج البلاغة: 4 / 66.

(29) نهج البلاغة: 464.

(30) نهج البلاغة: 465 - 466.

(31) نفحات الولاية: 10 / 388.

(32) لقد فصّل شرّاح النهج القول في هذه الصفات، يُنظر: في ظلال نهج البلاغة: 4 / 75 - 77، ونفحات الولاية: 10 / 389 - 394.

(33) نهج البلاغة: 466.

ص: 486

مصادر ومراجع البحث:

- القرآن الكريم.

- أنساق التداول التعبيري / دراسة في نظم الاتصال الأدبي (ألف ليلة وليلة أنموذجاً تطبيقياً) ، الدكتور فائز الشرع، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، ط 1، 2009 م.

- بلاغة السرد في الرواية العربية / رواية علي القاسمي مرافئ الحب السبعة نموذجاً، إدريس الكريوي، دار الأمان، الرباط، ط 1، 1435 ه - 2014 م.

- البناء الفني في الرواية العربية في العراق / الوصف وبناء المكان، د. شجاع مسلم العاني، دار الشؤون العامة آفاق عربية، بغداد، العراق، ط 1، 2000 م.

- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205 ه)، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، ط 1، 1965 م.

- شرح نهج البلاغة، عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله مدائني الشهير بابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، ط 2، 1967 م.

- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه).

- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد.

- في ظلال نهج البلاغة / محاولة لفهم جديد، شرح محمد جواد مغنيّة، انتشارات كلمة الحق، إيران، ط 1، 1427 ه.ق.

- في نظرية الوصف الروائي / دراسة في الحدود والبنى المرفولوجية والدلالية، د.نجوى الرياحي القسنطيني، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط 1، 2008 م.

ص: 487

- المهذب في علم التعريف، د. صلاح مهدي الفرطوسي ود. هاشم طه شلاش، مطابع بيروت الحديثة، ط 1، 2011 م.

- الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 1، 1997 م.

- نفحات الولاية، شرح عصري جامع لنهج البلاغة، ناصر مکارم الشيرازي بمساعدة مجموعة من الفضلاء، إعداد: عبد الرحيم الحمراني، ط 1، نشر مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قم، إيران.

- نقد الشعر، أبو الفرج قدامة بن جعفر (ت 337 ه)، تحقيق: الدكتور عبد المنعم الخفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، مصر، ط 1، 1980 م.

- نهج البلاغة، جمع السيد الشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبده، خرّج مصادره: فاتن محمد خليل، مؤسسة التاريخ العربي، بیروت، لبنان، بدون تاریخ.

- الوصف في الرواية العربية / روایات حنان الشيخ نموذجاً، د. حنان إبراهيم العمايرة، دار الفارس، الأردن، ط 1، 2011 م.

- وظيفة الوصف في الرواية، الأستاذ الدكتور عبد اللطيف محفوظ، النبأ للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، ط 1، 2014 م.

ص: 488

مبدأ التأدُّب في عهد الإمام عليّ (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رحمه الله) (قراءة تداولية)

اشارة

الأستاذ الدكتور حميد الفتلي

ص: 489

ص: 490

المقدِّمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين وصلَّى الله على مُحمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.. وبعد:

فإنَّ عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى واليه مالك الأشتر حين ولَّاه مصر جبايةَ خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها وعمارة بلادها، يُعَدُّ من أطول العهود المكتوبة وأكثرها أهمية في فصاحته وأُسلوبه وتنسيق عبارته وعمق دلالاته ورونق تنسيقه وحسن تنظيمه، وهو بَعدُ يُعَدُّ دستورًا مهمًّا کشف فيه الإمام (عليه السلام) لواليه كيفية تدبير شؤون دولته و تنظيم علاقات المجتمع السياسية والعسكرية والدينية والاقتصادية، فضلاً عن حرص الإمام على وجوب التزام واليه بالعدل والإنصاف وحسن التدبير وسموّ الأخلاق في إدارة المجتمع.

والذي يهمّنا هنا دراسة هذا العهد من الجانب اللُّغويّ، ولاسيَّما ما يتعلّق بالدراسة التداولية فعقدت العزم على دراسة مبدأ مهمٍّ من مبادئ التداولية لم يحظَ بتلك الشهرة والأهمِّية من لدن الدارسين وهو مبدأ التأدُّب.

والحقّ أنَّ مفهوم هذا المبدأ كان معروفًا في التراث اللُّغويّ العربي، ولاسيَّما التراث الإسلامي، إلاَّ أنَّ علماءنا لم يطلقوا عليه هذه التسمية، وإنَّما كانوا يومئون إليه بالضمير تارةً وبالكناية تارةً أُخرى، وبالتلويح أحيانًا. وقد وَرَدَت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحثُّ على الالتزام بهذا المبدأ من قبيل قوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» [النحل: 125]، وقوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» [الإسراء: 23].

ونجد في القرآن عددًا من الآيات ضمَّت هذا المبدأ من قبيل قوله تعالى: «وَقَالُوا

ص: 491

مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ» [الفرقان: 7]، قِيلَ: إنَّ عبارة يأكل الطعام كناية عن الحدث؛ لأنَّه ملازم أكل الطعام(1)، فإنَّ القرآن استعمل الكناية للابتعاد عن ذكر ما يُستقبَح ذكره تأدُّبًا.

ومنه قوله تعالى: «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» [البقرة: 222].

و قوله تعالى: «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» [البقرة: 223].

و قوله تعالى: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» [البقرة: 237].

وقد عَبَّر القرآن عن تلك المعاني بهذه الألفاظ تحفُّظًا في التعبير بالقبيح وتصوّنًا من الفحش، وهي من الكنايات المهذّبة الراقية في أدب التعبير القرآني(2).

ومنه قوله تعالى: «وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ» [الممتحنة: 12]، فكنَّى القرآن بأُسلوبٍ راقٍ بهذا التعبير عن الشيء المستقبَح، وهو الزنا تأدُّبًا عن ذکره؛ لأنَّه قبيح(3).

و رُويَ عن ابن عبّاس قوله: «إنَّ الله کریم یکنِّي ما يشاء»(4).

وغير ذلك من الآيات القرآنية التي يمكن أن تكون دراسة مستقلّة في هذا الباب.

وبعد فإنَّ مبدأ التأدب من المبادئ التواصلية التداولية التي تعكس ثقافة المجتمعات، فنحن اليوم نستعمل ألفاظًا من قبيل ضمير الجمع للمفرد تعظيمًا له، فيُقال: أهلاً بكم، ومرحبًا بكم، للمفرد، أو استعمال عبارات بعينها من قبيل: دولتكم، وجلالتكم، وسماحتكم، ومن قبيل دام ظله، ودام بقاؤه، وحفظه الله.

وسيتكفّل هذا البحث بتعريف هذا المبدأ بوصفه مبدًا تخاطبيًّا تواصليًّا تداولیًّا، فيبيّن الباحث في أوّله تعريف التداولية بصورة يسيرة، ثُمَّ يَعرُض إلى مبدأ التعاون الذي أقَرَّه غرايس، وتوضيح قواعده، ويتناول البحث تعريف مبدأ التأدُّب، ويتطرق إلى أُصوله في تراثنا اللُّغويّ العربي، وأهمّ المراحل أو الأطوار أو الاتّجاهات التي مَرَّ بها، بدءًا من

ص: 492

غرايس، فلايكوف، ثُمَّ ليتش، ثُمَّ براون وليفنسون، ثُمَّ يختم البحث بالحديث عن عبدالرحمن طه ومبدأ الصدق عنده، ثُمَّ تجري قراءة تطبيقية لما صدر عن الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده في ضمن هذا المبدأ.

وأخيرًا اللهَ أسألُ أن يأخذ هذا البحث مكانه بين الدراسات، وأن يفتح الباب واسعًا الدراسة مبدأ التأدُّب في تراثنا اللُّغويّ العربي.

التداولية:

تناول اللسانيّون المحدثون مصطلح التداولية وشاع عندهم، وهو ترجمة للمصطلح الإنجليزي (pragmatics)، وهو المذهب التواصلي الجديد، فالتداولية ليست علمًا لُغويًّا محضًا بالمعنى التقليدي، علمًا يلتقي وتفسير البنى اللُّغوية ويتوقّف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، ولكنَّه علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللُّغويّة في مجال الاستعمال، ويدمج من ثَمَّ مشاريع معرفية متعدّدة في دراسة ظاهرة التواصل اللُّغويّ وتفسيره.

وإنَّ قضية التداولية هي إيجاد القوانين الكلية للاستعمال اللُّغويّ والتعرُّف على القدرات الإنسانية للتواصل، وتصير التداولية من ثَمَّ جديرة بأن تُسمَّی (علم الاستعمال اللُّغويّ)(5).

وعَرَّفها بعضهم بأنَّها العلاقة بين العلامة ومفسِّرها(6).

وقِيلَ: هي التحديد الضمني للسياق فيما تؤول إليه الكلمة(7).

وقِيلَ: هي اتّجاه في الدرس اللساني معنيٌّ بأثر التفاعل التخاطبي في موقف الخطاب(8)، ويُفهَم من كُلّ هذه التعريفات أنَّ وظيفة التداولية إقامة علاقة بين المتكلّم والسياق.

والذي يعنينا هنا ما تفرَّعَ أو تمخَّضَ عن التداولية من قواعد ومبادئ من أهمّها مبدأ التأدُّب الذي يقوم عليه هذا البحث. وقبل الخوض في ذلك ينبغي الحديث عن مبدأ

ص: 493

التعاون الذي قرَّرَه غرایس بوصفه المبدأ الأوّل أو القاعدة الأُولى من قواعد التداولية.

مبدأ التعاون:

يرى غرايس أنَّ المتخاطبين يخضعون ويلتزمون أثناء ممارسة عملية التخاطب ببعض المبادئ العامة، ويهدف غرايس من وراء هذه المبادئ تحقيق ما يأتي:

1. إنَّ الجمل الخبرية لا تخضع کُلّها لشروط الصدق.

2. توضيح كيفية اشتغال آليات التأويل التي تجعل المؤوِّل ينتقل من الشكل اللُّغويّ الحرفي إلى ما يتضمَّنه الملفوظ من معنى.

3. فحص الإطار النفسي - المنطقي الذي يقع فيه التبادل الكلامي.

ویری ویلسون وسبيربر أنَّ النجاح الذي حقَّقه تحليل غرايس يعود أساسًا إلى مبدأ التعاون، فقبل ظهور أعمال غرایس كان تأويل الملفوظ يقوم على مبدأين:

1. معنى الجملة المتلفّظ بها.

2. السياق.

وهما عاملان متغيِّران؛ لذلك أضاف غرایس عاملاً ثالثًا هو مبدأ التعاون الذي يضمّ مجموعة من التعاليم الحوارية يحترمها کُلّ مسهم في عملية التواصل، ويؤكِّد غرايس أنَّ الحوار لا تقوم له قائمة إلاَّ إذا احترم المتخاطبان مبدًا أوّلیًّا وأساسًا قائلاً: ليكن إسهامك في الحوار مطابقًا لما يفرضه عليك هدف واتّجاه التبادل الكلامي الذي التزمت به.

وبناءً على ذلك فإنَّ الممارسة اللُّغويّة عند غرایس تقوم باعتبارها نشاطًا إنسانيًا على مبدأ التعاون بين الأطراف لتحقيق العملية التخاطبية التامّة.

وبناءً على هذا المبدأ العامّ صاغ غرايس قواعد فرعية متعلّقة بمبدأ التعاون، وهي:

ص: 494

قاعدة الكمّ: وهي متعلّقة بكمّية المعلومات التي يجب عرضها أو تقديمها وتترتّب عنهما القاعدتان:

- لتكن مساهمتك في التخاطب حاملةً ما يفي بحاجة مخاطبك.

- لا تجعل مساهمتك في التخاطب حاملةً في الإفادة أكثر ممَّا ينبغي.

قاعدة الكيف: وترتبط بقاعدة مفادها الصدق في التخاطب، لتكن مساهمتك في التخاطب صادقةً، ومنها كذلك تتفرّع قاعدتان:

- لا تقل ما تعتقد أنَّه كذب.

- لا تقل ما لا تملك إثبات صحّته.

قاعدة العلاقة: وتتعلّق بقاعدة أساسية مفادها: لتكن مساهمتك في صلب موضوع التخاطب، بمعنى أن يناسب القول ما هو مطلوب أو بتعبير البلاغيين لكُلّ مقام مقال.

قاعدة الصيغة: وترتبط على عكس سابقاتها بكيفية القول وتنبني على قاعدة أساسية هي تحرّي الوضوح في العملية التخاطبية وتتفرَّع إلى:

1 - اجتنبْ الغموض.

2 - اجتنبْ اللَبْس.

3 - ليكن كلامك موجزًا.

4 - ليكن كلامك مرتّبًا(9).

وإنَّ غرايس حين قرَّرَ هذا المبدأ وصاغ قواعده الفرعية لم يجعل الباب مغلقًا، وإنَّما ترکه مفتوحًا لتنضاف إليه مبادئ وقواعد تداولية أُخرى تكمله وتسير معه جنبا إلى جنبًا ومنها:

ص: 495

الاستلزام الحواري:

وهو من المبادئ التي أغنى بها غرايس الدرس التداولي وسماه بالاستلزام التحادثي أو مبدأ الصدق(10).

وهو عبارة عن عملية تواصل في ضوء التعاون يظهر المرسِل تعاونًا ما، إمَّا بشكل ظاهري أو بشكل فعلي، ومهما يكن من أمر يفترض المتلقّي تعاونًا ما لا يتّصل بمقول قول المرسِل، بل يتّصل بما يقصده المرسل، ويقوم الاستلزام الحواري بفكّ شفرة المرسلِ وتأویل مقصده(11).

فالمتكلّم في كثير من الأحيان يقول شيئًا (المعنى المعلن)، ويضمِّن كلامه معنًى آخر غير صريح (المعنى المضمَّن)، والفرق بين المعنيين أنَّ الأوّل هو ما تعنيه الكلمة في قيمتها الظاهرة، وما يمكن التعبير عنه وتفسيره بمصطلحات شروط الصدق، أمَّا المعنى الثاني فهو الأثر الذي ينوي المتكلِّم إحداثه في السامع معوِّلاً في ذلك على قدرة هذا السامع على الوصول إلى ذلك المعنى... ففي الاستلزام الحواري يضطلع كُلٌّ من السياق والمعارف المشتركة بين المتفاعلين بدور مهمٍّ في التعرُّف على ما يتضمَّنه الملفوظ من استلزامات بالمواضع والاصطلاح(12).

والجدير بالذكر أنَّ الاستلزام الحواري مترجم عن المصطلح الانجليزي (Implicaturecuture)، وقد اختلفت ترجمته فمنهم مَنْ ترجمة إلى التضمين(13)، وآخر ترجمه إلى الاقتضاء(14)، ومنهم من أطلق عليه التلويح الحواري(15).

وإنَّ هذا المفهوم كان يُطلق عليه البلاغيون العرب مصطلح التعريض، وهو أن يكنِّي عن الشيء ويعرِّض به ولا يصرِّح(16).

ولا نريد الخوض في هذا المبدأ وقواعده، إنَّما الذي يعنينا منه ما يتعلَّق بمبدأ التأدُّب، إذ يمكن أن يندرج الاستلزام في ضمن مبدأ التعاون تارةً، وفي مبدأ التأدُّب تارةً أُخرى

ص: 496

بحسب مقتضى السياق وقصد المتكلّم.

مبدأ التأدُّب

يُقال: أدُبَ یأدُب أدَبًا، فهو أديب، وأدُبَ الرجل: حسُنَت أخلاقه وعاداته، وتأدَّبَ يتأدَّبُ تأدُّبًا فهو متأدِّب، والمفعول متأدَّب به(17).

وقد تناول اللُّغويّون المحدثون هذا المبدأ في ضمن مباحث التداولية؛ لأنَّها تعتدُّ بالبعد التفاعلي في اللُّغة، واعتبر التداوليون اللُّغة أداةً للتطبيع الاجتماعي لتمتين الروابط بين الأفراد، وقد تناولوا قضية التفاعل الحاصل بين المتكلّمين ساعة التخاطب ضمن جملة من المباحث أو المبادئ، ومن بينها مبدأ التأدُّب الذي يعني «مجموعة من الطرائق المتعارف عليها داخل جماعة لُغويّة يتمثَّل دورها في الحفاظ على قدر من الانسجام في أثناء التفاعل بين المتكلّمين برغم ما يترتّب على كُلّ لقاء واحتكاك من أخطار»(18).

ويُعَدُّ هذا المبدأ سلوکًا تخاطبيًا تحكمه الأعراف والقواعد الاجتماعية وهي تختلف من شخص إلى آخر، ومن بيئة إلى أُخرى، فمبدأ التأدُّب مبدأ اجتماعي أخلاقي قبل أن يكون نمطًا لُغويًّا محدّدًا فقد تستعمل بيئة لُغويّة أُسلوبًا تخاطبيًا لا تستعمله بيئة أُخرى مع وحدة الظرف بينهما.

وهذا المبدأ عَدَّه التداوليون المحدثون من أهمّ المواضيع التي بدأت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي «تستقطب اهتمام اللسانيين التداوليين وتتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى حقل جديد للبحث ما فتئت الكتابات تتتالى والمقاربات في إطاره تتنوَّع، والمحدث يستدرك على القديم، ويفتح في تناول التأدُّب آفاقًا جديدةً اتّسعت بمقتضاها أكتاف الظاهرة وتعدّدت مجالات تطبيقها بعد أن كانت في النشأة والأصل مقصورة على المحادثات الشفوية»(19).

وإنَّ هذا المبدأ يضمّ مجموعة من القواعد التي ينبغي على الفرد مراعاتها.

ص: 497

وقد أشار مجموعة من اللُّغويّين وعلماء الاجتماع إلى بعض تلك القواعد، ومنهم العالم فرایزر في ما سمّاه (المنظور الاجتماعي المعياري في حسن المعاشرة والوجيز في التأدُّب)، فقد احتوى هذا المصنّف على مجموعة من القواعد تهدف إلى تعليم النساء سياسة الخطاب المتأدِّب من نحو هاتين القاعدتين (تجنَّبي الخوض في المواضيع التي يُفترَض أنَّ فيها إحالة مباشرة على أحداث أو ملابسات ربَّما تكون أليمة، إن كنتِ على يقين من عدم صحّة زعم من المزاعم، ومن أنَّ في ذلك الزعم أذًى لشخص آخر قد يكون غائبًا فيمكنك أن تشعري السامع في لطف وهدوء بأنَّه أخطأ أمَّا إذا كانت الكذبة ممَّا لا يترتّب عليها آثار تُذکَر فغضي الطرف عنها»(20).

ثُمَّ تطوّرت هذه القواعد لتشمل المجتمع برمَّته وتحدّدت بموجبها أُصول التخاطب بين الأفراد.

مبدأ التأدُّب عند العرب:

لم يحظَ هذا المبدأ عند قدماء اللُّغويّين العرب بعناية خاصّة، ولم يُفرَد له باب من أبواب اللُّغة أو الأدب، وإنَّما كان يُفهَم من عباراتهم وأُسلوب كتاباتهم وبحسب ما تدعو إليه الحاجة أو تقتضيه المناسبة، ولم تكن عنايتهم به واضحة؛ لأنَّ «تلك الكتابات كانت تعتبر التأدُّب من الاستعمال اللُّغويّ ولم تكن وقتئذٍ تنظر إليه على أنَّه جزء من النحو، وما يوجد في تلك الكتابات من إشارات عابرة يعكس نظرة معيارية للظاهرة»(21).

على أنَّنا يمكن أن نعثر على هذا المبدأ في نتاجات البلاغيين فقد أشاروا إليه في حدیثهم عمَّا يُعرَف لديهم بأُسلوب الحكيم الذي يعني التأدُّب الذي نصَّ عليه المحدثون، وأُسلوب الحكيم بحثه أرباب البلاغة في باب الخروج على مقتضى الظاهر، وهو عند علماء البلاغة صرف کلام المتكلّم أو سؤال السائل عن المراد منه، وحمله على ما هو الأُولى بالقصد، أو إجابته على ما هو الأَولى بالقصد، وسمَّاه الشيخ عبدالقاهر الجرجاني

ص: 498

المغالطة(22).

وقال عنه السكاكي: «ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفنّنة إذ ما من مقتضی کلام ظاهريّ إلاَّ ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة على ما ننبّه على ذلك، منذ اعتنينا بشأن هذه الصناعة ونرشد إليه تارةً بالتصريح وتارةً بالفحوى، ولكلٍّ من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها»(23).

ولأُسلوب الحكيم قسمان:

الأوّل: «تلقّي المخاطِب بغير ما يترقَّب، وذلك يكون بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهًا على أنَّه الأَولى بالقصد إليه.

والثاني: تلقّي السائل بغير ما يتطلَّب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهًا على أنَّه الأولى بحاله أو المهمّ له»(24).

فمثال الأوّل ما فعله القبعثری بالحجّاج، إذ قال له الحجّاج متوعِّدًا: (لأحمنّك على الأدهم). يريد الحجّاج: القيد الحديد الأسود: فقال القبعثری «مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب) يعني: الفرس الأسود والفرس الأبيض، فقال له الحجّاج: أردت الحديد، فقال القبعثری: لأن يكون حديدًا خيرٌ من أن يكون بليدًا، ومراده تخطئة الحجّاج بأنَّ الأليق به الوعد لا الوعيد(25).

وقد جرت هذه المحادثة بين الرجلين بسبب أنَّ الحجاج بلغه أنَّ القبعثرى لما ذكَرَ الحجّاج بينه وبين أصحابه في بستان، قال: اللَّهم سوِّد وجهه، واقطع عنقه، واسقني من دمه، فوُشِيَ به إلى الحجّاج فلمَّا مثُل بين يديه وسأله عن ذلك، قال: إنَّما أردت العنب، فقال له الحجّاج ما ذُکِرَ.

ومثال الثاني قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ

ص: 499

وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» [البقرة: 215]، سألوا النبيّ (صَلَّی اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن حقيقة ما ينفقون مالهم، فأُجيبوا ببيان طرق إنفاق المال تنبيهًا على أنَّ هذا هو الأولى والأجدر بالسؤال عنه، ومنه قول الحجّاج البغدادي(26):

قَالَ: ثَقَّلْتُ إِذْ أتَيْتُ مِرَارًا *** قُلْتُ ثَقَّلْتَ كَاهِلي بالأَيَادِي

قالَ: طَوَّلْتُ. قُلْتُ: أَوْلَيْتَ طَوْلاً *** قَالَ: أَبْرَمْتُ قُلْتُ: حَبْلَ وِدَادِي

فصاحب ابن حجّاج يقول له: قد ثقلت عليك بكثرة زياراتي، فيصرفه عن رأيه في أدب وظرف، وينقل كلامه من معنى إلى معنى آخر، وكقول الشاعر(27):

ولمَّا نعى الناعي سَألنَاهُ خشيةً *** وللعَينِ خوفَ البينِ تسكابُ أمطارِ

أجاب قضي: قلنا قضى حاجة العلى *** فَقالَ مَضَى: قُلنَا بِكُلِّ فَخَار

وقِيلَ لشيخ هِرمٍ: كم سنّك؟ فقال: إنِّي أنعم بالعافية، فترك الشيخ الهرم الإجابة عن السؤال الموجّه إليه، وصرف سائله في رفق عن ذلك، وأخبره أنَّ صحّته موفورة إشعارًا للسائل بأنَّ السؤال عن الصحّة أولى وأجدر(28).

مراحل التأدُّب:

مَرَّ هذا المبدأ لدى التداوليين المحدثين بمنعطفات أو قل: مراحل تباينت بين لُغويّ وآخر، أو عالم اجتماع وآخر، ويمكن تشخيص ذلك في المراحل الآتية:

1 - مرحلة غرايس

يُعَدُّ بول غرايس من أعلام التداولية الأوائل، وقد عُنِيَ عنايةً أُولى بمبدأ التعاون الذي أرسى دعائمه في مقاله الشهير (المنطق والمحادثة) الذي نشره عام 1957 م، ويقتضي أنَّ المتكلّمين متعاونون في تسهيل عملية التخاطب، وهو يرى أنَّ مبادئ المحادثة المتفرِّعة عن مبدأ التعاون هي التي تفسِّر كيف نستنتج المفاهيم الخطابية، وهي المبادئ

ص: 500

التي يمكن تلخيصها في ما يأتي: مبدأ النوعية، مبدأ الكمّية، مبدأ الأُسلوب (الكيفية)، ومبدأ العلاقة (المناسبة).

وقد نبَّهَ غرایس بعد عرضه قواعد مبدأ التعاون على وجود غيرها من قبيل قواعد التأدُّب التي تتمُّ مراعاتها من طرف المتكلّمين، ولكنَّ مبدأ التأدُّب عنده لا يرقى في تقديره إلى تلك القواعد الأربع العامّة(29).

إذن فإنَّ هذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها بأنَّها مرحلة تهميش مبدأ التأدُّب وجعله مبدًا ثانويًا تاليًا لمبدأ التعاون.

وقد اعترف ضمنًا بضرورة هذا المبدأ في الخطاب التداولي وأثار في هذا المقال مشکلاً مهمًّا يتمثَّل في أنَّ المنوال القائم على شروط الصدق يمكننا التعرُّف على المعاني الحرفية والعرفية للملفوظات، ولكنَّه يظلُّ منوالا محدودًا؛ لأنَّه يضيق عن استيعاب ما يُعبِّر عنه الخطاب البشري اليومي من معانٍ أُخرى.

وعَرَّف غرايس هذا المبدأ بقوله: فالمتكلِّم في كثير من الأحيان يقول شيئًا (المعنى المعلن)، ويضمِّن كلامه معنًى آخر غير صريح (المعنى المضمَّن)، والفرق بين المعنيين أنَّ الأوّل هو ما تعنيه الكلمة في قيمتها الظاهرة وما يمكن التعبير عنه وتفسيره بمصطلحات شروط الصدق، أمَّا المعنى الثاني فهو الأثر الذي ينوي المتكلّم إحداثه في السامع معِّولاً في ذلك على قدرة هذا السامع على الوصول إلى ذلك الفهم الملفوظ - أيّ ملفوظ كان - لا ينفع فيه الاكتفاء بالتحليل القضويّ ولا يستوفيه الدليل الذي يقف عند المعاني الحرفية(30).

وهذا التعريف هو تمام ما قاله البلاغيون ما يُعرَف عندهم بمخالفة مقتضى الحال أو ما سمَّاه عبدالقاهر الجرجاني بالمغالطة، وأطلق عليه السكاكي أُسلوب الحكيم الذي مَرَّ ذكره.

ص: 501

2 - مرحلة روبن لايكوف

اقترحت روبن لايكوف مبدًا آخر إلى جانب مبدأ التعاون الذي اقترحه غرایس سمته صراحة مبدأ التأدُّب الذي يستجيب للظواهر ذات الطابع الاجتماعي والعلائقي ويحتوي هذا المبدأ على قاعدتين كبريين تندرجان ضمن كفاءة المتكلّم التداولية، هما: كن واضحًا، وكن متأدِّبًا، وقد أشارت لايكوف إلى أنَّ العلاقة بين هاتين القاعدتين تتّسم أحيانًا بالتقابل وأين الغلبة تكون للتأدُّب حين يجد المتكلّم نفسه مضطرًا إلى أن يقدِّم الأهم (التأدُّب) على المهمّ (الوضوح)، وأنَّ حرص المتكلّم على عدم إزعاج المخاطَب ومضايقته في أثناء المحادثة يفوق حرصه على أن تكون تدخُّلاته واضحة مفهومة(31).

ويقوم هذا المبدأ عندها على قواعد ثلاث:

1. قاعدة التعفُّف، ومقتضاها: لا تفرض نفسك على المخاطَب.

2. قاعدة التشکُّك، ومقتضاها: لتجعل المخاطَب مختار بنفسه.

3. قاعدة التودُّد، ومقتضاها: لتظهر الودّ للمخاطَب(32).

3 - مرحلة ليتش

أشار ليتش إلى أنَّ هذا المبدأ في ضمن مقاربة بلاغية، إذ فَرَّق داخل المقاربة البلاغية بين بلاغتين: بلاغة نصية تقوم على مجموعة من المبادئ من قبيل مبدأ التسلسل ومبدأ الوضوح ومبدأ الإيجاز ومبدأ التعبير والإفصاح، وبلاغة تفاعلية بين شخصية تحتوي على ثلاث مجموعات من القواعد: مجموعة القواعد التي تنضوي في إطار مبدأ غرایس المعروف بمبدأ التعاون، ومجموعة القواعد التي تندرج في مبدأ التأدُّب ومجموعة القواعد التابعة لمبدأ السخرية(33).

ويعتقد ليتش أنَّ مبدأ التأدُّب يفوق في الأهمِّية مبدأ التعاون الذي أرسى قواعده

ص: 502

غرايس منطلقًا في تصوّره هذا من أنَّ كُلّ سياق يوجّهه هدف تواصلي محدَّد، وأنَّ الغاية من استعمال المتكلّم اللُّغة هو إحداث أثر في ذهن السامع، وأنَّ الدور المناط بالتداولية هو جعل المعنى النحوي للملفوظ بسبب من القوّة التداولية التي يحملها، فالذي يشغل بال لیتش هو فهم تلك العلاقات التي تقوم بين المعنى والقوّة الكامنة فيه فهمًا قد يساعد مبدأ التعاون على تحقيقه.

ومبدأ التأدُّب عند ليتش لا يحلّ محلّ مبدأ التعاون ولا يلغيه، بل يكمله، وله صورتان، هما(34):

1. أكثِر من الكلام المؤدَّب.

2. قلَّلْ من الكلام غير المؤدَّب.

وجعل ليتش المبدأ التأدُّب قواعد هي:

1. قاعدة اللباقة، وهي تقوم على التقليل من التكاليف والخسائر التي يمكن أن يتكبَّدها السامع والترفيع من الفوائد التي يجنيها.

2. قاعدة الكرم، ومدارها على جعل المتكلّم يجني من الفوائد أقلّها، وجعل السامع يجني من تلك الفوائد أكثرها.

3. قاعدة الاستحسان، ومدارها على التقليل من ذم السامع والقدح فيه والإكثار من مدحه والثناء عليه.

4. قاعدة التواضع، ومدارها على التقليل من إطراء الذات والإكثار من نقدها.

5. قاعدة الاتّفاق، ومدارها على التقليص من التعابير الدالّة على أنَّ الذات في خلاف الآخر والإكثار من التعابير التي تظهر الذات على اتّفاق السامع.

6. قاعدة التعاطف، ومدارها على التقليص على كُلّ ما من شأنه أن يولّد الكراهة والنفور بين المتكلّم والسامع والإكثار من التعابير الدالّة على التعاطف بینهما.

ص: 503

كما أنَّه حدَّدَ نوعين من التأدُّب الأوّل مطلق والآخر نسبي.

ويعتقد ليتش أنَّ الأعمال اللُّغويّة تأتي في أربعة أنماط:

1. أعمال تنافسية، وتتمُّ بالأمر والسؤال والطلب والاعتذار.

2. أعمال بهيجة، وتتمُّ بالعرض والاستدعاء والتحية والشكر والتهنئة.

3. أعمال تعاونية من قبيل الإخبار والإرشاد.

4. أعمال تصادمية مثل الاتهام والتهديد والشتم والتقريع.

وجعل الأوّلَين من التأدُّب في حين استبعد الآخرَين(35).

4 - مرحلة براون وليفنسون

لم يختلف مبدأ التأدُّب كثيرًا عند هذين العالمَين اللذين أشارا إليه في كتابهما المشترك (السؤال والتأدُّب) الذي نُشِرَ عام 1987 م، فإنَّ مبدأ التأدُّب عندهما ضرب من الاستلزام التحادثي على النحو الذي ذكره غرایس، فحين يقول متکلم يسرُّني مجيئك غدًا لحضور حفل زفاف ابنتي، فإنَّه لا يضمِّن في هذا الملفوظ طلبًا فقط، بل هو يضمِّن أيضًا مقصدًا آخر يتمثَّل في أن يظهر في مظهر المتأدِّب، وهذا ما يجرِّد التأدُّب من العفوية ويجعله سلوكًا فردیًا ومتّسمًا بالاستراتيجية والقصد.

ويكون الغرض منه تجنُّب ما من شأنه أن يعطِّل سير المحادثة ويعرِّض أحد طرفيها أو كليهما للخطر والحرج(36).

ويقوم تصوّر المؤلِّفين المبدأ التأدُّب على مفهوم أساس وهو (ماء الوجه) الذي يفيد من أهمّ ما يفيد تقدير الفرد لذاته، وأطلقا على هذا المبدأ مبدأ التواجه، وقوامه مقابلة الوجه للوجه، ويمكن أن يُصاغ کما يأتي: «لتصُنْ وجهَ غيرك»، ويرتكز هذا المبدأ على مفهومين، هما:

ص: 504

أ. قيمة الوجه الاجتماعية: يجب على المتكلّم أن يصون وجه غيره، ففي ذلك صيانة لوجهه، وهكذا ينعكس على الاحترام والتعاون المتبادَل بينهما.

ب. نسبة تهديد الوجه: هو الالتزام بعدد من استراتيجيّات التخاطب لضمان الاحترام المتبادَل بين المتخاطبين، ممَّا يستدعي تصنيفًا للأفعال التي تهدِّد الوجه، فهما يربطان بين الأفعال اللُّغويّة وبين نسبة تهديدها للوجه(37).

5- مبدأ التصديق

لقد عرض طه عبدالرحمن هذه المبادئ ونقدها وحاول أن يوجد بدائل إسلامية لها، مستفيدًا من التراث العربي الإسلامي، وجاء بمبدأ آخر هو مبدأ التصديق الذي نجد له جذورًا وصورًا مختلفة في التراث العربي، وقوام هذا المبدأ عنصران اثنان:

أحدهما: نقل القول ويتعلق بالجانب التبليغي من المخاطبة.

الثاني: تطبيق القول الذي يتعلّق بالجانب التهذيبي.

ويتفرَّع عن مبدأ التصديق الذي أقَرَّه طه عبدالرحمن ثلاث قواعد:

قاعدة القصد: لتتفقّد قصدك في كُلّ قول تلقي به إلى الغير.

قاعدة الصدق: لتكن صادقًا فيما تنقله إلى غيرك.

قاعدة الإخلاص: لتكن في تودّدك للغير متجرِّدًا من أغراضك.

ویری طه عبدالرحمن أنَّ هذه القواعد أفضليات هي:

1. أن يفعل المتكلّم ما لم يقل أفضل له من أن يقول ما لم يفعل.

2. أن يسبق فعل المتكلم قوله أفضل له من أن يسبق قوله فعله.

3. أن يكون المتكلّم أعمل بما يقول أفضل له من أن يكون غيره أعمل به(38).

وقد أفاد طه عبد الرحمن في مبادئه هذه من التراث الإسلامي، ولاسيَّما في جانبه

ص: 505

التبليغي من كتاب (أدب الدنيا والدين) للماوردي.

مبدأ التأدُّب في عهد الإمام عليّ (عليه السلام):

بعد هذه القراءة المتأمّلة والإجمالية في هذا المبدأ والوقوف على قواعده، والمراحل التي مَرَّ بها وبيان موقف اللُّغويّين منه، والوقوف على ما يرافقه من مبادئ من نحو مبدأ التعاون ومحاولة الوصول إلى جذور هذا المبدأ في التراث اللُّغويّ والبلاغي العربي، نعرض في قابل الصفحات إلى عهد الإمام عليّ (عليه السلام)، وما وَرَدَ فيه من مبدأ التأدُّب.

وأوّل ما يطالعنا في عهد الإمام حاملاً هذا المبدأ قوله (عليه السلام): «فَلْيَكُنْ أَحَبَّ

الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ

الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فيما أَحْبَّت أو كَرِهْت»(39).

فقد وَرَدَت هنا عبارات عِدَّة وظّفها الإمام توظيفًا تداوليًا تأدُّبیًا رائعًا توزّعت بين جمل طلبية بأُسلوب الأمر، وهو من الأعمال التنافسية التي جعلها ليتش من مبدأ التأدُّب، وهو قوله (عليه السلام): «فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ...» وقوله (عليه السلام): «فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ »، وأُخرى خبرية « فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فيمَ أَحْبَّت أو كَرِهْت».

فإنَّه كان يمكن للإمام أن يكون الأُسلوب التداولي لديه على وفق مبدأ التعاون المباشر، ولكنَّه مال إلى أُسلوب التأدُّب، فبدلاً من أن يوجِّه الخطاب بشكل مباشر فيه تقريع الأمير المأموره، وبأُسلوب الأمر المباشر، قال: «فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ

مِنْهَا...»، بمعنى: أنَّك ينبغي ألاَّ تكون جشعًا، تأكل أموال المسلمين أو تكون ظالمًا للرعية، وجَّهه بالحكمة التي تقول: «إِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَّت أو كَرِهْت»، أي: ألزم نفسك واكبح جماحها.

ص: 506

وقد استعمل الإمام (عليه السلام) مع واليه أُسلوب المعلِّم المرشد ففسَّر له الشحَّ ما هو، فقال: أن تنتصف منها فيما أحبّت أو كرهت، أي: لا تمكِّنها من الاسترسال في الشهوات، وكن أميرًا عليها، ومسيطرًا وقامعًا لها من التهوّر والانهماك(40).

فهنا يمكن أن نقول: إنَّ كلا المبدأين: التعاون والتأدُّب، حاضران في هذه القطعة من العهد.

ثُمَّ ننتقل إلى عبارة أُخرى له (عليه السلام) يتّضح فيها هذا المبدأ، وهو قوله: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(41).

فهنا يرِدُ هذا المبدأ بطريقة النهي، وهو قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا»، فقد نهى الإمام واليه بأُسلوب بلاغي غير مباشر مضمِّنًا مبدأ التأدُّب، وهو قوله (سَبُعًا ضَارِيًا)، إذ المعنى الوضعي المفردة السبع هو الحيوان المعروف، وبضميمة لفظة (ضَارِیًا) تتكوَّن صورة من صور التجرُّؤ والتسلُّط على الناس ونهب أموالهم، فقد طرح الإمام هذه الدلالات بطريقة الاستلزام الحواري، وهو صورة من صور هذا المبدأ الذي لا تدلّ الألفاظ فيه على معانيها المباشرة، وإنَّما يُراد بهذه الألفاظ معاني أُخَر، وهو ما يُعرَف لدى البلاغيين بالكناية أو الاستعارة، أو أُسلوب الحكيم الذي عرضنا له في صدر هذا البحث.

فقد أوصى الإمام (عليه السلام) الوالي بالرعيّة خيرًا، وألاَّ يظلمهم؛ لأنَّهم إمَّا أن يشتركوا معه في الإنسانية أو في الدين، وأُسلوب التأدُّب يتجلَّى في الجملة الخبرية، فإنَّهم صنفان، أي: لا يحقّ ظلمهم رعاية لهم؛ لأنَّهم إخوة لك في الدين أو الخلق، ويشير هذا إلى قاعدة التودُّد التي أشارت إليها لايكوف.

ثُمَّ ينتقل الإمام (عليه السلام) مخاطبًا واليه بمنتهى أساليب اللطف والأدب والرقّة

ص: 507

فينصحه بما يقرِّبه إلى ربّه فيقول: «وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ، فَإِنَّهْ لاَ يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ»(42).

فحملت هذه العبارة صورًا رائعة من الاستعارة فضلاً عن حسن الفاصلة والتضادّ ودقّة العبارة فابتدأت بأسلوب النهي المؤكَّد بنون التوكيد (وَلاَ تَنْصِبَنَّ) الذي يدلّ على حرص الإمام على واليه بألاَّ يكون في هذا المقام الذي يبعده من الله، والإمام عندما يخاطب واليه فإنَّه يعني كُلّ الناس فهو من باب (إيَّاك أعني واسمعي يا جارة).

ثُمَّ يقول له بأُسلوب تهذيبي «فَإِنَّهْ لاَ يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ» فخرق مبدأ التعاون في هذا النصّ يستلزم حواریًا أنَّ لفظة اليد هنا لا تدل على معناها الوضعي، وإنَّما أراد بها القوّة أو السلطة، ونحو ذلك.

وقد استوحى الإمام هذا المعنى من قوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» [الفتح: 48]، واليد هنا من باب الاستعارة التخييلية، بمعنى أنَّ الله قويٌّ لا يعلوه أحد في قوّته(43).

واللام في (لك) مقحمة بين المضاف والمضاف إليه، كما قالوا: لا أبا لك، ثُمَّ يقول الإمام: «وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ»، فحسن الفاصلة واضح بين نقمته ورحمته ممَّا يجعل الخطاب سائغًا متقبَّلاً في نفس المخاطَب، ودلالة النقمة التي تضادها الرحمة يوضِّح حرص الإمام على الأُسلوب التأديبي التربوي ببيان وسائل الترغيب التي تقابل وسائل الترهيب.

ثُمَّ يمضي الإمام في التواصل التخاطبي المفعم بمبدأ التأدُّب لواليه، إذ يقول: «وَإِذَا

أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فيِهِ مِنْ سُلطْاَنِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ الله فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَی مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، ويَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَمَلِكَ»(44).

فأمره عند حدوث الأُبّهة والعظمة لأجل الرئاسة والإمْرَة أن يذكر عظمة الله تعالى

ص: 508

وقدرته على إعدامه وإيجاده، وأمانته وإحيائه، والمخيلة: الكبر، ويُقال: فلانٌ ذو خال وذو مخيلة(45).

ثُمَّ يُبيِّن الإمام أنَّ تواضعك لله يكفّ من سطوتك وتجبُّرك وحدّتك وسرعة بطشك، وكُلّ هذه المعاني التربوية مستفادة من قوله (عليه السلام): ««يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ»، وهي استعارة لطيفة، إذ الأصل في الغرب هو حدّ السيف، ويُستعمَل لحدّة الشباب ونشاطه، فنراه (عليه السلام) استعمل في تخاطبه هذا بعض الاستعارات والكنايات التي تفضي إلى أُسلوب التأدُّب أو الاستلزام الحواري(46).

ثُمَّ يردف (عليه السلام) ذلك بتحذير يوجّهه إلى واليه، وهو قوله: ««إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ»(47).

ولم يخرق الإمام في هذا المقطع من التخاطب مبدأ التعاون، فإنَّ حديثه لواليه مباشر يكتسيه الوضوح، إلاَّ أنَّنا يمكن أن نتلمَّس أُسلوب التأدُّب في ذيل هذا المقطع «فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال»، فإنَّ الإمام يذکِّر واليه بقدرة الله وعظمته، يريد أن يحثّه بأُسلوب بارد على عدم التجبُّر والتكبُّر والتسلُّط.

ثُمَّ يوجِّه الإمام واليه بتعليمه درسًا أخلاقيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا في كيفيّة إدارة الحكم والتعامل مع الرعية بأُسلوب تهذيبي مستعملاً أُسلوب التأدُّب وقاعدة التشكُّك التي أشارت إليها لايكوف وبیَّنّاها في صدر هذا البحث، إذ يقول: «وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَ الْعَامَّةِ»(48).

ولا يبعد هذا الأُسلوب التخاطبي عن سابقه كثيرًا، فإنَّ الإمام طلب من واليه أُمورًا وجعله يختار ما صلح منها بنفسه بعد أن بیَّنَ له الصحيح من غيره في خطابه له، وهذا ما أطلق عليه ليتش الأعمال البهيجة التي تتمُّ بالعرض والاستدعاء والتحيّة، وجعلها من

ص: 509

مبدأ التأدُّب كما أشرنا إليها عنده، وقد عرَّفَه الإمام «أنَّ قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامّة فإنَّه لا مبالاة بسخط خاصّة الأمير مع رضا العامّة، فأمَّا إذا سخطت العامّة لم ينفعه رضا الخاصّة... لأنَّ الخاصّة لا يُغنون عنه شيئًا عند تنكّر العامّة له، وكذاك لا يضرّ سخط هؤلاء إذا رضيت العامّة؛ وذلك لأنَّ هؤلاء عنهم غنًى ولهم بدل، والعامّة لا غنى عنهم ولا بدل منهم»(49).

وقد بيَّن الإمام في خطابه هذا لواليه أنَّ ميله للخاصّة على حساب العامّة لا يجوز له من وجهتين: إمَّا «الوجهة الدينية فواضح لمكان الظلم والجور، وإمَّا من الوجهة السياسية فلأنَّ سخط العامة یهزُّ كيان الدولة بالإضرابات والمظاهرات وربَّما بالثورة المسلَّحة، ورضا الخاصّة لا يُجدي شيئًا في هذه الحال، والعنف يزيد النار اشتعالاً»(50).

فمع أنَّ هذا المقطع يشير إلى قضية إدارية إلاَّ أنَّه لا يخلو من أُسلوب التأدُّب.

ثُمَّ يتواصل الإمام مع واليه على نسق واحد من أُسلوب التأدُّب الذي تضمَّنَ جميع قواعد هذا المبدأ وأنواعه، ومنه (مبدأ التواجه) الذي أشار إليه براون وليفنسون يقوم على تقدير الشخص لذاته، ومفهومه (لتصُنْ وجه غيرك)، فنسمع الإمام يقول: «وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوبًا، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ»(51).

فإنَّ الإمام يطلب منه أن يستر عيوب رعيّته وألاَّ يكشفها للآخرين وأن يحفظ ماء وجه رعيّته وإن كان فيهم عيوب، مبيِّنًا له أنَّ مَنْ ستر عيوب الناس ستر الله عيوبه، وأنَّ حفظ عيوب الآخرين أو حفظ ماء وجوههم هو من مرتكزات مبدأ التأدُّب، فإنَّه «يجب على المتكلِّم أن يصون وجه غيره، ففي ذلك صيانة لوجهه هو»(52).

ص: 510

وهكذا نحلِّق مع الإمام في عهده إلى واليه وهو يسدي إليه النصائح الواحدة تلو الأُخرى، ويحثُّه على ضرورة التواضع وعدم الشعور بالزهوّ والخيلاء، ويظهر هذا جليًّا في العبارة التي خاطبه بها، وهي قوله (عليه السلام): «وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلا يُطْرُوكَ وَلا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطلِ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ»(53).

فهذا النمط من التخاطب يمكن أن يكون في ضمن دائرة قاعدتي التواضع والتعاطف اللتين أشار إليهما ليتش في مبدأ التأدُّب عنده.

فإنَّ الإمام (عليه السلام) بخطابه هذا يحثُّ واليه على ضرورة التزلُّف لأهل الورع والتقوى، وأن يعوِّدهم على ألاَّ يقولوا فيه إلاَّ الحقّ، وألاَّ يقولوا فيه ما ليس فيه بُغية لمدح؛ لأنَّ ذلك يورث الزهوّ والخيلاء، وهو خلاف ما ينبغي أن يكون الوالي الذي يريده س الإمام أن يكون متواضعًا في تخاطبه وتعامله مع الناس، وألاَّ يزيده إطراء القوم عليه إلاَّ تواضعًا، وقد وَرَدَ في الخبر أنَّ رجلاً «أثنى على الإمام عليّ (عليه السلام) في وجهه ثناءً أوسع فيه - وكان عنده متّهمًا - فقال له: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك»(54).

ثُمَّ ينتقل الإمام (عليه السلام) في عهده المبارك، إذ بيَّنَ لواليه كيفيّة إدارة الدولة وقيادة المجتمع ويُبيِّن له أيضًا طبقات ذلك المجتمع وواجبات كُلّ طبقة وحقوقها، ثُمَّ يرسم له الطريق الأمثل لقضية الخراج وجبايته، وعمارة البلاد، ويوضح له كيفيّة التعامل مع المجتمع بوصفه قائدًا لذلك المجتمع بذات الأُسلوب الذي ابتدأ به العهد حتَّى يصل إلى آخره على هذا النسق من الأُسلوب التأدُّبي، وهذه الطريقة الراقية من الحاكم مع واليه مرشدًا إيَّاه تارة ومحذِّرًا له تارةً أُخرى، بالأمر مرّةً وبالنهي أُخرى، حتَّى نصل إلى أواخر العهد، فنراه يوجِّهه إلى عدم الغضب والتروّي في الحكم وعدم الشموخ وعدم البطش بالرعية بأُسلوب تأدُّبي حكيم فنستمع إليه يقول: «امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ

ص: 511

حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاْخْتِيَارَ»(55).

فاستعمل الإمام في هذا المقطع أنماطًا من الاستعارة لإيصال مراده إلى مخاطبه بصورة غير مباشرة فوظَّف تلك الألفاظ توظيفًا تداوليًا في ضمن مبدأ التأدُّب من قبيل حمية أنفك، ويُطلق هذا المعنى على الجمل الموجع أنفه بالخزامة، وسورة: سطوة، وحدّك: بأسك، وغرب لسانك، أي: حدّه(56).

فخرق مبدأ التعاون واضح هنا إلى أُسلوب الاستلزام الحواري بتوظيف الألفاظ توظيفًا غير مباشر بطريق الاستعارة أو الكناية التي قرَّرَها علماء البلاغة وعَرفها التداوليون بأُسلوب الاستلزام الحواري.

فأمره من خلال ذلك بأن يدع الشموخ والتعالي على الناس لا لشيء، إلاَّ لأنَّه الوالي، وأن يملك نفسه عند الغضب، ويكفّها عن الأذى، وألاَّ يُطلق لسانه يمينًا وشمالاً على غير هدًى، حتَّى يسكن غضبه فيملك الاختيار، ولو اندفع معه لتغلّب الهوى والجهل على عقله وعاقب مَنْ لا ذنب له، وتكلّم بما يشين، وتجاوز الحدود، وأمكن عدوّه من نفسه، فيجب أن يتذكّر وقوفه بين يدي الله للحساب والجزاء(57).

كانت هذه وقفة مع بعض فقرات عهد الإمام وبحث مبدأ التأدُّب فيه، وحرصتُ على أن ألتقط الفقرات التي يتّضح فيها هذا المبدأ، فكان اختياري قسمًا منها وترك القسم الذي يتعلّق بأُسلوب إدارة الدولة وأحكام الحكم والسياسة إذ لم يتّضح فيها هذا المبدأ.

وأخيرًا الله أسأل أن يقرّبني هذا العمل إليه وأن يجعلني خادمًا للعربية وعلومها، ولاسيَّما فيما يتعلّق بتراث مُحمّد وآل مُحمّد.

***

ص: 512

الهوامش:

1. - ينظر: إعراب القرآن وبيانه: 6 / 672.

2. - ينظر: التصوير القرآن للقيم الخلقية والتشريعية، علّي علّي صبح: 1 / 174.

3. - ينظر: البرهان: 2 / 306.

4 - معترك الأقران: 1 / 218.

5. - التداولية عند العلماء العرب، د. مسعود صحراوي: 16.

6. - ينظر : وصف اللُّغة العربية دلالياً: 117.

7. - ينظر: تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية: 8.

8 - البراغماتية وعلم الدلالة: 177.

9. - ينظر: النظرية التداولية المفهوم والتصوّر، د. رضوان الرقبي (بحث)، ومفهوم؟؟؟ التخاطب بين مقتضى التبليغ ومقتضى التهذیب، طه عبد الرحمن، مجلَّة كلية الآداب، بني ملال 14، 1994، ص 43 - 44.

10. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

11. - الاستلزام الحواري من أُسس انسجام الخطاب (مقال).

12. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية، والتداولية عند العلماء العرب: 34 - 35، وشعر أبي نواس دراسة تداولية (أطروحة دكتوراه)، حسین عمران مُحمّد، 2015، جامعة ديالى، ص 248.

13. - ينظر: التداولية، عبد السلام عشيري: 65.

14.. ينظر: الاقتضاء في التداول اللساني (بحث)، عادل فاخوري، مجلَّة عالم الفكر، أكتوبر / نوفمبر ديسمبر، ع 3، 1989، م 141.

15. - ينظر: نظرية الفعل الكلامي بين علم اللُّغة الحديث والمباحث اللُّغويّ في التراث العربي الإسلامي، هشام عبدالله الخليفة، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 2007.

16. - البديع في البديع لابن المعتز: 1 / 39.

17. - ينظر: لسان العرب، والمصباح المنير، ومعجم اللُّغة العربية المعاصرة، مادّة (ادب).

18. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية (بحث).

19. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

20. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

ص: 513

21. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

22. - ينظر: البلاغة العربية: 1 / 498.

23. - مفتاح العلوم: 155، وينظر: أساليب البلاغة: 1 / 264.

24. - أساليب البلاغة: 1 / 264.

25. - جواهر البلاغة: 319.

26. - ينظر: خزانة الأدب: 1 / 259.

27. - ينظر: جواهر البلاغة: 1 / 319، وعروس الأفراح: 2 / 279.

28. - ينظر: علم البديع، عبدالعزیز عتیق: 1 / 182.

29. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

30. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث)، ونظرية غرايس والبلاغة العربية، باديس لهويمل، مجلَّة المخبر، أبحاث في اللُّغة والأدب الجزائري، جامعة مُحمّد خيضر، بسكره، ع 7، 2011، ص 46.

31. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث).

32. - ينظر: النظرية التداولية (المفهوم والتصوّر)، رضوان الرقبي (بحث)، واستراتيجية الخطاب مقاربة لُغويّة تداولية، عبدالهادي بن ظافر الشهري: 100.

33. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث).

34. - نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث).

35. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

36. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية (بحث).

37. - ينظر: الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث، طه عبدالرحمن أنموذجاً: 177.

38. ينظر: اللسان والميزان: 249 - 251.

39. - نهج البلاغة: 17 / 22.

40. - ينظر: نهج البلاغة: 17 / 23.

41. - نهج البلاغة: 17 / 23.

42. - نهج البلاغة: 17 / 23.

43. - ينظر: التحرير والتنوير: 26 / 157.

44. - شرح نهج البلاغة: 17 / 23.

ص: 514

45. - ينظر: بهج الصباغة: 13.

46. - ينظر: شرح نهج البلاغة: 17 / 23، وبهج الصباغة: 13.

47. - شرح نهج البلاغة: 17 / 23.

48. - ينظر: شرح نهج البلاغة: 17 / 24.

49. - شرح نهج البلاغة: 17 / 23.

50. - في ظلال نهج البلاغة: 1 / 253، وينظر: دراسات في نهج البلاغة، مُحمّد مهدي شمس الدين: 1 / 110.

51. - شرح نهج البلاغة: 17 / 25.

52. - الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث: 177.

53. -شرح نهج البلاغة: 17 / 31.

54. - بحار الأنوار: 46 / 103.

55. - شرح نهج البلاغة: 17 / 77.

56. - ينظر: المصباح المنير مادّة (حمي، سور، غرب).

57. - في ظلال نهج البلاغة: 1 - 2.

ص: 515

المصادر والمراجع:

1. القرآن الكريم.

2. استراتيجية الخطاب مقاربة لُغويّة تداولية، عبدالهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتّحدة، 2004 م.

3. إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين درویش، دار الإرشاد للشؤون الجامعية، حمص، سورية، دار اليمامة، دمشق، بيروت، ط 4، 1415 ه

4. بحار الأنوار، للمجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.

5. البديع في البديع، لابن المعتزّ، دار الجيل، 1990 م.

6. البراغماتية وعلم الدلالة، د. عليّ هادي، دار الفكر، بیروت، 2000 م.

7. البرهان في علوم القرآن، للزرکشي، تحقيق: مُحمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1، 1957 م.

8. البلاغة العربية، عبد الرحمن الميداني الدمشقي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، 1996 م.

9. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، الشيخ مُحمّد تقي التستري، تحقيق: مؤسسة نهج البلاغة، دار أمير کبير للنشر، 1997 م.

10. التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984.

11. تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، عمر بلخير منشورات الاختلاف، الجزائر، 2003.

12. التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2005 م.

13. التصوير القرآن للقيم الخلقية والتشريعية، عليّ عليّ صبح، المكتبة الأزهرية للتراث.

14. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي، تحقيق: نجوى أنس، دار إحياء التراث

ص: 516

العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت.

15. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبدالقادر البغدادي، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1997 م.

16. دراسات في نهج البلاغة، مُحمّد مهدي شمس الدين، بيروت، ط 2، 1972 م.

17. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تحقيق: مُحمّد إبراهيم، دار الكتاب العربي، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

18. شعر أبي نواس دراسة تداولية، حسين عمران مُحمّد، أُطروحة دكتوراه، جامعة ديالي، 2015 م.

19. عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، بهاء الدين السبكي ، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية.

20. علم البديع، لعبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان.

21. في ظلال نهج البلاغة، مُحمّد جواد مغنية، دار الكتاب الإسلامي، 2005.

22. لسان العرب:، لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414.

23. اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1998 م.

24. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيّومي، المكتبة العلمية، بيروت.

25. معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1988 م.

26. معجم اللُّغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، عالم الكتب.

27. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، منشورات ذوي القربى، ط 2، 1423 ه.

28. مفتاح العلوم، للسكاكي، ضبطه وكتب هوامشه وعلّق عليه: نعیم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1987 م.

ص: 517

29. نظرية الفعل الكلامي بين علم اللُّغة الحديث والمباحث اللُّغوية في التراث العربي الإسلامي، هشام عبدالله الخليفة، مكتبة لبنان ناشرون، 2007 م.

البحوث

1. الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث (طه عبدالرحمن أُنموذجاً)، لیلی کادة، جامعة بسكرة.

2. الاستلزام الحواري من أسس إنسجام الخطاب، أحمد عبد المنعم عطيَّة، مقال على الشبكة العنكبوتية.

3. الاقتضاء في التداول اللساني، عادل فاخورين مجلَّة عالم الفكر، ع 3، 141، 1989 م.

4. مفهوم التخاطب بين مقتضى التبليغ ومقتضى التهذیب، طه عبد الرحمن، مجلَّة كلية الآداب، بني ملال، ع 1، 1994 م.

5. نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية، د. حاتم عبيد، عالم الفكر، م 43، 2014 م.

6. النظرية التداولية (المفهوم والتصوّر)، د. رضوان الرقبي (بحث).

7. نظرية غراس والبلاغة العربية، بادریس هويمل، مجلَّة المخبر أبحاث في اللُّغة والأدب الجزائري، جامعة مُحمّد خيضر، بسكرة، ع 7، م 46، 2011 م.

ص: 518

حُجّية الإقناع بالتعليل في عهد الامام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)

اشارة

الدكتور

وسام حسين جاسم العبيدي

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) / فرع واسط

ص: 519

ص: 520

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفصح من نطق الضاد أبي القاسم المصطفى الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد

فالحديث عن خطاب الإمام عليّ (عليه السلام) لا يروي غُلّة المتعطشين إلى سحر بیانه، سواءٌ أكانوا من خصومه، أم من محّبيه، فكلامه - كما قيل - «سيّد الكلام»؛ ولذلك تشعّبتِ الدراساتُ التي تناولت كلماتُهُ النبيّةُ، إلى فُنونٍ كثيرة، بين لُغوّيةٍ وبلاغيّةٍ، ومُعجميَّةٍ، ولسانيةٍ، وتداوليةٍ، وفنّيةٍ، و.. الخ من معارف إنسانية جمّة، ولم ينضبْ بعد ذلك المعين الخالد من كلمات السفر العلويّ الأقدس، إذْ إنّه حظي برعاية الغيب، وکلاءة الرب العظيم، فأنّى له أنْ يُدْثر؟!

إلا أنّي آثرتُ الخوضَ في ملمحٍ أخّاذٍ للنظر، وبارزٍ عن سواه من الملامح الإسلوبية في رسالةِ الإمام إلى عامله مالك بن الأشتر (رضوان الله عليه) الذي ولّاه حُکم مصر، إلا وهو (التعليل) بوصفه آليةً يضمن بها المتلقّي مقبوليةَ ما يُلقيه من کلام، فقد جعل (تولمين) من التعليل الوظيفة الأساسية للحجج، وهذا من خلال عملية الانتقال من المعطى إلى النتيجة التي تُذكّرنا في القياس بالمقدمات والنتائج، أما سبب اختياري للتعليل فلما وجدتُهُ من إكثار لتوظيفٍ هذه التقانة الإسلوبية بقصدٍ وإتقان عمد إليها الإمام علي (عليه السلام) وهو يكتبُ عهدًا فيه المعالم العامة إلى جنب التفاصيل الدقيقةِ من الأوامر والنواهي والإرشادات التي بموجبها يتمُّ الحكم العادل، وينجح الوالي في تحقيق هدفه السليم إذا ما راعي تطبيق هذه الإرشادات، فقد كانت التعليلات تترادفُ هنا وهناك إلى جنب تلك الإرشادات؛ لتضيء المسير الصحيح للوالي الذي كُلّف بولاية شؤون

ص: 521

الرعية ومتابعة شؤونهم، فضلاً عمّا يتعلّق به من أمور تخصّ الجانب الإداري والقضائي والسياسي، كذلك لتعرف الآخرين من ولاةٍ وحُكّام بما يجب عليهم أنْ يلتزموه فيما لو قيض لهم ولاية مِصرٍ من الأمصار. وبعد أنْ استوت المادة على سوقها كان لي أنْ أضعها على وفق الخطة الآتية:

التمهيد: مفهوما التعليل والرسالة لغة واصطلاحًا.

المبحث الأول: في حُجّية الإقناع بالتعليل وطرائقه.

المبحث الثاني: موضوعات التعليل في العهد العلوي

المبحث الثالث: استراتيجيّات الإقناع بالتعليل في العهد العلوي

الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصل البحث إليها.

المصادر والمراجع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 522

التمهيد

مفهوما التعليل والرسالة لغة واصطلاحًا.

في اللغة: التعليل (تفعيل) مصدر من الفعل (علّلَ) وهو فعلٌ ثلاثيٌ مزيدٌةٌ عينهُ بالتضعيف، ومعناه: السقي بعد سقي، وجَنْيُ الثمرة مرّةً بعد أخرى، والعلّة - بالكسر - المرض، والحدثُ يُشغِلُ صاحبهُ عن حاجته، كأنّ تلك العلة صارت شُغلاً ثانيًا منعه عن شُغله الأوّل().

ومن المعلوم صرفیًّا أن أحد معاني البناء (فعّل) هو الإزالة أو السلب، وهنا جاء الفعل (علّل) أي أزال العلة، كما هو الحال في الفعل (مرّض) أي أزال المرض. ولا تُزال العِلّة الموجبة للبسٍ وإبهامٍ يعتري فهم قضية ما لا بُدّ من الامتثال إليها إلا بإيضاح الحكمة من وراء امتثاله سواءٌ أكانت تلك القضية خبرًا أم إنشاءً.

أما في الاصطلاح: فالتعليل في عمومه بیان علّة الشيء، وتقریر ثبوت المؤثّر لإثبات الأثر، ويُطلق على ما يُستدلُّ فيه من العلّة على المعلول().

وقد ذكر الكفوي (ت: 1094 ه) تعریفًا آخر للتعليل: ((هُوَ أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم ذكر

حكم وَاقع أَو متوقع فَيقدم قبل ذكره عِلّة وُقُوعه، لكَون رُتْبَة الْعلَّة مُتَقَدّمَة على الْمَعْلُول))(). وفيه يشترط أن تتقدّم العلة على الحكم الذي يُطلقه المتكلم، ولا أرى ثمة موجبًا لهذا الشرط، فقد تتقدّم العلّة أو تتأخّر، بحسب مقتضى الحال وسياق الكلام الذي يُحيط بالمتكلّم (الباث) والمُرسَل إليه الخطاب (المتلقّي).

ونكتفي بالتعريف الذي يتّصل بصُلب بحثنا إلى أنه طريقة في إثبات حكم أو نفيه أو وجوده أو عدمه، وذلك بإظهار العلة التي تُبرز مشروعيته()، فيحرص المُرسل على ربط الأفكار والوصل بين أجزاء الكلام بجعل بعضها أسبابًا الأخرى ابتغاءً لإقناع المُرسل

ص: 523

إليه بصواب الحكم الذي يحمله علیه؛ لأنّ هناك تعريفاتٍ كثيرةً للتعليل تنتمي لحقول معرفية متنوّعة مثل النحو والمنطق()،.. الخ.

وفي ميدان البلاغة، ففي مقدار ما تتبعته من مصادر بلاغية قد نفتقد تعريفًا للتعليل بالمعنى الحقيقي الذي يتّصل بموضوع بحثنا، إلا اللهم ما ذكره ابن أبي الإصبع العدواني (ت: 654 ه) في بابٍ سمّاه بالتعليل، من تعريف له ((وهو أن يريد المتكلم ذکر حکم واقع، أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة أن تقدم على المعلول، كقوله سبحانه: «لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيها أخذتم عذاب عظيم» فسبق الكتاب من الله علة في النجاة من العذاب... الخ))().

أما في سائر كتب البلاغة وبخاصة في مباحث علم البديع، نجد ثمة انزياحًا للتعليل، يقع تحت عنوان (حسن التعليل) و عُرّف بقولهم: ((أن ينكر الأديب صراحة، أو ضمناً، علة الشيء المعروفة، ويأتي بعلة أخرى أدبية طريفة، لها اعتبار لطيف، ومشتملة على دقة النظر، بحيث تناسب الغرض الذي يرمي إليه، يعني أن الأديب: يدّعى لوصف علّةً مناسبة غير حقيقية، ولكن فيها حسن وطرافة، فيزداد بها المعنى المراد الذي يرمي إليه جمالا وشرفاً))(). ونعتقد أنَّ هذا الضرب من التعليل لا يدخل في صميم ما قصدناه؛ ذلك لأنّه يقوم على إنكار علّة الشيء الأصلية، ونصب علّةٍ يبتدعها القائل من ابتکار خياله الخصب؛ لتكون مُلفِتةً للقارئ، وشاغلةً له عن أصلِ العِلّة؛ ولذلك قرنه الجرجاني (ت: 471 ه) بالتخييل؛ لأنّ بوساطته يقوم الشاعر بإثبات أمرٍ هو غير ثابتٍ أصلاً ويدّعي دعوةً لا طريق إلى تحصيلها ويقول قولاً يخدع فيه نفسه().

وأرى أنّها بسبب ما بيّناه، لا تتوافر في النص القرآني، ولا في النص النبوي أو العلوي؛ لبُعد تلك الغاية التي عُدّت من المُحسّنات المعنويّة عن الغاية المقصديّة التي قامت عليها سُداة النصوص المقدّسة ولحُمتها.

ص: 524

أما بخصوص العهد العلوي، فينبغي لنا أنْ نبيّن بصفةٍ عامةٍ أنّه ينضوي تحت جنس الرسالة، وتُعرّف بأنّها: ((النص المدّون الذي يبعثه المرسل إلى المرسل إليه))()، وتُعبِّر عن شؤون خاصة أو عامة(). وقد أخذت الرسالة مساحة شاسعة في المُدوّنة العربية الإسلامية لاسيما في الحقبة التي تلت نهاية العصر الراشدي وبداية العصر الأموي()، حيث تنوّعت موضوعاتها، فكان بعضها يحوي ((وصفا للخَلقِ والخُلُقِ ووصفا للأمكنة والأشخاص أو قصة للأخبار والأعمال))(). فضلاً عن اختلافها بين الطول والاختصار، فكان كثيرٌ من مؤلّفات القرون السالفة تحمل عنوان الرسالة، ممّا يُظهر تمدُّد المصطلح واتّساع مظلّته المعرفيّة في الذهنية العربية.

وعمومًا نجد الرسائل التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) كانت على قسمين:

الأول: رسائل سلطانية أو ديوانية: وهي رسائل عامة أو تكون ذا موضوعات رسميّة()

الآخر: رسائل إخوانية أو شخصية تعبر عن حالة كاتبها، وتنقل مشاعره إلى من يكتب إليهم()، أو تعبر عن موضوعاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ بحسب الظروف الخاصة.

وفي ضوء هذا التقسيم، نجد الرسالة التي وجّهها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رض)، تنضوي تحت القسم الأول، إلا أنّها وُصِفت بالعهد من بين جميع رسائله، الأمر الذي يدفعنا إلى التعرُّف على سبب تسميتها بالعهد.

يُطلق العَهْدُ على الوَصِيِّة، ومنه اشتُقَّ العَهْدُ الذي يكتب لِلْوُلاةِ، وعلى المَوْثِق وعلى الالْتِقاء والإلمامِ يقال: ما لي عَهْدٌ بكذا، وإنَّه لقريبُ العَهْد بهِ، كذلك يُطلق على المنزلِ الذي لا يكادُ القوم إذا انْتَأوْا عنه رجَعُوا إليه(). وقد توسّع أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الهروي (ت: 224 ه) في دلالة مفهوم العهد إلى أَشْيَاء مُخْتَلفَة، فَمِنْهَا الحِفاظ ورِعاية الْحُرْمَة وَالْق وَمِنْهَا الْوَصِيَّة، كما ورد في قوله تَعَالَی: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدم يَعْنِي

ص: 525

الْوَصِيَّة وَالْأَمر وَمن الْعَهْد أَيْضا الْمان كقوله تَعَالَی: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِيْنَ وَقَالَ: فَأتِّمُواْ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَی مُدَّتِهِمْ وَمن الْعَهْد أَيْضا الْيَمين كقول الرجل: عليّ عهد اللَّه، وَمن معانيها أَن تعهد الرجلَ على حَال أَو فِي مَكَان كقول القائل: عهدي بِهِ فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا وبحال كَذَا كَذَا().

ولعلّ دلالة الوصية في لفظة العهد كانت أكثرها حضورًا في رسالة الإمام (عليه السلام) لمالك، علمًا أن ما يُكتب للولاة يُسمى بصفةٍ عامة عهدًا اشتقاقًا من قولهم: عهدتُ إلى فلان، أي: أوصيته(). ومن هذا الباب كان الرسالة التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك مستحقّةً لوصف العهد؛ لما اشتملت عليه من توصيات كثيرة، وإرشادات حول مجمل السلوكيات التي ينبغي على الحاكم السير عليها، وما فيها من الغايات التي تصبُّ في سداد الحكم وصلاحه، فقد احتوى على ((أهم القواعد والأصول التي تتعلق بالقضاء والقضاة، وإدارة الحكم في الإسلام، وقرّر فيه قواعد مهمة في التضامن الاجتماعي، بل التعاون الإنساني لإقامة العدل، وحسن الإدارة والسياسة و بیان صلاح الهيئة الاجتماعية، وبيان الخراج وأهميته، وكيف يجب أنْ تكون المعاملة فيه والنظر في عمارة الأرض وما يتعلق بذلك من أصول العمران، وما فيه صلاح البلاد، و منابع ثروته وما للتجارة والصناعة من الأثر في حياة الأمة، إلى غير ذلك من القواعد الهامة التي تهدف إلى أسمى هدف في العدل الإسلامي))()، كذلك أنَّ هذه الوصايا المدوّنة في هذه الرسالة لم توجّه إلى شخصٍ عاديٍّ من الناس، بل كان من خيرة أصحاب الإمام علي (عليه السلام) وحواريّيه، وبهذا تحقّق الوصايا في هذا العهد - على الرغم من الإطالة فيها - هدفها الأساس؛ لأنّها توجّه إلى شخصٍ محدّدٍ بعينه، بإمكانه حين يواجه خطابًا ما، يستعين بتجاربه السابقة، معتمدًا على ما تراكم لديه من معارف سابقة تجمّعت لديه، وبذلك يكون قادرًا على الاحتفاظ بالخطوط العريضة للخطاب الموجّه إليه(). ولذا قيل إن العهد يقتضي الوفاء بالوعد()، بلحاظ هذه الخصوصية التي يتميّز بها المُخاطَب.

ص: 526

وحسبُنا ممّا قيل في المُخاطَب في هذا العهد المُبارك أنّه ((كان أنجد الناس وأجر أهم، ولم يكن في حروب الجمل وصفين أحد أمضى منه، وكان مع علي وقال له علي يوماً: یا مالك من أشجع أنا أو أنت؟ فقال: أما قتل الأقران فأنت، وأما شق الصفوف فأنا. ودس علیه معاوية من سمه في شربة عسل فمات فقال معاوية «إن لله جنوداً منها العسل» وقال علي لما بلغه موته: «ذلك رجل كأنما قد مني قداً، لو كان حجراً لكان صلداً، ولو كان حديداً لكان افرنداً»))().

المبحث الأول: في حُجّية الإقناع بالتعليل وطرائقه

في هذا المبحث سنتناول الآتي:

المطلب الأول: حُجّية الإقناع بالتعليل.

يأخذ التعليل موقعه في الخطاب باعتبار المتكلم وموقعه الذين يُحدّدان نسبة الحجة من عدمها في خطاب الآخر، وبصفة عامة تتحدّد قيمة الخطاب ككل، حين يكون سلوك الأفراد إزاء الخطاب مرهونٌ بحجة صاحبه، ومن ثمّ يُضفى للخطاب مشروعيته المرتبطة بالمنزلة المُعتَرفِ بها له، ومن هنا كان دأبُ محلِّلي الخطاب في النظر إلى الشروط التي تجعل الخطاب ذا حجةٍ، أي الإبانة عن السياق الذي يجعل الخطاب مشروعًا وفعّالاً الذي يتوقّف بدوره على منزلة المشاركين في التخاطب وطبيعة الإطار المكاني والزماني(). فالإقناع يتوسّل عبر الحجاج بوصفه الآلية الأبرز التي يستعملها المُرسل، ليحقق ما يصفه (بيرلمان وتیتکاه) بإذعان العقول بالتصديق لما يطرحه المرسل أو العمل على زيادة الإذعان الذي يمثّل الغاية من كل حجاج().

لا تختلف فهوم الباحثين - على اختلاف انتماءاتهم المعرفية - عن اكتناه معنى التعليل،

ص: 527

بكونه تفسيرًا يُقدّمه المتكلّم لتسويغ الأمر عند متلّقيه الذي يُراد منه الامتثال الفعلي لتطبيقه والإذعان النفسي لقبوله، يقول التهانوي (ت: 1158 ه): ((التعليل وفائدته التقرير، فإنّ النفوس أبعث على قبول الأحكام المعلّلة من غيرها))().

مما تقدّم بيانه تظهر جليًّا أهمية التعليل بوصفه أحد المقومات التي تعضّد الإقناع الذي يبتغيه المتكلم في خطابه للمتكلم، سواء أكان منطوقًا كما هو الحال في الخطابة المباشرة للجمهور، أو كان مكتوبًا، كما هو الحال في الرسائل()، فلا يتسنى لهذه الغاية - أي الإقناع - إلا من أدرك أنَّ ((الخطابة علم له أصول وقوانين، من سار في طريقها عد خطيبا، وهو یعنی بدراسة طرق التأثير، ووسائل الإقناع، وصفات الخطيب، وما ينبغي أن يتجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة، وما يجب أن تكون عليه ألفاظ الخطبة، وأساليبها، وترتيبها))(). وقد عدّ أرسطو البراهين أبرز بل أهم وسائل الإقناع().

ولعلَّ القول بوحدة الخطبة والرسالة ينطلق من توصيفي شكليٍّ لهما في أنّهما ((متشاکلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية، وقد يتشاکلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل؛ فألفاظ الخطباء تشبه ألفاظ الكتّاب في السهولة والعذوبة؛ وكذلك فواصل الخطب، مثل فواصل الرسائل؛ ولا فرق بينهما إلا أنّ الخطبة يشافه بها، والرسالة يكتب بها؛ والرسالة تجعل خطبة، والخطبة تجعل رسالة، في أيسر كلفة))(). إلا أنّه لا يذوّب الفروق الأخرى التي تُميّز جنس الرسالة عن جنس الخطابة، فالأول - بصفةٍ عامة - يخصُّ مُخاطبًا بحدّ ذاته، ممّا يوفّر على المُرسِل مراعاة خصوصيّة المُرسل إليه الثقافية والاجتماعية، كذلك تركّز على شتى الوسائل الإقناعية التي تعمل على تثبیت القضية وترسيخ الفكرة التي يُؤمن بها المُرسل في ذهن المُرسَل إليه بصورة قوية؛ وذلك للتعويض النفسي الذي يُراد للرسالة القيام به، فيما لو كان المُرسِل والمُرسَل إليه متقابلين وجهًا لوجه، فتعمل عوامل أخرى مختصٌّ بعضها بالكلام مثل جهارة الصوت وسعة

ص: 528

الفم، وبعضها غير مختصٍّ بالكلام مثل (شخصية المرسل، وعلامات وجهه، ورباطة الجأش وسكون الجوارح وقلة اللحظ، وحركات يديه، وما يحمله في يديه من عصًا أو نحوها، والمكان الذي يختاره لإلقاء خطبته.. الخ) عملها في التأثير الإيجابي على الرسل إليه (الجمهور) من قبولٍ وامتثال لما يطرحه من آراء وأفكار، حتى وإنْ كانت بعيدة عن لغة البرهان العلمي الدقيق، ((فإنّ كلّ فرد من أفراد العامة إذا كان قليل الثقافة والمعرفة هو أبعد ما يكون عن الاقتناع بالطرق البرهانية أو الجدلية))()، أما الرسالة فكان عليها أنْ تُضاعف من حُججها وبراهينها؛ لأنّها ((خطابٌ قصديٌ موجّهٌ يروم إيقاع التأثير في المتقبل ودفعه إلى ترجيح رأي على آخر، وهو أمر يقتضي من المُرسِل وصف الحُجّة ورفد البيان بالحجج قصد إقناع المُرسِل إليه))(). وعلى ضوء هذا الفرق الجوهري بين الخطبة والرسالة، فالرسالةُ بحسب ما بيّناه تُحقّق قدرًا كبيرًا من الإقناع، فيما لو رُوعي فيها الممكنات الضرورية التي تعمل على تغيير رأي الآخرين بعيدًا عن الطرائق الأخرى مثل الإكراه أو الاسترحام الذين يكفلان تحقيق مآرب المتكلّم حين ينأى بخطابه عن العقل والفكر لإقناع الفرد بتبنيّ آراء ورفض آراءٍ أخرى().

وقد عُدّ التعليل أحد وسائل الحجاج في القرآن الكريم، انطلاقًا من كون الحجّة هي ما يُراد بها إقناع المخاطب، والتأثير في موقفه وسلوكه()، لأنّ المتكلم بوساطته يقدّم فكره ويُبيّن سببها، ((والنفوس أبعثُ على قبول الأحكام المُعللّة من غيرها))(). ومن الطبيعي أنْ يستشري التعليل في آيات القرآن الكريم، ويتمدّد في أوردة كثيرٍ من موضوعاته، عبر حروفه (اللَّامُ وَإِنَّ وَأَنْ وَإِذْ وَالْبَاءُ وَكَيْ وَمِنْ وَلَعَلَّ وَقَدْ) لتعضيد الغاية التي أُنزِل القرآن من أجلها، ألا وهي «تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ».

وبعد تتبُّع كلام السيوطي الذي نقلناه آنفًا، ظهر لنا أنّه مأخوذٌ من قول سابقه الزركشي (ت: 794 ه) في ضمن حديثه عن التعليل، وتمام کلامه مُعرّفًا التعلیل

ص: 529

بقوله: ((بأن يذكر الشيء معللا فإنه أبلغ من ذكره بلا علة لوجهين: أحدهما: أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلة المنصوصة. الثاني: أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة بخلاف غيرها))().

المطلب الثاني: طرائق التعليل:

لما كان القرآن الكريم المثال الأجلى والشاهد الأعظم على إعجاز اللغة العربية، وإظهارها بأكمل صورة، ولبيان تأثُّر الإمام علي (عليه السلام) بوصفه التلميذ النجيب المدرسة القرآن مبنىً ومعنىً، كان لنا أنْ نقف عند الطرائق التي وظّفها الباري سبحانه وتعالى لإظهار التعليل من خلالها؛ لإظهار أثرها في خطاب الإمام علي (عليه السلام) الذي وُصِف بأنه (دون كلام الخالق وفوق کلام المخلوقين). وقد تنبّه علماء القرآن إلى تلك الطرائق، ومنهم الزركشي، فقد فصّل القول في الطرائق الدالة على التعليل منها():

الأول: التصريح بلفظ الحكمة (العِلّة) كقوله تعالى: «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ». وقال: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»()، والحكمة هي العلم النافع. والعمل الصالح.

الثاني: أنه فعل كذا لكذا أو أمر بكذا لكذا كقوله تعالى: «ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»().

الثالث: الإتيان بكي، كقوله تعالى: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»()، فعلل سبحانه الفيء بين هذه الأصناف کیلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.

الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً»().

الخامس: اللام في المفعول له، وتقوم مقامه الباء، نحو: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا».

السادس: الإتيان بإن، كقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»().

ص: 530

السابع: أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله، كقوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا»().

الثامن: [من أجل] في قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ»، فإنه لتعليل الكتب، وعلى هذا فيجب الوقف على: من النادمين وظن قوم أنه تعليل لقوله: «مِنَ النَّادِمِينَ»، أي من أجل قتله لأخيه وهو غلط لأنه يشوش صحة النظم ويخل بالفائدة.

التاسع: التعليل بلعل، كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، قیل: هو تعليل لقوله: [اعبدوا] ، وقيل لقوله: [خلقكم].

العاشر: ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له، فتارة يذكر بأن وتارة بالفاء وتارة يجرد. فالأول: كقوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ». والثاني: كقوله: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»(). والثالث: كقوله: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ»().

الحادي عشر: تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: «وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ»().

الثاني عشر: إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه و أمره، كقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً»().

ولا تنحصر طرائق التعليل في القرآن الكريم با ذكرناه آنفًا، فهناك كثيرٌ منها لا يحصرُها أداةٌ، أو تركيبٌ مطَّرد، إنما السياق هو الحاكم على وجود التعليل من عدمه في القرآن الكريم. كذلك يُلاحظ أنَّ الاستعمال القرآني يفرض على أداةٍ تعليلية من دون أخرى، تخصیصًا في بيان علّة الغرض الحقيقي، مثلما نجد ذلك بين الأداتين (كي)

ص: 531

واللام، فالأولى تستعمل لبيان الغرض الحقيقي، أما اللام فتستعمل له ولغيره، إذن فهي أوسع استعمالا من الأولى، وهذا ما نراه في الاستعمال القرآني().

وعلى الرغم من شيوع التعليل في مجمل آيات الذكر الحكيم، إلا أنّه ليس شرطًا یُناط بكل حُكم، أو يُعقّب به مضمون تلك القصة، فهنالك أحكام جزئية أوردها الله سبحانه وتعالى، لم يعقّب بعدها بذكر العلّة التي سيق الحكمُ من أجلها، وما ذكره القُشيري (ت: 465 ه) في سبب نزول قوله تعالى: «مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ»() يوافق ما ذكرناه في هذا المورد - وإنْ كان توجهه الصوفي مُحرّکًا رئيسًا في فهمه للنص القرآني - إذ يقول: ((نزلت حين أمر الله رسوله بقطع بعضها فقالت اليهود: أي فائدة في هذا؟ أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟ فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفي هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعيّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه: لم؟ لم يفلح، وكلّ مرید یکون لأمثال هذه الخواطر في قلبه جولان لا يجيء منه شيء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الإعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجري، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله - بسرّه وقلبه - فليس من الله في شيء»().

ص: 532

المبحث الثاني: موضوعات التعليل في العهد العلوي

عُدَّ العهد العلوي لمالك الأشتر من أطول الرسائل التي كتبها الإمام سواء أكان إلى أصحابه أم كان من مُناوئيه، وقد تخلّل العهد أساليبٌ كثيرة تمظهرت بين الإنشائية والخبريّة، فضلاً عن الأساليب البيانية والبديعية، والحجاجية التي فرضتْ وجودها الطبيعي بمقتضى طبيعة المقام وما يفرزه من أسلوب يُؤدّي أثره البليغ في إيصال الفكرة بأبلغ الطرق، واستساغة الإرشاد الذي يوجهه المُخاطِب (المُرسِل) للمُخاطَب (المُرسَل إليه) آخذًا طريقه إلى القلب والعقل، مُعبّرًا عن صدقِ نوايا المُخبِر بتلك الإرشادات، وتفاعله الواقعي مع تلك الوصایا، وكيف لا يكون ذلك حاله وهو القائل: ((من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعلیم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأدیبه بلسانه. ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم))().

وفي هذا المبحث سأتناول التعديلات التي أردفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ذكره الوصايا والإرشادات التي وجّهها إلى عامله مالك الأشتر (رضوان الله عليه) بحسب موضوعاتها؛ ذلك لأنّ تلك التعليلات لم تكن جميعها على منحىً واحد، بل كان بعضها يأخذُ اتّجاهًا دينيًّا، وبعضها الآخر اتّجاهًا دنيويًّا يعبّر عن وعي الإمام (عليه السلام) وحرصه لمتطلّبات المجتمع وما يبتغيه من الحاكم، وفي الوقت نفسه يشخّص المسؤولية التي تترتّب على الحاكم وهو يُدير دفّة قيادة أمةٍ من الناس باسم الإسلام، وينحو بهم إلى الجادّة الوسطى، فكان عليه أنْ يُظهر تلك المساحة الواسعة النطاق للحكم الشرعي وميزات تطبيقه فيما لو رُوعِي الالتزام به من قِبل الحاكم وحاشيته أو الرعية بحسب تنوّع طبقاتها المهنيّة، فكانت التعليلات الاقتصادية والإداريّة والقانونيّة والأخلاقية والاجتماعية، إلى آخره من تعليلات اجتهدنا في تصنيفها بحسب هذه الموضوعات، وسنستعرضها فيما يأتي:

ص: 533

1 - تعليلات اجتماعية:

وأعني بها تلك التعليلات التي تراعي الجانب الاجتماعي. ومن تلك التعليلات قول الإمام علي (عليه السلام) في عهده العلوي مُخاطبًا الأشتر: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق))(). وفي وصف الإمام للرعية أنّهم إما إخوةٌ للحاكم في الدين الذي يُراعي تطبيقه، وإما أن يكونوا مناظرين له في الخلق في حال كونهم لا يدينون بدين الحاكم، إلا أنهم بشرٌ لا يختلفون عن رتبة جنس الحاكم من هذه الجهة، فيجب عليه مراعاة حقوقهم وعدم الإجحاف بهم، وهذا التعليل الذي ذكره الإمام إنّما ينسجم وتعاليم الإسلام السمحاء في التعامل مع الآخرين الذين لا يدينون بدين الإسلام؛ لأنهم یُشاركوننا في الأصل الإنساني الذي يقتضي المساواة في الأمور الإنسانية، فمبدأ المساواة فرضه الإسلام على الناس جميعًا، حين يعلن القرآن الكريم هذه المساواة المطلقة بلا قيود ولا استثناءات()، فيقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»().

وفي مقطع آخر من العهد يقول الإمام (عليه السلام): ((ثم ألصق بذوي الاحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة. ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتکالا على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به. وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو . فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك))().

ص: 534

وفي هذا التعليل، اهتمام بالجانب الاجتماعي، حين يأمر الإمام صاحبه بالتقرّب إلى أصحاب الحسب والأعمال الشريفة والمعروفين بمواقفهم النبيلة مع أبناء مجتمعهم، فمثل هذه المخالطة تؤثر في الحاكم وتجعله أكثر حرصًا وإظهارًا لهذه الخلال الكريمة بمقتضى کونه حاكمًا ينبغي أنْ يكون أسوة لجميع فئات المجتمع.

ثمّ يبيّن الإمام علي (عليه السلام) سبب نهيه لمالك عن عدم تفقد أمور رعیته مهما كانت صغيرة، أنّ ذلك الفعل يدعو رعيته إلى التعاطف معه، ويجعلهم قريبين منه، فيبذلون له النصيحة، ويُسارّونه بما غفل عنه من سلوكٍ قد تُشين بسمعته وتودي به إلى موارد الظلم.

وفي مقطعٍ آخر من العهد ينهى الإمام مالك عن القيام بأمرٍ يُثير رعيته، إذ يكون في هذا الأمر، مدعاةً لتذمرهم من الحاكم ومن ثم يكون ذلك التذمر سببًا لتآلبهم عليه الحاكم، فيقول: ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فیکون الاجر لمن سنها. والوزر عليك بما نقضت منها))(). وفي مجاراة الرعية على ما اعتادوه من أعمال صالحة تحقيقٌ للألفة التي ينبغي أنْ تكون في داخل النسيج المجتمعي، أما لو نُقِضت تلك السنن الصالحة بسنّةٍ مُحدثة تحت أي عنوان أو مُسمّی، فستعمل على إشغال الرعية عما يُراد لها من السير بمقتضى السلوك القويم الذي دعت له سُنن السابقين، فلا يلحق الحاكم منها غير الوزر والعقوبة الأخروية.

2 - تعليلات اقتصادية:

وهي التي تُظهِر الجانب الاقتصادي في العلّة المعقّبة للأمر أو النهي، بمعنى أنّها تنظر إلى العلة بمنظور علم الاقتصاد وما يفترضه من جوانب ينبغي مراعاتها في تطبيق بعض الأحكام وتنفيذها من قبل الناس. ومن الشواهد على التعليلات الاقتصادية التي أشار

ص: 535

إليها الإمام علي ع قوله في العهد العلوي: ((وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة - أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم))().

يرى الباحث أنّ هذا التعليل العلوي قد احتوى عدّة تعليلات ضمنية، فهو - إنّ صح الوصف عليه - تعليلٌ متراكب، لأن كل تلك الأوامر التي ذُكِرت فيها، إنما سیقت لغرضٍ واحد، ألا وهي الإصلاح في الأرض، لكن هذه العلّة لا تتحقق إلا بعد إجراءاتٍ عدّة ذكرها الإمام ع لصاحبه، وكل تلك الإجراءات تؤدّي إلى هذه النتيجة التي ابتغاها الإمام وراء خطابه العليّ.

وفي مقام صرف أجور ومستحقّات الرعية من بيت مال المسلمين، يُوصي الإمام (عليه السلام) بدفع تلك المستحقّات التي لا معاش لهم من دونها، فيقول: ((ولا يثقلن عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إحراز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر))().

يبين الإمام إنّ دفع الأموال بشكلٍ منتظم إلى رعيته الذين يعملون على إدامة موارد

ص: 536

الدولة الاقتصادية، سوف يظهر أثره الإيجابي فيما بعد حين تضيق بالدولة مُلمّة، فتجد التكاتف والظن الحسن لشدّ أزر الدولة متحقّقًا، أمّا لو كان الإجحاف في حقوق الرعية والفقر هو الحالة العامة لهم مع استئثار للأموال للحاكم وخاصّته، فيكون ذلك أدعى للنقمة عليه، بل يكون مدعاةً للانتفاض والانقضاض على تلك الحكومة والتمرّد على نظامها الذي طالما أكل حقوق الرعية، وانشغل بملذاته عن معاناتهم، وفي ختام هذه الوصية، يقف الإمام مبيّنًا استئثار الحكّام بموارد الدولة وبشاعة استغلالهم لها أنّه ناتجٌ من قلة إيمانهم بالله مما ينعكس على سوء ظنهم بالواهب الرزاق، كذلك أنهم لم يستفيدوا من تجارب من تصدّی للحكم وساس الناس بالباطل فكان آخر مآله إلى التراب مستقبلاً شرّ حساب.

وفي مقطعٍ آخر من عهده الميمون، يُوصي الإمام ع الأشتر بالاهتمام بطبقة التجّار، فيقول: ((ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها. فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته))().

من المعلوم أنّ تحقق الرفاه الاقتصادي وإدامة عجلة الاقتصاد لا تتحقّق إلا بوجود طبقة من الناس لها باعها الطويل بأمور التجارة، وهذه الطبقة إنما تعمل على توفير ما تحتاجه الرعية من مأكل وملبس، من الضروريات وغيرها، فلا بدّ إذن لأجل توفير حاجات الرعية من الاهتمام بهذه الطبقة وتوفير ما تستلزمه الرعاية بهم، من تسهيلات إدارية معتمدة من قِبل الدولة، وحماية توفّر لها من قبل الجهاز الأمني آنذاك (الشرطة) لحفظ بضائعها من التعرّض للسرقة أو التلف وترخيص لبضائعها، كلّ تلك الإجراءات تقوم الدولة بتوفيرها، كذلك يُبيّن الإمام لصاحبه أنّ هذه الفئة جديرة بهذه الرعاية الكريمة منه؛ ذلك لأنها ليست بفئةٍ من الناس همّها الانتفاض على السلطة أو الوثوب

ص: 537

عليها حين يضعف نظامها، ملتفتًا إلى الطبيعة العامة التي تؤلف رجال التجارة، فهم منشغلون إلى أداء عملهم التجاري ومتابعة شؤونه، الأمر الذي يجعلهم أكثر الناس تودّ الأمن والأمان في جهاز الدولة؛ لتمشية أمورها، وتيسير طرق قوافلها دخولاً وخروجًا من مكانٍ لآخر، وبهذا يكونوا مسالمين غير طامحين إلا إلى تحقيق أيسر السبل وأمنها السيرورة تجارتهم في البلاد.

3 - تعليلات سياسية:

وهي التعليلات التي تراعي الجانب السياسي الذي لا يتعدّى مفهومه عن استصلاح الْخلق بإرشادهم إِلَى الطَّرِيق المنجي فِي العاجل والآجل()، ذلك لأنّها تمثّل القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال(). وبهذا يفتتح الإمام علي (عليه السلام) عهده إلى مالك بقوله: ((هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها))()، فالأمر الذي وجّهه الإمام لم يكن إلا لغايات تصبُّ في الصالح العام للرعية، وتمثّل الطريق الأنجع لتحقيق صلاحها، وذلك يتمّ عبر جباية الخراج التي هي من أهم موارد الدولة، وتنظيم هذا الجانب لا يكون إلا عبر الجهاز الحاكم الذي يرشّد ويقنّن تلك الموارد لطبقات الرعية، كذلك من العلل السياسية التي ذكرها الإمام هو جهاد الإعداد، ومن الطبيعي أنْ ينصرف قصد الإمام إلى الجهاد الدفاعي لا الهجومي، وحين تكون للدولة القوة على حفاظ كيانها من الاعتداء الخارجي، تتحقّق بذلك هيبة الدولة المستمدّة من هيبة الرعية وشعورهم بالانتماء إلى وطنهم، ولا يتمّ الأخير إلا عبر الشعور الحقيقي لدى كل مواطن بأنّ حقّه يصله کاملاً وأن له حقوقٌ تُؤدّى إليه، فيشعر قبال ذلك أنّ عليه واجبات إزاء تلك الدولة، من أهمّها الانخراط في جيوشها التي بوساطتها تحفظ البلاد کرامتها وتتحقّق سيادتها.

ص: 538

أمّا استصلاح الأهل وعمارة البلاد، فكلاهما علّتان توجبان هذه الأوامر والإرشادات العلوية؛ لأنّهما ركيزتان أساسيتان من ركائز إقامة الحكم ورعاية شؤون الناس، فلا بُدّ من متابعة شؤون الرعية عبر الأجهزة الناظمة التي تضبط إيقاع المجتمع وتجعله يسير وفق الأسس والضوابط المرعية، أما لو تُرك الحبل على الغارب، فمن الطبيعي أنْ تُهدر الحقوق، وتضيع الواجبات، وتتهاوى إثر ذلك أسس الدولة السليمة نتيجة ذلك الانهيار المجتمعي، فالبلاد لا تعمر مرافقها ولن تعمّر طويلاً إلا إذا كانت أجهزتها الرقابية والتنفيذية قائمة على تحقيق العدل وإنصاف الرعية فيما بينهم وتحديد واجبات كلّ طبقة إزاء أخرى، وبتلك العلل السياسية التي أوردها الإمام في عهده المبارك، توضّحت الغايات التي ترسم طريقًا لاحبًا لسياسة الدولة السليمة إزاء مواطنيها.

وبعد ذلك الموضع من بداية العهد يقول الإمام (عليه السلام) لمالك بصيغة الغائب إمعانًا في النُصح والتوجيه والتنزّل في مخاطبة الآخر من دون إشعارٍ للمخاطَب بأن هذه الأوامر هي واجبات مفروضة على الحاكم، فيقول: ((أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه))() وفي هذا المقطع يُبيّن الإمام أنّ علّة تحقيق الأمر بتقوى الله وإيثار طاعته سبحانه واتّباع الدستور الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم، تتمثّل بالسعادة، وفي المقابل ترتفع الشقاوة التي يستلزم حصولها بضياع هذه العلّة، كذلك بيّن العامله أنّ علّة انتصاره لله في تحقيق مُراد الشريعة الغراء وتطبيق دستورها على الرعية، يضمن له النصر الإلهي والعزّة في الدنيا والآخرة، وحينها تتحقق هيبة الدولة المستمدة من اعتمادها على أسس إسلامية صحيحة.

ومن التعليلات السياسية التي تنبّه الحاكم على كيفية التصرّف مع أعدائه، قوله:

ص: 539

((ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإنّ في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل. فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن))(). يبيّن الإمام مالك ما في الصلح وهو ((في اللغة اسم من المصالحة وهي المسالمة بعد المنازعة والموافقة بعد المخالفة))(). من فوائد تعود عليه وعلى أتباعه، ففيه ارتياح لجنده من القتل والقتال، وكما هو معلوم أنّ القتال أمرٌ تكرهه النفس، وفيه أمانٌ لرعيته من بطش الأعداء وتنكيلهم فيما لو تمكّنوا من كسر شوكة الدولة المتمثّلة بالجيش، كل تلك الأسباب التي ذكرها الإمام (عليه السلام) كانت عللاً تؤدّي غايتها في إقناع المُخاطب باختيار الصُلح مع الدول التي يفترضُ الإمام سلفًا أنّها ستكون في موقف المعادي والطامع في حكومة مالك على مصر، وهذا الافتراض ليس إلا استشعارًا دقيقًا للتنافس الموجود في كل زمان بين الدول على السيطرة والاستيلاء على ما يجاورها من دول، إلا أنّه في الوقت نفسه يُحذّره من الغفلة عن أعدائه في حال الصلح، فرُبّما كان الصلح تمهيدًا لتنفيذِ مخطّطٍ يبیّته المناؤون الذين يتّخذون الصلح سبيلاً لإيقاع غدرهم بالطرف الآخر.

وفي مقطعٍ آخر من رسالته الشريفة، يوجّه الإمام ع صاحبه إلى من يختارهم بمنصب وزراء في حكومته بقوله: ((إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة))(). وهنا تكون العلّة السياسية واضحة في عدم اختیار من تسنّم منصب الوزير فيما سبق من حكوماتٍ سالفة؛ لما صدر منهم من سوء إدارة وابتعادهم عن السلوك القويم الذي يكشف مدى تمثّلهم بالمبادئ الإسلامية السامية، فلا بُدّ والحال هذه أنْ يُبعدوا عن منصب الوزارة في حكومةٍ تُعلن التزامها بالحق شعارًا لها، فهم يمثّلون بطانة الظلم وأعوانًا للآثمين من الحكّام، ولا يصلح حالهم بعد أنْ عركتهم التجارب وأظهرت حقائقهم.

ص: 540

ويُلفت الإمام ع صاحبه الأشتر إلى ضرورة التحلّي بالعدل وإيثار مصلحة الرعية على مصلحته الشخصية، بقوله: ((ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور. وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))()، فالعلّة من التزام الحاكم بالعمل الصالح ظاهرةٌ من كونهِ أمرًا محبوبًا للنفس، ومحقّقًا لرضا الله تعالى، وهو في الوقت نفسه يترك انطباعًا في نفوس الرعية لا أجمل منه من حيث كونه سببًا للذكر الحسن على ألسنتهم، وبعكسه سيكون التذمّر والذكر السيء نصيبه منهم، فالصالح من الحُكّام لا يُعرف بين رعيّته إلا بمقدار ما يتركه فيهم من صلاح وإيثار الحقوقهم وجعلها أولى مهام تصدّيه للحكم، وبهذا التعليل الذي ذكره الإمام ع كان الإقناع مُجديا بأعلى درجاته وأبلغها أثرًا في نفس متلقّيه، لما أحاطه طلبه من مسوّغات متنوّعة التوجّهات نفسية كانت أو اجتماعية.

وفي جانب التعامل مع الطرف المناوئ للدولة، يُرشد الإمام واليه الأشتر إلى ضرورة الالتزام بالجانب الأخلاقي في سياسته مع ذلك الطرف، إذ لا يمكن نقض العهد والتخلّي عنه بحُجّة أنّ ذلك الطرف مُخالفٌ للحق، فيقول: ((وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود))()، فالوفاء بالعهد في هُدنةٍ أو صلح مع ذلك الطرف، يُؤمّن كثيرًا من المصالح المشتركة بين البلدين، مما ينعكس على أمن البلاد، بل يُقرّب من وجهات النظر بين البلدين، ومن ثمّ يدعو إلى السلم والوئام بين شعبيهما. مُرشدًا في ذلك التوجيه إلى أنّه فريضةٌ حثّ الخطاب القرآني على تحقيقه، وبذلك تكون التوجيهات السياسية منسجمة والرؤى الإسلامية التي تضمن تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.

ص: 541

4 - تعليلات أخلاقية:

كان للتعليلات الأخلاقية حضورٌ بين سائر التعليلات في العهد العلوي لمالك الأشتر، إذ كان بعض الإرشادات ينطوي على علل أخلاقية، تبيّن مشروعية السلوك الذي ينبغي اتّخاذه من قبل الحاكم، فهي - بحسب هذا الوصف - كالضوء الكاشف لما وراء الفعل المطلوب؛ ذلك لأنّ كثيرًا من الأحكام قد يتّخذها الحاكم إلا أنّها تعكس رغبة عارمة في التسلّط وإلغاء حقوق الأكثرية من رعیته لأجل تكريس مصلحته الشخصية، أما حين تكون سلوكياته صادرة عن وازع أخلاقي متين، فمن الطبيعي أنْ تُرشد الآخرين وتعلّمهم النهج الصحيح الذي ينبغي أنْ يطبقه الجميع من دون استثناء.

ومن قبيل التعليلات الأخلاقية التي وردت في ذلك العهد المبارك قوله (عليه السلام): ((وليكن أبعد رعيتك منك وأشنوهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك))().

یُقرّر الإمام أنّ المِصلحة العامة هي الأولى بالرتبة بالنسبة إلى تعامله مع الرعية، فلا بُدّ إذن من مُراعاة حقوق الأكثرية من الناس، وذلك بأنْ يعدل في التعامل معهم، لا أنْ يكون المقدّم من ينصّب نفسه عينًا على الناس، يبتغي من وراء ذلك التزلف للحاکم، ومن كان حاله ذلك فلا ينبغي الإنصاتُ له، بل يُجب أنْ يكون أبعد الناس عن الحاكم؛ لأنّ الحاكم إنما يُراد منه توفير الخدمات لرعيته وإنصافهم وتوزيع موارد الدولة عليهم بالسوية، لا أنْ يكون رقيبًا عليهم، فيذلّ طائفةً منهم ويعزّ آخرين، لأجل تحقيق مآرب سیاسية لا تحقّق إلا منافع شخصية زائلة بزواله عن الحكم.

كذلك يأمر الإمام صاحبه الأشتر بأنْ يبتعد عن آفاتٍ أخلاقية تعبّر عن علل فاسدة لا ينبغي لمسلمٍ أنْ يقع فيها، فيقول: ((فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب

ص: 542

ستره فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله))()، فالعورةُ الأخلاقية التي تصدر من أحد من الناس لا يمكن أنْ تكون مثار اتّهام و تشنیع لصاحبها من قِبَل الآخرين، إنما يجب معالجتها بالخُلُق الحسن المتمثّل بعدم التشهير بل بالنصح والتوجيه، فالله كفيلٌ أنْ يغطّي عورة المؤمن الأخلاقية إن سعى في إصلاح عورة أخيه المؤمن، كذلك حين يبيّن له أنْ من يتصف بهذه الصفات غير الحميدة من بخلٍ وجُبنٍ وحرص، إنّما تكشف عن سوء ظنّ صاحبها بالله؛ لأنّ الله سبحانه هو الذي يرزق عبده من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، كذلك هو الذي يتكفل بحفظه ورعايته، فيستحيل على الله أنْ ينسى عبده أو يتركه والقدر.

ويُوصي الإمام (عليه السلام) صاحبه بضرورة الاختلاط بأهل الورع في دينهم ودنياهم، ممّن صدقوا في تعاملهم مع الله ومع الناس؛ لما يعكسه الاختلاط فيهم من تأثّرٍ بأخلاقهم وسلوكهم، وفي الوقت نفسه يُحذّره من عاقبة أنْ يجعلهم تبعًا له، ومنقادین لسطوة دولته، الأمر الذي يدفعهم إلى المُداجاة وعدم النصح والإرشاد، بل يوافقونه ویمالئونه على الباطل، مما سيولّد في نفس الحاكم الزهو والتغطرس، ویری حینئذٍ سيئاته حسناتٍ، فيقول: ((والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة))(). وفي هذا التعليل الذي ذكره الإمام تمتينٌ للجانب الأخلاقي الذي يجب توفره في الحاكم العادل حين لا يغترّ بما تحت يديه من قوّةٍ، فيجعلها أدوات يسخّرها من أجل الاستفراد بالحكم، فيقرّب من يشاء ويُستضعف من يشاء لدواعٍ تكرّس الظلم والجور، ولعلّ تنبيهه الرشید بعدم ترويض أهل الورع من رجال الدين عن مدح الحاكم تفعيلٌ للدور الرقابي الذي ينتقد أداء الحكومة من علماء المصر وكبراء الفقهاء الذين يُؤتمنُ الدين بحوزتهم ويُصان الرعية بفضل علمهم، فلا تضيع حقوقٌ بعد رشادهم، ولا تُهدرُ كرامة البلد بحضورهم في ميدان الإصلاح والتوجيه.

ص: 543

وينبّه الإمام علي (عليه السلام) إلى ضرورة اختلاف المعاملة بين الرعایا بحسب السلوك الصادر منهم، فيقول: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا))()، فإنْ الإحسان الصادر من الشخص لا بُد من مجازاته بالإحسان والتكريم والإشادة بفعله، وفي المقابل حين تصدر الإساءة من آخر لا بُدّ من محاسبته والأخذ بيده ونهيه عن فعله هذا، الأمر الذي سيدفعه إلى الكفّ عن إساءة الآخرين، أما لو كانت القيم متساوية سواء أكان الشخص مُحسنًا أم مسيئًا، فهنا تضيع الحقوق، بل أكثر من ذلك، حينها يتشجّع المُبطل على باطله، ويضعف المُحسن عن أداء سلوكه الحسن مع الآخرين؛ لضياع المكاييل الأخلاقية التي بموجبها يثمر السلوك الأخلاقي الجيّد بين الرعية ومن ثم يكون هدفًا أسمي يسعى المجتمع إلى تحقيقه.

ويُؤكد الإمام علي (عليه السلام) في مقطعٍ آخر من عهده المبارك، أنّ الذكر الطيب لمن يُبلي حسنًا سوف يدفعه إلى تقديم الأفضل، ويحرّض الآخرين على القيام بالفعل نفسه؛ لما علموه من حسنِ وقعه على الآخرين وتقديرهم له بالمدح والثناء، فيقول: ((فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلی ذوو البلاء منهم. فإن كثرة الذكر الحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله))().

ومن إرشاداته الأخلاقية لمالك أنْ يولي المناصب الإدارية لمن عركته التجارب فبان صدق مخبره عن مظهره، وذلك بقوله: ((وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا))(). كلُّ هذه الصفات التي أردفها الإمام (عليه السلام) كانت بمثابة العلل الكفيلة بتسويغ إيلاء أصحابها مناصب إدارية

ص: 544

في الدولة؛ وذلك لما تمتّعوا به من صفات تجعلهم بمنأى عن الطمع الذي يُتاح لمن يكون بيده منصبًا ما، ومن كان جديرًا بهذه الصفات لا يُخشى عليه من أداء أمانةِ المنصب وما يتعرّض إليه من إغراء، إذ المنصب يمثّل أمانة ومسؤولية كبيرة لا يُوفّق لأدائها إلا من أخلص نفسه لله، فضلاً عن تجربته وحنكته في إدارة الأمور.

المبحث الثالث: استراتيجيات الإقناع بالتعليل في العهد العلوي:

لمن يتأمّل عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، يجد فيه عدة خصائص، تجعله متميّزًا عن سواه من العهود والمواثيق التي كانت له مع ولاۃ آخرين، وبخاصّة حين نسلّط الضوء على أسلوب التعليل، فهو مدار بحثنا، نجد ثمّة تضافر الخصائص التعليل العلوي، ولعلّ الإحاطة بكلّ الخصائص الإسلوبية للتعليل، أمرٌ لا يمكن إحرازه بصورة نهائية، إلا أننا سوف نقوم بتظهير تلك الخصائص على مستويين:

أولاً: توفّرها على مبدأ الحجاج:

عُدّت ألفاظ التعليل من بين الأدوات اللغوية الصرفة بوصفها أحد تقنيات الحجاج()، ولما كان الحجاج يهتم بدراسة ((تقنيات الخطاب التي من شأنها أنْ تُؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أنْ تزيد في درجة ذلك التسليم))()، فلا بد إذن من بيان إجمالي للخصائص التي يُضفيها التعليل في العهد العلوي؛ لما يحتجنه من وفرةٍ إقناعيةٍ تخصّبُ فاعلية النص التأثيرية وتدفع بالمُرسَل إليه أن يُقبل على ما يتضمنه من إخبارٍ وإنشاء إقبال المُسلّم من دون أدنى شكٍّ بنوایا صاحب النص. وهذا ما يأمله الأخير (الباث) من توظيفه لتقانة التعليل في خطابه.

وسنتناول بعض تلك الخصائص التي تميّز بها التعليل في العهد العلوي، ومنها:

ص: 545

1 - التزامهُ بضوابط التداول الحجاجي وتقنياته:

وهذه الضوابط لا يخلو منها خطابٌ حجاجيٌّ يبتغي التأثير في المُخاطَب و حمله على فعل شيءٍ ما أو الانتهاء من فعلٍ ما. وأهم تلك الضوابط التي أجدُها قد تحقّقتْ في التعليل في العهد العلوي():

أ - أن يكون الحجاج ضمن إطار الثوابت الدينية والعرفية، فليس كلّ شيء قابل للنقاش وللحجاج.

ب - أن تكون دلالة الألفاظ محدّدة، والمرجع الذي يُحيل عليه الخطاب مُحدّدًا؛ لئلا ينشأ من عدم التدقيق مشكلة في تأويل المصطلحات.

ت - ألا يقع المرسِل في التناقض بقوله أو بفعله.

ث - موافقة الحجاج لما يقبله العقل، وإلا بدا زيف الخطاب ووهن الحجّة.

ج - توفّر المعارف المشتركة بين طرفي الخطاب، مما يُسوّغ قبول المرسَل إليه لحجج المُرسِل، أو إمكانية مناقشتها أو تفنيدها، وإلا انقطع الحجاج بينهما وتوقّفت عملية الفهم والإفهام، بل الإقناع.

ح - أن يأخذ المُرسِل في اعتباره تكوين صورة عن المُرسَل إليه، أقرب ما تكون إلى الواقع قدر الإمكان، أي أن يُراعي المُرسِل طبيعة المُرسِل إليه الذهنية.

خ - مناسبة الخطاب الحجاجي للسياق العام؛ لأنه الكفيل بتسويغ الحجج الواردة في الخطاب من عدمها.

د - ضرورة خلوّ الحجاج من الإبهام والمغالطة والابتعاد عنهما.

ذ - امتلاك المُرسِل ثقافة واسعة خصوصًا ما يتعلق بالمجال الذي يدور ضمنه الحجاج کالمجال السياسي.

وحين نُجرّد النظر إلى عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بوصفه نصًّا أدبیًّا، نجده

ص: 546

هدف عبر مجموعة من الأقوال والأفعال الإنجازية إلى تغيير وضع المتلقي، ومن ثمّ تغيير موقفه السلوكي وذلك من خلال ثنائية (افعل ولا تفعل) وهذا الهدف هو ما تتغياه التداولية التي تتجاوز الأقوال والملفوظات إلى الفعل الإنجازي والتأثير الذي يتركه ذلك الإنجاز، فعناصره الثلاثة المكوّنة من فعل القول والفعل المتضمن في القول أو ما يسمى بالفعل الإنجازي، والفعل الناتج عن القول، الذي ينتج عن القول من أثر فعله على المخاطب كإقناعه وحثّه وإرشاده وتوجيهه()، كلّ هذه العناصر قد حضرت في هذا العهد، وجعلته عبر التعليل يُحقق هدفه المنشود.

2 - توفّرها على (العوامل / الروابط) الحجاجية:

تعدّ الروابط الحجاجية واحدة من الأدوات الحجاجية التي تربط بين القضايا في الخطاب، إذ تُسهم في إنجاز القيمة الحجاجية فيه، وتساعد الخطيب على جلب السامعين إليه؛ ذلك لما تحتويه من علاقة منطقية بين القضايا، مما تدفع المتلقّي لذلك الخطاب إلى الخضوع والتسليم بمضمونه().

وقد اهتمّ دیکرو بظاهرة العوامل / الروابط الحجاجية، نظرًا لما تُحدثه هذه الأخيرة من انسجام في الخطاب، وقيادة للمستمع إلى الاتجاه الذي يريده المتكلم والإخضاع له، تتمركز هذه الروابط أساسًا في أبنية اللغة، وهي على أشكال مختلفة كما قال شكري المبخوت: ((إذا كانت الوجهة الحجاجية محددة بالبنية اللغوية، فإنها تبرز في مكونات متنوعة ومستويات مختلفة من هذه البنية فبعض هذه المكونات يتعلق بمجموع الجملة، أي هو عامل حجاجي في عبارة ديکرو، فيقيّدها بعد أن يتم الإسناد فيها ومن هذا النوع نجد: النفي والاستثناء المفرغ والشرط، والجزاء. ونجد مكونات أخرى ذات خصائص معجمية محددة، تؤثر في التعليق النحوي وتتوزع في مواضع متنوعة من الجملة، ومن هذه الوحدات المعجمية حروف الاستئناف بمختلف معانيها والأسوار (بعض، كل،

ص: 547

جميع) وما اتصل بوظائف نحوية مخصوصة، كحروف التعليل أو ما تمحّض لوظيفة من الوظائف قط وأبدًا))().

ولا يخفى ما قدّمته الروابط التي تخصّ التعليل في العهد العلوي المالك الأشتر من أثرٍ جليٍّ في بناء الخطاب وجعله متماسك البنية، فضلاً عن تدعيمه بالعلل التي تسوّغ مثل هذه القضايا التي تحقق النتائج على وفقها، وهنا سأستعرض بعضًا من تلك الروابط مبيّنًا دلالتها وأثرها المتكوّن بين النتيجة (الطرح) والحجة فيما يأتي:

1 - الفاء:

الأطروحة (النتيجة) - الروابط - الحجة

1 - ولا تحدثن سنة تضر بشئ من الماضي تلك السنن - الفاء - فيكون الاجر لمن سنها . والوزر عليك بما نقضت منها.

2 - فإنّ

الأطروحة (النتيجة) - الروابط - الحجة

1 - ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم - فإنّ - فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق

2 - فلا يكونن لك بطانة - فإنّ - فإنهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة.

3 - ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا - فإنّ - فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق

3 - لأنّ

الأطروحة (النتيجة) - الروابط - الحجة

1 - ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم - لأنّ - لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله

ص: 548

إنّ تقدير المتكلم (الباث) لردود أفعال المخاطب (المُرسَل إليه) يجعله يستنبط حججًا افتراضيةً بناءً على ذلك التقدير، ولما كان الخطاب الحجاجي يفترض مواجهةً لخطاب حقيقي أو تقديري يتوقعه المتكلم ويفترض وجوده في ذهن المتكلم، فهو في هذه الحالة سوف يُسهم في تحقيق النشاط التواصلي الذي تفرضه البنية اللغوية ذاتها، أو السياق النصي للخطاب(). وهذا ما تحقق في بناء خطاب العهد العلوي بالنسبة لروابط التعليل بين القضية المطلوب تحقيقها من قبل المخاطَب والعلّة المترتّبة على تحقيقها، فالفاء حرفٌ له دلالات عديدة تختلف باختلاف تموضعها في الكلام، لكن دلالتها في هذه الأمثلة لا تتجاوز التعليل والتفسير، حيث تأتي مباشرة بعد الانتهاء من إلقاء النتيجة لتُحيل إلى ما يفسره ويعلل مضمونه من حجج().

3 - توفّرها على الانسجام الداخلي:

ويتحقّق الانسجام الداخلي باشتراك وسائل عدّة من أبرزها (القياس، والمثال، والشاهد) التي تؤدّي إلى الانسجام الذي يتقوّم بدوره على مبدأين أساسيين هما: السببية، وعدم التناقض، أو مع موجّهات خارج النص مثل القيم والمواضعات الاجتماعية أو المخزون الثقافي الذي يحيط بذهن المُرسِل(). وقد برزت مثل هذه الوسائل مرافقةً للتعليل الذي أردفه الإمام علي (عليه السلام) في إرشاداته. وتشترك هذه الوسائل بأنها صور من القياس الخطابي - أو ما يُسمّى بالمُضمر - الذي يقوم على الاحتمالات، ويُعرّف بأنه ((آلية من آليات الذهن البشري، تقوم بالربط بين شيئين على أساس جملة من الخصائص المشتركة بينهما للوصول إلى استنتاجٍ ما، بألفاظٍ فيها شيءٌ من الالتباس والاشتراك، بناء على أنّ القياس يقوم على التجربة، التي ينطلق منها المتكلم لتشكيل صورة استدلالية))().

ومن الأمثلة على القياس الخطابي في العهد العلوي قوله الشريف: ((أنصف الله

ص: 549

وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد))().

عبر هذا النص، أبان الإمام (عليه السلام) لصاحبه عاقبة عدم إنصاف الرعية ومآل ترکها باستلزامها عدة أمور لا يُحمد عقباها، فمن لا يُنصف فإنه يكون ظالمًا لهم، ومن كان ظالما لعباد الله كان الله له خصمًا من دون العباد، ومن خاصمه الله لا بُد من أن تُدحض حجته ويبوء بالخسران ويزول عن ملکه مکللاً بالوزر والآثام. كل تلك المنازل التي ذكرها الإمام (عليه السلام) للحاكم الذي يستبدّ بحكمه ويطغى بسلطانه، كانت مرتّبةً لأجل إقناع الآخر بضرورة العدل مع الرعية، وهي مراتب اقتضاها العرف والمخزون الثقافي الذي يشترك فيه كلٌّ من المُرسِل والمُرسَل إليه.

وشاهدٌ آخر يُدلّل بوضوح على فاعلية استراتيجية القياس الخطابي وأثره في إقناع المتلقّي، قوله (عليه السلام): ((وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ویشاب الحق الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب))(). وهذه الحجج التي توفّر عليها النص، إنّما سیقت لأجل نهي الوالي عن الابتعاد عن العامةِ من الرعية، والاستئثار عنهم بحاشيته المقربين، ولما كانت هذه الظاهرة تُؤشّر خطورتها المتعيّنة على الحاكم، فلا بُدّ إذن من التنبيه منها، بوصفها آفةً أخلاقية تأتي عليه بما لا يُحمدُ عُقباه، فضلاً عن كونها ظاهرة قد لا يتخلّص منها إلا من أوتي حظًّا عظيمًا وزُهدًا في متاع الدنيا

ص: 550

وزخرفها، فكانت الحجج تتعاضد تباعًا في هذا النص، ملتزمةً مبدأ الترتيب، فالحجج قد لا تتساوى فيما بينها ولكنها تترتب في درجات قوةً وضعفًا، ومأتى هذا الترتيب من كون الظواهر الحجاجية تتطلب وجود طرف آخر، تقيم معه علاقة استلزام()، كذلك اعتمدت هذه الحجج على أمور مُتسالمٍ عليها عند الجميع، فلا يمكن لأحد أنْ يختلف في مدى صدقها من كذبها، الأمر الذي يوثّق الحجج ويجعلها أكثر إقناعًا وتأثيرًا على بعث المرسل له على السلوك المطلوب تحقيقه من المُرسِل.

ومن الأفكار التي أولاها محللو الخطاب أهمية لأثرها في البرهنة بالقياس المضمر، هي فكرة الكم؛ لكونها تهم أكبر عدد من الناس، أو تكون مقبولة على العموم، ومن ثم تُظهر مقبوليته على الجمهور()، ولعل قول الإمام (عليه السلام) موصيًا باتّخاذ الجادة الوسطى في التعامل، والوقوف مع العامة يُدلل بوضوح على ذلك، ((وليكن أحب الامور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء. وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الامة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم))()، وفي هذا القول توجيهٌ لمالك أنْ يكون مرضيًّا في حكمه عند العامة من رعيّته، ويستلزم من ذلك أنْ لا ينشغل عنهم برعاية الخاصة ممّن سيتولى مناصب في دولته من إداريين وغيرهم؛ لأنّ التواصل مع العامة سيجعله أكثر قربًا من همومهم واحتياجاتهم، فيوليهم رعايته؛ لأنّ اعتماد الدولة في حال الضيق ومداهمتها من الأعداء على العامة من الناس، أما الخاصة فهم أكثر ثقلاً على كاهل الدولة وأقلهم شكرًا وعرفانًا بجميل ما تقدمه الدولة لهم من مُتع وهبات، فينبغي والحال هذه أنْ لا يشكّلوا عائقًا إزاء الحاكم العادل من الوصول إلى عامة شعبه، والاقتراب من

ص: 551

همومهم وتحقيق مطالبهم. ويظهر في هذا النص من الرسالة توظيف لحجّة المقارنة التي تقوم ((على الاحتجاج لشيء أو لشخص أو لقيمة أو لرأي، باعتماد أفضليته على طرف ثانٍ من جنسه أو قبيله))(). إذ يحتّج المُرسِل على الطرف الآخر (المُرسَل إليه) بجعله مُذعنًا أنْ يختار قراره بين خيارين أحدهما يعود عليه بالفائدة والآخر لا يرقى إلى مميزات الأول، وهنا تكون المقارنة بين أمرين سبيلاً لاختيار أفضلها، ومن ثمّ يكون المُرسِل محقّقًا لمُراده في جعل المُرسِل إليه مُذعنًا لما يريده من أمر.

4 - استراتيجية الاستدلال بالشاهد:

من الأمور التي توفّرت على القياس الخطابي، ما كان موظّفًا عبر آلية الاستدلال بالشاهد القرآني، والنبوي، ومعلومٌ أنّ ((الحجة القرآنية تُرجَّح على ما سواها من الحجج الأخر؛ لأنها برهان صادق وحجة قاطعة، ودليل يقيني التأليف قطعي الاستلزام، وهي تعمل على تثبيت المعاني في الأذهان))().

ونلحظ أنّ ثمة نمطين في استدلال الإمام علي (عليه السلام) بالشاهد القرآني: الأول لا يُشير إلى قائل النص، بل يشي إلى النص بصورة غير مباشرة، ومثاله قوله (عليه السلام): ((وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه))(). وفي هذا النص يستحضر القارئ له نصوصًا كثيرة تحمل في مطاويها مضمون هذه الفقرة.. منها قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ»، وقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(). إذ تعمل هذه الشواهد القرآنية الراكزة في ذهن المتلقي على تثبيت الطرح الذي يبثّه المُرسِل، وتُوكّد مضمونه.

ومن الشواهد التي تتصل بالاستدلال المضمر بآيات القرآن الكريم، قوله (عليه السلام): ((وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة

ص: 552

بالسوء إلا ما رحم الله))()، ويظهر في ذيل النص الأنف الذكر، استشهاده بقوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ»() ومن الواضح أنّ استدلاله بهذه الآية القرآنية، يجعل المتلقّي أكثر تعاطيًا للإرشاد الموجّه إليه، وأن لا تأخذه العزة بنفسه والتباهي بمؤهلاته النفسية، وذلك حين يتذكّر - عبر هذا الاستشهاد القرآني - أنّ نبيًّا لا ينره نفسه عن الخطأ، ما لم يطلب المدد الإلهي والعون على أنْ يعصمه من الوقوع في الهفوات والسقوط في شباك الشهوات التي تُتاح بصورة مغرية للذين يتصدّون للحكم بين الناس.

وفي موارد أخرى من تعليلات الإمام (عليه السلام) لمالك، كانت الاستشهاد واضحًا ظاهرًا بالقرآن الكريم، ومن ذلك قوله: ((واردُدْ إلى الله ورسوله ما يضلعك یا آنها عد و من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة))()، وفي هذا النص إرشادٌ وتوجيهٌ إلى القرآن والرسول في حال التنازع، والاستدلال على صحة التعليل بالقرآن الكريم يمثّل أعلى تقانة تبتغي إقناع المتلقي وجعله في مقام الإذعان والتسليم.

وما يُلاحظ في هذا النص، أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكتف باستدلاله بالآية، بل عرّج على كشف النقاب عن مضمونها عبر آلية التفسير، وهي من أهم الصور البلاغية ذات الدور الفعال في الميدان الحجاجي(). والتفسير القوي بحسب (بيرلمان) يمكن أنْ يعدّ صورة حجاجيةً يتباين أثرها باختلاف المتلقي، فإذا كان متأثّرًا بهذا التفسير يكون حينها صورة حجاجية، أما إذا انصرف التفسير إلى اهتمامه بالجانب التزييني للخطاب فيعد صورة أسلوبية().

ص: 553

ومن استدلالاته على صواب سلوكٍ يُرشد إلى صلاحه بين العامة، فضلاً عن كونه معبّرًا عن موافقته للحكم الشرعي، قوله مُشيرًا إلى قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): ((وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال: «صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما»)). وفي هذا القول تظهر فاعلية الإقناع، حين يكون الأمر المطلوب تحقيقه من قِبَل المُرسَل إليه ممضيًّا على مشروعيته من حُجّةٍ لا يُردّ لها قول عند الطرفين، فلا بُد من أنْ تكون مثل هذه الحجة باعثةً لمصداقية القول، ومؤكّدةً على صوابه حكمًا وتطبيقا.

ويستشعر الإمام علي (عليه السلام) ضرورة توظيف الشاهد النبوي بوصفه باعثا على أهمية الفعل الذي ينبغي الأخذ به من قبل الوالي، فيقول: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسا تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه الله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع»))(). فيبيّن الإمام أهمية هذا الفعل - ألا وهو تخصيص جزء من وقته للنظر في شؤون الرعية - بما سيفرزه من نتائج تمثّل علّةً تسوغ للحاكم الأعلى الممثّل بشخص الإمام علي (عليه السلام) مثل هذا الطلب، وفي الوقت نفسه تُحببه إلى نفس الوالي (المُرسَل إليه) فيتحرّك إلى تطبيق ذلك التوجيه من دون إكراه.

ومن الشواهد على توظيفه للنص النبوي بصورة غير مباشرة، عن طريق التناص، قوله (علیه السلام) ناهيًا مالكًا عن إحداثه أعمالاً لم تكن من قبل، أو منعه بعض السنن التي كانت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر

ص: 554

بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها. والوزر عليك بما نقضت منها))()، إذ يتناصّ هذا التوجيه مع حديث النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا»(). وفحوى ذلك التوظيف أنّه يعكس إيجابية الفعل المطلوب تحقيقه من قبل الوالي، بكونه فعلاً ينمّ عن صلاح من يدعو إليه؛ لأنّه يكشف حقيقة اتّباعه للرسول الكريم (ص) ومشايعته له في القول والفعل.

5 - استراتيجية التعريف:

عُد التعريف أحد الصور البلاغية الموظّفة في تدعيم الحجاج في الخطاب، ويقوم مفهومه على اتّخاذ ماهية موضوع القول دليل الدعوى()، أما الباعث على توظيف التعريف فهو إقناع السامع، وتذكيره ببعض مظاهر الحقيقة التي يمكن أنْ يتناساها أو يغفل عنها، أي أنّه يوظّف - بحسب عبد الله صولة - ((لا على سبيل شرح معنى الكلمة إنما لتبرز بعض المظاهر الحافة بواقعةٍ ما، مما من شأنه أنْ يعزب عن ذهن السامع))()، وقد تتداخل وظيفة كل من التعريف والتفسير؛ لاشتراكهما في تقديم تفاصيل عن الظاهرة وتحديد معالمها، مما يدفع إلى جذب المُرسِلَ إليه واستمالته().

ويلحظ أنّ ثمة أنماط ظهرت في تقانة التعريف وظّفها الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك، تختلف باختلاف مقام الخطاب، فتارةً يُوجز في التعريف، مثل قوله: ((وشُحّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف))().

وتارةً يكون الإطناب في التعريف، مثل قوله: ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما

ص: 555

يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم))(). وهنا قدّم التعريف لوصف الجهاز الدفاعي الذي تقوم بقوّته الدولة، كذلك يُلحظ في هذا المقطع من الرسالة، أنّ الإمام (عليه السلام) قدّم التعريف بوصفه خبرًا؛ ليمهّد عبر هذا التسويغ إلى ضرورة الاعتناء بطبقة الجند، ورعاية حقوقهم، وسدّ حاجتهم من المعاش الذي يُؤخذ من الخراج؛ ليكون ذلك دافعًا للحاكم على مراعاة هذه الطبقة التي يعود أثرُها الإيجابي على البلاد بأسرِها.

وفي نمطٍ آخر من أنماط التعريف، تكون مجموعة الصفات مُحدّدات تبيّن حقيقة الشي. المُراد إظهاره، أو تمييزه عن سواه، فتمنعها من الدخول في حيز الحكم المُثبت بحق القضية المُعّرفة. والشاهد عليه قوله (عليه السلام): ((ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الاخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل))(). وفي هذا النص جملة من الصفات بالإمكان عرضها على النحو الآتي:

لا تبطره الكرامة - لا تقصر به الغفلة - خير الكتّاب - ولا يضعف عقدًا اعتقده لك - ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك - ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور

كل تلك الصفات التي ذكرها الإمام علي (عليه السلام) في خطابه آنف الذكر

ص: 556

شكّلت روابط حجاجيّة تعاضدت فيما بينها لتقيم حدًّا فاصلاً بين الكاتب الذي يكون مقرّبًا من دون الآخرين من الكُتاب، فتأتي هذه الصفات لتكون سبيلاً للتنافس الشريف بين الكتاب، ولا تكون المناصب الرفيعة حِكرًا لمن يتزلّف للحاكم على حساب سمعته الملطّخة بأدران الظلم والفساد، وتاريخ عمله غير المهني. فتوضع مثل هذه الأوصاف لتكون حجّةً بين الحاكم والرعية، وعلى أساس مضمونها يُقيّم الذي يكون أهلاً للتصدي لمثل هذا المنصب.

وفي مثالٍ آخر نلحظ ذلك النضد الرفيع لمجمل الصفات التي يتطلّب الإمام (عليه السلام) اجتماعها في القاضي، فيقول: ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصره رمهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء))().

ومن خلال الشكل التوضيحي أدناه يتبين لنا عدة خصال تتوفّر في القاضي الذي ينصّب نفسه حاكمًا يقضي بين الناس، وهي صفات تحدد شخصية القاضي الوظيفيّة، بمعنى أنّها تبين وظيفته التي تُؤهّله أنْ ينظر في قضايًا الرعية، وتكشف علّة اختياره من دون الآخرين، ((وكأن الإمام (عليه السلام) بعد أنْ أوجب على عامله أن ينتخب للقضاء أفضل رعيته علمًا وتهذيبًا أراد أن يلفت نظره إلى جهة مهمة هي فوق العلم والثقافة الواسعة، وهي خاصية نفسية بحتة، وأنّ كلمته (عليه السلام) (أوقفهم في الشبهات) تكشف لك بوضوح عن مقصده الشريف، فهو قد اشترط أنْ يكون القاضي أو الحاكم - زيادة على ما هو عليه من الفضل - من ذوي النفوس الحساسة والذكاء المتقد والنباهة الشديدة))(). ومعلومٌ أنّ إكثار الصفات التي ذكرها الإمام (عليه السلام) تبثّ

ص: 557

حزمة من المؤثّرات الإقناعية على المتلقّي (الوالي مالك الأشتر) تجعله أكثر تحرّزًا واحتياطًا في اختياره القاضي النزيه الذي يتحرّى العدل والإنصاف في حكمه بين الناس.

لا تضيق به الأمور - أوقفهم في الشبهات

لا تمحكه الخصوم - أقلهم تبرما بمراجعة الخصم

لا يتمادى في الزلة - أصبرهم علی تکشف الامور

لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه - أصرمهم عند اتضاح الحکم

لا تشرف نفسه على طمع - لا يزدهيه إطراء

لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه - ا يستميله إغراء

الخاتمة:

آن لنا أن نختم تلك الرحلة البحثية في رحاب تلك الرياض المونقة الدالّة على عظمة الإسلام وعظمة قائله ومدى اندكاكه وتفانيه في الكيان الإسلامي شريعةً وتطبيقًا. ومن تلك النتائج التي أسفر البحث عنها:

* أبان البحث مصطلح التعليل لغةً واصطلاحًا ومن ثمّ كشف النقاب عن أهمية أثره في الخطاب، كونه أحد الوسائل المهمة في إقناع المتلقي ودفعه للتصديق ومن ثم العمل بمضمون الخطاب.

* أظهر البحث عدة دلالات لغوية لمصطلح (العهد) إلا أنّه يرجّح دلالة الوصية من بين الدلالات الأخر في تحديد وصف رسالة الإمام علي (عليه السلام) بالعهد؛ لتضافر الوصايا بشكلِ ملفتٍ في فِقَرها.

* لم تقف طرائق التعليل عند أدوات معيّنة، بل تعدّدت وتنوّعت، ولا ضابط لها إلا التحديد الذي يُعيّنه السياق. وقد تتبادل أدوات التعليل دلالالتها، وهذا التبادل قد

ص: 558

يحكم السياق باختياره، وقد يحكم التنوّع اللهجي والتوسّع في استعمال اللغة العربية.

* تنوّعت موضوعات التعليل في العهد العلوي من اجتماعية إلى سياسية واقتصادية وأخلاقية، ولا يخفى طُغيان التعليلات الأخلاقية على ما سواها، بل شكّلت هذه التعليلات أساسًا لكل الموضوعات التي طرحها الإمام (عليه السلام) في عهده المبارك.

* وفّر الإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر طاقة حجاجيّة انطلقتْ عبر ثنيّات التعليل التي أبرزها عقب كل توجيهٍ وإرشاد، وكان لاستشهاده بالقرآن الكريم وحديث الرسول الأكرم (ص) في تعليله بعض تلك التوجيهات، أثرٌ بليغ في حقنه جُرعاتٍ من الإقناع الذي يمثّل غايةَ المُرسِل وهدفه من صناعته الخطاب وتوجيهه للآخرين.

* توفّرت جميع السمات الحجاجية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، فضلاً عن أثر الروابط / العوامل الحجاجية في انسجام الخطاب وجعله متماسكًا يرفدُ بعضه بعضًا، مما يُضفي عليه جماليات أسلوبية شكليّة تمتّن المضمون القولي فيه.

* کاد القياس الخطابي - لاسيما المضمر منه - نصيبٌ وافر في اشتغاله على استراتيجيات الإقناع في الخطاب؛ لأنه يعتمد على أولويات ومسلّمات عقلية واستلزامات لا يختلف عليها اثنان، مما يُسهم في جعل الخطاب مصوغًا بطريقة تراتبية تتضمن مقدّمات وتنتهي إلى نتائج، وهذه الطريقة الصورية في المنطق هي الأكثر شيوعًا في التفكير، فلذا كانت أكثر حضورًا؛ لأثرها الطيب في إنتاج الإقناع وتخصيبه في الخطاب.

* وأخيرًا كان التأكيد على مضمون العدل والإنصاف في أكثر تعليلات العهد؛ لأثره البليغ في إقامة الحكم الصحيح المعبّر عن الإسلام الحقيقي، ولا يستبعد التعريض بالجور السائد آنذاك.

ص: 559

الهوامش:

1. ينظر: الصحاح، الجوهري: 5 / 1773. مادة (علل).

2. دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، الأحمد نكري: 2 / 107.

3. الكليات، الكفوي: 294.

4. ينظر: المنطق الفطري في القرآن الكريم، محمود يعقوبي: 95.

5. ينظر: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهانوي: 1 / 489، ونظرية التعليل في النحو العربي بين القدماء والمحدثين، د. حسن خميس سعيد الملخ: 29.

6. تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، ابن أبي الإصبع العدواني المصري: 309. والآية المذكورة في الاقتباس من سورة الأنفال: 68.

7. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي: 306.

8. أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني: 275.

9. الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، غانم جواد رضا: 16.

10. ينظر: المعجم الأدبي، جبور عبد النور: 122.

11. ينظر: الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي: 86.

12. أساليب النثر الفني، لطيف محمد العكام: 80.

13. ينظر: التوجيه الأدبي، طه حسين: 15.

14. ينظر: التوجيه الأدبي: 16، وروائع البيان في خطاب الإمام - الجوانب البلاغية واللغوية في بيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رمضان عبد الهادي: 134.

15. ينظر: كتاب العين، الفراهيدي البصري: 1 / 102.

16. ينظر: غريب الحديث، الهروي: 3 / 137.

17. ينظر: نهج البلاغة: 3 / 2.

18. مصادر نهج البلاغة وأسانيده، عبد الزهراء الحسيني الخطيب: 3 / 424 - 425. نقلا عن كتاب: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 2 / 280.

19. ينظر: لسانيات النص - مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي: 61.

20. ينظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: 57.

21. ينظر: فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، أبو عبيد الأندلسي: 98.

22. المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، دومينيك مانغونو: 12 - 13.

23. ينظر: استراتيجيات الخطاب - مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي الشهري: 456.

ص: 560

24. موسوعة کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1 / 225.

25. ينظر: کتاب الصناعتين - الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري: 142. والباحث يتفق مع جملة مع العسكري وغيره من العلماء والباحثين الذين يذهبون إلى وحدة الخطابة والرسالة.

26. الخطابة الإسلامية، عبد العاطي محمد شلبي: 10.

27. ينظر: الخطابة، أرسطو: 181.

28. کتاب الصناعتين - الكتابة والشعر: 136.

29. المنطق، محمد رضا المظفر: 3 / 338.

30. استراتيجيات الحجاج في رسائل الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، (بحث غير منشور)

31. ينظر: نظريات في أساليب الإقناع - دراسة مقارنة، د. علي رزق: 21.

32. ينظر: الحجاج في النص القرآني - سورة الأنبياء أنموذجا، إيمان در نوبي: 95.

33. الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي: 2 / 250.

34. سورة النحل: من الآية 89.

35. البرهان في علوم القرآن، الزرکشي: 3 / 91.

36. ينظر: البرهان في علوم القرآن: 3 / 91 - 100.

37. سورة النساء: 113.

38. سورة المائدة: 97.

39. سورة الحشر: 7.

40. سورة النحل: 89.

41. سورة النساء: 160.

42. سورة المزمل: 20.

43. سورة الأنعام: 156.

44. سورة المائدة: 32.

45. سورة البقرة: 21.

46. سورة الذاريات: 15 - 16.

67. سورة المائدة: 38.

68. سورة الحجر: 46.

49. سورة الزخرف: 33.

50. سورة البقرة: 22.

ص: 561

51. لمسات بيانية في نصوص من التنزیل، د. فاضل صالح السامرائي: 178.

52. سورة الحشر: 5.

53. لطائف الإشارات = تفسير القشيري، القشيري: 1 / 33.

54. نهج البلاغة: 3 / 169.

55. نهج البلاغة: 3 / 92.

56. ينظر: التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي محمد جاد: 62.

57. سورة الحجرات: 13.

58. نهج البلاغة: 3 / 101.

نهج البلاغة: 3 / 98.

60. نهج البلاغة: 3 / 106 - 107.

61. نهج البلاغة: 3 / 107 - 108.

62. نهج البلاغة: 3 / 110.

63. ينظر: الكليات: 510.

64. ينظر: کشاف اصطلاحات الفنون: 993.

65. نهج البلاغة: 3 / 91.

66. نهج البلاغة: 3 / 91.

97. نهج البلاغة: 3 / 117.

68. دستور العلماء: 2 / 180.

69. نهج البلاغة: 3/ 96.

70. نهج البلاغة: 3 / 92.

71. نهج البلاغة: 3 / 118.

72. نهج البلاغة: 3 / 95.

73. البلاغة: 3 / 96.

74. نهج البلاغة: 3 / 97.

75. نهج البلاغة: 3 / 97.

76. نهج البلاغة: 3 / 102.

77. نهج البلاغة: 3 / 105.

78. ينظر: الحجاج في كتب الردود النقدية - الفلك الدائر على المثل السائر أنموذجا، صالح المغرة:

ص: 562

12.

79. الحجاج أطره ومنطلقاته من خلال مصنّف في الحجاج، الخطابة الجديدة لبيرلمان وتيتكا، عبد الله صولة، ورد ضمن أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم: 299.

80. البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري: 465 - 468.

81. ينظر: التداوليات وتحليل الخطاب، د. جميل حمداوي: 24 - 25.

82. ينظر: الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، نعيمة يعمران: 28.

83. نظرية الحجاج في اللغة، شكري المبخوت، ضمن كتاب: (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): 377.

84. ينظر: تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، آمنة بلعلي: 117.

85. ينظر: الخطاب الحجاجي أنواعه وخصائصه - دراسة تطبيقية في (كتاب المساكين) للرافعي، هاجر مدقن: 116.

86. ينظر: في بلاغة الخطاب الإقناعي - مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، د. محمد العمري: 71.

87. الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي: 93.

88. نهج البلاغة: 3 / 94.

89. نهج البلاغة: 3 / 115.

90. ينظر: الحجاج في اللغة، شكري المبخوت: 363.

91. في بلاغة الخطاب الإقناعي: 72.

92. نهج البلاغة: 3 / 94 - 95.

93. دراسات في الحجاج، سامية الدريدي: 123.

94. بلاغة الإقناع - قراءة حجاجية في خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، مجلة العميد، السنة الثالثة، المجلد الثالث، العدد الأول، 2014 م: 38.

95. نهج البلاغة: 3 / 91.

96. سورة المنافقون: 8.

97. سورة محمد: 7.

98. نهج البلاغة: 3 / 91.

99. سورة يوسف: 53.

100. نهج البلاغة: 3 / 103.

101. ينظر: الحجاج في المثل السائر لابن الأثير، 29.

ص: 563

102. ينظر: المصدر نفسه: 29.

103. نهج البلاغة: 3 / 115.

104. نهج البلاغة: 3 / 113.

105. المصدر نفسه: 3 / 98.

106. المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة: 2 / 350.

107. ينظر: الجدل في القرآن الكريم - فعالية في بناء العقلية الإسلامية: 169.

108. الحجاج أطره ومفاهيمه، عبد الله صولة: 323.

109. ينظر: الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير: 29.

110. نهج البلاغة: 3 / 92.

111. نهج البلاغة: 3 / 99.

112. نهج البلاغة: 3 / 108 - 109.

113. نهج البلاغة: 3 / 103 - 104.

114. الراعي والرعية، توفيق الفكيكي: 78.

ص: 564

المصادر:

* القرآن الكريم.

* الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط، 1974 م.

* أساليب النثر الفني، لطيف محمد العكام، مطبعة الآداب، النجف، ط 1، 1974 م.

* استراتيجيات الحجاج في رسائل الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، (بحث غير منشور)

* استراتيجيات الخطاب - مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي - ليبيا، ط 1، 2004 م.

* أسرار البلاغة، أبو بكر عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 ه)، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاکر، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة، د.ت.

* البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت: 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1، 1957 م.

* بلاغة الإقناع - قراءة حجاجية في خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، مجلة العميد، السنة الثالثة، المجلد الثالث، العدد الأول، 2014 م.

* البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2005 م.

* تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر و بيان إعجاز القرآن، ظافر ابن أبي الإصبع العدواني المصري (ت: 654 ه) تقديم وتحقيق: الدكتور حفنی محمد شرف، الجمهورية العربية المتحدة - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، د.ت.

* تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، آمنة بلعلي، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 2002 م.

* التداوليات و تحليل الخطاب، د. جميل حمداوي، شبكة الألوكة.

* التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي محمد جاد، قدم له: محمد السيد الجلیند، دار الميمان للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 2009 م.

* التوجيه الأدبي، طه حسين، أحمد أمين، عبد الوهاب عزام، محمد عوض محمد، المطبعة الأميرية،

ص: 565

القاهرة، 1950 م.

* الجدل في القرآن الكريم - فعالية في بناء العقلية الإسلامية، محمد التومي، شركة الشهاب للنشر والتوزيع، باب الواد، الجزائر، د.ت.

* جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي، ضبط وتدقيق وتوثيق: د. يوسف الصميلي، المكتبة العصرية، بيروت، د.ت.

* الحجاج أطره ومفاهيمه، عبد الله صولة.

* الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، حسين بوبلوطة، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحاج لخضر - باتنة، الجزائر، 2010 م.

* الحجاج في النص القرآني - سورة الأنبياء أنموذجا، إيمان درنوبي، رسالة ماجستير، جامع-ة الحاج لخضر - باتنة، الجزائر، 2013 م.

* الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، نعيمة يعمران، (رسالة ماجستير) جامعة مولود معمري، الجزائر، 2012 م.

* الحجاج في كتب الردود النقدية - الفلك الدائر على المثل السائر أنموذجا، صالح المغرة، رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، جامعة مولود معمري، 2012 م.

* الخطاب الحجاجي أنواعه وخصائصه - دراسة تطبيقية في (كتاب المساكين) للرافعي، هاجر مدقن، (رسالة ماجستير) جامعة ورقلة - الجزائر، 2003 م.

* الخطابة الإسلامية، عبد العاطي محمد شلبي، عبد المعطي عبد المقصود، المكتب الجامعي الحديث، 2006 م.

* الخطابة، أرسطو، الترجمة العربية القديمة، تر: عبد الرحم بدوي، دار القلم، بيروت، 1979 م.

* دراسات في الحجاج، سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، أربد - الأردن، ط 1، 2009 م.

* دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (المتوفى: ق 12 ه)، عرب عباراته الفارسية: حسن هاني فحص، دار الكتب العلمية - لبنان / بيروت، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

* الراعي والرعية، توفيق الفكيكي، صححه وضبط متونه: أياد الحسيني، دار الغدير، مطبعة معراج، ط 1، 1429 ه.

* الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، غانم جواد رضا، دار التربية، بغداد، العراق، 1978 م.

ص: 566

* روائع البيان في خطاب الإمام - الجوانب البلاغية واللغوية في بيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رمضان عبد الهادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1423 ه - 2002 م.

* الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (ت: 393 ه) تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م.

* غریب الحديث، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (ت: 224 ه)، تحقيق: د. محمد عبد المعید خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حیدر آباد - الدكن، ط 1، 1964 م: 3 / 137.

* الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (ت: نحو 395 ه)، حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، د.ت.

* فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (ت: 487 ه)، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط 1، 1971 م.

* في بلاغة الخطاب الإقناعي - مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، د. محمد العمري، أفريقيا الشرق، المغرب، بیروت - لبنان، ط 2، 2002 م.

* کتاب الصناعتين - الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري (ت: 395 ه)، تحقيق: على محمد البجاوي و محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، ط 2.

* كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت: 170 ه)، تحقيق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

* الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسی الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفى: 1094 ه)، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بیروت، د.ت.

* لسانیات النص - مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2006 م.

* لطائف الإشارات = تفسير القشيري، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (ت:

465 ه)، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، ط 3، د.ت.

* لمسات بيانية في نصوص من التنزیل، د. فاضل صالح السامرائي، دار عمار، عمان - الأردن،

ص: 567

ط 3، 2003 م.

* مصادر نهج البلاغة وأسانیده، عبد الزهراء الحسيني الخطيب، دار الأضواء، بيروت - لبنان، ط 3، 1985 م.

* المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، دومینیك مانغونو، ترجمة: محمد يحياتن، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، الجزائر، 2008 م.

* المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة العبسي (ت: 235 ه)، تحقيق: کمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، ط 1، 1409 ه.

* المعجم الأدبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بیروت، ط 1، 1979 م.

* المنطق الفطري في القرآن الكريم، محمود يعقوبي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د.ت.

* المنطق، محمد رضا المظفر، انتشارات اسماعیلیان، قم، ط 12، 1925 ه.

* موسوعة کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي ابن القاضي محمّد حامد بن محمد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (ت: بعد 1158 ه)، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية: د. جورج زيناني، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، ط 1، 1996 م

* نظریات في أساليب الإقناع - دراسة مقارنة، د. علي رزق، دار الصفوة، بيروت - لبنان، ط 1، 1994 م.

* نظرية التعليل في النحو العربي بين القدماء والمحدثين، د. حسن خميس سعيد الملخ، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، ط 1، 2000 م.

* نظرية الحجاج في اللغة، شكري المبخوت، ضمن كتاب: (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم) إشراف حمادي صمود، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس، كلية الآداب - منوبة.

* نهج البلاغة، الشريف أبو الحسن محمد الرضي (ت: 406 ه)، شرح: محمد عبده، تصحیح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفكر، بیروت، 1965 م.

ص: 568

المُحتَوَیات

مرجعيات الخطاب الإحالية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر دراسة تداولية

المقدمة...7

التمهيد: الإحالة في الدراسات اللسانية الحديثة...8

وتنقسم الإحالة على قسمين:...9

أولا: مرجعيات الخطاب السياسي...12

ثانيا: مرجعيات الخطاب الاقتصادي...17

ثالثا: مرجعيات الخطاب الاجتماعي...20

الخاتمة:...25

الهوامش...26

المصادر والمراجع...36

أدوات الطلب ودلالتها البلاغية في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر

المقدمة...41

التمهيد...42

أ - العامل الذاتي:...42

ص: 569

ب - العامل السياسي:...43

ج - العامل التاريخي:...43

د - العامل النفسي:...44

المبحث الأول: أسلوب الامر...45

المبحث الثاني: أسلوب النهي...46

المبحث الثالث: أسلوب النداء...48

المبحث الرابع: السمات البلاغية...49

أولا: الايجاز:...49

ثانيا: التوازن التركيبي:...49

قائمة المصادر...51

الهوامش...53

التماسك النصي في رسالة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (العطف والضمير أنموذجًا)

ملخص البحث...57

التمهيد...59

المبحث الأول: العطف...63

المبحث الثاني: الضمير...72

المصادر والمراجع...80

الهوامش...83

ص: 570

أثرُ القَوَائمِ في تَكشيفِ الدَّلالاتِ عهدُ الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأَشْتر أنموذجًا (مقاربةٌ تداوليّةٌ)

المقدمة...89

المطلب الأول: أثر القوائم في الثقافة (مقاربة تداولية)...91

أولاً: القوائم مقاربة تأصيلية:...91

ثانياً: في الاصطلاح:...92

ثالثاً: أهمية القوائم في الثقافة التداولية:...92

المطلب الثاني: القوائم في عهد الإمام عليه السلام (مالك الأشتر) دراسة تطبيقية 95

القائمة الأولى: أعمال الوالي ووظائفه:...97

القائمة الثانية: صفات الوالي والقائد الإيمانية:...98

القائمة الثالثة: قائمة ذخائر العمل الصالح والسعادات:...99

القائمة الرابعة: معايير قبول الأعمال لدى الإنسان...100

القائمة الخامسة: صفات المُبعدين عن المشاورة...101

القائمة السادسة: طبقات الرعيّة:...101

القائمة السابعة: واجبات الجنود ومسؤولياتهم:...102

القائمة الثامنة: صفات الجندي المثالي:...103

القائمة التاسعة: صفات القاضي:...104

القائمة العاشرة: واجبات الوالي تجاه القاضي:...105

القائمة الحادية عشرة: معايير اختيار العمّال:...106

القائمة الثانية عشرة: صفات كُتّاب الديوان:...107

القائمة الثالثة عشرة: أقسام التجار وأهل الصناعات:...108

ص: 571

القائمة الرابعة عشرة: أعمال التجّار الإيجابية:...109

القائمة الخامسة عشر: صفات التجّار السلبية:...109

القائمة السادسة عشرة: أصناف الطبقة السفلى:...110

القائمة السابعة عشرة: مساويء احتجاب الوالي عن الرعية:...110

القائمة الثامنة عشرة: وصايا تعامل الوالي مع البطانة (الحاشية):...111

القائمة التاسعة عشرة: فوائد الصلح المحمود:...112

القائمة العشرون: عواقب سفك الدماء:...112

المطلب الثالث: المقاربات التداولية في قوائم عهد الإمام(عليه السلام):...113

ومن المقاربات التداولية التي نَرْقُبُها في العهد الشريف، ما يأتي:...114

أولاً: المعجم القُرآنيّ والحديثي:...114

ثانياً: قواعد التخاطب اللساني:...118

1 - الافتراض المسبق:...118

2 - القول المُضْمَر:...120

ثالثاً: الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة:...121

خاتمة البحث ونتائجه:...124

مصادر البحث ومراجعه...126

الهوامش...130

صور الانزياح البيانية في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي (رضي الله عنه) (دراسة دلالية)

مقدمة...137

التمهيد...139

نظرة على مدلول الانزياح الدلالي:...139

ص: 572

أولاً: صور الانزياح الدلالي المجازي:...143

1 - العلاقة السببیة:...144

2 - العلاقة المسببیة:...146

3 - علاقة الكلية:...147

4 - علاقة الجزئية:...148

ثانياً: صور الانزياح الدلالي الاستعاري:...150

ثالثا: صور الانزياح الدلالي الكنائي:...153

الخاتمة:...157

الهوامش:...159

المصادر:...161

الثنائیات المهیمنة في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

مقدمة:...165

تمهید...166

مفهوم الثنائيات المهيمنة...166

أولا: الثنائيات:...166

ثانياً: مفهوم المهمینة:...169

المبحث الأول: الثنائیات المتوافقة...170

أولا: ثنائیة الخاص والعام...171

ثانیا: ثنائیة الإجمال والتفضیل:...175

المبحث الثاني: الثنائيات الضدّية...180

ثنائية الحضور والغياب:...181

ص: 573

الخاتمة...186

المصادر والمراجع...187

الهوامش...190

الإشهار في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

الخلاصة...194

المدخل...195

الإشهار...196

معاني مفاهيم العهد...197

جماليات العهد الفنية...203

الخاتمة...208

قائمة الهوامش...210

قائمة المصادر...213

حرمة سفك الدماء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

دراسة تداولية

المقدمة...217

التمهید...219

شذرات لغوية في عهد مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)...219

لماذا سمي بالعهد؟...219

المبحث الأول: مفهوم التداولية في اللغة والاصطلاح...226

المبحث الثاني: حرمة سفك الدماء في العهد دراسة تداولية...229

ص: 574

عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) دراسة تداولية 232

أولاً: الدعوة إلى الصلح...232

ثانياً: حرمة سفك الدماء...236

الخاتمة ونتائج البحث:...239

التوصيات...240

المصادر والمراجع:...241

الهوامش...245

التقابل وسلطة المعنى دراسة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر

مدخل البحث...253

مدخل...254

التقابل اصطلاحا...255

المبحث الاول: تقابل الذوات...257

المبحث الثاني: تقابل الصفات...263

المبحث الثالث: تقابل الشواهد...268

الخاتمة...271

الاحالات...271

المصادر...275

ألفاظ الأخلاق في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية

المقدِّمة...279

التمهيد: مفهوم الأخلاق عند العلماء...281

ص: 575

أولًا: مفهوم الأخلاق عند اللغويين:...281

ثانيًا: مفهوم الأخلاق عند العلماء المسلمين:...282

المبحث الأول: نظرية الحقول الدلالية تأصيلًا وتعريفًا وتطوّرًا...284

المبحث الثاني: الحقول الدلالية في عهد الإمام (عليه السلام)...287

أولًا: ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام):...288

أ - حقل الألفاظ المرتبطة باللين...288

1. الرَّحْمَة...288

2. اللطف...289

3. المَوَدَّة...289

4. العفو والصفح...290

5. الرِّفْق...290

ب - حقل الألفاظ المرتبطة بالعدل:...291

1. العدل...291

2. الإنصاف...291

3. الأوسط...292

4. السَّهْمُ...292

5. قَوَد البَدَن...293

ت - حقل الألفاظ المرتبطة بالصِّدق...293

1. الصِّدق...293

2. الوفاء...294

3. الأمانة...295

ث - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصَّبر...295

1. الصبر...295

ص: 576

2. قلَّة التبرُّم...296

3. كسر النفس...296

ج - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصلة:...296

1. الصلة...296

ح - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالإعانة...299

1. الرِّفد والإعانة...299

2. الرِّعایة...299

ثانيًا: ألفاظ الأخلاق المذمومة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)...300

خ - حقول الألفاظ المتعلقة بالخديعة...301

1. الغش...301

2. الخیانة...301

3. الخَتْل:...301

4. التصنُّع...302

د - حقل الألفاظ المرتبطة بالتعالي...302

1. التَّبَجُّح...302

2. حميَّة الأنف...303

1. النَّخوة...303

2. تصعُّر الخد...303

ذ - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالظلم...304

1. الظلم...304

2. الجور...305

3. الحَيْف...305

ر - حقل الألفاظ المتعلّقة بالخصومة...306

ص: 577

1. الخصومة...306

2. الحقد...306

3. الشنآن...306

ز - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالتحقير...307

1. التحقير...307

2. التعيير...307

س - حقل الألفاظ المتعلّقة بالبخل...308

1. البخل...308

2. الشُحَّ...308

نتائج البحث...309

المصادر والمراجع...311

الهوامش...315

ظواهر اسلوبية في عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

ملخص البحث...325

مقدمة...326

المبحث الأول: اسلوبية الطلب...328

أ - اسلوب الامر...328

ب - النهي:...331

تتحدد الانماط الاسلوبية في ثلاثة انماط:...332

المبحث الثاني: أفعل التفضيل...334

التفضيل في الدرجات حسب القوة...335

ص: 578

المبحث الثالث: البنية الاستعارية...338

خاتمة...344

الهوامش...346

المصادر والمراجع...351

أثر التوازي التركيبي في بنية المفارقة

دراسة نصية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...357

توطئة:...358

التوازي التركيبي:...359

المتوازيات الفعلية...360

المتوازيات الفعلية في سياق الإثبات:...360

المتوازيات الفعلية في سياق النفي:...361

المتوازيات الفعلية في سياق النهي:...364

المتوازيات الاسمية...365

الخاتمة...369

الهوامش...370

جريدة المصادر...372

عهد الامام علي (عليه السلام) للأشتر

قراءة في ضوء نظرية (بيرلمان) الحجاجية

1. الوقائع:...379

2. الحقائق:...380

3. الافتراضات:...381

ص: 579

القیم:...382

الهرمیات:...384

المعاني والمواضع:...386

بعض الخصائص الاسلوبية عند باليرمان واثرها الحجاجي:...390

1. الاطناب:...390

2. التكرار:...391

3. اللفظ الحسي:...392

الهوامش...393

المصادر والمراجع...395

عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة تحليلية تطبيقية

المقدمة...399

المبحث الأول: التحليل البنيوي...401

توطئة...401

المستوى الصوتي:...401

المستوى الصرفي:...403

المستوى التركيبي...404

المستوى البلاغي...405

المبحث الثاني: التحليل السيميائي...408

توطئة:...408

المستوى السطحي...409

ص: 580

1. البنية السردية السطحية:...409

المستوى العميق...411

البنية السردية العميقة...411

المستوى العميق...411

1 - سمیاء العنوان...411

2 - سيمياء الشخصيات...413

أ - الشخصيات الرئيسة:...414

ب - الشخصيات الثانوية:...415

3 - سيمياء الزمان والمكان...418

المبحث الثالث: التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية...419

توطئة...419

سيمياء الصور:...420

الانزياح المعجمي:...421

الانزياح الصرفي...423

الانزياح التركيبي...426

الانزياح البلاغي:...427

الخاتمة...429

الهوامش...430

المصادر...434

ص: 581

السياق الافتراضي والتأويل التداولي قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

ملخص البحث...439

مدخل مفاهيمي: السياق الافتراضي والتأويل التداولي...440

1. السياق الافتراضي:...440

2. التأويل التداولي...442

الخاتمة...456

الهوامش...458

ثبت المصادر والمراجع...461

تقنية الوصف وأثرها في الإبلاغ في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر) دراسة في ضوء النظرية التداولية

المقدّمة...467

التمهيد: تقنيّة الوصف في الخطاب الإبلاغيّ...468

(أوّلاً): تصنيف البشر ووصفهم بشكلٍ عامّ:...470

(ثانياً): تصنیف طبقات المجتمع المدنيّ باعتبارهم (خاصّة وعامة)...472

خاصة الحاكم من الوزراء (المقطع الحالي)...475

أهل الخاصة (المقطع السابق)...475

(ثالثاً): وصف من لا يصلح للمشورة:...476

رابعاً: وصف الجند:...478

خامساً: وصف القضاة:...481

الخاتمة:...484

ص: 582

هوامش البحث:...485

مصادر ومراجع البحث:...487

مبدأ التأدب في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) قراءة تداولية

المقدمة:...491

التداولية:...493

مبدأ التعاون:...494

الاستلزام الحواري:...496

مبدأ التأدب:...497

مبدأ التأدب عند العرب:...498

مراحل التأدب:...500

مبدأ التأدب في عهد الإمام علي (عليه السلام):...506

الهوامش:...513

المصادر والمراجع:...516

حجية الاقناع بالتعليل في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

المقدمة:...521

التمهيد: مفهوما التعليل والرسالة لغة واصطلاحاً:...523

المبحث الأول: في حجية الاقناع بالتعليل وطرائقه:...527

المطلب الأول: حجية الاقناع بالتعليل:...527

المطلب الثاني: طرائق التعليل:...530

ص: 583

المبحث الثاني: موضوعات التعليل في العهد العلوي...553

1 - تعليلات اجتماعية:...534

2 - تعليلات اقتصادية:...535

3 - تعليلات سياسية:...538

4 - تعليلات اخلاقية:...542

المبحث الثالث: استراتيجيات الإقناع بالتعليل في العهد العلوي:...545

توفرها على مبدأ الحجاج:...545

الخاتمة:...558

الهوامش:...560

المصادر:...565

ص: 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.