نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله المجلد 6

هوية الکتاب

أعمال

المؤتر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1211 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشرة: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1211 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشرة: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1)

أعمال

المؤتر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسه و نهج البلاغة ومركز دراسات الكوقة

لسنة 1438 ه - 2016 م

(المحور الأخلاقي وحقوق الإنسان)

الجزء السادس

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني :

WWW.inahj.org

الايميل:

Inahj.org@gmail.com

الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشر (رحمه الله).

الجهة الراعية للمؤتمر: الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 23 - 24 من شهر ربيع الأول

من العام 1438 ه.

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1211 لسنة 2018 م

الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات: 10 مجلد

عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة: مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

الآثار الدّنيويّة للأعمال في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

د.عبّاس إسماعيل الغراويّ

ص: 5

ص: 6

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى ابن عمِّه سيد الوصيين وإمام المتقين، والسلام والتحيات على العترة الطاهرة الأئمة المنتجبين، وبعد.....

تمرُّ على الأمة الإسلاميّة في هذا الوقت ضغوطٌ داخليّة وخارجية، أبرزها التمويه على حقيقة الإسلام؛ فقد ادّعاه من هم أبعدُ الناس عنه، فصار الإسلام مفهومًا يتنازعه أهل الحق والباطل متأرجحًا في نسبته بينهما، ولكن غرابيل الباطل إنْ غیّبتْ وجهَ الشمس فانّها تبقى غرابيل، وهكذا ولله الحمد فإنّ العين البصيرة يمكنها التّمييز ورؤية الحقيقة؛ ليعود الإسلام الحقيقي إلى سنام القيادة بين الحين والآخر بالرغم من كل الهجمات. ولأجل أنْ يأخذ مكانه الحقيقيّ دومًا كان لا بد من تداول مناهج رؤسائه الحقيقيين المتمثلة بالنّبي وآله (عليهم الصلاة والسلام)، ويأتينا نهج الإمام المرتضى (عليه السلام) نهجًا ناصعًا في سبيل إحياء الحق، ففيه ما فيه من كنوز تُزیّنُ وجهَ هذا الزّمان وكل زمان بالحقيقة الغرّاء.

وأرى أنّ من الأمور التي لم يُشَرْ إليها في ذلك النّهج هو أنّ وراء ما نعمل من أعمال تأثيرات دنیويّة فضلًا عما لها من جزاء أخرويّ، ولعل أغلب النّاس إذا أدرك أنّ وراء ما يفعله من عمل جزاءً عاجلًا فانّه سوف يتوانى عن ارتكاب ذلك الفعل، وقد أبان الإمام في كلامه المجازاة الدنيويّة على ما نعمل لأجل اجتنابها، فحتى الدنيا التي يظنها الإنسان المُنکِر محلَّ سُعداهُ قد تعود عليه بالويلات إذا ارتكب المحذرورات.

ومن هنا وفي الوقت الذي ابتعد فيه كثير من الناس عن خط الإسلام الحقيقيّ باتت

ص: 7

الضرورة في التذكير أمرًا لا بدّ منه، وربّما في هذا العمل شيء من التساؤلات التي تُطرح: لماذا هذه التعاسة مع ما لدينا من مال وفير؟ لماذا هذا البلاء؟ لماذا تلك المصيبة؟...

أن السعادة الحقيقة تكمن في معرفة الإسلام الصحيح وتطبقيه بصورة صحيحة، وهو ما حرص عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه وأفعاله حتى رأينا نهج البلاغة أشبه بصيدليّة مجانيّة تنفع النّفس، وتريح الإنسان، وتبني مجتمعًا رفيعًا رائعًا نظيفًا من الشوائب المكدرة للحياة، يقول بعضهم: ((وما نراه في عصرنا الحاضر من أمراض عضويّة كثيرة كالسكتة القلبيّة والدماغيّة والإصابة بمرض السّكر وضغط الدم وقرحة المعدة والأمعاء وأمراض السرطان المختلفة وأمراض الدّم والقلق والاضطراب النّفسيّ والأرق الشّديد ما هي إلا إفرازات طبيعيّة لمشاكل العصر التي كبّلت الإنسان المعاصر بمختلف الأمراض النفسيّة؛ لذا يجب علينا أنْ نهتمّ بهذا الجانب الحيويّ ونتبع إرشادات وتعاليم ومواعظ الإمام علي (عليه السلام)))(1) المتجلية في خطاباته الرائعة؛ لذا كان هذا البحث: (الآثار الدنيوية للأعمال في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)) والاكتفاء بهذا العهد من كلامه (عليه السلام) كونه أنموذجًا صالحًا يمكنه الإدلاء بتلك الآثار، ويمكنه أن يترجم أنه لأجل الحصول على الآخرة فعلينا بنهج أمير المؤمنين، ولأجل الحصول على الدنيا فعلينا بنهج أمير المؤمنين.

وقد قسم البحث على مبحثين وخاتمة بينت أبرز النتائج.

أبان المبحث الأول الآثار الدنيوية للأعمال الصّالحة، وأعرب عن أنّ الإثابة لا تتوقف على المستوى الأخروي؛ ففي الدنيا أيضًا يكون شيئًا من تلك الإثابة، فالله واسع الرّحمة عظیم المنال، کریم بعباده.

أما المبحث الثاني فأعرب عن الآثار الدنيويّة للأعمال السّيئة، وقد كشف عنها مستفيدًا من القرآن الكريم والسنّة والتّراث التّاريخي في تثبیت مفاصل المبحث.

ص: 8

والبحث إذ يؤيد أن البلاءات قد تكون بسبب من أعمالنا فهذا لا يعني التّعميم، بل المراد انها قد تكون سببًا، وليس من الضرورة أنْ يكون وراء كل بلاء نوع من الآثام، فالله قد يختبر عباده لا لأجل أخطائهم، وانما لأجل اصطفائهم، والله في أمره شؤون.

وهناك نقطة مهمة في البحث، وهي أنه اعتمد الإيجاز بسبب ضيق المقام، وطلبًا للتسهيل ومن هنا كان يحيل على الدراسات الأخرى ويكتفي ببعض الأمثلة، وقديمًا قالَ الجاحِظُ (ت 250 ه): ((وقد يُكتَفى بذِكْرِ القَليلِ حتّى يُستدَلَّ بهِ على العنايةِ الّتي إليها يُجْرى))(2).

ونقطة أخرى أرى فيها أهمية بالغة، وهي أن هذا العهد المبارك وإن كان موجهًا إلى (مالك الأشتر) إلا أنّ المراد كل من تسیّد أو نُصِّبَ على جماعة بدليل قوله (عليه السلام) للأشتر: ((لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا))(3)، فكلنا ندرك أنْ مالكًا وإنْ قيل له ذلك فهو ممن ليس يتبع الهوى، فقد رآه الامام وجربه تلك السنين وعرف صدقه، ولكن هذا من باب (إيّاك أعني واسمعي يا جاره)(4)، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين نفسه في مالك حين جاءه (عليه السلام) خبر مقتل مالك (رضوان الله عليه) بالسم؛ إذ قال: ((مَالكٌ وَمَا مَالِكٌ! وَاللهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً، [وَلَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً] لاَ يَرْتَقِيهِ الْافِرُ، وَلاَ يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ))(5)، والفند هو الجبل العظيم كناية عن مكانته ورفعته وتقدمه على الآخرين في السلوك القويم والخصال الحميدة. ومن هنا لقد كان الإمام في كتابه هذا موجهًا كلّ من يتلقى هذا الكلام العظيم ممن يستحق عليه الوقوع في (الهوى) فعلا. فالعبرة اذن في عموم اللفظ لا في خصوصه، وبهذا يكون الكلام أكثر تأثيرا في المتلقي، فالخطاب غير المباشر يكون أكثر قبولًا وامتثالًا من المباشر بحكم أنّ النفس تأنف من القيودات الإرشادية إذا تعلق الأمر بها مباشرة، وكأنها على خطأ، لكن اذا كان ذلك

ص: 9

الخطاب موجها إلى غيرها، فانّها ستمتثل خصوصًا إذا كان المخاطب ممّن قد علا شأنه بين الناس على النحو من مالك الأشتر أو على النحو من الإمام الحسن (عليه السلام) مثلما بيّن في هامش سابق.

وأخيرا ختم البحث بخاتمة بيّنت أبرز النّتائج التي وصل إليها البحث مع اقتراح ما يمكن الاستنارة منه من جراء البحث.

وختامًا نقول: ربنا اجعل هذا العمل خطوة في سبيل الوصول إلى طريق الذين «دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (سورة يونس: 10).

المبحث الأول: الآثار الدنيوية للأعمال الصالحة

يتباین مفهوم السعادة بحسب المرجعية المعرفيّة للإنسان، فالمسلم الحقيقيّ يراها تكمن في الآخرة مع أنّه لا ينسى نصيبه من الدنيا، ويراها المادّيّ انها مقتصرة على السعادة الدنيوية، وفي جميع الأحوال فالدنيا قد تكون عامل مشترك بين الرؤيتين، وإن اختلفت كيفية الرؤية، وأيا كان الأمر فإننا نجد الأعمال الصالحة تهيئ له ذلك المبتغى في الدنيا فضلا عن الآخرة.

يمكن القول: إنه لا شك أن السعادة الحقيقية هي التي لا تجعل صاحبها يندم، بل توفر له العيشة الهنيئة وراحة البال في قادم أيامه، وهو ما نراه في اقتناء سبيل الإسلام ؛ فهو لا يؤكد الفضل الأخروي دون الدنيوي، بل يؤكدهما معا.

إن لكل عمل صالح يقوم به الفرد أثرًا على ذلك الفرد ويحقق له مقدارا من السعادة، فهو يأخذ بيده نحو الحياة الكريمة، وإن لم يشعر بذلك، ومن هنا قد نرى أنّ المؤمنين الخُلَّص يعيشون بسعادة مع ما فيهم من بلاء وعناء، يقول الإمام علي (عليه السلام) في مقدمة عهده

ص: 10

إلى مالك الأشتر: ((أمرهُ [أي إنّ أمير المؤمنين أمر مالكًا] بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها))(6)، فالسعادة كلّ السعادة تكون باتباع التقوى، ف ((لو أن العالم عرف التقوى وقام بواجبها لانطفأت ثورة الشرّ، وساد السلام في ربوعه))(7)، فبالتقوى تتجسد ((روح الأخوة العامّة في كل العلاقات الاجتماعيّة بعد محو ألوان الاستغلال والتسلّط، فا دام الله سبحانه وتعالى واحدًا ولا سيادة إلّا له، والنّاس جميعًا عباده ومتساوون بالنّسبة إليه، فمنَ الطّبيعي أنْ يكونوا أخوةً متكافئينَ في الكرامةِ الإنسانيّةِ والحقوقِ كأسنانِ المشط... ولا تفاضلَ ولا تمييزَ في الحقوق الإنسانيِة))(8)، هكذا هو ما تعمله التقوى في أهلها، إنّنا بالتقوى نكون قد امتلكنا المفتاح الأوحد الّذي يفتح مغاليق السّعادة للفرد(9)، وبوسائلها: الصّلاة والصّوم والزّكاة... يعود الفرد بالسّعادة المطلقة لا في الآخرة فقط بل حتى في الدنيا، فلا تكترث لإنسان يعيش خليعًا منها وهو يدّعي أنّه سعيد، بل هو تعيس من الداخل وإن ادّعى ما ادّعى.

نعم ان الفرائض (الصلاة والصوم والزكاة...) والسنن مليئة بالجواهر التي تبعث على السّعادة والطمأنينة، ونأخذ من ذلك نماذج على سبيل التمثيل لا الحصر طلبا للإيجاز.

لقد حصر الإمام السعادة بها فقط؛ فقال (عليه السلام) : ((لا يسعد أحد إلا باتباعها))، فمثلا الصّلاة عمود الدين وهي أيضًا عمودُ السّعادة الدنيوية بفوائد تصعب الإحاطة بها(10)، فمن فوائدها:

1 - انها ذات فائدة نفسيّة للفرد؛ إذ إنّ تاركها يعاني من الضجر اللاإرادي، ان الصلاة كفيلة بإراحة مؤدّيها، فهي موطن الذّكر الله تعالى وذكره (عز وجل)سبب الاطمئنان، قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد: 28).

2 - انها تبعث على قوة الشخصية؛ فهي ((تخلق الإرادة والعزة والكرامة والحرية في

ص: 11

النفس؛ فالمصلي حينما يتوجّه إلى الله في صلاته، ويقول: (الله أكبر) يسجّل ضآلتهُ وضآلةَ كل قوة في هذا الوجود أمام قوة الله تبارك وتعالى))(11)، وذلك كفيل بخلق إنسانٍ صالحٍ قادرٍ على النّجاة من وساوس الشيطان شريطة أنْ يكون مستمرًّا في خشوعه بصلاته، وأنْ لا تكون كنقر الغراب؛ وذلك لأن ((الصلاة هي الاصرار الواعي والمعالجة المستمرة للنفس البشرية من أجل أن تتحرر من الاستغراق في المتاع القريب وتوسع أفقها الزماني والمكاني لتكون على مستوى حاجاتها الفعلية والمستقبلية، على الأرض وفي الآخرة، إنها استمداد المحدود من المطلق حياة وسعة في أبعاد ذاته وزمانه ومكانه. وهي بالتالي ظاهرة من معالم الحضارة المتميزة التي يدعو الإسلام لبنائها على الأرض ممتدة بأفقها إلى جميع الناس وإلى مستقبل الأجيال على الأرض، ومستقبل الناس في الحياة والآخرة))(12).

بل ينبغي بنا ان ندرك ان الفضل لكل مكونات الصلات سواء أكانت أركانا أم غير أركان وحتى لملحقات الصلاة، فهذه لها ما لها من جنبات صحية مفيدة للجسم، فهناك ((الاستيقاظ المبكر وعلاقته بصحة الرئة ونقاء الدم. والنوم المبكر وعلاقته بصحة الجسم بشكل عام. والتطهر بأنواعه وعلاقته بصحة الجسم بشكل عام. والسواك المستحب قبل كل وضوء وعلاقته بصحة الفم والمعدة. والاستنشاق المستحب قبل كل وضوء ثلاث مرات وعلاقته بصحة الأنف والرأس. وغسل الأطراف وعلاقته بصحة الأطراف والجسم. والوقوف للصلاة باطمئنان وعلاقته بصحة الأعصاب والركوع الذي يتكرر في الأقل 17 مرة يوميًّا وعلاقته بصحة العمود الفقري وجهاز الهضم. والسجود الذي يتكرر في الأقل 34 مرة يوميًّا وعلاقته بصحة الجهاز الهضمي ودورة الدم في الرئة والرأس. والسجود على الأعضاء السبعة الجبهة والكفين والركبتين وإبهامي الرجلين وعلاقة ذلك بصحة الشرايين. وجلسة التورك المستحبة في الصلاة، وهي أن يجلس المصلي

ص: 12

على فخذه الأيسر واضعا ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وكراهة الجلوس على القدمين. وعلاقة ذلك بسلامة الفقرات والجهاز الهضمي. وكراهة افتراش الساعدين حال السجود (کما تجلس السباع) وعلاقته بشرايين وعضلات الأطراف))(13).

هذا الأمر مع الصلاة أما إذا جئنا الى الصيام فهو كذلك يفيد كثيرا في الدنيا مثل ما هو مفيد جدا لنيل أجر الآخرة، فهو علاج عند نزول المصيبة، ف((عن أبي عبد الله (علیه السلام)...قال: إذا نزلت بالرجل النازلة والشديدة فليصُمْ؛ فإن الله (عز وجل) يقول: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ» يعني الصيام))(14)، فهذه شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) في أن الصوم به تفتح المصائب، فهو المنفذ الذي يهرع اليه صاحب المصيبة، فالله سيخففها، بل يميحها بفضل صيامه.

ولا يكتفي الامر بحل المصائب، بل الصوم طريق لتقوية الإرادة، وقد أدرك ذلك ممن ليسوا هم على طريق الإسلام، يقول العالم الفرنسي جبهاروت: ((إن رجال الدين أدركوا تأثير الصوم في تقوية الإرادة وسلامة الإنسان من سيطرة حواسّه، فجعلوا الصوم في مقدمة رياضاتهم، ونحن قد وجب علينا - لتقوية إرادتنا - أنْ نمارس الصوم، إذ قد ثبت تأثيره في ذلك فيما لا يستطيع دحضه، وناهيك هذا من سعادة في الحياة وسبب لنيل أقصى غايات المجد))(15)، ها هو يؤكد فضيلة الصوم في تحقيق السعادة وفي نيل المجد.

بل ان في الصيام زيادة الطمأنينة الروحيّة وانتشار الألفة بين العوائل والأصدقاء، وبه تقل المشاكل الاجتماعية(16).

الفوائد الاجتماعية والنفسيّة للصوم وهناك فوائد فكريّة وتنويرية، فقد نقل أن الفرد: ((إذا صام جفّت الرطوبات التي هي علة النسيان والبلادة وقلة الفهم... فإذا صام وجاع وعطش زاد فهمه وحفظه... وذهب عنه الكسل في العبادة وخفّ جسده لفعل الطاعات وانكسرت نفسه عن الشهوات والخصال الذميمة كالحسد والغضب

ص: 13

والشهوة والتكبر والبغي والعدوان وطول الأمل ونسيان الموت والآخرة))(17).

وهناك أيضا فوائد صحية كثيرة للصوم ترجمها قول النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله): ((صوموا تصحوا))(18)، أي تحقيق الصحة بصورة مطلقة ولشتى الأمراض حتى يمكن القول: إنّ الصوم هو الجرعة الوحيدة التي تنفع لعلاج مئات الأمراض، يقول الأستاذ عبدالرزاق نوفل: ((إن الصوم يذيب أيّة أورام صغيرة في أوّل تكونها، ويمنع تكوين الحصوات والرواسب الجيرية؛ إذ يحللها إلى أجزاء صغيرة))(19)، ها هو علاج بلا مواد كيمياوية أو أدوات تشريحية أو مسكنات، إنه علاج بلا ثمن ولا آثار جانبيّة.

ويقول العلامة الشيخ محمد علي الزهيري: ((إن الصيام يصفي الدم من الفضول المضرّة ويعين (الهاضمة) ويريحها في عملها المتواصل، ويجفف الرطوبات من المعدة وغيرها من الجسد ويُخرج من العضلات والأعضاء والأغشية والشرايين والأوردة وجميع أجزاء البدن كل ما يعيقها عن عملها))(20)، فها هو طبيب داخلي يعالج من دون أن نشعر.

ويقول الدكتور محمد الظواهري: ((إن كرم رمضان يشمل مرض الأمراض الجلديّة؛ إذ تتحسن بعض الأمراض الجلديّة بالصوم... إذ إن الامتناع من الغذاء والشراب مدة ما تقلل من الماء في الجسم والدم، وهذا بدوره يدعو إلى قلته في الجلد، وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المعدية والميكروبية))(21).

نفهم مما سبق أن الصوم طبيب داخلي من جهة ومن جهة أخرى فهو ليس مختصا بمرض واحد بل بأمراض متعددة، يقول الأستاذ ملفادن: ((ان تسعين بالمئة من الأمراض التي تنتاب الجنس البشري يمكن اتقاء شرها بواسطة الصوم))(22)، ومن هذه: خفض ضغط الدم وخفض نسبة السكر والدهون في الجسم وتخفيف أعراض عجز القلب ويقلل حساسية الأمعاء للمواد الغذائية ويساعد على سقوط الديدان من الأمعاء

ص: 14

ويعمل على خفض نسبة اليوريا في الدم وهو استراحة مؤقتة للجهاز الهضمي وفيه فائدة انه يخفض ارتفاع ضغط العين (الماء الأسود)، ويقلل سلس البول، ويساند في الوقاية من مرض تصلب الشرايين بسبب انخفاض نسبة الدهون في الدم، ويفيد في علاج التهاب القولون وعلاج التهاب المعدة والمريء وعلاج التهاب الكلية المزمن الحابس للصوديوم وغير ذلك كثير من الفوائد الصحية(23).

ولا يقف الامر على الصلاة والصوم بل كذلك مع العبادة المالية (الزكاة والخمس)، فإذا ما جئناها وجدناها خير علاج لمعالجة الفقر(24) علاجا يندر ان نجد مثله عند الآخرين، فهي عندنا سبب للرزق، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((فَرَضَ اللهُ الايمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ))(25)، بل ان هناك روايات كثيرة تؤيد أن فضيلة الانفاق تعود على صاحبها بالرزق الوفير؛ فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال ل ((محمد ابنه: يا بني، كم فضلَ معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون دينارا، قال: اخرج فتصدق بها، قال: إنه لم يبق معي غيرها، قال: تصدق بها فان الله يخلفها، أما علمت أن لكل شيء مفتاحًا، ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدق بها، ففعل فما لبث أبو عبد الله (عليه السلام) عشرة أيام حتى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار، فقال: يا بني، أعطينا لله أربعين دينارا، فأعطانا الله أربعة آلاف دينار))(26)، ويذكر السيد دستغيب أكثر من رواية تبين الفضل الدنيوي للإنفاق في الدنيا قبل الآخرة(27).

ان الانفاق سبيل لتحقيق الكرامة الاقتصادية بين أطياف المجتمع، ولا شكّ أنّ ((الكرامة الاقتصاديّة تورث الكرامة الاجتماعيّة))(28)، إي إنّه بما يحصل عليه الفقراء أموال سيعملون به على توفير مستلزماتهم، فيغدون لذلك طبقة مثمرة في المجتمع، وهذا يقود الفقير أو المسكين إلى أن يكون إنسانا حيويًّا. أما إذا ترك الفقير من دون عَوِن

ص: 15

فإن هذا أول التعطيل لفئة كبيرة في المجتمع، بل ربّما كان فقرُ الفقير في المجتمع سببًا لأنْ يقوده إلى أنْ يكون إنسانًا عدائيًّا، والعدوانيّة هذه تنعكس على سائر طبقات المجتمع فانعدام الأمن يقود إلى انعدام الرزق وتوقف السوق، بل توقف التقدم، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ» (البقرة: 126)، فقدّم الأمن على الرزق؛ لأنّ الثاني يقوم على تحقق الأول. إن شيوع الأمن يعني شيوع الحياة. وذلك لأن مساعدة الفقراء والمساكين لا تقف على الفرد المساعَد فقط بل على البلد برمته؛ لذا وجب على البلد الذي يريد ان يكون عزيزًا مصائًا قويًّا مقدرًا وجب عليه أن يعتني بالطبقة المعدمة من الارامل والايتام والمساكين.

ولا ننسى أن فضل انفاق المال بالزكاة أو الخمس انما فائدته للارض بانها ستكون معطاءة، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((وجدنا في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة وإذا طففت المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثار والمعادن كلها))(29).

وهكذا الأمر مع سائر الفرائض والسنن كالحج(30) مثلا، فكلها فوائد بفوائد للفرد وللمجتمع الإسلامي، ونكتفي بهذا المقدار في تحليل قول أمير المؤمنين بوجوب ((اتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها))، فهذا الشطر وحده بحاجة إلى مؤلف، بل إلى مؤلفات ومؤتمرات، تتمركز في بيان فضل الفرائض والسنن.

ونتحول إلى حديث آخر للإمام يعطينا به (عليه السلام) قاعدة عامة في التعامل مع الناس وخصوصًا ممن هم تحت سيطرتنا أو تصرفنا، يعطينا الإمام قاعدة نجني في تطبيقها أكناف الرحمة فنعود نرفل بالهناء والسرور؟ هذه القاعدة تتمركز في أن نحتمل

ص: 16

ما يصدر من تلك الطبقة الدُّنيا من خرق أو عيّ وعلينا أنْ لا نتضايق منهم أو أنْ نأنف، وعندها سنكتنف رحمة الله على مصراعيها، فها هو (عليه السلام) يقول لمالك، ويعني بمالك كل من يسمعه من ذوي السلطة وأنى كانت تلك السلطة، يقول (عليه السلام): ((ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونحّ عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته))(31).

فعلى المعلم أنْ يعي ذلك اتجاه تلاميذه، وعلى المدير أنْ يتسامح مع موظفيه، وكذا على الضابط أن يتفهم ذلك عند تذبذب بعض جنوده، وعلى الأب أن يتوانى عن أخطاء أبنائه بعض الشيء، ولا يكون عليهم سيفا قامعًا يزهقهم من الدّنيا عند أدنى خطأ... وهكذا...

ان هذا الفعل العلوي نتيجته انك ستنجح في عملك وينجح ممن هم تحتك، بل سينجح المجتمع جميعه في الآخر. بنيل رحمة الباري (يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته).

ويقول الامام (عليه السلام) في بيان الاجر الدنيوي للصلح الذي يكون مدعمًا برضا الله يقول: ((ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك والله فيه رضى، فإنّ في الصلح دعةً لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادكَ))(32)، وهنا يبيِّنُ عاقبة الصلح المرضي لله بأنه دعة للجنود، أي راحة لهم وتسهيل عليهم، بل فيه راحة الوالي وأمن البلاد، فالبقاء على الحرب نتيجته مزيد من الخسائر للمنهزم، بل حتى للمنتصر، وهذا يدل على سعي الإسلام المتمثل برجُلِه الفذ أمير المؤمنين (عليه السلام) يدل على انه إسلام الحياة والتسامح؛ فهو لم يرد الحروب إلا إذا أجبر عليها(33) لِما للحروب من مضار ومساوئ في جميع الأحوال، فقد ثبت أنّ ((من الآثارِ النّفسيّة الّتي لا تخفى على العامّة والخاصّة من المتخصّصين لعلم النّفس والطّبّ النّفسيّ أنّ الحروب تنشر ثقافة الخوف والقلق والفرار ممّا يعطّل عند الأجيال التي تعاصر الحرب كيفيّة التّواصل مع الحياة بشكل جيّد، وقد

ص: 17

يمتدّ التأثير لبقيّة حياتِهم فيها بعد))(34)، فكيف يكونُ الأمر إذنْ مع من فقدوا عزيزًا وتُرِكوا بلا مُعيلٍ ولا والٍ؟! لا شكّ أنّ هذا يُبعد الطمأنينة من قلوبهم ويبعث على التوتُّر والاضطراب، ومن المتوقّع ((أنّ العنف الأسريّ يزداد في ظل ظروف عدم الاستقرار))(35)، ومن هنا كانت الدعوة الى الصلح اذا اكتنف رضا الله.

نخلص من هذا أنّ الأفعال الحسنة تقود إلى حياة حسنة في الدنيا وثواب وافر في الآخرة انها تقود الى السعادة في الدارين.

المبحث الثاني: الآثارالدنيوية للأعمال السيئة

ان اقتراف الأعمال السيئة ينتج طائفة من الآثار الدنيوية الطالحة التي تعود على الفرد بالمضرة الجسيمة أعاذنا الله منها، وذلك ل((أنّ التمسك بالدين وما يرافقه من استقرار روحي ونفسي له فوائد عائليّة واجتماعية لا تحصى وبالعكس فإن الابتعاد عنه سيوقع الإنسان في مشاكل اجتماعية ونفسية وصحيّة وصدق الله العظيم: «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»))(36)، (آل عمران : 182) (الأنفال: 51).

وقد مر علينا النص ((أمرهُ [أي إنّ أمير المؤمنين أمر مالكًا] بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها))(37)، أي إنّ الشقاء كل الشقاء يكون مع ترك الفرائض والسنن، فإذا كنا رأينا الصلاة قوة للنفس وللإرادة وللحياة السليمة، ورأينا الصوم مصدر السلامة النفسية والفكرية والصحية، فإنّ عكس ذلك يعني الضياع في مستويات حياتية متعددة، بل لا يقف الأمر على تارك الصلاة فهناك مضار حتى لمن تهاون بصلاته، ذكرها النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) بكلامه، فقد روي ((عن سيدة النساء فاطمة

ص: 18

ابنة سيدة الأنبياء صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وعلى أبنائها الأوصياء أنها سألت أباها محمدا (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة: ست منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره. فأما اللواتي تصيبه في دار الدنيا: فالأولى يرفع الله البركة من عمره ويرفع الله البركة من رزقه ويمحو الله (عز وجل) سياء الصالحين من وجهه وكل عمل يعمله يوجر عليه ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين))(38)، واكتفينا بالآثار الدنيويّة التزامًا بمطلب البحث الذي يصب على الآثار الدنيويّة.

نعم لقد تبينت العواقب السيئة للمرتكب سوءا من القرآن الكريم نفسه، فقد قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» (الشورى: 30)، وقد أكد القرآن ذلك في غير موضع: «فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا» (النساء: 62) وجاء أيضا: «وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (القصص: 47).

إنّ الأعمال السّيئة بصورة عامّة مصدر التّعاسة والشقاء، ولا سيّما الأمر مع الدماء، فهي سبب ضياع الإنسان، يقول الإمام علي (عليه السلام) في عهده للأشتر (رضوان الله عليه): ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقِّها. والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة.فلا تقوينَّ سلطانك بسفك دم حرام؛ فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله))(39)، فنقمة الله على القاتل تكون في الدنيا قبل الآخرة، يعيش مهموما زائل النعمة حتى إذا كان سلطانا

ص: 19

متسلطًا فإن ذلك مما يُضعف سلطانه، وليس مثلما يتصور بعضهم أنّه بفعله هذا يديم ملكه، نعم قد يستقيم له الأمر بعض الشيء، ولكن ليس إلى الأبد، فوليّ صاحب الدم لن يسكت عن دمه، والله لن يقبل بذلك الفعل الشنيع، فربما أمهل لكنه لا يُهمل. وإذا قرأنا التاريخ رأينا أن الذين تورطوا بالدماء أن أغلبهم لم يخرج من الدنيا إلا وهو يرى نفسه بأم عينه معروضة لسفك الدماء، خذ ما حدث مع قتلة الإمام الحسين أو ما حدن الحجاج (لعنه الله) الذي عرف بشغفه بسفك الدماء، خذ ما حدث مع ابن الزيات... والقائمة تطول.

نتمنى أن يدرك الناس مغزى ذلك في هذا العصر في وقت شاعت فيه الاقتتالات العشائريّة فيما بينها في كثير من الأماكن بسبب ضعف العامل الديني، وكأنهم نسوا أن القتل لا يحرمهم من نعيم الآخرة فقط، بل حتى يبعد عنهم الرفاه في الدنيا لتؤول عاقبتهم في الآخر إما إلى التعاسة، وإما إلى مثل ما ارتكبوه وهو (القتل).

ومن الآثار الدنيوية للأعمال السيئة ما جاء في (التكبر) في قوله (عليه السلام) الذي يجسد أنّ على الإنسان أن يعرف حقيقة نفسه وأن يتعامل بها بالشيء الذي أراده الله لها، وهو العبودية لله تعالى، أما إذا أعطاها أكبر من شأنها فانّه قد وضع قدمه في الطريق الخاطئ، وعرضها للمهالك والهنات، وختم عاقبته بالفشل والمهانة، يقول الإمام (عليه السلام): ((إياك ومساماة الله في عظمته والتشبّه به في جبروته، فإن الله يذلُّ كل جبار ويهين كل مختال))(40)، هذه الرسالة لكل من تجبّر، لكل من تسنّم منصبًا ونسيَ حقيقة نفسه، وراح يتكبر ويتعالى ويختال على الآخرين، ان من كان كذلك فالذلة والمهانة سبيله. قد تقول لي إن هذا بالآخرة فقط، والجواب انا لو فتشنا التاريخ لرأينا الأغلب فيه كان الذلة في الدنيا قبل الآخرة.

زد على ذلك ان تكبره يحرمه من الإدارة النّاجحة ويمنعه من التصرف الصحيح

ص: 20

بسبب خيلائه وتغطرسه(41).

ومن الأمور السيئة التي أبان الإمام عاقبتها الدنيوية (حب المدح بغير محله)، فالنفس تستطيب لكثرة المدح بما يخالف الفطرة السليمة؛ مع أنها إذا مدحت جرّ بها هذا إلى الزهو والفتور عن أخطائها، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((والصقْ بأهلِ الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرةَ الإطراء تُحدِثُ الزّهوَ، وتدني من الغِرّة))(42)، وهذه القاعدة للأسف قليلة الاستعمال جدًّا في أمتنا، فأكثر المتسيّدين قد شجّعوا على أن يُقال فيهم كل ثناء، وبذلوا لذلك الأموال الكثيرة حتى رأينا الآن أن شعر المديح قد كان هو السائد، وانعكس هذا على الأمة جمعاء؛ إذ صارت الأمة الإسلامية ترفل بحکام مزهوین مغرورين، وقد جرّهم هذا الخلق السيئ إلى عدم إدارة الأمة بصورة جيّدة.

ومن الأخطاء التي تجرّ إلى تدهور الإدارة على جميع الأصعدة - وكان قد حذر منها أمير المؤمنين (عليه السلام) - المساواة بين المُتباينين في قيمة عملهما، وهذا يعني دمار العمل بصورة عامة؛ إذ سيميل ذلك المجد إلى التواني إذا رأى أنّ مجهوده يضيع سدًى أمامَ مديره، وأنّه قد تساوى مع ذلك المهمل، أمّا ذلك المهمل فانّه سيتجاسر على توانيه ويزداد في إهمالهِ؛ لأنّه لم يرَ أيّ نقدٍ أو عقوبةٍ، بل رأي تساويهِ مع المجدّ. والحقيقة أنّ هذا الأمر تفشّى في وقتنا الحاضر حتى أنك ترى كثيرًا من الموظفين أسوأ من الفايروس بسبب تخاذلهم، ليس همهم إلا راحتهم وإلا قبض رواتبهم. نتمنى أن يكون هناك حساب للجميع وفي جميع المجالات، وأن يكون التقييم لأجل الناتج لا لأجل المحاباة التي عجّ بها بلدنا في الوقت المعاصر، هذه النصيحة بينها أمير المؤمنين في لآلئ كلماته بقوله: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة. وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه))(43).

ص: 21

هذا ما قاله أمير المؤمنين فأين أتباع أمير المؤمنين؟ يجب أن يكون الاتباع في النهج والعمل لا في الادعاء فقط.

ومسألة أخرى يبينها أمير المؤمنين في رحاب تجنب المخاطر، وهي أنّ على الجميع عمارة الارض والاهتمام بذلك أكثر من الخراج(44)، يقول سيد الأوصياء: ((وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومَنْ طلبَ الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا)).

ان التأكيد على الخراج (الضرائب) فقط تؤول عاقبته إلى دمار تلك البلاد، لا بدّ من عمارة الارض بصورة مطلقة: صناعة وزراعة وعمرانا... لا بد من ذلك، ولكن أنّي ذلك ؟! فها هم أصحاب الشأن ونحن في بلد أمير المؤمنين (العراق) لأجل معالجة العجز في الموازنة يسعون إلى زيادة الجبايات والضرائب من أجل معالجة العجز، أي على خلاف ما نصح به أمير المؤمنين (عليه السلام). نتمنى أن يقرأ ذلك العهد وأن يكون له أثر في صنع عراقنا العزيز.

للأسف أن أبرز شيء تعكر به الزراعة وقد حث عليه أمير المؤمنين في عهده، ولكنا نجد الفلاح في هذا الوقت أصبح يعاني من مشكلات كثيرة تتناقض مع ما أراده أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد أن كانت المعاملة الحسنة هي التي اكتنفته من الامام، ((وقد يذهب الظن بالبعض إلى أنّ هذه المعاملة تؤثّر على ماليّة الدولة وتُضعفها، ولكن هذا الظن بعيد عن الصواب؛ لأنّ هذه الوضعيّة التي يحصل عليها الفلاح تعود على الدولة نفسها بفوائد عظيمة تُزيد في ازدهارها ورفاهيتها؛ وذلك لأنّ هذا المال يصرف في إصلاح الأرض وعمرانها، ويصرف في سد حاجات الفلاح نفسه من مسكنه وملبسه ومرافق حياته الأخرى، فيكون في ذلك تزيين للبلاد بما أتاح لها هذا المال من العمران ويكون في ذلك شعور هذه الطبقة بالطمأنينة والرضى بما يدفعها، وهي أكثر طبقات

ص: 22

المجتمع عددا وأعظمها انتاجا إلى المحافظة على الحكم القائم والدفاع عنه؛ لأنه يحفظ لها مصالحها. ولدينا شاهد من التأريخ على هذا، فقد كان نابليون الثالث (إمبراطور فرنسا) ممن حدبوا على هذه الطبقة وزعموا مصالحها وحموها من عتاة الظلمة، وأشعروا الفلاح الفرنسي أنه سيد أرضه وأنّ أمرها منوط به وحده، وقد كان موقفه هذا مما دفع بالفلاحين إلى أن يخصوه بتأییدهم دائمًا لِما لمَسوه من رعايته لمصالحهم وفهمه لموقفهم))(45).

ومن الأمور التي يؤكدها الإمام الاطلاع على أحوال الناس والعوام ومتابعة أمورهم، وأن يعيش الوالي (المسؤول) بينهم فلا يتخلف عنهم بسبب طلباتهم، وإذا ما أصر الوالي (المسؤول) على تجنبه الناس والعيش بمعزل عنهم فهذا هو الخطأ بعينه، وهو أمر يكاد يكون شعارا المسؤولينا الذين غاب عن أغلبهم معاناة الناس ومشكلاتهم(46) على خلاف ما نصح به أمير المؤمنين (عليه السلام) حين يقول: ((أما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل))(47)، فها هي الموازين تتغير لدى العوام، وتنعكس عندهم المبادئ الحقة، فيسوء ما كان حسنًا ويحسن ما كان سيئًا، وذلك بسبب خطيئة احتجاب الوالي.

وقد نجد الإمام (عليه السلام) يعبر عن العاقبة السيئة للأعمال الطالحة بما يعرف بالسلم الحجاجي، أي تعاقب الحجج، وكل حجة لاحقة تكون أقوى من السابقة في التدليل على ارتكاب الفعل أو اجتنابه، وذلك لأجل إقناع المقابل بمراد المتكلم(48)، وذلك في قوله (عليه السلام): ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب.

ص: 23

وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد))(49).

فهنا لكي يقنع الإمام المتلقي بضرورة الامتثال لتعاليمه أبان أنه إنْ لم يفعلها فقد ظلم، وهذه حجة قوية في سبيل کسب امتثال المتلقي، ثم تأتي الحجة الأخرى القضية الثانية بأنه إذا ظلم فإنّ الله سيخاصمه، وهذه حجة قوية جدًّا لأجل تحقيق امتثال المتلقي؛ فالله هو الخصيم، وهذا مدعاة للسعي في الإذعان للإمام بكل ما يقوله. ثم تأتي الحجة الأشد قوة بأنه لا حجة للعبد مع هذا ولا عذر، وهذا يعني تجريده من كل معاذيره، ومن ثّمّ تأتي الحجة الأقوى من سابقاتها ((وكان الله حربًا حتى ينزع ويتوب))، فها هو معلن حربا مع الله الذي لا يقهر، أي هو خاسر مطرود مکسور لا محالة.

ثم أخيرا الحجة التي تمثل رأس الهرم ((وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد))، وهذه أكدت أن العقوبة الإلهية قريبة منه جدا، وكذلك فانه قريب من ((أدعى إلى تغيير نعمة الله))؛ لأن الإنسان قد يخرج من سبيل الله، ويجحد الآخرة، فيكون تخويفه من العذاب الدنيويّ أشد عليه، خصوصا اذا هدد بتغيير النعمة، فهذا مدعاة الى تنبيهه.

ونود ان نشير إلى أن الإنسان إذا أمن العقاب الدنيوي ازداد تغطرسه على ما فيه من تغطرس فكان إرسال العذاب الدنيوي له عسى أن يتذکر ويعود إلى جادة الحق، قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم: 41)، ولا ننسى قول الإمام السابق؛ اذ ختم ب (وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب)، فالغاية هي الرجوع إلى التوبة، ومن هذا فحتى العذاب الدنيوي الذي يصيب الإنسان المتغطرس انما هو سبب لعدم تماديه في الغطرسة ورغبة في عودته للحق من جهة أخرى.

ص: 24

الخاتمة

لقد كشف البحث عن تنوع الآثار للأعمال الصالحة وتوسعها إلى درجة يغدو القيام بالعمل الصالح أمرًا محتمًا لما فيه من خير وفير، ولنتجوز ونقول يصبح قضية لا بد من أدائها حتى لو لم يكن هناك أجرا أخرويا، فالأثر المنال في الدنيا يحتِّمُ على كل عاقل أنْ لا يغضّ الطرف عنه فكيف إذا كان الأجر ينتظره نعيم أبدي لا يفني؟!

وقد أثبت البحث في عمومه أن سعادتنا جزء من أفعالنا، وتعاستنا تكون في الأغلب بسبب من أخطائنا، ولقد تبين أن من الأفعال الصالحة التي نقوم بها ما يعود بالإيجاب على حياتنا الاجتماعية والفكرية والنفسية والصحية...

وقد تأكد فيما سبق عظمة انتهاج الاسلام وتعاليمه، وعظمته في دفع الانسان على بناء الحياة السليمة السعيدة، وليس صحيحا تلك الادعاءات التي شنت هجوماتها عليه(50)، وذلك اذا انتهجنا بنهج رجالاته الحقيقيين فبهم يمكننا أن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح، ويكون ذلك باستذكار سيرتهم (عليهم السلام) وامتثالها وانتهاج اقوالهم نبراسًا في تصحيح المسار.

ان المناهج النبيلة تخلق بلدًا نبيلًا؛ ليكون الجيل القادم واضعا أقدامه في طريق النجاح والفلاح في كل شيء، وقد ((سئل أحد السياسيين رأيه في مستقبل الأمة فقال: ضعوا أمامي مناهجها أنبئكم بمستقبلها))(51).

وفي الختام نسأل الله القبول والمغفرة، والتوفيق الى مرضاته

ص: 25

قائمة المصادر والمراجع

أولا: القرآن الكريم

ثانيًا: الكتب

1. إدارة الذات، سلام الحاج، جَدي(65) للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط 1، 1433 ه - 2012 م.

2. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، السيد أبو هشام عبد الملك الموسوي، دار الزهراء، قم - إيران، ط 1، 1327 ه.

3. استراتيجيات الخطاب (مُقاربة لُغويّة تَداوُليّة)، عبد الهادي بن ظافِرِ الشِّهْريّ، دارُ الكُتُبِ الوَطنيّة، بنغاري - ليبيا، ط 1، 2004 م.

4. أسرار العبادات، کاظم الحسيني الرشتي، تح: صالح أحمد الدبّاب، منشورات مكتبة الأوحد، قم، ط 1، 1426 ه - 2005 م.

5. الإسلام لماذا، د. عليّ القائميّ، تر: د. سلمان الأنصاريّ، دار النبلاء، بيروت - لبنان، ط 1، 1423 ه - 2002 م.

6. الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، مكتبة الكلمة الطيبة، بغداد، ط 1، 1432 ه - 2012 م.

7. بحارُ الأنْوارِ الجامعةِ لدُررِ أخْبار الأئمَّةِ الأطْهار، الشّيخ مُحَمَّد باقر المَجْلسيّ (ت 1110 ه)، دار إحياء التُّراث العَرَبِيّ، بيروت - لُبْنان، ط 3، 1403 ه - 1983 م.

8. البيانُ والتَّبْيين، أبو عُثمان عُمَر بن بَحْر الجاحِظ (ت 255 ه)، تح: عبدالسلام مُحَمَّد هارون، مَكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1418 ه - 1998 م.

ص: 26

9. دراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، تح: سامي الغريريّ، مؤسسة دار الكتاب الإسلاميّ، مطبعة ستار، قم، ط 1، 1428 ه - 2007 م.

10. الدعم النفسي ضرورة مجتمعيّة، د. مرسلینا حسن شعبان، إصدارات شبكة العلوم النفسية العربيّة، 2013 م.

11. الدين الإسلاميّ - بحث في الأصول والمبادئ-، العلامة السيد حسن علي القبانجي، تح: مؤسسة إحياء التراث الشيعيّ، منشورات بقية العترة، النجف الأشرف، ط 1، 1426 ه.

12. الذنوب الكبيرة، السيد عبد الحسين دستغیب، تعريب: علي محمد زين، دار البلاغة، بيروت - لبنان،، ط 6، 1434 ه - 2013 م.

13. السعادة في الإسلام، السيد وسام عبدالله العاملي، مطبعة الأميرة، بيروت - لبنان، ط 1، 1428 ه - 2007 م.

14. السنة النبوية والطب الحديث، د. صادق عبدالرضا علي، دار المؤرخ العربي، بیروت - لبنان، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

15. السياسة من واقع الإسلام، السيد صادق الحسيني الشيرازي، مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر، بيروت - لبنان، ط 4، 1424 ه - 2003 م.

16. صوت الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، السيد حسن علي القبانجي، مؤسسة إحياء التراث الشيعي، النجف، ط 1، 1426 ه.

17. الفاخر في الأمثال، المُفضل بن سلمة الضّبّيّ (ت 291 ه)، تح: مُحَمَّد عثمان، دار الكُتُب العِلْمِيَّة، بيروت - لُبْنان، ط 1، 2011 م.

ص: 27

18. فلسفة الصلاة، الشيخ علي الكوراني، دار الزهراء، بيروت - لبنان، ط 6، 1405 ه.

19. الكافي، الشيخ الكليني (ت 329 ه)، تح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط 3، 1388

20. المجازاتُ النَّبويّة، الشَّرِيْف الرَّضِيّ، تح: مهديّ هوشمند، دار الحديث - قم، ط 1، - 1422 ه.

21. الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية، عبد العليم إبراهيم، دار المعارف، القاهرة - مصر، ط 7، (د.ت).

22. نهج البَلاغة، تح: د. صبحي الصّالِح، مركز البحوث الإسلاميَّة، قم، 1395 ه.

23. نهج البلاغة والطب الحديث، د. صادق عبدالرضا علي، دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 1424 ه - 2003 م.

24. وسائل الشيعة، الحر العاملي (ت 1104 ه)، تح: مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، قم، ط 2، 1414 ه.

ثالثًا: البحوث المنشورة

25. الأمة الإسلامية آلام وآمال، بحث للأستاذ عبد الكريم صار (باحث من السنغال) منشور في ضمن کتاب: آلام الأمة الإسلاميّة وآمالها (مجموعة مختارة من المقالات والمحاضرات للمؤتمر الدولي الثالث عشر للوحدة الإسلاميّة)، إعداد سید جلال الدین میرافائي، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، ط 1، 1421 ه.

26. الفقر - التعريف ومحاولات القياس، د. الطيب لحيلح، و محمد جصاص، بحث منشور في ضمن: أبحاث اقتصاديّة وإداريّة، العدد السابع، 2010 م.

ص: 28

الهوامش

1. نهج البلاغة والطب الحديث: 40.

2. البيان والتّبيين: 1 / 69.

3. نهج البلاغة: 445.

4. الفاخر في الأمثال: 172، وقد اثبت الشريف الرضي أن دعاء الرسول لنفسه إنّما كان ((على طريق التعليم لأمَّتِهِ كيف يتوبُ العاصي، ویُنيب الغاوي، ويستأمن الخائف، ويستقيم الجانف)) [المجازات النَّبَوِيَّة: 254]، بل يمكن أن نرى أن الإمام (عليه السلام) قد استعمل المخاطب غير المقصود في حديثه مع ابنه الامام الحسن (عليه السلام) في وصيته إليه بعد حرب صفين التي كانت في ظاهرها النصح للامام الحسن (عليه السلام) و حقيقتها أن المقصود بها غيره من الناس السامعين؛ اذ كيف يكون المراد هو الإمام الحسن، والامام الحسن كان الأنموذج الحي لتلك الوصية الرائعة، فقد كان هو تلك الوصية ولكن بصورة ناطقة وليس هو من يصدق عليه في مقدمة الوصية: ((مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَان، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِ لِلدُّنْيَا... إِلَی الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الأسْقَام، ...وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُورِ، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا،...وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الأمْوَاتِ)) [نهج البلاغة: 391]، فالمقصود هنا هو (الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ

يُدْرَكُ)، بل يؤكد أن المراد ليس هو الإمام الحسن حقيقة اذا تأملنا: ((وَإِنَّمَا قَلْبُ

الْحَدَثِ كَالأرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيء قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالأدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو

قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ

وَتَجْرِبَتَهُ)) [نهج البلاغة: 393] فأمير المؤمنين (عليه السلام) هنا يتحدث مع الأحداث، إي الأطفال الصغار جدا، والإمام الحسن کان بعد حرر صفین (زمان

ص: 29

الوصية) قد تجاوز الثلاثين من عمره؟!.

5.نهج البلاغة: 554.

6. نهج البلاغة: 427.

7. صوت الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: 2 / 286.

8. الإسلام يقود الحياة: 128، وينظر: الدين الإسلامي - بحث في الأصول والمبادئ -: 14 - 15.

9. ينظر: السعادة في الإسلام: 231 - 232.

10. ينظر: أسرار العبادات: 20 - 199.

11. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام): 320.

12. فلسفة الصلاة: 43.

13. فلسفة الصلاة: 240 - 241.

14. الكافي: 4 / 63 - 64.

15. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام): 331.

16. ينظر: السنة النبوية والطب الحديث: 190 - 191، ونهج البلاغة والطب الحديث: 122.

17. أسرار العبادات: 219 - 220، وينظر: صوت الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: 1 / 446 - 447.

18. بحار الأنوار: 59 / 267.

ص: 30

19. الأساليب التربوية عند أئمة لأهل البيت: 334.

20. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت: 334.

21. الأساليب التربوية عند أئمة لأهل البيت: 334 - 335.

22. الأساليب التربوية عند أئمة لأهل البيت: 336.

23. ينظر: السنة النبوية والطب الحديث: 191، وينظر: المصدر نفسه: 192.

24. فتشير الدراسات إلى أن: ((الفقر آخذٌ في التزايد من سنة إلى أخرى رغم نداءاتِ التحذير التي تطلقها المنظمات الدوليّة، فلأول مرة وصل عدد الفقراء إلى 1٫02 مليار نسمة من أصل 6,788 مليار نسمة هم سكان العالم في 10 أكتوبر 2009 يتوزعون على مختلف مناطقِ الكرةِ الأرضيّة بطريقةٍ غير متساوية، تدلُّ على جهود البعض وكسل الآخرين، فقارة آسيا الّتي يقطن بها أكبر عدد من السُّکُان (4,03 ملیار)، وتمثل نسبة 60,5 ٪ من سكان العالم تتواجد [الصواب: توجد] بها أكبر نسبة من الفقراء وهي 64,07 ٪ تليها قارة إفريقيا التي تمثل نسبة 14% من سكان العالم بنسبة 28,62 ٪ من فقرائه ثم قارة أمريكا، ثم قارة أمريكا الجنوبية بنسبة 9,24 وأخيرا الدول المتقدمة مجتمعة في أوربا وأمريكا الشمالية واستراليا بنسبة 1,06 ٪. لقد أضحى الفقر مشكلة اقتصاديّة وقضية إنسانيّة انعكست آثارها السّلبيّة على حياة المجتمعات...، فالفقر كان ولا يزال يهدد الازدهار حيثما كان، ويشكل تحديًا حقيقيًّا وصارخًا للإنسانيّة وأصبح ظاهرة عالميّة، الأمر الذي أدّى إلى البحث باتّجاه إيجاد الحلول المناسبة للتخفيف من آثاره على المجتمعات)) [الفقر - التعريف ومحاولات القياس -: 166]، والحقيقة ألّا حلول إلا بالتماس نهج أهل البيت.

ص: 31

25. نهج البلاغة: 512.

26. وسائل الشيعة: 9 / 369 - 370.

27. ينظر: الذنوب الكبيرة: 2 / 150 - 152، ومن هذه الروايات ما رواه عن العالم الأخوند أنه ذات سنة من سني الغلاء كان لي قطعة أرض قد زرعتها شعيرًا، ومن باب الصدفة وعلى خلاف سائر المزارع الأخرى أينع الشعير ونضج وأصبح جاهزا للحصاد وكان كل الناس يعانون من الضيق والجوع، شعرت بحزن عميق فقررت ترك الشعير وذهبت الى المسجد وناديت: لقد ترکت شعيري بشرط أن لا يأخذ منه الا فقير وأن لا يأخذ الفقير أكثر من قوته وقوت عياله حتى يكفي الزرع، فذهب الفقراء إلى هناك وبدأوا يأخذون مؤونتهم يوما بيوم، ولم أكن أدري ما الذي يجري؛ لأني عزفت عن الذهاب إلى المكان أصلا، ولمّا نضج الزرع في سائر المزارع وأصبح الناس في رفاه، وبعد أن فرغت من حصاد سائر مزارعي قلت للحصادين أن يذهبوا الى تلك الأرض عسى أن يجدوا فيها شيئًا، وهذا ما كان فعلا فحصدوا الشعير المتبقي وكانت النتيجة أن الحاصل من تلك الأرض كان ضعفي ما حصلته من الأراضي الأخرى، فإضافة إلى أن أخذ الفقراء منها لم يؤثر فيها فقد تضاعف ناتجها، وبحسب المعتاد كان من المحال أن يبقى فيها شيء والأعجب من ذلك أنه عندما حلّ الخريف وكان من المتعارف أن تُترك الأرض التي زرعت لحالها سنة ثم تزرع، فلم أزرعها وتركتها على حالها، فلم أذر فيها البذر، ولم أعالج الأرض إلى ان جاء الربيع وذاب الثلج، فرأيتها خضراء أقوى من سائر الزرع والأراضي)) وقد تحيرت في أمري وقلت: لعلني اشتبهت في الأرض إلى أن جاء موسم الحصاد وكان انتاجها أضعاف انتاج سائر الأراضي: «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» [البقرة: 291]، الذنوب الكبيرة: 2 / 151.

ص: 32

28. السياسة من واقع الإسلام: 233.

29. الكافي: 2 / 374.

30. فتح السيد حسن القبانجي في كتابه: صوت الامام علي (عليه السلام): 1 / 457 - 460، مبحثا لفوائد الحج النفسية والاجتماعية والاقتصادية.

31. نهج البلاغة: 439 - 440.

32. نهج البلاغة: 442.

33. ينظر: السياسة من واقع الإسلام: 332.

34. الدعم النفسي ضرورة مجتمعيّة: 8.

35. الدعم النفسي ضرورة مجتمعيّة: 8

36. نهج البلاغة والطب الحديث: 122 - 123.

37. نهج البلاغة: 427.

38. بحار الانوار: 80 / 22.

39. نهج البلاغة: 443.

40. نهج البلاغة: 428.

41. ينظر: إدارة الذات: 45 - 46.

42. نهج البلاغة: 430.

43. نهج البلاغة: 630 - 631.

44. يرادف الخراج الآن في الوقت المعاصر الضرائب.

ص: 33

45. دراسات في نهج البلاغة: 124.

46. ليس هذا تجريحا وانما هو محاولة للتشخيص، فها هي عوائل الشهداء من الجيش والحشد الشعبي وها هم الفقراء والمساكين في كل مكان وهم بحاجة إلى رعاية خاصة، ربما لا نرة المسؤول على ابوابهم الا قبيل الانتخابات تحوطه الكاميرات والقنوات أكثر مما يجلبه من مساعدات.

47. نهج البلاغة: 441.

48. ينظر: استراتيجيات الخطاب: 499 - 500.

49. نهج البلاغة: 428 - 429.

50. فقد ((کتبوا مئات الكتب ضد الإسلام... ولا زالوا يظهرون الأمر كذلك على أن الإسلام قد انتهى وأفكاره أصبحت قديمة)) [الإسلام لماذا: 392]، وينظر: الأمة الإسلامية آلام وآمال (بحث منشور): 570، ويمكن التأمل في النشيد الطلياني في التحريض على قتال المسلمين ومحو القرآن، وقد ذكره الأمير شكيب أرسلان في كتابه - لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم -: 57 - 58، ومنه ((يا أماه... ألا تعلمين أن إيطالية تدعوني، وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحًا مسرورًا لأبذل دمي في سحقِ هذه الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلاميّة التي تجبر البنات الأبكار للسلطان، سأقاتلُ بكلِّ قوةٍ لمحوٍ القرآنِ... وإن لم أرجع فلا تبكي على ولدكِ...، وإن سألكِ أحدٌ عن عدمِ حدادكِ عليّ فأجيبيهِ إنّهُ مات في محاربةِ الإسلامِ))، فإذا كانت هذه نظرتهم إلينا، فينبغي نشر علومنا الحقة تأليفًا وترجمة فضلًا عن إشاعة النّهج السّماوي في طبائعنا كي ندحض ادعاءاتهم، وربّما نجدُ اليوم داعش تجسيدًا لما يقولونه عنّا وما يفعله زعيمهم أبو بكر البغداديّ من تجسيد (تجبر البنات الأبكار

ص: 34

للسلطان)، فما هو إلا من نتاج أعداء الإسلام بطريقةٍ أكثر مكرًا.

51. الموجه الفني: 35.

52. هذه کتابتها في العربي، ولكنها كتبت على غلاف الكتاب بالانجليزي: jady.

ص: 35

ص: 36

الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الانسان في فكر الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية على ضوء عهد الامام علي بن ابي طالب الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ. د. احسان عيدان عبد الكريم السيمري كلية الطب جامعة البصرة

ص: 37

ص: 38

خلاصة البحث:

ان المسير مع الحقوق الانسانية التي طالب الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وان يعيش في ظلها الانسان تعد خطوة مهمة ومتقدمة على زمانه وقد ظلت نبراساً يضيء طريق الشعوب والثوار وان انت احصيت الثائرين على المظالم في العهد الأموي والعباسي [ولاحقاً كذلك خصوصاً في العراق القيت علياً إمامهم... وان انت احصيت غايات هذه الثورات التي زلزلت الشرق قروناً طوالاً وقضت مضاجع الطغاة الفيتها الغايات الاجتماعية التي من اجلها كافح علي واليها دعا وفي سبيلها استشهد، وهذه الغايات الاجتماعية والاقتصادية قد صاغها الامام عبر جملة من الحقوق اقرها (عليه السلام) لصالح الإنسان فقد دخل الإمام (عليه السلام) في أدقّ التفاصيل في العلاقات العامّة، ثُمّ أعطى السُبل الصحيحة والمُناسبة لتفادي حالات السقوط والانهيار. وقد أشار إلى القوى التي تُبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أيّ وقت، ثُمّ ربط الهياكل المُكوّنة لهذه العلائق وطبيعتها، وحدّد الطُرق الواجب اتّخاذها كمنهج عملي وعلمي لتسيير دورة الحياة اليوميّة، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر، إنّما توجّه (عليه السلام).

إنّ الإمام علي (عليه السلام) جعل كلّ الأُمور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل و تبادل وتناصح، بل العلاقات العامّة والصيغ المُتبادلة في العمل وفق ما أراده الله تعالى؛ لأنّ الباري عزّ وجل أوجب هذه لتلك بموجب قانون إلهي، وهو التساوي في وجوه الحقّ المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الإنسانيّة، وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه إلاّ ببعض، ثم بين (عليه السلام) ذلك بصورة اوضح (وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ

حَقُّ الْوَالِي عَلَی الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَی كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ). إنّ الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين

ص: 39

كما ذكرها الإمام (عليه السلام) فيها الجوانب المُهمّة والدعائم الأساسيّة لثبات کیان المجتمع وحفظ مظاهره الإيجابيّة وصورة نظامه، هذا إذا شعر الوالى بأنّ الله قد فرض له حقوقاً على رعيّته، وكذلك حقوقاً للرعيّة على الوالي، وبحفظهما وعدم الإخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم)، وبهذه الأُلفة وهذا التعاون والمحبّة والصدق في نيّاتهم وضمان تسديد الحقوق إلى مُستحقّيها والالتزام التجاه بعضهم البعض الآخر هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة. أنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً ومعنى، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود کلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنّها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن أبي طالب، سنّة طبيعيّة لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

فرضية البحث:

ينطلق البحث من فرضية مفادها (ان للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي لتلك الحقوق من جهة، ويمكن الاستفادة من هذه الرؤية لمعالجة اشكالية حقوق الانسان في واقعنا المعاصر، من جهة اخرى).

منهجية البحث:

ان طبيعة موضوع الدراسة واحتوائه على عدة عناصر رئيسة التاريخ، والفقه، والسياسة، قد حددت منهجية البحث بالمنهجين التاريخي والتحليلي بشكل رئيس والاستفادة كذلك من المنهج المقارن كلما اقتضت الضرورة ذلك.

ص: 40

المقدمة

إنّ الدولة أو السلطة الزمنيّة - كما يُعبَّر عنها - لها دور كبير في بناء المجتمع، وتحديد طبيعة مسيرته بالصورة التي تؤمن بها، سواء كانت ذات أيدلوجيا مُحدّدة كانت تعتمد أو تتخذ منهجاً هامشيّاً غير واضح الأهداف والمعالم، أو أنّها مُجرّد سيطرة راعي على رعيّته، وقد وضع كثير من الفلاسفة نظريّاتهم في هذا الأمر، وذاك هوبز مثلاً يرى (أنّ الدولة تكوين صناعيّ بمقتضى تعاقد إرادي) بمعنى أنّ المجتمع لم ينشأ تلقائيّاً، وإنّما إرادة الناس هي السبب في وجود المُجتمع، ومسؤوليّة الملك والحكومة إنّما هي توفير الفرصة لإشباع غرائز الأنانيّة لدى الأفراد في المجتمع، وبالتالي فإنّ على هؤلاء الأفراد الالتزام بالقوانين التي تصدرها الحكومة.

هذه واحدة من النظريّات في السلطة والمُجتمع التي حدّدت مسؤوليّة السلطة في إطار إشباع غريزة الأنانية لدى الأفراد، ثُمّ إنّ من واجب الأفراد الالتزام بالقوانين الصادرة من السلطة.

أمّا (جون لوك)، فيرى (... أنّ حالة الطبيعة لم تكن أبداً حالة حرب وصراع وأنانية، بل كانت حالة يعيش فيها الإنسان حُرّاً، ويتصرّف على أساس عقلي، وكان من شأنه أن يُخفّف من آثار الحريّة المُطلقة، وليس معنى ذلك أنّ حالة الطبيعة تخلو من المتاعب والأنانيّة والصراع، بسبب فساد بعض الأفراد، ولخلوّها من أسباب الاستقرار الثلاثة التي حدّدها (لوك) على النحو التالي:

أ - قانون مُستقرّ واضح.

ب - قاضٍ عادل يحكم بين الأفراد.

ج - قوّة تنفيذ تستطيع تنفيذ القانون.

ص: 41

ومن هنا فإنّ (لوك) يعترف بحالة الفطرة كحقيقة تاريخية، ولكنّه ينظر إليها من منظور اجتماعي...، وقال: إنّ الأفراد فيها مُتساوون في الحقوق والواجبات بالطبيعة، باعتبارهم أفراداً في مجتمع طبيعي أسبق من المجتمع المدني أو السياسي، عاشوا في رحابه مُنذ نعومة أظفارهم، وكان رأي لوك أنّ الحياة التي تزداد تشابكاً يوما بعد يوم لم تكن التسير هكذا، وإنّما كان من الضروري الاتفاق على شخصٍ ما لكي يتولّى تنفيذ القانون الطبيعي دون تحيُّزٍ لزيدٍ أو لعمرو، ومِن هنا اتّجه التفكير إلى إيجاد سلطة عُليا وظيفتها إقامة العدل بين الناس، وتنظيم حريّتهم التي يتمتّعون بها مُنذ عهد الفطرة، وبذلك اصطلحوا على إبرام عقد بينهم وبين شخصٍ ما). إنّ لوك أقرب في رأية ونقاطه التي حدّدها إلى الموضوعيّة من غيره، ولكن هذه النظريات التي أتعب الفلاسفة أنفسهم في استخراجها لم تكن متكاملة المضمون واضحة الأهداف مناسبة للتطبيق العملي، إنّما هي أفكار مبتورة، وتصوّرات جاء بعضها غير موضوعي أساساً، فهي في أحيان كثيرة أشبه ما تكون بالأماني الفارغة. وبقيت المجتمعات في حالة من الغثيان من عُقم تلك الأفكار وابتعادها عن واقع الأمر.

الامام نبراس ومشعل الحرية:

الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) النموذج الإنساني في التقوى، والزهد، والعدل، والاستقامه، والفروسيه، والشجاعة؛ رجل الانسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة من ابن عمه سید الانبياء والمرسلين الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: خير الناس من نفع الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا فرق بين اعجمي وعربي الا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، لقد تربی سید الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عمليا في أفعاله

ص: 42

وأقواله، ويقدم لنا وللتأريخ البشري قناديل مضيئة ومشاعل يقتدى بها، فالحاكم يمثل الجموع بلا إستثار أو فردانية أو إستغلال بل يعمل لصالح الرعية وحفظ مصالحها وتحقيق العدالة.. لا كما تقوله الميكافيلية من أجل مصلحتك فليسحق الآخرين، التي أرست قيم السياسة المشوهة التي تستبيح الكرامات، والحرمات لمآرب ذاتوية (الغاية تبرر الوسيلة) تخص الحاكم وكيفية قيادته وكأنما الناس - قطيع وليس ببشر. أو السياسة الغربية والشرقية بمبادئها التي تدعي کما شرعها فلاسفة اللبرالية بسياسة الخطوة خطوة، أو خطوتين الى الامام و خطوة إلى الخلف، أو خذ وطالب، أو إكذب إكذب حتى يصدقك الناس، أو بديماغوجية الاعلام المضلل والمصالح الاستعمارية والاستعبادية التي جلبت مئات الحروب في تأريخنا الانساني وملايين الضحايا والمعاقين والمشردين والجياع، وهذه صورة العالم البائسة أمام مرآى ومسمع الامم المتحدة والجمعية العامة والمنظمات الدولية، فأين العدالة في توزيع الثروات وحقوق الانسان، والفقراء بالارض لا أحد يسمع صرخاتهم وحشرجات الألمم المتكسرة بصدورهم؟!! فيما يجسد العهد العلوي أرقى التقنينات والاطر الانسانية لحياة يسودها الرخاء وينعم بها الانسان بالسعادة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي دون حروب أو عنف أو تسلط...

الرأفة بالرعية:

یقنن الامام للعالم في عهده المالك الأشتر(رضوان الله عليه) إسلوب الحكم والرأفة بالرعية في نسق علمي ومعرفي وحضاري، تنهل جميع الشعوب من عهده المبارك الذي يعد اهم وثيقة تأريخيه في اقامة العدل والمساواة، إستقاها أمير البلاغة وسيد الفصاحة من المنهج القرآني والنبوي الشريف، فالعهد العلوي صك لحقوق الانسان المستل من الشرع المقدس....

کما ورد في القرآن الكريم(1) «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

ص: 43

وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

يذكر الشيخ المفيد: فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر:

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام علیکم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله، وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لاينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، من أشد عبيد الله بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، لانابي الضرس ولاكليل الحد، حلیمٌ في الحذر، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جمیل، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولايحجم إلا بأمري، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم .عصمكم الله بالهدی وثبتكم التقوى، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام علیکم ورحمة الله وبركاته.

التجارة والحياة الاقتصادية:

بالطبع سایکولوجية النفس البشريه مجبولة على حب المال، والسلطه؛ لذلك يقع المحذور دوما من خلال الانجراف وراء المغريات الماديه عند الحاكم او سواه؛ الا الانبياء والمعصومون ومن ينهج وفق الجادة المستقيمه ويتصف بالنزاهة والاخلاص، من هنا وثيقة العهد العلوي هي محاولة تأسيسيه معرفيه.. وفكريه.. اخلاقيه.. وروحيه.. لتجنيب الحاكم الهفوات في ادارته، ...وهي وصايا بالرفق بالتجار، والأغنياء، والفقراء، وادارة الشؤون الاقتصاديه بحنكة ودرايه دون التفريط بأي حقوق. فالعامل الاقتصادي له

ص: 44

الدور الأساس في تلبية حاجات الناس وإشباع رغباتهم وتوفير المواد والمستلزمات الضرورية لأدامة الحياة، وقد أكد على منع الاحتكار والتلاعب بالاسعار واللهاث وراء الجشع وكان الامام يقول: لو كان الفقر رجلا لقتلته!!.. وماجاع فقير الا بما مُتع غني فما ورد بالعهد الشريف مثالا على ما اقوله:

سترضي بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيرا والمقيم بهم والمضطرب بماله والمترفق بيديه فإنهم سواد المناخ أسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك ويحرك شهبك وجيلك وحيث لايلتم الناس لمواضعها ولايحترثون عليها فإنهم سلم الالتحاق یا ثقة وصلح لا تخشى عائلته وتقصد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك.واعلم مع ذلك أن كثير منهم ضيقاً فاحشا وشحاَ قبيحاً احتكاراً للمنافع و تحكماً في البياعات وذلك باب معزه إنعامه وبحيث على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه واله) منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين البذل ولا يحيف بالفريقين من البايع والمبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فشكل به وعاقبته في غير إسراف ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين وأهل البؤس والزمن فان هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ لله ما ستحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من نحلات صواني الاسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للادني وكلاً قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر فانك لاتعذر بتضيعيك التامة لاحكامك الكثير المهم فلاتشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد امور من لا يصل أليك منهم ممن تقتحمه.

العيون وتحقره الرجال من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه اليه وتعهد اهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة لهه

ص: 45

ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على اقوام طلبوا العافية فصيروا انفسهم ووثقوا بصدق موعد الله لهم واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفزع لهم بيه محصر وتجاس لهم مجلسا عاما، فتواضع فيه الله الذي خلقك وتقصد عنهم جندك واعوانك احراسك وشرطك متى يكلمك متکلم غير متمتع فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لن تقدس امة لايؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متمع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونج عنهم الفبق والانفة يبسط الله عليك بذلك اكتاف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته واعط ماعطيت هنيئاً وامتع في اجمال واعذار. ثم امور من أمورك لابد لك من مباشرتهم منها اجابة عمالك منها يعيا عنه كتابك ومنها: اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك فيما تخرج به صدور اعدائك لكل يوم عمله فان لكل مافيهثم انظر في حال كتابك امورك خيرهم، واخصصت رسائلتك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق فمن لاتبطره الكرامة فيجتري بها عليك في خلافلك بحضرة ملاء ولاتقصر به الغفلة عن ایراد امکانیات عمالك عليك، واصدار جواباتها عل الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطي منك أو لاتضعف عقداً اعتقده لك ولايعجز عن اطلاق ماعقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فان الجاهل بقدر تقره يكون بقدر غيره اجهل.

بالنفس فيقول الوالي مالي وللبلاد وعمراتها اليوم هنا وغداً لاعلم ان المقر فلابد من جمع المال على عجل اما جشعا وحباً في المال او طلباً لارضاء من قوته بالتملق والتظاهر بالاخلاص في اداء الواجب اوليذل الرشاد والهدايا لحواشي الملوك والحكام ليدفعوا عنه طائلة الحساب، او يكفوا عنه اذي الوشاة ويؤكد عليها أن ذلك سبيل معوج وسیاسة فاشلة ويستكثر على الولاة للسالكين هذا السبيل عدم اتعاطتم بمن كان قبلهم واعتبارهم با تالوه من الفشل وسوء المنقلب

ص: 46

للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) صفات خاصّة تَميّز بها عمّن سواه من مُعاصريه وسابقيه والمتأخّرين عنه، ولا غلو في ذلك، فمنها - على سبيل المثال لا الحصر - سابقته في الإسلام، وجهاده المستميت في سبيله حتى ثبتت أركان الدين، علاوة على أخلاقه التي ليس لها مثيل، إلاّ تلك التي حملها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إضافة إلى الكثير من الصفات الحميدة ممّا أحصاه الكُتّاب والمؤرّخون، والتي لا مجال لذكرها هُنا حصراً.

لقد كتبَ الكثير بشأن الإمام علي (عليه السلام)، إلاّ أنّنا نجد في كلّ مرّة حَدثاً جديداً، أو مادّة غير مطروحة، أو بحثاً نافعاً وذا علاقة بحياتنا وتاريخنا بكلّ صوره، وما إلى ذلك. وفي هذا البحث المتواضع الذي يتعلّق بالفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) لا أدّعي أو أفاخر قائلاً بأنّني أحطّت بكلّ ما يتعلّق بالموضوع، إلاّ أنّي أشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفّقني إلى هذا الحدّ من المعرفة، والبحث في فكر هذا الرجل الإلهي الذي أفصح عن شيء من مكنونات حقيقته ولده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في كلام له بعد استشهاده حين قال (عليه السلام): (والله، لقد قُبض فيكم الليلة رجلٌ ما سبقه الأوّلون إلاّ بفضل النبوة، ولا يُدركه الآخرون، وإنّ رسول الله (صلّى الله علیه و آله وسلّم) كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبريل عن يمينه و میکائیل عن يساره

حقوق الانسان عند الامام علي (عليه السلام)

في خضم ما تمر به الأمة الإسلامية في عالمنا المعاصر من تحديات جمة ألقت بظلالها القائمة على وجود امتنا ومستقبلها تبرز قضية (حقوق الإنسان) ببعديها النظري والعملي كتحد مهم وصعب ينبغي الاستجابة له، لاسيما مع محاولة تعميم النموذج الغربي المحصن بمنظومة فكرية تمتلك بعض عناصر القوة، وان احتوت على سلبيات وتناقضات كثيرة، وممارسة عملية مميزة، على الرغم من محدودیتها، فانها تنفرد بكونها

ص: 47

الماثلة للعيان والشاخصة في الأذهان دون غيرها.

ومن الناحية الاخرى فان هناك حالة من الانهزامية واليأس داخل نفوس اكثر ابناء الأمة الإسلامية، وهم يعيشون يومياً ابشع انتهاك لأدميتهم في ظل حكومات استبدادية ومؤسسات اجتماعية واقتصادية تحطم انسانيتهم کلما تحركوا لتغيير واقعهم المرير، غير متناسين مجموعات من وعاظ السلاطين التي ارتدت، من غير وجه حق، طیلسان الدين وأضحت تصوغه على وفق رؤى اصحاب السلطة وبما يضفي شرعية زائفة على سياستها الخاطئة.

وهكذا فقد الانسان المسلم حقوقه بين النص والواقع والقيم العالمية والسمة الخصوصية، والايمان بحقوق الانسان وادعاء الدفاع عن تلك الحقوق وافراغها من محتواها الحقيقي. وفي هذا اليم المتلاطم تلوح سفينة النجاة الاسلامية التي اغنت الانسانية بتجربة مميزة كان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من روادها ومن المساهمين الفاعلين في تثبيت دعائم الاسلام و تجربته في شتى نواحي الحياة ومنها حقوق الانسان.

فهذا هو الإمام علي في تعامله مع النص لا يعده سيفا مسلطا على الإنسان ولا النص وسيلة يسيرها الإنسان حيثما شاء وعلى وفق اهوائه ومصالحة، لكنه أداة للسمو بالإنسان معنويا وماديا وهذا ما اسهم في نظرة الامام علي (عليه السلام) لحقوق الإنسان، وهناك كثير من الدلالات والاراء بهذا الصدد وصلت الينا على الرغم مما عاناه الفهم العلوي للاسلام من خطة لمحاربة ما سمي ب(فقه المعارضة) من السلطات الحاكمة التي تعرضنا الى جانبٍ منه.

وتعد تجربة الامام علي (عليه السلام) من اثرى التجارب الاسلامية سواء من الناحية الموضوعية أم الذاتية، وقد استمد هذا الاثراء اهميته من امور عدة اهمها:

ص: 48

1 - زخم جوهري لشخص الإمام وارائه وسلوکه کمثال وقدوة حسنة سواء في القرآن الكريم أم في السنة النبوية، وقد مدحه معاصروه سواء كانوا من مناصريه ومناؤيه.

2 - الاحداث المهمة التي مرت بحياة الإمام، كتجربة عملية ونظرية، منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى اغتياله عام 40 ه.

3 - الموروث العلمي والحضاري من أفعال وأقوال نسبت للإمام، في شتى الميادين، وهنا لابد من ذكر موقفنا من كتاب (نهج البلاغة)، حيث نعتقد بضرورة التعامل بايجابية مع ما ورد في النهج وليس بقدسية اخذين بنظر الاعتبار المعايير التي ذكرناها سابقا في كيفية التعامل مع النص، وهو منهج مستمد من فكر الإمام علي وليس دخيلا عليه.

4 - بروز حالة القتال بين المسلمين بصورة تميزت عما سبقها زمنيا، وكذلك تطور حالة المعارضة السياسية وتبلور الانقسامات داخل المجتمع الإسلامي.

5 - ازدياد الوعي والعمق الفكري خصوصا اثر الانفتاح على الحضارات الاخرى بعد الفتوحات الإسلامية في فارس والشام ومصر.

وهذه المناطق المفتوحة ذات موروث حضاري مهم ألقى بظلاله على الحياة الفكرية والسياسية للدولة الإسلامية انذاك.

وبناء على ما ذكرناه، يمكن القول إنه على الرغم من تباین نظرة الفرق الإسلامية للأمام علي الا أن الإمام کان تجسيدا حيا للاطروحة السماوية المتمثلة بالشريعة الإسلامية بروافدها: القرآن الكريم، السنة النبوية، وابداع الإنسان المتمكن في تعامله مع النص.

ومن المنهج الإسلامي في نبعه الصافي الاصيل اكتسب الإمام نظرته إلى الحياة وقيمتها في ضمن المسيرة البشرية، اذ تشكلت رؤيته للانسان كقيمة عليا ومحور لهذا الكون، فيخاطب (عليه السلام) الانسان قائلا:

ص: 49

وتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الاكبر

ويجعل الإمام هذا المخلوق افضل الموجودات، اذا ما حقق إنسانيته، إذ يقول (عليه السلام) بنظرة تحليلية: (ان الله عز وجل ركب في الملائكة عقل بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل وركب في بني ادم کليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم). وهنا نتلمس معیار قيمة الانسان حين يربطها الإمام بمسألتين:

الاولى: إنه انسان منتم الى الاسرة البشرية من ابناء ادم وحواء، فيترتب على هذا الموقع حقوقاً اساسية ومن اهمها (حق الحياة).

الثانية: درجة الايمان والعمل الصالح، وهي درجة اسمی، لا ينالها الجميع، ولكن لا تجعل من يملكها افضل الاوفق المعيار الايماني وهو معیار معنوي، (ليس على وجه الارض اکرم على الله من النفس المطيعة لامره) على وفق قول الامام علي (عليه السلام) وان الانسان هو خليفة الله في أرضه والكائن الذي امتاز بمعرفة الخالق وتكليفه بالعبادة فلقد كان من دعاء الامام علي (عليه السلام): (الهي کفی بي عزا ان اكون لك عبدا وكفي بي فخرا ان تكون لي ربا). ويجمل المفكر جورج جرداق الرؤية العلوية الجليلة الى معنى الحياة بانها هي (الاصل وعليه تنمو الفروع).

لقد تعامل الإمام مع الحياة بواقعية، فلم يشغل فكره بمسائل الخلود وما شابه إذ آمن أن الموت مسالة حتيمة و ان الموت طالب حثيث لايفوته مقيم الاعتداء موجودة وسوف تستمر وتتفاقم لذا تصدى الفكر العلوي لهذه الجريمة في محاولة للحد منها اعتمادا على عنصرین:

1 - عنصر معنوي انساني، داخلي.

2 - عنصر قانوني مادي، خارجي.

ص: 50

فبالنسبة للعنصر الانساني، استمرارية الإمام بتوجيه خطابه دائما للانسان من اجل الانسان، أي يقوم بدور التربية والارشاد والتصحيح للمسيرة الإنسانية، ويحذر كل من يفكر ان يزهق روحاً بغير وجه حق، قائلاً (ثلاثة لا يدخلون الجنة [اولهم] سفاك الدم الحرام) وينبه (عليه السلام) من اقتراف هذه الجريمة كونها ذنباً لا يغفر، (فمن الذنب الذي لا يغفر ظلم العباد بعضهم لبعض وان الله تبارك وتعالى اذا برز لخلقه اقسم قسم على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم، ولو كف بكف ولو مسحة بكف).

الا ان الزواجر الاخلاقية وهذا البعد الديني الغيبي قد يشكل رادعاً مهما، ولكن بالتأكيد ليس للجميع فهو غير مجدي مع من امتهن الاجرام او أعماه الطمع، فهناك من يكون (الصورة صورة انسان والقلب قلب حیوان) كما يصفهم الإمام فيسعون لتحطيم الكيان البشري وقطع رسالته الحضارية فيتصدى لهم الإمام مادياً وقانونياً وذلك هو العنصر القانوني المادي الخارجي فيؤكد (عليه السلام) وفقاً لذلك مسألة القصاص، وهو اجراء عملي يفسر الإمام بعض ابعاده بقوله: (فرض الله سبحانه القصاص حقنا للدماء) ويعقب مفکر اسلامي على ذلك قائلا (قد شرع الله سبحانه القصاص واعدام القاتل): -

- انتقاما منه.

- زجرا لغيره.

- تطهيرا للمجتمع من الجريمة التي يضطرب فيها النظام العام ويختل بها الأمن (وقد كان الإمام على الصعيدين الفكري والعملي حاسما في موضوع القصاص من الدماء على وفق تفاصيل فقهية قانونية متعددة من جهة، والمساواة في حق الحياة للجميع من جهة اخرى، إذ اشار على عمر بن الخطاب بقتل اكثر من شخص بشخصٍ واحد ثبتت جنایتهم بقتله، وذلك بعد تردد بعضهم في ذلك . وروي عن علي انه قتل ثلاثة قتلوا واحدا وانه قتل حرا بعبد قتله عمداً وقتل الرجل بالمرأة بل ان في معتقد علي (من

ص: 51

قتل يهوديا او نصرانيا قتل به).

واعلن الإمام أن رئيس الدولة وولاته وكبار موظفيه وصغارهم يخضعون على حل سواء لقانون صيانة الدماء، أي القصاص فيقول في عهده للاشتر (اياك والدماء وسفكها بغیر حلها، فانه ليس شيء ادعي لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احری بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن).

والحقيقة هناك جملة من الأمور يمكن تلمسها في هذا النص، منها:

1. تأكید حرمة الدماء وان حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

2. المساواة بين الحاكم والمحكوم، من حيث لا ضمانات للمنصب او شاغله في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

3. ان سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الشعب مما يؤدي إلى الاضطراب وهو من الأسباب المهمة للثورات لان (لكل دم ثائرا، ولكل حق طالبا) على وفق وصف الإمام.

وبناءً على احترام الإمام لحق الحياة نلاحظ أنه حكم على جريمة التحريض او الأمر بالقتل أو بعقوبة أخرى تتناسب مع الجرم والشكل القانوني للجريمة وكان (علیه السلام) يقول (من أعان على مؤمن فقد برئ من الإسلام) وأشار الإمام كذلك إلى عملية القتل المعنوي وذلك بهدم كرامة الإنسان وسمعته وعد ذلك بمثابة اغتيال له اذ يقول: (من استطاع منكم ان يلقي الله تعالى وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سلیم اللسان من إعراضهم فلیفعل).

ص: 52

من بين المميزات الرئيسية للرؤية العلوية لحقوق الإنسان تبرز مسألة تقديسه (عليه السلام) للحياة وانعكاس ذلك على إقراره مبدأ مسؤولية الحكومة والمجتمع اتجاه حياة الإنسان وانه (ا يبطل دم امری مسلم) وان (الدم لا يبطل في الإسلام)، ان الانعکاس العملي لهذا المبدأ كان على صعيدين الأول حفظ دماء المسلمين وان كانوا في غير بلاد الإسلام، والثاني حفظ دماء من هم تحت حكم الإسلام كافة، وبغض النظر عن ديانتهم وانتماءاتهم، هذا على الصعيد النظري.

أما الصعيد العملي فان النموذج العلوي في الحكم کرس مبدأ حق الحياة وصيانتها وجعل منه حقا للشعب إزاء الحكومة، إذ تعامل مع حفظ الحياة، كمبدأ وليس عملية يمكن له استغلالها سياسيا او تتدخل فيها عوامل ذاتية ومصلحية لحادث الاعتداء على الحياة ومن ثم تخرج عن الهدف المتمثل بصيانة الدماء ابتداءً، فمثلاً أصر الإمام على إقامة الحد بحق عبيد الله بن عمر بن الخطاب بعد أن قتل ثلاثة أنفس لمجرد الظن والاتهام وكان أول خطاب للإمام علي (عليه السلام)، كرئيس للدولة، يؤكد حرمة الإنسان بشكل عام وسلامة حياته بشكل خاص فيقول: (ان الله حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وشد بالإخلاص والتوحید حقوق المسلمين والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده الا بالحق، لا يحل اذي مسلم الا بما يجب، اتقوا الله في عباده وبلاده فأنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم).

واصبح الدفاع عن حياة الناس هدفاً أساسياً لحكومة الإمام، فقد فسر (عليه السلام) أسباب اقدامه على الحرب في معركة الجمل، عندما سئل (ارایت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة، بم قتلوا؟ قال الإمام: قتلوا شيعتي وعمالي - فسالتهم ان يدفعوا الي قتلة اخواني اقتلهم بهم، ثم كتاب الله بيني وبينهم فأبوا علي، فقاتلوني وفي اعناقهم بيعتي ودماء الف رجل من شيعتي فقتلتهم مهم). وكان (علیه السلام) يؤكد هذا الحق قائلاً: (فو

ص: 53

الله لو لم يصيبوا منهم الا رجلاً واحداً متعمدين لقتله لحل لي بذلك قتل الجيش كله). وكذلك الحال بالنسبة للخوارج في معركة النهروان وما بعدها اذ كان الدافع الرئيسي الحربهم (لانهم سفكوا الدم واخافوا السبيل).

ووفقاً لما تقدم يمكننا القول أن حفظ الدماء، وصيانتها والحاق القصاص بالمعتدين مهما كانت أسماؤهم او مناصبهم كان من الروافد المهمة للسياسة العلوية على ارض الواقع، ولابد من الإشارة في هذا المجال الى مبدأين على جانب من الأهمية بشأن حفظ الحياة:

الاول: مسالة التقية.

الثاني: أن حفظ النفس الإنسانية أولى من تطبيق النصوص الشرعية.

إن هذين المبدأين يتشكلان نتيجة للفهم العلوي العميق للإسلام، والذي أشرنا البعض من سماته سابقا، فقد روي عن الإمام قوله: (التقية ديني ودین اهل بيتي)، والتقية - كمبدأ اول - بمعناها العام هي (التحفظ عن ضرر الظالم بموافقته في فعل او قول مخالف للحق) وهي اداة لحفظ النفس والعرض والمال من الملكة من قبل العدو سواء كان مسلماً وغيره.

ويستمد مبدأ التقية أهميته في حفظ الحياة، ولاسيما في وقت الاضطهاد ووجود الخطر والتحدي مع ضعف القدرة او انعدامها للتصدي له، من كونه رخصة شرعية فضلا عن كونها رخصة عقلية أيضاً، فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله موصياً رجلاً من شيعته: (وامرك أن تستعمل التقية في دينك، فان الله عز وجل يقول: «لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» وقد أذنت لك

ص: 54

في تفضيل اعدائنا ان الجأك الخوف اليه، وفي إظهار البراءة أن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات ان خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات... ولئن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قیامها وجاهها الذي به تمكنها وتصون بذلك من عرف من اوليائنا واخواننا فان ذلك افضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل الدين... واياك اياك ان تترك التقية التي أمرتك بها فانك شاحط بدمك ودماء اخوانك وضررك على اخوانك و نفسك اشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا) و حفاظا على الحياة البشرية أجاز الإمام التجاوز عليه باللسان من بعده حيث تكرر قوله (انکم سوف تعرضون على سبي فسبوني).

اما المبدأ الثاني فليس بعيدا عن الأول، بل هو امتداداً له، فحينما يوجد تقاطع بين نصوص و اوامر الشريعة مع الوجود الإنساني، فالأولوية تكون اضطرارا لحفظ الحياة عند الإمام علي (عليه السلام)، فالصلاة يمكن أن تقطع والحلف بالله كذباً يجوز والطبيب له أن يكشف على جسد المريضة(5) وقد تلغي العقوبة على امرأة زنت لتحفظ حياتها(6)، بل روي عن الإمام قوله: (لا قطع في طعام)(7) و (لا قطع في عام المجاعة)(8) فمهما كانت ملكية الأفراد مهمة لكنها لا تعني شيئاً مقارنة بحق الانسان بالحياة، ومن جهة اخرى نلاحظ أن الإمام تعامل مع روح النص الشرعي «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»(9) وذلك بتعطيل الحد في الحاجة الاضطرارية إلى الطعام وفي عام المجاعة. وبناء على ذلك يمكن القول أن الإمام لا ينظر الى النصوص بشكل مجرد فحسب بل يرى ما وراء النص في تحقيق الأهداف الاسمى ومنها حق الحياة.

اما حالات القتل الخطأ فان الإمام أسهم في تطوير نظام التعويضات المادية او ما يعرف ب(الدية) والذي قد يشمل حتى القتل المتعمد فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان احبوا فلهم العقل وان احبوا

ص: 55

فان لهم القود(2))(3). وفيما يتعلق بالاسهامات الفكرية والعملية للامام بشان هذا النظام الاسلامي وصيغ عمله فتبدو مثلا في تحديده للدية في القتل العمد بعدة نصوص منها قوله: (الدية الف دينار - أي الف مثقال ذهب - وعلى اهل البوادي مائة من البقر او الف شاة)(4)، وهي اقل من ذلك في الخطأ وتدفع الدية خلال سنة في القتل العمد وثلاث سنين في القتل الخطأ وسن علي (عليه السلام) كذلك أن في العين والانف واللسان دية وكل منها على تفصيل(5). بل أن (الذمي والمستامن والمسلم في الدية سواء)(6) على وفق قول الامام ويعد هذا المبدأ منتهى السمو في النظر إلى الانسان انسان دون النظر إلى معتقده او مكانته لتحديد ما يمكن أن يحصل عليه من تعویض عادل.

ولقد آثر عن الإمام علي (عليه السلام) أن من حق افراد الشعب على الحكومة أن تقدم لهم التعويض المناسب على وفق ما حدده الإمام في الحالات الآتية:

1 - القتل الخطأ من قبل اجهزة الدولة.

2 - اخطاء القضاء، «لو اقام الحاكم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بیت المال.. ولو انفذ الى حامل فاجهضت خوفا.. تكون الدية على بيت المال.. وهي قضية عمر مع الإمام علي عليه السلام».

3 - وعن علي (عليه السلام) قال: (من مات في زحام جمعة او عرفة او على جسر لا يعلمون من قتله فديته على بيت المال)(3).

4 - وان «من حفر بئرا او عرض عودا، فأصاب إنسان فضمن»(4) وهذه المقولة يمكن أن تشمل أعمال الدولة ومسؤوليتها عمّا قد تسببه من ضرر على بعض افراد المجتمع. وكذلك فان الإمام فرض الدية على الطبيب والبيطار اذا اخطأ في تشیخص الداء او وصف الدواء فمات المريض او الحيوان(5).

ص: 56

ولعل أهم ما أضافه الإمام لمبدأ التعويضات عن الأضرار التي تؤدي بحياة الانسان او تشويهه واعاقته هو مبدأ التعويض المادي عن الاضرار المعنوية كالخوف والهلع الذي قد يصيب الإنسان نتيجة عمل ما - ويبدو انه (عليه السلام) كان رائد فكرة التعويض في هذا الميدان - فحين ارسله الرسول (صلى الله عليه وآله) لدفع الدية لبعض القتلى من (بني جذيمة) من الذين لم يجز قتلهم، قال لهم الإمام بعد أن فرغ من إعطاء الأموال لذوي الضحايا (هل بقي لكم بقية من دم او مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، فقال: إني أعطيكم مالا بروعة الخيل، يريد ان الخيل لما وردت عليهم راعت نسائهم وصبيانهم، وقال هذه لكم بروعة صبيانكم ونسائكم).

ورفض الإمام عملية الانتحار، ناظرا اليها كحالة من التخاذل والانهزامية من مسؤولية الحياة والفرار من مواجهة الواقع لتغييره وذلك ناتج عن فراغ الايمان وضحالة الوعي، وقد كان (عليه السلام) رافضاً للانتحار، سواء حين يقوم الانسان بقتل نفسه، فيقول الإمام: (المؤمن يموت بكل موتة غير انه لا يقتل نفسه)(2) ام عند قيام الانسان بالقاء نفسه في التهلكة او تقصيره بالدفاع عن حياته إذ يقول (عليه السلام): (والله ان امرءاً مکن عدوه من نفسه حتى يحز لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه ويسفك دمه وهو يقدر أن يمنعه لعظیم وزره وضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره)(3).

ومع هذا المنهج الفكري والعملي ازاء الحياة البشرية فمن الضروري العلم أن الإمام لم تتملکه اطلاقية غير منضبطة بشأن تقدیسه للحياة فضلاً عن أن القاتل عنده يقتل او يدفع الدية على وفق الحالة ورأي القضاء و اولیاء الدم يلاحظ أن هناك حالات اخرى (يطغى فيها الانسان ويفسد في الارض ويغدو وبالاً خطراً على المجتمع الذي يعيش فيه وهنا تتدخل العدالة فتلغي عن حياته حرمتها التي كانت لها وتقرر لهذا الانسان المفسد عقوبة الاعدام).

ص: 57

اما الجرائم التي حكم الإمام بان عقوبتها الإعدام فهي لجملة افراد هم:

1 - المرتد: أي من يغير دينه من الاسلام الى معتقد آخر(2) حيث قال الإمام: (كل مرتد مقتول ذکر کان او انثی)(3).

2 - اللص الهاتك للحرمات: حيث قال الإمام (من دخل عليه لص فليبدره بالضربة فما تبعه من اثم فانا شریکه فيه)(4).

3 - الجاسوس، او العین کما اصطلح عليه، والحقيقة لم اعثر على نص مباشر للامام بهذا الشأن، لكن رأي الإمام الحسن بن علي والإمام جعفر بن محمد الصادق والإمام علي بن موسى الرضا، وهم من ذرية الامام علي (عليهم السلام) والذين يستندون في علومهم الى حد كبير على علم النبي (صلى الله عليه وآله) وعلم الإمام (عليه السلام)، يقولون بقتل الجاسوس وان كان مسلما وذلك خلافا لأراء بعض فقهاء المسلمين الذين حكموا عليه بالحبس او التعزير(5).

ويبدو أن الإمام يذهب إلى قتل الجاسوس في الاقل من منطلق عقلي، فجريمة التجسس اضافة الى هبوطها الأخلاقي بخيانة الأمة قد تؤدي الى قتل مئات والاف من ابناء الامة وضياع قدراتها ومن ثم تراجع مشروعها الحضاري.. وذلك جميعا مما يتضاد مع الاتجاه النظري والعملي للامام.

4 - الزاني المتزوج او الزانية المتزوجة، الذين تثبت جريمتهما، تكون عقوبتهما القتل.

5 - الساحر وتتدرج عقوبته عند الإمام - من الحبس الى القتل(2).

6 - من قطع الطريق واخاف الناس لسلب الأموال، تتدرج عقوبته من قطع اليد او اليد والرجل إلى القتل، وكل جريمة بتفاصيلها(3).

ان تعداد هذه الجرائم يمكن أن يجمع تحت عنوان (الاضرار بالمجتمع وافساده) اذ

ص: 58

ان هناك حالة اعتداء من مرتكبي هذه الاعمال ضد افراد وقيم المجتمع. لذلك كان الرد العادل هو تجريدهم من مسؤولية الحياة بعد ان خانوا تلك المسؤولية.

ومما يلاحظ أن قائمة العقوبات العلوية تخلو من اي عقوبة بالقتل لاغراض سياسية، کالانتماء لجهة معارضة، او نقد وشتم الحاكم او عدم مبايعة او ما شابه، وهذا يدل على حرية المعارضة في فكر الإمام وفترة حكمه(4).

وفي الجانب العملي شخص الإمام بعض خصومه السياسيين ولكنه رفض اسلوب التصفية الجسدية للمعارضة، وان كان هذا الاسلوب من متبنيات تلك المعارضة، إذ ذهب (عليه السلام) ضحيته، فمثلا عندما اتوه بر جل وسأل (عليه السلام) عن سبب القاء القبض عليه اجاب السامع (سمعت هذا يعاهد الله أن يقتلك... فقال علي: خل عنه، فقال الرجل: اخلي عنه وقد عاهد الله أن يقتلك، فقال الإمام: انقتله ولم يقتلني، قال: وانه قد شتمك، قال الإمام: فاشتمه آن شئت او دعه).

وفي مسالة القصاص وتحقيق العدالة فان الإمام يؤكد فكرا وممارسة ضرورة توخي الدقة والمراجعة للتأكد قبل اقامة الحد والقصاص(2) والتأكید كذلك مبدأ شخصية العقوبة مبطلا نظام الثأر، إذ يقول: (ابغى الناس من قتل غير قاتله)(3) وما برح الإمام مخلصا لما آمن به من مبادئ انسانية حتى وهو على فراش الاستشهاد حين اكد رفض الثار بقوله:

(يا بني عبد المطلب لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولوا قتل امير المؤمنين(4). ومن الواضح أن الإمام اکد معاملة المجرم بانسانية حتى قبل القصاص منه إذ اوصي الإمام بقاتله (ابن ملجم) حين قال: (اطيبوا طعامه والينوا فراشه فان اعش فعفوا او قصاص وان امت فألحقوه بي اخاصمه عند رب العالمين)(5)، وقال ايضاً: (لا تمثلوا بالرجل فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ایاکم والمثلة ولو بالكلب

ص: 59

العقور)(6).

واذا ما ثبتت الجريمة فان تنفيذ العقوبة يكون بارحم الطرق إذ يقول الإمام (عليه السلام) (لا قود الا بالاسل، والاسل هاهنا كل ما رق من الحديد وارهف كالسنان والسيف والسكين).

وبعد تنفيذ العقوبة بالمجرم كان الإمام في بعض الحالات يصلي، عليه بنفسه(2)، وكان یامر دائما اهل المتوفي بتجهيزه ودفنه بصورة لائقة ومساوية لموتى المسلمين(3)، فلقد كانت المساواة العادلة الحق الأساس الثاني الذي آمن به ودعا اليه وقاتل من اجله علي بن ابي طالب (عليه السلام).

(ولا يعجزه هارب) وان (الدنيا دار فناء)، وهنا لابد من التطرق إلى نظرة الإمام الى الدنيا، فقد ورد ذمه للدنيا حينما عدها (دار اولها عناء واخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب). ويحذر الإمام من الدنيا قائلاً (واحذركم الدنيا) فهي (دار بلية) وافعی (لين مسها قاتل سمها) أن هذه النصوص اذا اخذت كحالة جزئية، قد تعطي انطباعا غير دقيق عن نظرة سلبية للامام اتجاه الدنيا . ويبدو أن رؤية الإمام للدنيا او المحيط الخارجي اللوجود الإنساني هي رؤية حيادية، إذ ينظر اليها وفق تدخل عامل السلوك البشري فيها، فيقول الإمام علي (عليه السلام) ان الإنسان الحكيم والمؤمن ينظر إلى الدنيا: (بعين الاعتبار)(7) وينطلق ليمارس دوره الإنساني بها ومن خلالها فهي (دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها قبل أن الإمام يمتدح الدنيا مع الاسهام الايجابي للانسان] فهي مسجد احباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر اولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة)(8) وهكذا لم يكن الذم والمدح من قبل الإمام للدنيا بحد ذاتها ولكن بحسب نوعية الدور الإنساني فيها سواء كان سلبا ام ايجاباً؛ هدماً أو بناءً.

ومع اقرار الإمام بحتمية الموت فانه يوجهه كعامل للنهوض بالحياة وتفعيلها، فوجود

ص: 60

الموت يدعو الى تكريس الحياة للعمل والمثابرة والسعي لتطور المجتمع وترك اللهو العبثي الذي لا طائل منه. ويكون الموت قاعدة اولى لترسيخ احترام حقوق الاخرين، ونبذ الكراهية ومدعاة للعطاء والتباذل بل ان في حتميته يقر ارقى انواع السلوك الانساني في نبذ التفاخر والكبر(4) ومنع الظلم(5) ويكون الية لدفع الذل والظلم عن الانسان(6).

ووفقا للفكر العلوي، فان الحياة قيمة عليا تتغلب على الموت، وان أي اعتداء لازهاق حياة انسان، وبغض النظر عن ماهية ذلك الانسان، هو اعتداء على الارادة الإلهية الموجدة والمانحة الوحيدة للحياة من جهة وجريمة بحق الإنسانية جمعاء، وسلب لحق اساسي من حقوق الإنسان الا وهو (حق الحياة) من جهة اخرى، لذا فان الإمام نظر الى القتل بانه جريمة كبرى فيقول(عليه السلام) ان من (الكبائر الكفر بالله، وقتل النفس ..)(7).

بل ان الإمام وقف بالضد من التهديد باستخدام القتل وما دونه من تعذيب واهانة وما شابه من وسائل انتقاص الانسان وتحت أي ذريعة ليقر بذلك (حق الامن) للمجتمع، فقد اشار (عليه السلام)، إلى أنَّ من سلبيات مجتمع الجاهلية، قبل عهد الرسالة الإسلامية، هو تفشي ظاهرة انعدام الامن وشيوع سفك الدماء فيتوجه بخطابه الى العقول اين ما كانت او وجدت فيقول: (ان الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) نذیرا للعالمين وامينا على التنزيل وشهيدا على هذه الامة، وانتم يا معشر العرب على غير دين وفي شر دار تسفكون دماءكم وتقتلون اولادكم، وتقطعون ارحامكم(1)، وان سمات الدنيا في ظل انعدام الامن تكون (متجهمة لاهلها،عابسة في وجه طالبها،ثمرها الفتنة وطعامها الجيفة وشعارها الخوف ودثارها السيف)(2).

وبدلا من مجتمع الخوف الذي رسم الإمام ملامحه في كلماته السابقة يطرح (عليه السلام) المشروع البديل في تحقيق الامن وهو(الإسلام) فيقول: «الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه، لمن ورده، واعز اركانه على من غالبه فجلعه امنا لمن علقه(3)

ص: 61

وسلما لمن دخله»(4). ان المشروع الإسلامي لبناء المجتمع الامن، في رؤية الامام علي (عليه السلام) يتمثل بعدة ابعاد لعل من اهمها:

4. الامن المعنوي او الروحي والسعي لإشاعة مفاهيم وسلوكيات التقوى والهداية: (فان جار الله امن وعدوه خائف)(5).

5. الامن القضائي(6).

6. الامن الاقتصادي(7).

7. الامن الداخلي والحدودي: إذ يقول (عليه السلام)عن احد ثقاته (واسد به لهاه الثغر المخاوف)(8) ويمتدح (عليه السلام) القوة العسكرية قائلاً: (فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن وليس تقوم الرعية إلا بهم)(9)، ومن واجبات الحكومة والحاكم ان «تأمن فيه السبل»(10).

8. الامن الخارجي واستباب السلام الذي جعله الإمام هدف لسياسة الحاكم وحق للامة، اذ يقول (عليه السلام) (لا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك الله فيه رضى فان في الصلح دعة لجنودك وراحة لهمومك وامناً لبلادك).

9. الامن السياسي والاجتماعي: في هذا المضمار يرفض الإمام ان يروع الإنسان وان تكون السلطة، مهما كان موقعها في المجتمع (سلطة الاب، الزوج، رئيس العشيرة، رجل دين، والي او موظف كبير، رئيس دولة)، عامل لاثارة الخوف في نفوس الاخرين اذ يقول: (لا يحل لمسلم ان يروع مسلما) وكذلك فأن (من نظر الى مؤمن ليخيفه أخافه الله يوم القيامة).

ويعطف الإمام فكره نحو السلطة الحاكمة باعتبارها القوة الاهم داخل الدولة والمجتمع، متخذا الحكم الاموي والتحذير منه نموذجا فيقول عن اسلوب تعامله مع الشعب (يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم الا

ص: 62

السيف والا يجلسهم(4) الا الخوف(5). اما واقع بعض الشخصيات المبدئية التي تتصدى لمشروع التسلط واشاعة الخوف وسفك الدماء (فقد شملتهم الذلة، فهم في بحر اجاج، افواهم ضامزة(6) وقلوبهم ترحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا وقتلوا حتى قلوا)(7) على وفق وصف الإمام، الذي تصدى لهذا الواقع، في ضمن مشروعه الانساني والسياسي، فيبرز (علیه السلام) حق الامن بان صيره محورا لحركته

السياسية إذ يقول: (اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك).

ويعد الإمام ان تحقيق الامان من افضل الاعمال (فمن امن خائفا امنه الله وان الامن بمختلف ميادينه، وفقاً لرؤيته (عليه السلام)، هو معيار مهم لتقييم وضع الدولة واداء الحكومة وتطور المجتمع (فشر البلاد بلد لا امن فيه ولا خصب)، بل ان بقية النعم والحقوق تتلاشى مع وجود حالة الخوف والاضطراب في المجتمع إذ يقول (علیه السلام) (لا نعمة اهنا من الامن).

ولعل من اهم سمات الشعور بالامن، هو امن الانسان على حياته، فحق الحياة من (المبادئ التي ظل امير المؤمنين مصرا على اشاعتها بين الناس... ولكل انسان ان يعيش امنا مطمئنا على حياته، دون خوف او وجل او تهديد او ارهاب من احد او سلطة او جهة).

ص: 63

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي

من العوامل المؤثّرة في طبيعة تشكيل النظام الاجتماعي وتوالد أو تراكم الظواهر الاجتماعية هو ماهيّة الحكم والحاكم في المجتمع، إذا ما علمنا أن السلطة لها - أيّ سلطة - تتبنّى مبادئ ومناهج مُعينة في السياسة والثقافة والتربية، فإمّا أن تكون هذه المبادئ وضعيّة من صُنع الإنسان نفسه أو إلهيّة.

ففي الأنظمة الوضعيّة يَحلّ حُكم الإنسان محلّ حُكم الله تعالى، وتضحي أطروحة الإنسان في التربية والثقافة بديلة عن التشريع الإلهي المعصوم.

(والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً، ففي (نهج البلاغة) مثلا، مع أنّه كتاب معرفة الله وتوحيده، ومع أنّه يتكلّم في كلّ مكان عن الله وعن حقوقه على العباد، لم يسكت هذا الكتاب المقدّس عن حقوق الناس الحقّة والواقعيّة، وعن مكانتهم المُحترمة المُمتازة أمام حُكّامهم، وعن أنّ الحاكم في الواقع ليس إلاّ حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكّد على ذلك كثيراً.

إنّ الإمام الحاكم في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم، وإن كان لا بدّ من أن يكون أحدهما للآخر، فالحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدّس للناس لا أن يكون الناس للحاكم).

(وفي الدُرّ المنصور، بأسانيده عن علي (عليه السلام) أنّه قال: (حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا له لیا وأن يطيعوا وان يُجيبوا إذا دُعوا)، فالمُلاحظ هو أن القرآن الكريم يرى الحاكم حارساً أميناً على المُجتمع، وإنّ الحكومة العادلة إنّما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب أن يؤدّيها إلى الأُمة، وأنّ أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من وُلده (عليهم السلام) إنّما أخذوا عن

ص: 64

القرآن ما قالوه بهذا الصدد).

لكنّ الصورة تتماسك أمامنا، وتنتظم أطرافها ليأخذها بعضها بتلابيب البعض، إذا ما أمعنّا النظر في التصوّر الذي يُقدّمه الإمام علي (عليه السلام) للسلطة والمجتمع، حيث إنّ الإمام (عليه السلام) أعطى صورة واقعيّة حيّة للعلاقة بين السلطة والمجتمع أولاً، ثُمّ بين الأفراد أنفسهم الذين يُكوّنون المُجتمع أولاً، ثُمّ وضّح حقوق الناس على السلطة، وحقوق الأفراد على المجتمع داخل النسيج الاجتماعي، وحقوق السلطة على المجتمع، في أفضل ما وضع وأجمل ما طرح، وبه تتحقّق سعادة المجتمع وتقدّمه ورقيّه.

فقد دخل الإمام (عليه السلام) في أدقّ التفاصيل في العلاقات العامّة، ثُمّ أعطى السُبل الصحيحة والمُناسبة لتفادي حالات السقوط والانهيار. وقد أشار إلى القوى التي تُبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أيّ وقت، ثُمّ ربط الهياكل المُكوّنة لهذه العلائق وطبيعتها، وحدّد الطُرق الواجب اتّخاذها كمنهج عملي وعلمي لتسيير دورة الحياة اليوميّة، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر، إنّما توجه (عليه السلام)

إنّ الإمام علي (عليه السلام) جعل كلّ الأُمور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل وتبادل وتناصح، بل العلاقات العامّة والصيغ المُتبادلة في العمل وفق ما أراده الله تعالى؛ لأنّ الباري عزّ وجل أوجب هذه لتلك بموجب قانون إلهي، وهو التساوي في وجوه الحقّ المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الإنسانيّة، وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه إلاّ ببعض، ثُمّ بيّن (عليه السلام) ذلك بصورة اوضح (وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ

حَقُّ الْوَالِي عَلَی الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَی كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نظِاَما لأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ.فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاة،ِ وَلا تَصْلُحُ الْوُلاةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ. فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إلى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ

ص: 65

الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَی أَذْلالِهَا السُّنَنُ؛

فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ).

إنّ الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين كما ذكرها الإمام (عليه السلام) فيها الجوانب المُهمّة والدعائم الأساسيّة لثبات كيان المجتمع وحفظ مظاهره الإيجابيّة وصورة نظامه، هذا إذا شعر الوالي بأنّ الله قد فرض له حقوقاً على رعيّته، وكذلك حقوقاً للرعية على الوالي، وبحفظهما وعدم الإخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم)، وبهذه الأُلفة وهذا التعاون والمحبّة والصدق في نيّاتهم وضمان تسديد الحقوق إلى مُستحقّيها والالتزام اتجاه بعضهم البعض الآخر هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة.

إذن؛ هذه الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين هي حقّ الوالي على الرعيّة وحق الرعيّة على الوالي. والمقصود بالحق الأوّل هو حقّ الدولة وقائدها، أي: السلطة القائمة على المجتمع.

فالإمام (عليه السلام) في نصّه يطرح هذا الموضوع شرطاً في نموّ الدولة ودوامها، ويضع هُنا واحداً من مفاتح تفسير التاريخ، في واحد من شروط نموّ الحضارات ودوامها.

ويُمكن طرح الجوانب الإيجابية للعلاقة المُتبادلة بين الراعي والرعيّة كما يلي:

1 - إنّ هذه العلاقة الودّية والتي استوجبت على الطرفين حقوقاً مُتبادلة أصبحت نظاماً للأُلفة والمحبّة والوفاء.

2 - بهذا الود والحُب والتعايش العائلي داخل البلد والتوافق والانسجام ومُراعاة الضوابط لا التي حدّدها الباري عزّ وجل في العلاقة الحقوقيّة المتبادلة سيعزّ الدين ويرتفع شأنه.

3 - صلاح الوالي، فبصلاحه وأهليته كإنسان مؤمن وصادق وأمين غير خوّان ولا مُنافق يُدلّس على الناس أعماله أو يُخفي أمره وأسراره، فإنّه تصلح به الرعيّة، وإذا كان فاسداً

ص: 66

مفسداً عند ذاك تفسد الرعيّة؛ لأنّه لا صلاح للرعية اإلاّ بصلاح القدوة القائد. كذلك إذا انحرف المُجتمع وانفردت به الشهوات والرغبات الأنانية والمطامح الشخصيّة - أي حُبّ الذات بكلّ معنى لها - تاركاً أمر الله وحقوقه، مبتعداً عن تعاليم مقدّماً مصلحته على الصالح العام، مُقرّاً بالصفات الذميمة والشريرة والرذيلة، بعيداً عن الاستقامة التي حدّدها القرآن؛ فإنّه سيفسد أمْر الولاة ولا يستقيم، وبالتالي تنهار العلاقة الإيجابيّة التي وضعت أُسسها سابقاً، ويُدمّر النسيج الاجتماعي المتراص مع الحاكم.

إذن؛ لا بدّ أن يؤدّي الناس حقّ الوالي ويؤدّي الوالي حقّ الناس؛ حتى يسود الحقّ بالعدالة والسمو في المجتمع بالالتزام المتبادل بالحقوق الواجب أداؤها على كلّ طرف إزاء الطرف الآخر.

وسيترتّب على ذلك:

1 - ارتفاع شأن الحقّ بينهم.

2 - التطبيق الكامل لمنهج الحق وطريق الدين الحنيف.

3 - وضوح معالم العدل الذي يسود المجتمع.

4 - جريان السنن الإلهيّة كما أرادها الله سبحانه وتعالى.

5 - رفاهية المجتمع وسعادته في الزمان الذي طُبّقت فيه أوامر الله تعالى.

6 - الرغبة والتمنّي لطول بقاء الدولة والدفاع عنها في الوقت العصيب.

7 - يأس العدو وردّه على نحره وطمر كلّ مطامعه.

هذه سبع نقاط إيجابيّة مُهمّة يحصل عليها المُجتمع والدولة معاً من خلال الوفاء

ص: 67

بالواجب الإلهي المفروض على الطرفين، وإنّه ليس (عقداً اجتماعياً) کما وصفه (جان جاك روسو) أو غيره، إنّما سُنن صالحة معتمدة تامّة التطبيق ومضمونة النتائج لصلاح المجتمع والسلطة معاً.

والإمام (عليه السلام) لا يسكت عند هذا الحد، إنّما يتحول إلى الجانب السلبي من العلاقة بعد أن تحدّث عن الجانب الإيجابي المُثمر، وسنأتي إلى طرحها تباعاً إن شاء الله.

بقي لنا أن نتساءل: ما هي هذه الحقوق التي توفّر الأمن للعلاقة الإيجابيّة وتُعطي الطاقة الفاعلة للسير على طريق الحق والاستقامة، وإقامة العدل في المجتمع؟ لإنّه كما قلنا إنّ هدفنا هو اتباع منهجيّة أو إعطاء ملامح عامة لنظرية اجتماعية إسلامية تسير عليها المجتمعات الإنسانية باتخاذها منهجاً سليماً للعمل به، فنعود ونسأل الإمام علي (علیه السلام) أن يُعطينا صورة لهذه الحقق وماهيّتها، فجاءنا الجواب بهذا الكلام البليغ: (أَيُّهَا النَّاّسُ، إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفيِرُ

فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَ تَعْلَمُوا. وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ).

ص: 68

الحرب وانتهاك الحقوق عند الامام علي(عليه السلام):

إذن، الحرب ليست هدفا عند الإمام علي (عليه السلام)، إنّما الاجتماع والتعاون والتعايش السلمي هو الهدف...، والدفاع عن الدين ورايته هي ليست دعوة إلى الحرب وتأجيج نارها، إنّما هي إصلاح واقع الهيكل الاجتماعي وتطبيق الشريعة ورسم الصورة الصحيحة للمسيرة البشرية في حياتها ودحر الباغي على الدين وأهله، فإنّه لا يمكن الإغضاء عنه والابتعاد منه وتركه في غيّه يصول ويجول، وإنّه اذا ما تمادى في ذلك فإنّه سيسعى فساداً في الأرض ويُهلك الحرث والنسل، وهذا ما حدث فعلاً من خلال غارات جيش معاوية على القُرى والنواحي والمُدن في أطراف الدولة الإسلامية، حينما انخدع فريق بحيلة معاوية في رفع المصاحف، ونكصَ عن حربه، وما أفعال بسر بن أرطأة - أحد قادة معاوية - إلاّ شاهد واضح على ذلك، حيث قام هذا الذنب بالتقتيل وتشريد وسلب النساء وذبح الأطفال على صدور أُمهاتهم، كما فعل مع أطفال عبيد الله بن العباس والي الإمام علي (عليه السلام) على اليمن.

وإذا ما راجعنا عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر نجد هذا النص: (وَلا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلِّهَ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَأَمْناً لِبِلادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ)، فالقبول بالدعوة إلى الصلح والسِلم هي نابعة من حبّ عليّ (عليه السلام) إلى الحق والعدالة، (وصاحب هذا التوجه في تاريخ العرب لا بدّ له أن يكون محبّاً للسلم كارهاً للقتال، إلاّ إذا كان القتال ضرورةً اجتماعية وإنسانية، وحبّه للمسلم إنّما كان نتيجةً منطقية محتومة لمعنى المجتمع لديه، ولِما قاده إليه العقل والتجربة من إدراك هول الحروب ومقدار ما تسيء إلى الغالب والمغلوب من أبناء آدم وحوّاء، ولا بن أبي طالب في هذا المجال موقفٌ جليلٌ آخذٌ من العقل والقلب

ص: 69

والشرف جميعاً، ونحن لا نغالي إذا قلنا أنّ دعوة ابن أبي طالب للسلم كمبدأ عام، كانت منعطفاً إلى الخير في تاريخ العرب الذين كان حبّ القتال شريعةً لهم في الجاهلية أنكرها النبيّ وأنكرها العاقلون، وحبّ السِلم في القرآن من عمل الله، وحبّ القتال لغير سبب معقول من عمل الشيطان، وفي سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ...أما أروع ما في هذا المبدأ الذي كشف عنه ابن أبي طالب دون عنت ودون إجهاد، فهو أن هذه الثورية الدافعة إلى التطور أبداً، إنّما هي ثورية خيّرة تنقل البشر أبداً من حال إلى حال أفضل.

أنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً ومعنى، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود كلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن أبي طالب (عليه السلام)، سنّة طبيعيّة لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

غير أنّ الإنسان قادر على أن يفهم هذه الحقيقة، فيُساعد الطبيعة في مُهمّتها الثوريّة الكبرى، فيفيد من الزمن وينجو من خطر المعارضة لناموس الحياة. أمّا إذا وقف في طريق هذا التطوّر أن يعوقه أو يحوّل مجراه، فإنّه خاسرٌ إذ ذاك مسحوقٌ بعجلة الحياة السائرة إلى أمام).

إنّ مسألة عقد الاتّفاقيّات وإبراهما أو إعطاء العُهود للخصم في وقت الحرب عند علي (علیه السلام) هي من المسائل المهمّة التي لا تراجع فيها، حيث يمضي (عليه السلام) في وصل حلقات منهاجه القويم في ظروف الحرب، فيقول: (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ

ص: 70

جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللِّهَ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَی الله إلِا جَاهِلٌ شَقِيٌّ، وَقَدْ جَعَلَ الل عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً

أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إلى مَنَعَتِهِ وَيَسْتَفِيضُونَ إلى جِوَارِهِ، فَلا إِدْغَالَ وَلامُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ).

إذن، احفظ العهد الذي أعطيته بالوفاء، وارعَ الذمّة بالأمانة، (ثُمّ إنّ الناس لم يجتمعوا على فريضة من فرائض الله أشدّ من اجتماعهم على تعظيم الوفاء بالعهود، مع تَفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم، حتى أنّ المشركين التزموا الوفاء فيما بينهم، فأولى أن يلتزمه المسلمون).

وفي كتاب الله تعالى نقرأ آیات مُتعدّدة بهذا الشأن: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً)، (وَالّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).

ثُمّ إنّ هؤلاء قد عرفوا أنّ الغدر يعود عليهم وبالاً (وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ)، أي: لا تخن عهدك وتنکث، (وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ) من باب المخاتلة، أي المكر والخداع.

ثُمّ (فَلا إِدْغَالَ وَلا مُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ) معناه: لا إفساد ولا خيانة ولا خداع، فهي ثلاث من الصفات الذميمة التي تستنزل غضب الله تعالى، وتقود إلى تفكك عُرى الكيان الاجتماعي، لينحدر حتماً في مسار التدني الحضاري.

ثُمّ يتطرق الإمام (عليه السلام) إلى المواثيق السياسية والديبلوماسيّة بعُرفنا الحالي، وضمن حالة الحرب والسلم والاتفاقات المتعلّقة بها، حيث يقول: (وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إلى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ

ص: 71

بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلا آخِرَتَكَ).

فإذا تعلّل المعاقد لك بعلّةٍ قد تطرأ على الكلام وطلب شيئاً لا يوافق ما أكدته وأخذت عليه الميثاق، فلا تعوّل عليه، وكذلك لو رأيت ثقلاً في التزام العهد، فلا تركن إلى لحن القول لتتملّص منه، فخذ بأصرح الوجوه لك وعليك.(2)

هذه هي مفاهيم الإسلام العظيمة، فالأمانة والعهد والوفاء والصدق هي مفاهيم أكّدها الإسلام طريقاً إلى سعادة البشرية وتكاملها.

وإنّ المرء ليقف مذهولاً بحقٍّ أمام عظمة هذا الرجل المُلهَم وهو يُفصّل في ذلك الزمان البعيد أرقى نُظم الحرب والسلم وشروط المعاهدات الدوليّة.

إنّ الذي يُدرّس اليوم في أعلى المراحل الجامعية، والمعاهد الديبلوماسية كقانون حقوقي وسياسي ثابت في العلاقات الدوليّة، وتعتمده الأُمم المتّحدة أو المنظمات الدولية الأُخرى في إبرام المعاهدات والاتفاقات الدوليّة لم يتخطّ هذه المواد التي فصلّها الإمام (عليه السلام).

خذ مثلاً على ذلك، المعاهدات والاتفاقيات المعقودة بين دولتين أو أكثر بسبب نزاع حدودي، أو صراع على جرف قاري، أو حول كيفية استغلال منابع وثروات معدنيّة مُشتركة - تقع ضمن الحدود الفاصلة بين البلدين - أو تحديد طبيعة استغلال تلك الثروات النفطيّة أو الغازية بفعل تأثير عمليات السحب في هذا الجانب أو ذاك، أو بفعل تدخلات في الشؤون الداخليّة للبلد الآخر، والتي غالباً ما تؤدّي إلى حرب أو صراع دولي، لأجل الحصول على موطئ قدم أو تشكيل مناطق نفوذ دوليّة... هذه المعاهدات أخذ العالم المُعاصر يحتاط في تدوينها خشيةً من وقوع فرص التعلّل بما قد يعتري بعض

ص: 72

ألفاظها من إبهام.

فغالباً ما تلجأ الدول إلى كتابة هذه المواثيق بلغات مُختلفة، فيكتب مثلا نصّ المعاهدة بلسان البلدين وبلغةٍ واضحة، ثُمّ يُضيفون لغة ثالثة عالمية يتفقون عليها تُعتبر كمرج أساس في حالات تباين التفسيرات في مواد الاتفاق، ويكتب ذلك في الملاحق القانونية للمُعاهدة، أي: يعتمدون على النص الذي اتّفقوا عليه كمرجع لتفسير النصوص واعتماد ذلك المرجع وتثبيته، ورغم ذلك فهناك تحايل والتفاف وتلاعب بمعاني الكلمات، واستخدام التورية بحيث تحتمل الكلمة عدّة معانٍ لغرض التهرّب من الالتزامات التي وافقت ووَقّعت عليها الدولة، وما أكثر ما يحدث هذا في عالمنا المعاصر، ولهذا تسعى الدول إلى استخدام أذكى وأقدر الخبراء والسياسيّين في تثبيت النصوص وتدقيقها؛ حتى لا تقع في المزالق القانونيّة والسياسيّة في عصر المكر والخداع وانعدام المبادئ في العلاقات العامّة.

وهذا ما أكّده الإمام علي (عليه السلام) قبل مئات السنين، وحذّر من الوقوع في مداخله (ولا تعقد عقدا تجوز فيه العِلل)، كذلك يطلب (عليه السلام) أن لا يستخدم لحن القول كملاذ للهروب من الالتزام والمواثيق، هذا هو منهج علي (عليه السلام). وما أكثر ما يتمنّى المرء لو أنّ المجتمعات البشريّة سارت على هداه ومنهجه لتتجنّب السقوط والدمار والخراب العام في الحضارة، وبالتالي خسارة الإنسان لِما بنى وما بذل من جهد في سبيل الرقي والمدنيّة، بفعل نقض عهد، أو تهوّر سلطان، أو اعتداء أثيم، أو غزو في ليلة ظلماء وما شابه ذلك.

ثُمّ يؤكد الإمام (عليه السلام) على أنّ صبر الوالي على الضيق الذي لحقه من العهد، وتحمل ذلك على أمل الانفراج في العُقد والمشاكل التي أحاطت به هو خير وأفضل من غضب الله وعدم رضاه في حالة الغدر ونقض العهود والمواثيق.

ص: 73

إنّ هذا الكلام يحمل في طيّاته أعلى القيّم وأرقى المفاهيم الأخلاقية في التعامل الإنساني، يحمل قيمة الإنسان معه وإنسانيّته التي دمّرها المتوحّشون في عصرنا الحالي، يحمل معه روحاً عالمية الآفاق، بعيدةً كلّ البُعد عن الضيق والانغلاق الحضاري والفكري، وبعيدة أيضاً عن القيم الزائفة، من غدرٍ وكذبٍ ونكثٍ واحتيال، والتي جرّت إلى ويلات الحروب والصراع الذي أكل من البشرية ما لا يُعدّ ولا یُحصى من ذلك المخلوق الذي كرّمه الله تعالى وهو الإنسان، ومن تلك الطبيعة التي خلقها الله تعالى للإنسان لكي يتمتّع بنِعمها ويستغلّ مواردها في سبيل راحته ویُعمّرها من أجل سعادته.

لكنّ هذا - كما تأكّد سلفاً - لا يمنع من التأهب والاستعداد لمواجهة الطوارئ المُحتملة، فالإسلام لم يمنع ذلك، بل أقرّه.

فالحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، إنّما هي وسيلة للدفاع عن الدين والجهاد في سبيل إعلاء راية الحق. وهذا عليّ (عليه السلام) يُدير الحرب والسلام معاً، الحرب لأنّه اضطر إليها بعد أن أتمّ الحجّة، فهي للدفاع عن دين الله وهيبته ومبادئه السامية التي حاول الطامعون والمنافقون والمُضلّلون اختراقها.

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير:

ممّا يُلفت النَظر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الجُملة الأخيرة منه (وإنّما الناس مع المُلوك والدنيا، إلاّ مَن عَصم الله).

وكأنّ هذا هو مبدأ أساس أو جزء مُهمّ من الظواهر الاجتماعية على الكُرة الأرضيّة، يا ترى هل أنّ الناس دائماً مع المُلوك وحبّ الدنيا والتساقط على الدنانير؟ وما هي أسباب ذلك؟ هل الدولة أم السلطان أم الايدلوجيا ذات تأثير مباشر على هذا السلوك الخاطئ؟ وما هو العلاج إذن؟

إنّ تأثير الدولة الصالحة والدولة المُفسدة على المجتمع هي من حقائق الأمور الظاهرة،

ص: 74

هذا في الواقع العملي، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى دراسة وتحقيق لمعرفة جذوره، كما أنّ له صِلة وثيقة في معرفة العوامل التي تؤدّي بالدولة إلى الصلاح أو إلى الفساد.

إنّ التاريخ يُحدّثنا عن حياة الأُمم التي مضت والحضارات التي قامت واندثرت، فيُبيّن لنا سيرة المُلوك والحكّام، وأثرها السلبي أو الإيجابي على حياة ومسيرة وتطوّر المُجتمعات.

فلننظُر إلى أُمّة على رأسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائداً وموجهاً ومُقنّناً وراسماً للمنهج الذي يستنير به الناس، ومُربّياً يسعى ليلاً ونهاراً باذلاً جهده لبناء مجتمع سليم قوي تسوده العدالة والسعادة والرفاهية. إنّها الصور الرائعة التي تجذبنا وتهزّنا من الأعماق، وتُجدّد فينا الحياة، وتبعث فينا الطمأنينة والاستقرار لبناء المستقبل الزاهر على ما سَنّه واختطّه رسول الإنسانيّة، فالكلّ على عِلم بالسيرة النبويّة الطاهرة، وبذلك الله المجتمع المدني الإسلامي الذي عاش في ظِلّه الفقير سعيداً ومُكرماً، وفيه من مراتب الإيثار والتضحية والمؤاخاة ما تَحلُم به النفوس، بل ذلك الصبر والتحمّل وهوان النفس اتّجاه الدين هو من علاماته أيضاً، والاندفاع اللامُتناهي نحو الشهادة والموت في سبيل من أجل الحقّ والمبدأ القويم، ومن شواهده ذاك المجاهد عمر بن الحمام - أخوبني سلمة - حينما سمعَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُحرّض الناس على القتال، حيث قال: (والذي نفس محمّد بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابراً مُحتسباً، مقبلاً غير مُدبر، إلاّ أدخله الله الجنّة)، فقال عُمر بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء! ثُمّ قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتّى قُتل، هذا المجتمع الذي بناه القائد العظيم والإمام الهادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لكن مع أمثال هذه الصورة وممّا لا يُمكن حصره على شاكلتها، وهذا التماسك

ص: 75

الاجتماعي فإنّ ذلك لا يمنع من وجود منافق هُنا وهناك في قلبه مرض، في هذا الجانب أو ذاك وقد تأصّل في قلبه الجَشَع وحُبّ الدنيا، إلاّ أنّ الأعم الأغلب هُم حَمَلة الرسالة الّذين نشروا مبادءها في كلّ البقاع، وهم المَثَل الذي يُضرَب به في السُلوك الإنساني القويم والخُلُق الرفيع.

إنّ الشعوب إذا ما تهيأت لها الأسباب من قيادة رائدة تجعل من الذات الإنسانيّة التائهة حقيقة أخلاقيّة لها دورها الحقيقي في ترابط المُجتمع وحفظ جمعه وِفق المبادئ العادلة السليمة تكون في مستوى أخلاقي رائع تغمرها السعادة والاطمئنان.

إنّ مِثلَ هذه القيادة وهذه الأُمّة ستكون في المقدّمة بالنسبة للشعوب الأُخرى، وعلى العكس من ذلك تكون أُمّة يقودها فرعون طاغية يستخفّ بقومه ويقهرهم على طاعته، بل على تصديق ضلالاته والدفاع عنها.

إنّها أُّمّة يصعب أن تُذعِن لبُرهان حقٍّ، أو تستفيق من طغيان ظُلم واستهتار، حتى وهي تبصر الآيات والدلائل البيّنة، فلا استوقفتها هزيمة السَحَرة وإذعانهم لمُعجزات موسى، ولا استفاقت لآيات العذاب والرُعب في الضفادع والقُمَّل والجراد والدم، وحتى انغلاق البحر لقوم موسى لم يُحرّك في ضمائرهم نزعة التَحرّر من ذلّ العبوديّة والخنوع!

حقائق ثابتة:

إنّ محور كلام الإمام (عليه السلام) يدور حول العمل مع المُجتمع من خلال تطبيق الحقّ والعدالة، وتسيير أُموره وِفق ما حدّدته الشريعة الإسلاميّة، فكان هَمّهُ ووصاياه بندرج في هذا الأمر.

ولهذا نجد أنّ أغلب كُتُب الإمام فيها تذكير أو توبيخ أو تقريع أو وصايا اجتماعية

ص: 76

وغير ذلك، والدفاع هو حماية رعيّته، وأغلبها لها علاقة خاصّة بالمجتمع وتحوّلاته وأعماله ومُراعاته والرفق به ومساعدته في الظروف الصعبة التي تستوجب ذلك.

فالفكر الذي يحمله (عليه السلام) هو فكر إسلاميّ إنساني، والترابط وثيق بين الإسلام والإنسان والحق والعدالة، والمساواة هي من سُنن القرآن وشريعة محمّد (عليه السلام)، ومن أجل ذلك أرسل الله الأنبياء والرُسل مُبشّرين ومُنذرين، وعليٌّ (عليه السلام) صورةٌ صادقةٌ للوعي الرسالي والتطبيق العادل والشامل لكلّ مفاهيم القرآن على المجتمع، بل البشرية جمعاء. فرسالة عليٍّ (عليه السلام) هي رسالة الإسلام والقرآن إلى الإنسانيّة، ولهذا نجد الروح الإنسانيّة العالية في نفس عليٍّ (عليه السلام) تدور معه حيثما دار کدوران الحقّ معه.

إذن، فالسِمات البارزة والرئيسيّة في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي رفع شأن الدين ورضاء الله، ورضاء الله لا يتمّ إلاّ برضاء عيال الله، ونبذ كلّ ما هو ضدّ تَقدّم البشريّة وحُريّتها وسعادتها، ونُلاحظ من خلال ذلك أنّ المفاهيم العامة التي يحملها سيّد المُوحّدين، والتي طبّقها على نفسه وأهله قبل تطبيقها على غيره، هي التي جذبت النفوس وجعلته رمزاً خالداً على مَرّ الدُهور.

فالثورة الفرنسيّة التي ما زال العالم الغربي يتبجّح بأهدافها الإنسانية وعلى أنّها من بنات أفكارهم، وأنّ فلاسفتها أعطوا معنىً لحياة الإنسان من خلال شعار (حرية - عدل - مُساواة) نجد أنّ هذا الشعار هو جُزء من المبادئ الإسلاميّة التي أعلنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهي بكلّ ما حوت من قِيَم إنسانيّة طرحها الإمام علي (عليه السلام) قبلهم بمئات السِنين.

ص: 77

فلنأخذ بأيدي هؤلاء، ونفتح أذهانهم على الصور الواقعيّة التطبيقيّة في تُراثنا الإسلامي المجيد، من عقيدة مُتكاملة تامّة وفِكر عظيم ثاقب، وتُريهم ماذا أعطى الإسلام من مفاهيم خالدة، وما هي سيرة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ وما هو فكر عليّ (عليه السلام)؟ وما تضمّنته رسائله وكتبه بشأن ذلك؟ إلاّ أنّ الذي يَحزّ في النفوس، ويخلق الآهات والحسرات في الصدور هو ضياع الإسلام بين أهله، وتعلّق الآخرين بمبادئه والاستفادة منها تحت عناوين مُختلفة.

حُريّة الإنسان في المُجتمع:

هُناك مَن يقول أنّ الإنسان يولد حُرّاً، والمجتمع هو الذي يُقيّد حُريّته وحركته، فالطفل حينما يُولد تأخذه القابلة فوراً وتُقمّطه بقماطه وتشدّ يديه ورجليه وتمنع حركته، فإذن أوّل شيءٍ يستقبله هو القيد بِيَدِ عضو من المجتمع الكبير وهي القابلة، فتُقيّد حريّته، حين أنّ هناك كلمة للإمام (عليه السلام) هي أبلغ من كلّ كلامٍ، وأكثر واقعيّةٍ من غيرها، ولها مدلولاتها التحرّرية، وفيها معانٍ سامية هدفها خَلق الإرادة الفكريّة والعمليّة لدى الإنسان، فقد قال (علیه السلام):

(لا تكنْ عبدَ غيرك وقد خلقك الله حُرّاً)، فالعبوديّة خالصةٌ الله تعالى لا لغيره، والإنسان حُرٌّ في إرادته وفي تفكيره وفي حياته العامّة، وهذه الحريّات يجب أن يُرافقها مُراعاة الجوانب والضوابط التي حدّدتها الشريعة؛ حتى لا تُنتهك حُقوق الآخرين المشروعة في العيش بسلام وأمان، وتُصان الحياة العامّة والنُظم التي تُسيّر الحياة الاجتماعيّة من كلّ انحراف أو تجاوز، مع احترام القوانين التي تُنظّم المسيرة الاجتماعيّة، ومع ضمان سلامة الحُريّات العامة ضمن إطار الشريعة الإسلاميّة، فإنّ الإنسان سيتحرّر ذهنه من الضغوطات القاتلة لحركة الإبداع والتطور، وبالتالي فإنّ هذا الإنسان سوف لا يشعر بالذلّ والاستعباد والحقارة ويكون عنصراً نافعاً، حتى في جانب الإيمان العقائدي يرفض

ص: 78

الدين الاعتقاد الوراثي المُقولَب والجاهز، إنّما يرى في ذلك آثاراً سلبيةً مُستقبلاً، ويؤكّد على أنّ الإنسان يجب عليه التفكير والتدبّر قبل الإيمان والاعتقاد؛ حتى يضمن التماسك والرصانة أمام كلّ التيّارات المختلفة؛ فعليٌّ هو سعادة للبشريّة في أفكاره وسلوكه؛ لأنّها قابلة للتطبيق مع العقيدة الإسلاميّة في وقت واحد، لأنّ الأولى فرع من الثانية، فإنّهما قانون شامل للمجتمعات تسعد به وتعيش بسلام معه.

ولو عُدت لكُتب الإمام (عليه السلام) وكلامه لوجدته كيف يهتم بأُمّته، بل برعيته وهم عموم المجتمع، سواء كانوا مسلمين أو ذميّين، فالعدالة عنده للجميع مادام هو في ظلّ الإسلام.

الحزمُ واللِينُ:

إنّ طبيعة الناس الذين يُكوّنون المجتمع لا تتوافق في سلوكيّة مُعيّنة؛ نتيجة للتباين في الأفكار والفَهم والاعتقادات في القوانين والنُظم، والإمام (عليه السلام) يرسم خط سیرٍ القائد في علاقته مع شَعبه مادام المجتمع بهذا الشكل من الاختلاف، فلابدّ إذن من مسيرة خاصّة وهو خلط الشدّة بضغث من اللِّين، (والضغث في الأصل: قبضةٌ حشيشٍ مختلط يابسها بشيءٍ من الرَطِب، ومنه (أضغاثُ الأحلام) للرؤيا المُختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد: امزج الشدّة بشيء من اللين فاجعلها كالضغث).

ثُمّ إذا بدا أنّ الأمر لا ينفع معه إلاّ اتخاذ الحزم والشدة بناءً على مُقتضيات المصلحة الإسلاميّة والعامة وضمن الحدود الشرعية، فاستخدام ذلك ضروريٌّ.

ص: 79

وهذه مسألة أساسية في إدارة الحياة الاجتماعية والسياسيّة للبلد، وهي أيضاً حالةٌ نفسيّةٌ توجد في أعماق الكثير من الناس، فهي تستخفّ بالحاكم الذي يكون سياج مملكته هدفاً واهناً للأعداء والطامعين، والمجتمع إذا استشعر ضعف الدولة وعدم قُدرتها في السيطرة على مقاليد الأمور لضعف الوالي فسوف يختلّ التوازن الاجتماعي والسياسي، وينهار معه النظام الاجتماعي والأمني، ويصبح الأمر في غاية الخُطورة.

والبلد يكون حينئذ غابةً لوحوشٍ ضاريةٍ ومتنوعةٍ يأكل بعضها البعض الآخر. إنّها مسألةُ عظيمةٌ وحيويّةٌ، فالوالي المسلم عليه أن يُحافظ ويصون ويعدل ويُراعي الجميع، باسطاً لهم نفسه، مادّاً يده، مُعطيّاً الحقوق والحريّات بما شرعته العقيدة الإسلاميّة، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(كُلّكم راعٍ وكُلّكم مسؤولٌ فالإمام راعٍ وهو مسؤول، والرجّل راعٍ على أهله وهو مسؤولٌ، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وهي مسؤولةٌ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤولٌ، ألا فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول).

فالمسؤوليّة جسيمةٌ وخطيرةٌ، وتتطلّب نفساً تخاف الله وترعى حُرماته، و قلباً رءوفاً، وفكراً ناضجاً يستعمله في المُلمّات، مدبّراً قديراً أميناً شجاعاً.

هذه كلّها متطلّبات واقعيّة تُعطي معاني أساسيّة لطبيعة علاقة الراعي مع الرعيّة والحاكم مع المحكوم.

ص: 80

الرعايّةُ للجُمَيع:

طَرفٌ آخر من المُعادلة الاجتماعيّة تشمله الرعاية الإنسانيّة الإسلاميّة، ويدخل في الموازنة العامّة وِفقَ إطارٍ خاصٍّ تُنظّمه صورة الرسالة التالية، التي توضّح تتبّع الإمام (عليه السلام) للأحداث، ودفاعه عن طوائف المُجتمع المُختلفة، حيث قال (عليه السلام):

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقيِنَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَلا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالإِدْنَاءِ وَالإِبْعَادِ وَالإِقْصَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ).

لقد أعطى الإمام (عليه السلام) طريقة العمل مع صنف آخر من المُتجمع بعد أن وصل إليه خبر تعرّض بعض أكابر القوم من الدهاقين الذين يأمرون ولا يأتمرون للضغط والشدة والقسوة، وكذلك الاحتقار والجفوة لهم، فالإمام يقول: يجب أن يكون هُناك توازنٌ في التعامل والعلاقة مع هؤلاء الناس، لا أن تُدينهم فهم ليسوا أهلاً لذلك؛ لأنهم من أهل الشرك وأنت والي المسلمين، ولا تُقصيهم - أي تُبعدهم وتجفوهم - لأنّهم من المُعاهدين، فأشعرهم بالمعاملة اللينة مشوبة بطرف من الشدّة؛ حتى لا يشعر بضعفك في حياهم وعند ذلك يستهينون بأمرك، وأشعرهم بأنك شديد في وقت الشدّة، أي: يكون عملك متداخلاً بين قوّةٍ ورأفةٍ أو تقريبٍ وإبعادٍ مع هؤلاء، للأسباب النفسية التي يجب أن يُراعيها العالِم أو والي المسلمين، هذا في جانب العلاقة مع المشركين والمُعاهدين.

هناك جانب آخر يُظهره الإمام ويُوضّحه لعُمّاله، وكما جاء في هذا الكلام له (عليه السلام) (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّينِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ.فَاسْتَعِنْ بِاللِّهَ عَلَی مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ، وأرفِقْ مَا

ص: 81

كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لا تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ.وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلامُ).

فبعد أن أثنى (عليه السلام) على عامله من أنّه من الرجال الذين يعتمدهم في مُهمّاته في إدارة البلاد، ومن الذين يستعين به على إقامة العدل وإظهار دين الله، استمر الإمام (عليه السلام) في بيان مزاياه على أنّه من الولاة الذين يقمع - أي يدحَر - به الأعداء ویکسر به شوكة المُتكبّرين، أصحاب الذنوب والخطايا، ثُمّ قال: (وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ) (الثغر: مظنّة طروق الأعداء في حدود المملكة، واللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الإنسان).(2)

ففي كلامه (عليه السلام) تشبيهٌ رائعٌ من أنّه الخندق المُتقدّم الذي يُدافع من خلاله عن ثغور المسلمين أمام أطماع الأعداء الغاصبين، ثُمّ يطلب منه الاستعانة بالله أولاً وقبل كل شيء أمام الهموم والمشاكل التي تواجهه، والنظر إلى الأمور بدقةٍ وحذرٍ مُتناهي، فالمجتمع وأي مجتمع كان لا يمكن أن يتّصف بسلوك واحد ومسيرة واحدة أبداً، اللّهمّ ربما إلاّ في حالة واحدة عابرة، لها وقت مُحدّد وتزول بزوال المُؤثّر هي حالة (العقل الجَمعي) التي تمرّ بها المجتمعات في وقت ومكان واحد ومُحدّد. فالإمام (عليه السلام) یُشدّد على الموازنة الدقيقة في التعامل مع الناس (... قيل لبعضهم: مَن أرجح الملوك عقلاً، وأكملهم أدباً وفضلاً؟ قال: مَن صحب أيّامه بالعدل، وتحرّز جهده من الجور، ولقي الناس بالمُجاملة، وعاملهم بالمُسالمة، ولم يُفارق السياسة، مع لين في الحُكم، وصلابة في الحق، فلا يأمَنُ الجري بطشه ولا يخاف البريء سطوته).

ثِقلُ المُوازنَة:

قد ذكرنا آنفاً أن المجتمع في طبقاته وسُلو که مُتنوع، وكل طبقة يجب أن يكون لها

ص: 82

تعامُل خاصّ بها، علاوة على أن يكون هَمَّ الوالي الأوّل هو النظر إلى شؤون العامّة من الناس، ومراقبة سَيرِ حياتهم واحتياجاتهم من جميع المجتمع والاهتمام بما دونهم، ولا العكس كذلك فلكلّ موقعٍ خاص، ولا أقصد بوجوه المُجتمع الطبقة الخاصّة التي ذكرها الإمام في عهده للأشتر، إنّما تلك لها مبحثٌ خاصٌّ بها، وهي بعيدةٌ عن هذا المعنى المطروح وهناك فاصلةٌ بينهما. والرعية عموماً تؤلّف الأغلبيّة الساحقة من المجتمع وهُم العامّة، وهذه الطبقة هي الثقل الأساس في المُجتمع والطبقة المضحيّة إذا ما تعرّضت البلاد للعدوان، فهي في المُقدّمة، وقد وضّح إمامنا ذلك أيضا في عهده للأشتر، وأغلب ما تكون هذه الفئة من الناس أصحاب نفوس طيّبة طاهرة مع وجود الرعاع فيهم، فلا مُنافاة في ذلك، وهي راضية بما قسم الله لها من رزقٍ ومن منزلةٍ، غير آبهة بما يتصارع عليه الآخرون طلباً لجاهٍ أو سلطةٍ أو جمع مال، يُريدون أن يسدّوا رَمَق أطفالهم بمعيشتهم اليوميّة. فليس من العقل إلحاق الضَرر بهذا الإنسان المُستضعف، لأنّ ذلك معناه انهيار الدولة؛ لأنّ هؤلاء الناس ليسوا جُثثاً هامدةً لا قول ولا فعل لهم طيلة حياتهم، إنّما كلمتهم أقوى من أيّ شيء، وإذا أُطلقت فهي البركان المُتفجّر، وهذا لا يحدث إلاّ في حالات مُعيّنة، منها انتشار الظُلم واستدامته، ومحاربتهم في معايشهم، وإهمال حقوقهم المشروعة وقضمها حين ذاك يُحدث ما لم يكن في الحُسبان وما لا یُحمد عُقباه؛ لأنّهم الطبقة الأوسع انتشاراً والأكثر عدداً والقوة العاملة التي تُدير حركة المجتمع بجُهدها وبذلها، فالشدّة المطلوبة هنا ليس مع هؤلاء المساكين الضعفاء وإن بَدَرَ منهم شيءٌ فذلك لا يعني أن يكون مُسوّغاً للوالي لكي يُمارس حالة الظُلم والإجحاف، بل سوء العمل والخطأ، والتأديب يتناسب مع الإساءة التي ارتكبها وهي حالة عادية في المجتمعات، إنّما الشدّة مع الذي يدّعي القوة ويُحاول بكلّ إمكاناته كسب المنافع الباطلة وأكل السُحت الحرام ولو على حِساب حقّ المُجتمع، بل أحياناً إجحافه وظلمه، وأحياناً تطمع نفسه وتُمنّیه للسيطرة على مُقدّرات البلاد والحُكم، وهذه الطبقة - على ما اعتقد - هي التي يقصدها

ص: 83

الإمام (عليه السلام) لغرض الحذر منها ومتابعتها واستخدام القوّة معها؛ حيث تكون في أغلب الأوقات قريبةً من الوالي بل في بلاطه، وقد سمّاها الإمام بتسميات مُتعدّدة، منها الطبقة الخاصّة والأُخرى (بالعُظماء)، وجعل قِبالَها مُصطلح للعامّة (بالضعفاء). والعظماء هؤلاء يُحاولون بناء كياناتهم على حِساب مَن هُم أضعف قُدرة وأقلّ مقدِرة وأبعد رغبةً، الذين اكتفوا بما أعطاهم الله من مكانة.

عِلمُ النَفس الاجتِماعي والعلاقاتُ العامّة مَعَ المُجتَمَع:

إنّ قائد البلد وحاكمه لا بدّ وأن يستخدم مُختلف الأساليب في علاقته بطبقات الشعب، ولا بّد أن يكون مُلمّاً بعض الشيء بعلم النفس الاجتماعي الذي يُعطي للموازنة الاجتماعية حالة الضخّ المعنوي لاستقرار وضع المجتمع، وفي ذلك قال (عليه السلام): (وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَالسَّلامُ).

إنّ إنزال النفس للرعية والالتفات الكريم لهم تضع حالة الاستقرار في موضعها، وتعطي زخماً قويّاً للعلاقة الصميمة بين الراعي والرعيّة.

إنّ الشعور بأحاسيس المجتمع له دورٌ في تبادل المحبّة والوفاء بين الوالي والرعية، فلا يأتي لمقابلة رعيته بوجه مُقطب عبوس يقطر بُغضاً وحِقداً وكراهيّة، أي لا يُقابل المجتمع إلاّ وهو مبسوط الوجه، أي الانبساط والراحة حتى يعطي الدلالة على الرضا والمحبّة لأنّه ليس رئيساً للشرطة أو المحتسب في البلاد ليكون بتلك الصورة حتّى يخافه المُجرم والمُسيء، إنّما هو أبٌ للرعيّة وقائدٌ لمسيرتهم.

ثُمّ يطلب الإمام (عليه السلام) أن يعطيهم من نفسه حتى يتحدثوا معه ويستأنسوا

ص: 84

به، والسماح لهم بتقديم طلباتهم وطرح مظالمهم، فالمساواة بينهم مبدأٌ أساسيٌّ عند الإمام (عليه السلام)، وهذه المساواة لا تكون في جانبٍ واحدٍ محدودٍ، بل حتى في أقلِّ الأشياء في اللحظة والنَظرة، وهذا الوصف كمال الدِقّة في التعبير، حيث يتبين من خلاله حجم العلوم النفسية والاجتماعية التي يحملها الإمام (عليه السلام)، والتي صورّها في كلامٍ بليغٍ لا يُدركه إلاّ مَن أمعن في التصوير البلاغي، وهذه تحتاج إلى بحوثٍ خاصّةٍ في العلوم النفسيّة والاجتماعية، حيث لو نظرنا إلى القرب الدقيق في الحالة الوضعيّة الدقيقة لِلحْظَة والنظْرة، أو في الحركة التي تتمّ بين الأجفان وإدارة العين، والعين إذا نظرت بحرکات مُعيّنة، أو الجفن إذا تحرّك، نجد أنّها تحمل في طيّاتها معانٍ كثيرةٍ، فالمَحبّة والغضب، وعدم الرضا فيها والقبول الحَسن وما يتبع ذلك، فإذن، المجتمعات في حياتها اليوميّة قد اهتمّت في هذه العناوين والأعراف وتعوّدت عليها وتوارثتها، وأخذت النفوس تقرأ المعاني في العُيون، وتعرف الأهداف في الإشارة والتحيّة، فالناس أخذت تلتفت إلى هذه الأُمور وتهتمّ بها، فإذا ما كان صاحب تلك التعبيرات في العين والوجه واليدين (الوالي أو الحاكم) فهنا الأمر يكون أشدّ وأكثر أهميةً وخطورةً، ولكن إذا ما ساوى في هذه الصور بين الناس؛ فلا يبقى هناك تأويلٌ مُعيّنٌ أو إشعارٌ بحالة رضى أو رفض لبعض الناس دون الآخرين. يطمع العُظماء في حيفك ولا ييئس الضعفاء من عَدلك)، كل ذلك من أجل رعاية ضعفاء الناس من المجتمع، لأنّ كبراء القوم - أي عظماءهم - يترصّدون حركة وُكلام الوالي، وهدفهم الانقضاض على الفريسة، أو الجيفة - إن صحّ التعبير - لأنّ مَن يطمع بظلم ضعفاء الناس وسرقة حقوقهم المشروعة عند الوالي لمصالحه الذاتية، ومتابعة ما يقوم به الوالي لهؤلاء من حركات وأفعال لإجهاض كلّ عمل خيرٍ وصالح للناس هو في حقيقة الأمر سقوطٌ على المطامع الدنيويّة التي هي في واقع أمرها جيفة نتنة، وهؤلاء العُظماء يُحاولون الاستفادة من كلّ بابٍ مفتوح حتّى يستطيعون اقتحام قلبِ ونفس الوالي لتحقيق مآربهم على حساب غيرهم، وهذه حقيقة واقعة، فهم إذن

ص: 85

أظلم مَن عليها؛ لظلمهم ضعفاء المجتمع واستغلال الحضوة والجاه عند الوالي، وقد قال إمامنا (عليه السلام) في جانب من وصيّته لابنه الحسن (عليه السلام): (وظُلم الضعيف أفحش الظُلم)، فالأعمال التي قد تبدو عاديةً بسيطةً، وهي إشارةٌ ونظرةٌ وتحيّةٌ ولحظةٌ إلاّ أنّها تترك آثاراً عظيمة لدى الآخرين، فالمُتتبّع يتربّص تلك الحركات ويُدركها فوراً، فإذا كانت حيفاً للناس أو ظلماً فقد فتح فاه ومَدّ يديه وانبسطت أساريره طمعاً بالوالي لسلب وظلم الضعيف. وكذلك أنّ الإمام (عليه السلام) يُخبر الوالي أنّ الضعفاء إذا شعروا بظُلمك سوف يُصيبهم اليأس من عدالتك، ومسألة اليأس من العدل تجرّ إلى أمورٍ كثيرةٍ سنتداولها في بحثنا هذا.

ويستخلص ماذا أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيانه الواضح في عصره وما بعده، وفي حياتنا الحاضرة أيضاً؟ وكيف سيطر الشيطان على النفوس ودفعها نحو الشرّ والرذيلة والانحطاط الخُلقي؟ وبالتالي خراب الوضع النفسي عند المجتمع الذي يدمّر كلّ مدنيّةٍ وكلّ حضارةٍ.

التَقسّيم العِلمي أو المعرفي:

لقد بيّنا بعض التقسيمات التي صنّف بها الإمام عليّ (عليه السلام) المجتمع حسب بعض المفاهيم أو الصفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا جانب آخر من تلك التقسيمات هو التقسيم حَسب المعرفة العلميّة، وهذا أيضاً له جوانبه المؤثّرة على حياة المُجتمع ومسيرته، حيث يقول في جانبٍ من كلامه لكميل بن زياد النخعيّ:

(... النَّاسُ ثَلاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إلى رُكْنٍ وَثِيقٍ).

المجتمع من الناحية العلميّة عند الإمام (عليه السلام) على هذه الأنواع الثلاثة،

ص: 86

إلاّ أنّ أخطر هذه الأنواع على المجتمع الصنف الثالث (جهلة الأُمّة)، الذين تُسيّرهم الأهواء، وتدور بهم الدواليب، ويجرّهم القال والقيل، ويجمعهم العقل الجمعي بين الناس، وقد وصفهم الإمام (عليه السلام) بالهَمَج، وهُم الحمقی من الناس، ثُمّ إنّهم يتّبعون كلّ صيحةٍ بدون عِلمٍ ولا معرفةٍ، سواء كانت هدفها إعادة حقٍّ مغصوبٍ، أو حركة باتّجاه الباطل، فهم مع الرياح أينما تميل يميلون معها، والسبب في كل ذلك أنّهم لا عِلم ولا معرفة لهم حتى يتبصّروا الأمور ويعرفوا حقائقها، فالعلم - کما وصفه الإمام (عليه السلام) - نورٌ يُستضاء به في الظلمات، ثُمّ ليس لديهم أو في فكرهم أيّ استقرار أو هدوءٍ في أعمالهم وحركاتهم، وهم الأدوات الذين يُحرّكهم الناس كيفما شاءوا، لا استقرار لهم في رأيٍ ولا مشورة لهم أبداً. تجلبهم الصيحة سواء كانت من هُنا أو هناك کما يُحرّك مشاعرهم المال.

التقسيم الإنساني:

ينتقل الإمام عليٌّ (عليه السلام) إلى صورةٍ أُخرى في نقلةٍ حضاريةٍ أخلاقيّةٍ في منتهی الإنسانيّة والشعور الفيّاض بالأحاسيس والمشاعر البشريّة، ويُصنّف المجتمع بشكلٍ أنسانيٍّ آخر، حيث يُقسّم الناس إلى صنفين يُشكّلان عُموم الأمّة، فالناس عند عليٍّ (عليه السلام) صنفان: (إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق).

وهذه نظرةٌ إنسانيّةٌ عظيمةٌ، بل حضاريّة راقية لا يمكن أن يدرك مدى قيمتها إلاّ مَن يمتلك عقلاً راجحاً وثقافاً واسعةً. تكلّم بها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعطاها مبدأً عاماً للبشرية، وقانوناً إنسانياً حضارياً، إن طُبّق بما جاء فيه سعدت البشريّة وحَلّ الأمن والسلام. وما يطرحه أدعياء الحريّات وحقوق الإنسان من مبادئ عامّة بهذا الشأن لا تعدو كونها محض نِفاق وكذب، والإشارات كثيرةٌ في هذا الجانب ولا مجال لذكرها، وهذا ما نراه في عصرنا الحاضر وما سبقنا، حيث التبجّح والتمسّك الزائف بنصوص

ص: 87

برّاقةٍ ولامعةٍ تحوي الخُلق السليم على الورق والقتل والسبي والتشريد للشعوب المستضعفة على الأرض. فالإنسان عند عليٍّ (عليه السلام) أخو الإنسان، سواء كان في الدين و ارتباطاته الوشيجة أو في الخلقة، فالله خلقهم كلهم من آدم وحواء «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».(1)

أيّة نظرةٍ عظيمةٍ هذه، بعيدةٌ كل البُعد عن العنصرية والتعسّف والاستخفاف والاستهانة بالناس، أيّة صورةٍ ناصعةٍ هذه يُعطيها عليٌّ (عليه السلام) للحكّام وللمجتمعات البشريّة، وللتعايش السلمي في الدولة الواحدة وبناء كيانها على أُسسٍ إنسانيّةٍ قَلّ مثيلها. أين نحن الآن في عصرنا هذا من أفكار عليٍّ (عليه السلام) وما نشاهده من تمييزٍ عنصريٍّ وحقدٍ دينيٍّ وصراعٍ طائفيٍ، وجرائم بشعةٍ تُرتكب بحقّ البشرية باسم الإنسانيّة والدفاع عن حقوقها؟! ولننظر إلى واضع أُسس الحريّة والعدالة والإنصاف عليٍّ (عليه السلام) تلميذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي قدّم تلك الأفكار المليئة بالروح الإنسانيّة، ونُطبّق ما قدّم لنا وللمجتمعات الإنسانيّة.

إنّ حالة التعايش الإنساني الأخلاقي في المجتمعات تبعث الأمل في النفوس، ويعمّ النموّ والانبعاث والتطوّر، وتبدع العقول فيها بعد أن أصبحت الحياة الاجتماعية واحة أمان ومحبة وإيثار في ظل المبادئ السامية التي أعلنها علي (عليه السلام) (إمّا أخٌ لك في الدّين)، فإذا كان كذلك فلهُ حقوقٌ تستوجب أداءها في الإسلام، وقد شرح الدين ذلك ووضع أفضل الصيغ للتعامل الأخوي والإنساني. فإذا كان أخٌ في الدين يجب أن يتبادل الحقوق مع الآخرين؛ لأن تلك المبادئ قوانين عامّةٌ وتامّةٌ لا تحتاج إلى تمحيصٍ، إنّما تحتاج إلى تطبيقٍ من خلال التربية الدينية والأخلاقية، وترويض النفس حتى تطوّع للعمل بتلك القيم العظيمة.

ص: 88

(وما يجري بين الناس بعضهم لبعض: من أداء الحقوق وتأدية الأمانات والنصفة في المعاملات والمعاوضات وتعظيم الأكابر والرؤساء وإغاثة المظلومين والضعفاء). فهذا القِسم من العدالة يقتضي أن يرضى بحقّه، ولا يظلم أحداً، ويقيم كل واحدٍ من أبناء نوعه على حقّه بقدر الإمكان، لئلاّ يجور بعضهم بعضاً ويُؤدّي حقوق إخوانه المؤمنين بحسب استطاعته. وقد ورد الحديث النبوي: (إنّ للمؤمن على أخيه ثلاثين حقاً لا براءة له منها إلاّ بأداءٍ أو العفو: يغفر زلّته، ويرحم غُربته، ويستر عورته، ويقبل عثرته، ويقبل معذرته، ويردّ غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعی ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويُجيب دعوته، ويَقبل هديّته، ويُكافئ صِلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويطيب كلامه، ويبرّ إنعامه، ويصدق أقسامه، ويُواليه ولا يُعاديه، وينصره ظالماً أو مظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظُلمه، وأمّا نُصرته مظلوماً فيُعينه على أخذ حقّه، ولا يَسأمه، ولا يخذله، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه).

(وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق)، وهذه أيضاً لها مضامینها وضوابطها، فالدين الإسلامي مترجَمٌ بفكر عليٍّ (عليه السلام)، الذي طرح العدالة بمعانيها الحقّة، مطبقاً على نفسه أولاً ومُراعياً كلّ الظروف التي تمرّ على المجتمعات من خيرٍ أو شرٍّ، يُريد أن يبني مُجتمعاً إنسانيّاً بمعنى الكلمة، فالإنسان عنده الهدف في البناء، والبناء لا يكون إلا بأساسٍ مُحكمٍ والأساس المُحكم هو العدالة المُطلقة، فعليٌّ كان لا يلتفت إلى جانبٍ إنسانيٍّ ويترك الآخر، إنّه ينظر نظرةً شاملةً للأُمّة، ويكون ذلك عِبر الحكم بالحقّ كافة، فلا ينسی مثلا (أهل الذمّة وغيرهم) من اليهود والنصارى ومن الطوائف الأخرى، فهو مثلاً يقول إلى عمّال بلاده: (أمّا بَعد، فإنّ قَد سَيَّرْتُ جُنُودَاً هيَ مارَّةٌ بِكُمْ إنْ شاءَ الله، وَقَد أوصَيتُهُم بما يَجِبُ لله عليهِم مِن كَفِّ الأذى وصَرْفِ الشَذى، وأنا أبرَأُ إليكُمْ وإلى ذِمَّتِكُم مِن مَعرّة الجيش).

ص: 89

یُخر الإمام (عليه السلام) عُمّاله وجُباة الخراجِ بأنّه قد وجّه جيشاً إلى جهة معينة وهو يمرُّ بهم، وأنّه قد أوصاهم بكفّ الأذي وإبعاد شرّهم عن الناس، ثُمّ يقول: (وإلى ذِمّتكم)، أي: اليهود والنصارى الذين بينكم، قال (عليه السلام): (مَن آذى ذّميّاً فكأنّما آذاني)، وقال: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا)، ويسمّى هؤلاء ذمّة، أي أهل ذمّة، بحذف المُضاف. والمعرة: المضرّة، قال: الجيش ممنوع مَن یمرُّ به من المسلمين وأهل الذمّة، إلاّ سدّ جوعة المُضطر منهم خاصّة؛ لأنّ المُضطر تُباح له المِيتة فضلاً عن غيرها.

أهلُ الذِمّة والإسلام:

(إنّ حُقوق الأقليّاتٍ في الإسلام محكومةٌ بموقف الإسلام الأساس من كرامة الإنسان، ومن الإشارات القرآنيّة والنبويّة المُستمرّة التي تُنبّه إلى أنّ الناس خَلقُ الله وعياله، وأنّهم من نفقس آدم (عليه السلام)، وأنّهم نُظراء لنا في الخَلق على حَدِّ تعبير الإمام عليٍّ (عليه السلام)، إذ نحسب أنّ علائق الناس درجاتٌ في التصوّر الإسلامي، فهناك العلاقة الإنسانيّة التي يُمكن أن تتمّ بانفصالٍ تامٍّ عن مُختلف فوارق اللون والعِرق والدين. الإنسان لمجرّد كونه أنساناً فيه قبسٌ من روح الله).

وهذا الصِنف من الناس - أي (أهل الذمة) - كانوا يعيشون بأمنٍ وسلامٍ في ظلّ المبادئ الإسلاميّة السمحاء، وتُؤخَذ منهم الجزية وفقاً لِما فرضه كتاب الله وحدّدته الشريعة، ولذلك فإنّ المُسلمين كانوا مسؤولين عن أمنهم والدفاع عنهم.

ص: 90

الدفاعُ عنِ المُعاهدين:

إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يعتبر الدفاع عن المعاهدين من الضرورات الأساسيّة التي لا يجد فيها فرقاً بينهم وبين غيرهم من المسلمين، ففي وقائع الغزوات المُتكررة الجيش مُعاوية بن أبي سفيان على قُرى ومُدن الدولة الإسلاميّة في الأنبار، حيث قتلوا ونهبوا وسلبوا وأحرقوا كلّ شيءٍ للناس، فتأثّر عليٌّ (عليه السلام) تأثراً شديداً وحثّ أصحابه على الجهاد والقيام لمقارعة العدو بعد أن وجد فيهم التكاسل والتباطؤ والخذلان، وقد قال في ذلك: (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَی الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ

وَالاسْتِرْحَامِ، ثُمّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).

في هذا الخطاب ظهر حزن الإمام (عليه السلام) لِما جرى على المرأة المُسلمة والأُخرى المعاهدة - أي من أهل الذمة - الذي سلب جیش معاوية منها حِجلها و(قلبها) - السوار المصمت - وقلائدها و(رعثها) - وهو ضرب من الخزر - وهُنّ لا يستطعن فعل شيء سوی تردید کلمة (إنا لله وإنّا إليه راجعون) مع مناشدة هؤلاء القساة الرحمة، ثُمّ بعد ذلك عادوا من حيث أتوا بدون أيّ شيءٍ، تامّين العَدد ولم يُجرح منهم أحدٌ. و(الكَلْم) الجُرح. ثُمّ أسَفَهُ كان واحداً لتلك المُسلمة والمعاهدة، فهي تحت حمایته کما هي المسلمة.

لقد عبّر عليٌّ (عليه السلام) عن عُمق حُزنه على أعمال هؤلاء الغَدَرَة في قوله: (فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).

ص: 91

فأهل الذمة عند عليٍّ (عليه السلام) مصونون محفوظون في مالهم وأعراضهم وكراماتهم. وهذه النظرة الإنسانيّة التي لا نجد لها نظيراً في العصور السابقة، حيث إنّ بلاد الأندلس عاش فيها المسلمون مئات السنين وبينهم أهل الذمّة على عقائدهم لم يمسهم أحد، وحينما دارت الدوائر على المسلمين أنزلوا السيف على رقاب المسلمين أو یُحرَقوا إن لم يَرتدّوا، وشُرّد الباقون منهم، بحيث لا تشعر أنّ هذه البلاد مَلكها المسلمون مئات السنين، فلم يبقَ فيها إلاّ نزرٌ يسيرٌ أخفى دينه وإيمانه. والآثار الإسلامية الباقية تُدلل على الامتداد والعُمق الإسلامي المُتأصل في هذه الأرض حتى عصرنا الحالي، حيث التبعيض في المعاملة اتّجاه المسلمين وتقتيلهم وتشريدهم والعبث بكلّ مُقدّراتهم. وعلماء الاجتماع الإنساني والمفكرون لم ينسبوا ببنة شَفَةٍ حول ذلك، فليعملوا بما كان من معاملة أبناء الطوائف والأديان الأخرى كما كان يفعل عليٌّ (عليه السلام)، ويُطبّق بحقّهم عامل العدالة والإنصاف.

ثُمّ إنّهم لا يدخلون في الجيش الإسلامي كجُنود، إنّما كانت تُحسن معاملتهم، وكانوا مع المسلمين على سواء أمام القانون في القضايا الحقوقيّة.

التقسيم الإيماني:

هناك تقسيمٌ آخر عبّرنا عنه ب (الإيماني)، وهو ضمن نطاق المُجتمع بصورةٍ عامّةٍ.

فقد قال الإمام (عليه السلام) في قِسمٍ من خُطبةٍ له: (شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا وَمُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى).

هؤلاء ثلاثة أصنافٍ بهيئات إيمانيّة مُختلفة تنطبق في واقع الأمر على حقائق إيمان الأفراد وأعمالهم للآخرة، وهذه الصفات أيضاً تترتب عليها أُمورٌ كثيرةٌ في حياة المجتمع وعلاقاته وطبيعة التعامل فيما بينهم.

ص: 92

فالإمام (عليه السلام) تَضمّن معنی کلامه التأكيد على أنّ (مَن كانت أمامه الجنّة والنار على ما وصف الله سبحانه، فحريٌّ به أن تنفذ أوقاته جميعهاً في الإعداد للجنّة والابتعاد عمّا عساه يؤدّي إلى النار).

ثُمّ قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام:

(الأول) الساعي إلى ما عند الله السريع في سعيه، وهو الواقف عند حُدود الشريعة، لا يشغله فرضها عن نفلها ولا شاقها عن سهلها.

و(الثاني) الطالب البطيء، له قلبٌ تعمرُه الخشية، وله صِلةٌ إلى الطاعة، لكن ربما قعد به عن السابقين ميلٌ إلى الراحة، فيكتفي من العمل بفرضه، وربما انتظر به غير وقته، وينال من الرخص حظّه، وربما كانت له هفوات، ولشهوته نزوات، على أنّه رجّاعٌ إلى ربّه، كثيرٌ النَدَم على ذنبه، فذلك الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، فهو يرجو أن يغفر له.

والقِسم (الثالث) المُقصّر: (وهو الذي حفظ الرسم ولبس الاسم وقال بلسانه أنّه مؤمن، وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمالٍ ظاهرةٍ كصومٍ وصلاۃٍ وما شابههما، وظنّ أنّ ذلك كل ما يطلب منه، ثُمّ لا تورده شهوته منهلاً إلاّ عبّ منه، ولا يميل به هواه إلى أمر إلاّ انتهى إليه، فذلك عبد الهوى وجدير به أن يكون في النار هوی).

ص: 93

التقسيم الإداري:

1 - الجُند:

وهو في تعبيرنا العسكري الحالي: القوات المُسلّحة، أي الجيش الذي يُحافظ على الكيان السياسي والاجتماعي، ويُدافع عن الثغور من الأعداء، ويقوم بالعمليّات الجهاديّة من فتح للبلدان أو حفظ الأمن العام، وهذا الصنف من المجتمع ذكرهم الإمام عليٌّ (عليه السلام) في مواضع مُختلفةٍ؛ نظراً لأهمية موقعيته في الدولة والمجتمع بصورةٍ عامّةٍ، ثُمّ حدّد معالمهم وصِفاتهم وأهميّتهم بالنسبة لقوام الكيان السياسي، وصيانة أمن البلاد والمُحافظة على الأنفس والأرواح، وهم هيبة الدولة والسلطان، واهتم بنوعية قیادتهم، ثُمّ عالج مسألة أُسلوب تعبئة هذه القوات، أي أعطى صورة التعبئة العسكرية التي يستخدمها هذا الجيش، كما نقول في عُرفنا المُعاصر هناك تعبئة إنكليزيّة أو أمريكيّة وأُخرى ألمانيّة أو روسية، وكلٌّ يختلف بعضها عن البعض الآخر، ولهم نظريّات مُعينة في كلّ واحدة من هذه الأنواع، فالإمام عليٌّ (عليه السلام) أيضاً له تعبئة خاصّة يطلب تطبيقها على جنده في أيام الحرب، وهذا جانب من تعبئته للجيش، حيث يقول (عليه السلام): (فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَعَضُّوا عَلَی الأَضْرَاسِ؛ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَالْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ؛ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الأَبْصَارَ؛ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ

وَأَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَمِيتُوا الأَصْوَاتَ؛ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ، وَرَايَتَكُمْ فَلا تُمِيلُوهَا وَلا تُخِلُّوهَا وَلا تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ).

وفي كلام آخر له (عليه السلام): (وَأَكْمِلُوا اللاّمَةَ، وَقَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَدِهَا

قَبْلَ سَلِّهَا، وَالْحَظُوا الْخَزْرَ، وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَنَافِحُوا بِالظُّبَى، وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللِّهَ وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَعَاوِدُوا الْكَرَّ، وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الأَعْقَابِ...).

ص: 94

2 - الدرع الحصين:

يُطلق على الجيش عادةً بالدرع الحصين؛ لأنّ الأُمّة تتستّر بالجيش في المواقع الخطيرة التي يتعرّض فيها الوطن إلى الغزو أو الاعتداء أو السلب والنهب، فقال فيهم عليٌّ (عليه السلام): (فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللِّهَ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَزَيْنُ الْوُلاةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلا بِهِمْ، ثُمّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلا بِمَ يُخْرِجُ اللُّهَ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ

عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ).

يُعطي أمير المؤمنين (عليه السلام) أهميّةً لوجود الجُند، فهم الدرع الواقي من الأعداء، وبه تتحصّن الأمة خوفاً من الفتك أو سلب الممتلكات أو إزهاق الأرواح والاعتداء على الأعراض وإيجاد الخلل والإرباك في حياة المجتمع، وهكذا يستمر بالكلام فيقول: (وَزَيْنُ الْوُلاةِ) أي إنّ الجيش للوالي أو الحاكم زينٌ وما يزدان به بحيث يشعر الوالي بالمهابة والافتخار وعلوّ الهامة، فالرؤساء الآن يستعرضون قواتهم دائماً في الساحات العامّة وأمام الجماهير، ويبّرزون ذلك إعلاميّاً ليفتخروا وتزداد قوتهم وصلابتهم من خلال الدفع المعنوي الذي يحصلون عليه.

ثُمّ (وَعِزُّ الدِّينِ)، فقد قامت الدولة الإسلاميّة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقويت شوكتها بذلك النفر المجاهد من أهل بدر، ولولا تلك القوّة البسيطة العدد القوية بالإيمان لمَا استقام الأمر، ثُمّ تطورت الحالة إلى تجييش الجيوش لمُقاومة الكفّار والمشركين وفتح البلدان، حتى في وقت مرضه والذي أعقبته وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنفذ جيش أُسامة لكي يُرسله إلى بلاد الشام، وطلب من أكابر الصحابة - بما فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب - أن يلتحقوا بهذا الجيش الذي عسكر بالقُرب من المدينة ولعن من تَخلّف عنه.

ص: 95

ومع ذلك تخلّفوا عن ذلك الجيش، فالغرض من ذلك هو أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد اهتمّ بأمر الجيش وأمر الصحابة بالالتحاق به؛ لأنّه عزّ الدين، وبه يكون الذود عن حمى المسلمين، والدفاع عن مبادئ الدين فاهتمّ بأمره ذلك الاهتمام العظيم، حتى أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أعطى أجمل الصور المثاليّة للمجتمعات الإنسانيّة عامة بتقديمه على أصحابه وأتباعه ليصون ويحافظ على دين الله كما يذكر ذلك أمير المؤمنين، حيث يقول (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَأَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَالأَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ).

وغالباً فإنّ أي حاكمٍ أو سلطانٍ أو راعي رعية يريد الحصول على مجتمع متكاملٍ ومتكافئ تحت إمرته ويقوده نحو الصلاح لا بدّ وأن يكون هو ذلك القائد أُمثولةً لمَن هو دونه في التضحية والفداء والسخاء والكرم والعِفّة والأمانة، فالمجتمعات الإنسانية تفتخر بمن هو قُدوةٌ، وتعتزّ به لِما أدركته فيه من خصالٍ حميدة، وإقدامٍ شجاع، وتضحيةٍ جسميةٍ وخُلقٍ رفيعٍ.

(وَسُبُلُ الأَمْنِ) الخاصّية الثالثة: هي القوّة الصائنة التي يكون فيها حِفظ الأمن والنظام في البَلد، وتكون حياة الناس ومصائرهم محفوظة من الأخطار والأهوال والاستغلال والمجتمع لا يقوم إلاّ بهؤلاء المدافعين عن كيان الأُمّة (وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ).

ص: 96

3 - الجيشُ والخَراجُ:

يؤكّد الإمام على الميزانيّة العامة للجيش، وتخصيص المبالغ الكافية لكي يكون هذا الجيش الذي يحمل تلك المزايا المُهمّة للبلد والمجتمع جاهزاً وكاملاً ومسلّحاً تسلیحاً قويّاً، وبدون المال لا يكون هناك جيشٌ قويٌّ ولا سلطة رصينة تحفظ المجتمع وتصونه وتُجاهد عدوه وتصلح به ما فسد من أمأمْرِ الأُمّة، (ثُمّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ).

4 - المُثُلُ العُليا والقيادةُ العَسَكَرِيَّة:

إنّ المجتمعات الرصينة تحمل صفات قادتها دائماً، فالقائد الشجاع يكون أُمثولةً صادقةً لشعبه، والعسكري الباسل الذي يحمل الصفات الأخلاقيّة العالية، والطاعة الكاملة، والإيمان العالي تكون صورته وأعماله الحافز الأوّل والرئيسي لإقدام الجندي وبروز شجاعته وتضحيته في سوح الوغى، ولذا وضع مُعلّم الإنسانيّة الثاني بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمام عليٌّ (عليه السلام) تلك الخِصال الطيّبة في هذه الصور الرائعة (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إلى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو

عَلَی الأَقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ، ثُمّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ، ثُمّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيةٌ لَهُمْ إلى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَلا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالا عَلَی جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِلْجَسِيمِ

ص: 97

مَوْقِعاً لا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ).

قال ابن أبي الحديد: (هذا الفصل مُختصّ بالوصاة فيما يَتعلّق بأمراء الجيش، أمره أن يولّي أمر الجيش من جنوده مَن كان أنصحهم الله في ظنّه، وأطهرهم جيباً، أي عفيفاً أمينا، ویُکنّی عن العِفّة والأمانة بطهارة الجيب لأنّ الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه، فإنْ قُلت: وأيُّ تعلق لهذا بولاة الجيش؟ إنّما ينبغي أن تكون هذه الوصيّة في وُلاة الخراج! قلتُ: لا بُدّ منها في أُمراء الجيش لأجل الغنائم).

من خلال كلام الإمام (عليه السلام) نخرج بحصيلةٍ من المعاني الأساسيّة والتي لها تأثيرٌ مباشرٌ على سلامة المُجتمع، وما خصَّ به الإمام (عليه السلام) من كلامه وهو الجيش، حيث يجب تولية قيادات الجيش إلى من يحمل الإيمان الثابت بالله، والاعتقاد الراسخ برسوله، والطاعة التامّة للإمام، ولا يكون عكس ذلك، بالإضافة إلى تمتّعه بأخلاقٍ عاليةٍ وعفّةٍ وطهارةٍ وأمانةٍ واستقامةٍ عامة تؤهّله لهذا المنصب الحساس؛ لأنّ ما يتحمّله هذا المنصب من مهمّاتٍ وتنظيمٍ وإدارةٍ وإحساسٍ وشعورٍ بالمسؤولية تفرض أن يكون قائد الجيش حاملاً للخصال الحميدة، من الشجاعة المتناهية والصلابة اتجاه الأعداء واللين والرأفة مع جنده في الأوقات التي تحتاج إلى ذلك.

ثُمّ (مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إلى الْعُذْرِ) أي يقبل أدني عُذرٍ ويستريح إليه، وتسكن عنده الجُند، ويرأف على الضعفاء، أي يرفق بهم ويرحمهم، والرأفة: الرحمة، (وَيَنْبُو عَلَ الأَقْوِيَاءِ): يتجافي عنهم ويبعُد، أي لا يُمكنّهم من الظُلم والتعدّي على الضعفاء (وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ): لا يهيج غضبه عُنفٌ وقسوةٌ، ولا يقصد به الضعف أي ليس عاجزاً.

(ثُمّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ).

في هذا المقطع أعلاه يتوخّى الإمام من ولاته تنصيب قادةِ جُنده على أُسسٍ أخلاقيّةٍ وعلميّة حتى يبعد كلّ شُبهة تُضعضع نظام الجيش وتخلخله، فهو يختار الصفات المُناسبة

ص: 98

بدقّةٍ مُتناهيةٍ، نلاحظ من خلال ذلك مدى التفكير بالمستقبل، فهو يُبني على أُسس مدروسةٍ تامةٍ ذات أهدافٍ بعيدةِ المدى تُنبئ عن عقليّة جبّارة فائقة، فبعد أن يُعطي المعالم الشخصية الأخلاقية للقائد يستمرّ في كلامه، فيطلب أن يكون قادة الجُند من المعروفين بأنسابهم الطيّبة وأحسابهم المعروفة (وكان يقال: عليكم بذوي الأحساب، فإنْ هُم لم يتكرّموا استحيوا).

ثُمَّ (وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ)؛ لأنّ الشَرَف والكرامة والفضيلة هي من الأُسس التي يقوم عليها كيان الجيش، بدءاً من القائد الأوّل إلى الأدنى، ونلاحظ ذلك الآن في الإعلام الحربي وغيره لدى الكثير من الدول التي تؤكّد على هذه الخِصال، وتلصق بجيوشها الخصال الرفيعة من الشرف والكرامة، وتؤكّد دائماً على أن الجيش هو الشرف الأعلى في المجتمع لِما فيه من رفع المعنويّات، و(الجنديّة تعمل على بثّ روح الثقة الاجتماعية بين الأفراد وحبّ الطاعة للنظام العام، والكراهة للتفرقة والانقسام، والحثّ على الأُخوّة والوئام والتعاون والتكاتف في سبيل مصلحة المجموع وتقدیس الواجب، وهذا الخُلُق الروحي هو جوهر ما ترمي إليه تعاليم الجنديّة ونظامها) إذا كانت هذه الصفات تعطيها الجنديّة أو تُربّي روح المقاتلين عليها، فما حال جیش العقيدة الإسلاميّة وجُند عليٍّ (عليه السلام)؟ فمِن المؤكّد أن يكون على رأس هذا الجند مَن هُم بتلك الصفات التي ذكرها الإمام عليُّ (عليه السلام)، وتلك الخِصال الحميدة الطيبة، ثُمّ عدد الإمام بعضها وهي الأساس:

1. مِن أهل النجدة.

2. شجاع.

3. سَخي.

4. من أهل السماحة.

5. أمين.

ص: 99

كلّ هذه كما قال الإمام (عليه السلام) (جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ) أي: إنّ هؤلاء القادة يحملون كلّ صفات الكرم، وبالأحرى مجموعةٌ من المكارم والمعاني الأخلاقية وأقسام المعروف بكلّ أنواعه.

عِلمُ النفسِ الاجتماعي في تعامُلِ عليٍّ (عليه السلام) مع جُنده:

لقد وضّح الإمام علي (عليه السلام) أهميّة الجند وأثرهم الفعّال في حياة الكيان العامّ السياسي والاجتماعي، ثُمّ أعطى بعد ذلك وجهة نَظره في اختيار القيادات العسكريّة وصفاتهم وأفعالهم السابقة، وعاد ليُعالج مسألةً حسّاسةً وحيويّةً في مسيرة بِناء الجيش والمحافظة على تنظيمه وتكامله والدفع المعنوي له، حيث أخذ يُعالج المسائل المُتعلّقة بالجُند معالجةً نفسيّةً اجتماعيّةً، ثُمّ يُعطي رأيه السديد في هذا الأمر حتى لا يبقى جانبٌ من الجوانب المتعلّقة بحياة وعمل هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع دون اهتمامٍ أو بيانٍ لها، فالقائد الشجاع والمُميّز بصفاته الأخلاقيّة الذي يهتمّ بأمر جُنده ويُعينهم في وقت الشِدّة والحاجة هو الذي يجب أن يَحضى بالمنزلة الرفيعة والاهتمام الكافي به (وَلْيَكُنْ آثَرُ

رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَ يَسَعُهُمْ وَيَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ).

فالإمام (عليه السلام) وفي التفاتةٍ رائعةٍ إلى الجانب الاجتماعي والنفسي للجند يُقدّم لنا صوراً للتعامل الإسلامي العظيم، فيؤكّد على أن يكون أفضل قادة الجُند لديك مَن واسی جُنده بما حمله من المال وصرفه عليهم وعلى أهليهم الذين خلّفوهم في مساكنهم من أولادٍ ونساءٍ، والذين لا يوجد أحدٌ لديهم يعيلهم أو يمدّهم بالمال والغذاء، إلاّ ذلك المجاهد في سبيل الله الملتحق بالجيش، وهذه مسألةٌ في غاية الأهميّة، حيث لها آثارٌ اجتماعيّةٌ ونفسيةٌ عظيمةٌ وضحها الإمام (عليه السلام) بجلاء، حيث قال: (حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً

ص: 100

وَاحِداً فِ جِهَادِ الْعَدُوِّ)، فالجندي إذا ما ضمِن المعيشة أو الاستقرار المادّي والأمني لأهله من بعده، وعدم وقوعهم في حالة العوز والفاقة، فإنّه لا يلتفت إلى وراءه، وتكون جهته هي جبهته، و همّه هو قتال عدوّه، وهو معتقد حتّى وإن استشهد فإنّه مُطمئنُّ البال، وينام قرير العين في مرقده النهائي، فلا يمكن أن يكون الجندي في ساحة المعركة فكره مشغولٌ بأمورِ عائلته، وقد يترافق مع تلك الأموال سوء معاملة القائد العسكري لجنده، حيث يترك ذلك الآثار السلبية الذي ينتج عنه الفرار وانکسار الجيش وهزيمته أمام العدو.

لقد أعطى الإمام (عليه السلام) الجوانب الايجابيّة للمعاملة الحسنة والآثار السلبية للمواقف السيئة، وأكّد أنّ عطف القائد ورعايته للجند يبعث الراحة والطمأنينة لديهم، وبالتالي يعود ذلك عليه خيراً حيث يُقدّم الجند أنفسهم وأرواحهم على أكفّهم، حيث يقول (عليه السلام): (فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك)، وبالتالي فإنّ الجُند سوف يُبادلون القائد نفس الحبّ والحنان والمودّة.

العلاقةُ الإنسانيّة ومودّة الأُمّة

هناك ترابطٌ قويٌّ بين اهتمام الوالي بالعدل والإحسان وبين ظهور مودّة الرعيّة للوالي ونصحهم في ذلك، وقد قال عليٌّ (عليه السلام):

(وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وإِنَّهُ لا

تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إلِا بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ، وَلا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إلِا بِحِيطَتِهِمْ عَلَی وُلاةِ الأُمُورِ وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ).

وينفكّ عن هذا الارتباط الجندي الذي لا يُمكنه التضحية في ساحة الوغى أو النصح لولاته إذا كان لا يرغب بهم ولا يميل إلى وُدّهم، حيث يستثقل وجودهم مع دولهم

ص: 101

ويتمنّى زوالها لِما عاناه منهم.

أمّا إذا كان الأمر عكس ذلك، فإنّهم (لا يستبطوا انقطاع مدّتهم، بل يعدّون زمنهم قصيراً يطلبون طوله).

حيث ربط الإمام عليٌّ (عليه السلام) بين ما سبقَ وما لحَق من تبادل النُصح والمحبّة بين الجُند والوالي، وبين ما يتبع ذلك من واجباتٍ و حقوقٍ، فالقائد الذي له صفاتٌ جيدةٌ له أثرٌ كبيرٌ على المعنويات والمجتمع بصورةٍ عامّةٍ.

حسن الثناء ورفع معنويات الجند:

إنّ رفع المعنويات لا ينحصر بصورة المعاملة والرابطة التي ذكرت آنفاً بعد، بل ذَکر الإمام علي (عليه السلام) جوانب أُخرى نفسية اجتماعية، لها أثرٌ فاعلٌ في وضع الجند وقادتهم (وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَ ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَ، وَلا تَضُمَّنَّ بَلاءَ امْرِئٍ إلى غَيْرِهِ، وَلا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلائِهِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إلى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلا ضَعَةُ امْرِئٍ إلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ

بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً).

فعَدَّ المفاخر والمآثر لمَن هُم أبلوا بلاءً حسناً، وحسن الثناء عليهم وإبراز بطولاتهم، بتعداد ذلك يهزّ الشجاع منهم ويزيده بسالةً وبطولة وإقداماً وجُرأةً، (وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) أي المتأخر القاعد من الناس.

إنّ إبراز الشخص البطل أمام المُجتمع بصورة الإنسان الذي لا يرهب الموت وتخافه الأعداء وله سیفٌ صارمٌ سيكون له التأثير الإيجابي الفعّال على اندفاع الآخرين،

ص: 102

وستجعله مرفوع الهامة له الموقع المُحترم في قلوب الناس جميعاً، وعائلته وأهل بيته يفتخرون به، ويعدّون مناقبه وبطولاته كرجلٍ قويٍ وشَهمٍ وشجاعٍ، إنّ هذا الأمر قریبٌ جدّاً من حياتنا الاجتماعية، حيث عایشنا هذه الحالات في مجتمعاتنا، وفي العالم أجمع، فالشخص الجبان المتخلّف عن الجيش الفار من ساحة القتال يُعيّره الناس وينتقصون من شخصيّته بحيث يصبح مُهان الجانب، وهذه تقريباً كانت ولا زالت عُرفاً اجتماعيّاً له حساسيّته وفاعليّته في النفوس، وأكثر ما تكون آثارها السلبية في المجتمعات البدويّة بصورة عامّة (ثُمّ أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم، فإنّ ذلك مما یرهف عَزم الشجاع ويُحرّك الجبان، قوله: (ولا تضُمّنّ بلاء امرئٍ إلى غيره) أي اذكر كلّ مَن أبلى منهم مُفرداً غير مضموم ذکر بلائه إلى غيره، كي لا يكون مغموراً في جنب ذکر غيره، ثُمّ قال له: لا تعظّم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم، ولا تُحقّر بلاء ذَوي الضعة الضّعة أنسابهم، بل اذكر الأُمور على حقائقها).

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي:

يحدث الظلم أحيانا نتيجة الطمع وحبّ الغلبة، بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إنّ الإنسان يحتاج إلى من يتظلّم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية، وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالة والده وقوّته وسطوته التي تعيد ما أخذ منه إليه، بالإضافة إلى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبي بينه وبين أبيه حينئذٍ يشكو إليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من أخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل وإحساسه واطمئنانه النفسي بأنّ والده سوف يأخذ حقّه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلّق بالأثر النفسي في ذات الإنسان نعايشها يومياً في مجتمعنا، هذا في الحلقة الأولى المكوّنة للمجتمع، وهكذا يسري الأمر إلى المجتمع كلّه بكافّة طبقاته، فإذا ما

ص: 103

أحسّ الإنسان بعدالة ولي أمره واهتمامه باستاع مظالم الناس والإجابة عليها فوراً، قولاً وفعلاً، فإنّ ذلك سوف يدفع الناس إلى الالتفاف حول الأب الأكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمّات والشدائد من الأيام.

وقد اهتمّ إمامنا في ذلك الاهتمام الواسع، فأخذ يفصّل جوانب هذا العمل ويسعی إلى تربية الولاة للأخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدّد لهم معالم النظر في المظالم، وصوره، وكيفيته، ومِلاكاته، ومراعاة حالات الشاكي (المتظلّم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه، وإعادة الحقّ إلى نصابه بالصورة الصحيحة. وعلي (عليه السلام) قال البعض عمّاله، في كتاب بعثه إليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش: (وأنا بين أظهر الجيش فارفعوا إليّ مظالمكم، وما عَراكم ممّا يغلبكم من أمركم، ولا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله).

فإذن، قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لأنّها تثبت العدالة وتجري الأحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وأنّ سلامة المجتمع وصحّته تأتي من رفع المظلومية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الأمر يحتاج إلى قوّة إيمانية وعدالة سلطانية تعطي الإنسان سلامة أمره واستقراره، وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية وامتزاج ذلك بالقيم الأخلاقية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا علي (عليه السلام) يوصي في أنفاسه الأخيرة، ولديه الحسن والحسين (عليه السلام)، بقوله: (أوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحقّ، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم).

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المُرادي، يوصي علي (عليه السلام)

ص: 104

بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت، ثمّ قول الحقّ، فالحقّ عند علي (عليه السلام) معناه إرادة الله وكلمته، ففيها نجاة الأمة وخلاصها واستقامتها. ثمّ أكّد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثمّ إعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في علي (عليه السلام) طعامه ولباسه وكرامته وعزّه، بتلك الرأفة، وذلك الحبّ، أطعم الأيتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز إذ عجن بالذلّة والمنّة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الإمامين سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليها السلام)، وحبيبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويؤكّد عليهم وهو الذي قد خَبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب عليٍّ، وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وإنّهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممّن قرب أو بعد، ممّن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل.

إنّه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية، ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدقّ أسماع وعقول الناس في كلّ زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثمّ انتقل إلى الشيء الأعظم والأهم ألا وهو: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذکما في الله لومة لائم).

حتى في آخر اللحظات يدعو إلى إنصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين، فإنّ ذلك أساس العدل والحكم الذي أراده الله، ومهما يكن هذا الظالم کُونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقیم (ولا تأخذكما في الله لومة لائم) ونستنتج من قوله (عليه السلام) هذا ثلاث قضايا مهمّة، كأنّهن الأعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع:

1 - الرحمة.

2 - إعانة الضعفاء، أي: فقراء الأمة ومن لا حيلة ولا قوّة له.

ص: 105

3 - العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف إلى جنب المظلوم واخذ حقّه ممّن ظلمه.

لله درك يا أبا الحسن! من أبٍ رؤوفٍ وحاكمٍ عادلٍ ومربٍّ أخلاقي عظيم، واجتماعي فرید، جمعتَ كلَ الخصال وأعطيت كلّ روحك لهؤلاء الناس الأيتام والضعفاء المظلومين فأعطوك كلّ شيء.

شرائط النظر في المظالم:

لم يجعل الإمام (عليه السلام) مسألة النظر في المظالم في المستوى الإرشادي فقط، إنّما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الأمر، فوضع لهذا الأمر المهم مقوّمات أساسية لا يمكن أن يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها، ولا يمكن أن تكون عدالة في هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها أمير المؤمنين في هذا النص:

(وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً

فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ للهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛

حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللِّهَ (صلّی الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ للِضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ). ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

إنّ النظر في المظالم يتطلّب أولاً - وقبل كلّ شيء - أن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلوماً لذلك، ثمّ العمل بالبنود المهمّة التي وضعها علي (عليه السلام) التي تدل على صحّة عملية النظر في المظالم، وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الآخر؛ لأنّها متلازمة في أمرها. و (تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ

ص: 106

وَشُرَطِكَ).

إنّ الإنسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والآثار النفسية المتبقية في ذهنه، من إرهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الأُبّهة العالية، تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته، وربّما يفر ولا يعرض قضيّته وهو معتقداً أنّ سلامة نفسه هي أفضل من الحصول عل ظُلامته. ولهذا يضع أمير المؤمنين (عليه السلام) الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الأعمال، فهو أولاً يطلب أن يجلس الوالي بنفسه وأن لا يوكل غيره لذلك؛ لكي يعالج المشاكل ويحلّ العقد ويباشر الأمور ويطلّع عليها شخصیاً. ثمّ ينصب میزان العدل الإنصاف المظلوم والأخذ بالظالم وإعادة الحقّ إلى نصابه، ونشر راية الرحمة على رؤوس الأبناء، أي المجتمع؛ لأنّ الراعي يعتبر الأب للقوم، فإذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا یُدنيهم ولا يتظلّمون عنده بالحقّ فلا نفع من ذلك إذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة.

فلا تبطر!. كما قال الإمام (عليه السلام) وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكلّه شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامة بأوضاع المجتمع واعتباراته، ومستقر للأوضاع والأحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطي النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عمّاله لكي تكون أشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع، إذ يضع النقاط على الحروف لكلّ مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بُعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة وأخرى، فكلّها نابعة من أساس واحد ومصدر أصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي أصل لبناء كل أمر.

فمرّة يأمر ولاته بتفقد أمور الرعية بإرسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبّرون على الناس حتى يدوّنوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة والتامّة إلى

ص: 107

الولاة دون إضافات أو نواقص متعمّدة من الذين لا يستطيعون المجيء إليه. وكذلك يأمرهم بالأمر التالي: فانشر العدل بنشر أصحابك الثقاة، ومرّة أخرى يكون هناك إنسان مظلوم نهب حقه وهدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحقّ والرحمة بواسطة إنسان ظالم، سواء كان عاملاً من عمّال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شَرطة، أو أي إنسان آخر، ولا يجد من يتظلّم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه إلاّ الله والذي بيده ولاية الأمر، وهي بطبيعة الحال أمانة في عنقه من الله لرعاية أمر عباده. وهذا الأمر قمّة في العدالة الإنسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات التي توجد فيها هذه المبادئ الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للإخلاص والتفاني والتضحية سواء كان لدينها أو وطنها.

ثمّ يطلب الإمام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عامّاً، ويريد من كلامه أيضاً أنّ لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب أن يكون وَقوراً متواضعاً؛ لأنّ الله ينظر إلى حكمه وعدله (فتواضع لله الذي خلقك)، ثمّ لا يتعرّض الحاشية والحرّاس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الأعوان الممحلقين أعينهم بشدّة، وفي وجوههم القسوة والشدّة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام (حتى يكلمك متكلّمهم غير متتعتع أي: لا يترددون في العرض عندك، ثمّ يقول: فإِنِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللِّهَ (صلّی الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).

فأمير المؤمنين (عليه السلام) استشهد بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يؤكّد وبوضوح عدم طُهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، إذ لا يستديم الحكم إلاّ بالعدل وإنصاف المظلومين.

وإذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فإنّ التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لأنّ الناس لا يمكن أن تستكين للضيم والقهر مدّة طويلة وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلّل على ذلك.

ص: 108

ثمّ يجب أن يتوقع الوالي كلّ شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذي أعياهم الفقر، وأتعبهم الفقر، والدواهي التي أصابتهم من العمّال والأعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثمّ لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من أعدائهم. هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربّما يجرح، أو عنف في كلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في النفوس المؤجّجات للأحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى (وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللُّهَ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِ إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الإنسانية القيّمة التي يضع مضامينها علي (عليه السلام) ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لأمته من الضياع والهتك والتسلّط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للإنسان أن يعيش ضمن مبدأ الإسلام العظيم الذي يعطي للإنسان حريّته وكرامته، وكذلك يقول للوالي: بأن لا يضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم، فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدّث إليهم. إنّ الله يعوض عن ذلك للإنسان الذي يحمل الحبّ والحنان والعطف والرفق، بل كلّ معاني الكلمات التي تبعث في القلب والنفس الروحَ الإنسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله رحمته وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الإنسان، إنّ الوالي بهذا العمل أدّى فرائضه وأدّی حقّ عبادته، ومعنى ذلك أنّه أطاع الله من خلال التعاليم الإلهية التي أوجبها على عباده، فالأجر والثواب على تلك الأعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الإحسان ورضى النفس وبدون منٍّ أو أذى أو استكثار، وإن أردت أن تمنع فامنع بلطفٍ واعتذارٍ؛ فإنّ ذلك أسمى وأرفع وأبلغ أثراً في النفوس وأكثر تقبّلاً وقناعة لدى الناس بحيث تدفعهم إلى مَحالهّم وهم راضين عنك، شاکرین عملك.

ص: 109

علي مع الحق والحق مع علي:

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب میزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ علي (عليه السلام) في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول (عليه السلام): (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّ أُرِيدُكُمْ للهَّ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! أَعِينُونِي عَلَی أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللِّهَ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً).

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها، ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كل مظلوم و مستضعف ومن تقتحمة العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية. ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنکفي موازين العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على

ص: 110

حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسّميه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) ونسمّيه (الظالم).

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من بعضها: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ».

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1).

«الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ»(1).

«وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ».

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي (عليه السلام) مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

ص: 111

النظرة العلوية إلى الظلم:

إنّ منهج الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه (عليه السلام) التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له (عليه السلام) يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه: (وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَی حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إللَّهِ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِياَمَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِباَدِ وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا).

إن الإمام (عليه السلام) يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين وسيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول (عليه السلام): لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كله أحبّ إليه من أن يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام (عليه السلام) يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا (فالنفس نهايتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ص: 112

ثم إنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر شدّته من يوم القيامة، حيث قال (عليه السلام): (أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ

شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى، وَ لا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ الل فَإِنَّ جَمَاعَةً فيِمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فيِمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَی وَلا مِمَّنْ بَقِيَ).

إنّ الإمام (عليه السلام) يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام (عليه السلام) في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك: (دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه).

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنّه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من الا الا تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب ومرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والإمام (عليه السلام) يقول في ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِ عَلَی أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ

لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ

ص: 113

کَارِهاً) .

ولا زالت كلمته (عليه السلام) التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) تدّق أسماع العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي (عليه السلام) لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهم أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم: (انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبها البعيد، ولا تطلّ الدّماء ولا تعطّل الحدود).

أو كما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان: (... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين... وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون)

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة: (وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوى اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام (عليه السلام) على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة

ص: 114

بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتب إليه بمثل هذا، فكتب (عليه السلام) إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها.والسلام).

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام (عليه السلام) هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه: (إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام (عليه السلام) خير الآخرة - لمن يريد - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: يا كميل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلي، فإن لم تكن من وجهه

ص: 115

وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً: (يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا - أو: تعيشوا في الأرض مفسدين).

وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم وصدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم:

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...)

ص: 116

إنّ كتاب الإمام (عليه السلام) قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ص: 117

الخاتمة:

بات واضحاً من خلال ما مر في البحث ان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سعى إلى وضع أسس ودعائم الدولة المتحضرة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان واحترام إنسانية الإنسان، وقد سعى الإمام عليه السلام سعياً حثيثاً في سبيل تحقيق ذلك، الأمر الذي كلّفه حياته الشريفة، إذ عاداه مجتمعه الذي تعود على نظام الطبقية.

ويحق لنا كمسلمين الفخر والاعتزاز ونحن ننظر إلى باني الدولة العصرية قد نادى بالشعارات التي ينادون بها اليوم، ودعا لها وعمل على تحقيقها، فيما يسمونه اليوم: حرية، ديمقراطية، فهم الآخر، الحوار مع الآخر..

وقد تبين بوضوح انّ الإمام عليه السلام، قد سبق العصور والأزمنة بفكرة الثاقب ورؤاه العظيمة، إلاّ ان المجتمع آنذاك لم يكن متفهماً وواعياً بما فيه الكفاية لما كان الإمام عليه السلام، وبالنتيجة لم يستفد ذلك المجتمع من تلك الوصايا النورانية التي تعد بحق لبنات بناء الدولة المتحضرة.

وتعدّ العدالة المحور الأكثر بروزا في منهج حكمه عليه السلام، وقد بلغ من اقتران اسم الامام أمير المؤمنين عليه السلام بالعدالة، وامتزاجه بها، قدراً كبيراً، إذ صار اسم يريده علي عنواناً للعدالة، وصارت مفردة العدالة توحي باسم (علي) صلوات الله عليه.

واليوم، لا تزال الفرصة سانحة، وبإمكان عالم اليوم المليء بالحروب والدمار والأزمات، أن يعود إلى ذلك النهج النير، نهج الإمام علي عليه السلام، فهو يكفينا لإقامة الدولة الصالحة والعصرية المتحضرة، وكذا العودة إلى كتابه إلى واليه على مصر، الشهيد مالك الأشتر رضوان الله عليه، لننهل من ذلك المعين العذب، وهو يوصي عامله على مصر بأدق الأمور، وفي شتى ميادين إدارة الدولة.

ص: 118

المصادر:

1 - القرآن الكريم.

2 - ابن الأزرق - بدائع السلك في طبائع الملك - الجزء الأول - تحقيق علي سامي النشار بغداد.

3 - ابن هشام - السيرة النبوية - المجلد الأوّل والثاني - دار المعرفة - بيروت.

4 - إشفيتسر- ألبرت - فلسفة الحضارة - ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي - مطبعة مصر - القاهرة.

5 - الأعرجي - الدكتور زهير - مباني النظرية الاجتماعية في الإسلام - المطبعة العلمية قم - الطبعة الأوّلى 1417 ه.

6 - البري التلمساني - محمّد بن أبي بكر الأنصاري - القرن التاسع الهجري - تحقيق الدكتور التنوخي.

7 - البيّاتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الإسلامي مقارناً بالدولة القومية القانونية - الطبعة الثانية.

8 - التوحيدي - أبو حيان - الإمتاع والمؤانسة - دار الشريف الرضي.

9 - جرداق - جورج - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية المجلّد الأوّل والخامس - دار مكتبة الحياة - بيروت.

10 - جعفر - الدكتور نوري - علي ومناوؤه - دار النجاح - القاهرة - الطبعة الرابعة 1976 - 1396 ه.

11 - الخطيب - السيد عبد الزهراء الحسيني - مصادر نهج البلاغة وأسانيده - الطبعة الرابعة - بيروت.

ص: 119

12 - دیوارنت - ول وايريل - قصّة الحضارة - المجلّد الرابع - ترجمة محمّد بدران 1408 ه - 1988 م - بيروت.

13 - رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - منظمة الإعلام الإسلامي - إيران.

14 - زيدان - الدكتور عبد الكريم - السنن الإلهية في الإمام والجماعات والأفراد - الطبعة الرابعة 1413 ه - 1993 م.

15 - الشرقاوي - عبد الرحمن - علي إمام المتقي - المجلّد الأوّل والثاني - بيروت 1985 م.

16 - الشرقاوي - محمود - التفسير الديني للتاريخ - الجزء الأوّل - دار الشعب.

17 - الصالح - الدكتور صبحي - النُّظم الإسلامية - نشأتها وتطوّرها - الطبعة السادسة - بيروت.

18 - صحيح البخاري - تحقيق الدكتور مصطفى البغا - الجزء الثاني.

19 - صحيح البخاري - ضبط وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلّد الخامس - مطبعة الهندي.

20 - الصدر - محمد باقر - اقتصادنا - الجزء الثاني - الطبعة الثانية 1408 - المجمع العلمي للشهيد الصدر.

21 - الصدر - محمد باقر - المدرسة القرآنية.

22 - الصدر - محمد باقر - آهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف - دار التعارف للمطبوعات - بيروت.

23 - الصدر - محمّد باقر - فدك في التاريخ - تحقيق الدكتور عبد الجبار شراره - مركز الغدير.

24 - الطباطبائي - السيد محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن - المجلّد الثاني - مؤسسة

ص: 120

الأعلمي - بيروت.

25 - الطبري - محمّد بن جریر - تاریخ الرسل والملوك - الجزء الخامس - تحقیق محمّد أبو الفضل إبراهيم - بیروت لبنان.

26 - طي - الدكتور محمّد - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم - الطبعة الثانية -1417 ه 1997 م - مركز الغدير للدراسات الإسلامية.

27 - عبد الباقي - الدكتور زيدان - التفكير الاجتماعي (نشأته وتطوّره) الطبعة الثالثة (1401 ه - 1981 م).

28 - عبد الحميد - صائب - تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي. الغدير - بيروت - الطبعة الأوّلى 1417 ه - 1977 م.

29 - العلوي - هادي - فصول من تاريخ الإسلام السياسي 1995 م - قبرص - شركة F.K.H المحدودة للنشر.

30 - على - الدكتور جواد - المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء السابع - الطبعة الثانية 1413 ه - 1996 م.

31 - غيث - الدكتور محمّد عاطف - دراسات في علم الاجتماع التطبيقي - دار النهضة العربية للطباعة والنشر- بيروت.

32 - فضل الله - السيد عبد المحسن - نظرية الحكم والإدارة - دار التعارف - بيروت.

33 - الفكيكي - توفيق - الراعي والرعية - الطبيعية الثانية 1403 ه مؤسسة نهج البلاغة - شركة افست - إيران.

34 - قطب - محمّد - مذاهب فكرية معاصرة - نظرية الحكم والإدارة - دار الكتاب الإسلامي - قم - بيروت.

ص: 121

30 - الكليني - فروع الكافي - تحقيق العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية الطبعة الأوّلى 1613 ه - 1992 م - دار الأضواء للطباعة والنشر - بيروت.

36 - الماوردي - الأحكام السلطانية تحقيق الدكتور احمد البغدادي - الكويت 1989 م.

37 - متز - آدم - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريده - المجلّد الأول - 1377 ه - 1957 م.

38 - المحمودي - الشيخ محمّد باقر نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة المجلّد الرابع والخامس.

39 - المسعودي - مروج الذهب - دار الهجرة - قم.

40 - مطهري - الشيخ مرتضى الإسلام وإيران - الجزء الثالث 1405 ه - 1985 م، ترجمة هادي الغروي.

41 - مطهري - الشيخ مرتضى - العدل الإلهي - ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني.

43 - مطهري - الشيخ مرتضى - في رحاب نهج البلاغة - ترجمة هادي يوسف الغروي - دار التعارف - 1400 ه - 1980.

43 - مقدمة ابن خلدون - مؤسسة الأعلمي - بيروت.

44 - المنقري - نصر بن مزاحم - واقعة صفين تحقيق عبد السلام محمد هارون - الطبعة الثانية - منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قم 1404 ه.

45 - النراقي - محمّد مهدي جامع السعادات - الجزء الأوّل.

46 - النفيسي - الدكتور عبد الله - في السياسة الشرعية - الكويت 1405 ه. 1984م.

47 - نهج البلاغة - الدكتور صبحي الصالح - دار الهجرة - 1395 ه.

48 - نهج البلاغة - تصنيف لبيب بيضون - مكتب الإعلام الإسلامي - الطبعة الثالثة 1417 ه.

ص: 122

49 - نهج البلاغة - شرح ابن أبي الحديد - تحقیق محمّد أبو الفضل إبراهيم - دار الإحياء الكتب العربية - الحلبي وشركاؤه - الطبعة الثانية 1967 م - 1387 ه.

50 - نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بيروت.

51 - الوردي - الدكتور علي - دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - منشورات الرضي - قم.

52 - ويد جيري - الپان ج - المذاهب الكبرى في التاريخ - من كونفوشيوس إلى تويبني - ترجمة ذو كان قرقوط - دار القلم - بيروت - الطبعة الثانية 1979 م.

53 - هاريت - لیدل - التاريخ فكراً استراتيجياً - ترجمة حازم طالب مشتاق - الطبعة الأوّلى - بغداد - 1985 م.

54 - هويدي - الدكتور فهمي - مجموعة مقالات في حقوق الإنسان في الإسلام - المؤتمر السادس للفكر الإسلامي - بيروت.

55 - اليزدي - محمّد تقی مصباح المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن الكريم - ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - دار أمير الكبير للنشر 1514 ه.

المجلات والنشريات:

1 - الفكر الإسلامي - الجزء الثاني - مؤسسة البلاغ.

2 - الفكر الجديد - العدد العاشر - السنة الثالثة - 1995 م - دراسة في ضوء علم الاجتماع الحضري - إبراهيم الموسوي.

3 - لماذا السقوط الحضاري - مؤسسة البلاغ.

4 - مجلة الجامعة الإسلامية - العدد الثالث السنة الثانية - علم الاجتماع عند ابن خلدون - شيخ الأرض تیسیر.

5 - مجلة الجامعة الإسلامية - العدد الثاني - السنة الثانية - تكامل الحكمة وشموليتها في فكر الإمام علي (عليه السلام) - يوسف عبد الحميد.

ص: 123

6 - مجلة الجامعة الإسلامية - العدد السادس - السنة الثانية 1995 م - الحوار الحضاري ضرورة إنسانية - الدكتور احمد عبد الرحيم السايح.

7 - مجلة المنهاج - مركز الغدير - العدد الثالث - السنة الأوّلى 1417 همت 1996م.

8 - مجلة كلية الآداب - العدد السادس - نیسان 1963 م - جامعة بغداد - التظلم من الحكام - عبد الغني باقر.

9 - مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد - العدد 17 - سنة 1974 م - بعض نظریات علم الاجتماع في القرن العشرين - إحسان الحسن.

ص: 124

المواطنة والتنمية في حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

اشارة

الدكتور رحيم علي صياح جامعة المثنى / كلية التربية الأساسية / قسم التاريخ

ص: 125

ص: 126

ملخص البحث

تناولنا في بحثنا هذا مفهوم المواطنة التي تعرف بأنها: التزامات متبادلة بين الأشخاص والدولة، فالشخص يحصل على حقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ نتيجة انتمائه لمجتمع معين، وعليه في الوقت نفسه واجبات يتوجب عليه أداؤها.

ثم تطرقنا إلى مفهوم التنمية، وماذا نعني بالتنمية؟ وما أهدافها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟ فالتنمية في واحد من تعريفاتها: إحداث مجموعة من المتغيرات الجذرية في مجتمع معين بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر.

بعد ذلك عرجنا على مسألة الحكم لما له من أهمية في تكريس مفهوم المواطنة وإعطائها أبعادها الحقيقية، وكذلك أهميته الكبيرة في إدارة عملية التنمية وتحقيق أهدافها، فالحكم الرشيد من منظور التنمية الإنسانية هو الحكم الذي يعزز رفاه الإنسان ويدعمه ويصونه، ويقوم على توسيع قدرات البشر، وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولاسيما أفراد المجتمع الأكثر فقرا و تهميشا.

وحاولنا أن نقارن بين التعريف الحديث للحكم الراشد وبين منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في ممارسة السلطة، والسعي إلى تحقيق التنمية، والدور الرائد للإمام في ترسخ أسس التنمية، وتحقيق الرفاه للإنسان، وتعزيز مفهوم المواطنة، فأخذنا بعرض أهم سياسات الإمام علي (عليه السلام) في تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسعي الإمام لتكون رابطة المواطنة هي الرابط الأهم في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليس الولاء للحاكم.

ص: 127

Summary

We had this in our

concept of citizenship, which is defined as: mutual commitments between the people and the state, person gets the civil, political, economic and social rights, as a result of membership of a particular community, and in the same time, the duties must be performed.

Then we have dealt with the concept of development and what we mean by development and its goals of economic, political and social development is in one of its tariffs means: make a series of radical changes in a particular community in order to give that community the ability to continuous self development, after that we have looked at the issue of governance because 11111 I U11 VI 1 of its importance in the consecration of the concept of citizenship and give real dimensions, as well as of great importance in the management of the development process and achieve its' goals. Good governance in its rationalof human development perspective is to judge which promotes and supports and protects human well-being and is based on the expansion of human capabilities and choices and opportunities and freedoms economic, social and political, especially for the poorest members of society and marginalized.

We have tried to compare the modern definition of the rule of good governance (Al-Rashid) and the approach of Imam Ali(peace be upon him) in the application of power and the pursuit of development and the pioneering role of Imam Ali in the established foundations of development and the well being of the human person and the promotion of the concept of citizenship.

We have displayed the most important policies of Imam Ali (peace be upon him) in achieving the economic, political and social development and the TV 1 ILI LLL pursuit of the Imam to be the Association of citizenship is the most important link in the relationship between the ruler and the ruled, not loyalty to the ruler.

ص: 128

المقدمة:

يحتل مفهوم المواطنة مكانة بارزة في الفكر السياسي والاجتماعي؛ لما له من أهمية في إقرار الحقوق السياسية والاجتماعية للإفراد والمجتمع بشكل عام، وقد أخذ هذا المفهوم بالتطور والنضوج، فأصبحت المواطنة جزءا أصيلا من الحقوق الطبيعية والسياسية للإنسان التي سعت الأمم والهيئات الدولية لإقرارها، والحفاظ عليها، وفي الجانب الآخر فإنّ لمصطلح التنمية مكانته الكبيرة في سياسات الدول التي تسعى لتحقيق حياة کریمة لشعوبها، فالتنمية لم تعد تقتصر على تحقيق فائض في الإنتاج، وجني أرباح، بل امتدت واتسع مفهومها ليشمل جميع جوانب الحياة، فهي ببساطة أصبحت تهدف إلى حماية الإنسان من الفقر والجهل والمرض، وإلى بناء إنسان قوي يتمتع بكل الحقوق الامتيازات.

ومن هنا كان لزاما علينا أن نناقش أيضا ما يعرف بالحكم الصالح أو الرشید؛ وذلك الأثره الرئيس في إدارة عملية التنمية وإنجاحها، فكان اختيارنا لهذا الموضوع للترابط الوثيق بين المواطنة والتنمية والحكم في تحقيق الرفاه والحياة الكريمة للإنسان والمجتمع.

تناولنا في بحثنا هذا مفهوم المواطنة تعريفا وتطورا تاريخيا، وما تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من ضرورة تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، كما تطرقنا إلى موضوع الحكم الصالح أو الرشید، وابرز ساته التي يجب أن تتوافر فيه؛ ليكون رشیدا أو صالحا، ثم أعطينا نبذة عن مفهوم التنمية، ومسارها التاريخي وتطورها، وسعيها التحقيق الرفاه للإنسان.

وأخيرا تناولنا سياسات الإمام علي (عليه السلام) في سعيه لتحقيق المواطنة الصالحة بين أفراد المجتمع، وسياساته في خلق تنمية بشرية مستدامة هدفها الأول الإنسان وكرامته.

ص: 129

المواطنة:

المواطن عضو في دولة له فيها ما لأي شخص آخر من الحقوق والامتيازات التي يكفلها دستورها، وعليه ما على أي شخص آخر من الواجبات التي يفرضها ذلك الدستور(1).

فيما عرف آخر المواطن بأنه: عضو في دولة ما، له أن يتمتع بالحقوق المدنية والسياسية في تلك الدولة، وعليه التزامات بشأن تلك الحقوق(2).

وفي دائرة المعارف البريطانية عرفت المواطنة بأنها: علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات و حقوق في تلك الدولة(3).

وقيل إن المواطنة في أبسط معانيها: هو أن تكون عضوا في مجتمع سياسي معين، أو دولة بعينها، القانون يؤسس الدولة ويخلق المساواة بين مواطنيها، ويرسي نظاما عاما من حقوق وواجبات تسري على الجميع من دون تفرقة، وعادة ما تكون رابطة الجنسية معیارا أساسيا في تحديد هوية المواطن(4).

التطور التاريخي لمفهوم المواطنة:

اختلفت آراء الباحثين حول التطور التاريخي لمفهوم المواطنة، فمنهم من يرى أن المواطنة من صياغات الفكر العقلاني التجريبي، وهناك دراسات أخرى ترجح ظهور مصطلح المواطنة كأساس سیاسي وقانوني إلى ظهور الدولة القومية كنموذج للنظام السياسي(5).

وهناك من يرجع جذورها إلى الحضارة الإغريقية، وما توصلت إليه دولة المدينة عند الإغريق، والذي شكلت الممارسة الديمقراطية لأثينا أنموذجا له، إذ كانت المواطنة تشير

ص: 130

إلى حق الفرد في المشاركة السياسية في مجتمع المدينة، وإن اقتصر هذا الحق على الرجال الأحرار فقط(6).

وفي روما القديمة مر مفهوم المواطنة بمرحلتين، اقتصرت حقوق المواطنة في المرحلة الأولى على الرومان، أما سكان الأقاليم الأخرى التي تضمها الإمبراطورية فقد اعتبروا رعايا، وقد منحت المواطنة الرومانية للمواطنين امتيازات قانونية على درجة عالية من الأهمية، ومن ثَمَّ فإنَّ المواطنة اتسمت بالامساواة بين الشعوب(7).

أما في المرحلة الثانية فقد أصبح الولاء وليس السكن هو الأساس في اتصاف الفرد بالمواطنة، فصار كل أبناء الشعوب الخاضعة للإمبراطورية مواطنين، وذلك رغبة من الدولة في تعزيز الولاء لروما، فارتبط مفهوم المواطنة بالواجب العام والمسؤوليات مثل الخدمة العسكرية ودفع الضرائب(8).

ویرى أحد الباحثين أنَّ مفهوم المواطنة بدأ بالتشكل في أوربا بعد انحسار هيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوربا، وتراجع توجيهها المباشر للحياة السياسية فيما يتعلق بحياة الناس، هذا الانحسار والتراجع جعل العلاقة بين الدولة أو الملك وبين الشعب أو السكان مباشرة، مما جعل الشعب يشعر أنَّ الدولة دولته، وأنَّ له عليها حقوقا، كما أنَّ الدولة ترى أن لها على هذا الشعب حقوقا، ولاسيما الضرائب التي يقضي أقناع الناس بدفعها أشراك ممثلين لهم في الحكومة يشرفون على صرفها، فضلا عن سبب آخر مهم دفَع الناس والدول إلى اتخاذ مبدأ المواطنة حلا لمشكلاته، هذا السبب هو تعدد الشيع الدينية النصرانية في القرن السابع عشر بالذات، وشيوع الصراع والفتن بينها، حيث استمرت هذه الفتن حتى بلغت حدًّا من الشدة حمل الناس على أن يقبلوا ولو ببطء وتردد أن يتجاوزوا الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة، وأن يسلموا بمبدأ آخر وهو أن الاختلاف في العقيدة الدينية لا يحول دون الانتساب لمواطنة مشتركة(9).

ص: 131

وبذلك انتقلت دائرة الحضارة الأوربية من المفهوم التقليدي للمواطنة الذي استمد جذوره من الفكر السياسي الإغريقي والروماني إلى المفهوم المعاصر الذي يستند إلى فكر عصر النهضة والتنوير وأطروحات حقوق الإنسان والمواطن، والدعوة لأن يكون الشعب مصدرا للسلطات، وبذلك ترسخ مبدأ المواطنة وأقر كحق ثابت في الحياة السياسية، واتسع نطاق شموله تدريجيا ليضم كل المواطنين البالغين سن الرشد من الجنسين، كما تحسنت آليات ممارسته عندما أصبح جميع المواطنين يتمتعون بحق المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية تعبيرا عن كون الشعب مصدرا للسلطات، فضلا تعدد أبعاده وشموله الجانب الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فضلا عن الحقوق السياسية والقانونية(10).

وكل هذا التطور في مفهوم المواطنة كانت نتيجة لحراك سياسي واجتماعي متواصل من أجل تكريس حقوق المواطنة، ففي عام 1689 م وفي طريق تقييد الملكية، وتعزيز الحقوق والحريات أصدر البرلمان البريطاني (شرعة الحقوق الشهيرة)، حيث أشرت هذه الوثيقة النهاية الحقيقية للحكم المطلق في بريطانيا، وفرضت احترام القانون والبرلمان على الملكة (ماري)، كما نصت هذه الشرعة على أنَّ انتخاب أعضاء البرلمان يجب أن يكون حرا، وعلى حق الشعب في المشاركة في الانتخابات(11).

وعند قيام الثورة الأمريكية وإعلان الاستقلال الأمريكي في تموز 1776 م أعلنت ولاية فرجينيا وثيقة الحقوق، وجاء فيها: «أننا نعتقد الحقائق التالية من البديهيات: خلق الله الناس جميعا متساوين، وقد منحهم الخالق حقوقا خاصة لا تنتزع منها: الحياة، والحرية، والسعي لنيل السعادة»(12).

كذلك هو الحال في فرنسا إذ كانت حركة التنوير التي شعت خارج حدود تلك البلاد، ودعم فرنسا لحرب استقلال الولايات المتحدة، إلى جانب السخط الشعبي

ص: 132

على ملكية مستبدة على يد لويس السادس عشر، وتفاقم الأزمة المالية، وامتلاء سجن الباستيل بالمفكرين والكتاب، كلها عوامل مهدت لقيام الثورة الفرنسية العام 1789 م، وعلى أثرها تم إصدار إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 / آب / 1789 م بعد إقراره من ممثلي الشعب الفرنسي في الجمعية الوطنية، لقد احتوى هذا الإعلان على(17) مادة تصدرتها ديباجة، وفي المادة الأولى منه، وهي الأكثر شهرة عالميا نصت على أنه: «يولد الناس أحرارا ومتساوين في الحقوق ويبقون كذلك»(31).

ونتيجة لنضال الشعوب وسعيها في إطار تحقيق العدالة والمساواة والعيش بكرامة، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في كانون الأول سنة 1948 م، الذي يضمن حقوق الإنسان كمواطن كامل العضوية، فلأول مرة أصبحت المواطنة عبر الحريات السياسية حقا لكل شخص دون تمييز(14)، وقد تضمن هذا الإعلان ثلاثين مادة تؤكد على الحقوق السياسية والاجتماعية للإنسان كمواطن كامل العضوية في بلده، ومن أهم ما جاء فيه(15):

1. المادة 1: يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء، وقد سبق الإمام علي(عليه السلام) الإعلان العالمي حين أعلن للناس: «أيها الناس إنَّ آدم لم يلد عبدا ولا أمه، وإنَّ الناس كلهم أحرارٌ»(16)، كما جاء في وصيته لولده الحسن(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرا»(17).

2. المادة 2: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي. وهذا ما أستشعره الإمام علي(عليه السلام) في حكومته قبل هذا الإعلان بكثير حين أوصى عامله على مصر

ص: 133

بقوله: «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم، فأنهم صنفان: أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق»(18).

3. المادة 5: لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات، أو المعاملات القاسية، أو الوحشية، أو الحاطة بالكرامة.

وكان حرص الإمام علي (عليه السلام) كبيرا على كرامة الإنسان وصيانة حياته من التعدي بالقول أو الفعل، وجاء ذلك من خلال وصيته للاشتر بقوله: «أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل مالا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإنَّ الساعي غاش وإنْ تشبَّه بالناصحين»(19)، وهناك الكثير من المواد التي أشرنا إليها في موضوع التنمية فيما يلي من قابل الصفحات.

لقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) برنامجه الحكومي الذي ركز على الحقوق المشتركة بين المواطن والحاكم رغم اختلاف التسمية، فمفهوم المواطنة حديث الظهور، لكن هذا البرنامج تضمن كل ما تدعو إليه المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان من قبيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966، وأصبح نافذا في آذار سنة 1976 م: «أيها الناس إن لي عليكم حقًّا، ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حین آمركم».

ص: 134

الحكم الصالح (الحكم الرشيد):

يُعرَّف الحكم الصالح من منظور التنمية الإنسانية بأنه: «الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم، وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لاسيا بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرا وتهميشا(20).

وضع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في تقريره المعنون (إدارة الحكم لخدمة التنمية البشرية المستدامة) الصادر سنة 1997 م مجموعة من الميزات أو السمات التي لابد من أن يتَّسم الحكم بها؛ ليكون حكما رشيدا يخدم عملية التنمية، ومن هذه السمات:

4. المشاركة: يجب أن يكون لكل الرجال والنساء صوت في عملية صنع القرار، سواء بصورة مباشرة، أو من خلال مؤسسات وسيطة شرعية تمثل مصالحهم.

ونستطيع القول إن المشاركة الواسعة في اتخاذ القرار لم تغب عن حكومة الإمام علي(عليه السلام)، بل هي أهم ما يميز حكومته منذ اللحظة الأولى، فهو الخليفة الوحيد الذي جاء باختيار الأمة مباشرة، بل بإصرارها على بيعته، وهذا ما أشار إليه الإمام بقوله: «فما راعني إلا والناس إلي كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(21).

5. سيادة القانون: يجب أن تتسم الأطر القانونية بالعدالة، ولابد من توخي الحياد في إنفاذها، وبخاصة القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان.

في العموم نقول إن الإمام علي (عليه السلام) دعا إلى تطبيق القانون الإلهي في الحكم، وإدارة شؤون البلاد والعباد، فقد ورد في عهده إلى مالك الاشتر قوله: «أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه، وسننه التي لا يسعد أحد ألا بإتباعها، ولا يشقى ألا مع جحودها وإضاعتها».(22)، وفي موضع آخر يقول: «ولا يكونَنَّ المحسن

ص: 135

والمسيء عند بمنزلة سواء، فإنَّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه».(23)، وقال أيضا: «وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك خاصتك حيث وقع»(24).

6. الاستجابة: يجب أن تسعى المؤسسات وتوجه العمليات إلى خدمة جميع أصحاب المصلحة.

وفي هذا الجانب كانت استجابة الإمام علي(عليه السلام) سريعة وحاسمة في تحقيق مصالح المواطنين، فقد كتب إلى عمر بن مسلمة الارحبي يقول: «أما بعد فإنَّ دهاقين عملك شكوا غلظتك، ونظرت في أمرهم، فما رأيت خيرا، فلتكن منزلتك بين منزلتين جلباب لين بطرف من شدة في غير ظلم ولا نقص»(25).

7. الشفافية: تتأسس الشفافية على حرية تدفق المعلومات، فالعمليات والمؤسسات والمعلومات يجب أن تكون متاحة بصورة مباشرة لأولئك المهتمين بها، ويجب توفير المعلومات الكافية لفهم تلك العمليات والمؤسسات ورصدها.

وكان هذا منهج الإمام علي(عليه السلام)، فقد كان واضحا كل الوضوح مع رعيته، لم يُخفِ عن الناس شيئا إلا ما كان له خطر على جيشه أو رعيته، فكان يصارح الرعية بكل ما يهم أمورهم السياسية والمعاشية، فقد وجه عامله على مصر بذلك: «وإنْ ظنَّت الرعية س بك حيفا، فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنَّ في ذلك رياضة لنفسك، ورفقا برعيتك، وإعذارًا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق»(26).

كما يوضح لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) سياسة المكاشفة والشفافية التي يتبعها مع قادة جيشه ورعيته حين يخاطبهم بقوله: «ألا وإنَّ لكم عندي ألا احتجز دونكم سرا إلا

ص: 136

في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقا في محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء»(27).

8. التوجيه نحو بناء توافق الآراء، يتوسط الحكم الرشيد المصالح المختلفة للوصول إلى توافق واسع للآراء بشأن ما يحقق مصلحة المجموع كأفضل ما يكون، وبشأن السياسات والإجراءات حيثما يكون ذلك ممكنا.

كانت مصلحة الأمة وتحقيق الوحدة والمحافظة على النسيج الاجتماعي أهم ما سعى إليه الإمام علي (عليه السلام)، وقد تجسد ذلك في عهده إلى الاشتر بقوله: «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدثَنَّ سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر بمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها»(28).

9. الإنصاف: يجب أن تتاح لجميع الرجال والنساء الفرصة لتحسين رفاههم أو الحفاظ عليه.

في هذا الصدد روت سودة بنت عمارة الهمدانية حادثة مؤداها إنها جاءت شاكية إلى الإمام علي (عليه السلام) بقولها: «لقد جئته في رجل كان ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائما يريد صلاة، فلما رآني أنفتل، ثم اقبل علي بوجه طلق ورحمة ورفق، وقال: ألك حاجة؟ فقلت: نعم وأخبرته بالأمر، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد إني لم أمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك، ثم اخرج من جيبه قطعة جلد، وكتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ» «(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ»، وإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملك حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام. ثم دفع إلي الرقعة فجئت بالرقعة إلى

ص: 137

صاحبه، فانصرف عنا معزولا»(29).

وفي عهده للاشتر نقرأ: «وأنصف الناس من نفسك، ومن ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب»(30).

10. الفاعلية والكفاءة: ينبغي أن تسفر العمليات والمؤسسات عن نتائج تلبي الاحتياجات مع تحقيق أفضل استخدام للموارد.

وقد تضمن عهد الإمام لمالك الاشتر الرؤية الدقيقة من الإمام لاستثمار الموارد الاقتصادية المتاحة لتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية، وتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع، وهذا ما سنعرضه في موضوع التنمية.

11. المساءلة: يجب أن يكون صناع القرار في الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني مسؤولين أمام الجمهور العام، وأمام أصحاب المصلحة المؤسسية، وتختلف هذه المساءلة بحسب كل منظمة، وبحسب ما إذا كان القرار داخليا أو خارجيا بالنسبة للمنظمة.

أسس الإمام علي(عليه السلام) جهازا رقابيا غاية في النزاهة والفعالية لمراقبة الولاة والعمال، ولم يكتف الإمام بالرقابة الرسمية، بل حفز الرقابة الداخلية في نفس الموظف بضرورة الاستشعار بمراقبة الله تعالى، كذلك أعطى دورا مهما للرقابة الشعبية، وهذا ما يفسر لنا وجود أكثر من نص يحاسب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) عماله على سوء استخدام السلطة، أو إضاعة الأموال العامة، أو إساءة معاملة الرعية، ومنها ما كتبه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني(31) عامله على أردشير خُرّة: «بَلَغَنِي أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلهَكَ، وَأَغْضَبْتَ إِمَامَكَ: أَنَّكَ تَقسِمُ فَيْءَ المُسْلِمِينَ الذي حَازَتْهُ رِمَاحُهُم

ص: 138

وَخُيُولُهُم، وَأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُم فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِن أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَالّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسْمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَتَجِدَنَّ بِكَ عَلَيَّ هَوَانًا، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَانًا، فَلا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَلا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الأَخْسَرِينَ أَعْمَلاً، أَلاَ وَإِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَقِبَلَناَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا الفَيْءِ سَوَاءٌ، يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ، وَيْصدِرُونَ عَنْه وَالسَّلاَم»(32).

12. الرؤية الإستراتيجية: يجب أن يمتلك القادة والجمهور العام منظورا عريضا وطويل الأجل فيما يتعلق بالحكم الرشيد والتنمية المستدامة، مع الإحساس بما هو مطلوب لهذه التنمية، كما ينبغي أن يكون هناك فهم للتعقيدات التاريخية والثقافية التي يتشكل وسطها ذلك المنظور.

يمكن لنا وبلا تحفظ أن نعد الأمام علي (عليه السلام) رائدا للتنمية بمختلف تسمياتها واتجاهاتها، فلم يفكر في كل سنوات حكمه في مقدار ما يجبى إن كان من الخراج أو من الموارد الأخرى، بقدر ما كان يفكر ويسعى لبناء الإنسان وأعمار الأوطان وبناء مستقبل زاهر للأجيال من خلال المحافظة عل الموارد الاقتصادية وإدامتها، وهذه الرؤية الإستراتيجية سنراها واضحة في سياسة الإمام (عليه السلام) في مجال التنمية، وسنطلع عليها في مواضعها.

ص: 139

تعريف التنمية البشرية:

التنمية في اللغة: التنمية من نما: بمعنى الزيادة، قال الخليل(33): نما الشيء ينمو نموا ونمى ينمي نماء، وأناه الله رفعه، وزاد فيه إنماء ...، ونما الخضاب إذا زاد حمرة وسوادا، و نميت فلانا في الحسب، أي: رفعته فانتمى في حسبه، وتنمى الشيء: ارتفع من مكان إلى مكان(34).

أما في الاصطلاح فقد عرفت التنمية البشرية بأنها: عبارة عن تحريك علمي مخطط لمجموعة من العمليات الاجتماعية والاقتصادية من خلال عقيدة معينة لتحقيق التغيير المستهدف بغية الانتقال من حال غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب فيها(35).

والحق أن هناك أكثر من تعريف للتنمية البشرية كما يشير إلى ذلك الدكتور إحسان محمد الحسن(36)، فمن تعاريفها: «أنها تعني عملية التوافق الاجتماعي، وتنمية طاقات الفرد إلى مستوى معين من المعيشة وأسلوب الحياة».

كما أن هناك تعريفا أشمل وأعم كما أرى، وهو أكثر تعبيرا عن مفهوم التنمية البشرية، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها يشير إلى أنها: عملية تغيير حضاري تتناول آفاقا واسعة من المشروعات التي تهدف إلى خدمة الإنسان، وتوفير الحاجات المتصلة بعمله ونشاطه، ورفع مستواه الثقافي والصحي والفكري والروحي، وهذه التنمية تعمل بصورة عامة على استخدام الطاقات البشرية من أجل رفع مستوى المعيشة، ومن اجل خدمة أهداف التنمية(37).

أما تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة فأكدت أن التنمية البشرية هي: عملية تهدف إلى زيادة الخيارات المتاحة أمام الناس، ومع كون هذه الخيارات غير محددة فإنه يمكن تمييز ثلاثة خيارات مهمة تتمثل في ضرورة أن يحيا الناس حياة طويلة خالية من العلل،

ص: 140

وأن يكتسبوا المعرفة، ويحصلوا على الموارد اللازمة لتحقيق مستوى حياة كريمة، ثم تحدد هذه الخيارات حتى تستوعب الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واحترام حقوق الإنسان(38).

تعد قضية التنمية قضية محورية ومصيرية تعكس عزم شعب وتصميمه وإرادته وتطلعه لمستقبل أفضل من التقدم والرفاهية، مما يستوجب الالتزام بالعمل الجاد والجهد والعطاء المتواصل في سبيل الوصول بالمجتمع، وتقدمه من أجل أن نلحق بركب التقدم الإنساني الحضاري(39).

التطور التاريخي لمفهوم التنمية:

تبرز أهمية مفهوم التنمية في تعدد أبعاده ومستوياته وتشابكه مع العديد من المفاهيم الأخرى مثل التخطيط والإنتاج والتقدم، وقد برز مفهوم التنمية بصورة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية إذ لم يستعمل هذا المفهوم منذ ظهوره في عصر الاقتصادي البريطاني البارز آدم سميث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الثانية إلا على سبيل الاستثناء، فالمصطلحان اللذان استخدما للدلالة على حدوث التطور المشار إليه في المجتمع كانا (التقدم المادي أو التقدم الاقتصادي)، وعندما ثارت مسألة تطوير بعض اقتصاديات أوربا الشرقية في القرن التاسع عشر كانت المصطلحات المستخدمة هي التحديث أو التصنيع(40).

لقد اقتصر مفهوم التنمية منذ ظهوره نهاية الحرب العالمية الثانية على الكمية التي يحصل عليها الفرد من سلع وخدمات مادية، إذ كان الاهتمام منصبا فقط على النمو الاقتصادي، وتحسن میزان المدفوعات، وتنمية الصادرات باعتبارها المقياس الحقيقي للتقدم والتنمية (41).

ص: 141

في مطلع السبعينيات ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين يسلط الضوء على مفهوم جديد للتنمية، وهو التنمية الاجتماعية آخذا بعين الاعتبار انعکاس السياسات التنموية على بُنى المجتمع وأنشطته الاقتصادية، وقد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه الجديد على معيار آخر يسمى بمعيار أو نظرية (إشباع الحاجات الأساسية)، واعتبروه أفضل من المعيار السابق (متوسط دخل الفرد)؛ لأنه ببساطة - يسلط الضوء على أكبر شريحة من أي مجتمع من حيث الاهتمام بحاجاته المادية والمعنوية(44).

في العام 1990 م تبني برنامج الأمم المتحدة للإنماء مفهوما للتنمية البشرية بمقتضاه أصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها، وذلك باعتبار البشر هم الثروة الحقيقية للأمم، وأن التنمية البشرية هي عملية توسيع خيارات البشر، وأن قدرات أي أمة تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد بكفاءة وفعالية(43).

اعتمد مفهوم التنمية البشرية على ثلاثة عناصر تعلقت بدخل الفرد، وعمره المتوقع، ومستوى تعليمه، وأضحى تصنيف الدول يتم بحسب هذا المعيار، وعلى الرغم من افتقاده لعناصر عديدة لحجم البطالة أو العمالة والتضخم ونمط العلاقات الاجتماعية وغيرها، لكنه لقي قبولا واسعا عند العارفين به، إلا أن تدهور البيئة وإهلاك مواردها من جهة، وتطور العديد من المفاهيم جعل الاقتصاديين يطرحون مفهوما أعمق من ذلك، وهو مفهوم التنمية الإنسانية التي تضمن استدامة التنمية من حيث البيئة، كما شمل الاهتمام بالحريات، والمرأة، ودرجة الاتصالات وغيرها(44).

ثم ظهر مفهوم آخر للتنمية تمثل بالتنمية المستدامة، وكان تقرير (مستقبلنا المشترك) الصادر عن اللجنة العالمية للتنمية والبيئة في عام 1987 م أول من أشار إلى هذا المفهوم بشكل رسمي، وأُعلن عن تبني هذا المفهوم للتنمية في قمة الأرض المنعقدة في ريو دي

ص: 142

جانيرو في العام 1992 م، حيث ورد في إعلان ريو بأن البشر هم صمیم ومركز التنمية المستدامة، وأن من حقهم أن يحيوا حياة صحية ومنتجة في وئام مع الطبيعة(45).

نظرة الإمام علي (عليه السلام) للتنمية:

للإمام علي (عليه السلام) رؤية فلسفية خاصة في العمارة (التنمية) لا نبالغ إذا قلنا أنه سبق بها المفكرين، ويتضح لنا ذلك جليا من خلال كتابه إلى مالك الأشتر الذي تضمن الرؤية الفلسفية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) للعمران بقوله: «جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(46).

فأمير المؤمنين علي (عليه السلام) لم يذهب مباشرة لعمارة البلاد، أو استصلاح العباد، وإنما هناك مقدمات لهذه العمارة لابد من تحقيقها أولا؛ لتتم عملية التنمية الشاملة للعباد والبلاد، ولأن الهدف من التنمية هو الإنسان فلابد أن تكون التنمية في مختلف الجوانب وفي وقت واحد ووتيرة واحدة وبالأهمية نفسها؛ كي تؤتي أكلها، وتكون نتائجها مثمرة، ومن هذه المقدمات:

الخراج (التنمية الاقتصادية):

يعد الخراج موردا ماليا مهما لميزانية الدولة، تمكنها من تحقيق ما تصبو إليه من إصلاح وعمارة وعدالة اجتماعية.

لقد احتلت مكانة الطبقة التي تفلح الأرض وتستزرعها مكانا بارزا و مهما في الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، بل إن حديثه عنها ووصاياه بشأنها تجعلنا نقول: إن فكره الاجتماعي قد جعل مكان هذه الطبقة ابرز مكان، وأهمه بالقياس إلى باقي الطبقات(47).

ص: 143

ولا ريب أن تحتل هذه الطبقة الاجتماعية مكانتها الرفيعة تلك بين طبقات المجتمع؛ نظرا لما تقدمه من فائدة ومنفعة لعموم شرائح المجتمع الأخرى، بل إن الإمام علي (عليه السلام) ذهب أبعد من ذلك بأن ربط صلاح كل طبقات المجتمع بصلاح هذه الطبقة فقد كتب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لعاملة على مصر: «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في إصلاحه وإصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله»(48).

وبعد أن يعين لنا الإمام علي (عليه السلام) أهمية هذه الطبقة، وأهمية الدور الذي تؤدية للمجتمع، يضع لنا الأسس التنموية الصحيحة للنهوض بهذا القطاع وديمومته، واستمراره برفد المجتمع، فيوصي عامله على مصر بقوله: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد»(49).

أشار أحد الباحثين(50) إلى أن مصطلح العمارة والتعمير من أصدق المصطلحات تعبيرا عن التنمية، إذ يحمل مضمون التنمية الاقتصادية وقد يزيد عنه، فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، وأن تناول بصيغة أولية جوانب التنمية الاقتصادية بمعناها المتعارف عليه، والذي لا يخرج عن تعظیم عمليات الإنتاج المختلفة، وهذا ما يطلق عليه بالرؤية الإستراتيجية، التي يجب أن يمتلكها القادة فيما يتعلق بالحكم الرشيد والتنمية(51).

كما أوصى الإمام علي (عليه السلام) عماله أن يأخذوا حالة الزرع بعين الاعتبار أيضا تحقيقا لعمارة البلاد، وتطوير هذا القطاع الحيوي بعدم إثقال كاهل الفلاح بالفروض المالية المترتبة عليه نتيجة استغلال الأرض، فقد ذكر أنه وضع على جريب البر الرقيق فروضا تختلف عما وضعه على البر الغليظ، أو البر المتوسط، وميز في الفروض بين النخل

ص: 144

والشجر المجتمع والنخل المنفرد(52)

ففي هذا الصدد أورد لنا البلاذري(53) نقلا عن أبي زيد الأنصاري ما نصه: «قال بعثني علي بن أبي طالب على ما سقي الفرات، فذکر رساتیق(54) وقرى، فسمي نهر الملك، وكوثی، و بهر سیر(55)، والرومقان(56)، ونهر جوبر، ونهر در قیط(57)، والبِهْقُباذات(58)، وأمرني أن أضع على كل جریب(59) زرع غليظ من البر درهما ونصفا وصاعا(60) من طعام، وعلى كل جريب وسط درهما، وعلى كل جريب من البر رقیق الزرع ثلثي درهم، وعلى الشعير نصف ذلك، وأمرني أن أضع على البساتين التي تجمع النخل والشجر على كل جريب عشرة دراهم، وعلى جريب الكرم إذا أتت عليه ثلاث سنين، ودخل في الرابعة، وأطعم عشرة دراهم، وأن أُلغِيَ كل نخلٍ شاذ عن القرى يأكله مَنْ مَرَّ به، وأن لا أضع على الخضروات شيئاً، المقاثي، والحبوب، والسماسم، والقطن».

وهذه دعوة من الإمام علي (عليه السلام) إلى استثمار القطاع الزراعي بتخفیف الأعباء عن كاهل المزارع وتوسيع الموارد التي يملكها المجتمع، والعمل على زيادة الإنتاج الذي يعود بالخير والمنفعة على الأفراد، وليس إلى تكديسها في خزائن الدولة وجيوب الحكام(61).

وبعد أن بين الخطوط العامة لعمارة الأرض وتنمية القطاع الزراعي، يدعو عامله بل يوصيه كيف يتعامل مع هذه الشريحة؛ كي تتم عملية التنمية بكل يسر، وتؤتي ثمارها، بقوله: «فإن شكوا ثقلا أو علة، أو انقطاع شرب، أو بالة، أو إحالة ارض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش خففت عنهم با ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم»(62).

فهذه الدعوة لواليه بسعة الصدر، وبعد النظر في الاستجابة لمطالب الفلاح، وإن کثرت أو تعددت، لها فوائدها ومزاياها في خلق حالة من المودة بين الراعي والرعية، ثم

ص: 145

إنها لها فوائدها المباشرة سواء لهذا المسؤول أو للمجتمع بشكل عام، وهذا ما يذكره أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: «فإنه ذخر يعودون به عليك»، أي إن ما تقدمه لهم من عون ومساعدة إنما هو في واقع ادخار المستقبل الأيام سيعودون به عليك في أوقات الأزمات حيث تكون بأمس الحاجة لهم، فلا ينكرون فضلك، ولا ينسون موقفك تجاههم في أوقات محنهم التي وقفت فيها إلى جانبهم، كما أنه في الوقت نفسه استثمار بشري راقٍ، فهؤلاء سوف ينمو الحس الوطني عندهم، كما ينمو عندهم الشعور بالمواطنة الصالحة، ويشعرون أن هذه الدولة دولتهم لا دولة الحكام والأمراء، فيكون جل اهتمامهم الوطن، وهذا هو الهدف من التنمية أن تخلق شعورا متبادلا بين الراعي والرعية يتجسد فيه حب الوطن، والارتقاء به إلى المراتب اللائقة.

وعلى هذا يبدأ الإمام علي (عليه السلام) يزين لواليه الوقوف إلى جانب الفلاح وقت الأزمة والشدة بها سيجنيه هذا الوالي والمجتمع من ذلك العمل والموقف بقوله: «فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته»(63).

ثم يبين لنا الإمام علي (عليه السلام) أسباب فشل التنمية، وخراب البنية التحتية للقطاع الزراعي، وكيف تتراكم أسباب الخراب بقوله: «وإنها یؤتی خراب الأرض من إعراز أهلها، وإنما إعراز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر»(64).

فالسبب الأساس في عرقلة التنمية هي النظرة القاصرة من الولاة الذين يكون اكبر همهم الجمع، فيقيدون الإنفاق، ويهملون الاستثمار، وينشغلون بالجمع فقط لإرضاء

ص: 146

المسؤول الأعلى، أو لأخذ ما يمكن أخذه من هذه الأموال لإدراكهم بأنهم سوف يعزلون، ويفقدون هذه المناصب، وهذا يحدث عندما يكون تنصيب الولاة وعزلهم ليس على أساس الكفاءة والنزاهة، وإنما على أساس المحاباة والمولاة، فيأتي من ليس أهلا القيادة البلاد وسياسة العباد، فيكون تنصيبه سهلا يسيرا وعزله أسهل؛ لذ لا يكون همه إلا الجمع والاستئثار بمال المسلمين.

أما إذا تطلعت الدولة إلى جمع المال بتحميل القطاع الزراعي ما يستنزف كل إمكاناته فلن يبقى بأيدي أهله ما يمكنهم من بناء استثمارات جديدة به، فتتدهور قدراته الإنتاجية، ويحدث به الخراب، أي التخلف الاقتصاديا وما يعرف اليوم بضعف إنتاجية هذا القطاع، وستحدث بالمجتمع ملات، ولن يجد عندها في القطاع الزراعي كبير غناء، ولن يتمكن المجتمع عندها من التغلب على ما حصل به(65).

لذا يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على أهمية العناية بهذه الطبقة وتدريب الولاة على التفكير بمصلحة الأمة، وإيثار المنفعة العامة، وعدم التبرم من القيام بما یوجب حق الرعية، فيوصي عامله بقوله: «ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك»(66).

فهنا يأمر الإمام علي (عليه السلام) عامله على مصر بمراعاة الطاقة الفردية والقومية عند فرض الخراج، وتخفيف المؤن قدر الإمكان على أهل الأراضي الخراجية؛ ليبقى في أيديهم أموال أو مدخرات يمكن تحويلها إلى مجالات الاستثمار المتنوعة، والتي سيكون لها أثرها في عمارة البلاد، وتزيين الولاية، ومن ثَمَّ تحقيق التنمية الاقتصادية على جميع الصُّعد(67).

ص: 147

جهاد العدو (التنمية الأمنية):

أكد أحد الباحثين(68) أن من مهام الدولة الإسلامية في نظر هذا الإمام علي عليه السلام جهاد عدوها، وهذا يكون بإعداد الجيش بفروعه كافة، وتوفير العدة والعتاد والتدريب لأفراده؛ من أجل حفظ أرض الإسلام وأهله من الأعداء الخارجين.

لا شك أن للأمن أثرا رئيسا في استقرار أي بلد، والاستقرار يعد من الأمور المهمة لجلب الاستثمارات؛ إذ يقال: إن رأس المال جبان، فاستقرار البلاد، وانتشار الأمن والنظام يخلق شعورا لدى الفرد بالاطمئنان، والارتياح النفسي بأن حياته وملكيته مصانة لا يمكن التعدي عليها.

وجهاد العدو الذي عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) يعني فيما يعنيه الحفاظ على حدود الدولة، وحمايتها من الاعتداءات الخارجية، أي بمعنى الحفاظ على سيادة الدولة، وحمايته استقلالها، وعدم فتح المجال للقوى الخارجية بالسيطرة على مقدرات الدولة الاقتصادية التي هي الأساس في حدوث عملية العمران والتنمية؛ لذا نرى الإمام علي (عليه السلام) يضع جهاد العدو في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في تحقيق مستلزمات التنمية الشاملة.

يعلق أحد الباحثين على ذلك بقوله: «يعطي الإمام (عليه السلام) أهمية كبرى للأمن والنظام، فهما قوام الحكم و أمل الرعية، فإذا وُجدا أمكن أن يتحقق كل خير، وإن فُقدا فُقِد كل خير، وهما ضروريان لتحقيق العمارة والتنمية، يقول الإمام: «ولا يكونَنَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه»(69).

فيما أكد باحث آخر(70) أن موقف الإمام علي (عليه السلام) من ضرورة الاهتمام

ص: 148

بالقوة العسكرية يتجلى بقوله: «هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين جباية خراجها وجهاد عدوها»، نلمس من هذا النص أن ازدهار البلاد وعمارتها يعتمد على جهاد الأعداء، إذ إن العمارة معطوفة على الجهاد؛ لأنه لا يمكن لدولة أن تتمتع بالرفاه الاقتصادي وهي عرضة لغارات أعدائها، أو مستسلمة لهم، فبيَّن الإمام في هذا المناخ الملائم للتنمية وهو تحقيق الاستقرار برد الاعتداءات الخارجية، وأن حالة عدم الاستقرار تؤدي إلى عدم تشجيع الاستثمار، ومن ثَمَّ إعاقة النمو الاقتصادي، وما يترتب عليه من أن أصحاب رؤوس الأموال يمتنعون ويخشون من استثمار أموالهم، لذلك كلما كان البلد أكثر استقرارا وأمانا في الوقت الحاضر والمستقبل کان تكوين رأس المال أكبر»(71).

كتب أمير المؤمنين (عليه السلام): «فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم ويكون من وراء حاجاتهم»(72).

وجباية الخراج کا نعلم هي تحصيل لأهم موارد الدولة الإسلامية، بل إن جباية الخراج هي عماد بيت مال المسلمين الذين يوزع في أعطياتهم، ومنهم الجند القائمون على حماية البلاد، وجهاد العدو، إذن فهناك حلقة مترابطة بين جباية الخراج، وجهاد العدو، وعمارة البلاد؛ لأنها توسع وتزید موارد بیت المال، وتزيد في عطاء الجند، وتمكن من امتلاك وسائل القوة للدفاع عن الإسلام وأهله.

إذن هناك ارتباط وثيق بين وسائل التنمية فيما بينها من جهة، وبينها وبين التنمية نفسها من جهة أخرى، فالإمام علي (عليه السلام) قد حدد أولا وسائل التنمية: جباية الخراج، وجهاد العدو، وإصلاح الناس، إلى الهدف الأسمى وهو التنمية الشاملة التي تشمل كل جوانب الحياة.

ص: 149

إن الاهتمام بجباية الخراج و جهاد العدو، ليس مقدمات للتنمية البشرية التي كان ينشدها الإمام علي (عليه السلام) فقط، بل هما جزء أصيل من التنمية، فكان لابد من تنمية القطاع الزراعي، والقطاع الأمني كي يصل الإمام (عليه السلام) إلى التنمية البشرية، والارتقاء بالفرد المسلم إلى المنزلة التي أرادها الله تعالى، فلا أحد ينكر قيمة التنمية الاقتصادية وأهميتها لحدوث التنمية البشرية، أي أن سخر التنمية الاقتصادية الإحداث التنمية البشرية، وأن لا تكون التنمية الاقتصادية هي الهدف بحد ذاتها، وهذا هو السر في فشل التنمية الاقتصادية وعجزها في الارتقاء بالإنسان؛ لأنها وضعت المعيار المادي فقط لقياس التقدم البشري؛ لذلك بدأ البحث عن بديل أفظهر لنا ما يعرف بالتنمية البشرية، والتنمية الإنسانية، وأخيرا التنمية المستدامة.

التنمية البشرية:

تطرق أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر إلى ضرورة إصلاح أهل مصر، والإصلاح هنا إنما هو النهوض بجميع الجوانب، وليس إصلاح المفسد، وإصلاح المفاسد من الأمور فقط، بمعنى آخر: هو الارتقاء بإنسانية الإنسان، وتوفير الظروف الملائمة مما يجعله مؤهلا لأداء ما افترض الله عليه حين استخلفه في الأرض.

والحق أن هناك رابطا لا يكاد ينفصم بين التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية، فكل تنمية اقتصادية تهمل الإنسان تعد فاشلة، ولا يكتب لها النجاح، وقد اثبت الواقع أن الكثير من الدول قد حققت نموا اقتصاديا كبيرا، لكنها لم تستطع أن تقضي على الفقر والحرمان؛ لأنها وضعت نصب عينها تحقيق النمو الاقتصادي دون تحقيق تنمية بشرية، فازداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا.

كانت فلسفة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تنصب في عمومها وخصوصها حول

ص: 150

الإنسان، وتسعى في أول ما تسعى إلى حفظ كرامة الإنسان وصيانة وجهه، عن طريق التوزيع العادل للموارد، وكذلك تقديس العمل وتحبيبه للفرد المسلم، والحث على مزاولته؛ لما فيه من حفظ كرامة الإنسان، وديمومة عطائه ونفعه للفرد والمجتمع.

کما سعى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى إقامة دولة يكون الجميعُ فيما سواسية، لا سلطان جائر، ولا مواطن مظلوم، ولا صاحب سطوة حائف، ولا صاحب حق خائف، لذا كان يوجه عماله إلى ضرورة احترام الإنسان، وعدم إخافته وإرهابه بمظاهر السلطة وهيبة السلطان، وهذه أولى خطوات التنمية البشرية وأهمها، وهي أن تخلق إنسانا قويا غير متعتع، يثق بالدولة ومؤسساتها، وتكون الدولة عند ثقته، فلا تخذله، ولا تسلمه لظالميه.

في جانب التنمية البشرية هناك الكثير من مواطن الخلل التي حدثت في المجتمع قبل وصول أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى سدة الحكم، والتي أشار إليها، ووجه عماله على معالجتها.

وأيضا يمكن أن نقول هناك الكثير من الأمور التي تحقق التنمية البشرية كما يراها أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وعمل على تحقيقها، فأوصى عماله بها وشدد عليهم بذلك، ومنها:

1 - الحقوق السياسية

لقد تضمن عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لمالك الأشتر الكثير من هذه الصور الرائعة التي سبق بها غيره، ومن ثَمَّ سبقت أمتنا الإسلامية غيرها من الأمم في مجال حقوق الإنسان، وتحقيق التنمية البشرية كما أرادها المشرع العظيم.

ومما أوصى به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عامله على مصر قوله: «واجعل لذوي

ص: 151

الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما تتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غیر متعتع، فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول في غير موطن: لا تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع، ثم احتمل الخرق منهم والعِي، ونَحِّ عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار»(73)، وهذا ما أشارت إليه المادة (7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة».

فالإمام علي (عليه السلام) حريص كل الحرص على توفير المناخ السليم الذي يضمن الأمن والأمان للضعيف حتى يصدع بحقه، ويقول كلمته بلا خوف من سلطان جائر، كما أن ذلك يكسر هيبة السلطان في نفسه، ويزيل الرهبة لدى العامة، فلا يخاف أحد من أن يقول الحق بوجه سلطان جائر، وهذه الحقيقة هي التي كان يرمي إليها أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، إذ يخاطب جماهير المسلمين بقوله: «فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي»(74)، وهذا يتطابق مع ما جاء في المواد (2، 3، 7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي سبق لنا الإشارة إليها.

والملاحظ من هذين النصين أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أراد بناء الفرد المسلم بناء صحيحا، بناء المؤمن القوي كما أراده الله ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم)، فأراد

ص: 152

الإمام (عليه السلام) أن يكون هذا الإنسان من القوة بحيث لا يدع مجالا لأي حاکم أن يظلم، ولا لأي جبار أن يبطش ويتغطرس، وأن يكون المسلمون ندا قويا للحكام في قول الحق، وتعديل الاعوجاج، وتصحيح المسار، والمحافظة على الدين، وصون كرامة الإنسان.

وهذا مما لا ريب فيه مجال سياسي متطور جدا إذا ما قارناه بعالم اليوم، نجد أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قد سبق غيره بكثير في إقرار الحقوق السياسية للأمة والأفراد، وضمن لهم حق التعبير وحرية الرأي، وقد ورد أن الإمام علي (عليه السلام) خطب بالكوفة، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلا لله،، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمون، فقال علي: «الله أكبر كلمة حق يلتمس بها باطل، أما أن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم من مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا»(75).

نقول إن هؤلاء المعارضين لو كانوا في غير زمان علي (عليه السلام) لقتلوا أو صلبوا، أو نفوا من الأرض، بل لسلبت أموالهم، وسبيت نسائهم، ولكنه علي (عليه السلام) همه الأول الإنسان موافقا كان أو معارضا، هدفه من كل السياسات التي اتبعها أن يخلق المناخ الذي يوفر للإنسان البيئة الصالحة ليكون إنسانا کما أراد الله من خلقه بهذا الوصف والمعنى، وقد نصت المادة(19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء».

لقد كان الإمام علي (عليه السلام) مدركا تمام الإدراك لحقوق المواطنة وأهميتها، فهو لذلك لم يضع شرط طاعة الإمام موجبا للمواطنة، بل كانت نظرته أوسع وأشمل، فجعل الولاء للدولة والمجتمع هو الأساس في حصانة المواطنة، أو رفع هذه الحصانة،

ص: 153

وهذا المناخ السياسي والاجتماعي الذي سعى أمير المؤمنين (عليه السلام) لإيجاده، إنّما هو جزء أساس في خلق عملية التنمية البشرية التي سعى إلى تحقيقها.

كما تضمن العهد إلى مالك الأشتر قول الإمام علي (عليه السلام): «وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بناء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظیم حق عطل، ولا العظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد»(79).

ومن هنا نستشف أن الهدف الأسمى الذي سعى إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما هو تحقيق العدالة الاجتماعية، وصيانة حقوق الراعي والرعية، وتقوية الأواصر بين السلطة والشعب حيث يكون الحق سيد الموقف، وحتى لا تجترئ السلطة على إتيان الباطل وتعطيل الحقوق.

علق أحد الباحثين(77) على ذلك بقوله: «يرى الإمام علي أن إقامة العدل وتحقيق المساواة يؤديان إلى التماسك الاجتماعي بين المواطنين، والى رضا الرعية وتعاونها فيما بينها وبين راعيها، وهذا شرط أساسي لبناء العمارة وبلوغ التنمية، ويمكنها من الانطلاق، وإلا اضطربت الأمور وخيم التخلف.

ص: 154

وللتأكيد على حسن معاملة الرعية وصيانة كرامتها، وكف غضب السلطان وبطشه يوصي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عامله بقوله: «وإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة، أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك، على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنَّ ذلك يطا من إليك من طماحك، ويكف عنك من غرمك، ويفيء إليك ما عزب من عقلك، وإياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه في جبروته، فإنَّ الله يذل كل جبار، ويهين كل محتال»(78).

2 - عدالة التوزيع

كما أسلفنا كان هدف التنمية الاقتصادية منصبا على النمو الاقتصادي، وتحسين میزان المدفوعات وتنمية الصادرات بوصفها المقياس الحقيقي للتقدم والتنمية، من دون العناية بالعدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة على فئات المجتمع بما يؤدي إلى رفع المستوى المعاشي للجميع.

أما في فكر أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الإنسان هو محور التنمية وقطبها، لذا كان الاهتمام بالعمران وتوفير الأمن سبيلا لرفع المستوى المعاشي للفرد المسلم عن طريق التوزيع العادل للثروة على أبناء الأمة الإسلامية، فاتخذ (عليه السلام) جملة من الإجراءات التي تحقق التنمية البشرية المتوازنة، فالتنمية ليست رفع مستوى واردات الدولة، بل هي فضلا عن ذلك كيف تصل ثار هذه الواردات إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، التي بدورها ترفد عملية التنمية باليد العاملة، والفكر السليم القادر على النهوض بواجباته الشرعية تجاه الوطن، فكان من هذه الإجراءات:

أ - الإعانات المالية:

اتبع الإمام علي (عليه السلام) سياسة الإعانات لدعم الطبقات الفقيرة التي تحتاج إلى عون الدولة ودعمها، مبينا أهمية هذه المعونات في رفد هذه الطبقات بما تحتاج إليه في

ص: 155

حياتها اليومية مما يقوم بأودها ويسد رمقها، فضلا عن الجانب المعنوي لهذه الإعانات، والتي تشعر الفرد بأن الدولة معه تشعر بهمه، وتحنو عليه، وتربت على كتفه، وتشد من أزره لمواجهة الصعاب، وفي هذا الصدد کتب (عليه السلام) إلى عامله على مصر يوصیه: ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه(79).

والذي نستشفه من هذا أنه (عليه السلام) يأمر عامله بإعانة المحتاجين من أهل الحاجة والمسكنة على ما فرض الله لكل صنف في كتابه الكريم، ثم إن هذه المعونة ليست منة أو تفضلا من أحد، وإنما هي حق شرعه الله تعالى لهذه الفئات، کما نستشف أن مقدار المعونة ليس محددا بسقف معين، بل يعطى كل فرد بما يصلح حاله، وهذه لفتة اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة، فإعطاء كل فرد بما يصلح حاله، يعني تهيئة الأسباب المناسبة لهذا الفرد على مواجهة الحياة، وإعطاؤه ليس ما يسد رمقه فحسب، بل إعطاؤه - کما يفهم من العبارة - ما يمكنه من إصلاح حاله، أي ما يمكنه من إيجاد عمل يكسب منه قوته وقوت عياله، ومن ثَمَّ الاعتماد على كسبه، والخروج من دائرة الفقر والمسكنة، وحفظ ماء وجهه من ذل المسألة، وهذه الإعانة بما تمثله من مواصفات يمكن أن نشبهها اليوم بالقروض التشغيلية التي تعطى للعاطلين عن العمل، إلا أنها في عهد الإمام (عليه السلام) تعطي بلا مقابل، ولا تسترد لبيت المال.

وكتب الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله قثم بن العباس ما نصه: "انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى مَن قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع المفاقر والخلات"(80).

ومعلوم أن الإمام (عليه السلام) قد فرض لكل مولود في الإسلام نصيبا من مال الله، فقد أورد أبو عبيد(81) عن رجل من خثعم، قال: ولد لي ولد، فأتيت عليا فأثبته

ص: 156

في مائة، أي فرض له مائة درهم حين ولادته، وفي رواية أخرى لأبي عبيد(82) أن الإمام (عليه السلام) فرض مائة درهم للقيط، قال: "أتيت عليا بمنبوذ فأثبته في مائة".

وعلى هذا فتلك الأموال التي أمر بها قثم بن العباس أن يصرفها لذوي العيال والمجاعة، وأمره أن يصيب بها مواضع المفاقر والخلات، أي أن يتحرى عن ذوي العيال المحتاجين حقًّا للإعانة، وهذا نابع من حرص الإمام علي (عليه السلام) في أن توضع الأموال في مواضعها.

نقول لابدَّ من أن تلك الأموال إعانات مالية اعتاد الإمام علي (عليه السلام) أن يقدمها لمن به حاجة ماسة، فربّما لا تكفي حصة الفرد من العطاء، أو لحدوث طارئ، أو لأي سبب آخر، لذا نراه يوصي عامله بان يصيب بهذه الأموال مواضع الفاقة، أو المفاقر، ويسد بها كل خلل قد تظهر على المحتاج، فينکشف عوزه وفقره.

وفي نص أخر يضيف الإمام علي (عليه السلام) للفكر الإنساني لفتة إنسانية رائعة وفکر اجتماعي خلاق من خلال نظرته الإنسانية إلى الفئات التي تستحق إعانة الدولة، ويصف هذه الفئات بوصف نبيل يتجلى فيه سمو أخلاقه، ورقة نفسه، فيوضح مصارف المعونة إلى من تصرف، فضلا عما ذكرنا من فئات، فيقول واصفا إياهم: "ليس لهم في الإمارة نصيب، ولا في العمارة حظ، ولا في التجارة مال، ولا في الإجارة معرفة، وقد فرض الله في أموال الأغنياء ما يقوتهم ويقوم بهم"(83)، وقد سبق الإمام علي (عليه السلام) في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أشار في المادة(25) إلى أنَّ: "لكل إنسان الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته".

ب - تخصيص مورد مالي ثابت:

لم تقتصر جهود الإمام علي (عليه السلام) على تقديم الإعانات المالية لضعاف الناس

ص: 157

من المحتاجين، وأصحاب العيال، بل سعى لتكوين ما يشبه الشبكة الاجتماعية تحمي الفقير والمريض، والطفل اليتيم من العوز والفقر، وذلك بتخصيص مورد مالي ثابت لهذه الفئات من موارد بیت المال، ومن غلات صوافي الإسلام، والحق أن هذا الإجراء للإمام علي (عليه السلام) لم يسبقه إليه أحد بأن نظر هذه النظرة الإنسانية الراقية لهذه الفئات، ووضع لها المعالجة العملية والعلمية في آن واحد، ولم يقصر الإمام علي (عليه السلام) نظره على صرف موارد مالية فقط لهذه الفئات المستحقة، وإنما أمر عامله باتخاذ ما يشبه اللجنة من أهل الصلاح والتقوى المعروفين بخشية الله تعالى، للنظر في أمور هؤلاء، ورفعها للوالي ليتخذ ما يلزم بشأنها من الإجراءات.

يوصي الإمام علي (عليه السلام) عامله على مصر بقوله: (ثم الله اللهَ في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا، وأحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بیت مالك، وقسما من صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لإحكامك الكثير المهم)(84).

وفي هذا النص تأكید كبير على الاهتمام بهذه الشرائح الاجتماعية، قلما نجد له مثيلا في التاريخ، وهو بحق يعد سبقا للإمام علي (عليه السلام) على كل اللوائح التي وضعت لضمان حقوق الإنسان، فالإمام يؤكد حق هذه الشرائح في العيش الكريم بقوله: الله اللهَ في الطبقة السفلى أي احفظ الله في هذه الطبقة التي لا حيلة لها في كسب العيش، وتحقيق الحياة الكريمة التي ينشدها الإسلام، وهذه الطبقة شملت المحتاجين، والبؤساء، والمرضى غير القادرين على الكسب بالطرق الاعتيادية لعجزهم عن ذلك، فأمر الإمام (عليه السلام) بتخصيص مورد مالي ثابت لهم من بيت مال المسلمين، ومن غلات

ص: 158

صوافي الإسلام.

ولا اقصد بالثابت هنا ثبات كمية المال، وإنما ثبات التخصيص من الموارد، فكمية الأموال تتغير تبعا لواردات بیت المال، فقد تزيد أو تنقص لكن ثبات التخصيص المالي لهم أمر مهم جدا، فقد أصبح للمحتاجين منذ هذا العهد مورد مالي مسمى لهم في بيت مال المسلمين، وغلات الصوافي.

إن هذا الإجراء الذي أجراه الإمام (عليه السلام)، وهو أمر جديد على بيت مال المسلمين الذي هو مؤسسة مالية تختص بما يرد للدولة من أموال کريع أراضي الخراج، وجباية العشور وغيرها، وكانت تصرف هذه الموارد في المسلمين بحسب القرابة من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، والسابقة في الإسلام، ولم يشمل بالعطاء موالي المسلمين، في حين قرر الإمام علي (عليه السلام) بعد أن ساوى بين المسلمين في العطاء، وفرض للموالي کما فرض للعرب بلا فرق أو تمييز، يقرر أن في بيت المال حقًّا للمحتاجين من المرضى والمساكين، وأهل البؤسی؛ ليقيهم العوز وشظف العيش، ويخرجهم من دائرة الفقر والحاجة، كما خصص لهذه الطبقة قسما من واردات أراضي الصوافي، وهي أراض كانت تعود ملكيتها للإمام يضعها حيث شاء بما يحقق النفع للأمة الإسلامية، وهذا ما أكدته المادة(22) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: لكل شخص بصفته عضوا في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية، وفي أن تحقق بوساطة المجهود القومي، والتعاون الدولي، وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته، وللنمو الحر لشخصيته.

3 - إشاعة ثقافة العمل:

يعد العمل في مختلف المجالات من قبيل الإنتاج، وتوفير السلع والبضائع الاستهلاكية، والخدمات التي تقتضيها متطلبات المجتمع وحاجاته من العناصر المهمة

ص: 159

في عملية التنمية، وقد أولى الإمام علي (عليه السلام) هذه المسألة عناية خاصة، ناهيك عن ممارسته للإعمال المختلفة طوال حياته (عليه السلام)(85)، فهو (عليه السلام) یكنُّ للعمل المنتج الصالح احتراما عميقا انعكس من أقواله المتناثرة في بطون الكتب، والتي بينت لنا رؤيته (عليه السلام) في العمل الذي يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع(86)، فقد سعی (عليه السلام) إلى إشاعة ثقافة العمل، وبیان قدسيته، وأن أهميته تكمن في القضاء على آفة الكسل والعجز والفقر التي تسهم في تفشي الأمراض الجسمانية والنفسية على نطاق الفرد والمجتمع على السواء، لذا حث الإمام (عليه السلام) من خلال خطبه ووصاياه أفراد المجتمع على مزاولة العمل بوصفه واجبا عباديا، إذ ورد عنه (عليه السلام) أنه قال: إني الأبغض الرجل يكون كسلانا من أمر دنياه، فهو من أمر أخرته اکسل(87)، وليعيش المؤمن حالة الموازنة بين العبادة والعمل، والأمور الحياتية الأخرى، فلا ينزلق في التطرف، كأن يترك العمل، ويصبح كلاًّ على الآخرين بحجة الزهد والعبادة، أو ينغمس في العمل، فینسی واجباته العبادية الأخرى، قسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت المؤمن بشكل مثالي ومتوازن يضمن من خلاله سعادة الدنيا والآخرة، إذ قال: للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرمّ معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها في ما يحل ويجمل، وليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم(88).

وفي إطار سعيه لإشاعة ثقافة العمل الصالح المنتج قال (عليه السلام): إن العمل شعار المؤمن(89)، وقال (عليه السلام): طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب کسبه، وصلحت سريرته(90)، وقال أيضا: آفة العمل البطالة، وقد علق احد الباحثين بعد أن أورد هذا الحديث بقوله: بأن الإنسان قد يعتاد الخمول والبطالة، فإذا فعل ذلك أخلد إلى الراحة والدعة، وبذل قصارى جهده بهذه لينأى بنفسه بعيدا عن الإعمال ذات الطبيعة الإنتاجية،

ص: 160

والتي تنطوي ممارستها على نوع من العناء والجهد والتعب، فإذا ما انهمك في عمل لم يكن همه سوى الفراغ منه بغض النظر عن جودته وإتقانه، وعليه فلا ينبغي للفرد أن يجعل الشعور بالميل للبطالة، والقعود عن العمل يتسرب إلى قلبه(91).

وعلى هذا الأساس، وتأكيدا لأهمية العمل للفرد والمجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام) دعا إلى مواصلة العمل، وعدم الكسل، أو الاتكال على ما جمع الفرد من ثروة، فالعمل في فكره (عليه السلام) ليس مجرد وسيلة لكسب المال فقط على الرغم من أهمية ذلك، بل لقيمته المعنوية والذاتية للفرد، فضلا عن مردوده الاقتصادي والاجتماعي، فعمل الفرد ينعكس على المجتمع من خلال ما يقوم به الفرد المسلم من إنتاج بضائع وسلع، أو تقديم خدمات نافعة، كما أنه من جهة أخرى ينعكس على دورة النقود في الأسواق، فما يحصل عليه العامل من أموال سينفق معظمها على شراء ما يحتاج إليه من سلع وخدمات، أما من الناحية الاجتماعية فإشاعة العمل، والحث عليه ستقضي على آفة البطالة، كما أنه يسهم في تشغيل عدد كبير من اليد العاملة، كما أن المردود المالي الذي يحصل عليه العامل فيه حقوق شرعية إذا ما أخرجها، ووضعها بيد من سُميت له، فانه سيخلق مجتمعا متماسکا متكافلا ينعدم فيه الفقر، وتسوده الرحمة والمودة، فلا تبقى ضغينة بصدر فقير معوز تجاه غني مترف، وإشاعة ثقافة العمل تجعل الأفراد في سباق محمود على انتهاز الفرص، والقيام بمختلف الأعمال المشروعة، ومن ثَمَّ تخليص المجتمع من النظرة السلبية التي ينظر بها لبعض الأعمال والمهن، هذه النظرة التي حاربها الإسلام منذ البداية، قال (عليه السلام): قيمة كل امرئ ما يحسنه(92)، وقد علق ابن خلدون(93) على ذلك بقوله: بمعنى أن صناعته هي قيمته، أي قيمة عمله الذي هو معاشه. وقال الشيخ محمد عبده(94): وهذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة، ولا توزن بها حكمة، ولا تقرن إليها كلمة.

ص: 161

وفي دعوة الإمام (عليه السلام) إلى إتقان العمل وإجادته قال: لا تطلب سرعة العمل، واطلب تجویده، فالناس لا يسألون في كم فرغ من العمل، وإنما يسألون عن جودة صنعته(95)، وهذه النظرة الفلسفية للعمل وجودة الصناعة في حقيقتها دعوة إلى التخصص في الإنتاج وتقسيم العمل الذي من أهم ميزاته إتقان الصنعة.

إن مبدأ التخصص، أو تقسيم العمل في الصناعات كما يسمونه حديثا يُعد من أهم المبادئ التي اعتمدها الإمام في القطاع الصناعي، والذي يؤدي إلى مستوى عالٍ من الدقة والجودة(96).

وقال الإمام علي (عليه السلام): بركوب الأموال تكسب الأموال(97)، وهي دعوة إلى عدم الانزواء في محيط المدينة، أو القرية، إذا ما شح الرزق، وضاقت السبل، فهي دعوة إلى السفر في أرض الله الواسعة، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا»(98)، وقال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»(99).

وفي دعوة أخرى من الإمام علي (عليه السلام) إلى الجد والاجتهاد في العمل، وخلق روح المثابرة في الفرد المسلم قال: من قصر في العمل ابتلي بالهم(100).

وسعى الإمام علي (عليه السلام) إلى توفير الفرص للعاطلين عن العمل، حيث كان أهم ميادين العمل وقتذاك الزراعة، لذا فقد اتخذ عدة خطوات لتشجيع العاطلين عن العمل على استغلال الأرض، والانتفاع بنتاجها للقضاء على الفقر، وزيادة الإنتاج، ومن أهم هذه الخطوات تشجيعه على إحياء الأراضي الموات.

وإشاعة ثقافة العمل جزء مهم من مستلزمات التنمية البشرية، فلحدوث تنمية حقيقية لابد من مجتمع منتج يقدس العمل ويحترمه، فالإنسان هو صانع التنمية وغايتها، وقد أشار الإعلان العالمي في المادة (23) إلى أنَ: لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، كما أن له حق الحماية من البطالة.

ص: 162

الخاتمة:

بعد أن وصلت الشعوب إلى درجة من اليقين بأنها لا تستطيع العيش معا بكل اختلافاتها الاثنية والدينية، كان لابد من وجود قاسم مشترك يجمعهم للعيش في وطن واحد، فكانت المواطنة هي المبدأ الذي تمسكوا به وعاشوا متساوين في ظلاله.

كان لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) قصب السبق في إقرار حقوق المواطنة، وإن اختلفت التسميات إذا ما أخذنا بحداثة مفهوم المواطنة، لكن المضامين كانت واحدة، فقد ركَّز الإمام (عليه السلام) على الإنسانية بوصفها الرابط الجامع لكل البشر: أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق»(101)، وسعى في سياسته إلى احترام حق الحياة، وحرية التعبير والحوار مع معارضيه.

وفي جانب ما اصطلح عليه بالحكم الصالح أو الرشید، نستطيع القول إن كل السمات التي وضعتها الأمم المتحدة ليكون الحكم صالحا أو رشیدا، كانت متوافرة في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، بل يمكننا القول إن الإمام (عليه السلام) كان الأنموذج الأسمى للحاكم الصالح، ولا شك في أنه يمكننا القول بلا تردد إن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعد رائد التنمية البشرية الإسلامية، وواضع أسسها، وإن المفكرين والفقهاء الذين أسهموا في بناء الفكر التنموي الإسلامي لابد من أن يكونوا قد تأثروا بشكل من الأشكال بفكر الإمام علي (عليه السلام).

قال أحد الباحثين: «من المقولات المعروفة للإمام علي التي طالما توقفت عندها کما لابد أن يتوقف عندها الكل متأملا بكثير من الإعجاب قوله: «ربوا أولادكم على غير ما دَرَجْتم عليه لأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، ولعل أفضل ما سمعته تعليقا على هذه المقولة ما قاله أحمد جبريل السياسي الليبي المعروف ورئيس الوزراء السابق كان يتحدث في ندوة في تونس كنت حاضرا فيها ذكر هذه المقولة في سياق معين وقال: «إن الإمام علي

ص: 163

بهذه المقولة يعتبر رائدا للتنمية المستدامة»، وما قاله أحمد جبریل کلام دقيق جدا بشكل مدهش»(102).

ونحن إذ ننهي هذه الصفحات نقول: لابد لنا من وجوب الاستفادة من منهج أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التنموي الذي كان الإنسان فيه هدفا وغاية، فما زالت السياسات المتبعة تضع التطور المادي فقط معيارا أساسا لكل تقدم، وهذا ما أكدت معظم الدراسات، بل والخطط الاقتصادية، فشله الذريع، فالتنمية أولا إنما هي الاهتمام بصنع الإنسان القادر على تغيير الظروف، وتقديم العطاء للوطن.

لذا يجب أن تكون السياسة الموضوعة شاملة لجميع نواحي الحياة، من التعليم والصحة، والمستوى المعاشي، والرقي الثقافي، وأن يكون هناك مقياس دقيق للعدالة الاجتماعية، فتوفر كل هذه الأسباب بلا عدالة يفرغ التنمية من محتواها، ويقتل أهدافها.

ص: 164

الهوامش

1. بدوي، أحمد زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (بیروت، مكتبة، لبنان، 1982 م)، ص 60.

2. السعيد، احمد عطية الله، المعجم السياسي الحديث، (بیروت، شركة بهجة المعرفة بلا)، ص 66.

3 .یا یموت، خالد، المواطنة في الفكر الاسلامي المعاصر، بحث منشور في مجلة الكلمة الالكترونية، العدد 54، (بلا، 2007 م)، ص 1 منشور على الموقع.

http://www.kalema.net/v1/?rpt=756art

4. فوزي، سامح، المواطنة، (القاهرة، مركز القاهرة الدراسات حقوق الانسان، 2007 م)، ص 9.

5. محسن، جواد کاظم، المواطنة الحقوق والواجبات من منظور اسلامی، بحث منشور في مجلة الدراسات السياسية العربية والدولية، العدد 18، (بغداد، 2010)، ص 1.

6. زبون، ناهدة محمد، مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر دراسة في المفهوم والأبعاد، بحث منشور في حولية المدي، مج 1، العدد 4، (بغداد، 2010 م)، ص 368.

7. یونس، مفيد ذنون، التنمية الاقتصادية والمواطنة ودور مؤسسة الحكم، بحث منشور في مجلة دراسات اقليمية، العدد 13، (الموصل، 2009 م)، ص 120.

8. يونس، التنمية الاقتصادية والمواطنة، ص 121.

9. الزنيدي، عبد الرحمن بن زيد، فلسفة المواطنة، بحث مقدم في لقاء قادة العمل التربوي في السعودية، منشور على موقع naief/http:www.docuuments/chair Imamu.edu.sa ص 6 ص 7.

ص: 165

10. یونس، التنمية الاقتصادية والمواطنة، ص 121.

11. زبون، مفهوم المواطنة، ص 370.

12. م.ن، ص 370.

13. م. ن، ص 371.

14. الصائغ، بان احمد، التأصيل التاريخي لمفهوم المواطنة، بحث منشور في مجلة الدراسات الاقليمية، العدد 14، (الموصل، 2009 م)، ص 331.

15. ينظر: (الاعلان العالمي لحقوق الانسان، 1948 م).

16. الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه)، روضة الكافي، (بیروت، منشورات الفجر، 2007 م)، ج 8، ص 40.

17. الحراني، الحسن بن علي بن الحسين (من اعلام القرن الرابع الهجري)، تحف العقول عن آل الرسول، (بیروت، دار المرتضی، 2007 م)، ص 68.

18. عبده، محمد، نهج البلاغة، (القاهرة، مؤسسة المختار، 2008 م)، ص 417.

19. م، ن، ص 419.

20. تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2002 م، ص 101.

21. م. ن، ص 34.

22. م. ن، ص 416.

23. م. ن، ص 420.

24. م. ن، ص 432.

205. اليعقوبي، أحمد بن إسحاق (ت 292 ه)، تاريخ اليعقوبي، تعليق: خليل المنصور، (طهران، مطبعة مهر، 1425 ه)، ج 2، ص 141..

26. عبده، نهج البلاغة، ص 32، ص 433.

ص: 166

27. م. ن، ص 414.

28. م. ن، ص 421.

29. ابن الصباغ، علي بن محمد بن احمد المالكي (ت 855 ه)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق: جعفر الحسيني، بيروت، المجمع العالمي لأهل البيت، 2011 م)، ص 184 ص 185، وينظر: ابن طيفور، أبو الفضل، بلاغات النساء، (مطبعة مدرسة والجة عباس الأول، القاهرة، 1908)، ص 37.

30.نهج، ص 418.

31. مصقلة بن هبيرة الشيباني بن شبل بن يثربي من وجوه أهل العراق ولاه ابن عباس اردشیر خرة وعتب عليه الإمام علي في إعطاء مال الخراج لمن يقصده من بني عمه، وقيل إنه فدى نصارى بني ناجية بخمس مائة إلف فلم يرها، لحق بمعاوية فولاة طبرستان وفيها هلك بعد أن أخذ العدو الطرق عليه. ينظر: (ابن عساکر، علي بن الحسن (ت 571 ه)، تاریخ دمشق، تحقيق: محب الدين أبي سعيد بن غرامة العمر وي، (بیروت، دار الفكر، 1997 م)، ج 58، ص 269 ص 270 ص 273.

32. عبده، نهج البلاغة، ص 404.

33. عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)، العين، (بیروت، داراحیاء التراث العربي، 2001 م)، ص 988. ينظر: (ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711 ه)، لسان العرب، تدقیق : يوسف البقاعي واخرون، (بیروت، مؤسسة الأعلمي، 2005 م)، مج 2، ص 4028.

34. ابن فارس، ابو الحسن احمد بن فارس بن زکریا (ت 395 ه)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (قم، دار الكتب العلمية، بلا)، ج 5، ص 479.

35. بکار، عبد الكريم، مدخل إلى التنمية المتكاملة رؤية اسلامية، (دمشق، دار

ص: 167

القلم، 1999 م)، ص 9.

36. علم الاجتماع الاقتصادي، (الموصل، مطبعة دار الحكمة، 1990 م)، ص 144.

37. م. ن، ص 144.

38. الغندور، سماح طه احمد، التنمية البشرية في السنة النبوية، دراسة موضوعية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة غزة، كلية أصول الدين، (غزة،2011 م)، ص 3.

39. السروجي، طلعت مصطفى، التنمية الاجتماعية من الحداثة إلى العولمة، (الاسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 2009 م)، ص 5 ص 6.

40. ينظر: عارف، نصر، في مفاهيم التنمية ومصطلحاتها، بحث منشور في مجلة ديوان العرب، عدد حزیران لسنة 2008 م،(لقاهرة، 2008 م)، ص 1.

41. دوابة، اشرف محمد، التنمية البشرية من منظور اسلامي، بحث مقدم إلى الملتقى الدولي الثالث حول واقع التنمية البشرية في اقتصاديات البلدان الاسلامية، جامعة الجزائر، كلية العلوم الاقتصادية والتسيير، (الجزائر، 2007 م)، ص 2.

42. بن قانة، اسماعيل محمد، اقتصاد التنمية نظريات نماذج استراتيجيات، (عمان، دار اسامة، 2012)، ص 227 ص 228.

43. دوابة، التنمية البشرية من منظور اسلامي، ص 2.

44. بن قانة، اقتصاد التنمية، ص 228.

45. العبيد احمد، ضرار الماحي، نشأة وتطور مفهوم التنمية المستدامة، بحث رمنشور في مجلة التنوير، العدد، (الخرطوم، 2008 م)، ص 9.

46. عبده، الشيخ محمد، نهج البلاغة، (القاهرة، مؤسسة المختار، 2008 م)، ص 416.

47 .عمارة، محمد، علي بن ابي طالب نظرة عصرية جديدة، (بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974 م)، ص 37.

ص: 168

48. عبده، نهج البلاغة، ص 426.

49. م. ن، ص 426.

50. عبد المنعم، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية، ص 54.

51. ينظر وثيقة البرنامج الانمائي، ص 10.

52. خزنة كاتبي، غيداء، الخراج منذ الفتح الإسلامي حتى اواسط القرن الثالث الهجري، (بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 م)، ص 237.

53. أحمد بن يحيى (ت 279 ه)، فتوح البلدان، (بیروت، مكتبة الهلال، 1988 م)، ص 266، وص 267.

54. الرساتیق: جمع رستاق، فارسية معربها: الرزاق، وهي: القرية، أو محلة العسكر، أو البلد التجاري.

ينظر: عمارة، محمد، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، (بیروت، دار الشروق، 1993 م)، ص 248.

55. بهر سير: من نواحي سواد بغداد قرب المدائن، ويقال بهر سير الرومقان، وقيل بهر سير إحدى المدائن السبع التي سميت بها المدائن، وهي غربي دجلة. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 1، ص 515).

56. الرومقان: طسوج من طساسيج السواد في سمت الكوفة. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 3، ص 97).

57. نهر درقیط: كورة ببغداد من جهة الكوفة. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 2، ص 451).

58. بهقباذ: اسم لثلاث کور ببغداد من أعمال سقي الفرات منسوبة إلى قباذ بن فيروز والد أنو شروان. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 1، ص 516).

ص: 169

59. الجريب: بفتح فكسر مقیاس مساحة مقداره ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقيل عشرة آلاف ذراع. ينظر: (الشرباصي، أحمد، المعجم الاقتصادي الإسلامي، بيروت، دار الجيل، 1981 م)، ص 93).

60. الصاع: أربعة أمداد، وهو مكيال أهل المدينة، وعند أهل الكوفة أربعة أمناء. ينظر: (الشرباصي، المعجم الاقتصادي، ص 259).

61. العسل، ابراهيم، التنمية في الاسلام مفاهیم مناهج وتطبيقات، (بیروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1996 م)، ص 95.

62. عبده، نهج البلاغة، ص 426.

63. م. ن، ص 426 ص 427.

64. م. ن، ص 427.

65. ينظر: العسل، ابراهيم، الفكر الانماءي عند الامام علي (عليه السلام)، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 5، (بیروت، 1997 م)، ص 77.

66. عبده، نهج البلاغة، ص 426.

67. الجابري، عبد الله حاسن، الفكر الاقتصادي عند الامام علي بن ابي طالب من خلال رسالته لواليه على مصر الاشتر النخعي دراسة مقابلة بالفكر المالي الحديث، بحث رمنشور في مجلة ام القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 17، العدد 34، (الرياض، 1426 ه)، ص 336.

68. م. ن، ص 312.

69. العسل، الفكر الانمائي، ص 75.

70.، إبراهيم، أحمد اسعد محمود، السياسة الاقتصادية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، كلية الشريعة، (عمان، 1997 م).

ص: 170

ص 61.

71. ابراهيم، السياسة الاقتصادية، ص 61.

72. محمد عبده، نهج البلاغة، ص 421.

73. عبده، نهج البلاغة، ص 430.

74. ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، بیروت، الدار اللبنانية للنشر، 2008 م)، ج 11، ص 66.

75. الطبری، تاریخ الامم والملوك، (بیروت، دار الاميرة، 2010 م)، ج 3، ص 283.

76. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغه، ج 11، ص 59 ص 60.

77. العسل، الفكر الانهائي، ص 73.

78. عبده، نهج البلاغة، ص 418.

79. عبده، نهج البلاغة، ص 422.

80. م. ن، ص 448.

81. القاسم بن سلام (ت 224 ه)، الأموال، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1986 م)، ص 250.

82. م. ن، ص 250.

83. السعد، حقوق الإنسان، ص 391.

84. عبده، نهج البلاغة، ص 629.

85. البختیاری، صادق، العدالة والتنمية في منهج الإمام علي، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 27، (بیروت، 2002 م) ص 14..

86. السعد، حقوق الإنسان، ص 311.

ص: 171

87. الموسوي، میسون محمد حسين، الفكر الإبداعي في تراث الإمام علي (نهج البلاغة نموذجا)، أطروحة دكتوراه غير منشورة، مقدمة إلى معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، (بغداد، 2005 م)، ص 93.

88. عبده، نهج البلاغة، ص 497.

89. السعد، حقوق الإنسان، ص 312.

90. عبده، نهج البلاغة، ص 474.

91. بختیاری، ص 14.

92. عبده، نهج البلاغة، ص 467.

93. عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه)، المقدمة، تحقيق: حجر عاصي، (بیروت، دار الهلال، 1988 م)، ص 256.

94. نهج البلاغة، ص 467.

95. الموسوي، الفكر الإبداعي، ص 94.

96. العسل، إبراهيم، الفكر الإنمائي عند الإمام علي، مجلة المنهاج، العدد 5، 1997 م، ص 78.

97. م. ن، ص 319

98. سورة الملك، آية 15.

99. سورة الملك، آية 15.

100. عبده، نهج البلاغة، ص 475.

101. عبده،، نهج البلاغة، ص 417.

102. زهرة، السيد، التنمية المستدامة، مقال منشور في جريدة أخبار الخليج، جريدة يومية، العدد 12832 في 11 / 5 / 2013 م، (المنامة، 2013 م).

ص: 172

ثبت المصادر والمراجع

القرآن الكريم

أولا: المصادر الأولية

1 - البلاذري، أحمد بن يحيى (ت 279 ه)، فتوح البلدان، (بیروت، مكتبة الهلال، 1988 م).

2 - ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (بیروت، الدار اللبنانية للنشر، 2008 م).

3 - الحراني، الحسن بن علي بن الحسين (من اعلام القرن الرابع الهجري)، تحف العقول عن آل الرسول، (بیروت، دار المرتضی، 2007 م).

4 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه)، المقدمة، تحقيق: حجر عاصي، (بیروت، دار الهلال، 1988 م).

5 - ابن الصباغ، علي بن محمد بن احمد المالكي (ت 855 ه)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق: جعفر الحسيني، (بیروت، المجمع العالمي لأهل البيت، 2011 م).

6 - الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 568 ه)، مجمع البيان في تفسير القرآن، (بیروت، دار المرتضی، 2006 م).

7 - الطبري، محمد بن جریر (ت 310 ه)، جامع البيان عن تأویل آي القرآن، تحقیق: محمود محمد شاكر، (القاهرة، مكتبة ابن تيمية، بلا).

8 - تاريخ الأمم والملوك، (بیروت، دار الاميرة، 2010 م).

9 - ابن طيفور، أبو الفضل احمد بن طاهر (ت 280 ه)، بلاغات النساء، (مطبعة مدرسة

ص: 173

والجة عباس الأول، القاهرة، 1908).

10 - أبو عبيد، القاسم بن سلام (ت 224 ه)، الأموال، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1989 م).

11 - ابن عساکر، علي بن الحسن (ت 571 ه)، تاریخ دمشق، تحقیق: محب الدين أبي سعيد بن غرامة العمروي، (بیروت، دار الفكر، 1997 م).

12 - ابن فارس، أبو الحسن احمد بن فارس بن زکریا (ت 395 ه)، معجم مقاییس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (قم، دار الكتب العلمية، بلا). 13 - الفراهيدي، عبد الرحمن الخليل بن احمد (ت 175 ه)، العين، (بیروت، دار إحياء التراث العربي، 2001 م).

14 - القاضي النعمان، أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي (ت 363 ه)، دعائم الإسلام، تحقيق: اصف علي اصغر فيضي، (بیروت، دار الأضواء، 1991 م).

15 - القرطبي، محمد بن احمد بن أبي بكر (ت 671 ه)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وآخرون، (بیروت، مؤسسة الرسالة، 2006 م).

16 - الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه)، روضة الكافي، (بیروت، منشورات الفجر، 2007 م).

17 - ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711 ه)، لسان العرب، تدقيق: يوسف البقاعي واخرون، (بیروت، مؤسسة الأعلمي، 2005 م).

18 - یاقوت الحموي، أبو عبد الله یاقوت بن عبد الله (ت 525 ه)، معجم البلدان، (بیروت، دار صادر، 1995 م).

ص: 174

19 - اليعقوبي، أحمد بن إسحاق (ت 292 ه)، تاريخ اليعقوبي، تعليق: خليل المنصور، (طهران، مطبعة مهر، 1425 ه).

ثانيا: المراجع

20 - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 1948 م.

21 - بدوي، احمد زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (بیروت، مكتبة لبنان، 1982 م)

22 - برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 1997 م، إدارة الحكم لخدمة التنمية البشرية المستدامة

23 - بكار، عبد الكريم، مدخل إلى التنمية المتكاملة رؤية إسلامية، (دمشق، دار القلم، 1999 م).

24 - تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 م

25 - الحسن، إحسان محمد، علم الاجتماع الاقتصادي، (الموصل، مطبعة دار الحكمة، 1990 م).

26 - خزنة كاتبي، غيداء، الخراج منذ الفتح الإسلامي حتى أواسط القرن الثالث الهجري، (بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 م).

27 - السروجي، طلعت مصطفى، التنمية الاجتماعية من الحداثة إلى العولمة، (الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 2009 م).

28 - السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، (بغداد، د. م، 2008 م).

29 - السعيد، احمد عطية الله، المعجم السياسي الحديث، (بیروت، شركة بهجة المعرفة

ص: 175

بلا)

30 - الشرباصي، أحمد المعجم، الاقتصادي الإسلامي، (بیروت، دار الجيل، 1981 م).

31 - عبده، الشيخ محمد، نهج البلاغة، (القاهرة، مؤسسة المختار، 2008 م).

32 - العسل، إبراهيم، التنمية في الإسلام مفاهیم مناهج وتطبيقات، (بیروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1996 م).

33 - عمارة، محمد، علي بن أبي طالب نظرة عصرية جديدة، (بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974 م).

34 - قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، (بيروت، دار الشروق، 1993 م).

35 - فوزي، سامح، المواطنة، (القاهرة، مركز القاهرة الدراسات حقوق الإنسان، 2007 م)،

36 - بن قانة، إسماعيل محمد، اقتصاد التنمية نظريات نماذج استراتيجيات، (عمان، دار أسامة، 2012).

37 - النجار، عبد الهادي علي، الإسلام والاقتصاد دراسة في المنظور الإسلامي لأبرز القضايا الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، (الكويت، عالمالمعرفة، 1983 م).

ثالثا: الدوريات:

38 - البختياري، صادق، العدالة والتنمية في منهج الإمام علي، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 27، (بیروت، 2002 م)، ص 14..

39 - الجابري، عبد الله حاسن، الفكر الاقتصادي عند الإمام علي بن أبي طالب من

ص: 176

خلال رسالته لواليه على مصر الأشتر النخعي دراسة مقابلة بالفكر المالي الحديث، بحث منشور في مجلة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 17، العدد، الرياض، 1426 ه).

40 - بو حمد، رضا صاحب، سياسة الإعانات عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بحث منشور في مجلة جامعة ذي قار، العدد 2، مج 1 (ذي قار، 2005).

41 - دوابة، أشرف محمد، التنمية البشرية من منظور إسلامي، بحث مقدم إلى الملتقى الدولي الثالث حول واقع التنمية البشرية في اقتصاديات البلدان الإسلامية، جامعة الجزائر، كلية العلوم الاقتصادية والتسيير، (الجزائر، 2007 م).

42 - دنیا، شوقي احمد، دور الدولة في التنمية في ضوء الاقتصاد الإسلامي، بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 9، الرياض، 1414 ه).

43 - زبون، ناهدة محمد، مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر دراسة في المفهوم والأبعاد، بحث منشور في حولية المدى، مج 1، العدد 4، (بغداد، 2010 م)،

44 - الزنيدي، عبد الرحمن بن زيد، فلسفة المواطنة، بحث مقدم في لقاء قادة العمل التربوي في السعودية، منشور على موقع.

documents /-/ http: www.Imamu.edu.sa

45 - شبع، محمد جواد، التنمية في القرآن الكريم، بحث منشور في مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، العدد 6، مج 11، جامعة الكوفة، (النجف الأشرف، 2010 م).

46 - الصائغ، بان أحمد، التأصيل التاريخي لمفهوم المواطنة، بحث منشور في مجلة الدراسات الإقليمية، العدد 14، (الموصل، 2009 م).

47 - عبد المنعم أحمد، فؤاد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها

ص: 177

المعاصرة، (جدة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1422 ه).

48 - عارف، نصر، في مفاهيم التنمية ومصطلحاتها، بحث منشور في مجلة ديوان العرب، عدد حزيران لسنة 2008 م، (لقاهرة، 2008 م).

49 - العبيد احمد، ضرار الماحي، نشأة وتطور مفهوم التنمية المستدامة، بحث منشور في مجلة التنوير، العدد 5، (الخرطوم، 2008 م).

50 - الهنداوي، حسن بن إبراهيم، مفهوم التنمية وخصائصها من وجهة نظر إسلامية، بحث منشور في مجلة التنوير، العدد 5، (الخرطوم، 2008 م).

51 - العسل، إبراهيم، الفكر الإنمائي عند الإمام علي (عليه السلام)، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 5، (بیروت، 1997 م).

رابعا: الأطاريح والرسائل

52 - إبراهيم، أحمد اسعد محمود، السياسة الاقتصادية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، كلية الشريعة، (عمان، 1997 م).

53 - الغندور، سماح طه احمد، التنمية البشرية في السنة النبوية، دراسة موضوعية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة غزة، كلية أصول الدين، (غزة، 2011 م).

54 - محسن، جواد کاظم، المواطنة الحقوق والواجبات من منظور إسلامي، بحث منشور في مجلة الدراسات السياسية العربية والدولية، العدد 18، (بغداد، 2010).

55 - الموسوي، میسون محمد حسين، الفكر الإبداعي في تراث الإمام علي (نهج البلاغة نموذجا)، أطروحة دكتوراه غير منشورة، مقدمة إلى معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، (بغداد، 2005 م).

ص: 178

56 - یایموت، خالد، المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر، بحث منشور في مجلة الكلمة الالكترونية، العدد 54، (بلا، 2007 م)، ص 1 منشور على الموقع

http://www.kalema.net/v1/?rpt=756 art

57 - يونس، مفيد ذنون، التنمية الاقتصادية والمواطنة ودور مؤسسة الحكم، بحث منشور في مجلة دراسات إقليمية، العدد 13، (الموصل، 2009 م).

ص: 179

ص: 180

القيادة الاخلاقية في عهد الامام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر

اشارة

ا.م.د. ابتسام سعدون النوري

الجامعة المستنصرية

ا.م.د. حليمة سلمان الحمداني

جامعة كركوك

ص: 181

ص: 182

مقدمة:

إن أول تحديا يواجهنا هو تعريف المقصود بمصطلح «القيادة» بشكل واضح، غالباً ما تستحضر كلمة قائد في أذهاننا انطباعات مخالفة للطريقة التي استخدمت فيها في هذه المناقشة، عندما يُطلَب من الناس تعريف «القائد» فإنهم كثيراً ما يقولون: «الشخص المسؤول، الذي يصدر الأوامر وبيده زمام الأمور» وللأسف فإن صفحات التاريخ مليئة بهؤلاء الذين عرّفوا القيادة بهذه الطريقة.

کما إن أشكال القيادة، سواء الإستبدادية (Autocratic)، والأبوية (Paternalistic)، والقمعية (manipulative)، والقيادة التي تدعي إلمامها بجميع الأمور (all-it-Know)، التي يمكن أن نجدها في مختلف أنحاء العالم تميل إلى إضعاف هؤلاء الذين من المفترض أن تقوم على خدمتهم، فهم يمارسون التحكم عن طريق جعل عملية اتخاذ القرار مركزية بحتة، وبالتالي إجبار الآخرين على الرضوخ.

فإذا كان لا بد للبشرية أن تنتقل من سن المراهقة الجماعية إلى سن البلوغ الجماعي، وإذا كان لا بد لها أن تحصد فوائد طويلة المدى لعملية قمة الأرض، علينا أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة وثيقة الصلة بالموضوع.

أولاً: هل بإمكان نماذج القيادة السائدة حاليًا إنتاج قادة قادرين على معالجة القضايا العالمية الهامة التي تواجه الإنسانية بكل أمانة وعدل؟ ثانيًا: هل المؤسسات التي أوجدتها نماذج القيادة السائدة حاليًا قادرة على إيجاد حضارة عالمية مستدامة؟ ثالثًا: هل نحن بأنفسنا مستعدون للتخلي عن الممارسات العتيقة والولاءات القديمة واكتشاف نموذج جديد للقيادة الأخلاقية؟

إن هذا الانموذج يرتكز بشكل تام على خدمة الآخرين، لذلك فإن أحد متطلبات

ص: 183

القيادة الأخلاقية هو روح الخدمة، خدمة الفرد لعائلته، لجامعته ولأمته. وروح هذه لا تنكر بأي شكل من الأشكال الدوافع والمبادرات الفردية، كما أنها لا تعيق الإبداع الفردي. بل إنها تطالب بنموذج للقيادة يعمل على إطلاق القدرات الكامنة لدى الفرد بينما يضمن خير وسعادة الجميع، وهذا ما ينطبق على شخصية مالك الاشتر

من هو مالك الأشتر؟

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة الى جده النخع، ولقد إشتهر مالك (بالأشتر) حتى يكاد يطغى على إسمه الحقيقي ولا يُعرف إلا به، وكنيته ابو إبراهيم، وقد لُقب بالأشتر وكبش العراق، وهناك روايتان في كيفية شُتر عينه، الاولى: ان عينه شُترت في حروب الردة في جهاده عن الاسلام عندما ضربه ابو مسيكمه على رأسه، والرواية الثانية ان عينه شُترت في وقعة اليرموك، عند مبارزته لرجل مشرك من الروم وقتله، ولربما تكون عينه قد فقئت في حروب الردة ثم أُصيبت ثانية في معركة اليرموك، ولُقب كذلك (بكبش العراق)، وقد أورده الرازي في مختار الصحاح ونصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين(1).

ويستدل من بعض القرائن ان ولادة مالك كانت لما يقرب من عشرين سنة سبقت البعثة النبوية الشريفة وأنه كان معروفاً ومشهوراً في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(2):

وقد وِلد في بيشه الواقعة في أعلى اليمن وهي بلاد ذات خصب ونخيل وأشجار وعيون ماء(3)، وتنقل المصادر أن مالكاً قدِم مهاجراً الى المدينة ونزل في دار الامام علي (عليه السلام)، وقد شهد الوقائع وخاض المعامع في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ويجزم الواقدي أن مالكاً يحب الامام علي (عليه السلام) قبل خلافته، ونزل في

ص: 184

داره مع اهله وهو دليل قوي بأن الامام علي تعرف على مالك وأهله في اليمن، والمعرفة هنا عائلية وصميمية.

هدف البحث: تعرف على الخصائص القيادية في شخصية مالك الاشتر:

تحديد المصطلحات:

اولا - القيادة الاخلاقية: هي مججموع القدرات والمفاهيم، والفضائل، وأنماط التفكير، والمهارات الي يتمتع بها الفرد في موقف، وهي تمثل بمجموعها اطلاق القدرات لخدمة الآخرين.

شخصية مالك الاشتر: نشأ إبراهيم بن مالك الأشتر في أسرة كريمة أشربت في قلبها حب الإسلام وموالاة أهل البيت (عليه السلام)، وذكر لنا التأريخ أنه شارك في حرب صفين مع الإمام علي (عليه السلام) بين يدي والده وهو غلام فأبلى فيها بلاءً حسنًا، وشخصية مالك الأشتر شخصية الرجل الشجاع الذي يفرض نفسه في كل موقف، وهو الذي لم تُرد له راية او ينكسر له جيش(4)، وقد قال فيه ابن أبي الحديد: «لله در اُمٍ قامت عن الأشتر، لو أن انساناً يقسم أن الله ما خلق في العرب ولافي العجم أحداً أشجع منه إلا أُستاذه علي بن أبي طالب لما خشيت عليه الإثم(5) وقد قتل يوم اليرموك أحد عشر رجلاً من بطارقتهم وقتل ثلاثة منهم مبارزةً. ومما يُحسب له قتله للعلج الرومي في الشام، والذي لم يستطع أحد ان يبارزه وكان خالد بن الوليد يعد مالك الأشتر بألف فارس، وذلك عندما عزم ابو عبيدة بن الجراح على إرسال اربعة آلاف فارس مدداً من الشام الى عمرو بن العاص في مصر، وخاف عليهم مشقة الطريق، فقال له خالد: ان الله كفاك ذلك، فقال:كيف ذلك يا أبا سليمان؟ قال خالد: إن عزمت على ماذكرت فابعث اربعة من المسلمين فهم مقام اربعة آلاف فارس، فقال ابو عبيدة متعجباً: من الأربعة؟ قال خالد: انا أحد الأربعة والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ومالك بن

ص: 185

الحارث (الأشتر)... فقال له ابو عبيدة: إفعل ماتراه(6)، ومما يؤثر عنه عند إعادته الى ميمنة أهل العراق عند هزيمتهم في وقعة صفين فهي شجاعة وتأثير في الناس الذين أعادهم وهذه دلالة على قيادة حازمة وثقة كبيرة من الجيش بشخصيته. وقوله للإمام علي (عليه السلام) عندما إنشق عليه الجيش في وقعة صفين وقد صار قاب قوسين او أدنى من النصر (إقلب الصف على الصف تصرع القوم)، هي شجاعة قلَّ نظيرها، وقد إتفقت جميع المصادر التي ذكرت جانباً من حياة مالك الأشتر على شجاعته(7)،

دوره في القضاء على انقلاب أشراف الكوفة

كان لابراهيم شرف مقاتلة الذين شاركوا في قتل الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته واصحابه الكرام والاقتصاص منهم، وذلك عندما اراد المختار الثقفي عليه السلام الاخذ بثأر الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته بإعلانه الثورة على حكام بني أمية (لع) سنة 66 هجرية حيث اشار عليه جماعته بأن يدعو ابراهيم عليه السلام ليلتحق مه حيث انه مع ما عنده من شجاعة وخبرة بالقتال فهو سيد قومه ويتبعه جمع كبير من الرجال(8). وفعلا قد قام المختار بدعوته موكدا له هدفه السامي الذي هو نصرة اهل بيت النبوة عليهم السلام، فوافقه ابراهيم (عليه السلام) على ذلك لما استتب الوضع للمختار في الكوفة دعا بإبراهيم بن الأشتر، فعقد له عقدًا وأمره بالمسير إلى جيش الشام في الموصل، فخرج ومعه النخبة من جيش الكوفة ولم يتبق مع المختار سوى قوة قليلة، وعسكر إبراهيم بجيشه في ساباط المدائن. فحينئذ توسم أهل الكوفة من الموالين لبني أمية في المختار القلة والضعف، فخرجوا عليه، وجاهروه العداوة، ولم يبق أحد ممن اشترك في قتل الحسين (عليه السلام)، وكان مختفيًا إلا وظهر، ونقضوا بيعته، واجتمعت القبائل عليه من بجيلة والأزد وغيرها، فصارت الكوفة كلها على المختار سيفًا واحدًا(9) فبعث المختار من ساعته ساعته رسولًا إلى إبراهيم بن مالك الأشتر (رضي الله عنه) وهو بساباط

ص: 186

: (لا تضع كتابي حتى تعود بجميع من معك إلي). فوافاه إبراهيم في اليوم الثاني بخيله ورجله، ومعه أهل النجدة والقوة. وجاء البشير إلى المختار أن المتمردين ولّوا مدبرين، فمنهم من اختفى في بيته، ومنهم من لحق بمصعب بن الزبير في البصرة، ومنهم من خرج إلى البادية، ثم وضعت الحرب أوزارها، وحلت أزرارها، ومحص القتل شرارها(10).

دوره في هزيمة جيش الشام وقتل عبيد الله بن زياد (معركة الخازر)

لما تم للمختار القضاء على الانقلاب المسلح الذي قام به أشراف الكوفة بفضل إبراهيم الأشتر عاد إلى المهمة الأصلية التي انتدب إبراهيم إليها وهي مواجهة جيش الشام بقيادة عبيد الله بن زياد فأمر إبراهيم الأشتر بإعداد العدّة لذلك، فخرج إبراهيم، ثم سار يريد ابن زياد، حتى نزل ابن الأشتر نهر الخازر بالموصل وأقبل ابن زياد في الجموع، ونزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر، ثم التقوا فحض ابن الأشتر أصحابه على القتال وتزاحفوا ونادى أهل العراق: يا لثارات الحسين، فجال أصحاب ابن الأشتر جولة، فناداهم: يا شرطة الله الصبر الصبر. ثم حمل ابن الأشتر على جيش الشام عشيًّا فخالط القلب، وكسرهم أهل العراق فركبوهم يقتلونهم، فانجلت الغمة وقد قُتل عبيد الله بن زياد وحصين بن نمير وأعيان أصحابه الأشتر وقام ابن فاحتزّ رأس ابن زياد، وبعث به إلى المختار وأعيان من كان معه. ثم بعثه المختار إلى محمد بن الحنفية بمكة ثم بعثها محمد إلى علي بن الحسين(عليه السلام)(11)، وقد كانت هذه المعركة ونتائجها المذهلة أكبر نصرٍ يحققه المختار بواسطة إبراهيم الأشتر (رضي الله عنه) على الأمويين وكان مقتل بن زياد فيها من أكبر أحلامهما مما عزز مكانتهما عند الشيعة عمومًا وعند بني عبيد الله هاشم خصوصًا.

ص: 187

السمات القيادية في الشخصيه:

تعد شخصية الفرد نتاج تفاعل لمجموعة المجالات الذاتية والتي تكون موجهة نحو أهداف معينة، وتصدر عن الشخصية آثار معينة على الفرد والمحيط الي يوجد فيه، ومن أجمل الشخصيات و أعظمها تلك التي يطلق عليها الشخصية القيادية والتي يتميع صاحبها بملكة نادرة لا يملكها إلا ما ندر من الناس لدرجة أنه لا يزال الكثير من الناس يعتقدون أن القادة يولدون ولا يصنعون و ذلك لصعوبة اكتساب الصفات القيادية العظيمة.

القدرات الأساسية للقيادة - ان يتحلى الفرد بالقدرة على:

1. تشجيع الآخرين وإدخال البهجة إلى قلوبهم.

2. أن يُشَرِّب الفرد أفكاره وأعماله بالمحبة.

3. أن يكون ذو رؤية وتشجيع الآخرين على ذلك.

4. إدارة المرء لشؤونه ومسؤولياته بصدق وأمانة.

5. تقييم المرء لنقاط ضعفه وقوته دون تدخل «الأنا».

6. محاربة الفرد لميوله الأنانية بالتوجه إلى هدفه الأسمى في الحیاة.

7. القيام بالمبادرة بطريقة خلاقة ومنضبطة.

8. إدامة الجهد والمثابرة في التغلب على العقبات.

9. فهم علاقات السيطرة أو الهيمنة والمساهمة في تحويلها لعلاقات خدمة واعتماد وتعاون متبادليْن.

10. العمل كعامل محفز لتأسيس العدل.

11. التفكير بشكل منهجي ومنظم لإيجاد الحلول.

12. المشاركة بشكل فاعل في المشورة.

ص: 188

13. بناء الوحدة مع تعزيز التنوع.

14. الخدمة في مؤسسات المجتمع بطريقة تشجع هذه المؤسسات على حث وتمكين الأفراد الذين تقوم بخدمتهم على التعبير عن مواهبهم في خدمة الإنسانية.

سمات القيادة في شخصية مالك الاشتر:

1. يدرك للأهداف العامة لما هو مسؤول عن قيادته، إذ كتب عليه السلام الى أميرين من امراء جيشه: «وقد أمَّرت عليكما وعلى من في حيز كما، مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا. وإجعلاه درعاً ومجِنا، فانه ممن لايُخاف وهنُهُ، ولاسقطتُهُ، ولا بطؤهُ عما الإسراع اليه أحزَمُ، ولا إسراعهُ الى ما البطء عنهُ أمثلُ)(12)

2. له القدرة على البحث و التنقيب وجمع المعلومات المتفقة مع حاجة منصبه.

3. لديه من المهارات والتجارب والخبرات الإنجازية ما يساعده في سير العمل لمن يقودهم.

4. يتحلى بالقدرة على ضبط النفس والنضج الإنفعالي، اذ كانمالك الاشتر يزن الأمور بميزان الحكمة والعقل فيدبرها أحسن تدبير.

5. يتمتع بروح المبادأة فقد كان بطلًا جسورًا من أبطال الوغى وأسدًا هصورًا عند اللقاء.

6. عادلا في قراراته، إذ قال أمير المؤمنين (والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فان مغبة نتيجة ذلك محمودة) وفي هذا النص يؤكد الامام ان واجب الحاكم الكبير هو ان يتحرى تطبيق العدالة بدقة وامانة دون ان يراعي في ذلك اية اعتبارات عاطفية او عائلية او مصلحية خاصة. فحين يحيد المقربون الى الحاكم عن

ص: 189

الحق فيجب تطبيق العادلة عليهم كما تطبق على سائر افراد الشعب.

ونذكر هنا مثالاً آخر على شجاعته أورده صاحب كتاب حبيب السير في أخبار أفراد البشر عندما رفض عبيد الله بن عمر في معركة صفين ان يبارز مالكاً عندما عرفه، فقال له مالك ان الفرار من القتال عارٌ، فقال عبيد الله: أن يقول الناس( فرَّ جزاه الله) خير من أن يقولوا (قُتل رحمه الله)(13).

ومن كتاب له عليه السلام الى أهل مصر لما ولَّى عليهم لما ولّى عليهم الأشتر: (أما بعد فقد بعثت اليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولاينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره، في ما طابق الحق، فانه سيف من سيوف الله، لا كليل الضبة، ولاناجي الضريبة. فان أمرَكم أن تقيموا فأقيموا، فانه لا يقدم ولا يحجم، و لايؤخر ولا يقدم إلا عن أمري، وقد أثر تكم به على نفسي، لنصيحته لكم، وشدة شكيمته، على عدوكم)(14) وبعد حياة حافلة بالعز والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوة والإمامة، يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرِّفة، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق، فكان لأعداء الله طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، ولتايل أهلها إلى أهل البيت (عليهم السلام) وكراهتهم لأعدائهم، فبادر معاوية بإرسال الجيوش إليها، وعلى رأسها عمرو بن العاص، ومعاوية بن حديج ليحتلَّها، فكان من الخليفة الشرعي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن أرسل مالكَ الأشتر(رضوان الله عليه) والياً له على مصر، فاحتال معاوية في قتله (رضوان الله عليه) داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار (وهو رجل من أهل الخراج، وقيل : كان دهقان القُلْزُم، وكان معاوية قد وعد هذا ألا يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفذ مهمته الخبيثة تلك، فسقاه السم وهو في الطريق إلى مصر، فقضى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) شهيداً عام - 38 ه).

ص: 190

التوصيات:

1. الاتفاق على أن الأسرة هي المعلم الأول للأطفال، وأن المنزل هو المصدر الأساس التنمية قيم حب اهل البيت (عليهم السلام والصحابة.

2. الاعتراف بأن معرفتهم هو عملية ذات اتجاهين يتعلم من خلالها الكبار من الأطفال والشباب والأطفال من الكبار.

3. استدخال فکر اهل البيت في المناهج الدراسية بدءا من مرحلة رياض الاطفال وانتهاءا بالمرحلة الجامعية.

4. ضرورة تحصين المجتمعات الإسلامية لأهميتها في المحافظة على معالم الشخصية الإسلامية السوية.

5. المقترحات:

6. اجراء بحوث تتضمن فکر اهل البيت.

7. اجراء دراسة مشابهة للدراسة الحالية تتناول شخيات اخرى واكبت وعاصرت عهد الامام علي (عليه السلام).

ص: 191

الهوامش:

1. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، نجاح عبید حسون، ص 30 - 33.

2. المصدر نفسه، ص 30.

3. المصدر نفسه، ص 34.

4. المصدر نفسه، ص 39.

5. المصدر نفسه، ص 62.

6. المصدر نفسه، ص 40

7. تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، ج 1: ص 549.

8. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، نجاح عبيد حسون، ص 40

9. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات مكتبة النهضة، بغداد.

10. نهج البلاغة، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، قم، ط 5، 1428 ه - 2007 م

11. الطوسي، الأمالي، ص 238 - 243 بتصرف.

12. تصنیف نهج البلاغة، لبيب بیضون ص 576 - 577

13. نُظر قصة إستشهاده مسموماً في كتاب تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، مقدم - جلال الدين همائی، ج 1: ص 598. وللاطلاع أكثر حول سيرته وجهاده وملازمته للإمام علي (عليه السلام) یراجع ج 1: صص 473، 507، 508، 510، 523، 528، 529، 531، 534، 535، 539، 543، 544، 549، 553، 558، 560، 562، 563، 566، 567، 568.

14. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية، نجاح عبيد حسون، 153.

ص: 192

المصادر

1. تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، ج 1.

2. تصنیف نهج البلاغة، لبيب بيضون.

3. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، نجاح عبید حسون.

4. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات مكتبة النهضة، بغداد.

5. نهج البلاغة، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، قم، ط 5، 1428 ه - 2007 م

6. انظر قصة إستشهاده مسموماً في كتاب تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، مقدم - جلال الدين همائی، ج 1: ص 568. وللاطلاع أكثر حول سيرته وجهاده وملازمته للإمام علي (عليه السلام) یراجع ج 1 : صص 473، 507، 508، 510، 523، 528، 529، 531، 534، 535، 539، 543، 544، 549، 553، 558، 560، 562، 563، 566، 567، 568.

مواقع الانترنت:

7. القيادة الإدارية والرئاسة (com.voob - 1.www //:http)

ص: 193

ص: 194

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه)

اشارة

د. إسماعيل طه الجابري

د. حيدر قاسم مَطَر التميمي

قسم الدراسات التاريخية - بيت الحكمة - بغداد

ص: 195

ص: 196

مقدمة

أصبحت فكرة حقوق الإنسان، والدعوة إليها، من الأمور الجوهرية في المجتمعات المعاصرة. وارتبط قیام مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث، سواء في المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام أو غيرها، بالغرب، الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، حيث أسهم الإستعمار الغربي على المستوى العالمي في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكوِّنة للحقوق الأساسية للإنسان، وسعى في كثيرٍ من الدول إلى فرض قيمهِ ومنظورهِ عن الحياة، عن طريق القهر الإستعماري، والسيطرة الإستبدادية المادية في كافة مجالات الحياة.

أمَّا في الفكر والشريعة الإسلامية، فإنَّ من ينظر في حقوق الإنسان في الإسلام يجد أنَّها حقوق شرعية أبدية لا تتغير ولا تتبدل مهما طال الزمن، لا يدخلها نسخٌ ولا تعطيل، ولا تحريفٌ ولا تبدیل، لها حصانةٌ ذاتية؛ لأنَّها من لَدُنِ حکیمٍ علیم، فالله (سبحانه وتعالى) أعلمُ بخلقهِ، وهو (عز وجل) أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، فهي أحكام إلهية تكليفية، أنزل الله (سبحانه وتعالى) بها كتبهِ، وأرسل بها رُسُلهِ، لقد رضي الله (سبحانه وتعالى) لهذهِ الأمة الإسلام ديناً وجعل خاتم الأنبياء مُحمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفوق ذلك كلِّهِ فرض الله (سبحانه وتعالى) على العباد حماية هذهِ الحقوق ورعايتها فيما بينهم. وبالتالي، فإننا نجد أنَّ الإسلام قد بلغ في الإيمانِ بالإنسان وفي تقديس حقوقهِ إلى الحدِّ الذي تجاوز بهِ مرتبة (الحقوق) عندما اعتبرها (ضرورات) ومن ثمَّ أدخلها في إطار (الواجبات)... هي في نظر الإسلام ليست فقط حقوقاً للإنسان من حقِّهِ أن يطلبها ويسعى في سبيلها، ويتمسك بالحصول عليها، ويُحرم صدَّه عن طلبها، وإنَّما هي (ضروراتٌ واجبة) لهذا الإنسان، بل إنَّها واجباتٌ عليه أيضاً.

إلاَّ أنَّه وبالرغم من ذلك، نجد ترسُّخ المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان في

ص: 197

المجتمعات الإسلامية بسبب غياب المفاهيم الإسلامية المُنظِّمة للحقوق الشرعية للأفراد والجماعات، مما أدى إلى بناء تصور للحقوق الإنسانية عند المسلمين مُستمد من التجربة الغربية لمعالجة الواقع، ومحاولة الإرتقاء بحقوق الأفراد والجماعات. ولذلك يمكن القول: (إنَّ المفاهيم والمبادئ الغربية صارت المرجع الأساسي لبناء قواعد إجتماعية لتنظيم الحقوق الفردية في العالم أجمع. ونجم عن ذلك سلب الحضارة الإسلامية مقومات وجودها كواقع ممارس في العديد من المجتمعات الإسلامية، وصارت تراثاً عاجزاً عن تنظيم الواقع، ومرجعاً أخلاقياً محدود الأثر في الواقع التشريعي المعاصر المُنظِّم لحقوق الإنسان)(1).

ولهذا، فإنَّه من الأهميةِ بمكان بيان الإطار المُنظِّم للحقوق الشرعية في النظام السياسي الإسلامي، وإبراز القواعد الفكرية التي تُبنى عليها فكرة الحقوق الإنسانية في الفكر الغربي، وبيان تناقضها مع التصور الإسلامي للحقوق الشرعية للإنسان، ومصادرها، ومقاصدها، وتفصيلاتها، ويُبرز اختلافها عن الحقوق الغربية الوضعية. كما يؤكِّد البحث أنَّ قيام الحقوق الشرعية الإنسانية، لا يتم في المجتمع الإسلامي إلاَّ بالعودةِ إلى جذور الفكر الإسلامي، واستنباط التشريعات المعالجة للحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية من القِيَم الإسلامية الراسخة الثابتة.

ولعلَّ من أهمِّ وأبرز هذهِ الجذور الفكرية هو نص عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه) (ت 38 ه / 658 م). فقد كان الأمير المؤمنين (عليه السلام) في تاريخ حقوق الإنسان شأنٌ أيَّ شأن. وآراؤه فيها تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس. ومَن عَرفَ الإمام علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المُسلَّط على رقاب المُستبدين الطُغاة. وأنَّه الساعي في تركيز

ص: 198

العدالة الإجتماعية بآرائهِ وأدبهِ و حکومتهِ و سیاستهِ... وبكلِّ موقفٍ له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة.

وأخيراً، نود الإشارة أن لو كانت الصحيفة قد أرست أُسس الاستقرار والتآلف الإجتماعي المبني على قاعدة السِلم الأهلي المنَّاع للأمات الحادة في مجتمع المدينة المنورة أبَّان زمن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر يُعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلاد، التي فُتحت ودخلها الإسلام. يُرسي بكلِّ وضوح المعالم الأساسية لمهمات الحاكم المُسلم وحقوق الرعية، وهي بالتالي، من الوثائق التي قلَّ التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا في الأساس ما يدفعنا لتسليط الضوء على جانب حقوق الإنسان من هذا السِفر الخالد.. والله (سبحانه وتعالى) وليُّ التوفيق.

ص: 199

المبحث الأول: حقوق الإنسان في الفكر الغربي

لحقوق الإنسان في الحضارة الغربية(2) تاريخٌ طويل، وإذا قطعنا النظر عن حقوق الإنسان في الإسلام، وتأثير ذلك على الحضارة الغربية الحديثة، فإنَّه يمكننا أن نُجمل تاریخ حقوق الإنسان في الغرب في الصفحات التالية..

فمن الثابت تاريخياً أنَّ الفرنسيين كانوا أول من أطلقوا هذا الاسم على مواثيق الحقوق، وأطلقوا صِفة الحقوق في إعلانهم الذي أصدروه في سنة 1789 م(3)، على اعتبار أنَّ تلك الحقوق لا تخص إنساناً دون الآخر بل إنَّها لصيقة بالإنسان باعتبارهِ إنساناً أينما كان، ولذلك لم يوجهوها إلى الفرنسيين كما فعل الإنكليز وأبناء الولايات المتحدة الأمريكية في إعلاناتهم(4). لكن من الثابت تاريخياً أيضاً أنَّ جوهر الفكرة، وأساسها الفلسفي ولد في أثينا على يدِ فلاسفةِ القانون الطبيعي ممثلةً في مدرسةِ السفسطائيين (5). غير أنَّ الفكرة ظلَّت فكرة فلسفية لا تحظى بتطبيق عملي في ظلِّ دولةِ المدينة الإغريقية، أو الإمبراطورية الرومانية، فلم يكن قد اعترف بعد للفرد في الحضارة الغربية بأيَّةِ حقوق، قبل قيام الدولة الحديثة.

وحاولت الديانة المسيحية في أول عهدها أن تُثبت للفرد قيمته كإنسان مؤكِّدةً على حقٍّ له كان يهمها في المقام الأول وهو حرية اعتناق العقيدة. وكانت نقلةً واسعة على طريق الاعتراف للفرد بحقوقهِ الأولية، إلاَّ أنَّ القائمين على شؤون الديانة المسيحية قد تراجعوا عن تلك الخطوة خلال القرن الرابع الميلادي عندما اشتد عودها، واعترف بها

ص: 200

الإمبراطور قسطنطين Constantine the Great (272 - 337 م) دیناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية، واعتبرت العقيدة الوحيدة المسموح بها داخل الإمبراطورية(6). وقد ضاعت الفكرة - حقوق الإنسان - في أوربا بعد ذلك في خضمِّ ظلام القرون الوسطى إلاَّ من ومضاتٍ خاطفة مثل وثيقة العهد الكبير (الماجنا کارتا) Magna Carta Libertatum في إنكلترا التي صدرت عام 1215 م، والتي حَدَّت من سُلطان الملك جون John (1166 1216)، والأشراف، ورجال الدين لصالح الشعب(7).

وبحلول القرن السابع عشر الميلادي بدأ ظهور المُفكِّرين الذين يُسمَّون ب (الفرديين)، أو فلاسفة المذهب الفردي، أمثال: جون لوك John Locke (1632 - 1704)؛ جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712 - 1778)؛ آدم سميث Adam Smith (1790 - 1723)؛ جان بابتست ساي Jean-Baptiste Say (1826 - 1896). وقد كان رأي هؤلاء أنَّ الهدف الأقصى للقانون (حماية الفرد وحريتهِ)(8).

مواثيق الحقوق:

يحظى ميثاق الحقوق الفرنسي من معظم فقهاء القانون دون غيرهِ من مواثيق الحقوق بالإشادةِ والتعظيم، على أنَّه (يمثل فلسفة الديمقراطية الغربية عن الحرية)(9). مع أنَّ هناك مواثيق أخرى للحقوق إنكليزية وأمريكية سابقةً عليه كان لها الكثير من الفضل في تدعيم حقوق الفرد وحرياتهِ وذيوعها.

1. میثاق الحقوق الإنكليزي: أسفرت ثورة عام 1668 م في إنكلترا عن خلع البرلمان للملك جيمس الثاني James II (1633 - 1701)، واستُدعي ويليام أورانج -Wil liam of Orange III (1650 - 1702) لتولِّي المُلك، وقُدِّم إليه في 13 / فبراير سنة 1988 م (وثيقة الحقوق) لتكون أساساً للحكم، والشروط الأساسية في تلك

ص: 201

الوثيقة كانت متصلة بحماية المصالح الإقتصادية للطبقةِ الوسطى The middle class، وبمقتضى تلك الوثيقة تنازل الملك عن أغلب سلطاتهِ للبرلمان، وسيطرت الطبقة الوسطى (البرجوازية Bourgeoisie) على البرلمان مما أدى إلى تطور كبير في نظام التمثيل البرلماني، واقترب من نظام التصويت النيابي(10).

ومهما كان من أمر تلك الوثيقة واتهام البعض لها بأنَّها لم تكن وثيقة ديمقراطية(11)، فإنَّ مجرد تنازل الملك عن جُلَّ سلطاتهِ للبرلمان هو في حدِّ ذاتهِ مكسب للديمقراطية؛ لأنَّها نقلت السيادة من فرد (الملك) لصالح جماعة (البرلمان)، وكانوا إلى حدٍّ ما يُمثلون الشعب وكلَّ زيادةٍ في سلطاتهم ترتد حتماً لصالح الشعب.

وعلى الرغم من عدم وجود وثيقة للحقوق في إنكلترا مكتوبة على غِرار الوثيقة الأمريكية أو الفرنسية، أو دستور أعلى مُدوَّن، فإنَّ الاحترام المستمر للحرية هو في حدِّ ذاتهِ خير ضمان للحقوق الأساسية، فصيانة الحريات التقليدية في بريطانيا أسمى مثال على قوةِ التقاليد وعلى روح الشعب الغالبة، حيث حقوق الرجل الإنكليزي مصونة، و محروسة بفضل تطبيق حكم القانون.

ورغم النُضج السياسي لبريطانيا فإنَّ نقطة الضعف التي شابت الحقوق الأساسية عندهم هي أنَّها كانت على الدوام حقوق الإنكليز، لا حقوق الإنسان، حارمين سکَّان المستعمرات منها إلاَّ مؤخراً(12). وهذا يذكرنا بديمقراطية أثينا التي كانت مقصورةً على الوطنيين الأحرار دون العبيد، أي الأجانب عموماً.

2. ميثاق الحقوق الأمريكي: تُعتبر الثورة الأمريكية (13) -The American Revolu tionary War (1783-1775) بحق أول من قنَّن بصورةٍ واضحة في العصر الحدیث حقوق الإنسان، وضمَّنتها وثيقة إعلان استقلال(14) ولایات اتحاد جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، بعد ثورتها على التاج البريطاني وانتصارها عليه في

ص: 202

4 / 7 / 1776 م الذي سبق إعلان الاتحاد، والدستور سنة 1777 م، والتصديق عليه سنة 1781 م. ومما جاء فيه: (نحن نُصر ونُسلِّم كقاعدةٍ واضحة من تلقاءِ نفسها بالحقائق الآتية: أنَّ الناس كلَّهم سواسية وأنَّهم يتمتعون کما وهبهم الخالق بحقوقٍ لا يمكن التنازل عنها، منها الحياة والحرية والسعي نحو السعادة)(15).

وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية تُعتبر أكمل تحديدة منها في أيِّ نظامٍ ديمقراطي آخر، ويبدو أكثر أمناً في أدواتهِ، وفي حمايتهِ فالحقوق والحريات مدونة في الدستور الفيدرالي، وفي دساتير الولايات المتحدة، ويشيع في هذهِ الدساتير جو (القانون الأعلى). وهي محمية لا من اعتداء السلطة التنفيذية فحسب، بل من اعتداء السلطة التشريعية أيضاً، وهناك المحاكم المُستقلة التي تؤدي وظيفتها لتجعل المُراقبة والتنفيذ حقيقيين(16).

إلاَّ أنَّ الحدود والقيود على هذهِ الحقوق أصبحت واضحةً حتَّى في بلدٍ کالولايات المتحدة تحت ضغط التوترات والأزمات والخُطط البارعة التي تعمل بها الحركات الإجتماعية الحديثة(17) Social Movements والضغوط الإجتماعية غير القانونية.

3. إعلان الحقوق الفرنسي: أولت الثورة الفرنسية The French Revolution حقوق الإنسان منذ اللحظةِ الأولى اهتماماً بالغاً حتَّى أنَّها أصدرت إعلان الحقوق في 26 أغسطس سنة 1789 م، ولم يتم القَسَم على الدستور بعد جمعهِ وصياغتهِ إلاَّ في 14 سبتمبر سنة 1791 م، أي بعد عامين من صدور إعلان الحقوق(18).

وقد صُدِّر ضمن هذا الإعلان وفي مادتهِ الأولى: (يولد الناس أحراراً متساويين أمام القانون). أمَّا مادته الثانية فتنص على أنَّ: (هدف كلِّ جماعة سياسية هو المُحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية، والثابتة. وهذهِ الحقوق هي: الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة التعسُّف). ومما يدل على اهتمام الفرنسيين بتلك الحقوق أن كاد واضعو دستور

ص: 203

نابليون Napoleon Bonaparte (1769 - 1821) أن يُسجلوا في هذا القانون ما قررته الثورة الفرنسية في (إعلان الحقوق) من وجود قانون طبیعي عام ثابت لا يتغير، وبهذا جاء المشروع الأول لذلك القانون ولكنهم انتهوا إلى حذف هذا النص لا على اعتبار أنَّه غير صحيح بل اعتبر بمثابة اعتناق لمذهبٍ فلسفيٍّ لا يتلاءم مع طبيعةِ النصوص التشريعية(19).

وقد اهتمت الدساتير المُتعاقبة في فرنسا بحقوق الإنسان ومنها دستور سنة 1946 م، وآخرها دستور سنة 1958 م(20)، وقد جاء في ديباجة هذا الدستور الصادر في 4 / 10 / 1958: (الشعب الفرنسي يُعلن في صراحة تمسك بحقوق الإنسان، ومبادئ السيادة القومية، كما وردت في إعلان الحقوق سنة 1789 م)(21).

وعلى نقيض البريطانيين، نجد أنَّ الفرنسيين منذ عهد الاستنارة(22) -Age of En lightenment والثورة الكبرى قد رفعوا عقيرتهم بصيحةِ (حقوق الإنسان)، لا حقوق الفرنسيين، وقد خاض الفرنسيون معارك مجيدة حول هذهِ الحقوق والحريات كان بعضها فاصلاً بالنسبة لتطور البلاد الديمقراطي الحر(23).

إعلانات الحقوق الدولية:

- بعد أن مُني العالم بحربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن كان عليه أن يبحث بهمَّةٍ واقتدار عن الوسائل الكفيلة بعدم تِكرار مثل ذلك حمايةً للجنس البشري وحقوقهِ المشروعة. والتقى الجميع على إنشاء هيئة الأمم المتحدة(24) The United Nations UN الذي بدأ ميثاقها (UN Charter) بديباجةٍ نصها: (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن نُنقذ الأجيال المُقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيلٍ واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف. وأن نؤكِّد من جديد إيماننا بالحقوق

ص: 204

الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدرتهِ، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها من حقوقٍ متساوية). ثمَّ تضمن الميثاق بعض المواد الخاصة بهذهِ الحقوق ومنها:

المادة الأولى للفقرة الثالثة: (من مقاصد الهيئة تحقيق التعاون الدولي على حلِّ المسائل الإقتصادية، وعلى توفير احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع عليه، دون تمييز بسبب الجنس، أو اللغة، أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء)(25).

كذلك المادة (13 - 1) فقرة (ب): (تُنشئ الجمعية العمومية - United Nations Gen eral Assembly (UNGA دراسات وتُشیر بتوصياتٍ بقصد الإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة، بلا تمييز بينهم في الجنس...).

والمادة (55) فقرة (ج): (رغبةً في تهيئةِ شروط الاستقرار والرفاهية الضرورية لقيام علاقاتٍ سليمة ودية، علاقات تقوم على احترام المبدأ، الذي يقضي للشعوب بحقوقٍ متساوية، ويجعل لها تقرير مصيرها تعمل الأمم المتحدة على أن ينتشر في العالم احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للجميع، بلا تمییز بسبب الجنس وصِراعات تلك الحقوق والحريات فعلاً).

وأيضاً تضمَّنت المواد (56-62-68-76) إشاراتٍ إلى حقوق الإنسان، وقد شُکِّل المجلس الإقتصادي والإجتماعي بهيئةِ الأمم المتحدة (لجنة حقوق الإنسان) بقصد إعداد مشروع وثيقة دولية بإعلان حقوق الإنسان، وحرياتهِ الأساسية، وكيفية تطبيقها، وما هي وسائل تنفيذها، والإجراءات التي يجب اتخاذها ضدَّ انتهاك هذهِ الحقوق، وقد واصلت اللجنة عملها قرابة عامين في ليك سکس، وفي جنيف، ثمَّ تقدمت بالمشروع الأول الخاص بوثيقة إعلان الحقوق والحريات، وقد أقرته الجمعية العامة لهيئةِ الأمم

ص: 205

المتحدة. ومن بينها قرارها رقم (217) في دور الانعقاد العادي الثالث بباريس بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1948 م، وقد اشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ثلاثين مادة كلَّها تدور حول حقوق الإنسان من كافةِ الوجوه، ومادته الأولى تنص على أن: (يولد جميع الناس أحراراً متساويين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء...).

وقد صدرت اتفاقياتٍ دولية عديدة في شأن حقوق خاصة للإنسان، کالاتفاقيات الدولية في شأن الحقوق المدنية والسياسية الصادرة بقرار الأمم المتحدة رقم (2200) في دور الانعقاد العادي (21) بتاريخ 16 من ديسمبر سنة 1966 م، واتفاقيةٍ أخرى بذات التاريخ والدور بشأن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية(26). واتفاقيات عديدة أخرى، لا يتسع المجال لحصرها، موضوعها: القضاء على التمييز العنصري، وتحريم إبادة الجنس البشري، وتحريم الرق، والحرية النقابية، وحق تقرير المصير، وحماية ضحايا الحرب، والأسرى، والمساواة في الأجور، وتحريم السُخرة.. إلخ(27).

والذي يهمنا من أمر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنَّه حوى كلَّ حقوق الإنسان، فنصَّ على حماية حقوقهِ السياسية، والمدنية، والإجتماعية، والثقافية، والإقتصادية.. وهي حقوق جديدة لم تتضمنها إعلانات الحقوق من قبل، وهي تتميز بطابعها الإيجابي، أي بفرض إلتزام على الدولة بتحقيقها للأفراد، ويأتي في مقدمة هذ المواد، على وجه الخصوص، المواد من (22) إلى (28)(28).

وأخيراً، يمكن القول أنَّ مفهوم حقوق الإنسان في الغرب قد تبلور عِبرَ مسارين كبيرين: أولها التجارب السياسية الغربية المُتمثلة في الصِراع ضدَّ الحكم المُطلق من أجل الحدِّ من صلاحياتهِ الواسعة. والأمثلة الكبرى الواضحة لهذا المسار هو الصراع السياسي في إنكلترا من أجل تحديد صلاحيات الكنيسة صاحبة الحكم السياسي المُطلق وانتزاع

ص: 206

بعض الحقوق للأفراد والجماعات کما صِيغ ذلك في وثيقةِ الماغنا کارتا - Magna-car ta، وكذا عملية تحرير الولايات المتحدة الأمريكية والوثيقة الصادرة عنها، ثمَّ الثورة الفرنسية، والثورة الروسية... إلخ.

أمَّا المسار الثاني لهذهِ الأفكار فهو اجتهادات المُفكِّرين وتنظيرات الفلاسفة ابتداءً من الحقبة الإغريقية، والرومانية، والإسلامية ثمَّ الحقبة الحديثة في الغرب، والتي تعتبر فلسفة التنوير مُعلِّمتها الرئيسية.

وهذهِ الاجتهادات الفكرية، التي كانت بمثابة مختبر آخر تبلورت فيه حقوق الإنسان، لم تكن إسهامات معزولة عن سياق التاريخ الفعلي. بل كانت تفكيراً في هذهِ الصراعات والتحولات من جهة وإنارةً وتوجيهاً لها من جهةٍ ثانية. لذلك سيكون من باب التبسيط أن نقول بأنَّ حقوق الإنسان هي بنت التجربة التاريخية، وأنَّ هذهِ هي التي ولَّدت هذهِ الأفكار، أو على العكس من ذلك، أنَّ مفهوم الحرية والحق هو الذي أنتج هذهِ الحقوق الفعلية في التاريخ. ولعلَّ هذا الإشكال أصبح اليوم متجاوزاً في العلوم الإنسانية. وهذا ما يبيح لنا القول بأنَّ مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور عِبرَ تفاعل تجربتين تاريخيتين طويلتي الأمد: تجربة الواقع وتجربة الفكر، وأنَّه قد يكون من التبسيط اختزال هذهِ الجدلية التاريخية في أحد طرفيها فقط.

وفي مناخ تنويري، تميز بالنضال ضدَّ النزعة المُطلقة في الحكم وضدَّ النزعة التعسفية والاستبدادية، ارتبطت فكرة حقوق الإنسان بالنزعة الفردانية Individualism، المُمجِّدة لحرية الفرد ولإرادتهِ وعقلهِ، بفكرةِ العَقْد الإجتماعي Social Contract، كفكرةٍ ضابطة للأصل البشري التعاقدي لكلِّ سلطة، بفكرةِ الحقِّ الطبيعي القائمة على وجود حقوق طبيعية راسخة لدى الإنسان، أهمها الحرية أم الحقوق الإنسانية جميعاً. ولعلَّ الجملة التي أوردها توماس هوبز Thomas Hobbes ) 1679-1588 ) في (اللفياثان)(29) سنة

ص: 207

1651، تجمع بشكل لمَّاح هذه العناصر الثلاثة (الحرية، التعاقد، الحق الطبيعي)، حيث يقول: (الحق الذاتي الطبيعي الذي تعود الكُتَّاب على تسميتهِ بالحقِّ الطبيعي -هو الحرية التي يملكها كل إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصة)(30).

تُشکِّل هذهِ الروافد الثلاث الكبرى، التي تصب كلَّها في دائرةِ حقوق الإنسان، عائلةً فكريةً واحدة. فهي جميعاً تعكس التحولات الكبرى التي حدثت في التاريخ الحي وفي الفكر، والتي أسهمت في إحداث تعديلاتٍ كبرى على أساس الثقافة الغربية الكلاسيكية في اتجاه إثبات دور أكبر للعقل في الكون (العقلانية Rationalism)، وإثبات صورة الطبيعة كنظامٍ مستقل له نواميسه الخاصة (الوضعية Positivism)، وإقرار إرادة الإنسان بما لها من قدرةٍ على الوعي بالحتميات المختلفة والتخلص من تأثيرها (النزعة الإرادية)، وذلك ضمن منظور الصيرورة والتحول في سياق التاريخ الحي (النزعة التاريخانية -His toricism)، وفي أُفق منظور نمطي متصاعد للزمن.

وهذهِ الأفكار، في مراوحتها الجدلية بين نضالات وصِراعات الواقع التاريخي والاجتهادات الفلسفية في ميدان الفكر ستنتقل بالتدريج من بطون الكتب ودوائر الخاصة إلى رحاب الواقع السياسي، كما ستتحول بالتدريج من معايير أخلاقية مُلهمة وموضوعية إلى تشريعاتٍ وقوانين ضابطة ومُلزمة سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد العلاقات بين الدول.

ص: 208

المبحث الثاني: حقوق الإنسان في الفكر والشريعة الإسلامية

ينطلق الإسلام من اعتقادٍ راقٍ في نظرتهِ للإنسان؛ حيث جعل الله (عز وجل) الإنسان خليفةً له في الأرض لعِمَارتها(31)، وإقامة أحکام شریعتهِ فيها، فالإنسان هو محور الوجود، وهو المخلوق المميز بين سائر المخلوقات. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامٍ شمولية وثابتة بشأن حقوق الإنسان، تقوم على أساس الوسطية والاعتدال، حيث المساواة بين الناس والحوار والأخوة بين كافَّة الأُمم، وقد شَمِلَت حقوق الإنسان في الإسلام الحقوق الخاصة الفردية، إلى جانب الحقوق الأخرى الإقتصادية والثقافية والإجتماعية. وقد سبقت الشريعة الإسلامية الغرَّاء المعاهدات الدولية والإعلانات والمواثيق الدولية والتشريعات الوطنية كافَّة منذ خمسة عشر قرناً في مجال حقوق الإنسان والاعتراف بمركز الفرد، وإحاطتهِ بتكريم وتفضيل على كثير من المخلوقات.

وردت كلمة (إنسان) في القرآن الكريم (65) مرة بمعنى المخلوق، وأنَّه عبد الله، «الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» (سورة الرحمن، الآيات: 1 - 4)، لذلك أشار الفقهاء إلى حقوق (العِباد)، في مقابل (حقوق الإنسان). فالوضع الطبيعي هو العناية بالإنسان قبل العناية بحقوق الإنسان، لأنَّ هذهِ الحقوق إنَّما أُضيفت للإنسان واستحقها لكونهِ إنساناً، وليس لأنَّه كائن من الكائنات ومخلوقٌ من المخلوقات، وقد فضَّل الباري (سبحانه وتعالى) الإنسان على باقي المخلوقات والكائنات، فلهُ من الحقوق ما ليس لها، ومن حقوقهِ تسخيرها واستعمالها لمصلحتهِ(32). ولقد حدد الإسلام رسالة الإنسان في الحياة من خلال جعلِهِ خليفةَ الله في أرضهِ، عندما يُبلِّغ الملائكة خلقهُ (سبحانه وتعالى) لآدم (عليه السلام) قائلاً: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

ص: 209

خَلِيفَةً» (سورة البقرة، آية: 30)، وأكَّد القرآن الكريم ذلك في سورةِ الأنعام، إذ ورد فيها: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ» (سورة الأنعام، آية: 165)، وفي موضعٍ آخر يقول القرآن الكريم: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» (سورة فاطر، آية: 39).

واستخلافُ الإنسان في الأرض يعني التكريم والرعاية والإنعام بالشرف والعِزَّةَ عليه، ويؤمن المسلمون أنَّ الله (سبحانه وتعالى) خَلَق الإنسان على أحسن صورة جسداً وروحاً، فنظر الإسلام نظرة تكريمٍ للإنسان، حيث أمر الباري (عز وجل) ملائكته بالسجود له، فقال (سبحانه وتعالى): «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى» (سورة البقرة، آية: 34). ومنها ما يتعلَّق بكمال الإنسان حيث خلقهُ اللهُ بريئاً من كلِّ انحراف؛ أي ما يُعرف في الإسلام ب(الفِطْرة)، وما الانحراف إلاَّ عارضٌ خِلافا لشريعةِ اللهِ (سبحانه وتعالى) تحت تأثير شهوات الإنسان الخاصة أو سوء التربية وغيرها، ويستحق عندئذٍ العقوبة، ومنها ما يتعلَّق بمسؤوليتهِ عن سلوكهِ وتصرفاتهِ على أساس إقامة العدل والمُساواة؛ لضمان السلام والخير والمصلحة للجميع(33).

وفي ضوءِ ذلك فخلافة الإنسان في الأرض تشریفٌ وتمكين لهذا الإنسان، ومن أسباب التكريم والتفضيل أنَّ الباري (عز وجل) يقول: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا» (سورة البقرة، آية: 31)، و «عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (سورة العلق، آية: 5)، و «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» (سورة الرحمن، آية: 4)، والبيان ليس مجرد النُطق والكلام بل - قبل ذلك - فِکرٌ ونَظْمٌ للأفكار، ثمَّ بيانها، والأهم من ذلك هو أنَّ الباري نَفَخ فيهِ من روحهِ: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» (سورة الحجر، آية: 29)، وهذا النوع من التكريم سبب سموِّهِ وتفوقهِ ومنبع مواهبهِ ومؤهلاتهِ والمدد اللائم لتساميه وترقيه(34)، حيث تعهَّد الباري (سبحانه وتعالى) بني البشر، فأرسل لهم رُسلَهُ بالأدلةِ والبيانات يُبشِّرونهم،

ص: 210

ويُنذرونهم ويقودونهم إلى صراط العزيز الرحيم: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (سورة الأنعام، آية: 153).

وقد أشار عدد من الدارسين إلى أنَّ حقوق الإنسان في الإسلام ليست مجرد حقوق؛ وإنَّما هي ضرورات و واجبات شرعية؛ أي أنَّ حقوق الإنسان هي قواعد آمرة، ومصدرها إلهي لا وضعي، إنَّما هي جزء من الشريعة الإسلامية القائمة على تأمين الصالح العام للإنسان ولبني البشر کافَّة. وهناك أربعة مصادر أساسية لحقوق الإنسان في الإسلام، هي مصادر الشريعة الإسلامية(35)، وتتمثل بالقرآن الكريم باعتبارهِ مصدراً أول تتفرع عنه بقية المصادر الأخرى، ويتناول القضاء على التقاليد غير المعقولة في جميع شؤون الإنسان، وإصلاح المجتمع إصلاحاً شاملاً في عقائدهِ الدينية أو في صِلاتهِ الإجتماعية من خلال الدعوة إلى حياة إنسانية فُضلی دون تمييز في الحقوق والواجبات، بسبب الجنس أو اللغة أو العِق والدعوة إلى الخير وتجنب كلَّ شر، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، والدعوة إلى السلام بين الناس، وجاء القرآن الكريم بصفتهِ المصدر الأول للشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان بأحكامٍ كلِّية وقواعد عامة لا تقبل التغيير والتعديل كعدم التمييز بين أبناء الشريعة الإسلامية وحماية حقوق الإنسان الأساسية من حريتهِ الشخصية وحصانة بيتهِ، وصيانة مالهِ ودمهِ، وحقِّ كلِّ إنسان في العمل، وحقِّهِ في المجتمع هي ضمان حياة كريمة، وعدم الإكراه في الدين والعدل في الحكم.

أمَّا المصدر الثاني لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية فهو السُنَّة النبوية الشريفة، وهي كل ما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير أو صفة خلقية... والسُنَّة النبوية حُجَّة شرعية، قال الله (سبحانه وتعالى): «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ» (سورة النساء، آية: 80). والسُنَّة النبوية تابعة للقرآن الكريم وبيان له، إمَّا تفريع على قواعد القرآن أو شرح لكُلِّيهِ، وبسطٌ لمُجملهِ، أو وضع قاعدة عامة

ص: 211

مُستمدة من أحكامٍ جزئية أو من قواعد كُلِّية فيه، فالسُنَّة هي التجسيد والتنزيل للقِيَم في الكتاب والسُنَّة على حياةِ الناس، وتقويمها بها، والتجلِّي المعصوم للقِيَم في الواقع؛ هي السُنَّة العملية من سُنن النبوة، وهي وإن كانت تُشكِّل حقبة تاريخية تمَّ من خلالها بناء أنموذج الاقتداء والتأسِّي في كل المجالات والحالات التي مرَّت بها مسيرة النبوة ابتداءً من قولهِ (سبحانه وتعالى): «اقْرَأْ» وانتهاءً بقولهِ (عز وجل): «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (سورة المائدة، آية: 3)، بكل ما فيها لتكون السيرة أنموذج اقتداء في كلِّ ما تُعاني الأمة وما يعرض لها على مستوى الفرد والجماعة والدولة والسِلم والحرب... إلاَّ أنَّها تختلف عن التاريخ بأنَّها فترة بناء الأنموذج، فترة المرجعية ومصدرية التشريع في جميع مجالات الحياة؛ لأنَّها مُسددة بالوحي ومؤيدةً بهِ، فيما يُعتبر التاريخ اجتهاد البشر وفعلهم وخطأهم وصوابهم في محاولاتهم لمُقاربةِ ومُحاكاة الأنموذج، فالتاريخ بهذا يكون محلَّ عِبرَة ودَرس و تجربة تُضاف إلى عقل الأمة وخبرتها، لكن لا يرقی بحالٍ من الأحوال ليكون مصدر تشريع و معیار تقویم و تشکیل مرجعية.

وبالتالي فإنَّ لدستور المدينة المنورة قَصَبُ السَبْق بالنسبةِ لكلِّ دساتير العالم، فهو يُعتبر أول تجربة سياسية إسلامية في صدر الإسلام بقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كان له دور بارز في إخراج المجتمع من دوامة الصراع القَبَلي إلى رحاب الأخوة والمحبَّة والتسامح، إذ ركَّز على كثيرٍ من المبادئ الإنسانية السامية كنُصرة المظلوم، وحمايةِ الجار، ورعايةِ الحقوق الخاصة والعامة، وتحريم الجريمة، والتعاون في دفع الديَّات، وافتداء الأسرى، ومساعدة المَدِین، إلى غير ذلك من المبادئ التي تُشعر أبناء الوطن الواحد بمختلف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم أنَّهم أسرة واحدة مُكلَّفة بالدفاع عن الوطن أمام أيِّ اعتداء يفاجئهم من الخارج. فالمُساواة قامت بينهم على أساس القيمة الإنسانية المشتركة؛ الناس جميعاً متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف

ص: 212

والمسؤولية، وأنَّه ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني وخلقها الأول(36).

ويأتي الإجماع كمصدر ثالث لحقوق الإنسان في الإسلام، وهو ما يصدر عن علماء الشريعة في كلِّ زمانٍ وقت إرشاد القواعد والمبادئ العامة في القرآن الكريم والسُنَّة النبوية الشريفة وتطبيقاتها التفصيلية، ومن طرف الإجماع الرأي الإجماعي والتعامل الإجماعي ورأي بعض علماء الشريعة مصحوباً بسكوت الباحثين الذين أطلعوا على هذا الرأي أو التعامل لدى بعض علماء الشريعة دون اعتراضٍ عليه من الباقين الذين أطلعوا عليه(37).

أمَّا المصدر الرابع لحقوق الإنسان في الإسلام فهو الاجتهاد، وهو الرأي الفردي الصادر عن علماء الشريعة في كلِّ زمانٍ و مکان وفق إرشاد القواعد العامة في القرآن الكريم والسُنَّة والإجماع، والاجتهاد - وهو الرأي غير المُجمع عليه - قد يكون اجتهاداً تفسيرياً عند الإبهام في النصوص الشرعية تجاه بعض المسائل الحقوقية الجديدة، كما يكون عند سکوت هذهِ النصوص فيها يجد من وقائع حقوقية لا نصَّ عليها(38).

إنَّ ما يُميِّز حقوق الإنسان في الإسلام هو أنَّها ليست حقوقاً مُطلقة؛ لأنَّ الإسلام طالما ينطلق بوجهٍ عام من واجباتِ الأفراد، فإنَّه يضع منذ البداية حدوداً لحقوق الإنسان(39)، إنَّها حدود الحلال والحرام، وحدود الفقه الذي يُراعي تبدل الأماكن والمصالح والأزمان فلا حرية مُطلقة للإنسان؛ بل حرية مقيدة بمصالح الناس، وبشخصيةِ الإنسان المميزة عن سائر المخلوقات من حيث العقل والضمير والشعور، ولا ملكية مفتوحة للفرد في مواجهةِ الآخرين من بني مجتمعهِ، بل ضوابط يحددها التكافل الإجتماعي بين الناس، ولا استئثار بالموارد والثروات على حساب الشعوب، وإلاَّ نقع في إمبرياليةٍ متمادية واستغلالٍ بشع لحقوق الإنسان في مناطق محددة من العالم(40).

كما أنَّ حرص الإسلام على تأكيد المساواة وهدم كافة الحواجز كان من أهمِّ العوامل

ص: 213

التي جعلت العبيد والمقهورين والمظلومين یهرعون إليه. وقد كان هذا التأكيد مع سلوك المسلمين دافعاً للمفكِّر الهندي (دالا) Maneckji Nasserwanji Dhalla (1875 - 1956) إلى القول: (إنَّ دین مُحمَّد [(صلى الله عليه وآله وسلم)] وحده بين أديان العالم هو الذي ظلَّ متحرراً من الحاجز اللوني... إنَّه يفتح ذراعيه على وسعها ترحيباً بمُعتنقيه أياً كانوا زنوجاً أو منبوذين، وهو يمنح الجميع حقوقهم و میز اتهم دون تحفظ، ويحتضنهم في نطاق المجتمع مثلما يحتضنهم في نطاق العقيدة، والإسلام يستبعد كلَّ حواجز المولد واللون، ويقبل شتَّى معتنقيه ضمن جماعة المسلمين على أساس المساواة الإجتماعية التامة)(41).

كذلك فإنَّ غريزة حب الذات التي أودعها الله (سبحانه وتعالى) في أعماق نفس كلِّ إنسان، هي التي تدفعه إلى الدفاع عن حقوقهِ وحماية مصالحهِ، والأوامر الدينية في هذا المجال هي من نوع الأوامر الإرشادية التي تساعد الإنسان على تخطِّي العقبات وتحمل الصِعاب التي تعترض الدفاع عن الحقوق. فالقرآن الكريم يُشجع من انتُهِك شيءٌ من حقوقهِ أن يجهر بالاعتراض وإعلان ظلامتهِ، وفي ذلك يقول الله (سبحانه وتعالى): «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا» (سورة النساء، آية: 148). ومن سعی و تحرك للانتصار لحقوقهِ والدفاع عن مصالحهِ المشروعة، فإنَّه قد مارس حقَّه الطبيعي ولا لوم عليه ولا مؤاخذة، وذلك لأنَّه أنطلق مما هو مستقر في قناعتهِ وعقیدتهِ ووجدانه، وفي ذلك يقول (عز وجل): «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (سورة الشورى، آية: 41). ثمَّ إنَّ الدفاع عن حقوق الإنسان وفقاً لبعدهِ العَقَدي لا يقف عند حدود المصالح المُرتبطة بذات الشخص، بل يعني تحمل المسؤولية تجاه أيِّ حق إنساني يُنتهك، حتَّى أنَّ الله (سبحانه وتعالى) یُحرض المؤمنين على القتال نُصرةً للمُستضعفين، وفي ذلك يقول (سبحانه وتعالى):

ص: 214

«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» و (سورة النساء، آية: 75).

وإذا كانت سائر الأنظمة والتشريعات تفتقر إلى نظامٍ عِقابي رادع لكلِّ من تُسوِّل له نفسه انتهاك حقوق الإنسان، فإنَّ الشَارع الحكيم حفظاً للبُعد العَقَدي الذي يقرر قدسية مثل هذهِ الحقوق، وقد قرر نظاماً عقابياً إسلامياً يُعد من أكثر النُظُم العقابية أصالةً وتطوراً ونجاعة؛ إذ فيه عناصر يتفق فيها مع بقية قوانين العالم القديم والحديث، وفيه عناصر خاصة لا يُشاركه فيها أيِّ قانون من القوانين، ولا شكَّ أنَّ إقرار هذا النظام العِقابي من شأنهِ أن يحفظ البُعد العَقَدي الذي يتقرر من خلالهِ مكانة وقُدسية هذهِ الحقوق.

وبالتالي، فإنَّ حقوق الإنسان لا يمكن أن يتقرر لها البُعد العَقَدي ما لم تكن مستقرة في وجدان الناس وفي ضمائرهم، وذلك بما یُشکِّل عقيدة في فؤادهم وتوجه فكرهم وتنظيرهم وتفعيلهم، وأنَّ ذلك يحتاج إلى جانبين أحدهما إيجابي يتمثل في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عنها باستماتة، وجانب سلبي يتمثل في ردع كل من لا يلتزم باحترام وحفظ مكانتها وقدسيتها.

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام ضرورة التنويه على أنَّ المبادئ التي حرصت الشريعة الإسلامية على احترامها تتطور بذاتها في التطبيق العملي لكي تواجه وتشمل كلَّ التطورات التي تُسفر عنها متطلبات الحضارة في مراحلها المختلفة، لأنَّ الشريعة الإسلامية شُرِّعت للناس کافَّة وفي كلِّ مکانٍ و زمان وهي الشريعة الخاتمة..

وأخيراً، يمكن لنا القول أنَّ الدين الإسلامي الذي كرَّم الإنسان وفضَّله على غيرهِ من المخلوقات، بحيث سخَّر جميع ما في الكون لخدمتهِ، وجعله الله (سبحانه وتعالى)

ص: 215

خليفة له في الأرض: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (سورة البقرة، آية:30)، لا يمكن أن يكون قد قصر في إقرار حقوقهِ الأساسية. فحقوق الإنسان في الإسلام مما لا يمكن التغاضي أو غضِّ الطَّرفَ عنها؛ للحيز الذي تشغله في الشَرع المقدس، وما هذا الذي عرضناه في ثنايا البحث سوى غيضٌ من فيضٍ يتَّسع الحديث فيه بما لا يتناسب مع محدودية هذهِ الصفحات. ولكن الأمر المؤسف أنَّ هذا الجانب - حقوق الإنسان في الإسلام - مُغيَّب في ظلِّ الخلافات الحادة بين المسلمين؛ مما جعل الكثير منهم يجهل وجود هذهِ الحقوق في الإسلام.

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصرة:

تُعد قضية حقوق الإنسان من أهمِّ القضايا النظرية - إن لم تكن أهمها - في الفكر العربي والإسلامي المعاصرين، ذلك أنَّ الأزمة الحقيقية في تعامل الإسلام مع الحداثة هي أزمة حقوقية: حق التعبير، حق حرية الاعتقاد والممارسة، حق الحياة، وحقِّ إنهائها، حق حدٍّ أدنى من الدخل للفرد، حق حدٍّ أدنى من التعليم، حق مساواة المرأة بالرجل، حق التحرر من الرِّق، وغيرها من الحقوق، التي تُمثل نقاط صِدام أساسية مع الحداثة العالمية - ولا نقول الغربية - حيث تحرك العالم منذ زمن طويل في اتجاه تحرير الأرقاء، ومساواة المرأة بالرجل، وحرية التعبير والاعتقاد والممارسة، بينما تخلَّفت معظم الدول الإسلامية عن هذهِ الحركة؛ وذلك لأنَّ جموع المسلمين، وخاصةً علماء الدين، يرون تعارضاً بين الشريعة وبين القوانين الوضعية في هذا الصدد.

ولا يمكن حلِّ الأزمة إذا أغفلنا الجانب النظري منها، كما لا يمكن حلِّ الجانب النظري من الأزمة إلاَّ بتحليل جذورها ومحاولة حلِّها على هذا المستوى.

ص: 216

والمجال الأساسي الذي يدرس حقوق الإنسان في دائرۃِ المعارف الإسلامية هو علم أصول الفقه؛ فهو العلم الذي يُناظر فلسفة القانون في الفلسفة الغربية من جهة، وفلسفة التأويل من جهةٍ أخرى. وتُعد دراسة هذا العلم في سياق الدراسات الفلسفية النقدية أمراً بالغ الأهمية، لأنَّه يُدرس بشكلٍ تقليدي، يقوم على التكرار وترسيخ القديم، في المعاهد والكلِّيات الدينية، بينما يمكن تحليله وتأويل مفاهيمه بناءً على مناهج حديثة، تأويلية وأنثروبولوجية وإجتماعية ونفسية في أقسام الفلسفة. وبالفعل، فهذا العلم هو ما يقرر معنى الحق في الإسلام، وأنواع الحق، وأقسامه، وأطرافه، بل ونظريته العامة، وإن كان بشكل غير مباشر. ويحتاج الأمر إلى دراساتٍ تستخرج نظرية الحق ومفهومه من هذا العلم، لمزیدٍ من بلورةِ أسباب هذه الأزمة..

ويمكن القول بأنَّ من أهمِّ أسباب أزمة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي هو عدم توفر مفهوم الحق الطبيعي في علم أصول الفقه؛ فهناك (حقوق الآدمي) وهي حقوق مُعطاة من الله (سبحانه وتعالى) إلى البشر، لكنها ليست أصيلة في الطبيعة البشرية والاجتماع الإنساني، وبالتالي يفقد الإنسان استقلاله القانوني أمام الفقه. وقد تعرضت بعض الكتابات الفكرية والفلسفية لهذي المشكلة، إذ هناك بعض المقالات والفصول المتفرقة لحسن حنفي المُفكِّر المصري، خاصةً ما تعلَّق منها بعلم أصول الفقه في الوقت نفسهِ، وهناك كتاب (الديمقراطية وحقوق الإنسان)(42) لمحمد عابد الجابري (1936 - 2010)، وهناك (نحو تطوير التشريع الإسلامي) (43) لعبد الله أحمد النعيم تلميذ المُفکِّر السوداني محمود طه(44)، وكذلك مُصنَّفه:,Human Rights and Religious Values An Uneasy Relationship? Rodopi B.V., Amsterdam, New York: NY, 1995, printed in the Netherlands.. کما کتب كلٌّ من نصر حامد أبو زيد (1943 - 2010)، وعبد الله العروي، ومحمد أركون (1928 - 2010)، وطه عبد الرحمن، والطيب تيزيني،

ص: 217

وأدونيس، مقالات عن حقوق الإنسان في الإسلام، لكن كلِّ ذلك - باستثناء كتابات عبد الله النعيم - إمَّا ظلَّ متفرقاً غير متبلور، وغير نافذ إلى أساس الأزمة في التشريع الإسلامي نفسه، وإمَّا دار أصلاً فَلكِ دراسةِ المفاهيم في الثقافةِ الغربية. إلى جانب هذهِ المقالات والدراسات كتب عدد من المُفكِّرين، الذين لم يتمتع أغلبهم بمناهج البحث الفلسفي، أو لم يكونوا أكاديميين، مُصنَّفات كثيرة تحاول بحث قضية حقوق الإنسان في الإسلام، وانتهوا إلى أنَّ الإسلام قد سبق المواثيق الدولية في إقرار حقوق الإنسان، دون بحث المفاهيم نفسها، ولا نظرية الحق، وكموقفٍ دفاعي ضدَّ الهجوم العلماني والغربي على المعسكر الأصولي، مثل: مُحمَّد أبو زهرة (1898 - 1974)، ومحمد عِمارة، وزكريا البري، وعلي عبد الواحد وافي (1901 - 1991)، وفرج محمود حسن أبو ليلى، ومحمد الغزالي (1917 - 1996)، وأحمد الرشيدي، وغيرهم.

ولم يزل مجال حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر مجالاً بِکراً، يحتاج إلى مزيير من عقلياتٍ شابة نقدية متخصصة، لا ترى بداً من دراسة العلوم الإسلامية، إذا كان الهدف هو نقد الثقافة، وتطويرها، والاتجاه نحو حداثةٍ عربية ذات أساس نظري مكين.

ص: 218

المبحث الثالث: دراسة مقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي

يُشير الموروث الإسلامي الذي لا يزال بين أيدينا على أنَّ الدين الإسلامي ومن ثمَّ الأمة المسلمة، هي أول الأمم التي امتلكت وثائق ترعى حقوق الإنسان وتُنظِّم شؤونه وعلاقاته بعضه مع البعض الآخر، وبينه وبين غير المسلمين، وكذا العلاقة بين المجتمع والدولة الإسلامية ممثلةً بحكومتها.

وليس جديداً أن نقول: أنَّ أول تلك الوثائق وأعمقها، بل وأقدمها وأرقاها اهتماماً بالإنسان من حيث كونهِ إنسان، فضلاً عن تثبیت ما لهُ وما عليه، هي وثيقة القرآن الكريم، كتاب الله (عز وجل) المُنزَّل على رسولهِ الكريم مُحمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ نظَّمت كل ما يتعلَّق بالإنسان، فرداً أو أسرة أم مجتمعاً، بشكلٍ لا يقبل التجاوز على حقوق الغير، ولا استلابها من قبل السلطات الحاكمة.

وحيث لا يسع المجال هنا لإيراد جميع ما جاء به القرآن الكريم من آیاتٍ بیناتٍ نظَّمت شؤون الأفراد والمجتمعات، فإننا سنورد أمثلةً على ذلك، ومنها:

أولاً: قال سبحانه وتعالى): «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (سورة الحديد، آية: 25)، هنا نُلاحظ أنَّ الإسلام أول من دعى وعَمِلَ على حفظِ حقوق الإنسان، وتأمين مصالحه، وكماله في الدنيا والآخرة(45). إذ تُشير الآية إلى أنَّ الله (سبحانه وتعالى) ولدرجةِ اهتمامهِ بأن تسود العدالة بين الناس، فهو لم يُرسل الرُسُل ويُنزِّل معهم الكتب السماوية لهداية الناس فحسب، بل وأنزل معها الميزان الذي يُمثل عدالة السماء في الأرض، وذلك للحكم بين الناس بشكلٍ متساوي ليأخذ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه بالقسط، وليس بالتمايز بحسب الجنس واللون والمكانة الإجتماعية.

ص: 219

ثانياً: قوله (سبحانه وتعالى): «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ «إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» (سورة المؤمنون، الآيات: 5 - 6). هنا يلتفت الشَرع المقدس إلى مسألةٍ مهمة في حقوق الأفراد، تلك هي الغريزة الجنسية التي لا بدَّ من السيطرةِ عليها من خلال تنظيمها، لأنَّ عدم التنظيم بل والتقيد في بعض جوانبها سيجعلها سائبة، فتؤدي إلى إحداث مشاكل إجتماعية عديدة، يكون نِتاجها تفكك المجتمع وانتشار الأمراض فيه، لذا فقد قيَّدها، ووضع لها شروطا من شأنها أن تجعل ممارستها مقترنةً بالتنظيم المشروع، كي لا تتحول المرأة من خلالها إلى كائن مُبتذل لا يُنظر إليه إلاَّ جسداً ورغبة، وعليه فإنَّ من أراد أن يسلم من المخاطر ويُحقِّق لنفسهِ السعادة، فلا بدَّ له من قيود تُحدد غرائزه وتُنظِّمها(46).

ولم يقف الشَارع المقدس عند ذلك، بل شَمِلَ الغرائز الإنسانية كلَّها، ليجعلها مُنظَّمة ومُنسجمة مع حركة المجتمع وتطورهِ. فلو أخذنا الأكل على سبيل المثال، لرأينا أنَّ الخالق (عز وجل) قد وضع قيوداً عليهِ حددها بعدم الإسراف، بقولهِ (سبحانه وتعالى): «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (سورة الأعراف، آية: 31). وذلك لأنَّ الإسراف سيؤدي إلى الإضرار بالجوانب الإقتصادية للمجتمع، كما أنَّ من نتائجهِ حصول حالة الإشباع والاكتفاء عند طبقةٍ دون أخرى فينشأ التمايز الطبقي بين الأفراد، وعندها لا تتحقق العدالة في المجتمع.

إنَّ فكرة التقييد التي وضعها الخالق (عز وجل) على الإنسان، هي ليست لإضرارهِ بل الإسعادهِ، فإذا كانت في الدين بعض القيود والمُحددات، فهذا بكلِّ تأكيد موجه لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، لأنَّ إطلاق العنان لغرائز الإنسان سيؤدي إلى إحداث أضرار كبيرة على مستوى الأفراد والمجتمعات(47).

ثالثاً: قال (سبحانه وتعالى): «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (سورة

ص: 220

البقرة، آية: 256). هذهِ الآية تتعرض للحرية الفكرية والاعتقادية، وتمنح كلماتها القليلة الإنسان حريته فيما يعتقد، على أن لا یُجبر على الدخول في الإسلام مُكرهاً، وهذا ما لا يرضاه الله (عز وجل)، ولا رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي نهى عن ذلك، بل إنَّ النبي والصحابة من بعدهِ لم يستعملوا الإجبار والإكراه، وقد ظهر ذلك واضحاً في تعاملهم مع الأقليات الموجودة في المجتمع الإسلامي من نصارى ويهود، ولو كان هناك إكراهٌ في الاعتقاد لكان إجبار الأكثرية الحاكمة للأقليات التي خضعت تحت سلطتهم أمراً هيناً، ولما أوصى الدين بالإحسان إليهم والتعايش السلمي معهم(48). وهذهِ بلا شك واحدة من أهمِّ مرتكزات الحرية الفكرية التي أوجدها الإسلام وسار عليها المجتمع الإسلامي ولاسيَّما في عصره الأول عصر النبوة(49).

رابعاً: قوله (سبحانه وتعالى): «قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» (سورة الأعراف، آية: 123). وقد وردت هذهِ الآية بصيغةِ النقد لفعل فرعون، مدللةً على أنَّه قد صادر حياتهم وإرادتهم التي كان يرى أنَّها له وحده، في حين أنَّ القرآن الكريم يريد للإنسان أن يكون صاحب رأي حر غير مسلوب الإرادة في التفكير والتدبير والعمل، فالخالق یری أنَّ من حقِّ الفرد تبنِّي الآراء التي يؤمن بها، في حين كان فرعون یری أنَّ ليس من حقِّ أتباعهِ تبنِّي الآراء لوحدهم، بل لا بدَّ لهم من أن يستمعوا إلى الرأي منه بوصفهِ الحاكم، وهذا بحدِّ ذاتهِ مصادرة للرأي الذي لم يرتضهِ الدين الإسلامي.

وقد جسَّد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) موضوع حرية الرأي واحترام آراء الرعية، على الرغم من كونهِ حاکماً وذو سلطة، بقولهِ: (إنِّي لأعلم بما يصلح أمركم، ولكن هيهات أن أفعل ذلك بفساد نفسي )(50). وهذا يعني أنَّ الإمام لو استخدم هذا الأسلوب مع رعيتهِ، فقد يكون فيه إصلاح أمر حكومتهِ، ولكن بلا شك سيكون على

ص: 221

حساب قيمهِ ومبادئهِ ودينهِ(51).

أمَّا الوثيقة الإسلامية الثانية، فتتمثل في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك وثيقة المدينة المنورة التي نظَّمت العلاقة بين المسلمين بعضهم مع البعض، وبعضهم وبين غير المسلمين، والتي مثَّلت أرقى صور احترام حقوق الإنسان على الرغم من قلَّةِ عدد موادها(52).

ومن الأحاديث النبوية التي عالجت بل واهتمت بحقوق الإنسان الإجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وحددت علاقة المسلم بأخيهِ المسلم، وأكَّدت على عدم التجاوز على حقوق الآخرين، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يحلُّ لأمرئٍ مالُ أخيهِ إلاَّ ما أعطاهُ من طيبِ نفسٍ منهُ، فلا تَظْلِمَنَّ أنفُسكم)(53). هذا الحديث يؤسِّس لحُسن العلاقة بين المسلمين ويؤشر أُسس التعامل فيما بينهم، ولاسيَّما ما يتعلَّق منه بأموال الغير التي تكون مُحرمة ما لم تأتِ برضى وطيب خاطر.

ونجد في حديث آخر نبذاً للتفرقة والتمييز بين المسلمين، بل وبين البشر على أساس اللون أو الجنس أو الطائفة، بقولهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس لعربيٍّ على أعجمي، ولا لأبيضٍ على أسود فضل إلاَّ بالتقوى)(54)، وهذهِ أجدها صيغة متقدمة لاحترام الإنسان بوصفهِ إنساناً، بعيداً عن لونهِ وجنسهِ وقوميتهِ وطائفته، إذ لم يضع النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ ضابطة واحدة للتفريق بينهم، وهو التقوى، أي الإلتزام بالإسلام الصحيح، وتطبيق مبادئهِ وأداء واجباتهِ واجتناب نواهيه.

وحدد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثٍ آخر العلاقة بين السيد والعبد، ضامناً بذلك حقوق العبد، بقولهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): (إخوانكم

ص: 222

حولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يدهِ فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم)(55).

كما لا يخفى أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ساوى بين الرجل والمرأة في واحدةٍ من أهمِّ الواجبات، وهي الحصول على العلم وطلبه، بقولهِ: (طلبُ العِلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة)(56). فلم يكتفِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوجيه طلب العلم بل رفع من أهميتهِ بأن جعله واحداً من الفرائض الواجب أداؤها، والتي ساوى فيها وفي تحصيلها بين الرجل والمرأة، بعيداً عن التمييز على أساس الجنس.

فضلاً عما تقدم، فإنَّ هناك العديد من الوثائق التي صدرت عن عددٍ من أئمة أهل بيت النبي عليهم السلام، فيها تأكيد على حقوق الإنسان وتأكيد على عدم التجاوز عليها، ويأتي في مقدمتها عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى عامله على مصر - موضوع بحثنا - الذي يُعد دستوراً يُنظِّم علاقة الحاكم بالرعية، ويُحدد أُسس العلاقة معهم ولا يسمح للحاكم بالتجاوز عليهم(57).

کما تُعد رسالة الحقوق للإمام علي بن الحُسين زين العابدين (عليه السلام) وثيقة مهمة عُنيت بحقوق الإنسان بشكلٍ عام وليس المسلم فحسب، فقد تضمَّنت خمسون حقاً، شملت حياة الإنسان وكل ما يتعلَّق بحريتهِ وعقيدتهِ وفكرهِ وتعليمه، كما تضمَّنت بعض الحقوق أُسس العلاقة داخل المجتمع، إذ ركَّزت على حقوق الوالد على الولد، والزوجة على الزوج، والمُعلِّم على المُتعلِّم.. وغيرها(58).

وبالانتقال إلى حقوق الإنسان في الفكر الغربي، فإنَّ التاريخ يُسجل لنا أنَّ وثيقة العهد الكبير (الماغنا کارتا) هي أقدم وثيقة يعود تاريخ صدورها إلى عام 1215 م، وهي مع ذلك لم تُفصل في حقوق الإنسان، بل حددت من سلطات الملك والأشراف ورجال الدين، مما عُدَّ ذلك انتصاراً لصالح الشعب(59).

ص: 223

وصدرت بعد ذلك بقرون وثائق عُنيت بحقوق الإنسان من دولٍ عدَّة، كل على انفراد، مثل ميثاق الحقوق الإنكليزي عام 1668 م(60)، وميثاق الحقوق الأمريكي، الذي صدر بعد إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا في 4 / تموز / 1776 م(61)، في حين جاء إعلان الحقوق الفرنسي في أعقاب الثورة الفرنسية في 26 / آب / 1789 م(62).

بيد أنَّ قانوناً منظَّماً يحظى بالقبول الدولي العام لم يصدر إلاَّ في عام 1948 م، إذ صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول، والذي وقَّعت عليه في حينهِ ثمان وأربعين دولة، متضمناً ديباجة وثلاثون مادة(63).

مما تقدم نستنتج أنَّ الفارقة الزمنية بين أول تشريع إسلامي لحقوق الإنسان ممثلاً بالقرآن الكريم، وأول وثيقة غربية تُعنى بجانب من حقوق الإنسان هو ما يقرب عن ستة قرون، في حين شكَّلت الفاصلة الزمنية بين أول وثيقة إسلامية نظَّمت حقوق الإنسان، والوثيقة الغربية المُنظَّمة المُتمثلة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يزيد على اثني عشر قرناً، وهذا ما يدل على قِدَم التشريع الإسلامي المعني بهذا المجال.

بيد أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا تأخرت المجتمعات الإسلامية في ممارسةِ حقوقها والتمتع بها؟

إنَّ الإجابة عن ذلك يُعيدنا إلى طبيعة الدولة الإسلامية في نهاية العهد الراشدي، وهي التي شَهِدَت تمرد الوالي على الخليفة، وتحشيده الجيوش لمقاتلتهِ واغتصاب الحكم منه، ذلك الحكم الذي تسلَّمه وفقاً لمبدأ أُقرَّ في خلال العهد الراشدي بأكملهِ ذلك هو مبدأ أو قاعدة الشوری.

اتجهت أمور الدولة الدينية والسياسية بعد ذلك وتحديداً في العهدين الأموي

ص: 224

والعباسي، اتجاهاً مغايراً للمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم وأكَّدت عليها السُنَّة النبوية، والتي تمثلت باحترام الإنسان وحريتهِ ومُعتقدهِ، والتي منحته مجالاً واسعاً للتعبير عن رأيهِ، کما نهجت طريقاً جديداً في التداول السلمي للسلطة. فابتعدت القيادة الدينية - السياسية التي تمثل قمة هرم السلطة في الدولة الإسلامية كثيراً عن هذهِ المبادئ، وعملت على إقناع الناس بأنَّهم إنَّما يحكمونهم ويسوسونهم بحسب نظرية الحقِّ الإلهي، بوصف الخليفة ظل الله في الأرض.

وراح معاوية بن أبي سفيان (20 ق. ه. - 60 ه / 603 - 680 م) ومن بعدهِ الحُکَّام الأمويين بتهيئةِ طبقةٍ من الرواة ورجال الدين، من الذين أغدق عليهم الأعطيات لتدوين الروايات التي تحط من مكانة الخليفة (علي بن أبي طالب) وتُقلِّل من شأنهِ، حتَّى بلغ بهِ الأمر إلى أن أمر بسبِّهِ على المنابر وفي أوقات كلِّ أذان، وبذا استغل معاوية هؤلاء الرواة في سبيل إيجاد تبریر دیني لسلطان بني أمية، وكذلك لكبح الجماهير عن القيام بالثورة برادعٍ داخلي وهو الدين نفسه(64).

ونتيجةً لسياسة تحطيم الإطار الديني، التي اتبعها معاوية يُعاونه فيها طائفة من رواة الأحاديث المكذوبة، فقد کُمِّمت الأفواه، وسُلبت إرادة الناس في التعبير عمَّا يعتقدون، الأمر الذي جعل الناس يعتقدون أنَّ الثورة على الأمويين عملاً محظوراً وخارجاً عن الدين(65). وقد أدى ذلك إلى ظهور العديد من الثورات في العصر الأموي، كان من أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: ثورة الإمام الحُسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سنة 61 ه / 981 م؛ وحركة التوابين سنة 65 ه / 685 م؛ وحركة المختار الثقفي خلال الفترة 65 - 67 ه / 980 - 187 م؛ وثورة عبد الله بن الجارود سنة 75 ه / 694 م؛ وثورة زيد بن علي (عليه السلام) سنة 122 ه / 760 م؛ وثورة يحیی بن زید سنة 125 ه / 743 م؛ وغيرها(66).

ص: 225

ولا يختلف حال الإنسان وحقوقهِ في العصر العباسي عمَّا سبقه في زمن الأمويين، فقد استمر الظلم، ومُلاحقة المعارضين على الشُبهة، و إكراه الناس على بيعةِ الخليفة، وإشاعة مفهوم أنَّ الخليفة سلطان الله في أرضهِ، وليس للناس حق المعارضة، بل عليهم جميعاً الطاعة والتسليم والبيعة مخيرين أو مكرهين.

ومن أمثلة ذلك حرص أبو العباس السفَّاح (104 - 136 ه / 722 - 754 م) على أخذهِ البيعة من مُحمَّد ذو النفس الزكية (93 - 145 ه / 712 - 762 م) وأخيهِ إبراهيم، اللذان ظلا معارضان على الرغم من أنَّ العلويين جميعاً قد بايعوه(67)، فراح يتبع أثرهما الذي استكمله من بعده أبو جعفر المنصور (95 - 108 ه / 714 - 775 م)، أو راح يسأل عنهما بني هاشم رجلاً رجلاً، فكان كل منهم يقول: (يا أمير المؤمنين قد عَلِمَ أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسهِ، وهو لا يريد بذلك خلافاً ولا يحب لك معصية)(68).

ولعلَّ أبشع مجزرة ارتكبها المنصور بحقِّ الإنسانية، هي عندما أقدم على ملئ خزانةٍ في غرفةِ زوجة ابنه المهدي برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً و أطفالاً، وأوصى بأن لا يفتحها ابنه المهدي ولا يطَّلع عليها إلاَّ بعد هلاكهِ(69).

وكردةِ فعلٍ على سلب الحريات، وقمع المعارضين، فقد نشبت العديد من الثورات التي قام بها العلويون ضدَّ الحكم العباسي، كان من أبرزها: ثورة الحُسين بن علي صاحب فخ سنة 169 ه / 780 م؛ وثورة يحیی بن عمر العلوي سنة 250 ه / 864 م؛ وثورة مُحمَّد بن جعفر العلوي سنة 252 ه / 866 م؛ وثورة علي بن زيد العلوي سنة 256 ه / 870 م(70).

ولم تكن الثورات مقتصرةً على العلويين، بل شَهِدَ العصر العباسي الثاني ثورةً كبيرة امتدت بين سنة 255 - 270 ه / 869 - 883 م، تلك هي ثورة الزنج التي جاءت کردِّ

ص: 226

فعلٍ على الظلم والاضطهاد والتمايز الطَبَقي الذي شَهِدَهُ ذلك العصر، حين ساد الظلم اللعبيد من قبل طبقة الملاَّكين من أصحاب الأراضي المدعومين من السلطة، فكانت ثورة الأعراب الساخطين على النظام الإجتماعي من جهة وبين مالكي الأرض وأصحاب العبيد والخلافة من جهةٍ أخرى(71).

وقد كان من نتائج ذلك أن ظهرت العديد من الفرق الغالية في معتقدها، مثل المُرجئة والقدرية والجبرية والكيسانية.. وغيرها.

استمرت عملية التفريط بحقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي عِبرَ العصور المختلفة وصولاً إلى العصرين الحديث والمعاصر، واللذين شَهِدا تجاوزاً على الحريات، و تکميماً للأفواه، وانتقاماً من المعارضين بوسائل تعذيب شتَّی، فضلاً عن القهر والإذلال النفسي، كلَّها وسائل وأساليب جعلت المجتمع الإسلامي بعيداً كلَّ البُعد عن تمثيل أبسط الحقوق وأكثرها بديهيةً وهو حق العيش، ما جعل المجتمعات الإسلامية تختلف كثيراً عن المجتمعات الغربية في توثیق و تنظیم قوانین حقوق الإنسان والعمل على أساسها.

ص: 227

المبحث الرابع: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه).. الخصائص وسَمَات التميز

أأبا تراب وللتُّراب تفاخر *** إن كان من أمشاجهِ لشك طينُ

والناس من هذا التُّراب وكلَّهم *** في أصلهِ حمأٍ بهِ مسنونُ

لكن من هذا التُّراب حوافر *** ومن التُّراب حواجبٌ وعيونُ

فإذا استطال بك التُّراب فعاذرٌ *** فلأنت من هذا التُّراب جبينُ

ولئن رجعت إلى التُّراب فلم تمت *** فالجذر ليس يموت وهو دفين

لكنه ينمو ويفترع الثَّرى *** وترفُّ منهُ براعمٌ وغصونُ(72)

إنَّ البحث في مكانة ودور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في التاريخ الإنساني بصورةٍ عامة والتاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص، عملية شاقة ومتشعبة على كلِّ من ولج هذا الميدان، ولاسيَّما إذا كانت الحقيقة غايته والعِلم سبيله، وما يزيد من صعوبتها تداخلها مع المؤثرات السياسية والعقائدية والتاريخية وحتَّى النفسية، سواء في إرثها الماضي أم في واقعها الحالي، ناهيك عن مدى توافر القدرات العلمية والنقدية عند الباحث نفسه.

إنَّ الأمة الإسلامية كونها ذات رسالةٍ حضاريةٍ بحاجة إلى توظيف أدوات المعرفة والبحث العلمي معززةً بالشجاعة وروح النقد في عمليةِ البحث داخل موروثنا الحضاري العام وفي تفصيلاتهِ كافَّة، وما يتطلبه ذلك من الوقوف إزاء مضامين الإرث التاريخي وقفة تفحص دقيق، وتحليل مُعمَّق قبل التوصل إلى الأحكام الصحيحة والاستنتاجات

ص: 228

المبنية على الدليل المعرفي، وينبغي للباحث الموضوعي أن يتجنَّب عدداً من الأحكام أو الرؤى المُسبقة والجاهزة التي تنتشر في كثيرٍ من الكتابات التاريخية، والتي عدَّها كثير من الكُتَّاب خطوطاً حمراء لا يمكن في أيَّةِ حالٍ تجاوزها أو مناقشتها..

للإمام علي بن أبي طالب في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصولٌ وآراء تمتد لها في الأرض جذورٌ وتعلو لها فروع. أمَّا العلوم الإجتماعية الحديثة في كانت إلاَّ لتؤيد معظم هذهِ الآراء وهذهِ الأصول. ومهما اتخذت العلوم الإجتماعية من صورٍ وأشكال، ومهما اختلف عليها من مُسمَّيات، فإنَّ علَّتها واحدة وغايتها واحدة كذلك. وهما رفع الغُبن والاستبداد عن كاهل الجماعات. ثمَّ بناء المجتمع على أُسس أصلح تحفظ للإنسان حقوقه في العيش وكرامته كإنسان. ومحورها حرية القول والعمل ضمن نطاقٍ يُفيدُ ولا يُسيء. وتخضع هذهِ العلوم لظروفٍ معينة من الزمان والمكان لها الأثر الأول في تكوينها على هذا النحو أو ذاك(73).

قد كان لعليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام) في تاريخ حقوق الإنسان شأنٌ أيَّ شأن. وآراؤه فيها تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس. ومَن عَرفَ الإمام علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المُسلَّط على رقاب المُستبدين الطُغاة. وأنَّه الساعي في تركيز العدالة الإجتماعية بآرائهِ وأدبهِ وحكومتهِ وسياستهِ... وبكلِّ موقفٍ له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة.

ولو استعرضنا تاريخ الحركات التحررية الإصلاحية والثورات الإجتماعية في الإسلام وغيره منذ صدرهِ وحتَّى العصور المتأخرة لرأيناها ترجع بوجهتها وأصالتها إلى آراء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإلى الأُسس العادلة التي أرساها في عهدهِ

ص: 229

لمالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه) (ت 38 ه / 658 م) وخلال سيرتهِ الشريفة، التي وضعها لتكوين مجتمع فاضل في حكم فاضل واستطاع بذكائهِ الخارق وبصيرتهِ الفذَّة وبمقدرته الفائقة على الإدراك واستنباط الأحكام وإحاطتهِ التامة بالكتاب والسُنَّة في ظلِّ سلطةٍ عادلة أو حكومةٍ صالحة لأيِّ ظرفٍ وزمان و تتماشى مع الشريعة السماوية دون انفصال، ولذلك لم يؤخذ عليه ما أُخِذَ على غيرهِ..

ولو كانت الصحيفة قد أرست أُسس الاستقرار والتآلف الإجتماعي المبني على قاعدة السِلم الأهلي المنَّاع للأزمات الحادة في مجتمع المدينة المنورة أبَّان زمن النبي الكريم (صلی الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر يُعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلاد، التي فُتحت ودخلها الإسلام. یُرسي بكلِّ وضوحِ المعالم الأساسية لمهمات الحاكم المسلم وحقوق الرعية، وهي بالتالي، من الوثائق التي قلَّ التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا في الأساس ما يدفعنا لتسليط الضوء على جانب حقوق الإنسان من هذا السيرفر الخالد...

نهجُ البَلاَغَة.. بين صِحَّة الانتساب وأهمية المضمون

ما أشبه ما مُني بهِ كتاب النهج بما مُني بهِ كتاب الله (عز وجل)، فقد قال المُنكرون للتنزيل: أنَّ القرآن من کلام مُحمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس من كلام الله، وقال المُرتابون في النهج: أنَّه من کلام جامعهِ السيد الشريف الرضي(74) وليس من كلام الإمام (عليه السلام)(75)، ولو أنَّهم أمعنوا النظر جيداً لعرفوا أنَّ لكلٍّ من الكلامين طابعه الخاص الذي يمتاز بهِ عن الآخر بصورةٍ واضحة. فأين کلام مُحمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من كلام الله (سبحانه وتعالى)؟ وأين كلام الرضي من كلام عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ وكيف يجوز أن يشتبه هذا بذاك؟ وما اشتبه التِبر يوماً باللُجين.

ص: 230

على أنَّ هناك من الوثائق التاريخية المُعتمد عليها ما لو رجع إليها المُتتبع لإزداد إيماناً ويقيناً بصحة النِسبة وثبوتها بشكلٍ لا يقبل الجدل والارتياب، وهذا ما نَهَد إلى جمعهِ والإلمام بهِ أهل التنقيب والتدقيق(76)، مُبطلين هذا الزعم بأدلَّةٍ، منها أنَّ خُطَب النَّهج، أو أكثرها، مُدوَّنة في كتب الشيعة وأهل السُنَّة من قبل أن يولد الشَّريف الرَّضي بسنوات(77). والقول الفَصل في نسبةِ النَّهج إلى الإمام هو أن ننظر، ونُحاكم ما جاء فيهِ على أساس كتاب الله (عز وجل)، فما وافق منهُ الكتاب فهو من قول الإمام، لأنَّه مع القرآن، والقرآن معهُ، وما خالفهُ فلا علاقة لهُ بالإمام من قريبٍ، أو بعيد. وقد تواتر عن أئمَّةِ أهل البيت (عليهم السلام) قولهم: (لا تقبلوا علينا خِلاف القرآن، فإنَّا إن تحدثنا بموافقةِ القرآن، والسُنَّة، إنَّا عن الله، وعن رسولهِ نُحدِّث، ولا نقول: قال فُلانٌ، وفُلان، فإذا أتاكم من يُحدثكم بخِلاف ذلك فردُّوه، إنَّ لكلامنا حقيقة، وإنَّ عليهِ لنوراً، فما لا حقيقة لهُ، ولا نور عليهِ فذاك قول الشَّيطان)(78).

وقد اجتهد علماء الشيعة على مدى قرون في دحضِ التهم الموجَّهة إلى صحَّة كتاب (النَّهج)؛ وتمَّ تخصيص قَدَر عظيم من العمل المُستنير خلال العقود الأخيرة من أجل إثبات، أولاً، أنَّ المادة المُكوِّنة للنص لا يمكن أن تكون من فعل الرضي - إذ أنَّ الغالبية العظمى منها موجودة في مصادر سبقته زمنياً وثانياً، أننا نستطيع تتَّبع معظم مادة النص، عِبرَ سلسلةٍ موثوقة من الرواة، إلى الإمام نفسه حتَّى ولو لم تصل جميع الأقوال إلى أعلى مكانة في سلَّم صحیح الحديث، أي كونها متواترة (بمعنى أنَّها أحاديث مروية عِبرَ سلاسل عديدة تتكون من رواة موثوقين لا يمكن الشك فيهم بصورةٍ خطيرة).

يقول مختار جيلي ملخصاً أبحاثه المُستفيضة حول هذهِ القضية: (لا نُكران.. في أنَّ قسماً ضخماً من النَّهج (هكذا) يمكن نسبته فعلاً إلى علي، وخاصةً مقاطع تاريخية وتقريظية بعينها، ولو أنَّه من الصعب تأكيد صحَّة الأقسام الأكثر تعرضاً للتشكيك... يُضاف إلى ذلك أنَّه من

ص: 231

الممكن تحديد عدد هام من المقاطع المصحوبة بأسانید کاملة، والتي يمكن العودة بتاريخها إلى زمن علي. وقد جرى اعتماد هذهِ النصوص من قِبل باحثين قدماء من أصحاب الشهرة كالطبري والمسعودي والجاحظ وكثيرين غيرهم)(79).

وما من كلمةٍ في نهج البلاغة إلاَّ ودلَّ عليها القرآن بالتفصيل، أو الإجمال مع العِلم بأنَّ كلام الله قد تفرَّد بخصائص كثيرة لا يُشاركه فيها كلام البشر أيَّاً كان قائله، وهذهِ الحقيقة يُدركها كُلَّ من قرأ قوله (عز وجل): «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (سورة ق، آية: 37).

لا يشك أديب أو مؤرخ أو عالم ديني أو اجتماعي فينا لنهج البلاغة من قيمةٍ جلَّى، وأنَّه في مصافِّ الكتب المعدودة، التي تُعتبر من أمهات مصادر حضارتنا العربية.. كيف لا، ونهج البلاغة هو كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ذلك الإمام الذي كان قدوةً مثالية للمسلمين ونبراساً رائداً للمؤمنين، حتَّى أنَّ الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 170 ه / 718 - 786 م) حين سُئل: ما تقول في عليٍّ بن أبي طالب؟ قال قوله المأثور: (احتياج الكُل إليه، واستغناؤهُ عن الكُل، دليلٌ على أنَّه إمام الکُل في الكُل)(80). وبهذا فإنَّ نهج البلاغة يُعد أعظم كتاب أدبي وديني وأخلاقي واجتماعي.. بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وحسبنا من وصفهِ ما قال فيه مُفسِّره الشيخ مُحمَّد عبده: (ولا أعلم إسماً أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلَّ عليهِ اسمهُ.. وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلاَّ أصابه، ولم يدع للفكر ممراً إلاَّ جابهُ)(81). وهو أحد المصادر الأربعة، التي لا غِنى للأديب العربي عنها، وهي القرآن الكريم ونهج البلاغة والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمُبرِّد.

هذا وإنَّ كلام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أرحب من أن تسعهُ المُؤلَّفات أو تستوعبه المُجلَّدات. وما (نهج البلاغة) إلاَّ غيضٌ من فيض، وباقةٌ من بستان، استطاع

ص: 232

الشريف الرَّضي أن يجمعها من المصادر التي كانت في زمنهِ وقبله، وأن يدققها تدقيقاً صادقاً، بما أُوتي من أمانة وعدالة، وأصالةٍ أدبية ولغوية. وقد رتَّبه ترتیباً مبدئياً، فجعل الخُطب أولاً ثمَّ الكُتب والرسائل ثمَّ الحِكَم.

وقد تمَّت لنهج البلاغة شروحٌ كثيرة، يزيد عددها باللغتين العربية والفارسية على أربعين شرحاً، من أهمها:

1. (معارج نهج البلاغة): شرح فرید خراسان أبي الحسن علي بن زيد بن مُحمَّد بن علي البيهقي النيسابوري (493 - 565 ه / 1100 - 1170 م).

2. (منهاج البراعة): شرح قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي (ت 573 ه / 1177 م).

3. شرح عزِّ الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المُعتزلي (ت 655 ه / 1258 م).

4. شرح کمال الدین میثم بن علي بن میثم البحراني (ت 679 ه / 1280 م).

5. (إعلام نهج البلاغة): شرح السيد علي بن ناصر العلوي السرخسي (من أعلام القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي)(83).

وهناك طبعات كثيرة لشروح نهج البلاغة ذكرها المُحقِّق الدكتور سيد جواد مصطفوي خراساني، وهي: (الشرح المحشی) طبع طهران؛ (الشرح المحشی) طبع تبریز؛ (شرح ملاَّ فتح الله )؛ (شرح فیض الإسلام)؛ (شرح میرزا مُحمَّد باقر اللاهيجاني المشتهر بنواب؛ (شرح ملاَّ صالح القزويني)؛ (الدرَّة النجفية)؛ (شرح ابن أبي الحديد) طبع مصر، طبع بیروت، طبع طهران؛ (شرح محيي الدين الخياط)؛ (شرح الشيخ مُحمَّد عبده) طبعة أولى مصر، طبعة بيروت؛ (شرح محمد حسن نائل المُرصفي)؛ (شرح الحاج میرزا حبیب الله الخوئي)؛ (شرح الدكتور صبحي الصالح)؛ (في ظلال نهج البلاغة)؛ (شرح الشيخ مُحمَّد جواد مغنية(83).

ص: 233

حقوق الإنسان في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر

يحمل عهد الإمام مالك الأشتر بتوليتهِ على ولايةِ مصر الرقم (52) في معظم طبعات نهج البلاغة(84). وبعباراتٍ تاريخية عريضة، أصبح هذا العهد مصدر إلهام عِبرَ القرون حيث كان يُقرأ كدستور مثالي للإدارة الإسلامية يُكمل من خلال وصفهِ المفصَّل نسبياً لواجبات الحاكم وحقوقهِ وواجبات معظم موظَّفي الدولة وطبقات المجتمع الرئيسة - الإطار العام للمبادئ المُشرَّعة في (دستور المدينة المنورة) الذي أملاه النَّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). غير أنَّ النصائح الواردة في العهد تفوق كثيراً المقاييس الموضوعة تقليدياً بالنصوص السياسية أو القانونية الخاصة بالإدارةِ والحُكم. وبغضِّ النظر عن كونها تُخاطب لأول وهلة الحاكم أو الوالي في الدولة، فإنَّ القسم الأعظم من النصيحة ينتمي في الحقيقة إلى المبادئ الأخلاقية المُطبَّقة عالمياً، وبالتالي، فإنَّ صلتها بالمحكومين تُماثل صلتها بالحُكَّام. ولذلك فهي نصٌّ أخلاقي بمقدار ما هي نص سیاسي - إنَّها ليست (نظاماً) متنوع الأساليب والأغراض، أو نظرية في الأخلاق، بل تعبير مُلهم، في الحقيقة، عن فضائل روحانية جسَّدها الإمام وشعَّت عنه، طبائع فاضت مباشرةً من مصادر الوحي الإسلامي، وتكشف بالتالي عن جذور الفضيلة والأخلاق في مناخ محکوم بمبدأ الوحي الشامل لكلِّ شيء. لذلك، من الممكن قراءة هذه الوثيقة كتعليق أيضاً على ذلك الوحي، الأمر الذي يُشجِّع، بدورهِ، القارئ على الغوص بعُمقٍ أكبر في المعاني المُودعة في النصوص المُنزَّلة(85).

كان مالك الأشتر تابعاً مخلصاً وعريقاً للإمام، وكان يُشار إليهِ على أنَّه واحد من (رجال يدهِ اليُمنى). ويُذكر أنَّ معاوية بن أبي سفيان، المُعارض الرئيس للإمام أثناء الحرب الأهلية (37 - 41 ه / 657 - 661 م) التي طغت على فترة خلافتهِ، كان أحد الأشخاص الذين قالوا ذلك بحقِّ مالك، وذلك بعد سماعهِ نبأ نجاح مهمَّته في تسمیم

ص: 234

مالك قبل تمكنه من احتلال منصبهِ والياً على مصر. فقد روى الطبري عن معاوية قوله: (كان لعليٍّ بن أبي طالب يمينان. إحداهما قُطعت في صفِّين(86) والأخرى اليوم(87). ومن جهتهِ، كان ردَّ الإمام على أخبار اغتيال مالك على النحو التالي: (مالِك وما مالِك! والله لو كان جبلاً لكان فَنْداً، ولو كان حجراً لكان صَلْداً، لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر)(88).

تأتي دائرة حقوق الإنسان في منظور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أوسع مما أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية. فالحقوق عنده (عليه السلام) هي الركن القانوني في نظام العلاقات الإجتماعية، فالمسلم مسؤولٌ عن حقوق الآخرين: حقَّ الوالدين، وحقَّ الزوجة، وحقَّ الابن، وحقَّ المُعلِّم، وحقَّ المُربِّي، وحقَّ الصديق... إلخ. ونتيجةً لهذهِ الحقوق المُتبادلة يقوم نظام العلاقات الإجتماعية بين الأفراد. أمَّا حقَّ الله (سبحانه وتعالى) فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقَّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تَبَعٌ لحقوق الناس، وليس العكس. إذ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (جعل الله سبحانه حقوق عبادهِ مُقدِّمة لحقوقهِ)(89). وبهذا يكون أفضل ما يقوم بهِ الإنسان هو أن يُوصل الحقوق إلى أهلها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أفضل الجُودِ إيصال الحقوق إلى أهلها)(90).

نَظَر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الوجود نظرةً لا يتعطَّل فيها حدٌّ من حدود العقل والقلب والجسد. ولا يطغى فيها تأمُّلُ الإنسان في الكون والاندماجُ في کمالاتهِ. على النظر في حقوق الإنسان المُرتبط بالأرض ارتباط عیشٍ وبقاء. أو على النظر في حقوق الجماعة المتعاونة المتكافلة في سبيلِ البقاء وما يقتضيه من مقوِّمات. فهو إمَّا دعا إلى الإعجاب بروعةِ الوجود وعجائب الخلق، دعا في الحين ذاتهِ إلى توجيه الأفراد والجماعات توجیهاً صحیحاً يسير بهم في طريق التعاون الاقتصادي والتكافُل المادي الذي

ص: 235

يضمن لهم الوصول إلى الخير الأكبر: إلى المحافظة على كرامةِ الإنسان المُركَّب من فكرٍ يعمل، وعاطفةٍ تتحرك، وجسدٍ له عليك حقٌّ ولك بهِ المعنى المادي من معاني وجودك. وهو إمَّا سعى في تطهير الضمير وتقديس الشوق وسماحة الوجدان، راح في الوقت نفسهِ يسعى في تنظيم مجتمعٍ عادل له قوانين وضعيَّة هي بمثابة الأساس من البناء(91).

واحدةً من أبرز مقاطع وموضوعات حقوق الإنسان التي أوردها الإمام في عهدهِ المالك الأشتر (رحمة العدل)، حيث الاقتران بالفقراء یُعزِّز وعيَ الحاكم بحاجتهِ الدائمة إلى الله (سبحانه وتعالى)، وهذا ما يُساعده على العيش بصورةٍ دائمة معتمداً على رحمةِ الله، بالأمل والثقة؛ والمصاحب الطبيعي لمثل هذهِ الحياة هو الإنعام بالعطف والرحمة على بني جنس المرء من البشر. ولا تتعارض القدرة على العمل بشفقةٍ ورحمةٍ مع متطلِّبات العدل، إذا ما تصورناه على أُسسٍ أنطولوجية Ontology، أي وفقاً للطبيعة الأساسية للحقيقة. والتصرف برحمة يتطابق مع العدل ليس بمعنى وضع الأمور في مواضعها فحسب - إذ علينا أن نمدَّ الرحمة إلى حيثما كانت الحاجة إليها - بل تتلاءم مع العدل من جهةِ كونها تتوافق مع طبيعة الأشياء الحقيقية، أي مع الطبع المطبوع للحق. ولهذا السبب نجد على رأس كلِّ سورةٍ من سور القرآن (ما عدا واحدة) اسم الله متبوعاً بعبارتي (الرحمن الرحيم). بعبارةٍ أخرى، لا تنبع القدرة على التصرف برحمة من مشاعر شخصية إلى هذا الحد کما لو كانت صادرة عن ارتباطٍ مطبوع بطبيعة الحقيقة الإلهية نفسها؛ أي تلك الحقيقة الأسمى التي يقول عنها القرآن: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (سورة الأعراف، آية: 156)؛ أو تلك الحقيقة التي يقول فيها: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (سورة الأنعام، آية: 54)؛ أو تلك التي يتقرر فيها طبعُها الجوهري بمبدأ (سَبِقت رحمتي غضبي)(92). ويعثر المرء أيضاً على أقوال عديدة للإمام علي بخصوص ضرورة إظهار الرحمة: (توزيع الرحمة يستنزل الرحمة)(93)، (كما تَرحَم تُرحَم)(94)، (أعجبُ لامرئٍ يرجو رحمةَ مَنْ هو أعلى منه، ولا يرحم مَنْ هو أدنى منهُ)(95).

ص: 236

وفيما يتعلَّق بموضوع الرحمة أيضاً، تُعتبر الفقرة التالية من عهد الإمام مالك الأشتر عملاً رائعاً لأنَّها تضع ضرورة الرحمة والشفقة في سياقٍ عالمي، كما إنها أحد أكثر التعابير أهمية للإمام حول وحدة الجنس البشري ومساواة جميع بني البشر. إنَّها تقف بارزةً كوسيلة تصحيح لكلِّ أشكال التحامل والتخصيص والتمييز الطائفي التي قد تُطبِّق العدل أو الرحمة على أعضاء (مجموعة) الفرد فقط، مهما كان تعريفها أو تحديدها: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ للِرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ

فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظيِرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللُّهَ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلاَكَ بِهِمْ)(96).

إنَّ المُلاءَمَة العالمية لمبدأ الرحمة والعطف قد اجتمعت هنا بمُذکِّرٍ بالسلطة المُطلقة لله (عز وجل). فمهما كان الرجل -حاكماً أو والياً یُعيِّنهُ حاكم - فإنَّه ليس بشيء سوى عبدٌ الله، يعتمد على رحمة ربِّهِ بصورةٍ مُطلقة. وهكذا، على كلِّ من يجد نفسه في موقع من التفوق النسبي على الآخرين أن يتذکَّر دائماً ضعفه مقابل المُطلق، حيث يؤدي بهِ هذا الوعي في آنٍ إلى إظهار الرحمة تجاه من هم أدنى منه، واكتساب رحمة الله الذي هو فوقه(97).

وبالتالي، فقد كان للإمام اهتمام واضح وتشديد بالغ على موضوع الرحمة في عهدهِ لمالِك الأشتر، واضعاً في طليعةِ هذا العهد مجموعةً من المبادئ العامة، ومن جملتها حقوق الإنسان كإنسان، إلى جانب حقوقهِ كمسلم، منطلقاً مبدئياً من الرحمةِ بالإنسان كإنسان. يقول (عليه السلام): (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ). وهكذا أسَّس الإمام لحقوق الإنسان على مُركَّبٍ من ثلاثةِ أُسس: أولاً: يأمره بأن يتحسَّس الرحمة بالإنسان. وثانياً: المحبَّة للإنسان، وهي غير الرحمة. فالرحمة(98) إنعطاف قلبي وشفقة

ص: 237

على الشيء الذي ترحمه، ولكن ليس بالضرورة أن تُحبه، فالإمام يُضيف إلى الرحمة المحبَّة، بمعنى أن يكون لدى الوالي مودةً للناس بما هم ناس؛ بقطع النظر عن الفوارق الأخرى، فينبغي أن تُقدَّر ظروف الإنسان مُجرداً عن لونه وتوجهاته الفكرية والعقائدية وغيرها؛ فالإنسان إذا عاش في ظروفٍ معينة توجب عليه أن يعتقد بعض الأمور؛ اعتقد بها، ولو عاش غيره ظروفاً كظروفهِ لاعتقد بما اعتقده، فينبغي أن تُقدَّر ظروفه انطلاقاً من الرحمة له كإنسان، طبعاً ما لم يكن خطراً على البشرية، فهذا له حسابٌ آخر.

وثالثاً: يأمره (عليه السلام) باللطف بهم، وهو من صفات الحق ومن معاني (اللَّطيف) من أسمائهِ الحُسنی (عز وجل)، وجاء في الأثر: (تخلَّقوا بأخلاق الله)(99). ويُراد من اللُّطف هنا: التعامل معهم بالمُسامحة والرِفق واليسر، فالرحمة والمحبَّة من وظائف القلب، بينما اللُّطف أمرٌ عملي، يُراد منه التعامل معهم بوسائل مبنيَّة على اللين والعَطف، فيُخاطب الإنسان بلُطف، وتُدار شؤونه بلطف. ولتكن قرارات الوالي رحيمةً غير شديدة أو شاقَّة، بل مبنيَّة على أساس التلطُّف بهم، لأنَّ الإسلام دين الرِفق، يقول النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنَّ الرِفقَ لاَ يَكُونُ فِي شَءٍ إلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنزَعُ

مِن شَيءٍ إلاَّ شَانَهُ)(100).

وحينما فرغ الإمام (عليه السلام) من تقرير هذا المبدأ حذَّر من ضده وهو (الوحشية) في التعامل ولو بشكلٍ جزئي كما يفعل البعض حين يخلط بين الإنسانية، حيناً والوحشية حيناً آخر فتغلب وحشيته على إنسانيتهِ، فلو أنَّ أحداً عَدَل مع غيرهِ في كلِّ شيءٍ وظلمه في مجالٍ واحد فقط لغلب ظلمه عدله وسُمِّي (ظالماً) له، فقال (عليه السلام): (وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ). فلا ينبغي أن يكون همَّ الوالي هو النهب من حقوق الرعية والاعتداء على كراماتهم، بل ينبغي أن يستحضر في ذهنهِ دائماً بأنَّه إنسان وهم كذلك، فما يتمناه لنفسهِ ينبغي أن يتمناه لهم، إذ لا فرق بينه وبينهم من ناحيةِ

ص: 238

الإنسانية(101).

ويصل الإمام الآن إلى نقطة في الرسالة، (العَهد)، يُريد من مالِك أن يُوليها اهتماماً خاصاً. إنَّه يبدأ الفقرة(102) بعبارةٍ تعجبية، (اللهَ، الله) من أجل التشديد على ضرورتها وإلحاحها. ويتعلَّق التوجيه هنا بأُناسٍ لا مورد هم على الإطلاق - أهل البؤس والزَّمْني(103) واليتامى وكِبار السِّن - أولئك الذين هم (أحوج إلى الإنصاف) من غيرهم، والذين يجب مُعاملتهم بطريقةٍ تؤدي إلى (الإعذار إلى الله سُبحانه يوم تلقاه). إنَّ هؤلاء جميعاً، ومعهم أولئك المُحتاجون الذين يرفضون التسول، هم من يجب على الوالي مساعدتهم، وأن يُعيِّن لهم أحدَ ثِقاتهِ من أهلِ الخَشية والتواضع ليرفع إليه أمورهم. ثمَّ يُضيف الكليات الحاسمة: (وَذَلِكَ عَلَی الْوُلاةِ ثَقِيلٌ وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللِّهَ لَهُمْ). ولعلَّ هذا من أقوى مصادیق رعاية الإمام (عليه السلام) لحقوق الإنسان، أيَّ إنسان، في ظلِّ إدارة دولتهِ وسياستها الذي أوضح جانباً منها عهده إلى مالكِ الأشتر (رضي الله عنه).

ما نريد تسليط الضوء عليه هنا هو أنَّ العنصر الروحي هو ما يجعل الشيء المثالي شيئاً عملياً؛ ولولا ذلك لأصبح (حملاً ثقيلاً): المساعدة الإلهية مضمونة لأولئك الذين لا يقتصر اهتمامهم على هذهِ الدنيا فقط، ولكنَّ طلباتهم تتعدَّى حدودها لتعبر إلى الدار الآخرة. وعندما ننظر إلى هذهِ الدنيا على أنَّها ممر إلى الآخرة فحسب، يبرز لدينا موقف تجاه الدنيا يتَّسم بالعدل الكامل. أمَّا أولئك الذين لا تخرج حدود طلباتهم خارج هذهِ الدنيا فإنَّهم سيكونون ضحية خيار إهمال الفقراء السهل - لأنَّه، وطبقاً للمقاییس الأفقية للتقييم السياسي، فإنَّ تكاليف إتّباع سياسة الصدقات تجاه الفقراء والمُحتاجين قد تفوق في وزنها، بالنسبة إلى الوالي، ما يتأتَّى إليهِ من منافع. ويكون ذلك حيثما كانت السياسة الأخلاقية مرتبطة بتقدير حصري لهذهِ الدنيا، أو بسياسات براغاتية(104) Pragmatism

ص: 239

أو مصالح شخصية، وتكشف عن عيوب موروثة بعينها. لكن، إذا ما كان مفهوم الحق في ما يتعلَّق بالفقراء مُشبعاً بإیمان ثابت بعدالةِ الله (سبحانه وتعالى) لا تلين ورحمة تَسَع كلَّ شيء وتفيض بطلب الآخرة، عندها سيتولَّد موقف من الوفاء الثابت لحاجات الفقراء والمساكين في المجتمع، تحقيقاً لضمان حقوق الإنسان فيه، بل سيستمر في توالدهِ إلى ما لا نهاية.

إنَّ مثل هذا الموقف يذهب بعيداً خارج نطاق المفاهيم المعهودة للصداقة أو الكَرَم. لأنَّ من أدرك هذا الموقف من الكمال لن يكون قابلاً لتقبُّل أيَّ اقتراح معاكس ينبع من براغماتيةٍ أنانية أو فردية، وبصورةٍ أقل من اللامبالاة أو العناد وقوة الشكيمة. بهذا الموقف الثابت في المكان يأتي ذِكْرُ الإمام للصفة التالية، صِفة الاحتمال والصبر، والتي تجري هنا بصورةٍ طبيعية. لأنَّه، في ضوء الاستشعار الملموس، وليس المفهومي فحسب، للقِيَم المُطلقة موضوع البحث، يمكن مدَّ الصبر والاحتمال إلى ما لا نهاية - حيث لا يعود معتمداً على الإرادة الشخصية وحدها، بل يُستَدام بتقوية النعمة التي تجري من إيمانٍ مُستَشعَر بالقلب. ويستكمل الإمام النقطة المذكورة أعلاه بإشارة إلى أولئك الذين لهم طلبات مُحقَّة، ولديهم، كنتيجة لذلك، ثقة عظيمة بحقيقةِ وعد الله (سبحانه وتعالى)، إذا ما كان وعد الله بالجزاء، وبعدالتهِ التي لا تخذل، ورحمتهِ اللامحدودة كونها حقيقة، ثمَّ الدافع وراء جهد الوالي المدِّ الرحمة إلى الفقراء والتعامل معهم بعدالةٍ سيتعمَّق بصورٍ لا تُقاس. وتتحول المهمة التي يصفها الإمام ب(الثقيلة) - أي واجب مساعدة الضعفاء والمساكين، وهي المساعدة التي لا يمكن أن تتأتَّى عنها أيَّةِ منافع سياسية - تتحول إلى واجب لا مفرَّ منه مُلزم لقناعات المرء الروحية. وتجد هذهِ القناعة أو الاعتقاد أرضيةً لها في اليقين بأنَّ مثل هذا الكرم والرحمة هي أمور حَسَنة ومُحقَّة ومناسبة فحسب، بل إنَّ مثل هذهِ الفضائل إنَّما هي في تناغم وانسجام مع الجوهر الصحيح والقريب للحقيقة المُطلقة.

ص: 240

إنّ المضامين (الأخلاقية) للحقيقة - الروحية - والصدى الروحي المتردد للفضيلة أيضاً - محجوبة عن الحُكَّام الدنيويين بتحاملهم المستور في أحسن الأحوال، وبقبائحهم المستورة في أسوأها. ومثل هؤلاء الحُكَّام غافلون أيضاً عن التحذيرات والتهديدات بالعقاب للظالمين. ويمكن النظر إلى الظالِم هنا على أنَّه ذلك الذي يعصي الأوامر الإلهية بالعدل، والذي يخرق أيضاً، وهذا هو المهم أساساً، صفة الرحمة الواقعة في قلب الطبيعة الإلهية(105). هذهِ الصفة التي نادى بها وحاول بيانها وإيضاحها علي بن أبي طالب خلال عهدهِ لواليه على مصر مالِك بن الأشتر النُخعي رضوان الله عليه.

كان (عليه السلام) يُجسِّد العدالة الإنسانية ببُعديها الفردي والإجتماعي، حيث تجلَّت عدالتةِ الإنسان في حدود حياتهِ الفردية وعدالته في مضمار الحكم والسلطة تلك التي نطلق عليها (العدالة الإجتماعية)(106) Social Justice في حياةِ أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام). وعلينا أن نعرف ذلك بنيَّةِ تطبيقهِ عملياً لاسيَّما بالنسبةِ لأولئك الذين تحملون المسؤوليات في المجتمع ويتبوءون موقعاً في الحكومة، فلقد تمثَّلت العدالة الفردية بأعلى درجاتها في شخصية الإمام، وذلك ما نُعبِّر عنه ب(التقوى)، تلك التقوى التي كان (عليه السلام) يُجسِّدها في عملهِ السياسي والعسكري وفي توزيعهِ لبيتِ المال وفي قضائهِ وجميع شؤونهِ. وبالتالي، تمثل العدالة الفردية أو الذاتية في الواقع سنداً للعدالتِ الإجتماعية.

قدَّم الإمام درسه الخالد لكلِّ الذين يُمارسون دوراً على الصعيد السياسي لمجتمعاتهم، فهو (عليه السلام) في هذا المجال يقول: (مَن نَصَّبَ نفسهُ للناسِ إماماً فعليهِ أن يبدأ بتعليم نفسهِ قبل تعليم غيرهِ، وليكن تأديبه بسيرتهِ قبل تأديبه بلسانهِ(107).

إذ بإمكان اللسان النُطق بالكثير، أمَّا ما يأخذ بيدِ الإنسانية لسلوك صراط الله (عز وجل) فهو سيرة وأفعال من يقع عليهِ الاختيار ليكون إماماً للناس سواء على المجتمع أو

ص: 241

أدنى مستوىً من ذلك(108).

ولم يكتفِ الإمام أن يقوم هو بنفسهِ بالعدل، وإنَّما كان يؤكِّد على عمَّالهِ ومن يُولِّيهِ على البلدان والأمصار. حيث قال (عليه السلام) في عهدهِ لمالِك الأشتر: (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ). ومن عهدٍ له (عليه السلام) إلى مُحمَّد بن أبي بكر (رضي الله عنه) (10 - 38 ه / 631 - 658 م) حين قلَّده مصر: (فَاخفِض لَهُم جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُم جَانِبَكَ، وَأبسُط لَهُم وَجهَكَ، وآسِ بَينَهُم فِي اللَّحظَةِ

وَالنَّظرَةِ حَتَّى لا يَطمَعَ العُظَمَءُ فِي حَيفِكَ لَهُم وَلاَ يَيأَسَ الضُّعَفَاءُ مِن عَدلِكَ بِهِم، فَإنَّ اللهَ تَعَالَی يُسَائِلُكُم مَعشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِن أَعمَلِكُم وَالكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالمَستُورَةِ، فَإنْ يُعَذِّبْ فَأنتُم أظلَمُ، وإنْ يَعْفُ فَهُوَ أكرَمُ)(109). ومن كتابٍ لهُ (عليه السلام) إلى الأسود بن قَطِيبَةَ صاحِب حُلوَان: (أمَّا بَعدُ فَإنَّ الوَالِيَ إذَا اختَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ العَدلِ. فَليَكُن

أمرُ النَّاسِ عِندَكَ فِي الحَقِّ سَوَاءً فَإنَّهُ لَيسَ فِي الجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ العَدلِ. فَاجتَنِب مَا تُنكِرُ أمثَالَهُ)(110).

ومن هذا المتقدم يتضح لنا أنَّ آراء الإمام تُعد مقياساً يجب على الكل التفكير والعمل وفقها، والتي يمكن اعتبارها في هذه المسألة المهمة أبرز نموذج لمعرفة معنى العدالة الإجتماعية الحقيقي ومُراعاة المساواة بين الناس وفي العدالة التي من المفترض أن تحكم علاقة الحكومات بشعوبها.

وقد يجوز لنا أن نورد حادثة توضح بشكلٍ جيد تطبيق الإمام الرحيم لمبدأ العدل إضافةً إلى كونها تعبيراً عن مبدأ أشرنا إليه سابقاً وهو أنَّ الناس جميعاً هم (نظيرٌ لك في الخَلق). التقى الإمام مصادفةً متسولاً أعمى عجوزاً، فسأل عنه. فقيل له أنَّ المتسول نصراني، فقال لمن حوله: (لقد استعملتموه، حتَّى أصبح عجوزاً ضعيفاً، وترفضون الآن مساعدته. أعطوه من بيت المال ما يُقيم به أودَهُ)(111). يُضاف إلى ذلك، أنَّ هذهِ الجملة تُعبِّر بإيجاز شديد عن مبدأ المصلحة الإجتماعية الإسلامي، الذي يقوم على إعادة

ص: 242

توزیع عادلة وسياسة من عدم التمييز بين المسلمين وغيرهم بصورةٍ صارمة. فالعدالة الإجتماعية والمساواة الدينية تنبعان منسابتين من الرحمة التي لا يُنظر إليها كأحد المشاعر فقط، بل كبُعد منطبع في الحق. ولذلك، فإنّها تُترجَم إلى واجب ديني أساسي مفروض على كلِّ المسلمين، حُكَّاماً ومواطنين، لا فرق.

وجدير بالذكر أنَّ الجملة الأخيرة من الفقرة المذكورة سابقاً، وهي التي تُحذِّر الحاكم من اعتبار السلطة الممنوحة له على رعاياه، ليست ببساطة امتيازاً، وإنَّها امتحاناً من الله، تُعبِّر بوضوح عن موقف الإمام الخاص من الحُكم. لقد قال في الخطبة الشهيرة ب(الشِقْشِقيَّة) إنَّه لم يقبل بالسلطة إلاَّ لأنَّها واجب لا يمكن التهرب منه: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللُّه عَلَی الْعُلَمَءِ أَنْ لاَ يُقَارُّوا عَلَی كِظَّةِ ظَالِ وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَی غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَطْفَةِ عَنْز)(112).

نرى في ذلك تمثلاً باهراً لموقف أفلاطون المثالي من السلطة؛ السلطة التي يحملها (الفيلسوف) الحق، ذلك الذي يتحمل عبء الحكم من أجل الناس فحسب: (ولا يعتبرها تمييزاً بل مهمة لا مجال لتجنبها... ينصب اهتمامه على الحق وما يستجلبه ذلك من شرف، وفوق ذلك كلَّه، يرعى العدل باعتبارهِ شيئاً لا غِنىً عنه، ومن أجلهِ وأجل ضمان سلامته، يعملون على إعادةِ تنظيم دولته)(113).

وبالتالي، فقد ابتدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) عهده لمالِك الأشتر (رضي الله عنه) بالأمر، بقولهِ: (هَذَا مَا أَمَرَ بهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ). مُشْرِعاً بهذا الأمر يُعدد الواجبات التي ينبغي على مالِك الأشتر القيام بها، والأمور التي عليه مُراعاتها، وحقوق الناس التي يجب تأديتها. مبيناً لهُ أنَّ الحاكم ما هو إلاَّ مسؤول مُؤتمن على حقوق الناس وخدمتهم، وعدل الحاكم هو ما يوجب على الرعية إتباعه. والمُتدبِّر في قراءةِ العهد يجد أنَّ الإمام كان قد أنكر أن

ص: 243

يكون الحاكم والحكومة سلطة مُتجبِّرة مُتسلِّطة على رؤوس الناس، بل أن يكون الحاكم والحكومة في خدمةِ الناس ومُداراتهم، وإلاَّ تحولت الحكومة إلى منصب دنيوي يلهث وراءه كلَّ من يُحب الدنيا ومغرياتها، وكلَّ باحثٍ عن جاه، وهذا ما حذَّر منه الإمام ونبَّه عليه، وخوَّف من عاقبتهِ في الدنيا والآخرة.

وأخيراً، فقد أكَّد الإمام في عهدهِ للأشتر على جملةٍ من القواعد والقوانين التي تُدار وتُحكم من خلالها الدولة، وتُراعي شؤون الرعية، فحينما توجه مالِك لإدارة شؤون مصر كان مزوداً بدستور حكمٍ ناضج ومُكتمل القواعد والشروط، وبما يوفِّر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، مؤكِّداً على عِمَارة البلاد واستصلاحها، والابتعاد عن الطمع وحُبِّ الشهوات، والإلتزام بالذِكر الحَسَن، والعمل الصالح. كما أكَّد (العهد) على الرحمةِ بالرعية واللُطف بهم، وعدم ظُلم الآخرين. وقد أوصى الإمام مالِكاً إلى الحذر من دعوةِ المظلوم، وإلى عدم المساواة بين المُحسِن والمُسِيء، وإلى مُدارسةِ العلماء والحكماء.. وأراد منه أن يُولي اهتماماً خاصاً بذوي الحاجات والمَسْكَنة والفقراء، وأن يعمل على بثِّ العيون لمُراقبة الحُكَّام، وليس مراقبة المحكومين كما تفعل الأنظمة المُستبدة على مرِّ العصور، وأن يعمل على مُداراة اليتامى وكِبار السِّن، والابتعاد عن المَنِّ على الرعية والتواضع ونشر العدل والإنصاف والعفو والصَفح، وقضاء حاجات الناس، وقول الحق، والعمل على نشر المساواة بين الناس.. وموضوعاتٍ أخرى كثيرة وردت في هذا العهد الذي أنفذه الإمام علي إلى مالك الأشتر ليكون دستور حكمٍ يعتمد عليه في حكم مصر.

وهكذا، فإنَّ حقوق الإنسان ليست مجرد شعارات تُطلق فحسب، بل هي أحكام وتقنيات إدارية، كما إنَّها مبادئ جسَّدها رموز الإسلام الكرام في مواقفهم العملية لاسيَّما النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيتهِ الطيبين الطاهرين.

ص: 244

الهوامش:

(1) مفتي، محمد أحمد وسامي صالح الوكيل، حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي.. دراسة مقارنة، (القاهرة، دار النهضة الإسلامية، 1413 ه / 1992 م)، ص 2.

wiki/René Cassin (2) يُعرف الدبلوماسي الفرنسي رينيه كاسان (*) René Samuel Cassin (1887 1976) مصطلح حقوق الإنسان، بقولهِ: (إنَّها فرع من فروع العلوم الإجتماعية تختص بدراسة العلاقات بين الناس استناداً إلى كرامةِ الإنسان بتحديد الحقوق والرخص الضرورية لإزدهار شخصية الكائن الإنساني). السيد برعي، عزت سعيد، حماية حقوق الإنسان في ظلِّ التنظيم الدولي الإقليمي، ط 1، (القاهرة، مطبعة العاصمة، 1985 م)، ص 4.

(*) هو: دبلوماسي فرنسي، أسَّس المعهد الفرنسي للعلوم الإدارية، وشارك في صياغةِ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. تحصل سنة 1968 على جائزة نوبل للسلام Nobel Peace Prize لعملهِ على صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما حصل في نفس العام على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. نُقل رفاته من مقبرة مونبارناس إلى مقبرة العظماء (البانتيون) بباريس خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لمولدهِ سنة 1987 م. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني: /https://en.wikipedia.org -AAV)

(3) إعلان حقوق الإنسان والمواطن The Declaration of the Rights of Man and of the Citizen (French: Déclaration des droits de l'homme et du citoy )en): هو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية في 26 آب / أغسطس 1789 م. يُعتبر الإعلان وثيقة حقوق من وثائق الثورة الفرنسية الأساسية، إذ تُعرَّف

ص: 245

فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة. الإعلان متأثر من فكر التنوير ونظريات العَقد الإجتماعي والحقوق الطبيعية التي قال بها مفكِّرون أمثال: جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1778-1712)، جون لوك John Locke (1632 1704)، فولتير(François-Marie Arouet Voltaire) (1778-1694)، مونتسكيو( Charles-Louis de Secondat Montesquieu) (1689 - 1755). وهو يُشكِّل الخطوة الأولى لصياغةِ الدستور. رغم أنَّ الإعلان حدد حقوق البشر دون استثناء (وليس حقوق المواطنين الفرنسيين فقط) إلاَّ أنَّه لم يُحدد مكانة النساء أو العبودية بشكلٍ واضح. كما أنَّ لمبادئ هذا الإعلان مكانةً دستورية في القانون الفرنسي الحالي.

Jellinek, Georg, The Declaration of the Rights of Man and of Citizens.. A Contribution to Modern Constitutional History, Authorized Translation from the German By: Max Farrand, New York: Henry Holt and Company, 1901, Pp.18-.

(4) مدني، السيد محمد، مسئولية الدولة عن أعمالها المُشرعة.. القوانين واللوائح في القانون المصري.. دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، القاهرة، جامعة فؤاد الأول، كلِّية الحقوق، 1953 م، ص 137؛ کارتر، جوندولين وجون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ترجمة: ماهر نسیم، (القاهرة، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، 1962 م)، ص 78.

(5) السوفسطائية Sophism: كلمة يونانية مشتقة من اللفظة (سفسطة) (سوفيسا (Sophisma، التي تعني الحكمة والحذق. وقد أطلقها الفلاسفة على الحكمة المموهة والحذاقة في الخِطابة أو الفلسفة، كما أُطلقت على كلِّ فلسفةٍ ضعيفة الأساس متهافتة

ص: 246

المبادئ. والسوفسطائية حركة فلسفية غير متكاملة ضمن نظام، ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، ومركزها أثينا، وهي فلسفة عملية تقوم على الإقناع لا على البُرهان العلمي أو المنطقي، وعلى الإدراك الحسِّي والظن، وعلى استعمال قوة الخطابة والبيان والبلاغة والحوار الخِطابي، والقوانين الجدلية الكلامية بهدف الوصول إلى الإقناع بما يُعتقد أنَّه الحقيقة، وبهذا المعنى أصبحت السوفسطائية عنواناً على المُغالطة والجدل العقيم واللعب بالألفاظ وإخفاء الحقيقة. تُعد السوفسطائية دعوةً نسبية شكِّية وتمرداً على العلوم الطبيعية، فقد كانت في صميمها دعوة إلى الاقتصار في تفسير الكون على الظواهر وحدها، من دون الاستعانة بأيِّ مبادئ خارجية أو عوالم أخرى، وكانت أيضاً دعوة ضدَّ (المدرسة الإيلية) التي كانت تبحث عن الحقيقة خارج عالم الظواهر بوصفه عالماً وهمياً، فقد حولت السوفسطائية الفكر من الاهتمام بالطبيعة إلى الاهتمام بالإنسان، وقلبت أسسه، وغيرت معاييره؛ إذ تركت الظواهر الخارجية جانباً وجعلت من الإنسان موضوعاً أساسياً للتفلسف والتفكير قبل الموضوعات الأخرى، فالإنسان الفرد هو معيار الحقيقة. لهذا اهتمت السوفسطائية بالمعرفة والذات والأخلاق. ولم ينبثق السوفسطائيون (المغالطون) عن تيارٍ فلسفي واحد، بل عن مدارس فلسفية مختلفة، وكان نعت «مغالط» أو سوفسطائي يعني وصمة الإزدراء والطعن والنقد، بيد أنَّ بعض الباحثين عدوا المغالطين الأُوَل رجالاً أجلاء محترمين لهم كلمتهم المسموعة ورأيهم النافذ في وطنهم، أخذوا على عاتقهم عبءَ تربية الأحداث وسعوا إلى تهيئةِ رجال الدولة. وكان من أشهر أعلام السوفسطائية: پروتاگوراس Protagoras و گورگیاس Gorgias و هیپیاس -Hip pias وپرودیکوس Prodicus وپولوس Polos. يُنظر: ستيس، ولتر، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، (القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984 م)، ص ص 97 - 112.

ص: 247

(6 ) Wylen, Stephen M., The Jews in the Time of Jesus: An Introduction, New York: Paulist Press, 1995, Pp. 190192-.

(7) The Roots of Liberty.. Magna Carta, Ancient Constitution, and the Anglo American Tradition of Rule of Law, Edited by: Ellis Sandoz, Columbia:

University of Missouri Press, 1993.

(8) عطية، نعيم، القانون والقيم الإجتماعية.. دراسة في الفلسفة القانونية، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971 م)، ص 30.

(9) متولي، عبد الحميد، الحريات العامة.. نظرات في تطوراتها وضماناتها ومستقبلها، (الإسكندرية، منشأة المعارف، 1975 م)، ص 30.

(10) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، (القاهرة، دار الموقف العربي، د.ت.)، ص 82.

(11) المرجع نفسه.

(12) کارتر، جوندولين وجون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ص 77.

(13) هي: ثورة قامت في المُستعمرات البريطانية الثلاثة عشر الواقعة في أمريكا الشمالية والتي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية خلال القرن الثامن عشر، وقد استوطنها مهاجرون بالساحل الشرقي من أمريكا الشمالية رأوا من حقهم الانفصال عن الإنكليز وتسيير أمورهم بأنفسهم. بدأت الثورة في 19 / أبريل / 1775 م عندما اصطدم البريطانيون بالثوار الأمريكيين في مدينتي لكسنجتون Lexington وكونكورد Concord في ولاية ماساشوسيتس Massachusetts، واستمرت ثماني سنوات وانتهت في 3 / سبتمبر/ 1783 م، عند توقيع معاهدة باريس بين بريطانيا والولايات المتحدة التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة. لمزيد من

ص: 248

التفاصيل، يُنظر: أبو عليه، عبد الفتاح حسن، تاريخ الأمريكيتين والتكوين السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، (الرياض، دار المريخ للنشر، 1407 ه / 1987 م)، ص ص 48 - 81؛ Shalhope, Robert E., Toward a Republican Synthesis: The Emergence of an Understanding of Republicanism in American Historiography, The William and Mary Quarterly, 3rd Ser., Vol. 29, No. 1. (Jan., 1972). Pp.4980-; Boatner, Mark Mayo III, Encyclopedia of the American Revolution, 2ed, New York:

Charles Scribners and Sons, (1974); Gray, Edward G., and Jane Kamensky, eds. The Oxford Handbook of the American Revolution, (2013); Bailyn, Bernard, The Ideological Origins of the American Revolution, Harvard University Press, (1967).

(14) إعلان الاستقلال الأمريكي The Declaration of Independence: هو و تبناها الكونغرس القاري في 4 / يوليو/ 1776، لتُعلن أنَّ المستعمرات الأمريكية الثلاثة عشر المتحاربة مع بريطانيا العظمى قد أصبحت ولايات مستقلة، وبالتالي لم تعد جزءً من الإمبراطورية البريطانية. مكتوب بشكل رئيسي بواسطة توماس جيفرسون Thomas Jefferson (1743-1826)، يُعتبر الإعلان تفسيراً رسمياً لأسباب تصويت الكونغرس في 2 / يوليو لصالح إعلان الاستقلال عن بريطانيا العظمى، بعد مرور أكثر من عام على اندلاع حرب الاستقلال الأمريكية. عيد ميلاد الولايات المتحدة الأمريكية - يوم الاستقلال - يُحتفل بهِ في 4 / يوليو، يوم اعتماد الكونغرس صيغة الإعلان. بعد إتمام النص في 4 / يوليو، أصدر الكونغرس إعلان الاستقلال على أكثر من صورة. فوزع بدايةً كإعلانٍ مطبوع وزِّع على نطاقٍ واسع وتُليت على مسامع الجمهور. أشهر نسخة من الإعلان، هي النسخة الموقعة التي

ص: 249

تُعتبر إعلان الاستقلال الرسمي، وهي معروضة في الأرشيف الوطني في واشنطن العاصمة. بالرغم من الموافقة على الإعلان في الرابع من يوليو، إلاَّ أنَّ تاريخ التوقيع عليه هو محل جدل، وقد خلص معظم المؤرخين إلى أنَّ الوثيقة قد وقع عليها تقريباً بعد شهرٍ من تبنِّيها، في 2 / أغسطس / 1776، وليس في 4 / يوليو كما المُعتقد السائد. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني:

https://en.wikipedia.org/wiki/United_States_Declaration_of_Independence

(15) العمري، أحمد سويلم، مجال الرأي العام والإعلام، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1957 م)، ص 84.

(16) کارتر، جوندولين وجون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ص 75.

(17) الحركات الإجتماعية: هي تلك الجهود المُنظَّمة التي يبذلها مجموعة من المواطنين بهدف تغيير الأوضاع، أو السياسات، أو الهياكل القائمة لتكون أكثر اقتراباً من القِيَم الفلسفية العليا التي تؤمن بها الحركة. وبالرغم من تراجع مفهوم (الحركة الاجتماعية) خلال العَقدين الأخيرين في العلوم الإجتماعية كمفهوم تحليلي لصالح مفهوم (المجتمع المدني)، فإنَّ هناك من لا يزال يدافع عنه من المُفكِّرين المرموقين، منهم على سبيل المثال عالم الإجتماع الفرنسي آلان تورين Alain Touraine الذي يبني دفاعه عن مفهوم الحركة الإجتماعية على أساس موقفهِ النقدي الرافض لفكر ما بعد الحداثة الذي أعلن انتهاءها لصالح النسبية وتفضيلاً لمفهوم الجماعات المدنية المُتنازعة في المجال العام التي تُدير نزاعاتها عِبرَ آلية التفاوض المستمر وليس الحركات الواسعة الأيدلوجية، فقد انصب نقد تورين على ما بعد الحداثة باعتبارهِ فكراً هداماً للنموذج العقلاني الذي وصلت إليه المجتمعات الحديثة عِبرَ نضالاتٍ مريرة على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي يقوم بالأساس على

ص: 250

السعي لبناء إجماع رشيد. وبالتالي فإنَّ هدف الحركة الإجتماعية الحديثة عند ألان تورين هو تحرير الذات التي تُمثل إليه مفهوم الفاعل الإجتماعي، أي المفهوم الذي يجعل للعلاقة الإجتماعية بعداً أصيلاً في الفرد. كما يؤكِّد تورين أنَّ الحركة الإجتماعية تكون عن وعي الأفراد بذواتهم في غنىً عن تشكل نِقابة سياسية من أجل الدفاع عن مطالبهم. يقول تورين: (الحركة الإجتماعية الجديدة: لا تتشكَّل بالعمل السياسي والصِدام، ولكن بتأثيرها في الرأي العام). ولا يبدو أنَّ هناك تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم الحركة الإجتماعية، حيث يتسع حيناً ليشمل في طياته مختلف المسارات أو السيرورات الإجتماعية مهما تنوعت أو تعددت، ويضيق حيناً آخر؛ بحيث يُشير فقط إلى سلوكٍ جمعي له فرادة تميزه، وله بناء وتنظيم وقيادة، ويهدف إلى تغيير الأوضاع القائمة، أو تغيير بعض جوانبها الأساسية على الأقل. وثمَّة تصنيفات عديدة للحركات الإجتماعية، فالبعض يُصنفها إلى حركاتٍ ريفية وأخرى حضرية، أو حرکاتٍ قومية وأخرى عالمية، وغير ذلك من التصنيفات التي تستند إلى أُسسٍ فئوية أو عرقية. ويرى كل من ريمون بودون Raymond Boudon و فرانسوا بوریکو Francois Bourricaud أنَّ الحركات الإجتماعية تتشكَّل في الفترات التي تُعاني فيها المجتمعات من أزمة، وتُسهم هذهِ الحركات في عملية التغيير وتجاوز الأزمة. زهران، فريد، الحركات الإجتماعية الجديدة، ط 1، (القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2007 م)، ص ص 27 - 32.

(18) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص 115.

(19) بدوي، ثروت، النُظُم السياسية، (القاهرة، دار النهضة العربية، د.ت.)، ص 325.

(20) والذي يمثل بدء الجمهورية الخامسة في فرنسا. هذا الدستور الذي وضع قيد التنفيذ في 5 / تشرين الأول / 1908 م. حيث نشأت الجمهورية الفرنسية الخامسة

ص: 251

على أنقاض الجمهورية الفرنسية الرابعة مُستبدلةً الحكومة البرلمانية بنظامٍ نصف رئاسي. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني: https://en.wikipedia.org/wiki/French_Fifth_Republic

(21) حسنين، علي محمد، رقابة الأمة على الحُکَّام.. دراسة مقارنة بين الشريعة ونُظُم الحكم الوضعية، (دمشق، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 1988 م)، ص 51.

(22) عصر التنوير: هي حركة سياسية، إجتماعية، ثقافية وفلسفية واسعة، تطورت بشكلٍ ملحوظ في القرن الثامن عشر الميلادي في أوربا. نشأت في إنكلترا ولكن التطور الحقيقي كان في فرنسا. وتحول مفهوم التنوير ليشمل بشكل عام أيَّ شكلٍ من أشكال الفكر الذي يريد تنوير عقول من الظلام والجهل والخرافة، مستفيداً من نقدٍ العقل ومُساهمةٍ للعلوم. لمزيد من التفاصيل، يُنظر: صالح، هاشم، مدخل إلى التنوير الأوروبي، (بیروت، دار الطليعة، 2005 م).

(23) کارتر، جوندولين و جون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ص 77.

(24) منظَّمة عالمية تضم في عضويتها جميع دول العالم المُستقلة تقريباً. تأسَّست مُنظَّمة الأمم المتحدة بتاريخ 26 / أكتوبر / 1945 في مدينةِ سان فرانسیسکو -San Fran cisco، كاليفورنيا California الأمريكية، تبعاً لمؤتمر دو مبارتون أو كس The Dumbarton Oaks Conference الذي عُقِدَ في العاصمة واشنطن Washington D.C.. من 1919 إلى 1945 كان يوجد مُنظَّمة شبيهة بمنظَّمة الأمم المتحدة تُدعى عصبة الأمم The League of Nations، إلاَّ أنَّها فشلت في مهامها خصوصاً بعد قيام الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى نشوء الأمم المتحدة بعد انتصار الحلفاء The Allies of World War II، وتمَّ إلغاء عصبة الأمم. وعضوية الأمم المتحدة مفتوحة أمام كل الدول المُحبة للسلام التي تقبل التزامات میثاق الأمم المتحدة وحكمها.

ص: 252

ومنذ 14 تموز من سنة 2011 بعد تقسيم السودان أصبح هناك (193) دولة كأعضاء في المنظَّمة. إنَّ السعي لتوفير حقوق الإنسان كان أحد أهم الأسباب التي قامت من أجلها الأمم المتحدة. حيث أدت الأعمال الوحشية والإبادة الجماعية في الحرب العالمية الثانية إلى إجماع عام على أن تعمل الأمم المتحدة ما بوسعها لمنع مثل هكذا مآسي في المستقبل. هذا الهدف المُبكِّر أصبح يمثل إطاراً قانونياً لاحتواء وحل الشكاوى المُتعلِّقة بانتهاكاتِ حقوق الإنسان. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر: هانیماكي، يوسي إم، الأمم المتحدة.. مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: محمد فتحي خضر، ط 1، (القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013 م)، ص ص 15 - 30.

(25) يُنظر الموقع الإلكتروني: http://www.un.org/en/sections/un-charter/introductory-note/index.html

(26) المرجع نفسه.

(27) حسنين، رقابة الأمة على الحُكَّام، ص 109؛ ولمزيدٍ من التفاصيل حول هذهِ الاتفاقيات، يُنظر: وفيق، محمد، موسوعة حقوق الإنسان، (القاهرة، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، 1970 م).

(28) مدني، مسئولية الدولة عن أعمالها المُشرعة، ص 128.

(29) يُعتبر کتاب (اللفياثان) الذي ألَّفه عالم الرياضيات والفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز سنة 1651 م من الكتب المؤسِّسة النظرية فلسفة الدولة، ولعلَّه الأكثر تأثيراً في السياسة بعد كتاب (الأمير) لمكيافيلي، وتقوم فكرة الكتاب على أنَّ البشر أنشأوا تقالید سیاسية للحكم والدولة استناداً إلى قدراتهم ومخاوفهم وطبائعهم الخاصة، وليس بناءً على الغيب. واللفياثان هو كائن خرافي له رأس تنين وجسد

ص: 253

أفعى يستعمله (هوبز) ليصور سلطة الحاكم أو الدولة التي يستبدل بها الناس ضمن عقدٍ إجتماعی جدید سلطة الدين أو اللاهوت. تحدث (هوبز) في القسم الأول من الكتاب عن الأجسام وحركتها في العالم الطبيعي، وتحدث في القسم الثاني الأكبر عن الدولة المدينة، وتحدث في القسم الثالث عن الدولة المسيحية، ليتوصل إلى ضرورة أن تخضع الكنيسة للدولة وليس العكس، وفي القسم الرابع (مملكة الظلام) يتحدث عن مساوئ الدولة الدينية، وعن مخالفتها للعهد القديم والعهد الجديد. ويُعلِّق (رضوان السيد) على الكتاب بالقول: (إنَّ هوبز أخذ بالفكرة السائدة للعقد الإجتماعي، ولكنه أفرغه من مضمونهِ حين اعتبره مؤداً لا رجعة فيه ولا تعديل ولا مسؤولية، وحين ربطه بخطأ في الطبيعة البشرية يستحيل إجراؤه إلاَّ بهذهِ الطريقة، وبذلك تسود النظام الهوبزي جبرية مطلقة يؤسِّسها الفيلسوف على فرضياتٍ يعتقد أنَّها في يقينها مثل مسلَّمات الرياضة والهندسة. وطبيعي وسط ازدهار أفكار الديمقراطيات وممارساتها أن لا يأخذ أحد اليوم نظرة (هوبز) عن الدولة بالاعتبار، ولكنه يظل مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الحديث، وصرخةً في وجه الاضطراب السياسي، ودعوةً السلطةٍ واحدة في المجتمع الواحد). يُنظر: هوبز، توماس، اللفياثان.. الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حبیب حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم: رضوان السيد، ط 1، (أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 1932 ه / 2011 م)، صص 15 - 16، مقدمة المُراجِع.

(30) المرجع نفسه، ص 54.

(31) الغزالي، محمد، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، ط 4، (القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2005 م)، ص 11.

(32) الريسوني، أحمد وآخرون، حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة، ط 1، (قطر،

ص: 254

وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1423 ه)، ص 40 وما بعدها.

(33) الحقيل، سلیمان بن عبد الرحمن محمد، حقوق الإنسان في الإسلام والرد على الشُبهات المثارة حولها، (الرياض، 1415 ه / 1994 م)، ص ص 30 - 31.

(34) الريسوني، حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة، ص 63.

(35) الحقيل، حقوق الإنسان في الإسلام والرد على الشُبهات المثارة حولها، ص 33 وما بعدها؛ ويُنظر كذلك: الفتلاوي، سهيل حسین، حقوق الإنسان في الإسلام.. دراسة مقارنة في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، (بیروت، دار الفكر العربي، 2001 م).

(36) لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر: عبد الحسين، شذى عبد الصاحب، مجتمع المدينة من خلال القرآن الكريم.. الجوانب السياسية والإجتماعية.. دراسة تأريخية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة ديالى، كلِّية التربية، 2005 م، ص ص 74 - 83.

(37) الزعبي، فاروق فالح، (حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي.. دراسة تحليلية مقارنة)، مجلَّة الحقوق، مجلس النشر العلمي، الكويت، العدد 4، السنة 29، ذو القعدة 1436 ه / ديسمبر 2005 م، ص 112.

(38) المرجع نفسه، ص 115.

(39) الرشيدي، أحمد وعدنان السيد حسين، حقوق الإنسان في الوطن العربي، (دمشق، دار الفكر، 2002 م)، ص 18.

(40) السيد حسين، عدنان، حقوق الإنسان في الإسلام، ط 1، (بیروت، المؤسَّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1426 ه / 2009 م)، ص 316.

(41) Dhalla, Maneckji Nusservanji, Our Perfecting World: Zarathushtra's

ص: 255

Way of Life, New York: Kessinger Publishing LLC., 2008, p.211.

(42) ط 2، (بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 م).

(43) ط 2، (القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2006م).

(44) هو: محمود محمد طه، مُفکِّر و مؤلِّف و سیاسي سوداني (1909 - 1985). أسس مع آخرين الحزب الجمهوري السوداني عام 1945 کحزب سياسي يدعو لإستقلال السودان والنظام الجمهوري، وبعد اعتکافٍ طويل خرج منه في أكتوبر 1951 أعلن مجموعةً من الأفكار الدينية والسياسية سمَّی مجموعها بالفكرة الجمهورية. أخذ الكثير من العلماء مختلفي المذاهب الكثير على الفكرة الجمهورية وعارضوها ورماه بعضهم بالردة عن الإسلام وحوكم بها مرتين، أُعدم في أخراهما في يناير 1985 في أواخر عهد الرئيس جعفر نميري. عُرف بين أتباعهِ ومُحبيه بلقب (الأستاذ). ما زال الحزب الجمهوري ينشر فكره وما زال معارضوه ينشرون الكتب والفتاوى المضادة. لمزيدٍ من التفاصيل، یُنظر: بشیر، محمد عمر، تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900 - 1969)، ترجمة: هنري رياض وآخرون، (الخرطوم، الدار السودانية للكتاب، 1600 ه / 1980 م)، ص ص 239 - 260.

(45) المالكي، فاضل، حقوق الإنسان، (طهران، مؤسَّسة البحوث والدراسات الإسلامية، 2012 م)، ص 11.

(46) المرجع نفسه، ص 14.

(47) المرجع نفسه، ص 15.

(48) شريعتي، روح الله، فقه التعايش.. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.. حقوقهم وواجباتهم، تعريب: علي آل دهر الجزائري، (بیروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر

ص: 256

الإسلامي، 2009 م)، ص 14.

(49) للإطلاع على سبب نزول هذهِ الآية وتفسيرها، يُنظر: الشيرازي، ناصر مکارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، (بیروت، مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات، 2007 م)، ج 2، ص ص 91 - 95.

(50) ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، د.ت.)، ج 2، ص 102.

(51) المالكي، حقوق الإنسان، ص 201. (52) عن وثيقة المدينة والدراسات التي قُدمت حولها، يُنظر: مركز دراسات الكوفة، وثيقة المدينة، (الأعمال الكاملة لأبحاث المؤتمر العلمي السنوي الأول لمركز دراسات الكوفة، شباط / 2012 م)، النجف، مؤسَّسة النبراس للطباعة والنشر والتوزيع، 2012 م، 3 ج.

(53) الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله مُحمَّد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المُستدرك على الصحيحين، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1990 م)، ج 1، ص 171.

(54) المجلسي، مُحمَّد باقر (ت 1111 ھ / 1698 م)، بحار الأنوار، تحقیق: عبد القادر عطا، بیروت، مؤسَّسة الوفاء، د.ت.)، ج 1، ص 171.

(55) البخاري، أبو عبد الله مُحمَّد بن إسماعيل (ت 256 ه / 870 م)، الأدب المفرد، تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط 3، (بیروت، دار البشائر الإسلامية، 1409 ه / 1989 م)، ج 1، ص 76.

(56) الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت 360 ه / 918 م)، المعجم الوسيط، تحقیق: طارق عوض الله، (القاهرة، دار الحرمين، 1415 ه / 1995 م)، ج 2،

ص: 257

ص 297.

(57) للمزيد عن عهد الإمام مالك الأشتر، يُنظر: سوادي، فليح، عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليهِ على مصر مالك الأشتر، (النجف الأشرف، العتبة العلوية، 2010 م).

(58) لمزيدٍ من التفاصيل حول رسالة الحقوق وشرحها، يُنظر: القبانجي، حسن السيد علي، شرح رسالة الحقوق، ط 3، (قم، مطبعة إسماعیلیان، 1416 ه / 1996 م)، ج 2 - 3.

(59) Sandoz, Ellis, The Roots of Liberty, London: Liberty Fund Inc.; Liberty Fund Ed edition, p.81.

(60) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص 82.

(61) العمري، أحمد سويلم، مجال الرأي العام والإعلام، ص 84.

(62) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص 115.

(63) الجدة، رعد ناجي وآخرون، حقوق الإنسان والديمقراطية، (بغداد، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 2009 م)، ص 43.

(64) شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحُسين.. ظروفها الإجتماعية وآثارها الإنسانية، (قم، مطبعة ستارة، 2006 م)، ص ص 109 - 110.

(65) المرجع نفسه، ص 197.

(66) للإطلاع على تفاصيل تلك الثورات وظروفها، يُنظر: عكله، مثال حسن، الثورات العلوية الشعبية في العراق وأثرها في نشوء الفرق الإسلامية حتَّى عام

ص: 258

334 ه، رسالة ماجستير غير منشورة، كلِّية التربية، الجامعة المستنصرية، 2010 م؛ وعن ثورة زيد بن علي أسبابها وظروفها ومجريات أحداثها، يُنظر: المقرم، عبد الرزاق الموسوي، زيد الشهيد بن علي بن الحُسين بن علي بن أبي طالب، (قم، مطبعة شریعت، 1427 ه / 2006 م).

(67) العذاري، محمد عبد الرضا، واقعة فخ سنة 169 ه.. أسبابها ونتائجها، رسالة ماجستير غير منشورة، كلِّية التربية، الجامعة المستنصرية، 2009 م، ص 15.

(68) أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين بن مُحمَّد (ت 356 ه / 967 م)، مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صقر، (طهران، منشورات ذي القربی، 1425 ه / 2004 م)، ص 188.

(69) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 ه / 923 م)، تاريخ الرُسُل والملوك، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (القاهرة، دار المعارف، 1979 م)، ج 8، ص 104.

(70) عن تلك الثورات، يُنظر: عكله، حسن، مرجع سابق.

(71) عن ثورة الزنج وأسبابها ومجريات أحداثها، يُنظر: السامر، فيصل، ثورة الزنج، ط 2، (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2012 م).

(72) الوائلي، أحمد، ديوان الوائلي، شرح وتدقيق: سمير شيخ الأرض، ط 1، (بیروت، مؤسَّسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع، 1428 ه / 2007 م)، ص ص 82 - 83.

(73) جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية .. علي وحقوق الإنسان، (البحرين، دار ومكتبة صعصعة، 1423 ه / 2003 م)، ج 1، ص 105.

(74) هو: أبو الحسن مُحمَّد بن الحسين بن موسى الرضي العلوي الحُسيني الموسوي (359 - 406 ه / 970 - 1015 م). أشعر الطالبيين، على كثرةِ المجيدين فيهم.

ص: 259

مولده ووفاته في بغداد. انتهت إليه نقابة الأشراف في حياةِ والدهِ. وخلع عليه بالسواد، وجُدد له التقليد سنة 403 ه. له: (ديوان شعر) في مُجلَّدين، وكتب، منها: (المجازات النبوية)؛ (مجاز القرآن) باسم (تلخیص البيان عن مجاز القرآن)؛ (مختار شعر الصابئ)؛ (مجموعة ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابئ من الرسائل) طُبعت باسم (رسائل الصابئ والشريف الرضي)، (حقائق التأويل في متشابه التنزيل)؛ (خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب). وشعره من الطبقةِ الأولى رصفاً وبياناً وإبداعاً. يُنظر: ابن خلِّکان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن مُحمَّد بن أبي بكر (ت 681 ه / 1282 م)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقیق: إحسان عباس، (بیروت، دار صادر، 1968 م)، ج 4، ص ص 414 - 420؛ الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط 15، بیروت، دار العلم للملايين، 2002 م)، ج 6، ص 99.

(75) یُنظر على سبيل، ما ذكره ابن خلِّكان ضمن ترجمته للشريف المرتضى، ما نصه: (وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، هل هو جَمْعهُ أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنَّه ليس من کلام علي، وإنَّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه). وفيات الأعيان، ج 3، ص 313.

(76) يُنظر: مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة.. محاولة لفهمٍ جدید، تحقیق: سامي الغريري، ط 1، (قم، دار الكتاب الإسلامي، 1425 ه / 2005 م)، 6 ج؛ الخطيب، عبد الزهراء الحُسيني، مصادر نهج البلاغة وأسانیده، ط 3، (بیروت، دار الأضواء، 1405 ه / 1985 م)؛ الجلالي، محمد حسين الحُسيني، مُسندَ نهج البلاغة، ط 1، (قم، مكتبة العلاَّمة المجلسي، 1431 ه)، 3 ج؛ الجبوري، حیدر کاظم، مصادر الدراسة عن نهج البلاغة، (النجف الأشرف، العتبة العلوية المقدسة، 2013 م).

(77) نعمة، عبد الله، مصادر نهج البلاغة، (بیروت، مطابع دار الهدى،

ص: 260

1392 ه / 1972 م)، ص ص 28 - 35.

(78) الطوسي، أبو جعفر مُحمَّد بن الحسن (ت 460 ه / 1028 م)، اختیار معرفة الرجال المعروف ب(رجال الكشِّي)، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، (قم، مؤسَّسة النشر الإسلامي، 1427 ه)، ج 2، ص 489.

(79) جيلي، مختار، (نهج البلاغة)، طهران، الموسوعة الإسلامية، ط 2، م 7، ص 904.

(80) بیضون، لبيب، تصنیف نهج البلاغة، ط 2، (طهران، مكتب الإعلام الإسلامي، 1408 ه)، ص 41.

(81) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، (بیروت، دار المعرفة، د.ت.)، ج 1، ص 4.

(82) بیضون، تصنیف نهج البلاغة، ص 42.

(83) الخراساني، جواد المصطفوي، الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه، (طهران، دار الكتب الإسلامية، د.ت.).

(84) Wadād Al-Qādī, An Early Fatimid Political Document, Studia Islamica, N48, 1978, Pp.71108-.

(85) کاظمي، رضا شاه، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ط 1، (بیروت، دار الساقي ومعهد الدراسات الإسماعيلية، 2009 م)، ص ص 106 - 107.

(86) هذهِ إشارة إلى عمار بن یاسر (رضي الله عنه) الذي قُتل على أيدي قوات معاوية في صفِّين. وشکَّل مقتل عمار صفعةً معنوية كبيرة لجيش معاوية، إذا ما تذكرنا نبوءة النبي بأنَّ الفئة الباغية ستقتل عماراً. يُنظر: القشيري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 2691 ه / 875 م)، صحیح مسلم، تحقیق: نظر محمد الفاريابي، ط 1، الرياض، دار طيبة، 1427 ه / 2006 م)، حديث رقم (2916)، م 2، ص 1333.

ص: 261

ذکر مسلم عن أمِّ سلمة (رضي الله عنها) أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمار بن یاسر: (تَقتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ).

(87) الطبري، أبو جعفر مُحمَّد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)، تاریخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، (القاهرة، دار المعارف، د.ت.)، ج 5، ص 96.

(88) ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المعتزلي (ت 656 ه / 1208 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1385 ه / 1965 م)، ج 6، ص 77.

(89) الآمدي، أبو الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن مُحمَّد بن عبد الواحد التميمي (ت ق 6 ه / 12 م)، غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، تحقيق: حسين الأعلمي، ط 1، (بیروت، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، 1422 ه / 2002 م)، ص 120.

(90) المصدر نفسه، ص 42.

(91) جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج 1، ص ص 111 - 112.

(92) هذا حديثٌ قُدسي، أي حديث إلهي نطق بهِ النبي. يُنظر: ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق: عبد القادر شيبة الحَمَد، ط 1، (الرياض، 1421 ه / 2001 م)، ج 13، ص 449، حديث رقم (7179).

(93) الآمدي، غُرَ الحِکَم ودُرَر الكَلِم، ص 111.

(94) المصدر نفسه، ص 238.

ص: 262

(95) المصدر نفسه، ص 38.

(96) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 84.

(97) کاظمي، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ص 134.

(98) لمزيد من التفاصيل حول موضوع الرحمة في الإسلام، يُنظر: أعمال المؤتمر الدولي حول (الرحمة في الإسلام)، الذي أقامته جامعة الملك سعود، كلِّية التربية، قسم الدراسات الإسلامية، الرياض، 1430 ه، 13 مُجلَّد.

(99) الفخر الرازي، أبو عبد الله مُحمَّد بن عمر بن الحسن الطبرستاني القَرَشي (ت 604 ه / 1208 م)، تفسير الفخر الرازي المُشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، ط 1، (بیروت، دار الفكر، 1401 ه / 1981 م)، ج 9، ص 66.

(100) القشيري، صحیح مسلم، حديث رقم (2594)، م 2، ص 1203.

(101) المالكي، فاضل، حقوق الإنسان، ط 1، (مؤسَّسة البحوث والدراسات الإسلامية / دار الفكر، 1432 ه)، موسوعة المحاضرات الإسلامية، ص ص 15 - 18.

(102) نقصد بهذهِ الفقرة، ما نصه من كتاب الإمام مالك الأشتر: (اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِینِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَّاً. وَاحْفَظِ للهَّ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِ الإِسْلَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ للِأَقْصَ مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للِأَدْنَى. وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ وَلا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ

ص: 263

باِلإِعْذَارِ إِلَی اللهَّ يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللِّهَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ. وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنّْ لا حِيلَةَ لَهُ وَلا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ عَلَی الْوُلاةِ ثَقِيلٌ وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ. وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللُّهَ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ). عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص ص 100 - 101.

(103) الزَّمني: بفتح أولهِ، جمع زمن، وهو المُصاب ب(الزَّمَانَة) بفتح الزاي أي العاهة. يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب. يُنظر حول المعنى: الفيروز آبادي، مجد الدين أبو طاهر مُحمَّد بن يعقوب بن محمد (ت 817 / 1415 م)، معجم القاموس المحيط، تحقیق: خلیل مأمون شيحا، ط 4، (بیروت، دار المعرفة 1430 ه / 2009 م)، ص 573.

(104) المذهب العملي أو فلسفة الذرائع أو البراغماتية Pragmatism: هو مذهب فلسفي سیاسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة؛ رابطاً بين التطبيق والنظرية، حيث أنَّ النظرية يتم استخراجها عِبرَ التطبيق، نشأت هذهِ المدرسة في الولايات المتحدة في أواخر سنة 1878. والبراغماتية اسم مُشتق من اللفظ اليوناني: براغما، ومعناه العمل. تقوم البراغماتية على أنَّ الأثر العملي هو المُحدِّد الأساسي في صِدق المعرفة وصِحَّة الاعتقاد بالحياة الإجتماعية للناس. فالقيمة والحقيقة لا تتحدان إلاَّ في علاقتهما بالممارسة العملية. وتتميز البراغماتية عن الفِعلانية كما حددها الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرز پیرس Charles Sanders Peirce (1839 - 1914). وتشمل البراغماتية كل الحركة الفلسفية المُتعلِّقة بوليام جيمس William James ( 1910-1892 ) وجون ديوي John Dewey (1859 - 1952)، ثمَّ الفلاسفة الجُدد الذين استأنفوا تراثهم الفكري، من مثل: ريتشارد رورتي Richard McKay

ص: 264

Rorty ( 2007-1931 ) وهيلاري پوتنام Hilary Whitehall Putnam (1926 - (2016

Pratt, James Bissett, What is Pragmatism?, New York: The MacMillan Company, 1909, Pp.147-.

(105) کاظمي، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ص ص 144 - 145.

(106) هي: نظام اقتصادي - إجتماعي، يهدف إلى إزالة الفوارق الإقتصادية الكبيرة بين طبقات المجتمع. تُسمَّى أحياناً العدالة المدنية، وتصف فكرة المجتمع الذي تسود فيه العدالة في كافة مناحيه، بدلاً من انحصارها في عدالةِ القانون فقط. بشكلٍ عام، تُفهم العدالة الإجتماعية على أنَّها توفير معاملة عادلة وحصة تشاركية من خيرات المجتمع. العدالة الإجتماعية تُشكِّل مادةً خصبة للنقاش في السياسة، والدين، ومحددات المجتمع المُتحضر. من وجهة نظر اليسار، تتمثل العدالة الإجتماعية في النفعية الإقتصادية، وإعادة توزيع الدخل القومي، وتكافؤ الفرص، وغيرها من أمارات المجتمع المدني.

من أبرز نظريات العدالة الإجتماعية تعود للفيلسوف الأمريكي الليبرالي جون رولس John Bordley Rawls (1921 - 2002) التي اعتمد فيها على تبصرات الفيلسوفان النفعيان جيرمي بينثام Jeremy Bentham(1748 - 1832) وجون ستيوارت میل John Stuart Mill. ( 1873-1806 )، وأفكار العَقد الإجتماعي عند جون لوك John Locke ( 1704-1632 )، وأفكار إيمانويل كانت Immanuel Kant ( 1804-1724 ). إذ كان أول تعبير له عن نظريتهِ في العدالة الإجتماعية في کتابهِ: (نظرية في العدالة) A Theory of Justice، الذي نُشر عام 1971. جاعلاً من العدالة الإجتماعية فكرةً فلسفية لا سياسية.

Social Justice in an Open World.. The Role of the United Nation, New York:

ص: 265

United Nation, 2006. Pp.1120-.

(107) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 153.

(108) عفراوي، أياد دخیل، سياسة المجتمع عند الإمام علي (عليه السلام)، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة المستنصرية، كلِّية التربية الأساسية، 1437 ه / 2015 م، ص ص 96 - 97.

(109) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 27.

(110) المرجع نفسه، ج 3، ص ص 115 - 116.

(111) الحر العاملي، مُحمَّد بن الحسن (ت 1104 ه / 1693 م)، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، (قم، مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، د.ت.)، ج 11، ص 49.

(112) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص ص 36 - 37.

(113) المنياوي، أحمد، جمهورية أفلاطون.. المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة، ط 1، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2010 م)، ص 205.

ص: 266

دروس ملهمة من الفكر الإسلامي إلى الفكر العالمي في مجال القيمة الروحية للإنسان (وصايا الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجا)

اشارة

أ.م. آمال وهاب عبد الله

جامعة كركوك / كلية القانون والعلوم السياسية / قسم العلوم السياسية

ص: 267

ص: 268

مقدمة:

لا ينكر أن الفكر العالمي الغربي قد ساهم في إرساء قواعد وحقوق الإنسان ببعديها النظري والتطبيقي، إلا أن هذا الفكر قد شابه العديد من التضاربات و التناقضات والتفسيرات الخاصة ما أوقعه في معضلات و أزمات عكست بالتالي ما عرف بأزمة الفكر العالمي المعاصر فحالة اليأس والانهزامية داخل نفوس أكثر أبناء عالم اليوم وهم يعيشون أبشع انتهاك لأدميتهم في ظل حكومات وأنظمة سياسية استبدادية أو ديمقراطيات ديكورية و مؤسسات اقتصادية و اجتماعية تبعية تحطم إنسانيتهم كلما تحركوا لتغيير واقعهم المرير، غير متناسين في الوقت نفسه مجموعات وعاظ السلاطين الذين صاغوا من غير وجه حق مفردات و مبادئ زائفة لإضفاء الشرعية للسلطة الحاكمة. هكذا فقد الإنسان المسلم بوجه خاص حقوقه بين النص و الواقع و القيم العالمية و السمة الخصوصية و الإيان بحقوق الإنسان و ادعاء الدفاع عن تلك الحقوق و إفراغها من محتواها الحقيقي.

وهاهي إشكالية عالم اليوم توجب بنا تحقيق نهضة فكرية و حضارية أصيلة نابعة من واقع مجتمعنا و تقاليدنا وأعرافنا غير النهضة الفكرية و الحضارية المزيفة عند الأمم الأخرى، تلك النهضة التي تستقي أفكارها و مقوماتها من تراثها و تقاليدها و أصول بيئتها الفكرية و الحضارية مستندة بذلك الفكر الإمام علي (عليه السلام) و دعوته ووصاياه لحقوق الإنسان و التي عدت مفردات و مبادئ يمكن دراستها في كل عصر، وإذا لم يتحقق ذلك فإننا سنجد أنفسنا مضطرين إلى قبول الأفكار السياسية الغربية المزيفة و التي لا تنبع من أصول تراثنا و تقاليدنا وهو ما يهدد کیاننا و يجعلنا دوما أن نعيش في فراغ فكري. ويستند البحث إلى فرضية علمية مفادها أن للإمام علي بن ابي طالب ( عليه السلام) فكر مميز لحقوق الإنسان اتسم بالشمولية والعمق تجلت بقواعد حكمه

ص: 269

ووصاياه عليه السلام و قد امتاز هذا الفكر بمبادئ رصينة تتساوق في إي زمان و مکان نظرا لما تحتويه من قیم روحانية و مسؤولية كبيرة في بناء فكر عالمي أنساني قادر على تحقيق و بناء الاستقرار العالمي، وعليه قسمت الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسة:-

أولا:- حقوق الإنسان وأزمة الفكر العالمي المعاصر

كما هو معلوم أن الفكر الغربي الذي بسط نفوذه في أصقاع واسعة من العالم قد أصبح بحكم الأمر الواقع الفكر العالمي المعاصر، كما أن الحضارة العالمية الحديثة التي هي الأخرى انعکاس مکبر للحضارة الغربية قد قامت على فلسفة تستمد مقوماتها من هذا الفكر العالمي الذي نحن بصدده والذي له آراؤه في الإنسان و الكون والحياة. وليس بخاف على كل متتبع للفكر العالمي المعاصر وللحضارة الحديثة أنها قد جاءت بأفكار علمية و بوسائل لتجسيدها، الهدف منها الأخذ بيد الإنسان نحو التقدم والسعادة و أن الأفكار و الوسائل التي جاءت بها قد حققت بالفعل تقدما في ميادين العلم و السياسة والاجتماع والاقتصاد والاختراع والتكنولوجيا..... الخ والتي مثلت باجمعها ثورة علمية متقدمة، وكل هذه الأمور لا مجال لإنكارها الا أن الفكر العالمي المعاصر و حضارته التي جاءت تجسيدا لأفكاره قد ظهرت فيها التضاربات والتناقضات والتفسيرات الخاصة مما أوقعتها في معضلات وأزمات عكست بالتالي على ما عرف بأزمة الفكر العالمي المعاصر - ومن هذه النظريات ما صاحب مفاهيم العدالة والحرية من تفسيرات خاصة و غامضة فلقد جاءت الحرية في ظل الفكر والحضارة العالمية التي يحملها على أكتافهم الغربيون جاءت لتعطي حرية من دون قید و مثل هذه الحرية قد أصبحت اقتصاديا حرية الاستغلال، و اجتماعيا حرية أطلاق الغرائز، اما على الصعيد السياسي حرية التسلط و حرية النفوذ السياسي وما صاحبها من حرية الهيمنة والاحتلال العسكري والسياسي

ص: 270

على حد سواء. و هكذا انتهت الحرية لتكون منسجمة كل الانسجام مع مفاهيم الفكر المادي الذي لا يتقيد بضوابط الضمير والأخلاق التي جاءت بها التعاليم الإنسانية للحضارات الدينية والإسلامية على وجه الخصوص والتي ترى في إرساء ضوابط الحر ية نهجا أخلاقيا أساسا لنجاح الحرية المادية.(1)

وعليه بات الفكر الغربي يلاقي صعوبة الاعتدال والتوازن بين ما هو قائم و بين ما يجب أن تقوم عليه حياة الإنسان الذي هو هدف كل الحضارات في القديم و الحديث، والذي يراد له السعادة الطمأنينة و الاستقرار ولقد انعكست صور الاختلال والتوازن بين الفرد والجماعة من جانب و صعوبة التوفيق بين حياة المادية و بين جانبها الروحي من جانب آخر، و هذا ما أدى إلى ظهور تحدیات و أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية أدت بمجملها إلى الانحسار المعنوي لمركز الإنسان الاعتباري، إضافة إلى الصراع بين القوى الدولية لبسط نفوذها و هيمنتها - الصراع المادي - و ما آلت اليه من حروب عالمية و كوارث بشرية تجسدت بصور العوز والفقر و مجتمعات مستبعدة و مستعبدة اجتماعيا واقتصاديا و عنف وإرهاب حصدت أرواح بشرية و تلاشت فيها القيم الروحية والمعنوية لمركز الإنسان، مما أصاب عالم اليوم إعياء و وهن شدیدین.(2)

وفي هذا يقول الدوس هكسلي (أن العالم الآن يشبه قبيلة لعبدة الشيطان، ويعيش في ظل قوانين جديدة قائمة على الشر والحقد و المادية البحتة التي تجرد الإنسان من كل مشاعر الانسان بلا حب بلا تعاطف......) وفي سبيل تقديم العلاج لإمراض الحضارة المعاصرة، يقول هكسلي (أن المثل العليا حقيقة واجبة لاشك فيها لأنها ضرورية للعالم هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على الفلسفة المادية التي أعجب بها هواة الملذات الباحثون على مسرات الحياة بأنواعها.......).(3)

ويتفق هارولد لاسكي مع هكسلي في الامراض التي تعاني الحضارة العالمية المعاصرة،

ص: 271

الا انه يؤكد بوجه خاص؟ أن مصدر الأزمة تكمن في كونها فقدت الثقة بنفسها بحيث لم تعد قادرة على التغلب على عالم الإطماع والخصومات، ويعبر عن فقدان الثقة هذه بقوله): لقد فقدت الحضارة ثقتها في نفسها و إيمانها العميق بحيوية القيم الثقافية السائدة، وعجزت عن تحقيق الرفاه بين عالم المثل الأعلى المتمثل في كتابات الإنسانيين و بين حقائق هذا الواقع الحافل بأهوائه وإطماعه و خصوماته. أن الحضارة تمر بمحنة من محن الشك والخوف والإلحاد وتمييع المعايير الثقافية والقيم الأخلاقية بصورة تنذر بشر مستطير في حياة الفرد وحياة الجماعة).(4)

مما تقدم يتبين أن عالم اليوم بحاجة ماسة إلى نهضة حضارية أصيلة تستقي أفكارها و مقوماتها من أصول عقائدية قائمة على إنسانية القيم والاعتبارات الروحية للإنسان في كافة الميادين والحقول السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية. والأمة كي تستطيع أن تنهض نهضة فكرية و حضارية أصيلة مجددة، لابد لها أن تستمد أصول نهضتها الحديثة من الأصول الفكرية والمرجعيات العلمية الرصينة و خير مثال دراسة و مراجعة أصول الفلسفة السياسية للأمام علي (عليه السلام) خصوصا إذا ما علمنا أن أصول هذا الفكر نابع من منهجية عقائدية متينة قائمة على مبادئ حقوق الإنسان و القائمة على مقومات العدالة الاجتماعية و الحرية و المساواة والمسؤولية و التوازن. فحاجة الإنسان اليوم اشد من أي وقت مضى لتصحيح الاختلال (رجحان كفة الماديات دون الروحیات) وإعادة التوازن ومن المعلوم إن الطريق الأفضل لإعادة التوازن لا يمكن أن يتم الا بقيام فکر يستطيع أن يوازن بين جوانب الحياة المختلفة، بحيث يؤدي إلى فلسفة شاملة للكون والإنسان تتكامل فيها الأجزاء المختلفة من جانب وقادر على توجيه العلم والتقدم نحو الخير في ظل فکر اجتماعي وسياسي يتقيد بقيود الأخلاق والفضيلة ويساعد على توجيه الفكر المادي وجهة إنسانية او يحد على الأقل من التسلط والتنافس والخصم والنفوذ والهيمنة من جهة اخرى.

ص: 272

ثانيا: - مركز الإنسان وحقوقه في فكر الإمام علي (عليه السلام)

(عالمية الفكر السياسي العلوي)

أن المقارنة الموضوعية بين نظرة كل من الفكر العلوي والفكر الغربي إلى الإنسان، تتطلب أولا الوقوف على الينابيع الأساسية التي استمد كل منهما قوته، والتطورات التي مرت بهما بعد ذلك. وبتطبيق ما تقدم على الفكر الغربي نجد أنه و كما يقول المختصون فيه قد استمد قوته و ينابيعه من التراث اليوناني.

وبنظرة سريعة إلى الفكر اليوناني نجد أنه قد استطاع في كثير من جوانبه أن ينقل الإنسان إلى المستوى الذي تتقارب فيه مقوماته مع مستوى الأخلاق الفاضلة. ومن هنا فان من الممكن القول أن الفكر الغربي في بداية انطلاقه قد نظر إلى الإنسان ومتطلبات تفاعله مع ما يحيط به نظرة قائمة على الأخلاق . وان هذه النظرة قد استمرت كذلك الى القرن السادس عشر الميلادي، اي إلى ظهور احد مفكري الغرب المشهورين وهو ماكيافيلي، الذي بظهوره تغير مجری تاريخ الفكر الغربي والسياسي منه بالذات. وقد ظهر هذا التغير نتيجة للآراء التي جاء بها هذا المفكر، والتي جعل الإنسان منها يسير على طرفي نقيض مع الأخلاق.(5) هذا من جهة، ومن الجهة الثانية، فان الفكر الغربي استطاع عبر الزمن الطويل أن يتحول في نظرته من النظرة الديكتاتورية للإنسان، الى النظرة القائمة على الحرية التي تمثلت في محاولته لتحرير الإنسان من التسلط. وما مشاركة شعوب اوربا في الحكم الا دليل على تطور النظرة إلى الإنسان من الديكتاتورية الى الحرية.(6) ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل استطاع الفكر الغربي أن ينشر مفاهيمه على النطاق العالمي؟ أن الإجابة الدقيقة على ذلك تتلخص في انه اذا كان الفكر الغربي قد حقق نشر مفاهيم الحرية بالنسبة لذويه، فانه على الصعيد العالمي قد فشل فيها على الرغم من نشره المفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، ألا أنه نشر ما يمكن

ص: 273

تسميته بالحرية المبطنة.(7) وهذه الحرية المبطنة ظهرت في أكثر من مظهر في علاقات أوربا وأميركا وفكرهما مع غيرهما من شعوب العالم. ذلك أن شعار الحرية الذي حمله الغربيون بعد نهضتهم قد تقوقع على نفسه بحيث ترجم بأنه حرية التسلط على الآخرين أنه حرية الأوربي و الأميركي في الاستعلاء على الآخرين. وهذا النوع من الحرية المبطنة أدى في مفهومه وتطبيقه إلى الاستعمار وبالتالي إلى الإمبريالية والهيمنة.(8) ومن مظاهر هذا النوع من التسلط و الاستعلاء، نظرة الأوربي والأميركي الاستعلائية والتسلطية نحو شعوب أفريقيا ومن قبل ذلك شعوب آسیا.(9) والأكثر من ذلك أن كل من أوربا وأمیر کما کانت مرجعيتهما الرئيسة لنشر مفاهيم الحرية عن طريق ما أسمته برسالة الرجل الأبيض التي بدت في ظاهرها تحررية إنسانية، ولكنها كانت في حقيقتها رسالة استعباد الإنسان الأبيض للإنسان الإفريقي الأسود. ولعل من خير الأمثلة على مفاهيم الحرية المبطنة، ما أعلنته دولة غربية ديمقراطية عريقة وهي بريطانيا على لسان قائدها الجنرال مود آبان احتلال بغداد، حين خاطب الجماهير بقوله (اننا جئنا محررين لا فاتحين)،(10) والصورة الحقيقية التي ظهرت انها حرية تسلط على الآخرين و حرية من يخدم ذلك التسلط. ومن هنا يصبح مثل هذا المفهوم في الحرية حرية سائبة تبتعد عن القيم الانسانية. وفي الحقيقة أن هذا المفهوم السائب في الحرية هو الذي ادى الى قيام معاهدة سايكس بيكو لاقتسام البلدان والشعوب و ما تلاها من هيمنة وتسلط وصراع القوى العظمى الى يومنا هذا.

و الآن كيف نظر الفكر العلوي للإنسان؟ نستطيع القول أن الفكر العلوي قد نظر للإنسان من زاويتي الأخلاق والاستقامة. هذه الاستقامة التي تنافي و ترفض كل عمل سیاسي کان او اقتصادي او اجتماعي قائم على المراوغة و البرغماتية مؤكدا بالوقت نفسه أن الحرية التي ينشدها للإنسان هي حرية مقيدة و لیست سائبة، حرية مقيدة بالفضيلة و بالأخلاق، حرية مقيدة بالضمير وحرية مقيدة بالإنسانية. أنها حرية لا تفرق بين

ص: 274

أعجمي و عربي إلا بالتقوى وهذه التقوی ما هي ألا الاستقامة في العمل. ومن هنا نجد أن ينابيع فكره (عليه السلام) هي ترجمة لروح الإسلام الحنيف التي تحملها النصوص المقدسة الواردة من القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، فقد أوصى (عليه السلام) الصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه) عندما عينه واليا على مصر أن يكون ينابيع فكره و أطروحة حكمه مستندة إلى القران الكريم والسنة النبوية الشريفة فقد قال (عليه السلام) (.... واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب و يشتبه عليك من الامور فقد قال الله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الامر منکم فان تنازعتم في شيء فرده الى الله والرسول)(11) فالرد الى الله الأخذ بمحكم كتابه و الرد على الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة، اذن تجسد دور أمير المؤمنين (عليه السلام) دور المنفذ للأطروحة السماوية، فالإنسان كما جاء في الدستور الإسلامي هو أفضل من في الوجود، وبعبارة أدق أن الدستور الإسلامي المتمثل بالقران الكريم يكرم الإنسان و يفضله على سائر المخلوقات کما ورد في قوله تعالى (و لقد کرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناه على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(12) ثم تأي آية اخرى لتعبر عن قيمة الإنسان والمتمثلة بقوله تعالى (خلق الإنسان علمه البيان)(13) بمعنى أن الإنسان الذي هو أهم من في الكون قد حصل على القادر عل تعلم المعرفة وما فيها من البيان، وقد وضع أمام الإنسان نظام شامل للحياة يضم قواعدها الأساسية و انه بفضل عقله و بیانه يستطيع أن يتفهم هذا النظام الشامل في خطوطه العريضة، و أن يجتهد بالنسبة لخطوطه التفصيلية، ويتمثل هذا النظام الشامل القائم على خطة عامة للحياة في أن الإنسان سید نفسه و سيد العالم الذي يعيش فيه، و أن الأشياء من حوله تنظم لتخدم وتقضي حاجاته وتؤدي الى سعادته، و مع أن الفكر الإسلامي يعترف بتأثير و تأثر الظروف التي تصحبها ألا أنه يضع حدا و حاجزا يمنعها من التأثير الطلق في الإنسان(14)، انه يضعها تحت تنظيمه لا بل تحت سيطرته، وهناك الأمثلة الكثيرة على هذه السيطرة، فقد ورد في القرآن

ص: 275

الكريم وهو الموسوعة العالمية والثقافية والاجتماعية نجد أن هناك تخطيطا تتحدد طبيعة نظامه بالاعتدال، ويظهر هذا الاعتدال بقاعدة الدستور الأعلى بقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا)(15)، وبديهي أن حياة الأمة الوسط هي حياة تقوم على التوازن بين الأفراد في داخل المجتمع و خارجه.

وقد سعى الإمام علي (عليه السلام) جاهدا أن يكون هدف وغاية كل حاکم تعزيز مقومات ومركز الإنسان من حيث إقامة العدل، وإحياء الحق، وهو الهدف الذي من اجله أرسل الأنبياء والرسل حتى ينعم الناس بالعدالة الاجتماعية والمساواة فبالعدل فقط تقوم الأنظمة و تستمر ويصير للحياة مفهومها و معناها أما الحياة في ظل حاکم مستبد فهي بمثابة السجن. قال (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الاشتر (رضوان الله عليه) (... وليكن أحب الأمور أليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل و أجمعها الرضى الرعية).(16)

واذا كان ما تقدم يمثل لنا مركز الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام) فأننا حين نأتي الفكر الغربي نجد فيه نظریات متضاربة ومتناقضة عن فلسفة مركز الإنسان ومن بين هذه النظريات نظرية الأبوة والنظرية الإقطاعية والنظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية.

وإذا ما حاولنا أن نتفهم مركز الإنسان من خلال نظرية الأبوة نجد أنها تميز بين أفراد العائلة الواحدة من الناحية المادية، بحيث يصبح الابن الأكبر بحسب مفهومها الوريث الوحيد، من بعد موت أبيه. وإذا ما حاولنا أن نتفهم مركز الإنسان من خلال نظرية ونظام الإقطاع فأننا نجده يباع ويشترى مع الأرض التي يملكها الإقطاعي و مثل هذه الصورة تمثل صورة و نظرة دونية إلى الإنسان.(17)

ص: 276

وبانتقالنا إلى نظريات الفكر الغربي الحديثة نجد أن النظرية الرأسمالية قد جاءت و كما أعلن مناصروها بإعطاء الإنسان حريته وبإفساح المجال له في التثبت الفردي الاقتصادي الذي يعمل على سعادته التي لها انعكاسها على سعادة المجتمع، كون المجتمع يتألف من مجموع الإفراد. و لكننا نجد أن هذه النظرية تنطلق من قاعدة الربح. وقاعدة الربح هذه تدفع بالإنسان إلى الخضوع والاستغلال. ومعنى ذلك أن الربح غاية و أن الإنسان واسطة، وهذا يعني أيضا أن وازع الربح المادي يجعل الإنسان يتصرف تصرفا غير مسؤول بحيث يطلب في المجتمع النفوذ السياسي إلى جانب نفوذه الاقتصادي، و من هنا يصبح الفرد الذي لا يملك مسخرا من قبل الفرد الذي يملك، وهذا بعينه يؤدي الى عدم المساواة في المجتمع.(18)

ولقد جاءت النظرية الاشتراكية كرد فعل للرأسمالية لمحاربة الاستغلال، وهدفت إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية بحيث ينتفع من الثروة القومية اكبر عدد ممكن في المجتمع. ولكن الاشتراكي بكل أنواعها المختلفة التي جاءت تقول (الكفاية بالإنتاج والعدالة في التوزيع) لم تستطع أن تتخطى المحور المادي(19) الذي جعل منها أن تبدأ بالمادة و تنهي بها و هذا ما يجعلها تفترق عن نظرية العدالة الاجتماعية في فكر الأمام علي (عليه السلام) الذي ينطلق من قاعدة الكفاية في كل شيء.

أضف لذلك أن مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي دونت في (10 کانون الثاني عام 1948)، والتي اعتبرت وثيقة عالمية تصدر في هذا السياق بحق، جاءت لتؤكد على (أن الناس متساوون في الكرامة والحقوق، وإنهم وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بروح المودة والمساواة والإخاء...).(20)

كما أكدت المادة الثانية على مساواة الناس في الحريات (دون أي تمييز في الجنس او اللون او اللغة او الدين او الرأي السياسي او المولد او الأصل الوطني أو الاجتماعي(21).

ص: 277

ونصت المادة الثالثة والرابعة والخامسة على حق الفرد في الحياة الحرة والأمن الشخصي، وعدم جواز الرق والتجارة فيه، ورفض التعذيب او أي معاملة قاسية او وحشية تحط من كرامة الإنسان.. وهكذا في جميع مواد الإعلان العالمي التي شملت حق التجنس وحق الهجرة و حق اللجوء و حق الضمان الاجتماعي وحق التعلم والضمير.... الخ.(22)

أن هذه الحقوق التي أقرتها الأسرة الدولية، وصادقت عليها اغلب النظم السياسية الحاكمة، لم توضع في اغلبها موضع التنفيذ، أن لم نقل تم تجاوزها في أغلب دول العالم، لأنها لم تشد الإنسان إلى خالقه أولا، ولأنها جاءت من فوق الإنسان وليس من داخله، ولأنها اهتمت بالطرح ألمفاهيمي (عبارات تجميلية وديكورية) دون التأكيد على الحقائق التجريبية، وأكدت على الحكومات دون الشعوب دون النظر إلى الفرد والنفس البشرية(23)، اي عكس ما دعا إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي اهتم بسريرة الإنسان و دخيلته، وعلاقته مع ربه، وصولا إلى عملية التغيير الكبرى في إطار الأمة والمجتمع.

وعلى ما يظهر أن الفكر الأوربي على الرغم من كل التقدم الذي حققه بفضل بعض مفاصل نظرياته في الميادين المختلفة و لاسيما الميدان المادي منه، الا أنه بدت فيه ثغرات تعطي للأشياء مجالا للسيطرة شؤون الإنسان.

وصفوة القول فأن بالإمكان القول أن الفرق الأساسي بين نظرة الفكر العلوي الى الإنسان وبين نظرة الفكر الغربي هو مركز الإنسان و نظرته الى ذاته و الى الآخرين.

ص: 278

ثالثا: - مقومات حقوق الكانسان في نص رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

مما تقدم يمكن للمرء أن يستخلص حقوق الإنسان و مرکزه لیست نتاج الحضارة الغربية، بل أن جذورها تمتد الى جوهر الرسالة الإسلامية، ويعتبر الإسلام أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق وارسي أسس القانون الدولي لحقوق الإنسان، و لقد تميز الفكر العلوي بتجسيد صور حقوق الإنسان من خلال مفردات القران الكريم و السنة النبوية الشريفة، لقد اكتسب مركز الإنسان خلال مسيرة حياته (عليه السلام) مقومات و سمات واضحة لا يسمح للأشياء المحيطة به أن تسيطر عليه، أضف لذلك أنها ميزتها عن غيرها من الحقوق والحريات. تجسدت بحكمه و قضائه ووصاياه، ونظرا لحدود البحث الزمانية و المكانية وفق أصول الرصانة العلمية لأي دراسة أكاديمية، اختص هذا المحور من البحث تبني دراسة و تحليل وصايا الإمام علي (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الاشتر (رضوان الله عليه) عندما عينه (عليه السلام) واليا على مصر، وهنا يستقي بحثنا و دراستنا أصول و مقومات حقوق الإنسان من تلك الوصايا مقسم بذلك إلى ثلاثة مقومات رئيسة وهي كالآتي:-

1 - العدالة الاجتماعية:- يتجلى الاعتدال في هذا المفهوم باعتباره أحد أهم مقومات حقوق الإنسان، ولكونه يتسم بالتكامل و الروح الإنسانية غير الاستعلائية و غير المتعصبة إزاء الغير والأكثر من ذلك أن الوسائل التي تستخدمها في الوصول الى الأهداف هي وسائل لا تقوم لخدمة جهة او جانب على حساب الجهة الأخرى او الجانب الأخر سواء أكانت الجهة التي تتمثل في الإنسان نفسه أو في الأشياء من حوله و هذه الوسائل التي نحن بصددها تلتقي كلها في محور و ذلك هو التكافل الاجتماعي.

ص: 279

وكان الأمير المؤمنين (عليه السلام) في العدالة الاجتماعية أصولا و أراء تمتد لها في الأرض جذور وتعلوها فروع تصل اتصالا موثقا بالإسلام فهي تدور حول رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي(24)، فقد أوصى (عليه السلام) واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه) بأن يشرف بنفسه على أوضاع العامة و حذره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم إزاء حقوقهم المالية و القانونية، قال (عليه السلام):- (واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد(25)) ثم قال (عليه السلام) في موضع آخر:- (....... واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتواضع فيه لله الذي خلقك).

ومن عرف علي بن أبي طالب (عليه السلام) و موقفه من قضايا المجتمع أدرك أنه السيف المسلط على رقاب المستبدين الطغاة، وأنه الساعي في تركيز العدالة بآرائه و قضائه و سیاسته، قال (عليه السلام):- (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤس شدة الفقر - و الرمن - أصحاب العاهات - فان في هذه الطبقة قانعا و معترا وأحفظ الله ما ستحفظك من حقه فيهم)(26).

وإزاء مثل هذه الوصايا التي استقت بمعطياتها من المفاهيم الفكرية التي وقف عليها الفكر الإسلامي، نجد أن تلك الوصايا قد مثلت مراجع منفردة كونها تتساوق مع تطورات العصور وهي في الوقت نفسه أكثر شمولا و ابعد افقا. مما جعل إتباعه (عليه السلام) يزدادون تمسكا بقيمه و نظرياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد وجدوا أن وصاياه (عليه السلام) تستمد من قيم فكرية و نظريات تنطلق قواعد الاعتزاز بالإنسان أيا كان، ووجدوا أن فكره (عليه السلام) هو فكر معتدل و ليس متعصب او متطرف قائم على تحقيق العدالة الاجتماعية بكافة أشكالها و صورها.

اما مفاهيم العدالة الاجتماعية التي جاء بها الفكر الغربي والحضارة الغربية فأننا نجد

ص: 280

أنها قد فسرت تفسيرا مقتضبا، ليعنى اقتصارها على الشعوب الغربية دون غيرها. ثم أنها عدالة تسعى لترفيه الشعوب الغربية و رفع مستواها المعيشي باستخدام ما وصل أليه العلم و العقل الغرب من تقدم مادي و حضاري.

اما بالنسبة لغير الشعوب الغربية فأنها جاءت لتعطي معنى رسالة الرجل الغربي الأبيض المتمدن المتمكن بعلمه وعقله واختراعاته في الصناعة والتكنولوجيا و قوته في النفوذ من ان يعمل ما عليه من واجب في تمدين الشعوب الأسيوية والإفريقية. وأن هذا الواجب يتجلى في الاحتفاظ بسيطرته و سلطانه في توجيه الشعوب غير الأوربية بالنظر لما لها من قدرة و خصائص قيادية في جميع مناحي حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والفكرية، وقد كانت النتيجة التي أدت إليها مثل هذه الأفكار اصطدامها مع القيم الإنسانية التي جاءت بها الحضارات التي سبقت الحضارة الغربية ووقوعها في أزمات فكرية و اقتصادية وسياسية واجتماعية و نفسية لا تزال تعاني منها حتى اليوم.

2 - التوازن:- لقد لاقى عالم اليوم أكثر ما لاقى صعوبة أيجاد التوازن بين مختلف جوانب حياة الإنسان. الذي هو هدف كل الحضارات في القديم والحديث والذي يراد له السعادة و الطمأنينة و الاستقرار. ولقد بدأ الاختلال في التوازن في صعوبة التوفيق بين حياة الفرد و حياة الجماعة كما بدا هذا الاختلال أيضا في صعوبة التوفيق بين جانب حياة الإنسان المادية و بين جانبها الروحي، والذي نتج من كل ذلك أن نظريات متضاربة في العلم والسياسة والاجتماع قد نشأت و قد تمثل هذا التضارب تطرف بعض هذه النظريات. فهناك نظريات تمثل الى اليمين المتطرف كالنظرية الديمقراطية (الرأسمالية) التي رأت أن الأساس في كل فلسفة اقتصادية و سياسية متقدمة ينبثق من حرية الفرد التي لا يجب يقف في طريقها عائق و أن اي تدخل

ص: 281

في حياة الفرد و حريته السياسية والاقتصادية يجب أن يكون و في ظل الضرورات القصوى، محددا بحد أدنى لا يجب أن يتخطاه. كما ظهر الى جانب ذلك نظريات تمثل التطرف في أقصى اليسار التي ترى أن التقدم يجب أن يقاس من زاوية حرية ومصلحة الجماعة و قد تمثلت هذه النظريات بالنظرية الشيوعية والاشتراكية والنظريات الفرعية اليسارية المتطرفة التي انبثقت منها(27). ومن جهة أخرى، فقد ظهرت صعوبة التوفيق بين حياة الإنسان المادية و الروحية. ولقد نجم عن الإيغال في جانب الحياة المادية و على حساب الحياة الروحية، فلقد أدت التفسيرات العقلية و المذهب العقلي إلى التمسك بكل دليل مادي و تجريبي، والى إنكار كل شيء غير مادي، بحجة أنه لا يمكن إخضاعه إلى التجربة وبالتالي فلا يمكن حسه، ولقد أدت هذه النظرية بمفكري الغرب من أمثال دارون و فرویده ومارکس و دورکهایم و سارتر إلى تطبيق نظريات علم الحيوان على الإنسان. ولقد رافق هذه النظريات أفكار جاءت تقول أن الإنسان ابن المصادفة، الإنسان حيوان، وانه لا غاية لوجوده، ولا هدف ولا معنى للحياة الإنسانية... الخ وقد زاد من تعميق هذا الرأي الدعوة إلى حرية العمل و إطلاق الحركة والتصرف دون قيد من دين أو إيمان بآله........ الخ. أن هذه النظرة و هذا التقييم المادي للانجاز الإنساني بعينه قد أدى إلى الاختلال بين الجانب المادي والجانب الروحي. فبينما أصاب الجانب المادي التركيز و النمو فانه قد أصاب الجانب الروحي الضمور.

في حين أكد (عليه السلام) على القيم الروحية للأفراد مشيرا بذلك ضرورة حماية حقوقهم من اي فئة كانوا مسلمين ام غير المسلمين، وهذا يعد بحد ذاته تثبيتا لمقومات التوازن بين الأغلبية والأقلية وترسيخا في الوقت نفسه لإنسانية الإسلام، فقد أوصى (عليه السلام) مالك الاشتر بضرورة وأهمية البعد الاعتباري والروحي لإحداث

ص: 282

التوازن المطلوب بين الحاكم والمحكوم قال (عليه السلام):- (....... واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم و لا تكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم أكلهم فأنهم صنفان أما أخ لك في الدين و اما نظير لك في الخلق)(28).

وليس هذا فحسب بل أن من مقومات التوازن حسب أصول منهجه الفكري (عليه السلام) تتجسد بضمان حقوق الأفراد بالعمل والدخل كلا حسب قدراته وإمكانياته العقلية والجسدية قال (عليه السلام) :- (............ واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله و منها عمال الإنصاف و الرفق ومنها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس و منها النجار و أهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة و كل قد سمى الله له ووضع على حده فريضة في كتاب الله او سنة نبيه (صل الله عليه و آله)(29). ولو تفحصنا جيدا لوجدنا أن الوصية هنا تعد نظرية فريدة لم يستطع الفكر الغربي أن يصل إليها بإبعادها و محتواها، فهي تؤكد على فلسفة التوازن عن طريق قاعدة التكافل الاجتماعي الأمر الذي يؤدي الى التآلف و التماسك في المجتمع الواحد و ليس على الصراع الذي جاء به الفكر الغربي والذي اوجد أنظمة مقسمة بحسب إمكانياتها المادية شعوب مستقطبة بفضل ثرواتها و مواردها الاقتصادية أنظمة الخليج العربي أنموذجا، وشعوب مستبعدة و مستعبدة مغلوب على أمرها اغلب البلدان الإفريقية التي تعاني من العوز و الفقر وهو مما أدى الى الاختلال في التوازن و الوقوع بأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية عجز الفكر الغربي في إيجاد معالجتها مما أدى الى ظهور تحديات عالمية تجسدت بصور عدة منها، أزمة الغذاء العالمي، الهجرة غير الشرعية، الأوبئة والأمراض العالمية، استقطاب العديد من الشعوب المستبعدة في التجنيد للعمليات الإرهابية...........الخ .

3 - المسؤولية:- اما بالنسبة للمسؤولية باعتبارها أساس رصين لكفالة حقوق الإنسان

ص: 283

فان الحقائق التي يقوم عليها الفكر العلوي تكشف أنها مسؤولية لعامة المجتمع، لا مسؤولية طبقة دون طبقة اخرى وهي في الوقت نفسه سلسلة متكاملة الأبعاد تأخذ الصور الآتية:-

- المساواة: - أكد (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله عليه)، أن لا يميز بين القريب والبعيد في عطائه من بيت المال، لأن المسلمين سواء في تناول الحقوق المالية من بيت المال، و قد عانى الناس من التمييز في العطاء إثناء العهد السابق، قال (علیه السلام) (....... أنصف الله و أنصف الناس من خاصة اهلك و من لك فيه هوى من رعيتك فأنك الا تفعل تظلم و من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)(30).

- أقامة العدل و أحياء الحق، وهي مسؤولية كل من أرسله الله تعالى نبيا او رسولا وهي مسؤولية كل حاكم و قائد ووالي، حتى ينعم المجتمع بالعدالة و المساواة قال (عليه السلام) (...... وليكن أحب الأمور اليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية)(31).

- رضا العامة: - أوصى (عليه السلام) مالك الاشتر (رضوان الله عليه) بأن يكون رضا العامة من أولوياته، لأنها ثبات النظام و الدرع الواقي له من كيد الأعداء. قال (عليه السلام):- (.......وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونة في الرخاء، واقل معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف..... من أهل الخاصة. و إنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة فليكن صغوك لهم و ميلك معهم)(32).

اذن رضا العامة بحسب الفكر العلوي مسؤولية الحاكم وهي في الوقت نفسه انعکاس مدى انسجام وتساوق قرارات الحاكم مع مصلحة العامة من المجتمع لتحقيق الرفاه و الطمأنينة وأن مثل هذا يتم بالتآلف والذي يقوم بأن يكفل الفرد حقوق الجماعة

ص: 284

وهو الذي يدفع ويحفز الجماعة بأن تكفل حقوق الفرد مما يؤدي الى تحقيق التوازن والتعادل والإنصاف والاعتدال والتي هي محاور أساسية في تحقيق العدالة الاجتماعية، أن هذا التكافؤ بين الفرد والجماعة يولد في الوقت نفسه على تبادل الآراء ووجهات النظر و الباب المفتوح بين الأطراف جميعا، وتمنع أي استئثار بالرأي او بالسلطة. ومثل هذه المفاهيم تتخطى كل النظريات السياسية والاقتصادية و الاجتماعية الحديثة التي جاء بها الفكر الغربي المعاصر والذي اوجد جماعات خاصة متنفذة مثل جماعة الضغط الأموال التي جاءت نتيجة الضغط والإكراه او الرشوة والإغراء بالمال و بغيره والتي سعى صانع القرار بتحقيق رضاها على حساب العامة (اللوبي الصهيوني وتأثيره على القرار الأميركي) لمثل هذه الجماعات المتنفذة باتت المسؤولية بعيدة كل البعد عن الشعب و الجماهير الحقيقيين.

- مبدأ الكفاءة: - ويتمثل مبدأ الكفاءة في الفكر العلوي أن الاختيار لا يقوم اعتباطا و إنما يقوم بحكم العقل و المنطق و هي مسؤولية الحاكم، فقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه الاشتر (رضوان الله عليه) أن يختار لوزارته ممن لم يخدم في الأنظمة السابقة، وهذا ما نجده احد أهم عقبات عالم اليوم في إدارة شؤون النظم السياسية المعاصرة من إعادة وتدوير النخب السياسية، قال (عليه السلام) (..... أن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الآثمة،و إخوان الظلمة)(33). حيث دعاه (عليه السلام) لأن يختار لوزاراته في إدارة شؤون الدولة، أشخاصا تتوفر لديهم مهارات قيادية و إدارية يستدعي التحرك من خلالها تحقيق التنمية السياسية والاقتصادية، قال (عليه السلام) (........ و و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فأن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها

ص: 285

سوء الظن بالله)(34).

- مبدأ الاعتدال ومحاربة الاستبداد:- ومن القيم العظيمة التي دعا أليها (عليه مالك الاشتر (رضوان الله عليه) الاعتدال في القضاء و منع الاستبداد والتي تأخذ صور سفك الدماء وانتهاك الحرمات، قال (عليه السلام) (....... إياك والدماء و سفكها بغير حلها، فأنه ليس شيء ادعى لنقمة و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها..... و أن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك او سيفك او يدك بالعقوبة، فأن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي الى أولياء المقتول حقهم)(35).

ص: 286

خاتمة:

السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا عن الفكر العلوي في الغد؟ و للإجابة على هذا السؤال يمكننا القول أن القواعد الرصينة التي جاء بها الفكر العلوي و التي تقوم على حقوق الفرد والمجتمع معا وفي وقت واحد و على قدم المساواة لا شك أنها ستمكنه من أن يأخذ الدور الأساسي بيد الإنسان نحو السعادة و الرفاه لإقامة عالم أفضل يستطيع أن يتغلب على ما يعانيه اليوم من تناقضات و أزمات سياسية وأمنية واقتصادية وأخلاقية وفكرية، خصوصا اذا ما علمنا أن لفكر أمير المؤمنين (عليه السلام) مقومات الفكر العالمي القادرة على قوة الانطلاق و الحركة الذاتية الخالية من التعصب و القادرة بنفس الوقت معالجة الإمراض الي يعاني منها العالم المعاصر نتيجة سيادة الفلسفة المادية التي أعجب بها هواة الملذات والباحثون على مسرات الحياة بأنواعها مما ولد عالم الأطماع و الخصومات.

مما تقدم يتبين أن الأمة التي تهدف الى نهضة أصيلة حديثة اليوم، لا بد لها و أن تدرس تراثها الحضاري و أصولها الفكرية، و أن تترجم كل ذلك ترجمة تواكب روح العصر الذي تعيش فيه وهو ما يتطلب مراجعة و إحياء أصول الفكر العلوي العالمي، وما لم يتحقق ذلك، فأننا سنجد أنفسنا مضطرين الى قبول أفكار سياسية غريبة عنا لا تنبع أساسا من تراثنا و تقاليدنا و هذا ما يهدد كياننا و يجعلنا دوما أن نعيش في فراغ فكري

ص: 287

الهوامش:

1. قارن مع:- عبد الحميد متولي، الوجيز في النظريات و الأنظمة السياسية، دار المعارف، القاهرة، 1959، ص (57).

2. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان (مصادره و تطبيقاته الوطنية والدولية)، الطبعة الثالثة،منشأة المعارف، الإسكندرية،2004، ص (73).

3. ریموند كيتل، العلوم السياسية،ترجمة فاضل زكي،الجزء الثاني، دار الصباح والنشر الأهلية، بغداد، 1970، ص (196).

4. المصدر نفسه، ص (201).

5. عبد الحميد متولي، مصدر سبق ذكره، ص (63).

6. ریموند کیتل، مصدر سبق ذكره، ص (203).

7. قارن مع:- فاضل زكي، الفكر السياسي العربي الإسلامي «ماضيه وحاضره»، دار الطبع و النشر الأهلية، بغداد، 1970، ص (401).

8. المصدر نفسه، ص (402).

9. عبد الحميد متولي، مصدر سبق ذكره، ص (68).

10. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، ص (403).

11. عباس علي الموسوي، مالك الاشتر و عهد الامام له، دار الاضواء، بيروت، 1987، ص (34).

12. سورة الإسراء، الآية (70).

ص: 288

13. سورة الرحمن، الآية (4).

14. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، ص (400).

15. سورة البقرة، الآية (143).

16. فليح سوادي، عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، النجف الأشرف، 2010، ص (17).

17. عبد الحميد متولي، مصدر سبق ذكره،ص (54).

18. المصدر نفسه، ص (62).

19. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، (401).

20. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان مصادره و تطبيقاته الوطنية والدولية، الطبعة الثالثة، منشأة المعارف، الإسكندرية . 2004، ص (98).

21. المصدر نفسه، ص (103).

22. المصدر نفسه، ص (108).

23. ينظر كل من:- محمود متولي، حقوق الإنسان «الأهداف و الآمال»، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث و الدراسات، القاهرة، 2005، 2، ص (81). و عبد الله مرغني، حركة حقوق الإنسان في البلدان العربية، مركز دراسات حقوق الإنسان و الديمقراطية، المغرب العربي، 2011، ص (98).

24. محمد بحر العلوم، من مدرسة الامام علي، الطبعة الثالثة، دار الزهراء، بيروت، 1980، ص (23).

ص: 289

25. عباس علي الموسوي، مصدر سبق ذكره، ص (24).

26. فليح سوادي، مصدر سبق ذكره، ص (19).

27. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، ص (409).

28. عباس علي الموسوي، مصدر سبق ذكره، ص (27).

29.المصدر نفسه، ص (28).

30. فليح سوادي، مصدر سبق ذكره ص (16).

31. عباس علي، مصدر سبق ذكره، ص (30).

32.المصدر نفسه، ص (31).

33. فليح سوادي، مصدر سبق ذكره، ص (17).

34. المصدر نفسه، ص (15).

35. المصدر نفسه، ص (18).

36. المصادر

37. القرآن الكريم.

38. ریموند كيتل، العلوم السياسية، ترجمة فاضل زكي، الجزء الثاني، دار الصباح والنشر الأهلية، بغداد،1970.

39. و عبد الله رغني، حركة حقوق الإنسان في البلدان العربية، مركز دراسات حقوق الإنسان و الديمقراطية، المغرب العربي، 2011.

40. عبد الحميد متولي، الوجيز في النظريات و الأنظمة السياسية، دار المعارف، القاهرة،

ص: 290

1959.

41. عباس علي الموسوي، مالك الاشتر و عهد الإمام له، دار الأضواء، بيروت، 1987.

42. فاضل زكي، الفكر السياسي العربي الإسلامي (ماضيه وحاضره)، دار الطبع و النشر الأهلية، بغداد، 1970.

43. فليح سوادي، عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الى واليه على مصر الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، النجف الأشرف، 2010.

44. محمد بحر العلوم، من مدرسة الإمام علي، الطبعة الثالثة، دار الزهراء، بيروت، 1980.

45. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان مصادره و تطبيقاته الوطنية والدولية، الطبعة الثالثة، منشأة المعارف، الإسكندرية. 2004.

46. محمود متولي، حقوق الإنسان (الأهداف و الآمال)، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث و الدراسات، القاهرة، 2005.

ص: 291

ص: 292

حق المواطنة والحريات العامة في الدولة العراقية في مدة العهد الملكي (دراسة مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى مالك الأشتر)

اشارة

م. د. أحمد مريح الركابي

كلية الأمام الكاظم (عليه السلام) - للعلوم الإسلامية الجامعة

ص: 293

ص: 294

الملخص

تعد مدة العهد الملكي 1921 - 1958 في العراق ذات أهمية كبيرة في التطور السياسي والاجتماعي الذي شهده العراق خلال تلك المدة، فقد بُنيت مؤسسات الدولة لأول مرة، وصدر الدستور العراقي، وأسست الأحزاب السياسية على وفق قوانين وتعليمات، وأخذت دورها في الحياة السياسية وأسهمت في بناء الدولة الحديثة، يتناول البحث قيم المواطنة والحريات العامة في الدستور العراقي ومناهج الأحزاب السياسية وبرامج الحكومات التي تعاقبت على ادارة الدولة ومدى تمتع العراقيين بمختلف طوائفهم وأعراقهم بتلك الحقوق، ومقارنة كل ذلك مع ما ورد من نصوص في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر فيما يخص قيم المواطنة والحريات العامة، والخروج بنتائج مهمة تخص الموضوع. وقد تم الاعتماد على مصادر عدة متنوعة في كتابة البحث، منها وثائق البلاط الملكي والمطبوعات الحكومية والنشرات الحزبية فضلاً عن الكتب والبحوث ذات الصلة.

ص: 295

Abstract

The Covenant for Royal 19211958- in Iraq are of great importance in the political and social development witnessed by Iraq during that period the state institutions were built for the first time and released the Iraqi constitution and the established political parties in accordance with the laws and regulations and took a role in political life and contributed to building a modern state deals Find the values of citizenship and public freedoms in the Iraqi constitution and the political parties and programs of successive governments on the State Administration curricula and compared with the reported texts in the era of the faithful (p) to the owner of Ashtar regarding citizenship and public freedoms values and out the results of a task for the subject. It has been relying on a variety of several sources in the writing of the research. including the papers of the royal court and government publications and the party as well as books and related research.

ص: 296

المقدمة

لم يكن للعراقيين قبل عام 1921 دولة تضمهم باسم الدولة العراقية، فقد خضعوا في تاريخهم الحديث إلى الاحتلال العثماني منذ عام 1434 م حتى نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918 م(1)، إذ خضع العراق بعدها إلى الاحتلال البريطاني ثم الانتداب الذي فرض عليه عام 192.. وفي عام 1921 تم تنصيب الملك فيصل بن الحسين (1883 - 1933 م) ملكاً على العراق وتأسيس الدولة العراقية الحديثة(2).

وكان على الملك الجديد أن يرسي حكمه على أسس ديمقراطية وأن يبني مملكته على وفق نظام برلماني مقيد بقانون، وهذا ما اشترطته عليه حكومة عبد الرحمن النقيب المؤقتة (25 تشرين الاول 192 .- 23 آب 1921)، وقد سعى بوسائل شتى أن يوازن بين خطوات بناء تلك الدولة وبين غايات ورغبات البريطانيين الذين سهلوا له مهمة تسنمه عرش العراق(3).

شرع فيصل فور توليه بجمع أعضاء المجلس التأسيسي العراقي الذي بدوره وضع الدستور العراقي وقانون الانتخاب، وحرص من كتب الدستور على مراعاة التنوع الاثني والعرقي والديني للعراقيين فضمنوه نصوص مهمة تخص الحريات العامة وحقوق المواطنة، وقبل إصدار الدستور صدر قانون الجمعيات لعام 1922 الذي نظم عمل الأحزاب والجمعيات السياسية العراقية، وقد أجيز وفقاً لذلك القانون عدد من الأحزاب السياسية التي تسابقت في برامجها على التركيز بحقوق المواطن والحريات الديمقراطية العامة، كذلك فعلت الحكومات التي تعاقبت على إدارة الدولة، حاولت ان تعطي صورة عن طبيعة عملها ودورها في توفير أجواء للحريات وحقوق المواطنة(4)، ولكن السؤال المطروح هو إلى اي مدى توافقت تلك البرامج والأهداف مع ما جاء في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى مالك الأشتر فيما يخص حقوق المواطنة والحريات

ص: 297

العامة؟ هذا ما سيتناوله البحث بعد أن نبين حقوق المواطنة والحريات في الدستور العراقي وبرامج الأحزاب والوزارات العراقية على النحو الآتي:

حقوق المواطنة والحريات في الدستور العراقي 1925

المواطنة لغة مشتقة من الجذر (وطن)، والوطن هو المنزل الذي تقيم فيه، وهو موطن الإنسان ومحله.. ووطن بالمكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطنا، والموطن.. ويسمى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، وفي التنزيل العزيز قوله تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» التوبة / آية 25.. وأوطنت الأرض ووطنتها واستوطنتها أي اتخذتها وطنا، وتوطين النفس على الشيء كالتمهيد(5).

أما اصطلاحاً فهي صفة المواطن الذي له حقوق وعليه واجبات تفرضها طبيعة انتهائه إلى وطن. ومن هذه الحقوق على سبيل المثال لا الحصر، حق التعليم، حق الرعاية الصحية، حق العمل. وبناء عليه فالمواطنة علاقة الفرد بدولته، علاقة يحددها الدستور والقوانين المنبثقة عنه والتي تحمل وتضمن معنى المساواة بين من يسمون مواطنين، وأن نوعية المواطنة في دولة ما تتأثر بالنضج السياسي والرقي الحضاري(6). وينظر إلى المواطنة بوصفها خلق الحياة الامنة والعدل والمساواة لكل فرد في المجتمع بصرف النظر عن دينه ومذهبه أو طائفته أو عرقه وحق كل مواطن في التعبير عن رأيه بحرية وانتخاب من يمثله، فالمواطنة تستند إلى الحرية والعدل والمساواة وهذه أهم مرتكزات المواطنة الحقيقية(7).

أما الدستور هو عقد سياسي بين مكونات مجتمع ما، ينظم العلاقة بين الأفراد أو بين الأفراد والمجتمع، وبين الأفراد والسلطة على أساس المواطنة بما يتضمن حقوق وواجبات، والأهم في الدستور هو توضيحه لطبيعة النظام السياسي وهيئات

ص: 298

الدولة وسلطاتها ووظائفها وعلاقتها واختصاصها فيما بينها ثم علاقتها مع المواطنين وحقوقهم وواجباتهم، وهو ضمانة لحريات الافراد وحقوق الجماعات(8).

وفيما يخص الدستور العراقي فقد بدأ المجلس التأسيسي العراقي الذي انتخب في إذار 1924 بدراسة مسودة القانون الأساسي في حزيران من العام نفسه، وذلك بعد تصديقه على المعاهدة العراقية البريطانية، وكان يُراد لهذا الدستور أن يراعي مجموعة مسائل وردت في المعاهدة العراقية - البريطانية لعام 1924 قبل عرضه على المجلس التأسيسي العراقي، ومنها(9):

1. أن يأخذ بعين الاعتبار رغبات الشعب العراقي وحقوقه.

2. . أن ينص على ضمان الحريات والشعائر الدينية التي لا تتناقض مع الآداب.

3. ضمان حقوق الطوائف والأقليات.

4. وقد تم إقراره وإصداره بالفعل عام 1925، وضم أبواباً عدة، إذ أفرد هذا الدستور الباب الاول منه والذي حمل عنوان (حقوق الشعب) من المادة الخامسة حتى المادة الثامنة عشر لتنظيم الحقوق والحريات العامة، وهذا يعني أن موضوع الحقوق والحريات قد أقر مع أول دستور عراقي(10).

تناول باب حقوق الشعب - وهو ما يهمنا في البحث - على حقوق المواطنة والحريات العامة، حيث أكدت المادة السادسة منه بأنه لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وأن اختلفوا في القومية والدين واللغة، ونصت المادة السابعة على ان الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ولا يجوز القبض على أحدهم أو توقيفه، أو معاقبته، أو إجباره على تبديل مسكنه، أو تعريضه لقيود، أو إجباره على الخدمة في القوات المسلحة إلا بمقتضى القانون، أما التعذيب، ونفي العراقيين إلى خارج

ص: 299

المملكة العراقية، فممنوع بتاتاً. وكذلك عرضت المادة الثامنة منه بأن المساكن مصونة من التعرض، ولا يجوز دخولها، والتحري فيها، إلا في الأحوال والطرائق التي يعينها القانون(11).

وأشارت المادة العاشرة بأن حقوق التملك مصونة، فلا يجوز فرض القيود الإجبارية، ولا حجز الأموال والأملاك، ولا مصادرة المواد الممنوعة، إلا بمقتضى القانون. أما السخرة المجانية، والمصادرة العامة للأموال المنقولة وغير المنقولة، فممنوعة بتاتاً. ولا ينزع ملك أحد إلاَ لأجل النفع العام في الأحوال وبالطريقة التي يعينها القانون، وبشرط التعويض عنه تعويضاً عادلاً(12).

وركزت المادة الثانية عشرة بأن للعراقيين حرية إبداء الرأي، والنشر، والاجتماع وتأليف الجمعيات والانضمام إليها، ضمن حدود القانون، فيما أشارت المادة الثالثة عشرة إلى ان الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، وحرية القيام بشعائر العبادة، وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العامة(13).

وكذلك نصت المادة الثامنة عشرة بأن العراقيين متساوون في التمتع بحقوقهم، وأداء واجباتهم، ويعهد إليهم وحدهم بوظائف الحكومة من دون تمييز، كل حسب اقتداره وأهليته، ولا يستخدم في وظائف الحكومة غير العراقيين إلا في الأحوال الاستثنائية التي تعين بقانون خاص. مع أن نص المادة السابعة عشر منه جعل اللغة العربية هي الرسمية سوى ما ينص عليه بقانون خاص، وعاد للتأكيد في متن المادة 18 على مساواة العراقيين في التمتع بحقوقهم(14).

ص: 300

لكن إلى اي مدى يمكننا القول ان النصوص التي جاء بها دستور عام 1925 والخاصة بالحقوق والحريات العامة للشعب قد طبقت وتم العمل بها من الحكومات التي تعاقبت على الحكم في العراق؟ واجابة ذلك سوف نجدها في برامج الحكومات الذي تم التطرق له في مكان لاحق من البحث.

أما النواب العراقيين الذين جرى انتخابهم لمجلس النواب فقد رأوا ضرورة ان يكون النظام الديمقراطي الذي اعتمده العراق لحكمه هو النظام الذي يعبر عن تطلعات أغلبية الشعب باختيار الحكومة ويكون للأقلية حق التعبير والرأي وتكون جميع الاتجاهات والعقائد موضع احترام ويتساوى فيه جميع المواطنين، فالديمقراطية تدعو إلى احترام الحريات المدنية والسياسية للمواطنين والتي تتمثل في المساواة في بعديها السياسي والاجتماعي (15).

حقوق المواطنة والحريات في برامج الأحزاب السياسية (1922 - 1958)

نظمت الحياة الحزبية في العراق منذ وقت مبكر وسابق على صدور الدستور العراقي، فقد صدر قانون الجمعيات في الثاني من تموز 1922 (16)، وبموجبه أجيزت ثلاثة أحزاب سیاسية هي الحزب الوطني العراقي بزعامة جعفر ابو التمن، وجمعية النهضة العراقية بزعامة أمين الجرجفجي، والحزب الحر العراقي بزعامة محمود النقيب، وذلك للمدة بين تموز وأيلول 1922 (17). وبعد صدور الدستور شهدت الساحة السياسية ظهور عدد من الأحزاب السياسية عملت حتى عام 1958، منها أحزاب علنية مجازة بموجب القانون وأخرى سرية عملت بعيداً عن أنظار السلطة.

ولو تتبعنا برامج عدد من تلك الأحزاب لرأينا انها تتفاوت في نظرتها إلى حقوق المواطنة وفقاً لخلفياتها الفكرية والإيديولوجية وتوجهات قادتها ومنظريها، فالحزب

ص: 301

الوطني العراقي الذي اجيز في الثامن والعشرين من تموز 1922، اكد في منهاجه أن غاية الحزب السياسية هي المحافظة على استقلال العراق التام بحدوده الطبيعية والذب عن کیان الأمة العراقية والنهوض بها إلى مصاف الأمم الراقية والدفاع عن حقوق الشعب العراقي بطوائفه المختلفة (18). ومن بين غاياته الاجتماعية إصدار العفو العام الخالي من كل قيد أو شرط عن جميع المتهمين السياسيين وإطلاق سراح المسجونين، وإرجاع المبعدين والمنفيين والسماح لهم بالرجوع إلى أوطانهم (19). وقد عزز ذلك رئيس الحزب ومؤسسه جعفر أبو التمن في مبادئه وأفكاره التي يؤمن بها، فقد جعل أفكاره منصبة على هدفين يتصل أحدهما بالآخر وهما وحدة الشيعة والسنة والتقريب بينهما(20).

ولم تختلف جمعية النهضة العراقية التي اجيزت في التاسع عشر من آب 1921، والذي انتخب أمين الجرجفجي معتمداً عأما لها، عن أهداف الحزب الوطني العراقي وغاياته، فقد دعا إلى تنشيط الفكرة الوطنية للوحدة العراقية على اختلاف أجناس العراقيين (21).

وبعد قيام الحياة البرلمانية عام 1925، ظهرت مجموعة من الأحزاب السياسية التي أعلنت في برامجها عن أهدافها وغاياتها، وأسست أحزاب أطلق عليها (الأحزاب البرلمانية)، منها حزب التقدم الذي أجيز في الثاني والعشرين من آب 1925، برئاسة عبد المحسن السعدون، وقد أعلن عن برنامجه الذي أكد فيه الحفاظ على الوحدة العراقية والنسيج الوطني (22). أما حزب الشعب الذي أسس في الثالث من كانون الأول 1925، فقد رفع شعار (الإخلاص والتضامن والتضحية) ودعا إلى تقوية الشعور الوطني وتعمیم مبادئ التضامن بين الأهالي (23).

وفي الخامس والعشرين من تشرين الثاني 193.، أجازت وزارة الداخلية حزباً باسم (حزب الإخاء الوطني) تضمن منهاجه تأليف رأي عام لمكافحة كل ما من شأنه أن يخل بالوحدة الوطنية، ومقاومة التصرفات الشخصية التي لا تنسجم والمصلحة الوطنية (42).

ص: 302

وأسس حزب عام 1934 باسم (حزب الوحدة الوطنية) بزعامة علي جودت الأيوبي، دعا في منهاجه إلى تقوية شعور التضامن والتضحية والإخلاص بين أبناء الشعب وتعزيز الروح الوطنية (25).

أما الأحزاب التي أجيزت في عام 1946، فقد تضمنت برامجها مواداً تناولت حقوق المواطنة وضرورة ضمانها فضلاً عن الحريات العامة، فعلى سبيل المثال، أشار الحزب الوطني الديمقراطي في المادة الثانية من منهجه السياسي بأنه يؤيد الحريات الديمقراطية مثل الحرية الفردية وحرية الكلام والنشر والصحافة والاجتماع والاعتقاد، وتوطيد هذه الحريات، وفيما يخص المواطنة، فإنه لا يفرق بين العراقيين ولا يميز بينهم ويعدهم جميعاً - على اختلاف عناصر هم وأديانهم ومذاهبهم - متساوين في الحقوق والواجبات، إذ ان الوطن العراقي ميدان للتعاون الحر على اساس المصلحة المشتركة بين العرب والأكراد وغيرهم من العناصر التي يتكون منها العراقيين(26).

أما حزب الاستقلال ذو التوجه القومي، فقد ورد في المادة الرابعة - ز - من برنامجه السياسي في الأمور الداخلية، أن الحزب يقدس قوميته ويعتز بها، وأنه يحترم القوميات الأخرى، ويستنكر كل استغلال عنصري. وأكد على ضمان حقوق الشعب والحريات العامة ورفع مستوى الصحافة(27).

فيما أوضح حزب الأحرار في منهاجه أن هدفه النهوض بالشعب العراقي على اختلاف طبقاته والعمل على توحيد صفوف أبنائه ودعا إلى خدمة الشعب وتوزيع العدل (28). وأعلن حزب الاتحاد الوطني الذي أجيز في الثاني من نيسان 1946 بزعامة عبد الفتاح إبراهيم في برنامجه، بأن الحزب يدعو إلى تحقيق المساواة بين جميع العراقيين في حقوق المواطنة وواجباتها من غير تمييز في القومية والدين والمذهب، وضرورة ممارسة العراقيين للحريات الديمقراطية مثل حرية الكلام والصحافة والنشر والاجتماع

ص: 303

والجمعيات والأحزاب والنقابات وحرية العبادة والمعتقد (29).

وتضمن منهاج حزب الشعب الذي أجيز في المدة ذاتها بزعامة عزیز شریف، إلى المساواة التامة بين مختلف القوميات والجماعات التي يتألف منها الشعب العراقي من دون أي تفريق أو تمييز لفرد أو جماعة على فرد أو جماعة على أخرى، على أساس العنصرية أو الدين أو المذهب وتحريم أية دعوة أو محاولة إلى مثل هذا التفريق أو التمييز، ودعا أيضاً إلى حرية الاجتماع وحرية الاعتقاد والكلام والنشر، وإلغاء جميع القوانين الاستثنائية المناقضة للحريات الديمقراطية التي تفرق بين أبناء الوطن (30).

ولابد من الإشارة هنا إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي أسس عام 1934 ومارس نشاطه بصورة سرية، فعلى الرغم من كونه حزباً طبقياً ينادي بحقوق طبقة العمال والفلاحين، إلا أنه دعا في منهاجه الذي اطلقه عام 1946، إلى أنه سيعمل من أجل تثبيت الوحدة الوطنية بين جميع طبقات الشعب وأقسامه التي يهمها استقلال العراق وتقدمه، ويرى الحزب ان حجر الزاوية لبناء هذه الوحدة هو الصداقة والأخوة بين القوميتين الرئيستين اللتين يتألف منهما الشعب العراقي وهما العرب والأكراد وإقامة صداقة متينة على أساس الاحترام المتبادل والمساواة التامة في جميع الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية من دون تمييز أو تحديد، ودعا الحزب إلى الصداقة والإخوة بين العرب والأكراد من جهة وبين الجماعات القومية والجنسية الصغيرة التي تسكن العراق مثل التركمان والأرمن وغيرهم والدفاع عن حقوق هذه الجماعات في اللغة والثقافة القومية والمساواة التامة في الحقوق (31).

ولابد من القول إن الكثير من تلك الأحزاب لم تطبق ما نادت به من أهداف تخص الحريات العامة والمطالبة بحقوق الشعب، فالأغلب الأعم منها لم تسمح له الفرصة بالوصول إلى السلطة أما بعضهم الآخر فعند تسلمه السلطة تنصل عنها أو أنهی حزبه

ص: 304

وما دعا إليه بعد وصوله إلى السلطة، فعلى سبيل المثال، أنهى علي جودت الأيوبي حزبه - حزب الوحدة الوطنية - وأغلقه بعد سنة وأحدة من تأسيسه وذلك عند سقوط وزارته في آذار 1935(32).

حقوق المواطنة والحريات في برامج الوزارات العراقية

تعاقب على حكم العراق في مدة العهد الملكي تسع وخمسون وزارة، توالى على رئاستها ثلاث وعشرون رئيس وزراء، ولا يكاد يخلو برنامج كل وزارة من هذه الوزارات من إشارة إلى المطالبة بالحريات العامة وحقوق المواطنين.

ولو استعرضنا برامج عدد من تلك الوزارات لرأينا أنها تحاول أن تكسب الرأي العام بما تعلنه من برامج تنادي بتطبيق الحريات الديمقراطية، حيث نص منهاج وزارة ياسين الهاشمي (7 آب 1924 - 21 حزيران 1925) على تقوية الشعور الوطني بكل الوسائل واستكمال أسباب الدفاع عن حقوق الشعب (33).

وعندما ألف عبد المحسن السعدون وزارته الثالثة (14 كانون الثاني 1928 - 2. كانون الثاني 1929) أعلن فيها بأنه يسعى إلى احترام الحريات الشخصية وصيانة المحاكم من كل تدخل غير قانوني، والحفاظ على الوحدة العراقية والقضاء على الدعايات المضرة التي من شأنها الاخلال بها أو بث الشقاق بين أبناء البلد (34).

وفي الوزارة الثالثة التي الفها نوري السعيد (25 كانون الاول 1938 -) قال رئیس الوزراء إلى إن من أهم أهداف وزارته صيانة الحريات العامة وعدم إفساح المجال لاستغلالها على حساب الشعب وسمعة البلاد، والاهتمام بالصحافة وجعلها في مستوى تتمكن معه من أن تخدم المجتمع خدمة صالحة، وفي أول اجتماع للوزارة الجديدة في 26

ص: 305

كانون الأول دعا السعيد إلى الإفراج عن الصحف المعطلة كافة، والسماح لها باستئناف خدماتها، كما قررت الوزارة إلغاء الرقابة عن الأشخاص والرسائل كافة، وإعادة المفصولين إلى الخدمة وإطلاق سراح المحامين الموقوفين(35).

أما وزارة توفيق السويدي الثانية (23 شباط 1946 - 3. ايار 1946) والتي جاءت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والظروف الاستثنائية التي قيدت الممارسات الديمقراطية في العراق(36)، فقد اعلن فيها عن رغبته بإلغاء ما خلفته الحرب من قوانين شإذة وإلغاء الادارة العرفية ومرسوم صيانة الامن وسلامة الدولة رقم 56 لسنة 194. وغيرها من المراسيم الأخرى، وفي مجال ممارسة الحريات العامة، أعلن عن نيته في إطلاق سراح المعتقلين ورفع الرقابة عن الصحف والسماح بتأليف الأحزاب السياسية وتأمين حرية الانتخاب وتحقيق المبادئ الديمقراطية(37).

مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر

إن عهد الأمام علي (عليه السلام) الذي كتبه إلى عامله مالك بن حارث الأشتر سنة 37 للهجرة حيث بعثه والياً على مصر، يكتسب أهمية فائقة، فقد جاء ليؤسس أفكاراً مطلقة صالحة للتطبيق في أي مرحلة مستقبلية يواجهها أصحاب القرار في خضم تجإذبات الواقع السياسي والاجتماعي والفكري للأمة، فهو أفضل مرسوم إداري كتب لحد يومنا هذا ولم يصبه غبار النسيان(38). إذ اراد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعهده هذا ان يؤسس إدارة للتغلب على ثغرات الماضي والحاضر من أجل التوصل إلى مجتمع وأمة امنة (39).

ولو عقدنا مقارنة بين مقدار الحقوق والحريات العامة التي منحها نظام الحكم الملكي للعراقيين وبين حقوق المواطنة والحريات التي تضمنها عهد أمير المؤمنين إلى

ص: 306

مالك الأشتر، لرأينا ان الهوة واسعة والبون شاسع بين السياستين، ولعلنا نلتمس ذلك في مواطن عدة، لعل في مقدمتها اعتماد أمير المؤمنين (عليه السلام) للشريعة الإسلامية منطلقاً في حكمة العادل، إذ بين عليه السلام ان الإسلام شريعة شاملة، لها القدرة على حل مشكلات الانسان من خلال بساطة مبادئه ووضوح أهدافه، وبه يسعد الإنسان ويحيى المجتمع، فقال (عليه السلام): (الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه لمن ورده.. فجعله امنا لمن عقله، ونوراً لمن استضاء به..)(40).

يزاد على ذلك القدوة التي اتخذه الأمام (عليه السلام)، فمن أراد طريق الخير والصلاح في الدنيا والفوز في الآخرة فعليه أن يتخذ قدوة ينير له الطريق ويهديه إلى الصواب، فرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قدوة لنا في سلوكه في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، وفي سياق تأسي الأمام علي (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ما قاله من أن الرسول أفضل قدوة وأسوة لنا ومثالنا في الحياة، فقال: (واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن (41).

أما النظام الملكي في العراق فقد اقتدی بدستور وضعي، كُتب في ظل الانتداب البريطاني على العراق، فعلى الرغم من تناوله مواد مهمة تخص حقوق الشعب والحريات العامة، إلا أن مصلحة النظام تطلبت مخالفته في أكثر من مناسبة (42).

ولعل الطرفين يلتقيان في وسيلة ومصدر وأحد للسلطة وهو الشعب، فالنظام الملكي قائم على نظام الانتخاب والديمقراطية التي تعني حكم الشعب، وبما أن مصدر السلطة هو الشعب وحده عند الأمام (عليه السلام) فان وجودها لا يعني أكثر من تحقيق هذه الإرادة العامة، فإذا استقام أمر الناس بأصحاب السلطة استقامت السلطة وبقي أصحابها في مناصبهم، وإلا فليعزلوا في الحال كما قال (عليه السلام): (ولا تصلح الولاة إلا باستقامة امر الرعية)، وهو ما قاله لمالك: (تفقد أمورهم کما يتفقد الوالدان

ص: 307

لولدهما) (43). أما إرادة الشعب في النظام الديمقراطي الذي تبناه الحكم الملكي والتي كان من المفترض أن تتحقق عن طريق الانتخاب واختيار ممثليه، فلم تكن تراعى على نحو صحيح، فغالباً ما يجري تزوير الانتخابات وإيصال نواب إلى البرلمان بالتزكية وغير ذلك من الوسائل غير الديمقراطية التي تصادر بها إرادة الشعب (44).

ومن الأمور المهمة التي لا يمكن تجاوزها في هذا المقام هو ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده فيما يخص حق المواطنة ومراعاتها، قائلاً: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ

أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: أما أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وأما نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ) وقوله: (وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْضٍ، وَلاَ غِنَىً بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ

وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ؛ وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ وَوَضَعَ عَلَی حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم))(45)، فلو استعرضنا التاريخ منذ الأزل وحتى في الفلسفة اليونانية وفي جمهورية افلاطون نجد أنها لم تصل إلى هذه المثل الانسانية العليا التي تحدث بها الأمام علي (عليه السلام) للبعد الإنساني أكثر عمقاً في التعامل وأكثر شمولية مع الرعية في ضوء الإخوة الانسانية بين الدين والخلق (46). هذا النوع من التعامل، ولاسيما مع الأقليات، افتقد إليه النظام الملكي في العراق، والأمثلة على ذلك كثيرة، فوزارة الهاشمي التي ألفها في عام 1924 خالفت ما دعت إليه في منهاجها، فقد استعانت بطائرات بريطانية في ضرب جماعتين متنافرتين من الطائفة الأيزيدية بعد أن رفض أحد أطراف الخصام تدخل الحكومة في الصلح

ص: 308

بين الطرفين، وكذلك استعانت الحكومة بسلاح الجو البريطاني في أواخر كانون الأول 1924 لإخضاع الشيخ سالم الخيون شيخ قبائل بني أسد في المنتفق بعد أن رفض سياسة الحكومة(47). أما الشاهد الآخر على عدم مراعاة حكومات العهد الملكي لحق المواطنة هو ما قامت به الحكومة العراقية من مذابح بحق الأقلية الآثورية(48) في شمال العراق في عملیات تصفية منظمة في عهد حكومة رشيد عالي الكيلاني ازدادت حدتها بين 8 - 11 آب 1933 (49)، وما حدث من مجازر وإبادة عرقية في بلدة سميل، فضلاً عن حوالي 63 قرية آثورية في لواء الموصل آنذاك (محافظتا دهوك ونينوى حالياً)، والتي أدت إلى موت حوالي 6 .. شخص حسب مصادر بريطانية (50).

ويعود سبب ذلك إلى الابتعاد عن العدل والركون إلى الظلم في سياسة المجتمع وقيادته، فقد أيقن الأمام (عليه السلام) بأن العدل مرتكز من مرتكزات الحكم، لذا أفرط في الحث على وجوب الالتزام والعمل به تجاه الرعية بقومياتهم وأعراقهم وأديانهم المختلفة، وأشار إلى قبح الظلم والظالم(51)، مؤكداً أن العدل من صفات الوالي العادل ولا تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة(52)، وبذلك أوصى مالك في العهد، وبمواضع عدة، بضرورة العمل بالعدل بين الرعية وعدم التمييز بينهم: (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عباد الله كان الله خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ) وقوله: (إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ

الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ) وقوله: (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ)(53) وغير ذلك من النصوص التي تحث على التزام العدل بوصفه وسيلة ومنهجاً.

ص: 309

لقد كان ضمان الحقوق والحريات العامة من النظريات المتأصلة في فكر الأمام علي (عليه السلام) القائم على أسس الاصلاح الاجتماعي، فقد كان عهده حافلاً وزاخراً بأزهى ألوان الحقوق والحريات حتى للسجناء الذين وفر لهم كل شيء مما يليق بإنسانيتهم (54)، ولعل من أبرز تلك الحقوق هي حق الحياة والحرية وحق الملكية وحق التفكير والتعبير، وقد جسد ذلك الأمام (عليه السلام) في دولته باعترافه (سلام الله عليه) للناس بحرياتهم، فقد أدرك الحرية بأصولها، من خلال بنائه في الاخلاق الخاصة والعامة، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، على أن لا تسيء حرية الفرد إلى حرية الجماعة(55). وأوصى (عليه السلام) مالك ان يستمع إلى من ينتقد سیاسته وحكمه، إذ قال: (ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأِوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ

رُضْهُمْ عَلَی أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الإْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْو مِنَ الْعِزَّةِ)(56).

بل ذهب الأمام (عليه السلام) إلى أبعد من ذلك فيما يخص حرية الرأي والتعبير قائلاً: (.. من اِسْتَثْقَلَ اَلْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ اَلْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ اَلْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّيِ لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إلِاَّ أَنْ يَكْفِيَ اَللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي..)(57)، وبذلك يفتح الأمام باب حرية الرأي على مصراعيه وكذلك النقد والمحاسبة أمام جماهير الأمة، بل إن الأمام يدعو إلى توفير الأمن للمجاهرين بالحق، ويجعل من تقبل الرأي الآخر دعوة لمراجعة الذات بالنسبة للحاکم (58).

وقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الإنسانية بوصفها مبدأ مهماً في السياسة وقيادة المجتمع من خلال احترام الإنسان لإنسانيته بصرف النظر عن جنسه أو عرقه أو دينه

ص: 310

أو طبقته الاجتماعية وإن كان هذا المبدأ قد تجلى بوضوح في الإرشادات الأخلاقية العامة التي امتلأت بها صفحات النهج والتي لم يفرق فيها الأمام بين غني وفقير، عربي وأعجمي، مسلم وغیر مسلم، إلا أنه يتأكد بشكل قاطع من خلال ما دعا إليه الأمام من أخلاقيات الحكم (59)، وهو تجسيد حي لكل المعاني التي جاء بها الإسلام في تكريم الإنسان ومنع إذلاله فهو القائل إلى مالك الأشتر: (وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ)(60).

أما الحكم الملكي في العراق وعلى الرغم من تبنيه النظام البرلماني الديمقراطي واعتماده دستوراً كفل حرية الانتخاب وحرية الرأي والمعتقد والدين وغير ذلك من الحريات العامة، غير أنه تجاوز ذلك في مناسبات عدة، مستغلاً الظروف السياسية التي مر بها العراق في ذلك الوقت، فوقع الحيف على فئة واسعة من أبناء الشعب، وكانت سیاسة تكميم الأفواه حاضرة في معظم حكومات العهد الملكي، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، اعتقال الشيخ مهدي الخالصي (1834 - 1927) ونفيه إلى إيران لمعارضته النظام وإصداره فتوى في أوائل تشرين الثاني 1922، حرم فيها الأشتراك في انتخابات المجلس التأسيسي(61). وهناك دليل آخر هو ما قامت به حكومة نوري السعيد الأولى (23 إذار 193. - 19 تشرين الأول 1931) عندما قاطع الأهالي في السليمانية الانتخابات البرلمانية وخرجوا بمظاهرات دعت الحكومة إلى قمعها بواسطة الجيش، وقد اسفرت عن مقتل عشرين شخصاً وإصابة ثلاثين آخرين واعتقال أكثر من مئة شخص (62).

وفيما يخص الأحزاب السياسية ودعواتها في برامجها للدفاع عن حقوق الشعب وحرياته، فإن تلك الدعوات لم تكن ذا فائدة كبيرة، فمعظمها لم يتولَ السلطة، وبقيت شعاراته حبراً على ورق، والذي تولى السلطة منها تنصل عن شعارته التي رفعها، أما

ص: 311

الأحزاب الأخرى فإنها كانت بطبيعتها فئوية نادت بقومية ما، أو ايديولوجية معينة، فحزب الاستقلال مثلاً، على الرغم من احترامه للقومية واعتزازه بها نجده لا يبين ولا يشرح ماهية هذه القومية ومقوماتها ولم يكن له رأي فيما يخص القوميات الأخرى، فهو لم يتطرق إلى القومية الكردية مع ان الحوادث والمشاكل قد حدثت في العراق بسبب إهمال السلطات الحاكمة للقضية الكردية(63).

وأما حرية الصحافة والرأي والتعبير التي كفلها الدستور، فقد تعرضت هي الأخرى إلى التعطيل مرات عدة، بحجة الظروف الاستثنائية والأحكام العرفية، بل تعرض أصحاب الرأي والمثقفون إلى الاعتقال والمحاكمة بمجرد انتقادهم سياسة الحكومات والنظام الملكي على نحو عام، مثل ما تعرض له الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997) من اعتقال وسجن وتعرضت جريدته (الرأي العام) إلى الإغلاق مرات عدة (64)، كذلك السياسي الديمقراطي كامل الخارجي (1897 - 1964) الذي تعرض إلى الاعتقال والحكم بالسجن مدة ثلاث سنوات؛ لانتقاده الحكم الملكي في الصحافة العراقية بسبب موقف الحكومة من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 (65). والأخطر من ذلك هو إصدار مراسيم لتعطيل حركة المطبوعات والنشر، ومن ذلك مرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954، الذي قيد فيه حرية النشر والصحافة، بحجة وجود نواقص خطيرة في القانون القديم الذي عد مصدراً لإشاعة الفوضى بين المواطنين والتمويل من مصادر سرية بقصد الترويج لمبادئ منعها القانون(66).

ومما يجدر ذكره هنا، ان النظام الملكي كان يفتقد إلى الشخصية القدوة الملهمة التي منها يستمد رؤساء الحكومات عزمهم وحکمتهم في إدارة الأمور فالدستور عد الملك مصون غير مسؤول وأعطاه صلاحيات محددة من قبيل المصادقة على قرارات مجلس الوزراء وقيادة القوات المسلحة وله الحق في اعلان الحرب بموافقة مجلس الوزراء وغيرها (67)،

ص: 312

أما المجلس التشريعي فعلى الرغم من أهميته الكبيرة فإن باستطاعة رئيس الوزراء المطالبة بحله في ظروف معينة، وبالفعل جری حله أكثر من مرة (68)، أما ولاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعماله فقد استقوا أفكارهم الدينية والسياسية والاجتماعية مما كان يلقيه إليهم من أوامر، وكانوا بدورهم يطبقون تلك المبادئ من غير مواربة وما كانوا يبالون في شيء غير تطبيق العدالة، ما حدا بالإمام دعوة أهل مصر بوجوب طاعة مالك الأشتر طاعة مطلقة بقوله لهم: (.. فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، لاَ كَلِيلُ الظُّبَةِ، وَلاَ نَابِي الضَّرِيبَةِ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فانْفِرُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقيِمُوا فَأَقِيمُوا، فَإِنَّهُ لاَ يُقْدِمُ وَلاَ يُحْجِمُ، وَلاَ يُؤَخِّرُ وَلاَ يُقَدِّمُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِي..)(69).

الخاتمة

مما تقدم ذكره، يمكن أن نجمل أهم ما توصلنا إليه من نتائج بالنقاط الآتية:

1. الزم أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر ولاته جميعاً بضرورة مراعاة جوانب مهمة في ادارة امصارهم ومنها احترام ارادة الناس وحقوقهم، ثم رسم لكل من يتولى شؤون الإدارة في العالم أجمع خطوط السلامة التي تمكنهم من تجاوز المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجههم، ويكسبوا ثقة الناس.

2. اعتمد حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) على الشريعة الإسلامية السمحاء بمصادر تشريعها كافة، وهذا ما تجسد في عهده إلى مالك الأشتر عامله على مصر وما فيه من حقوق وحريات عامة للشعب، أما الحكم الملكي في العراق فقد اعتمد دستوراً وضعياً جرى مخالفته مرات عدة من أجل تثبيت السلطة وليس من أجل مراعاة حرية الناس وحقوقهم.

ص: 313

3. قدم الإمام علي (عليه السلام) المصلحة الانسانية في نظرته إلى حق المواطنة وبالأخص الأقليات الدينية والعرقية المنضوية تحت ظل الحكم الاسلامي، فأشار إلى ذلك بأجمل نص عرفته البشرية عندما قسم الرعية في قوله: (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: أما أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وأما نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق).. وألزم عامله على مصر بالعمل به، وهذا الشيء افتقده النظام الملكي طوال سنوات حكمه التي بلغت ثمان وثلاثين سنة في العراق.

4. من أسباب نجاح حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) في الأمصار الإسلامية هو شخصيته الملهمة وقيادته العادلة وسعي ولاته وعماله على تنفيذ سياسته وعدله، وهو ما يفتقده النظام الملكي في العراق الذي قام في بدايته تحت ظل الانتداب البريطاني، فضلاً عن تداخل السلطات والتمايز في صلاحياتها.

5. ان الخلفيات الفكرية وآراء قيادات الحكومات العراقية المختلفة التي تعاقبت على حكم العراق خلال تلك المدة، دفعتها إلى النظر للقوميات الصغيرة والأقليات بنظرة شوفينية عنصرية، فالأفكار القومية المنتشرة حينذاك كانت سبباً في التعصب والتمييز، بينما نجد النظرة الشمولية الانسانية للإمام علي (عليه السلام) حدت على نحو كبير من تمييز العنصر العربي أو المسلم على غيره من أبناء الوطن الواحد.

ص: 314

الهوامش

1. البرت منتشاشفيلي، العراق في سنوات الانتداب البريطاني، ترجمة هاشم التكريتي، بغداد، 1978، ص 2 - 3.

2. ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث 19.. إلى سنة 195.، ج 1، ترجمة سلیم طه التكريتي، منشورات الفجر، بغداد، 1988، ص 217.

3. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج 1، ط 7،، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ، 1988، ص 46 - 47.

4. عبد المجيد کامل عبد اللطيف، سيرة الملك فيصل الأول منذ نشأته حتى وضعه اللبنة الأولى للدولة العراقية الحديثة 1883 - 1924، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 25، العدد 3، 2,16، ص 571 - 573.

5. ابن منظور، لسان العرب المجلد 13، دار صادر، بیروت. 1968، ص 451.

6. بشير نافع وآخرون، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية (مركز دراسات الوحدة العربية)، بيروت 2..1، ص 27.

7. سعد عبد الحسين نعمة، دور مبدأ المواطنة في تعزيز المشاركة السياسية في العراق، مجلة كلية الدراسات الإنسانية، النجف الاشرف، العدد 3، 13، 2، ص 139.

8. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، ج 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985، ص 679 - 68..

9.أثير إدريس عبد الزهرة، مستقبل التجربة الدستورية في العراق، دار ومكتبة البصائر، بیروت، 2٫11، ص 31.

ص: 315

10. وسن حمید رشید، الضمانات الدستورية للحقوق والحريات في الدستور العراقي لعام 2..5، مجلة جامعة بابل، العلوم الإنسانية، المجلد 21، العدد 3، 13، 2، ص 653.

11. القانون الأساسي العراقي، بغداد، 1925، ص 2.

12. المصدر نفسه، ص 2.

13. المصدر نفسه، ص 3.

14. المصدر نفسه، ص 3.

15. شریف خشن شامخ الشويلي، عبد الكريم الأُزري حياته ودوره الإداري والسياسي في العراق حتى عام 1946، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2٫11، ص 1،8.

16. الحكومة العراقية، مجموعة القوانين والنظامات الصادرة بين 1 تشرين الأول 192. و 31 كانون الأول 1922، المطبعة العصرية، بغداد ،1922، ص 232.

17. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج 3، ط 7، دار الرافدين للطباعة والنشر، 2..8، ص 239.

18. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الأحزاب السياسية العراقية، مركز الأبجدية للطباعة والنشر، بيروت، 1983، ص 39.

19. فاروق صالح العمر، الأحزاب السياسية في العراق 1921 - 1932، مطبعة الإرشاد بغداد، 1978، ص 59.

20. د. ك. و، الملفة 414، وزارة المستعمرات، عربي، ملحوظات عن شيوخ وعشائر منطقة الشطرة ووزراء، 193.، و 73، ص 8..

ص: 316

21. جعفر عباس حمیدي، الديمقراطية والتعددية السياسية في مناهج ومواقف الأحزاب السياسية العلنية في العراق 1922 - 1954، مجلة الحكمة، بيت الحكمة بغداد، العدد 38، السنة السابعة، كانون الأول 2..4، ص 18.

22. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ص 222 - 223.

23. سامي عبد الحافظ القيسي، ياسين الهاشمي ودوره في السياسة العراقية بين عامي 1922 - 1936، البصرة، 1975، ص 291.

24. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج 2، ط 5، بیروت، 1978، ص 1..- 1٫1.

25. حسن لطیف کاظم الزبيدي، موسوعة الأحزاب السياسية العراقية، مؤسسة العارف للمطبوعات، بیروت، 7.2، ص 34.

26. فاضل حسين تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي 1946 - 1958، مطبعة الشعب، بغداد، 1963، ص 32 - 33.

27. عبد الأمير هادي العكام، تأريخ حزب الاستقلال العراقي 1946 - 1958، دار الحرية للطباعة، بغداد، 198، ص 39.

28. جعفر عباس حمیدي، التطورات السياسية في العراق 1941 - 1953، بغداد، 1976، ص 8، 2 - 9، 2.

29. المصدر نفسه، ص 283 -284.

30. عبد الأمير هادي العکام، المصدر السابق، ص 52 - 53.

31. سعاد خيري، من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق، ج 1921. - 1958،

ص: 317

مطبعة الاديب بغداد، 1974، ص 126 - 128.

32. حسن لطیف کاظم الزبيدي، المصدر السابق، ص 34.

33. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ص 33.

34. المصدر نفسه، ص 53 - 54.

35. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزرات العراقية، ج 5، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص 32 - 46.

36. توفيق السويدي، مذكراتي، نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، الذاكرة للنشر والتوزيع، بیروت، 2٫11، ص 359.

37. ستار جبار الجابري، سعد صالح ودوره السياسي في العراق، مطبعة المشرق، بغداد، 1997، ص 126.

38. أمل هندي الخزعلي، أسس بناء الجهاز الإداري الكفء، قراءة في عهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر، مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد، العدد 42، 2،11، ص 116.

39. خضير عبد الرضا جاسم الخفاجي، الفكر العسكري وعدله الإسلامي في عهد الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 21، العدد 2,1،1.، ص 4..

40. رشید باني شنان الظالمي، الفكر الاقتصادي الاسلامي عند الإمام علي (عليه السلام)، مجلة أوروك للعلوم الإنسانية، جامعة المثنى، المجلد 5، العدد 1، 2٫12، ص 187.

41. الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، تعليق د. صبحي

ص: 318

الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 138. ه، خطبة 216، ص 187.

42. للإطلاع على نماذج من تلك المخالفات ينظر: بشير حمود کاظم الغزالي، القانون الأساسي العراقي ومجلس النواب، ضمن كتاب المفصل في تاريخ العراق المعاصر، بغداد، 2..3، ص 448 - 455.

43. محسن الموسوي، دولة الإمام علي (عليه السلام)، دار البيان العربي، بیروت، 1993، ص 19..

44. جريدة الوطن، بغداد، العدد 258، 14 كانون الأول 1946.

45. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى وإليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، اعداد المستشار فليح سوادي، ط 1، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الثقافية والفكرية، النجف الاشرف، 2٫1، ص 15 - 16، ص 19.

46. حسين الشريفي، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين الاصالة والادارة مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 5، العدد 32، 15، 2، ص 124.

47. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ص 34 - 35.

48. خلال مدة استقلال العراق، قرر البطريرك مار شمعون المُطالبة بحكم ذاتي للآثوريين في شمال العراق وسعی لحشد الدعم البريطاني من أجل ذلك، وعرض هذه القضية على عصبة الأمم عام 1932، وقد طالب مار شمعون الحكومة العراقية وعصبة الأمم بالاعتراف بالاثوريين بوصفهم طائفة من طوائف العراق وانشاء منطقة حكم ذاتي لهم، وإعطاءه صلاحية لتعيين عضو يمثلهم في البرلمان العراقي. غير أن

ص: 319

الحكومة العراقية سرعان ما رفضت هذه المطالب خشية تلقي دعوات مماثلة من قبل مجموعات عرقية ودينية أخرى، عنئذ قرر اتباع البطريرك الاستقالة من اللواء الاثوري الذي كان يخدم تحت السلطة البريطانية وتكوين مليشيا تمركزت في منطقة العمادية، وبعد عدة محاولات من الحكومة العراقية بإقناع آثوريي المناطق الممتدة من شیخان إلى زاخو بقبول الجنسية العراقية قرر «مالك ياقو» أحد زعماء الآثوريين اصطحاب عدد من الرجال إلى سوريا في 21 تموز أملا في إقناع الحكومة الفرنسية بإقامة حكم شبه ذاتي لهم في الأراضي الخاضعة تحت سيطرتها شرقي سوريا غير أن الفرنسيين رفضوا السماح لهم بالبقاء في سوريا وقاموا بمصادرة أسلحتهم فقرر هؤلاء العودة مجددا إلى العراق بعد أن اكتشفوا استحالة تقديم مطالبهم في سوريا فأبلغ الفرنسيون السلطات العراقية أن حوالي 8.. آثوري سيعبر الحدود عائدا إلى العراق، وحصلت مواجهات بينهم وبين الجيش العراقي، الذي قام في 5 آب 1933 بعمليات قتل وسلب ونهب وحرق للقرى الاثورية وقتل للنساء والأطفال. للمزيد ينظر: ق. ب. ما تفييف بارمتي، الاثوريين والمسألة الاثورية في العصر الحديث، مطبعة الأجيال دمشق، 1989؛ عمار يوسف عبد الله، بريطانيا والاثوريون في العراق 1918 - 1933، مجلة التربية والعلم، كلية التربية، جامعة الموصل، المجلد 14، العدد 1، 2..7، ص 66 - 7..

49. د. ك. و، ملفات البلاط الملكي، القضية الآثورية، الملفة رقم 1179 / 311، و 44، ص 6.

50. بارمتي، المصدر السابق، ص 17 - 173.

51.ناصر عبد الأله دوش وكوثر هاتف کریم، القيم الخلقية في وصايا الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، جامعة الكوفة،

ص: 320

العدد 14، السنة الثامنة، 14، 2، ص 226.

52. کاظم عبد فريح المولى، نزاهة الحاكم عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 3، العدد 32، 15، 2، ص 26..

53. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ص 16، ص 21.

54. علي سعد عمران وحيدر حسين علي، المؤسسة الاصلاحية في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (دراسة قانونية)، مجلة رسالة الحقوق، جامعة كربلاء، العدد 1، 11، 2، ص 199.

55. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، حقوق الانسان في دولة الإمام «دراسة مقارنة»، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بابل، المجلد 1، العدد 7، 2٫11، ص 183.

56. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ص 18.

57. الشريف الرضي المصدر السابق، خطبة 216، ص 421.

58. غسان السعد، حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (رؤية علمية)، ط 2، بغداد، 2..8، ص 14..

59. حیدر مالك فرج البديري، التربية السياسية في فكر الإمام علي عليه السلام ،(لارك) (مجلة)، كلية الآداب، جامعة واسط، العدد 5، السنة 3، 2٫11، ص 282.

60. خولة عيسى صالح الفاضلي، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الإمام

ص: 321

علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، مجلة التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، العدد 2، 14، 2 ص 62 - 63.

61. جعفر الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، قسم الكاظمين، ج 1، ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1987، ص 295.

62. المصدر نفسه، ص 89.

63. عبد الأمير هادي العکام، المصدر السابق، ص 4..

64. جلال عبد الله خلف، ايديولوجية الفكر اليساري في أدب محمد مهدي الجواهري بين التصور والتطبيق، مجلة الأستإذ، كلية التربية ابن رشد، جامعة بغداد، العدد 1، 2، 12، 2، ص 399 - 4...

65. عبد الرحمن البياتي،، سعید قزاز ودوره في سياسة العراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2..1، ص 159.

66. جريدة الوقائع العراقية، العدد 351.، في 16 تشرين الثاني 1954.

67. سليم حسين ياسين، الدستور العراقي الأول لسنة 1925 (دراسة تاريخية)، مجلة أبحاث ميسان، العدد 11، 2..9، ص 86.

68. ناجی شوکت، سيرة وذكريات ثمانين عأما 1894 - 1974، ج 2، منشورات مكتبة اليقضة العربية، بغداد، 199، ص 579.

69. الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص 478.

ص: 322

المصادر

القرآن الكريم.

الوثائق غير المنشورة:

1. د. ك. و، ألملفه 414، وزارة المستعمرات، عربي، ملحوظات عن شيوخ وعشائر منطقة الشطرة ووزراء، 193..

2. د. ك. و، ملفات البلاط الملكي، القضية الآثورية، الملفة رقم 1179 / 311.

الوثائق المنشورة:

1. الحكومة العراقية، مجموعة القوانين والنظامات الصادرة بين 1 تشرين الأول 192.

و 31 كانون الأول 1922، المطبعة العصرية، بغداد ،1922.

2. القانون الأساسي العراقي، بغداد، 1925.

الكتب

1. ابن منظور، لسان العرب المجلد 13، دار صادر، بیروت. 1968.

2. أثير إدريس عبد الزهرة، مستقبل التجربة الدستورية في العراق، دار ومكتبة البصائر، بیروت، 11، 2.

3. البرت منتشا شفيلي، العراق في سنوات الانتداب البريطاني، ترجمة هاشم التكريتي، بغداد، 1978.

4. بشير نافع وآخرون، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية «مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2..1.

5. بشير حمود کاظم الغزالي، القانون الأساسي العراقي ومجلس النواب، ضمن كتاب المفصل في تاريخ العراق المعاصر، بغداد، 2..3.

6. توفيق السويدي، مذكراتي، نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، الذاكرة

ص: 323

للنشر والتوزيع، بيروت، 11، 2.

7. جعفر عباس حمیدي، التطورات السياسية في العراق 1941 - 1953، بغداد، 1976.

8. سامي عبد الحافظ القيسي، ياسين الهاشمي ودوره في السياسة العراقية بين عامي 1922 - 1936، البصرة، 1975.

9. ستار جبار الجابري، سعد صالح ودوره السياسي في العراق، مطبعة المشرق، بغداد، 1997.

10. ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث 19.. إلى سنة 195.، ج 1، ترجمة سليم طه التكريتي، منشورات الفجر، بغداد، 1988.

11. سعاد خيري، من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق، ج 1 (192. - 1958)، مطبعة الاديب بغداد، 1974.

12. الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، تعليق د. صبحي الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 138.ه.

13. عبد الأمير هادي العكام، تأريخ حزب الاستقلال العراقي 1946 - 1958، دار الحرية للطباعة، بغداد، 198..

14. عبد الرحمن البياتي،، سعید قزاز ودوره في سياسة العراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2..1.

15. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الأحزاب السياسية العراقية، مركز الأبجدية للطباعة والنشر، بيروت، 1983.

16. تاريخ الوزارات العراقية، ج 1، ط 7،، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.

ص: 324

17. تاريخ الوزارات العراقية، ج 2، ط 5، بیروت، 1978.

18. تاريخ الوزرات العراقية، ج 5، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.

19. تاريخ العراق السياسي الحديث، ج 3، ط 7، دار الرافدين للطباعة والنشر، 2..8.

20. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى وإليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، اعداد المستشار فليح سوادي، ط 1، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الثقافية والفكرية، النجف الاشرف، 2٫1..

21. غسان السعد، حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (رؤية علمية)، ط 2، بغداد، 2..8.

22. فاروق صالح العمر، الأحزاب السياسية في العراق 1921 - 1932، مطبعة الإرشاد بغداد، 1978.

23. فاضل حسين تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي 1946 - 1958، مطبعة الشعب، بغداد، 1963.

24. ق. ب. ما تفییف بارمتي، الاثوريين والمسألة الاثورية في العصر الحديث، مطبعة الأجيال دمشق، 1989.

25. محسن الموسوي، دولة الإمام علي (عليه السلام)، دار البيان العربي، بيروت، 1993.

26. ناجي شوکت، سيرة وذكريات ثمانين عأما 1894 - 1974، ج 2، منشورات مكتبة اليقضة العربية، بغداد، 199..

الرسائل والأطاريح غير المنشورة

شریف خشن شامخ الشويلي، عبد الكريم الأُزري حياته ودوره الإداري والسياسي في العراق حتى عام 1946، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد

ص: 325

، 11، 2.

الموسوعات

1. جعفر الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، قسم الكاظمين، ج 1، ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1987.

2. حسن لطیف کاظم الزبيدي، موسوعة الأحزاب السياسية العراقية، مؤسسة العارف للمطبوعات، بیروت، 2..7.

3. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، ج 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985.

البحوث والدراسات المنشورة

1. أمل هندي الخز علي، أسس بناء الجهاز الإداري الكفء، قراءة في عهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر، مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد، العدد 42، 11، 2.

2. جعفر عباس حمیدي، الديمقراطية والتعددية السياسية في مناهج ومواقف الأحزاب السياسية العلنية في العراق 1922 - 1954، مجلة الحكمة، بيت الحكمة بغداد، العدد 38، السنة السابعة، كانون الأول 2..4.

3. جلال عبد الله خلف، ايديولوجية الفكر اليساري في أدب محمد مهدي الجواهري بين التصور والتطبيق، مجلة الأستاذ، كلية التربية ابن رشد، جامعة بغداد، العدد 1، 2، 12، 2.

4. حسين الشريفي، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين الاصالة والادارة، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 5، العدد 32، 15، 2.

5. حیدر مالك فرج البديري، التربية السياسية في فكر الإمام علي (عليه السلام) (لارك) (مجلة)، كلية الآداب، جامعة واسط، العدد 5، السنة 3، 11، 2.

ص: 326

6. خضير عبد الرضا جاسم الخفاجي، الفكر العسكري وعدله الإسلامي في عهد الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 21، العدد 1، 1، 2..

7. خولة عيسى صالح الفاضلي، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، مجلة التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، العدد 2، 14، 2.

8. رشيد باني شنان الظالمي، الفكر الاقتصادي الاسلامي عند الإمام علي (عليه السلام)، مجلة أوروك للعلوم الإنسانية، جامعة المثنى، المجلد 5، العدد 1، 12، 2.

9. سعد عبد الحسين نعمة، دور مبدأ المواطنة في تعزيز المشاركة السياسية في العراق، مجلة كلية الدراسات الإنسانية، النجف الاشرف، العدد 3، 13، 2.

10. سلیم حسين ياسين، الدستور العراقي الأول لسنة 1925 (دراسة تاريخية)، مجلة أبحاث ميسان، العدد 11، 2..9.

11. عبد المجيد کامل عبد اللطيف، سيرة الملك فيصل الأول منذ نشأته حتى وضعه اللبنة الأولى للدولة العراقية الحديثة 1883 - 1924، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 25، العدد 3، 14، 2.

12. علي سعد عمران وحيدر حسين علي، المؤسسة الإصلاحية في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) «دراسة قانونية»، مجلة رسالة الحقوق، جامعة كربلاء، العدد 1، 11، 2.

13. عمار يوسف عبد الله، بريطانيا والاثوريون في العراق 1918 - 1933، مجلة التربية والعلم، كلية التربية، جامعة الموصل، المجلد 14، العدد 1، 2..7.

14. کاظم عبد فريح المولى، نزاهة الحاكم عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 327

في نهج البلاغة، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 3، العدد 32، 15، 2.

15. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، حقوق الانسان في دولة الإمام «دراسة مقارنة»، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بابل، المجلد 1، العدد 7، 11، 2.

16. ناصر عبد الأله دوش وكوثر هاتف کریم، القيم الخُلقية في وصايا الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، جامعة الكوفة، العدد 14، السنة الثامنة، 14، 2.

17. وسن حمید رشید، الضمانات الدستورية للحقوق والحريات في الدستور العراقي العام 2..5، مجلة جامعة بابل، العلوم الإنسانية، المجلد 21، العدد 3، 13، 2.

الصحف

1. جريدة الوطن، بغداد، العدد 258، 14 كانون الأول 1946.

2. جريدة الوقائع العراقية، العدد 351.، في 16 تشرين الثاني 1954.

ص: 328

المواطنة وحقوق الانسان في فكر الامام علي (عليه السلام)

اشارة

ا. م. د انتصارهاشم مهدي

ا. م. د ايمان حسن الجنابي

ص: 329

ص: 330

الملخص

المواطنة بشكل بسيط وبدون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتعمق في مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من أسس وکيفية منح المواطنة وغير ذلك من مفاهيم لم نمارسها في حياتنا اليومية، فالمواطن هو الإنسان الذي يستقر في بقعة أرض معينة وينتسب إليها، أي المكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أي علاقة بين الأفراد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، ولكن هل يولد الإنسان مواطناً ومتى يصبح الفرد مواطناً حقيقياً. إذا العنصر الأساسي في مفهوم المواطنة هو الانتماء الذي لا يمكن أن يتحقق بدون تربية المواطنية فهي ضرورية لتحقيق المواطنة، من هنا نستنتج بأنه روح الديمقراطية هي المواطنة فلذلك قبل أن نتكلم عن الديمقراطية يجب أن نعي حقيقة المواطنة التي هي قلب النابض لمفهوم الديمقراطية، من هنا ضرورة التطرق إلى حقوق وواجبات المواطن في الدولة التي ينتمي إليها، فما هي الحقوق الأساسية لمفهوم المواطنة في دولة ديمقراطية، فيترتب على المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسية من حقوق وحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين في الدولة دونما تميز من أي نوع ولا سيما التمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو أي وضع آخر وهذه الحقوق هي: الحقوق الحقوق المدنية والحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية نتاولها بالبحث بالتفصيل في فكر حكم الامام علي ابن ابي طالب في بحثنا متناولين الحقوق والواجبات بتفاصيلها ودور الامام علي في وضع نظام اجتماعي وحقوق سیاسية وقضائية وحرية

ص: 331

دينية في حكمه فضلا عن الدروس العملية التي اعطاها للانسانية كحق. خرج البحث بمجموعة من الاستنتاجات والتوصيات والمقترحات.

ما هي المواطنة، هل نستطيع أن نطبق هذا المفهوم في مجتمعاتنا التي ما زالت ولاءتها متبلورة حول العرق والجنس والأثني والقومي والديني، مبتعدين كل البعد عن مفهوم المواطنة والتي تنطوي تحت مفهوم الانتماء للدولة وليس لشيء آخر. على الرغم من أن هذا المفهوم ليس حديثاً بل أنه قديم يرجع إلى عصور قديمة مثل اليونانية والرمانية، وقد تطور مفهوم المواطنة بشكل مستمر إلا إنه تراجع بعد سقوط الإمبراطورية الرمانية، وفي فترة الإقطاع وحتى نهاية العصور الوسطى والتي امتدت مابين 3.. حتى 13.. م، وتطور مفهوم المواطنة بعد ذلك لتأثره بحدثين هامين هما إعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1786، والمبادئ التي آتت بها الثورة الفرنسية في عام 1789 فكانا نقطة تحول تاريخية في مفهوم المواطنة.

ما المواطنة؟

المواطنة بشكل بسيط وبدون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتعمق في مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من أسس وکيفية منح المواطنة وغير ذلك من مفاهيم لم نارسها في حياتنا اليومية، فالمواطن هو الإنسان الذي يستقر في بقعة أرض معينة وينتسب إليها، أي المكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أي علاقة بين الأفراد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك

ص: 332

العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، ولكن هل يولد الإنسان مواطناً ومتی يصبح الفرد مواطناً حقيقياً. إذا العنصر الأساسي في مفهوم المواطنة هو الانتماء الذي لا يمكن أن يتحقق بدون تربية المواطنية فهي ضرورية لتحقيق المواطنة، من هنا نستنتج بأنه روح الديمقراطية هي المواطنة فلذلك قبل أن نتكلم عن الديمقراطية يجب أن نعي حقيقة المواطنة التي هي قلب النابض لمفهوم الديمقراطية، من هنا ضرورة التطرق إلى حقوق وواجبات المواطن في الدولة التي ينتمي إليها، فما هي الحقوق الأساسية لمفهوم المواطنة في دولة ديمقراطية، فيترتب على المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسية من حقوق وحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين في الدولة دونما تميز من أي نوع ولا سيما التميز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو أي وضع آخر وهذه الحقوق کما یلي:

الحقوق المدنية

وهي مجموعة من الحقوق تتمثل في حق المواطن في الحياة وعدم إخضاعه للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية او الاحاطة بالكرامة وعدم إجراء أية تجربة طبية أو علمية على أي مواطن دون رضاه، وعدم استرقاق أحد والاعتراف بحرية كل مواطن طالما لا تخالف القوانين ولا تتعارض مع حرية آخرين، وحق كل مواطن في الأمان على شخصه وعدم اعتقاله أو توقيفه تعسفياً، وحق كل مواطن في الملكية الخاصة، وحقه في حرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته داخل حدود الدولة ومغادرتها والعودة إليها وحق كل مواطن في المساواة أمام القانون، وحقه في أن يعترف له بالشخصية القانونية وعدم التدخل في خصوصية المواطن او في شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه او سمعته وحق كل مواطن في حماية القانون له، وحقه في حرية الفكر، والوجدان والدین واعتناق الآراء وحرية التعبير وفق النظام والقانون وحق كل طفل في اكتساب جنسيته.

ص: 333

الحقوق السياسية

وتتمثل هذه الحقوق بحق الانتخابات في السلطة التشريعية والسلطات المحلية والبلديات والترشيح، وحق كل مواطن بالعضوية في الأحزاب وتنظيم حركات وجمعيات ومحاولة التأثير على القرار السياسي وشكل اتخاذه من خلال الحصول على المعلومات ضمن القانون والحق في تقلد الوظائف العامة في الدولة والحق في التجمع السلمي.

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:

وتتمثل الحقوق الاقتصادية أساسا بحق كل مواطن في العمل والحق في العمل في ظروف منصفة والحرية النقابية من حيث النقابات والانضمام إليها والحق في الإضراب، وتتمثل الحقوق الاجتماعية بحق كل مواطن بحد أدنى من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وتوفير الحماية الاجتماعية والحق في الرعاية الصحية والحق في الغداء الكافي والحق في التامين الاجتماعي والحق في المسكن والحق في المساعدة والحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة والحق في الخدمات كافية لكل مواطن، وتتمثل الحقوق الثقافية بحق كل مواطن بالتعليم والثقافة هذه بالنسبة الى الحقوق ام الواجبات التي تقع على عاتق المواطن فهيا كالآتي:

- واجب دفع الضرائب للدولة

- واجب إطاعة القوانين

- واجب الدفاع عن الدولة

حيث تعتبر الواجبات المترتبة على المواطن نتيجة منطقية وامرأ مقبولاً في ضل

ص: 334

نظام ديمقراطي حقيقي يوفر الحقوق والحريات للمواطن وبشكل متساوي وبدون تمیز.

hassan-161@hotmail.com

يقول العلماء ان الامام علي سباق عصره في كل من كان يطرحه من علوم ومعارف ونظم تتلائم وطبيعة البشر وحاجات المجتمع وقيام الدولة ومن افاق افکار حكمته الواسعة المستوعبة للقضايا المجتمع والمعالجة لها والملبية للطموحات بروح الاحترام الالفة والعدالة فقد عبر رجال القانون عن المواطنة الحقيقية قائلين انها تعبر عن منظومة الحقوق المتكاملة في ظل واجبات وطنية محددة والمواطنة بهذا المعنى تعني عدم التمیييز بين ابناء الوطن الواحد رجلا او امرأة كبيرا او صغيرا ابيضا ام اسودا غني او فقيرا مسلما ام مسيحيا عربي ام اعجمي فالمعيار الاساسي ان هذا المواطن او ذاك يحمل الهوية الفلانية وله الحق في الحياة الكريمة المتساوية المتكافئة على كافة المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية كما تعبر عن التزامات وواجبات في الانتماء والولاء ولهذا الوطن وهو يترجم عمليا من خلال الدفاع عن البلد في الازمات ودفع الضرائب والالتزام بالنظام والقانون وبالتالي فإن اعتراض ينصب على (تديين) المواطنة.. لان هذا امر يعني مصادرة مفهوم المواطنة لصالح دین محدد وهو ما يعد تمييزا ترفضه مباديء المواطنة وقيمها كما يمثل ذلك (اختطافا) المباديء وقيم إنسانية عامة لايجوز تخصيصها لصالح فئة او دين او مصلحة شخصية او تعصبات عرقية كما ويؤكد علماء القانون والاحوال الشخصية في ان الاسس النظرية الحديثة لبناء ثقافة المواطنة تنطلق من عملية بناء الدولة العصرية من خلال منظور حقوق الانسان بمعزل عن الانقسام الجنسي او التمايز الطبقي واختلاف العرق واللون وللغة الدين ايضا. فالمواطنة ليست منحة من أحد بمقدار ما ترتبط بالتقدم الحضاري والحفاظ على منظومة حقوق المواطن والاصرار عليها والثبات على مكتسباتها، ويذهب الغرب بان الفضل يعود بشكل مباشر

ص: 335

الى قيام الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قامت بتأصيل المواطنة الحديثة من خلال الفصل بين المؤمن (في إيجاد للانتماء الديني) والمواطن (في إيجاد للانتماء الوطنی) وهذه الحالة حدثت عبر مسار طويل ومعقد من الثورات القومية والديمقراطية والتطورات الفكرية والعلمية على مستوى العديد من الدول والحضارات وهو ما أدى الى التاكيد على حقوق المواطنة من خلال بناء الدولة المدنية الحديثة والوعي بأن الديمقراطية لاتتحقق بمجرد وجود دولة مدنية بل بوجود ضمانات لحفظ التوازن بين المصلحة الخاصة للمواطن والمصلحة العامة لوطنه. وتتجاوز المواطنة بهذا الشكل روابط الدم (القبيلة) والقرابة (العائلة) الى الاهتمام بالتكوين السياسي للمواطنين بوجه عام بمعنى إنها تجعل من السياسة موضوع مشاركة عامة للمواطنين في تقرير مايخص مصيرهم وفي هذا الصدد لا يمكن ان نتجاهل مفهوم (المواطنة) في ادبيات التيار الاسلامي فكلمة (مسلم) تعني مواطنا له حقوق وعليه واجبات لان كلمة (مواطن) و (مواطنة) هي ابتکار حدیث غير ان تتمتع المسلمين بحقوق المواطنة كان مسألة نظرية لانه - في الواقع - تم حرمان أغلبيتهم من المشاركة السياسية لاسباب سياسية ومذهبية ودينية ولعل اهمها سيادة النظم السلطوية السياسية في العديد من الاقطار الاسلامية. واني لاعجب من بعض المفكريين الاسلامين في اسلوب تدیينه لكل ماهو مدني من تحرير المراة مرورا بالیات الاقتصاد وصولا الى المواطنة الان وهو امر اعتقد في خطورته وذلك من على غرار الربط القسري بين النظريات العلمية وبين النصوص الدينية بدون انتباه الى النصوص الدينية هي ثوابت على مر الزمان والمكان وان النظريات العلمية متغير حسب التقدم العلمي والتكنولوجي مما يجعل البعض يرفض محاولة إيجاد صيغة توفيقية بين العلم والدين تحت بند الاعجاز العلمي وهي في مخيلة البعض نوع من التاكيد على قوة هذا الدين او ذاك في اختزال مخل لصالح الدين وهذا يؤدي الى تفكيك النصوص الدينية لصالح اهداف خاصة او تفسيرات محدودة تتطابق مع مصالح واهداف شخصية او نظرات ضيقة بعد

ص: 336

هذه المقدمة نقول:

اولا: ان الامام علي في زمانه كان قائد الاعظم دولة واوسعها

ثانیا: عندما اقدم الامام في خلافته على تلك الاصلاحات بل الانقلاب على كل تلك النظم والتطبيقات التي انتهجها من كان قبله من الحكام ما كانت صادرة عن هواجس او خوف او ضعف لمحابات جهة او ماشاكلها من المصالح وغايات بل كانت نابعة من جوهر طبيعته في اقامت العدالة وتطبيقها على جميع الموطنين بدون استثناء.

ثالثا: فقد اقدم الامام منذ اليوم الاول لتوليه الخلافة بالغاء (العطاء الطبقي) الذي ابتدعه عمر في بداية خلافته حسب السابقة في الاسلام ووفق المنزلة الاجتماعية والذي استمر حتى عهد عثمان لكن الامام الغي ذلك النظام وجعله عطاء يتساوی فيه السابق والاحق بالاسلام والزعيم والوضيع والمسلم وغيره والكل سواء والكل مواطن فلا فرق بين زيد ولاعمر.

رابعا: كما واصدر قرارا وفي بداية خلافته ايضا بان كتب الى ولاة الامصار ان ينفقوا مايحصل لديهم من الاموال على ولاياتهم واوطانهم اولا وبالذات ليتمتع المواطن بثروته وبناء وطنه ولا ينقلوها الى المركز الا ما فاض وزاد عن حاجاتهم وهذا مخالف وعكس ما كان يفعله من سابقه من الحكام حيث كانت ترسل اليهم اكداس الاموال وهذا ما تعسف به بعد ذلك خلفاء بني امية حيث يقول الخليفة (الوليد) لعماله احلبهم فاذا انتهى الحليب فاحلبلي (الدم).

خامسا: اعطائه الحقوق لكافة الاديان في حرية مباشرة طقوسها وعباداتها في بيعها وكنائسها وصوامعها واديرتها ضمانا لحقوق المواطنة.

ص: 337

سادسا: اطلاقه العنان لحرية الفكر والرأي بشرط ان لا يتعارض والقانون ويمس بالمجتمع فالجميع سواء.

سابعا: ان مفهوم المواطنة الحديثة هو تكافيء دماء كل المواطنين فلا فرق بين سيد ووضيع ولا كبير وصغير وهذا ما طبقه الامام علي بحذافيره عندما وصله نبأ غارة الغامدي - احد قادة معاوية الذين كان يرسلهم الى حواضر الدولة الاسلامية للنهب والذبح والرعب والارهاب - بنهم ذبحوا النصارى واليهود وسلبوا الحلي والاموال فتنهد الصعداء وقال: لو مات الانسان كمدا وحسرة ماكان عندي ملوما انهم اخواننا (دمائهم دمائنا). انظر الغارات للثقفي وشرح النهج للمعتزلي وتاريخ الطبري ثامنا: فقد حوت وثيقة عهده الى مالك الاشتر واليه على مصر كثيرا من النظم المدنية والمساوات والعدالة بين الناس في مصر وعلى الوالي يجب مراعات التنوع في النسيج الاجتماعي لمصر. تاسعا: ان مابشر به الامام علي نابع من طبيعته الانسانية المثالية في نشر قيم العدالة والمساوات في المجتمع والتسوية في الحقوق والواجبات ويصرح بها في موضوعية وشفافية تامة حيث يؤكد ومن منظومة قيمه الاخلاقية الرسالية كقوله كلكم ابناء ادم وادم من تراب و(الوطن ما حملك) حيث لم يجعله مؤطرا بمكان معين بل المتعين الاساسي للانسان ان يتوفر ما يكفل حقوقك فيه فذاك هو الوطن فمادمت في اي مكان وانت محترم وامن ولك كرامتك ومصونة حقوقك فتلك الارض (وطنك) وطبعا مع مراعات الواجبات وكذلك قوله (لا وطن مع فقر ولا غربة مع غنی).

ص: 338

اولاً: حقوق الانسان عند الامام علي ابن ابي طالب

مفهوم الحق:

الحقّ في اللغة: المطابقة والموافقة، لمطابقة رِجْلِ الباب في حَقِّهِ لدورانه على استقامة(1).

والحقّ عند الفقهاء هو: ما ثبت به الحكم(2).

ومعنى ذلك أنّ الفقهاء علّقوه بالقضاء، فأصبح للحقّ آثار. ومهمّة القضاء الكشف عنه لتعيين آثاره.

وبحث الفقهاء - من كافّة المذاهب - موضوع الحقّ في باب الحكم على الغائب، وباب الشهادات؛ لكونها الوسيلة لإثباته، فقسموا الحقّ إلى مراتب تبعاً لقوّة الشهادة؛ فهناك من الحقوق ما يثبت بأربعة شهود، وهناك ما يثبت بثلاثة شهود، وشاهدين، وشاهد واحد.

وهناك من الحقوق ما يثبت بشهادة النساء، وهناك ما لا يثبت إلا بشهادة الرجال. ومن الذين ربطوا بين نظرية الحقوق الفقهية والحكم على الغائب سلار، وهو أبو يعلى الديلمي، المتوفّى سنة (463 ه)، فقد قسّم الحقوق إلى ثلاثة أنواع: حقّ الله، وحقّ الآدمي، وحقّ الله تعالى يتعلّق به حقّ الآدمي. ثمّ يضرب أمثلة على حقّ الله تعالى: الزني واللواط والخمر فلا يُقضى فيها على الغائب؛ لأنّ القاضي مأمورٌ بالتخفيف، وحقّ الله قابل للتخفيف، بخلاف حقوق الناس التي لا يمكن التخفيف فيها؛ لذا يُقضى فيها على الغائب، كما يقول الصهر شتي: كالدين ونحوه، أمّا النوع الثالث فالمثال الذي يضربه سلار بالرسقة، فإنه يقضي فيها على الغائب بالغرم دون القطع(3).

أمّا هبة الله الراوندي المتوفّى سنة (573 ه)، فيربط بين الحقوق والشهادات، فيقسّم الحقوق تبعاً لذلك إلى ضربين: حقّ الله وحقّ الآدمي.

ص: 339

«فأمّا حقّ الآدمي فإنّه ينقسم - في باب الشهادة - إلى ثلاثة أقسام: أحدها لا يثبت إلا بشاهدین ذکرین کالقصاص، والثاني: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وهو كلُّ ما كان مالاً أو المقصود منه المال، والثالث: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين، أو أربعة نسوة، وهو الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب.

وأمّا حقوق الله فجميعها لا مدخل للنساء، ولا للشاهد مع اليمين فيها، وهي ثلاثة أضرب: ما لا يثبت إلاّ بأربعة؛ وهو الزنى واللواط إذا كانا بالأحياء، فإن كانا بالأموات فيكفي في ذلك شاهدان، وإتيان البهائم. والثاني: ما لا يثبت إلاّ بشاهدين؛ وهو السرقة، وحدّ الخمر. والثالث: ما اختلف فيه؛ وهو الإقرار بالزنى، قال قوم: لا يثبت إلاّ بأربعة کالزّنی، وقال آخرون: يثبت بشاهدين كسائر الإقرار؛ وهو أقوى»(4).

أمّا ابن فرحون فيربط بين الحقوق والإثبات عبر الشهادة من زاويتين:

الزاوية الأولى: مسؤولية الشاهد في الشهادة، فقسّم هذه الحقوق إلى ما يجب أن يشهد الشاهد عليها، وما لا يجب عليه ذلك. ويعطي مثالاً على النمط الأوّل: العتق والطلاق والخلق والرضاع، وعلى النمط الثاني: الزّنی وشرب الخمر وما أشبه ذلك ممّا أُمرنا بالستر فيها، فلا يضرّ الشاهد ترك إخباره با شهادهِ.

أمّا الزاوية الثانية: فهي مراتب الشهادات وقسّمها إلى خمسة أقسام:

1 - أحكام تثبت في البدن فقط، وهي ما يطَّلع عليها الرجال، وهي تثبت بشاهدين.

2 - أحكام تثبت في البدن ممّا يطلع عليه النساء، وهي تثبت بشهادة امرأتين.

3 - أحكام تثبت في البدن وتتعلّق بالمال، كالشهادة على أسباب التوارث، کالنکاح بعد موت أحد الزوجين ليرث الآخر مالاً، وفيه رأيان؛ الأوّل: جواز شهادة رجل وامرأتين، والثاني: لابُدّ من رجلين.

ص: 340

4 - حقوق الأموال: كالقرض والوديعة وما شابه ذلك، واستحقاقه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو بشاهد ويمين، أو بامرأتين ويمين.

إذاً، فدائرة الحقوق عند الفقهاء هي ما يتحمَّل بموجبها شخصٌ تبعات عمله وآثاره، وإثباتها يكون عبر الشهادة.

فالحقوق تتكشّف عندما يتمّ تجاوزها، ففي هذه الحالة يتحمَّل المتجاوز تبعات عمله، كالقصاص والجلد والرجم، أو قطع اليد، أو إعادة المال المسروق إلى أصحابه، فهذه هي الحقوق بالمنظور الفقهيّ البحت.

ثانيا: الحقوق عند أمير المؤمنين (عليه السلام):

أمّا في منظور أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّ دائرة الحق هي أوسع ممّا أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية.

فالحقوق عنده (عليه السلام) هي الركن القانوني في نظام العلاقات الاجتماعية فالمسلم مسؤولٌ عن حقوق الآخرين: حقّ الوالدين، وحقّ الزوجة، وحقّ الابن، وحقّ المعلّم، وحقّ المُربّي، وحقّ الصديق.

فيجب على الإنسان المسلم أن يُؤدّي هذه الحقوق، وكما أنّ للآخرين حقوقاً عليه، فإنّ له حقوقاً عليهم، ونتيجة لهذه الحقوق المتبادلة يقوم نظام العلاقات الاجتماعية بين الأفراد.

أمّا حقّ الله فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تبعٌ لحقوق الناس، وليس العكس. تأمَّل ما يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام): «جعل الله سبحانه حقوق عباده مُقدِّمة لحقوقه»(5).

ص: 341

لذا كان أفضل ما يقوم به الإنسان هو أن يُوصل الحقوق إلى أهلها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها»(5).

ثالثا: أنواع الحقوق:

تنقسم الحقوق التي تؤمِّنها الدولة الإسلامية لرعاياها إلى:

1 - الحقوق الشخصية.

2 - الحقوق الاقتصادية.

3 - الحقوق الاجتماعية.

4 - الحقوق السياسية.

5 - الحقوق الدينية.

6 - الحقوق القضائية.

أولاً: الحقوق الشخصية:

وعلى رأسها حقّ الإنسان في الحياة؛ إذ لا يجوز مصادرة الحياة من الناس، يقول تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» (النساء / 93).

وتأمين هذا الحق واجبٌ من واجبات الدولة الإسلامية؛ حيث ورد في القرآن الكريم «فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (البقرة / 193).

وخلق الإنسان في الحياة واضح في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) من اللحظة الأولى لتكوينه، وهو جنين، حتى آخر يوم من حياته.

ص: 342

فقد روي أنّه (أُتي بحامل قد زنت، فأمر الخليفة برجمها، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (هب أنّ لك سبيلاً عليها، أيّ سبيل لك على ما في بطنها) والله تعالى يقول:) «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (النجم / 38)، فقال عمر: لا عشتُ لمعظلة لا يكون لها أبو الحسن، ثمّ قال: فما أصنع بها؟ قال (عليه السلام): (احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحدّ)(6).

هذا، ومن تسبّب في موت الجنين - حتى بصورة غير مباشرة - فعليه الدية، روي - أيضاً أنّ الخليفة كان استدعى بامرأة) يتجمّع (عندها الرجال، فلمّا جاءها، رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم، فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستسهل، ثمّ مات، فبلغ عمر ذلك، فجمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسألهم عن الحكم في ذلك، فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدِّياً ولم ترد إلا خيراً ولا شيء عليك في ذلك، وأمير المؤمنين (عليه السلام) جالسٌ لا يتكلّم، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: (لقد سمعتُ ما قالوا)؛ قال: فما عندك أنت؟ قال: (قد قال القوم ما سمعت) قال: أقسمتُ عليك لتقولنّ ما عندك، قال: (إن كان القوم قاربوك فقد غشوك، وإن كانوا ارتأووا فقد قصروا، الدية على عاقلتك؛ لأنّ قتل الصبيّ خطأ تعلّق بك)، فقال: (أنت - والله - نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي)(7).

وتأكيداً لحقّ الإنسان في الحياة وضعت الشريعة الإسلامية أحكاماً صارمة لمنع الاعتداء على حياة الآخرين، حتى لو كان قد ارتكب جناية، وهذا الأمر نجده في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد طالب الزوج الذي قتل رجلاً - مُدّعياً أنّه وجده في فراش زوجته - بأربعة شهود، وهو أمر شبه مستحيل، أو أن يدفع الدية عن قتله إيّاه.

ففي رواية (أنّ معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أبي موسى الأشعري أنّ ابن أبي الجسري وجد على بطن امرأته رجلاً فقتله، وقد أشكل حكم ذلك على القضاء فسأل أبو

ص: 343

موسی عليّاً (عليه السلام)، فقال: (والله ما هذا في هذه البلاد) - يعني الكوفة وما يليها - وما هذا بحضرتي، فمن أين جاء هذا؟ قال: كتب إليّ معاوية أنّ ابن أبي الجسري وجد مع امرأته رجلاً فقتله، وقد أشكل ذلك على القضاة، فرأيت في هذا، فقال عليّ (عليه السلام): (إن جاء بأربعة يشهدون على ما شهد وإلا دفع برمته)(8).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يدرأ الحدود التي توجب قتل المتّهم إلاّ في القصاص، فكم من مرّة جاء زانٍ محصن راغباً في إقامة الحدّ فكان يردّه بأعذار حتى لا يعود، لكنّه يعود مرة ثانية وثالثة ورابعة.

وحكايته مع المرأة التي زنت حكاية مشهورة ذكرها العامّ والخاصّ؛ فقد جاءته امرأة وقالت له: إني زنيت فطهّرني، وكانت المرأة حاملاً، فقال لها أمير المؤمنين: (انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ائتيني أُطهرك) ثمّ ذهبت وعادت بعد حولين فتجاهل عليها أمير المؤمنين فأصرَّت مرّة ثالثة على إقامة الحدّ فقال لها (عليه السلام): (انطلقي فأكفلیه) (الطفل) حتى يعقل أن يأكُل ويشرب، ولا يتردّى من سطح، ولا يتهوّر في بئر).

وكان هدفه من التسويف هو توفير الأسباب النفسية لكي لا تعود المرأة في المرّة الرابعة؛ لأنّها إن عادت وجب إقامة الحدّ عليها، ثمّ إنّها عادت وأصرّت على إقامة الحدّ، فأقام الإمام عليها حدّ الرجم(9).

وفي واقعة أخرى: (أتاه رجلٌ بالكوفة فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهّرني، قال: فمن أنت؟ قال: من مزينة، قال: أتقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: بلى، قال: فاقرأ، فقرأ،... قال: أبك جنّة؟ قال: لا، قال: فاذهب حتى نسأل عنك، فذهب ثمّ عاد، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ألك زوجة؟ قال: بلى، قال: فمقيمة معك في البلد؟ قال: نعم، فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) فذهب وقال: حتى نسأل عنك، فرجع ثالثة، ثمّ رابعة، فغضب أمير المؤمنين منه ثمّ إنّه قال: (ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه

ص: 344

الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملاء، أفلا تاب في بيته؟ فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ) (10).

نستخلص من هذه الحكاية الأمور التالية:

1 - رغبة الإمام في انصراف الرجل عن قراره بإقامة حدّ الرجم عليه من خلال صنع أجواء تعلّقه بالدُنيا.

2 - كان الإمام يُحاول أن يجد طريقاً لدرء الحدّ عنه، فكان يسأله أسئلة مختلفة علَّه يجد سبيلاً لإنقاذه من الرجم.

3 - لا يكتفي الإمام بمنح الرجل فُرصة للعيش، بل للعيش الكريم أيضاً؛ أي أن يبقى مستوراً لا يعلم بما فعله أحد.

4 - قول الإمام: (فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ)، عبارة عن قاعدة ذهبية سبق بها أمير المؤمنين الشرائع الحديثة في مجال حقوق الإنسان.

وتحمل هذه القاعدة إقراراً صريحاً بأنّ الحدود ليس الهدف من إقامتها الانتقام، بل الهدف هو إصلاح الإنسان والمجتمع، فإذا صلح الإنسان بغير العقاب فلا ضرورة الإقامة الحدّ عليه.

وقد اسقط أمير المؤمنين - فعلاً - الحدّ عن رجُلٍ اتّهم بقتل رجل لم يكن له أولياء، فهو وليّ الدم عنهم، فقد أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل وجد في خربة وبيده سكين ملطّخة بالدم وإلى جانبه رجلٌ مذبوح يتشحّط في دمه، فاعترف الرجل بأنَّه القاتل، فلمَّا جاءوا به لإقامة حدّ القتل عليه، فإذا برجلٍ مُسرعٍ مقبل عليهم، مُدَّعياً بأنّه هو القاتل، فسأل أمير المؤمنين الرجل الأوّل: (ما حملك على إقرارك على نفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما كنتُ أستطيع أن أقول وقد شهد علي أمثال هؤلاء الرجال وأخذوني وبيدي سكينٌ ملطّخة بالدم والرجلُ يتشحّط في دمِه وأنا قائم عليه؟ وخفتُ الضرب فأقررتُ،

ص: 345

وأنا رجلٌ كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاةً وأخذني البول، فدخلتُ الخربة فرأيتُ الرجل يتشحّط في دمه، فقمتُ متعجّباً، فدخل علىّ هؤلاء، فأخذوني. فأمر أمير المؤمنين أن يأخذوا الاثنين إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ليحكم بينهما، فقال الحسن (عليه السلام): (قولوا لأمير المؤمنين: إنّ هذا) الرجل الثاني (إن كان ذبح ذلك) المقتول (فقد أحيا هذا) الرجل الأول، (وقد قال الله عزّ وجلّ: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة / 32)، یُخلى عنهما ويُخرج دية المذبوح من بيت المال)(11).

وهكذا نرى أنّ حكم الإمام الحسن هو حكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). وهذه الحكاية على غرار الحكاية السابقة، طبّق فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعدة - التوبة أفضل من إقامة الحدّ - وقد كاد يُقيم الحدّ على الرجل الأوّل لإقراره بالقتل لو لا الرجل الثاني الذي لو كان هو القاتل فقد تاب عن فعله، ولأنّه تسبّب في إلغاء حدّ القتل عن الرجل الأوّل، فقد استحقّ الحياة. أمّا حقّ المقتول فلم يذهب هدراً؛ إذ عُوِّض عن ذلك بالدية من بيت المال.

هذه الحادثة وغيرها الكثير من الحوادث المماثلة ترسم لنا لوحة جميلة يتجلّى فيها حرص الإمام على حقّ الإنسان في الحياة، وإنّ هذا الحقّ مُصان، وأنّ رئيس الدولة هو المسؤول الأوّل والأخير عن تأمين حياة الناس.

وقد ذهب الإمام إلى أبعد ممّا وصلت إليه الشرائع الوضعية في مجال حقوق الإنسان، فقد أسقط الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الحدّ عن سارق الطعام في عام المجاعة؛ إذ رُوي عنه: (لا يقطع السارق في أيّام المجاعة)(12)، ونُقل عنه أيضاً أنّه قال: (لا قطع في عام مجاعة)(13) لأنّ حياة الإنسان أغلى من كل شيء.

وبناءً على هذه القاعدة أجاز أمير المؤمنين لأهل الميّت أن ينبشوا القبر لاستخراج الكفن عند حاجتهم إليه؛ لأنّه سيسدّ بعض حاجاتهم (14).

ص: 346

ثانياً: الحقوق الاقتصادية

وهو حقّ الإنسان في إيجاد العمل اللائق، وحقّه في ناتج العمل، وهو يشمل ملكيّته لرأس المال وللإنتاج، وضمن القرآن الكريم للإنسان هذا الحقّ من خلال الآية الكريمة: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» (النساء / 29). وهذا اعتراف صریح بالحق في الملكيّة، ومسؤولية الدولة الإسلامية في ضمان هذا الحقّ بتوفير الكسب المشروع للإنسان، وبضمان حرّية التملّك على أساس العمل، وحماية الملكية من اعتداء الآخرين عليها.

وفي سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحُكم نجد الكثير من الشواهد الدالّة على ضمان هذا الحقّ، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في كتابنا (الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة).

إلاّ أنّنا سنأتي - بمقدار الضرورة - على ذكر الشواهد الحيّة.

1 - توفير الكسب الحلال.

فقد حثّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على العمل، فقال (من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه) (15).

وذكر عن سيرة الأنبياء: إنّ الله أوحي إلى داود (عليه السلام): (يا داود، إنّك نعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال، ولا تعمل بيدك شيئاً)، قال: فبکی داود أربعين صباحاً، فأوحى الله إلى الحديد: (أن ألن لعبدي داود)، فلان له الحديد فكان يعمل في كلّ يوم درعاً(16).

ومن مسؤولية الدولة أيضاً توفير فرص العمل للجميع، فحقّ رعايا الدولة الإسلامية - حتى من غير المسلمين - ضمان هذا الحقّ. ويُذكر هنا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 347

وجد شیخاً أعمى بالبصرة بتصدّق من أموال الناس، فأنكر أمير المؤمنين ذلك فقالوا له: يا أمير المؤمنين، نصراني، فقال الإمام: (استعملتموه حتى إذا كَبُرَ وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال)(17).

ومن جانب آخر، فمن حقّ العامل الذي يعمل ضمن العقود الإسلامية أخذ الأجر على عمله، وصاحب العمل مكلفّ بأداء هذا الأمر قبل أن يجفّ عرق العامل، وقد أكد أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك في بداية حُكمه عندما بعث أحداً لیُنادي بين المسلمين باللعن على ثلاثة؛ أحدهم من خان أجيراً على أجرته.

2 - حقّ الإنسان في الملكية.

وثمرة العمل هو الإنتاج، فكان من حقّ الإنسان أن يمتلك ما أنتجته يداه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديّيه إلى الإمام)(18).

وهذه قاعدة أرسى معالمها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخذها الفقهاء كمستند في تملّك الأرض المحياة.

ويؤكّد هذا النصّ على حقّين؛ الأوّل: حق الإنسان في العمل. والثاني: حقّه في تملّك نتائج عمله (19).

ص: 348

3 - حماية الملكية من السرقة أو العبث أو ما شابه ذلك.

وقد واجه أمير المؤمنين (عليه السلام) مظاهر التسيّب والعبث بأموال الناس، فقد قضى على صاحب البقرة التي شقّت بطن الجمل بالضمان لأنّه ربطها في طريق الجمل؛ مستنداً إلى حديث رسول الله: (لا ضرر ولا ضرار)(20).

ومن طرق حماية الملكية الاقتصادية إقرار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لقاعدة اليد التي لها آثار كبيرة في الفقه والقضاء الإسلاميّين.

ذُكر أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في رجلٍ أبصر طائراً فتبعهُ حتى سقط على شجرة، فجاء رجلٌ آخر فأخذه (للعين ما رأت ولليد ما أخذت)(21).

فأصبح الطائر ملكاً لمن أخذه باليد، وسنجد كثيراً من القضايا التي وقعت في عهده (عليه السلام) حكم فيها استناداً لهذه القاعدة التي هي أصلٌ من أصول الملكية.

وبالإضافة إلى مسؤولية الدولة، فعلى المالك أيضاً مسؤولية حماية أمواله؛ لذا دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحاب الأموال إبداء ما يستطيعون من شجاعة عند تعرّض أموالهم للانتهاك، يقول (عليه السلام): (إنّ الله ليمقت الرجل يدخل عليه اللصّ بيته فلا يحارب) (22).

وخلاصة الأمر، أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تعهّد بحماية الحقوق الاقتصادية لرعايا الدولة الإسلامية، وضمن ما يكفل لهم العيش الكريم، فقد ورد عنه:

(أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم علىّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ: فالنصيحة لكم، وتوفير فیئکم علیکم)(23) والفيء الذي يُوفرهُ الإمام لرعيته هو الخراج، وما يجلب إلى بيت المال، والظاهر أن توفير ذلك إنّما يكون بتهيئة جميع وسائل العمل وميادين الانتاج (24).

وقد وضع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعدة مهمّة يمكن الاستناد إليها في

ص: 349

جميع الحقوق الاقتصادية للأمّة؛ وهي: (والناس كلّهم عيال على الخراج)(25).

فرسم من خلال هذه القاعدة مسؤولية الدولة في إيجاد العمل المناسب، وفي توفير العيش الكريم لكلّ رعايا الدولة الإسلامية (36).

قارن بين نص المادة (17) مِن الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواقف أمير المؤمنين (عليه السلام).

ثالثاً: الحقوق الاجتماعية

وهي تشمل حقّ الإنسان في الزواج وإشباع حاجاته الجنسية، ومن ثمّ إنشاء الأُسرة، وكذلك حقّه في العيش الكريم بعيداً عن أذى الآخرين وتتحمّل الدولة مسؤولية كبيرة في توفير هذا الحقّ وصيانة الفرد اجتماعياً وأُسرياً حتى ينعم بحياة رغيدة.

والحقوق الاجتماعية يمكن لنا أن نستشفّها من خلال الإجابة على هذا السؤال: ماذا يُريد الفرد من المجتمع؟

1 - یُريد منه تأسيس الأُسرة السعيدة وإشباع حاجاته الجنسية، ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) بغافل عن وجود هذه الغريزة، فكان يُسرع في توفير مستلزمات إشباعها كلّما دعت الضرورة إلى ذلك، وهذه نماذج حيّة عن ذلك:

جاءته امرأة فقالت له:

فأنكر ذلك السامعون، ولعلّهم أرادوا ضربها وتأديبها على كلماتها.. لكنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عرف ما تبطن هذه الكلمات من شهوة جامحة قاومتها المرأة ستراً على زوجها.

ص: 350

فقال: أحضريني بعلك، فأحضرته، فأمره بطلاقها ففعل، ولم يحتجّ لنفسه بشيء، فقال (عليه السلام): إنّه عنّين، فأقرّ الرجل بذلك، فأنكحها رجلاً من غير أن تقضي عدّة (27).

ورُوي أيضاً: قضى أمير المؤمنين في امرأة حُرّة دلس لها عبد فنكحها ولم تعلم إلاّ أنّه حرٌ، قال: (يُفرّق بينهما إن شاءت المرأة)(28)؛ أي أنّها مُخيّرة بين أن تبقى زوجة له أو أن تفترق عنه، فالخيار لها. فالزواج رابطة مُقدّسة تتساقط أمامها كلّ الاعتبارات غير الشرعية.

روى أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أنّ عبد الله بن أبي بكر أعطى زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل حديقة على أن لا تتزوّج بعده، فلمّا مات من السهم الذي أصابه بالطائف خطبها عمر، فقالت: كان أعطاني حديقة على أن لا أتزوّج.

فقال لها عمر: فاستفتي، فاستفتت عليّاً (عليه السلام)، فقال لها: (ردِّي الحديقة على أهله وتزوّجي)، فتزوّجت منه(31)؛ لأنّ الزواج رابطة مُقدَّسة لا يستطيع أيّ عقد أو اتّفاق الوقوف بوجهها. فمثلما للمرأة الحقّ في الزواج والعيش الكريم، كذلك من حقّ الرجل الذي يملك مؤونة الزواج أن يتزوّج أيضاً؛ لأنّ الزواج حصانة ضدّ الانحراف.

وحينما شاهد عليٌّ (عليه السلام) شاباً يستمني فضرب على يده حتى احمرّت، ثمّ زوّجه من بيت المال (32).

لقد وجد الإمام في هذا الشابّ ثورة جنسية عارمة لا يطفئها شيء سوى الزواج؛ لأنّه سيعود مجدّداً إلى ممارسة فعلته إن لم تحل مشكلته حلاً جذرياً، كذلك فإنّ الضرب وحده لا يكفي، بل لا فائدة منه، والحلّ الطبيعيّ يكمن في الزواج، ولمّا لم يكن الشابّ قادراً على الزواج زوجّه الإمام من بيت المال. وهذا يدلّ - بما لا يدع مجالاً للشكّ - أنّ الزواج حقّ

ص: 351

مشروع يجب أن تعمل أجهزة الدولة على تحقيقه (33).

ومن حقّ الفرد - أيضاً - أن يعيش في مجتمعه حياةً كريمةً مرفوع الرأس، لا تنالهُ الألسن بالقذف. أو ماشابه ذلك. وعلى الدولة مسؤوليّة تطهير المجتمع، وإزالة الأسباب التي تُنقص من الاحترام المتبادل إذ ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (يُعزَّر الرجلُ في الهجاء)(34).

أمّا لو قذف إنسانٌ إنساناً آخر بابن المجنونة فإنّه يُجلد عشرين جلدة، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (35).

ومن أطرف ما رُوي في قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ رجلاً قال لرجلٍ على عهده (عليه السلام): إنّي احتلمتُ بأمّك، فرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: إنّ هذا افترى عليّ، قال: وما قال لك؟ قال: زعم أنّه احتلم بأمّي، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن شئت أقمته لك في الشمس فأجلد ظلّه، فإنّ الحلم مثل الظلّ)(36).

ولم يكتفِ أمير المؤمنين بهذا القدر، بل قرّر ضربَهُ حتى لا يُؤذي المسلمين بعد الآن، لأنّ كلامه كان جارحاً وهو شبيه بالقذف، فكان لابدّ من مكافحة حتى هذا القليل من الأذى حتى يصبح المجتمع طاهراً يستطيع أن يأمن فيه الإنسان على ماله وحرماته. وهذا الا هو ما يُسمّى اليوم بالحقّ العامّ أو حقّ المجتمع.

رابعاً: الحقوق السياسية:

وتشمل الحقّ في المشاركة السياسية، في صنع القرار وفي بناء مؤسّسات الدولة، وكذلك الاعتراض على أعمال المسؤولين في الدولة، وكذلك الحقّ في إنشاء التجمعّات السلمية.

ص: 352

وتنطلق هذه الحقوق في الشريعة الإسلامية من قاعدة الاستخلاف؛ إذ وعد اللهُ المؤمنين ان يجعل منهم خلفاء يحكمون الأرض، قال تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا» (النور / 55)، يتبيّن لنا من ضمير (هم) في لفظ «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» أنّ جميع الذين آمنوا هم خلفاء دون استثناء، ولهم الحقّ في الشؤون السياسيَّة، ويُلاحظ من يدرس سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقوق جلية وواضحة(37).

1 - حقّ المشاركة في بناء الدولة.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأكثر مُدارسة العلماء، ومناقشة الحُكماء في تثبيت ما صَلَحَ عليه أمرُ بلادِكَ وإقامة ما استقام به الناسُ قبلَك، واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يَصْلحُ بعضُها إلاّ ببعض، ولا غِنى ببعضِها عن بعض؛ فمنها جُنود الله، ومنها كُتابُ العامّة والخاصّة، ومنها قُضاة العَدْلِ، ومنها عُمّالُ الإنصافِ، والرِّفقِ، ومنها أهْلُ الجزية والخراد أهْل الذِّمَّة ومُسْلِمة الناس؛ ومنها التجارُ وأهل الصناعاتِ، ومنها الطبقة

السُّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكُلٌّ قد سمَّى الله له سَهْمَهُ، ووضع على حدِّه) فريضةً

في كتابهِ أو سُنَّةِ نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً فيه عِندنا محفوظاً)(38).

فالمجتمع بجميع طبقاته يجب أن يُساهِم في البناء، فكلاهما؛ المجتمع والدولة، كيانٌ واحد، وكلّ طبقة في المجتمع تشكل جزءاً من هذا الكيان، ولا نعرف مفهوماً للمشاركة السياسية أقوى من المفهوم الذي أكّد عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله وفعله (39).

ص: 353

2 ۔ حق المعارضة، والاعتراض والشكوى:

فتاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) حافلٌ بحوادث من هذا القبيل، فالمرأة التي اعترضت على الوالي، قصّتها مشهورة؛ وهي سودة بنت عمارة الهمدانية.

فقد شكت هذه المرأة جور الوالي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأخذ الإمام يبكي ويقول: (اللّهمّ أنت الشاهد عليّ وعليهم، إنّي لم أمرهم بظُلم خلقك، ولا بترك حقّك) ثمّ عزله في الوقت(40).

وحكاية الفلاّحين الذين اشتكوا واليهم، فكتب إليه الإمام (عليه السلام) كتاباً جاء فيه: (أمّا بعدُ، فإنّ دهاقين أهْلَ بَلدِك شكوا مِنك غِلظةً وقسوةً واحتقاراً وجفوةً،

ونَظَرْتُ فلم أرَهُم أهلاً لأن يُدْنوا لشِرْكِهِم، ولا أن يُعصَوْا ويجفَوْا لِعَهْدِهم، فالبس لَهُم جلباباً من اللّين تشُوبُهُ بطرفٍ من الشِّدَّة، وداوِلْ لَهُم بين القسْوةِ والرأفةِ، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والاقصاء، إن شاء الله)(41).

أمّا حكاية أبي الأسود الدؤلي الذي عُزل من القضاء لرفعه صوته فوق صوت الخصم، فاعترض على قرار الإمام قائلاً: لم عزلتني وما خنتُ ولا جنيت؟ قال (عليه السلام): (إنّي رأيت كلامك يعلو كلام خصمك)(42).

وما هذه الحكايات إلاّ مؤشر دالّ على طبيعة النظام السياسي الذي أرسى دعائمه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي آل على نفسه احترام حقوق الناس كاملة، ولا ريب في ذلك فقد كتب إلى أحد ولاته: (أمّا بعدُ، فإنّما أهلَكَ من كان قبلكُم أنّهم منعُوا الناس الحقَّ فاشتروه وأخذوهُم بالباطل فاقتدَوْه)(43). فقد كان حكم أمير المؤمنين نقيضاً للحكم الفردي المستبدّ الذي كان عليه نظام الحُكم في الشام، فكان لابُدّ من رسم صورة صالحة عن الإسلام لتمكينه من الانتشار، بعد أن شّوّهتها الممارسات الخاطئة لبني أميّة في عهود سيطرتهم السياسية على البلاد الإسلامية.

ص: 354

3 - السماح للتجمعات السلمية بممارسة طقوسها:

ظهرت في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تشكيلات مختلفة؛ منها المنحرفة سياسياً بمعارضتها للسلطة الحقّة المتمثِّلة بالإمام (عليه السلام)، ومنها المنحرفة عقيدياً، وكان الإمام يعاملها كما يُعامل رعاياه دون أن يستثنيهم بشيء طالما ظلّت هذه التجمّعات سلمية، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال للخوارج: (لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولم نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا)(44). لكنّ الأمر يختلف تماماً مع المنحرفين عقيدياً؛ لأنّ عمل هؤلاء يتجاوز مفهوم المعارضة السياسية، فهم خارجون على الدين وليس السلطة، ولربّما كانوا مُساندين للسلطة، من أمثال الذين اعتقدوا بربوبيَّة أمير المؤمنين (عليه السلام) فحتى مع هؤلاء استخدم الإمام شتى الطُرق السلمية والأساليب الفكرية والتربوية لإعادتهم إلى الجادة، وعندما لم تفلح كلّ الوسائل استخدم معهم العنف. جاء في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط (45)، فسلّموا عليه وكلموه بلسانهم، فردّ عليهم بلسانهم ثمّ قال لهم: (إنّي لست كما قلتم، أنا عبد الله مخلوق) فأبوا عليه وقالوا: أنت هو (46)، فقال لهم: (لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قُلتم فيّ وتتوبوا إلى الله عزّ وجلّ لأقتلنَّكم)، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا، فأمر أن تُحفَر لهم بئر، فحفرت، ثمّ خرق بعضها إلى بعض، ثمّ قذفهم فيها، ثمّ خمر رؤوسها، ثمّ أُلهِبَت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم، فدخل الدخان عليهم فيها فماتوا (47). وسياسته إزاء المعارضين سياسة واضحة أكّدتها رسائله إلى ولاته، ومنها كتابه إلى عبد الله بن عبّاس؛ وهو عامله على البصرة التي كانت موطن المعارضة، جاء في الرسالة: (إعلمْ أنّ البصرة مهبطُ إبليس، ومغرِسُ الفِتن، فحادثْ أهْلَهَا بالإحسان إليهم، واحلل عُقدة الخوف عن قلوبهم...)(48) فأمَرَ واليه باتّباع سياسة اقتصادية وتربوية لتصفية مظاهر

ص: 355

الحقد من نفوسهم؛ لأنّ معارضتهم لم تكن واقعية، بل كانت معارضة نفسية قائمة على الحقد.

4 - الحقّ في المساواة:

وهو من الحقوق السياسية التي جاء بها الإسلام وصدع بها القرآن الكريم في أكثر من آية قرآنية، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات / 13).

وبذلك كان القرآن الكريم مؤسّساً لفكرة المساواة في مجتمع كان يغرق في مستنقع التناقضات والطبقية. وعندما آلت قيادة الأمّة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عمل بهذا المبدأ على أفضل صورة، فكان يساوي بين نفسه وخادمه قنبر، بل كان يؤثره في اللباس الجيّد والطعام المفضّل، كما ورد في سيرته.

وساوى أمير المؤمنين (عليه السلام) في العطاء بين الشريف والوضيع، وبين الغنيّ والفقير، وقد دفع ثمن هذه السياسة غالياً، فثارت عليه الفئات التي كانت تمثّل الطبقة الاستقراطية في البلد، فكانت حرب الجمل، وتمرّد عليه معاوية لأنّه أراد إقصاءه عن الولاية فوقعت واقعة صفّين، وعلى الرغم من كلّ هذه المتاعب التي واجهته فقد ظلّ مصرّاً على تطبيق مبدأ المساواة في الحياة، فكان يقول: (أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(49).

وكتب إلى واليه محمّد بن أبي بكر: (فاخفض لهم جناحك، والِن لهم جنابك، وابسُط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضُعفاء من عدلِك عليهم)(50).

ص: 356

ولم ينسَ - حتى آخر لحظة من حياته - هذه القيم التي استشهد من أجلها، لم ينسَ أن يقول لولده بأن يساووا بينهم وبين قاتله عبد الرحمن بن ملجم في المأكل والملبس، ثمّ يقول للحسن (عليه السلام): (أحسنوا إساره فإن عشت فأنا وليّ دمي، وإن متّ فضربة كضربتي)(51).

خامساً: الحقوق الدينية:

المشمولون بهذا الحقّ هم المعاهدون من أهل الذمّة، فهؤلاء هم من رعايا الدولة الإسلامية، وهم سواسية لا يختلفون عن المسلمين في الحقوق الاقتصادية والحقوق الشخصية، لكنّهم يختلفون معهم في بعض الحقوق السياسية. وقد نظّم الحكم الإسلامي - على طول التاريخ الإسلامي - علاقة إيجابية بين المجتمع الإسلامي وبين أهل الذمّة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في التسامح الديني. وكان أهل الذمّة يحظون برعاية أمير المؤمنين (عليه السلام) في فترة حكمه، فقد ذكرنا مُشاهدته للرجل المعاهد في البصرة وهو يتصدّق من أموال الناس، وكيف جعل له حقاً في بيت المال.

ولم ينسَ أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يُوصي عامله على الخراج: (ولا تمسّنَّ مال أحدٍ من الناس، مُصَلٍّ ولا معاهدٍ، إلاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام)(52).

فالمعاهد الملتزم بقوانين الدولة الإسلامية هو بحكم المُسلم في ضمان حقوقه وممتلكاته وصيانتها.

أمّا حقّهم الديني في ممارسة طقوسهم، فكانوا يجرونها وفق تعاليمهم الدينية، فقد ورد (أن عليّاً (عليه السلام) كان يستحلف النصارى واليهود في بيعهم وكنائسهم،

ص: 357

والمجوس في بيوت نيرانهم)(53).

وذُكر أنّ عليّاً (عليه السلام) استحلف يهوديّاً بالتوراة التي أُنزلت على موسى (عليه السلام)، فحقوق أهل الذمّة مُصانة طالما ظلّوا ملتزمين بالقوانين الإسلامية، أمّا إذا أخلّوا بها فإنّ عقابهم سيكون أشدَّ من عقاب المسلمين، سيّما في الأمور التي تمسّ الجانب الأخلاقيّ من المجتمع الإسلامي، وذلك لأنّ الدولة الإسلامية، أحسنت إليهم ومنحتهم حقّ الرعاية وهم في الأصل غير مستحقّين لكلّ هذه الرعاية؛ لعدم انتمائهم لعقيدة الدولة، فإذا أذنبوا ذنباً فإنّهم خانوا خيانتين؛ الأولى: خيانتهم للمسلمين بارتكابهم الذنب، وخانوا الأمانة والإحسان الذي أولته لهم الدولة الإسلامية.

وهنا لابُدّ من التنويه إلى أنّ الحقوق الدينية لا تعني الحرية الدينية، فالمسلم الذي اعتنق الإسلام كعقيدة ونظام لا يحقّ له تغيير دينه إلى دين آخر، فإذا فعل ذلك فيُحاسب حساب المُرتدّ ويعاقب عقاباً شديداً.

وعقاب المُرتدّ عقابٌ صارم؛ لأنّه تجاوز حقوق المجتمع، وظلم نفسه عندما غيّر عقيدته بعد الاقتناع؛ لذا كان عقاب المرتدّ عند أمير المؤمنين أنّه: يُعزل عن امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويُستتاب ثلاثة أيّام؛ فإن تاب، وإلاّ قُتل في اليوم الرابع(54).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمُسلم تنصَّر ثمّ رجع: (قد قبلتُ منك رجوعك هذه المرّة، فلا تعد، فإنّك إن رجعت لم أقبل عنك رجوعاً بعده)(55)؛ لأنّه سيُحاسب حساب المُرتدّ، فالإنسان حرّ في اختيار عقيدته قبل أن يصبح مسلماً، فإذا أسلم فسيكون مُقيَّداً بالإسلام.

ص: 358

سادساً: الحقوق القضائية:

الحقوق القضائية هي ما يجب على القاضي توفيره للمُدّعي والمدّعى عليه حتى يسير القضاء وفق العدالة التي يتوخّاها الجميع، وإذا أخلّت الجهة التي تتولّى القضاء بهذه الحقوق، فإنّ الحُكم الصادر بحقّ المدّعى عليه يكون حكماً جائراً يمكنه استئنافه.

(وقد رعى الإسلام هذه الحقوق في زمن حالك لم تعرف البشرية طعم العدالة والحريّة، وفي زمن لم يكُن لدى العرب في الجاهلية نظام مُحكم للقضاء)(56).

وتأتي رعاية الإسلام لهذه الحقوق من منظور إنسانيّ واقعيّ، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو مُركّبٌ من عقل وهوى، وفيه استعداد للخير كما وأنّه قابل للانحراف نحو الشرّ، فإذا ارتكب ذنباً أصبح مُجرماً في نظر القانون إلاّ أنّه يظلّ إنساناً قابلاً للعودة إلى الجادّة.

وأفضل صورة واقعية عن الحقوق القضائية هو ما ترجمهُ أمير المؤمنين (عليه السلام) في ممارساته القضائية.

ومن أجل أن نُنظّم هذه الحقوق تنظيماً منطقياً منسجماً مع أهداف الإسلام في القضاء نقسّمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الحقوق التي يجب مراعاتها قبل إصدار الحكم. وهي:

1 - المساواة في القضاء:

يجب أن يتساوى المدّعي والمدّعى عليه حتى لا يشعر أحد الطرفين بالغبن، فتضعف حجّته، وقد ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) أورع الأمثلة في المساواة.

فقد ساوى بين شخصِهِ واليهوديّ الذي نازعه في الدرع في القصّة المشهورة، وأَمَرَ قُضاته بأن يساووا بين الخصمين ذاكراً العلّة أيضاً في ذلك، فيقول لأحدهم: (وآسِ

ص: 359

بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء مِن عدلك)(57).

وكتب إلى شريح قاضيه: (ثمّ واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك)(58).

وأكثر أهميّة من ذلك هو المساواة بين أفراد المجتمع أمام القضاء، وقد ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) أروع الصور في المساواة عندما عاتب خازن بيت المال عليّ بن أبي رافع لمّا أعطى إحدى بناته عقد لؤلؤ كعارية مضمونة فقال له: (لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة لكانت إذاً أول هاشمية قُطعت يدها في سرقة)(59).

فإذا كان الحاكم لا يُفرّق بين الإنسان العادي وأحد أولاده في تنفيذ الأحكام لهو الحاكم الجدير بحُكم البلاد؛ لأنّه سيُسعِد شعبه بتطبيق العدالة بينهم وتحقيق المساواة (60).

2 - تدقيق القاضي وعدم الإسراع في إصدار الحُكم:

يجب على القاضي أن لا يُسرع وأن يتفحّص الشهود بتمعّن ويستمع إلى أقوالهم وأقوال الخصمين بدقّة؛ لأنّ إهمال نقطة صغيرة قد تؤدّي إلى كارثة، وهذا حقٌ مُسلَّم لكلا الخصمين، فالعجلة والسرعة تؤدّيان حتماً إلى هضم الحقوق؛ نضرب مثالين عن دقّة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتأنّيه وعدم إسراعه في إصدار الحُكم:

3 - علنية جلسات المحاكمة:

وهي أساس في النظام القضائي المعاصر، وهي حقّ قضائي لصالح المتّهم، سيّما إذا كانت الدولة هي المّدّعى عليها، فالقاضي يستطيع أن يتلاعب بالأحكام كيفما يشاء، ولضمان قضاء عادل طالبت الدساتير بإجراء المحاكمات العلنية لكي تفوّت الفرصة أمام الأغراض الخاصّة لبعض القُضاة.

ص: 360

كما وأقرّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مبدأ علنية جلسات المحاكمة: كلّ شخص مُتّهم بجريمة يُعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه (63).

وكانت تجري المحاكمات في عهد الإسلامي بصورة علنية، وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) مکانٌ خاصٌ في مسجد الكوفة يجلس فيه للقضاء.

وعند تتبّع سير القضاء في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) نجد أنّها كانت تجري بين الناس حتى يأخذ الآخرون العبرة منها(65).

وقد ذكر الفقهاء في آداب القضاء استحباب حضور أهل العلم إلى مجلس القضاء لتصويب القاضي إذا أخطأ، فهؤلاء يُشكّلون عيوناً على القاضي يحصون عليه أخطاءه إذا أخطأ.

وقد منع أمير المؤمنين (عليه السلام) إقامة القضاء في الأماكن الخاصّة لأنّها تكون بعيدة عن أعين الناس وسمعهم، فقد بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ شُريحاً يقضي في بيته، فقال: (یا شُریح، اجلس في المسجد فإنّه أعدل بين الناس، وإنّه وهنٌ بالقاضي أن يجلس في بيته)(66).

لأنّ المحاكمة في البيت ستكون أشبه بالمحاكمة السرية، وسيكون بمقدور القاضي أن يحكم بما شاء، فتوجّه إليه الاتّهامات، وقد أورد الحرّ العاملي باباً في كتابه تحت عنوان: (كان علي (عليه السلام) يقضي بين الناس في الأماكن العامّة)(67).

ص: 361

4 - مبدأ حرية الدفاع:

وهو مبدأ قرّته الدساتير الحديثة، ولم تعرف البشرية هذا الحقّ إلاّ عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

روي أنّ امرأة شهد عليها الشهود أنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر الخليفة عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللّهمّ إنّك تعلم أنّي بريئة، فغضب الخليفة وقال: وتجرح الشهود أيضاً؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) (ردّوها واسألوها فلعلّ لها عُذراً، فرُدّت) وسُئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبلٌ فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماءً، ولم يكن في إبل أهلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيتهُ فأبى أن يسقيني حتى أُمكّنه من نفسي، فأبيتُ، فلمّا كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي کُرهاً، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الله اکبر) (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة / 173) فلمّا سمع ذلك الخليفة خلّى سبيلها (68).

وهذه الحكاية تؤكّد بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي استحدث هذا المبدأ؛ لأنّ العُرف القضائي السائد هو اعتماد رأي الشهود مع وجود الدلائل، فالمؤشّرات توحي بأنَّ المرأة كانت قد زنت، وجاء الشهود ليشهدوا بذلك، وقد أخذ عمر بالعُرف السائد في مثل هذه القضايا فحكم عليها بالرجم ورفض أن يسمع طعنها في الشهود، لكن مع تطبيق مبدأ حرّية المتّهم في الدفاع عن نفسه تغيّر كلّ شيء؛ حيث ثبت من دفاع المرأة أنها كانت مُجبرة، ولا حدّ على المضطرّ.

ص: 362

القسم الثاني: الاعتراض على قرار القاضي.

وهو حقٌ لم نرَ له وجوداً إلا في عهد الإسلام؛ حيث أعطى للفرد الحقّ في الاعتراض على قرار القاضي وإعطاء أدلّة جديدة تثبت براءته أو إعطاء أدلّة جديدة تثبت حقّاً لصالحه، وقد منح أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الحقّ للشابّ الذي اعترض على حُکم شُريح القاضي في تبرئه الرجال الذين شاركوا أباه في رحلة التجارة حيث قُتل في الطريق، وكان الشابّ على يقين أنّهم هم الذين قتلوه، فاعترض على ذلك الحُكم عند أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قام بتفريق الشهود ومساءلتهم، كلّ على انفراد، حتى اكتشف التناقض في أقوالهم، وبالتالي ثبتت له صحّة اعتراض الشابّ على حكم شريح.

1 - الإقرار يجب أن يكون عن وعي بالقانون:

وهو حقٌ انفرد به أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى أنّ القانون الوضعي أهمل هذا الجانب (69)، فالذي يرتكب عملاً مخالفاً يُعتبر مُجرماً حتى لو كان لا يعرف بموادّ القانون، وحتى هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تتباهى به الدول الكُبرى في عالمنا اليوم، فإنه غفل عن هذا الحقّ الذي لا نجد في جميع الشرائع والقوانين أحداً أقرّه غير الإسلام، وبالأخصّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي نجد في سيرته العطرة مصادیق كثيرة تدلّل على احترامه لهذا الحقّ. فقد أتي برجل قد شرب الخمر، فقال له أبي بكر: أشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم، فقال: ولم شربتها وهي مُحرّمة؟ فقال: إنّني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قومٌ يشربون الخمر ويستحلّونها، ولم أعلم أنّها حرامٌ فأجتنبها، قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة، وأبو الحسن لها، فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا عليّاً فقال عمر: بل يؤتي الحُكم في منزله، فأتوه ومعهُ سلمان الفارسي، فأخبره بقصّة الرجل فاقتصّ عليه قصّته، فقال عليٌّ (عليه السلام) لأبي بكر: (ابعث معهُ من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شيء

ص: 363

عليه) ففعل أبو بكر ذلك بالرجل. قال عليّ (عليه السلام): (إنّما أردت أن أجدّد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (یونس / 35)(70).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأل من يقرُّ على نفسه بذنب، هل سمع آية التحريم في ذلك العمل الذي ارتكبه؛ فإذا أقرّ بذلك حكم عليه، وإلاّ ترك سبيله. فالرجل الذي أقرّ على نفسه بالزّنی، فسأله أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد إقراره: (أتعرف شيئاً من القرآن؟) فقال: نعم، قال: اقرأ، فقرأ فأصاب، فقال له: (أتعرف ما يلزمك من حقوق الله تعالى في صلاتك وزكاتك)، فقال: نعم، ولم يكتف الإمام بهذا المقدار من الأسئلة عن مقدار المعلومات الدينية للمتّهم، بل حاول أن يستطلع حالته الصحية والنفسية ذات الأثر في إمكانية الوعي لديه فسأله: (هل بك من مرض معروف أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غماً في صدرك؟)(71).

2 - الإقرار بالذنب بعيداً عن الضغوط:

وهو حقٌ يضمن حكماً عادلاً للأفراد، فالمُقرّ بالذنب يجب أن يتمتّع أثناء اعترافه بذنبه بكامل حرّيته، وأن لا يُمارَس بحقّه أي ضغط من أنواع التعذيب أو الترهيب أو التهييب (استخدام القاضي هيبته لانتزاع الأقوال). وقد ساند أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الحقّ الذي غَفِل عنه القضاء قبل الإسلام وبعده، وأمامنا حشدٌ من الصور الرائعة يمكن للقاضي أن يضعها نصب عينه، ويمكنها لوحدها أن تُشكّل معلماً من معالم القضاء عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

أُتي بامرأة حامل إلى الخليفة عمر في ولايته، فسألها فاعترفت بالفجور، فأمر بها أن تُرجم، فلقيها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: (أمرت بها أن تُرجم؟) فقال: نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال: (هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟) ثمّ

ص: 364

قال له عليّ (عليه السلام): (فلعلّك انتهرتها أو أخفتها؟) فقال: قد كان ذلك، قال: (أو ما سمعت رسول الله يقول: لا حَدَّ على معترف بعد بلاء) إنّه من قُيّدت أو حُبست أو تهدّدت فلا إقرار له. فخلّی عمر سبيلها، ثمّ قال: عجزت النساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب. لولا عليّ لهلك عمر (72).

تُبيّن لنا هذه الحادثة كم للضغط النفسي من أثرٍ على إقرار المتّهم، وكم لأسئلة القاضي من انعكاس على سير التحقيق وسير العدالة في القضاء. ونستخلص منها مبدأ قضائياً عمل به أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويجب أن يُسنّ في التشريعات القضائية في البلاد الإسلامية والمبدأ هو: (لاحدّ على معترف بعد بلاء)، وهو حديثٌ سمعهُ أمير المؤمنين (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالإقرار الذي يأتي نتيجةً للتعذيب النفسي أو البدني هو إقرارٌ باطل، ولا يجوز الاعتماد عليه في إصدار الأحكام.

القسم الثالث: الحقوق التي يجب مراعاتها عند إصدار الحُكم.

وهي اللحظة الحرجة التي رعاها الإسلام أحسن رعاية، وأعطى لأَطراف الخصومة الفُرصة الكافية لكي تأتي قرارات القاضي قرارات عادلة، وتنقسم هذه الحقوق إلى:

1 - تفسير الأدلّة لصالح صاحب الحقّ:

فالأدلّة التي يحصل عليها القاضي من إقرار أو شهادة أو ما شابه ذلك تمتاز بالمرونة، فيمكن أن تُفسّر تفسيرات مختلفة، ولمّا كان همّ القاضي هو احقاق الحقّ، فإذا تعيّن لديه صاحب الحق فيجب أن يُوجِّه مرونة الأدلّة لصالح صاحب الحقّ.

روي أنّ رجلاً أوصى، ودفع إلى الوصيّ عشرة آلاف درهم، وقال: إذا أدرك ابني فأعطهِ ما أحببت منها، فلمّا أدرك استعدی أمير المؤمنين، قال له: (كم تحب أن تعطيه؟) قال: ألف درهم.

ص: 365

قال: (أعطه تسعة آلاف درهم، وهي التي أحببت وخُذ الألف).

ورووا أنّ رجلاً حضرته الوفاة، فوصّى بجزء من ماله ولم يُعيّنه، فاختلف الورّاث في ذلك بعده، وترافعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقضى عليهم بإخراج السُبع من ماله، وتلا قوله تعالى: «لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (الحجر / 44)، فقد فسّر الجزء بالسبع.

وقضى (عليه السلام) في رجل وصّى فقال: اعتقوا عني كلّ عبدٍ قديم في ملكي، فلمّا مات لم يعرف الوصىّ ما يصنع، فسأله عن ذلك فقال: (يعتق عنه كلّ عبدٍ ملكهُ ستّة أشهر)، وتلا قوله جلّ اسمه: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا» (الأحقاف / 15) ثمّ قال:

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ» (البقرة / 233)، فحولان مدّة الرضاع وستّة أشهر مُدّة الحمل، فقال عثمان: ردّوها، ثمّ قال: ما عند عثمان بعد أن بعث إليها تردّ.

وقضى في رجل ضرب امرأة فألقت علقة أنّ عليه ديته أربعين ديناراً، وتلا قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (المؤمنون / 14).

ص: 366

ثمّ قال: (في النطفة عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون دیناراً، وفي المضغة ستّون دیناراً) (73).

فيجب أن يكون رأي القاضي مُدعماً بالدليل الشرعي، وأن يكون الدليل حاضراً حتى يستطيع الإجابة عنه متى ما سُئل. طبعاً لم يحصل ولا مرّة أن سُئل أمير المؤمنين عن الدليل؛ لأنّ المسلمين كافّة يعتقدون به اعتقاداً جازماً، وأنّه لا يحكم اعتباطاً، لكن من كان يُريد السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده. بل نجده كان يُقدّم الدليل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علامة السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده. بل نجده كان يُقدّم الدلل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علامة السؤال وقد ارتسمت في محيّا المُدّعي أو المدّعى عليه.

الاستنتاجات: تستنتج الباحثتان الآتي:

1. كان الامام علي (عليه السلام) راعيا لحقوق المواطنيين وهو اول من اسس لدولة ترعى الحقوق وتحدد معالم واضحة للواجبات.

2. تمتع المواطن في عهد الامام علي بالحقوق الاقتصادية والسياسية.

3. اكد الاسلام على حقوق الانسان قبل الف واربعمائة سنة فلقد كان الامام علي راعيا لهذه الحقوق التي وضعها الاسلام وهي: 1 - الحقوق الشخصية 2 ۔ الحقوق الاقتصادية 3 - الحقوق الاجتماعية 4 - الحقوق السياسية 5 - الحقوق الدينية 6 - الحقوق القضائية.

4. في فكر الامام علي عليه السلام تعد حقوق الانسان ومراعاتها قيمة اخلاقية عليا «أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها» بكلامه هذا تأسيس لثقافة مواطنة وحقوق انسان في دولة اسلامية تراعي وترعى الآخر.

ص: 367

5. اسس الامام علي صورة مثالية للمساواة التي اكد عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ولكن في فكر الامام علي جاءت بصورة واضحة مساواة امام القضاء والغاء المحسوبية موكدا مرة اخرى على الاخلاق في التعامل هي ان لا تميز بين فرد وآخر حتى في النظرة والتحية «وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء مِن عدلك»

6. ان حقوق الانسان في فكر الامام علي اشارات واضحة الى نكران الذات وحب الغير وتأسيس لمجتمع تسوده الفضيلة واحترام الآخر المختلف في اللون والدين والجنس.

التوصيات: توصي الباحثتان بالآتي:

1. اعتماد المنهج الدراسي في مادة حقوق الانسان التي تدرس في الجامعة والدراسة الاعدادية على ما جاء به فكر الامام علي في مجال حقوق الانسان وعدم الاكتفاء بما ورد في رسالته عليه السلام الى مالك الاشتر لكون حياة امير المؤمنين مليئة بالعبر والدروس في مجال حقوق الانسان.

2. حث الباحثين في التربية والمختصين في فلسفة التربية على كتابة رسائل وبحوث حول حقوق الانسان في فكر الامام علي للاستزادة من علمه عليه السلام في بناء المواطن الجيد المحب لوطنه.

3. وضع فلسفة في التربية تستمد من فكر الامام علي عليه السلام لاسيما مادتي التربية الاسلامية وحقوق الانسان کون هاتان المادتان تنميان الجانب الاخلاقي والروحي عند الانسان، اذ تشير الدراسات الى ان ثلث القرآن الكريم قيم اخلاقية وهذا مانريد ان نربي ابنائنا عليه ولاسيما ان الامام استمد علمه من القرآن.

ص: 368

المقترحات: تقترح الباحثتان اجراء الدراسات الآتية:

1. علي ابن ابي طالب والاخلاق

2. حقوق الانسان في الاعلان العالمي وفي فكر علي ابن ابي طالب (دراسة مقارنة)

3. اعداد برنامج لتنمية المواطنة والانتماء لدى الشباب مستمد من فكر الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام.

ص: 369

المصادر والمراجع:

1. الآمدي (عبد الواحد التميمي)؛ غرر الحکم و درر الكلم؛ فهرسة مصطفی درایتي، مكتب الاعلام الإسلامي، قم ابن أبي الحديد.

2. ابن أبي الحديد؛ شرح نهج البلاغة؛ دار احیاء التراث العربي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع القاهرة.

3. ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن بن علي)؛ الكامل في التاريخ؛ دار صادر، بیروت.

4. ابن شهر آشوب (رشيد السروي)؛ مناقب آل أبي طالب، طهران.

5. ابن عبد ربه؛ العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1953 م.

6. الاربلي (علي بن عيسر) (687)، کشف الغمة في معرفة الأئمة، نشر أدب الحوزة، قم، 1346 ه.

7. الأنصاري (الشيخ مرتضی)؛ القضاء والشهادات المكتبة الفقهية، ط 1، قم، 141..

8. التستري (محمد تقي)، قضاء أمير المؤمنين، منشورات الشريف الرضي ط 5، قم.

9. الثقفي (أبو هلال إبراهيم)، الغارات، دار الكتاب الإسلامي، ط 1، قم 199.م.

10. الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقیق عبد الرحيم المرباني، دار احیاء التراث العربي، بيروت.

11. الحلي (المحقق) أبو القاسم نجم الدين، جعفر بن الحسن (676)، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، انتشارات الاستقلال، طهران.

12. الراغب الأصفهاني (52.)، مفردات الفاظ القرآن، تحقیق محمد سید کلاني، ط 2، المكتبة المرتضوية.

13. الراوندي (هبة الدين سعيد بن عبد الله) (573)، فقه القرآن، سلسلة الينابيع

ص: 370

الفقهية، ط، طهران 6، 14.

14. زیدان (عبد الكريم)، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ط 1، مطبعة العاني، بغداد، 1984.

15. الصهر شتي (نظام الدين سليمان بن الحسن) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة، سلسلة الينابيع الفقهية، طهران 6، 14.

16. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار سویدان، بيروت.

17. الطحاوي (سليمان محمد)، السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي، 1967.

18. الطوسي: شيخ الطائفة (أبو جعفر محمد بن الحسن) (46. ه) تهذيب الأحكام في شرح المقدمة، دار الكتب الإسلامية، طهران.

19. فقاهتي (میرزا عبد الرحيم الزنجاني)، کتاب القضاء، مكتبة المرتضوي، طهران.

20. القرشي (باقر شریف)، العمل وحقوق العامل في الإسلام، دار التعارف، مصر، 1966.

21. الكليني (أبو جعفر محمد بن يعقوب)، الكافي (الروضة) المكتبة الإسلامية، قم.

22. المجلسي (محمد باقر)، بحار الأنوار الجامع لدرر الأخبار، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1983.

23. المفيد (محمد بن النعمان 413 ه)، الارشاد، دار التيار الجديد، دار المرتضى، لبنان.

24. الموسوي (محسن)، دولة الإمام علي، دار البيان العربي، ط 1، 1993.

25. النسائي، (أحمد بن شعیب)، سنن النسائي، دار احیاء التراث العربي، بيروت.

26. النوري، مستدرك وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، بیروت.

ص: 371

الهوامش

(1) - الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 125.

(2) - مرتضى الأنصاري، القضاء والشهادات - الينابيع -، ص 495.

(3) - الصهر شتي، اصباح الشيعة، ص 11..

(5) - الراوندي، فقه القرآن، ص 193.

(5) - الآمدي، غرر الحكم: 3 / 37..

(6) - المفيد، الإرشاد، ص: 97 - 98، والمجلسي، بحار الأنوار: 4. / 251، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1 / 494.

(7) - الإرشاد، ص: 98، والمناقب: 1 / 497.

(10) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص: 51.

(11) - الكليني، الكافي: 7 / 185 - 187.

(12) - الكليني، الكافي: 7 / 185 - 187.

(13) - الكليني، الكافي: 7 / 289 - 290.

(14) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 25، أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(15) - المصدر نفسه.

(16) - قارن بين مذهب أمير المؤمنين 7 في حقّ الإنسان في الحياة، وبين ما جاء في المادّة (435) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحق في الحياة والحرّية وسلامة شخصه (انظر: ص: 19 من الوثيقة).

ص: 372

(17) - اكتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص 24 من الوثيقة.

(18) - المجلسي: بحار الأنوار: 14 / 13، رواية 21.

(19) - الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: 11 / 49.

(20) - صحيحة ابن خالد الكابلي عن الإمام الباقر 7: وجدنا في كتاب عليّ 7 ثمّ ذكر الحديث: راجع التهذيب: 4 / 145، رواية 26.

(21) - اكتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص 24 من الوثيقة.

(22) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 196.

(23) - المصدر نفسه، ص 61.

(24) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 46، جهاد العدو، حدیث 22.

(25) - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2 / 192.

(26) - القرشي، العمل وحقوق العامل، ص 327.

(27) - باب الرسائل، رقم 53.

(28) - ورد في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان المادّة (17): لكلّ شخص حقّ التملّك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجرید أحد من ملکه تعسّفاً، ص 22 - 23.

(31) - الأصفهاني، الأغاني: 18 / 6..

(32) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 3: نکاح البهائم، الحديث 2.

ص: 373

(33) - الحرٌ العاملي، الوسائل، الباب 3: نکاح البهائم، الحديث 2.

(34) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 19 حدّ القذف، حديث 5.

(35) - المصدر نفسه، حدیث 3.

(36) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 36.

(37) - سنفرد له بحثاً مفصّلاً.

(38) - باب الرسائل، رقم 53.

(39) - قارن بين ما عُرف عن أمير المؤمنين 7 في هذا المجال وبين ما ورد في المادّة (21) من الإعلان العالمّي لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحقّ في الاشتراك في إدارة الشؤون العامّة لبلاده إمّا مباشرة وإمّا بواسطة ممثّلين يختارون اختیاراً حُرّاً (المواثيق الدولية، ص 23).

(40) - ابن عبد ربّه، العقد الفرید: 1 / 211.

(41) - باب الرسائل، رقم 19.

(42) - النوري، المستدرك: 17 / 359، رواية رقم 21581.

(43) - باب الرسائل، رقم 79.

(44) - ذكره أبو زُهرة في كتابه الجريمة، ص 163.

(45) - الزط: قوم من الهنود والسودان.

(46) - يعنون أنه الله - والعياذ بالله-.

(47) - الكليني الكافي: 7 / 259، الحديث 23.

ص: 374

(48) - باب الرسائل، رقم 18.

(49) - باب الرسائل، رقم 45.

(50) - باب الرسائل: رقم 27.

(51) - ذكره أبو زُهرة مستشهداً به على عظمة النظام الإسلاميّ في إعطائه حقوقاً كافية حتى للمجرمين، انظر كتابه: الجريمة، ص 209.

(52) - باب الرسائل: رقم 51.

(53) - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: 18 / 219.

(54) - فقاهتي، کتاب القضاء، ص 85.

(55) - الوسائل، الباب 3: حدّ المرتد، الحديث 5.

(56) - الطحاوي، السلطات الثلاث، ص 33.

(57) - باب الرسائل: رقم 46.

(58) - الأنصاري، القضاء، ص 113.

(59) - الأنصاري، القضاء، ص 113.

(60) - تُشير المادّة (7) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: كلّ الناس سواسية أمام القانون (المواثيق الدولية، ص 2.)، قارن بين هذا النصّ وبين موقف الإمام من عليّ بن أبي رافع الذي أصبح مضرباً للأمثال في المساواة. وكل من تحدّث في هذا الموضوع لم ينسَ أن يُشير إلى موقف أمير المؤمنين 7، بل الكثير اسندوا إلى مساواة أمير المؤمنين 7 لإظهار عظمة القضاء الإسلاميّ (انظر: علم القانون والفقه الإسلامي، ص 3، 3).

ص: 375

(61) - المفيد، الارشاد، ص: 1، 1 - 2، 1، وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1 / 50 - 51.

(62) - المفيد، الإرشاد، ص: 5، 1، وابن شهر آشوب، المناقب: 1 / 498.

(63) - المفيد، الإرشاد، ص: 5، 1، وابن شهر آشوب، المناقب: 1 / 491 - 492.

(64) - راجع: ابن شهر آشوب، المناقب: 1 / 491 - 492.

(65) - المحقق الحلّي، شرائع الإسلام 2 / 195.

(66) - النوري، المستدرك، كتاب القضاء آداب القاضي، الباب 11، الحديث 3.

(67) - الحرّ العاملي، الوسائل: 11 / 157.

(68) - المفيد، الارشاد، ص 99.

(69) - یذکر ناصر کاتوزیان: بعد انتشار القانون وحلول موعد تنفيذه لا حقَّ لأحد عدم اطلاعه عليه.

(70) - الكليني، الكافي: 7 / 249.

(71) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 25.

(72) - الأربلی، کشف الغمّة، ص 33.

(73) - المفيد، الارشاد، ص 1٫7.

(74) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 5.

(75) - المصدر نفسه، ص 25.

(76) - انظر: الكليني، الكافي: 7 / 289 - 29..

ص: 376

(77) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 29.

(78) - المصدر نفسه، ص 3..

(79) - المصدر نفسه، ص 29.

(80) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 3.: حدّ السرقة، الحديث 3.

(81) - المصدر نفسه، الحديث 4.

(82) - کشف الغمة، ص 57.

(83) - المصدر نفسه، صفحة 578.

(84) - غيث، قاموس علم الاجتماع، ص 194.

(85) - مونتسکیو، روح القوانين، 1 / 226.

(86) - الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 111.

(87) - السبحاني (جعفر)، مفاهيم القرآن (معالم الحكومة الإسلامية)، ص 447.

(88) - المصدر نفسه 1 / 123.

(89) - المصدر نفسه: 6 / 98.

(90) - الآمدي، الغرر: 1 / 385.

(91) - باب الوصایا، رقم 31.

(92) - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: 3 / 234.

(93) - المواثيق الدولية، ص 18.

(94) - المواثيق الدولية، المادّة 19، ص 23.

ص: 377

(95) - أبو زُهرة، الجريمة، ص 151.

(96) - الطبري، تاريخ الأمم والملوك: 5 / 72، والكامل لابن الأثير: 3 / 334.

(97) - ابن الأثير، الکامل: 3 / 335.

(98) - الموسوي، دولة الإمام عليّ، ص 249.

(99) - المواثيق الدولية، ص 29.

(100) - الشيخ الطوسي، التهذيب: 1 / 228، رواية رقم 31.

(101) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 36.

(102) - سنن النسائي: 7 / 156.

(103) - الثقفي، الغارات، ص 25.

(104) - أبو زُهرة، الجريمة، ص 163.

(105) - أبو زُهرة، الجريمة، ص 162.

hassan-161@hotmail.com

ص: 378

المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) من منظور منطق نظرية علم النقطة

اشارة

أ. م. د. تومان غازي الخفاجي

الكلية الإسلامية الجامعة - النجف الأشرف

أ. م. د. خالد كاظم حميدي

كلية الشيخ الطوسي الجامعة - النجف الأشرف

ص: 379

ص: 380

ملخص:

مهمة هذا البحث محددة لوضع أسس منطق جديد أطلقنا عليه (منطق علم النقطة)، وقد استعملنا أحد أنواعه وهو (المنطق العلائقي) منهجا لفَهم عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (1) فَهما جديدا منظمَّا بمنطق يجعلنا لا ننظر إلى الأشياء نظرة تفصل بعض عناصرها عن بعض؛ لأنّنا بقدر ما نعزل الأشياء وندرسها بشكل أحادي بقدر ما نرتكب من الأخطاء.

وقد تأسس منطق نظرية علم النقطة على فرضيتين، أولاهما: آية قرآنية كريمة قيلت على لسان النبي إبراهيم (عليه السلام) استخلصنا منها أنّ الله تعالى منحنا ثلاث ملكات إدراكية هي: (العقل والحس والقلب)، تؤلف مثلثا يحصر الحقيقة في نقطة وسطه، وإذا أهملنا إحدى هذه الملكات الثلاث ينفتح مثلث الإدراك وتفلت النقطة في فضاء لا متناهٍ ما یکثّر الجدل العقيم الطويل حولها، الذي يدلّ على الجهل، وهو فحوى الفرضية الثانية وهي مقولة الإمام علي (عليه السلام): (العلم نقطة كثّرها الجاهلون). والنقطة تعني القلّة التي تتمثل في اكتشاف مقولة فكرية أو مبدأ أو قانون، أو قواعد عامة تفسّر الظواهر المتنوعة تنوّعا لانهائيا وترجعها إلى ضرب من الوحدة.

ومن هنا جاءت تسمية هذا المنهج الفكري الجديد ب(منطق نظرية علم النقطة) كحلّ لمشكلة التفكير بمسنن واحد بوساطة المنطق الأرسطي الذي يُفعِّل التفكير الصوري المنفصم عن الواقع، بخلاف منطق نظرية علم النقطة الذي يقدّم نظاما ثانيا للتفكير، ليُصبح تفكيرنا حرّا يعي ذاته؛ لأنّ من شروط حرية الفكر أن نكون مخیرین بین خیارین على الأقلّ.

ص: 381

Summary:

The task of this research specific to lay the foundations for a new logic we launched it (the logic of science point). and we used one of its forms which (logic relational) approach to understanding the era of Imam Ali (peace be upon him) to Malk Al-Shtar new understanding structured logic“ we do not VI IIII look at things look detailing some of its elements for some; to the extent that we isolate the things were looking at as far as unilaterally commit errors.

The logic of science point theory was founded on two assumptions: the -L1 1 LVL LE first Quranic verse dignified spoken through the prophet Ibrahim (peace be upon him) have drawn them that God has given us three queens cognitive are (the mind and the sense of the heart) make up the triangle limits the truth in 1 the center of this triangle points and if we neglect one of these three queens opens perception triangle point slip away in the space of infinite piled up controversy aseptic run around which demonstrates the ignorances which is the thrust of the second hypothesis which is the argument of Imam Ali (peace be upon him): (science frequently point out fools). The point means the few who are in the discovery of an intellectual argument or principle or law« or general rules that explain the diverse phenomena infinitely versatile and are returning to the hit of the unit.

Hence the name of this new intellectual approach to (the logic of science point theory) as a solution to the problem of thinking one way mediated Aristotelian logic that he does think the picture is separated from reality, as opposed to the logic of the point flag which provides a second system of thinking theory. to become our thinking freely aware of itself, because of conditions for freedom of thought to choose between at least two options..

ص: 382

مقدمة:

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خيرِ خلقه أجمعين محمدٍ وعلى آله الطاهرين وصحبه الكرام الميامين، وبعد:

فمنذُ أنْ سمّى العربُ (المنطق الأرسطي) سيدَ العلوم وخادمها، أي النظرية العامة للتفكير وتطبيقها، بقي هذا المنطق برنامجا عقليا مهيمنا يمثل هندسة بسيطة تختزل الوجود بأجناس وأنواع معدودة، تصاغ منها تعریفات حديّة بلغة الحاسوب الثنائية (.- 1): (الجنس = .، والنوع =1+)، لتسهيل عملية استقراء الواقع وجعله استقراء رياضيا يفترض ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة، ما يمكَّنه الاكتفاء باستقراء محدود يُعمم منه المقدمات الكلية التي يستخلص منها بالقياس الأرسطي نتائج يقينية يقينا مطلقا، لترابط المقدمات الجزئية بالكلية بعلاقة تضمُّن ثنائية؛ إذا عرفنا (جنس الشيء، أي الصفر) كحدٍّ أوسط مشترك بين المقدمتين، عرفنا (نوعه، أي الواحد)، والعكس بالعكس. إنّ نتائج هذا الاستقراء والقياس تكون يقينية رياضيا، ولكنها غير منتجة لمعرفة جديدة؛ لأنّها تعتمد على بدهية (خصائص الجزء موجودة في الكلّ).

بقي هذا المنطق الصوري القديم بقوانينه الثلاثة المشتقة، وهي: (ثبوت هوية الأشياء، وعدم التناقض، ومقياس (إما / أو ولا ثالث بينهما)، بمصطلحاته التي وضعها أرسطو، بقي مهيمنا على عقول العرب لبساطة هندسته للفكر وللوجود الذي اُفْتُرِضَ جمودُهما، خُلقا هكذا وسيبقيان إلى أبد الآبدين بعد إفراغ الأجناس والأنواع ککلیات من مادتهما کیلا تشوِّهُ المادةُ صورهما الكاملة بمبدأ (الصيرورة) أي تحوّل الأشياء من حال إلى أخرى؛ وحين طُبِّق هذا المنطق في الحياة الاجتماعية سوّغ عبودية المجتمع اليوناني وقمع الحريات بطريقة عقلية، ما جعل المنطق الأرسطي عدوا لتطور المجتمع وعدوا للعلوم الطبيعية التي جعلها اليونان لا تليق إلا بالعبيد، وهو تصور يسدّ الطريق بوجه أي منطق للاكتشاف

ص: 383

والاختراع في مجال العلوم التجريبية. وهذا قرار لا تطيعه طبيعة المعرفة المألوفة لدينا كبدهية لا تحتاج إلى برهان، ما يجعل اکتشاف منطق جديد يُعدّ ضرورة حضارية تتفق مع متطلبات العصر المعقدة، التي يمكن بوساطتها فَهم النصوص التراثية فَهما جديدا مخالفا لفَهم القدماء لها، بعد أنْ بدأ العرب يفکِّرون بالرجوع إلى تراثهم بسبب فشل معظم مشاريع استيراد الفكر من خارج الحضارة العربية.

هذه هي مشكلة البحث التي اقتضت أهمية التجديد في الفكر العربي لتأسيس منطق جدید أطلقنا عليه اسم (منطق علم النقطة)، لا یُحدِّد مقياسه بمعرفة (الصح من الخطأ)، و(اليقين من الشك) إلى غير ذلك من ثنائيات متنافرة خارج نطاق الاستعمال النافع، وإنّما یُحدّد مقیاسُه بثنائية: (مشكلة × حلّ)، وهو ما يسلط الضوء على مشكلات الواقع الحالي التي لم تكن موجودة من قبل، بسبب تغيّر العالم وتعقيده الذي يتطلَّب تغيير طرائق تفكيرنا، التي هي طرائق منطقية عليها أن تستوعب منطق القدماء وتتجاوزه الى ابتكار طرائق أخرى، ليصبح عدد أنواع المنطق کعدد المشكلات التي لا يمكنا إحصاؤها لعدم إمكاننا من التنبؤ بما يحصل في المستقبل.

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يُقسَّم على مبحثين:

المبحث الأول: تعریف منطق علم النقطة العام وموقع المنطق العلائقي منه.

المبحث الثاني: استعمال المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر.

راجين من الله تعالى أن يُعيننا على خدمة الفكر العربي الإسلامي باستخراج کنوز المعرفة من النصوص التي قامت عليها حضارتنا عندما کُنّا نهتدي بها، وإنْ لم تكن معروفة بالمصطلحات التقنية التي تجعلها بمتناول الأفهام بلغة دقيقة قليلة وواضحة. والله ولي النعمة والتوفيق.

ص: 384

المبحث الأول: تعریف منطق علم النقطة العام وموقع المنطق العلائقي منه:

تعتمد نظرية علم النقطة في تجديد الفكر العربي على فرضيتين تكوِّنان معا أنموذجا معرفيا عربيا جديدا، يُستخلص منه منطقٌ جديد سميناه ب(منطق علم النقطة)، مُؤصَّل على نصوص الحضارة العربية بعد الإسلام: القرآن الكريم والسُنّة النبوية، وما أنتجه العقل العربي تحت خيمتهما، وإنْ كان له بُعدٌ إنساني عام، شأنه شأن أي فكر حرّ. وهو ما سيتضح من المبادئ التي استقينا منها الفرضيتين:

الفرضية الأولى: لا يمكن مقاربة نقطة الحقيقة والحُكم عليها بيقين يطمئِن القلب، ما لم تتعاضد أدلة العقل المجرد، وأدلة الحس الجدلي التجريبي المكرر أربع مرات (مرة + 3 مرات)، وهو ما يُشرك ملكات النفس الإدراكية الثلاث: (العقل المجرد، والحس الجدلي التجريبي، والقلب الأخلاقي الموضوعي) بوصفها ملكات تعقّل، أي أنّنا لا نعني بالعقل المجرد إلا بوصفه ملكة فطرية لا تعرف إلا لغة بدهيات المنطق الرياضي؛ لذلك يمكن تسميتها ب(حاسوب العقل)، الذي يعمل بافتراض ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة عبر الزمن، ولا نعني بالحس المعنى اللغوي العام، وهو تحسس سطوح الأشياء، وإنّما نعني به ملكة التعقّل غير الفطرية، التي حنّكتها التجارب فعرفت قوانين صيرورة الأشياء أي تحولها الجدلي من حال إلى أخرى عبر الزمن. ولا نعني بالقلب بأنّه ملكة أهواء متقلبة؛ لأنّه مرتبط بعلاقة مع العقل المجرد من جهة، وبالحس الجدلي التجريبي من جهة أخرى.

وقد استخلصنا هذه الفرضية من آية قرآنية كريمة قيلت على لسان إبراهيم (عليه السلام) بشأن قضية غيبية هي (إحياء الموتى) قال: «أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ...»(2).

ص: 385

وهنا يكون اطمئنان القلب يقينا معرفيا آتيا من تعاضد نوعين من الأدلة العقلية والتجريبية المكررة (أربع مرات). ويقابل هذا اليقين المعرفي الآتي من الاعتماد على نوع واحد من الأدلة سواء العقلية المجردة، أم الحسية التجريبية، ما يجعل حزمة الأدلة النظرية المجرَّدة وحزمة الأدلة الحسية التجريبية طرفين مرتبطين بعلاقة جدلية يبرهن كلّ واحد منهما على وجود الآخر(3)؛ لأنّ العقل الفطري المجرد مفطور على (مبدأ ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة)؛ لذلك يستعمل الاستقراء الرياضي(4) Mathematical Induction: (مرة + 3 مرات) ثم يعمم من ذلك مقدمة كلية كبرى تعبّر عن علاقات التضمّن وفحواها بدهية: (خصائص الجزء موجودة في الكلّ)، كالآتي:

كل إنسان = فانٍ... (1) مقدمة كبرى.

وأنتَ = إنسان... (2) مقدمة صغرى.

فتكون النتيجة (أنت= فانٍ) لا محالة، بحذف الحدّ الأوسط المشترك بين المقدمتين (إنسان) عند جمع المعادلتين، أو بتطبيق قاعدة (المساويان لشيء واحد (إنسان) متساويان). والنتيجة يقينية يقينا مطلقا من حيث انضباط هذا الاستدلال رياضيا. لكن التعقل الحسي الجدلي يرفض هذا اليقين؛ لأنّه يفترض (مبدأ صيرورة الأشياء وعدم اطراد الطبيعة عبر الزمن)، وهذا ما يجعل القلب الأخلاقي يُشكك في المقدمة الكبرى؛ لأنّها مبنية على استقراء الماضي والحاضر، ويستحيل استقراء المستقبل، فلا مجال إذن ليقينية نتائج العقل المجرد المطلقة من منظور أخلاقيات القلب، الذي يعمل ب(مبدأ الحرية) المحكومة بقواعد أخلاق البحث الموضوعي، وعليه أنْ يحكم باحتمال صحة رياضيات العقل المجرد وليس بقينها المطلق، ولا يرجح صدق النتائج العقلية المجردة إلا بالتجريب الذي يقع بالضرورة في حيز المستقبل لمعرفة صحة اطراد الطبيعة في المستقبل القريب على الأقلّ.

ص: 386

ولغرض الاقتصاد بالجهد يقتصر التجريب على أربع مرات: (مرة + 3 مرات) کالاستقراء الرياضي، للتأكد من تعاضد الأدلة العقلية المجردة والأدلة الحسية التجريبية، قال الزمخشري (ت 538 ه): (([ليطمئِنّ قلبي]: ليزيد سکونا وطمأنينة بمضامّة ([تعاضد] علم الضرورة [المشاهدة] علم الاستدلال [القياس]. وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين؛ ولأنّ علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العِلم الذي لا مجال فيه للتشكيك))(5).

لكنّ القلب الأخلاقي يجب أن يُبقي شيئا من الشك؛ لأنّ التجريب الحسيّ على الجزئيات في زمن مُحدَّد لا ينتج علما ضروريا، إلا إذا استخلص منها إدراك فكرة الصيرورة العامة المناقضة لفكرة ثبوت الهوية العامة. والصيرورة تنفي أي يقين مطلق (كلي) يمكن أن يُستخلص من الجزئيات مَهْمَا كان عدد التجارب كبيرا. بمعنى إذا كان العقل المجرد يسخِّر الاستقراء التجريبي لإثبات فكرة ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة، فالتعقل الحسي أيضا ملكة تجريد تجريبية جدلية تنفي ثبوت الهوية، وتجعل القلب يشكك في اليقين المطلق النقي 1...%؛ لذلك يكون الحُكم الأخلاقي الدقيق هو الذي يحتفظ بشيء من الشك حتى مع تعاضد الأدلة العقلية المجردة مع الأدلة الحسية التجريبية، وعليه يجب أن يحكم في هذه الحالة ب(اليقين النسبي)، ما يجعل ملكة القلب ملكة إدراك مستقلة تعمل بمبدأ (الحرية) في إطار هذه النسبية، لتقرر متى يبقى مثلث الإدراك ثابتا يميل لصالح العقل المجرد، ومتى يتحرك إلى الأمام مراعاةً لمبدأ صيرورة التعقل الحسي التجريبي، بحراك يشبه التداول السلمي للسلطة.

وعلى هذا الأساس يكون اليقين المطلق 1...٪ تصوّرا مجرّدا للعقل المجرد، ويفيد کمستوى سطح البحر الذي نقيس بالنسبة إليه كمّية الارتفاع والانخفاض عنه، وهنا نقيس كميّة اليقين بالمقياس المُدرَّج مئويا، الذي يبلغ أقصاه درجة الامتياز (99٪)، ولا

ص: 387

يبلغ (1...٪) أبدا، ودرجة (99٪) هي التي نسميها ب(المثُل الواقعية) التي تقول الحقّ حتى لو كان ضدّ مصالحها. ذلك أنّ درجة الكمال المطلق تمثل صورة عقلية خالصة للعقل المجرد، مفرغة من المادة، أي لا تدخل معطيات الحس في تكوينها، فهي صورة بشكل دائرة كاملة مختومة على طين المخ لا تزيد من وزنه شيئا، يحصّنها العقل المجرد من أن تُخدش بأيّة مادة يمكن أن يعبث بها مبدأ الصيرورة الزماني الذي ينفي عرض ما هو كلي إلا على نحو تقريبي فحسب، من دون الوصول إلى درجة الكمال المطلق لليقين أبدا(6).

وهذا يعني أنّ نقطة الحقيقة لا يمكن بلوغها بمدركات الإنسان المتوافرة لديه، ولا ندري فربّما يبلغها الإنسان عند الموت، ولكن لا سبيل للتواصل مع الأموات، إلا بالخيال الفني الخلاق. وكل ما يمكننا في الحياة الدنيا هو (مقاربة) نقطة الحقيقة بمثلث الإدراك الذي تشترك في تكوينه ملكات النفس الإدراكية الثلاث: (العقل المجرد، والحس الجدلي التجريبي، والقلب الأخلاقي الموضوعي)، بحسب الأنموذج الصوري الآتي:

نلحظ هنا عمل مدركات النفس كنظام منطقي تؤدي فيه كل ملكة وظيفتها، وإذا تعطلت إحدى الملكات لأيّ سبب، نحصل على معرفة غير منظَّمة لا تمثل علما، وهو ما يقود إلى الفرضية الثانية.

الفرضية الأخرى: وهي تمثل برهانا على صحة الفرضية الأولى، يُثبت خطأ النتائج عند إنكار مقاربة نقطة الحقيقة بمثلث الإدراك الذي يحصر الحقيقة في حيز ضيّق، وذلك بتعطيل عمل إحدى ملكات الإدراك الثلاث، فينفتح المثلث وتفلت نقطة الحقيقة في فضاء لامتناهٍ، فيكثر حولها الجدل العقيم الطويل، الذي يدلّ على الجهل بحسب المقولة المنسوبة للإمام علي (عليه السلام): ((العلم نقطة كثّرها الجاهلون))(7)، أيّ العلم نكتة لطيفة في الشيء تُشبّه في قلتها ب(النقطة)(8)، والنقطة هنا هي ((منطق العمليات العقلية

ص: 388

العليا))(9)، المتمثلة في تجريد العقل المجرد لأنموذج مثلث الإدراك المعرفي السليم، کمنطق جديد يعتمد على فرضيتين واضحتين في الذهن، ولا مشكلة إذا قلّ وضوحهما الذاتي؛ لأنّ الوضوح في المنطق الجديد لا يهمنا بمقدار ما تهمّنا النتائج التي تنتج عن الفروض الأولى كحلول لمشكلات(10)، بمعنى أنّ طرفي مقياس منطق علم النقطة ليس الصدق × الكذب، ولا ثالث بينهما)، وإنّما طرفاه: (مشكلة ×حلّ)، وهذا يعني أنّ الجديد في هذا المنطق هو أنّه نظام يقدِّم حَلا لمشكلة الجدل العقيم الطويل الناتج من تفریق رجال المنطق الحاد بين النظرية والتطبيق، حتى ظنوا أنّ ((الطرفين نقیضان لا يلتقيان، فالنظري لا يكون عمليا، والعملي لا يحتاج إلى جانب نظري يسبقه)) (11)، وهو ما حيّر قلوب العرب، فانقسموا على فريقين يتجادلان منذ ألف ومائتي سنة من دون أن يجددوا طريقة تفكيرهم باکتشاف علاقة جدلية متينة تربط بين صورتي النظرية والتطبيق، أو بين العقل المجرد المولع بالتقسيم ووضع الفواصل بين حدود الأشياء لا تعبرها، والتعقل الحسي الجدلي الذي يربط الحدود فيما بينها، ما ينتج جدلية التحليل والتركيب التي تتكفل بحلّ مشكلة الجمود الفكري العربي وكثرة الجدل العقيم حول كثير من القضايا التاريخية والعقائدية ومعظم العلوم الإنسانية القديمة، حتى أصبح العقل العربي لا يعي ذاته، لعدم وجود منطق آخر إلى جوار المنطق الأرسطي يلوذ به لحلّ مشكلة القول بعدم تعايش الأضداد.

ونظرا لافتراض التعالق بين ملكات الإدراك الثلاث، وعمل كلّ ملكة بمبدئها الخاص: (العقل بمبدأ ثبوت الأشياء، والتعقل الحسي الجدلي بمبدأ صيرورة الأشياء عبر الزمن، والقلب بمبدأ الحرية)، فإنّ مثلث الإدراك السليم يعمل كمنظومة ينتقد بعضها بعضا نقدا فكريا، والنقد هنا معنى الفصل بين الحق والباطل، وهو من دون مقياس يصبح عبثا؛ لذلك لابدّ للقلب من مقياس يصبح بموجبه حَکَما عادلا يحكم بين

ص: 389

الخصمين: (العقل المجرد، والحس الجدلي) لعمل كلّ منهما مبدأ مناقض لمبدأ الآخر، ما يجعل القلب ملكة تعقل معرفية غير متقلبة، وإنّما تعمل على وفق قواعد وقوانین تجعلها تميل مرة إلى أدلة العقل المجرد، ومرة أخرى إلى أدلة الحس الجدلي.

وعلى هذا الأساس يكون الحل الوسط الذي عُرف بمصطلح علم الأخلاق القلبي ب(الوسطية) هو الحلّ الصحيح، الذي يقابله التطرف بين الكيفيتين المتنافرتين للعقل المجر من جهة د، والتعقل الحسي التجريبي من جهة أخرى، بعد جمع الكيفيتين المتنافرتين وتقسيمها بمقياس مئوي يختار من بينها القلب المقدار الذي يعمّ خيره الأكثرية؛ لأنّ رضا الناس جميعا غاية لا تُدرك.

وتظهر هذه الوسطية الأخلاقية عند الجاحظ (ت 255 ه) بقوله: ((إنّ الحياءَ اسم لمقدار من المقادير، ما زاد على ذلك المقدار فسمِّه ما أحببت. وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير، فالسَّرف اسم لما فَضَلَ عن ذلك المقدار. وللحزم مقدار، فالجبن اسم لما فَضَل عن ذلك المقدار. وللاقتصاد مقدار، فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار. وللشجاعة مقدار، فالتهور اسم لما جاوز ذلك المقدار))(12).

یُحذِّر الجاحظ هنا من حكم القلب الأخلاقي الذي يميل فيه القلب إلى أوهام الصور العقلية الكلية المجردة، التي تطمح بلوغها الأشياء متجاوزة الوسطية، ما يؤدي إلى عکس معنی الجود العملي إلى السَّرف، والحزم إلى الجبن، والاقتصاد إلى البخل، والشجاعة إلى التهوّر؛ لأنّ العقل المجرد يستعمل المقياس الصوري المتنافر الكيفيتين: (إما أبيض × أو أسود، ولا ثالث بينهما). فهو لا يميز إلا الصور الناصعة البياض، أو القاتمة السواد، وأما الثالث بينهما فهو يمثل جمعا بين المتناقضين؛ أي أنّ العقل المجرد يتعامل مع الكليات؛ لذلك يمثل الجود عنده إعطاء المرء كلّ ما لديه، والبخل هو الامتناع عن إعطاء أي شيء، ولا يعرف العقل المجرد أنّ بينهما ثالثا وسطا، يأخذ مساحة بين الصورتين

ص: 390

العقليتين المتطرفتين تقع بين: (الجود والبخل) يُسمّى (الاقتصاد)، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا» (13).

كذلك توجد مساحة (وسطية) بين تصور (ثبوت الهوية العقلي)، و(صيرورة الهوية الحسية الجدلية)، تسمى (الثابت في المتغيّر)، فأنا أُسمّى (حيّا) تسمية عقلية صورية ثابتة ابتداء من الميلاد حتى 7. سنة مثلا، وهذه التسمية ثابتة في متغيّر العمر الذي يتغيّر كلّ ثانية، ثمّ أَمُرُّ بلحظة تجمع بين المتناقضين (الحياة والموت)، تسمى ب(القشة التي كسرت ظهر البعير)(14)، تليها تسمية عقلية صورية ثابتة هي (ميّت) تستمر إلى يوم القيامة تتضمّن تغيّرا في عناصر الجثة كلّ ثانية، تليها لحظة تجمع بين (الموت والحياة)، وهكذا يجدُ القلب مجاله كَحَکَمٍ يعمل بمبدأ الحرية الذي يُعطي نِسَبا تقريبية تُطمئِنُهُ ب (اليقين النسبي) لكلّ كيفية صورية متنافرة، فيُقسِّم الحيّ على: (ولید، طفل، صبي، شاب، کهل، شیخ) کامتداد متصل تظهر وسطيته بالشباب الذي يقع بين صورتين متطرفتين: (وليد × شيخ) الذي يمكن أنْ يأخذ مساحة من (18 - 4.) عاما مثلا، يزيد أو ينقص بحسب الظروف.

وبهذا تكون ملكة القلب في نظام مثلث الإدراك ملكة تعقل ومعرفة، وليست ملكة أهواء وميول ذاتية متقلِّبة، وإنْ كانت تعمل بمبدأ الحرية، إلا أنّ حريتها مكفولة بتحررها من استعباد العقل المجرد لها تارة، واستعباد التعقل الحسي الجدلي لها تارة أخرى، فهي تعمل بينَ بينَ مقيّدة بنظام منطقي يجعل أضلاع مثلث الإدراك ليست ثابتة مطلقا ولا متغيرة بطريقة سريعة عشوائية، فهي تخضع لنظام الوسطية الذي يقود فيه القلب مثلث الإدراك بسلاسة تشبه التداول السلمي للسلطة، فنحكم بتساوي الأضلاع وثبوت طولها وسكون حركة المثلث في مكان واحد لمدة من الزمن يطرد فيها استقرار نظام الإدراك،

ص: 391

وهذا لا يمنع صيرورته بتقدمه إلى الأمام وتصغير حجم المثلث نتيجة لتقدم العلوم التجريبية وتطور مناهج البحث، ونمو المدركات التي كلّما واجهت مشكلة جديدة في الواقع لم تكن معروفة من قبل ابتكرت منطقا جديدا لحلِّها، ومن ذلك المنطق العلائقي ومقیاسه: (الوظيفة x الموقع)، وكل أنواع المنطق تقع تحت تعریف واحد، وهو أنه يعد نظاما نظريا وفنا تطبيقيا يساعدنا على تصحيح تفكيرنا؛ لأنّ ((وسائل التفكير الصحيح يمكن اختصارها إلى مدي كبير وتحويلها إلى قواعد کالطبیعیات والهندسة وتدريسها لكلّ عقل، وإنّه فنٌ لأنّه بالممارسة يقدِّم للفكر أخيرا ذلك الإتقان والدقة والضبط اللاشعوري السريع الذي يرشد ويوجه أصابع عازف البيانو بانسجام سهل في العزف على آلته. لا شيء أثقل على الفهم من المنطق، ولا شيء أكثر منه أهمية))(15).

فكلّ معرفة تُنظَّم تصبح علما بفضل المنطق الذي يُنظِّمها، وكلّ شيء مُنظَّم يمكن أن نجرد منه منطقا، فالحكمة حياة منظمة، والفن مادة منظمة(16)، وفي نظرية علم النقطة يوجد قسمان من التنظيم المنطقي، يتضمن كلُّ واحد منهما عددا من أنواع المنطق، والقسمان هما:

1 - منطق مثلث الإدراك السليم، ويضمّ منطق العقل المجرد، ومنطق الحس الجدلي، ومنطق القلب.

2 - منطق ما وراء مثلث الإدراك. ويضمّ عددا لا نهائيا من أنواع المنطق تظهر بحسب ظهور ظاهرة جديدة تعكس في الذهن مشكلة جديدة تتطلب مِنّا التفكير بنظام منطقي جديد، نحو: منطق الطير، ومنطق الازدحام، ومنطق المقياس، والمنطق العلائقي إلى غير ذلك.

ويقيس المنطق العلائقي قيم الأشياء عن طريق مقياسه: (الوظيفة × الموقع)، وهو تقويم بأسلوب جديدا لم يُعرف من قبل، حتى أنّه قد يقلِب الحقائق المعروفة رأسا على

ص: 392

عقب، تلك التي عرفناها بوساطة مقياس المنطق الأرسطي وحده، الذي يركز في تقویم الأشياء منفصلة اعتمادا على افتراض جوهر مستقل ثابت فيها خُلِقت هكذا وستبقى إلى أبد الآبدين.

وقد استعمل الإمام علي (عليه السلام) المنطق العلائقي كثيرا، ولاسيما في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر، وهو منطق يعلمنا كيف نعرف قيم الأشياء لا عن طريق خصائصها الجوهرية، وإنّما عن طريق وظائفها، ما يجعلنا نكتشف معرفة كُنّا نجهلها، بسبب استعمالنا لمنطق واحد.

ص: 393

المبحث الثاني: استعمال المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر:

مدخل: اُكتِشَفَ المنطق العلائقي في العصر الحديث، بمعنى أنّه صِيغ بمصطلحات تقنية على الرغم من استعماله عفويا في كلام الإنسان الذي تجاوز مؤخرا تعريف الأشياء بحدودها الذهنية المسماة ب(المفاهيم) أي التي يفهمها العقل، إلى تعريفها بالوظيفة، إذ إنّ التعريف الحدّي هو صورة تُختم على طين المخ كالنقش تميّز بين مفهوم شيء وآخر لكي تتمايز الأشياء بأسمائها المختلفة في الذهن، فاسم الكتاب مختلف عن اسم المنضدة واسماهما مختلف عن اسم (القلم)، وهكذا تتمايز الأشياء بتمايز الأسماء الحدية التي تطبع مفاهيمها في الذهن، لكن ما قيمة اسم القلم الذي لا يؤدي وظيفة الكتابة (17)؟!، وهذا يعني أنّ التعريف الوظيفي مكمل للتعريف الحدي، ليفهمها العقل المجرد والتعقل الحسي معا.

والوظائف هي التي تحدد (النفع والضرر) العمليين لمعرفة قيم الأشياء عن طريق معرفة وظائفها، أما قيمة العلامات اللغوية فتظهر في أداء وظيفتها كأداة ثقافية تنوب عن الأشياء وتسهِّل على الإنسان قضاء حاجاته بوساطتها؛ لذلك يمكن الحديث عن وظيفة الأشياء ووظيفة اللغة بمعنيين مختلفين (18):

أولهما: وظيفة منطقية صورية، ربّما جرَّدها العقل من الأساس البايولوجي، وهو يشير إلى الحركات الحيوية بغضّ النظر عن نتائجها التي تلبّي حاجات الكائن الحي، نحو: حركة الشهيق والزفير الشكليين اللذين يمكن أن ننتزع منهما منطقا صوريا مجردا يتمثل في الإيقاع الناتج من تكرار المزدوج المتضاد: (شهيق × زفير، ولا ثالث بينهما))، أو بتجريد أعلى: (إما × أو، ولا ثالث بينهما).

ثانيهما: وظيفة حسية عملية تشير إلى نتائج هذا الإيقاع العملية التي تلبّي حاجات

ص: 394

الكائن الحيّ في استنشاق الأوكسجين الضروري لحياة الأنسجة الحيوانية، وطرح ثاني أوكسيد الكاربون السام المميت للحيوان.

والمعنى الأول للوظيفة مكتشف من الملاحظة الشكلية السطحية الساذجة التي يجرّدها العقل بمؤشر ميزانه الذي يُشير إلى (الصفر = شهيق +1، زفير -1)، أمّا المعنى الثاني للوظيفة فمكتشف عن طريق الملاحظة العلمية التجريبية التي تبحث في الأسباب الطبيعية للأشياء وغاياتها، أو الغرض منها، التي استطاعت أن تربط بين الأشياء بعلاقات علمية متينة لا انفصام لها، وإلاَّ سيتحطم نظامها العلائقي جميعًا. والنتيجة هي الموت ليس للحيوانات ومنها الإنسان فحسب، بل الموت لما له علاقة نظامية معه، وهو النبات الذي اكتشف العلم التجريبي أنه يتنفس بالسموم التي يطلقها الإنسان والحيوان بزفيرهما، وهو ثاني أوكسيد الكاربون الذي يستنشقه النبات شهيقاً ويطلق الأوكسجين خارجًا بزفيره؛ لأنّه يكون سامًا بالنسبة إليه، الذي هو أساس حياة الإنسان والحيوان، بمعنى أنّ من دون الحيوان يموت النبات، ومن دون النبات يموت الحيوان. ومن دون السحاب الذي ينقل الماء المُنقّى من أملاح البحر سيموتان معًا، ومن دون الاختلاف الكمي بين حرارة اليابسة وحرارة البحر لا يتحرك السحاب من أعلى البحر إلى اليابسة بما عُرِف ب(نسيم البر والبحر)، ففي الليل تبرد اليابسة أسرع من البحر فيخفّ الضغط الجوي على اليابسة ما يدفع الهواء من جهة البحر إلى جهة البر.

یُلحظ أنّ العلم الحديث قد أسهم إسهامًا كبيرًا في اكتشاف المنطق العلائقي ومقیاسه: (الوظيفة x الموقع)، ويمكن إيضاحهما بالآتي:

أولاً: الوظيفة:

مفهوم أخذ تطوره من العلوم الطبيعية، ولاسيما علم الحياة (البايولوجي)، إذ نُظِرَ إلى العناصر المختلفة التي تدخل في نظام علائقي مستقل يُغذي بعض عناصره بعضاً

ص: 395

بأنها تنزل منزلة الكائن الحيّ، الذي لا تُفهم أجزاؤه إلاّ في علاقاتها مع هذه الكلية، وهي قانون المنطق العلائقي الأول الذي يجعل (الكل = مجموع أجزائه) بخلاف قانون المنطق الأرسطي الأول وهو قانون الهوية المعبَّر عنه بعلامة المساواة (=) أي (الكل = مجموع أجزائه)، وسُمّيَ بقانون الهوية؛ لأنّ علامة (=) الرياضية يُعبَّر عنها باللغة الاعتيادية بالضمير الرابط (هو)، فقولنا: (زيد هو عمر) أي يساوي أو يُطابق أو يماثله تمام المماثلة، وبعدم وجود الرابط (هو) لا تنتج لدينا قضايا حملية تربط بين (الموضوع والمحمول) تكشف عن علاقات جديدة بين الموضوعات، ما يجعل المنطق الأرسطي يركز عنايته في رسم حدود المفاهيم الذهنية بطريقة قسرية تفرض نفسها على الأشياء المتعالقة بطبيعتها فتفتتها إلى ذرات أو (ماهیات)، أو جواهر تُوهم بأنّها خُلقت هكذا وستبقى إلى أبد الآبدين تتحدّى الصيرورة الزمانية وتمنع ارتباطها بعلاقات متبادلة، حرمت الإنسان أن يكتشف المنطق العلائقي قرونًا طويلة، وما زالت تحرم العربي من هذا الاكتشاف المهم؛ لهيمنة المنطق الأرسطي على عقول العرب فبقيت تشتغل بمسنن واحد، على الرغم من وجود المنطق العلائقي في القرآن الكريم؛ إذ أشار إلى الأشياء، التي لا تُنشئ علاقة وظيفية مع غيرها، بسبب بتمتعها بأوزان معينة ومقادير مضبوطة تسهل عليها تبادل العلاقات الوظيفية، وذلك قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ... وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَا كُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ» (19).

وقول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا))(20)، ولا يمكن أن يكون هناك بُنیان من لَبِناتٍ ليس بينها علاقات ونظام منطقي هندسي خاص لا يجيده إلاّ البنّاءون المهرة.

وقد أفاض عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر في بيان مقیاس

ص: 396

(الوظيفة) الذي يُعطي لكلّ عنصر في النظام العلائقي قيمته، ويُبيّن أنّ كلّ عنصر لا يؤدي وظيفته داخل النظام ليس له قيمة وليس له وجود. ولا يؤدي العنصر وظيفته بالشكل المطلوب إذا تبدّل موقعه المناسب له، كما هو الحال عند تعطّل وظيفة (کَبِد الإنسان) مثلاً إذا وضع في غير موقعه، في موقع قلبه أو كليتيه.

هكذا يُقيم الإمام علي (عليه السلام) الأشياء المُتعالقة كما هي معزولة، وهذه أولى مراحل الفَهم، ثم يتسع التقويم ببيان وظائفها ليكتمل فَهمها، ففي التقسيم الشائع لطبقات المجتمع، إذ اعتدنا أن نقسمه على طبقة أشراف خاصة، وطبقة العوام الذين اعتدنا أن نقوِّمهم بالدونية ولاسيما إذا لم ننتمِ إليهم، ونبجِّل طبقة الأشراف الخاصة، لكن التفكير العلائقي قد قَلَبَ هذه المعرفة رأسا على عقب عن طريق لفت أنظارنا إلى وظائف الطبقتين، ولاسيما في الظروف العصيبة، ما يجعل قيمة العامة أكثر ثقلا في الميزان من قيمة أشراف الطبقة الخاصة، وذلك ما يتضح في قول الإمام علي (عليه السلام) لمالك: ((إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ، وأَكْرَهَ لِلإنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإلْحَافِ وأَقَلَّ شُكْراً

عِنْدَ الإعْطَاءِ وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الَخَاصَّةِ. وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ والْعُدَّةُ لِلأعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الأمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ

ومَيْلُكَ مَعَهُمْ))(21).

والملحوظ هنا أنّ طبقة الخاصة تكون قیمتهم ضئيلة مقابل ما ينالونه من مال في الرخاء، وتقصيرهم عن أداء وظيفتهم في البلاء، فلا يجب أن يخشى الوالي سخط الخاصة، وعليه أن يخشی سخط العامة، الذين لا تذهب مراعاتهم في الرخاء سدی، فهم الذين يتذكرون الفضل ويوفون الكثير مقابل القليل؛ نظرا لسلامة فطرتهم الإنسانية.

وقد عَلِم الإمام (عليه السلام) أنّ الأشياء التي تدخل مع غيرها في نظام علائقي لا

ص: 397

تؤدي وظائفها إلا بتغذيها تغذية راجعة(22) Feed back بغذاء مادي أو روحي تستمده بعض عناصر النظام من عناصر أخرى تعدّ مصدرًا، وبهذا يكون المصدر ذا وظيفة قوية، وعليه تكون قيمة عناصر التغذية الرئيسة كبيرة يجب مراعاتها؛ لأنّها هي التي تديم تشغيل النظام، كما يتضح في الرسم:

وهنا تتضح قيمة عناصر التغذية الرئيسة في نظام التغذية الراجعة، التي لم نعرف قیمتها بعمق سابقًا من دون استعمال التفكير العلائقي، الذي ورد متماسكًا في قول الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر: ((واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ... فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وزَيْنُ الْوُلاةِ وعِزُّ الدِّينِ وسُبُلُ الأمْنِ ولَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلا بِهِمْ ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ

الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ... ثُمَّ لا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ

الْقُضَاةِ والْعُمَّالِ والْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ ويَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ ويُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأمُورِ وعَوَامِّهَا ولا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلا بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ ويُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ...))(23).

نلحظ تماسك النظام الإداري للدولة المُقسَّم على طبقات تؤدّي كلّ طبقة وظيفة مهمة بحيث لا تقوم الطبقة إلا عليها ثم يركز الإمام علي (عليه السلام) في طبقتين لم نكن نعلم أنّ لهما قيمة كبيرة كقيمة السلطان والولاة والقضاة وغيرها من طبقات عليا، حتى بيّن الإمام أنّهما قوام كلّ الطبقات التي فوقهما وهما طبقة (التّجار والصنّاع)، لأنهما الطبقتان المنتجتان للثروة التي تموِّن وتغذي كل الطبقات المستهلكة التي فوقها والتي تحتها وهي ((الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ ومَعُونَتُهُمْ))(24).

وقد بيّن الإمام علي (عليه السلام) کیف تتعطل وظيفة العناصر المتعالقة ما يؤدي إلى تعطيل أو قلّة كفاية النظام، إذا انقطعت تغذيتها أو قلّت، ويتمثل نقص تغذية العناصر

ص: 398

الذي يجب على الوالي أن يحذر من وقوعه، بنوعين من التغذية:

أولهما: التغذية المادية: وتظهر في كمية رواتب رؤساء الجند التي يجب أن تكفيهم وتكفي أهليهم؛ لأن القادة يبذلون مجهودًا عضلياً وفكريًا، وقلّة رواتبهم تؤثر في تفكيرهم، وذلك قوله (عليه السلام) لمالك ((ولْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ وأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ))(25).

ثانيهما: التغذية المعنوية: عن طريق تفقّد أحوال الرعية وتشجيع الولاة بالثناء الجميل كيفاً وكمًا بتعديد بطولاتهم، وذلك قوله (عليه السلام) لمالك: ((فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ [القادة] يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ وإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ... فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وتَعْدِيدِ مَا أَبْلَی ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ)(26).

وقد أمر الإمام (عليه السلام) مالکًا بمحاسبة العناصر التي تؤدي وظائف سلبية غير الوظائف المتعارف على أدائها في النظام الاجتماعي. ومكافحة الفساد الوظيفي هي من وظائف الحاكم؛ وذلك قوله:(«أَنَّ فِی كَثيِرٍ مِنْهُمْ [التجار والصنّاع] ضِيقاً فَاحِشاً وشُحّاً قَبِیحاً واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وتَحَكُّماً فِی الْبِيَاعَاتِ وذَلِكَ بَابُ مَضَّرَةٍ لِلْعَامَّةِ وعَيْبٌ عَلَی الْوُلاةِ فاَمْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ... فَمَنْ قاَرَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ») (27)، بمعنى أنّ عقوبات هاتين الطبقتين يجب أن تكون إصلاحية، نظرا لأنهما تغذيان نظام الدولة كله.

وذهب الإمام (عليه السلام) إلى أبعد من هذا، إذ بيّنَ وظيفة الخلافة أو الإمارة، التي جعلها بعضهم غاية في ذاتها، وليست وسيلة للغاية أسمى وهي تطبيق العدالة الاجتماعية؛ لذلك لا نجد لها قيمة تذكر عند الإمام علي (عليه السلام)، فهي كقيمة (نعل مقطوعة)،

ص: 399

وذلك ما رواه ابن عباس (ت 68 ه) الذي دخل على الإمام بذي قار، وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، قال: ((قَالَ لِي (عليه السلام): مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ لا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ (عليه السلام): واللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً))(28).

كذلك كانت الخلافة الدنيوية عنده (عليه السلام) والدنيا معها أهون من (عفطة عنز) ما لم يتخذها الخليفة وسيلة لأداء وظيفةٍ سامية بمعونة مجموعة من المناصرين لأيدلوجية الخليفة، وذلك قوله: ((لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا

أَخَذَ اللَّهُ عَلَی الْعُلَمَاءِ إلا يُقَارُّوا عَلَی كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَی غَارِبِهَا

ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ))(29).

هكذا عرف الإمام (عليه السلام) أهمية مقياس الوظيفة الذي يعطي للأشياء قيمتها في التفكير العلائقي، وتفقد قيمتها حتى لا تساوي شيئاً إلا لم تؤدِّ وظيفتها مَهْما عظمت هذه الأشياء في النظر إليها وهي منفردة كمفاهیم ذهنية معزولة عن نظامها العلائقي. وهو منطق لم يفهمه من يدَّعون أنّهم يحبّون علياً ويدعون كذا أنّهم يسيرون على نهجه؛ لأنّهم لم يفهموا منطقه، فما أبعدهم عنه، وما أبرأه منهم!.

ثانيًا: مقياس الموقع أو (الموضع):

هو القسم الآخر من مقياس المنطق العلائقي: (الوظيفة x الموقع)، وترجع أهميته إلى أنّ عناصر النظام الواحد لا تؤدي وظائفها الإيجابية إلاّ إذا أخذت موقعها الخاص، وإذا تبدلّت مواقعها في النظام المستقر فإن وظيفتها تتعطّل أو تنقلب إلى وظائف سلبية ضارة، وذلك ما عبّر عنه المتنبي (ت 345 ه) تعبيرًا واضحًا بقوله:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ٭٭٭ مضرّ کوضع السيف في موضع الندى(30)

ص: 400

وقد سبق الإمام علي (عليه السلام) إلى بيان أهمية الموقع في المنطق العلائقي، حيث لحظ أنّ ملكة الحس التي تعمل بمبدأ الصيرورة تحول الأشياء من حال إلى أخرى، وبهذا تتبدّل وظائفها باستمرار نتيجة لتبدل مواقعها، فالطفل له موقع التطفّل على الأسرة، وحين يشبُّ، ويكبر والداه تُصبح له وظيفة أخرى معاكسة بالنسبة لأبويه، إذ يصبحان هما المتطفلان عليه. وهذا يخالف منطق العقل الأرسطي الذي يعمل بمبدأ ثبوت الأشياء وعزلها في مواقع مستقلة، بحيث لا تستطيع العبور من ذو على هذا الأساس أوضح الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك بن الأشتر أن يلحظ التغيّر في الأشياء، ويرعی وضعها في مواقعها المناسبة ولا يتعجّل بذلك قبل الأوان، وذلك قوله (عليه السلام): ((وإِيَّاكَ والْعَجَلَةَ بِالأمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ)) (31).

يدلُّ هذا الكلام على أهمية معرفة المواقع الصحيحة للأشياء التي تؤدي فيها وظائفها بصورة مثالية من جهة، وأهمية معرفة المواقع المغلوطة أيضاً التي تؤدي فيها الأشياء عكس الوظائف المرغوب فيها، والتي يمكن الاستدلال عليها وتجنبها استنادًا إلى معرفة الأَوْلَى، وذلك قوله (عليه السلام): ((مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأِ)(32) .

وقد عرف الإمام (عليه السلام) وجوه الآراء، وعرف أنّ التغييرات في النظام تحتاج إلى تغيير في المواقع التي يتبعها تغيّر في الوظائف؛ لذلك عزم على استبدال محمد بن أبي بكر (33) (رضي الله عنه) بمالك الأشتر واليا على مصر نظرًا لصعوبة إدارة هذا البلد الذي يحتاج الى خبير مُحنّك، وهو ما أثار حفيظة محمد بن أبي بكر فخاطبه مبينًا أسباب استبداله بالأشتر، متعهدا أن يضعه في موقع يناسبه. وبهذا يمكن أن يؤدي فيه الوالیان وظيفتهما كلُّ واحد من موقعه، وذلك قوله: ((أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ الأشْتَرِ إِلَی عَمَلِكَ وإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الْجَهْدَ ولا ازْدِيَاداً لَكَ فِي الْجِدِّ ولَوْ نَزَعْتُ مَا

ص: 401

تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَئُونَةً وأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلايَةً...)) (34).

لكنّ الأشتر اغتيل قبل وصوله إلى مصر (35)، فكتب الإمام علي (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر أن يبقى والياً على مصر، وقد ثار عليه بعض المصريين وقتلوه، ما يدلّ على معرفة الإمام (عليه السلام) بأهمية الموقع بمقياس المنطق العلائقي الذي يؤدي فيه الرجل المناسب في المكان المناسب وظيفته في معالجة المواقف الصعبة، لكن الأحداث كانت تجري سريعا بعكس ما هو مخطط له بسبب فساد الخوارج، وهم عناصر داخلية خرجت بفكرها فأفسدت النظام السياسي في الكوفة.

وقد حثَّ الإمام مالكًا على حسن اختیار معاونيه للمواقع التي يؤدون بها وظائفهم بأكمل وجه، وذلك قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ

فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الأمُورُ ولا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ولا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ ولا يَحْصَرُ مِنَ

الْفَيْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ ولا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ... وأُولَئِكَ قَلِيلٌ))(36).

وقد أجاد الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر في تسليط الضوء على أهمية النظر في إعادة ترتیب عناصر النظام الاجتماعي المتنوّع تنوّعاً لا نهائيًا، والمُرتب ترتيباً أفقياً في أروع المقولات الإنسانية قاطبة، بدلاً من ترتيبه العمودي الذي يضع الوالي المُسلم على رأس الهرم، يليه تفضيل المسلمين، فأهل الذمة (نصاری ویهود) وسواهم.

لكنّ الإمام (عليه السلام) رأى أنّ الترتيب الأفقي هو ترتیب وظيفي، يجعلنا نفكر تفكيرا علائقيا، بعكس التفكير الذي يرتِّب العناصر ترتيبا عموديا يجعل الشرف متوارثا، والعبودية متوارثة، وهذا خطأ؛ لأنّ ((قيِمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ))(37)، فوظيفة المسلمين الذين هم أكثرية وهم الذين يحكمون، تكمن في حماية حقوق الأقليات ولا تتسلط عليهم وتؤذيهم، وإنّ الدولة الإسلامية عليها أنْ تفتخر في أداء هذه الوظيفة، كذلك الوالي الذي بيده مصادر القوة (السلاح والمال)، يجب أن يؤدي وظيفة العدل والمساواة بين كلّ أصناف الرعية المتنوعين بالألوان

ص: 402

والأديان والمذاهب، وليست وظيفته التسلط والتجبر والتمييز الطائفي والديني والعرقي، والانتقام وإبادة المعارضة السياسية.

وهذا ما أكده الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر بمقولته الشهيرة: ((ولا تَكُونَنَّ

عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، ويُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَأِ. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ الله مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ،

فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، ووَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، واللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاكَ...)(38).

نلحظ أنّ الترتيب العمودي الذي يُنبئنا خطاً بأنَّ الأعلى هو الأفضل، قد انقسم على قسمين:

أولهما: الخالق فوق جميع مخلوقاته الأثيرة وهم جنس الإنسان.

ثانيهما: المخلوقات البشرية المتساوية المنزلة بوصفهم عبيدًا لإله واحد، وإنْ تنوَّعت ألوانهم وأديانهم وعقائدهم، فكلّهم من دم ولحم واحد، ومشاعر واحدة مصطَّفون على صعيد واحد، يفرط منهم الزلل خطأً وعمداً، وعليه يجب معاملتهم بالرحمة التي تعرفها عن طريق وضع نفسك في موقع صاحب الخطيئة الذي لا يرغب إلا بالعفو، وعلى النفوس الكبيرة أن تعفو وتغفر، فأنت إنْ لم تغفرْ فلن تنالَ غفران الله.

ومثلما لحظ الإمام أهمية المواقع الصحيحة التي تؤدي فيها العناصر الداخلة في نظام علائقي وظائفها كاملة، لحظ أنّ تبديل المواقع الصحيحة يجعل العناصر تؤدي عكس وظائفها التي تُوقع الأضرار على الغير وعلى النفس أيضاً، وذلك ما خاطب بهِ مالك الأشتر محذرًا إيّاه بقوله: ((إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ))(39).

ص: 403

وقد أكدَّ الإمام أهمية اختيار العناصر المناسبة للأماكن المناسبة في أماكن كثيرة في عهده لمالك بن الأشتر، ولاسيما في المواقع الحساسة، حذرًا من تغيّر النفوس في تلك المواقع ما يجعلها تصاب بالشذوذ الوظيفي، لذلك ركَّز في اختيار الأفضل أخلاقاً، وذلك قوله: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ واخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي

تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الأخْلاقِ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلأِ))(40).

تشير هذه الوصية إلى تفنيد فكرة الوظيفة المطلقة التي تقول: ((ينطلق التحليل الوظيفي للثقافة من مبدأ قوامه أنّه في كلّ نماذجه الثقافية، تؤدي كلّ عادة، وكلّ شيء مادي، وكل فكرة، وكل معتقد وظيفة حيوية ما))(41).

فالوظيفة المطلقة تحصل في حال توازن النظام الاجتماعي العام واستقراره، ولا تشمل الأنظمة المعقدة الخاصة، إذ يعطي العنصر الشرير أو الجاهل في النظام الاجتماعي العام قيمة للعنصر الخيّر أو العالِم؛ لأنّه يجعل الخيّر والعالِم يمارس وظيفته في إصلاح الأشرار وتعليم الجهلة، لذلك يوادع العقلاء الجهلة بكلمة (السلام عليكم)(42)، کیلا يقطعوا الصلة بهم، ويخسرون بذلك وظيفة إصلاحهم، وذلك قوله تعالى: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ» (43).

فكلمة (السلام علیکم) تحافظ على علاقة التخاطب اللسانية الاجتماعية بين الجاهل والعاقل، بمعنى أنّ العاقل يجب أنْ يستوعب الجاهل في محيطه الاجتماعي؛ لأنّ قيمة العاقل تكمن في وظيفة الإصلاح التي لا تتحقق على أرض الواقع إلا بوجود الجاهل.

ومثل هذا التسامح والموادعة التي يلحّ عليها الإمام علي (عليه السلام) كثيرًا في الحياة الاجتماعية، يبدو أنّها لم تسبب أضرارَا مادية، فهي تدور في إطار اللغة مما يسمى

ص: 404

ب(اللغو)، وهو السبّ والبذاءة والهجاء والطعن بالأعراض، إلى غير ذلك، مما لا يضرّ ضررًا ماديًا أو أمنيًا للدولة، بخلاف الغلط اللساني عند كتاب المراسلات ولاسيما السريّة منها، فهو مختلف تمامًا ولا يسامح عليه في النظام الاجتماعي العام؛ لذلك لا يجوز احتقار الجاهل؛ لأنّه رصيد العالِم، ولا يجوز احتقار الكافر؛ لأنّه رصيد المؤمن الذي يهيئ له تفعيل الإيمان على نطاق موضوعي كلّي، وإلاّ أصبح الإيمان محصورًا في جزئية المؤمن فحسب. ومن ذلك قول الحكيم الصيني (لاوتسي):

الخيّر معلِّمُ الشرير

والشريرُ رصيد الخيّر

ومَن لا يحترمْ مُعلِّمه

ولا يحافظ على رصيده

إنسان ضلَّ إلى أبعدِ حدّ (44)

وهكذا يقدِّم المنطق العلائقي معرفة جديدة بالأشياء كنّا نجهلها من قبل، وربما جعلتنا هذه المعرفة المغلوطة نحتقر كثيرًا من الأشياء ونشمئز منها حين كنّا نعتمد على التصورات العقلية أو (رياضيات العقل) المنفصمة عن الواقع. لكنّ المنطق العلائقي بمقياسه (الوظيفة x الموقع) زوّدنا بِعِلْمٍ جديد له أصول قرآنية ونبوية فضلاً عما أنتجه العقل العربي تحت خيمة هذه النصوص المعتبرة التي تأسست عليها الحضارة العربية بعد الإسلام، ما يجعلنا نعيد النظر في (تقييم الأشياء) لنرفع كلّ من يؤدي وظيفته في النظام من موقعه الخاص مَهْما كانت التصورات المجردة تحطّ من شأنهم، نحو عامل النظافة التي ترميه التصورات المزيفة واللغة بلفظ دوني فنسميه (زبالاً) في الوقت الذي يكشف المنطق العلائقي بأنَّ (الزّبالون) صيغة مبالغة للذي يُكثر من رمي الأزبال وهم نحن، في

ص: 405

حين الذي يخلصنا من نفاياتنا النتنة هو هذا الشخص الرائع الذي يؤدّي أشرف وظيفة يكسب منها رزقا لعياله، ويحافظ على جمال المدينة ونظافتها، التي لولاها لأصبحت المعيشة في المدينة لا تطاق. مقابل هذا علينا الحط من شأن الذين تبوءوا مناصب عليا ولم يؤدُّوا وظائفهم المنوطة بهم في مواقعهم تلك، إلى ما دون (عامل النظافة) الذي يودي وظيفته على أكمل وجه، بعد أنْ كنّا نعظِّم أولئك باطلاً، ونسبغ عليهم صفات الله، نحو: جلالة الملك، وصاحب السمو، وفخامة الرئيس، حتى لو كان ذلك الملك أو الرئيس جاهلاً مستبدًا أو فاسدًا يتحكّم بمصائر الناس ومقدِّراتهم ويصادر حرياتهم ويمتهن کرامتهم.

ص: 406

الخاتمة:

توصل البحث إلى جملة من النتائج لعلّ أهمها ما يأتي:

1 - يُمثل عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه على مصر - الذي اغتيل قبل وصوله إلى عمله، وثيقة سياسية مُهمة لإدارة الدولة. والدولة كيان علائقي معقّد متكوِّن من مجموعة من العناصر المترابط بعضها ببعض بحلقات بحيث يؤثر بعضها ببعض، ما يجعل النظر إليها معزولةً يؤدي إلى أخطاء معرفية كثيرة؛ لأنّ كلّ عنصر في هذا النظام المعقّد يؤدي وظيفة معينة للنظام كله، ولا يمكن غضّ الطرف عن التعريف الوظيفي الى جانب التعريف الحدّي. وعلى هذا الأساس لابدّ من منطق جدید يسلط الضوء على (الوظيفة) بدلا من تسليط الضوء على العناصر المنفردة، وهذا المنطق يسمى (المنطق العلائقي) ومقياسه (الوظيفة x الموقع)، وقد ورد هذا المقياس بكثافة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، ما يجعل المنطق العلائقي أفضل منهج يمكِّننا من اكتشاف المعاني الجديدة التي بقيت غير مكتشفه من قبل بطريقة سهلة منظمة، وتلك هي وظيفة المنطق بوصفه آلة تعصم الفكر من الوقوع بالأخطاء.

2 - لقد استعمل الإمام علي (عليه السلام) المنطق العلائقي من دون الاصطلاح عليه؛ لأنّ مهمة الاصطلاح ليست من مهام الشخصيات التاريخية، وإنّما هي مُهمة المفکِّر الذي يجرِّد من النصوص التاريخية الإبداعية منطقا يصوغه بمصطلحات تقنية واضحة وقليلة تسهل اكتشاف المعاني بطريقة آلية تسمى منطقا، وإذا كان المنطق جديدا فإنّه يغني الفكر العربي الذي إذا بقي يفکِّر بوساطة منطق واحد هو المنطق الأرسطي كآلة يشتغل بموجبها العقل بمسنن واحد. وإذا كانت علامة المنطق الأرسطي الرياضية الرئيسة هي علامة المساواة (=) وهي علامة الهوية (أ هو أ)،

ص: 407

فإنّ علامة المنطق العلائقي هي علامة المفاضلة أكبر من (>)، التي تجعل (الكل > مجموع الأجزاء) في كلّ نظام علائقي. وهذا ما جعلنا نكتشف معاني جديدة لم تكن تخطر على بالنا من قبل.

3 - في مقياس المنطق العلائقي طرفان هما: (الوظیفة × الموقع)، وأحدهما يؤلف برهانا للآخر، فقيمة العنصر في النظام العلائقي تكمن في وظيفته التي يؤديها للنظام، ولا يؤدي العنصر وظيفته ما لم يُوضع في موضعه أو موقعه الخاص. ولما كانت الأشياء تتطور في الواقع المعيش؛ لذلك تتطور وظائفها، وعلى هذا الأساس رأى الإمام علي (عليه السلام) أن يُبدِّلَ مواقع الأشياء في نظامه الإداري المدوّن في العهد، إذا أصبحت الأشياء مؤهلة لأداء وظيفة جديدة، وقد رأى أنّ بعض الأشياء تتطور إلى الوراء وتؤدي وظائف مفسدة للنظام؛ لذلك أوصى بمعالجتها بحسب كمية الضرر الذي تسببه، فمنها من عالجه بالإصلاح؛ لأنّها تسببت بأضرار يسيرة غير مقصودة، ومنها من أوصى بمعالجته بالعزل واستبدال بعض العناصر بغيرها في خطوة استباقية اعتمادا على معلومات استخبارية؛ لأنّ بقاءها يمكن أن يسبب خطرا كبيرا، ومنها ما سبب أضرار كبيرا فعلا، لذلك كان علاجها بإقامة الحدّ عليها والتنكيل بها.

ص: 408

هوامش البحث:

1. مالك بن الحارث بن عبد يغوث الأشتر النخعي، أمير من قادة الشجعان والفرسان، رئیس قومه سكن الكوفة وكان من أقرب المقربين إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، شهد معه الجمل وصفين، ولاه على مصر، قتله معاوية بن أبي سفيان بالسم قبل أن يصل إليها عام 37 ه. ظ: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني: 5 / 53..

2. سورة البقرة: 26..

3. ظ: أرسطو، ألفرد أدوارد تایلور: 5..

4. الاستقراء الرياضي: هو أحد أنواع البرهان الذي يعتمد على مبدأ وقوع أحجار الدومينو، ويتمّ على مرحلتين: أولاهما: يبرهن أنّ أول رقم في المجموعة يحقق المطلوب، وثانيتهما: نفرض أنّ المطلوب يتحقق لعدد ما من المجموعة، نحو ثلاثة. ثم يعمم من ذلك مقدمة كلية كبرى تعبّر عن علاقات التضمّن وفحواها: (خصائص الجزء موجودة في الكل). ظ: استقراء رياضي، متاح على الموقع:.WWW Wikipedia.org

5. الكشاف، الزمخشري: 1 / 337.

6. ظ: أرسطو، ألفرد أدوارد تایلور: 42.

7. مستدرك نهج البلاغة، الهادي کاشف الغطاء: 163.

8. ظ: مقاییس اللغة، ابن فارس: 5 / 471 (نکت).

9. ظ: نظرية النحو العربي القديم، دراسة تحليلية للتراث اللغوي العربي من منظور علم

ص: 409

النفس الإدراكي، د. كمال شاهين: 265.

10. ظ: أرسطو، ألفرد أدوارد تایلور: 42.

11. المنطق، نظرية البحث، جون ديوي: 17.

12. البيان والتبيين، الجاحظ: 1 / 2، 2 - 3، 2.

13. سورة الإسراء: 29.

14. تُرجم هذا المثل العربي إلى الانجليزية بلفظه ومعناه؛ لأنّه يحمل فكرة منطقية جدلية عامة كالآتي: The strew that broke camel's back. ظ: القشة التي قصمت ظهر البعير، متاح على الموقع:

WWW.wikipdia.org .

15. قصة الفلسفة، وِل ديورانت: 342.

16.ظ: آفاق الفلسفة، د. فؤاد زكريا: 381.

17.ظ: نظرية علم النقطة في تجديد الفكر العربي، مفاهيم أساسية، د. تومان غازي الخفاجي، ود. خالد کاظم حمیدي، بحث منشور في مجلة كلية الشيخ الطوسي الجامعة، السنة الأولى، العدد (2)، 16، 2 م: 216.

18. ظ: علم الاجتماع المعاصر، جان بیار دوران وزمیله، ترجمة د. ميلود طواهري، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية، الجزائر، ط 1، 2٫12م: 112.

19. سورة الحجر: 19 - 22.

20. صحیح مسلم: 4 / 1999، ح:2585.

21. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 547.

22. See :Feed back from:wikipedias the free wikipedia

ص: 410

23. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 55. - 551.

24. م.ن: 551.

25. م.ن: 553.

26. م.ن: 553.

27. م.ن: 559 - 56..

28. م.ن: 73.

29. م.ن:32.

30. العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي: 387.

31. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 616.

32. م.ن: 635.

33. محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه): ولد بين المدينة ومكة سنة 1. ه، في حجة الوداع، ونشأ بالمدينة في حِجر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وشهد معه وقعتي: الجمل وصفين، وولاه علي إمارة مصر، فدخلها سنة 37 ه، إلا أنّ نعاوية بعث جيشا بقيادة عمرو بن العاص من أهل الشام إلى مصر، فدخلها حربا بعد معارك شديدة. واختفى ابن أبي بكر، فعُرِف مكانه فقبض عليه وقُتِل وأُحرِقَ بتهمة مشاركته في مقتل عثمان بن عفان. مدة ولايته خمسة أشهر توفي سنة 38 ه. ظ: الأعلام، الزركلي: 6 / 219.

34. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 516.

35.ظ: تاريخ الأمم والملوك، الطبري: 4 / 553.

36. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 518 - 519.

ص: 411

37. م.ن: 623.

38. م.ن: 545.

39. م.ن: 546.

40. م.ن: 558.

41. علم الاجتماع المعاصر، جان بیار دوران وزميله: 183 - 184.

42. الكشاف، الزمخشري: 3 / 426.

43. سورة القصص: 55.

44. الطريق والفضيلة، لاوتسي: 62.

ص: 412

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

1. آفاق الفلسفة، د. فؤاد زکریا، دار مصر للطباعة، (د.ت).

2. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، دراسة وتحقیق وتعلیق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان، ط 3، 2..5 م.

3. الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بیروت، لبنان، ط 5، 2..2 م.

4. أرسطو، ألفرِد إدوارد تایلور، ترجمة د. عزت قرني، دار الطليعة، بیروت، لبنان، ط 1، 1992 م.

5. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت).

6. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، حقق نصوصه وصححه ورقمه وعدّ كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة (د.ت).

7. الطريق والفضيلة، للحكيم الصيني لاوتسي، ترجمة عبد الغفار مکاوي، دار المعارف، القاهرة، (د.ت).

8. العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، للعالم العلامّة اللغوي الشاعر المشهور، ناصيف اليازجي، دار القلم، بیروت، لبنان، ط 2، (د.ت).

ص: 413

9. علم الاجتماع المعاصر، جان بیار دوران وزميله، ترجمة د. ميلود طواهري، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية، الجزائر، ط 1، 12، 2 م.

10. قصة الفلسفة، ول ديورانت، مكتبة المعارف، بيروت - لبنان، ط 1، 197. م.

11. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (ت 538 ه)، حققها على نسخة خطية: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، (1421 ه / 1.2 م).

12. مستدرك نهج البلاغة، جمع هادي كاشف الغطاء، منشورات مكتبة الأندلس، (د.ت).

13. نظرية النحو العربي القديم، دراسة تحليلية للتراث اللغوي العربي من منظور علم النفس الإدراكي، د. كمال شاهين، دار الفكر العربي، القاهرة، 2.2 م.

14. نظرية علم النقطة في تجديد الفكر العربي، مفاهيم أساسية، د. تومان غازي الخفاجي، ود. خالد كاظم حميدي، بحث منشور في مجلة كلية الشيخ الطوسي الجامعة، السنة الأولى، العدد (2)، 2.16 م.

15. نهج البلاغة، ضبط نصه وأبتكر فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، مطبعة رسول، قم، إيران، ط 1، 1426 ه.

ص: 414

المواقع الالكترونية:

16. الاستقراء الرياضي، متاح على الموقع: www.wikipedia.org.

17. التغذية الراجعة Feed back، متاح على الموقع: www.wikipedia.org.

18. القشة التي كسرت ظهر البعير، ترجم هذا المثل بلفظه ومعناه إلى الانجليزية:

.The strew that broke camel's back

متاح على الموقع: www.wikipdia.org.

ص: 415

ص: 416

المُحتَوَیات

الآثار الدّنيويّة للأعمال

في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

المقدمة...7

المبحث الأول: الآثار الدنيويّة للأعمال الصالحة...10

المبحث الثاني: الآثار الدنيوية للأعمال السيئة...18

الخاتمة...25

قائمة المصادر والمراجع...26

الهوامش...29

الفلسفة الاخلاقية ومبادئ حقوق الانسان في فكر الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية على ضوء عهد الامام علي بن ابي طالب الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

خلاصة البحث:...39

فرضية البحث:...40

منهجية البحث:...40

المقدمة...41

الامام نبراس ومشعل الحرية:...42

الرأفة بالرعية:...43

التجارة والحياة الاقتصادية:...44

ص: 417

حقوق الانسان عند الامام علي (عليه السلام)...47

اما الجرائم التي حكم الإمام بان عقوبتها الاعدام فهي لجملة افراد هم:...58

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي...64

الحرب وانتهاك الحقوق عند الامام علي(عليه السلام):...69

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير:...74

حقائق ثابتة:...76

حُريّة الإنسان في المُجتمع:...78

الحزمُ واللِينُ:...79

الرعايّةُ للجُمَيع:...81

ثِقلُ المُوازنةَ:...81

عِلمُ النَفس الاجتِماعي والعلاقاتُ العامّة مَعَ المُجتَمَع:...84

التَقسّيم العِلمي أو المعرفي:...86

التقسيم الإنساني:...87

أهلُ الذِمّة والإسلام:...90

الدفاعُ عنِ المُعاهدين:...91

التقسيم الإيماني:...92

التقسيم الإداري:...94

علم النفس الاجتماعي في تعامل علي (عليه السلام) مع جنده...100

العلاقة الإنسانية ومودة الامة...101

حسن الثناء ورفع معنويات الجند:...102

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي:...103

شرائط النظر في المظالم:...106

علي مع الحق والحق مع علي:...110

ص: 418

النظرة العلوية إلى الظلم:...112

الخاتمة:...118

المصادر:...119

المواطنة والتنمية في حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ملخص البحث...127

المقدمة:...129

المواطنة:...130

التطور التاريخي لمفهوم المواطنة :...130

الحكم الصالح (الحكم الرشید):...135

تعريف التنمية البشرية:...140

التطور التاريخي لمفهوم التنمية:...141

نظرة الإمام علي (عليه السلام) للتنمية:...143

الخراج (التنمية الاقتصادية):...143

جهاد العدو (التنمية الأمنية):...148

التنمية البشرية:...150

1 - الحقوق السياسية...151

2 - عدالة التوزيع...155

أ - الإعانات المالية:...155

ب - تخصيص مورد مالي ثابت:...157

3 - إشاعة ثقافة العمل:...159

الخاتمة:...163

الهوامش...165

ص: 419

ثبت المصادر والمراجع...173

القيادة الاخلاقية في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر

مقدمة:...183

من هو مالك الأشتر؟...184

تحديد المصطلحات:...185

دوره في القضاء على انقلاب أشراف الكوفة...186

دوره في هزيمة جيش الشام وقتل عبيد الله بن زياد (معركة الخازر)...187

السمات القيادية في الشخصيه:...188

سمات القيادة في شخصية مالك الاشتر:...189

التوصيات:...191

الهوامش:...192

المصادر...193

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ لمالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه)

مقدمة...197

المبحث الأول: حقوق الإنسان في الفكر الغربي...200

مواثيق الحقوق:...201

إعلانات الحقوق الدولية:...204

المبحث الثاني: حقوق الإنسان في الفكر والشريعة الإسلامية...209

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر:...216

المبحث الثالث: دراسة مقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي...219

ص: 420

المبحث الرابع: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه).. الخصائص وسِمَات التميز...228

نهجُ البَلاَغَة.. بين صِحَّة الانتساب وأهمية المضمون...230

حقوق الإنسان في عهدِ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر...234

الهوامش:...245

دروس ملهمة من الفكر الإسلامي إلى الفكر العالمي في مجال القيمة الروحية للإنسان (وصايا الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجا)

مقدمة:...269

أولا: - حقوق الإنسان وأزمة الفكر العالمي المعاصر...270

ثانيا: - مركز الإنسان وحقوقه في فكر الإمام علي (عليه السلام)...273

(عالمية الفكر السياسي العلوي)...273

ثالثا: - مقومات حقوق الكانسان في نص رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه)...279

الخاتمة:...287

الهوامش:...288

حق المواطنة والحريات العامة في الدولة العراقية في مدة العهد الملكي (دراسة مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر)

ص: 421

الملخص...295

المقدمة...297

حقوق المواطنة والحريات في الدستور العراقي 1925...298

حقوق المواطنة والحريات في برامج الأحزاب السياسية (1922 - 1958)...301

حقوق المواطنة والحريات في برامج الوزارات العراقية...305

مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر...306

الخاتمة...313

الهوامش...315

المصادر...323

المواطنة وحقوق الانسان في فكر الامام علي (عليه السلام)

الملخص...331

ماالمواطنة؟...332

الحقوق المدنية...333

الحقوق السياسية...334

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:...334

اولاً: حقوق الانسان عند الامام علي ابن ابي طالب...339

مفهوم الحق:...339

ثانيا: الحقوق عند أمير المؤمنين (عليه السلام):...341

ثالثا: أنواع الحقوق:...342

أولاً: الحقوق الشخصية:...342

ثانياً: الحقوق الاقتصادية...347

ثالثاً: الحقوق الاجتماعية...350

ص: 422

رابعاً: الحقوق السياسية:...352

1 - حق المشاركة في بناء الدولة...353

2 ۔ حق المعارضة، والاعتراض والشكوى:...354

3 - السماح للتجمعات السلمية بمارسة طقوسها:...355

4 - الحقّ في المساواة:...356

خامساً: الحقوق الدينية:...357

سادساً: الحقوق القضائية:...359

القسم الأول: الحقوق التي يجب مراعاتها قبل إصدار الحكم. وهي:...359

القسم الثاني: الاعتراض على قرار القاضي...363

الاستنتاجات: تستنتج الباحثتان الآتي:...367

التوصيات: توصي الباحثتان بالآتي:...368

المقترحات: تقترح الباحثتان اجراء الدراسات الآتية:...369

المصادر والمراجع:...370

الهوامش...372

المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر من منظور منطق نظرية علم النقطة

ملخص:...381

مقدمة:...383

المبحث الأول: تعريف منطق علم النقطة العام وموقع المنطق العلائقي منه:...385

المبحث الثاني: استعمال المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه):...394

أولاً: الوظيفة:...395

ص: 423

ثانياً: مقياس الموقع أو (الموضع):...400

الخاتمة:...407

هوامش البحث:...409

المصادر والمراجع:...413

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.