البراهين القاطعة المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: محمّد جعفر الأسترآبادي

المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

الناشر: مؤسسة بوستان كتاب

المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-371-766-6

المكتبة الإسلامية

آثار مركز مطالعات وتحقيقات اسلامی 182

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

لمحمد جعفر الأسترآبادي المعروف ب«شريعتمدار»

الجزءالثالث

مركزالأبحاث والدراسات الإسلامية

قسم إحياء التراث الإسلامي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

دليل الجزء الثالث

المقصد الرابع : في النبوّة... 9

الفصل الأوّل : في وجوب البعثة... 13

الفصل الثاني : في وجوب العصمة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 18

الفصل الثالث : في المعجزة... 26

الفصل الرابع : في إثبات نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ... 35

الفصل الخامس : في أفضليّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ... 64

تذنيبات :

الأوّل : فرق المسلمين... 70

الثاني : في دفع الشكوك عن الشريعة... 80

الرابع : في أسرار النبيّ وكراماته صلی اللّه علیه و آله ... 174

الخامس : في معجزات النّبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 180

المقصد الخامس : في الإمامة... 205

الفصل الأوّل : في وجوب نصب الإمام... 215

الفصل الثاني : في وجوب العصمة للإمام... 224

الفصل الثالث : في الأعلميّة والأفضليّة... 232

ص: 5

الفصل الرابع : في المنصوبيّة والمنصوصيّة... 234

الفصل الخامس : في أنّ الأئمّة اثنا عشر... 238

المطلب الأوّل : في إثبات إمامة علي بن أبي طالب علیه السلام ... 238

فصل : في إثبات إمامته علیه السلام من طريق النصّ... 240

فصل : في أعلميّته وأفضليّته علیه السلام ... 279

مطاعن الخلفاء الثلاث... 327

خصائص عليّ بن أبي طالب علیه السلام ... 341

ذكر بعض الأدلّة العقليّة والنقليّة لإثبات إمامته علیه السلام ... 351

فصل : في اثبات إمامته علیه السلام بطريق المعجزة... 362

المطلب الثاني : في بيان إمامة سائر الأئمّة الاثني عشر... 428

المطلب الثالث : في وجود صاحب الزمان وغيبته... 441

في كيفيّة الرجعة... 445

فهرس الموضوعات... 451

ص: 6

المقصد الرابع: في الأصل الثالث من أصول الدين وهو في ( النبوة )

اشارة

ص: 7

ص: 8

( المقصد الرابع )

في الأصل الثالث من أصول الدين

وهو في ( النبوّة )

وهي كالأبوّة في كون الواو أصليّة غير منقلبة من الهمزة ، من « النّبوّة » و « النّباوة » بمعنى ما ارتفع من الأرض ، كما في الصحاح (1) ، فيكون نقل النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الإنسان المبعوث من الحقّ إلى الخلق لشرافته على سائر الخلق وعلوّ شأنه وسطوح برهانه ، فيكون فعيلا بمعنى مفعول.

وكالمروّة في كون الواو منقلبة من الهمزة ، من « النبأ » بمعنى الخبر ، فيكون النقل لإنبائه عن اللّه تعالى ، فيكون فعيلا بمعنى فاعل.

وقد يجعل مأخوذا من « النبيّ » بمعنى الطريق ؛ لكونه وسيلة إلى الحقّ تعالى.

وكيف كان ، فلها معنى تصوّري ومعنى تصديقي.

والمعنى التصوّري عبارة عن : « كون الإنسان مبعوثا من الحقّ إلى الخلق » ، كما في شرح القوشجي (2) ، أو كون البشر المعصوم عن الذنوب والمنزّه عن العيوب ، المقترن بالمعجزة المصدّقة مبعوثا إلى المكلّفين لبيان أحكام الدين ، أو مخبرا عن اللّه بنحو الوحي عن أحكام الدين المتعلّقة بالعقائد ، أو أفعال المكلّفين مع الرئاسة

ص: 9


1- « الصحاح » 6 : 2500 « ن ب و».
2- « شرح تجريد العقائد 357.

الإلهيّة عليهم في أمر الدنيا والدين ، هذا إن جعل دالاّ على حال النبيّ.

وإن جعل مبيّنا لفعل اللّه تعالى ، يكون بمعنى بعث اللّه تعالى البشر المزبور ، أو جعله تعالى مبعوثا إلى المكلّفين لبيان أحكام الدين.

وبالجملة : فهي رئاسة إلهيّة بالأصالة للبشر المعصوم عندنا على المكلّفين كلاّ أو بعضا في أمر الدنيا والدين.

والمعنى التصديقي عبارة عمّا يجب تصديقه بالجنان وإقراره باللسان ، وهو أنّ نبيّنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد المناف المنتهي إلى عدنان ، رسول اللّه المبعوث إلى الإنس والجانّ مع المعجزات التي منها المعراج الجسماني ، وشقّ القمر ، والقرآن ، على سبيل اللزوم العقلي ، كسائر الأنبياء في سائر الأديان.

وهو بشر معصوم - كغيره من الأنبياء - عن العصيان والنسيان ، ومطهّر عن الذنوب والعيوب التي توجب تنفّر الإنسان ، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين ، وخير الخلق أجمعين ، وأنّه خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين ، وله إذن شفاعة العاصين ، بمعنى أنّ اللّه تعالى لمّا كان غنيّا مطلقا ، وخلق بمقتضى حكمته خلقا ، أحبّ أن بوصلهم بمقتضى الكرم إلى النعم ؛ لئلاّ يلزم العبث في إيجاد العالم.

ولمّا كان حكيما وجب أن يكون ما يتفضّل به جاريا على وفق الحكم ، فكلّف بما يحصل به الاستعداد لإيصال النعم ودفع النقم.

ولمّا لم يكن للكلّ علم بما فيه صلاحهم ، ولا قابليّة للتلقّي من اللّه بلا واسطة فرد من بني آدم ، وجب عقلا بمقتضى اللطف أن يختار من خلقه من كان قابلا للتلقّي من اللّه الخالق الحقّ ، والإلقاء إلى الخلق ؛ إتماما للغرض الأهمّ. ولا يتمّ ذلك إلاّ بالعصمة المعلومة بالمعجزة المصدّقة ، والتنزّه عمّا يوجب النفرة ؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة ، فيجب بعث البشر المعصوم المخبر عن اللّه بنحو الوحي من غير اجتهاد ، المقترن بالمعجزة المصدّقة. فكلّ من ادّعى النبوّة الممكنة مع المعجزة المصدّقة فهو نبيّ بلا شبهة.

ص: 10

وقد تظافر وتواتر أنّه ظهر في مكّة محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله وادّعى النبوّة ، وأظهر اللّه على يده المعجزة المصدّقة كالقرآن الذي عجز عن الإتيان بمثله جميع الأمّة ، فهو نبيّ بلا ريبة.

وحيث ادّعى ختم النبوّة ، وأخبر اللّه تعالى به أيضا في الآية الشريفة (1) فهو خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين.

فالكلام في هذا الأصل - الذي هو من أعظم الأصول - يقع في خمسة فصول :

الأوّل : أنّ بعثة النبيّ - المخبر عن اللّه بنحو الوحي من غير اجتهاد - حسن بالحسن التامّ ، فيكون واجبا عقلا مع أنّه واقع نقلا. وهذا من أصول المذهب من جهة ، ومن أصول الدين من أخرى ، فيكون ردّا على الأشاعرة وأمثالهم (2).

الثاني : أنّ النبيّ يجب أن يكون معصوما عن العصيان والنسيان ، بل عن جميع ما يوجب تنفّر الإنسان. وهو أيضا من أصول المذهب ، ردّا على العامّة (3).

الثالث : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة ، ردّا على من أنكر الوجوب على اللّه تعالى.

الرابع : أنّ نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله رسول اللّه المبعوث إلى الثقلين : الإنس والجانّ مع المعجزات التي منها المعراج الجسماني ، وشقّ القمر ، والقرآن. وهو من أصول الدين ، ردّا على كثير من الكافرين كاليهود والنصارى ، وأمثالهم من المعاندين الجاحدين.

وفي حكمهم من قال في دفع لزوم الخرق والالتئام في الأفلاك عند عروج النبيّ صلی اللّه علیه و آله : إنّ الصاعد كلّما صعد ألقى منه عند كلّ رتبة منها ، مثلا إذا أراد تجاوز كرة الهواء ألقى ما فيه من الهواء فيها ، وإذا أراد تجاوز كرة النار ألقى ما فيه منها فيها ، وإذا

ص: 11


1- الأحزاب (33) : 40.
2- راجع « كشف المراد » : 346.
3- المصدر السابق.

رجع أخذ ما له من كرة النار ، فإذا وصل الهواء أخذ ما له من الهواء ؛ بناء منه على أنّ العروج إنّما هو للجسم النوراني الهورقليائي دون العناصر المعروفة ؛ أو أنّ جسده الشريف علّة لوجود جميع الأجسام فكان محيطا بجميعها ، فلا يكون منها جزء إلاّ وهو محيط به ، فكان صلی اللّه علیه و آله في عروجه محيطا بجميع الأجسام والأرواح والنفوس والعقول ؛ فإنّه أيضا للحقّ من الجاحدين.

وأنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيّين ودينه باق إلى يوم الدين ، بمعنى أنّ اللّه تعالى بعث قبله الأنبياء والمرسلين وجعل نبيّنا خاتم النبيّين ؛ كما نطق به القرآن المبين (1) ، وروي عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « خلق اللّه عزّ وجلّ مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبيّ أنا أكرمهم على اللّه تعالى » (2). وهو أيضا من أصول الدين ، ردّا على الجاحدين.

الخامس : أنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله أفضل المخلوقين ، وله لهذا إذن شفاعة العاصين في يوم الدين. وهذا أيضا من أصول المذهب ظاهرا. خلافا لبعض القاصرين ، كما حكي عن بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة حيث قالوا بأفضليّة الملائكة للوجوه الركيكة (3).

وحكي عن الوعيديّة من لزوم الوعيد وعدم العفو والشفاعة.

وبالجملة ، فنقول :

ص: 12


1- الأحزاب (33) : 40.
2- « الخصال » 2 : 641 ، ح 18 و 19.
3- انظر « تلخيص المحصّل » : 374 - 376.

الفصل الأوّل : في أنّ بعث اللّه تعالى النبيّ - المخبر عن اللّه تعالى بنحو الوحي من غير اجتهاد - بالحسن التامّ ، فيكون واجبا عقلا مع أنّه واقع نقلا

بيان ذلك عقلا أنّ للبعثة فوائد :

الأولى : تقوية العقل في الأحكام التي يستقلّ بإدراكها ، والدلالة على ما لا يستقلّ فيه.

الثانية : تنبيه العقلاء على لزوم معرفة اللّه التي هي الأساس الموجب للحياة الأبديّة والسعادة الأخرويّة ؛ لانغمار العقول باللذائذ الجسمانيّة والشهوات الحيوانيّة والعلائق البدنيّة التي يميل إليها الطبع ، فالناس كلّهم لا بدّ لهم من الإيقاظ من نوم الغفلة والجهل بالدعوة النبويّة ليحصّلوا المعارف اليقينيّة.

الثالثة : إرشاد الناس إلى المنافع النفسانيّة والجسمانيّة ؛ إذ معرفة المنافع البدنيّة والمضارّ البدنيّة بالتجربة تتوقّف على مرور الدهور وهلاك كثير من الناس ، فلا بدّ ممّن يعرفها من اللّه ؛ ولهذا خلق اللّه قبل الكلّ نبيّا وهو آدم علیه السلام .

الرابعة : حفظ نوع الإنسان ؛ لأنّه مدني بالطبع ، بمعنى أنّه بالطبع محتاج إلى معاونة بعضهم بعضا في الغذاء واللباس والمسكن والآلات لدفع العدوّ ونحوه ، ولا يمكن لأحد من الأفراد الإتيان بجميع ما يحتاج بنفسه كما لا يخفى ، بل لا بدّ من اجتماع جماعة في موضع يمكن إعانة بعضهم بعضا لينتظم أمر معاشهم ويترتّب

ص: 13

عليه أمر معادهم ، ويسمّى ذلك الموضع مدينة.

وكون الإنسان مدنيّا عبارة عن احتياجه إلى الكون في المدينة لينتظم أمر معاشه ومعاده ، ولمّا كان اجتماعهم - من جهة كونهم ذوي غضب وشهوة - موجبا لوقوع الفتنة والظلم ، والهرج والمرج الموجبة لاختلال نظام أمر المعاش والمعاد ، وبطلان فائدة الاجتماع والتمدّن ، فلا بدّ من العدل الذي هو عبارة عن تسوية الحقوق ، وإحقاق الحقّ منها جزئيّات العدل في الحقوق الجزئيّة ، فلا بدّ من واضع وجاعل يقرّرها بحيث لا يمكن لأحد التخلّف عنها إلاّ وقد لزمه الهلاك ، فلا بدّ أن يكون ذا قدرة ؛ ليطيعه الناس طوعا وكرها ، ويكون أوامره ونواهيه نافذة في الناس ، ولا يمكن ذلك إلاّ بتأييد من اللّه بالآيات والمعجزات ؛ لئلاّ يكون لغيره له منازعة في استحقاق هذه الرئاسة العامّة. والمراد من النبيّ ليس إلاّ مثل هذا الفرد.

الخامسة : اشتمالها على اللطف ؛ إذ الإخبار بالثواب على الواجبات والعقاب على المنهيّات ، مقرّب إلى الطاعات ومبعّد عن المعاصي ، وحيث كان اللطف واجبا على اللّه كانت البعثة واجبة عليه تعالى.

والحاصل : أنّ بعثة الأنبياء لطف متمّم للغرض من جهة اقتضائها تنبيه العقول وتقويتها في العقائد ، وإرشاد الناس إلى المنافع الجسمانيّة والروحانيّة المعاشيّة والمعاديّة ، ومضارّهم كذلك. وحفظ نوع الإنسان الذي هو مدني بالطبع محتاج إلى الاجتماع في المكان والكون في المدينة ؛ لانتظام أمر المعاش والمعاد الموجب لوقوع الفتنة من جهة وقوع الغضب والشهوة المحتاج إلى مقنّن القوانين الرافعة لها ولو بالقهر والغلبة المعلوم كونه من جانب اللّه ، وصاحب العصمة المتمّمة للغرض بالمعجزة نقلا بما ورد في الكتاب والسنّة ، فإنّه قد قال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (1). وقال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا

ص: 14


1- النساء (4) : 165.

مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (1). وقال تعالى : ( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (2).

وقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (3).

وروي عن هشام بن الحكم ، قال : سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟

قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ، ولا يحاجّهم ولا يحاجّوه ، فثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، فثبت عند ذلك أنّ له معبّرين ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند اللّه الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو أرض اللّه تعالى من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته » (4).

ومثله الآخران مسندا ومرسلا (5).

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه اللّه مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( البعثة

ص: 15


1- إبراهيم (14) : 4.
2- إبراهيم (14) : 10.
3- الحديد (57) : 25.
4- « التوحيد » : 249 ، الباب 36 ، ح 1.
5- المصدر السابق ، ح 2 و 3.

حسنة ؛ لاشتمالها على فوائد : كمعاضدة النقل (1) فيما يدلّ عليه العقل ) أي يستقلّ بمعرفته ، مثل وجود البارئ وعلمه وقدرته.

( واستفادة الحكم ) من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ( فيما لا يدلّ ) أي لا يستقلّ به العقل ، مثل الكلام والرؤية والمعاد الجسماني ؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل.

( وإزالة الخوف ) الحاصل عند الإتيان بالمحسّنات ؛ لكونه تصرّفا في ملك اللّه بغير إذنه ، وعند تركها ؛ لكونه تركا للطاعة. ( و ) استفادة ( الحسن والقبح ) في الأفعال التي تحسن تارة وتقبح أخرى من غير إهداء العقل إلى معرفتها. ( و ) استفادة ( النافع والضارّ ) أي معرفة منافع الأغذية والأدوية ومضارّهما التي لا تفي بها التجربة إلاّ بعد أدوار وأطوار مع ما فيها من الأخطار. ( وحفظ النوع الإنساني ) فإنّ الإنسان مدنيّ بالطبع يحتاج إلى التعاون ، فلا بدّ من شرع يفرضه شارع يكون مطاعا ، كما ذكرنا في بيان حسن التكليف على طريقة حكماء الإسلام. ( وتكميل أشخاصه ) أي تكميل النفوس البشريّة ( بحسب استعداداتهم المختلفة ) في العلميّات والعمليّات.

( ويعلّمهم الصنائع الخفيّة ) من الحاجات والضروريّات ( والأخلاق ) الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص ( والسياسات ) الكاملة العائدة إلى الجماعات من المنازل والمدن ( والإخبار بالعقاب والثواب ) ترغيبا في الحسنات ، وتحذيرا عن السيّئات ، إلى غير ذلك. ( فيحصل اللطف للمكلّف ) أي بعثة الأنبياء لطف من اللّه تعالى بالنسبة ( إلى عباده ).

( وشبهة البراهمة ) وهي أنّ البعثة إمّا لأجل ما يوافق العقل فلا حاجة فيه إليهم ، أو لأجل ما يخالفه ، وما يخالف العقل غير مقبول ، فلا فائدة في بعثتهم ؛ ( باطلة ؛ لما تقدّم ) من أنّ ما يوافق العقل قسمان : أحدهما ما استقلّ العقل بإدراكه. والثاني ما لا يستقلّ بإدراكه. والحاجة إليهم في القسم الثاني ، بل في القسم الأوّل أيضا

ص: 16


1- في الأصل : « العقل » وما أثبتناه من المصدر.

ليتعاضد العقل بالنقل.

( وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقليّة ) فإنّ الإنسان إذا كان واقفا على التكاليف بحسب الشرع كان أقرب من فعل الواجبات العقليّة وترك المنهيّات العقليّة.

أقول : لا يخفى ما فيه من البعد. فالأقرب أن يحال بما بيّنته آنفا من اشتمالها على فوائد » (1).

ص: 17


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 357 - 358.

الفصل الثاني : في أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله يجب أن يكون معصوما عن العصيان والنسيان ، بل عن جميع ما يوجب تنفّر الإنسان

اعلم أنّ العصمة ملكة إلهيّة موهوبيّة بكمال الفطانة ، لا كسبيّة ولا ذاتيّة ، مانعة عن حصول الذنوب وصدور القبائح والعصيان في حالتي العمد والنسيان في مدّة عمر بعض أفراد الإنسان ، على وجه الاختيار لا على وجه الإكراه والإجبار ؛ كما هو ظاهر قوله : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي ) (1) وظاهر إطلاق لفظ « المعصوم » ، مضافا إلى أنّ الذاتيّة تقتضي نفي المدح والفضيلة مع أنّه لا إكراه في الدين.

وبعبارة أخرى : هي حالة نفسانيّة - غريزة - يمتنع بها صدور داعي الذنوب امتناعا وقوعيّا ، لا عقليّا وذاتيّا ، فيمتنع صدور الذنوب مع القدرة عليها.

وبالقيد الأوّل تمتاز عن العدالة ؛ إذ لا يعتبر فيها كون الملكة موجبة لامتناع صدور الذنوب. ويمكن الامتياز من جهة أخرى وهي إمكان صدور الذنوب مع العدالة ولكن مع التعسّر سيّما الصغيرة ، فيكون المنع عن صدور الذنوب فيها أغلبيّا لا كلّيّا. بخلاف العصمة ؛ فإنّ صدورها معها ممتنع وإن كان القدرة عليها متحقّقة ؛ إذ الامتناع بسبب عدم الداعي ، أو وجود المانع لا ينافي القدرة ، كما أنّ الوجوب بسبب

ص: 18


1- يوسف (12) : 53.

وجود الداعي لا ينافيها.

وظهر من القيد الأخير عدم امتناع صدور العصيان على وجه الإجبار ؛ إذ لا إكراه في الدين.

والأنسب أن يفسّر العصمة بحالة إلهيّة مانعة عن صدور مطلق القبيح والعصيان عن العمد والنسيان ، ونحوهما ممّا يعرض الإنسان مدّة العمر ، لا على وجه الإكراه.

وأمّا عصمة خاتم الأنبياء وأوصيائه فهي مانعة عن صدور ترك الأولى مطلقا وما يوجب النفرة والنقص ، وعدم إتمام الحجّة ، والشبهة في إتمام الحجّة أيضا ، كما هو مقتضى الوصول إلى مرتبة حقّ اليقين المشار إليه بقوله علیه السلام : « لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا » (1) ، ومقتضى الخشية ف- ( إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (2).

وبالجملة : فالعصمة لطف خصّصه اللّه تعالى بجمع يتوقّف حصول الغرض من وجودهم عليه وهم الأنبياء والأوصياء ، والغرض من وجودهم تبليغ أحكام اللّه إلى المكلّفين ، والغرض من التبليغ حصول العلم اليقيني بالأحكام ليسهل الغرض من خلق الإنسان وهو إيصال النعيم الأبدي الموقوف على القابليّة الموقوفة على العمل على وفق الحسن والقبح النفس الأمريّين بارتكاب الأوّل والاجتناب عن الثاني ، ولا يحصل ذلك إلاّ بالعلم بهما ، وهو لا يحصل إلاّ ببيان من اللّه بواسطة ، أو بدونها لنقصان عقولنا ، والأخير غير ممكن في الكلّ لنقص القابل ، فلا بدّ من الواسطة التي يحصل من بيانها العلم ، ولا يحصل ذلك إلاّ بالعصمة المانعة عن صدور الكذب ، بل السهو والنسيان ، فتجب عصمة الأنبياء من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّها لطف للأنبياء في التبليغ الذي هو لطف مخصوص بهم ؛ إذ اللطف ما يقرّب المكلّف إلى أداء التكليف ، وهي كذلك بالنسبة إليهم.

ص: 19


1- « بحار الأنوار » 40 : 153 ، ح 54.
2- فاطر (35) : 28.

والثاني : أنّها لطف للمكلّفين في تصديق الأنبياء الذي هو تكليف بالنسبة إليهم ؛ لما ذكر.

الثالث : أنّها لطف لهم في سائر التكاليف المعدّة لإيصال النعيم الأبدي ، فثبت أنّ عدمها نقض لغرض اللّه وهو قبيح ، فوجودها واجب.

مضافا إلى أنّ اختيار غير المعصوم - مع إمكان بعث المعصوم وعدم المانع عنه - ترجيح للمرجوح ، وهو قبيح لا يصدر عن اللّه ، فبعث المعصوم واجب ، فذانك برهانان من ربّك من جهة العقل ، ويطابقهما النقل ، كقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1). وقوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2). الدالّ على حصر إرادته التي لا تتغيّر في إذهاب الرجس الممكن بحسب البشريّة ، ووجود قوّتي الغضبيّة والشهويّة ، وتطهيرهم عنه بالكلّيّة ، ونحو ذلك على ما يدلّ على أنّ بعث المعصوم علیه السلام واجب.

وطريق العلم بها لنا أن يعلم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أتى بالمعجزة كما سيأتي ، ويحكم بها من جهة هذا العلم من قبيل البرهان الإنّي ، أو يخبر المخبر الصادق المعصوم بعصمة شخص آخر كإخبار النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعصمة أمير المؤمنين علیه السلام أو بإمامته الموقوفة عليها ، وهكذا.

وقد نقل الخلاف في أنّ عصمة الأنبياء يجب أن تكون في الكذب فقط ، أو في غيره أيضا ، وعلى الأوّل هل يجب أن يكون في الكذب في التبليغ فقط ، أو في غيره أيضا؟ وعلى الثاني هل يجب أن تكون بالنسبة إلى الكبيرة فقط ، أو إلى الصغيرة أيضا؟ وعلى الثاني هل يجب أن تكون بالنسبة إلى الخسيسة فقط ، أو بالنسبة إلى غيرها أيضا؟ وعلى التقادير هل يجب أن تكون بالنسبة إلى حال العمد فقط ، أو يجب أن تكون بالنسبة إلى حال السهو أيضا؟ وعلى أيّ تقدير هل يجب أن تكون

ص: 20


1- البقرة (2) : 124.
2- الأحزاب (33) : 33.

بالنسبة إلى ما بعد البعثة فقط ، أو يجب أن تكون بالنسبة إلى ما قبلها أيضا؟ (1)

والحقّ وجوب عصمتهم مطلقا من جهة الكذب مطلقا ، وغيره صغيرة وكبيرة مطلقا ، عمدا وسهوا ، بعد البعثة وقبلها.

أمّا عن الكذب في التبليغ فلمنافاته له. وأمّا عنه في غيره وعن غيره مطلقا فلوجوب الاتّباع المنافي لصدور الذنب عنه مطلقا ، أمّا بعد البعثة فظاهر ، وأمّا قبلها فلحصول النفرة المانعة عن الاتّباع ولو بعد البعثة ، ولصيرورته محلّ المناقشة والمشاجرة ، والمقصود أن يكون بعثهم بحيث لا يكون للناس على اللّه حجّة.

وهذا الوجه عامّ يقتضي امتناع صدور جميع المعاصي عنه في أيّ حال كان عمدا وسهوا ، وبعد البعثة وقبلها ، بل يقتضي لزوم تنزّههم علیهم السلام عن جميع العيوب الجسمانيّة ، والأخلاق الذميمة النفسانيّة ، والأمراض المزمنة ، وخساسة الذات ودناءتها وكفر الآباء والأمّهات ، ورذالة القبيلة ، وغيرها ممّا يوجب تنفّر الطبائع المانع عن الاتّباع والإرادة ، بل يجب اتّصافهم علیهم السلام بجميع صفات الكمال والأخلاق الحسنة ، والأقوال الممدوحة وكرامة الآباء وشرافة القبيلة ، ونحوها ممّا يوجب رغبة الناس إليهم وانقيادهم لهم ليحصل الغرض ، ويتحقّق اللطف الواجب على اللّه تعالى كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه يدلّ على وجوب عصمة الأنبياء أوّلا العقل ؛ لأنّ بعث البشر المعصوم المرقوم لطف ؛ لعدم ارتباط الجميع بالملك - لو لم ندّع عدم الإمكان - إلاّ فيمن شذّ وندر ، فلا بدّ من بعثته - إتماما للحجّة - للغرض والحجّة ؛ مضافا إلى أنّ غيره مرجوح.

وثانيا : النقل كما قال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) (2).

ص: 21


1- انظر تفصيل هذا الخلاف في « كشف المراد » : 349 ، المسألة الثالثة في وجوب العصمة.
2- يوسف (12) : 109.

وقال تعالى : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) (1).

وقال تعالى : ( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (2).

وقال تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وقال : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (4). الآية - إلى أن قال : - ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (5).

وقال تعالى بعد ذكر من الأنبياء : ( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (6).

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان شارح القوشجي بقوله : « ( وتجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق بأقواله وأفعاله فيحصل الغرض من البعثة ) وهو متابعة المبعوث إليهم في أوامره ونواهيه ( ولوجوب متابعته وضدّها ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لزم اجتماع وجوب الضدّين وهما متابعته ومخالفته.

أمّا الأوّل : فللإجماع المنعقد على وجوب متابعة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولقوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (7).

وأمّا الثاني : فلأنّ متابعة المذنب حرام. ( ولوجوب الإنكار عليه ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لوجب منعه وزجره والإنكار عليه ؛ لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي

ص: 22


1- الشورى (42) : 51.
2- إبراهيم (14) : 11.
3- البقرة (2) : 124.
4- آل عمران (3) : 33 - 34.
5- الأنعام (6) : 90.
6- الأنعام (6) : 86 - 87.
7- آل عمران (3) : 31.

عن المنكر ، لكنّه حرام ؛ لاستلزامه الإيذاء المحرّم بالإجماع ؛ ولقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (1). ولزم أيضا أمورا أخر كلّها منتفية :

منها : أن يكون شهادته مردودة ؛ إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، ولقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (2) واللازم باطل بالإجماع ؛ ولأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل بسرعة من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم؟!

ومنها : استحقاقه العذاب واللعن واللوم ؛ لدخوله تحت قوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (3) ، وقوله تعالى : ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (4) ؛ وقوله : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (5) ؛ وقوله : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (6).

لكن ذلك منتف بالإجماع ، ولكونه من أعظم المنفّرات.

ومنها : عدم نيله عهد النبوّة ؛ لقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (7) ؛ فإنّ المراد به النبوّة أو الإمامة التي دونها.

ومنها : كونه غير مخلص ؛ لأنّ المذنب قد أغواه الشيطان والمخلص ليس كذلك ؛ لقوله تعالى حكاية عن إبليس : ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (8).

ومنها : كونه من حزب الشيطان ومتّبعيه ، واللازم قطعيّ البطلان.

ومنها : عدم كونه متسارعا في الخيرات معدودا عند اللّه من المصطفين الأخيار ؛

ص: 23


1- الأحزاب (33) : 57.
2- الحجرات (49) : 6.
3- الجنّ (72) : 23.
4- هود (11) : 18.
5- الصفّ (61) : 2.
6- البقرة (2) : 44.
7- البقرة (2) : 124.
8- الحجر (15) : 39 - 40.

إذ لا خير في المذنب ، لكن اللازم منتف ؛ لقوله تعالى في حقّ بعضهم : ( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) (1) ، ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ) (2).

بقي الكلام في أنّ العصمة من أيّ معصية تجب ؛ فإنّ ما يتوهّم صدوره عن الأنبياء من المعاصي إمّا أن يكون منافيا لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلّق بالتبليغ ، أولا؟ والثاني إمّا أن يكون كفرا ، أو معصية غيره ، وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنى ، أو صغيرة منفّرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة ، أو غير منفّرة ككذبة وشتمه وهمّ بمعصية ، كلّ ذلك إمّا عمدا أو سهوا ، بعد البعثة أو قبله.

والجمهور على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهوا ؛ زعما منه أن لا يخلّ في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر. وقد جوّزه الأزارقة من الخوارج ؛ بناء على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأنّ كلّ ذنب كفر. وجوّز الشيعة إظهاره تقيّة ؛ احترازا عن إلقاء النفس في التهلكة.

وردّ بأنّ أولى الأوقات بالتقيّة (3) ابتداء الدعوة ؛ لضعف الداعي وشوكة المخالف ، وكذا عن تعمّد الكبائر بعد البعثة ، وجوّزه الحشويّة.

وكذا عن الصغائر المنفّرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتّباع ؛ ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا ، وبعض الشيعة إلى نفي الصغائر ولو سهوا ، والمذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا ، والصغائر غير الخسيسة عمدا لا سهوا.

وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة ، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا (4).

ص: 24


1- الأنبياء (21) : 90.
2- ص (38) : 47.
3- في الأصل : « بالبعثة » وما أثبتناه موافق لما ورد في « شرح القوشجي » : 357 - 359.
4- انظر تفصيل الأقوال في « كشف المراد » : 351 وما بعدها.

فالمصنّف إن أراد وجوب العصمة عن جميع المعاصي كما هو الظاهر من كلامه والظاهر من الشروح ، فلا يخفى أنّ ما ذكره من الأدلّة لا يفي بذلك ؛ فإنّ صدور الذنب عنه سيّما الصغيرة سهوا لا يخل بالوثوق بقوله وفعله ، والمتابعة قبل البعثة غير واجبة وبعد البعثة إنّما تجب فيما يتعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بزلّة ولا طبع.

والإنكار على ما صدر عنهم سهوا غير جائز ، وردّ الشهادة إنّما يكون بكبيرة ، أو إصرار على صغيرة من غير إنابة أو رجوع ، ولزوم الزجر والمنع واستحقاق العذاب واللعن واللوم إنّما هو على تقدير التعمّد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذّى به النبيّ صلی اللّه علیه و آله بل يبتهج. وبمجرّد كبيرة سهوا ، أو صغيرة ولو عمدا لا يعدّ المرء من الظالمين على الإطلاق ، ولا من الذين أغواهم الشيطان ، ولا عن حزب الشيطان سيّما مع الإنابة ، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كلّ فعل وتركه ، فمسارعة البعض إليها وكونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب من آخر سيّما سهوا ، أو مع التوبة.

وبالجملة : فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا ، والصغيرة غير المنفّرة عمدا محلّ نظر.

ويجب أيضا في النبيّ ( كمال العقل والذكاء والفطنة وقوّة الرأي ) لأنّ من لم يتّصف بها لم يرغب في متابعته والانقياد لأوامره ونواهيه.

( ويجب أيضا عدم السهو ) لئلاّ يسهو فيما أمر بتبليغه ، ولعلّ مراده أن لا يكون السهو في الأمور ديدنا له وعادة ( و ) عدم ( كلّ يتنفّر عنه من دناءة الآباء ، أو عمر الأمّهات ، والفظاعة والغلظة والأبنة وشبهها ) من الأمراض التي يتنفّر عنها الطبائع ، كالبرص والجذام وسلس البول والريح ، والأكل على الطريق وشبهه من الأمور الخسيسة » (1).

ص: 25


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 357 - 359.

الفصل الثالث : في أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة ، بناء على أنّ طريق معرفة صدق النبيّ صلى اللّه عليه وآله في ادّعاء النبوّة منحصر في ظهور المعجزة

اعلم أنّ المعجزة عبارة عن الأمر العجيب الواقعي ، الخارق للعادة المقترن لادّعاء النبوّة الممكنة ، ونحوها من الرئاسة الإلهيّة الممكنة مع المطابقة في المصدّقة.

بيان ذلك : أنّ كلّ حادث مسبّب عن سبب لاقتضاء مصلحة اللّه خلق الأشياء بالأسباب ، ويسمّى ذلك عادة. والأسباب المقدّرة لحدوث الحوادث على ثلاثة أنواع : الأرضيّة ، والسماويّة ، والمركّبة منهما.

والأرضيّة منحصرة في حركات الأفلاك والكواكب وأوضاعها ، والمركّبة ما حصل منهما ، كما يقال : إنّ الدواء الفلاني يؤثّر أثرا كذا إن استعمل في ساعة كذا ، وإلاّ فلا ، فكلّ ما حدث في هذا العالم بسبب قسم من الأقسام الثلاثة يكون واقعا على مجرى العادة ، وإن حدث بلا توسّط سبب من تلك الأسباب ، لكان على خلاف مجرى العادة ، ويكون خارقا للعادة ، كمجيء الشجرة عند دعوة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله كما سنبيّن إن شاء اللّه تعالى ، فإنّه لم يكن من جهة أسباب عاديّة ؛ إذ الأسباب العاديّة للحركة منحصرة في الإرادة والطبيعة والقسر ، ولا إرادة للشجر ، والطبيعة إمّا أن تقتضي

ص: 26

الحركة إلى الفوق أو التحت ، والقسر إمّا بالجذب أو بالدفع ، وحركة الشجر لم تكن داخلة في شيء من تلك الأقسام ، فتكون خارقة للعادة.

وقد يحدث الأمر بتوسّط سبب عادي خفيّ فيتوهّم كونه بلا سبب فيشتبه بخارق العادة كما في الشعبذة والطلسم والنيرنج ونحوها ، وقد لا يكون وجوده إلاّ بمجرّد التخييل من غير أن يكون له وجود الخارج كما في السحر.

والأمر الحادث لا من جهة سبب من الأسباب العاديّة يسمّى خارق العادة ، فإن اقترن بدعوى النبوّة ، أو الإمامة ، أو سائر ما لا يكون الاختصاص به إلاّ من اللّه وكان مطابقا لها يسمّى « معجزة » ، فما لم يكن يسمّى معجزة « مكذّبة » كما نقل أنّ مسيلمة الكذّاب لمّا سمع أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا للأعور فصار بصيرا ، دعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وما كان دالاّ على البعثة وحدث قبلها يسمّى « إرهاصا » كتضليل الغمامة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، وتسليم الأحجار له صلی اللّه علیه و آله قبلها ، وسقوط أربع وعشرين شرفة من إيوان كسرى ليلة ولادته صلی اللّه علیه و آله ، وخمود نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ونحو ذلك ؛ إذ الإرهاص بمعنى الانتظار ، فكأنّه ينتظر البعثة.

وما كان غير منتظر مقترن بالدعوى المذكورة يسمّى « كرامة » كما كانت لمريم ؛ إذ ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (1). وهكذا إطاعة الكلاب لسلمان ، وغير ذلك.

فالمعجزة حيث كانت لا عن سلب لا يمكن معارضتها ، بخلاف السحر فإنّه لكونه مسبّبا عن سبب خفيّ يمكن معارضته بتعلّم سببه ، فهي ممتازة عنه ، ولكن إذا كان رجل قادرا على الإتيان بأمر يكون سببه خفيّا ، ويكون مشتبها بالمعجزة عند الأكثر ، فلو ادّعى النبوّة أو نحوها وأتى طبق دعواه بذلك الأمر ، وجب على اللّه إبطاله ؛ دفعا

ص: 27


1- آل عمران (3) : 37.

للإضلال العامّ كما أبطل سحر فرعون بابتلاع عصا موسى.

فالمعجزة صادرة بمجرّد إرادة اللّه بلا توسّط سبب من الأسباب العاديّة ، ولهذا إذا اقترنت بالدعوى المذكورة وكانت مطابقة لها تدلّ على صدق المدّعى.

ووجه انحصار طريق معرفة صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيها أنّ دعوى النبوّة - مثلا - ادّعاء خصوصيّة موهبيّة لا كسبيّة ، ولا اطّلاع للعقل بسببها ، فلا يمكن له الاستدلال اللمّي ، فلا بدّ له من البرهان الإنّي الذي هو الاستدلال من الأثر إلى المؤثّر ، ولا بدّ أن يكون لذلك الأثر اختصاص تامّ بذلك المؤثّر حتّى يدلّ عليه. ولمّا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله بشرا لم يميّز من غيره إلاّ باستجماع الكمالات الذي هو أعمّ من النبوّة لا بدّ أن يكون له أثر مخصوص به من حيث إنّه نبيّ ، وليس ذلك المعجزة المقترنة المطابقة لدعواه ، فانحصر طريق إثبات النبوّة ونحوها في المعجزة إمّا بلا واسطة ، أو بواسطة كما في صورة بيان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لنبيّ آخر ، أو نحوه.

والحاصل : أنّ المعجزة أمر واقعيّ خارج عن العادة ، بسبب كونه بلا توسّط سبب أرضيّ ، أو سماويّ أو مركّب ، وكونه ممّا لا يتمكّن الخلق على تحصيلها بالتكسّب والتعلّم ونحو ذلك - كما في الحوادث العاديّة المسبّبة عن سبب من تلك الأسباب جليّا كان السبب ، أو خفيّا - موجبا للاشتباه بخارق العادة في أمثال الشعبذة ، مع كون ذلك الأمر الخارق للعادة مقترنا بادّعاء نحو النبوّة الممكنة مطابقا له ، فيمتاز عن « الإرهاص » و « الكرامة » و « السحر » مفهوما ومصداقا.

وأنّ الحوادث المحسوسة إمّا وهميّة وخياليّة محضة ، أو واقعيّة ، والأولى قسم من السحر ، والثانية إمّا مسبّبة عن سبب أرضيّ ، أو سماويّ ، أو مركّب ، أو لا ، والأولى تسمّى بالعاديّة وهي قد تكون مسبّبة عن سبب خفيّ ، والثانية أيضا قسم من السحر.

وغير المسبّبة إمّا أن تكون لصاحب الرئاسة الإلهيّة أم لا ، وعلى الثاني تسمّى « كرامة ». وعلى الأوّل إمّا أن تكون قبل الادّعاء أو تكون مقترنة بالادّعاء ، وعلى

ص: 28

الأوّل تسمّى « إرهاصا » بمعنى حالة منتظرة للرئاسة كما في تظليل الغمام ونحوه للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وانشقاق جدار الكعبة للوصيّ ، وعلى الثاني تسمّى « معجزة ».

وحينئذ إمّا أن تكون مطابقة للدعوة كما في ثعبان موسى ، وإحياء الأموات ، وشقّ القمر لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، أو مخالفة لها كما في مسيلمة الكذّاب. والأولى تسمّى معجزة مصدّقة ، والثانية معجزة مكذّبة.

فظهر الفرق بين السحر والمعجزة بأنّ السحر أعمّ من الوهمي والواقعي دون المعجزة ، وأنّ السحر الواقعي مسبّب عن سبب خفيّ ، والمعجزة من تصديق اللّه أو تكذيبه من غير سبب من العبد.

مضافا إلى أنّ السّحر عند الاختفاء والاشتباه ممّا يجب على اللّه إبطاله ، حذرا عن عدم إتمام الغرض في صدور القبح ، والمعجزة تكون باقية ويحصل التميّز في صورة الاشتباه بذلك ؛ وبأنّ السحر ممّا يمكن تعلّمه وتحصيله بالكسب دون المعجزة ؛ وبأنّ المعجزة غير مخصوصة بشيء دون شيء ، بل كلّما يريد المخاطب وجب على النبيّ والوصيّ إيقاعه بإذن اللّه ، بخلاف السحر :

وأنّه يدلّ على ذلك برهانان من ربّك :

أوّلا : العقل : لأنّ اللطف - الواجب المقتضي لبعث البشر المعصوم - موقوف على تعريف ذلك المعصوم ولا يتمّ إلاّ به ، وذلك لا يتمّ إلاّ بالمعجزة المصدّقة ؛ لخفاء العصمة وتوقّف ظهورها على تصديق اللّه له بالمعجزة ، فيكون الاقتران بها لازما مع أنّه راجح وتركه مرجوح ، واختيار المرجوح قبيح.

وثانيا : النقل كما قال : ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) (1) ونحو ذلك.

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : لأيّ علّة أعطى اللّه عزّ وجلّ أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال : « ليكون دليلا على صدق من أتى بها ، والمعجزة علامة لله

ص: 29


1- الإسراء (17) : 101.

يعطيها أنبياءه ورسله وحججه ليعرف بها صدق الصادق وكذب الكاذب » (1). ونحو ذلك.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنف رحمه اللّه مع بيان الشارح القوشجي بقوله : « ( وطريق معرفته وصدقه ) أي صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ( في ) دعوى النبوّة ( ظهور المعجزة على يده ، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى ) قيّد بذلك احترازا عن الكرامات ؛ فإنّها لا تكون مطابقة للدعوى ؛ ضرورة عدم الدعوى ، لكنّه يخرج الإرهاص والمعجزة المكذّبة لمدّعي النبوّة أيضا ، والمصنّف يسمّيها معجزة ، كما سيأتي.

وأمّا قوله : مع خرق العادة فهو لغو محض ، ولعلّه من طغيان القلم ؛ لكنّه ينبغي أن يذكر هاهنا قيدا آخر ، وهو عدم المعارضة ، ليميّز عن السحر والشعبذة.

والمشهور في تعريف المعجزة أنّه أمر خارق للعادة ، ومقرون بالتحدّي مع عدم المعارضة.

وقيل : ينتقض بما إذا دلّ على خلاف دعواه كمن ادّعى النبوّة ويقول : معجزتي أن أنطق الحجر ، فنطق ، لكنّه قال : إنّه كاذب.

فالأولى في تعريفها أن يزاد على المشهور قولنا : ومطابقة الدعوى.

أقول : قد تطلق المعجزة على مثله كما سيأتي في كلام المصنّف رحمه اللّه .

وإنّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه ؛ لأنّ اللّه تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق ، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجّة؟ فقال : هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم على سريره ثلاث مرّات ويقعد ففعل ، فإنّه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب.

ص: 30


1- « علل الشرائع » 1 : 148 ، الباب 100 ، ح 1 ؛ « بحار الأنوار » 11 : 71 ، ح 2.

فإن قيل : [ هذا تمثيل و ] (1) قياس للغائب على الشاهد - وهو على تقدير ظهور الجامع إنّما يعتبر في العمليّات ؛ لإفادة الظنّ - قد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العلميّات التي هي أساس ثبوت الشرائع ، على أنّ حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنّما هو لما شوهد من قرائن الأحوال.

قلنا : التمثيل إنّما هو للتوضيح والتعريف دون الاستدلال ، ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري ، لحصوله في الغائبين عن هذا المجلس عند تواتر القصّة إليهم ، وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحرّيها أحد سواه ، وجعل مدّعي الرسالة حجّته ؛ لأنّ الملك يحرّك تلك الحجب من ساعته ففعل.

( وقصّة مريم وغيرها تعطي جواز ظهورها على الصالحين ) اختلفوا في جواز وقوع ما هو خارق العادة على يد غير النبيّ صلی اللّه علیه و آله الصالحين - أعني المواظبين على الطاعات ، المجتنبين عن المعاصي - فذهب المعتزلة إلى منعه ؛ تمسّكا بما سيأتي ، والأشاعرة إلى ثبوته. واختاره المصنّف واحتجّ عليه بقصّة مريم كما دلّ عليه قوله تعالى : ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (2) وغيرها مثل قصّة آصف بن برخيا كما دلّ عليه قوله تعالى : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (3) وغيرها. وأجاب عن أدلّة المعتزلة وهي وجوه :

منها : أنّه لو صدر عن غير النبيّ لكثر وقوعه ، ولصدوره عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالطريق الأولى وعن غيره أيضا فخرج [ عن ] أن يكون معجزا ؛ لخروجه عن أن يكون أمرا خارقا للعادة لكثرة وقوعه.

ص: 31


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- آل عمران (3) : 37.
3- النمل (27) : 40.

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم خروجه عن حدّ الإعجاز ، فإنّ صدوره من الأنبياء والأولياء لا يجعله عادة معتادة. وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا يلزم خروجه عن حدّ الإعجاز ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهور خارق العادة على [ يد ] غير النبيّ صلی اللّه علیه و آله لزم التنفّر عن الأنبياء ؛ لأنّ الباعث على اتّباعهم انفراد هم عن غيرهم ، وعجز غيرهم عن مشاركتهم فإذا شاركوهم هان الخطب ولزم النفرة عن اتّباعهم بمشاركة الأولياء لهم كما لا يلزم [ ذلك ] بمشاركة نبيّ آخر. وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا النفرة ).

ومنها : أنّ تميّز النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن غيره إنّما هو بظهور الأمر الخارق على يده ، فلو ظهر على يد غيره أيضا ، لزم عدم تمييز النبيّ عن غيره.

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم لزوم عدم التميّز وإنّما يلزم لو لم يحصل التميّز بأمر آخر ، وهو ممنوع ؛ فإنّ النبيّ يتميّز عن الوليّ بدعوى النبوّة.

وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا عدم التميّز ) أي لا يلزم عدم التميّز.

ومنها : أنّه لو صدر عن غير النبيّ صلی اللّه علیه و آله لبطلت دلالته على صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ مبنى الدلالة على اختصاصه بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله فإذا بطل الاختصاص بطلت الدلالة.

والجواب : منع الزوم ، وإنّما يلزم لو ادّعى دلالة كلّ خارق على صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله وليس كذلك ، بل لها شرائط.

منها : مقارنة الدعوى ، وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا إبطال دلالته ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهوره على يد صادق غير النبيّ صلی اللّه علیه و آله لجاز ظهوره على يد كلّ صادق ، فيلزم عموميّة ظهور المعجزة.

والجواب : منع اللزوم ؛ لأنّ مبنى ظهور الخارق للعادة كرامة صاحبه ، وهي إنّما توجد في الأنبياء والصالحين من عباد اللّه وهم الأولياء. وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا العموميّة ، ومعجزاته قبل النبوّة تعطي الإرهاص ).

اختلفوا في ظهور المعجزة على سبيل الإرهاص - وهو إحداث أمر خارق للعادة

ص: 32

دالّ على بعثة نبيّ قبل بعثته - أنّه هل يجوز أم لا؟

واختار المصنّف الجواز ، واحتجّ عليه بظهور معجزات نبيّنا قبل نبوّته مثل : انكسار إيوان كسرى ، وانطفاء نار فارس ، وتظليل الغمامة ، وتسليم الأحجار عليه ( وقصّة مسيلمة وفرعون وإبراهيم تعطي جواز ظهور المعجزة على العكس )

اختلفوا في أنّه هل يجوز المعجزة على الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم؟ فالذين منعوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء منعوا من ذلك ، والذين جوّزوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء جوّزوا ذلك ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بالوقوع ؛ لأنّ الوقوع دليل على الجواز.

وممّا وقع : ما نقل عن مسيلمة الكذّاب أنّه لمّا ادّعى النبوّة ، فقيل له : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا لأعور فارتدّ بصيرا ؛ فدعا مسيلمة لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وكما نقل أنّ فرعون لمّا ضرب موسى لبني إسرائيل طريقا في البحر يبسا ، قال فرعون : إنّا نمرّ أيضا على هذا الطريق فأتبعهم بجنوده فغشيهم الموج فأغرقوا جميعا.

وكما نقل أنّ إبراهيم علیه السلام لمّا جعل اللّه تعالى عليه النار بردا وسلاما ، قال عمّه : أنا أجعل النار على نفسي بردا وسلاما فجاءت نار فاحترقت لحيته.

( ودليل الوجوب يعطي العموميّة ، ولا تجب الشريعة )

اختلفوا في أنّه هل تجب البعثة في كلّ زمان بحيث لا يجوز خلوّ زمان عن بعثة نبيّ؟

قال الأشاعرة : لا تجب البعثة في كلّ زمان بناء على نفي الحسن والقبح العقليّين.

وقال الإماميّة : تجب البعثة في كلّ زمان ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بأنّ الدليل الدالّ على وجوب البعثة يعطي عموميّة الوجوب في كلّ وقت ؛ لأنّ الحثّ على الطاعات والنهي عن القبائح لا يحصل إلاّ بالبعثة ، فتكون لطفا ، فتكون واجبة

ص: 33

في جميع الأوقات.

واختلفوا في أنّه هل تجب الشريعة للنبيّ المبعوث أم لا؟ فذهب أبو عليّ وأتباعه إلى أنّه يجوز بعثة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لتأكيد ما في العقول ، ولا يجب أن تكون له شريعة فإنّه يجوز بعثة نبيّ لشريعة واحدة فكذا يجوز بعثة نبيّ بمقتضى ما في العقول.

وذهب أبو هاشم وأصحابه إلى أنّه لا يجوز أن يبعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلاّ بشريعة ؛ لأنّ العقل كاف في العلم بالعقليّات ، فلو لم يكن للنبيّ شريعة ، يلزم أن تكون بعثته عبثا.

وأجاب المصنّف بأنّه يجوز أن يكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة ، بأن يكون العلم بنبوّته ودعوته إيّاهم إلى ما في العقول مصلحة لهم ، فلا يكون البعثة عبثا » (1).

ص: 34


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي ، 359 - 361 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

الفصل الرابع : في أنّ نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه وآله رسول اللّه المبعوث إلى الثقلين : الجنّ ، والإنس مع المعجزات التي منها : المعراج الجسماني ، وشقّ القمر ، والقرآن ، وأنّه صلى اللّه عليه وآله خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين

اشارة

فلنذكر أوّلا نسبه ، وثانيا حسبه :

أمّا نسبه فهو صلی اللّه علیه و آله أنّه محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب ابن المسمّى بشيبة بن عمرو ، المعروف بهاشم بن المغيرة ، المعروف بعبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان بن أدّ بن أدر بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن ثابت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناخور بن شروغ بن رارعو بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن ملك بن متّوشلخ بن أخنوخ بن الناذر بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم علیهم السلام .

وأمّا حسبه فهو أنّه رسول اللّه المبعوث إلى الثقلين ، وخاتم النبيّين بدلالة معجزاته المطابقة لدعواه.

اعلم أنّ معجزاته صلی اللّه علیه و آله على قسمين : ظاهرة ، وخفيّة. فالظاهرة عبارة عن

ص: 35

القرآن المجيد ؛ لكونه ثابتا بالتواتر والتظافر المفيدين للقطع واليقين ، كما في العلم بالبلاد النائية ، والقرون الماضية ، والملوك الحالية ، وذوي السخاوة والشجاعة والعدالة ، ومؤلّف الكتب بحيث لا يمكن إنكاره ولا يقبل التشكيك.

وهكذا حصل القطع واليقين أنّ محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله قد ادّعى النبوّة وأتى على طبقها بالقرآن المجيد ، وتحدّى بطلب معارضته ، وعجز عن المعارضة الفصحاء والبلغاء المشهورون ، ولم يقدروا على معارضته مع تطاول الأزمنة ، فهذا العجز والتعذّر معجز خارق للعادة.

فأمّا الذي يدلّ على أنّه صلی اللّه علیه و آله ادّعى النبوّة ، وأتى بالقرآن ، وادّعى أنّ جبرئيل يهبط عليه ، وأنّ اللّه قد أبانه به ، فهو اتّفاق الموافق والمخالف ، وكونه ضروريّا عند الكلّ ، والقرآن ناطق بذلك ، كقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (1) ونحو ذلك.

وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة ، لوجب ظهوره ونقله ، وحيث لم ينقل قطعنا بانتفائه.

وأمّا وجوب النقل والظهور ؛ فلتوفّر الدواعي وشدّة الاهتمام بإطفاء نوره صلی اللّه علیه و آله ، كيف لا؟ وقد نقل عن مسيلمة الكذّاب حين ادّعى النبوّة والوحي من اللّه ما ليس قابلا للنقل مثل قوله : « الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » (2).

وأمّا انتفاء النقل فهو ظاهر ؛ إذ لم ينقل من المتصدّين لإطفائه خبر واحد دالّ على الإتيان بما يعارض القرآن فضلا عن المتواتر ، حتّى نقل أنّ الوليد بن المغيرة - من جهة نهاية حسده وعداوته وإجابة قومه - كان في الليالي متفكّرا في الإتيان

ص: 36


1- البقرة (2) : 23.
2- انظر « إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة » : 175.

بما يعارضه ، فلمّا كان الصباح جاءه قومه رجاء منه أن يأتي بما يعارضه ، فلمّا كانوا بالغين في الفصاحة عارفين قبح الكلام ، عرفوا قبح ما قاله الوليد فلم يظهروه.

وقد نقل من الوليد أنّه مرّ على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقد كان تاليا لسورة « حم السجدة » ولمّا أتى قومه ، قال لهم : « لقد سمعت من محمّد صلی اللّه علیه و آله آنفا كلاما ، ما هو من كلام الإنس والجنّ إنّ له لحلاوة ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو ولا يعلى. فقال قومه : صبا الوليد ؛ نظرا إلى تحسينه إلى الحدّ المذكور » (1).

فإن قلت : لعلّ عدم النقل كان من جهة وجود المانع منه وهو الخوف من أهل الإسلام ، وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.

قلت : إنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل من كلّ وجه وإنّما يمنع من التظاهر به ، كما أنّ فضائل أمير المؤمنين علیه السلام وغيره من الأئمّة علیهم السلام قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني أميّة وغيرهم ، مضافا إلى أنّ أعداء الإسلام يعارضون الآن بما هو أشدّ من نقل المعارض ، فلو كان المعارض موجودا لكان ثابتا في كتبهم ، وكان نقل المعارض عند المعارضة أهمّ من أنّهم لا يتمسّكون إلاّ بإنكار بعض المعجزات ، أو عدم إعجاز القرآن بسبب عدم الاطّلاع على لطائفه - كما نقل عن بعضهم - مع أنّ الكثرة في الإسلام حصلت بعد الهجرة ، وكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ونحوها من أزمنة كان الأعداء فيها كثيرين مجادلين ، بل محاربين ، ولو نقلت لم يكن قوّة الإسلام موجبة لخفائها ، كيف؟ وقد نقل محاربة عمرو وكسر سنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونحو ذلك ممّا كان فيه إهانة ظاهرة.

فإن قلت : لعلّ المعارضة وقعت بعد الهجرة.

قلت : في ذلك كفاية في ثبوت المعجزة وحصول خرق العادة ، على أنّ الإسلام وإن قوي حينئذ بالمدينة فقد كان لأهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة

ص: 37


1- « تهذيب سيرة ابن هشام » : 61.

الفرس كانت ثابتة ، وممالك الروم وغيرها كانت عريضة ، فكان الواجب ظهور المعارضة في هذه البلاد.

فإن قلت : غاية ما ذكرت عدم الوجدان ، وهو لا يدلّ على عدم الوجود.

قلت : العلم الحدسي حاصل بعدم الوجود على وجه أشرنا إليه.

وأمّا الذي يدلّ على أنّ انتفاء المعارضة كان للتعذّر ، فهو أنّا علمنا أنّ كلّ فعل لا يقع من فاعله - مع توفّر دواعيه إليه - فإنّه يدلّ على تعذّره ، وهو إمّا أن يكون بسبب وجود المانع أو بسبب عدم القدرة ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لما مرّ من انتفاء المانع في جميع البلاد سيّما في صدر الإسلام ، فتعيّن الثاني وهو المعنيّ من العجز والتعذّر ، مضافا إلى أنّهم تركوا المعارضة بالحروف على المقاتلة بالسيوف ، ولا شبهة أنّ الأخيرة أشدّ من الأولى بمراتب لا تحصى ؛ لاقتضائها هلاك كثير منهم ، وأسرهم ، وإفناء أموالهم ونحو ذلك ، ممّا ثبت بالتواتر المعنوي ، فترك الأسهل وارتكاب الأصعب من الماهرين البالغين في البلاغة والغاية ، وصاحب الحميّة الجاهليّة ليس إلاّ للعجز عنه.

فإن قلت : لا يلزم من العجز كون المأتيّ به من اللّه ؛ لاحتمال أكمليّة الآتي من غيره بحيث لا يقدر غيره على الإتيان بمثله ، أو تعلّمه في زمان طويل لم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضته.

قلت أوّلا : إنّه يجب على اللّه إبطال ما يأتي به غير الحقّ إذا كان ذلك المأتيّ ممّا يعجز عنه غيره في صورة ادّعاء أمر مخصوص ، ولا يكون إلاّ من اللّه كالنبوّة والإتيان بذلك المأتيّ لبيان حقّيّته ، فلو كان نبيّنا صلی اللّه علیه و آله مبطلا كان الواجب على اللّه إبطال ما أتى به. فلو أبطله لنقل ذلك ولو بخبر واحد ، ولم ينقل فلم يبطل ، فيكون محقّا وهو المطلوب.

وثانيا : إنّ الأفصح ليس ممّا لا يمكن الإتيان بما يقاربه ، مع أنّ الأفصح إنّما يمتنع مساواته مجازاته في جميع كلامه أو أكثر كلامه ، ولا يمتنع في البعض على من هو

ص: 38

دون طبقته كما نرى في الطبقة المتأخّرة من الشعراء فإنّهم قد يساوون للمتقدّمة منهم في بعض الأبيات ، بل قد يزيدون عليهم في بعض ، فحيث وقع التحدّي بسورة قصيرة من سور القرآن ولم تكن الأفصحيّة مانعة عن الإتيان بمثله ، ولم يقدروا على الإتيان بمثل سورة من القرآن ، بل بما يدانيه وإلاّ لأتوه ، ولو أتوه لاشتهر كما مرّ ، علم أنّه خارق العادة وليس من البشر ، بل من اللّه العزيز.

وأمّا احتمال أنّه تعمل زمانا طويلا. ففيه - بعد تسليمه - أنّه كان ينبغي للمعارضين أيضا أن يراجع مثله فيعارضوه به - مع امتداد الزمان - لما مرّ فثبت التعذّر الخارق للعادة إمّا لكون القرآن نفسه خارقا للعادة بفصاحته ؛ لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما لا يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فنّ البيان ؛ فلذلك عجزوا عن معارضته كما عن الأكثر.

أو لكون أسلوبه الغريب ونظمه العجيب مخالفا لأسلوب كلام العرب ونظمه في الأشعار والخطب والرسائل ، أو لمجموع الأمر الأوّل والثاني.

ولأنّ اللّه تعالى صرفهم عن معارضته ، ولولاه لعارضوه لقدرتهم عليها. وعلى أيّ تقدير يثبت المطلوب حتّى في الصورة الأخيرة ؛ لأنّ اللّه لا يصدّق كاذبا ولا يخرق العادة لمبطل ، بل يبطل ما يأتي به إن اشتبه بالمعجزة كما مرّ.

فنقول : إنّ محمّد بن عبد اللّه قد ادّعى النبوّة ، وأظهر المعجزة بالقرآن - كما يثبت بالتواتر - وكلّ من ادّعى النبوّة وأتى بالمعجزة فهو نبيّ ؛ لما بيّنا من أنّ المعجزة دالّة على صدق صاحبها ، فينتج أنّ محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله نبيّ وهو المطلوب.

وأمّا المعجزات الباهرة الظاهرة بالمعنى الدالّة على نبوّته سوى القرآن :

[1] فمنها : شقّ القمر نصفين بمكّة ، وقد نطق به القرآن (1).

ص: 39


1- الانشقاق (84) : 1.

وعن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال : « انشقّ القمر حتّى صار فرقتين ، فقال كفّار أهل مكّة ؛ هذا سحر سحركم به ، قال : فسئل السفار وقد قدموا من كلّ وجه ، فقالوا : رأيناه » (1).

وبيانه على ما روي عن الصادق علیه السلام : « أنّه كان في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجّة باستدعاء أربعة عشر نفرا من أصحاب العقبة - بعد تخيير النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهم في اختيار أيّ معجزة يريدون واختارهم شقّ القمر - ونزل جبرئيل من اللّه تعالى واختاره فيه بأنّ جميع مكوّنات العالم العلوي والسفلي مطيعة له ، فعند ذلك أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله للقمر بالانشقاق ، فانشقّ ، فسجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمؤمنون شكرا ، وبعد رفع الرأس قال المنافقون : قل للقمر أن يرجع إلى حاله الأوّل ، فأمر ، فرجع ، ثمّ لمّا قالوا : قل له أن ينشق ثانيا ، فانشقّ ، فقالوا : إخواننا في السفر إلى الشام واليمن فإذا رجعوا نسألهم عن حال القمر فإن رأوا كما رأيناه ، علمنا أنّه من اللّه ، وإلاّ فنقول : هذا سحر مستمرّ » (2).

ودفعه أنّه لو كان سحرا لما وقع ذلك ، ولمّا كان.

[2] ومنها : مجيء الشجرة إليه صلی اللّه علیه و آله ، فعن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « لقد كنت معه صلی اللّه علیه و آله لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ، ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن أجبنا إليه وأريناه علمنا أنّك نبيّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب ، فقال لهم : وما تسألون؟ » قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم تؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّي سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في

ص: 40


1- « إعلام الورى » 1 : 84.
2- « بحار الأنوار » 17 : 351 - 352 ، ح 1 ، بتفاوت يسير.

القليب ، ومن يحزب الأحزاب ، ثمّ قال : أيّتها الشجرة ، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وأنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ بإذن اللّه. والذي بعثني بالحقّ لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دويّ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مرفوعة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه ، وبعض أغصانها على منكبين وكنت على يمينه صلی اللّه علیه و آله ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوّا واستكبارا - : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها بأعجب إقبال وأشدّ دويّ ، وكادت تلتف برسول اللّه ، فقالوا - كفرا وعتوّا : - فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه ، فأمره صلی اللّه علیه و آله فرجع ، فقلت أنا : لا إله إلاّ اللّه إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه ، وأوّل من آمن بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تصديقا بنبوّتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم : بل ساحر كذّاب عجيب السحر خفيف فيه ، فهل يصدّقك في أمرك غير هذا؟ يعنونني » (1).

[3] ومنها : خروج الماء من بين أصابعه ، وذلك كما قيل : إنّهم كانوا في سفر فشكوا أن لا ماء معهم وأنّهم بمعرض التلف وسبيل العطب ، فقال : « كلاّ إنّ معي ربّي ، عليه توكّلت » ثمّ دعا بركوة فصبّ فيها ماء ما كان ليروي رجلا ضعيفا ، وجعل يده فيها ، فنبع الماء من بين أصابعه ، فصيح في الناس فشربوا وسقوا حتّى نهلوا أو علوّا - وهم ألوف - وهو يقول : « أشهد أنّي رسول اللّه » (2).

[4] ومنها : حنين الجذع الذي كان يخطب صلوات اللّه عليه عنده ، وذلك كما روي أنّه كان في مسجده بالمدينة يستند إلى جذع فيخطب الناس ، فلمّا كثر الناس اتّخذوا إليه منبرا ، فلمّا صعده حنّ الجذع حنين الناقة التي فقدت ولدها ، فنزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فضمّه إليه وكان يئنّ أنين الصبيّ الذي يسكت (3).

ص: 41


1- « إعلام الورى » 1 : 74 - 75 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.
2- المصدر السابق 1 : 76 ، نقله بتفاوت يسير.
3- المصدر السابق 1 : 76.

[5] ومنها : حديث شاة أمّ معبد ، وذلك أنّه صلی اللّه علیه و آله عند مهاجرته من مكّة - مع أبي بكر وغيره - مرّ على أمّ معبد فسألوا تمرا أو لحما ليشتروا ، فلم يصيبوا عندها شيئا إلاّ شاة بلا لبن خلقها الجهد ، فبعد الاستئذان للحلب دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإناء ، فحلب فيه ، فسقاها حتّى رويت ، وسقى أصحابه حتّى رووا ، فشرب صلی اللّه علیه و آله فقال : « ساقي القوم آخرهم شربا » فشربوا جميعا عللا بعد نهل ، ثمّ حلب فيه ثانيا ، ثمّ ارتحلوا عنها ، الخبر (1).

[6] ومنها : خبر سراقة بن جعشم ، وهو أنّه تبعه صلی اللّه علیه و آله وهو متوجّه إلى المدينة فساخت قوائم فرسه حتّى تغيّبت بأجمعها في الأرض ، وهو بموضع جدب وقاع صفصف ، فعلم أنّ الذي أصابه أمر سماويّ ، فنادى : يا محمّد ، ادع ربّك يطلق لي فرسي ، وذمّة اللّه عليّ أن لا أدلّ عليك أحدا ، فدعا له فوثب جواده كأنّه أفلت من أنشوطة ، (2) فعلم بما رأى أنّه سيكون له نبأ ، فقال : اكتب أمانا ، فكتب وانصرف (3).

[7] ومنها : حديث الغار ، وهو أنّه صلی اللّه علیه و آله لمّا أوى عند الهجرة إلى غار بقرب مكّة ، فخرج القوم يطلبه ، فأعمى اللّه أثره - وهو نصب أعينهم - وبعث سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبيّ صلی اللّه علیه و آله فسترته ، وبعث حمامتين وحشيّتين فوقعتا بفم الغار ، فمن تعجّل منهم لينظر من في الغار بقدر أربعين ذراعا رجع إلى أصحابه ، فقالوا له : ما لك لا تنظر في الغار؟ فقال : رأيت حماما بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد ، وسمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما قال (4).

[8] ومنها : كلام الذئب. بيانه أنّ رجلا كان في غنمه يرعاها ، فأغفلها سويعة من نهاره. فعرض ذئب فأخذ منها شاة ، فأقبل يعدو خلفه ، فطرح الذئب الشاة ، ثمّ كلّمه

ص: 42


1- المصدر السابق.
2- الأنشوطة هي العقدة التي يسهل انحلالها. انظر « المعجم الوسيط » : 922 « ن. ش. ط ».
3- « الكافي » 8 : 218 - 219 ، ح 378 ؛ « إعلام الورى » 1 : 77 - 78 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.
4- « إعلام الورى » 1 : 78 - 79.

بكلام فصيح ، فقال : تمنعني رزقا ساقه اللّه إليّ؟ فقال الرجل : يا عجبا الذئب يتكلّم ، فقال : أنتم أعجب وفي شأنكم للمعتبرين عبرة ، هذا محمّد يدعو إلى الحقّ ببطن مكّة وأنتم عنه لاهون ، فأبصر الرجل رشده وأقبل حتّى أسلم ، وأبقى يراجع شرفا لا تخلقه الأيّام يفتخرون به ، ويقولون : إنّا بنو مكلّم الذئب (1).

[9] ومنها : كلام الشاة المسمومة المهداة من اليهوديّة بخيبر ، حيث دعا أصحابه إليه فوضع يده ، ثمّ قال : « ارفعوا فإنّها تخبرني بأنّها مسمومة » وقد كان صلی اللّه علیه و آله تناول منها قليلا قبل أن كلّمته ، ليعلم أنّه مخلوق وعبد (2).

وصار ذلك سبب الشهادة مع عوده كلّ سنة.

[10] ومنها : إشباع الألوف من قومه يوم الأحزاب بقوت رجل أو رجلين بعد دعوة رجل من أصحابه إليها واحتفال القوم معه ، وأمره صلی اللّه علیه و آله بتغطية الإناء ، وأكل القوم كلّهم منه حتّى شبعوا كأن لم يجوعوا ، والطعام بحاله بلا نقص (3).

[11] ومنها : إشباع قومه في غزوة تبوك بفضلة زاد لهم وهي بضع عشرة تمرة ، حيث شكوا الجوع ، فطرحت تلك التمرة بين يديه فوضع يده عليها وقال : « كلوا بسم اللّه » فأكل القوم حتّى شبعوا وهي بحالها يرونها عيانا (4).

[12] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله ورد ماء لا يبلّ حلق أحد والقوم عطاش ، فشكوا ذلك إليه ، فأخذ سهما من كنانة فدفعه إلى رجل من أصحابه ، فغرزه في الركي بأمره ، فملأ من الماء إلى أعلاه فروي القوم وأخذوا منه للظعن ، وهم ثلاثون ألفا (5).

[13] ومنها : تكلّم الظبية معه صلی اللّه علیه و آله - حين وقعت في شبكة - وتخليتها لإرضاع

ص: 43


1- المصدر السابق : 79.
2- « كنز الفوائد » 1 : 173 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 27 ؛ « إعلام الورى » 1 : 80.
3- « الخرائج والجرائح » 1 : 27 ؛ « إعلام الورى » 1 : 80.
4- « كنز الفوائد » 1 : 27 ؛ « إعلام الورى » 1 : 80.
5- « الخرائج والجرائح » 1 : 28 ؛ « إعلام الورى » 1 : 81.

ولدها ، واعتذاره صلی اللّه علیه و آله أنّ صاحبها غائب ، حيث قالت : إنّى أرجع ، فخلاّها وجلس حتّى رجعت الظبية وجاء صاحبها ، فشفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى خلّى سبيلها ، فاتّخذ القوم من ذلك الموضع مسجدا (1).

[14] ومنها : أنّ قوما شكوا إليه صلی اللّه علیه و آله ملوحة مائهم فجاء معهم في جماعة من أصحابه حتّى أشرفوا على بئرهم ، فتفل فيها ، ثمّ انصرف ، ففار الماء المالح وانفجرت الماء العذب والفرات ، وبها يتفاخر أهلها (2). وحصل عكسه لمسيلمة عند طلب منه.

[15] ومنها : أنّ امرأة أتت بصبيّ ذي عاهة ، فمسح يده على رأسه فاستوى شعره وبرئ داؤه (3). وحصل عكسه لمسيلمة عند طلب مثله عنه.

[16] ومنها : أنّ قوما من عبد القيس أتوه بغنم لهم فسألوه أن يجعل لها علامة يذكر بها ، فغمز إصبعه في أصول آذانها فابيضّت ، وهي معروفة النسل (4).

[17] ومنها : حديث المطر ، حيث كثر حتّى أشفقوا من خراب دور المدينة وانهدام بنيانها ، فدعا فتنحّ السحاب عن المدينة وأطاف حولها مستديرا مطير الشمس طالعة في المدينة يرى المؤمن والكافر (5).

[18] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله أخذ يوم بدر ملء كفّه من الحصى فرمى بها وجوه المشركين فملأ أعينهم ، وجعل المسلمون والملائكة يقتلونهم ويأسرونهم ، ويجدون كلّ رجل منهم منكبّا على وجهه لا يدري أين يتوجّه ، فعالج التراب بنزعه من عينيه (6).

[19] ومنها : أمر ناقته حين افتقدت فأرجف المنافقون ، وقالوا : نبّئنا بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فلمّا خاف صلی اللّه علیه و آله على المؤمنين وساوس الشيطان دلّهم

ص: 44


1- « الخرائج والجرائح » 1 : 37 ؛ « إعلام الورى » 1 : 81.
2- « الخرائج والجرائح » 1 : 28 ؛ « إعلام الورى » 1 : 82.
3- « الخرائج والجرائح » 1 : 29 ؛ « إعلام الورى » 1 : 82.
4- « كنز الفوائد » 1 : 171 ؛ « الخرائج والجرائح » 1 : 29.
5- « الخرائج والجرائح » 1 : 29 ؛ « إعلام الورى » 1 : 83 ؛ « صحيح البخاري » 2 : 35.
6- « كنز الفوائد » 1 : 169 ؛ « إعلام الورى » 1 : 83.

عليها ، ووصف لهم حالها فأتوها فوجدوها كما وصف (1).

[20] ومنها : أنّ رجلا من أصحابه أصيب بإحدى عينيه في بعض مغازيه فسالت حتّى وقعت على خدّه ، فأتاه مستغيثا به ، فأخذها بيده فردّها مكانها ، فكانت أحسن عينيه وأصحّهما وأحدّهما نظرا (2).

[21] ومنها : برء أبي براء من داء الاستسقاء بشرب طين تفل صلی اللّه علیه و آله فيه مخلوطا بالماء ، وقد أخذ لبيد من الرسول صلی اللّه علیه و آله بالتعجّب والاستهزاء (3).

[22] ومنها : شكوى البعير إليه - عند رجوعه إلى المدينة من غزوة بني ثعلبة - بأنّ صاحبه عمل عليه إلى الكبر فأراد نحره ، فأخبره صلی اللّه علیه و آله جابرا ، فقال له : « فأتني به » فقال : واللّه ما أعرف صاحبه ، قال : « هو يدلّك » فخرج معه حتّى انتهى إلى صاحبه ، فأتى به مع البعير إليه فبيّن له ما قال البعير ، فقال صاحبه : قد كان ذلك يا رسول اللّه ، فاشتراه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد عدم قبول الإهداء ، فتركه يرعى في نواحي المدينة ، ومنحه من يريد الغدوة والروحة من أصحابه (4).

[23] ومنها : أنّ أبا جهل عاهد اللّه أن يفضخ رأسه صلی اللّه علیه و آله بحجر إذا سجد في صلاته ، فاحتمل الحجر عند قيامه في الصلاة بين الركنين الأسود واليماني ، فلمّا أدناه رجع متنقّعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتّى قذف الحجر من يده ، وقام إليه رجال من قريش ، فقالوا : ما لك يا أبا الحكم؟ قال : عرض لي دونه فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته قصرته ولا أنيابه لفحل قطّ ، فهمّ أن يأكلني (5).

[24] ومنها : أنّ أبا جهل اشترى من رجل إبلا فبخسه أثمانها ولواه (6) بحقّه ، فأتى

ص: 45


1- « كنز الفوائد » 1 : 170 ؛ « إعلام الورى » 1 : 84.
2- « الخرائج والجرائح » 1 : 32 ؛ « إعلام الورى » 1 : 84.
3- « إعلام الورى » 1 : 84.
4- « إعلام الورى » 1 : 85 - 86.
5- المصدر السابق 1 : 86 ، بتفاوت يسير.
6- أي مطله وجحده إيّاه.

الرجل نادى قريشا ، مستجيرا بهم وذكّرهم حرمة البيت ، فأحالوه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله استهزاء به ، فأتاه مستجيرا به فمضى معه ودقّ الباب على أبي جهل ، فعرفه وخرج مبهوتا فقال : أهلا بأبي القاسم ، فقال له : « أعط هذا حقّه » قال : نعم ، فأعطاه من فوره ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنّي رأيت ما لم تروا ، رأيت واللّه على رأسه تنّينا فاتحا فاه ، واللّه لو أبيت لالتقمني (1).

[25] ومنها : ستره صلی اللّه علیه و آله عن نظر أمّ جميل حين جاءت إليه صلی اللّه علیه و آله [ وهي تقول : مذمّما أبينا ] (2) بعد نزول ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) (3) فرأت أبا بكر ولم تر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت : يا أبا بكر ، أخبرت أنّ صاحبك هجاني ، فقال : لا وربّ البيت ما هجاك ، فولّت (4).

[26] ومنها : ستره عمّن أرادوا قتله من بني مخزوم ، ومنهم أبو جهل حيث أرسلوا الوليد [ ليقتله ] (5) فانطلق حتّى انتهى إلى المكان الذي كان يصلّي فيه ، فجعل يسمع قراءته ولا يراه ، فانصرف إليهم فأعلمهم ذلك ، فأتاه أبو جهل وغيره ، فلمّا انتهوا إلى ذلك المكان الذي سمعوا صوته ، وذهبوا إلى الصوت ، فإذا الصوت من خلفهم ، وهكذا ، وذلك قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) (6) الآية.

[27] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله كان في غزاة الطائف ومسيره ليلا على راحلته بواد بقرب الطائف يقال له : « نجيب » ذو شجر كثير من سدر وطلح ، فغشي وهو في وسن النوم سدرة في سواد الليل ، فانفجرت السدرة له بنصفين فمرّ بين نصفيها ، وبقيت السدرة

ص: 46


1- « إعلام الورى » 1 : 86.
2- الزيادة أثبتناها من « إعلام الورى » 1 : 87.
3- المسد (111) : 1.
4- « دلائل النبوّة » للبيهقي 2 : 195 ؛ « إعلام الورى » 1 : 87.
5- الزيادة أثبتناها من « إعلام الورى » 1 : 88.
6- « دلائل النبوّة » للبيهقي 2 : 197 ؛ « إعلام الورى » 1 : 88 ، والآية في سورة يس (36) : 9.

منفرجة على ساقين ، وتسمّى سدرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).

وبالجملة : فمعجزاته أكثر من أن تحصى ، كإخباره صلی اللّه علیه و آله بالمقاتلة مع أمير المؤمنين (2) علیه السلام وقتل الحسين علیه السلام ومصارع أهل بيته (3) ، ونحو ذلك.

وعن بعض أنّ أعلامه تبلغ ألفا (4) فالأولى الاقتصار على ما ذكرنا. وتلك المعجزات وإن كان كلّ واحدة منها منقولة بخبر واحد بحسب الكيفيّة في [ البعض ] (5) والأصل في البعض ، إلاّ أنّه يحصل من جميعها القطع بصدور المعجزة من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقال له : المتواتر المعنوي ، كالعلم بجود حاتم ، وشجاعة رستم ، وعدل نوشيروان ، بالحكايات المنقول كلّ واحدة منها بخبر واحد.

فنقول : إنّ محمّد بن عبد اللّه ادّعى النبوّة وختم الرسالة ، وعمومها بالنسبة إلى الثقلين ، ونسخ ملل السابقين ، وأظهر المعجزة على طبقها. وكلّ من كان كذلك فهو نبيّ من عند اللّه ، وما ادّعاه حقّ ، محمّد بن عبد اللّه نبيّ من عند اللّه وما ادّعاه من ختم الرسالة وعمومها ونحوهما حقّ.

فإن قلت : إن كان في الملل المنسوخة مفسدة فوضعها قبيح ، وإلاّ فرفعها قبيح ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّه تعالى وضعها ويمتنع كون ما صدر منه تعالى قبيحا كما مرّ ، فتعيّن الثاني ، فتكون الملّة الثانية لموسى علیه السلام بالاتّفاق غير مرفوعة ، فيكون ملّة محمّد صلی اللّه علیه و آله التي تكون ناسخة لها غير ثابتة.

قلت : ذلك مدفوع بالنقض والحلّ. أمّا النقض فبالملل السابقة على ملّة موسى علیه السلام المنسوخة بها وغيرها ، كما قيل : إنّه ورد في التوراة أنّه كان أكل جميع ما يدبّ على

ص: 47


1- « الخرائج والجرائح » 1 : 26 ؛ « إعلام الورى » 1 : 88.
2- « إعلام الورى » 1 : 92.
3- المصدر السابق 1 : 93.
4- المصدر السابق 1 : 89.
5- بين المعقوفتين منّا أضفناه لاستقامة المتن.

الأرض حلالا على آدم علیه السلام وحوّاء ، وحرّم أكل بعض الحيوانات على نوح علیه السلام ، وأنّ الختان كان جائزا لنا حراما على نوح ، وصار واجبا فوريّا على من تأخّر عنه من الأنبياء ، وأنّ الجمع بين الأختين كان حلالا في شريعة آدم ونوح علیهماالسلام وصار حراما في شريعة موسى علیه السلام كما في شريعتنا.

وأمّا الحلّ فبأنّ حسن الأشياء وقبحها على قسمين : ذاتي ، وعرضي ، فقد يصير الحسن بالذات قبيحا بالعرض كالصدق الضارّ ، وبالعكس كالكذب النافع ، فبحسب المصالح يختلف الحال ، فلعلّ الملل المنسوخة كانت في زمانها فيها مصلحة اقتضت وضعها ، ولمّا انتفت تلك المصلحة في الزمان المتأخّر عنه ، بل اقتضت المصلحة خلافها ونسخت ووضعت خلافهما.

فيمكن أن تكون المنسوخة قبيحة بالذات ، حسنة بالعرض ، والناسخة بالعكس في زمان المنسوخة ، ولمّا انتفت المصلحة الموجبة لحسن المنسوخة القبيحة ، وقبح الناسخة الحسنة ، حكم بمقتضى حكم الحسن والقبح الذاتيّين بالنسبة إلى الناسخ والمنسوخ ؛ لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها ، كما في أكل الميتة عند الضرورة ، ويمكن أن يكون الأمر بالعكس ، فلمّا تحقّقت المصلحة الموجبة لقبح المنسوخة الحسنة ، وحسن الناسخة القبيحة ، حكم بمقتضى الحسن والقبح العرضيين المقتضي أوّلهما وجود المصلحة في الناسخ ، وثانيهما تحقّق المفسدة في المنسوخ ، فلا إشكال.

فإن قلت : إنّ اليهود أخبروا عن موسى علیه السلام قوله : « تمسّكوا بالسبت أبدا » فما دام السبت باقيا كانت شريعة موسى علیه السلام باقية.

قلت أوّلا : إنّه غير ثابت النقل منهم ، بل هو موضوع أوقع بين اليهود.

والدليل على ذلك أنّه لو كان ثابتا لوجب محاجّة اليهود مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ولو وقعت المحاجّة لنقلت ، ولم تنقل.

ولو سلّمنا بثبوته بين اليهود ، نمنع صدوره عن موسى علیه السلام ؛ لعدم اتّصال عدد

ص: 48

التواتر من أزمان اليهود إلى زمان موسى علیه السلام ؛ لاستئصال بخت نصّر لهم ، بحيث لم يبق منهم عدد التواتر كما قيل ، ولا أقلّ من عدم العلم.

وثانيا : إنّ مثل هذا الكلام يسمّى عرفيّة ، فالمعنى المفهوم منه عرفا : تمسّكوا بالسبت أبدا ما دامت شريعتكم باقية ، كما يقال : اكتب بالقلم أبدا ، والمعنى ما دمت كاتبا.

وأمّا الأدلّة النقليّة فهي في هذا الباب أيضا كثيرة :

منها : قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (1) الآية.

ومنها : قوله تعالى : ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (2) الآية.

ومنها : قوله : ( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللّهُ ) (3) الآية.

ومنها : قوله تعالى : ( وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ) (4) الآية.

ومنها : قوله تعالى - حكاية عن عيسى علیه السلام - ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الآية (5).

ومنها : قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (6).

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ) (7).

ص: 49


1- آل عمران (3) : 144.
2- الأحزاب (33) : 40.
3- الشورى (42) : 3.
4- المنافقون (63) : 1.
5- الصفّ (61) : 6.
6- البقرة (2) : 23.
7- الأعراف (7) : 158.

ومنها : قوله تعالى : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (1).

ومنها : قوله تعالى : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) (2) الآية.

والحاصل أوّلا : أنّ محمّد بن عبد اللّه بن هاشم بن عبد مناف رسول اللّه ونبيّه المعصوم المنزّه عمّا ذكر ، المقترن بالمعجزات التي منها المعراج الجسماني ، وشقّ القمر ، والقرآن.

يدلّ على ذلك أنّه صلی اللّه علیه و آله ادّعى النبوّة الممكنة ، وأتى على طبقها المعجزة - كالقرآن الذي عجز عن معارضته الفصحاء ، كفصحاء عدنان - فهو حقّ. أمّا الصغرى ؛ فلتوافر القطع ، وأمّا الكبرى ؛ فللبرهان العقلي ؛ لقبح صدور المعجزة في يد الكاذب ؛ لاستلزامه فوات الغرض ، والإغراء بالجهل ، والإضلال ، مضافا إلى النقل كالآيات المذكورة : قال اللّه تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (3).

وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) (4).

وقال تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ ) (5). وقال : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ ) (6).

وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) (7).

ص: 50


1- النجم (53) : 2 - 4.
2- آل عمران (3) : 3.
3- آل عمران (3) : 144.
4- محمّد (47) : 2.
5- الفتح (48) : 29.
6- الأعراف (7) : 157.
7- الأحزاب (33) : 46.

وقال تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1). وقال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2). وقال تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (3). وقال تعالى : ( لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (4).

وقال تعالى : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (5).

وقال تعالى : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) (6).

[ حديث المعراج ]

وقد روي عن الباقر علیه السلام والصادق علیه السلام في حديث المعراج ما حاصله : « أنّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل جاءوا بالبراق - الذي هو أصغر من البغل ، وأكبر من الحمار مضطرب الأذنين ، عينه في حافره ، وخطاه مدّ بصره ، إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه ، وطالت رجلاه ، أهدب العرف الأيمن ، له جناحان من خلفه وفخذه ، وهي دابّة من دوابّ الجنّة ، وأحسن الدوابّ لونا ، لو أذن اللّه تعالى لجالت الدنيا والآخرة في جرية واحدة خدّه كخدّ الإنسان ، وذنبه كذنب البقر ، وعرفه كعرف

ص: 51


1- البقرة (2) : 124.
2- الأحزاب (33) : 33.
3- البقرة (2) : 23.
4- الإسراء (17) : 88.
5- النجم (53) : 2 - 11.
6- القمر (54) : 1.

الفرس ، وقوائمه كقوائم الإبل - إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو نائم في مكّة في دار أمّ هاني أخت عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، على قول.

فقال جبرئيل : قم يا محمّد ، فقام وخرج معه إلى الباب ، وأخذ واحد باللجام ، وواحد بالركاب وسوّى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت فلطمها جبرئيل علیه السلام ثمّ قال : اسكتي يا براق ما ركبك نبيّ قبله ولن يركبك بعده مثله ، فركب علیه السلام إلى بيت المقدس ، وناداه في مسيره مناد عن يمينه ، فلم يجبه ولم يلتفت إليه وإلاّ لتهوّدت أمّته بعده ؛ لكون المنادي داعي اليهود ، ثمّ ناداه مناد عن يساره وهو داعي النصارى فلم يجبه ولم يلتفت إليه ، وإلاّ لتنصّرت أمّته بعده ، ثمّ استقبلته امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا ، فقالت : يا محمّد تنظرني حتّى أكلّمك ، فلم يلتفت إليها ، فلو كلّمها لاختارت أمّته الدنيا على الآخرة ، ثمّ سمع صوتا ، قال جبرئيل : هو صوت صخرة قذفها على شفير جهنّم واستقرّت بعد سنين.

فلمّا انتهى إلى بيت المقدس نزلت ملائكة للبشارة من ربّ العزّة وعرض عليه جبرئيل محاريب الأنبياء وآثارهم ومنازلهم ، فربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها فوجد إبراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء اللّه من الأنبياء ، فلمّا استووا أخذ جبرئيل بيده وقدّمه صلی اللّه علیه و آله عليهم فصلّى وركب وصعد إلى سماء الدنيا ، وعليها ملك يقال له : إسماعيل وصاحب الخطفة تحته سبعون ألف ملك ، تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك ، فقال : يا جبرئيل من هذا معك؟ فقال : محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ فتح الباب ودخل فرأى عجائبها ، فسلّم عليه واستغفر له وقال : مرحبا بالأخ الصالح ، وملائكتها يسلّمون عليه ضاحكين مستبشرين عليه ، حتّى لقيه ملك عظيم كريه المنظر ظاهر الغضب ، فدعا له ، إلاّ أنّه لم يضحك ، فقال : يا جبرئيل ، من هذا فإنّي قد فزعت منه؟

قال : كلّنا نفزع منه ، هذا خازن النار لم يضحك قطّ ، فطلب إراءة النار ، فكشف عنها غطاءها وفتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء فهاب ، فسدّ.

ثمّ صعد إلى السماء الثانية فرأى فيها عيسى ويحيى ، ثمّ صعد إلى السماء الثالثة

ص: 52

فرأى فيها يوسف ، ثمّ صعد إلى الرابعة فرأى فيها إدريس ، ثمّ صعد إلى الخامسة فرأى هارون ، ثمّ صعد إلى السادسة فرأى إبراهيم ، ثمّ صعد إلى أعلى علّيّين قرب العرش فرأى الجنّة ، فكلّمه ربّه بما كلّمه بلسان عليّ بن أبي طالب علیه السلام قائلا : بأنّي لم أجد في قلبك أحبّ منه ، ثمّ رجع إلى مكّة فلمّا أصبح حدّث بما وقع ، فكذّبه أبو جهل والمشركون ، فأخبرهم بما أطّلع عليه من أمور الغيب فلم ينفع » (1).

اعلم أنّ ظاهر الآيات والأخبار ، بل مقتضى الضرورة أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عرج بتمام جسمه الشريف إلى مقام « قاب قوسين أو أدنى » ، ولزوم الخرق والالتئام - مضافا إلى منع امتناعهما فيما دون الفلك الأعظم وهو العرش ؛ لعدم تمام دليل المانع مع غير محدّد الجهات كما بيّن في محلّه ، بل مطلقا ، لعموم قدرة اللّه - غير مانع في المقام ؛ لأنّ المعراج الجسماني معجزة ، وكلّ معجزة لا بدّ من كونها خارقة للعادة ، وكونها مستندة إلى فعل اللّه القادر على ما يشاء ، والفعّال لما يريد ، فاستبعاد ذلك أو اعتقاد خلاف ما ذكر عن العاقل بعيد.

[ ما قاله الشيخ المعاصر في كيفيّته المعراج ]

والعجب أنّ الشيخ المعاصر قال في جواب السؤال عن معراج محمّد صلی اللّه علیه و آله بجسمه من غير لزوم خرق والتئام ، وعن معنى رؤية الأنبياء ، وصلاته بالملائكة ، وصلاة الربّ ، ووقوفه ، ما يخالف ظاهره ذلك حيث قال : « إنّ حقيقة المعراج هو العروج على ظاهره ولا جهل فيه ، وإنّما الجهل في معرفة جسد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وفي معرفة الأفاعيل الإلهيّة ، وفي معرفة الخرق والالتئام.

فنقول : اعلم أنّ اللّه سبحانه خلق قلوب المؤمنين من فاضل طينة جسم محمّد صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته ، والفاضل إذا أطلق في الأخبار وفي عبارات العارفين

ص: 53


1- « تفسير القمّي » 1 : 395 ذيل الآية 1 من سورة الإسراء (17) ؛ « بحار الأنوار » 18 : 319 - 332 ، ح 34. وقد صحّحنا النقل على المصدر.

بالأسرار يراد به الشعاع ، وهي واحد من سبعين ، ممثّلا جسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله قرص الشمس ، وقلوب شيعتهم خلقوا من الشعاع الواقع على الأرض من قرص الشمس ، فإذا عرفت هذا عرفت أنّه يصعد بجسمه ولا يكون خرق ولا التئام.

بقي شيء وهو أنّا نقول : الجسم هو كذلك ، ولكنّه ليس بصورة البشريّة التي تحسّ وهي متّحدة وحكمها حكم سائر الأجسام الجماديّة ، والصعود بها يلزم الخرق والالتئام.

ونجيب بأنّ الصورة البشريّة عند إرادة صعوده يجوز فيها احتمالان في الواقع ، هما سواء في الظاهر : الأوّل أبعد عن العقول ، والآخر أقرب.

فالأوّل : أنّ الصاعد كلّما صعد ألقى منه عند كلّ رتبة منها ، مثلا إذا أراد تجاوز كرة الهواء ألقى ما فيه من الهواء فيها ، وإذا أراد تجاوز كرة النار ألقى ما فيه منها فيها ، وإذا رجع أخذ ماله من كرة النار ، فإذا وصل الهواء أخذ ماله من الهواء.

لا يقال على هذا : إنّ هذا قول بعروج الروح خاصّة ؛ لأنّه إذا ألقي ما فيه عند كلّ رتبة لم يصل إلاّ الروح.

لأنّا نقول : إنّا لو قلنا بذلك فالمراد بها أعراض ذلك ؛ لأنّ ذوات ذلك لو ألقاها بطلت نبيّته ، ونبيّته باقية لا تنقل ، وإنّما مرادنا الجسم بالنسبة إلى عالم الكون ، وإلاّ فهو على ما هو عليه من التجسّد والتخطيط.

والثّاني : أنّ الصورة البشريّة التي هي المقدار والتخطيط تابعة للجسم في لطافته وكثافته ، فإنّ الملك مثل جبرئيل إذا رجع في صورة البشر كصورة دحية بن خليفة الكلبي يخرج بقدر دحية ، مع أنّه يملأ ما بين السماء والأرض ، ولو شاء حينئذ من في ثقب الإبرة وأصغر ؛ لأنّ الأجسام اللطيفة النورانيّة تكون بحكم الأرواح وإلاّ لا تزاحم فيها ولا تضايق ، ولهذا يبلغ المعصوم علیه السلام من مشرق الدنيا إلى مغربها في أقلّ من طرفة عين ولا يستغربه السامع ، وهذا هو ذلك بعينه ، فافهم.

وأمّا معرفة الأفاعيل الإلهية فلأنّه إنّما توهّم من توهّم من جهة أنّ العالم على

ص: 54

وضع واحد لو اختلّ النظام ، فإذا خرق حصلت حال مروره فرجة بانحباس من الأجزاء المختلفة ، فإذا وقف وقفت أجزاء الفلك ، على أنّه لا فرجة فيه ولا يمكن تخلّل أجزائه ولا تلزمها فأين تذهب أجزاء الفرجة المفروضة؟

ومع هذا كلّه فيلزم فساد النظام ، والالتئام إنّما يكون بانبساط الأجزاء إلى الفرجة ولا يكون ذلك إلاّ مع التخلّل والرفق ولا يمكن فيه ذلك ، وأمثال ذلك. وهذا جار على حسب أفاعيل العباد.

وأمّا الأفاعيل الإلهيّة - على تقدير تسليم امتناع الخرق والالتئام - فنقول على ظاهر العبارة : إنّ المعراج معجز والمعجز يجري فيه ما لا يجري في العادة وفيما نعرفه ، فيجوز أنّ الأجزاء التي يقدر جسمه الشريف حال عروجه فنيت في بقاء جسمه - كما فنيت الحبال والعصا في جسم عصا موسى - وكان جسمه الشريف قائما مقامها في إمداد العالم السفلي من أحكام الحياة في سماء الدنيا ، والفكر في الثانية ، والخيال في الثالثة ، والوجود في الرابعة ، والوهم في الخامسة ، والعلم في السادسة ، والعقل في السابعة ، والصور في الثامنة ، والتسخير والتقدير في التاسعة ، بحيث لا تفقد قوّة منها ؛ لأنّ جسده هو علّة هذه الأسباب فهو أقوى منها قطعا ، وكلّما تعدّى شيئا رجع ما فرّ منه بحيث لا يحصل خرق ولا التئام ، ويكون في سيره في ذلك كلّه موازيا للخطوط الخارجة عن مركز العالم إلى المحيط بها في كلّ ذلك ، فيدور معها على التوالي ، ولو قلنا : إنّه يسير على خطّ مستقيم جاز وكان ما اعترضه من الأجزاء - التي يكون اصطفافها بالنسبة إلى خطّ سيره المستقيم صوريّا - يكون مستهلكا في بقائه ، وعائدا بعد تجاوزه كما مرّ على حدّ واحد.

ولمّا كان جسده الشريف علّة لوجود جميع الأجساد ، وجسمه علّة لجميع الأجسام ، كان محيطا بجميعها فلا يكون منها جزءا إلاّ هو محيط به ، فكان صلی اللّه علیه و آله في عروجه محيطا بجميع الأجسام والأرواح والنفوس والعقول ؛ لأنّ عقله علّة العقول ، وروحه علّة الأرواح ، ونفسه علّة النفوس إحاطة المنير بأشعّته ، فمرّ في عروجه

ص: 55

بكلّ شيء ورأى كلّ شيء ، كلاّ في رتبته ؛ لأنّ من غلب عليه الوهم - مثلا - رآه في السماء الخامسة ، ومن غلب عليه العلم رآه في السماء السادسة ، ومن غلب عليه العقل رآه في السماء السابعة.

ومعنى صلاته بالملائكة صلاة الظهر - وهو إنّما عرج بالليل - : لأنّ عروجه على سمت بدء الوجود والشمس قائمة على قمّة الرأس في التاسع عشر من برج الحمل والسرطان طالع الدنيا ، فأوّل ما تحرّك الفلك وجب فرض الظهر وهو أوّل صلاة صلاّها.

فإن قلت : كيف تكون هذه أوّل صلاة صلاّها وهو إنّما عرج إلى السماء بعد النبوّة بسنتين؟

قلت : هذا في الزمان ، والتي صلاّها ليلة المعراج في الدهر ، وذلك قبل خلق الأجسام بألفي عام ، وليلة المعراج عرج صلّى اللّه عليه

وآله في السماء بجسمه ، وفي السرمد بروحه بعروج واحد ، وصلّى بالملائكة في الدهر وسبغ الوضوء من « صاد » وهو بحر تحت العرش ، وعروجه إنّما كان في الليل بجسده. وأمّا في جسمه الشريف فهو في النهار وقبل الزوال بقليل قدر ألفي عام.

واعلم أنّ هذا الجواب ما يمكن بيانه لكلّ أحد ، ومن يجوز البيان له لا يكفي له ما ذكر ، بل لا بدّ من المشافهة ؛ لأنّ الفرق بين الزمان والدهر ممّا انسدّ بابه عن فحول العلماء وإن عبّروا عنه بعبارة حسنة مأثورة عن الوصيّ ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

ومعنى صلاة الربّ أنّ الاسم « المربّي » له ، الذي هو روح العقل الأوّل وهو اسم « اللّه » البديع لقيه في أعلى مراتبه ، وهو مقام « أو أدنى » فلك الولاية المطلقة وهو يصلّي لله.

ومعنى آخر : يصل ما أمر اللّه به أن يوصل ، يصل الولاية بالنبوّة. ومعنى آخر : يصل الولاية بالألوهيّة ، فهو من « الصلة » أو من « الوصل » أو هما معا.

ومعنى صلاته يقول : « سبّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة والروح ، سبقت رحمتي

ص: 56

غضبي » (1). وكان محمّد صلی اللّه علیه و آله واقعا في انقطاع سيره واتّصاله بذلك الربّ ، فكان بينهما حجاب النفس المطمئنّة حجاب من زبرجد ، وإن أريد بالربّ هذه الكلمة التي انزجر لها العمق الأكبر وهي المشيئة جاز ؛ لأنّ الاسم البديع هو كينونيّة هذه الكلمة وهو الماء الأوّل ، وهذه الكلمة هي السحاب المتراكم الثقال.

وإن أريد به المعبود بالحقّ سبحانه فمعنى « فصلّى » : يفيض الرحمة التي هي صفة الرحمن وهي التي وسعت كلّ شيء ، والتي هي صفة الرحيم وهي الرحمة المكنونة للمؤمنين ؛ ولهذا قال في الحديث ما معناه : « من لأمّتك يا محمّد ، من بعدك؟

قال : اللّه أعلم. قال - : عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (2) و(3).

أقول : لا يخفى أنّ مقتضى كلماته السابقة عروج الجوهر النوري المكنون الكامن في هذا الجسم كما هو مذهبه في المعاد كما سيأتي ، ومقتضى كلماته اللاحقة تداخل الأجسام ، الفلكيّة في جسده صلی اللّه علیه و آله وكونه علّة فاعليّة للأفلاك.

وما أدري أيّ داع دعاه إلى مثل ذلك التأويل في الظواهر والخروج عن الظاهر ، بل عن اعتقاد المسلمين الموجب للخروج عن الدين؟ وما أدري أنّه بأيّ آية ، وبأيّ حديث ، وبأيّ دليل يقول ما يقول؟!! إذ قال اللّه تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (4) مع أنّ من قال بامتناع الخرق والالتئام قال بامتناع تداخل الأجسام ، مع اعتراف بعضهم باختصاص دليل امتناع الخرق والالتئام - لو تمّ - بالفلك الأطلس ، فالقول بدخول أجزاء الأفلاك في جسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله من غير تفاوت في حجمه وتداخل ، ممتنع عندهم.

فإن قلت : إنّ ذلك من باب الإعجاز.

ص: 57


1- « الكافي » 1 : 442 - 443 ، باب مولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ووفاته ، ح 13.
2- المصدر السابق.
3- الظاهر أنّ العبارة من ص 53 إلى هذا - بطوله - للشيخ المعاصر.
4- يونس (10) : 59.

قلت : الخرق والالتئام أيضا من باب الإعجاز ، فلأيّ داع تقول بأحدهما وتنكر الآخر؟!! مع أنّ الخالق الذي خلق الأفلاك من العدم ، وجعلها فتقا بعد الرتق قادر على خرقها والتئامها ، إلى غير ذلك من المفاسد.

وثانيا : (1) أنّ نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله أفضل المرسلين وخاتم النبيّين ، وأنّه لا نبيّ بعده ، وأنّ دينه باق إلى يوم الدين - كما هو اتّفاق جميع أهل الملل - وإن وقع الخلاف في تعيين ذلك الخاتم.

ووجه ذلك أنّ ختم النبوّة ما ادّعاه النبيّ الذي ثبت نبوّته ، وكلّ ما هو كذلك فهو حقّ. وكما قال تعالى : ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (2).

فإن قلت : الآية تدلّ على ختمه على قراءة من قرأ خاتم النبيّين - بكسر التاء - كما عن غير عاصم ، وأمّا على قراءة فتح التاء - كما عن عاصم ، وهي ممّا تداول بين أهل الشرع - فلا ؛ لأنّ الخاتم - بفتح التاء - اسم لما يجعل في الاسم أو ما يختم به المكتوب فيكون من باب التشبيه البليغ ، ويكون وجه الشبه ما هو من خواصّ المشبّه به كالزينة فلا تكون الآية على هذا دالّة على كونه صلی اللّه علیه و آله آخر النبيّين كما هو المدّعى.

قلت أوّلا : إنّ خاتم النبيّين - بفتح التاء - مفسّر بآخر النبيّين.

وثانيا : إنّ من خواصّ المشبّه به كونه محيطا للفصّ (3) والإصبع بقدره ، فيستفاد كونه محيطا ؛ لكونه أوّل النبيّين ميثاقا وآخرهم مبعثا ، أو محيطا لعلوم جميع النبيّين وأخلافهم كما في قوله تعالى : ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (4) فيكون أفضل ، فيجب كونه ناسخا

ص: 58


1- مرّ الأوّل في صفحة 50 « والحاصل أوّلا ».
2- الأحزاب (33) : 40.
3- كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : « كالفصّ ».
4- الأنعام (6) : 90.

لا منسوخا ؛ حذرا عن ترجيح المرجوح.

وثالثا : إنّ بعض المفسّرين جعل خاتم النبيّين ختم النبوّة. وعن الرضا علیه السلام أنّه قال : « قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : خلق اللّه عزّ وجلّ مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبيّ أنا أكرمهم على اللّه ، ولا فخر ، وخلق اللّه عزّ وجلّ ألف وصيّ وأربعة وعشرين ألف وصيّ فعليّ أكرمهم وأفضلهم » (1).

روي عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه : قال : « لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل » (2).

مضافا إلى قوله تعالى : ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (3) ، وقوله تعالى : ( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (4) ، واقتضاء ختم النبوّة الأفضليّة كما لا يخفى.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوى عليه يدلّ على ثبوته ) يعني أنّ نبيّنا محمّدا صلی اللّه علیه و آله ادّعى النبوّة واقترن بدعواه ظهور المعجزة ، وكلّ من كان كذلك كان نبيّا ؛ لما بيّنّا آنفا.

أمّا أنّه ادّعى النبوّة ؛ فللتواتر. وأمّا أنّه أظهر المعجزة ؛ فلأنّه أتى بالقرآن وهو معجز. وأمّا أنّه أتى بالقرآن ، فللتواتر.

وأمّا أنّه معجز ؛ فلأنّه صلی اللّه علیه و آله تحدّى به ودعا إلى الإتيان بسورة من مثله مصاقع (5) البلغاء والفصحاء من العرب العرباء - مع كثرتهم كثرة رمال الدهناء ، وحصى البطحاء وشهرتهم لغاية العصبيّة ، ولحميّة الجاهليّة وتهالكهم على المباهاة والمباراة - فعجزوا حتّى آثروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف ، وبذلوا المهج والأرواح

ص: 59


1- « الخصال » : 641 ، ح 18 و 19 ؛ « بحار الأنوار » 11 : 30 ، ح 21.
2- « بحار الأنوار » 79 : 243 باب علل الصلاة ... ذيل ح 1.
3- الأنعام (6) : 90.
4- القلم (68) : 4.
5- مفردها « مصقع » وهو الشخص البليغ الذي لا يرتج في كلامه.

دون المدافعة بالأبدان والأشباح ، فلو قدروا على المعارضة لعارضوا ، ولو عارضوا لنقل إلينا ؛ لتوفّر الدواعي وعدم الصارف ، والعلم بجميع ذلك قطعي كسائر العاديّات لا يقدح فيها احتمال أنّهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها ، أو عارضوا ولم ينقل إلينا لمانع كعدم المبالاة والاشتغال بالمهمّات.

وإلى هذا أشار بقوله : ( والتحدّي مع الامتناع وتوفّر الدواعي يدلّ على الإعجاز ) وأيضا أتى بأمور أخر خارقة للعادة بلغت كلّها حدّ التواتر وإن كانت تفاصيلها من الآحاد.

وإلى هذا أشار بقوله : ( والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده.

وإعجاز القرآن قيل : لفصاحته ، وقيل : لأسلوبه وفصاحته معا ، وقيل : للصرفة ، والكلّ محتمل ).

الجمهور على أنّ إعجاز القرآن لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم ، وعلماء الفرق بمهارتهم في فنّ البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام.

والمراد بالفصاحة في عبارة المتن ما هو أعمّ منها ، ومن البلاغة وإطلاقها على هذا المعنى شائع.

وقال بعض المعتزلة : إعجازه لأسلوبه الغريب ونظمه العجيب المخالف لما عليه كلام العرب في خطبهم والرسائل والأشعار.

وقال القاضي الباقلاني وإمام الحرمين : إنّ وجه الإعجاز هو اجتماع الفصاحة مع الأسلوب المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لأحدهما ؛ إذ ربما يدّعى أنّ بعض الخطب والأشعار في كلام أعاظم البلغاء لا ينحطّ عن جزالة القرآن انحطاطا [ القرآن ] (1) انحطاطا بيّنا قاطعا للأوهام ، وربما تفيد نظم ركيك يضاهي نظم

ص: 60


1- الزيادة أضفناها من المصدر.

القرآن على ما روي من ترّهات مسيلمة الكذّاب : الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل.

وذهب النظّام ، وكثير من المعتزلة ، والمرتضى من الشيعة إلى أنّ إعجازه بالصرفة ، وهي أنّ اللّه تعالى صرف همم المتحدّين عن معارضته مع قدرتهم عليها ؛ وذلك إمّا بسلب قدرتهم ، أو بسلب دواعيهم.

واحتجّوا بوجهين :

الأوّل : أنّا نقطع بأنّ فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلّم مثل مفردات السورة ومركّباتها القصيرة مثل : الحمد لله ، ومثل : ربّ العالمين ، وهكذا إلى الآخر ، فيكونون قادرين على الإتيان بمثل السورة.

والثاني : أنّ الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقّفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقات ، وابن مسعود قد بقي متردّدا في الفاتحة والمعوّذتين ، ولو كان نظم القرآن معجزا لفصاحته لكان كافيا في الشهادة.

والجواب عن الأوّل : أنّ حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء ، وهذه بعينها شبهة من نفى قطعيّة الإجماع والخبر المتواتر ، ولو صحّ ما ذكر لكان كلّ من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصائد فصحائهم كامرئ القيس وأقرانه ، واللازم قطعي الدلالة (1).

وعن الثاني بعد صحّة الرواية وكون الجميع بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا في زمانه وكون كلّ سورة مستقلّة بالإعجاز - أنّ ذلك للاحتياط والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخلّ بالإعجاز ، وأنّ إعجاز كلّ سورة ليس ممّا يظهر لكلّ أحد بحيث لا يبقى له تردّد أصلا.

واستدلّ على بطلان الصرفة بوجوه :

الأوّل : أنّ فصحاء العرب إنّما كانوا يتعجّبون عن حسن نظمه وبلاغته وسلاسته

ص: 61


1- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « البطلان » بدل « الدلالة ».

في جزالته ، ويرقصون رءوسهم عند قوله تعالى : ( يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ ) (1) لذلك ، لا لعدم تأتّي المعارضة مع سهولتها في نفسها.

الثاني : أنّه لو قصد الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلوّ طبقته ؛ لأنّه كلّما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة ، كان عدم تيسّر المعارضة أبلغ في خرق العادة.

الثالث : قوله تعالى : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (2) فإنّ ذكر الاجتماع والاستظهار بالغير في مقام التحدّي إنّما يحسن فيما لا يكون مقدورا للبعض ، ويتوهّم كونه مقدورا للكلّ فيقصد نفي ذلك.

( والنسخ تابع للمصالح ). إشارة إلى ردّ ما قال اليهود من إبطال نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله من أنّ شريعة موسى مؤبّدة ؛ لأنّ النسخ باطل ؛ لأنّ المنسوخ إن كان متضمّنا لمفسدة كان إعماله قبيحا ، وإن لم يكن متضمّنا لمفسدة لكان رفعه قبيحا ، وإذا بطل النسخ يلزم أن تكون شريعة موسى مؤبّدة فيلزم بطلان شريعة محمّد صلی اللّه علیه و آله ؛ لكونها ناسخة شريعة موسى علیه السلام . تقرّر الردّ بناء على قول المعتزلة : إنّ الأحكام تابعة للمصالح ، وهي مختلفة بحسب الأشخاص والأوقات.

وأكدّ جواز النسخ ببيان وقوعه ، فقال : ( وقد وقع حيث حرّم على نوح بعض ما أحلّ لمن تقدّم ) فإنّه جاء في التوراة : إنّ اللّه تعالى قال لآدم وحوّاء : قد أحلّ لكما كلّ ما دبّ على وجه الأرض ، وقد حرّم على نوح علیه السلام بعض الحيوانات ( وأوجب الختان ) على الفور على الأنبياء المتأخّرين عن نوح ( بعد تأخيره ) يعني مع إباحة

ص: 62


1- هود (11) : 44.
2- الإسراء (17) : 88.

تأخيره على نوح علیه السلام ( وحرّم الجمع بين الأختين ) في شريعة موسى وشريعة نبيّنا مع إباحته في شريعة آدم ونوح علیهماالسلام وغير ذلك من الأحكام التي نسخت في بعض الأديان.

( وخبرهم عن موسى بالتأييد مختلق ) يعني خبر اليهود عن تأبيد شريعة موسى علیه السلام أي ما روي عن موسى علیه السلام أنّه قال : تمسّكوا بالسبت ما دامت السماوات.

ودوام السبت يدلّ على دوام شريعته مفترى لم تثبت هذه الرواية عن اليهود. وقيل : اختلقه ابن الراوندي. ( ومع تسليمه ) أي تسليم ثبوت هذه الرواية عنهم ( لا يدلّ على المراد قطعا ) لأنّه غير متواتر ؛ لأنّ بخت نصّر استأصلهم وأفناهم بحيث لم يبق منهم عدد التواتر.

( والسمع دلّ على عموم نبوّته صلی اللّه علیه و آله ) أي الدلائل السمعيّة دلّت على أنّه مبعوث إلى الثقلين لا إلى العرب خاصّة على ما زعم بعض اليهود والنصارى ، زعما منهم أنّ الاحتياج إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما كان للعرب خاصّة دون أهل الكتابين ، مثل قوله : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (1). ( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (2). ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ ) (3) الآية. ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (4) ومثل قوله صلی اللّه علیه و آله : بعثت إلى الأسود والأحمر » (5).

وصل : هذا الاعتقاد من أصول الدين ، ومنكره - كاليهود والنصارى - من الكافرين ، ومع التقصير في النار خالدين.

ص: 63


1- سبأ (34) : 28.
2- الأعراف (7) : 158.
3- الجنّ (72) : 1.
4- التوبة (9) : 33.
5- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 261 - 263. والحديث رواه المجلسي في « بحار الأنوار » 16 : 308.

الفصل الخامس : أنّ نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين ، بل أفضل المخلوقين حتّى الملائكة المقرّبين

اشارة

وله لهذا إذن شفاعة العاصين في يوم الدين كما يستفاد من الكتاب المبين.

اعلم أنّ مذهبنا أفضليّة الأنبياء - بل الأئمّة كما هو ظاهر بعض الأخبار - على الملائكة ، وعن بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة القول بالعكس (1).

والحقّ هو الأوّل ، سواء قلنا بكون الملائكة أجساما لطيفة ، أو جواهر مجرّدة متعلّقة بالأجسام أو غير متعلّقة ؛ لأنّ النفوس الناطقة إذا صارت مهذّبة وكملت في قوّتيها العلميّة والعمليّة مع وجود ما يضادّ ، والقوّة العقليّة من الشهويّة والغضبيّة وشواغل الحواسّ الظاهرة والباطنة مع كونها بالذات مجرّدة ، حصلت لها المراتب العالية بسبب الرياضات البدنيّة والمجاهدات النفسانيّة ، فتكون أشدّ استحقاقا للمدح بالنسبة إلى من يكون علمه فطريّا وليس له داع إلى المخالفة ، وليس له تلك الرياضات والمجاهدات أضعافا مضاعفة بحسب كثرة المجاهدات في كسب العلم والعمل ، وقلّتها ، وهو المعني من الأفضليّة ، وكون العقول المجرّدة غير المتعلّقة

ص: 64


1- انظر « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 363.

بالأجسام أقرب إلى المبدإ من حيث الوجود والوساطة في الغلبة.

وكونها أشرف من هذه الجهة لا ينافي ما ذكرنا ؛ إذ الفضل غير الشرف ، مضافا إلى أنّ النفس الناطقة لمّا كانت بحسب الفطرة قابلة للترقّيات يمكن أن يحصل لها شرف أعلى من شرفهم فتجمع بين الكمال الشرفي والفضلي ، وتصير قابلة لإفاضته الفيض بلا واسطة كما روي أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل » (1).

فنقول : إنّ للأنبياء مع وجود المانع كمالا يكون للملائكة مع عدمه ، وكلّ من كان له مع المانع كمال يكون للآخر بلا مانع ، يكون أفضل من ذلك الآخر ، فيكون الأنبياء أفضل من الملائكة.

ويدلّ عليه أمر الملائكة بالسجود لآدم علیه السلام وتعليم آدم لهم ، وما يكون مقتضاه اصطفاء الأنبياء على العالمين الذين يكون الملائكة منهم لأفضليّة المسجود له من الساجدين - وإلاّ يلزم القبح - وأفضليّة المعلّم من المتعلّم والمصطفى من غيره.

وأقوى الأدلّة المنقول عن المخالف أنّ العقول المجرّدة فيّاضة للعلوم والكمال على النفوس الناطقة ، والمفيض أفضل من المستفيض بالضرورة ، وقوله تعالى : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) (2) ؛ إذ المراد منه جبرئيل علیه السلام فإذا كان جبرئيل معلّما لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله يكون أفضل منه.

والجواب عن الأوّل : منع كونها مفيضة ، بل هي واسطة لإفاضة اللّه تعالى - على تقدير تسليم وجودها - وأفضليّة الواسطة من المستفيض ممنوعة.

وعن الثاني : أنّ المراد من التعليم هو التبليغ ، لصراحة الآيات الأخرى أنّ روح الأمين كان منزّلا للقرآن على قلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأفضليّة المبلّغ من المبلّغ إليه

ص: 65


1- « بحار الأنوار » 79 : 243 باب علل الصلاة ... ح 1.
2- النجم (53) : 5.

ممنوعة ؛ إذ الأمر كثيرا ما يكون بالعكس ، بخلاف تعليم آدم فإنّه على حقيقته الموجبة لظهور استحقاق آدم لكونه خليفة في الأرض ؛ إذ لا يظهر ذلك إلاّ على تقدير كونه كذلك كما لا يخفى ؛ ولهذا ورد في الخبر في بيان قوله تعالى : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) (1). « واللّه هي الشفاعة » (2). إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الدالّة على تحقّق إذن الشفاعة والعفو بها ؛ لقوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (3). ونحوه ، خلافا للوعيديّة القائلين بلزوم الوعيد على اللّه تعالى وعدم تحقّق العفو في مقابل النصّ.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه اللّه مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( وهو أفضل من الملائكة ، وكذا غيره من الأنبياء ؛ لوجود المضادّ للقوّة العقليّة وقهره على الانقياد عليها ).

ذهب جمهور الأشاعرة (4) إلى أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ، خلافا للحكماء والمعتزلة والقاضي أبي بكر وأبو عبد اللّه الحليمي منهم ، وصرّح بعضهم بأنّ عوامّ البشر من المؤمنين أفضل من عوامّ الملائكة ، وخواصّ الملائكة أفضل من عوامّ البشر ، واختار المصنّف مذهب الأشاعرة ؛ تمسّكا بأنّ للبشر أمورا متضادّة للقوّة العقليّة ، وشواغل عن الطاعات العلميّة والعلميّة كالشهوة والغضب ، وسائر الحاجات الشاغلة والموانع الخارجة والداخلة. والمواظبة على العبادات وتحصيل الكمالات بالقهر والغلبة على ما يضادّ القوّة العقليّة تكون أشقّ وأبلغ في استحقاق الثواب ، ولا معنى للأفضليّة سوى زيادة استحقاق الثواب والكرامة.

وقد يتمسّك بوجوه نقليّة :

ص: 66


1- الضحى (93) : 5.
2- أورده الطبرسي في « مجمع البيان » 10 : 505 ذيل الآية 5 من سورة الضحى.
3- البقرة (2) : 255.
4- لمعرفة التفاصيل حول هذا المبحث راجع « اللوامع الإلهيّة » : 297 ، اللامع العاشر في النبوّة.

منها : أنّ اللّه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم علیه السلام والحكيم لا يأمر بسجود الأفضل للأدنى ، وإباء إبليس معلّلا بأنّه خير من آدم ؛ لكونه من نار وآدم من طين (1) يدلّ على أنّ المأمور به كان سجود تكرمة وتعظيم لا سجود تحيّة وزيارة.

ومنها : أنّ آدم علیه السلام علّمهم الأسماء ، والمعلّم أفضل من المتعلّم ، وسوق الآية ينادي على أنّ الغرض إظهار ما خفي عليهم من أفضليّة آدم ؛ ولذا قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (2) وبهذا يندفع ما يقال : إنّ لهم أيضا علوما جمّة أضعاف العلم بالأسماء ؛ لما شاهدوا من اللوح المحفوظ وحصّلوا في الأزمنة المتطاولة بالتجارب والأنظار المتوالية.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) (3). وقد خصّ من آل إبراهيم وآل عمران غير الأنبياء بدليل الإجماع ، فيكون آدم ونوح وجميع الأنبياء مصطفين على العالمين الذين منهم الملائكة ؛ إذ لا مخصّص للملائكة من العالمين ، ولا جهة لتفسيره بالكثير من المخلوقات.

واحتجّ المخالفون أيضا بوجوه نقليّة وعقليّة :

أمّا النقليّات :

فمنها : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) (4) خصّصهم بالتواضع وترك الاستكبار في السجود ، وفيه إشارة إلى أنّ غيرهم لا يكون كذلك ؛ لأنّ أسباب التكبير والتعظيم حاصلة لهم ، ووصفهم باستمرار الخوف وامتثال

ص: 67


1- إشارة إلى قوله تعالى : ( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) . الأعراف 1. : 11.
2- البقرة (2) : 33.
3- آل عمران (3) : 33.
4- النحل (16) : 49 - 50.

الأوامر ، ومن جملتها اجتناب المنهيّات.

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) (1) ، وصفهم بالقرب والشرف عنده بالتواضع ، والمواظبة على الطاعة والتسبيح.

ومنها : قوله تعالى : ( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) إلى أن قال : ( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (2) ، وصفهم بالكرامة المطلقة ، والامتثال ، والخشية ، وهذه الأمور أساس كافّة الخيرات.

والجواب : أنّ جميع ذلك إنّما يدلّ على فضيلتهم لا على أفضليّتهم سيّما على الأنبياء.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) (3) ؛ فإنّ مثل هذا الكلام إنّما يحسن إذا كان الملك أفضل ، فكأنّه قال : لا أثبت لنفسي مرتبة فوق البشريّة كالملكيّة.

والجواب : أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (4). والمراد قريش استعجلوه بالعذاب تهكّما به وتكذيبا له فنزلت بيانا ؛ لأنّه ليس له إنزال العذاب من خزائن اللّه يفتحها ، ولا يعلم أيضا متى نزل بهم العذاب منها ، ولا هو ملك فيقدر على إنزال العذاب عليهم كما يحكى أنّ جبرئيل قلّب بأحد جناحيه المؤتفكات ، فقد دلّت الآية على أنّ الملك أقدر وأقوى لا على أنّه أفضل من البشر.

ومنها : قوله تعالى : ( ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ) (5) ، أي

ص: 68


1- الأنبياء (21) : 19 - 20.
2- الأنبياء (21) : 26 - 28.
3- الأنعام (6) : 50.
4- الأنعام (6) : 49.
5- الأعراف (7) : 20.

إلاّ لكراهة أن تكونا ملكين [ أو تكونا من الخالدين ] (1) يعني أنّ الملكيّة بالمرتبة الأعلى وفي الأكل من الشجرة ارتقاء إليها.

والجواب : أنّهما رأيا الملائكة أحسن صورة وأعظم خلقا وأكمل قوّة فمنّاهما مثل ذلك وخيّل إليهما أنّه الكمال الحقيقي والفضيلة المطلوبة ، ولو سلّم فغايته التفضيل على آدم قبل النبوّة.

ومنها : قوله : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) (2) ، أي لا يترفّع عيسى علیه السلام عن العبوديّة ولا من هو أرفع منه درجة ، كقولك : لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان ولو عكست لأخللت.

والجواب : أنّ الكلام سيق لردّ مقالة النصارى وغلوّهم في المسيح ، وادّعائهم فيه مع النبوّة البنوّة ، بل الألوهيّة والترفّع [ عن العبوديّة لكونه روح اللّه ولد بلا أب ، ولكونه يبرئ الأكمه والأبرص ، ولا يترفّع ] (3) عيسى عن العبوديّة ، ولا من هو فوقه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أمّ يقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى ، ولا دلالة على الأفضليّة بمعنى كثرة الثواب وسائر الكمالات.

ومنها : اطّراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء والرسل ، ولا تعقل له جهة سوى الأفضليّة.

والجواب : أنّه يجوز أن يكون لجهة تقدّمهم في الوجود ، أو في قوّة الإيمان بهم ، فإنّ وجود الملائكة أخفى فالإيمان بهم أقوى ، فيكون تقديم ذكرهم أولى.

وأمّا العقليّات :

فمنها : أنّ الملائكة روحانيّة مجرّدة في ذواتها متعلّقة بالهياكل العلويّة ، مبرّأة عن

ص: 69


1- هذه العبارة لم ترد في « شرح القوشجي ».
2- النساء (4) : 172.
3- الزيادة أضفناها من « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 264.

الشهوة والغضب اللذين هما مبدأ الشرور والقبائح ، متّصفة بالكمالات العلميّة والعمليّة بالفعل من غير شوائب الجهل والنقص ، والخروج من القوّة إلى الفعل على التدريج ومن احتمال الغلط ، قويّة على الأفعال العجيبة وإحداث السحب الزلازل وأمثال ذلك ، مطّلعة على أسرار الغيب ، سابقة إلى أنواع الخيرات ، ولا كذلك حال البشر.

والجواب : أنّ ذلك مبنيّ على قواعد الفلسفة دون الملّة.

ومنها : أنّ أعمالهم المستوجبة للمثوبات أكثر ؛ لطول الزمان ، وأدوم ؛ لعدم تخلّل الشواغل ، وأقوم ؛ لسلامتها عن مخالطة المعاصي المنقّصة للثواب.

والجواب : أنّ هذا لا يمنع كون الأنبياء أفضل وأكثر ثوابا بجهات أخر كقهر المضادّ والمنافي ، وتحمّل المتاعب والمشاقّ ونحو ذلك على ما مرّ » (1).

وصل : هذا الاعتقاد من أصول المذهب الجعفريّ ، ومنكره - كالوعيديّة القائلين بلزوم الوعيد وعدم العفو بنحو الشفاعة (2) - خارج عن المذهب.

تذنيبات :

[ التذنيب ] الأوّل : [ في فرق المسلمين ]

أنّه قد روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار » (3).

بيان ذلك : أنّ أولاد آدم علیه السلام كانوا على شريعته إلى أنّ إدريس علیه السلام نشر العلوم العقليّة والرياضيّة بطريق المكاشفة والإشراق ، ومن الآخذين منه بوسائط : ثاليس والكساغورس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون. وحيث كان التعليم والتعلّم حينئذ

ص: 70


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 363 - 365.
2- انظر « الملل والنحل » 1 : 114.
3- « الخصال » : 585 ، ح 11 ؛ « بحار الأنوار » 28 : 4 ، ح 3.

على سبيل الإشراق من غير ميزان للأفكار وقع الخطأ والاختلاف بين الفلاسفة ، إلاّ أنّ المعلّم الأوّل - أرسطو - وضع المنطق ؛ ليكون ميزانا للأفكار ، وأسّس أساس تدوين الكتب وترتيب المسائل والتعليم البياني ، وحصّل منه الرواقيّون الآخذون منه في المجلس ، والمشّاءون الآخذون منه لعدم الفرصة عند المشي ، وعند ذلك حصل بقراط وأقليدس وبطليموس ، وذيمقراطيس وأمثالهم من الحكماء ، وهم اختلفوا في العقائد ووضعوا بحسب معتقداتهم مذاهب من غير اعتقاد بنبيّ من الأنبياء ، وهم أرباب النحل التابعون لآرائهم المتفرّقون إلى السوفسطائي الذي لا يقول بالمعقول والمنقول ، بل هو قائل بالوهم ، والطبعيّين الذين لا يقولون بالمعقول ، ويقولون لا عالم سوى المحسوس ، كالدهريّة ، والفلاسفة الذين يقولون بالمعقول والمحسوس وبالمبدإ دون الشريعة.

وأمّا أرباب الملل فهم قائلون بالنبوّة ، وتابعون لنبيّ من الأنبياء ، ومعتقدون بشبه كتاب كالمجوس ، أو بكتاب من كتب اللّه تعالى ، كاليهود والنصارى والمسلمين.

والمسلمون افترقوا إلى أهل السنّة. القائلين بخلافة أبي بكر ، وكون عليّ علیه السلام خليفته في المرتبة الرابعة ، وإلى الناصبي المبغوضون له ، وإلى الغلاة القائلين بالهيئة ، وإلى الشيعة القائلين بكونه خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحقّ بلا فصل ، بالعقل والنقل.

والشيعة افترقوا على ستّ عشرة فرقة :

الأولى : الكيسانيّة ، القائلون بإمامة محمّد بن الحنفيّة.

الثانية : المختاريّة ، العادلون عن الكيسانيّة إلى اعتقاد انحصار الإمامة في عليّ والحسنين علیهم السلام ظاهرا.

الثالثة : الهاشميّة ، القائلون بإمامة هاشم بن محمّد الحنفيّة بعد أبيه.

الرابعة : البيانيّة ، القائلون بإمامة بيان بن سمعان بعد هاشم.

الخامسة : الرزاميّة ، القائلون بإمامة عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس بعد هاشم بحسب الوصيّة ، وهم من أصحاب رزام بن سالم.

ص: 71

السادسة : الزيديّة ، القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين علیه السلام .

السابعة : الجاروديّة ، القائلون بإمامة محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بعد زيد.

الثامنة : السليمانيّة ، من أصحاب سليمان ، القائلون بإمامة عليّ علیه السلام من غير بغض الشيخين مع مذمّة عثمان وطلحة والزبير.

التاسعة : الصالحيّة ، من أصحاب حسن بن صالح ، وهم كالسليمانيّة إلاّ أنّهم توقّفوا في ذمّ عثمان وقالوا بكون العشرة المبشّرة من أهل الجنّة ، وأفضليّة علي علیه السلام .

العاشرة : الواقفيّة ، القائلون بوقوف الإمامة في موسى بن جعفر بن محمّد علیه السلام .

الحادية عشرة والثانية عشرة : فرقتان من الناووسيّة المنسوبين إلى ناووس ، وهم قائلون بوقوف الإمامة في جعفر بن محمّد علیه السلام وكونه حيّا ، وفرقة أخرى قائلون بموته.

الثالثة عشرة : الشميطيّة ، من أصحاب يحيى بن شميط ، القائلون بإمامة جعفر بن محمّد ، وكون المهديّ الموعود من أولاده بلا واسطة.

الرابعة عشرة : الفطحيّة ، القائلون بإمامة جعفر بن عبد اللّه الأفطح.

الخامسة عشرة : الإسماعيليّة ، القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر علیه السلام .

السادسة عشرة : الإماميّة ، القائلون بإمامة عليّ بن أبي طالب علیه السلام وأحد عشر من أولاده إلى المهدي علیه السلام الغائب الذي سيظهر بالنصّ الصحيح ، والعقل الصريح. (1)

وأهل السنّة متفرّقون إلى المعتزلة ، والأشاعرة ، وغيرهما. والمعتزلة متفرّقون إلى اثنتي عشرة فرقة :

[1] إلى الواصليّة من أصحاب واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري ، القائلين بكون صفات اللّه عين ذاته ، والعبد فاعل الخير والشرّ ، وصاحب الكبيرة غير مسلم

ص: 72


1- انظر « الملل والنحل » 1 : 162.

ولا كافر ، وكون أحد الفريقين من أصحاب الجمل وصفّين - لا على التعيين - مخطئا ، [2] وإلى الهذليّة من أصحاب أبي الهذيل ، القائلين باعتباريّة صفات اللّه تعالى ، وكون العبد كاسبا ، وانقطاع الجنّة والنار ، وانحصار الرزق في الحلال. (1)

[3] وإلى النظّاميّة من أصحاب إبراهيم النظّام ، القائلين بجسميّة الروح كماء الورد فيه ، وعدم قدرة اللّه تعالى على الشرّ ، وبالجزء الذي لا يتجزّأ وبالطفرة ، وكون إعجاز القرآن بالإخبار من القرون الماضية لا بالفصاحة ، وبحجّيّة القياس ، والعصيان لا يصير فسقا إلاّ إذا بلغ إلى حدّ النصاب وهو كونه مائتين.

[4] وإلى الخابطيّة من أصحاب محمّد بن خابط ، القائلين بكون حساب الخلق في القيامة إلى عيسى بن مريم علیهماالسلام ، وبالتناسخ والرؤية العقليّة.

[5] وإلى البشيريّة من أصحاب بشير بن معمّر ، القائلين بانحصار الإدراك في السمع والبصر ، وبعدم وجوب الأصلح على اللّه تعالى ، وكون الاستطاعة عبارة عن الصحّة البدنيّة.

[6] وإلى المعمّريّة من أصحاب معمّر بن عباد ، القائلين بانحصار المخلوق في الأجسام وكون الأعراض من معلومات الأجسام مع عدم تناهيها ، وكون الإرادة غير الذات والصفات وعدم نسبة القدم إلى اللّه تعالى.

[7] وإلى المرداريّة من أصحاب أبي موسى عيسى بن صبيح الملقّب بمردار ، القائلين بقدرة الناس على الإتيان بمثل القرآن.

[8] وإلى الثماميّة من أصحاب ثمام بن أشرس ، القائلين بعدم حشر الكفّار والمشركين والزنادقة وأطفال المسلمين ، بل هم كالبهائم يصيرون ترابا ، ويكون الإرادة عين الفعل.

[9] وإلى الهشاميّة من أصحاب هشام بن عمرة ، القائلين بأنّ الإماميّة لا تقع

ص: 73


1- انظر المصدر السابق 1 : 46.

باتّفاق الأمّة ، وبعدم خلق الجنّة والنار.

[10] وإلى الجاحظيّة من أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ ، القائلين بأنّ تحصيل العلوم والمعارف ليس من أفعال العبد ، وبعدم خلود أهل النار.

[11] وإلى الخيّاطيّة من أصحاب أبي الحسن الخيّاط ، القائلين بجواز إطلاق الشيء على المعدوم ، وكون الجوهر والعرض في حال العدم جوهرا وعرضا. (1)

[12] وإلى الجبّائيّة من أصحاب أبي عليّ الجبّائيّ ، القائلين بحدوث الإرادة.

وأمّا سائر أهل السنّة وأهل الضلالة كالغلاة والجبريّة ، القائلين بعدم القدرة للعبد ، وكون كلّ فعل من اللّه ، فهم متفرّقون إلى فرق.

الأولى : الجهميّة ، من أصحاب جهم بن صفوان ، القائلون بحدوث علم اللّه تعالى بالنسبة إلى الحادث ، وعدم الخلود في الجنّة والنار وعدم الاعتبار بالإنكار اللساني بالنسبة إلى العقائد.

الثانية : النجّاريّة ، من أصحاب حسن بن محمّد النجّار ، القائلون بكون اللّه تعالى مريدا للخير والشرّ والنفع والضرر ، وبحضور ذاته تعالى بعينه بمعنى العلم في كلّ مكان.

الثالثة : الضراريّة ، من أصحاب ضرار بن عمرو ، والقائلون بكون الصفات بمعنى نفي الضدّ ، فالعلم بمعنى عدم الجهل وهكذا ، وجواز انقلاب الأعراض بالأجسام ، وجواز توارد العلّتين المستقلّتين في معلول واحد شخصي.

الرابعة : الصفاتيّة ، القائلون بعدم الفرق بين صفات الذات والفعل.

الخامسة : المشبّهة ، القائلون بثبوت اليد والجوارح لله تعالى ، بل جواز المصافحة والملامسة معه تعالى ، ومنهم من قال بأنّه تعالى بكى في طوفان نوح حتّى حصل له الرمد ، ونحو ذلك من ألفاظ الكفر ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا (2).

ص: 74


1- انظر « الملل والنحل » 1 : 53 - 76.
2- المصدر السابق 1 : 86 - 92.

السادسة من الأشاعرة : الكراميّة ، من أصحاب محمّد بن كرام القائلون بالتجسّم والتشبّه وكون اللّه تعالى جالسا على العرش مربّعا ، وقيام الحوادث بذاته تعالى ، وثبوت الإمامة بالإجماع (1).

السابعة : الوعيديّة ، القائلون بالخلود في الجنّة والنار وكون صاحب الكبيرة كافرا وكون أطفال المشركين والزنادقة أهل جهنّم.

الثامنة : المرجئة اليونسيّة من أصحاب يونس بن غيري ، القائلون بجواز تأخير العذاب وعدم إضرار معصية مع الإيمان وعدم نفع طاعة مع الكفر (2).

التاسعة : العبيديّة ، من أصحاب عبيد ، القائلون بكون اللّه تعالى على صورة الإنسان ، وأنّ العبد لو كان موحّدا لم تضرّه معصيته.

العاشرة : الغسّانيّة ، من أصحاب غسّان الكوفي ، القائلون بعدم ضرر معصيته مع معرفة اللّه ورسوله.

الحادية عشرة : الثوبانيّة ، من أصحاب أبي ثوبان ، القائلون بعدم دخول أحد من المؤمنين في النار.

الثانية عشرة : التومنيّة ، من أصحاب أبي معاد التومني ، القائلون بعدم كون السجدة للشمس والقمر كفرا ، بل هو علامة له ، وأنّ قتل النبيّ ليس كفرا لأصل الفعل ، بل الاستخفاف.

الثالثة عشر : الصالحيّة ، من أصحاب صالح بن عمرو ، القائلون بكفاية اعتقاد كون الصانع للعالم في الإيمان وإن كان منكرا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبجواز العمل بالقياس والرأي والاستحسان كما أنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ ومالك بن أنس كانا من تلامذة مولانا الصادق واعتزلا عنه علیه السلام بدعوة المنصور العبّاسيّ بالتطميع الدنيويّ

ص: 75


1- المصدر السابق 1 : 108.
2- المصدر السابق 1 : 114.

فأحدثا مذهبين بالقياس والرأي والاستحسان ، وبعدهما الشافعيّ محمّد بن إدريس من تلامذة مالك ، وأحمد بن حنبل من تلامذة الشافعيّ ، فصارت المذاهب الباطلة أربعة في زمان المنصور (1).

الرابعة عشرة : السبّابيّة ، من أصحاب عبد اللّه السبّاب من الغلاة ، القائلون بحلول الألوهيّة في عليّ علیه السلام وهو المهدي الموعود.

الخامسة عشرة : الكامليّة ، من الغلاة من أصحاب أبي كامل ، القائلون بحلول جزء من الألوهيّة في عليّ علیه السلام وبكفر من ترك بيعته.

السادسة عشرة : العلبائيّة ، من أصحاب علباء بن ذراع ، وبعضهم قائلون بأفضليّة عليّ على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بل كون النبيّ عاصيا من جهة أنّ عليّا علیه السلام بعثه لدعوة الناس إليه فدعاهم إلى نفسه ، وبعضهم قائلون بأنّهما إلهان ، وبعضهم قالوا بألوهيّة آل العباء.

السابعة عشرة : المغيريّة ، من أصحاب المغيرة بن سعد ، القائلون بأنّ عليّا إله أصله من النور ، وعليه تاج من نور ، وحصل من عرقه بحر عذب وأجاج ، فخلق الشمس والقمر ، وخلق المؤمن من البحر العذب والكافر من البحر الأجاج.

الثامنة عشرة : المنصوريّة ، من أصحاب أبي منصور ، القائلون بأنّ عليّا علیه السلام نزل من السماء ثمّ عرج وصافح مع اللّه وهو ابن اللّه.

التاسعة عشرة : الخطّابيّة ، من أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسديّ ، القائلون بألوهيّة عليّ بن جعفر بن محمّد ، وأنّ جعفر بن محمّد إله هذا الزمان.

العشرون : الكيّاليّة ، من أتباع أحمد الكيّال ، القائلون بإلهيّة عليّ علیه السلام ، وكون أحمد الكيّال مهديّا موعودا (2).

الحادية والعشرون : النصيريّة ، القائلون بأنّ اللّه تعالى بعد رسوله صلی اللّه علیه و آله صار

ص: 76


1- المصدر السابق 1 : 140 - 144.
2- المصدر السابق 1 : 174 - 181.

بصورة عليّ علیه السلام وبعده بصورة سائر الأئمّة ، وأنّ عليّا خالق الموت والحياة (1).

الثانية والعشرون : الأزرقيّة ، من الخوارج المتفرّقة إلى أربع وعشرين فرقة من أصحاب نافع بن الأزرق الخارج على الإمام من البصرة القائلون بكفر عليّ علیه السلام وحقّيّة ابن ملجم ، وكفر من فرّ عن الحرب وصاحب الكبيرة ، وجواز نبوّة من كان كافرا ، وعدم جواز التقيّة ونحو ذلك.

الثالثة والعشرون : النجديّة ، من أصحاب نجدة بن عامر ، القائلون بحلّيّة دماء أهل الذمّة وأموالهم ، وجواز التقيّة في الدم والمال ، وجواز القعود عن الحرب.

الرابعة والعشرون : البيهتيّة ، من أصحاب بيهت ، القائلون بجواز الإنكار عن الحلال ، والتفويض وكون أطفال المؤمنين مؤمنين ، وأطفال الكفّار كفّارا.

الخامسة والعشرون : العجاردة ، من أصحاب عبد الكريم بن عجرد ، القائلون بكفر صاحب الكبيرة ، وعدم كون سورة يوسف من القرآن ؛ لعدم كون قصّة العشق فيه جائزا ، وكون أطفال المشركين معهم في النار (2).

السادسة والعشرون : الصلتيّة ، من أصحاب عثمان بن أبي الصلت ، القائلون بعدم كون الأطفال مؤمنين ولا كافرين ، ووجوب تولّي المسلمين والتبرّي عن المشركين. (3)

السابعة والعشرون : الميمونيّة ، من أصحاب ميمون بن ماكان ، القائلون بكون الخير والشرّ من العبد ، وجواز نكاح بنات البنات وبنات أولاد الأخوات ، وعدم كون سورة يوسف من القرآن. (4)

الثامنة والعشرون : الحمزيّة ، من أصحاب حمزة بن أدراك ، وهم كالميمونيّة مع زيادة اعتقاد خلود أطفال المشركين والمخالفين في النار. (5)

ص: 77


1- المصدر السابق 1 : 188.
2- المصدر السابق 1 : 118 - 129.
3- المصدر السابق 1 : 129.
4- المصدر السابق 1 : 130.
5- المصدر السابق 1 : 130.

التاسعة والعشرون : الأطرافيّة ، وهم كالحمزيّة إلاّ أنّهم قالوا بأنّه ليس حرج على الساكنين في أطراف البلاد الذين لم يسمعوا صيت الإسلام. (1)

الثلاثون : الخلفيّة ، من أصحاب خلف الخارجي ، القائلون بكون الخير والشرّ من اللّه. (2)

الحادية والثلاثون : الحازميّة ، من أصحاب حازم بن عليّ ، المتوقّفون في أمر عليّ علیه السلام . (3)

الثانية والثلاثون : الشعيبيّة ، من أصحاب شعيب بن محمّد ، القائلون بخلق الأعمال ، مع شدّة العداوة لعليّ علیه السلام (4).

الثالثة والثلاثون : الثعلبيّة ، من أصحاب ثعلبة ، وهم كالشعيبيّة مع القول بجواز أخذ الزكاة من العبيد. (5)

الرابعة والثلاثون : الأخنسيّة ، من أصحاب أخنس بن قيس ، القائلون بعدم الحكم بإيمان من لم يثبت إيمانه وإن كان من أهل القبلة ، وجواز القتل والسرقة سرّا لا جهرا (6).

الخامسة والثلاثون : المعبديّة ، وهم كالثعلبيّة إلاّ أنّهم قالوا بجواز جعل سهام الصدقة حال التقيّة سهما واحدا (7).

السادسة والثلاثون : المعلوميّة ، القائلون بكون الفعل مخلوق العبد ، وعدم كون الجاهل بأسماء اللّه وصفاته تعالى ولو واحدا مؤمنا (8).

السابعة والثلاثون : المجهوليّة ، الناصبون لعليّ علیه السلام القائلون بأنّ جهل بعض

ص: 78


1- المصدر السابق 1 : 130.
2- المصدر السابق 1 : 130.
3- المصدر السابق 1 : 131.
4- المصدر السابق 1 : 131.
5- المصدر السابق 1 : 131 - 132.
6- المصدر السابق 1 : 132.
7- المصدر السابق 1 : 132.
8- المصدر السابق 1 : 133.

أسماء اللّه تعالى وبعض صفاته غير قادح في الإيمان (1).

الثامنة والثلاثون : الرشيديّة ، من أصحاب الرشيد الطوسيّ ، القائلون بكون الزكاة عشرا؟.

التاسعة والثلاثون : الشيبانيّة ، من أصحاب شيبان بن سلمة ، القائلون بالجبر ، ونفي العلم من اللّه تعالى (2).

الأربعون : المكرميّة ، من أصحاب مكرم العجليّ ، القائلون بكون تارك الصلاة كافرا ، وعدم إيمان السارق والزاني (3).

الحادية والأربعون : الإباضيّة ، من أصحاب عبد اللّه بن إباض ، القائلون بكفر مخالف المذهب وإن كان من أهل القبلة ، وشرك المنافق (4).

الثانية والأربعون : الزيديّة ، القائلون بأنّ اللّه تعالى يبعث رسولا وكتابا في العجم نسخا للشريعة الأحمديّة (5).

الثالثة والأربعون : الحفصيّة ، القائلون بأنّ من عرف اللّه ليس بشرك وإن كان منكرا للرسول والكتاب وارتكب الكبائر (6).

الرابعة والأربعون : الحارثيّة ، وهم كالمعتزلة (7).

الخامسة والأربعون : الأصفريّة ، القائلون بجواز القعود عن حرب غير المشركين ، وجواز قتل أطفال المسلمين والمشركين (8).

ص: 79


1- المصدر السابق 1 : 133.
2- المصدر السابق 1 : 132.
3- المصدر السابق 1 : 133.
4- المصدر السابق 1 : 134.
5- المصدر السابق 1 : 154.
6- المصدر السابق 1 : 135.
7- المصدر السابق 1 : 136.
8- المصدر السابق 1 : 137.

فثبت أنّ المجموع - الستّ عشرة من فرق الشيعة ، والخمس والعشرون من فرق أهل السنّة ، والثمان من فرق الغلاة ، والأربع والعشرون من فرق الخوارج - ثلاث وسبعون فرقة ، والفرقة الناجية منهم الفرقة الإماميّة الاثني عشريّة - القائلون بأنّ اللّه واحد أزليّ ، قديم منزّه عن مشابهة المخلوقات ، عادل حكيم منزّه عن الظلم والقبائح ، خالق للعباد ، قادر على الفعل والترك مع وجوب إرسال الرسل وإنزال الكتب وثواب المطيع عقلا وجواز العفو عن المعاصي ، وكون فعله مع الغرض العائد إلى العباد في المعاد ، وكون الأئمّة معصومين منصوبين اثني عشر - من غير جواز العمل بالقياس والرأي والاستحسان - ومن عداهم من الفرق في النار (1).

وقد ورد « أنّ أمّة موسى افترقوا إحدى وسبعين فرقة ، وأمّة عيسى على اثنتين وسبعين فرقة » (2).

هدانا اللّه تعالى إلى سواء السبيل في أمور الدين ، وحشرنا اللّه مع النبيّ وآله الطاهرين.

[ التذنيب ] الثاني : في دفع الشكوك

المحكيّة عن بعض المبطلين القاصدين لنفي شريعة سيّد المرسلين ، وإنكار نبوّة خاتم النبيّين ممّن هو من أهل عصرنا ، وقد دوّن الكتب والرسائل كثير من العلماء والأفاضل بأمر سلطان زماننا في الأوائل.

اعلم أنّه حكي عن بعض القاصرين من المعاصرين المنكرين لهذه الشريعة إيراد شبهات واهية في نفي النبوّة لنبيّنا عليه آلاف صلاة وتحيّة فينبغي بيانها على وجه الإشارة ، والإشارة على جوابها حذرا عن وقوع الشبهة ، فنقول : إنّها شكوك عديدة :

ص: 80


1- المصدر السابق 1 : 169 - 172.
2- « بحار الأنوار » 28 : 3 - 4 ، ح 2 و 3.

منها : ما يتعلّق بالمعجزة لنفي إعجاز القرآن المستلزم لنفي النبوّة - بناء على انحصار المعجزة فيه - وهو أنّ المعجزة ما يكون خارقا للعادة الإنسانيّة ، فإنّ الغرض منها إفادة كون من أتى بها مبعوثا من اللّه ، وذلك لا يكون إلاّ بكون العمل فوق طوق كلّ البشر ، وخارقا لعادة كلّي الإنسان ، بأن لا يقدر أحد من أفراده [ قادرا ] (1) على الإتيان بمثله بنفسه ولو بالكسب ونحوه حتّى يتميّز عن السحر وغيره ممّا لا يكون أمرا عجيبا واقعيّا ، كأن يكون خياليّا بالتصّرف في الحسّ المشترك ، أو كان ولم يكن خارقا للعادة ، كأن يكون ذا سبب أرضيّ أو سماويّ ، أو مركّب خفي كإلقاء الزئبق في الحبل الأجوف ، أو لم يكن مقترنا بادّعاء النبوّة الممكنة ، أو الإمامة الممكنة على وجه المطابقة ، كإحياء الموتى الصادر عن عيسى ، فإنّه لا يمكن أن يكون بالطبّ ونحوه من الكسب والتدبير ، بل هو بمجرّد التكلّم بالإرادة وتصديق اللّه ، بخلاف القرآن فإنّه ادّعى كلّ واحد من العرب الإتيان بمثله ولا أقلّ من عدم العلم بعجز كلّ فرد من أفراد الإنسان من الإتيان بمثله من جهة البلاغة.

والجواب - مضافا إلى أنّها شبهة في مقابل البديهة ، وإنكار للضرورة ، ومغالطة وسفسطة - أوّلا : منع انحصار معجزة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله في القرآن ؛ لتظافر صدور معجزات أخر كإحياء الموتى ، وشقّ القمر ، والمعراج الجسمانيّ ، والإتيان بالشجر ، وحنين الجذع ، وتصحيح الأعور ، ونحوها ممّا ثبت بالنقل المعتبر كما لا يخفى على المتتبّع المستبصر.

وثانيا : أنّ فصحاء قحطان وبلغاء عدنان وغيرهم من العرب العرباء ، وأمثالهم من البلغاء - مع كمال عداوتهم وحرصهم على إبطال ما كان نبيّنا صلی اللّه علیه و آله يدّعيه وتحدّيه بإتيان سورة من مثله - عجزوا عن المقابلة بالحروف ، وبدّلوها بالمقاتلة بالسيوف ، واختاروا ارتكاب المشقّة ، وإتلاف أموالهم وأنفسهم ، وإلقائهم في التهلكة.

ص: 81


1- كذا في الأصل ، والأولى حذفها.

ولا يخفى أنّ ذلك يوجب حصول العلم القطعي بعجز الكلّ عن المعارضة ، وكون القرآن منزلا من عند اللّه على سبيل المعجزة ، ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا كما لا يخفى على من له أدنى بصيرة ؛ فإنّ إتيان الأمّي - الذي لم يكن كثير المعاشرة مع العلماء - بكلام لم يقدر أحد على الإتيان بمثله مع كمال الفصاحة وحرصهم على المعارضة - مضافا إلى اشتماله على المصالح والمحاسن والخصائص الكثيرة - لا يكون إلاّ على وجه المعجزة بلا شبهة ، سواء كان العجز من جهة علوّ المرتبة في الفصاحة والبلاغة ، أو من جهة تعجيز اللّه عن الإتيان بالمثل عند إرادة المعارضة.

قد يقال - مضافا إلى المعارضة بالمثل بعدم العلم بكون إحياء الموتى من عيسى معجزة ؛ لاحتمال كونه من دعائه باسم اللّه الأعظم كما في دعاء ابن باعور الكافر على موسى ، أو نحو ذلك - : إنّ نسبة العادة إلى الإنسان مغالطة ، فإنّها منسوبة إلى طبائع الأشياء وغرائزها ولو بملاحظة الكيفيّة المخصوصة ؛ إذ العمل على خلاف مقتضى طبائعها معجزة كجعل العصا تنّينا ، وكذا نزول الغيث الخارج عن المعتاد في غير وقته بمجرّد دعوة النبيّ ، أو الوصيّ ، أو الوليّ دفعة ، ونحو ذلك ممّا لا يكون مسبّبا عن سبب ، بل يكون بإرادة إلهيّة.

وإعجاز القرآن من القسم الثاني ، فإنّه وإن كان من جنس الكلام الصادر عن الإنسان فليس بمعجزة بذاته إلاّ أنّ كونه على أسلوب غريب وطور عجيب ، ونحو ذلك ممّا لا يقدر على الإتيان بمثله أحد من البلغاء معجزة ، فهو معجزة بحسب الخصوصيّة ، فتأمّل.

وأيضا إذا كان المناط في المعجزة كون الفعل على خلاف مقتضى الطبيعة كان اعتبار أفراد الإنسان كلاّ أو بعضا مغالطة ، فتأمّل.

وأيضا التسوية بين الواحد والكثير من المغالطات ، وكذا اعتبار الكلّ والبعض في العجز ، فإنّه إذا علم كون الفعل على خلاف مقتضى الطبيعة ولو بملاحظة الخصوصيّة

ص: 82

علم كونه معجزة من غير فرق بين اعتبار عجز الكلّ أو البعض ، ومن هنا يعلم عدم اعتبار كون المعجزة بالنسبة إلى فنّ يكون أهل عصر صاحبها عالمين بذلك الفنّ كالطبّ في زمان عيسى ، والسحر والإتيان بأمر الغريب في زمان موسى ، والفصاحة والبلاغة في زمان نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، فتأمّل.

ومنها : أنّ أكثر الناس لا يفهمون إعجاز القرآن ، وكلّ معجزة لا يفهم الأكثر إعجازها فهي ناقصة.

والجواب : أنّ أهل العلم يفهمون إعجازه بلا واسطة ، وغيرهم يدركون بواسطتهم ، وملاحظة عجزهم عن الإتيان بمثله - مع كمال حرصهم على المعارضة - فيرتفع النقص ، مضافا إلى ما يقال : إنّ إعجاز القرآن غير منحصر في البلاغة ، بل قد يكون بوجه آخر أيضا كقضاء الحوائج ، وشفاء المرضى عند التوسّل ، وتحصيل المقامات عند التدبّر ، والإخبار بالمغيّبات ، وبيان الخير والشرّ في الاستخارات ، ونحو ذلك ممّا يدركه الخواصّ والعوامّ بلا شبهة وكلام.

ومنها : أنّ اختلاف القرّاء والمفسّرين في القراءات وشأن النزول والمقاصد من الآيات يوجب عدم استفادة معنى معيّن من القرآن ، وذلك ينفي الإعجاز حتّى بالنسبة إلى المواضع المشتملة على المغيّبات ، كقوله : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (1). ونحو ذلك من المواضع المعدودة التي صارت بسبب ما ذكر مجملة ، غير جليّة الدلالة ، فلا يمكن الحكم بأنّها معجزة ؛ لأنّها باعتبار البلاغة وهي من جهة التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة ، فحيث لا يفهم المعنى لا يمكن الحكم بالبلاغة والإعجاز.

والجواب أوّلا : - مضافا إلى بعض ما تقدّم - أنّ الإعجاز الثابت بالتواتر والتظافر ونحوهما إنّما هو بالنسبة إلى زمان النزول المتقدّم على الاختلاف في القراءة وشأن

ص: 83


1- الروم (30) : 1 - 4.

النزول ، فإنّ القطع حاصل بأنّ أهل عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومن بحكمهم - مع كمال بلاغتهم وحرصهم على المعارضة - عجزوا عن الإتيان بمثله ، فيظهر كونه من اللّه تعالى.

وثانيا : أنّ البلاغة حاصلة بالنسبة إلى كلّ معنى يستفاد من القراءات المختلفة ولو باعتبار شأن النزول ، والاختلاف لا يقدح في حصول البلاغة ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة ؛ لحصول التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة.

وثالثا : أنّ الاختلاف في بعض المفردات لا يوجب خفاء المعنى التركيبي وعدم حصول العلم بالبلاغة.

ورابعا : أنّ عدم العلم بإعجاز ما اختلف فيه لا يوجب عدم العلم بإعجاز ما اتّفق عليه ممّا وقع التحدّي بمثله ، كسورة الفاتحة في الجملة ، والتوحيد ، ونحوهما.

وخامسا : أنّ عدم العلم بالإعجاز من جهة عدم العلم بالبلاغة استقلالا لا يوجب عدم العلم به من وجه آخر كما أشرنا إليه.

مضافا إلى ما يقال : من أنّ الاختلاف لو كان سببا لنفي الحقّ لكان الاختلاف في وجود الصانع ووحدته وعدله ، ونبوّة الأنبياء والأوصياء ونحو ذلك سببا لنفي ما ذكر وهو بديهيّ الفساد ، مع عدم الاختلاف في نحو ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ ) (1) الآية ، لفظا ومعنى ، وكذا سائر ما يشتمل على المغيّبات من السور والآيات كقوله تعالى : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ ) (2) إلى آخره ، حيث أخبر بأحوال المنافقين قبل الوقوع ؛ ولهذا ندب إلى قراءة تلك السورة في الركعة الثانية في جميع الجمعات عند جمع الجماعات ، وكذا الإخبار عن أحوال بني أميّة وأمثالهم في سورة الإسراء (3) وكذا سورة محمّد ، والمعوّذتين (4) حيث أنزلتا لإخراج السحر المستور سيّما

ص: 84


1- الروم (30) : 1 - 2.
2- المنافقون (63) : 1.
3- الإسراء (17) : 45 - 47.
4- أي سورتا الفلق والناس.

ما عقدوه بالحبل وجعلوه في البئر وأخرجه عليّ بن أبي طالب علیه السلام بعد النزول (1) ، وكذا سورة النجم المشتملة على الإخبار بانشقاق القمر ، ونزول النجم ، والمعراج الجسمانيّ ونحو ذلك ممّا لا يخفى كونه على وجه الإعجاز ، وكذا آيات سورة التحريم كقوله تعالى : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) (2) ، وغير ذلك من الآيات المشتملة على الإخبار بأسرار المنافقين وتدبير الكفّار والمشركين في دفع سيّد المرسلين ، ونحو ذلك ممّا لا يقدح الاختلاف - لو كان - في كونه من الإعجاز كما أشرنا إليه على وجه الإيجاز.

ومنها : أنّ اشتمال القرآن على العلوم والأحكام ونحو ذلك لا يقتضي كونه من اللّه تعالى ككثير من كتب الكفّار والحكماء.

والجواب أوّلا : أنّ اشتمال القرآن على أسرار الأنبياء وأحكام الأوصياء ، وتطابقه لسائر الكتب السماويّة في بيان العلوم ، والأحكام ، والآداب المتحيّرة فيه عقول الخواصّ والعوامّ من الأمّي الذي لم يخالط أهل العلم ، ولم يتعلّم من أحد من العلماء الأعلام ، ومن دون رياضة وتفكّر وتأمّل كما أنّ ذلك طريقة الكلّ ، بل مع الاشتغال بالعبادة وأمر العباد ، ونحو ذلك كالجهاد لا يمكن إلاّ بكونه من اللّه.

وثانيا : أنّ كلّ عالم لاحظ القرآن اعترف بإعجازه وكونه خارجا عن طوق البشر ، واستند إليه في مطالبه ، بل كلّما يذكر العلماء كلاما من القرآن في كلماتهم كان مثله مثل درج الجوهر الثمين والدرّ المبين في سلسلة الحصى ، كما لا يخفى على من أحصى.

ومنها : أنّ معجزات محمّد صلی اللّه علیه و آله غير متواترة ، ومعجزات سائر الأنبياء متواترة ؛

ص: 85


1- انظر « مجمع البيان » 10 : 492.
2- التحريم (66) : 3.

لتواتر التوراة ونحوها ممّا يشتمل على معجزاتهم على وجه موجب لعدم إمكان إنكار معجزات موسى وعيسى مثلا لأحد ، بخلاف معجزات محمّد صلی اللّه علیه و آله .

والجواب أوّلا : أنّ معجزات محمّد صلی اللّه علیه و آله كشقّ القمر ، والإتيان بالشجر متواترة عند المسلمين ، كما أنّ معجزات سائر الأنبياء متواترة عند أممهم لو لم يتنازع فيه من جهة تحريف التوراة ، وتنازع اليهود والنصارى ، وإحراق بخت نصّر التوراة ، ونحو ذلك ممّا يكفيه احتماله في منع التواتر فيه ، فتخصيص قتل بخت نصّر ببعض الطوائف ومنع تعرّضه للدين والتوراة - مع أنّه خلاف ما كتب في التواريخ - غير نافع عند عدم الثبوت ؛ لكفاية الاحتمال ، وعدم ثبوت التواتر عند أمثالكم من جهة عدم الاطّلاع على كتب المسلمين غير قادح ، كما أنّ عدم ثبوت تواتر معجزات سائر الأنبياء عند كثير من المسلمين من جهة عدم الاطّلاع على كتبكم غير قادح.

وثانيا : أنّ إثبات نبوّة سائر الأنبياء ومعجزاتهم بواسطة خاتم الأنبياء وما جاء به فهو نوع ثبوت حقيّته وحقيّة دينه.

وثالثا : أنّ التوراة والإنجيل أيضا مخبران بمجيء خاتم الأنبياء ، كما لا يخفى على من لاحظ احتجاج جاثليق مع مولانا الرضا علیه السلام .

وكيفيّة ذلك - كما في الاحتجاج - : أنّ مولانا الرضا علیه السلام لمّا قدم على المأمون أراد المأمون أن يناظر معه علیه السلام سائر علماء الأديان مثل : الجاثليق ، ورأس الجالوت ، ورؤساء الصابئين ، والهربذ الأكبر ، وأصحاب زردشت ، وقسطاس الرومي ، والمتكلّمين ، ليسمع كلامه علیه السلام وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ، ثمّ أعلم المأمون باجتماعهم ، فقال : أدخلهم عليّ ، فرحّب بهم المأمون ثمّ قال لهم : إنّما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليّ ولا يتخلّف منكم أحد ، قالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين ، نحن مبكّرون إن شاء اللّه تعالى.

فدخل ياسر متولّي أمر أبي الحسن علیه السلام فقال : يا سيّدي ، إنّ أمير المؤمنين يقرؤك

ص: 86

السّلام ويقول : فداك أخوك إنّه اجتمع إليّ أصحاب المقالات ، وأهل الأديان ، والمتكلّمون من جميع الملل ، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت ذلك فلا تتجشّم ، وإن أحببت أن نصير إليك خفّ علينا ذلك ، فقال أبو الحسن علیه السلام : « أبلغه السّلام وقل : قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء اللّه ».

فلمّا دخل الرضا علیه السلام قام المأمون وجميع بني هاشم فما زالوا وقوفا - والرضا علیه السلام جالس مع المأمون - حتّى أمرهم بالجلوس فجلسوا ، فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدّثه ساعة ، ثمّ التفت إلى الجاثليق ، فقال : يا جاثليق ، هذا ابن عمّي عليّ بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت محمّد نبيّنا ، وابن عليّ بن أبي طالب علیه السلام فأحبّ أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه ، فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين ، كيف يحاجّ رجل عليّ بكتاب أنا منكره ، ونبيّ لا أومن به؟!

فقال الرضا علیه السلام : « يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟ ».

قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم ، واللّه أقرّ به على رغم أنفي. فقال له الرضا علیه السلام : « سل عمّا بدا لك واسمع الجواب ».

قال الجاثليق : ما تقول في نبوّة عيسى وكتبه هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا علیه السلام : « أنا مقرّ نبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وكتابه ولم يبشّر به أمّته ».

قال الجاثليق : أليس إنّما يقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال : « بلى ».

قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلمنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضا علیه السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصرانيّ ، ألا تقبل من العدل المقدّم عند المسيح عيسى بن مريم؟ ».

قال الجاثليق : ومن هذا العدل؟ سمّه لي ، قال : « ما تقول في يوحنّا الديلميّ؟ » قال : بخّ بخّ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

ص: 87

قال : « فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنّا قال : إنّ المسيح أخبرني بدين محمّد العربي ، وبشّرني به إنّه يكون من بعدي فبشّرت الحواريّون به فآمنوا به؟ ».

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح ، وبشّر بنبوّة رجل ، وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك ، ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا علیه السلام فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمّته أتؤمن به؟ » قال : شديدا (1) ، قال الرضا علیه السلام لقسطاس الرومي : « كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ » قال : ما أحفظني له ، ثمّ التفت لرأس الجالوت قال : « ألست تقرأ الإنجيل » قال : بلى لعمري. قال : « فخذ عليّ السفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمّته فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي » ثمّ قرأ علیه السلام عليه السفر الثالث حتّى إذا بلغ [ ذكر ] (2) النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقف ، ثمّ قال : « يا نصرانيّ ، إنّي أسألك بحقّ المسيح وأمّته أتعلم أنّي عالم بالإنجيل؟ » قال : نعم ، ثمّ تلا ذكر محمّد وأهل بيته ، ثمّ قال : « ما تقول يا نصرانيّ هذا قول عيسى بن مريم ، فإن كذّبت بما ينطق به الإنجيل فقد كذّبت موسى وعيسى علیهماالسلام ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل ؛ لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك ».

قال الجاثليق : ولا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وأنّي لمقرّ به.

قال الرضا علیه السلام : « اشهدوا على إقراره » ثمّ قال : « يا جاثليق ، سل عمّا بدا لك ».

قال الجاثليق : أخبرني عن حواريّ عيسى بن مريم كم كان عدّتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟

قال الرضا علیه السلام : « أمّا الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلا ، وكان أفضلهم وأعلمهم : الوقاء. وأمّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنّا الأكبر - باج - ويوحنّا

ص: 88


1- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « أمر سديد ».
2- الزيادة أضفناها من المصدر.

بقرقيسيا ، ويوحنّا الديلميّ بن جار وعنده كان ذكر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وذكر أهل بيته وهو الذي بشّر أمّة عيسى وبني إسرائيل به » ثمّ قال : « يا نصرانيّ ، إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد صلی اللّه علیه و آله - إلى أن قال علیه السلام : بعد قول الجاثليق : إنّ عيسى كان صائم الدهر ، قائم الليل - : « فلمن كان يصوم ويصلّي؟ » فخرس الجاثليق وانقطع.

ثمّ أورد علیه السلام عليه بأنّه « لو كان كلّ من أحيا الموتى ربّا ، لكان اليسع وحزقيل ربّين ؛ لأنّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى ، وكذا موسى حيث أحيا اللّه بدعائه سبعين رجلا احترقوا ، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أربابا ، ما تقول يا نصرانيّ؟ ».

فقال الجاثليق : القول قولك ولا إله إلاّ اللّه.

ثمّ التفت إلى رأس الجالوت ، فقال : « يا يهوديّ ، أقبل عليّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران ، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمّد صلی اللّه علیه و آله وأمّته إذا جاءت الأمّة الأخيرة أتباع راكب البعير ، يسبّحون الربّ جدّا جدّا ، تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد ، فليفزع بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم ليطمئنّ قلوبهم؟ » فقال رأس الجالوت : نعم ، إنّا لنجد ذلك كذلك.

ثمّ قال للجاثليق : « يا نصرانيّ كيف علمك بكتاب شعيا؟ » قال : أعرفه حرفا حرفا ، قال لهما : « أتعرفان هذا من كلامه : يا قوم ، إنّي رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوءه مثل ضوء القمر؟ » فقال : قد قال ذلك شعيا ، قال الرضا علیه السلام : « يا نصرانيّ ، هل تعرف في الإنجيل قول عيسى علیه السلام : إنّي ذاهب إلى ربّي وربّكم ، والبارقليطا جاء ، هو الذي يشهد لي بالحقّ كما شهدت له ، وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء ، وهو الذي ألمح الأمم وهو الذي يكسر عمود الكفر؟ ». فقال الجاثليق : ما ذكرت شيئا من الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به - إلى أن قال رأس الجالوت - : من أين تثبت نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟ قال الرضا علیه السلام : « شهد بنبوّته موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، وداود خليفة اللّه في الأرض » فقال علیه السلام : تعلم يا يهوديّ أنّ موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم : إنّه سآتيكم نبيّ من إخوانكم فيه

ص: 89

فصدّقوا ، ومنه فاسمعوا ، فهل تعلم أنّ لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل وإسماعيل والسبب الذي بينهما من قبل إبراهيم؟ ».

فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعه ، فقال له الرضا علیه السلام : « أفليس قد صحّ هذا عندكم؟ » قال : نعم ، ولكن أحبّ أن تصحّحه لي من التوراة ، فقال له الرضا علیه السلام : « هل تنكر أنّ التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سينا ، وأضاء للناس من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران؟ » قال رأس الجالوت : أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضا علیه السلام : « أنا أخبرك به. أمّا قوله : جاء النور من قبل طور سينا فذلك وحي اللّه تبارك وتعالى الذي أنزل على موسى علیه السلام على جبل طور سينا.

وأمّا قوله : وأضاء للناس من جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى عيسى بن مريم وهو عليه.

وأمّا قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبل من جبال مكّة ، وبينه وبينها يومان ، قال شعيا النبيّ صلی اللّه علیه و آله - فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة - رأيت راكبين أضاءت لهما الأرض ، أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟ ».

قال رأس الجالوت : لا أعرفهما فخبّرني بهما ، قال علیه السلام : « أمّا راكب الحمار فعيسى ، وأمّا راكب الجمل فمحمّد صلی اللّه علیه و آله أتنكر هذا من التوراة؟ » قال : لا ، ما أنكره.

ثمّ قال الرضا علیه السلام : « هل تعرف حيقوق النبيّ؟ » قال : نعم ، إنّي به لعارف ، قال علیه السلام : « فإنّه قال - فكتابكم ينطق به - : جاء اللّه تعالى بالبيان من جبل فاران ، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمّته ، تحمل خيله في البحر كما تحمل في البرّ ، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس ، يعني بالكتاب : القرآن ، أتعرف هذا وتؤمن به؟ » قال رأس الجالوت : قد قال ذلك حيقوق النبيّ ولا تنكر قوله.

قال الرضا علیه السلام : « فقد قال داود في زبوره - وأنت تقرأه - : اللّهمّ ابعث مقيم السنّة

ص: 90

بعد الفترة فهل تعرف نبيّا أقام السنّة بعد الفترة غير محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟ » قال رأس الجالوت : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكن عنى بذلك : عيسى ، وأيّامه (1) هي الفترة.

قال له الرضا علیه السلام : « جهلت ، إنّ عيسى لم يخالف (2) السنّة ، وكان موافقا لسنّة التوراة حتّى رفعه اللّه إليه ، وفي الإنجيل مكتوب : إنّ ابن البرّة ذاهب والفار قليطا جاء من بعده وهو يخفّف (3) الآصار ، ويفسّر لكم كلّ شيء ، ويشهد لي كما أشهد له ، أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن هذا في الإنجيل؟ » قال : نعم ، لا أنكره.

فقال الرضا علیه السلام : « أسألك عن نبيّك موسى علیه السلام ؟ » فقال : سل ، قال : « ما الحجّة على أنّ موسى علیه السلام ثبّت نبوّته؟ » قال اليهودي : جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله.

قال له : « مثل ما ذا؟ ». قال : مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حيّة تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده البيضاء للناظرين ، وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال الرضا علیه السلام : « صدقت في أنّها كانت حجّته على نبوّته أنّه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله ، أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ، ثمّ جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟ » قال : لا ؛ لأنّ موسى علیه السلام لم يكن له نظير ؛ لمكانه من ربّه وقربه منه ، ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتّى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

قال الرضا علیه السلام : « فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى علیه السلام ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجّروا من الحجر اثنتي عشرة عينا ، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى علیه السلام يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حيّة تسعى؟ » قال له اليهودي : قد خبّرتك أنّه متى جاءوا على نبوّتهم من الآيات بما لم يقدر الخلق على مثله ، ولو جاءوا بما

ص: 91


1- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « أمامه ».
2- كذا في الأصل : « يخلف » وما أثبتناه من المصدر.
3- في المصدر : « يحفظ » بدل « يخفّف ».

لم يجئ به موسى علیه السلام أو كانوا على ما جاء به موسى ، وجب تصديقهم.

قال الرضا علیه السلام : « يا رأس الجالوت ، فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وقد كان يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه؟ ». قال رأس الجالوت : يقال : إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال الرضا علیه السلام : « رأيت ما جاء به موسى علیه السلام من الآيات وشاهدته ، أليس إنّما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى علیه السلام أنّه فعل ذلك؟ » قال : بلى. قال : « فكذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدّقتم بموسى صلی اللّه علیه و آله ولم تصدقوا بعيسى؟ » فلم يجد (1) جوابا.

قال الرضا علیه السلام : « وكذلك أمر محمّد صلی اللّه علیه و آله وما جاء به ، وأمر كلّ نبيّ بعثه اللّه ، ومن آياته أنّه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلّم كتابا ، ولم يختلف إلى معلّم ، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء علیهم السلام وأخبارهم حرفا حرفا ، وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثمّ كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ».

قال رأس الجالوت : لم يصحّ عندنا خبر عيسى ، ولا خبر محمّد ، ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ عندنا.

قال الرضا علیه السلام : « فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمّد صلی اللّه علیه و آله شاهد زور؟ » فلم يجد (2) جوابا.

ثمّ دعا بالهربذ الأكبر ، فقال له الرضا علیه السلام : « أخبرني عن زردشت الذي تزعم أنّه نبيّ ، ما حجّتك على نبوّته؟ » قال : إنّه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده ، ولكنّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنّه أحلّ لنا ما لم يحلّ غيره فاتّبعناه ، قال علیه السلام :

ص: 92


1- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « يحر ».
2- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « يحر ».

« أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتّبعتموه؟ » قال : بلى ، قال : « فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمّد صلی اللّه علیه و آله فما عذركم في ترك الإقرار لهم ؛ إذ كنتم إنّما أقررتم بزردشت من قبل الأخبار المتواترة بأنّه جاء بما لم يجئ به غيره؟ » فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضا علیه السلام : « يا قوم ، إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم » فقام إليه عمران الصابي - وكان واحدا في المتكلّمين - فقال : يا عالم الناس ، لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ، ولقيت المتكلّمين فلم أقف على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيّته ، أفتأذن أن أسألك؟

قال الرضا علیه السلام : « إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو » ، قال : أنا هو ، قال : « سل يا عمران ، وعليك بالنصفة ، وإيّاك والخطل والجور » فقال : واللّه يا سيّدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئا أتعلّق به ، فلا أجوزه ، قال : « سل عمّا بدا لك » فازدحم الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض ، فقال عمران : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق؟

فأجاب علیه السلام بذكر صفات اللّه وأفعاله كما ينبغي ، فقال : « فهمت يا عمران؟ » قال : نعم ، يا سيّدي فهمت ، وأشهد أنّ اللّه على ما وصفت ووحّدت ، وأنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله عبده المبعوث بالهدى ودين الحقّ ، ثمّ خرّ ساجدا نحو القبلة وأسلم.

فلمّا نظر المتكلّمون إلى كلام عمران الصابي - وكان جدلا لم يقطعه من حجّته أحد قطّ - لم يدن من الرضا علیه السلام أحد منهم ، ولم يسألوه عن شيء ، فنهض المأمون والرضا علیه السلام فدخلا ، وانصرف الناس ، فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلّمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتّى اجتنبوه ، وولاّه الرضا علیه السلام صدقات بلخ » (1).

انتهى ما أردنا نقله وهو كاف لمن تابع عقله.

ص: 93


1- « الاحتجاج » 2 : 415 - 425.

ومنها : أنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله اعترف في مواضع من القرآن بانحصار معجزته فيه ، بنحو قوله : ( هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (1) مع عدم ثبوت غيره من المعجزات التي تدعونها لا بالخبر المتواتر ، ولا بالواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة ، ولم يذكر اسمه في كتاب من الكتب السماويّة ، بخلاف معجزات عيسى فإنّها ممّا كتبها ثلاثة رجال ، أو أربعة كتبوا الإنجيل ، وكذا بعض الحواريّين ممّن شاهدها ، وأخبار هؤلاء معتبرة في غاية الاعتبار ، واسمه مذكور في الكتاب السماويّ.

والجواب مثل ما مرّ ، مضافا إلى ما يقال : من أنّ اعترافه بأنّ معجزات عيسى علیه السلام وصلت بواسطة العدد المذكور ، يقتضي عدم حصول القطع بها سيّما بالنسبة إلى جميع النصارى ، وكذا أصل الإنجيل ، وبيان أحوال عيسى علیه السلام على التفصيل ؛ لاقتضاء ما ذكر عدم تحقّق ما يوجب القطع بما ذكر ، مع أنّ المعتبر في أصول الملل ما يفيد القطع بالقطع ، كما أنّا ندّعي القطع في معجزات نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ؛ لثبوتها في الكتاب والسنّة ، مع القرينة والاشتهار المفيد للقطع بصدور ما يعجز سائر الخلق عن الإتيان بمثله حتّى أنّ المشركين قالوا : إنّ هذا سحر مبين ، ونحو ذلك.

وإنكار ذلك لا يصدر إلاّ ممّن كان في قلبه زيغ ، ويكون تابعا للخيالات والأوهام الفاسدة ، خارجا عن طريقة العقل ، فإنّ العقل يحكم بامتناع تواطؤ المخبرين - بأنّ القرآن من نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله - على الكذب ، أو العادة تحكم بالقطع بذلك ولو بانضمام القرائن ، فإنكار ذلك إنكار القطع الضروريّ ، وصادر من عدم التتبّع والسماع الكاشفين عن حكم الحقّ ، وذكر نبيّنا صلی اللّه علیه و آله في الكتب السماويّة ، وكونه صاحب المعجزات الكثيرة - كما مرّت إليه الإشارة - مع أنّ الذكر غير لازم كما في النبيّ المتقدّم ، بل المناط هو المعجزة المصدّقة.

ص: 94


1- الإسراء (17) : 93.

مضافا إلى ما حكي أنّه ورد في الإنجيل ما معناه أنّ المسيح قال : « أطلب من أبى أن يعطيكم فارقليطا آخر ويبقى معكم أبدا » (1).

وأيضا قال في موضع آخر : وفارقليط روح مقدّس يرسله أبي ، ويعلّمكم كلّ شيء ، ويذكّركم جميع ما قلت لكم » (2).

وأيضا قال في موضع آخر : « أقول لكم ما هو الحقّ من أنّ ذهابي أولى لكم ؛ لأنّي إن لم أذهب لا يجيء إليكم فارقليط وإن ذهبت أرسله إليكم » (3).

وأيضا قال : « إذا جاء الروح الحقّ علّمكم ما هو الحقّ ، ولا ينطق من عند نفسه ، ويعظّمني ، ويبشّر جميع الطوائف بالجنّة » (4). ونحو ذلك غير ما ذكر من الآيات الإنجيليّة الدالّة على أنّ اللّه تعالى ذكر نبيّنا صلی اللّه علیه و آله في الإنجيل ؛ لأنّ فارقليط اسمه فيه ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وقوله : « أبي » - لو سلّم كونه من عيسى علیه السلام وعدم كونه من الموضوعات - لعلّه تكلّم على زعمهم ، أو محمول على معنى الترتبيّة ونحو ذلك.

ومنها : أنّ حاكي المعجزات بعد البعثة من كان ناقلا لها في أيّام الجاهليّة فلا اعتماد بقولهم أصلا.

الجواب واضح ؛ لأنّ إنكار حصول العلم بالتواتر والتظافر ، والخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة إنكار للبديهة ، مع اختلاف الناقلين بالبديهة.

ومنها : أنّ محمّدا روّج دينه بالقوّة البشريّة ، لا الإلهيّة كسائر الأنبياء.

والجواب واضح أيضا ؛ لأنّ المعجزة الثابتة كما بيّنّا لا تكون إلاّ بتصديق اللّه وإعانته ، وكذا بعض حروبه ، كما قال اللّه تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (5).

ص: 95


1- حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » 15 : 210 - 211.
2- حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » 15 : 210 - 211.
3- حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » 15 : 210 - 211.
4- حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » 15 : 211.
5- التوبة (9) : 25.

ومنها : أنّ جميع دين محمّد كان على وفق هوى نفسه كما قال : « إنّ اللّه جعل لذّتي في النساء والطيب » (1). وحلّل لنفسه تسع زوجات ولغيره أربع زوجات ، واختار زوجة زيد لعشقه بها بآية وضعها ، وحنث الحلف الذي أوقعه في تحريم مارية بوضع آية أخرى بقوله : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ ) (2) وحرّم نساءه على أمّته ، إلى غير ذلك ، ومثل ذلك تفويض سلطنته إلى أقاربه.

والجواب واضح أيضا ؛ لأنّ الميل إلى النساء من الكمال ، بملاحظة أنّ فيه بقاء بني آدم وتكثير العباد ، وتحليل تسع زوجات مع العدل دليل على قوّة نفسه وكماله ، وتحليل زوجة زيد يقتضي توسعة أمر الناس في جواز تزويج حلائل الأدعياء ، وكذا فوائد سائر ما وقع ، ونيابة أقربائه - كنيابة هارون لموسى علیهماالسلام للزوم تفضيل الفاضل ، وتعيين المعصوم الأعلم ، وترجيحه على غيره ، وكون الموصوف بما ذكر من عيّنه دون غيره.

وبالجملة : فهذا الكلام لا ينبغي إلاّ عن الجاهل المتعسّف والغبيّ الذي هو غير منصف.

ومنها : أنّا نلاحظ القرآن ونراه خاليا عن البلاغة ؛ لعدم اشتماله على النظم والترتيب.

والجواب : يظهر ممّا مرّ.

ومنها : أنّ القرآن مشتمل على التكرار الركيك كما في قوله : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (3) و ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) (4) ونحو ذلك ، وبعض الفقرات لمجرّد القافية ، وبعضها بلا فائدة ، وبعضها بلا معنى كقوله : ( أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ

ص: 96


1- « مكارم الأخلاق » 34 : « بحار الأنوار » 16 : 249.
2- التحريم (66) : 1.
3- المرسلات (77) : 15.
4- الرحمن (55) : 13.

بِكُمْ ) (1) وهو مشتمل على المعاني البديهيّة ، كما في قوله : ( وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ) (2) وعلى غير الواقع ، مثل ما دلّ على أن آمن ذا القرنين ، مع أنّ المستفاد من كتب التواريخ ونحوها أنّه لم يؤمن ، بل كان صنميّا - وعلى الاختلاف الذي حملوه على الناسخ والمنسوخ اللذين ليسا في التوراة والإنجيل حتّى أنّ الإنجيل [ جاء ] لتكميل التوراة من غير أن يكون ناسخا.

ولا ريب أن الاختلاف غير جائز من اللّه العالم بجميع الأشياء بحسب الماضي والحال والاستقبال.

والحاصل : أنّ من علم نبوّة أحد ثمّ رأى منه نحو تلك الأقوال والأعمال لا بدّ له من تأويلها. وأمّا من لم يكن عالما بنبوّة شخص ورأى منه نحو ما ذكر من الأمور المنكرة يحصل له اليقين بعدم نبوّته ، ولو صدر منه أمر غريب يحكم بأنّه ليس من اللّه.

والجواب عن نفي البلاغة واضح ممّا مرّ ، فإنّ حسن نظم القرآن وترتيبه حسّي لا يحتاج إلى البيان سيّما بعد ملاحظة العجز عن الإتيان بمثله لبلغاء عدنان وقحطان ، وأنّ المعاندين تركوا المقابلة بالحروف وارتكبوا المقاتلة بالسيوف.

وبالجملة : بلاغة الكلام إنّما هي بسبب كونه بمقتضى المقام ، ولو كان على خلاف النظم الطبيعيّ والترتيب الظاهريّ ، بسبب كونهما من أسباب تغيّر المخاطب وتحرّك سبب شرّه وعدم قبوله الحقّ ، وبين البلاغة والترتيب الطبيعيّ عموم من وجه ، والمعترض لم يدركها بوجه.

وعن الاشتمال على التكرار : أنّ التكرار لفائدة ومناسبة مطلوب في العرف والعادة ، سيّما في مقام الإرشاد والهداية وإتمام الحجّة ، كما لا يخفى على من له أدنى

ص: 97


1- النحل (16) : 15.
2- البقرة (2) : 92.

مسكة ، وكذا حسن القافية فإنّها موجبة لميل النفوس والطبيعة ، الموجب لحصول الهداية وفهم المعجزة وقبول الشريعة.

وعن نحو كون بعض الفقرات بلا فائدة : أنّه ممنوع بلا شبهة ، بل المعلوم لكلّ أهل المعرفة أنّ لكلّ آية ظهرا وبطنا إلى بطون سبعة ، وأقلّ ما يتصوّر في نحو ما ذكر بيان سوء سلوك الأمّة وإتمام الحجّة ، ونحو ذلك من الفوائد الظاهرة كالاشتمال على جميع ما في الكتب السماويّة ، وبيان النعمة والقدرة وأمثال ذلك.

وعن إيراد ذي القرنين : أنّه مبنيّ على عدم الفرق بين الإسكندرين : الروميّ الصنميّ ، وغيره الصالح ، حتّى قيل : إنّه كان نبيّا ، ولعلّ الشبهة إنّما نشأت من صدور بناء السدّ بين يأجوج ومأجوج وغيرهم من كلّ منهما كما أفيد.

وعن الاختلاف : أنّ إنكار الاختلاف والنسخ يستلزم إنكار تعدّد الأديان ، وكون الناس من زمان آدم إلى الخاتم على دين واحد ، وهو خلاف البديهة مع أنّ العقل حاكم باختلاف الأحكام باختلاف المصالح في الأنام.

والحاصل : أنّ مناط التصديق على ثبوت الادّعاء بالمعجزة من غير فرق بين الأوّل والآخر ، وقد بيّنّا أنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ادّعى النبوّة ، وأتى بالمعجزة المصدّقة ، فهو حقّ بحكم القوّة العاقلة ، فلو صدر منه صلی اللّه علیه و آله ما يكون ظاهره محلّ الريبة لا بدّ من التأويل ، أو الحمل على المصلحة الكامنة والحكمة الباطنة ، أو نحو ذلك كما مرّ إليه الإشارة.

ومنها : أنّه جعل في الإسلام سبب النجاة عن عذاب الآخرة منحصرا في التوبة ، من غير أن يكون شيء من الأعمال الحسنة ، والعفو من اللّه ، أو كليهما سببا للنجاة ، لكون جزاء الأعمال الحسنة ما وعد اللّه [ لاهبط ] (1) السيّئة ، فلا يحصل بسببها النجاة.

والجواب : أنّه افتراء محض ومحض افتراء ؛ لشهادة الآيات والأخبار على أنّ

ص: 98


1- كذا في الأصل.

الشفاعة ، والأعمال الحسنة ، والبكاء على مصائب الأئمّة علیهم السلام سيّما سيّد الشهداء ، ونزول البلاء والمصائب ، ونحو ذلك من أسباب النجاة ، كالتوبة التي هي أيضا من المسقطات في جميع الأمم ، بل بالنسبة إلى آدم وبني آدم وغيرهم - كما لا يخفى على من لاحظ ما بيّن أحوال الأنبياء وغيرهم - مضافا إلى أنّ أمثال ذلك الاعتراض بعد ثبوت النبوّة أو الإمامة بالمعجزة المصدّقة من أفحش الأغلاط.

ومنها : أنّ كتب الأنبياء السابقين مشتملة على الإشارة إلى بعث عيسى وأفعاله ، كما ورد في التوراة : « أنّ الأبناء يأخذون ابن السلطان ، والشيطان يلسع عقبه ، ووعد اللّه إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يبارك في أولادهم ».

وفي شعيا : « أنّ بنتا باكرة تحمل وتضع ابنا » [ و ] غير ذلك من الإشارات ؛ ولهذا يكذّبه اليهود وسكتوا حتّى جرى دينه وانتشرت أحكامه التي هي على خلاف أهواء أنفسهم وهو من المعجزات.

والجواب - مضافا إلى كذبه ؛ لأنّ اليهود كذّبوا عيسى علیه السلام وقصدوا قتله ، وأنّ كونه ابنا خلاف العقل والنقل ، فيكون ما يدلّ عليه من الموضوعات والمحرّفات - : أنّا بيّنّا أنّ الكتب السماويّة مشتملة على بيان بعث نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، كما أنّ عيسى علیه السلام قال : ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (1).

مع أنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، فبعد الإتيان بالمعجزات المصدّقة والبراهين القاطعة لا بدّ من تصديق من أتى بها ، ونبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ادّعى النبوّة الممكنة وأتى بالمعجزة المصدّقة بالتواتر والتظافر المفيدين للقطع العقلي كسائر القطعيّات ، وكلّ من ادّعى النبوّة الممكنة وأتى بالمعجزة المصدّقة فهو حقّ بلا شبهة ؛ لقبح إظهار المعجزة المصدّقة على يد الكاذب بالبديهة العقليّة ، فنبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله نبيّ مطلق

ص: 99


1- الصفّ (61) : 6.

ورسول بالحقّ من الحقّ إلى الخلق قاطبة - كما ادّعاه صلی اللّه علیه و آله - بلا ريبة ، فهو مبعوث من اللّه لتكميل عقول خلق اللّه ، وتهذيب نفوسهم من رئيسهم ومرءوسهم ، وتعليم الآداب والحكم لاستعداد الوصول إلى النعم بقدر القابليّة الإمكانيّة على وجه لا يمكن وقوع أكمل منه ؛ ولهذا صار خاتم النبيّين ، وتكون شريعته باقية إلى يوم الدين ، كما يستفاد من الكتب المنزّلة من اللّه الحقّ المبين ، ولا يرتاب فيه أهل التتبّع والإنصاف وإن اعترض أهل القصور والاعتساف ؛ إذ قد تبيّن الرشد من الغيّ (1) ، وامتاز الميّت من الحيّ ولقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (2) ، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (3) ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم (4) ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون. (5)

[ ما ورد في التوراة من الآيات الدالّة على نبوّته صلی اللّه علیه و آله ]

هذا كلّه مضافا إلى أنّه ورد في التوراة - في السفر الخامس ، في الفصل الثامن عشر في الپاراش الشوفطيم ، في الآية الخامسة عشرة إلى آخر الفصل ، البالغة إلى ثمان آيات من آيات التوراة ما يدلّ على نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله وحقّيّته وكفر منكره.

بيان ذلك : أنّ التوراة المنزّلة من السماء من اللّه تعالى خمسة أسفار ، ألحق بها ثلاثة وعشرون من كتب أنبياء بني إسرائيل ككتاب دانيال ، وحزقيل ، وحيقوق ، وأمثالهم ، وجزّأ بنو إسرائيل تلك الأسفار على وجه يتمّ قراءتها مرّة في كلّ سنة

ص: 100


1- اقتباس من الآية 256 من البقرة (2).
2- اقتباس من الآية 7 من يس (36).
3- اقتباس من الآية 14 من النمل (27).
4- اقتباس من الآية 146 من البقرة (2).
5- اقتباس من الآية 4 من المنافقون (63).

بقراءة كلّ سبت جزءا بأجزاء أربعة وخمسين جزءا مسمّاة بالپاراش. (1)

والسفر الأوّل من الأسفار الخمسة للتوراة اثنا عشر پاراشا ، واحد منها پاراش لخلخا ، وكلّها خمسون فصلا ، وهو مشتمل على صحيفة آدم ونوح وإبراهيم.

والسفر الثاني : أحد عشر پاراشا وأربعون فصلا.

والسفر الثالث : عشر پاراش وسبعة وعشرون فصلا.

والسفر الرابع : عشر پاراش وستّة وثلاثون فصلا.

والسفر الخامس : أحد عشر پاراشا وأربعة وثلاثون فصلا ، على ما أفاد بعض من كان من علماء اليهود ، فاستبصر وصار مسلما مؤمنا.

وحيث كان كلّ ذلك بالخطّ العبري - واللسان العبري الذي كان لإبراهيم علیه السلام الساكن في محلّ العبور وأولاده إلاّ إسماعيل الذي كان بلسان عربي من جهة أمّه التي كانت من أولاد السلطان ، أو جارية من أهل مصر وبلسان عربي - وكان قراءة ذلك عسيرا على كثير ، جمعت تلك الآيات بالخطّ العربي الذي [ يساوي ] العبري - بعد كتابة حروف التهجّي التي يكتب بها التوراة ، ثمّ أكتبها بالخط العربي الذي يكتب به القرآن - مع الترجمة والبيان.

فأقول أوّلا : إن صورة حروف التهجي مكان حروف أبجد هذه :

الصورة

ص: 101


1- الصحيح على ما ورد في العهد العتيق وصرّح به بعض محقّقي دين اليهود ، « پاراشا ».

الصورة

ص: 102

وثانيا : إنّ صورة الآيات المذكورة بالخطّ الذي يكتب به القرآن الآن مع الترجمة بالفارسيّة والبيان للضبط اللفظي والمعنى الإفرادي والتركيبي هذه :

نابيء ميقر بخام أحخا كاموني يا قيم لخا أدوناي إلهيخا إليوه تيشماعون كخل أشر إهيه أشر إهيه شا ألتا معيم أدوناي إلهيخا بحورب بيوم هقا هال لئمر لأ اسف لشموع إت قول أدوناي الهاي وإت ها إش هكدلا هزأت لأ إرءه عود ولأ آموت ويأمر أدوناي إلاي.

هيطيبو أشر ديبرو نابيء آقيم لاهم ميقرب أحهم كاموخا وناتتي دباري بپيو ودبير إليهم إت كل أشر اصونو وهاياه ها إيش أشر لأيشمع إل دباري أشر يدبر بشمي آنخي إدرش معيمو أخ هي نابي أشر يا زيد لدبر دابار بشمي إت أشر لأصيويتيو لدبر وأشر يدبر بشم الهيم أحريم وومت هي نابئ ههوأ وخي تؤمر بيلبابي خا إيخاه ندع إت هي دابار أشر لادبرو أدوناي اشر يدبر هي نابيء بشم أدوناي ولأييه ييه هى دابارو ولأيابؤهؤ هي دابار أشر لأدبرو ادوناي بزادون دبرو هي نابي لأتاغورمي م نو.

بيان « نابي » - بالنون المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الباء الموحّدة المكسورة التي تقرأ بالواو التي هي كالمشدّدة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة المقروءة على وجه يتولّد بعدها الهمزة لفظا لا خطّا - بمعنى النبيّ المخبر عن اللّه.

« ميقربخا » - بالميم المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي تتولّد منها الياء ، ثمّ القاف المكسورة ، ثمّ الراء المهملة الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة ، ثمّ الخاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا - بمعني من بنيك.

« م » - ميم مكسورة - بمعنى : من.

« أحخا » - بالهمزة المفتوحة ، والحاء المهملة المكسورة على وجه الإمالة ، ثمّ الخاء المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف - بمعنى إخوتك ،

ص: 103

ومع الياء الفاصلة بين الحاء والخاء يكون ، بمعنى : أخيك ، مفرد الإخوة ، والخاء المفتوحة قائمة مقام كاف الخطاب.

« كاموني » - بالكاف المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا ، ثمّ الميم المضمومة بالضمّة الإشباعيّة التي تتولّد منها الواو لفظا ، ثمّ النون المكسورة ، ثمّ الياء - بمعني كمثلي.

« يا قيم » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا - ولكن كتابتي بالألف هنا وفي أمثاله من جهة الحفظ من الخطإ في القراءة والتلاوة فلا بأس بعد البيان - ثمّ القاف المكسورة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الميم الساكنة - بمعنى : يقيم ويبعث.

« لخا » - باللام المفتوحة على وجه الإمالة ، ثمّ الخاء المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا كما تقدّم ، وتسمّى تلك الفتحة بالقامص - بمعنى : لك.

« أدوناي » - بالهمزة المفتوحة ، ثمّ الدال المهملة المضمومة بالضمّة الإشباعيّة التي تتولّد منها الواو لفظا لا خطّا ، ولكن في هذا اللفظ قد تثبت خطّا أيضا ، ثمّ النون المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة - بمعنى : اللّه المولى الكبير المتعالي.

« إلهيخا » - بالهمزة المكسورة ، ثمّ اللام المضمومة ، ثمّ الهاء المكسورة على وجه الرخاوة والإمالة كأنّه تتولّد منها الهمزة ويكشف عنه الياء المثنّاة التحتانيّة التي لا تظهر في القراءة ، ثمّ الخاء المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف المسمّاة بالقامص كما مرّ ، بمعنى : خالقك.

« إليوه » - بالهمزة المكسورة ، ثمّ اللام المفتوحة كأنّها مع الإشباع المستفاد من الياء التحتانيّة التي لا تظهر في القراءة ، ثمّ الواو الساكنة - بمعنى : وله.

« تيشماعون » - بالتاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد

ص: 104

منها الياء لفظا لا خطّا ، ثمّ الشين المعجمة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا المسمّاة بالقامص كما سبق ، ثمّ العين المهملة المضمومة ، ثمّ الواو الساكنة ، ثمّ النون الساكنة ، بمعنى تسمعون ، المستعمل في الإنشاء الطلبي - بمعنى : اسمعوا له وأجيبوه وأطيعوه.

« كخل » - بالكاف المفتوحة على وجه الإمالة ، ثمّ الخاء المعجمة المضمومة ، ثمّ اللام الساكنة - بمعنى : ككلّ.

« أشر » - بالهمزة المفتوحة ، والشين المعجمة المكسورة ، والراء المهملة الساكنة - بمعنى : كلّما ، لعموم الأشياء. ومنه ما في الدعاء.

« إهيه أشر إهيه » - بكسر همزة إهيه والياء والهاء - بمعنى : كنت كلّما كنت ، لا إهيّا شراهيّا كما يقرأ.

« شاألتا » - بالشين المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف لفظا لا خطّا كما مرّ ، ثمّ الهمزة المفتوحة [ ثمّ اللام الساكنة ] ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة ، بمعنى : سألت ، بتاء الخطاب.

« معيم » - بالميم المكسورة ، ثمّ العين المهملة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد منها الياء لفظا لا خطّا ، ثمّ الميم الساكنة - بمعنى : من عند.

« أدوناي إلوهيخا » قد مرّ بيانهما.

« بحورب » - بالباء الموحّدة المفتوحة على وجه الإمالة ، ثمّ الحاء المهملة المضمومة بالضمّة الإشباعيّة التي يتولّد منها الواو لفظا لا خطّا في التوراة - وإن كان في كتابنا مع الواو خطّا أيضا لأمر مرّ الإشارة إليه - ثمّ الراء المهملة المكسورة ، ثمّ الباء الموحّدة الساكنة التي تقرأ بالواو - بمعنى : في حورب الذي هو اسم مكان مخصوص وقع فيه جبل سيناء.

« بيوم » - بالباء الموحّدة - بمعنى : في - فالياء المثنّاة التحتانيّة المضمومة ، فالواو والميم - بمعنى : اليوم.

ص: 105

« هقاهال » - بالهاء المفتوحة - للإشارة مثل : « ذلك » - فالقاف المفتوحة بالفتحة المسمّاة بالقامص الموجبة لتولّد الألف ، ثمّ الهاء المفتوحة كذلك ، ثمّ اللام الساكنة - بمعنى الجماعة ، يعني : هؤلاء الجماعة.

« لئمر » - باللام المكسورة - فالهمزة الساكنة ، فالميم المضمومة ، فالراء المهملة الساكنة - بمعنى : « للقول الذي » فسّره قوله.

« لأ أسف » إلى آخر الآية - باللام المضمومة ، فالهمزة الساكنة - بمعنى : « لا » النافية.

« أسف » - بالهمزة المضمومة ، فالسين المهملة المكسورة ، فالفاء الساكنة - بمعنى : أزيد وأكثر.

« لشموع » - باللام المكسورة كاللام الجارّة في العربيّة ، فالشين المعجمة الساكنة ، فالميم المضمومة ، فالعين المهملة المفتوحة ولكن بزيادة الواو قبلها في اللفظ دون الخطّ في التوراة ونقل الفتحة إليها وقراءة العين بالسكون - بمعنى : لسماع.

« إت » - بالهمزة المكسورة والتاء المثنّاة الساكنة - بمعنى : لام التقوية في العربيّة ، كما في نحو قوله تعالى : ( لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ ) (1).

« قول » - بالقاف المضمومة ، فالواو الساكنة التي لم تظهر في القراءة ، فاللام الساكنة - بمعنى : الصوت والقول.

« أدوناي » مرّ بيانه.

« إلهاي » - بالهمزة المكسورة ، فاللام المضمومة ، فالهاء المضمومة ، فالهاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة ، فالياء الساكنة - بمعنى : خالقي.

و « إت » مرّ بيانه.

« ها » - بالهاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة - بمعنى : ذلك.

« إش » - بالهمزة المكسورة ، والشين المعجمة الساكنة - بمعنى : النار.

ص: 106


1- يوسف (12) : 43.

« هكدلاه » - بالهاء المفتوحة للإشارة ، والكاف المفتوحة المقروءة بلا توفيق كما في « كفت » بالفارسيّة المسمّاة بالكيمال ، والدال المهملة المضمومة ، واللام المفتوحة الإشباعيّة ، ثمّ الهاء الساكنة - بمعنى : تلك الكبيرة.

« هزأت » - بالهاء المضمومة ، فالزاي المعجمة المضمومة ، فالهمزة الساكنة ، والتاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى : هذه.

« لأ » - باللام المضمومة ، فالهمزة الساكنة - بمعنى : « لا » النافية.

« إرءه » - بالهمزة المكسورة ، والراء المهملة الساكنة ، ثمّ الهمزة المكسورة مع الهاء الساكنة وإن لم تظهر في اللفظ - بمعنى : أرى.

« عود » - بالعين المهملة المضمومة ، والواو والدال المهملة الساكنتين - بمعنى : بعد ذلك.

« لأ آموت » - « لا » مثل ما مرّ و « آموت » - بالهمزة المفتوحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الميم المضمومة ، فالواو الساكنة الظاهرة في التلفّظ ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى : أمرت.

و « يأمر » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المضمومة ، مع الهمزة الساكنة - ثمّ الميم المكسورة ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى : أمر.

« أدوناي » مرّ بيانه.

« إلاي » - بالهمزة المكسورة ، فاللام المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى : إليّ.

« هيطيبو » - بالهاء المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة التي لا تظهر في القراءة ، فالطاء المهملة المشالة المكسورة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة الظاهرة في التلاوة ، فالباء الموحّدة المضمومة ، فالواو الساكنة - بمعنى : أحسنوا وفعلوا الحسن.

« أشر » مرّ بيانه.

« ديبرو » - بالدال المهملة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة يتولّد منها الياء الساكنة

ص: 107

التي تكون في اللفظ دون الكتابة ، ثمّ الباء الموحّدة المكسورة ، فالراء المهملة المضمومة ، مع الواو الساكنة - بمعنى : تكلّموا وقالوا.

« نابئ » مرّ بيانه.

« آقيم » - بالهمزة المفتوحة الإشباعيّة ، ثمّ القاف المكسورة ، ثمّ الياء والميم الساكنتين - بمعنى : أقيم وأبعث.

« لاهم » - باللام المفتوحة الإشباعيّة ، ثمّ الهاء المكسورة ، مع الميم الساكنة - بمعنى : لهم.

« ميقرب » مرّ بيانه.

أحهم » - بالهمزة المفتوحة ، فالحاء المهملة المكسورة ، فالهاء المكسورة ، مع الميم الساكنة - بمعنى : إخوتهم.

« كاموخا » - بالكاف المفتوحة الإشباعيّة ، ثمّ الميم المضمومة ، مع الواو الساكنة التي لا تظهر في القراءة وإن كانت ثابتة في الكتابة ، ثمّ الخاء المعجمة بالفتحة الإشباعيّة - بمعنى : كمثلك.

و « ناتتي » - بالنون المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع المقروءة مع الشدّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى : نؤتي.

« دباري » - بالدال المهملة المفتوحة ، فالباء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف ، ثمّ الراء المهملة المضمومة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى : كلاماتي.

« بپيو » - بالباء الموحّدة المفتوحة - بمعنى : « في » - ثمّ الياء العبريّة كالفارسيّة المشتملة على ثلاث نقط تحتانيّة على المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة والواو الساكنة - بمعنى فمه - ف- « پي » بمعنى الفم ، والواو بمعنى : ضمير الغائب.

و « دبير » - بالدال المهملة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد منها الياء لفظا

ص: 108

لا خطّا في التوراة ، ثمّ الباء الموحّدة المكسورة مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى : ويتكلّم.

« أليهم » - بالهمزة المفتوحة ، فاللام المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة التي تثبت خطّا لا لفظا ، ثمّ الهاء المكسورة ، فالميم الساكنة - بمعنى : معهم.

« إت » مرّ بيانه.

« كل » - بالكاف المضمومة واللام الساكنة - بمعنى : كلّ.

« أشر » مرّ.

« أصونو » - بالهمزة المفتوحة ، فالصاد المهملة المفتوحة ، والواو المكسورة ثمّ النون المضمومة مع الواو الساكنة مكان الضمير للغائب - بمعنى آمره وأطلب منه.

و « هاياه » بالهاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة مع الهاء الساكنة الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى : وليكن.

« هاإيش » - بالهاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف - بمعنى : ذلك.

و « ايش » - بالهمزة المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ومع الشين المعجمة الساكنة - بمعنى : الرجل.

« أشر » مرّ.

« لأ » مرّ.

« يشمع » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، فالشين المعجمة الساكنة ، فالميم المفتوحة ، فالعين المهملة الساكنة - بمعنى يسمع.

« إل » - بالهمزة المكسورة ، فاللام الساكنة - بمعنى : على ، والباء.

« دباري » مرّ بيانه.

« أشر » مرّ.

« يدبر » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة ، والدال المهملة المفتوحة والباء

ص: 109

الموحّدة المكسورة والراء المهملة الساكنة - بمعنى : يتكلّم.

« بشمي » - بالباء الموحّدة المكسورة ، والشين المعجمة الساكنة ، والميم المكسورة ، والياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى : باسمي ، بالباء الجارّة المختتم بياء المتكلّم.

« آنخي » - بالهمزة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف ، ثمّ النون المضمومة ، فالخاء المعجمة المكسورة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى : إنّي.

« إدرش » - بالهمزة المكسورة مع الدال المهملة الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المضمومة مع الشين المعجمة الساكنة بمعنى : أؤاخذ وأعاقب وأطالب بسبب عدم السماع.

« معيمو » - بالميم المكسورة ، فالعين المهملة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد منها الياء لفظا لا خطّا ، ثمّ الميم المضمومة بالضمّة المتداولة من غير إشباع وإن كان بعدها الواو خطّا لا لفظا - بمعنى : من عنده.

« أخ » - بالهمزة المفتوحة مع الخاء المعجمة الساكنة - بمعنى : مهما.

« هي » - بالهاء المفتوحة - بمعنى : ذاك.

« نابئ » مرّ بيانه.

« أشر » مرّ بيانه.

« يازيد » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف الساكنة ، ثمّ الزاي المعجمة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى : يقصد ، والمراد القصد النفسانيّ الشهوانيّ.

« لدبر » - باللام المفتوحة بالفتحة التي هي كالممالة ، فالدال المهملة المفتوحة بالفتحة الظاهرة ، فالباء الموحّدة المكسورة ، فالراء المهملة الساكنة - بمعنى للتكلّم.

« دابار » - بالدال المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا في التوراة ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها [ الألف ] لفظا لا خطّا في التوراة ، ثمّ الراء المهملة الساكنة - بمعني الكلام.

« بشمي إت أشر » مرّت ، وكذا « لأ ».

ص: 110

« صيويتيو » - بالصاد المهملة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي تتولّد منها الياء الساكنة الثابتة لفظا لا خطّا في التوراة ، ثمّ الواو المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة والواو الساكنة - بمعنى : لا أمرته.

« لدبر وأشر يدبر » مرّت.

« بشم » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة التي هي كالممالة ، والشين المعجمة المكسورة ، والميم الساكنة - بمعنى : باسم.

« إلهيم » - بالهمزة المكسورة ، واللام المضمومة ، والهاء المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، والميم الساكنة - بمعنى : الآلهة.

« أحريم » - بالهمزة المفتوحة ، فالحاء المهملة المكسورة ، فالراء المهملة المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، والميم الساكنة - بمعنى : آخرين.

« وومت » - بالواو المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، ثمّ الميم المكسورة ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة - بمعنى : واجب القتل الذي يجب قتله.

« هى نابئ » مرّا.

« ههوء » - بالهاء المفتوحة ، فالهاء المضمومة مع الواو والهمزة الساكنتين - بمعنى : هو.

« وخي » - بالواو المفتوحة بالفتحة التي هي كالممالة ، والخاء المعجمة المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى : « لما » الرابطة ، أو « إن » الشرطيّة ، أو « إذا ».

« تؤمر » - بالتاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة مع الهمزة الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى : تقول.

« بيلبابي خا » - بالباء الموحّدة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الباء المكسورة بالكسرة الممدودة قليلا ، ثمّ الخاء المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة

ص: 111

كما مرّ - بمعنى : في قلبك.

« إى خاه » - بالهمزة المكسورة ، مع الياء الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الخاء المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة مع الهاء المكتوبة التي لا تظهر في التلفّظ - بمعنى : « كيف » للاستفهام.

« ندع » - بالنون المكسورة ، فالدال المهملة المفتوحة ، مع العين المهملة الساكنة - بمعنى نعلم.

إت هى دابار أشر » مرّت ، وكذا « لأ ».

« دبرو » - بالدال المهملة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة ، فالراء المهملة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا في حكم ضمير الغائب المفرد المذكّر - بمعنى : تكلّم به.

« أدوناي » مرّ بيانه.

« أشر يد برهى نابئ بشم أدوناي » مرّ بيانها ، وكذا « ولأ ».

« بيه ييه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة مع الهاء الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الممدودة قليلا ، مع الهاء الساكنة - بمعنى : يصير ويقع ويتحقّق.

« هى دابار » مرّ بيانهما ، وكذا « ولأ ».

« يابؤ » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الباء الموحّدة المضمومة ، مع الهمزة الساكنة - بمعنى : يأتي ، أي لا يجيء ولا يقع.

« هوء » - بالهاء المضمومة ، مع الواو والهمزة الساكنتين - بمعنى : « ذلك » و « هو ».

« هى دابار أشر لأدبر وأدزى نا » مرّ بيانهما.

« بزادون » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة التي هي كالممالة ، فالزاي المعجمة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الدال المهملة المضمومة مع

ص: 112

الواو التي تثبت خطّا لا لفظا ، والنون الساكنة - بمعنى : في القصد ، أي في رأيه وهواه.

« دبر وهى نابى » مضى بيانها ، وكذا « لأ ».

« تاغور » - بالتاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الغين المعجمة المضمومة ، مع الواو الساكنة ، والراء المهملة الساكنة - بمعنى : تخاف ، أي لا تخشى.

« مي م نو » - بالميم المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد منها الياء ، ثمّ الميم المكسورة بالكسرة المطلقة ، فالنون المضمومة مع الواو الساكنة - بمعنى : منه ، مع تضمّنه معنى منّا ، أي لا تخف منه ولا منّا في قتل ذلك الكاذب ، ولعلّه لذا كرّرت الميم بمعنى : من.

فإذا عرفت ما ذكرنا نقول : إنّ المعنى التركيبي المستفاد من الآيات المذكورة أنّ موسى علیه السلام يخبر عن اللّه تعالى - في السفر الخامس من التوراة الذي هو كالمثنّى لما تقدّم من باب التذكرة لمن تقدّم ، والتبصرة لمن تأخّر ، ولهذا يسمّى مشته ثورى - :

بأنّه تعالى يبعث لك نبيّا من بنيك من إخوتك كمثلي فاسمعوا له وأطيعوه ، وكلّ ما سألت من عند اللّه الخالق في الحورب في يوم الاجتماع بهذا القول لا أزيد في الطلب بطلب سماع صوت اللّه الذي هو خالقي ، ولا أرى تلك النار الكبيرة والصاعقة المهلكة بعد ، ولا أموت بتأثيرها ، ويأمر اللّه ويقول لي : أحسنوا فيما قالوا من عدم طلب صوت اللّه. وقال اللّه تعالى : نبيّا أبعث لهم من بين إخوتهم كمثلك وأعطني كلامي في فيه وهو يتكلّم معهم بكلّ ما أوصيه ، وأحكم به - يعني بطريق الوحي - إليه كما إلى موسى ، ولكن من غير صاعقة موحشة مهلكة ؛ بحيث أدري أنا ويدري هو من غير إدراك غيرنا مثل كلام أهل النجوى والمشورة ، كما هو حال الوحي من اللّه إلى خاتم الأنبياء ، وقال اللّه تعالى : وكلّ من لا يسمع كلماتي التي يتكلّم ذلك النبيّ بها باسمي أنا أؤاخذ منه وأعاقبه ، ومن ادّعى النبوّة وقصد هوى نفسه في التكلّم باسمي بما لا أوصيه للتكلّم ، أو تكلّم باسم آلهة أخرى فهو واجب القتل.

ص: 113

وإن خطر ببالك من أين ، وكيف نعلم أنّ ذلك الكلام ممّا لم يتكلّم به اللّه؟

قلت - في مقام بيان علامة يعرف بها الحقّ والباطل ، وكون ما يتكلّم به كلاما ألقاه اللّه في فيه - إنّ كلّ ما يتكلّم به ذلك النبيّ باسم اللّه ولا يقع ولا يأتي ، كلّ ذلك ممّا لم يتكلّم به اللّه ، بل يقصده وهو نفسه تكلّم ذلك النبيّ ، لا تخف منه فاقتله » (1).

ويستفاد من ذلك أنّ النبيّ الموعود لا بدّ أن يكون صاحب الشريعة المستقلّة المشتملة على الأحكام الجديدة اللاحقة - كموسى - المستلزمة لنسخ ما تقدّم ولو في الجملة ولا بدّ أن يكون مدّعيا للنبوّة ، ومخبرا عن اللّه لا عن الأصنام والأنداد ، ومخبرا للغيب الاستقباليّ الذي يصير واقعا بعد إخباره. وذلك النبيّ هو محمّد بن عبد اللّه بلا شبهة ؛ لأنّه ادّعى النبوّة بالتواتر والضرورة ، وأخبر عن اللّه بالبديهة كما يشهد عليه نحو قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (2).

وأخبر بالمغيبات التي صارت واقعة بعد إخبارها كما يشهد عليه نحو قوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) (3) ، وقوله تعالى : ( لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (4) ، وأنّه لا نبيّ بعده في قوله تعالى : ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (5) ، وواقعة كربلاء في « كهيعص » (6) فقد ورد أنّ « الكاف » إشارة إلى كربلاء ، و « الهاء » إلى هلاك العترة الطاهرة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والياء إلى يزيد ، و « العين » إلى عطشهم ، و « الصاد » إلى صبر الحسين علیه السلام (7).

ص: 114


1- « العهد العتيق » ، سفر التثنية ، 18 ، الآية 15 - 22.
2- النساء (4) : 58.
3- البقرة (2) : 24.
4- الإسراء (17) : 88.
5- الأحزاب (33) : 40.
6- مريم (19) : 1.
7- « الاحتجاج » 2 : 463 ؛ « بحار الأنوار » 14 : 178 ، ح 14.

وكذا الإخبار الغيبي الاستقباليّ بالنسبة إلى أهل الروم بقوله تعالى : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (1). إلى غير ذلك من الأخبار الغيبيّ الاستقباليّ الذي يعدّ أخباره واقعا ، كما يشهد به التتبّع والاستقراء في التواريخ والأفواه على وجه التكاثر والتواتر.

فإن قلت : مقتضى قوله تعالى : « ميقرب أخهم » - أي : من بين إخوتهم - أنّ ذلك النبيّ لا بدّ أن يكون سبطا من أسباط بني إسرائيل ، وهو عيسى الذي كان من بني إسرائيل.

قلت أوّلا : إنّ الضمير عائد إلى بني إسرائيل ، وعيسى علیه السلام كان منهم ومن أولاد يهودا لا من إخوتهم ، فإن كان هو المراد لزم أن يقول : منهم ، كما قال اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ) (2).

فلا يمكن أن يقال : إنّ النبيّ الموعود الذي يوجد اللّه كلامه في فيه وله الأحكام المستقلّة المخالفة لأحكام موسى علیه السلام هو عيسى علیه السلام أو سيجيء من بني إسرائيل.

ويشهد على ذلك قوله : « م اخحا » فإنّه جعل جميع بني إسرائيل في حكم الواحد وأضيف إليهم ما هو بمعنى الإخوة ، فيستفاد منه أنّه لا بدّ أن يكون ذلك النبيّ من غير بني إسرائيل كما لا يخفى على من له أدنى إدراك وإنصاف.

فتعيّن أن يكون هو نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي هو من أولاد إسماعيل الذي هو أخ لإسحاق ، الذي هو أب ليعقوب الملقّب بإسرائيل ؛ لتولّدهما من إبراهيم الخليل.

والحاصل : أنّ كلّ من تولّد من إسرائيل سمّوا ببني إسرائيل ، وكلّ من تولّد من إسماعيل سمّوا ببني إسماعيل ، فالنبيّ الموعود الذي وعدنا اللّه أن يبعثه من إخوة بني إسرائيل - لا منهم - لا بدّ أن يكون من بني إسماعيل ويكون كموسى صاحب

ص: 115


1- الروم (30) : 1 - 4.
2- الجمعة (62) : 2.

تكلّم من اللّه ، وصاحب الشريعة المستقلّة ، والأحكام التي هي مباينة لأحكام موسى في الجملة ، حتّى تكون أحكاما على حدة - كما يستفاد من الآيات المذكورة - وهو نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ إذ ليس من بني إسماعيل نبيّ مثل موسى في الرتبة والشريعة المستقلّة غيره صلی اللّه علیه و آله بالبديهة ، كما تشهد به التواريخ والأخبار المتكاثرة.

واحتمال كون ذلك النبيّ الموعود ممّن يجيء بعد ذلك - مع أنّ النصراني المعارض لا يقول به وهو إبطال له - مدفوع بأنّ ذلك النبيّ لو كان غير نبيّنا وكان نبيّنا كاذبا لوجب على اللّه إبطاله ، فعدم الإبطال يوجب إبطال ذلك الاحتمال.

كما حكي عن كتاب أرمياء ، في الفصل الثامن والعشرين : أنّ صباه بن عزور - الذي كان نبيّا صدّيقا - افترى على اللّه أنّه رفع ما أوعد من غلّ بخت نصّر على أعناقهم ، فأمر أرمياء بتكذيبه ، وأنّه يموت في تلك السنة ، ومات (1). مع أنّ وجود العلامة - أعني الإخبار بالغيب مع وقوعه بعد الإخبار - يقتضي الحقّيّة وبطلان ذلك الاحتمال.

وبهذا يظهر جواب آخر عن أصل السؤال ، فإنّ إثبات شيء لشيء لا ينفيه عمّا عداه ، فبعد وجود الإخبار بالغيب على وجه التطابق للواقع يحكم بحقّيّة المخبر كائنا من كان ، بحكم الآيات المذكورة في التوراة.

وثانيا : إنّه ورد في الفصل الرابع والثلاثين آخر فصول السفر الخامس - آخر التوراة الأصليّة - ما يدلّ على أنّه لا يجيء في بني إسرائيل نبيّ مثل موسى في الرتبة والتكلّم معه بلا واسطة (2). فيجب أن يكون ذلك النبيّ المماثل لموسى علیه السلام في الرتبة والتكلّم معه بلا واسطة من غير بني إسرائيل ، أو من إخوتهم ، وهو نبيّنا صلی اللّه علیه و آله والآية المشار إليها بالخطّ العبري الذي يكتب به التوراة هذه الآية وبالخطّ العربي الذي يكتب به القرآن هذه : « ولأقام نابي عودد باسرائيل كموشه أشر يدا عو أدوناي پانيم

ص: 116


1- « العهد العتيق » ، كتاب إرميا ، الباب 28 ، الآية 15.
2- « العهد العتيق » : السفر الخامس ( تثنية ) ، الباب 34 ، الآية 10.

إل پانيم » (1). فإنّ هذه الآية من اللّه تعالى بلا خلاف.

نعم ، اختلفوا في أنّ المخبر بها هل هو موسى عند قرب موته ، أو يوشع بن نون النبيّ الذي كان وصيّه بلا فصل بعد موته بلا فصل؟ ولا شكّ أنّها تدلّ على أنّ النبيّ الموعود ليس عيسى الذي كان من بني إسرائيل من ذريّة يهودا ، فتدلّ على فساد اعتقاد النصرانيّ المعارض المدّعي بأنّه عيسى ، فيكون غيره الذي ادّعى النبوّة ، وأخبر عن اللّه ، وأخبر بالغيب الاستقبالي الذي صار واقعا ، وهو نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله .

بيان ذلك : أنّ الألفاظ مرّ بيان كلّها إلاّ « يداعو » و « پانيم » :

و « يداعو » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة ، والدال المهملة المفتوحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ العين المهملة المضمومة مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى : لعلمه ، من الإعلام.

« پانيم » - بالياء المثلّثة التحتانيّة العبريّة ، المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ النون المكسورة مع الياء التحتانيّة ، والميم الساكنتين - بمعنى : الوجه ، وبعد ضمّ « إل » - بكسر الهمزة - بمعنى : « على » ، يكون بمعنى المشافهة.

فتدلّ الآية المزبورة على أنّه لا يجيء من بني إسرائيل نبيّ مثل موسى يتكلّم معه اللّه بالمشافهة ، فيجب أن يكون من غيره ممّن له علامة الصدق المذكورة وهو نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله كما مرّ.

فإن قلت : إنّ ذلك النبيّ الموعود لعلّه من أولاد « عسو » أخي يعقوب المتولّد معه توأمين.

قلت : مع أنّه لم يجئ من نسله أحد يدّعي ذلك ، ولا يمكن إهمال العباد الذين حملهم محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله على دينه - على تقدير كذبه - أنّ « عبدياه » النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخبر عن اللّه أنّ عسو منقرض النسل ، وأنّه لم يبق منه أحد.

ص: 117


1- المصدر السابق.

وصورته بالخطّ العبري هذا :

الصورة

وبالخطّ العربي صورته هذه : « وهاياه بيت يعقوب اش ربت يوسف لهاباه وبيت عسو لقش ودالقو باهم واخالوم ولأيه يه ساريد لبيت عسوكي ادوناى دبر ».

بيان : « وهاياه » قد مرّ بيانه.

« بيت » - بالباء الموحّدة المكسورة مع الياء المثنّاة والتحتانيّة التي تثبت خطّا لا لفظا ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى البيت.

« يعقوب » اسم لنبيّ معروف ، ولكن من غير ظهور الواو في العبري ، وكذا مع فتح العين المهملة.

« إش » - بكسر الهمزة مع الشين المعجمة الساكنة - بمعنى النار ، كما مرّ.

و « بت » مرّ.

« يوسف » - بالياء المضمومة من غير ظهور الواو ، والسين المهملة المكسورة مع الفاء الساكنة - اسم لنبيّ معروف.

« لهاباه » - باللام المكسورة ، فالهاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف. مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى اللّهب.

ص: 118

و « بيت » مرّ.

« عسو » - بالعين المهملة المكسورة ، والسين المهملة المفتوحة الإشباعيّة ، مع الواو الساكنة - اسم لأخي يعقوب.

« لقش » - باللام المفتوحة الممالة ، والقاف المفتوحة ، مع الشين المعجمة الساكنة - بمعنى الأجزاء الدقيقة الجافّة من نحو الحشيش التي يقال لها بالفارسيّة : « خاشاك ».

« ودالقوبا » - بالواو المفتوحة ، فالدال المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف لفظا لا خطّا في التوراة ، مع اللام الساكنة ، فالقاف المضمومة مع الواو الساكنة - بمعنى يتلهّب.

« باهم » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الهاء المكسورة ، مع الميم الساكنة - بمعنى بهم وفيهم.

« وأخالوم » - بالواو المفتوحة بالفتحة الطويلة ، فالهمزة المفتوحة كذلك ، فالخاء المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ اللام المضمومة ، مع الواو والميم الساكنتين - بمعنى وأكلوهم وأحرقوهم.

« ولايه يه » مرّ بيانه بمعنى ولا يمكن.

« ساريد » - بالسين المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الراء المهملة المكسورة مع الياء المثنّاة التحتانيّة ، والدال المهملة الساكنتين - بمعنى الجثّة أي أحد منهم ، وذي نفس منهم.

« لبيت » باللام المفتوحة. ، و « بيت » مرّ بيانها.

« عسو » مرّ.

« كي » - بالكاف المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى اللام التعليل ، أو « لمّا » الرابطة ، أو مطلق الربط نحو « كه » في الفارسيّة.

« أدوناي دبر » مرّ بيانهما بمعنى حيث قال اللّه تعالى.

والمعنى التركيبي المستفاد من تلك المفردات أنّه يصير أولاد يعقوب كالنار ،

ص: 119

وذرّية يوسف كاللّهب ، وذرّية « عسو » كالحشيش الجافّ ، ويأخذ تلك النار واللّهب ذلك الذي كالوقود من الحطب ، وتهلكانه وتحرقانه وتأكلانه كما تأكل النار الحطب ، بحيث لم يبق ذو نفس من نسل « عسو » حيث تكلّم اللّه به ، فيستفاد من تلك الآية عدم بقاء نسل « عسو » وانقراضهم فلم يبق احتمال كون ذلك النبيّ الموعود من نسله ، فتعيّن كونه من غيرهم ممّن يكون من ذرّيّة إسماعيل الذي يكون من إخوتهم ولو مجازا ، من جهة تعذّر الحقيقة وأقرب المجازات ، وكونه من له العلامة المذكورة وهو محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وممّا ذكرنا يظهر أنّ من جاء بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل - مع الإخبار بالغيب الاستقبالي الذي صار واقعا ك « هيلا » النبيّ الذي أخبر بواقعة كربلاء ونحوها كما سيأتي - ليس ذلك النبيّ الموعود ، من جهة عدم إيجاد اللّه كلامه في فيهم ، وعدم كونهم ذوي الأحكام الجديدة مع كونهم من بني إسرائيل الذين أخبر اللّه بعدم مجيء مثل موسى منهم مع إخباره بأنّ ذلك النبيّ مثل موسى علیه السلام .

وبالجملة : فإنكار اليهود والنصارى لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله إنكار لدينهم وكتابهم كما لا يخفي على من لاحظ ما ذكرنا من آيات التوراة كما بيّنّا ، فهو في [ حقّ ] (1) كثير من باب اللجاج والاعتساف والخروج عن الإنصاف واتّباع الهوى ومخالفة اللّه.

فإن قلت : يمكن عند حمل الإخوة على أولاد إسماعيل حملها على إخوته من سائر أولاد إبراهيم الخليل ، فقد حكي أنّه كان له غير إسماعيل وإسحاق أولاد ستّة من قطوراه منقطعة إبراهيم علیه السلام - : زمران ، يافشان ، مدان ، مديان ، يشباق ، شووح أيضا.

قلت أوّلا - مع أنّه أيضا ينفي مراد ذلك النصراني المعارض - : إنّ مقتضى ما ذكرنا من الآيات التوراتيّة أنّ من ادّعى النبوّة من اللّه ، وأخبر بالغيب الاستقبالي الذي صار واقعا فهو حقّ يجب إطاعته والسماع منه ، وأنّ ترك ذلك يوجب المؤاخذة

ص: 120


1- كذا في الأصل.

الإلهيّة كما تقدّم ، وقد بيّنّا أنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله كان كذلك ، فيجب إطاعته والسماع منه كلّ ما ادّعاه ، ومنه أنّه : « لا نبيّ بعدي ». فلا يبقى للاحتمال المذكور سبيل.

وثانيا : إنّه حكي إفادة التوراة نفي ذلك الاحتمال أيضا ، فلا يكون ذلك الاحتمال إلاّ من اللجاج والعناد ، فإنّه حكي عن إبراهيم علیه السلام في السفر الأوّل من التوراة أنّه أبعد الستّة المسطورين إلى بلاد المشرق بعد أن متّعهم ما يكتفون به ، ولا يدّعون الإرث بعده ، وأنّه لم يكن عند وفاته إلاّ إسماعيل وإسحاق ، وأنّ إسماعيل علیه السلام كان أعزّ أولاده ، فيكون من نسل المحبوب لا المبغوض.

وبالجملة : فيظهر ممّا ذكرنا أنّ إنكار نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ليس غالبا إلاّ من العصبيّة ، أو حبّ الرئاسة فإنّها بعد ملاحظة ما ذكرنا تكون كالشمس في رابعة النهار ، بل أظهر من الشمس وأبين من الأمس ؛ فإنّا أوضحنا برهانها ، وشيّدنا بنيانها ، وأحكمنا أركانها ، وأورقنا أغصانها بذكر الأدلّة العقليّة والنقليّة عند كلّ فرقة ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة ، فلم يبق للمنكرين محيص ، بل جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ، ولقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، فلا إفادة في الزيادة فإنّها إعادة أو كالإعادة.

فينبغي بعد ذلك أن يقال : ( يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (1) كما أمر نبيّنا صلی اللّه علیه و آله أن يقول في جوابهم ذلك ، فالعاقل تكفيه الإشارة والجاهل لا تفيه العبارة ، ومن لم يستضئ بالمصباح لم يستضئ بالإصباح.

ثمّ اعلم أنّ جماعة من الفضلاء الذين عاصرناهم ، وغيرهم أفادوا في مقام الجواب عن شبهة ذلك النصرانيّ المعارض أجوبة كثيرة ينبغي الإشارة إلى بعضها ، فأقول :

ص: 121


1- الكافرون : (109) : 1 - 6.

[ ما أفاده الفاضل الكاشاني في مقام الردّ على النصراني ]

منهم : العالم الربّاني ، الفاضل الكاشاني حيث أفاد في مقام الردّ على ذلك النصرانيّ الذي أورد على نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ما أشرنا إليه ، مع جوابه أمور :

منها : « أنّ نوع الإنسان الذي هو أشرف أنواع الأكوان مدنيّ بالطبع ، محتاج إلى التمدّن والاجتماع في المدينة والمكان ، ورفع كلّ لحاجة غيره في الغذاء ، واللباس ، والمسكن ، ودفع الأسقام بالأدوية البسيطة ، أو المركّبة وأمثال ذلك من أمور المعاش والمعاد ، وحيث كان التركّب من القوى البهيميّة السبعيّة والملكيّة موجبا للتشاجر والجدال ، والقيل والقال ، والنزاع والقتال ، ونهب الأموال ، وأسر النساء والأطفال ، ونحو ذلك من أسباب الاختلال ، كان اللازم على الحكيم المتعال بحكم صريح العقل من تعيين مقنّن القوانين ، الرادع للاضمحلال ، حذرا عمّا ينافي الغرض من خلق العالم السافل والعال ، وذلك في كمال الظهور وأظهر من الشمس وأبين من الأمس ، بل كأنّه محسوس بالحواسّ الخمس ، مضافا إلى إجماع جميع أهل الملل على بعث الرسل وإنزال الكتب للإرشاد إلى السبل والتكاليف المعاشيّة والمعاديّة التي لا يمكن بيانها إلاّ من قبل اللّه بلسان رسول من اللّه ، كما لا يخفى » (1).

« والإيراد - بأنّ نصب الرئيس إنّما يحتاج إليه عند عدم الإحاطة وعدم التمكّن على حفظ الكلّ بنفسه ، وأمّا بالنسبة إلى العالم القدير المحيط المسلّط على الكلّ فلا - مدفوع بأنّ النقص من القابل ؛ لعدم قابليّة الكلّ للتلقّي من اللّه بلا واسطة كما هو المشاهد المحسوس المعلوم بالوجدان والعيان ، فلا بدّ من الرئيس المطاع الرافع للقتال والنزاع ؛ حذرا عمّا ينافي الغرض من الصنع والإبداع وهو الاستعداد لنعيم الآخرة المترتّب على المعرفة والطاعة الموقوفتين على نظم أمر المعيشة ، وقد اعترف بما ذكرنا النصرانيّ المشار إليه بالنسبة إلى أمثال موسى وعيسى ، والتوراة

ص: 122


1- « سيف الأمّة » : 45 - 46 ، طبعة حجريّة.

والإنجيل ، وإن أنكره الزنديق » (1).

ومنها : « أنّه إذا تعلّق مشيئة اللّه بإرسال رسول إلى قوم ، وأمرهم بإطاعته لا بدّ من إعطاء علامة دالّة على صدق ذلك الرسول ، فيهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة ، ولئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة ، فلله الحجّة البالغة ، وتلك العلامة هي المعجزة المصدّقة ، كثعبان موسى ، وإحياء عيسى.

وقد صرّح بذلك في كتاب من كتب خمسة للتوراة حيث قال : سيأتي نبيّ من لم يؤمن به ، انتقم منه ، فقالوا هم : تعرف ذلك النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأنّه حقّ؟ قال : إنّه يعد شيئا فانظروا إن وعد ، إن حصل آمنوا به ، وإلاّ فلا ، فجعل الإخبار بالغيب من المعجزة.

وتوهّم عدم الفرق بين المعجزة وبين نحو السحر والشعبذة - ممّا يثبت به نحو النبوّة - فاسد ؛ فإنّ المعجزة أثر عجيب واقعي خارق للعادة مقترن بادّعاء ، نحو النبوّة الممكنة على وجه المطابقة لما واقع عليه المطالبة ، فلا يمكن التعلّم بالكسب والرياضة ، بخلاف غيرها كالسحر والشعبذة فإنّه ممّا يمكن تعلّمه بالكسب والرياضة.

وقد يتحقّق في ضمن الخيالي غير الواقع ، مع أنّه لو اقترن بادّعاء نحو النبوّة الممكنة يجب على اللّه إبطاله لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة ، فلا يتحقّق الاقتران والمطابقة كما هو في صورة الإتيان بما هو غير محلّ المطالبة ، كشفاء الأعمى عند مطابقة إنطاق الجماد ونحوه ممّا هو خارق العادة ، فالفرق واضح عند عدم من له أدنى مسكة ، فتنحسم مادّة الشبهة بلا شبهة.

وكذا تمتاز المعجزة عن الأرض والكرامة ، ككسر بناء كسرى ، وغور ماء ساوه ، وخمود النار ، ونحوها من خوارق العادة.

ص: 123


1- المصدر السابق : 49 - 50.

وبعبارة أخرى المعجزة الخارقة للعادة المقترن بالتحدّي المطابق للدعوى ، ومطلوب الخصم غير المقصور على أمر أو أمور خاصّة ، ولا المترتّب على سبب ظاهر ، ويستحيل صدوره عن الكاذب ، بل يجب على اللّه إبطاله » (1).

ومنها : « أنّ الدليل على ثبوت الرسالة الخاصّة لصاحب الرئاسة الإلهيّة العامّة سيّد الأنبياء محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله أمور :

الأوّل : أنّ اللّه بعث رسولا واجب الإطاعة لعباده أم لا؟ لا سبيل إلى الثاني باتّفاق الفريقين - مع أنّه خلاف اللطف الواجب - فتعيّن الأوّل ، فنقول : إنّ ذلك الرسول إمّا ممّن اشتهر ادّعاؤهم كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلی اللّه علیه و آله أو غيرهم ممّن لا يعلم؟

لا سبيل إلى الثاني باتّفاق الفريقين - مع أنّه تكليف بما لا يعلم فتعيّن الأوّل ، فنقول : إنّ ذلك المبعوث الذي وجب إطاعته إمّا كلّهم ، أو بعضهم ، لا دليل إلى الثاني ، إن كان المراد هو البعض لا على التعيين بالاتّفاق ، مع أنّه مثبت للمدّعى.

وإن كان المراد هو البعض المعيّن فنقول : إنّ التعيّن بدون الدليل خلاف الاتّفاق فلا بدّ من الدليل ، فنقول : إن كان لكلّ دليل فإمّا أن يكون الحقّ مع البعض دون بعض ، أو يكون مع الكلّ ، والأوّل باطل بالبديهة ، فتعيّن الثاني. وحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الكلّ ممّن يجب طاعته على الكلّ على وجه التشريك ، أو على وجه الترتيب والتوزيع ، والأوّل باطل بالبديهة ؛ لاستحالة وجوب طاعته المتأخّر المتقدّم - مضافا إلى التناقض والنسخ - فتعيّن حقّيّة الكلّ على الترتيب والتوزيع بحسب الزمان. ومن المعلوم أنّ نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله ادّعى النبوّة الممكنة ، وأتى بالمعجزة المصدّقة أكثر من أن تحصى كما سطرت في الكتب والرسائل على وجه التظافر والتواتر اللذين لا بدّ فيهما من الالتفات والتخلية ، بل هي أظهر ممّا حكى اليهود من معجزات

ص: 124


1- المصدر السابق : 50 - 53.

موسى ، والنصارى من معجزات عيسى ، فيجب تصديقه وإطاعته كتصديقهما وإطاعتهما » (1).

« فإن قلت : إنّ إطاعة عيسى علیه السلام ممّا اتّفق عليه المسلمون والنصارى ، وإطاعة محمّد صلی اللّه علیه و آله ممّا اختلفوا فيه ولا يجوز اختيار المختلف فيه مع وجود المتّفق عليه.

قلت : إنّ النزاع في إطاعة أهل هذا الزمان ، ولم يقل أحد من المسلمين بوجوب إطاعة هذا الزمان لعيسى علیه السلام ، بل يقولون بحرمتها ، ونسخ دينه ، ووجوب طاعة صلی اللّه علیه و آله فهذا غلط ناشئ من عدم تحرير محلّ النزاع.

ومثله شبهة أنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله اعترف بنبوّة عيسى علیه السلام فإنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله صرّح بانتهاء زمان عيسى في أمثال هذا الزمان ، فإن أقرّ عيسى بأنّ محمّدا - الذي يأتي ويقول بذلك - حقّ ورسول ، فنحن نصدّقه بتصديق محمّد صلی اللّه علیه و آله وإلاّ فلا.

والحاصل : أنّ عيسى كان رسولا على أهل زمانه وأمثاله ، والنزاع في أهل زماننا ، فلا يجري فيه الاستصحاب أيضا ، مع أنّ حجيّته موقوفة على ثبوت نبوّة نبيّنا ؛ لانحصار دليل الحجيّة على الصحيح في النقل عن أمنائه » (2).

مضافا إلى أنّه مدرك غير علمي فلا يصحّ ابتناء المسألة العلميّة عليه.

وبالجملة : ادّعى محمّد صلی اللّه علیه و آله النبوّة الممكنة وأتى بالقرآن الذي هو معجزة ، فإنّه طلب المعارضة بقوله : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (3) و ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ) (4) ونحو ذلك ، ولم يقدر أحد من الفصحاء البلغاء على الإتيان بمثله - مع كمال حرصهم على ردّه ونفيه ، بحيث إنّهم - بعد عجزهم عن المقابلة بالحروف - ارتكبوا المقاتلة بالسيوف ، ولا ريب أنّ كلّ أمر أتى به مدّعي النبوّة الممكنة ، وطلب

ص: 125


1- المصدر السابق : 56 - 58.
2- المصدر السابق : 58 - 62.
3- البقرة (2) : 23.
4- هود (11) : 13.

المعارضة بالإتيان بمثله ، ولم يقدر أحد عليه - مع كونهم في صدده - فهو معجزة وإن كان من الأمور السهلة ، مع أنّ القرآن كان بحيث لم يمكن ولا يمكن الإتيان بمثله في الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وعدم الانزجار مع كثرة التلاوة ، والاشتمال على الحقائق والدقائق والمطالب العالية والمضامين الكاملة ، بحيث يعجز عن إدراكها الفحول ، وفي الاشتمال على خواصّ السور والآيات ، وحصول الشفاء عن الأمراض بها ، وقصص الأنبياء وغيرهم من غير تعلّم ، والاشتمال على المغيّبات ونحوها.

مضافا إلى اتّصافه بالصفات الحسنة ، والأخلاق الجميلة ، والأعمال المستحسنة ، والأقوال المطبوعة وكون مدفنه ومدفن أوصيائه محلّ ظهور الكرامات واستجابة الدعوات ، كما هو المشاهد لمن حضر في المشاهد. (1)

الثاني : أنّ إرسال الرسل ليس إلاّ للإرشاد ورفع الضلالة عن العباد كما في الأزمنة السابقة ، ولا شكّ أنّ ظهور الطغيان والكفر والعصيان كان قبل بعثة خاتم الأنبياء أكثر من جميع الأزمنة ، فكان بعث الرسول في زمانه لازما ولم يكن غيره صلی اللّه علیه و آله داعيا إلى الحقّ مانعا عن الكفر مع ادّعاء النبوّة ، فهو النبيّ بالحقّ. (2)

الثالث : في أنّه أخبر جميع كتب الأنبياء السابقين بمجيء نبيّنا صلی اللّه علیه و آله مع ذكر أوصافه وعلائمه ، كما قال اللّه تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ) (3).

وقال : ( إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (4).

ص: 126


1- « سيف الأمة » : 74 - 79.
2- المصدر السابق : 82 - 84.
3- الأعراف (7) : 157.
4- الصفّ (61) : 6.

ولهذا قال : ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (1).

وبالجملة : أخبر اللّه تعالى في آيات كثيرة من التوراة بما يدلّ على نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله . (2)

منها : ما قال لإبراهيم الخليل بقوله : وليشمئل - إلى قوله - كادل ، كما يحكى في موضع آخر. وفيه ما فيه.

ومنها : غير ذلك من آيات التوراة الأصليّة والإلحاقيّة ، والآيات الزبوريّة ، والآيات الإنجيليّة ، بل من كتاب جاماسب الحكيم المعروف ب- « زند پازند » الذي يقال له : أسرار العجم ، وفيه استخراج أحوال الحوادث الآتية وإخفاء المجوس ، ولكن وجد بعضه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه ويحكى فيه عن زردشت ما يبيّن أحوال الأنبياء والملوك ، وعن أحوال خاتم الأنبياء ، وأنّه من العرب يظهر بين جبال مكّة ، وأنّه يركب كقومه على الناقة.

إلى غير ذلك من البراهين التي في تماميّة بعضها إشكال من ملاحظة ما ذكرنا ، ولكن بعضها جيّد وإن كان مع التكرار والإطناب. (3)

[ ما أفاده بعض المعاصرين في جواب النصراني ]

ومنهم : بعض الثقات من الفضلاء المعاصرين ، فإنّه أفاد في جواب النصراني المشار إليه : أنّ اللّه تعالى أشار إلى نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله في مواضع من التوراة والإنجيل - مضافا إلى إخبار بعض أنبياء بني إسرائيل - وقال ما حاصله :

« أنّه تعالى قال في السفر الأوّل من التوراة في الجزاء المعروف ب- « لخلخا » بعد ما تمنّى الخليل بعد تولّد إسماعيل إكرامه تعالى عليه ، هذا الكلام : وليشماعئل شمعتيخا هينه برختي أوتو وهفريتي أوتو وهربيتي أوتو بمأدمأد شنيم عاشار

ص: 127


1- البقرة (2) : 146.
2- « سيف الأمّة » : 84 - 87.
3- المصدر السابق : 87 - 129.

نسيئيم يوليد ونتتيو لغوي كادول ».

بيان ذلك أنّ :

« يشماعئل » اسم إسماعيل.

و « شمعتيخا » بمعنى استمعتك وسمعتك.

و « هينه » للتنبيه.

و « برختي أوتو » بمعنى أباركه.

و « هفريتي أوتو » بمعنى أصيّره صاحب الثمر والولد وأنبت منه.

و « هربيتي أوتو » بمعنى أكثّره كثيرا.

والمراد « بمأدمأد » محمّد صلی اللّه علیه و آله كما عن كتاب دانيال ونحوه ممّا هو من الكتب المعتبرة عند اليهود ، مضافا إلى كونهما موافقين في العدد بحساب الجمل ، فإنّ كلاّ منهما بحسب العدد اثنان وتسعون كما لا يخفى.

« وشينم عاشار » بمعنى اثني عشر.

و « نسيئيم » بمعنى كبير معصوم لم يصدر منه خطأ ، صادق صالح كامل ما ينطق عن الهوى.

و « يوليد » بمعنى يلد.

و « نتتيو » بمعنى نعطيه.

و « لغوي » بمعنى الكبير ، أو الطائفة.

و « كادول » بمعنى كثير الكبر والعظم ، فالمعنى أنّ اللّه تعالى قال لإبراهيم [ لإسماعيل ] (1) اسمعتك أن أباركه وأنبت منه وأكثره كثيرا وأصيّره كثير الثمر. بمحمّد اثنا عشر من شرفاء الناس ، صدّيقون معصومون يتولّدون منه ونعطيهم جلاله ، أو طائفة عظيمة.

ص: 128


1- كذا في الأصل.

وقد حكى عن جميع من أسلم من اليهود أنّهم قالوا : إنّ الاثني عشر هم الأئمّة الاثنا عشر ، بل عن بعض تفاسير اليهود العنود ، وعن بعض نسخ التوراة غير الناقصة ذكر أئمّة [ الإمام ] (1).

وما حكي عن بعض أهل اللجاج منهم من حمله على الاثني عشر من أولاد إسماعيل ، ومنهم قيدار النبيّ المدفون في السلطانيّة ، فمردود بأنّ « مأدمأد » في التوراة اسم محمّد صلی اللّه علیه و آله فالاثني عشر الذين مع محمّد صلی اللّه علیه و آله هم الأئمّة الاثنا عشر ، مضافا إلى عدم تحقّق الاثني عشر العظام الكرام من أولاد إسماعيل إلاّ الأئمّة الاثني عشر.

وتوهّم عدم تحقّق ما وعد اللّه إبراهيم من إعطاء محمّد والاثني عشر وكونه بعد ذلك أعني صاحب الزمان - أو كونهم مبعوثين إلى غير بني إسرائيل ، أو كونهم من السلاطين لا النبيّين - مدفوع بأنّ صاحب الأمر عندهم من أولاد داود وهو من إسرائيل ، والكلام المذكور يدلّ على أنّه من بني إسماعيل وليس من بني إسماعيل إلاّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وأئمّتنا علیهم السلام وبذلك يندفع توهّم كون النبيّ صلی اللّه علیه و آله الموعود هو عيسى ؛ لأنّه أيضا من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل مع أنّهم ينكرونه.

مضافا إلى ما في السّفر الخامس : وقام نابئ عود بيسرائيل كموشه. بمعنى أنّه لا يقوم نبيّ آخر بعد ذلك من بني إسرائيل كموسى في الرتبة ، وأنّ نبيّنا بمقتضى الكلام سالم عن العصيان والنسيان وقد ادّعى أنّه رسول مبعوث إلى الكلّ بقوله : ( إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (2) ، و ( ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (3).

وأورد عليه بأنّ « مأدمأد » بمعنى غاية النهاية في العبري ، لا محمّد ، وأنّ إسماعيل علیه السلام له اثنا عشر ولدا بلا واسطة ، فليس المراد الأئمّة ، ولا أقلّ من

ص: 129


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : « الأمّة ».
2- الأعراف (7) : 158.
3- سبأ (34) : 28.

الاحتمال المتّصل للاستدلال ، وأولاد إسماعيل بلا واسطة : نبايت ، وقيدار ، وادبئل ، ومئبسام ، ومشماع ، دوماه ، ومسّاه ، وحدار ، ونيما ، يطور ، ونافيش ، وقدماه. كذا في السفر الأوّل بعد لخلخا في الپاراش المعروف بحي سارا ، في الفصل الخامس والعشرين. (1)

قال : وقال تعالى في السفر الخامس : « نابيء آقيم لا هم ميقرب أحهم كاموخا وناتتي دباري بپيو ودبير إليهم إت كل اشر أصونو ».

وفسّر بأنّ اللّه تعالى قال : نبيّا أبعث إليهم من بين أولاد إخوتهم مثلك ونعطي كلامنا بلسانه ، وهو يتكلّم بما تأمره على طريق الوحي إليه كما إلى موسى ، ولكن من غير صاعقة موحشة هنا بل نوحي إليه ، بحيث أنا أدري وهو يدري من غير إدراك غيرنا مثل كلام أهل النجوى والمشورة ، كما هو حال الوحي من اللّه إلى خاتم الأنبياء.

وذلك أيضا في غاية الظهور ؛ إذ لم يكن أحد من أولاد إسماعيل الذي هو أخ إسرائيل مع كونه متّصفا بما ذكر إلاّ نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله كما لا يخفى ، فإنّ إسماعيل وإسحاق كانا أخوين متولّدين من خليل اللّه إبراهيم علیه السلام وكلّ من ولد من إسحاق الملقّب بإسرائيل سمّوا ببني إسرائيل وكلّ من تولّد من إسماعيل سمّوا ببني إسماعيل ، فالنبيّ المبعوث من بني إسماعيل - مثل موسى من بني إسرائيل - حقّ ، وهو نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واحتمال كونه غيره ممّن بعث بعد ، مدفوع بأنّهم من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل ، مع عدم كونهم مثل موسى في الرتبة والإتيان بشريعة على حدة وهو مقتضى ما ذكر ».

أقول : لا يخفى أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم كفاية هذا القدر من كلمات التوراة في إثبات المراد.

ص: 130


1- « العهد العتيق » ، السفر الأول ، الباب 25 ، الآية 13 - 15.

وأفاد ذلك الفاضل أيضا أنّه قال : « وأيضا ورد في كتاب يشعياء النبيّ ، في الفصل الثاني والأربعين آيات دالّة على مرادنا حيث قال :

هن عبدي إتماخ بو بحيري راصتاه نفشي ناتتّي روحي عالاو مشپاط لكوييم يوصياه لا يصعق ولا يسا ولا يشميع بحوص قولوه قانه راصوص لا يشبور ويشتاه خهاه لا يخبناه لامت يوصيا مشپاط لايخهه ولأياروص عد يا سيم با آرص مشپاط ولتوراتو إييم يييلوكه أمر هاءل أدوناي بورا هشامييم ونوطيهم رقع ها آرص وصإصائيها نتن نشاماه لا عام عاليها ورووح لهلخيم باه.

فإنّ ما ذكر يدلّ على الإخبار بأنّه يجيء نبيّ محبوب من اللّه ، يعطيه الوحي والشريعة لأقوام ، وأنّه لا يفتر ، ولا يصرخ ، ولا يكسر القصب الصغير ، ولا يطفئ الفتيل من الكتّان ، ويجيء بالشريعة ، وينتظره أهل الجزائر.

ولا ريب أنّ الشخص الموصوف بهذه الصفات - المبعوث بعد من سبق إلى كافّة الناس سيّما أهل الجزائر - ليس إلاّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله .

وأيضا ورد في الفصل الثاني من كتاب حيقوق النبيّ :

ويعني أدوناي ويأمر كتب حازون وبائر أعل هلوهوت لمعن ياروص قورابو كي عد حازون لموعد ويا فيح لقص ولا يكزب إيم يتمهمه حكه لوكي بايابا لأ يأحر هينه عوفلاه لأياشراه نفشوبو وصدّيق بامونا تو يحيه.

وفي الفصل الثالث من الكتاب المسطور ورد هذا الكلام :

إلوه متيمان يابو وقادوش مهر پاران سلاه كيساه هشامييم هودو وتهيلاتو مالئاه ها آرص.

فإنّه يستفاد من ذلك أنّه يجيء نبيّ آخر لا يكذب ويتكلّم عن أحوال القيامة ولا تيأسوا عند بطء مجيئه ؛ لأنّه يجيء البتّة ولا يؤخّر عن وقته ، ومن لم يطعه ليس صالحا ، ومن آمن به يحيا حياة طيّبة. ويظهر ذلك النبيّ من جبل فاران وهو نبيّنا محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى غيره ، كعيسى أو صاحب الزمان علیه السلام الذي طال زمان

ص: 131

ظهوره ولكنّه خاتم أوصيائه ، وسيظهر ويخرّب الداليان ، وهي مدينة في الفرنج ».

[ ما أفاده بعض المعاصرين الأخر ]

ومنهم : بعض الثقات الأخر من المعاصرين فإنّه استدلّ بنحو ما ذكر وغيره ، وكان ممّا يستدلّ به في هذا المقام ما حكي من إخبار الصغير المعروف بهيلد ، يعني ذلك المولود ، ويطلق ذلك اللفظ إلى زمان البلوغ ، وبعد التميّز إلى ثمان عشرة سنة يطلق عليه نعو ، ويقال لإخباره بالفارسيّة : « وحي كودك » وبالعبري : « نبؤت هيلد ».

بيان ذلك : أنّه كان من بني إسرائيل رجل عالم صالح مستجاب الدعوة بالاسم الأعظم ، اسمه : « ربي پنجاس » وكان له زوجة صالحة اسمها : « راحل » وكانت عقيمة عاقرة ، وكانت تستغيث إلى اللّه لطلب الولد - مع التضرّع والبكاء - والتمست من زوجها الاستغاثة من اللّه لذلك ، وأحلفته بالاسم الأعظم ، فترحّم فاستغاث ، فاستجاب له ربّه دعاءه ، فتولّد منهما ولد ذكر كان مدّة حمله ستّة أشهر ، ووضع في اليوم الأوّل من الشهر السابع أوّل نهار يوم الخميس أوّل التشرين بعد أربعمائة وعشرين سنة بعد التخريب الثاني لبيت المقدس - قبل ولادة خاتم الأنبياء بثمانين الدنيا ، وكان اسمه : « نجمان » فقال أبوه : اسكت يا نجمان ، فسكت ولم يتكلّم إلى اثنتي عشرة سنة ، فتضرّعت أمّه ، فدعا أبوه فانطلق لسانه ، فقال له : كلّ ما تقول اذكره على وجه الإجمال بحيث لا يفهمه أحد إلى أن يقع ويتحقّق ، فتكلّم بكلمات عديدة بفصول خمسة :

منها : أتيا أومّثا مزعزع بيرياتا عبدا هدمدتا بيد بني أمتا.

ومنها : ليشبيرت آبابا دمستيما ميبا لا يهوي ليه أركاد يصمح ملكا.

ومنها : محمّد كأيّاه آعا بأيّا ديطمع هوياه وييهيه كليليا.

ومنها : نهراكد مطاولؤت قص مطا ميثعبد قطاطاه وهوه حسف طينا داملطا.

ومنها : سغر پوحا وتوشباحا وازيل كسحا نفق نفشيه پحا.

ص: 132

ومنها : عفا عزا ونافل عزيزا وباطلاه كوزا ودي شلطت شميا وكزا.

ومنها : صيهرا شاهاه وسيبا وها شاطا وشامعا وعرق بها.

ومنها : ما ذكر في الفصل الثاني وهو هذا :

شيتا شيقا ومشتيحا عقا ومعقا غيقا ودبيقاه مستنقا رعصا مترصا وناصا وحالصاه ديّسا قفيصا ميتعرفا على يدي ساده سافاه كصورفا بتروفاه نتپساه لحوپا صبوعاه نصپعاه نسرفا ونفرعا وميوداعا يديعاه بشوعاه نشتعشع.

أقول : بيان الألفاظ المسطورة بحسب الضبط اللفظي ، والمعنى الإفرادي حذرا عن حصول الالتباس يقع في فصول :

فصل [1] : فيما يتعلّق بما حكى عن الجزء الأوّل من السفر الأوّل من التوراة فأقول :

« وليشماعئل » - بالواو المضمومة ، واللام الساكنة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، فالشين المعجمة الساكنة ، فالميم المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، مع العين المهملة الساكنة ، ثمّ الهمزة المكسورة ، مع اللام الساكنة - بمعنى ولإسماعيل.

« شمعتيخا » - بالشين المعجمة المفتوحة ، فالميم المفتوحة ، مع العين المهملة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع الياء التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الخاء المعجمة المفتوحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف - بمعنى سمعتك.

« هينه » - بالهاء المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي تتولّد منها الياء لفظا لا خطّا في التوراة ، ثمّ النون المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى هذا الزمان.

« برختي » - بالباء الموحّدة المكسورة والراء المهملة المفتوحة ، مع الخاء المعجمة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى باركته وخلقته مع البركة.

« أوتو » - بالهمزة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة

ص: 133

المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى « إيّاه » الذي هو الضمير الغائب المنصوب المنفصل ، ويقع على مدلوله فعل الفاعل ، فمعنى الكلّ : باركته وخلقته مع البركة.

و « هفريتي » - بالهاء المكسورة بالكسرة التي يجوز إشباعها ، مع الفاء الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ثم التاء المثناة الفوقانيّة المكسورة مع الياء المثناة التحتانيّة الساكنة - بمعنى أبثّ وأكثر.

« أوتو » مرّ بيانه.

و « هربيتي » - بالهاء المكسورة بالكسرة التي يجوز إشباعها ، مع الراء المهملة الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى أكثّر.

« أوتو » مرّ.

« بمأد » - بالباء الموحّدة المكسورة بالكسرة التي يجوز إشباعها ، مع الميم الساكنة ، ثمّ الهمزة المضمومة ، مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى الغاية.

« مأد » - بالميم المفتوحة ، فالهمزة المضمومة ، فالدال المهملة الساكنة - بمعنى النهاية.

وتوهّم كون « بمأدمأد » كلمة واحدة عبارة عن محمّد - كما هو مبنى المستدلّ - مردود ، وخلاف ظاهر كتابة التوراة التي شاهدتها.

« شنيم » - بالشين المعجمة المفتوحة ، فالنون المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الميم الساكنة - بمعنى اثني.

« عاشار » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة المولّدة للألف لفظا لا خطّا في التوراة ، ثمّ الشين المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة المولّدة للألف ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى عشر.

« نسيئيم » - بالنون المفتوحة ، فالسين المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة

ص: 134

التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الهمزة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد منها الياء الثابتة لفظا لا خطّا في التوراة مع الميم الساكنة - بمعنى رؤساء الطائفة وأجلّتهم.

« يوليد » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ اللام المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة وكذا الدال المهملة الساكنة بمعنى يولّد.

« ونتتيو » - بالواو المضمومة ، مع النون الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة الطولانيّة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، والواو الساكنة - بمعنى وأعطيه.

« لغوي » - باللام المفتوحة كالممالة ، فالغين المعجمة المضمومة ، مع الواو والياء الساكنتين - بمعنى القوم.

« كادول » - بالكاف العبريّة والعجميّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ الدال المهملة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، واللام الساكنة - بمعنى كبير بالكثرة والعدد ، والمعنى التركيبي مرّ بيانه وما فهّمه المستدلّ ، مع ما فيه.

فصل [2] : فيما يتعلّق بما حكي من كتاب يشعياء النبيّ ، فأقول :

« هن » - بالهاء المكسورة ، مع النون الساكنة - بمعنى هذا الزمان.

« عبدي » واضح.

« إتماخ » - بالهمزة المكسورة ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف ، مع الحاء المعجمة الساكنة - بمعنى أخذ إبطيه وأعينه.

« بو » - بالباء الموحّدة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى به.

« بحيري » - بالباء الموحّدة المفتوحة ، فالحاء المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى منتجبي ومختاري.

ص: 135

« راصتاه » - بالراء المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، مع الصاد المهملة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى المرضيّ.

« نقشي » - بالنون المفتوحة ، مع الفاء الساكنة ، ثمّ الشين المعجمة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة - بمعنى نفسي.

« ناتتي » - بالنون المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي تتولّد منها الألف ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة على وجه الشدّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى أعطيت.

« روحي » - بالراء المهملة المضمومة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الحاء المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى إلهامي لأجل (1) النبوّة.

« عالاو » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتحة الإشباعيّة التي يتولّد منها الألف - ويقال لها القامص وهي المرادة من القامص عند البيان الآتي - ثمّ اللام المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الواو الساكنة - بمعنى عليه.

« مشپاط » - بالميم بالمكسورة مع الشين المعجمة الساكنة ثمّ الپاء مكان الباء الموحّدة في العبريّة والعجميّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الطاء المهملة الساكنة - بمعنى الأحكام.

« لكوييم » - باللام المفتوحة ، فالكاف العجميّة المضمومة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الإشباعيّة التي يتولّد منها الياء الأخرى الساكنة - وهي المرادة بالحيرق عند البيان الآتي - مع الميم الساكنة - بمعنى لأقوام وطوائف.

« يوصيا » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ

ص: 136


1- في « د » : « لأهل » بدل « لأجل ».

الصاد المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، والهمزة الساكنة - بمعنى يخرج ويظهر ، من الإخراج والإظهار والبيان ، بمعنى أنّ ذلك النبيّ المبعوث - المعان له الأحكام الشرعيّة المستقلّة - [ للطوائف الكثيرة ممّن عدا بني إسرائيل ، وأيضا من غير أن ] (1) يكون مروّجا لدين موسى فقطّ كما يقال في حقّ عيسى ، وذلك ليس في بني إسرائيل باعتقاد هم فيكون في غيرهم ، وليس إلاّ محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله كما مرّ.

« لا يصعق » - بضمّ اللام ، مع الألف الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى لا النافية - ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، مع الصاد المهملة الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة ، مع القاف الساكنة - بمعنى لا يصيح.

« ولا يسا » - بالياء المثنّاة التحتانيّة الحيرقيّة ، ثمّ السين المهملة المفتوحة القامصة ، مع الألف - بمعنى لا يستعلي ولا يظهر العلوّ مع العلوّ.

« ولا يشميع » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة ، مع الشين المعجمة الساكنة ، ثمّ الميم المكسورة الحيرقيّة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة ، مع العين المهملة الساكنة - بمعنى لا يسمع ، من الإسماع.

« بحوص » - بالباء الموحّدة المفتوحة ، فالحاء المهملة المضمومة ، مع الواو والصاد المهملة الساكنتين - بمعنى في الخارج ، أي لا يتكلّم على وجه يسمع في الخارج.

« قولو » - بالقاف المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ اللام المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى صوته ، ولعلّ المراد أنّه مع السكينة والوقار والحياء والأدب بحيث يتكلّم على وجه التوسّط ويسلك مع الناس مع التواضع من غير إظهار الجلال والعلوّ ، ومن دون الدناءة والعمل بما ينافي السكينة ، فإنّ خير الأمور أوسطها فإنّه عدل.

ص: 137


1- في « د » : « للطوائف الكثيرة من بني إسرائيل أيضا من غير أن ... ».

« قانه » - بالقاف المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ النون المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى القصب.

« راصوص » - بالراء المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الصاد المهملة المضمومة ، مع الواو والصاد المهملة الساكنتين - بمعنى الصغير ، أو المكسور.

« لا يشبور » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة - على سبيل جواز الحيرق - مع الشين المعجمة الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، والراء المهملة الساكنة - بمعنى لا يكسره.

« ويشتاه » - بالواو المضمومة ، فالياء المعجمة العجميّة المكسورة الحرقيّة ، مع الشين المعجمة الساكنة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الكتّان.

« خها » - بالخاء المعجمة المكسورة ، فالهاء المفتوحة القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الحطب المحترق بالنار المنطفئ التهابها ، فصارت ضعيفة كالمنطفئة.

« لا يخبناه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة ، فالخاء المعجمة المفتوحة ، فالباء الموحّدة المكسورة بالكسرة المستطيلة ، فالنون القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى لا يطفأ ما ذكر.

« لامت » - باللام المكسورة بالكسرة المستطيلة ، فالهمزة كذلك ، فالميم كذلك ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى بالصدق والصواب.

« يوصيا مشپاط » - مرّ بيانهما.

« لايخحه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، مع الخاء المعجمة الساكنة ، ثمّ الخاء المكسورة ، مع الحاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى لا يعجز في الجهاد والحروب والقتال.

« ولأياروص » - بالياء المثنّاة التحتانيّة القامصة ، ثمّ الراء المهملة المضمومة ، مع

ص: 138

الواو الساكنة والصاد المهملة الساكنة - بمعنى لا يعدو أو لا يفرّ من الحرب.

« عد » - بالعين المهملة المفتوحة ، مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى إلى أن ، أو لكي.

« ياسيم » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المقامصة ، ثمّ السين المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، والميم الساكنة - بمعنى يضع.

« بارص » - بالباء الموحّدة القامصة ، ثمّ الهمزة القامصة ، ثمّ الراء المهملة المكسورة ، مع الصاد المهملة الساكنة - بمعنى في الأرض.

« مشپاط » - مرّ بيانه.

« ولتوراتو » - بالواو المضمومة ، مع اللام الساكنة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة القامصة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى كتابه المشتمل على أحكام شريعته.

« اييم » - بالهمزة المكسورة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة الحيرقيّة ، مع الميم الساكنة - بمعنى الجزائر.

« يييلو » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة كالممالة - ويقال لتلك الفتحة شوى - فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الظاهرة التي يقال لها فتح ، فالياء المهملة المكسورة ، فاللام المضمومة ، مع الواو الساكنة - بمعنى يرجو منه.

« كه » - بالكاف المضمومة ، مع الهاء الساكنة - بمعنى هكذا.

« أمر » - بالهمزة المفتوحة القامصة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتح ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى أمر.

« هاءل » - بالهاء المفتوحة القامصة ، ثمّ الهمزة المكسورة ، مع اللام الساكنة - بمعنى ذلك الخالق.

« أدوناي » مرّ.

ص: 139

« بورا » - بالباء الموحّدة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الراء المهملة المكسورة ، مع الهمزة الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الصانع الباري.

« هشامييم » - بالهاء المفتوحة ، والشين المعجمة المفتوحة القامصة ، ثمّ الميم المفتوحة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة الحيرقيّة ، مع الميم الساكنة - بمعنى ملك السماوات.

« ونوطيهم » - بالواو العاطفة المفتوحة ، فالنون المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الطاء المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا - في العبري - لا لفظا ، ثمّ الهاء المكسورة ، مع الميم الساكنة - بمعنى من عليهم.

« رقع » - بالراء المهملة المضمومة ، ثمّ القاف المفتوحة بالفتحة ، مع العين المهملة الساكنة - بمعنى المطبق.

« ها آرص » - بالهاء المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الهمزة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الراء المهملة المكسورة ، مع الصاد المهملة الساكنة - بمعنى تلك الأرض.

« وصإصائيها » - بالواو المفتوحة بالفتحة الفوقانيّة ، فالصاد المهملة المكسورة ، فالهمزة المكسورة ، فالصاد المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الهمزة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الهاء المفتوحة بالفتحة القامصة - بمعنى نتائجها.

« نتن » - بالنون المضمومة ، بالتاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع النون الساكنة - بمعنى المعطي.

« نشاماه » - بالنون المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالشين المعجمة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى النفس.

« لاعام » - باللام المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالفتحة

ص: 140

القامصة ، مع الميم الساكنة - بمعنى القوم.

« عاليها » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ اللام المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الهاء المفتوحة بالفتحة القامصة - بمعنى عليها.

« ورووح » - بالواو العاطفة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالراء المهملة المضمومة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الواو المفتوحة بالفتحة ، مع الحاء المهملة الساكنة - بمعنى الروح.

« لهلخيم » - باللام المفتوحة بالفتحة ، فالهاء المضمومة ، مع اللام الساكنة ، فالخاء المعجمة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة ، والميم الساكنة - بمعنى للماشين.

« باه » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الهاء الساكنة - بمعنى فيه.

فصل [3] : فيما يتعلّق بالألفاظ المذكورة في كتاب حيقوق النبيّ ، فأقول :

قوله : « ويعني » - بالواو العاطفة المفتوحة بالفتحة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة ، والعين المهملة المفتوحة بالفتحة ، فالنون المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الياء الساكنة - بمعنى أجابني.

« أدوناي » مرّ بيانه.

« ويأمر » أيضا مرّ بيانه.

« كتب » - بالكاف المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة ، مع الباء الموحّدة الساكنة - بمعنى أكتب.

« حازون » - بالحاء المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الزاي المعجمة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، والنون الساكنة - بمعنى النبوّة.

« وبائر » - بالواو العاطفة المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، ثمّ الباء الموحّدة

ص: 141

المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الهمزة المكسورة ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى أوضح.

« أعل » مرّ بيانه.

بمعنى : على.

« هلوهذوت » - بالهاء المفتوحة بالفتحة ، فاللام المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، ثمّ الهاء المهملة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، والتاء المثنّاة الفوقانيّة - بمعنى تلك الأرواح.

« لمعن » - باللام المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالميم المفتوحة بالفتح ، فالعين المهملة المفتوحة كذلك ، مع النون الساكنة - بمعنى لأجل.

« ياروص » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الراء المهملة المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، مع الواو والصاد المهملة الساكنتين - بمعنى يسرع.

« قورا » - بالقاف المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الراء المهملة المكسورة ، مع الهمزة الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى القارئ.

« بو » - بالباء الموحّدة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى فيه.

« كى » - بالكاف المكسورة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى « لمّا » الرابطة.

« عد » - بالعين المهملة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، والدال المهملة الساكنة - بمعنى بعد ذلك ، كما مرّ.

« حازون » مرّ بيانه.

« لموعد » - باللام المفتوحة بالفتحة ، فالميم المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ثمّ العين المهملة المكسورة مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى لوعد.

« ويافيح » - بالواو العاطفة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الفاء المكسورة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة

ص: 142

بالفتحة الثابتة لفظا لا خطّا في العبري ، مع الحاء المهملة الساكنة - بمعنى يتكلّم.

« لقص » - باللام المفتوحة بالفتح ، فالقاف المكسورة ، مع الصاد المهملة الساكنة - بمعنى للأخرى ، أي لليوم الآخر وهو يوم القيامة.

« ولا » مرّ بيانه.

« يكزب » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالكاف المفتوحة بالفتح ، فالزاي المعجمة المكسورة ، مع الباء الموحّدة الساكنة - بمعنى يكذب.

« إيم » - بالهمزة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الميم الساكنة - بمعنى إن.

« يتمهمه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، والتاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتح ، مع الهاء الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتح ، مع الهاء الساكنة ثمّ الميم مع الهاء كذلك - بمعنى يتسامح.

« حكه » - بالحاء المهملة المفتوحة بالفتح ، فالكاف المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى أرجو ، أي كن راجيا.

« لو » - باللام المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى له.

« كى » كما مرّ بيانه.

« باء » - بالباء الموحّدة المضمومة ، مع الألف الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى المجيء.

« يابا » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الباء الموحّدة المضمومة ، مع الألف الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يجيء.

« لأ » مرّ بيانه.

« ياحر » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالهمزة المفتوحة بالفتح ، فالحاء المهملة المكسورة ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى يؤخّر.

« هينه » - بالهاء المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، ثمّ النون المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى ما يدلّ على الإشارة على وجه التصغير ، ويعبّر عنه بالفارسيّة بقولهم : ابنك.

ص: 143

« عوفلاه » - بالعين المهملة المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، مع الفاء الساكنة ، ثمّ اللام المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - الطاغي.

« لأ » مرّ بيانه.

« ياشراه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الشين المعجمة الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يميل.

« نفشو » - بالنون المفتوحة بالفتح ، مع الفاء الساكنة ، فالشين المعجمة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى نفسه.

« بو » - بالباء الموحّدة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى به وفيه.

« وصدّيق » - بالواو العاطفة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالصاد المهملة المفتوحة بالفتح ، فالدال المهملة المشدّدة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، مع القاف الساكنة - بمعنى صديق.

« باموناتو » - بالباء الموحّدة المكسورة ، فالهمزة كذلك ، فالميم المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ النون المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى سابق في إيمانه بذلك النبيّ.

« يحيه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الحاء المهملة الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يحيا.

« الوه » - بالهمزة المكسورة ، فاللام المضمومة ، فالواو المفتوحة بالفتح ، مع الهاء الساكنة - بمعنى الإله الخالق.

« متيمان » - بالميم المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتحة

ص: 144

القامصة ، مع النون الساكنة - بمعنى من الجنوب.

« يابو » مرّ بيانه.

« وقادوش » - بالواو العاطفة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالقاف المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الدال المهملة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، والشين المعجمة الساكنة - بمعنى المقدّس.

« مهر » - بالميم المكسورة ، فالهاء المفتوحة بالفتح ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى من جبل.

« پاران » - بالپاء المثلّثة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف الثابتة ، خطّا لا لفظا ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع النون الساكنة - وهو اسم جبل فاران.

« سلاه » - بالسين المهملة المكسورة ، فاللام المفتوحة بالفتحة القامصة ، والهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى دائما.

« كيساه » - بالكاف المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، ثمّ السين المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، والهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى كسا.

« هشامييم » مرّ بيانه.

« هود » - بالهاء المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ثمّ الدال المهملة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى جلاله.

« وتهيلاتو » - بالواو العاطفة المضمومة الإشباعيّة ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ الهاء المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، ثمّ اللام المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى تهليله وتمجيده.

« مالئاه » - بالميم المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الهمزة المفتوحة بالفتحة القامصة ، والهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يملأ.

« ها ارص » مرّ بيانه.

ص: 145

فصل [4] : فيما يتعلّق بالألفاظ المذكورة في أخبار « هيلد » التي يقال لها : نبؤت هيلد ، المعروفة ب- « وحي كودك » فأقول :

قوله : « اتيا » - بالهمزة المفتوحة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى « اتى » المستعمل في معنى « يأتي ».

« أومّتا » - بالهمزة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الميم المشدّدة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالثاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى أمّة.

« وامتاء » الثانية تأكيد للأوّل.

« مزعزع » - بالميم المفتوحة الشوائيّة ، والزاي المعجمة المفتوحة بالفتح ، مع العين المهملة الساكنة ، ثمّ الزاي المعجمة المفتوحة ، مع العين المهملة الساكنة - بمعنى ترعش.

« بيرياتا » - بالباء الموحّدة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الراء المهملة الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة كأنّها مع الشدّة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى البريّة.

« عبدا » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتح ، مع الباء الموحّدة الساكنة ، ثمّ الدال المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى بدا وظهر.

« هدمدتا » - بالهاء المفتوحة بالفتح ، مع الدال المهملة الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتح ، مع الدال المهملة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى الإطفاء.

« بيد » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالفتح ، مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى بيد.

ص: 146

« بني » - بالباء الموحّدة المفتوحة الشوائيّة ، فالنون المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى ابن ، أو بني.

« أمتا » - بالهمزة المفتوحة بالفتح ، مع الميم الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى الأمّة.

« لشبيرت » - باللام المكسورة بالحيرقيّة ، مع الشين المعجمة الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المكسورة بالحرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة بالفتح ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى للمكسورة.

« آبابا » - بالهمزة المفتوحة بالفتح ، فالباء الموحّدة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الباء الموحّدة كذلك ، مع الألف - بمعنى الباب.

« دمستيما » - بالدال المهملة المفتوحة بالشوائيّة ، فالميم المكسورة الحيرقيّة ، مع السين المهملة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة المفتوحة بالفتح ، فالميم المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى المغلّقة.

« ميبا » - بالميم المكسورة الحيرقيّة ، فالباء الموحّدة المفتوحة القامصة ، مع الألف - بمعنى من التردّد في المجيء.

« لا » - باللام المفتوحة ، مع الألف - بمعنى « لا » النافية.

« يهوي » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، مع الهاء الساكنة ، ثمّ الواو المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يكون.

« ليه » - باللام المكسورة ، والياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، مع الهاء الساكنة - بمعنى له.

« اركا » - بالهمزة المفتوحة بالقامصة ، مع الراء المهملة الساكنة ، ثمّ الكاف المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى العلاج.

« ديصمح » - بالدال المهملة المفتوحة بالفتح ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالحيرقيّة ، مع الصاد المهملة الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتح ، مع الحاء المهملة

ص: 147

الساكنة - بمعنى لينبت ويأتي.

« ملكا » - بالميم المفتوحة بالفتح ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الكاف المفتوحة بالقامصة ، مع الألف الساكنة - بمعنى ملك.

« محمّد » اسم نبيّنا.

« كأيّاه » - بالكاف الكيمال المفتوحة بالفتح ، مع الهمزة الساكنة ، ثمّ الياء المشدّدة المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى صاحب المرتبة.

« آعا » بالهمزة المفتوحة بالقامصة فالعين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى الشجر.

« بأيّا » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالفتح ، مع الهمزة الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة المشدّدة المفتوحة بالقامصة مع الألف - بمعنى لائق.

« ديطمع » - بالدال المهملة المفتوحة بالفتح الشوائيّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الطاء المهملة الساكنة ، ثمّ الميم المفتوحة بالفتح ، مع العين المهملة الساكنة - بمعنى يضمحلّ ويزول.

« هوياه » - بالهاء المفتوحة بالفتح ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى كائن وثابت.

« ويهيه » - بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الهاء الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى ويصير.

« كليليّا » - بالكاف المفتوحة بالفتح ، فاللام المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ اللام المفتوحة بالشوائيّة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى صاحب التاج والمجموعة.

« نهرا » - بالنون المفتوحة بالفتح ، مع الهاء الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة

ص: 148

بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يضيء.

« كد » - بالكاف المفتوحة بالفتح ، مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى حين أو « لمّا » الرابطة.

« مطا » - بالميم المفتوحة بالفتح ، فالطاء المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يصل.

« ولؤت » - بالواو العاطفة المضمومة الإشباعيّة ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الهمزة المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى ولعلامة.

« قص » مرّ بيانه.

« ومطا » أيضا مرّ بيانه بمعنى يوصل.

« ميثعبد » - بالميم المكسورة الحيرقيّة ، مع الثاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالباء الموحّدة المكسورة ، مع الدال المهملة الساكنة - بمعنى فاعل يفعل.

« قطاطاه » - بالقاف المفتوحة بالشوائيّة ، والطاء المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، ثمّ الطاء كذلك ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الحرب والجهاد.

« وهوه » بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالهاء المفتوحة بالفتح ، فالواو المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى ويكون.

« حسف » - بالحاء المهملة المفتوحة بالفتح ، فالسين المهملة كذلك ، مع الفاء الساكنة - بمعنى خزف.

« طينا » - بالطاء المهملة المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ النون المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى طين.

« دا » - بالدال المهملة المفتوحة ، مع الألف الساكنة ، بمعنى هذا على وجه التصغير.

« ملطا » - بالميم المفتوحة بالفتح ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الطاء المهملة المفتوحة

ص: 149

بالقامصة ، مع الألف - بمعنى مطلق.

« سغر » - بالسين المهملة ، فالغين المعجمة المفتوحتين بالفتح ، مع الراء المهملة الساكنة - بمعنى يشدّ وينظم.

« پوحا » - بالپاء المثلّثة التحتانيّة المضمومة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الحاء المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى السدّ المستحكم.

« وتوشباحا » - بالواو المعيّة المفتوحة بالشوائيّة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة المضمومة ، مع الواو الساكنة والشين المعجمة كذلك ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة بالقامصة ، فالحاء المهملة المفتوحة كذلك ، مع الألف الساكنة - بمعنى المدح والتحسين.

« وازيل » - بالواو العاطفة المفتوحة الشوائيّة ، فالهمزة المفتوحة بالفتح ، فالزاي المعجمة المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة ، واللام الساكنتين - بمعنى يذهب ويروح.

« كسحا » - بالكاف المفتوحة بالفتح ، مع السين المهملة الساكنة ، ثمّ الحاء المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى القاطع الصارم.

« نفق » - بالنون المفتوحة بالفتح ، فالفاء كذلك ، مع القاف الساكنة - بمعنى ينزع ويخرج.

« نفشيه » - بالنون المفتوحة بالفتح ، مع الفاء الساكنة ، ثمّ الشين المعجمة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، مع الهاء الساكنة - بمعنى النفس والروح.

« پحا » - بالپاء المثلّثة التحتانيّة المفتوحة بالفتح ، فالحاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى الأمير الجليل.

« عفا » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالفاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يستر ويزيل.

ص: 150

« عزا » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالزاي المعجمة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى القويّ.

« ونافل » - بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالنون المفتوحة بالقامصة ، ثمّ الفاء المفتوحة بالفتح ، مع اللام الساكنة - بمعنى يسقط من المرتبة.

« عزيزا » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالزاي المعجمة المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الزاي المعجمة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى صاحب العزّة والجلال.

« وباطلاه » - بالواو العاطفة المضمومة الإشباعيّة ، مع الباء الموحّدة المفتوحة القامصة ، مع الطاء المهملة الساكنة ، ثمّ اللام المفتوحة القامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى ويبطل.

« كوزا » - بالكاف الكيمال المضمومة ، مع الواو الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ الزاي المعجمة المفتوحة القامصة ، مع الألف - بمعنى الضمّ.

« ودي » - بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، والدال المهملة المكسورة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة - بمعنى كلّما ذا.

« شلطت » - بالشين المعجمة المفتوحة بالفتح ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الطاء المهملة المفتوحة بالفتح ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة - بمعنى يتسلّط.

« شميا » - بالشين المعجمة المفتوحة بالفتح الشوائيّة ، فالميم المفتوحة بالفتح ، فالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى السماوات.

« وكزا » - بالواو العاطفة المفتوحة الشوائيّة ، فالكاف الكيمال المفتوحة بالفتح ، فالزاي المعجمة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى مرّ ، مضى.

« صيهرا » - بالصاد المهملة المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الهاء المفتوحة بالفتح ، فالراء المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى القمر.

ص: 151

« شاهاه » - بالشين المعجمة المفتوحة بالقامصة ، والهاء كذلك ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى مكث.

« وسيبا » - بالواو العاطفة المفتوحة الشوائيّة ، فالسين المهملة المكسورة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى وانشقّ وصار نصفين.

« وها » - بالواو العاطفة المفتوحة بالفتحة الشوائيّة ، فالهاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى وهذا على وجه التصغير.

« شاطا » - بالشين المعجمة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف الساكنة ، ثمّ الطاء المهملة المفتوحة بالفتحة القامصة ، مع الألف - بمعنى تهيّأ وانتظر.

« وشامعا » - بالواو العاطفة المفتوحة الشوائيّة ، فالشين المعجمة المفتوحة بالقامصة ، مع الميم الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى وسمعت.

« وعرق » - بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالعين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالراء المهملة كذلك ، مع القاف الساكنة - بمعنى أسرع في الحركة كالعدو والفرار.

« بها » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالشوائيّة ، فالهاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى بتلك الحالة.

« شيتا » - بالشين المعجمة المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى الستّ نفر وأشخاص.

« شيقا » - بالشين المعجمة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ القاف المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى ذوي الآمال.

« ومشتيخا » - بالواو العاطفة المضمومة بالضمّة الإشباعيّة ، فالميم المفتوحة بالفتح ، فالشين المعجمة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المكسورة بالحيرقيّة ، مع

ص: 152

الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الحاء المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى الواقع في الشبكة للصيد.

« عقا » - بالعين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالقاف المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى الضيق.

« ومعقا » - بالواو العاطفة المضمومة الإشباعيّة ، فالميم الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالفتح ، فالقاف المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى تضيّق ، وتحمل الضيق والمشقّة.

« غيقا » - بالغين المهملة المكسورة ، فالياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا ، ثمّ القاف المفتوحة القامصة ، مع الألف - بمعنى تضيّقا.

« ودبيقاه » - بالواو العاطفة المضمومة بالإشباعيّة ، مع الدال المهملة الساكنة ، ثمّ الباء الموحّدة المكسورة بالكسرة الحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ القاف المفتوحة بالقامصة ، والهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى اللصيق ، أو اللصق أي من لصق لسانه بحكّه من العطش ، أو من لحق بهؤلاء الستّة من سائر الشهداء ممّن عدا أولاد فاطمة علیهاالسلام .

« مستنقا » - بالميم المكسورة بالحيرقيّة ، مع السين المهملة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتح ، فالنون المفتوحة بالشوائيّة ، فالقاف المفتوحة القامصة ، مع الألف - بمعنى يكلّون من شدّة العطش ، أو كثرة الجدال.

« رعصا » - بالراء المهملة المفتوحة بالفتح ، مع العين المهملة الساكنة ، ثمّ الصاد المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يتجزّء.

« مترصا » - بالميم المكسورة بالحيرقيّة ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة بالفتح ، فالصاد المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى ينكسر.

« وناصا » - بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالنون المفتوحة بالقامصة ، مع

ص: 153

الألف ، ثمّ الصاد المهملة المفتوحة بالقامصة مع الألف - بمعنى ويسرع.

« وحالصاه » - بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالحاء المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع اللام الساكنة ، ثمّ الصاد المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يفرك بالشدّة وللاضمحلال.

« ديّسا » - بالدال المهملة المفتوحة بالفتح ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة المشدّدة الساكنة ، ثمّ السين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى الهريسة على وجه التشبيه.

« قفيصا » - بالقاف المفتوحة بالفتح ، فالفاء المكسورة بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ الصاد المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى القاطع المعوجّ.

« ميتعرفا » - بالميم المكسورة بالحيرقيّة ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالفتح ، مع الراء المهملة الساكنة ، ثمّ الفاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يقطع من القفا.

« على » بمعنى « على » مرّ بيانه.

« يدي » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالشوائيّة ، فالدال المهملة المكسورة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى السمت والجانب.

« ساده » - بالسين المهملة المفتوحة بالقامصة ، فالدال المهملة المكسورة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الصحراء.

« سافاه » بالسين المهملة المفتوحة بالقامصة ، فالفاء المفتوحة كذلك ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الشقّة. والمراد شطّ النهر.

« كصورفا » - بالكاف المفتوحة بالشوائيّة ، فالصاد المهملة المضمومة ، مع الواو والراء المهملة الساكنتين ، ثمّ الفاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى كدقّ.

« بتروفاه » - بالباء الموحّدة المكسورة الحيرقيّة ، فالتاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ،

ص: 154

ثمّ الراء المهملة المضمومة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الفاء المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الأدوية وما يدقّ.

« نتپساه » - بالنون المكسورة بالحيرقيّة ، مع التاء المثنّاة الفوقانيّة الساكنة ، ثمّ الپاء المثلّثة التحتانيّة المفتوحة بالفتح ، فالسين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى المأخوذ باللامسة.

« لحوپا » - باللام المفتوحة بالشوائيّة ، فالحاء المهملة المضمومة الإشباعيّة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الپاء المثلّثة التحتانيّة المفتوحة بالشوائيّة ، بمعنى حجلة الصهر ومنزل العروس حين الزفاف.

« صبوعاه » - بالصاد المهملة المفتوحة بالشوائيّة ، فالباء الموحّدة المضمومة بالإشباعيّة ، فالواو الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى المصبوغة ، والمراد الخيمة المصبوغة.

« نصپعاه » - بالنون المكسورة بالحيرقيّة ، فالصاد المهملة الساكنة ، ثمّ الپاء المثلّثة التحتانيّة المفتوحة بالفتح ، فالعين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى الأولاد ولو كان الولد نسلا.

« نسرفا » - بالنون المكسورة بالحيرقيّة ، مع السين المهملة الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة بالفتح ، ثمّ الفاء المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يحرق.

« ونفرعا » بالواو العاطفة المفتوحة بالشوائيّة ، فالنون المكسورة بالحيرقيّة ، مع الفاء الساكنة ، ثمّ الراء المهملة المفتوحة بالفتح ، فالعين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الألف - بمعنى يرى بالحجر.

« وميوداعا » - بالواو العاطفة المضمومة بالإشباعيّة ، مع الميم الساكنة ، ثمّ الياء المثنّاة التحتانيّة المضمومة الإشباعيّة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ الدال المهملة المفتوحة بالقامصة ، فالعين المهملة كذلك ، مع الألف - بمعنى والمعلومات.

« يديعاه » - بالياء المثنّاة التحتانيّة المفتوحة بالشوائيّة ، فالدال المهملة المكسورة

ص: 155

بالحيرقيّة ، مع الياء المثنّاة التحتانيّة الساكنة ، ثمّ العين المهملة المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى يظهر ويتّضح.

« بشوعاه » - بالباء الموحّدة المفتوحة بالشوائيّة ، فالشين المعجمة المضمومة بالإشباعيّة ، مع الواو الساكنة ، ثمّ العين المفتوحة بالقامصة ، مع الهاء الثابتة خطّا لا لفظا - بمعنى في الحكايات.

« نشتعشع » بالنون المكسورة بالحيرقيّة ، مع الشين المعجمة الساكنة ، ثمّ التاء المثنّاة الفوقانيّة المفتوحة بالفتح ، مع العين المهملة الساكنة ، ثمّ الشين المعجمة المفتوحة بالفتح ، مع العين المهملة الساكنة - بمعنى يحكي ويروي ، ويحدّث وينقل في المجالس والمحافل.

والمعنى التركيبي المستفاد ممّا تقدّم من كلام « هيلد » - على وفق ما يحكي من بعض أنبياء بني إسرائيل ، كدانيال ونحوه - أنّه يأتي من ترتعش به الخلائق ، وتنطفئ به نار فارس لباب مكسور مسدود - لعلّه باب الكعبة - وهو محمّد الجليل الناسخ لما كان من الملل الباقي دينه إلى يوم القيامة ، وهو المجاهد في سبيل اللّه المبعوث من طائفة ضعيفة ممزّقة وهم العرب ، وهو الناظم للأمور ، القاتل لصناديد القريش ، ومبطل للأصنام ومكسّرها ، وصاحب المعراج إلى السماء ، وشقّ القمر مع الاتّصال بعد الانشقاق.

والمستفاد من الكلام الأخير أنّ من علامات خاتم الأنبياء : أنّ ستّة أشخاص من أهل الآمال من أهل بيته صلی اللّه علیه و آله من أولاد فاطمة علیهاالسلام وهم الحسين علیه السلام وولديه ، وثلاثة من أولاد الحسن علیه السلام لمن بالشدّة فوق الشدّة والصعوبة ، يصرعون في الصحراء ويبتلون بأنواع العذاب والإيذاء ، ويهلكون بالتمام ، ويقطع الرأس من القفاء من القاطع المعوجّ وهو الخنجر ، ويوطئون بالخيول كدقّ الأدوية ، وفي شطّ نهر في صحراء يمتحنون ، ويبتلى بحجل العرس وكسر الزفاف ، ويحرق الخيام التي هي مجالس النتائج ويظهر أقوامهم الأعزّة.

ص: 156

ولا يخفى أنّ ذلك إشارة إلى ما وقع على أهل بيت نبيّنا صلی اللّه علیه و آله في كربلاء ، وابتلاء ستّة من المقرّبين من الشهداء من أولاد فاطمة علیهاالسلام ، وأفضلهم سيّد الشهداء علیه السلام الذي قطع رأسه من القفاء بالخنجر ، وإلى زفاف القاسم بن الحسن علیهماالسلام وقتال العبّاس وغيره عند نهر الفرات ، وحرق خيام أهل بيت الرسول علیهم السلام وأسرهم في البلاد ، ونحو ذلك.

[ ما أفاده الميرزا محمد رضا جديد الإسلام ]

ومنهم : من كان من علماء اليهود فصار في عصرنا مستبصرا مسلما مؤمنا وهو المسمّى بالميرزا محمّد رضا جديد الإسلام ، فإنّه تمسّك - مضافا إلى ما تقدّم - بما ذكر في « كمارا » (1) الذي ألّفه العلماء وهو من الكتب المعتبرة عندهم وهو أمور :

منها : أنّ النبيّ لو قال : اترك التوراة ، لزم تركها إلاّ عبادة الصنم فإنّها لا تجوز ، ولا يعمل بقوله فيها ، ولو حبس الشمس في السماء فإنّه يدلّ على عدم دوام شريعة موسى في الفروع كدوام عدم جواز عبادة الصنم ، كما يدلّ على توقيتها التوراة أيضا ، فإنّه يدلّ على أنّ العمل بها إنّما يكون عند كونهم في بيت المقدس ، مع علمه تعالى بأنّهم سيخرجون عنه ويتفرّقون في البلاد بتخريب بيت المقدس ، فلا بدّ من شريعة أخرى ، وهي شريعة محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله بدلالة المعجزة كما مرّ إليها الإشارة.

ومنها : أنّه قال : « إلياهو » المعروف عندنا بإلياس أنّه ليس العالم بأقلّ من الخمس والثمانين يؤبل ، ويؤبل عبارة عن الخمسين سنة ، والمجموع عبارة عن أربعة آلاف ومائتين وخمسين سنة ، وذكر احتمال يؤبل آخر فيصير الكلّ أربعة آلاف وثلاثمائة سنة ، وأنّه يأتي بعد ذلك من يقال له : بن داود ، وذلك مطابق لولادة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه مضى من خلقة العالم إلى زماننا هذا - الذي هو بحسب الهجرة النبويّة عبارة عن السنة الخامسة والخمسين بعد المائتين والألف - خمسة

ص: 157


1- في هامش نسخة « ق » : « اسم للكتاب الذي ألّفه علماء بني إسرائيل ، وجعلوا فيه أحكام أنبيائهم ».

آلاف سنة وستّمائة إلاّ قليل بحسب الشهور ، فإذا أخرج منها ألف سنة وثلاثمائة سنة التي هي من زمان ولادة نبيّنا إلى زماننا هذا - الذي مرّ بيانه - يبقى أربعة آلاف وثلاثمائة سنة التي ذكر إلياس النبيّ.

ووجه تسميته بابن داود ؛ لعلّه أنّ داود بلسان العبري بمعنى العمّ ، ومحمّد بن عبد اللّه من أولاد إسماعيل الذي هو عمّ بالنسبة إلى بني إسرائيل ، فلا ينبغي أن يقرأ داود بالألف فإنّه ما جاء مكان حمله أيضا عليه.

فإن قلت : ما ذكر لا يدلّ على أنّ ذلك الشخص محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله ولو سلّم فهو لا يدلّ على كونه نبيّا ، سيّما كونه خاتم الأنبياء.

قلت : اعتقادهم أنّ ذلك الشخص الذي يجيء بعد ذلك نبيّ يدعو الناس جميعا إلى شريعة واحدة مع عدم جواز دخول غير بني إسرائيل في شريعة موسى باعتقادهم ، فيكون ذلك النبيّ محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله بشهادة المعجزة كما مرّت إليه الإشارة.

نعم ، يعبّرون عنه ب- « الماشيح » الذي هو المعبّر عنه عندنا بالمسيح ، وحيث كان ذلك الإخبار بعد عيسى بن مريم بمائتين سنة لا بدّ أن يكون ذلك النبيّ غيره وهو نبيّنا صلی اللّه علیه و آله الذي أتى بالشريعة التي فيها المسح في الوضوء والتيمّم ، مع أنّ ما تقدّم دلّ على عدم بعث نبيّ من بني إسرائيل.

ومنها : أنّه أخبر بعض الأنبياء ك « يشعيا » بأنّ بيت المقدس يصير مصلّى لجميع الأقوام ولم يكن ذلك في شريعة موسى ، بل هو مخصوص بشريعة محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله كما هو المعلوم بالوجدان ، وأنّ نسل « قيدار » الساكنين في البوادي يسكنون في المعمورة سيمجّدون اللّه ويجلّلونه في العوالي كما هو حال المؤذّنين في هذه الشريعة ، وأنّ جميع الأقوام يركعون لله بفخذهم كما هو حال أهل صفوف الجماعة في هذه الشريعة وأنّهم يحلفون بذات اللّه ، وأنّ اللّه يذلّل عبدة الأصنام ، وأنّ اللّه تعالى قال : إنّه يخرج شريعة من عندي وأحكام لإضاءة أقوام ،

ص: 158

وأهل الجزائر يرجون من أعضادي وأعواني ، إلى غير ذلك من العلائم المخصوصة بهذه الشريعة التي لا ينكرها إلاّ كافر مكابر وعنود كافر ، أعاذنا اللّه من ذلك بحقّ الأكابر.

[ مناظرة السيد بحر العلوم مع اليهود ]

[ التذنيب ] الثالث : في بيان ما أفاده بحر العلوم السيّد المرحوم ، السيّد المهدي الطباطبائي النجفي ، فقد حكي عنه : « أنّه سافر من المشهد الغروي إلى زيارة سيّد الشهداء علیه السلام في شهر ذي الحجّة من السنة الحادية عشرة بعد المائتين والألف من الهجرة ، وكان معه جماعة من تلامذته من الطلبة المحصّلين فعبر بهم الطريق على محلّ ذي الكفل ، وكان فيه يومئذ جماعة من اليهود زهاء من ثلاثة آلاف نفس ، فبلّغهم وروده رحمه اللّه عليهم ، وقد سمعوا ما سمعوا من شائع فضله ، وبلغهم ما بلغهم من ساطع شرفه ونبله ، وفيهم من يدّعي العرفان ، ويظنّ أنّه على بيّنة ممّا هو عليه وبرهان. فلحقه جماعة من عرفائهم للسير مجدّين ، ولأثره للمناظرة تابعين ، حتّى وصل إلى الرباط الذي أمر قدس سره بنيانه للزوّار والمتردّدين - فوردوا ثمّة ساحة جلاله وجلسوا متأدّبين بين يديه وعن يمينه وشماله ، فكانوا كالخفافيش ؛ إذ لا قرار لهم إلاّ في ظلمة ، فرحّب بهم - كما هو عن عادته وأخلاقه المرضيّة المستقيمة - وقال لهم قولا ليّنا عسى أن يتذكّر أحد منهم أو يخشى ، وكان فيهم رجلان يدّعيان المعرفة : أحدهما داود ، والآخر عزرا.

فابتدأ داود الكلام وقال : نحن ومعاشر الإسلام من دون سائر الملل موحّدون ، وعن الشرك مبرّءون ، وباقي الفرق والأمم كالمجوس والنصارى بربّهم مشركون وللأصنام والأوثان عابدون ، ولم يبق على التوحيد سوى هاتين الطائفتين.

فقال له السيّد المؤيّد : كيف ذلك وقد اتّخذ اليهود العجل وعبدوه ولم يبرحوا عليه عاكفين إلى أن رجع موسى من ميقات ربّه ، وأمرهم في ذلك أشهر من أن يذكر ،

ص: 159

وأعرف من أن ينكر ، ثمّ إنّهم عبدوا الأصنام في زمان « برد عام بن نواط » (1) وهو أحد غلمان سليمان بن داود علیهماالسلام ومن قصّته أنّ سليمان علیه السلام قد كان تفرّس منه طلب الملك ، وتوسّم فيه علامات الرئاسة والسلطنة. وقد كان « أخيّا الشيلوني » قد أخبر بردعام بذلك وشقّ عليه ثوبا جديدا كان عليه ، وقطعه اثنتي عشرة قطعة ، وأعطاه منها عشرة قطع وقال له : إنّ لك بعدد هذه القطع من بني إسرائيل عشرة أسباط تملكهم ولا يبقى من بعد سليمان مع ابنه « رجوعام » (2) وأولاده غير سبطين ، وهما : يهوذا وبنيامين ، فهرب بردعام بن نواط من سليمان واتّصل [ إلى ] « ثيشاق » عزيز مصر ، وبقي عنده حتّى توفّي سليمان علیه السلام فرجع إلى الشام ، وأجمع رأيه ورأي بني إسرائيل جميعا على نصب رجوعام بن سليمان علیه السلام ملكا ، فملّكوه عليهم ، ثمّ أتوا إليه واستعطفوه في وضع الآصار والمشاقّ التي كانت عليهم في أيّام سليمان علیه السلام ، فقال لهم رجوعام : [ إنّ ] خنصري أمتن من خنصر أبي ، لئن كان أبي وضع عليكم أمورا صعبة وحمّلكم التكاليف الشاقّة ، فأنا أحمّلكم وأضع عليكم ما هو أشقّ وأصعب ، فتفرّقوا عنه ، ونصبوا بردعام بن نواط وملّكوه ، واجتمعوا عليه عشرة أسباط من بني إسرائيل.

وانفرد رجوعام بن سليمان بسبطين منهم ، ولمّا كان بنو إسرائيل يحجّون كلّ سنة [ إلى ] بيت المقدس ، خاف « بردعام » على ملكه إن أذن لهم في الحجّ إليه من رجوعام وأتباعه أن يصرفوهم عنه ، أو يميلوا إلى ابن سليمان ، فصنع لهم صنمين من ذهب ووضعها في دان وبيت إيل ، وأمر الناس بعبادتهما والحجّ إليهما ، فأطاعوه وصاروا بذلك مشركين شركا آخر بعد عبادة العجل؟ فكيف يا أخا اليهود تقول : إنّ اليهود ما أشركوا باللّه تعالى وما اتّخذوا إلها غير اللّه ، وإنّهم كانوا موحّدين ، وعن غير

ص: 160


1- كذا في النسختين ، وفي المصدر : « يربعام بن نباط ».
2- كذا في النسختين ، وفي المصدر : « رحبعام ».

اللّه معرضين؟

فأقرّ - حينئذ - بما ذكر من عبادتهم للأصنام بنحو ما ذكر لهم وعجبوا من اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه أحد من أمرهم.

ثمّ قال لهم السيّد : « كيف جاز لسليمان علیه السلام أن يهمّ لقتل « بردعام » قبل جنايته وليس ذلك جائزا في [ شريعة موسى ولا في ] (1) شريعة غيره من الأنبياء علیهم السلام وكان سليمان على شريعة موسى علیه السلام ، ولو جاز له ما لم يكن جائزا لموسى علیه السلام كان النسخ جائزا - وأنتم تنكرون النسخ -؟ فسكتوا.

وقال كبيرهم - داود - : كلامكم يا سيّدي على العين وفوق الرأس.

فقال لهم السيّد : أخبروني هل كان بينكم يا معاشر اليهود خلاف ، أو في كتابكم تباين واختلاف؟ فقالوا : لا.

فقال لهم : كيف ذلك وقد اختلفتم على ثلاث فرق وتشعّب ، منها إحدى وسبعون فرقة ، وهذه السامرة طائفة عظيمة من اليهود ، تخالف اليهود في أشياء كثيرة ، والتوراة التي في أيديهم مغايرة لما في أيدي باقي اليهود؟ فقالوا : لم ندر لم وقع هذا الاختلاف ، ولكن نعلم بمخالفة كتاب سامرة لكتابنا ، وكذلك مخالفتهم لنا في أمور كثيرة.

فقال لهم السيّد : فكيف تنكرون الاختلاف وتدّعون اتّفاقكم على شيء واحد؟

ثمّ قال لهم السيّد : هل زيد في التوراة التي أنزلها اللّه تعالى على موسى علیه السلام [ شيء ] أم نقص منها شيء؟

فقالوا : هي [ على ] حالها إلى الآن لا زيادة فيها ولا نقصان.

فقال لهم السيّد : كيف يكون ذلك وفي هذه التوراة التي في أيديكم أشياء منكرة ظاهرة القبح والشناعة؟

ص: 161


1- الزيادة أثبتناها من المصدر.

منها : ما وقع في قصّة العجل من نسبة اتّخاذه إلها لبني إسرائيل إلى هارون النبيّ علیه السلام وهذه ترجمة عبارة التوراة في فصل نزول الألواح واتّخاذ العجل ، وهو الفصل العشرون من السفر الثاني : « ولمّا رأوا القوم أنّ موسى علیه السلام قد أبطأ عن النزول عن الجبل تحرّفوا إلى هارون وقالوا : قم فاصنع لنا آلهة يسيرون قدّامنا ، فإنّ ذلك الرجل - موسى - الذي أصعدنا من بلد مصر لا نعلم ما كان منه ، قال لهم هارون : فكّوا شفوف الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، ففعلوا ذلك جميع القوم ونزعوا أقراط الذهب التي كانت في آذانهم ، وأتوا بها إلى هارون ، فأخذها منهم وصوّرها بقالب ، وجعلها عجلا مسبوكا ، فاتّخذوه إلها وعبدوه ، ثمّ إنّه لمّا جاء موسى علیه السلام من ميقات ربّه ورأى ما صنع هارون علیه السلام وأنكر ذلك ووبّخ فاعتذر إليه ، فقال : لا تلمني على ذلك فما فعلته إلاّ خشية تفرّق بني إسرائيل.

فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ التوراة التي عندكم محرّفة ، وأنّ فيها زيادة على التوراة التي أنزلت على موسى ؛ لأنّ مثل هذا العمل لا يصدر من جاهل غبيّ ، فكيف يصدر من مثل هارون النبيّ؟! وكيف تأتّي له ذلك الاعتذار عند موسى علیه السلام ؟! وتفرّق بني إسرائيل - على تقديره - أهون من تصوير هارون لهذه [ الصورة ] واتّخاذها إلها يعبد ، وكيف خشي على بني إسرائيل من التفرّق ولم يخش عليهم من الشرك والكفر ، وقد قال له موسى : ( هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (1)؟!

وقال داود - ومن معه من اليهود - : وأيّ مانع من ذلك وقد أعان على ذلك أيضا جبرائيل ، وقصّته مذكورة في التوراة كقصّة هارون علیه السلام ؟.

فقال لهم السيّد : إنّ جبرائيل لم يعن على ذلك ، ولا في التوراة شيء ممّا هناك ، وإنّما السامري وجد أثر الحياة من أثر فرس جبرائيل ، فأغوى القوم بهذه الوسيلة ،

ص: 162


1- الأعراف (7) : 142.

وما على جبرائيل من ذلك شيء ، ولا على اللّه سبحانه وتعالى ؛ حيث خلق السبب الذي به وقعت الفتنة كما خلق أسباب الزنى والقتل ، وغيرهما من المعاصي ، فإنّها لا تقع إلاّ بأسباب وآلات مخلوقة ، وليس ذلك من باب الإعانة على الكفر والمعصية ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وفي الفصل الرابع من السفر الخامس في ذكر العجل وتوبيخ بنى إسرائيل على عبادته قال : « وعلى هارون توجّد اللّه جدّا ، وكان ينفذه فاستغفرت له أيضا في ذلك ». وهذا صريح في شناعة هذا العمل وفظاعته ، وأنّ اللّه قد توجّد به على هارون فكيف تقول : إنّه لا مانع منه؟.

ويقرب من هذه القصّة ما وقع في التوراة من قصّة لوط مع ابنتيه ، فإنّ في الفصل الثالث والعشرين من السفر الأوّل : أنّ لوطا لمّا صعد من صوغر وأقام في الجبل وابنتاه معه - وقد هلك قومه - قالت الكبرى منهما للصغرى : أبونا شيخ كبير وليس في الأرض رجل يدخل علينا كسبيل أهل الأرض ، تعالي نسق أبانا خمرا ونضاجعه ونستبق منه نسلا ، فسقتا [ أباهما ] خمرا في تلك الليلة ، وجاءت الكبرى فاضطجعت مع أبيها ولم يعلم بنومها وقيامها ، فلمّا كانت من الغد ، قالت الكبرى للصغرى : هو ذا ، قد ضاجعت البارحة أبي ، فنسقيه خمرا الليلة وادخلي واضطجعي ، فسقتاه خمرا في هذه الليلة أيضا ، فقامت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا قيامها ، فحملتا ابنتا لوط من أبيهما وولدت الكبرى [ ابنا ] وسمّته موآب ، هو أبو بني موآب إلى هذا اليوم ، وولدت الصغرى ابنا وسمّته عمّون ، وهو أبو بني عمّون إلى هذا اليوم.

نصّ به التوراة التي بيد اليهود وترجمتها حرفا حرفا. وهذا كذب صريح وبهتان قبيح. ومن الممتنع في العقول وقوع مثل هذا العار والشنار من رسل اللّه وأنبيائه بما تبقى شناعته مدى الدهر وما بقي هذا النسل.

وموآب وعمّون : أمّتان عظيمتان بين البلقاء وجبال الشراة ، وقد كانت جدّة داود

ص: 163

وبل سليمان من بني موآب ، فيكون هذا النسل كلّه عند اليهود من زنيم ؛ لعدم حصوله من نكاح صحيح ، فإنّ تحريم الأب والبنت ممّا اتّفقت عليه الشرائع والأديان ، وقد كانت الأخت محرّمة في الملل السابقة ؛ ولذا قال إبراهيم علیه السلام - لما سأله المعرّبون عن سارة - : إنّها أختي. حتّى لا يظنّ أنّها زوجته فيقتلوه ، ولا ريب أنّ البنت أولى بالتحريم من الأخت.

ومن المستبعد في العادة إيلاد الشيخ الطاعن في السنّ في ليلتين متعاقبتين مع السكر المفرط - الذي ادّعوه - وقد كان لوط علیه السلام من بعد قضيّة « سدوم قد قارب المائة - كما قيل - ثمّ كيف ظنت البنتان خلوّ العالم عن الرجال - مع علمهما بأنّ الهالك هم قوم لوط خاصّة - وقد علمتا أنّ إبراهيم علیه السلام وقومه في قرية جيرون ، ولم يكن بينهما وبينه إلاّ مقدار فرسخ - إلى أن قال - : ومثله - ممّا وقع في توراتكم يا معاشر اليهود - دليل على وقوع التحريف والزيادة فيها ، ولو أردنا تفصيل ما وقع في هذه التوراة [ من ] التناقض والاختلاف وما لا يليق بالباري عزّ وجلّ من الجسم والصورة والندم والأسف والعجز والعجب لطال الكلام ولم يسعها المقام. ولكن أخبروني هل تخلو شريعة من الشرائع عن الصلاة؟ فقالوا : لا ، إنّ الصلاة ثابتة في جميع الشرائع وما خلت شريعة منها.

فقال السيّد : أخبروني عن صلاتكم هذه ما أصلها؟ ومن أين مأخذها؟ وهذه التوراة وهي خمسة أسفار قد سبرناها وعرفنا ما فيها سفرا سفرا ، فلم نجد لشيء من الصلاة فيها اسما ولا ذكرا.

فقال بعضهم : قد علم أمرها من فحوى الكلام ، لا من صريحه ، فإنّ التوراة قد اشتملت على الأمر بالذكر والدعاء.

فقال لهم : ليس الكلام في الذكر والدعاء ، بل في خصوص هذه الصلاة المعهودة عندكم في ثلاث أوقات : الصبح ، والعصر ، والعشاء ، وهي التي تسمّونها : تفلات شحريت وتفلات منحات وتفلات عربيت. وأمّا الذكر والدعاء فكلاهما أمر عامّ

ص: 164

لا يختصّ بوقت دون وقت ، ولا جهة دون أخرى ، وأنتم تتوجّهون في هذه الصلاة إلى بيت المقدس ، وليس ذلك شرطا في مطلق الذكر والدعاء ، ويلزمكم في اشتراط التوجّه إلى بيت المقدس شيء آخر لا أراكم تخلصون منه. وهو أنّ بيت المقدس خطّه داود علیه السلام وبناه ابنه سليمان علیه السلام ، وكان بين موسى وسليمان أكثر من خمسمائة عامّ ، فكيف كانت صلاة موسى ومن بعده إلى زمان سليمان ، وبنائه لبيت المقدس؟!

ومثل ذلك يلزم عليكم في أمر الحجّ فإنّ الحجّ عندكم إلى بيت المقدس ولم يكن له وجود في زمن موسى ومن بعده من الأنبياء إلى زمن سليمان علیه السلام فهل ذلك شيء اخترعتموه أنتم من قبل أنفسكم ، أم لكم على ذلك بيّنة وبرهان؟ فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

فقالوا : قد علمنا ذلك من كلام الأنبياء من بعد موسى علیه السلام وكتبهم ، وتفسير علمائنا للتوراة.

فقال لهم السيّد : إنّ الأنبياء من بعد موسى كلهم على شريعته متّبعون له في أحكامه يحكمون بما في التوراة لا يزيدون عليها شيئا ولا ينقصون.

وأيضا فإنّكم - معشر اليهود - لا تجيزون النسخ في الشرائع ، وكيف جاز لكم إحداث هذه الأشياء التي لم تكن في زمن موسى علیه السلام ؟ وكيف جاز لعلمائكم تفسير التوراة بما هو خارج عن شريعة موسى؟! وكيف ادّعيتم على الأنبياء أنّهم وضعوا هذه الشرائع الخارجة عن التوراة؟!

فبهتوا من هذا الكلام ، وتحيّروا وانقطعوا وعجبوا من غزارة علمه واطّلاعه على حالهم ، ووقوفه على مذهبهم ومقالتهم ، ثمّ جسر واحد منهم فقال : نحن نقول : ما كان في زمن موسى من صلاة فما الذي يلزم علينا أن نقول بذلك؟.

فقال لهم السيّد : أنتم الآن أقررتم أنّ الصلاة ثابتة في كلّ الشرائع ، وكيف تخلو منها شريعة موسى علیه السلام التي هي عندكم من أعظم الشرائع وأتمّها؟! ومع ذلك فما

ص: 165

الذي دعاكم إلى تجشّم فعل هذه الصلاة التي لم تكن في زمن نبيّكم ، ولا أنّها في كتابكم؟.

فانقطعوا عن الجواب وضحك كبيرهم ممّا اتّفق من معارضاتهم في مجلس واحد.

ثمّ قال : ليس في القرآن تفصيل للصلاة التي تصلّونها أنتم يا معشر المسلمين فكيف عرفتم ذلك مع خلوّه عنه؟

فأجاب السيّد : إنّ الصلاة مذكورة في عدّة مواضع من القرآن وقد عرفنا أعدادها وقبلتها ، وكثيرا من أحكامها من القرآن ، وعلمنا سائر أحكامها وشرائطها من البيانات النبويّة ، والأخبار المتواترة - إلى أن قال كبيرهم - : كيف لا تحكمون يا معاشر المسلمين بحكم التوراة وفي القرآن : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (1)؟.

فقال السيّد : إنّه لمّا ثبت عندنا نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ونسخه للشرائع السابقة ، كان الواجب علينا اتّباع هذه الشريعة الناسخة دون الشرائع المنسوخة ، فهذا مثل ما وجب عليكم من اتّباع شريعة موسى علیه السلام والعمل بما في التوراة دون ما تقدّمها من الأديان ، وقد بقي جملة من أحكام التوراة لم تنسخ كأحكام الجراح والقصاص وغيرهما ، فنحن نحكم بها ؛ لوجودها في القرآن لا لوجودها في التوراة.

فقال : ما معنى قوله : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (2) ، وأيّ فرق بين النسخ والإنساء؟ وما الفائدة في نسخ الشيء والإتيان بمثله؟

فقال السيّد : الفرق بين النسخ والإنساء أنّ النسخ رفع الحكم ، وإن بقي لفظه والإنساء رفع لفظه الدالّ عليه. وإنساؤه : محوه من الخاطر بالكلّيّة.

ص: 166


1- المائدة (5) : 44.
2- البقرة (2) : 106.

والمراد بالمثل هو الحكم المماثل للأوّل بحسب المصلحة ، بحيث يساوي مصلحته في زمانه مصلحة الأوّل في زمانه ، لا أن تتساوى المصلحتان في زمن واحد ، حتّى يلزم خلوّ النسخ عن الفائدة.

فضحكوا وتعجّبوا من جودة جوابه وحسن محاوراته في خطابه.

ثمّ قال لهم السيّد : يا معشر اليهود ، لو علمنا لكم ميلا واعتناء بطلب الحقّ ، لأتيناكم بالحجج الباهرة والبراهين القاهرة ، لكنّي أنصحكم لإتمام الحجّة ، وأوصيكم بالإنصاف ، وترك التقليد واتّباع الآباء والأجداد ، وترك العصبيّة والحميّة والعناد ، فإنّ الدنيا فانية منقطعة وكلّ نفس ذائقة الموت ، ولا بدّ لعباد اللّه من لقاء اللّه تعالى ، وهو يوم عظيم ليس بعده إلاّ نعيم مقيم أو عذاب أليم ، والعاقل من استعدّ لذلك اليوم وأهمّ به وشمّر في هذه الدار لتصحيح العقائد والقيام بما كلف به من الأعمال ، وتأمّل في هذه الملل المختلفة والمذاهب المتشعّبة ، وأنّ الحقّ لا يكون في جهتين متناقضتين ، وأن لا عذر لأحد في تقليد أب ولا جدّ ، ولا الأخذ بملّة أو بمذهب بغير دليل ولا حجّة ، فالناس من جهة الآباء والأجداد شرع سواء ولو كان ذلك منجيا لنجا الكلّ وسلم الجميع ، فيلزم من ذلك بطلان الشرائع والأديان ، وتساوي الكفر والإيمان ، فإنّ الكفّار وعباد الأوثان يقتفون آثار آبائهم ولا عذر لهم في ذلك ، ولا ينجيهم التقليد من العطب والمهالك.

وذكر السيّد من النصح - إلى أن قال - : وإن كنتم لا تحبّون الناصحين.

فقالوا : كلامكم على أعيننا وفوق رءوسنا ونحن طالبون للحقّ ، راغبون في الصواب والصدق.

فقال لهم السيّد : فما الباعث لكم على اختيار مذهب اليهوديّة وترجيحها على الملّة الإسلاميّة؟

فقالوا : قد اتّفق أصحاب الملل - وهم اليهوديّة والنصارى والمسلمون - على نبوّة موسى وثبوت شريعته ونزول التوراة عليه ، واختلفوا في نبوّة عيسى ونبوّة

ص: 167

محمّد صلی اللّه علیه و آله وفي الإنجيل والقرآن ، فنحن أخذنا بالذي اتّفق عليه الجميع ، وتركنا ما اختلفوا فيه.

فقال السيّد : إنّ المسلمين ما اعتقدوا بنبوّة موسى وصدقه في دعواه إلاّ بإخبار نبيّهم الصادق الأمين ، وذكره في كتابهم المبين ، ولو لا ذلك ما اعترفوا بنبوّة موسى وعيسى علیهماالسلام ولا بالتوراة والإنجيل.

وأيضا فأنتم لا تقبلون شهادة النصارى والمسلمين في شيء من الأشياء ، فكيف تقبلون شهادتهم - وهم يشهدون عليكم بالكفر والزيغ عن الحقّ ولم يبق لكم إلاّ شهادتكم لأنفسكم وهي غير مجدية لكم نفعا؟! فتحيّروا من كلامه وتحقيقه البليغ المتين ونظر بعضهم إلى بعض ، ثمّ سكتوا طويلا.

فقال عزرا - وهو الشابّ الذي كان بينهم - : يا سيّدي أنا أقول لك كلاما مختصرا نافعا من باب النصح والمحبّة ، فاستمع وتأمّل فيه وأنصف وهو حجّة عليك.

فقال السيّد : نعم ، ما هذا المقال؟ فقال : إنّ في كتابنا : يجيء نبيّ بعد موسى إلاّ أنّه من بني إخوتنا لا من بني إسرائيل.

فقال السيّد : هذه البشارة قد جاءت بها التوراة في الفصل الثاني عشر من السفر الخامس ، وصورتها أنّه تعالى قال لموسى : إنّي أقيم لهم - أي لبني إسرائيل - نبيّا من بني إخوانهم مثلك فليؤمنوا وليسمعوا ، وإخوان بني إسرائيل هم بنو إسماعيل فإنّ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق أخي إسماعيل ، فالنبيّ الموعود به هو من ولد إسماعيل وهذه حجّة لنا لا علينا.

فخجل عزرا - إلى أن قال السيّد - : ...

فقالوا : نحن نعتقد بنبوّة موسى بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات.

فقال لهم السيّد : هل كنتم في زمن موسى ورأيتم بأعينكم تلك المعجزات والآيات؟

ص: 168

فقالوا : قد سمعنا ذلك.

فقال لهم السيّد : أو ما سمعتم أيضا ، بمعجزات محمّد صلی اللّه علیه و آله وبراهينه وآياته فكيف صدّقتم بذلك وكذّبتم بهذا - مع بعد ذلك عنكم وقرب هذا منكم؟! - ومن المعلوم أنّ السماع يختلف قوّة وضعفا بحسب الزمان قربا وبعدا ، وكلّما طال المدى كان أبعد ، وكلّما قصر كان إلى التصديق أقرب ، وأمّا نحن معاشر المسلمين فقد أخذنا بالسماعين وجمعنا بين الحجّتين ، وقلنا بنبوّة النبيّين ولم نفرّق بين أحد من رسله وكتبه ، ولم نقل - كما قلتم - : نؤمن ببعض ونكفر ببعض. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه ، لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ.

ثمّ قال لهم السيّد : لو سألكم إبراهيم علیه السلام وقال لكم : لم تركتم ديني وملّتي وصرتم إلى ملّة موسى ودينه فما تقولون في جوابه؟

قالوا : كنّا نقول لإبراهيم : أنت السابق وموسى اللاحق ولا حكم للسابق بعد اللاحق.

فقال لهم السيّد : فلو أنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله قال لكم : لم لم تتبعوا ديني وأنا اللاحق وموسى السابق وقد قلتم : لا حكم للسابق بعد اللاحق ، وقد أتيتكم بالآيات الظاهرات والمعجزات الباهرات والقرآن الباقي مدى الزمان ، فما كان جوابكم عن ذلك؟ فانقطع كلّ منهم وتحيّروا ولم يأتوا بشيء يذكر ، فبهت الذي كفر.

ثمّ عطف السيّد على كبيرهم وقال : إنّي أسألك عن شيء فاصدقني ، ولا تقل إلاّ حقّا. هل سعيت في طلب الدين وتحصيل العلم واليقين من أوّل تكليفك إلى هذا الحين؟

فقال : الإنصاف إنّي إلى الآن ما كنت بهذا الوادي ، ولا خطر ذلك في ضميري وفؤادي غير أنّي اخترت دين موسى علیه السلام ؛ لأنّه كان نبيّا ، ولم يظهر لنا دليل على نسخ نبوّته ولم نفحص عن دين محمّد صلی اللّه علیه و آله حقّ الفحص ولم نبحث عمّا جاء به حقّ البحث ونحن نتأمّل في ذلك ونأتيك أخبارنا فيما يحصل لدينا ممّا هنالك.

ص: 169

وعلى ذلك انطوى المجلس وانقطع الكلام » (1).

[ ما أفاده الفاضل القمّي ]

وقال الفاضل القمي رحمه اللّه في باب الاستصحاب : « هاهنا لطيفة يعجبني أن أذكرها من باب التفريع على هذا الأصل ألهمني اللّه به ببركة دين الإسلام ، وهو أنّ بعض سادة الفضلاء الأذكياء ذكر لي حكاية ما جرى بينه وبين أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، من أنّه تمسّك بأنّ المسلمين قائلون بنبوّة نبيّنا علیه السلام ، فنحن وهم متّفقون على حقّيّته ونبوّته في أوّل الأمر ، فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان دينه.

ثمّ ذكر أنّه أجاب بما هو المشهور ، من أنّا لا نسلّم نبوّة نبيّ لا يقول بنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله فموسى أو عيسى علیهماالسلام الذي يقول بنبوّته اليهود أو النصارى نحن لا نعتقد ، بل نعتقد بموسى أو عيسى وكتابه [ الذي أخبر عن نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وصدّقه ، وهذا مضمون ما ذكره الرضا علیه السلام في جواب الجاثليق ، فإنّه قال له علیه السلام : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ] (2) هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا علیه السلام : « أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه ، وما يبشّر به أمّته ، وما أقرّت به الحواريّون. وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وبكتابه ويبشّر به أمّته ».

قال الفاضل : « ما مضى بيّن بأنّ عيسى بن مريم - المعهود الذي لا يخفى على أحد حاله وشخصه - أو موسى بن عمران - المعلوم الذي لا يشتبه حاله على أحد من المسلمين ، ولا أهل الكتاب - جاء بدين وأرسله اللّه نبيّا ، وهذا القدر مسلّم الطرفين ولا يتفاوت ثبوت رسالة هذا الشخص بدين بين أن يقول بنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله أم لا.

فنحن نقول : دين هذا الرجل المعلوم باق بحكم الاستصحاب فعليكم بإبطاله. فأفحم

ص: 170


1- « رسالة مناظرة السيّد بحر العلوم مع اليهود » المطبوعة ضمن « رجال بحر العلوم » 1 : 50 - 65 ، وقد صحّحنا النقل عليها.
2- الزيادة أثبتناها من « قوانين الأصول » 2 : 70.

ذلك الفاضل المذكور في الجواب فتأمّلت هوينا.

فقلت في إبطال الاستصحاب - بعد فرض تسليم جواز التمسّك به في أصول الدين - : إنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يبق إلاّ النبوّة في الجملة ، وهو كلّي إلى آخر الأبد ، بأن يقول اللّه تعالى : أنت نبيّ وصاحب دين إلى يوم القيامة ، وللنبوّة الممتدّة إلى زمان محمّد صلی اللّه علیه و آله بأن يقول : أنت نبيّ ودينك باق إلى زمان محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولأن يقول : « أنت نبيّ » بدون أحد القيدين ، فعلى المخالف أن يثبت إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد وأنّى له بإثباته؟

والمفروض أنّ الكلام ليس فيه أيضا. وإمّا الإطلاق فهو أيضا في معنى التقييد ، ولا بدّ من إثباته. ومن الواضح أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو النبوّة المطلقة لا مطلق النبوّة ؛ إذا الكلّي لا يمكن استصحابه إلاّ بما يمكن من أقلّ أفراده امتدادا واستعدادا كما ذكرنا.

ولنأت بمثال لتوضيح المقام ، وهو أنّا إذا علمنا أنّ في هذه القرية حيوانا ولكن لا نعلم أيّ نوع هو من الطيور ، أو البهائم ، أو الحشار ، أو الديدان ، ثمّ غبنا عنها مدّة فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدّة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ، فترى أنّ الفرس أطول عمرا من الغنم ، والعصافير أطول عمرا من الخطاطيف ، والفئران من الديدان وهكذا ، فإذا احتمل عندنا كون الحيوان الذي في بيت خاصّ إمّا عصفور ، أو فأرة ، أو دود قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بحصول القدر المشترك باستصحابها إلى زمان ظنّ بقاء أطولها أعمارا؟! فبذلك بطل تمسّك أهل الكتاب ؛ إذ على فرض التسليم والتنزّل والمماشاة معهم تقول : إنّ القدر الذي ثبت لنا من نبوّتهما هو القدر المشترك بين أحد المقيّدات الثلاثة ، فمع إمكان كونها النبوّة الممتدّة إلى زمان نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله كيف يجري الاستصحاب إلى آخر الأبد؟

ثمّ إنّك - بعد ما بيّنّا لك سابقا - لا أظنّك رادّا علينا أمر الاستصحاب [ في الحكم الشرعي بما ذكرنا في هذا المقام بأن تقول يمكن أن يردّ الاستصحاب فيها. بمثل

ص: 171

ذلك ويقال إنّ الأحكام الواردة في الشرع إنّما يسلّم جريان الاستصحاب ] (1) فيها إن ثبت كونها مطلقات لم يكن مقيّدة إلى وقت خاصّ واختفى علينا ، أو ممتدّة إلى آخر الأبد ، والذي يجوّز إجراء الاستصحاب فيه هو الأوّل وذلك ؛ لأنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت في الشرع له حدّ ، ليست بانيّة ، ولا محدودة إلى حدّ معيّن وأنّ المشهور يكتفي فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ويظهر من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ، فإنّ تتبّع أكثر الموارد واستقرائها يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده عن تلك المطلقات هي الاستمرار إلى أن يثبت الواقع عن دليل عقلي أو نقلي.

فإن قيل : هذا مردود عليك في حكاية النبوّة.

قلنا : ليس كذلك ، لأنّ الغالب في النبوّات هو التحديد ، بل إنّما الذي ثبت علينا ونسلّمه من الامتداد القابل لأن نمتدّه إلى الأبد هو نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله .

مع أنّا لا نحتاج في إثباته إلى التمسّك بالاستصحاب حتّى يتمسّك الخصم بأنّ ثبوته أيضا مردّدة بين الأمور الثلاثة ، بل نحن متمسّكون بما نقطع به من النصوص والإجماع.

نعم ، لو تمسّكنا بالاستصحاب في الدوام لا ستظهر علينا الخصم بما نبّهناه عليه.

فإن قيل : قولكم بالنسخ يعيّن الإطلاق ويبطل التحديد ؛ لأنّ إخفاء المدّة وعدم بيان الآخر مأخوذ في ماهيّة النسخ ، وهو بعينه مورد الاستصحاب.

قلنا : ما سمعت من مخاصمتنا مع اليهود في تصحيح النسخ وإبطال قولهم في بطلانه إنّما هو من باب المماشاة معهم في عدم تسليمهم التحديد ، وإبطال قولنا بقبح النسخ ، وإلاّ فالتحقيق أنّ موسى وعيسى علیهم السلام أخبرا بنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وكتابهما ناطق به ، لا أنّ نبوّتهما مطلقة ونحن نبطلهما بالنسخ ، فلمّا كان اليهود منكرا [ لنطو ] كتابهم

ص: 172


1- الزيادة أثبتناها من المصدر.

ونبيّهم بذلك وزعموا دوام دينهم ، أو إطلاق النبوّة تمسّكوا بالاستصحاب من باب المماشاة معنا ، وتمسّكوا ببطلان النسخ بناء عليه أيضا فنحن نخاصمهم على هذا الفرض في تصحيح النسخ ، وهذا ما لا يضرّ ما رددنا عليهم في تمسّكهم بالاستصحاب.

فإن قيل : أحكام شرع عيسى علیه السلام مثلا مطلقات ، والنسخ بالأحكام؟

قلنا : إطلاق الأحكام - مع اقترانهما ببشارة عيسى علیه السلام برسول بعده اسمه أحمد صلی اللّه علیه و آله لا ينفعهم ؛ لاستلزامه بوجوب قبول رسالته صلی اللّه علیه و آله ، وبعد قبوله فلا معنى لاستصحاب أحكامهم كما لا يخفى. فافهم ذلك واغتنم » (1).

أقول : لا يخفى - مضافا إلى عدم حكاية ما ذكر للواقع كما مرّ - أوّلا : أنّ الاستصحاب لا بدّ فيه من ثبوت الحكم آنا ما على وجه الإجمال وكان الشكّ في البقاء في الآن المتأخّر ، ولا شكّ في عدم ثبوت الحكم بالتديّن بدين عيسى علیه السلام لأمثال أهل هذا الزمان باعتقاد المسلمين ، فلا وجه للاستصحاب.

وثانيا : أنّ الاستصحاب يشترط فيه بقاء الموضوع ، ولا شكّ في فناء من كان مأمورا بالتديّن بدين عيسى علیه السلام ، فلا وجه للاستصحاب.

وثالثا : أنّ الاستصحاب لو كان حجّة كان حجّة فقاهيّة في الأحكام الفرعيّة وليس حجّة اجتهاديّة فيها فضلا عن الأحكام الأصليّة العلميّة.

ورابعا : أنّ الاستصحاب حجّة في الأحكام الثابتة على وجه الإجمال لا المحدودة بالمبدإ والمنتهى ، والمسلم لا يقول إلاّ بثبوت دين عيسى إلى زمان بعثة نبيّنا ، فلا وجه للاستصحاب بالنسبة إلى المسلم.

وخامسا : أنّ الاستصحاب حجّة لو لم يقم دليل قطعي على خلافه ، ومعجزات نبيّنا صلی اللّه علیه و آله عند المسلم أدلّة قاطعة على خلافه عنده ، فلا وجه للاستصحاب.

مضافا إلى أنّ الاستصحاب حجّة بقول نبيّنا وأمنائه فمع إنكارهم لا وجه لاستصحاب.

ص: 173


1- « قوانين الأصول » 2 : 70 - 74 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

[ التذنيب ] الرابع : في بيان ما ذكر في بعض كتب الأخبار من الأسرار للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وآله الأطهار.

فمن ذلك في أسرار مولده : « ما رواه زياد بن منذر ، عن ليث بن سعيد قال : قلت لكعب الأحبار - وهو عند معاوية - : كيف تجدون صفة مولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟ وهل تجدون لعترته فضلا؟ فالتفت إلى معاوية لينظر كيف هو؟ فأنطقه اللّه تعالى فقال : هات يا أبا إسحاق ، فقال كعب : إنّي قرأت اثنين وسبعين كتابا نزلت من السماء ، وقرأت صحف دانيال ، ووجدت في الكلّ مولده ومولد عترته ، وأنّ اسمه لمعروف ، ولم يولد نبيّ نزلت عليه الملائكة قطّ ما خلا عيسى وأحمد ، وما ضرب على آدمية حجب الجنّة غير مريم وآمنة ، وكان من علامة حمله أن ينادي مناد في السماء في الليلة التي حملت به آمنة علیهاالسلام : ابشروا يا أهل السماء ، فقد حملت الليلة بأحمد ، وفي الأرض كذلك حتّى في البحور ، ولقد بني في الجنّة ليلة ولادته سبعون ألف قصر من ياقوتة حمراء وسبعون ألف قصر من اللؤلؤ الرطب ، وسمّيت قصور الولادة ، وقيل للجنّة : اهتزّي وازّيّني ، فإنّ نبيّ أوليائك قد ولد ، فضحكت الجنّة يومئذ ، فهي ضاحكة إلى يوم القيامة ، وبلغنا أنّ حوتا من حيتان البحر - يقال له : طموسا وهي سيّدة الحيتان - لها سبعمائة ألف ذنب يمشي على ظهور سبعمائة ألف ثور الواحد أكبر من الدنيا ، لكلّ ثور منها سبعمائة ألف قرن من زمرّد أخضر اضطرب فرحا لمولده ، ولو لا أنّ اللّه تعالى يثبته ، لجعل عاليها سافلها ، وبلغنا يومئذ أنّه ما بقي جبل إلاّ لقي صاحبه بالبشارة ويقول : لا إله إلاّ اللّه ؛ ولقد خضعت الجبال - إلاّ أبي قبيس - كرامة لمحمّد صلی اللّه علیه و آله ولقد قدّست الأشجار أربعين يوما بأفنانها وأزهارها وأثمارها فرحا بمولده ؛ ولقد ضرب بين السماء والأرض سبعون عمودا من نور ؛ ولقد بشّر آدم بمولده فزاد في حسنه سبعون ضعفا ؛ ولقد بلغني أنّ الكوثر اضطرب فرحا؟ وطما ملؤه حتّى رمى ألف قصر من قصور الجنّة من الدرّ والياقوت نثارا لمولده ،

ص: 174

ولقد ذمّ إبليس وكبّل وألقي في الحفر أربعين يوما ؛ ولقد تنكّست الأصنام كلّها وصاحوا وسمعوا صوتا من الكعبة يقول : يا قريش جاءكم البشير ، جاءكم النذير ، معه عمر الأبد ، والرمح الأكبر ، وهو خاتم الأنبياء ؛ ونجد في الكتب أنّ عترته خير البشر ، لا تزال الناس في أمان من العذاب ما دامت عترته في الدنيا ، فقال معاوية : يا أبا إسحاق ، ومن عترته؟ فقال : ولد فاطمة ، فعبس معاوية وجهه ، وعضّ على شفتيه ، وقام من مجلسه » (1).

ومن ذلك من خواصّ مولده صلی اللّه علیه و آله ما نزل في الإنجيل : « يا عيسى جدّ في أمري ولا تهزل ، واسمع وأطع يا بن الطهر البتول ، خلقتك من غير فحل آية للعالمين ، فاعبد وعليّ فتوكّل ، خذ الكتاب بقوّة وفسّر لأهل سوريا بالسريانيّة تلمح من بين يديك إنّي أنا اللّه الدائم ، صدّقوا النبيّ الأمّي صاحب الجمل والدرع والتاج - وهي العمامة - والبغل والهراوة - وهي القضيب - الأكحل العين ، الصلت الجبين ، الواضح الخدّين ، الأقنى الأنف ، المفلّج الثنايا ، كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كأنّ الدهن يجري في تراقيه ، أسمر اللون ، إذا مشى كأنّما ينقلع من صخر وينحدر من صبب ، عرقه في وجهه كاللؤلؤ أو ريح المسك ، لم يره قبله ولا بعده مثله ، نكّاح النساء ، قليل النسل ، وإنّما نسله من مباركة لها بيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، يكفّلها في آخر الزمان كما كفّل زكريّا أمّك ، لها فرخان يستشهدان ، كلامه القرآن ، ودينه الإسلام ، وأنا السلام ، طوبى لمن أدرك زمانه وسمع كلامه » (2).

ومن ذلك ما رواه ابن عبّاس عنه من نطقه بالغيب وإخباره بالملاحم ، قال : « حججنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حجّة الوداع ، فجاء حتّى أخذ بحلقة باب الكعبة ، ثمّ أقبل علينا بوجهه وهو كالشمس في الضحى ، ثمّ قال : « ألا أخبركم بأشراط

ص: 175


1- « مشارق أنوار اليقين » : 71 - 72.
2- المصدر السابق : 72.

الساعة؟ » فقلنا : بلى يا رسول اللّه ، فقال : « إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلاة ، واتّباع الشهوات ، وتعظيم المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء لما يرى من المنكر ، فلا يستطيع إنكاره.

فقال سلمان : وكلّ هذا كائن؟ فقال : « إي والذي نفس محمّد صلی اللّه علیه و آله بيده ، فعندها يليهم الأمراء الجور ، والوزراء الفسق ، والعرفاء الظلم ، والأمناء الخيانة ، فعندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويصدّق الكاذب ويكذّب الصادق ، وتتأمّر النساء ، وتشاور الإماء ، وتعلو الصبيان المنابر ، ويكون الفجور ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ، ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنّب ، فعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون المطر غيضا ، والأولاد غيظا ، فإذا دخلت السوق فلا ترى إلاّ ذامّا لربّه ، هذا يقول : لم أبع شيئا ، وهذا يقول : لم أربح شيئا ، فعندها يملكهم قوم إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، يسفكون دماءهم ويملئون قلوبهم رعبا ؛ فلا تراهم إلاّ خائفين مرعوبين ، فعندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم والويل لهم من اللّه ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، قلوبهم قلوب الشياطين ، فعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلام كما تغار على الجارية في بيت أهلها ، ويشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وتعلو السروج الفروج ، فعلى أولئك من أمّتي لعنة اللّه.

فعندها تزخرف المساجد والمصاحف ، وتعلو المنابر ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة ، فعندها تحلّى ذكور أمتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويظهر الربا ، ويتعاملون بالرشوة ، ويستعملون الغيبة ، فعندها يكثر الطلاق ، فما يقام له حدّ ، فعندها يحجّ ملوك أمّتي للنزهة ، وتحجّ أوساطهم للتجارة ، ويحجّ فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يتعلّمون القرآن لغير اللّه ، ويتّخذونه مزامير ، ويتفقّهون للجدال ، ويكثر أولاد الزنى ، ويغنّون بالقرآن ، ويتهافتون على الدنيا ، فإذا

ص: 176

انتهكت المحارم واكتسبت المآثم ، سلّط الأشرار على الأخيار ، فعند ذلك يغشّ الكذب ، ويتهافتون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، وينكرون الأمر بالمعروف في ذلك الزمان حتّى يكون المؤمن أذلّ الأمّة ، ويظهر قرّاؤهم فيما بينهم التلاوة والعداوة ، أولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس ، فهناك يخشى الغني من الفقير أن يسأله ، ويسأل الناس في محافلهم فلا يضع أحد في يده شيئا ، فعندها يتكلّم من لم يكن متكلّما ، فلم يثبتوا هنالك إلاّ قليلا حتّى تخور الأرض خورة حتّى يظنّ كلّ نفس أنّها خارت في ناحيتهم ثمّ يمكثون ما شاء اللّه ، ثمّ يمكثون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ أكبادها ذهبا وفضّة ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضّة » (1).

ومن ذلك في إخباره بالغيب : أنّه مسح بالتراب عن وجه عمّار بن ياسر يوم الخندق ، وقال : « تقتلك الفئة الباغية ». وقال لأبي ذرّ : « كيف أنت إذا طردت ونفيت وأخرجت إلى الربذة؟ ».

وقال : « تبنى مدينة بين دجلة والفرات وقطربل ، تجبى إليها خزائن الأرض ، يخسف بها ، يعني بغداد (2) ».

ومن كراماته صلی اللّه علیه و آله أنّه لمّا اشتدّ الأمر على المسلمين يوم الخندق ، صعد مسجد الفتح فصلّى ركعتين ، ثمّ قال : « اللّهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد بعدها في الأرض » فجاءت الملائكة فقالت : يا رسول اللّه ، إنّ اللّه قد أمرنا بالطاعة لك فمرنا بما شئت ، فقال : « زعزعوا المشركين واطردوهم ، وكونوا من ورائهم ». ففعلوا ذلك ، فقال أبو سفيان لأصحابه : إن كنّا نقاتل أهل الأرض فلنا القدرة عليهم ، وإن كنّا نقاتل أهل السماء فلا طاقة لنا بأهل السماء (3).

ص: 177


1- « مشارق أنوار اليقين » : 72 - 73 : « تفسير الصافي » 5 : 25 - 27.
2- « مشارق أنوار اليقين » : 73 - 74 : « بحار الأنوار » 18 : 113 ، ح 18.
3- « مشارق أنوار اليقين » : 174.

ومن ذلك في أسرار مولده : إنّ الملك سيف بن ذي يزن قال لعبد المطّلب رضی اللّه عنه : إنّي لأجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون أنّه إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم الزعامة إلى يوم القيامة ، يموت أبوه وأمّه ويكفّله جدّه وعمّه ، وولد في عام الفيل وتوفّي أبوه وهو ابن شهرين ، وماتت أمّه وهو ابن أربع سنين ، ومات عبد المطّلب وهو أبو ثمان سنين وكفّله عمّه أبو طالب علیه السلام . (1)

ومن كراماته صلی اللّه علیه و آله أنّ أبا ذر رضي اللّه لمّا جاء إليه وأسلم على يده ، قال له : « ارجع إلى بلادك فإنّ ابن عمّك قد مات ، وقد خلّف مالا فاحتو عليه والبث في بلادك إلى وقت كذا وأتني ». فرجع إلى اليمن فوجد كما أخبره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاحتوى على المال ، وبقي في بلاده حتّى ظهر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأتى إليه. (2)

ومن ذلك ما رواه وهب بن منبّه ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمّا عرج بي إلى السماء ناداني ربّي جلّ جلاله : يا محمّد ، إنّي أقسمت بي وأنا الذي لا إله إلاّ أنا إنّي أدخل الجنّة جميع أمّتك إلاّ من أبى ، فقلت : ربّي ومن يأبى دخول الجنّة؟

فقال : إنّي اخترتك نبيّا ، واخترت عليّا وليّا ، ومن أبى عن ولايته فقد أبى عن دخول الجنّة ؛ لأنّ الجنّة لا يدخلها إلاّ محبّه ، وهي محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها أنت وعليّ وفاطمة وعترتهم وشيعتهم ، فسجدت لله شكرا ، ثمّ قال لي : يا محمّد ، إنّ عليّا هو الخليفة بعدك وإنّ قوما من أمّتك يخالفوه ، وإنّ الجنّة محرّمة على من خالفه وعاداه وبشّر عليّا أنّ له هذه الكرامة منّي ، وإنّي سأخرج من صلبه أحد عشر نقيبا منهم سيّد يصلّي خلفه المسيح بن مريم ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

فقلت : ربّي متى يكون ذلك؟ فقال : إذا رفع العلم ، وكثر الجهل ، وكثر القرّاء وقلّ العلماء ، وقلّ الفقهاء ، وكثر الشعراء ، وكثر الجور والفساد ، واكتفى الرجال بالرجال ،

ص: 178


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

والنساء بالنساء ، وصار الأمناء خونة ، وأعوانهم ظلمة ، فهناك أظهر خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب ، ثمّ يظهر الدجّال بالمشرق ، ثمّ أخبرني ربّي بما كان وبما يكون من الفتن من بني أميّة وبني العبّاس ثمّ أمرني أن أوصل كلّ ذلك إلى عليّ علیه السلام فأوصلت إليه عن أمر اللّه. (1)

ومن ذلك من كراماته صلی اللّه علیه و آله : ما رواه ابن عبّاس ، قال : لمّا زوّج النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّا علیه السلام بفاطمة علیهاالسلام استدعى تميرات وفضلة من سمن عربي ، وجفنة من سويق وجعلها في قصعة كانت لهم ، ثمّ حرّكه بيده الشريفة التي هي منبع البركات ومعدن الخيرات وفيّاض النعمات ورحمة أهل الأرض والسماوات ، ثمّ قال : قدّموا الصحاف والجفان والقصاع ، فقدّمت ؛ فلم يزل يملأ من ذلك الجفن الجفان ويحملوها إلى بيوت المهاجرين والأنصار ، والقصعة تمتلئ وتفيض حتّى اكتفى سائر الناس والقصعة على حالها. (2)

ومن كراماته ومكاشفاته صلی اللّه علیه و آله ما تكلّم به عند موته والناس حوله ، فقال : « ابيضّت وجوه واسودّت وجوه ، وسعد أقوام وشقي آخرون ، سعد أصحاب الكساء الخمسة وأنا سيّدهم ولا فخر ، عترتي عترة اللّه ، أهل بيتي السابقون السابقون السابقون ، أولئك هم المقرّبون ، سعد من اتّبعهم وشايعهم على ديني ودين آبائي ، أنجزت موعدك يا ربّ ، واسودّت وجوه أقوام يردون ظمأ إلى نار جهنّم مرق البغل الأوّل الأعظم ، والآخر والثاني ، حسابهم على اللّه ، وثالث ورابع. كلّ امرئ بما كسبت رهين ، وعلّقت الرهون ، واسودّت الوجوه ، هلكت الأحزاب ، وقادت الأمراء بعضها بعضا إلى النار ، مبغض عليّ وآل عليّ في النار ، ومحبّ عليّ وآل عليّ في الجنّة » (3).

ص: 179


1- المصدر السابق : 74 - 75.
2- المصدر السابق : 75.
3- المصدر السابق.

[ التذنيب ] الخامس : في نبذ من المعجزات الصادرة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله على وفق ما انتخبت من كتاب بحار الأنوار - عدا ما مرّ - وهي كثيرة :

[1] : منها : ما روي من أبي محمّد العسكري علیه السلام : « أنّه جاء قوم من المشركين ، فقالوا له : يا محمّد ، تزعم أنّك رسول ربّ العالمين ، فإنّك لا ترضى بذلك حتّى تزعم أنّك سيّدهم وأفضلهم ، وإن كنت نبيّنا فأتنا بآية كما تذكره عن الأنبياء من قبلك مثال نوح الذي جاء بالغرق ، ونجا في سفينته مع المؤمنين ، وإبراهيم الذي ذكرت أنّ النار جعلت عليه بردا وسلاما ، وموسى الذي زعمت أنّ الجبل رفع فوق رءوس أصحابه حتّى انقادوا لمّا دعاهم اللّه إليه صاغرين داخرين ، وعيسى الذي كان ينبّئهم بما كانوا يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ، وصار هؤلاء المشركون فرقا أربعا ، هذه تقول : أظهر لنا آية نوح ، وهذه تقول : أظهر لنا آية موسى ، وهذه تقول : أظهر لنا آية إبراهيم ، وهذه تقول : أظهر لنا آية عيسى ، فقال رسول اللّه : إنّما أنا لكم نذير مبين آتيكم بآية بيّنة. هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته ، وهو بلغتكم وهو حجّة اللّه وحجّة نبيّه عليكم ، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربّي ، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين إلى المقرّين بحجّة صدقه ، وآية حقّه ، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجّة على ربّه ما يقترحه عليه المقترحون لا يعلمون أهل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون.

فجاء جبرئيل علیه السلام فقال : يا محمّد إنّ العليّ الأعلى يقرأ عليك السّلام ويقول : إنّي سأظهر لهم هذه الآية ، وأنّهم يكفرون بها إلاّ من أعصمه منهم ، ولكنّي أريهم ذلك زيادة في الاعتذار والإيضاح بحججك ، وقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح علیه السلام : امضوا إلى جبل أبي قبيس فإذا بلغتم سفحه فترون آية نوح علیه السلام ، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه.

وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم علیه السلام : امضوا إلى حيث تريدون من

ص: 180

ظاهر مكّة فترون آية إبراهيم علیه السلام في النار ، فإذا غشيكم البلاء فترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها فتعلّقوا به لتنجيكم من الهلكة وتردّ عنكم النار.

وقل للفريق الثالث المقترحين لآية موسى علیه السلام : امضوا إلى ظلّ الكعبة فأنتم سترون آية موسى علیه السلام ، وسينجيكم هناك عمّي حمزة.

وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل : وأنت يا أبا جهل ، فاثبت عندي ليصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاثة ، فإنّ الآية التي اقترحتها أنت تكون بحضرتي.

فقال أبو جهل للفرق الثلاثة : قوموا فتفرّقوا ليتبيّن لكم بطلان قول محمّد ، فذهبت الفرقة الأولى إلى جبل أبي قبيس ، فلمّا صاروا في الأرض وإلى جانب الجبل نبع الماء من تحتهم ، ونزل من السماء الماء من فوقهم من غير غمام ولا سحاب ، وكثر حتّى بلغ أفواههم فألجمها وألجأها إلى صعود الجبل ؛ إذ لم يجدوا منجى سواه ، فجعلوا يصعدون الجبل والماء يعلو من تحتهم إلى أن بلغوا ذروته وارتفع الماء حتّى ألجمهم وهم على قلّة الجبل ، ويفتنوا بالغرق ؛ إذ لم يكن مفرّ فرأوا عليّا علیه السلام واقفا على متن الماء فوق قلّة الجبل ، وعن يمينه طفل ، وعن يساره طفل ، فناداهم عليّ : خذوا بيدي أنجيكم ، أو بيد من شئتم من هذين الطفلين فلم يجدوا بدّا من ذلك ، فبعضهم أخذ بيد عليّ ، وبعضهم أخذ بيد أحد الطفلين ، وبعضهم أخذ بيد الطفل الآخر ، وجعلوا ينزلون بهم إلى الجبل ، والماء ينزل وينحطّ من بين أيديهم حتّى أوصلوهم إلى القرار ، والماء يدخل بعضه في الأرض ويرتفع بعضه إلى السماء حتّى عادوا كهيئتهم إلى قرار الأرض ، فجاء عليّ علیه السلام بهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يبكون ويقولون : نشهد أنّك سيّد المرسلين ، وخير الخلق أجمعين ، رأينا مثل طوفان نوح علیه السلام وخلّصنا هذا وطفلان كانا معه لسنا نراهما الآن.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ألا إنّهما سيكونان هما الحسن والحسين سيولدان لأخي هذا ، هما سيّدا شباب أهل الجنّة وأبوهما خير منهما. اعلموا أنّ الدنيا بحر عميق قد غرق فيها خلق كثير ، وأنّ سفينة نجاتها آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، عليّ هذا وولداه اللذان

ص: 181

رأيتموهما سيكونان ، وسائر أفاضل أهلي ، فمن ركب هذه السفينة نجا ، ومن تخلّف عنها غرق.

ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فكذا الآخرة حميمها ونارها كالبحر ، وهؤلاء سفن أمّتي يعبرون بمحبّيهم وأوليائهم إلى الجنّة.

ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أما سمعت هذا يا أبا جهل؟ قال : بلى أنظر إلى الفرقة الثانية فيبكون ويقولون : نشهد أنّك رسول ربّ العالمين ، وسيّد الخلق أجمعين ، مضينا إلى صحراء ملساء ونحن نتذاكر بيننا قولك ، فنظرنا السماء قد تشقّقت بجمر النيران يتناثر عنها ، ورأينا الأرض قد انصدعت ولهب النيران يخرج منها ، فما زالت كذلك حتّى طبقت الأرض وملأتها ، ومسّنا من شدّة حرّها حتّى سمعنا لجلودنا نشيشا من شدّة حرّها ، وأيقنّا بالاشتواء والاحتراق بتلك النيران ، فبينما نحن كذلك إذ رفع لنا في الهواء شخص امرأة قد أرخت خمارها ، فتدلّى طرفه إلينا بحيث تناله أيدينا ، وإذا مناد من السماء ينادينا : إن أردتم النجاة فتعلّقوا ببعض أهداب هذا الخمار ، فتعلّق كلّ واحد منّا بهدبة من أهداب ذلك الخمار ، فرفعنا في الهواء ونحن نشرف جمر النيران ولهبها لا يمسّنا شررها ، ولا يؤذينا حرّها ، ولا نثقل على الهدبة التي تعلّقنا بها ، ولا تنقطع الأهداب في أيدينا على رقّتها ، فما زال كذلك حتّى جازت بنا تلك النيران ، ثمّ وضع كلّ واحد منّا في صحن داره سالما معافى ، ثمّ خرجنا فالتقينا فجئناك عالمين بأنّه لا محيص عن دينك ، ولا معدل عنك ، وأنت أفضل من لجئ إليه واعتمد بعد اللّه عليه ، صادق في أقوالك ، حكيم في أفعالك.

فقال رسول اللّه : هذه الفرقة الثانية قد أراهم اللّه آية إبراهيم علیه السلام . قال أبو جهل حتّى أنظر إلى الفرقة الثالثة وأسمع مقالها.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذه الفرقة الثانية لمّا آمنوا - : يا عباد اللّه ، إنّ اللّه أغاثكم بتلك المرأة تدرون من هي؟ قالوا : لا.

قال : تلك تكون بنتي فاطمة علیهاالسلام وهي سيّدة النساء ، إنّ اللّه تعالى إذا بعث

ص: 182

الخلائق من الأوّلين والآخرين نادى منادي ربّنا من تحت عرشه : يا معشر الخلائق من الأوّلين والآخرين غضّوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء العالمين على الصراط ، فتغضّ الخلائق كلّهم أبصارهم ، فتجوز فاطمة على الصراط ، لا يبقى أحد في القيامة إلاّ غضّ بصره عنها إلاّ محمّد وعليّ والحسن والحسين والطاهرين من أولادهم علیهم السلام فإنّهم محارمها ، فإذا دخلت الجنّة بقي مرطها ممدودا على الصراط ، طرف منه بيدها وهي في الجنّة ، وطرف في عرصات القيامة ، فينادي منادي ربّنا : يا أيّها المحبّون لفاطمة تعلّقوا بأهداب مرط فاطمة سيّدة نساء العالمين ، فلا يبقى محبّ لفاطمة إلاّ تعلّق بهدبة من أهداب مرطها حتّى يتعلّق بها أكثر من ألف فئام وألف فئام وألف فئام. قالوا : وكم فئام واحد يا رسول اللّه؟ قال : ألف ألف وينجون بها من النار.

قال : ثمّ جاءت الفرقة الثالثة باكين يقولون : نشهد يا محمّد ، أنّك رسول ربّ العالمين وسيّد الخلق أجمعين ، وأنّ عليّا أفضل الوصيّين ، وأنّ آلك افضل آل النبيّين صلّى اللّه عليهم أجمعين وصحابتك خير صحابة المرسلين ، وأنّ أمّتك خير الأمم أجمعين ، رأينا من آياتك ما لا محيص لنا عنها ، ومن معجزاتك ما لا مذهب لنا سواها. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وما الذي رأيتم؟ قالوا : كنّا قعودا في ظلّ الكعبة لنذكّر أمرك ونهزأ بخبرك وأنّك ذكرت أنّ لك آية مثل آية موسى علیه السلام من رفع الجبل ، فبينا نحن كذلك إذا ارتفعت الكعبة عن موضعها وصارت فوق رءوسنا ، فركزنا في مواضعنا ولم نقدر أن نريمها فجاء عمّك حمزة وقال : بزجّ رمحه هكذا تحتها فناولها واحتبسها على عظمها فوقنا في الهواء ، ثمّ قال لنا : اخرجوا ، فخرجنا من تحتها ، فقال : ابعدوا فبعدنا عنها ، ثمّ أخرج سنان الرمح من تحتها فنزلت إلى موضعها فاستقرّت فجئناك بذلك مسلمين.

فقال رسول اللّه لأبي جهل : هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت.

فقال أبو جهل : لا أدري صدقوا هؤلاء أم كذبوا ، أم حقّق لهم أم خيّل إليهم ، فإن رأيت ما اقترحه عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك ، وإلاّ فليس

ص: 183

يلزمني تصديق هؤلاء ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبا جهل ، فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدّة تحصيلهم فكيف تصدّق بمآثر آبائك ومساوئ أسلاف أعدائك؟ وكيف تصدّق من الصين والعراق والشام إذا حدّثت عنها؟ هل المخبرون عن ذلك إلاّ دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر من شاهدها منهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرّصونه إلاّ كان بإزائهم من يكذّبهم ويخبر بضدّ إخبارهم؟ ألا وكلّ فرقة من هؤلاء محتجّون بما شاهدوا ، وأنت يا أبا جهل ، محجوج بما شاهدوا.

ثمّ أقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الفرقة الثالثة فقال لهم : هذا حمزة عمّ رسول اللّه بلغه اللّه تعالى المنازل الرفيعة والدرجات العالية ، وأكرمه اللّه بالفضائل ؛ الشدّة حبّه لمحمّد صلی اللّه علیه و آله وعليّ بن أبي طالب علیه السلام أما إنّ حمزة عمّ محمّد لينحّي جهنّم عن محبّه كما نحّى عنكم اليوم الكعبة أن تقع عليكم.

قيل : وكيف ذلك يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّه يسري يوم القيامة إلى جانب الصراط عالم كثير من الناس لا يعرف عددهم إلاّ اللّه تعالى هم كانوا محبّي حمزة وكثير منهم أصحاب الذنوب والآثام ، فتحول حيطان بينهم وبين سلوك الصراط والعبور إلى الجنّة ، فيقولون : يا حمزة ، قد ترى ما نحن فيه ، فيقول حمزة لرسول اللّه ولعليّ بن أبي طالب صلی اللّه علیه و آله : قد تريان أوليائي كيف يستغيثون بي؟ فيقول محمّد رسول اللّه لعليّ وليّ اللّه : يا عليّ أعن عمّك على إغاثة أوليائه ، واستنقاذهم من النار ، فيأتي عليّ بن أبي طالب علیه السلام إلى الرمح الذي كان يقاتل به حمزة أعداء اللّه تعالى في الدنيا ، فيناوله إيّاه ويقول : يا عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويا عمّ أخي رسول اللّه ، ذد الجحيم عن أوليائك برمحك هذا كما كنت تذود به عن أولياء اللّه في الدنيا أعداء اللّه ، فتناول حمزة الرمح بيده فيضع زجّه في حيطان النار الحائلة بين أوليائه وبين العبور إلى الجنّة على الصراط ، ويدفعها دفعة فينحّيها مسيرة خمسمائة عام ، ثمّ يقول لأوليائه والمحبّين الذين كانوا له في الدنيا : اعبروا ، فيعبرون على الصراط آمنين سالمين قد

ص: 184

انزاحت عنهم النيران وبعدت عنهم الأهوال ، ويردون الجنّة غانمين ظافرين.

ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأبي جهل : يا أبا جهل ، هذه الفرقة الثالثة ، قد شاهدت آيات اللّه ومعجزات رسول اللّه ، وبقي الذي لك ، فأيّ آية تريد؟. قال أبو جهل : آية عيسى علیه السلام كما زعمت أنّه كان يخبر بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ، فأخبرني بما أكلت اليوم وادّخرته في بيتي ، وزد على ذلك أن تحدّثني بما صنعته بعد أكلي لمّا أكلت كما زعمت أنّ اللّه قد زادك في المرتبة فوق عيسى علیه السلام ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أمّا ما أكلت وما ادّخرت فأخبرك به وأخبرك بما فعلته في خلال أكلك ، وهذا يوم يفضحك اللّه فيه لاقتراحك ، فإن آمنت باللّه لم تضرّك هذه الفضيحة ، فإن أصررت على كفرك أضف لك إلى فضيحة الدنيا وخزيها خزي الآخرة الذي لا يبيد ولا ينفد ولا يتناهى. قال : وما هو؟

قال : قعدت يا أبا جهل ، تناولت من دجاجة مسمّنة استطبتها ، فلمّا وضعت يدك عليها استأذن عليك أخوك أبو البختري بن هشام فأشفقت أن يأكل منها وبخلت ، فوضعتها تحت ذيلك وأرخيت عليها ذيلك حتّى انصرف عنك.

فقال أبو جهل : كذبت يا محمّد ، ما من هذا قليل ولا كثير ولا أكلت من دجاجة ولا ادّخرت منها شيئا ، فما الذي فعلته بعد أكلي الذي زعمته؟ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كان معك ثلاثمائة دينار لك وعشرة آلاف دينار ودائع الناس عندك ، المائة والمائتان والخمسة والسبعمائة والألف ونحو ذلك إلى تمام عشرة آلاف قال : كلّ واحد في صرّة وكنت قد عزمت على أن تختانهم ، وقد كنت جحدتهم ومنعتهم ، واليوم لمّا أكلت من هذه الدجاجة وأكلت زورها وادّخرت الباقي ، ودفنت هذا المال مسرورا فرحا باختيانك عباد اللّه ، واثقا بأنّه قد حصل لك ، وتدبير اللّه في ذلك خلاف تدبيرك. فقال أبو جهل : وهذا أيضا يا محمّد ؛ فما أصبت منه قليلا ولا كثيرا وما دفنت شيئا ، وقد سرقت تلك العشرة آلاف دينار والودائع التي كانت عندي ، فقال رسول اللّه : يا أبا جهل ، ما هذا من تلقائي فتكذّبني وإنّما هذا جبرئيل الروح الأمين

ص: 185

يخبرني به عن ربّ العالمين وعليه تصحيح شهادته وتحقيق مقالته.

ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : هلمّ يا جبرئيل بالدجاجة التي أكل منها ، فإذا الدجاجة بين يدي رسول اللّه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتعرفها يا أبا جهل؟ فقال أبو جهل : ما أعرفها وما أخبرت عن شيء ، ومثل هذه الدجاجة المأكول بعضها في الدنيا كثير ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أيّتها الدجاجة إنّ أبا جهل قد كذّب محمّدا على جبرئيل ، وكذّب جبرئيل على ربّ العالمين ، فاشهدي لمحمّد بالتصديق وعلى أبي جهل بالتكذيب ، فنطقت فقالت : أشهد أنّك يا محمّد ؛ رسول اللّه وسيّد الخلق أجمعين ، وأنّ أبا جهل هذا عدوّ اللّه المعاند الجاحد للحقّ الّذي يعلمه أكل منّي هذا الجانب وادّخر الباقي ، وقد أخبرته بذلك وأحضرتنيه فكذّب به ، فعليه لعنة اللّه ولعنة اللاعنين ، فإنّه مع كفره بخيل ، استأذن عليه أخوه فوضعني تحت ذيله إشفاقا من أن يصيب منّي أخوه ، فأنت يا رسول اللّه ، أصدق الصادقين من الخلق أجمعين ، وأبو جهل الكاذب المفتري اللعين.

فقال رسول اللّه : أما كفاك ما شاهدت؟ آمن لتكون آمنا من عذاب اللّه عزّ وجلّ ، قال أبو جهل : إنّي لأظنّ أنّ هذا تخييل وإيهام ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فهل تفرّق بين مشاهدتك واستماعك لكلامها ، وبين مشاهدتك لنفسك ولسائر قريش والعرب سماعك لكلامهم؟ قال أبو جهل : لا ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فما يدريك أنّ جميع ما تشاهد وتحسّ بحواسّك تخييل؟

قال أبو جهل : ما هو تخييل ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ولا هذا بتخييل وإلاّ كيف يصحّ أنّك ترى في العالم شيئا أوثق منه؟! قال : ثمّ وضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يده على الموضع المأكول من الدجاجة ، فمسح يده عليها فعاد اللحم عليه أوفر ما كان ، ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا جبرئيل ، فأتنا بالأموال التي دفنها هذا المعاند للحقّ ، لعلّه يؤمن ، فإذا هو بالصرر بين يديه كلّها ، ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاله إلى تمام عشرة آلاف وثلاثمائة دينار ، فأخذ رسول اللّه - وأبو جهل ينظر إليه - صرّة منها ، فقال : ائتوني

ص: 186

بفلان بن فلان ، فأتي به وهو صاحبها ، فقال : هاكها يا فلان ما قد اختانك فيه أبو جهل ، فردّ عليه ما له ، ودعا بآخر حتّى ردّ العشرة آلاف كلّها على أربابها ، وفضح عندهم أبو جهل ، وبقيت الثلاثمائة دينار بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : الآن آمن لتأخذ ثلاثمائة دينار ويبارك اللّه تعالى لك فيها حتّى تصير أيسر قريش قال : لا آمن ولكن آخذها فهي مالي ، فلمّا ذهب يأخذها صاح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالدجاجة : دونك أبا جهل ، وكفّيه عن الدنانير وخذيه ، فوثبت الدجاجة على أبي جهل فتناولته بمخالبها ورفعته في الهواء وطارت به إلى سطح بيته فوضعته عليه ، ودفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك الدنانير إلى بعض فقراء المؤمنين.

ثمّ نظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أصحابه فقال : معاشر أصحاب محمّد هذه آية أظهرها ربّنا عزّ وجلّ لأبي جهل فعاند ، وهذا الطير الذي حيي يصير من طيور الجنّة الطيّارة عليكم فيها ، فإنّ فيها طيورا كالبخاتي عليها من جميع أنواع المواشي تطير بين سماء الجنّة وأرضها ، فإذا تمنّى مؤمن محبّ للنبيّ وآله أكل من شيء منها وقع ذلك بعينه بين يديه ، فتناثر ريشه وانشوى وانطبخ ، فأكل من جانب قديدا ، ومن جانب منه مشويّا بلا نار ، فإذا قضى شهوته ونهمته ، قال : الحمد لله ربّ العالمين ، عادت كما كانت ، فطارت في الهواء وفخرت على سائر طيور الجنّة تقول : من مثلي وقد أكل منّي وليّ اللّه عن أمر اللّه » (1).

[2] ومنها : ما روي « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمشي بمكّة وأخوه عليّ يمشي معه وعمّه أبو لهب خلفه يرمي عقبه بالأحجار وقد أدماه ينادي : معاشر قريش ، هذا ساحر كذّاب فاقذفوه واهجروه واجتنبوه. وحرّش عليه أوباش قريش فتبعوهما ، فما منها حجر أصابه إلاّ أصاب عليّا علیه السلام ، فقال بعضهم : يا عليّ ، ألست المتعقّب لمحمّد والمقاتل عنه والشجاع لا نظير لك مع حداثة سنّك وأنّك لم تشاهد الحروب ، ما بالك

ص: 187


1- « بحار الأنوار » 17 : 239 - 248 ، ح 2 ، نقلا عن « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : 439 - 441 ، ح 292.

لا تنصر محمّدا ولا تدفع عنه؟

فناداهم عليّ علیه السلام : معاشر أوباش قريش ، لا أطيع محمّدا بمعصيتي له ، لو أمرني لرأيتم العجب ، وما زالوا يتّبعونه حتّى خرج من مكّة فأقبلت الأحجار على حالها تتدحرج ، فقالوا : الآن تشدخ هذه الأحجار محمّدا وعليّا ونتخلّص منهما وتنحّت قريش عنه خوفا على أنفسهم من تلك الأحجار ، فرأوا تلك قد أقبلت على محمّد وعليّ كلّ حجر ينادي : السّلام عليك يا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف ، السّلام عليك يا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف ، السّلام عليك يا رسول ربّ العالمين وخير الخلق أجمعين ، السّلام عليك يا سيّد الوصيّين ويا خليفة رسول ربّ العالمين ، وسمعها جماعات قريش فوجموا ، فقال عشرة من مردتهم وعتاتهم : ما هذه الأحجار تكلّمهما ، ولكنّهم رجال في حفرة بحفرة الأحجار قد خبأهم محمّد تحت الأرض ، تكلّمهما ليفرّونا ويخدعونا ، فأقبلت عند ذلك عشرة من تلك الصخور وارتفعت فوق العشرة المتكلّمين بهذا الكلام ، فما زالت تقع بهاماتهم وترتفع وترضّضها حتّى ما بقي من العشرة أحد إلاّ سال دماغه ودماؤه من منخريه ، وقد تخلّل رأسه وهامته ويافوخه ، فجاء أهلوهم وعشائرهم يبكون ويضجّون يقولون : أشدّ من مصابنا بهؤلاء تبجّح محمّد وتبذّخه بأنّهم قد قتلوا بهذه الأحجار آية له ودلالة ومعجزة ، وأنطق اللّه عزّ وجلّ جنائزهم : صدق محمّد وما كذّب وكذّبتم أنتم وما صدّقتم. واضطربت الجنائز ورمت من عليها وسقطوا على الأرض ونادت وقالت : ما كنّا ننقاد ليحمل علينا أعداء اللّه إلى عذاب اللّه.

فقال أبو جهل لعنه اللّه : إنّما هو سحر محمّد هذه الجنائز كما سحر تلك الأحجار والجلاميد والصخور حتّى وجد منهما من النطق ما وجد ، فإن كانت قتل هذه الأحجار هؤلاء لمحمّد آية له وتصديقا لقوله وتبيينا لأمره ، فقولوا له : يسأل من خلقهم أن يحييهم؟

ص: 188

فقال رسول اللّه : يا أبا الحسن ، قد سمعت اقتراح الجاهلين وهؤلاء عشرة قتلى ، كم جرحت بهذه الأحجار التي رمانا بها القوم يا عليّ؟ قال عليّ علیه السلام : جرحت أربع جراحات. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وقد جرحت أنا ستّ جراحات ، فليسأل كلّ واحد منّا ربّه أن يحيي من العشرة بقدر جراحاته ، فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لستّة منهم فنشروا ، ودعا عليّ علیه السلام لأربعة منهم فنشروا ، ثمّ نادى المحيون : معاشر المسلمين إنّ لمحمّد وعليّ شأنا عظيما في الممالك التي كنّا فيها ، لقد رأينا لمحمّد صلی اللّه علیه و آله مثالا على سرير عند البيت وعند العرش ، ولعليّ مثالا عند البيت المعمور وعند الكرسيّ وأملاك السماوات والحجب وأملاك العرش يحفّون بهما ويعظّمونهما ويصلّون عليهما ، ويصدرون عن أوامرهما ، ويقسمون على اللّه عزّ وجلّ لحوائجهم إذا سألوه بهما ، فآمنوا منهم سبعة نفر وغلب الشقاء على الآخرين ». الحديث (1).

[3] ومنها : ما روي أنّه قال محمّد بن عليّ الباقر علیهماالسلام : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا قدم المدينة وظهرت آيات صدقه وآيات حقّه وبيّنات نبوّته ، كادته اليهود أشدّ كيد ، وقصدوه أقبح قصد ، يقصدون أنواره ليطمسوها وحججه ليبطلوها ، وكان من قصده للردّ عليه وتكذيبه مالك بن الصيف ، وكعب بن الأشرف ، وحيّ بن أخطب ، وأبو لبابة بن عبد المنذر ، وشعبة. فقال مالك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يا محمّد ، تزعم أنّك رسول اللّه؟

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كذلك قال اللّه خالق الخلق أجمعين ، قال : يا محمّد ، لن نؤمن أنّك رسول اللّه حتّى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا ، ولن نشهد أنّك عن اللّه جئتنا حتّى يشهد لك هذا البساط.

وقال أبو لبابة بن عبد المنذر : لن نؤمن لك أنّك رسول اللّه ، ولا نشهد لك حتّى يؤمن لك ويشهد لك هذا السوط في يدي.

وقال كعب بن الأشرف : لن نؤمن لك أنّك رسول اللّه ، ولن نصدّقك حتّى يؤمن لك

ص: 189


1- « بحار الأنوار » 17 : 259 - 264 ، ح 5 ، نقلا عن « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : 373 - 379 ، ح 260 - 263.

هذا الحمار الذي كان راكبه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّه ليس للعباد الاقتراح على اللّه ، بل عليهم التسليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعله كافيا ، أما كفاكم إن أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوّتي ودلّ على صدقي وتبيّن لكم فيها ذكر أخي ووصيّي وخليفتي وخير من أتركه على الخلائق بعدي عليّ بن أبي طالب ، فأنزل عليّ هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين ، المعجز لهم أن يأتوا بمثله ، وأن يتكلّفوا شبهه ، فأمّا هذا الذي اقترحتموه [ فلست أقترحه على ربّي عزّ وجلّ ، بل أقول : إنّ ما أعطانيه ربّي من دلالة هو حسبي وحسبكم ، فإن فعل عزّ وجلّ ما اقترحتموه ] (1) فذاك زائد في تطوّله علينا وعليكم ، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأنّ الذي فعله كاف فيما أراده منّا.

فلمّا فرغ رسول اللّه من كلامه هذا أنطق اللّه البساط ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا صمدا قيّوما أبدا ، لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يشرك في حكمه أحدا ، وأشهد أنّك يا محمّد ، عبده ورسوله ، أرسلك بالهدى ودين الحقّ ليظهرك على الدين كلّه ولو كره المشركون ، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيّك وخليفتك في أمّتك ، وخير من تركته على الخلائق بعدك ، وأنّ من والاه فقد والاك ، ومن عاداه فقد عاداك ، ومن أطاعه فقد أطاعك ، ومن عصاه فقد عصاك ، وأنّ من أطاعك فقد أطاع اللّه واستحقّ السعادة برضوانه ، وأنّ من عصاك فقد عصى اللّه واستحقّ أليم العذاب بنيرانه.

قال : فعجب القوم ، فقال بعضهم لبعض ، ما هذا إلاّ سحر مبين ، فاضطرب البساط وارتفع ، ونكّس مالك بن الصيف وأصحابه عنه حتّى وقفوا على رءوسهم ووجوههم ، ثمّ أنطق اللّه تعالى البساط ثانيا ، فقال : أنا بساط أنطقني اللّه وأكرمني بالنطق بتوحيده وبتحميده والشهادة لمحمّد نبيّه ، وأنّه سيّد الأنبياء ، ورسوله إلى خلقه

ص: 190


1- الزيادة أثبتناها من « بحار الأنوار ».

والقائم بين عباد اللّه بحقّه وإمامة أخيه ووصيّه ووزيره وشقيقه وخليله ، وقاضي ديونه ، ومنجز عداته ، وناصر أوليائه ، وقامع أعدائه ، والانقياد لمن نصبه إماما ووليّا ، والبراءة ممّن اتّخذه منابذا وعدّوا فما للكافرين أن يطئوني ولا يجلسوا عليّ ، وإنّما يجلس عليّ المؤمنون ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار : « قوموا فاجلسوا عليه ، فإنّكم بجميع ما شهد هذا البساط لمؤمنون. فجلسوا.

ثمّ أنطق اللّه سوط أبي لبابة بن عبد المنذر ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه خالق الخلق ، باسط الرزق ، ومدبّر الأمور ، والقادر على كلّ شيء وأشهد أنّك يا محمّد عبده ورسوله صفيّه وخليله وحبيبه ووليّه ونجيّه ، جعلك السفير بينه وبين عباده ليحيا بك السعيد ويهلك بك الأشقياء ، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام المذكور في الملإ الأعلى بأنّه سيّد الخلق بعدك ، وأنّه المقاتل على تنزيل كتابك ليسوق مخالفيه إلى قبوله طائعين وكارهين ، ثمّ المقاتل بعده على تأويله المنحرفين الذين غلبت أهواؤهم عقولهم ، فحرّفوا تأويل كتاب اللّه وغيّروه ، والسابق إلى رضوان اللّه أولياء اللّه ، والقاذف في نيران اللّه أعداء اللّه بسيف نقمته والمؤثّرين لمعصيته ومخالفته.

قال : ثمّ انجذب السوط من يد أبي لبابة وجذب أبا لبابة ، فخرّ لوجهه ، ثمّ قام بعد فجذبه السوط فخرّ لوجهه ، ثمّ لم يزل كذلك مرارا حتّى قال أبو لبابة : ويلي ، ما لي؟

فأنطق اللّه عزّ وجلّ السوط ، فقال : يا أبا لبابة إنّي سوط قد أنطقني اللّه بتوحيده ، وأكرمني بتحميده ، وشرّفني بتصديق نبوّة محمّد سيّد عبيده ، وجعلني ممّن والى خير خلق اللّه بعده ، وأفضل أولياء اللّه من الخلق غيره ، والمخصوص بابنته سيّدة النسوان ، المشرف ببيتوتته على فراشه أفضل الجهاد ، والمذلّ بأعدائه بسيف الانتقام ، والبائن في اللّه بعلوم الحلال والحرام والشرائع والأحكام ، لا ينبغي الكافر مجاهر بالخلاف على محمّد أن يبتذلني ويستعملني ، لا أزال أجذبك حتّى أثخنك ، ثمّ أقتلك وأزول عن يدك ، أو تظهر الإيمان بمحمّد صلی اللّه علیه و آله فقال أبو لبابة : أشهد بجميع ما شهدت به أيّها السوط واعتقده وأؤمن به ، فنطق السوط : ها أنا ذا قد تقرّرت في يدك ؛ لإظهارك

ص: 191

الإيمان واللّه أعلم بسريرتك وهو الحاكم لك أو عليك في يوم الوقت المعلوم.

قال علیه السلام : ولم يحسن إسلامه وكان منه هنات وهنات ، فقام القوم من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعلت اليهود يسرّ بعضها إلى بعض بأنّ محمّدا لمؤتى له ومبخوت في أمره وليس بنبيّ صادق ، وجاء كعب الأشرف يركب حماره فشبّ به الحمار وصرعه على رأسه فأوجعه ثمّ عاد ، فركبه فعاد إليه الحمار بمثل صنيعه ، ثمّ عاد ليركبه فعاد عليه الحمار بمثل صنيعه ، فلمّا كان في السابعة أنطق اللّه تعالى الحمار فقال : يا عبد اللّه ، بئس العبد أنت ، شاهدت آيات اللّه وكفرت بها ، أنا حمار قد أكرمني اللّه بتوحيده ، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، خالق الأنام ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله سيّد أهل دار السّلام ، مبعوث لإسعاد من سبق في علم اللّه بالسعادة ، وإشقاء من سبق الكتاب عليه بالشقاوة ، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب وليّه ووصيّ رسوله ، ليسعد اللّه به من يسعده إذا وفّقه لقبول موعظته والتأدّب بآدابه والائتمار بأوامره والانزجار بزواجره ، وأنّ اللّه تعالى بسيوف سطوته وصولات نقمته يبكّت ويخزي أعداء محمّد صلی اللّه علیه و آله حتّى يسوقهم بسيفه الباتر ودليله الواضح الباهر إلى الإيمان به ، أو يقذفه في الهاوية إذا أبى إلاّ تماديا في غيّه وامتدادا في طغيانه وعمهه ، ما ينبغي لكافر أن يركبني بل لا يركبني إلاّ مؤمن باللّه ، مصدّق بمحمّد رسول اللّه في جميع أقواله ، منصوب له في جميع أفعاله ، وفي فعل أشرف الطاعات في نصبه أخاه عليّا وصيّا ووليّا ، ولعلمه وارثا ، وبدينه قيّما ، وعلى أمّته مهيمنا ، ولديونه قاضيا ، وبعداته منجزا ، ولأوليائه مواليا ، ولأعدائه معاديا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا كعب بن أشرف ، حمارك أعقل منك قد أبى أن تركبه ولن تركبه أبدا ، فبعه من بعض إخواننا المؤمنين. فقال كعب : فلا حاجة لي فيه بعد أن ضرب بسحرك ، فناداه حماره : يا عدوّ اللّه ، كفّ عن تجهّم محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واللّه لو لا كراهيّة مخالفته لقتلتك ووطيتك بحوافري ، ولقطعت رأسك بأسناني ، فخزي

ص: 192

وسكت ، واشتدّ جزعه ممّا سمع من الحمار ، ومع ذلك غلب عليه الشقاء واشترى الحمار منه ثابت بن قبيس بمائة درهم ، فكان يركبه ويجيء إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو تحته هيّن ليّن ذليل كريم ، يقيه التلف ويرفق به في المسالك ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول له : يا ثابت هذا لك وأنت مؤمن مرتفق بمرتفقين. فلمّا انصرف القوم من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يؤمنوا أنزل اللّه يا محمّد ، ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ) في العظة ( أَأَنْذَرْتَهُمْ ) فوعظتهم وخوّفتهم ( أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (1) لا يصدّقون بنبوّتك ، وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا فكيف يؤمنون بك عند قولك ودعائك؟! » (2).

[4] ومنها : ما روي : « أنّه لمّا نزلت هذه الآية ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) (3) في حقّ اليهود والنواصب ، قالوا له : يا محمّد ، زعمت أنّه ما في قلوبنا شيء من مواساة الفقراء ومعاونة الضعفاء والنفقة في إبطال الباطل وإحقاق الحقّ ، وأنّ الأحجار ألين من قلوبنا وأطوع لله منّا وهذه الجبال بحضرتنا ، فهلمّ بنا إلى بعضنا فاستشهده.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للجبل : إنّي أسألك بجاه محمّد وآله الطيّبين الذين بذكر أسمائهم خفّف اللّه العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم إلاّ اللّه عزّ وجلّ ، وبحقّ محمّد وآله الطيّبين الذين بذكر أسمائهم ، وسؤال اللّه بهم في رفع إدريس في الجنّة مكانا لما شهدت لمحمّد صلی اللّه علیه و آله بما أودعك اللّه بتصديقه على هؤلاء اليهود في ذكر قساوة قلوبهم وتكذيبهم في جحدهم بقول محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . فتحرّك الجبل وتزلزل وفاض عنه ماء ونادى : يا محمّد ، أشهد أنّك رسول اللّه ربّ العالمين وسيّد الخلائق

ص: 193


1- البقرة (2) : 6.
2- « بحار الأنوار » 17 : 302 - 307 ، نقلا عن « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : 92 - 98 ، ح 52.
3- البقرة (2) : 74.

أجمعين ، وأشهد أنّ قلوب هؤلاء اليهود كما وصفت أقسى من الحجارة لا يخرج منها خير كما قد يخرج من الحجارة الماء سيلا أو تفجّرا ، وأشهد أنّ هؤلاء كاذبون عليك فيما به يقذفونك من الفرية على ربّ العالمين.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وأسألك أيّها الجبل أمرك اللّه بطاعتي فيما ألتمسه منك بجاه محمّد وآله الطيّبين الذين بهم نجّى اللّه تعالى نوحا من الكرب العظيم ، وبرّد اللّه النار على إبراهيم وجعلها عليه سلاما ، ومكّنه في جوف النار على سرير وفراش وثير لم ير ذلك الطاغية مثله لأحد من ملوك الأرض أجمعين وأنبتت من حواليه من الأشجار الخضرة النضرة النزهة ، وعمّر ما حوله من أنواع النور بما لا يوجد إلاّ في فصول أربعة؟

قال الجبل : بل أشهد لك يا محمّد ، وأشهد أنّك لو اقترحت على ربّك أن يجعل رجال الدنيا قردة وخنازير لفعل ، أو يجعلهم ملائكة فعل ، وأن يقلب النيران جليدا والجليد نيرانا لفعل ، أو يهبط السماء إلى الأرض ، أو يرفع الأرض إلى السماء ، أو يصيّر أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلّها صرّة كصرّة الكيس لفعل ، وأنّه قد جعل الأرض والسماء طوعك ، والجبال والبحار تنصرف بأمرك ، وسائر ما خلق اللّه من الرياح من الصواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة وأمرتها به من شيء ائتمرت.

فقالت اليهود : يا محمّد ، أعلينا تشبه وتلتبس قد احتبست مردة من أصحابك خلف صخور هذا الجبل فهم ينطقون بهذا الكلام ونحن لا ندري السمع من الرجال أم من الجبال؟! لا يغترّ بمثل هذا إلاّ ضعفاؤك الذين تبحبح في عقولهم ، فإن كنت صادقا فتنحّ من موضعك هذا إلى ذلك ، القرار وأمر هذا الجبل أن ينقطع من أصله فيسير إليك إلى هناك ، فإذا حضرك ونحن نشاهده فأمره أن ينقطع نصفين من ارتفاع سمكه ، ثمّ ترتفع السفلى من قطعته فوق العليا وتنخفض العليا تحت السفلى ، فإنّ أصل الجبل قلّته وقلّته أصله ؛ لنعلم أنّه من اللّه لا يتّفق بمواطاة ولا لمعاونة متوهّمين متمرّدين.

ص: 194

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - وأشار إلى حجر فيه قدر خمسة أرطال - : أيّها الحجر تدحرج ، فتدحرج ، فقال لمخاطبه : خذ وقرّبه من أذنك فيعيد عليك بما سمعت فإنّ هذا جزء من ذلك ، فأخذه الرجل فأدناه إلى أذنه فنطق الحجر بمثل ما نطق به الجبل أوّلا من تصديق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفيما ذكره عن قلوب اليهود فيما غبر (1) به من أنّ نفقاتهم في دفع أمر محمّد صلی اللّه علیه و آله باطل ووبال عليهم ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أسمعت هذا؟ أخلف هذا الحجر أحد يكلّمك يوهمك أنّه الحجر يكلّمك؟ قال : لا ، فأتني بما اقترحت في الجبل ، فتباعد رسول اللّه إلى فضاء واسع ، ثمّ نادى : أيّها الجبل بحقّ محمّد وآله الطيّبين الذين بجاههم ومساءلة عباد اللّه بهم أرسلت على قوم عاد ريحا صرصرا عاتية تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل خاوية ، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة في قوم صالح حتّى صاروا كهشيم المحتظر لما انقطعت من مكانك بإذن اللّه ، وجئت إلى حضرتي هذه. ووضع يده على الأرض بين يديه ، فتزلزل الجبل وسار كالقارح الهملاج حتّى دنا من إصبعه أصله فلزق بها ووقف وناداها : أنا ذا سامع لك مطيع يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإن رغمت أنوف هؤلاء المعاندين فأمرني ائتمر بأمرك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ هؤلاء اقترحوا عليّ أن آمرك أن تنقلع من أصلك فتصير نصفين ، ثمّ ينحطّ أعلاك ويرتفع أسفلك ، فتصير ذروتك أصلك وأصلك ذروتك.

فقال الجبل : أتأمرني بذلك يا رسول ربّ العالمين؟ قال : بلى ، فانقلع نصفين وانحطّ أعلاه إلى الأرض وارتفع أسفله فوق أعلاه فصار فرعه أصله وأصله فرعه ، ثمّ نادى الجبل : معاشر اليهود ، هذا الذي ترون دون معجزات موسى الذي تزعمون أنّكم به مؤمنون!!!

فنظر اليهود بعضهم إلى بعض ، فقال بعض : ما عن هذا محيص ، وقال آخرون منهم : هذا رجل مبخوت مؤتى له ، والمبخوت تتأتّى له العجائب ، ولا يغرّنّكم

ص: 195


1- أي مضى.

ما تشاهدون ، فناداهم الجبل : يا أعداء اللّه ، قد أبطلتم بما تقولون نبوّة موسى ، هلاّ قلتم لموسى : إنّ قلب العصا ثعبانا ، وانفلاق البحر طرقا ، ووقوف الجبل كالظلّة فوقكم إنّما تأتّى لك ؛ لأنّك مؤتى لك يأتيك جدّك بالعجائب ، فلا يغرّنا ما نشاهده؟!! فألقمهم الجبل بمقالتهم ولزمتهم حجّة ربّ العالمين » (1).

[5] ومنها : ما روي عن عمّار بن ياسر أنّه كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض أسفاره قال : نزلنا يوما في بعض الصحاري القليلة الشجر ، فنظر إلى شجرتين صغيرتين ، فقال لي : « يا عمّار ، صر إلى الشجرتين ، فقل لهما : يأمركما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تلتقيا حتّى يقعد تحتكما » فأقبلت كلّ واحدة إلى الأخرى حتّى التقتا ، فصارتا كالشجرة الواحدة ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلفهما ، فقضى حاجته ، فلمّا أراد الخروج قال : « لترجع جميع كلّ واحدة إلى مكانها. فرجعتا كذلك » (2).

[6] ومنها : ما روي أنّه صلی اللّه علیه و آله « لمّا غزا بتبوك كان معه من المسلمين خمسة وعشرون ألفا سوى خدمهم ، فمرّ علیه السلام في مسيره بجبل يرشح الماء من أعلاه إلى أسفله من غير سيلان ، فقالوا : ما أعجب رشح هذا الجبل! فقال : « إنّه يبكي » قال : « أتحبّون أن تعلموا ذلك؟ » قالوا : نعم ، قال : « يا أيّها الجبل ، ممّ بكاؤك؟ » فأجابه الجبل بلسان فصيح : يا رسول اللّه ، مرّ بي عيسى بن مريم وهو يتلو : ( ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (3) فأنا أبكي عند ذلك اليوم خوفا من أن أكون من تلك الحجارة ، فقال : « اسكن مكانك فلست منها ، إنّما تلك الحجارة الكبريت » فجفّ ذلك الرشح من الجبل في الوقت حتّى لم ير ذلك الرشح وتلك الرطوبة التي كانت (4).

ص: 196


1- « بحار الأنوار » 17 : 336 - 339 ، نقلا عن « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : 286 - 290.
2- « بحار الأنوار » 17 : 364 ، ح 3 ، نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 155 ، ح 243.
3- التحريم (66) : 6.
4- « بحار الأنوار » 8 : 297 - 298 ، ح 50 ، نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 169 ، ح 250.

[7] ومنها : ما روي عن الصادق ، عن أبيه ، عن سعد ، عن محمّد بن عبد الجبّار الكوفي ، عن رجل من أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لمّا انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الركن الغربي فجازه ، فقال الركن : يا رسول اللّه ، ألست قعيدا من قواعد بيت ربّك؟

فما بالى لا أستلم؟ فدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : اسكن عليك السّلام غير مهجور ، ودخل حائطا فنادته العراجين من كلّ جانب : السّلام عليك يا رسول اللّه ، وكلّ واحد منها يقول : خذ منّي ، فأكل ، ودنا من العجوة فسجدت ، فقال : اللّهمّ بارك عليها وانفع بها ، فمن ثمّ روي أنّ العجوة من الجنّة.

وقال صلی اللّه علیه و آله : إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث إنّي لأعرفه الآن ولم يكن صلی اللّه علیه و آله يمرّ في طريق يتبعه أحد إلاّ عرف أنّه سلكه من طيب عرفه ، ولم يكن يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ سجد له » (1).

[8] ومنها : ما روي عن ابن عبّاس رضی اللّه عنه قال : جاء أعرابي إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقال : بم أعرف أنّك رسول اللّه؟ قال : « أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة فأتاني : أتشهد أنّي رسول اللّه؟ ».

قال : نعم ، قال : فدعا العذق. فجعل العذق ينزل من النخل حتّى سقط على الأرض ، فجعل يبقر حتّى أتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ قال : « ارجع ». فرجع حتّى عاد إلى مكانه ، فقال : أشهد أنّك لرسول اللّه وآمن العامري ، فخرج العامري يقول : يا آل عامر بن صعصعة واللّه لا أكذّبه بشيء أبدا (2).

[9] ومنها : ما روي كان رجل من بني هاشم يقال له : ركانة - وكان كافرا من أفتك الناس - يرعى غنما له بواد يقال له : وادي إضم ، فخرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى ذلك الوادي فلقيه ركانة ، فيقال : لو لا رحم بيني وبينك ما كلّمتك حتّى قتلتك ، أنت الذي تشتم آلهتنا؟ ادع إلهك ينجيك منّي ، ثمّ قال : صارعني فإن أنت صرعتني فلك عشرة من

ص: 197


1- « بحار الأنوار » 17 : 367 - 368 ، ح 16.
2- المصدر السابق ، ح 17.

غنمي ، فأخذه النبيّ صلی اللّه علیه و آله وصرعه وجلس على صدره ، فقال ركانة : فلست بي فعلت هذا إنّما فعله إلهك ، ثمّ قال ركانة : عد ، فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ، فصرعه النبيّ صلی اللّه علیه و آله الثانية ، فقال : إنّما فعله إلهك ، عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ، فصرعه النّبي صلی اللّه علیه و آله الثالثة ، فقال ركانة : خذلت اللات والعزّى ، فدونك ثلاثين شاة فاخترها ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما أريد ذلك ولكنّي أدعوك إلى الإسلام يا ركانة ، وانفس ركانة تصير إلى النار ، إنّك إن تسلم تسلم ». فقال له ركانة : لا إلاّ أن تريني آية.

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « باللّه شهيد عليك الآن ، إن دعوت ربّي فأريتك آية لتجيبني إلى ما أدعوك؟ » قال : نعم ، وقربت منه شجرة مثمرة قال : « اقبلي بإذن اللّه ». فانشقّت باثنين وأقبلت على نصفها بساقها كانت بين يدي نبيّ اللّه ، فقال ركانة : أريتني شيئا عظيما فمرها فلترجع ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « شهيد إن أنا دعوت ربّي يأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما أدعوك إليه؟ » قال : فأمرها فرجعت حتّى التأمت بشقّتها ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « تسلم ». فقال ركانة : أكره أن تتحدّث نساء المدينة أنّي إنّما أجبتك لرعب دخل في قلبي منك ، ولكن فاختر غنمك ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ليس لي حاجة إلى غنمك إذا أبيت أن تسلم » (1).

[10] ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام : قال : « لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين جاء عليّ علیه السلام إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال رسول اللّه : يا أبا الحسن مالك؟

قال : أمّي ماتت ، قال : فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : وأمّي واللّه ، ثمّ بكى ، وقال : وا أمّا ، ثمّ قال لعليّ علیه السلام : هذا قميصي فكفّنها فيه ، وهذا ردائي فكفّنها فيه ، فإذا فرغتم فآذنوني ، فلمّا أخرجت صلّى عليها النبيّ صلی اللّه علیه و آله صلاة لم يصلّ قبلها ولا بعدها على أحد مثلها ، ثمّ نزل على قبرها فاضطجع فيه ، ثمّ قال لها : يا فاطمة ، قالت : لبّيك يا رسول اللّه ، قال : فهل وجدت ما وعد ربّك حقّا؟ قالت : نعم ، فجزاك اللّه خيرا ، وطالت مناجاته في

ص: 198


1- المصدر السابق ، ح 17.

القبر ، فلمّا خرج قال : يا رسول اللّه ، لقد صنعت بها شيئا في تكفينك إيّاها ثيابك ودخولك في قبرها وطول مناجاتك وطول صلاتك وما رأيناك صنعته بأحد قبلها؟

قال : أمّا تكفيني إيّاها فإنّي لمّا قلت لها : يعرض الناس يوم يحشرون من قبورهم ، فصاحت وقالت : وا سوأتاه ، فلبستها ثيابي وسألت اللّه في صلاتي عليها أن لا يبلي أكفانها حتّى تدخل الجنّة ، فأجابني إلى ذلك.

وأمّا دخولي في قبرها فإنّي قلت لها يوما : إنّ الميّت إذا دخل في قبره وانصرف الناس عنه ، دخل عليه ملكان : منكر ، ونكير فيسألانه ، فقالت : وا غوثاه باللّه ، فما زلت أسأل ربّي في قبرها حتّى فتح لها بابا من قبرها إلى الجنّة ، وجعله روضة من رياض الجنّة » (1).

[11] ومنها : روي عن عليّ بن محمّد علیهماالسلام : « أنّ رجلا من الثقيف - كان أطيب الناس - يقال له : حارث بن كلدة الثقفي جاء إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمّد ، جئت أداويك من جنونك ، فقد داويت مجانين كثيرة فشفوا على يدي ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت تفعل فعل المجانين وتنسبني إلى الجنون؟

قال الحارث : وما ذا فعلته من أفعال المجانين؟ قال : نسبتك إيّاي إلى الجنون من غير محنة منك ولا تجربة ولا نظر إلى صدقي أو كذبي. فقال الحارث : أو ليس قد عرفت كذبك وجنونك بدعواك النبوّة التي لا تقدر لها؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وقولك : لا تقدر لها أفعال المجانين ؛ لأنّك لم تقل : لم قلت كذا؟ ولا طالبتني بحجّة فعجزت عنها.

فقال الحارث : صدقت أنا أمتحن أمرك آية أطالبك بها ، إن كنت نبيّا فادع تلك الشجرة - يشير بشجرة عظيمة بعد عمقها - فإن أتتك علمت أنّك رسول اللّه وشهدت له بذلك ، وإلاّ فأنت ذلك المجنون الذي قيل لي فرفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده إلى تلك الشجرة ، وأشار إليها أن تعالي ، فانقطعت تلك الشجرة بأصولها وعروقها وجعلت

ص: 199


1- المصدر السابق 18 : 6 - 7 ، ح 6.

تخدّ في الأرض أخدودا عظيما كالنهر حتّى دنت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوقفت بين يديه ونادت بصوت فصيح : ها أنا ذا يا رسول اللّه ، ما تأمرني؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : دعوتك لتشهدي لي بالنبوّة بعد شهادتك لله بالتوحيد ، ثمّ تشهدي بعد شهادتك لي لعليّ هذا بالإمامة ، وأنّه سندي وظهري وعضدي وفخري وعزّي ، ولولاه ما خلق اللّه عزّ وجلّ شيئا ممّا خلق ، فنادت : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّك يا محمّد عبده ورسوله أرسلك بالحقّ بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا ، وأشهد أنّ عليّا ابن عمّك هو أخوك في دينك ، أوفر خلق اللّه من الدين حظّا ، وأجزلهم من الإسلام نصيبا ، وأنّه سندك وظهرك ، قامع أعدائك ، وناصر أوليائك ، وباب علومك في أمّتك ، وأشهد أنّ أولياءك الذين يوالونه ويعادون أعداءه حشو الجنّة ، وأنّ أعداءه الدين يوالون أعداءه ويعادون أولياءه حشو النار ، فنظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الحارث بن كلدة فقال : يا حارث ، أو مجنونا يعدّ من هذه آياته؟ فقال الحارث بن كلدة : لا واللّه يا رسول اللّه ، ولكنّي أشهد أنّك رسول ربّ العالمين ، وسيّد الخلق أجمعين. وحسن إسلامه » (1).

[12] ومنها : ما روي « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا ظهر بالمدينة اشتدّ حسد ابن أبيّ له ، فدبّر عليه أن يحفر له حفيرة في مجلس من مجالس داره ، ويبسط فوقها بساطا ، وينصب في أصل الحفيرة أسنّة رماح ، ونصب سكاكين مسمومة ، وشدّ أحد جوانب البساط والفراش إلى الحائط ليدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخواصّه مع عليّ علیه السلام ، فإذا وضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجله على البساط وقع في الحفيرة ، وكان قد نصب في داره ، وخبّأ رجالا بسيوف مشهورة يخرجون على عليّ علیه السلام ومن معه عند وقوع محمّد في الحفيرة فيقتلونهم بها ، ودبّر أنّه إن لم ينشط للقعود على ذلك البساط أن يطعموه من طعامهم المسموم ليموت هو وأصحابه جميعا.

ص: 200


1- المصدر السابق 17 : 316 - 317 ، ح 14.

فجاءه جبرئيل فأخبره بذلك وقال : إنّ اللّه يأمرك أن تقعد حيث يقعدك ، وتأكل ممّا يطعمك ، فإنّه مظهر عليك آياته ، ومهلك أكثر من تواطأ على ذلك فيك ، فدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقعد على البساط ، وقعدوا عن يمينه وشماله وحواليه ، ولم يقع في الحفيرة ، فتعجّب ابن أبيّ ونظر وإذا قد صار ما تحت البساط أرضا ملتئمة ، فأتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّا علیه السلام وصبحهما بالطعام المسموم ، فلمّا أراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وضع يده في الطعام ، قال : يا عليّ ، ارق هذا الطعام بالرقية النافعة.

فقال عليّ علیه السلام : بسم اللّه الشافي ، بسم اللّه الكافي ، بسم اللّه المعافي ، بسم اللّه الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

ثمّ أكل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّ ، ومن معهما حتّى شبعوا ، ثمّ جاء أصحاب عبد اللّه بن أبيّ وخواصّه فأكلوا فضلات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصحبه وظنّوا أنّه قد غلطوا ولم يجعل فيه سموما لمّا رأوا محمّدا وصحبه لم يصبهم مكروه ، وجاءت بنت عبد اللّه بن أبيّ إلى ذلك المجلس المحفور تحته المنصوب فيها ما نصب ، وهي كانت دبّرت ذلك ونظرت فإذا ما تحت البساط أرض ملتئمة ، فجلست على البساط واثقة فأعاد اللّه الحفيرة بما فيها فسقطت فيها وهلكت.

فوقعت الصيحة ، فقال عبد اللّه بن أبيّ : إيّاكم أن تقولوا : إنّها سقطت في الحفيرة ، فيعلم محمّد ما كنّا قد دبّرنا عليه ، فبكوا وقالوا : ماتت العروس - وبعلّة عرسها كانوا دعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - ومات القوم الذين أكلوا فضلة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن سبب موت الابنة والقوم ، فقال ابن أبيّ : ابنتي سقطت من السطح ولحق القوم تخمة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اللّه أعلم بما ذا ماتوا ، وتغافل عنهم » (1).

إلى غير ذلك من المعجزات التي أشرنا إلى بعضها في باب النبوّة.

ص: 201


1- المصدر السابق 17 : 328 - 330 ، ح 14.

ص: 202

( المقصد الخامس ) : في الأصل الرابع وهو ( الإمامة )

اشارة

ص: 203

ص: 204

( المقصد الخامس )

في الأصل الرابع وهو ( الإمامة )

قال الشارح القوشجي : « وهي رئاسة عامّة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله . وبهذا القيد خرجت النبوّة ، وبقيد العموم مثل القضاء والرئاسة في بعض النواحي ، وكذا رئاسة من جعله الإمام نائبا عنه على الإطلاق » (1).

وقال العلاّمة رحمه اللّه في الألفين : « الإمام هو الإنسان الذي له الرئاسة العامّة في أمور الدين والدنيا بالأصالة في دار التكليف ونقض بالنبيّ ، وأجيب بوجهين :

الأوّل : التزام دخوله في الحدّ ؛ لقوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) (2).

والثاني : تعديل قولنا : « بالأصالة » بالنيابة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وقيل : الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول صلی اللّه علیه و آله في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملّة ، على وجه يجب اتّباعه على الأمّة كافّة » (3).

والأولى أن يقال : إنّ الإمامة رئاسة إلهيّة عامّة على وجه النيابة الخاصّة للبشر المعصوم المنصوب المنصوص الأعلم بعد الرسول الأكرم عن خاتم النبيّين على

ص: 205


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 365.
2- البقرة (2) : 124.
3- « الألفين » : 12.

جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين.

وهي بحسب المعنى التصوّري عبارة عن كون البشر المنصوب المعصوم الأعلم بعد الرسول الأكرم رئيسا بالرئاسة الإلهيّة العامّة ، على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين.

وبحسب المعنى التصديقي عبارة عمّا يجب تصديقه في الجنان وإقراره باللسان ، وهو أنّ حجّة اللّه الأعظم ، المعصوم ، المنصوب ، المنصوص ، الأعلم ، الإمام المفترض مودّته وطاعته الأعلى أشرف الأمم ، النور الساطع والبرهان القاطع ، خليفة اللّه الرابع ، أسد اللّه الغالب عليّ بن أبي طالب علیه السلام الذي هو أمير المؤمنين ، والخليفة بلا فصل لخاتم النبيّين ، والوليّ بالولاية الخاصّة الخاصّة لربّ العالمين مع الأحد عشر من أولاده الطاهرين المعصومين الأعلمين المنصوبين المنصوصين بعد خاتم النبيّين رؤساء وأئمّة بالحقّ ، مع الترتيب على المكلّفين بتنصيص اللّه وسيّد المرسلين ، ويجب عليهم مودّتهم وإطاعتهم في أمر الدنيا والدين :

والإمام الأوّل : عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

والثاني : ولده الأكبر الإمام الحسن بن عليّ علیه السلام .

والثالث : ولده الآخر الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام .

والرابع : الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين علیه السلام .

والخامس : الإمام محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام .

والسادس : الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام .

والسابع : الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام .

والثامن : الإمام عليّ بن موسى بالرضا علیه السلام .

والتاسع : الإمام محمّد بن عليّ التقيّ علیه السلام .

والعاشر : الإمام عليّ بن محمّد النقيّ علیه السلام .

والحادي عشر : الإمام الحسن بن عليّ العسكري علیه السلام .

ص: 206

والثاني عشر : الإمام محمّد بن الحسن المهديّ ، وهو آخر الأئمّة وصاحب الزمان علیه السلام ، وهو موجود ، حيّ الآن ، غائب عن أعين الأعيان ، وسيظهر بإذن اللّه المنّان ، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت جورا وظلما ، عجّل اللّه فرجه وسهّل مخرجه.

ووجهه - إجمالا - : أنّه لمّا ثبت أنّ بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله لطف يتمّ به النظام ، ويبقى به لأمر الدين والدنيا قوام ، وأنّه لا يبقى إلى آخر التكليف ، بل يجري عليه الموت كما قال تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) (1) ، وجب بمقتضى اللطف والحكمة نصب خليفة ورئيس يقوم مقامه ، ويحفظ شريعته وأحكامه ؛ لئلاّ يبطل الحجّة.

ويجب أن يكون النائب كالمنوب عنه في العلم والعصمة والتنزّه عمّا يوجب النفرة وعدم إتمام الحجّة ؛ لأنّ ذلك أيضا لطف واجب في الحكمة ، ويجب على العباد الطاعة ، ولا يعلم ذلك إلاّ بالمعجزة أو بتنصيص صاحب المعجزة ، ولم يكن بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الأمّة إلاّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام - المماثل له في كلّ فضيلة إلاّ النبوّة - وأولاده المذكورون بلا ريبة ، فيجب على اللّه تعالى بالوجوب العقليّ نصبهم ؛ حفظا للشريعة ، وإتماما للحجّة وإبقاء القائم المنتظر الذي سيظهر بمقتضى الحكمة ، ففي هذا الأصل - الذي هو أيضا من الأصول - يقع الكلام في خمسة فصول :

الأوّل : في ثبوت الإمامة المطلقة لواحد من أهل الدين على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين ، بثبوت الرئاسة ووجوب الطاعة إمكانا وفعلا في الجملة ، بل ثبوتهما في الجملة لأمير المؤمنين علیه السلام الّذي به إكمال الدين كما نصّ به القرآن المبين ، وهذا الاعتقاد من أصول الدين ، فالمخالف - كالخوارج - خارج عن الدين.

الثاني : في العصمة ، بمعنى أنّ الإمام علیه السلام يجب أن يكون معصوما ، وهو من أصول

ص: 207


1- الزمر (39) : 30.

المذهب ردّا على العامّة (1).

الثالث : في المنصوصيّة ، بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوبا منصوصا من اللّه ورسوله ، وهو أيضا من أصول المذهب ردّا على العامّة (2).

الرابع : في الأعلميّة ، بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون أعلم عصره في الأحكام الشرعية ، بل الأديان الإلهيّة والأعيان الخارجيّة والأحوال الواقعيّة ولغات المحاورات العرفيّة ؛ ليحصل إتمام الحجّة ، وهو أيضا من أصول المذهب ردّا على العامّة (3).

الخامس : في الاثني عشريّة ، بمعنى أنّ الأئمّة اثنا عشر : عليّ بن أبي طالب وأولاده علیهم السلام الأحد عشر على الترتيب المذكور مع وجود القائم الغائب المستور وظهوره بعد ذلك لإطفاء نائرة الكفر وإعلاء دائرة الإسلام.

وهو أيضا من أصول المذهب ردّا على العامّة وأمثالهم من الشيعة غير الاثني عشريّة (4) ، فإنّهم أيضا خارجون عن المذهب الحقّ ، فإنّ الحقّ مع الاثني عشريّة القائلين بأنّ الأئمّة اثنا عشر ، وهم الأئمّة المعصومون المنصوبون المنصوصون الذين هم أعلم أهل عصرهم ، ويجب مودّتهم وإطاعتهم على المكلّفين ، وأوّلهم عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين علیه السلام على وجه الخلافة بلا فصل لخاتم النبيّين مع الولاية الخاصّة من غير زيادة ونقيصة ، وهذا هو مذهب الموالي على خلاف الناصب المفرّط القالي والمفرط الغالي اللذين يكونان من الكافرين.

ولهذا يكفّر من قال في بيان ما ورد من أنّ سيّدنا محمّدا ووصيّه عليّا أوّل الخلق وعلّة الموجودات ، وأمّا العلّيّة فهي فاعليّة كما ورد : « نحن صنائع اللّه والخلق بعد

ص: 208


1- انظر « شرح المقاصد » 5 : 241 و 249.
2- المصدر السابق : 241 و 253.
3- المصدر السابق : 246 - 247.
4- المصدر السابق : 267 - 290.

صنائع لنا » (1) مع إثبات سائر أنواع العلّة أيضا ، فإنّ ذلك يقتضي إثبات الألوهيّة والربوبيّة لهما بل سائر الأئمّة الطاهرين كما هو مفاد سائر كلماته ، وذلك غلوّ وإنكار لضروري الدين ، فيكون من الكافرين.

ومثله ما حكي عن بعض من تبعه من أنّه قال - في بيان وجه ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله علیه السلام : « عرفت ما كان وما يكون » (2) - : « إنّ الموجودات كلّها - بسماواتها وأرضها وعرشها وكرسيّها وملائكتها وجنّها وحيوانها ونباتها وجمادها ، وكلّ ما يحصل من قرانها وأوضاعها وجميع ما يرى وما لا يرى ، ومن يتقلّب في الجنّة والنار وحقيقتهما وحقائق الأنبياء وسائر ما خلق اللّه عزّ وجلّ كلّها - على العموم الاستغراقي الحقيقي بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام نسبة أعمالك وحركاتك من قيامك وقعودك وكلامك بالنسبة إليك ، فكلّ الوجود آثاره وأعماله وظهوراته وشئوناته بالاختيار ، كما أنّك تقوم وتقعد وتتكلّم وتسكت ، لكنّه ليس مستقلاّ فيها ، وقد ظهرت منه هذه الأعمال والوجودات كلّها بسرّ الأمر بين الأمرين ، فهو علیه السلام حامل اللواء والذات في الذوات للذات ، فالعالم بيته الذي بناه بقدرة اللّه تعالى وكلّ ما في العالم آلات البيت التي أحدثها على حكم المقتضيات والأوضاع ، أنشأ مادّتها باللّه تعالى باختراعه لا من شيء ، وصورتها لا من شيء فهو - روحي فداه - صاحب البيت ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخره وسيّده ، واللّه تعالى من ورائهم محيط.

فظهرت قدرة اللّه فيهم فتحمّلوا أوامره ونواهيه وأحكامه الوجوديّة والشرعيّة ، كما قال في الحديث القدسي : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن » (3) ، فهم وسعوا جميع أحكام الربوبيّة ، فظهرت لهم أحكامها ، ولمّا تمحّضوا

ص: 209


1- « جوامع الكلم ، الرسالة الرشتيّة » : 157 ؛ « بحار الأنوار » 33 : 58.
2- لم نعثر عليه فيما لدينا من المصادر.
3- حديث قدسي رواه المجلسي في « بحار الأنوار » 55 : 39.

في العبوديّة ودكّوا جبال الإنّيّة بلغوا مقام الحديدة المحميّة ، فصار فعلهم فعل اللّه ، وقولهم قول اللّه ، وحكمهم حكم اللّه ، وأمرهم أمر اللّه ، ونهيهم نهي اللّه - إلى أن قال : - ولمّا كانت الأشياء متقوّمة بهم ومبتدئة بهم وصادرة عنهم علیهم السلام وهم لا ينظرون إليهم نظر الاستقلال فصارت التعبيرات تختلف بالنسبة إليهم علیهم السلام فمرّة يعبّر عنهم باليد ، ومرّة بالقدرة ، ومرّة بالعلم ، ومرّة بالاسم ، ومرّة بالتوحيد ، ومرّة بركن التوحيد ، ومرّة بالجلال ، ومرّة بالجمال ، ومرّة بالعظمة ، ومرّة بالرحمة ، ومرّة بالألوهيّة ، ومرّة بالهويّة ، ومرّة بالوجه ، ومرّة بالجنب ، ومرّة بالاسم ، ومرّة بالمسمّى ، ومرّة بالمعنى وهكذا سائر التعبيرات.

ومرجع كلّ ذلك إلى ما ذكرنا لك من سرّ الأمر بين الأمرين ، فإذا صحّ أنّ الوجودات كلّها آثارهم الصادرة عنهم باللّه عزّ وجلّ فوجودها عندهم كالنقطة في الدائرة ، ولا شكّ أنّ المؤثّر محيط وعالم بجميع جهات أثره ممّا أحدثه وممّا يحدثه فيما بعد ، كلّ ذلك حاضر عنده موجود لديه ، كما أنّك تعلم ما تريد أن تصنع فيما بعد من آثارك إلاّ أنّه أعطاهم قدرة كلّيّة جامعة عامّة شاملة وأعطاك قدرة جزئيّة ضعيفة ، فأنت أثر الوليّ كما أنّ قيامك أثرك ، فأنت أثر بالنسبة إليه كما أنّ قيامك ذات بالنسبة إلى صفاته وأحواله العارضة له ، كما أنّك تعمل بالأمر بين الأمرين أعمالك ، كذلك الوليّ علیه السلام علمه السماوات والأرض وما كان وما يكون إلى يوم القيامة إلى ما لا نهاية له ؛ لأنّه وجه اللّه الذي لا تعطيل له في كلّ مكان ، ويده المبسوطة بالبرّ والامتنان ، ورحمته الواسعة ، وقدرته الكاملة الشاملة ، فيعلم ما يكون حين ما كان قبل أن يكون. انتهى. - إلى أن قال - : فالمستقبل عندهم عين الماضي والماضي عين الحال ، ومعنى ذلك رفع الماضي والحال والاستقبال ، فالوقت الذي عرفوا القيامة الكبرى - مثلا - هو الوقت الذي عرفوا وجود آدم أبينا علیه السلام ؛ لأنّ زمانهم سرمد بالنسبة إلى الأنبياء - إلى أن قال - : فالأشياء كلّها في جميع أحوالها حاضرة لديهم

ص: 210

معلومة لهم » (1). انتهى ما أردنا نقله.

ولا يخفى ما فيه على من لاحظ عقله لاقتضائه الغلوّ بالنسبة إلى أمير المؤمنين علیه السلام وإنكار ما هو ضرورة الدين ، ومثله ما قاله في موضع آخر : « بل الموجودات الكائنة من العينيّة والشهوديّة كلّها متقوّمة بتخيّلات الإمام وتصوّراته ، إذا سكن عنهما انعدم العالم ، فتصوّرهم علیهم السلام علّة للكون كما أنّ تصوّرك للكتابة والقيام مثلا علّة لهما لا يمكن تحقّقهما بدونه - إلى أن قال - : قوام تلك الخزائن المنقسمة إلى تينك الخزانتين بالإمام بسرّ الأمر بين الأمرين ».

ثمّ قال : « والهاء هو المخفّف من اللّه وإذا أشبعت كانت هو ؛ لأنّ الضمّ بالإشباع يتولّد منه الواو و « هو » إذا نزلت في رتبة الأسماء عن رتبة المسمّى كان الاسم المقدّس العليّ ؛ ولذا قال عزّ وجلّ - إشارة إلى ما ذكرنا من غير الإشباع في قوله تعالى - : ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2) ومع الإشباع في قوله عزّ وجلّ : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) » (3) فافهم ، فإنّ ذلك خارج عن الدين.

والحاصل : أنّ الكلام في هذا المقام بل كلّ مقام يمكن أن يقع في الإمكان الذاتي والوقوعي والوقوع ، وفي مرحلة الوقوع يمكن أن يكون المنع من جهة الدليل على العدم ، ويمكن أن يكون من جهة عدم الدليل ، فلا بدّ للمثبت المستدلّ من إقامة البرهان والدليل السالم عن المعارض أو الراجح ، فنقول فيما نحن فيه :

إنّ الكلام إن كان في الإمكان الذاتي بمعنى عدم ترتّب الاستحالة على فرض الإيجاد فالحقّ مع المثبت بالنسبة إلى عالم الأنوار ، نظير ما يدّعيه الحكماء في العقول العشرة سيّما العقل العاشر.

نعم ، ذلك محال بالنسبة إلى عالم الأجساد والأجسام ؛ لبداهة تأخّره عن كثير

ص: 211


1- لم نعثر على قول هذا البعض.
2- الزخرف (43) : 4.
3- البقرة (2) : 255.

من المخلوقات ، فيلزم من القول بالعلّية تقدّم الشيء على نفسه أو تأثير المعدوم ونحو ذلك من المحالات العقليّة ، ولكن ما ذكر غير مراد وغير نافع كما لا يخفى.

وإن كان الكلام في الإمكان الوقوعي بمعنى عدم ترتّب القبح على الوقوع فللمانع أن يقول : إنّه غير ممكن ؛ لاستلزامه ما ينافي الغرض ، ونقض الغرض قبيح ؛ وذلك لأنّ جعل اللّه تعالى غيره علّة للخلق والرزق موجب لتوهّم ألوهيّة ذلك الغير ، وذلك كفر موجب لعدم الاستعداد لإفاضة الفيض الأخروي الذي هو الغرض من الإيجاد ، كما يستفاد من بعض الأخبار حيث يدلّ على أنّ سبب إظهار عجز الأئمّة علیهم السلام وتسليط الأعادي كابن ملجم عليهم مع النهي عن إيذائهم وقتلهم دفع توهّم الألوهيّة مع جهة اتّصافهم بصفات كماليّة ، مضافا إلى أنّ ذلك أيضا غير مراد وغير نافع كما لا يخفى.

وإن كان الكلام في الوقوع كما هو الواقع فللمانع أوّلا : أن يقول : إنّ ذلك خلاف ظاهر الكتاب والسنّة ؛ فإنّ اللّه تعالى قال : ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ، (1) ولفظ « خالق » لا بدّ أن يحمل على الخالق بلا واسطة ؛ حذرا عن لزوم التجوّز الخاصّ أو عموم المجاز من غير قرينة ، فيستفاد كون « كلّ شيء » من المجرّدات والماهيّات البسائط والمركّبات ، وجميع أفراد الإنسان وأمثالهم مخلوقا بلا واسطة من اللّه حذرا عن التخصيص أو التقييد بلا دليل.

وأيضا قال اللّه تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ ) (2) ، و ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ) (3) ، و ( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) (4) ، ونحو ذلك ممّا يدلّ - من جهة الاشتمال على

ص: 212


1- الزمر (39) : 62.
2- الحجر (15) : 86.
3- الذاريات (51) : 58.
4- الزخرف (43) : 32.

تعريف المسند مع ضمير الفصل المفيد للحصر ونحوه - على عدم خالقيّة غيره تعالى ، مضافا إلى الضرورة القاضية بأنّ السماء والأرض وما بينهما ممّا خلقه اللّه تعالى بلا واسطة.

وعن بعض الأئمّة علیهم السلام كالرضا علیه السلام ما يدلّ على أنّ إسناد الخلق والرزق إلينا شرك ، كما روي عن الشامي ، قال : دخلت على عليّ بن موسى الرضا علیه السلام بمرو فقلت له : يا بن رسول اللّه ، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » ما معناه؟.

فقال : « من زعم أنّ اللّه تعالى يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ اللّه عزّ وجلّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه علیهم السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك » (1) ، إلى آخر الحديث المذكور في محلّه.

ثانيا : أنّ عدم الدليل على مثل هذا الاعتقاد كاف في الحكم بالعدم ؛ لقوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (2) ، وقوله تعالى : ( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (3) ، ونحو ذلك.

وما ينسب إلى بعض الأئمّة علیهم السلام - مع عدم صحّة سنده - غير علميّ معارض بالأقوى ، ولا يصحّ الاعتقاد بمثله في المسألة العلميّة ، سيّما ما يكون من أصول الدين والمذهب كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ عيسى بن مريم خلق الطير - كما هو المستفاد من الكتاب وغيره - وعليّ بن أبي طالب علیه السلام أو غيره من الأئمّة علیهم السلام ليس أدنى منه بل أعلى ، كما هو مقتضى المذهب وبعض الأخبار ، فلم لا تجوّز الخلق بالنسبة إليه؟

قلت أوّلا : إنّ الكتاب صريح في أنّ عيسى خلق كهيئة الطير كالفخّار لا الطير ، وأمّا

ص: 213


1- « الاحتجاج » 2 : 397 - 398.
2- يونس (10) : 59.
3- البقرة (2) : 80.

كينونيّة طيرا فهي بإذن اللّه وأمره وجعله.

وثانيا : إنّه اجتهاد في مقابل النصّ الصريح في أنّ نسبة الخلق إليهم علیهم السلام شرك.

وثالثا : إنّ المانع هنا موجود - كما هو المستفاد ممّا تقدّم - بخلاف عيسى علیه السلام .

ورابعا : إنّ القياس في الأحكام باطل فضلا عن الأحوال الثابتة للأعيان الخارجيّة ، مع أنّ خلق السماوات ونحوها أكبر وإن كان عليّ أعلى ، فالقياس مع الفارق.

وخامسا : إنّه غير صحيح في أصول الدين والمذهب كما لا يخفى. هذا كلّه مضافا إلى أنّ المدّعى لا بدّ له من إقامة البيّنة والبرهان أو أنّه يكفي للمنكر عدم الدليل ، فإنّ عدم الدليل دليل العدم.

وبالجملة ، فمثل هذا الاعتقاد لم يكن في الآباء والأجداد والعلماء الأمجاد ، فنقول لصاحبه : إن كان هذا هو الحقّ كان آباؤك من الكفّار وأمثال الكلاب ؛ إذ ما كان بعد الحقّ إلاّ الضلال. وإن كان باطلا فأنت كافر كالكلب أو ابن الكافر كالكلب ، وما ترضى بشيء من ذلك ، فلا ترض بهذا الاعتقاد ، ولا تكن غاليا كما لست قاليا بل كن واليا ، فإنّه وسط وخير الأمور أوسطها ، وقل في جواب من تمسّك في خالقيّة مولانا عليّ بن أبي طالب علیه السلام بخالقيّة عيسى علیه السلام مضافا إلى النقض برفعه اللّه في السماء عند إرادة قتله بما أشرنا إليه ، مع أنّ عيسى كان فاعلا لهيئة الطير كالفخّار ، وكان كينونتها طيرا بإذن اللّه ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَ ) (1) ، ثمّ قل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ، ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (3) ، وكيف كان فنقول :

ص: 214


1- النساء (4) : 171.
2- النساء (4) : 174.
3- الأنفال (8) : 42.

الفصل الأوّل من فصول الإمامة : في الاعتقاد الأوّل من الاعتقادات الخمسة

وهو أنّه يجب نصب الإمام على اللّه عقلا مطلقا ، وتثبيت الإمامة المطلقة لواحد من أهل الدين على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين بثبوت الرئاسة ووجوب الطاعة إمكانا وفعلا في الجملة على وجه المطلقة العامّة ، بل ثبوتهما في الجملة لعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين علیه السلام الذي به إكمال الدين ، كما نطق به القرآن المبين على وجه المطلقة الخاصّة ، الذي يكون من حيث الإمكان والوقوع في الجملة من أصول الدين وإن كان من حيث الوجوب من أصول المذهب ، بمعنى أنّه يجب نصب الإمام على اللّه تعالى عقلا مطلقا.

خلافا لطوائف من الخوارج ، حيث يقولون بعدم وجوبه مدّعين بوجوب الخروج عليه لو ادّعى الإمامة على ما حكي عنهم ؛ ولجمهور أهل السنّة فقالوا بوجوبه على الأمّة سمعا على ما حكي عنهم ، ولجمهور المعتزلة والزيديّة فقالوا بوجوبه عليهم عقلا ، ولبعض فقال بوجوبه عند الخوف وظهور الفتن ، وأمّا مع الأمن فلا يجب ، ولآخر فقال بالعكس.

لنا : أنّ وجود الإمام بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعدم إمكانه بسبب ختم النبوّة مع بقاء التكاليف الشرعيّة - سيّما ما يوجب اجتماع الناس وازدحامهم كسدّ الثغور وتجهيز

ص: 215

الجيوش للجهاد والدفاع ونحو ذلك ممّا فيه مظنّة وقوع الفتن - لطف على المكلّفين ؛ إذ لا يتمّ الغرض - وهو الاستعداد للنعيم الأبدي - إلاّ به كما لا يخفى ، فهو واجب في الصورة المفروضة بدلا عن النبوّة ؛ لأنّ الوقائع غير محصورة والحوادث غير مضبوطة بحيث لا يكفي الكتاب والسنّة ، بمعنى أنّه لا يكفي - كما نشاهد - أنّ فرق الأمّة ثلاث وسبعون ، وكلّهم يقرءون القرآن ، ويزعم كلّ فريق أنّه على الحقّ ، فلو كان القرآن في رفع الحيرة كافيا لما وقع ذلك ، فلا بدّ من إمام منصوب من قبل اللّه المتعال معصوم عاصم عن الضلال لو فقد المانع ، ويحصل التمكّن من الامتثال لقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

والاعتراض بإمكان حصول اللطف من جهة كون جميع المكلّفين معصوما فلم يحتاجوا إلى الإمام من أفحش الأغلاط ؛ لامتناع ما فرض عادة ، سيّما أنّ المكلّفين الموجودين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع كونهم غير معصومين ضرورة كانوا محتاجين إلى الإمام علیه السلام ، والعجب أنّهم يوبّخون القائل بوجود معصوم واحد ويجوّزون عصمة كلّ الناس.

وما يقال من أنّه يحتمل أن يكون مفسدة مانعة عن نصب الإمام فلا يجب على اللّه وإن لم تكن المفسدة معلومة لنا.

ففيه أنّ المفسدة إمّا دينيّة أو دنيويّة ، وكلاهما في نصب الإمام العادل المعصوم منفيّان.

أمّا الأولى فظاهرة ؛ لأنّه حافظ للشريعة ، ففيه مصلحة لا مفسدة.

وأمّا الثانية ؛ فلأنّها راجعة إلى مصالح العباد ومفاسدهم في الحياة الدنيويّة وحفظ النظام وإخلاله ، وليس في تلك الأمور ما يحكم العقل بكون نصب الإمام علیه السلام مفسدة بالنظر إليه ، بل هو جازم بأنّ سدّ مفاسد أمور المعاش لا يمكن إلاّ بوجود سلطان

ص: 216


1- النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7.

قاهر عادل عالم معصوم ، فيجب على اللّه تعالى نصبه ؛ لئلاّ يختلّ نظام المعاش اختلالا موجبا لاختلال نظام المعاد الموجب لعدم حصول الغرض ، الموجب لكون أفعال اللّه تعالى قبيحة.

فإن قلت : هذا مناف لما هو مذهبكم من جواز غيبة الإمام علیه السلام وجواز عدم تعرّضه للأحكام عند حضوره مرّ الأيّام ؛ إذ لا لطف مع عدم الظهور ولا مع الظهور بلا تنفيذ الأحكام.

قلت : أوّلا : إنّ المانع - وهو الخوف من الأعداء - موجود ، ويشترط في كلّ واجب عدم المانع ولو كان منعه بالنظر إلى حال العباد.

وثانيا : إنّ اللطف مع الغيبة موجود أيضا ؛ لأنّه يحفظنا ويردعنا عن الضلالة ، فمثله كمثل الشمس تحت السحاب.

وثالثا : إنّ من اعتقد وجوده وعلم أنّ غيبته بسبب الخوف ، وجوّز ظهوره في كلّ ساعة بسبب زوال المانع ، انزجر عن كثير من المعاصي ، بخلاف ما إذا اعتقد بعدم وجوده أو بعدم وجوب إيجاده ، فوجوده مع الغيبة أيضا لطف وإن كان حضوره لطفا آخر ، وكذا تنفيذ الأحكام ، فحيث حصل من جهة الأنام مانع عن الأخيرين سقطا فبقي الأوّل على حاله.

ورابعا : إنّ من انتظر ظهوره يحصل له فوز عظيم أخرويّ ، وهو أيضا لطف.

وخامسا : إنّ الرياضات الجسمانيّة والروحانيّة - المقتضية لحصول الاستعداد لنعيم الآخرة في حال الغيبة - أكثر ، ففيها لطف.

وبالجملة ، فالواجب على اللّه تعالى إيجاد الإمام ، وأمّا تسليطه على التصرّف في الأمور فهو باختيارنا ، لئلاّ يلزم الجبر.

فعمدة أدلّة أهل السنّة - على ما حكي عنهم - إجماع الصحابة على وجوب تعيين الإمام علیه السلام بعد فوت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى جعلوا ذلك من أهمّ الواجبات واشتغلوا عن دفن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكذا عقيب موت كلّ إمام من أئمّتهم ، كما روي

ص: 217

أنّه لمّا مات الرسول صلی اللّه علیه و آله خطب أبو بكر وقال : أيّها الناس من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا مات ، ومن كان

يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت ، فلا بدّ لخلافته من تقوم به فعيّنوه بآرائكم ، فقالوا : صدقت ولم يكذّبه أحد ، وهو المعنيّ من الإجماع على وجوب تعيين الإمام. (1)

ويرد عليهم أنّ أمر الخلافة إذا كان بهذه المرتبة بحيث يجوز ترك تجهيز النبيّ صلی اللّه علیه و آله بل هو تالي النبوّة الموجب لحفظ الشريعة وحصول السعادة والشقاوة بالمتابعة والمخالفة ، فكيف يجوز ترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله لبيانه وإهماله وتفويضه على رأي من لا يتمكّن من إدراك الكمالات الظاهريّة فضلا عن الباطنيّة التي لا يستحقّ الخلافة بدونها ، وقد بيّن لما هو أخسّ الأمور كالتخلّي؟ ومسائل عديدة ولم يفوّضه إلى رأي الأمّة ، فكيف يتعقّل منه إهمال ما هو من أصول الدين وعدم بيانه بل عدم الأمر بتعيينه بعده ، مع أنّه مبعوث لبيان الواجبات وغيرها من أحكام اللّه تعالى وقد بلّغ جميعها حتّى آداب دخول الحمّام وأكل الطعام والتخلّي ونحو ذلك ، مع أنّ دأبه صلی اللّه علیه و آله - كما قيل - كان نصب الخليفة حين الحياة بسبب أدنى الغيبة من المدينة ونصب الأمير لجنوده وسريّته؟ فكيف يتصوّر منه تخلية جميع الأمّة بعد وفاته بلا رئيس حافظ للشريعة؟

وأيضا فإنّ الأصحاب - الذين تركوا تجهيز النبيّ صلی اللّه علیه و آله واشتغلوا بخطبة أبي بكر - لا اعتبار بإجماعهم.

وأيضا فإنّ أبا بكر تكلّم بكلام فيه سوء الأدب بالنسبة إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما لا يخفى ، ونسب العبوديّة إليه صلی اللّه علیه و آله فمثل هذا كيف يصلح للخلافة؟! ختم اللّه على قلوبهم.

ص: 218


1- يعدّ هذا الدليل واحدا من الأدلّة التي ساقها أهل السنّة على وجوب نصب الإمام ، وذكر التفتازاني أنّه العمدة بحيث إنّ الصحابة قدّموه وجعلوه من أهمّ الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسول صلی اللّه علیه و آله . انظر « شرح المقاصد » 5 : 236.

مضافا إلى أنّ الإجماع الذي ليس فيه رئيس الملّة وهو عليّ بن أبي طالب علیه السلام ومن يعتنى به كالعبّاس وسلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار وحذيفة وغير ذلك ، ليس به اعتناء ، وقد نقل إجماعهم أنّ الجماعة المذكورين لم يكونوا حاضرين ، بل كانوا بتجهيز الرسول صلی اللّه علیه و آله مشغولين.

وأيضا فإنّ الوجوب النقلي قد ثبت بعد الإجماع بزعمهم فقبل تحقّقه بأيّ شيء استندوا حيث تركوا تجهيز النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقالوا : إنّ تعيين الإمام من أهمّ الواجبات ، مع أنّهم لا يقولون بالوجوب العقلي ، ولم يتحقّق حينئذ الوجوب النقلي ، فإن كان تمسّكهم بسمع آخر فلم لم ينقلوه ولم تمسّكوا بالإجماع الفاسد؟

ومن هذا ظهر بطلان مذهب المعتزلة والزيديّة ؛ لعدم تصوّر إمكان نصب الخليفة لنا. نعم ، يتصوّر منّا نصب رئيس وأمير لحفظ النظام في الدنيا ، وهذا غير مراد ، وحيث بيّنّا وجوب تعيين الخليفة على اللّه والرسول لم يكن للقول بوجوب نصب الرئيس المذكور وجه.

والحاصل : أنّه يجب على اللّه نصب الإمام عقلا ، من جهة كونه سببا لبقاء نظام المعاش والمعاد ، وكونه لطفا وإن كان في الإظهار والإنفاذ مانع ؛ ردّا على طوائف كالخوارج وجمهور أهل السنّة والمعتزلة وأمثالهم ، كما قال تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (1) ، وقد فسّر في الخبر بأنّ كلّ إمام هاد للقوم الذي هو فيهم.

وعن الصادق علیه السلام « أنّ الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلاّ بإمام حتّى يعرف » (2).

وعنه علیه السلام عن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّه قال : « لم تخل الأرض منذ خلق اللّه آدم علیه السلام من حجّة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة اللّه فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد اللّه » قيل له علیه السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب

ص: 219


1- الرعد (13) : 7.
2- « الاختصاص » : 268.

المستور؟ قال : « كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب » (1) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( الإمام لطف فيجب نصبه على اللّه تعالى تحصيلا للغرض ).

اختلفوا في أنّ نصب الإمام بعد انقراض زمان النبوّة هل يجب أم لا؟ وعلى تقدير وجوبه على اللّه تعالى أم علينا عقلا أم سمعا؟

فذهب أهل السنّة إلى أنّه واجب علينا سمعا. وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلا.

وذهب الإماميّة إلى أنّه واجب على اللّه عقلا ، واختاره المصنّف. وذهب الخوارج إلى أنّه غير واجب مطلقا. وذهب أبو بكر الأصمّ إلى أنّه لا يجب مع الأمن ؛ لعدم الحاجة إليه ، وإنّما يجب عند الخوف وظهور الفتن. وذهب الغوطي وأتباعه إلى عكس ذلك ، أي يجب مع الأمن ؛ لإظهار شعائر الشرع ولا يجب عند ظهور الفتن ؛ لأنّ الظلمة ربّما لا يطيعونه وصارت سبب زيادة الفتن.

تمسّك أهل السنّة بوجوه :

الأوّل : - وهو العمدة - إجماع الصحابة حتّى جعلوا ذلك أهمّ الواجبات واشتغلوا به عن دفن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكذا عقيب موت كلّ إمام.

روي أنّه لمّا توفّي النبيّ صلی اللّه علیه و آله خطب أبو بكر فقال : يا أيّها الناس ، من كان يعبد محمّدا صلی اللّه علیه و آله فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت ، لا بدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به ، فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم اللّه ، فتبادروا من كلّ جانب ، وقالوا : صدقت لكنّا ننظر في هذا الأمر ، ولم يقل أحد أنّه لا حاجة إلى الإمام. (2)

الثاني : أنّ الشارع أمر بإقامة الحدود وسدّ الثغور وتجهير الجيوش للجهاد وكثير

ص: 220


1- « إكمال الدين » : 119 - 120 ؛ « الأمالي » للصدوق : 112.
2- هذه الرواية ذكرها التفتازاني في « شرح المقاصد » 5 : 236.

من الأمور المتعلّقة بحفظ النظام وحماية بيضة الإسلام ممّا لا يتمّ إلاّ بالإمام ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به وكان مقدورا فهو واجب على ما مرّ.

الثالثة : أنّ في نصب الإمام استجلاب منافع لا تحصى ، واستدفاع مضارّ لا تخفى ، وكلّ ما هو كذلك فهو واجب.

أمّا الصغرى فتكاد أن تكون من الضروريّات بل المشاهدات ، وتعدّ من العيان الذي لا يحتاج إلى البيان ؛ ولهذا اشتهر أنّ ما يزع السلطان أكثر ممّا شرّع القرآن ، وما يلتئم بالسنان لا ينتظم بالبرهان ؛ وذلك لأنّ الاجتماع المؤدّي إلى صلاح المعاش والمعاد لا يتمّ بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ، ويحفظ المصالح ، ويمنع ما تتنازع إليه الطباع وتتنازع عليه الأطماع ، وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن بمجرّد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ، ورعاية البيضة ، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ، ولم يخل عن شائبة شرّ وفساد ، ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع - كرفقة طريق - بدون رئيس يصدرون عن رأيه ومقتضى أمره ونهيه ، بل ربّما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم - كالنحل - لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها ما دام فيها ، وإذا هلك انتشرت الأفراد انتشار الجراد ، وشاع فيما بينهم الهلاك والفساد.

لا يقال : فغاية الأمر أنّه لا بدّ في كلّ اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام ، لكن من أين يلزم عموم رئاسته جميع الناس وشمولها أمر الدين على ما هو المعتبر في الإمام.

لأنّا نقول : انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدّي إلى صلاح الدين والدنيا يفتقر إلى رئاسة عامّة فيهما ؛ إذا لو تعدّد الرؤساء في الأصقاع والبقاع لأدّى إلى مخاصمات ومنازعات موجبة لاختلال أمر النظام ، ولو اقتصرت رئاسته على أمر الدنيا لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصود الأهمّ والعمدة العظمى.

وأمّا الكبرى فبالإجماع ، واحتجّ المصنّف بأنّ الإمام لطف من اللّه تعالى في حقّ

ص: 221

عباده ؛ لأنّه إذا كان لهم رئيس يمنعهم في المحظورات ، ويحثّهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى الطاعات ، وأبعد عن المعاصي ، وهو لطف ومفقود منهم بدونه ، واللطف واجب عليه تعالى بناء على أصلهم.

واعترض عليه بأنّ نصب الإمام إنّما يكون لطفا إذا خلا عن المفاسد كلّها ، وهو ممنوع ؛ فإنّ أداء الواجب وترك الحرام مع عدم الإمام أكثر ثوابا ؛ لكونهما أقرب إلى الإخلاص ؛ لانتفاع احتمال كونهما من خوف الإمام. (1)

ولو سلّم فإنّما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلا لم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام علیه السلام ؟

وأيضا إنّما يكون لطفا إذا كان الإمام ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام ، وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادّعيتم وجوبه ليس بلطف ، والذي هو لطف ليس بواجب.

والمصنّف أشار إلى الجواب عن الأوّل بقوله : ( والمفاسد معلومة الانتفاء ). وعن الثاني بقوله : ( وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ). والظاهر أنّهما مجرّد دعوى.

وأشار إلى الجواب عن الثالث بقوله : ( ووجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا ). يعني أنّ وجود الإمام لطف سواء تصرّف أو لم يتصرّف على ما نقل عن عليّ علیه السلام أنّه قال : « لا تخلو الأرض عن قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهر مشهور أو خائف مغمور ؛ لئلاّ يبطل حجج اللّه تعالى وبيّناته » (2).

وتصرّفه الظاهر لطف آخر ، وإنّما عدم تصرّفه من جهة العباد وسوء اختيارهم ، حيث أخافوه وتركوا نصرته ففوّتوا اللطف على أنفسهم.

وردّ بأنّا لا نسلّم أنّ وجوده بدون التصرّف لطف.

ص: 222


1- انظر « شرح المقاصد » 5 : 237 وما بعدها.
2- « الإرشاد » 1 : 228 ، من كلامه علیه السلام في مدح العلماء وتصنيف الناس وفضل العلم والحكمة.

فإن قيل : إنّ المكلّف إذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره وتصرّفه ، فيمتنع من القبائح.

قلنا : مجرّد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كاف في هذا المعنى ، فإنّ ساكن القرية إذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان مختف في القرية بحيث لا أثر له كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم أنّ السلطان يرسله إليها متى شاء ، وليس هذا خوفا من المعدوم بل من موجود مترقّب كما أنّ خوف الأوّل من ظهور مترقّب » (1).

أقول : لا يخفى ما فيه فيما ذكره الشارح القوشجي عن الردّ والإيراد لمن لاحظ ما ذكرناه بعين الإنصاف لا العناد.

وصل : هذا الاعتقاد من أصول الدين من جهة ملاحظة ثبوت الإمامة المطلقة لواحد من أهل الدين على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين بحسب إمكان ذلك ووقوعه في الجملة ، بل ثبوتها في الجملة لعليّ بن أبي طالب علیه السلام الذي يكون سببا لإكمال الدين كما نطق به القرآن المبين حيث قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (2) ، بعد نصب الرسول صلی اللّه علیه و آله له في غدير [ خم ] كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، بمعنى أنّ الاعتقاد بثبوت الإمامة المطلقة العامّة بل الخاصّة في الجملة من أصول الدين ، ومنكره كالخوارج خارج عن الدين وإن كان من حيث الاعتقاد بوجوبه ، وكون ذلك الثبوت على وجه الوجوب من أصول المذهب ، وكان منكره كالأشاعرة خارجا عن المذهب كما أشرنا إليه.

ص: 223


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 365 - 366.
2- المائدة (5) : 3.

الفصل الثاني : في العصمة

بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما كالنبيّ ، كما هو من أصول المذهب خلافا للعامّة.

بيان ذلك : أنّ عصمة الإمام لطف أيضا ، بل لا يتحقّق كون إيجاده لطفا بدونها ؛ لأنّ غير المعصوم لا يؤمن من الحيف والميل الموجبين لوقوع الفتن والاختلال في أمر الدين والدنيا ، وهذا مناف للّطف.

وأيضا فإنّ الغرض من نصب الإمام حصول الاطمئنان والانقياد ، ولا يحصل ذلك إلاّ بكونه معصوما ؛ إذ المخطئ أو العاصي لا يجب إطاعته ، بل يجب مخالفته ، مع أنّ النائب يجب أن يكون مثل المنوب عنه في العصمة عمّا ينافي نصبه ، مضافا إلى أنّ غير المعصوم علیه السلام تتنفّر طباع ذوي العقول في أمر المعاش والمعاد عنه كما لا يخفى ، حيث يجوز منه الكذب والخطأ والغفلة ونحوها ، فلا يكون قابلا للرئاسة العامّة التي يكون المقصود منها إتمام الغرض بالاستعداد للفيض الأبدي ، فيجب كونه معصوما ؛ لئلاّ يلزم القبح على اللّه تعالى.

وأيضا فإنّ حفظ الشريعة وبقاءها مع عدم النبوّة ممّا لا بدّ فيه من معصوم ؛ لئلاّ يتحقّق النسيان والإهمال والإخلال والتحريف والتغيير للأغراض الفاسدة التي تقتضي ارتفاع الشريعة مع أنّها باقية إلى يوم القيامة ، فلا بدّ في كلّ زمان من

ص: 224

معصوم حافظ للشريعة.

وأيضا فإنّ كلّ زمان يتحقّق فيه وقائع خاصّة لا بدّ من استنباطها من الآيات التي لا يعلم تأويلها إلاّ اللّه والراسخون في العلم ، ولا بدّ من بيانها منها أو من غيرها ، ولا يمكن ذلك لغير المعصوم ؛ لاحتمال الخطإ فيه ، وزماننا لا يخلو عن ردع المعصوم مع أنّ المراد وجوب وجوده حتّى لو احتيج إليه رفع الاحتياج فيما لولاه لاختلّ أمر الدين ، كما هو حال من يكون في زمان يكون زمان ظهور الإمام علیه السلام .

فظهر ممّا ذكرنا وجوب كون الإمام علیه السلام معصوما عن الصغائر والكبائر عمدا وسهوا بل عن الأخلاق الذميمة والعيوب والأمراض المزمنة ، وغير ذلك ممّا يوجب تنفّر الطباع المنافي للغرض ممّا ذكرنا في النبوّة ، ووجوب اتّصافه بالكمالات والأخلاق الحميدة وكرامة الآباء والأمّهات وعلوّ النسب وشرافة القبيلة وتفرّده في الكمالات بل ذلك في الإمام أهمّ ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد صار سببا لحصول الكمالات للأمّة ، فصعب عليهم امتثال من ليس بمتفرّد في الكمالات ، بل يستقبح ذلك.

وما ذكرنا وإن لم يكن داخلا في حقيقة العصمة لكنّه يجب تحقّقه ، فلا بدّ من حمل العصمة على معنى يشمله ، فيقال : إنّه مثل غريزة مانعة عن حدوث الذنب مطلقا وموجبة للتنزّه عن النقائص مطلقا والاتّصاف بالكمالات كذلك. وهذا المعنى واجب الحصول ؛ ليحصل التقريب إلى الطاعات والتبعيد عن المعاصي ، وذلك هو اللّطف الواجب على اللّه.

وممّا ذكرنا يظهر وجه ما سيأتي من أنّه يجب أن يكون الإمام أفضل من غيره ؛ لئلاّ يلزم تقديم المفضول أو أحد المتساويين الذي هو قبيح ، ولا يلزم الاختلاف وعدم قبول الطباع ، وأن يكون منصوصا من اللّه ورسوله ؛ لأنّ عصمته التي لا بدّ منها أمر مخفيّ يغفل عنه غالبا ؛ للغفلة عن دليله ، فيلزم الضلالة ، فلا بدّ من إظهار المعجزة أو تنصيص المخبر الصادق من اللّه ، فحيث انتفى الأوّل وجب الثاني.

والحاصل : أنّ التنصيص لطف في معرفة الإمام ، فهو واجب على اللّه تعالى ،

ص: 225

ويجب على الرسول تبليغه وإظهاره وإن خفي على بعض ؛ بسبب تقصير الأمّة وعدم إيصال الشاهد منهم إلى الغائب ، فاندفع ما يقال من أنّه لو ورد نصّ لنقل إلينا ، ولما تردّد الصحابة ، ولما احتاج تحقّق الخلافة إلى البيعة ؛ إذ الصحابة لم يكونوا معصومين ، فبعضهم أنكروه لداعية الرئاسة ، وبعضهم أخفوه لتوقّعها له أو لمن ينتفع به ، أو نحو ذلك من الأغراض الفاسدة الدنيويّة ، مع أنّ الدليل العقلي إذا اقتضى وجوب التنصيص فنفيه بمثل ذلك الاحتمال ليس إلاّ من فرط التعصّب والعناد ، أو من نقص الإدراك والاستعداد ، حرسنا اللّه عنه بالنبيّ وآله الأمجاد.

والحاصل : أنّ الإمام علیه السلام لا بدّ أن يكون بشرا معصوما منصوصا أو في حكمه ، وأفضل في العلم والعمل ونحوهما ممّا له دخل في الرئاسة العامّة في أمر الدين وإتمام الحجّة على المكلّفين ردّا على العامّة العمياء ؛ لأنّ ذلك لطف واجب على اللّه تعالى.

مضافا إلى النقل كما قال اللّه تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) ، وقال اللّه تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (2).

وقال : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (3) ، أي يختار من يشاء للنبوّة ، والإمامة لا تكون إلاّ بالإمام الذي له الرئاسة في أمر الدين والدنيا لا برأي الناس.

وقال اللّه تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (4) ، وقال اللّه تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (5).

ص: 226


1- البقرة (2) : 124.
2- يونس (10) : 35.
3- القصص (28) : 68.
4- النحل (16) : 43.
5- آل عمران (3) : 33 - 34.

وعن سعد بن عبد اللّه قال : سألت القائم في حجر أبيه فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم ، قال : « مصلح أو مفسد؟ » قلت : مصلح قال : « هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد »؟.

قلت : بلى ، قال : « فهي العلّة أيّدتهما لك ببرهان ينقاد له عقلك؟ » ، قلت : نعم ، فذكر اختيار موسى سبعين رجلا ظنّ أنّهم من الصالحين وقد كانوا من المنافقين (1).

وعن الصادق علیه السلام أنّه قال : « عرج بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى السماء مائة وعشرين مرّة ، ما من مرّة إلاّ وقد أوحى اللّه عزّ وجلّ فيها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالولاية لعليّ علیه السلام والأئمّة علیهم السلام أكثر ممّا أوحاه بالفرائض » (2).

وعنه علیه السلام : « الإمام يعرّف الإمام الذي يكون من بعده » (3). إلى غير ذلك من الأخبار.

وبالجملة فوجوب عصمة الإمام من قطعيّات مذهب الإماميّة. واحتجّ المصنّف عليه بوجوه :

منها : ما أشار إليه بقوله : « وامتناع التسلسل يوجب عصمته » ، بمعنى أنّ الإمام لو لم يكن معصوما يلزم التسلسل ، والتسلسل باطل ، فعدم كون الإمام معصوما باطل.

وجه اللزوم أنّ المحوج إلى الإمام جواز الخطإ المنافي للغرض على الأمّة في العلم والعمل ، فلو جاز الخطأ على الإمام أيضا لوجب إمام آخر وهكذا ، فيلزم التسلسل وهو باطل ؛ لما مرّ فيما تقدّم من برهان التطبيق ونحوه ، فوجب عصمة الإمام كما هو مذهب الإماميّة والإسماعيليّة ، خلافا لسائر الفرق كالأشاعرة ؛ تمسّكا

ص: 227


1- « كمال الدين » 2 : 461 و 462 ، ح 21.
2- « الخصال » 2 : 601 ، ح 3.
3- « الكافي » 1 : 277 ، باب أنّ الإمام يعرّف الإمام ... ح 6.

بمنع كون المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطإ على الرعيّة ، بل العمدة هو الإجماع ونحوه.

ولا يلزم منه أن يكون معصوما ، وهذا خطأ وشبهة ؛ لعدم الإجماع سيّما من جهة واحدة ، مع أنّ نحو : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (1) ، و ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (2) ، و ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) ، كالعقل القاطع يقتضي وجوب نصب الإمام الهادي إلى الأحكام المنزّه عن الظلم والآثام.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : « ولأنّه حافظ للشرع » ، بمعنى أنّ الإمام حافظ للشرع بالتمام ، وكلّ حافظ للشرع بالتمام يجب أن يكون معصوما ، فالإمام يجب أن يكون معصوما.

أمّا الصغرى فلأنّ الشرع لا بدّ له من حافظ ؛ لئلاّ ينتفي الغرض من الخلقة ، والحافظ إمّا العقل أو النقل - الكتابي والنبويّ - أو الإجماع أو السيرة أو الإمام ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لعدم وفائه في عشر من أعشار الأحكام التفصيليّة فضلا عن تمامها كما لا يخفى على من راجع وجدانه ، وكذا الكتاب والسنّة النبويّة ؛ لمثل ما مرّ إليه الإشارة كما لا يخفى على المتتبّع في الكتاب والسنّة ؛ لأنّ آيات الأحكام - مع قلّتها وتكرّرها - كثيرا ما تكون دلالتها على وجه الإجمال ، وكثيرا ما لا يستفاد منها إلاّ بنزر يسير من الأحكام التفصيليّة وكذا السنّة النبويّة وكذا الإجماع والسيرة ؛ لكثرة الاختلاف سيّما عند أهل المذاهب الأربعة وخصوصا في الفروض الجديدة والمسائل التي لم يتعرّضها السابقون ، ولا يستفاد ممّا مرّ آنفا.

والرجوع إلى البراءة الأصليّة أو أصل البراءة ينفيه العلم بالاشتغال في الجملة ، مع أنّه يقتضي عدم وجوب بعثة الأنبياء.

ص: 228


1- الرعد (13) : 7.
2- يونس (10) : 35.
3- البقرة (2) : 124.

وأمّا القياس فهو - مع كونه موجبا للهرج والمرج والاختلال باختلاف أهله - غير كاف في جميع الأحكام ، كما لا يخفى على من كان من ذوي الأفهام ، فتعيّن أن تعيها أذن واعية ، ويكون من يتلقّى من النبيّ ، ولا تخفى عليه خافية ، ويكون هاديا للأنام وهو الإمام.

وأمّا الكبرى فلأنّ غير المعصوم يمكن أن يكون مع العصيان أو الخطإ والنسيان ، وجعله حافظا للشرع مناف للغرض ومستلزم للتعبّد بما يحتمل الخطأ وهو في نفسه قبيح ، وعند إمكان التعبّد بما لا يحتمل الخطأ ترجيح للمرجوح ، فلا يكون جائزا إلاّ إذا صار ذلك القبيح بالذات حسنا بالعرض من جهة دفع الأقبح ، كالخروج عن الشريعة من باب جواز ارتكاب أقلّ القبيحين عقلا - كما في أمثال زماننا - مضافا إلى أنّ عدم العصمة توجب النفرة ، وعدم إتمام الحجّة ، والترجيح للمرجوح أو من غير مرجّح ، والأمر بطاعة من علم خطؤه في قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1).

وممّا ذكرنا يظهر وجه اندفاع ما ذكره الشارح القوشجي بقوله : « وأجيب بأنّه ليس حافظا بذاته ، بل بالكتاب والسنّة وإجماع الأمّة واجتهاده الصحيح وإن أخطأ في اجتهاده ، فالمجتهدون يردّون ، والآمرون بالمعروف يصدّون ، وإن لم يفعلوا أيضا فلا نقص للشريعة القويمة » (2).

وكذا ما ذكره شارح آخر من عدم جواز الخطإ على إجماع الأمّة لقوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان » (3) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا تجتمع أمّتي على الضلالة » (4) ، لعدم الإجماع في نحو المسائل المتجدّدة مع الخطإ في معنى الرواية ، والعجب كلّ

ص: 229


1- النساء (4) : 59.
2- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 367.
3- « الخصال » : 417 ، ح 9.
4- « سنن ابن ماجة » 2 : 1303 ، ح 3950.

العجب من اهتمام العقلاء سيّما العلماء في إفساد الدين لإصلاح أمر الظالمين ، ألا لعنة اللّه على الظالمين.

ومنها : ما أشار بقوله : « ولوجوب الإنكار لو أقدم على المعصية ، فيضادّ أمر الطاعة ويفوت الغرض عن نصبه » ، بمعنى أنّ الإمام لو لم يجب كونه معصوما لجاز إقدامه على المعصية ، ولو جاز إقدامه على المعصية لوجب إنكاره ؛ لصريح نحو قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) ، وهو مضادّ لوجوب الطاعة الثابت بنحو قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2).

وأيضا ذلك مفوّت للغرض من نصبه ؛ لأنّ الغرض منه امتثال أوامره ، والانزجار عمّا نهى عنه ، واتّباعه فيما يفعله ، ولا يتحقّق ذلك مع الإنكار.

وأورد عليه بأنّ وجوب الطاعة إنّما هو فيما لا يخالف الشرع ، وأمّا فيما يخالفه فالردّ والإنكار وإن يتيسّر فسكوت عن الاضطرار.

وفيه أنّه مستلزم للتقييد في الأمر الواحد المطلق المتعلّق بالرسول وأولي الأمر ؛ حذرا عن لزوم استعمال اللفظ الواحد في المطلق والمقيّد وكون الرسول الذي ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (3) ، ويكون شارعا مبيّنا للأحكام فاعلا لما يوجب إنكاره مع اختيار اللّه القادر المختار المرجوح وترك الراجح عند الأخيار والأشرار.

ومنها : ما أشار بقوله : « ولانحطاط درجته عن أقلّ العوامّ » ، بمعنى أنّه لو أقدم على المعصية ، لكان أقلّ درجة من العوام ؛ لأنّه أعقل وأعرف بقبح المعاصي وحسن الطاعات ، فصدور المعصية منه أقبح منه من العوامّ ، فيلزم من جعله رئيسا ترجيح

ص: 230


1- آل عمران (3) : 104.
2- النساء (4) : 59.
3- النجم (53) : 3.

المرجوح على الراجح ، مضافا إلى حصول النفرة وعدم إتمام الحجّة.

ولمّا اختلف القائلون بالعصمة في أنّ المعصوم هل يتمكّن من فعل المعصية أم لا؟ فمنهم من زعم أنّه لا يتمكّن منه ، ومنهم من زعم أنّ المعصوم يختصّ في بدنه أو نفسه بخاصيّة تقتضي امتناع إقدامه على المعصية ، ومنهم من قال : إنّ العصمة هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية ، ومنهم من ذهب إلى تمكّنه منه وكونه أمرا يفعله اللّه تعالى بالعبد من الألطاف المقرّبة إلى الطاعات التي يعلم منها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي الأمر إلى الإلجاء ، أو ملكة نفسانيّة لا تصدر معها عن صاحبها المعاصي ، أو لطفا يفعله اللّه بصاحبه لا يكون له معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية ، بأن يكون لنفسه أو لبدنه خاصيّة تقتضي ملكة مانعة من الفجور ، أو يكون له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.

واختار المصنّف المذهب الأخير قال : ( ولا تنافي القدرة العصمة ) بل المعصوم قادر على فعل المعصية ، وإلاّ لما استحقّ المدح على ترك المعصية ، ولا الثواب ، ولبطل الثواب والعقاب في حقّه ، بل كان خارجا عن التكليف ، وذلك باطل بالضرورة ، فيجب تعريف العصمة - كما مرّ - بأنّها ملكة نفسانيّة إلهيّة حاصلة من كمال المعرفة البالغة إلى مرتبة حقّ اليقين وكمال الفطانة الموجبة لإدراك الحسن والقبح على وجههما ، وتكون مانعة عن صدور العصيان والقبح في حالتي العمد والنسيان في تمام عمر الإنسان ، بل تكون مانعة عن صدور ما يوجب النفرة وعدم إتمام الحجّة بالنسبة إلى نبيّنا صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام .

ص: 231

الفصل الثالث : في الأعلميّة والأفضليّة

بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون أعلم عصره وأفضل من غيره في العلم والعمل ونحوهما من الفضائل النفسانيّة والبدنيّة ، كالشجاعة وغيرها ، ممّا له دخل في الرئاسة العامّة في أمر الدنيا والدين ، وإتمام الحجّة على المكلّفين ودفع شبه الملحدين وإبطال إضلال المضلّين بسبب العلم بأديانهم ولغاتهم ، ونحو ذلك ممّا له دخل في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل ، فإنّ ذلك من أصول المذهب ردّا على العامّة ؛ لأنّ ذلك لطف واجب على اللّه تعالى ، مضافا إلى قبح تقديم المفضول ، بل عدم تعقّل أن يقال للعالم أن يتعلّم من الجاهل ؛ فإنّه - مع أنّه تحصيل للحاصل - غير معقول ، وكذا تقديم أحد المتساويين ؛ لمثل ما ذكر ، مع أنّه يستلزم الاختلاف وعدم قبول الطباع وعدم إتمام الحجّة.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف بقوله : ( وقبح تقديم المفضول معلوم ولا ترجيح في التساوي ) ويطابقه قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (1) ، وقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) ، وقوله

ص: 232


1- القصص (28) : 68.
2- الأنبياء (21) : 7.

تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) ، إلى غير ذلك من الأدلّة النقليّة.

فإن قلت : إذا كان المفضول موصوفا بصفات يصلح بسببها لأن يقوم بأمر الإمامة لا يقبح تقديمه لا عقلا ولا شرعا.

وأيضا الإمامة منصب من المناصب الشرعيّة كالإمامة في الصلاة ، فلو امتنعت إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لكانت إمامة المفضول في الصلاة ممتنعة مع وجود الفاضل ، والتالي باطل بالإجماع.

بيان الملازمة : أنّ الامتناع إنّما كان لقبح تقديم الأدنى على الأعلى والنفرة المانعة من المتابعة ، ويلزم من ذلك امتناع تقديم المفضول على الفاضل في الصلاة.

وأيضا لو لم يوجد من أهل الإمامة إلاّ شخصان أحدهما أفقه ، والآخر أعرف بالسياسة وأمور الإمامة فإمّا أن يجعل كلاّ منهما إماما أو يجعل أحدهما دون الآخر أو لا هذا ولا ذاك.

والأوّل محال بالاتّفاق ، والثالث أيضا باطل ؛ لامتناع خلوّ الزمان عن الإمام ، فلم يبق إلاّ القسم الثاني ، وأيّا ما كان يلزم [ تقديم ] المفضول بالنسبة إلى ما اختصّ به الآخر.

قلت : هذا خروج عن المفروض ؛ لأنّ الأعلم والأفضل الذي لا بدّ من إيجاده من باب اللطف الواجب على اللّه - كما مرّ - لا بدّ أن يكون متّصفا بجميع الصفات الكاملة مع الزيادة على غيره في العلم والعمل ونحوهما - كما أشرنا - فيندفع الأوّل والثالث.

وأمّا الثاني فدفعه واضح ؛ لكمال الفرق بين الرئاسة العامّة على الكلّ في العلم والعمل وبين الرئاسة الخاصّة ، كالسلطنة والإمامة في الصلاة ، فهو قياس مع الفارق ، وهو باطل عند أهله ، مضافا إلى أنّه اجتهاد في مقابل نصّ القرآن.

وصل : هذا الاعتقاد من أصول المذهب - كما أشرنا إليه - والمخالف كالعامّة بريء منه أصل المذهب.

ص: 233


1- الزمر (39) : 9.

الفصل الرابع : في المنصوبيّة والمنصوصيّة

بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوبا منصوصا من اللّه ورسوله ، كما أشرنا إليه بقوله : ( والعصمة تقتضي النصّ وسيرته ). بمعنى أنّ العصمة المعتبرة في الإمام من الأمور الخفيّة التي لا يعلمها إلاّ عالم السرائر ، فيجب أن يكون الإمام منصوصا من عند اللّه.

وأيضا سيرة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وطريقته تقتضي التنصيص بالإمام ؛ لأنّه كان أشفق للأمّة من الوالد لولده ؛ ولهذا لم يقصّر في إرشاد أمور جزئيّة مثل ما يتعلّق بالاستنجاء وقضاء الحاجة ، وكان في غاية الحرص في الهداية ، وكان إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين ، فمن هو بهذه المثابة من الإشفاق كيف يهمل أمرهم فيما هو أهمّ المهمّات ولا ينصّ على من يتولّى أمرهم بعده؟!

فيجب أن يكون الإمام منصوصا عليه - كما هو مذهب الإماميّة - خلافا للعامّة والعبّاسيّة والزيديّة وأمثالهم ؛ فإنّ المحكيّ عن العبّاسيّة : أنّ الطريق إلى تعيين الإمام النصّ أو الميراث. وعن الزيديّة : أنّ تعيين الإمام بالنصّ أو الدعوة إلى نفسه. وعن باقي المسلمين : أنّ الطريق إنّما هو النصّ أو باعتبار أهل الحلّ والعقد بمعنى أنّ اختيار الأمّة أيضا طريق في إثبات الإمامة. (1)

ص: 234


1- انظر « شرح المقاصد » 5 : 232 وما بعدها ؛ « الأربعين في أصول الدين » للفخر الرازي : 255 وما بعدها.

ومختار الإماميّة وأكثر طوائف الشيعة : أن لا طريق غير التنصيص من الرسول صلی اللّه علیه و آله أو الإمام بالعقل والنقل :

أمّا العقل ؛ فلأنّ التنصيص لطف واجب ولو بدلا عن نحو المعجزة فيكون واجبا.

وأمّا النقل ؛ فلقوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، وقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (2).

وعن سعد بن عبد اللّه قال : سألت القائم في حجر أبيه فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم ، قال : « مصلح أو مفسد؟ » قلت : مصلح ، قال علیه السلام : « هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ ».

قلت : بلى ، قال علیه السلام : « فهي العلّة أيّدتها لك ببرهان ينقاد له عقلك؟ » ، قلت : نعم ، فذكر اختيار موسى سبعين رجلا ظنّ أنّهم من الصالحين وقد كانوا من المنافقين (3).

وعن الصادق علیه السلام أنّه قال : « عرج بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى السماء مائة وعشرين مرّة ما من مرّة إلاّ وقد أوصى اللّه عزّ وجلّ فيها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالولاية لعليّ علیه السلام والأئمّة علیهم السلام أكثر ممّا أوصاه بالفرائض » (4).

وعنه علیه السلام : « الإمام يعرّف الإمام الذي يكون من بعده » (5). إلى غير ذلك من الأخبار.

والحاصل : أنّ الإمام له حقوق خمسة لا بدّ للمكلّف أن يعرفها :

ص: 235


1- القصص (28) : 68.
2- آل عمران (3) : 33 - 34.
3- « كمال الدين » 2 : 461 ، ح 21 ، بتفاوت في بعض الألفاظ.
4- « الخصال » 2 : 601 ، ح 2.
5- « الكافي » 1 : 277 ، باب أنّ الإمام يعرّف الإمام الذي يكون بعده ، ح 6.

الأوّل : العصمة بمعنى كونه صاحب ملكة إلهيّة مانعة من صدور العصيان والقبح في حالتي العمد والنسيان في تمام عمر الإنسان من جهة كمال الفطانة والمعرفة البالغة إلى مرتبة حقّ اليقين المانعة عن الغفلات ، كما أنّ عين اليقين مانعة عن الخطرات دون الغفلات ، وعلم اليقين مانع عن الشبهات دون الخطرات ، فلا يصدر من صاحب العصمة الكاملة العصيان والنسيان ، بل ترك الأولى أيضا.

الثاني : الأعلميّة والأفضليّة في العلم والعمل وكون الإمام عالما بالأحكام والأحوال والأديان وكيفيّة حفظ الدين ودفع الكافرين ورفع شبه المبطلين ودعوة الناس إلى الحقّ المبين.

الثالث : المنصوبيّة والمنصوصيّة ، بمعنى كون الإمام ذا رئاسة إلهيّة على وجه التنصيص من اللّه ورسوله من غير أن تكون رئاسة خلقيّة.

الرابع : ما يستفاد من قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) ، من وجوب المودّة والمحبّة بالحبّ الربّاني لا الحيواني والشهواني والإنساني والإحساني ، بمعنى جعله كالرأس وإفداؤه بنفسه وأبيه وأمّه وأخيه وعشيرته وأهله وعياله وماله وحاله ، كإفداء الرأس باليد ونحوها عند نزول سهم البلاء وجعل غيره هدفا ليسلم كما يشير إليه قوله علیه السلام في مقام الإرشاد : « بأبي أنتم وأمّي ونفسي ... » (2) إلى آخره.

الخامس : فرض الطاعة وكونه مفترض الطاعة في الدين والدنيا والمال والحال والأهل والعيال ، كما يستفاد من نحو قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3) ، وقوله تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ

ص: 236


1- الشورى (42) : 23.
2- « الأنوار اللاّمعة في شرح الزيارة الجامعة » : 26 و 193.
3- النساء (4) : 59.

بَعْضاً ... ) (1) ، ( أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (2) ، كما أن تلك الحقوق في كلّ واحد من أئمّتنا ، ويزيد مولانا عليّ بن أبي طالب علیه السلام بحقوق ثلاثة :

الأوّل : الإمارة بكونه صاحب لقب أمير المؤمنين من جانب اللّه.

[ الثاني : ] الخلافة بلا فصل من رسول اللّه.

والثالث : الولاية خاصّة الخاصّة المنتقلة من النبيّ صلی اللّه علیه و آله المتعلّقة بجميع من كان له صلی اللّه علیه و آله عليه رئاسة حتّى فاطمة علیهاالسلام والحسنين علیهماالسلام ، التي تستفاد من قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ) (3) إلى آخره.

مضافا إلى الولاية التي هي عامّة العامّة ، والعامّة التي بجميع أولياء اللّه بسبب الرئاسة على أنفسهم والعامّة للمجتهدين والخاصّة لأئمّة الدين.

نعم ، الأخصّ مختصّة بالرسول ؛ إذ الرئاسة بالأصالة لا بالنيابة. وبالجملة ف- ( هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (4).

وصل : هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب ومنكره بريء منه أصل المذهب.

ص: 237


1- النور (24) : 63.
2- الأحزاب (33) : 36.
3- المائدة (5) : 55.
4- يوسف (12) : 108.

الفصل الخامس في الاثني عشريّة

اشارة

بمعنى وجوب الاعتقاد بأنّ الأئمّة اثنا عشر : عليّ بن أبي طالب مع أولاده الأحد عشر المعصومين المذكورين ، الذين يجب مودّتهم ويفترض طاعتهم على المكلّفين على الترتيب المذكور مع وجود الغائب المستور ، وظهوره بعد ذلك لإطفاء نائرة الكفر والطغيان ، وإعلاء دائرة الإسلام والإيمان ، وينبغي إثبات إمامة كلّ واحد من الأئمّة بالوجوه الخمسة : طريقة العصمة ، والنصّ ، والأعلميّة ، وكونه صاحب المعجزة المصدّقة ، والموعظة الحسنة.

وبالجملة ، ففي هذا الفصل مطالب عديدة :

المطلب الأوّل : في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بكلّ واحد من الوجوه الخمسة

اشارة

فنقول : اعلم أنّه اختلف أهل الإسلام في أنّ خليفة الرسول بلا فصل هل هو أبو بكر بن أبي قحافة - كما عليه جمهور أهل السنّة - أو العبّاس - كما حكي (1) عن

ص: 238


1- راجع « شرح المقاصد » 5 : 263.

قليل منهم - أو عليّ بن أبي طالب المسمّى ب- « عبد مناف » أو عمران بن عبد المطّلب المسمّى ب- « شيبة الحمد » ، وقد لقّبه اللّه تعالى في الغدير ب- « أمير المؤمنين » حيث قال : « سلّموا على عليّ بأمير المؤمنين » (1) ، وأوّل من سلّم عليه بهذا اللقب عمر حيث قال : « بخّ بخّ لك يا عليّ صرت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (2).

وقد روي أنّه لا يقبل هذا اللقب غيره إلاّ إذا كان من الزنى (3).

وروي أيضا أنّه سئل أبو عبد اللّه علیه السلام أنّه هل يجوز أن يسلّم على قائم آل محمّد بأمير المؤمنين؟ قال : « لا ، ذاك اسم سمّى اللّه به أمير المؤمنين لم يسمّ به أحد قبله ولا يسمّى به بعده إلاّ كافر ».

فسئل : كيف يسلّم عليه؟ قال : « قولوا : السّلام عليك يا بقيّة اللّه » ، فقرأ ( بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (4) » (5).

ولهذا ذهب بعض المجتهدين - على ما حكي عنه - إلى عدم جواز إطلاقه على غيره ولو كان من المعصومين ، ولكن حكي عن آخر تقييد المنع بغير المعصوم.

وألقابه كثيرة.

وقد حكي عن بعض علماء أهل السنّة أنّه قال : وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس من الذين يتيسّر حضورهم الموصوفين بصفات الشهود كإمامة الصدّيق ، أو لبعضهم كإمامة الفاروق. (6)

وحكي عن بعضهم أنّه قال : لا ينعزل الإمام بالفسق والجور ؛ لأنّه قد ظهر الفسق

ص: 239


1- « الإرشاد » للمفيد 1 : 28 ، الرقم 4.
2- « فرائد السمطين » 1 : 77.
3- جاء في الروايات : « يا عليّ لا يبغضكم إلاّ ثلاثة : ولد زنى ومنافق ومن حملت به أمّه وهي حائض ». انظر « بحار الأنوار » 27 : 151 باب أنّ حبّهم علیهم السلام علامة طيب الولادة من كتاب الإمامة.
4- هود (11) : 86.
5- « الكافي » 1 : 412 ، باب نادر ، ح 1.
6- انظر في ذلك كتاب « الأحكام السلطانيّة » للماوردي : 7 وما بعدها.

وانتشر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم. (1)

وعن بعضهم أنّه قال : لا يحدّ الإمام حدّ الشرب ؛ لأنّه نائب من اللّه. (2)

ولا ريب في فساد جميع ذلك كما يظهر ممّا سبق. وبالجملة فالحقّ هو المذهب الثالث.

لنا : كلّ واحد من الطرق الخمسة فهو في فصول خمسة :

فصل [1] : في طريق العصمة.

فنقول : أمّا طريقة العصمة فلأنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ؛ لما مرّ ، وليس بين الثلاثة معصوم إلاّ عليّ بن أبي طالب بالاتّفاق من الشيعة والعامّة ؛ ولأنّ عدم عصمة غيره قطعيّ ، فلو لم يكن هو أيضا معصوما لزم عدم تحقّق الإمام المنافي لوجوب اللطف ، ولا أقلّ من كون عصمته قطعيّا وعدم كون عصمة غيره كذلك ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3).

ويؤيّد ذلك أنّ فواتح السور إذا حذفت مكرّراتها تكون مشتملة على حروف « صراط عليّ حقّ نمسكه » أو « عليّ صراط حقّ نمسكه » سيّما أنّ غيره كان مسبوقا بالكفر فكان ظالما ، فلا يكون قابلا للإمامة كما قال تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (4) ؛ إذ المراد من كان ظالما سابقا وإلاّ لم يتطابق السؤال والجواب ؛ لقبح سؤال إبراهيم عن جعل اللّه من كان ظالما إماما في حال ظلمه ؛ لأنّه لا يتصوّر عن عاقل فضلا عن رسول عظيم ، بخلاف عليّ بن أبي طالب فإنّه أسلم حين الصبا فلم يسبق بالكفر.

ص: 240


1- « روضة الطالبين » للنووي 5 : 410 ؛ « تفسير ابن كثير » 1 : 76 ؛ « المبسوط » للسرخسي 9 : 105.
2- « روضة الطالبين » للنووي 5 : 410 ؛ « تفسير ابن كثير » 1 : 76 ؛ « المبسوط » للسرخسي 9 : 105.
3- الأنعام (6) : 81.
4- البقرة (2) : 124.

فنقول : الإمام يجب أن يكون معصوما ؛ لما مرّ ، والمعصوم من الصحابة ليس إلاّ عليّا بالتواتر والاتّفاق ، فالإمام لا يكون إلاّ عليّا.

وأيضا إذا ثبت إمامة الأوّلين بعدم العصمة اللازمة فيها ، ثبت إمامة عليّ بن أبي طالب بالإجماع المركّب الكاشف عن حكم النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي هو المعصوم الذي يكون حكمه حقّا ؛ للاتّفاق على عدم إمامة غير هؤلاء الثلاثة.

وأيضا كلّ من قال بوجوب عصمة الإمام علیه السلام قال بإمامة عليّ علیه السلام وكلّ من قال بعدم خلافته بلا فصل قال بعدم وجوب العصمة ، فالقول بوجوب العصمة وعدم إمامة عليّ علیه السلام خرق للإجماع المركّب ، وحيث ثبت وجوب العصمة - بما مرّ - ثبتت إمامة عليّ علیه السلام لئلاّ يلزم خرق الإجماع المركّب وهو المطلوب.

فصل [2] : في طريق النصّ.
اشارة

فنقول : وأمّا طريق النصّ - بناء على وجوب وجود النصّ على تعيين الإمام ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على العصمة المعتبرة فيه بدونه أو بدون المعجزة ، بل يتعيّن هنا الأوّل لوجوبه على النبيّ - كما مرّ - من كونه من أهمّ الواجبات التي يجب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيانه مع عدم رضائه بإهمال أمر أمّته وإبقائهم على الحيرة الموجبة للاختلاف باختلاف الآراء والأهواء - فبيانه أنّ النصّ لم يرد إلاّ في شأن عليّ علیه السلام بلا خلاف من الخصم ظاهرا. والنصّ على قسمين :

الأوّل : ما هو ظاهر الدلالة غير محتاج إلى الاستدلال ، ويسمّى بالنصّ الجليّ.

والثاني : ما هو بخلافه ، ويسمّى بالنصّ الخفيّ.

أمّا النصّ الجليّ فمثل ما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « عليّ إمامكم وخليفتي عليكم من بعدي » (1).

ص: 241


1- « معاني الأخبار » : 272 ، وفيه « أنّ عليّا إمامكم بعدي وخليفتي عليكم ».

وقال : « سلّموا عليه بإمرة المؤمنين » (1).

وقال لعليّ : « أنت الخليفة بعدي » (2).

وقال - وقد أخذ بيده - : « هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا » (3).

ونحو ذلك.

واحتمال الكذب من ناقليها من جهة الطمع - كما في غير ذلك - منتف ؛ لعدم كون المرويّ فيه من أهل الدنيا ليتصوّر الطمع أو الخوف منه ، بل كانت الرئاسة والثروة لمخالفيه فكان الداعي على ترك روايتها موجودا ، والاختلاف في تواترها إنّما هو من جهة عدم لزوم الفرديّة في التواتر ؛ لأنّه قد يكون كسبيّا ، مع أنّ حصول العلم موقوف على خلوّ الذهن عن الاعتقاد بنقيضه ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين ، وعن الشبهة السابقة الراسخة الحاصلة من تكذيب المخالفين.

وأمّا النصّ الجليّ الوارد بطريق العامّة ، وهو الذي يكون دليلا إسكاتيّا وإثباتيّا كما أنّه يكون سكوتيّا وثبوتيّا مع أنّ الفضل ما شهدت به الأعداء :

فمنه : ما نسب إلى أحمد بن حنبل أنّه روى في مسنده عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نورا بين يدي اللّه من قبل أن يخلق آدم علیه السلام بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق اللّه تعالى آدم علیه السلام ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم نزل في نور واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطّلب ، ففيّ النبوّة وفي عليّ الخلافة » (4).

وعن جابر بن عبد اللّه بعد قوله : « عبد المطّلب » زيادة قوله : « حتّى قسمنا جزءين : جزءا في صلب عبد اللّه ، وجزءا في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا

ص: 242


1- « تفسير العيّاشي » 2 : 290 ، الرقم 64 ، ذيل الآية 92 من النحل (16).
2- « الإرشاد » 1 : 156.
3- « تفسير فرات » 1 : 301 - 303.
4- « الطرائف » : 15.

وأخرج عليّا وصيّا » (1).

وقد نقل إجماع الفريقين على نقل ذلك الحديث ، وهو في أعلى مرتبة الصراحة في خلافة مولانا عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

ومنه : ما نسب إليه - أيضا - وإلى غيره أنّه لمّا نزلت آية ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) جمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أولاد عبد المطّلب - وهم أربعون نفرا - وهيّأ من الخبز واللحم واللبن مقدار قوت رجل واحد مع أنّ كلّ واحد منهم - على ما نقل - كان يأكل إبلا مشويّة مطبوخة وغنما كذلك أو عجلا كذلك مع ملء زقّ من اللبن ، فأكل جميعهم ممّا ذكر وشبعوا وامتلئوا وكان الطعام بحاله ، فلمّا رأوا تلك المعجزة ، عرض صلی اللّه علیه و آله عليهم الإسلام وبشّرهم بمنافع الدنيا والآخرة وحصول المقاصد فيهما وإعزازهم وامتيازهم عن أغيارهم ودخولهم الجنّة والوصول إلى الدرجات العالية ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « من أطاعني فيما قلت له وأمدّني في تبليغ الرسالة كان أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي » (3). فلم يتعرّض أحد منهم للجواب إلاّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

وقد روي أنّ ذلك قد وقع ثلاث مرّات من النبيّ صلی اللّه علیه و آله فلم يجبه إلاّ عليّ علیه السلام فبشّره بالأخوّة والخلافة والوصاية ونحوها ، وكان من عداهما إذا لقوا أبا طالب هنّئوه استهزاء.

وهذا الحديث أيضا كالسابق في الصراحة على المدّعى وعن مسند [ ابن ] حنبل عن سلمان رضی اللّه عنه أنّه قال : قلت لرسول صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه ، من وصيّك؟

فقال : « يا سلمان ، من كان وصيّ موسى؟ » قلت : يوشع بن نون ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « إنّ

ص: 243


1- « المناقب » لابن المغازلي : 121 - 122 ، ح 1332.
2- الشعراء (26) : 214.
3- « الطرائف » : 21 ، ح 13.

وصيّي ووارثي وقاضي ديني ووافي مواعيدي عليّ بن أبي طالب » (1).

وعن كشف الغمّة مثله بزيادة سؤاله صلی اللّه علیه و آله بعد جواب سلمان : عن وصيّي موسى عن سبب جعله وصيّا ، وجواب سلمان بكونه أعلم القوم في ذلك اليوم.

وعن المناقب بعد الجواب الأوّل هكذا : « فإنّ وصيّي في أهلي وخير من أخلفه بعدي عليّ بن أبي طالب » (2).

والمناقشة - بأنّه إن كان المراد أنّ الوصيّ بمعنى حافظ الشريعة فممنوع ولكنّه غير نافع ، وإن كان المراد بمعنى الخليفة فممنوع وإلاّ خالفت الصحابة ، وعلى تقدير مخالفتهم لما أطاعهم غيرهم ، وعلى تقدير إطاعة بعضهم لما أطاعهم الأنصار - مدفوعة بأنّ معنى الأوّل أيضا راجع إلى المعنى الثاني كما لا يخفى ، مضافا إلى أنّ سؤال النبيّ عن وصيّ موسى الذي كان خليفة قرينة على إرادة المعنى الثاني.

وعن رجل عن الشافعي بسنده عن الرسول صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لكلّ نبيّ وصيّ ووارث وإنّ وصيّي ووارثي عليّ بن أبي طالب » (3).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « يا عليّ ، أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني » (4).

وروي عن ابن عبّاس قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ عليّا وصيّي وخليفتي ، وزوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ولداي ، من والاهم فقد والاني ومن عاداهم فقد عاداني » (5) ، إلى آخر الحديث.

وتلك الأخبار مفيدة للقطع بمضمونها إمّا بالتسامع والتظافر أو بالتواتر.

ص: 244


1- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 58 ، فصل في أنّه الوصيّ والوليّ.
2- المصدر السابق.
3- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 58 ، « بحار الأنوار » 36 : 329.
4- « الأمالي » للصدوق : 523 ، المجلس 94 ، ح 6.
5- المصدر السابق : 382 ، المجلس 72 ، ح 6.

بيان ذلك أنّ العلم بالأشياء بسبب الأخبار قد يكون بسبب رواية عدد يمنع العقل عن تواطئهم على الكذب في اللفظ والمعنى أو أحدهما ، سواء كانت بلا واسطة - كما إذا أخبر جماعة بالغة إلى الحدّ المذكور بوقوع فتنة في بلد خاصّ عن مشاهدة أو نحوها - أو بواسطة كما إذا كان إخبار المخبرين على الوجه المذكور عن أمثالهم بمرتبة أو أزيد لمشابهة لهم ، لتكون كلّ مرتبة منهم بالغة إلى الحدّ المذكور.

وهذا العلم تارة يكون بدون الكسب كما في ضروريّات الدين ، فإنّها وإن كانت لا تنفكّ عن المقدّمات المنتهية إلى البديهي كالسماع ، لكنّها لا تحتاج إلى المراجعة إلى المقدّمات ما دامت ضروريّة.

وتارة يكون مسبوقا بالكسب كالمسائل العلميّة المحتاجة إلى التتبّع وملاحظة الكتب ، وملاقاة أهل العلم ، والاستماع أصوليّة كانت أو فروعيّة ، ثمّ ملاحظة أنّ هؤلاء الجماعة الكثيرين لا يتواطئون على الكذب. ومن علامات النظري أنّه إذا حصل الذهول عن المقدّمات بعد حصول العلم أيضا قد يتزلزل القاطع ، وهو ممّا يحصل في كثير من المتواترات.

وقد يكون بسبب أنّ أهل العصر قاطبة مجمعون على شيء إمّا بالتصريح أو بظهور أنّ سكوتهم مبنيّ على عدم بطلان هذا النقل ونحو ذلك ، فكثرة تداول ما ذكر على الألسنة ، وعدم وجود مخالف فيه أصلا ، أو عدم مخالف يعتدّ به وإن وجد مخالف علم أنّ مخالفته لأجل عناده أو نحو ذلك تفيد القطع بصحّته ، كعلمنا بالبلاد النائية أو الخالية والأمم الماضية ، ومنه أحوال حاتم ورستم وغيرهما ؛ لأنّنا لم نسمعها إلاّ ممّن عاصرنا ، وهم لم يرووا لنا عن سلفهم أصلا فضلا عن عدد يحصل به التواتر ، وذلك هو العلم الحاصل بالتظافر ، وكان العلماء عمّموا التواتر فلم يفرّقوا بينه وبين التظافر في مقام بيان الأمثلة وإن شرطوا في تعريف التواتر حصول العدد المذكور ، وقد يكون بالقرائن.

ص: 245

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأخبار المذكورة - عند من وصلت إليه على وجه الإسناد كالعنعنة على وجه حصل له به العلم بصحّة مضمونها - تكون متواترة ولو بالتواتر المعنوي ، وعند من لم تصل إليه على الوجه المذكور - ولكن تظافرها اقتضى العلم بصحّة مضمونها - تكون متظافرة ، وكلّ منهما أمر وجدانيّ لا اعتراض لفاقده على واجده ؛ إذ ليس لمن لا يعلم على من يعلم سبيل.

على أنّ اجتماع المخبرين البالغين إلى الحدّ المذكور على الكذب على الرسول على وجه الاتّفاق لمّا كان ممتنعا عادة ؛ لعدم الداعي عليه كما في صورة الصدق فإنّه واقع قطعا ، وكذا الاتّفاق على وجه المواطأة والمواضعة ، لكون الرواة متباعدي البلاد على وجه امتنع اجتماعهم عادة في مكان واحد فضلا عن وقوعه ؛ إذ لو وقع لشاع وامتنع عدم ظهوره مع وجود الداعي على نشره ، وهو عداوة العامّة وتعصّبهم وإظهار ما يسرّ به أرباب السلطنة على وجه العدوان ، وكذا اجتماعهم بالمكاتبة ؛ لعدم المعارفة ولو وقع لشاع ؛ لما ذكر ، مضافا إلى عدم وجود الداعي على المواضعة ؛ لأنّها إمّا لأمر الدين أو الدنيا ، والأوّل مناف للكذب والثاني فاسد ؛ إذ لم يكن من ادّعى النصّ فيه من أهل الدنيا قطّ ، بل لم يكونوا ذوي سلطنة قاهرة داعية إليها من جهة الخوف بل كان الواقع خلافه ، لا يكون على مدّعي التواتر إيراد من تلك الجهة.

والإيراد - بأنّها لو كانت متواترة ، لكان العلم بها كالعلم بضروريّات الدين ونحوها - مدفوع بأنّ التواتر قد يكون كسبيّا كما أشرنا إليه ، مضافا إلى أنّ حصوله مشروط بعدم سبق شبهة مقضية للاعتقاد بنقيضه ونحو ذلك ، مع أنّه ممّا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

وأمّا النصّ الخفيّ فهو على قسمين :

الأوّل : ما كان مذكورا في الفرقان ، وهي آيات كثيرة :

الأولى : قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ

ص: 246

الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (1).

بيان كيفيّة الاستدلال موقوف على بيان لفظ « الوليّ » وشأن النزول.

أمّا لفظ « الوليّ » وهو على ما يظهر في الصحاح على معان منها : القريب ، ومنها : المحبّ وضدّ العدوّ ، ومنها : الصهر ، ومنها : كلّ من ولي أمر واحد ، ومنها : التابع ، ومنها : السلطان ، ومنها : الناصر - كما أنّ المولى لهذا المعنى مع زيادة المعتق والمعتق وابن العمّ والجار (2).

ومنها - على ما في القاموس - : « الصديق » ، وفيه : « المولى : المالك والعبد والمعتق والمعتق والصاحب والقريب كابن العمّ ونحوه والجار والحليف ، أو ابن العمّ والنزيل والشريك وابن الأخت والوليّ والربّ والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحبّ والتابع والصهر ». وفيه أيضا : « وأولى على اليتيم : أوصى ، وهو أولى : أحرى » (3).

وفي مجمع البيان : « الوليّ الذي يلي النصرة والمعونة ، والوليّ الذي يلي تدبير الأمر » (4).

وأمّا النزول فقد روي عن أبي ذرّ الغفاري رحمه اللّه أنّه قال : إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يعطني أحد شيئا. وكان عليّ علیه السلام راكعا فأومى بخنصره اليمنى إليه وكان يتختّم بها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيّ صلی اللّه علیه و آله فلمّا فرغ النبيّ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا

ص: 247


1- المائدة (5) : 55.
2- « الصحاح » للجوهري 6 : 2528 - 2529.
3- ترتيب « القاموس المحيط » 4 : 658 ، « و. ل ي ».
4- « مجمع البيان » 3 : 361 - 362 ، ذيل الآية 55 من سورة المائدة (5).

قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1). فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) (2) ، « اللّهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك ، اللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أشدد به ظهري ».

قال أبو ذر : فو اللّه ما استتمّ رسول اللّه حتّى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه فقال : يا محمّد ، اقرأ ، قال : « وما أقرأ؟ » قال : « اقرأ : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية » (3).

كذا عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ، وعن أبي بكر الرازيّ والطبريّ والرمّانيّ ومجاهد والسدي أيضا أنّها نزلت في عليّ حين تصدّق بخاتمه وهو راكع ، وهو المرويّ عن أبي جعفر علیه السلام وأبي عبد اللّه علیه السلام وجميع علماء أهل البيت علیهم السلام (4).

وعن الكلبي نزلت في عبد اللّه بن سلام وأصحابه لمّا أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم (5).

ولا يخفى بعده عن ظاهر الآية مع كونه خلاف ما اشتهر وما ذكر من الإجماع وغيره ، مع أنّ الأوصاف المذكورة في الآية منحصرة في مولانا عليّ بن أبي طالب علیه السلام فيكون هو المراد ، فتكون الآية دالّة على كونه علیه السلام مثل الحقّ العليّ والنبيّ العالي في كونهما أولى وأحقّ في التصرّف في أمر الدين والدنيا بالنسبة إلى الناس وفي وجوب إطاعتهما ؛ إذ الوليّ هنا لا يصحّ أن يكون بمعنى القريب والصهر والتابع المعتق والمعتق وابن العمّ والجار والصديق كما لا يخفى ، وبقي أربعة أخرى أعني المحبّ ، ومتولّي الأمر ، والسلطان والناصر.

ص: 248


1- طه (20) : 25 - 32.
2- القصص (28) : 35.
3- « مجمع البيان » 3 : 361 - 362 ، ذيل الآية 55 من سورة المائدة (5).
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.

والحصر المستفاد من كلمة « إنّما » يقتضي عدم إرادة المحبّ والناصر ؛ لعمومهما جميع المؤمنين كما يقتضي قوله تعالى : ( الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (1) ، وإلاّ يلزم كون التصدّق في حال الركوع من شروط تولّي المؤمن ، مضافا إلى أنّ مقتضى تلاؤم أجزاء الكلام أن لا يكون الوليّ هنا بمعناهما ؛ إذ لو كان بمعناهما كان المناسب « اتّخذوا اللّه ورسوله والذين آمنوا أولياء » ليدلّ على أنّ في مقابل ما جعله طرفا عليهم أعني اتّخاذ الكفّار وأمثالهم أولياء.

فتعيّن أحد الآخرين وكلّ منهما واف بإثبات المطلوب ؛ لاقتضاء الآية حينئذ كون المتولّي في أمور دنياهم ودينهم أو السلطان عليهم فيهما هو اللّه ورسوله وعليّ لا غيرهم ، والموصوف بهذا الوصف بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله إمام ، فيلزم أن يكون إماما دون غيره وهو المطلوب.

[ فى بعض ما أورد على الاستدلال بآية الولاية ]

وأورد بعض المعاندين على هذا الاستدلال إيرادات واهية نوردها مع أجوبتها ، حذرا عن اختفائها على بعض الناظرين :

الأوّل : أنّ الوليّ يحتمل أن يكون بمعنى الناصر والمحبّ ، على ما يناسب ما قبل الآية ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) الآية (2) ؛ لعدم كون تلك الولاية بمعنى الإمامة ، بل تكون بمعنى النصرة والمحبّة ، وما بعدها وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية (3) ، لكون التولّي هنا بمعنى المحبّة والنصرة دون الإمامة ، فيجب أن يكون ما بينهما أيضا كذلك ، ليتلاءم أجزاء الكلام.

ص: 249


1- التوبة (9) : 71.
2- المائدة (5) : 51.
3- المائدة (5) : 56.

والجواب يظهر ممّا أشرنا إليه في طيّ تحرير الاستدلال ، مضافا إلى أنّ الآية يمكن أن تكون في حكم التعليل عن السابق لو قطعنا النظر عن الفصل المانع عن اعتبار التلاؤم مع ما ذكرنا ، والمعنى المطلوب أنسب بالتعليل كما لا يخفى ، مع أنّ هذا الإيراد وارد على عثمان حيث رتّب الآيات كثيرا ما بدون الملاءمة.

والثاني : عن كون الآية في شأن عليّ علیه السلام تنافي ما يقولون : إنّه كان في صلاته خاضعا بحيث لم يكن [ قادرا ] على إخراج النصل من رجله مطلقا.

والجواب : أنّ المراد بعد تسليم الرواية أنّه علیه السلام لم يكن حين صلاته ملتفتا إلى غير اللّه تعالى ، وما ذكر عين الالتفات إلى عبادة اللّه تعالى.

والثالث : أنّ تحريك الخاتم إلى السائل وإخراجه والإشارة إلى السائل فعل كثير مبطل للصلاة.

والجواب - بعد وضوح جزافة ذلك السؤال من جهة كونه في مقابل قوله تعالى وتقرير رسوله ونحو ذلك - : أنّه لم يصدر عنه علیه السلام إلاّ فعل واحد وهو التحريك ، مضافا إلى منع كون ما ذكر فعلا كثيرا مع احتمال صدوره على التفريق.

والرابع : أنّ كلمة « إنّما » إنّما يؤتى بها لرفع التوهّم أو التردّد ، ولم يكن حين النزول تردّد ولا تشاجر في الإمامة.

والجواب : أنّها في الآية لرفع التردّد الآتي لا الواقع ومثل هذا كثير ، مع إمكان وقوع التردّد حين النزول أيضا في قلوب المؤمنين وإن لم يكن ظاهرا ، مضافا إلى أنّ الحصر إنّما هو بالنسبة إلى الولاية الملتزمة إلى الإمامة بالنسبة إلى عليّ علیه السلام وليست عينها ، وإلاّ فلم يكن إثباتها بالنسبة إلى اللّه ورسوله صحيحا ، والولاية في الجملة ممّا يمكن وقوع التردّد فيه حين النزول أيضا.

والخامس : أنّ كلمة « الذين » موضوعة للجمع فلا وجه لاستعمالها في الواحد بدون القرينة.

والجواب : أنّ الإتيان بصيغة الجمع إشعار باستحقاق كلّ من كان كذلك ، ولكن

ص: 250

كان الواقع شخصا واحدا ، مع أنّ التعظيم كثير في العرف مضافا إلى احتمال كون سائر الأئمّة كذلك ، فبيّن حالهم لتغليب الموجود الأشرف.

والسادس : أنّه يمكن أن يكون جملة « وهم راكعون » غير حاليّة ، بأن تكون مخرجة لمن لا يكون راكعا في صلاته كاليهود.

والجواب : أنّه خلاف ظاهر تغيير أسلوب الكلام من الفعليّة إلى الاسميّة بل خلاف المتبادر.

والسابع : أنّ الركوع قد يكون بمعنى الخضوع والخشوع فينفي ولاية غير الخاضع ، ولا يثبت ولاية خصوص عليّ.

والجواب : أنّ المتبادر من الركوع هو المعنى الشرعي ، فالصرف عنه بلا قرينة فاسد ، مضافا إلى أنّ المراد لو كان ذلك لكان ذكر الخضوع أولى لكونه أظهر وأشمل ، مع أنّه حكي إجماع المفسّرين على نزول الآية حين تصدّق عليّ علیه السلام بالخاتم للسائل راكعا.

والثامن : أنّ ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل ، ولا شبهة في أنّ إمامة عليّ علیه السلام إنّما كانت بعد النبيّ ، وصرف الآية إلى ما يكون في المال دون الحال لا يستقيم في حقّ اللّه ورسوله.

والجواب : أنّه كان له علیه السلام ولاية التصرّف في أمر المسلمين في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا ، وكانت الإمامة اللاحقة من لوازم الولاية السابقة لا عينها - كما مرّ إليه الإشارة - مضافا إلى أنّ التغليب باب واسع.

التاسع : أنّ قول المفسّرين : إنّ الآية نزلت في شأن عليّ لا يقتضي اختصاصها به وكونه إماما.

والجواب : أنّ عدم اتّصاف غيره بالأوصاف المذكورة في الآية ، بل عدم العلم بالاتّصاف كاف في الحكم بالاختصاص المستلزم للإمامة.

[2] ومن الآيات قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ

ص: 251

تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (1).

وجه الاستدلال : أنّ الآية نزلت حين منازعة وفد نجران من النصارى مع رسول اللّه في أمر عيسى من جهة تولّده من غير أب ، فلمّا دعاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المباهلة استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك فلمّا رجعوا إلى رجالهم قال لهم الأسقف : انظروا محمّدا في غد فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء ، فلمّا كان من الغد جاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله آخذا بيد عليّ علیه السلام والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة تمشي خلفه ، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم فلمّا رأى النبيّ قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من عليّ ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.

وتقدّم رسول اللّه فجثا على ركبتيه فقال أبو حارثة الأسقف : جثا واللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة فكعّ (2) ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيّد : ادن يا با حارثة للمباهلة فقال : لا إنّي أرى رجلا جريئا على المباهلة ، وإنّي أخاف أن يكون صادقا ، ولئن كان صادقا لم يحل واللّه علينا الحول وفي الدنيا نصرانيّ يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ننهض به ، فصالحهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ألفي حلّة من حلل الأواقي ، قيمة كلّ حلّة أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد ورسول اللّه ضامن حتّى يؤدّيها ، وكتب لهم كتابا (3) ، كذا روي.

ص: 252


1- آل عمران (3) : 61.
2- أي ضعف وجبن.
3- « مجمع البيان » 2 : 309 - 310 ، ذيل الآية 61 من سورة آل عمران (3).

فهذه الآية تدلّ على أولويّة عليّ بن أبي طالب في الإمامة واستحقاقه للخلافة بوجوه :

الأوّل : أنّ اللّه تعالى جعل عليّ بن أبي طالب بمنزلة نفس النبيّ ؛ لأنّه المراد من « أنفسنا » ؛ إذ لا معنى لدعاء الإنسان نفسه كما لا معنى لأمره لنفسه ، وليس المراد به فاطمة والحسن والحسين ؛ لاندراجهم في الأبناء والنساء ، فلا بدّ أن يكون المراد شخصا آخر غير نفسه وغير فاطمة وغير الحسن والحسين ، وليس غير عليّ علیه السلام بالإجماع ، فتعيّن أن يكون هو المراد ، فيستفاد كونه مساويا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في جميع الصفات إلاّ ما خرج بالدليل كالنبوّة ، ولمّا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله أفضل البشر يلزم أن يكون عليّ علیه السلام الذي بمنزلة نفسه أيضا أفضلهم حتّى الأنبياء ، فمع وجود الأفضل الأكمل الأعلم الأورع الأتقى لا يجوّز أحد خلافة غيره ، المستلزمة ترجيح المرجوح على الراجح وتفضيل المفضول على الفاضل ، الذي هو الباطل عند كلّ عاقل.

الثاني : أنّ مقتضى التشبيه المطلق المستفاد فيما نحن فيه من قوله تعالى : « أنفسنا » اتّصاف المشبّه بصفات المشبّه به ، سيّما صفاته الشائعة المتبادرة ، ولا شكّ أنّ كون النبيّ صلی اللّه علیه و آله رئيسا للمؤمنين وواجب الإطاعة لهم من الصفات المتبادرة ، فيلزم أن يكون عليّ علیه السلام أيضا رئيسا وواجب الإطاعة بعد النبيّ بل في حال حياته أيضا فغيره غاصب لحقّه.

والثالث : أنّ الغرض من المباهلة هو الغلبة على الأعداء بإجابة الدعاء ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالقرب من اللّه ؛ ولهذا لم يستظهر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بغير الأربعة من أصحاب الكساء فهم أقرب العباد إلى اللّه ورسوله فتقديم غيرهم عليهم وعدم اعتقاد إمارتهم ورئاستهم لا يصدر إلاّ عن معاند حاسد أو قاصر كاسد.

والرابع : أنّ دعاءه للمباهلة يدلّ على أنّه في غاية الشفقة والمحبّة لعليّ علیه السلام وإلاّ لقال المنافقون : إنّ الرسول لم يدع للمباهلة من يحبّه ويحذر عليه العذاب ، فهو أولى من غيره ، فلا يجوز تقديم غيره.

ص: 253

والخامس : أنّ العاقل إذا لاحظ كون عليّ علیه السلام موصوفا بمثل هذا الوصف الذي لم ينكره أحد من العامّة والخاصّة وكون غيره ممّن اختلف فيه يحكم عقله بأخذ عليّا علیه السلام إماما حتّى كأنّه يقول : أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟ إذ لا وجه للجمع بين المتباينين وتأخير قطعي القابليّة.

وبالجملة : فالإيراد بأنّه لا وجه لتساوي عليّ علیه السلام مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أنّه أفضل الأنبياء وغيرهم ، وعليّ علیه السلام من جملة المفضولين ، وأنّه خاتم الأنبياء ، وليس تلك الصفة موجودة في عليّ علیه السلام مدفوع بما أشرنا إليه من أنّ ما خرج بالدليل خارج عن المراد ، مع أنّ إفادة التساوي كناية عن كمال القرب والاتّحاد كما هو شائع في العرف.

ويؤيّد ما ذكرنا ما حكي عن بعض أهل السنّة من أنّ عليّا علیه السلام قال يوم الشورى : « أحلفكم باللّه هل يكون منكم من يكون أقرب إلى الرسول منّي وقد جعل الرسول نفسه نفسه وأبناءه أبناءه وامرأته امرأته؟ » فقالوا : « اللّهمّ لا » ، فتصديقهم واعترافهم بكونه علیه السلام أقربهم إلى الرسول دليل على فساد مذهبهم.

وقد فسّر البيضاوي الآية بقوله : « أي يدع كلّ منّا ومنكم نفسه وأعزّة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ».

ثمّ قال : « وهو دليل على نبوّته وفضل من أتى بهم من أهل بيته » (1). فاعترف بفضل أمير المؤمنين.

والشارح القوشجي مع كمال عصبيّته وذكر الأجوبة الواهية عن كلّ دليل لم ينكر تلك الآية ولم يذكر للاستدلال بها جوابا.

وعن صاحب الكشّاف أنّه قال : « وفيه دليل لا أبين ولا أقوى منه على فضل أصحاب الكساء » (2) ، فالمنكر مكابر وفي الحقيقة كافر.

ص: 254


1- « تفسير البيضاوي » 1 : 266 ذيل الآية 61 من سورة آل عمران (3).
2- « الكشّاف » 1 : 370 ذيل الآية 61 من سورة آل عمران (3).

[3] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) ، فإنّها نزلت في شأن عليّ علیه السلام وفاطمة والحسنين بالإجماع المحكيّ عن مفسّري الشيعة وأهل السنّة. (2)

وقد حكي عن مسند ابن حنبل وصحيح مسلم وأبي داود أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان ذات يوم نائما في حجرة أمّ سلمة ، فدخل الحسنان وجلسا عنده ، فجاءت فاطمة علیهاالسلام فجاء عليّ علیه السلام فجلسا عنده ، ولمّا استيقظ ورآهم مجتمعين فرح ، فأجلس الحسنين على حجره ، وقرّب عليّا وفاطمة إلى نفسه بحيث اتّصلا به ، فألقى عباءة الخيبريّ عليهم وقال : « اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهل بيت ، وهؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا » (3) ، فنزل جبرئيل بهذه الآية.

فيستفاد منها كون عليّ علیه السلام [ من ] أهل بيت الرسول ، وطاهر [ من ] دنس المعاصي وأرجاس العلائق الدنيويّة والحقد والحسد ، وغير ذلك ممّا يوجب البعد عن اللّه تعالى ، ويكون من مقتضى طباع غالب الناس على وجه الاختيار وإن لم يكن موجودا في أهل البيت علیهم السلام ، فتدلّ الآية على عصمة عليّ علیه السلام فيكون هو الأولى بالخلافة.

فإن قلت : إنّ الآية واردة في تلو المخاطبة مع أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله فلا بدّ أن تكون واردة في شأنها ، وتذكير الضمير يوجب إدخال جميع أهل البيت من الرجال ، أعني عليّا والحسنين والنساء.

قلت أوّلا : إنّ ما ذكر أيضا مثبت لما هو المرام من دلالة الآية على رجحان عليّ علیه السلام على غيره من الصحابة.

وثانيا : إنّ الوقوع في التلو لا يقتضي كون اللاحق في حقّ من له السابق ؛ إذ الآيات يكون بعضها في مورد وبعضها في مورد آخر.

ص: 255


1- الأحزاب (33) : 33.
2- « مجمع البيان » 8 : 156 - 158 ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب (33).
3- « الطرائف » : 125 و 129 و 130.

وثالثا : إنّ تذكير الضمير لمّا منع عن اعتبار المناسبة مع السابق وجب تعيين المراد من وجه آخر ، وقد عيّن للحديث المذكور والإجماع المزبور كون المراد عليّا وفاطمة والحسنين.

وحكي عن إمام المشكّكين (1) شكوك :

الأوّل : أنّ الإرادة لا تستلزم الفعل.

وفيه : أنّ إرادة اللّه مستلزمة له وإلاّ يلزم العجز أو الجهل أو السفه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

الثاني : أنّ ذهاب الرجس لا يستلزم العصمة ؛ لتصوّره في ضمن العدالة أيضا.

وجوابه : أنّ قوله : الرجس اسم جنس معرّف باللام وهو حقيقة في تعريف الحقيقة ، فيقتضي نفي ماهيّة المستلزم بنفي جميع أفرادها من باب العموم الطبيعي ولا أقلّ من إفادة الاستغراق أو العموم الحكمتي ؛ إذ العموم فروقا غير صحيح ، والتعيين غير واقع فتثبت العصمة مع أنّ إظهار اللّه تعالى لعدالة عليّ يقتضي أفضليّته وأشرفيّته المقتضية للمطلوب ، على ما مرّ.

الثالث : أنّ الحصر المذكور في الآية مستلزم لعدم عصمة الأنبياء السلف ، وهو فاسد.

والجواب أوّلا : أنّه إيراد على اللّه وهو كفر.

وثانيا : أنّ الحصر بالنسبة إلى الموجودين في الحال أو الاستقبال لا الماضي بقرينة صيغة المضارع.

ثالثا : أنّ الحصر إضافي بالنسبة إلى أمّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

[4] ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2) ؛ لما

ص: 256


1- أي الفخر الرازي.
2- الشورى (42) : 23.

حكي عن مسند ابن حنبل وتفسير الثعلبي وغيرهما أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، قال الأصحاب : يا رسول اللّه ، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : « عليّ وفاطمة وابناهما » (1) ؛ فإنّه إذا جعل مودّة عليّ جزاء ما ناله صلی اللّه علیه و آله من المصائب من جهة تبليغ الرسالة وإرشاد الأمّة ونسبته صلی اللّه علیه و آله إلى السحر والكذب والجنون ونحوها وجب إطاعته في الأمر والنهي واعتقاد حجيّة فعله وقوله وتقديمه على غيره ؛ إذ لا عداوة أعظم من تقديم غيره ، سيّما عدوّه عليه اختيار الموجب لكون المقدّم مورد الآية ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (2).

[5] ومنها : قوله تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (3) ؛ حيث نزل في سورة « هل أتى » المشتملة على هذه الآية في شأن عليّ علیه السلام وفاطمة والحسن والحسين بإجماع الأمّة - على ما حكي - عند إرادة عليّ وفاطمة وفضّة وفاء نذرهم بصيام ثلاثة أيّام عند شفاء الحسنين ، وصيامهم وإعطائهم ما أرادوا أن يفطروا به في المسكين في الليلة الأولى ، واليتيم في الثانية ، والأسير في الثالثة ، وعدم ذوقهم إلاّ الماء القراح ، وأخذ عليّ يد الحسنين وإقبالهم على رسول اللّه مع الارتعاش من شدّة الجوع وإساءة ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإقبال الكلّ إلى فاطمة وهي في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها من شدّة الجوع ، وغور عينها وجزع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ذلك بقوله : « وا غوثاه باللّه ، أهل بيت محمّد يموتون جوعا » (4) ؛ فإذا كان عليّ علیه السلام موردا لمثل هذه السورة وموصوفا بما تضمّنه يكون أهلا للإمامة

ص: 257


1- « مجمع البيان » 9 : 48 ذيل الآية 23 من سورة الشورى (42) ؛ « الكشّاف » 3 : 220 ذيل الآية 23 من سورة الشورى (42).
2- مريم (19) : 59.
3- الإنسان (76) : 8.
4- « الأمالي » للصدوق : 215 ، المجلس 44 ، ح 11.

دون غيره ، ولله درّ من قال :

قوم أتى في مدحهم هل أتى *** ما شكّ في ذلك إلاّ ملحدا

[6] ومنها : قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ) (1) ؛ للاتّفاق على أنّ المراد عليّ بن أبي طالب ، حيث نام على فراش النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين أراد المشركون قتله عند إرادته الهجرة في السنة الثالثة عشرة من البعثة لإيذاء المشركين له صلی اللّه علیه و آله على وجه الاجتماع ، لينتهي أمر القصاص إلى الدية لكثرة القتلة ، وأخبر جبرئيل ما أراده ، وأمره من اللّه أن يبيت عليّا علیه السلام فراشه وأخرج من بيته ، وفرح عليّ علیه السلام من ذلك بعد سماعه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله واطّلاعه على كون ذلك سببا لحراسة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فرضي بجعل نفسه فراء له صلی اللّه علیه و آله مع أنّ الخليل قال عند إرادة ملك الموت قبض روحه : « هل رأيت خليلا يميت خليله » (2) ، فقال ملك الموت : « هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه ». فرضي الخليل.

وقد روي أن الربّ الجليل قال في ذلك الوقت لجبرئيل وميكائيل : إنّي جعلت بينكما مؤاخاة ، وجعلت عمر أحدكما أطول فمن يرضى منكما بقصر عمره؟

فما يرضى أحد منهما ، فباهى اللّه به علیه السلام عليهما فقال له علیه السلام جبرئيل حين نزوله مع ميكائيل لحراسته : بخّ بخّ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة؟ (3) فيستفاد فضيلته المقتضية لاستحقاقه الإمامة والخلافة.

وما يقال - من أنّ الآية في شأن المقداد والزبير حيث صلب كفّار مكّة حبيب بن عدي ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من يجاهد بنفسه في سبيل اللّه فينجيه » (4) ، فاختاره فنزلت - مدفوع بأنّ الأمر المذكور كان حين إقامته صلی اللّه علیه و آله في المدينة. والآية مكيّة.

ص: 258


1- البقرة (2) : 207.
2- « الأمالي » للصدوق : 164 ، المجلس 36 ، ح 1.
3- « الطرائف » : 37 ؛ « كشف الغمّة » : 1 : 310.
4- « تفسير البغوي » 1 : 266 - 367 ذيل الآية 207 من سورة البقرة (2).

[7] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) (1) ، فإنّه نزل حين تكثّر الأغنياء في مجلس الرسول إلى أن تضيّق على الفقراء ، وصعب ذلك على النبيّ صلی اللّه علیه و آله فلم يعمل بمقتضاه إلاّ عليّ علیه السلام حيث باع دينارا أو شيئا آخر - على الاختلاف - بعشرة دراهم ، وتصدّق عشرة مرّات ، وناجى الرسول كلّ مرّة فنسخت الآية حكما.

وروي عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال : ثلاث كنّ لعليّ لو أنّ لي واحدة منهنّ كانت أحبّ من حمر النعم : تزويجه بفاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى. (2)

وبالجملة ، فمسابقته علیه السلام لامتثال أمر اللّه ، بل انحصاره فيه ، دليل على أفضليّته المستلزمة لتقدّمه على غيره في الخلافة.

والإيراد باحتمال عدم وسعة الوقت لغيره مدفوع بعدم جواز التكليف بما يفضل عن وقته - كما قرّر في الأصول - مع أنّه حكي عن الأكثر كون النسخ بعد عشرة أيّام.

وما يقال - من كون الصدقة موجبة لكسر قلوب الفقراء فالترك كان أفضل - مدفوع باستلزامه أن يكون أمر اللّه أمرا بالمرجوح ، وهو قبيح ، وبمنافاته لتمنّي عبد اللّه بن عمر.

[8] ومنها : قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) (3) الآية ، فإنّه روي عن جمهور مفسّري أهل السنّة وفاقا للإماميّة عن ابن عبّاس أنّه قال : سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما تلك الكلمات؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : « قال آدم : إلهي بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين تقبّل توبتي فتقبّلها فتاب عليه » (4).

ص: 259


1- المجادلة (58) : 12.
2- « كشف الغمّة » 1 : 168 ، في وصف زهد أمير المؤمنين علیه السلام .
3- البقرة (2) : 37.
4- « مجمع البيان » 1 : 174 ، ذيل الآية 37 من سورة البقرة (2).

وقد حكي عن بعض أهل السنّة أنّه قال : « المراد من الكلمات هذه : يا حامد بحقّ محمّد ، ويا عليّ بحقّ عليّ ، ويا فاطر بحقّ فاطمة ، ويا محسن بحقّ الحسن ، ويا قديم الإحسان بحقّ الحسين فاغفر لي ، فتاب عليه ».

وروي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لو كانت البحار مدادا والأشجار أقلاما والسماوات صحافا والإنس والجنّ كتابا ، لنفد المداد وفنت الصحف وكلّت الأقلام ولم يكتبوا عشر معاشر فضل عليّ علیه السلام » (1).

وبالجملة ، فإذا كان عليّ علیه السلام سببا لقبول : توبة أبي الأنبياء وصفيّ اللّه ، فكيف يجوّز عاقل أن لا يجعل رئيسا وإماما ، بل جعل مرءوسا ومأموما لمن هو مفضول لو سلّم أصل الفضل لغيره.

[9] ومنها : قوله تعالى : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) - إلى قوله تعالى - : ( عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) ، فإنّه قد حكي عن الصحاح الستّة وتفاسير أهل السنّة (3) وفاقا للإماميّة أنّه نزل في شأن عليّ علیه السلام عند مفاخرة العبّاس بسقاية الحاجّ من زمزم ، وطلحة بكون مفتاح الكعبة في يده ، وأمير المؤمنين بإيمانه قبل جميع الناس بستّة أشهر والجهاد وإرادة ردّ الأمر إلى رسول اللّه ، فتصديق اللّه لعليّ علیه السلام وتفضيله على العبّاس ومن يماثله دليلان على تقدّمه على غيره.

ومثل ذلك قوله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) (4) ؛ لكون عليّ علیه السلام كاملا في تلك الصفات.

[10] ومنها : قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها

ص: 260


1- « كشف الغمّة » 1 : 112 ، في فضل مناقبه.
2- التوبة (9) : 19.
3- « التفسير الكبير » 6 : 12 ، ذيل الآية 19 من سورة التوبة (9).
4- التوبة (9) : 20.

بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) (1) ؛ إذ قد روي عن الثعلبي أنّه روي بإسناده عن أنس بن مالك أنّه سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد نزولها : أيّ بيوت تلك البيوت؟ [ قال : « بيوت ] الأنبياء » فسأل آخر : بيت عليّ وفاطمة منها؟ قال : « بلى ، وهو أفضلها » (2) ، فيدلّ على كمال فضله وعلوّ شأنه ، فمع وجوده لا يصحّ تقديم من هو مفضول بالنسبة إليه عند أحد من العقلاء.

[11] ومنها : قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) ، فقد روي عن جمهور أهل السنّة عن ابن مسعود أنّه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انتهت الدعوة إليّ وإلى عليّ لم يسجد أحدنا قطّ للصنم فاتّخذني نبيّا واتّخذه وصيّا » (4).

مضافا إلى انعقاد الإجماع على عدم كون عليّ عاصيا ظالما ، وكون من تقدّم عليه مسبوقا بالشرك الذي هو ظلم عظيم ، فالآية تدلّ على إمامته وإمامة ذرّيّته المعصومين وكون غيرهم من الغاصبين.

فإن قلت : غيرهم لم يكونوا ظالمين عند الإمامة.

قلت : يكفي ظلمهم السابق في المنع ؛ لأنّ مراد الخليل ليس تمنّي إمامة الظالم من ذرّيّته حين الظلم ؛ لقبحه ، بل مراده تمنّي إمامة الصالح من ذرّيّته على الإطلاق على وجه كان شاملا للظالم سابقا وغيره ، فنفى اللّه تعالى نيل عهده الذي هو الإمامة إلى من كان ظالما ليتطابق الجواب مع السؤال.

[12] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (5) ، فقد حكي عن كتاب

ص: 261


1- النور (24) : 36.
2- « مجمع البيان » 7 : 253 ، ذيل الآية 36 من سورة النور (24).
3- البقرة (2) : 124.
4- « بحار الأنوار » 25 : 207.
5- الرعد (13) : 7.

الفردوس ، عن كتب المخالفين ، عن ابن عبّاس أنّه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا النذير والمنذر ، وعليّ الهادي وبك يا عليّ يهتدي المهتدون » (1).

وقد روي أنّ نزول الآية كان هكذا : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (2) ، فتدلّ الآية على رئاسة عليّ وإمامته ، كما لا يخفى.

[13] ومنها : قوله تعالى : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (3) ، فإنّه روي أنّ جماعة من بني هاشم كانوا جالسين عند رسول اللّه فانقضّ كوكب ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من نزل هذا الكوكب في بيته فهو وصيّي » (4) ، فنزل في بيت أمير المؤمنين ، فقال بعض الحاسدين : إنّك يا رسول اللّه ، لفي ضلال مبين في حبّ أمير المؤمنين ، فنزلت الآيات المذكورة.

وعن الصادق علیه السلام تفسير الكوكب بقلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومكيّة الآية غير قادحة ؛ لاحتمال كونها نازلة في حجّة الوداع أو عام الفتح ، واستبعاد النسبة المذكورة عن الأصحاب مدفوع بصدور مثلها عن أبناء يعقوب حيث قالوا : ( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (5) ، و ( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) (6) ، مع أنّهم أولى بعدم صدور مثل ذلك عنهم ، واحتمال عدم إرادة الإمامة من الوصاية مدفوع بأنّها المتبادرة منها عند الإطلاق سيّما إنّ التقييد لا بدّ له من دليل ، وهو مفقود.

[14] ومنها : سورة والعاديات حيث نزلت في شأن أمير المؤمنين عند غلبته على قاصدي إضرار أهل المدينة بعد غلبتهم على أبي بكر وعمر وعمرو بن عاص ، فتدلّ على فضيلته المقتضية للمطلوب.

ص: 262


1- « الاحتجاج » 1 : 80.
2- الرعد (13) : 7.
3- النجم (53) : 1 - 4.
4- « الأمالي » للصدوق : 453 ، المجلس 83 ، ح 4.
5- يوسف (12) : 8.
6- يوسف (12) : 95.

[15] ومنها : قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) (1) ( ... يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (2) ؛ لدلالته على فضيلته ؛ لما روي عن أكثر (3) أهل السنّة عن أنس ، عن ابن عبّاس أنّ المراد من البحرين : عليّ وفاطمة ، ومن البرزخ : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن اللؤلؤ والمرجان : الحسنان ، ولا غرو أن يكونا بحرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما ؛ فإنّ البحر إنّما يسمّى بحرا لسعته ، ولا يبغي أحدهما على صاحبه ؛ لوجود برزخ بينهما ، وهو إطاعة شرع الرسول أو محبّتهما.

[16] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4) ، فإنّه روي عن صحيح مسلم أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله سئل عن كيفيّة الصلاة عليه ، فقال : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد » (5). كذا عن صحيح البخاري (6). ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين هو من الآل ، فالأمر بالصلاة عليه يقتضي كمال فضله ، وأصل الحكمة في ذلك الآل بالصلاة في دين نبيّنا صلی اللّه علیه و آله الإشارة إلى لزوم أخذ أحكامه من الآل بعده لبقاء دينه بخلاف دين غيره ، ودفع توهّم الأعداء كون نبيّنا صلی اللّه علیه و آله أبتر ومنقطع النسل ، وكفانا فخرا وجوب ذكر الآل في الصلاة وبطلانها بدونه كما حكي عن الشافعي أنّه قال في آخر نظم له في مدح آله صلی اللّه علیه و آله :

كفا كم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (7)

فهم أولى بالمتبوعيّة.

ص: 263


1- الرحمن (55) 19 و 20.
2- الرحمن (55) : 22.
3- منهم السيوطي في « الدرّ المنثور » 7 : 697.
4- الأحزاب (33) : 56.
5- « صحيح مسلم » 1 : 305 ، ح 406 ، باب 17 الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
6- « صحيح البخاري » 3 : 1233 ، الباب 13 ، ح 3190.
7- « ديوان الشافعي » : 72.

[17] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (1) ؛ فإنّه روي أنّه لمّا نزلت الآية الأولى أخذ النبيّ بشعرة منه فقال : « يا عليّ ، من آذى بشعرة منك فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه ، ومن آذى اللّه فعليه لعنة اللّه » (2) ، وورد مثل ذلك في حقّ فاطمة ، وأنّ الآية الثانية نزلت في شأن المؤمنين عند إيذاء جمع من المنافقين له. وهاتان الآيتان تدلاّن على كمال فضله وكون من اختار غيره مؤذيا له ملعونا.

ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (3) الآية ؛ لما روى الثعلبي أنّه نزلت في شأن أمير المؤمنين. كذا عن الصادق علیه السلام (4).

[18] ومنها : قوله تعالى : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (5) ؛ لما روي عن الرسول أنّه قال بعد نزوله لعليّ علیه السلام : « إنّي سألت اللّه أن يجعل أذنك واعية » (6).

وروي أنّه صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ علیه السلام : « يا عليّ ، أمرني اللّه أن لا أباعد منك وأعلّمك وتستمع وتتعلّم » (7) فنزلت الآية.

وعن تفسير الثعلبيّ أنّه صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ علیه السلام : « إنّي دعوت اللّه أن يجعل أذنك واعية » (8) فنزلت الآية.

ص: 264


1- الأحزاب (33) : 57 - 58.
2- « مجمع البيان » 8 : 181 ، ذيل الآية 57 من سورة الأحزاب (33).
3- المائدة (5) : 54.
4- « مجمع البيان » 3 : 359.
5- الحاقّة (69) : 12.
6- « تفسير الطبري » 29 : 31.
7- « مجمع البيان » 10 : 107.
8- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 95 ، الرقم 99.

[19] ومنها : سورة والعصر ؛ لما روي عن ابن عبّاس أنّ المراد من المستثنى عليّ علیه السلام فهو الموصوف بما ذكر ، فهو أولى بالخلافة (1).

[20] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2) ؛ لأنّ الصادقين الذين لا يصدر عنهم الكذب هم المعصومون ، ولا معصوم من الصحابة إلاّ عليّ ، فالأمر بمتابعته يقتضي كونه إماما.

وقد روي عن ابن عبّاس أنّه نزلت في شأن عليّ علیه السلام .

[21] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (3) ؛ لما اشتهر من أنّه أمر اللّه محمّدا صلی اللّه علیه و آله أن ينصب عليّا للناس ، فيخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول اللّه أن يقولوا جاء في ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، كما روي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا نصب عليّا وشاع ذلك وبلغ الحارث بن النعمان أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ناقته حتّى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها ، وأتى النبيّ وهو في ملإ من أصحابه فقال : يا محمّد ، أمرتنا عن اللّه تعالى أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نزكّي أموالنا فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نحجّ بالبيت فقبلناه منك ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت عضد ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » ، فهذا شيء منك أم من اللّه؟ فقال : « واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّه من أمر اللّه » (4) ، فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتّى رماه اللّه بحجر فسقط على هامته وخرج

ص: 265


1- « تفسير القمّي » 2 : 441.
2- التوبة (9) : 119.
3- المائدة (5) : 67.
4- « مجمع البيان » 10 : 119 ، ذيل الآية 1 من سورة المعارج (70).

من دبره فقتلته ، فأنزل اللّه ( سَأَلَ سائِلٌ ) (1) الآية.

وبالجملة ، فأوحى اللّه إليه هذه الآية في غدير خم - موضع بين مكّة والمدينة بالجحفة بعد رجوعه من حجّة الوداع - فجمع الناس وجمع الرحال وصعد عليها فأخذ وقال مخاطبا : « يا معاشر المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ » قالوا : بلى ، قال : « فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله » (2).

فهذه الآية في غاية الظهور على إمامة مولانا عليّ بن أبي طالب علیه السلام سيّما أنّ اللّه تعالى جعل ترك تبليغ أمر إمامته وكتمانه كأنّه لم يبلّغ شيئا من رسالات ربّه في استحقاق العقوبة.

مضافا إلى أنّ الحديث المذكور قطعيّ إمّا بالتواتر أو بالتسامع والتظافر ، ولا خفاء في عدم مناسبة إرادة المعتق أو المعتق والجار والحليف وابن العمّ ، وعدم الوجه لإرادة الناصر ؛ لكونه ظاهرا غير محتاج إلى البيان ، سيّما مع كثرة التعب فيه من جهة جمع الناس في يوم كان في غاية الحرّ وغير ذلك ، مع عدم انحصاره في عليّ علیه السلام لقوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (3). فالمراد هو الأولى بالتصرّف في أمور الناس مثل النبيّ في أمر النشأتين ، وهو معنى الإمامة.

وممّا ذكرنا ظهر وجه اندفاع ما أورد الشارح القوشجي من كون الخبر غير متواتر ، بل مقدوح في صحّته ؛ إذ القطعية ولو بالمعنى كافية ، وهكذا إيراده باحتمال إرادة الناصر والمحبّ ؛ لأنّ بيان مثل ذلك على الوجه المذكور موجب للسفاهة ولا أقلّ من التقبيح ، ولا يدفعه احتمال كون الغرض هو التنصيص على هذا ليكون أبعد من التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات ، وكونه أوفى بإفادة الشرف ؛ حيث قرن

ص: 266


1- المعارج (70) : 1.
2- « مسند أحمد بن حنبل » 6 : 401 ، ح 18506 ؛ « مجمع البيان » 3 : 274 ؛ « الخصال » 1 : 311 ، باب الخمسة.
3- التوبة (9) : 71.

بموالاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أنّ ذلك يقتضي كمال فضله المقتضي لإمامته كما لا يخفى.

وأمّا إيراده بأنّه لو سلّم أنّ المراد بالمولى هو الأولى فأين الدليل على أنّ المراد هو الأولى بالتصرّف والتدبير ، بل يجوز أن يراد الأولى في الاختصاص به والقرب منه كما قال اللّه تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) (1) ، وكما يقول التلامذة : نحن أولى بأستادنا ، والأتباع : نحن أولى بسلطاننا ؛ ولا يريدون الأولويّة في التدبير والتصرّف ، وحينئذ لا يدلّ الحديث على الإمامة؟

فجوابه أوّلا : أنّ سؤال النبيّ : « ألست أولى بكم من أنفسكم » ، وتفريع قوله : « فمن كنت مولاه » إلى آخره عليه صريح في أنّ المراد هو الأولى بالتصرّف على وجه لا سترة فيه إلاّ على الذين على أبصارهم غشاوة.

وثانيا : أنّ الأولى بمعنى الاختصاص ينسب إلى الداني بالنسبة إلى العالي ، كما في الأمثلة التي ذكرها هذا المتعصّب ؛ إذ يستقبح في العرف جعل العالي مختصّا بالداني كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ المراد من المولى بالنسبة إلى عليّ علیه السلام يجب أن يكون مثل ما هو المراد من المولى بالنسبة إلى النبيّ ؛ لكون أحدهما واقعا في الشرط والآخر في الجزاء ، ولا بدّ من التماثل معنى ليصحّ المجازاة ، ولا ريب أنّ المولى بالنسبة إلى النبيّ ليس إلاّ الأدنى التصرّف في أمر النشأتين فلا بدّ أن يكون المراد منه بالنسبة إلى عليّ علیه السلام أيضا ذلك بلا تفاوت لتتمّ المجازاة.

ورابعا : أنّ الأولى إذا أطلق يجب حمله على الجميع الشامل لمثل ما نحن فيه سيّما إذا كان مثل ما نحن فيه أظهر كما هو الواقع إلاّ إذا دلّ دليل على خلافه ، كما في بعض الأمثلة التي ذكرها هذا المعاند ؛ إذ التقييد لا بدّ له من دليل ، وهو في المقام مفقود.

ص: 267


1- آل عمران (3) : 68.

وخامسا : أنّ المتبادر من المولى هو السيّد المدبّر في الأمور ولو كان بسبب الكلام أو المقام ؛ لاستبعاد كون المراد بيان الاختصاص على الوجه الذي كان في غاية الصعوبة.

وأمّا إيراده بأنّه لو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المال ، لكن من أين يلزم نفي الأئمّة الثلاثة الباقية قبله؟.

فجوابه أوّلا : أنّ بيان المرتبة للأولى والثانية والثالثة أهمّ من بيان المرتبة الرابعة ، فلو كان للأوّل والثاني والثالث استحقاق لوجب بيانه ؛ إذ إهمال الأمر الواجب - الذي لا يستقيم أمر الدين إلاّ به بالنسبة إلى أوّل زمان الحيرة وهو زمان رحلته - مستلزم للإغراء بالجهل والرضى بحيرة الأمّة وترك إرشادهم مع أنّه مبعوث له ، مضافا إلى أنّ تارك الواجب سيّما مثل الواجب المذكور لا يستحقّ للنبوّة بل لما هو أدنى منها.

فإن قلت : إنّ المقصود بيان حال الرابع.

قلت : كان الواجب على تقدير كونه رابعا بيان حاله على ما هو حقّه ؛ لئلاّ يلزم ترك الواجب الآخر ، أعني بيان إمامة الأئمّة الثلاثة.

وثانيا : أنّ مراده لو كان ما ذكره لزم الإغراء بالجهل بالنسبة إلى حال عليّ علیه السلام ؛ إذ لم يبيّن مرتبته مع أنّه في غاية الاحتياج ؛ لأنّه كان رافعا للحيرة والاختلاف اللذين كان المقصود من البعثة رفعهما.

وثالثا : أنّ كلمة « الفاء » وإن كانت جزائيّة لكنّها تفيد التعقيب بلا مهلة أيضا.

[22] ومنها : قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (1) ؛ لما روي من أنّها نزلت بعد أن نصب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا للخلافة قبل أن يتفرّق الناس ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الربّ برسالتي أو بالولاية لعليّ من بعدي » ، ثمّ قال : « من كنت مولاه

ص: 268


1- المائدة (5) : 3.

فعليّ مولاه » (1) إلى آخره ، فتدلّ تلك الآية على حقيقة خلافة عليّ علیه السلام ، وأنّ ما عدا إمامة أمير المؤمنين من الواجبات - أصوليّة كانت أو فروعيّة - ليس مثلها ، وأنّها لو لم تكن لم يكن دين كامل ، وأنّها من أصول الدين لا أصول المذهب فقط.

[23] ومنها : قوله تعالى : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (2) ؛ لما روي عن مسند أحمد بن حنبل من أنّه على حين أذن بالآيات من سورة البراءة حين أنفذها النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أبي بكر وأتبعه بعليّ فردّه ومضى بها عليّ علیه السلام وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « قد أمرت أن لا يبلّغها إلاّ أنا أو واحد منّي » (3).

فيستكشف من هذا أنّ أبا بكر لم يكن قابلا لتبليغ تلك الآيات المعدودة ، فلا يكون قابلا لحفظ جميع أحكام شريعة النبيّ وتبليغها بطريق أولى ، وأنّ القابل هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، وعدم اختياره أوّلا إنّما هو لدفع توهّم أنّ غيره أيضا قابل ، وليس اختياره علیه السلام لدفع عدم الاعتناء بحميمه علیه السلام من جهة أخذ غير حميمه ميثاقه ، كما يتوهّم أنّه كان مقرّرا عند العرب وإلاّ لما كان ترك اختياره أوّلا وجه ؛ إذ لا يتصوّر اختفاء القاعدة المقرّرة في قوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليه لو كانت.

[24] ومنها : قوله تعالى : ( اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (4) ؛ لما روي عن الحسن البصري أنّ المراد من « المشكاة » فاطمة ، ومن « المصباح » الحسنان ، ومن « الزجاجة » فاطمة أيضا كأنّها بين النساء كوكب درّيّ ، و « من الشجرة المباركة »

ص: 269


1- « مجمع البيان » 3 : 274 ، ذيل الآية 3 من سورة المائدة (5).
2- التوبة (9) : 3.
3- « الطرائف » : 38 - 39.
4- النور (24) : 35.

إبراهيم (1) ، ومن « كونه لا شرقيّة ولا غربيّة » أنّه لا يهود يتمكّنون في الشرق أو يصلّون إليه ، ولا نصرانيّون يتمكّنون في الغرب أو يصلّون إليه ، ومن قوله : « يكاد زيتها يضيء » علم بلغ منه إلى غيره ، ومن قوله « نور على نور » إمام بعد إمام يكون باقيا إلى قيام القيامة ويهدي اللّه به الناس ، فإنّه إذا كان الإمام من ذرّيّة عليّ علیه السلام هاديا للناس ، يجب أن يكون خليفة ، ويلزم من ذلك كون عليّا علیه السلام خليفة بلا فصل ؛ إذ لا قائل بكون ذرّيّة عليّ علیه السلام إماما وعدم كونه علیه السلام إماما أو كونه إماما وخليفة مع الفصل.

وأيضا فإنّه أكمل وأفضل فهو أقدم.

وعن الصادق علیه السلام : أنّ المراد من « مثل نوره » قلب محمّد ، ومن « المصباح » نور علم النبوّة ، ومن « الزجاجة » قلب عليّ علیه السلام ؛ لأنّه في غاية الصفاء كوكب درّيّ ، ومن « الشجرة المباركة » عليّ بن أبي طالب علیه السلام ؛ فإنّه لا يهوديّ ولا نصرانيّ بالمعنى المذكور ، بل هو على ملّة إبراهيم حنيفا ، ومن قوله تعالى : ( يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) ظهور العلم من عالم من

آل محمّد صلی اللّه علیه و آله قبل أن يسأل ، ومن : « النور على النور » إمام بعد إمام (2).

وعن طلحة بن زيد عن مولانا الصادق علیه السلام عن أبيه علیه السلام في هذه الآية قال : « بدأ بنور نفسه تعالى ثمّ مثل نوره مثل هداه في قلب المؤمن » ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) المشكاة جوف المؤمن ، والقنديل قلبه ، والمصباح النور الذي جعله اللّه في قلبه ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال : الشجرة : المؤمن ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : على سواء الجبل لا غربيّة أي لا شرق لها ولا شرقيّة أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإن غربت غربت عليها ( يَكادُ زَيْتُها )

ص: 270


1- « الطرائف » : 135.
2- « معاني الأخبار » : 15 ؛ « التوحيد » : 157 - 158.

يعني يكاد النور الذي جعله اللّه فيه قلبه ( يُضِيءُ ) وإن لم يتكلّم ( نُورٌ عَلى نُورٍ ) فريضة على فريضة وسنّة على سنّة ( يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ) فهذا مثل ضربه اللّه للمؤمن.

ثمّ قال : فالمؤمن يتقلّب في خمسة من النور (1) : « مدخله نور ومخرجه نور وعلمه نور وكلامه نور ومسيره يوم القيامة إلى الجنّة نور ».

قلت لجعفر بن محمّد : جعلت فداك يا سيّدي إنّهم يقولون : مثل نور الربّ؟ قال : « سبحان اللّه ليس لله مثل ما قال اللّه تعالى : ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) (2) » (3). ونحو ذلك من الأخبار المبيّنة لباطن الآية الشريفة.

[25] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) (4) ؛ فإنّه روي عن أبي نعيم بإسناده إلى ابن عبّاس قال : نزلت في عليّ علیه السلام قال : والودّ محبّة في قلوب المؤمنين (5).

وعن تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ بن أبي طالب : « يا عليّ ، قل اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين محبّة » (6). فأنزل اللّه ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) فيكون عليّ أفضل من غيره من الصحابة فيكون هو الإمام.

[26] ومنها : قوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (7) ؛ لما روي عن

ص: 271


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : « الأنوار ».
2- النحل (16) : 74.
3- « تفسير القمّي » 2 : 103.
4- مريم (19) : 96.
5- « مجمع البيان » 6 : 454.
6- المصدر السابق : 455.
7- الواقعة (56) : 10.

أبي نعيم عن ابن عبّاس قال في هذه الآية : سابق هذه الأمّة عليّ بن أبي طالب كيوشع بن نون إلى موسى علیه السلام ، وحبيب النجّار إلى عيسى (1) علیه السلام ، فيكون عليّ أفضل ، فيكون خليفة الرسول صلی اللّه علیه و آله بلا فصل.

[27] ومنها : قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) (2) ؛ لما روي عن أبي نعيم عن أبي هريرة قال : مكتوب على ساق العرش : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، محمّد عبدي أيّدته بعليّ بن أبي طالب ، وذلك قوله تعالى في كتابه : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) يعني عليّ بن أبي طالب (3) ، وهذا من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره فيكون هو الإمام علیه السلام .

[28] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (4) ؛ لما روي عن أبي نعيم قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب علیه السلام وهذه فضيلة مقتضية لكونه علیه السلام خليفة الرسول صلی اللّه علیه و آله (5).

[29] ومنها : قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (6) ؛ لما روي عن الحافظ أبي نعيم عن ابن الحنفيّة قال : هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

وعن تفسير الثعلبي عن عبد اللّه بن سلام قلت : من هذا الذي عنده علم الكتاب؟

فقال صلی اللّه علیه و آله : إنّما ذلك عليّ بن أبي طالب (7). فيكون أفضل وهو الإمام.

[30] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (8) ؛

ص: 272


1- « تأويل الآيات الظاهرة » 2 : 641 ؛ « مجمع البيان » 9 : 359.
2- الأنفال (8) : 62.
3- « تأويل الآيات الظاهرة » 1 : 195 ؛ « تاريخ بغداد » 11 : 173.
4- الأنفال (8) : 64.
5- « تأويل الآيات الظاهرة » 1 : 196.
6- الرعد (13) : 43.
7- « مجمع البيان » 5 : 140.
8- التوبة (9) : 119.

لما روي عن أبي نعيم عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ (1) علیه السلام مضافا إلى أنّ معلوم الصدق ليس إلاّ المعصوم ؛ لاحتمال كذب غيره ، ولا معصوم من الأربعة إلاّ عليّ علیه السلام .

[31] ومنها : قوله تعالى : ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (2) ، لما روي بالإسناد السابق أنّها نزلت في رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّ خاصّة ، وهما أوّل من صلّى وركع (3) ، فيكون عليّ علیه السلام أفضل وإماما ورئيسا.

[32] ومنها : قوله تعالى : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (4) في مدح أهل البيت علیهم السلام ؛ لما روي عن مسند أحمد بن حنبل بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال : دخلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مسجده فذكرت عليه قصّة مؤاخاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين أصحابه فقال عليّ علیه السلام : « لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين فعلت بأصحابك ما فعلت غيري ، فإن كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى والكرامة » فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « والذي بعثني بالحقّ نبيّا ما أخّرتك إلاّ لنفسي فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي وأنت معي في قصري في الجنّة ومع ابنتي فاطمة ، وأنت أخي ورفيقي » (5) ، ولا شكّ أنّ المؤاخاة تستدعي المناسبة التامّة ، فلمّا اختصّ عليّ علیه السلام بمؤاخاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان هو الإمام.

[33] ومنها : قوله تعالى : ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) (6) ؛ لما حكي من إجماع المفسّرين على أنّ صالح

ص: 273


1- « الكافي » 1 : 229.
2- البقرة (2) : 43.
3- « تأويل الآيات الظاهرة » 1 : 53 ؛ « شواهد التنزيل » 1 : 85.
4- الحجر (15) : 47.
5- « تفسير فرات الكوفي » 1 : 227 ، ح 304.
6- التحريم (66) : 4.

المؤمنين هو عليّ علیه السلام (1).

وعن أبي نعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول اللّه يقرأ هذه الآية ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (3) ، واختصاصه بذلك يدلّ على أفضليّته المقتضية لخلافته وإمامته.

إلى غير ذلك من الآيات مثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (4) ؛ إذ المراد من أولي الأمر ليس إلاّ المعصوم ؛ إذ تفويض أمور المسلمين إلى غير المعصوم ترك اللطف الواجب على اللّه ، و [ هو ] قبيح عليه.

القسم الثاني من النصّ الخفيّ كان بطريق السنّة المنقولة عن النبيّ ، وهي عديدة :

[1] منها : حديث غدير خمّ المتواتر أو المتظافر ، وقد مرّ مشروحا مع ذكر إيرادات بعض المعاندين وأجوبتهما على وجه يزيل الريبة عن قلوب المنصفين.

[2] ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (5) ؛ لأنّ عموم المنزلة - كما يدلّ عليه الاستثناء المتّصل الذي لا يصحّ بدونه - يقتضي كونه خليفة له ؛ إذ من منازل هارون أنّه كان خليفة لموسى ووليّا في تدبير الأمر ورئيسا للعامّة ومفترض الطاعة ، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضا ، بل كان للخلافة حينئذ أولى.

وإذ قد صرّح بنفي النبوّة تكون الإمامة هي الباقية بعد الاستثناء والعامّ المخصوص حجّة في تمام الباقي ، كما حقّق في محلّه.

ص: 274


1- « مجمع البيان » 10 : 59.
2- التحريم (66) : 4.
3- « مجمع البيان » 10 : 60 - 61.
4- النساء (4) : 59.
5- « مسند أحمد بن حنبل » 1 : 361 ، ح 1464 و 375 ، ح 1532 و 391 ، ح 1608.

وكون الأخوّة من المنازل غير قادح ؛ إذ خروج ما هو معلوم الخروج لا ينافي دخول ما ليس كذلك ، مضافا إلى أنّ الحديث يشعر بأنّ عليّا كان قابلا للنبوّة لو كانت ممكنة بعد النبيّ حيث احتاج إلى نفيها.

وقد روي عن مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ علیه السلام - بعد أن جعله خليفة في المدينة عند إرادة غزوة تبوك وقال عليّ علیه السلام له صلی اللّه علیه و آله : « لا أرضى أن لا أكون معك » - : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟ » (1).

ولا ريب أنّ ذلك أيضا يدلّ على المطلوب ؛ إذ لو كان المراد مجرّد النيابة في حال الحياة لما كان للاستثناء المشتمل على الحكم بعد الوفاة وجه ، مع أنّه لم يعزله إلى زمان وفاته فيعمّ الأزمان والأمور ؛ لعدم القول بالفصل ، بل الحاجة إلى الخليفة بعد الوفاة أشدّ منه في حال الغيبة.

وبالجملة فحينئذ لا وجه لإنكار تواتر ذلك الحديث كما صدر عن بعض الأشقياء ؛ إذ الفضل ما شهد به الأعداء ، مضافا إلى أنّه قطعيّ بالتظافر لو لم يكن كذلك بالتواتر.

ومنع العموم من أفحش الأغلاط ؛ لمكان الاستثناء الذي هو حقيقة في المتّصل الذي لا يصحّ بدونه كما مرّ.

وادّعاء كون الإجماع على خلافه فاسد ؛ لما سيأتي إن شاء اللّه.

[3] ومنها : ما روي عن الجمهور بأجمعهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا حاصر خيبر بضعا وعشرين ليلة ، وكانت الراية لأمير المؤمنين فلحقه رمد أعجزه عن الحرب ، وخرج مرحب يتعرّض للحرب ، فدعا رسول اللّه أبا بكر فقال له : « خذ الراية » فأخذها في جمع من المهاجرين فاجتهد ولم يغن شيئا ورجع منهزما ، فلمّا كان من الغد تعرّض

ص: 275


1- تقدّم في الصفحة السابقة.

لها عمر فسار قليلا ثمّ رجع يجبّن أصحابه ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « جيئوني بعليّ » فقيل : إنّه أرمد ، فقال : « أرونيه ، تروني رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله ليس بفرّار » ، (1) فجاءوا بعليّ علیه السلام فتفل في يده ومسحها على عينه ورأسه فبرئ ، فأعطاه الراية ففتح اللّه على يديه وقتل مرحبا ، ولا شكّ أنّ توصيفه صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام بما ذكر يقتضي بقرينة المقام على انتفاء ما ذكر في غيره ، فيكون هو الأفضل ، فيكون هو الإمام.

[4] ومنها : ما روي عن أنس قال : لمّا كان يوم المباهلة وآخى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين المهاجرين والأنصار وعليّ واقف يراه ويعرف مكانه ، ولم يؤاخ بينه وبين أحد ، فانصرف عليّ باكي العينين ، فافتقده النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : « ما فعل أبو الحسن؟ » قالوا : انصرف باكي العينين.

قال : « يا بلال اذهب فأتني به » فمضى إليه قد دخل منزله باكي العينين ، فقالت فاطمة : « ما يبكيك لا أبكى اللّه عينيك؟ » قال : « آخى النبيّ مع المهاجرين والأنصار وأنا واقف يراني ويعرف مكاني لم يؤاخ بيني وبين أحد » ، قالت : « لا يحزنك اللّه لعلّه إنّما أخّرك لنفسه » ، فقال بلال : يا عليّ ، أجب النبيّ ، فأتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : « ما يبكيك يا أبا الحسن؟ » قال : « آخيت بين المهاجرين والأنصار يا رسول اللّه ، وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخ بيني وبين أحد » ، قال : « إنّما أخّرتك لنفسي ألا يسرّك أن تكون أخا نبيّك؟ » قال : « بلى يا رسول اللّه أنّى لي بذلك؟ ».

فأخذ بيده فأرقاه المنبر ، فقال : « اللّهمّ إنّ هذا منّي وأنا منه إلاّ أنّه بمنزلة هارون من موسى ، ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » (2) ، فانصرف عليّ قرير العين فأتبعه عمر ، فقال : بخّ بخّ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم (3).

ص: 276


1- « مسند أحمد بن حنبل » 1 : 214 ، ح 778 ؛ « سنن ابن ماجه » 1 : 43 ، ح 117 ، المقدّمة.
2- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 211 و 213 ؛ « عمدة عيون صحاح الأخبار » لابن البطريق 1 : 215 ، الفصل 19 ، ح 269 - 271 ؛ « الجامع الصحيح » 5 : 636 ، كتاب المناقب ، ح 3720.
3- « تاريخ بغداد » 8 : 290.

ولا شبهة أنّ المؤاخاة سيّما على الوجه المذكور تدلّ على الأفضليّة فيكون هو الإمام.

[5] ومنها : ما روي عن الجمهور كافّة أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أتي بطائر ، فقال : « اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليّ يأكل معي من هذا الطائر » فجاء عليّ فدقّ الباب ، فقال أنس بن مالك : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله على حاجة ، فرجع ، ثمّ قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما قال أوّلا ، فدقّ علي علیه السلام الباب ، فقال أنس : أولم أقل لك : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله على حاجة؟ فرجع ، ثمّ قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما قال في الأوليين ، فجاء عليّ علیه السلام فدقّ الباب أشدّ من الأوليين فسمعه النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وقد قال له أنس : إنّه على حاجة - فأذن له بالدخول فقال : « يا عليّ ، ما أبطأك عنّي؟ » قال : « جئت فردّني أنس ثمّ جئت فردّني ثمّ جئت فردّني » فقال : « يا أنس ما حملك على هذا؟ » فقال : رجوت أن يكون الدعاء لأحد من الأنصار ، فقال : « يا أنس أو في الأنصار خير من عليّ؟ أو في الأنصار أفضل من عليّ؟ » (1) فإذا كان عليّ أحبّ الخلق إلى رسول اللّه أو إلى اللّه - على نسخة « إليك » مكان « إليّ » - كان أفضل فيكون هو الإمام.

[6] ومنها : قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين » (2).

ووجهه : أنّ ضربته يومئذ كانت سببا لاستحكام أمر الدين.

[7] ومنها : ما روي عن الجمهور من أنّه صلی اللّه علیه و آله أمر أصحابه بأن يسلّموا على عليّ علیه السلام بإمرة المؤمنين وقال : « إنّه سيّد المسلمين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين » (3) ، وقال : « هذا وليّ كلّ مؤمن بعدي » (4) ، وقال : « إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة » (5) ، وكلّ ذلك دليل على المطلوب.

ص: 277


1- « الجامع الصحيح » 5 : 636 - 637 ، كتاب المناقب ، باب 21 ، ح 3721 ؛ « المناقب » لابن المغازلي » : 164 - 176.
2- « التفسير الكبير » 11 : 231 ذيل الآية 3 من سورة القدر.
3- « المناقب » لابن المغازلي : 131 ، ح 146.
4- المصدر السابق : 211 ، ح 276.
5- المصدر السابق : 207 - 208 ، ح 270.

[8] ومنها : ما روي عن الجمهور من قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (1).

وقال : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » (2) ، فيجب التمسّك بقول أهل بيته وسيّدهم عليّ علیه السلام فيكون واجب الطاعة على الكلّ ، فيكون هو الإمام دون غيره من الصحابة.

[9] ومنها : ما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال لعليّ علیه السلام : « يا عليّ ، إنّي رأيت اسمك مقرونا في ثلاثة (3) مواطن فأنست بالنظر إليه : إنّي لمّا بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرتها : لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره ، فقلت لجبرئيل : من وزيري؟ فقال : عليّ بن أبي طالب.

فلمّا انتهيت إلى سدرة المنتهى وجدت مكتوبا عليها : إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا وحدي محمّد صفوتي من خلقي ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره ، فقلت لجبرئيل : من وزيري؟ فقال : عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

فلمّا جاوزت السدرة انتهيت إلى عرش ربّ العالمين جلّ جلاله فوجدت مكتوبا على قوائمه : إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا وحدي محمّد حبيبي ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره » (4).

إلى غير ذلك من الأخبار المفيدة بتظافرها القطع بما هو المقصود من خلافة عليّ بن أبي طالب علیه السلام بلا فصل للرسول صلی اللّه علیه و آله مضافا إلى الأدلّة المستنبطة من أحواله الدالّة على إمامته وخلافته بلا فصل.

ص: 278


1- المصدر السابق : 214 ، ح 281.
2- المصدر السابق : 148 ، 149 ، ح 173 و 175.
3- في المصدر : « أربعة ».
4- « الخصال » : 207 ، باب الأربعة ، ح 26.
فصل [3] : في الأعلميّة
اشارة

بمعنى أنّ عليّ بن أبي طالب كان أعلم أهل عصره في الأحكام والأديان والأحوال وغيرها.

والمراد أنّه علیه السلام كان أعلم الناس بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لكونه في غاية الذكاء والفطنة ، شديد الحرص على التعلّم ، ولازم رسول اللّه الذي هو أكمل الناس وأولاهم تعليما ليلا ونهارا من صغره إلى زمان وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وإذا كان القائل كاملا والفاعل تامّا يكون التأثير بلا نقصان كما قال صلی اللّه علیه و آله : « أقضاكم عليّ » (1) ، و « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » (2).

وقال حين نزل ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (3) : « اللّهمّ اجعلها أذن [ عليّ ] (4) » ، (5) وقال علیه السلام : « ما نسيت بعد ذلك شيئا » (6).

وقال علیه السلام : « علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم وانفتح لي من كلّ باب ألف باب » (7).

وقال علیه السلام : « لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم - أو - فاتحة الكتاب » (8) على اختلاف نسخ الكتاب.

ص: 279


1- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 41 ، فصل في المسابقة بالعلم.
2- « المناقب » لابن المغازلي : 116 ، ح 121.
3- الحاقّة (69) : 12.
4- الزيادة أثبتناها من المصدر.
5- « مجمع البيان » 10 : 107 ، ذيل الآية 12 من سورة الحاقّة (69).
6- « التفسير الكبير » 30 : 107 ، ذيل الآية 12 من سورة الحاقّة (69).
7- « بصائر الدرجات » : 303 - 304.
8- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 53 ، في المسابقة بالعلم.

وعن الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : « أعلم أمّتي بعدي عليّ بن أبي طالب » (1) ، وقال : « قسمت الحكمة على عشرة أجزاء فأعطي عليّ تسعة وللناس جزء واحد » (2).

وقد نقل أنّ عالما من اليهود مرّ به علیه السلام فتعجّب من فصاحته ، وقال : لو أنّك تعلّمت الفلسفة ، لكان يكون منك شأن من شأن ، فقال علیه السلام : « ما تعني بالفلسفة؟ أليس من اعتدل طباعه صفا مزاجه ، ومن صفا مزاجه قوي أثر النفس فيه ، ومن قوي أثر النفس فيه سما إلى ما يرتقيه ومن سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانيّة ، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانيّة فقد صار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، فقد دخل في باب الملكي الصوري وليس له غير هذه الغاية » (3) ، فزادت حيرة اليهودي فقال : اللّه أكبر يا بن أبي طالب فقد نطقت بالفلسفة جميعا بهذه الكلمات رضي اللّه عنك.

بل جميع العلوم مستفادة منه علیه السلام : أمّا النحو فهو واضعه (4).

وأمّا الفقه فما للإماميّة بل لقاطبة الشيعة يكون منتهيا إليه علیه السلام وما لغيرهم أيضا كذلك ؛ لما قيل من أنّ أحمد بن حنبل أخذه من الشافعي ، وهو من أبي حنيفة ، وهو من الصادق ، ولا شبهة أنّ علم الصادق منه علیه السلام وأنّ مالكا أخذه من ربيعة الرازي وهو من عكرمة وهو من عبد اللّه بن عبّاس وهو منه علیه السلام .

وأمّا الكلام فلأنّ العامّة بل كلّ الشيعة أخذوا منه ، والمعتزلة انتسبوا إلى واصل بن عطاء وهو تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفيّة ، وهو تلميذ أبيه ، وهو تلميذ عليّ والأشعريّة تلامذة أبي الحسن عليّ بن أبي بشر الأشعري ، وهو تلميذ أبي علي الجبائي وهو شيخ من مشايخ المعتزلة. كذا قيل.

ولا بدّ من دفع ما يرد من أنّ المذهبين الأخيرين فاسدان ، فكيف يصحّ كونهما

ص: 280


1- المصدر السابق : 40.
2- المصدر السابق : 40.
3- « الصراط المستقيم » 1 : 213 ، الفصل 18.
4- « الخصائص » 3 : 309 - 310.

مستندي لان إلى منبع الحقّ بأنّ الحقّ الصادر منه علیه السلام أنّ إرادة الحقّ علّة بعيدة للأفعال وإرادة العبد علّة قريبة لها ووقوع الفعل موقوف عليهما ، كما أخبر الصادق من أهل البيت حيث قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » (1). ولكن الأشعريّة قصّروا فقصروا النظر على العلّة البعيدة فقالوا بالجبر ، والمعتزلة قصّروا فقصروا النظر على العلّة القريبة ، فقالوا بالتفويض فالتقصير من القابل بل لا من الفاعل.

ومثل ذلك انتساب علم الطريقة وهو علم التصوّف إليه علیه السلام .

وأمّا علم التفسير فإليه منسوب ؛ لأنّ ابن عبّاس كان تلميذه فيه كما روي عنه أنّه قال : حدّثني أمير المؤمنين في تفسير الباء من ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من أوّل الليل إلى آخره (2).

وأمّا علم الفصاحة فهو منبعه حتّى قيل في كلامه : إنّه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق. ويشهد عليه نهج البلاغة وغيرها.

ويدلّ على أعلميّته ما حكي أنّ عمر قال في اثنين وسبعين موضعا : « لو لا عليّ لهلك عمر » (3) ، كما هو مسطور في بعض كتب العامّة بعد أن ردّه عليّ علیه السلام عن القضاء بالباطل الذي أراده أن يفعله جهلا ولعلّه ستأتي إلى بعضها الإشارة.

وممّا يدلّ عليه أنّه جاء إليه شخصان كان مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة ، فجلسا يأكلان فجاءهما ثالث وشاركهما ، فلمّا فرغوا رمى لهما ثمانية دراهم فطلب صاحب الأكثر خمسة فأبى عليه صاحب الأقلّ فتخاصما ورجعا إلى عليّ علیه السلام فقال : « قد أنصفك » فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ حقّي أكثر وأنا أريد مرّ الحقّ ، فقال : « إذا كان كذلك فخذ درهما واحدا وأعطه الباقي » (4).

ص: 281


1- « التوحيد » : 206 باب أسماء اللّه تعالى ، ح 10.
2- « كشف اليقين » : 59.
3- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 403 - 405.
4- « الصواعق المحرقة » : 129 ، باختلاف.

وأنّه واقع مالكان جارية لهما جهلا في طهر واحد فحملت فأشكل الحال فترافعا إليه علیه السلام فحكم بالقرعة فصوّبه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : « الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود » (1) يعني القضاء بالإلهام.

وأنّه ركبت جارية جارية أخرى فنخستها (2) ثالثة فوقعت الراكبة فماتت فقضى بثلثي ديتها على الناخسة والقامصة (3) وصوّبه النبيّ (4) صلی اللّه علیه و آله .

وأنّه قتلت بقرة حمارا فترافع المالكان إلى أبي بكر فقال : بهيمة قتلت بهيمة لا شيء على ربّها ، ثمّ مضيا إلى عمر فقضى بذلك أيضا ، ثمّ مضيا إلى عليّ علیه السلام فقال : « إن كانت البقرة دخلت على الحمار في منامه فعلى ربّها قيمة الحمار لصاحبه ، وإن كان الحمار دخل على البقرة في مأمنها فقتلته فلا غرر على صاحبها » فقال النبيّ : « لقد قضى عليّ بن أبي طالب بينكما بقضاء اللّه عزّ وجلّ (5).

وأنّه جيء بشارب الخمر إلى أبي بكر فأمر بحدّه ، فقال الرجل : إنّي تعيّشت في جمع يعتقدون بحلّية الشراب ، ولم أكن عالما بحرمته ، فتحيّر أبو بكر فأرشده بعض الأصحاب إلى عليّ ، فأرسل إليه علیه السلام : فقال علیه السلام : « قل لأبي بكر : أرسل مع الشارب رجلين إلى مجالس المهاجرين والأنصار هل قرئ عليه آية تحريم الخمر أو أخبر به أم لا؟ فإن شهدا على الأوّل حدّ الرجل وإلاّ فلا » (6) ففعل فكان الرجل صادقا في دعواه فنجا عن الحدّ الذي لم يكن مشروعا.

وأنّه قال رجل لآخر إنّي احتلمت على أمّك فتخاصما ، فأمر أبو بكر بالحدّ فقيل

ص: 282


1- « الإرشاد » للمفيد 1 : 195 ، قضاء عليّ علیه السلام في اليمن.
2- نخست بمعنى غرزت جنبها أو مؤخّرها بعود أو نحوه.
3- القامصة : النافرة الضاربة برجلها. انظر « لسان العرب » 7 : 3. « قمص ».
4- « الإرشاد » للمفيد 1 : 196.
5- المصدر السابق : 198.
6- « بحار الأنوار » ، 40 : 298 ، ح 73.

له : لا بدّ من التأمّل فتحيّر ، فرجعوا إلى عليّ علیه السلام فقال : « النوم كالظلّ فإن أرادوا أقاموا الرجل في الشمس وحدّوا على ظلّه ولكن لا بدّ من تهديد الرجل لئلاّ يعود إلى مثل ذلك من الإيذاء » (1) ، وإلى غير ذلك من القضايا.

وأنّه جيء بقاتل ولد شخص إلى عمر فدفعه إلى وارثه فضربوه إلى أن زعموا أنّه قتل ، ولكنّه ما مات فبعد صحّته خرج من بيته فجاءوا به إلى عمر ، فأمر بقتله فأرسل القاتل إلى عليّ علیه السلام فمنع علیه السلام عمر ، فسأل الوارث ضياع دم ولده ، فقال علیه السلام : « كما أنّ لك عليه حقّا كذلك له عليك حقّ الضرب والجرح ، فاصبر حتّى يضربك ويجرحك ، فإذا صرت صحيحا فاقتله » ، فعفا الوارث وصالح حقّه مع حقّ القاتل ، فقال عمر : الحمد لله أرسلكم أهل البيت لهداية الناس ، لو لا عليّ لهلك عمر (2).

وأنّه أمر عمر برجم الحاملة من الزنى فمنعه عليّ علیه السلام لقوله تعالى : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (3) ، وقال علیه السلام : « اصبر حتّى تضع الحمل ووجد من يكفله فارجمها » ، فلمّا وضعته ماتت ولمّا أخبر عمر بذلك ، قال : « لو لا عليّ لهلك عمر » (4).

وأنّ عمر أمر برجم امرأة سافر زوجها ، وولدت بعد ستّة أشهر فمنعه عليّ علیه السلام لقوله تعالى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (5) ، فرضي الرجل والمرأة فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر (6).

وأنّه أمر عمر بجلد خمسة رجال وامرأة فمنعه عليّ علیه السلام فأمر بقتل الأوّل وجلد الثاني ورجم الثالث ونصف الحدّ على الرابع وثلاث لطمات على الخامس ، فتحيّر

ص: 283


1- « علل الشرائع » 2 : 264 ، الباب 333.
2- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 408 ، في ذكر قضاياه علیه السلام في عهد عمر.
3- الإسراء (17) : 15 ؛ فاطر (35) : 18.
4- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 404.
5- البقرة (2) : 233.
6- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 407 ؛ « إرشاد القلوب » للديلمي 2 : 213.

عمر فسأل الناس عليّ عن السبب فقال علیه السلام : إنّ الأوّل يهوديّ وقد أفسد في دينه فيجب قتله ، والثاني زان فيجب جلده ، والثالث محصن فيجب رجمه ، والرابع عبد فينتصف حدّه ، والخامس مجنون فيجب تأديبه (1) ، فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر.

إلى غير ذلك من القضايا.

وأنّه أرسل في عهد عثمان تاجر ولده وعبده إلى الكوفة للتجارة وكانا متشابهين سنّا وشكلا وقامة ، فادّعى العبد من شدّة الخدمات كونه مولى ، فترافعا إلى الحكّام فتحيّروا ، فجاء إلى عليّ علیه السلام فأمر قنبرا أن يعمل روزنتين في جدار ففعل ، فأمر المتخاصمين أن يخرجا رءوسهما من الروزنتين ففعلا ، فأمر قنبرا بضرب عنق العبد ، فلمّا حرّك السيف جرّ العبد رأسه إلى العقب فامتاز من المولى فأدّب علیه السلام العبد لما فعل. (2)

وأنّه جاء رجل من الروم إلى معاوية فسأله عن أشياء ، منها عن شيء لا شيء فتحيّر ، فأرسل بمشاورة عمرو بن العاص فرسا إلى جنود الإمام عليّ علیه السلام قائلا لقائده : إنّ ثمنه شيء لا شيء إذا سئل بكم الفرس فأمر علیه السلام قنبرا بشراء الفرس وإراءة السراب لصاحبه عند الضحى ؛ متمسّكا بقوله تعالى : ( يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) (3) ، فتعلّم معاوية فأسكت السائل بل ملك الروم. ونحو ذلك من القضايا الدالّة على كمال علمه وتفوّقه فيه على غيره ، المستلزمة للأفضليّة المقتضية للخلافة والإمامة. (4)

ومنها : أنّه كان أزهد الناس بعد النبيّ حتّى طلّق الدنيا ثلاثا وقال : « يا دنيا إليك عنّي أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ ، هيهات هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيك : فعيشك قصير وخطرك يسير وأملك حقير ، آه آه من

ص: 284


1- « الكافي » 7 : 265 ، باب النوادر ، ح 26 ؛ « تهذيب الأحكام » 10 : 50 ، ح 188.
2- « الكافي » 7 : 425 ، باب النوادر ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » 6 : 307 - 308 ، ح 851.
3- النور (24) : 39.
4- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 425 - 426.

قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظم المورد » (1).

وعن بعض الروايات « وخشونة المضجع » (2). مع قدرته عليها لاتّساع أبوابها عليه ، وكان قوته جريش الشعير ، وكان يختمه لئلاّ يضع [ أحد ] فيه إداما ، وكان يلبس خشن الثياب ، وكان نعله من ليف ، وقلّ أن يأتدم فإن فعل فبالملح أو الخلّ ، فإن ترقّى فنبات الأرض وإن ترقّى فبلبن ، وكان لا يأكل اللحم إلاّ قليلا ، ويقول : « لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات » (3).

ومنها : أنّه كان أعبد الناس ، وكان لا يلتفت إلى غير اللّه حين العبادة حتّى استخرج من جسده حالة الصلاة النصل الذي لم يكن إخراجه قبلها ممكنا ، وكان يصلّي في نهاره وليلته ألف ركعة ، ولم يخل في صلاة الليل حتّى في ليلة الهرير ، وعتق ألف عبد بكسبه ، وكان يرقب الشمس في حربه فقيل له : ما ذا تصنع؟ فقال : « أنظر إلى الزوال لأصلّي » فقيل : في هذا الوقت؟! فقال : « إنّما نقاتلهم على الصلاة » (4).

وروي أنّ جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده.

ومنها : كان أحلم الناس حتّى أوصى إلى الحسن علیه السلام أن لا يضرب على ابن ملجم أكثر من ضربة ، ويعطي من المأكل ما كان يأكل علیه السلام ، وعفا عن كثير من أعدائه ، ولمّا حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوا من الماء ، فلمّا اشتدّ عطش أصحابه حمل عليهم وفرّقهم وهزمهم وملك الشريعة ، فأراد أصحابه أن يفعلوا ذلك بهم ، وقال : « افسحوا لهم عن بعض الشريعة » (5).

ومنها : أنّه كان أشجع الناس ، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام ، وما انهزم في موطن

ص: 285


1- « نهج البلاغة » : 666 ، الرقم 77.
2- « بحار الأنوار » 40 : 345 ، ح 28.
3- « شرح نهج البلاغة » ، لابن أبي الحديد 1 : 26.
4- « إرشاد القلوب » للديلمي 2 : 217.
5- « بحار الأنوار » 41 : 145.

قطّ. وقد نقل عن صعصعة في جواب معاوية أنّه قال : إنّه كان فينا كأحدنا يأكل معنا ويشرب ويجيبنا إلى ما ندعو ، وكان في غاية التواضع ومع ذلك كنّا نهابه مهابة الأمير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه. وورد فيه : « أنّه إذا علا قدّ وإذا وسط قطّ » ومحارباته التي نزل في بعضها « والعاديات ».

ومنها : قلع [ باب ] خيبر وغيره ممّا لا يمكن أن يصدر من غيره ، ولا ينكره مخالف وموافق.

ومنها : إخباره بالغيب ولو قبل تحقّقه ، كإخباره بأنّه يقتل في شهر رمضان ، وإخباره بقتل ذي الثدية ؛ لمّا لم يجده أصحابه بين القتلى فتفحّصوا فكان كذلك ، وإخباره بعدم عبور أهل النهروان ، لمّا أخبره أصحابه بالعبور مرّتين وكان كذلك ، وإخباره بملك بني العبّاس وأخذ الترك الملك منهم ، ونحو ذلك من المغيّبات.

ومنها : أنّه كان مستجاب الدعوة. روي أنّه دعا على زيد بن أرقم بالعمى فعمي.

ومنها : رجوع الشمس له مرّتين :

إحداهما : في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين تغشّاه الوحي وتوسّد فخذ أمير المؤمنين ، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشمس فصلّى عليّ علیه السلام العصر بالإيماء ، فلمّا استيقظ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : « سل اللّه يردّ عليك ، لتصلّي العصر قائما » (1).

والأخرى : بعده صلی اللّه علیه و آله حين أراد أن يعبر الفرات ببابل واشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابّهم. وصلّى بنفسه في طائفة من أصحابه العصر ، وفاتت كثيرا منهم ، فتكلّموا في ذلك ، فسأل اللّه ردّ الشمس فردّت. (2)

ومنها : أنّه كان أسخى الناس كما يشهد عليه ما سبق من بيان شأن نزول سورة ( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ) (3) ، وآية ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ... ) (4).

ص: 286


1- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 317.
2- « إرشاد القلوب » للديلمي 2 : 227 - 228.
3- الإنسان (76) : 1.
4- المائدة (5) : 55.

ومنها : أنّه كان أفضل ؛ لكثرة جهاده وعظم بلائه في وقائع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأجمعها ، ولم يبلغ أحد درجته في غزوة بدر ، حيث قتل بنفسه نصف المشركين ، وقتل النصف الآخر غيره من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين ، وفي غزوة أحد حيث قتل تسعة نفر من أصحاب الراية واحدا بعد واحد ، فانهزم المشركون ، واشتغل المسلمون بالغنائم ، فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتّى غشي عليه ، فانهزم الناس عنه سوى عليّ علیه السلام فينظر النبيّ صلی اللّه علیه و آله إليه بعد إفاقته وقال له : « اكفني هؤلاء » (1) ، فهزمهم عنه فكان أكثر المقتولين منه.

وفي يوم الأحزاب حيث قتل عمرو بن عبد ود وأحكم بنيان الإيمان ، وغير ذلك من الوقائع المأثورة والغزوات المشهورة ، فيكون عليّ علیه السلام أفضل ؛ لقوله تعالى : ( فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) (2) فيكون هو الإمام لا غيره ؛ لقبح ترجيح المفضول والجاهل ، ولكن مثله علیه السلام - كما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - مثل عيسى حيث أبغضه اليهود ، وقال النصارى في حقّه ما ليس حريّا له من كونه إلها (3) ، فإنّ الغلاة قالوا بإلهيّته علیه السلام ، والنواصب أبغضوه ، وغيرهم من العامّة خذلوه ؛ ولهذا قال علیه السلام - كما روي عنه - : « الدهر أنزلني أنزلني حتّى قيل : معاوية وعلي » (4). ونعم ما حكي عن الشافعي من أنّه قال :

أنا عبد لفتى أنزل فيه هل أتى *** إلى متى أكتمه أكتمه إلى متى (5)

وبالجملة إن أردنا بيان أوصافه يعجز اللسان عن تقريرها ويكلّ لسان القلم عن

ص: 287


1- « الإرشاد » للمفيد 1 : 82 ؛ « كشف المراد » : 382.
2- النساء (4) : 95.
3- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 219 ؛ « الفردوس بمأثور الخطاب » 5 : 319 ، الرقم 8309.
4- انظر في هذا المعنى : « بحار الأنوار » 33 : 87.
5- « روضة الواعظين » 2 : 131 ، مجلس في ذكر فضائل أمير المؤمنين.

تحريرها ، كما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ولو أنّ الرياض أقلام والبحر مداد والجنّ حسّاب والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (1) ، ونحن لا نثني ثناء عليه وهو علیه السلام كما أثنى على نفسه بقوله المرويّ عنه علیه السلام : « جميع ما في الكتب السماوية في القرآن ، وجميع ما في القرآن في الفاتحة ، وجميع ما في الفاتحة في بسم اللّه ، وجميع ما في بسم اللّه في باء بسم اللّه ، وجميع ما في باء بسم اللّه في نقطة الباء وأنا النقطة » (2).

وقد ينسب إليه علیه السلام أنّه قال : « أنا آدم الأوّل ، أنا نوح الأوّل ، أنا آية الجبّار ، أنا حقيقة الأسرار ، أنا مورق الأشجار ، أنا مونع الثمار ، أنا مفجّر العيون ، أنا مجري الأنهار - إلى أن قال - : أنا الأسماء الحسنى التي أمر اللّه أن يدعى بها ، أنا ذلك النور الذي اقتبسه موسى من الهدى ، أنا صاحب الصور ، أنا مخرج من في القبور ، أنا صاحب يوم النشور ، أنا صاحب نوح ومنجيه ، أنا صاحب أيّوب المبتلى وشافيه ، أنا أقمت السماوات بأمر ربّي » (3) ، وقال : « أنا الذي لا يتبدّل القول لديّ ، وحساب الخلق إليّ » (4).

وقال : « أنا أقيم القيامة ، أنا مقيم الساعة ، أنا الواجب له من اللّه الطاعة ، أنا الحي الّذي أموت وإذا مت لم أمت ، أنا سرّ اللّه المخزون ، أنا العالم بما كان وما يكون ، أنا صلاة المؤمنين وصيامهم ، أنا مولاهم وإمامهم ، أنا صاحب النشر الأوّل والآخر ، أنا صاحب المناقب والمفاخر ، أنا صاحب الكواكب ، أنا عذاب الواجب ، أنا مهلك الجبابرة الأولى ، أنا مزيل الأوّل ، أنا صاحب الزلازل والرجف ، أنا صاحب الكسوف والخسوف - إلى أن قال - : أنا الطور ، أنا الكتاب المسطور ، أنا البيت المعمور ، أنا الذي بيده مفاتيح الجنان ومقاليد النيران ، أنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الأرض والسماء ، أنا المسيح حيث لا روح يتحرّك ولا نفس تنفّس غيري ، أنا صاحب القرون الأولى ،

ص: 288


1- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 231 ؛ « المناقب » للخوارزمي : 32 ، ح 2 ؛ « ينابيع المودّة » : 143.
2- « مصابيح الأنوار » 1 : 435 ، ح 84.
3- لم نعثر على من نسب هذا القول لأمير المؤمنين علیه السلام .
4- لم نعثر على من نسب هذا القول لأمير المؤمنين علیه السلام .

أنا الصامت ومحمّد صلی اللّه علیه و آله الناطق ، أنا جاوزت بموسى في البحر وأغرقت فرعون وجنوده ، أنا أعلم هماهم البهائم ومنطق الطير ، أنا الذي أحرز السماوات السبع والأرضين السبع في طرفة عين ، أنا المتكلّم على لسان عيسى في المهد ، أنا الذي يصلّي عيسى خلفي - إلى أن قال - : أنا محمّد ومحمّد أنا - إلى أن قال - : أنا صاحب سيل العرم ، أنا صاحب عاد والجنّات ، أنا صاحب ثمود والآيات ، أنا مدمّرها ، أنا منزلها ، أنا مرجعها ، أنا مهلكها ، أنا مدبّرها ، أنا بانيها ، أنا داحيها ، أنا مميتها ، أنا محييها ، أنا الأوّل ، أنا الظاهر ، أنا الباطن ، أنا مع الكور قبل الكور ، أنا مع الدور قبل الدور ، أنا مع القلم قبل القلم ، أنا مع اللوح قبل اللوح » (1) ، إلى غير ذلك من الأوصاف علیه السلام .

وقد روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « الصراط [ صراطان : ] صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، فأمّا صراط الدنيا فهو عليّ بن أبي طالب ، وأمّا صراط الآخرة فهو صراط جهنّم ، من عرف صراط الدنيا جاز على صراط الآخرة » (2).

هذا مضافا إلى أنّ غيره غير صالح للإمامة ؛ لصدور قبائح فضيحة منهم سوى الكفر والظلم السابقين.

منها : أنّه خالف أبو بكر وأخواه كتاب اللّه في منع إرث الرسول لخير موضوع ؛ إذ لو كان حقّا لكان أهل البيت أدرى به ، ولما عارضوه (3).

وقد روي عن العامّة أنّ فاطمة خرجت من الدنيا وهي ساخطة على الشيخين ،

ص: 289


1- « مشارق أنوار اليقين » : 170 - 171 ، وذكر بعض ألفاظ الرواية.
2- « تأويل الآيات » 1 : 29 ، وفي بعض الروايات : « فأنا صراط الدنيا ... » وفي بعضها : « الصراط المستقيم أمير المؤمنين علیه السلام » كما في « معاني الأخبار » :2. 33 باب معنى الصراط. وانظر « تفسير نور الثقلين » 5 :2. 22 ؛ « تفسير الصافي » 1 : 72 - 73 ؛ « تفسير كنز الدقائق » 1 : 69 - 72.
3- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 265 - 270 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 16 : 212 ؛ « صحيح مسلم » 3 : 1380 كتاب الجهاد ، ح 52 ؛ « صحيح البخاري » 3 : 1126 أبواب الخمس ، ح 2926.

وهذا يدلّ على إيذائهما لها ، وقد روي عنهم عن الرسول أنّ إيذاءها إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ، وإيذاء النبيّ إيذاء اللّه ، وهو كفر ومباشره ملعون كما في القرآن (2).

ومنها : تخلّف الثلاثة عن جيش أسامة مع أمر النبيّ أن ينفذوا (3).

ومنها : جهلهم بالأحكام كما أشرنا إليه (4).

ومنها : إرادة بيت أمير المؤمنين وضرب الباب على بطن فاطمة حتّى ألقت جنينا (5).

ومنها : حكم عمر بغير ما أنزل اللّه ، كما مرّ سابقا (6).

ومنها : أنّه خرّق كتاب فاطمة حين ردّ أبو بكر عليها فدك ، وكتب لها كتابا ، وقصّت لعمر قصّتها فأخذه حيلة وخرّقه (7).

ومنها : أنّه ولى عثمان الوليد في أمر المسلمين ، وقد ظهر منه شرب الخمر ، وصلّى بالناس وهو سكران (8).

ومنها : أنّه ضرب عمّارا حتّى أصابه فتق ، وضرب أبا ذرّ وأرسله إلى الربذة (9).

ومنها : أنّه أسقط القود عن ابن عمر وقد قتل الهرمز ، إلى غير ذلك من المعايب

ص: 290


1- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 270 ؛ « الإمامة والسياسة » 1 : 13 - 14.
2- الأحزاب (33) : الآية 57.
3- « السيرة الحلبيّة » 3 : 228 ؛ « الملل والنحل » 1 : 22 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 1 : 159 - 161 ؛ « الطرائف » 2 : 449 ؛ « الشافي » 4 : 144.
4- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 276 - 280 ؛ « الطرائف » 2 : 471 - 474 ؛ « الشافي » 4 : 157 - 158.
5- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 271 ؛ « الاحتجاج » 1 : 209 - 212 ؛ « الملل والنحل » 1 : 57 ؛ « إثبات الوصيّة » : 154 - 155.
6- مرّ في ص 283.
7- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 16 : 274 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 365 ، الرقم 231.
8- « الإصابة في تمييز الصحابة » 6 : 322 ، الرقم 9148 ؛ « الاستيعاب » 4 : 1554 ، الرقم 2721 ؛ « الأعلام » للزركلي 8 : 122.
9- « إثبات الهداة » 4 : 367 ، الرقم 244 - 245 ؛ « الشافي » 4 : 288 - 290 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 3 : 55.

الموجبة لعدم القابلية لتولية حكم من الأحكام فضلا عن جميعها (1).

[ فيما قاله القوشجي من أفضليّة غيره والجواب عنه ]

والشارح القوشجي قال بعد أن ذكر المحقّق مناقب مولانا عليّ علیه السلام : « وأجيب بأنّه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتّصافه علیه السلام بالكمالات واختصاصه بالكرامات إلاّ أنّه لا يدلّ على الأفضليّة - بمعنى الزيادة في الثواب والكرامة - بعد ما ثبت من الاتّفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضليّة أبي بكر ثمّ عمر ، ودلالة الكتاب والسنّة والآثار والأمارات على ذلك.

أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى* وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (2). فالجمهور على أنّها نزلت في أبي بكر (3) ، والأتقى أكرم ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ) (4) ، ولا يعني بالأفضل إلاّ الأكرم وليس المراد به عليّا ؛ لأنّ للنبيّ صلی اللّه علیه و آله عنده نعمة تجزى وهي نعمة التربية.

وأمّا السنّة فقوله صلی اللّه علیه و آله : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (5) ، ودخل في الخطاب عليّ علیه السلام فيكون مأمورا بالاقتداء ، ولا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء سيّما عند الشيعة.

وقوله علیه السلام لأبي بكر وعمر : هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيّين والمرسلين (6).

وقوله علیه السلام : خير أمّتي أبو بكر ثمّ عمر (7).

ص: 291


1- « طبقات ابن سعد » 5 : 16 ؛ « الشافي » 4 : 230 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 3 : 59.
2- الليل (92) : 17 - 19.
3- « التفسير الكبير » 11 : 187 ؛ « تفسير روح المعاني » 30 : 152 ؛ « تفسير روح البيان » 10 : 451.
4- الحجرات (49) : 13.
5- « مسند أحمد » 9 : 74 ، ح 23305 ؛ « الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) » 5 : 609 ، ح 3662 ؛ « المستدرك على الصحيحين » 3 : 75 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 40 - 41 ، ح 14359 ؛ « كنز العمّال » 11 : 652 ، ح 32656 - 32657.
6- « مجمع الزوائد » 9 : 40 - 41 ، ح 14359 ؛ « كنز العمّال » 11 : 561 ، ح 32652 وص 562 ، ح 32654.
7- ذكره القوشجي « في « شرح تجريد العقائد » : 379 ، ولم أعثر عليه في المصادر الحديثيّة.

وقوله علیه السلام : لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدّم عليه غيره (1).

وقوله علیه السلام : لو كان بعدي نبيّ لكان عمر (2) ، إلى غير ذلك من الأخبار الموضوعة التي افتروا بها على الرسول (3).

ثمّ قال : وأمّا الآثار فعن محمّد بن الحنفيّة قلت لأبي : أيّ الناس أفضل بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟ قال : أبو بكر ، قلت : ثمّ من؟ قال : عمر ، فخشيت أن أقول ثمّ فيقول : عثمان قلت : ثمّ أنت؟ قال : ما أنا إلاّ رجل من المسلمين (4).

وعن عليّ علیه السلام : خير الناس بعد النبيّين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ اللّه أعلم (5) و(6).

ثمّ قال : وأمّا الآثار والأمارات فما تواتر في أيّام أبي بكر من اجتماع الكلمة وتألّف القلوب وقهر أهل الردّة وتطهير جزيرة العرب عن الشرك ونحو ذلك ، وفي أيّام عمر من فتح جانب المشرق إلى أقصى خراسان ، وتقوية الضعفاء ، وإعراضه عن متاع الدنيا وطيّباتها ، ونحو ذلك. وفي أيّام عثمان من فتح البلاد وإعلاء الإسلام ، وجمع الناس على مصحف واحد مع ماله من الورع والتقوى ، ونحو ذلك ككونه ختنا للنبيّ على ابنتين ، وتشرّفه بقوله صلی اللّه علیه و آله : عثمان أخي ورفيقي في الجنّة (7). وقوله صلی اللّه علیه و آله : ألا يستحيي ممّن يستحيي منه ملائكة السماء. وقوله صلی اللّه علیه و آله : إنّه يدخل الجنّة بغير حساب (8) ». انتهى كلامه خذله اللّه.

والجواب عن قوله : « إلاّ أنّه لا يدلّ على الأفضليّة » إلى آخره :

ص: 292


1- « كنز العمّال » 11 : 547 ، ح 32567 ، وفيه : « أن يؤمّهم غيره ».
2- « الجامع الصحيح » 5 : 619 ، ح 3686 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 67 ، ح 14433.
3- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 379.
4- « صحيح البخاري » 3 : 1342 ، ح 3468.
5- ذكره القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 379 ، ونقله في « سنن ابن ماجة » 1 : 39 ، ح 106 بلفظ آخر.
6- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 379.
7- « سنن ابن ماجة » 1 : 40 ، ح 109 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 106 ، ح 14544.
8- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 380.

أوّلا : أنّ المناقب التي سلّمها كان منها كونه أعبد ، ولا ريب أنّ الزيادة في الثواب تترتّب على الزيادة في العبادة ؛ لكون ترتّب الثواب مأخوذا في حدّ الوجوب الذي هو ممّا يتحقّق في كثير من العبادات ، وهكذا الاستحباب.

وثانيا : أنّ المقصود من الإمامة إرشاد الناس ولا دخل فيه لزيادة الثواب ، وإنّما المناط فيه الأعلميّة ونحوها ، فبعد تسليم المناقب التي من جملتها الأعلميّة تكون المخالفة من أفحش الأغلاط.

والجواب عن الإجماع أوّلا : أنّه ممنوع ؛ فإنّ جماعة بني هاشم لم يوافقوا على ذلك ، وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص ، حتّى أنّ أباه أنكر ذلك وردّ الاعتذار بأنّه أكبر الصحابة منّا بأنّي أكبر منه ، وبني حنيفة كافّة لم يحملوا الزكاة إليه حتّى سمّاهم أهل الردّة وقتلهم وسباهم ، وأنكر عمر عليه ، وردّ السبايا أيّام خلافته ، سيّما أنّ رئيس المؤمنين كان غائبا حين اجتمع بعض العصاة على خلافته ابتداءً بالاتّفاق ، فأيّ اعتماد على مثل هذا الإجماع؟ فما خلا إجماعهم من علّة ؛ إذ قد خلا عنه رئيس الملّة.

وثانيا : أنّ الإجماع ليس أصلا بنفسه وحجّة برأسه إلاّ بالاستناد إلى حجّة حقيقيّة من العقل أو النقل من اللّه أو رسوله أو نحوه ، والعقل إن لم يكن دليلا على خلافه لا يكون دليلا عليه.

والنقل عندهم غير واقع ؛ إذ القرآن خال منه ، والنبيّ - على زعمهم - مات من غير وصيّة ولا نصّ على إمامته ، وما نقلوا منه سيأتي الجواب عنه.

وثالثا : أنّ الإجماع إمّا أن يعتبر فيه قول كلّ الأمّة أو بعضهم.

وعلى الأوّل لا ريب في عدم حصوله بل عدم حصول إجماع أهل المدينة أيضا كما لا يخفى.

وعلى الثاني يلزم كون إجماع الناس على قتل عثمان حقّا ؛ لإجماع أكثرهم عليه.

ص: 293

ورابعا : أنّ النصّ القاطع والنور الساطع وردا على خلافة أمير المؤمنين ، والإجماع على خلافهما فاسد خطأ. وما دلّ على عدمه - على تقدير صحّته - غير قادح ؛ لعدم إجماع تمام الأمّة.

وخامسا : أنّ حصول الإجماع تدريجيّ قطعا وبديهة ، فلو اكتفى النبيّ صلی اللّه علیه و آله به لزم إهمال أمر الدين في مدّة مديدة وإبقاؤهم في الحيرة قبل حصوله ، وهذا لم يصدر عن أبي بكر حيث نصب عمر عندهم فكيف يصدر عن النبيّ؟

وسادسا : أنّ بيان الإمامة من أهمّ الواجبات حتّى أنّهم أعرضوا عن دفن رسول اللّه وتجهيزه واشتغلوا بانضباط أمرها ، فكيف يتصوّر ترك الرسول ذلك مع أنّه لم يبعث إلاّ لبيان الأحكام وإكمال الدين على أكمل النظام كما قال اللّه الملك العلاّم : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (1).

ويشهد على ذلك أنّه ذكر في آداب الشراب وأكل الطعام ودخول الحمّام ، بل أحكام الخلوة - التي هي من أخسّ الأحكام - أحكاما كثيرة ولم يفوّضه على رأي الأمّة ، فكيف ذاك الأمر الجسيم والخطب العظيم؟

وسابعا : أنّ الرسول لم يأمر بنصب الإمام بعده ، فلو كان واجبا على الأمّة وجب عليه النصّ عليه.

وثامنا : أنّ أمير المؤمنين كان أعلم فكان أحقّ بالإمامة ، لقوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (2).

وتاسعا : أنّ متابعة أمير المؤمنين علیه السلام ممّا لا كلام للخصم عليه بخلاف متابعة أبي بكر ، فأيّ الفريقين أحقّ بالأمر إن كنتم تعلمون؟

وعاشرا : أنّ كلّ واحد من الأمّة يجوز عليه الخطأ ، فلو لم يكن فيهم من كان معصوما عنه ، كما كان أمر إجماعهم كذلك ، لخلوّه عن عليّ علیه السلام يكون محتمل الخطإ ،

ص: 294


1- المائدة (5) : 3.
2- يونس (10) : 35.

فلا يصلح للتمسّك. وتلك عشرة كاملة يكفي للمنصف واحد منها بالبديهة.

والجواب عن الآية أوّلا : أنّها نزلت في أبي الدحداح حيث اشترى نخلة شخص يهوديّ وقد مال غصنها إلى بيت فقير مسلم جار له يمنع أولاده ذلك اليهوديّ عن أكل ما كان يسقط من تمرها ، حتّى كان يخرجه من فيهم بعد أن شكا ذلك الفقير عن ذلك عند الرسول ، وقد عرض النبيّ صلی اللّه علیه و آله على صاحب النخلة نخلة في الجنّة فأبى ، فسمع أبو الدحداح فاشتراها بعد الإصرار ببستان له ، فوهبها للرسول وأعطاها الرسول للفقير وجعل لأبي الدحداح بستانا في الجنّة عوضها (1).

وثانيا : أنّ المراد عليّ بن أبي طالب ؛ وفاقا لما حكي عن أكثر المفسّرين (2) ، كما يؤيّده قوله تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ ) - إلى قوله - ( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ) (3).

وما قيل من أنّ عليّا كان عنده للنبيّ صلی اللّه علیه و آله نعمة التربية فمدفوع بالنقض والحلّ.

[ أمّا النقض ] فبأنّ أبا بكر أيضا عنده للنبيّ نعمة الهداية والإخراج عن الضلالة وسائر الإحسانات.

وأمّا الحلّ فبأنّ المراد من ال « أحد » من يعطى له المال كما تشهد عليه الآية المذكورة.

وثالثا : أنّ الآية لو كانت نازلة في شأنه لتمسّك بها في السقيفة.

ورابعا : أنّ الاحتمال يوجب الإجمال فلا يبقى سبيل للاستدلال.

وخامسا : أنّ الآيات النازلة في شأن عليّ علیه السلام أكثر من أربعين آية ، فلو كانت آية واحدة سببا للفضيلة فما ظنّك بالآيات الكثيرة في الغاية!

والجواب عن السنّة [ أوّلا ] : أنّ من جملة رواة الحديث الأوّل عبد الملك بن ربيع

ص: 295


1- « قرب الإسناد » : 355 - 356 ، الرقم 1273 ؛ « مجمع البيان » 10 : 375 ؛ « تفسير نور الثقلين » 5 : 589 ، الرقم 9 ؛ « تفسير القمّي » 2 : 425 - 426.
2- « تفسير البرهان » 4 : 471 ؛ « تأويل الآيات الظاهرة » : 780 ؛ « تفسير كنز الدقائق » 11 : 391.
3- الإنسان (76) : 8 - 9.

وهو - كما قال بعض الأجلّة - من مبغضي عليّ بن أبي طالب علیه السلام فلا اعتماد به.

وثانيا : أنّ ذلك الحديث منقول بعبارات مختلفة ففي بعضها أبو بكر بالرفع ، وفي بعضها أبا بكر بالنصب وفي بعضها أبي بكر بالجرّ.

وعلى الأوّل يحتمل أن يكون المعنى : اقتدوا أيّها الناس وأبو بكر وعمر باللذين من بعدي : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، كما يشهد عليه حديث « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (1). وعدم ذكر عثمان وعليّ مع أنّ السكوت في معرض البيان يفيد الحصر.

وعلى الثاني يحتمل أن يكون المعنى اقتدوا باللذين من بعدي يا أبا بكر وعمر.

وبالجملة فاضطراب متن الحديث يمنع عن الاستدلال لو لم يكن موضوعا.

وثالثا : أنّ ذلك الحديث معارض بما رووه من قوله علیه السلام : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (2) ، مع إجماعهم على عدم إمامتهم.

ورابعا : أنّ أبا بكر وعمر اختلفا في كثير من الأحكام كتحريم المتعتين وعدمه ، فلا يمكن الاقتداء بهما.

وخامسا : أنّ الاقتداء لا يستلزم الإمامة.

والجواب : عن الحديث الثاني أوّلا أنّه موضوع.

وثانيا : أنّه مناف لما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أهل الجنّة يدخلون الجنّة جردا مردا مكحّلين » (3).

ص: 296


1- « إكمال الدين » : 64 - 94 ؛ « الأمالي » للصدوق : 422 ، المجلس 79 ، ح 1 ؛ « الطرائف » 1 : 114 - 117 ؛ « النهاية في غريب الحديث » 1 : 216 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 256 - 257 ، ح 14957 - 14962 ؛ « مسند أحمد بن حنبل » 4 : 30 ، ح 7 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 214 - 215 ، ح 281 - 284.
2- « تلخيص الحبير » 4 : 190 - 191 ، ح 2098 ؛ « ميزان الاعتدال » 1 : 413 ، الرقم 1511 ؛ « لسان الميزان » 2 : 118 ، الرقم 488 ؛ « إتحاف السادة المتّقين » 2 : 223 ؛ « كشف الخفاء » 1 : 147 ، الرقم 381.
3- « مناقب آل أبي طالب » 1 : 193 ؛ « الجامع الصحيح » 4 : 679 ، الرقم 2539 ؛ « الترغيب والترهيب » 4 : 500 ، ح 10 - 11 ؛ « إتحاف السادة المتّقين » 10 : 549 ؛ « كشف الخفاء » 1 : 271 ، الرقم 614 وص 305 ، الرقم 806.

وأمّا فتح البلاد فلا شكّ أنّه يصدر من الظالمين كثيرا ، كما نشاهد أنّ أظلم السلاطين افتحهم للبلاد ، مع أنّ مولانا كان على مرّ الحقّ وكان الحقّ مرّا صارت إطاعته كبيرة إلاّ على المتّقين الخاشعين.

وأمّا الشيخان فقد خلطا الحقّ مع الباطل فوافقا طباع الناس ، وحيث كان عثمان على الباطل الصرف تنفّر عنه الطباع كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ الإمامة تستلزم الرئاسة العامّة ، فلا وجه للاختصاص بالكهول التي لا تشمل شباب أهل الجنّة ، وأنّ أهل الجنّة شباب كلّهم وأنّه لا يدخلها العجز.

ويظهر ممّا ذكرنا الجواب عمّا عدا ما أجبنا عنه مع عدم احتياجنا إلى الجواب عنه ؛ لكونه موضوعا في مقابل العقل والنقل سيّما ما دلّ على كون عليّ بمنزلة نفس النبيّ ونحوه ممّا لا ينكره أحد من المخالف والموافق. ويكفي في ذلك ما حكي عن ابن أبي بكر وابن عمر ومن التجأ إليهما إلى عليّ حين موتهما من عذاب اللّه. ونعم ما قال الشافعي في مدحه علیه السلام :

كفى في فضل مولانا عليّ *** وقوع الشكّ فيه أنّه اللّه

ومات الشافعيّ وليس يدري *** عليّ ربّه أم ربّه اللّه

أنا عبد لفتى أنزل فيه هل أتى *** إلى متى أكتمه أكتمه إلى متى

قوم أتى في مدحهم هل أتى *** ما شكّ في ذلك إلاّ ملحدا (1)

فلعن اللّه من خذل عليّا علیه السلام حتّى قال : « الدهر أنزلني أنزلني أنزلني حتّى قيل : معاوية وعليّ » (2) ، مع أنّه كان شمس فلك الحقيقة ، وبدر بروج الطريقة ، وقطب سماء المعرفة ، ومركز دائرة الشريعة ، وما حي أهواء الطبيعة ، ومروّج الملّة.

والحاصل أنّ البشر المعصوم المنصوص الأفضل الذي هو الخليفة بلا فصل

ص: 297


1- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 16 : 115 ، أقوال حكيمة في وصف الدنيا.
2- « فرحة الغري » : 7.

لخاتم النبيّين هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام ردّا على العامّة العمياء يدلّ على ذلك - مضافا إلى أنّه منصوص بالتواتر ، وادّعى الإمامة الممكنة مع المعجزة ، وأنّه أعلم فهو راجح ، وأنّه معصوم بلا ريبة فهو مقدّم - ما رواه في « الكافي » عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (1) قال : « هي ولاية أمير المؤمنين » (2).

وعنه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) (3) قال : « بما جاء محمّد من الولاية [ ولم يخلطوها بولاية ] (4) فلان وفلان فهو الملبّس بالظلم » (5).

وعنه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (6) فقال : « عرّف اللّه إيمانهم بولايتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم علیه السلام وهم ذرّ » (7).

وعن أبي جعفر علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) (8) قال : « الولاية » (9).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) - في ولاية علي وللأئمّة من بعده - ( فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (10) هكذا نزلت » (11).

ص: 298


1- الأحزاب (33) : 72.
2- « الكافي » 1 : 413 ، باب فيه نكت ... ح 2.
3- الأنعام (6) : 82.
4- الزيادة أثبتناها من « الكافي » 1 : 413.
5- « الكافي » 1 : 413 ، باب فيه نكت ... ح 3.
6- التغابن (64) : 2.
7- « الكافي » 1 : 413 ، باب فيه نكت ... ح 4.
8- المائدة (5) : 66.
9- « الكافي » 1 : 413 ، باب فيه نكت ... ح 6.
10- الأحزاب (33) : 70.
11- « الكافي » 1 : 414 ، باب فيه نكت ... ح 8.

وفي مرفوعة محمّد بن عبد اللّه في قوله تعالى : ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ ) (1) قال : « أمير المؤمنين علیه السلام وما ولد من الأئمّة » (2).

وعنه علیه السلام في قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (3) قال : « لأمير المؤمنين وللأئمّة علیهم السلام » (4).

وعنه علیه السلام في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (5) قال : « هم الأئمّة » (6).

وعنه علیه السلام في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ) قال : « أمير المؤمنين علیه السلام والأئمّة » ( وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (7) قال : « فلان وفلان » (8).

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار ، وقد ذكرنا كثيرا منها في كتاب المصباح.

وحيث ورد في فضيلة حجّة اللّه الأعظم المعصوم المنصوب المنصوص الأعلم ، إمامنا المفترض الطاعة والمودّة أمير المؤمنين وخليفة رسول ربّ العالمين.

عليّ حبّه جنّة *** قسيم النار والجنّة

وصيّ المصطفى حقّا *** إمام الإنس والجنّة (9)

الحديث النبويّ « من كتب فضيلة من فضائل عليّ بن أبي طالب لم تزل الملائكة

ص: 299


1- البلد (90) : 1 - 3.
2- « الكافي » 1 : 414 ، باب فيه نكت ... ح 11.
3- الأنفال (8) : 41.
4- « الكافي » 1 : 414 ، باب فيه نكت ... ح 12.
5- الأعراف (7) : 181.
6- « الكافي » 1 : 414 ، باب فيه نكت ... ح 13.
7- آل عمران (3) : 7.
8- « الكافي » 1 : 414 - 415 ، باب فيه نكت ... ح 14.
9- « المناقب » 2 : 160.

تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر اللّه له الذنوب التي اكتسبها بالنظر » (1).

والحديث النبويّ صلی اللّه علیه و آله : « زيّنوا مجالسكم بذكر عليّ بن أبي طالب » (2).

مضافا إلى الحديث النبوي : « لو أنّ الرياض أقلام والبحر مداد والجنّ حسّاب والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (3).

[ أربعون حديثا فى فضائله علیه السلام ]

كان المناسب ذكر أربعين حديثا فصاعدا في الفضائل عملا بحديث الأربعين.

فأقول :

[1] منها : ما رواه أنس بن مالك قال : سمعت رسول اللّه يقول : « كنت أنا وعليّ على يمين العرش نسبّح اللّه قبل أن يخلق آدم علیه السلام بألفي عام ، ثمّ اختار اللّه لنا اسمين اشتقّهما ، فاللّه محمود وأنا محمّد ، واللّه العليّ وهذا عليّ ، فأنا للنبوّة والرسالة وعليّ للوصيّة والقضيّة » (4).

[2] ومنها : ما روي عن عبد اللّه بن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « خلقت أنا وعليّ من نور واحد » (5).

[3] ومنها : ما روي عن عبد اللّه بن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليّ منّي وأنا من عليّ ، لحمه من لحمي ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى » (6).

ص: 300


1- « الأمالي » للصدوق : 119 ، المجلس 28 ، ح 9 ؛ « بحار الأنوار » 26 : 229.
2- « بشارة المصطفى » : 60 - 61 ، « المناقب » لابن المغازلي : 199 ، ح 255.
3- تقدّم في ص 288 ، هامش (1).
4- « الأمالي » للطوسي : 183 ، المجلس 8 ، الرقم 308 ؛ « علل الشرائع » 1 : 162 - 163.
5- « بحار الأنوار » 39 : 266 ، ح 40 ؛ « الفوائد المجموعة » للشوكاني : 342 - 343 باب مناقب الخلفاء ... ح 40 ؛ « تنزيه الشريعة المرفوعة » 1 : 351 باب مناقب الخلفاء ... ح 30.
6- « الأمالي » للطوسي : 50 ، المجلس 2 ، ح 65 ؛ « كشف اليقين » : 280 ؛ « المناقب » للخوارزميّ : 32 ، ح 2.

[4] ومنها : ما روي عن عليّ بن هلال عن عليّ بن موسى الرضا علیه السلام عن آبائه قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « قال اللّه تعالى : ولاية عليّ بن أبي طالب حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي » (1) وفي حديث آخر « من ناري ».

[5] ومنها : ما روي عن مولانا الباقر علیه السلام قال : « قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا عليّ ، إنّ على يمين العرش لمنابر من نور وموائد من نور ، فإذا كان يوم القيامة جئت أنت وشيعتك ، تجلسون على تلك المنابر تشربون وتأكلون والناس في الموقف يحاسبون » (2).

[6] ومنها : ما روي عن الرسول قال : « يا عليّ أنت والأوصياء من ولدك أعراف اللّه بين الجنّة والنار ، لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكركم وأنكرتموه » (3).

[7] ومنها : ما روي عن جماعة منهم معاذ بن عمر قالوا : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة ، وبغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة » (4).

[8] ومنها : ما روي عن أبي حذيفة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما من عبد ولا أمة يموت وفي قلبه مثقال حبّة من خردل من حبّ عليّ بن أبي طالب إلاّ أدخله اللّه عزّ وجلّ الجنّة » (5).

[9] ومنها : ما روي عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه : « قال اللّه عزّ وجلّ : لو اجتمع الناس كلّهم على ولاية عليّ ما خلقت النار » (6).

ص: 301


1- « جامع الأخبار » : 13 - 14 ؛ « الأمالي » للصدوق : 195 ، المجلس 41 ، ح 9 ؛ « معاني الأخبار » 2 : 136 باب خبر نادر عن الرضا.
2- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 268.
3- « تفسير العيّاشي » 2 : 22 ، ح 44 ؛ « بصائر الدرجات » : 497 باب 16 ، ح 7 ؛ « الخصال » 1 : 150 باب الثلاثة ، ح 183.
4- « كشف الغمّة » 1 : 93 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 3 : 229 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 266 ، ح 40 ؛ « بشارة المصطفى » : 94 - 95 ؛ « الفردوس بمأثور الخطاب » 2 : 142 ، الرقم 2725.
5- « الأمالي » للطوسي : 330 ، المجلس 11 ، الرقم 660.
6- « الأمالي » للصدوق : 523 ، المجلس 94 ، ح 7.

وفي آخر : قال النبيّ : « إنّ الناس لو اجتمعوا على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق اللّه النار » (1).

وفي آخر : قال جبرئيل ليلة المعراج : « يا محمّد ، والذي بعثك بالحقّ نبيّا لو أنّ أهل الأرض يحبّون عليّا كما يحبّه أهل السماوات لما خلق اللّه نارا يعذّب بها أحد » (2).

[10] ومنها : ما روي عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه : « إنّي لأرجو لأمّتي في حبّ عليّ علیه السلام كما أرجو في قول : لا إله إلاّ اللّه » (3).

[11] ومنها : ما روي عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : حبّ عليّ بن أبي طالب يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب » (4).

[12] ومنها : ما روي عن سلمان قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « يا أبا الحسن ، مثلك في أمّتي مثل ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) فمن قرأها مرّة فقد قرأ ثلث القرآن ، ومن قرأها ثلاث مرّات فقد ختم القرآن كلّه ، فمن أحبّك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلثا الإيمان ، ومن أحبّك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان ، والذي بعثني بالحقّ نبيّا يا عليّ ، لو أحبّك أهل الأرض كما أحبّك أهل السماء ، لما عذّب أحد بالنار » (5).

وفي حديث ابن عبّاس تتمة الحديث هكذا : « من أحبّك بقلبه ، كان له ثلث ثواب العباد ، ومن أحبّك بقلبه ولسانه كان له ثلثا ثواب العباد ، ومن أحبّك بقلبه ولسان

ص: 302


1- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 274 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 99 ؛ « المناقب » للخوارزمي : 67 ؛ « بشارة المصطفى » : 75 ؛ « كشف اليقين » : 225 - 226.
2- نقله المجلسي في « بحار الأنوار » 39 : 248 ، ح 11.
3- « بشارة المصطفى » : 145.
4- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 230 ؛ « كنز العمّال » 11 : 626 ، ح 33021 ؛ « تهذيب تاريخ دمشق » 4 : 162.
5- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 232 ؛ « معاني الأخبار » : 234 - 235 باب معنى قول رسول اللّه ... ؛ « الأمالي » للصدوق :5. 38 المجلس 9 ، ح 5 ؛ « روضة الواعظين » 1 : 106.

وبدنه كان له ثواب العباد أجمع » (1). ومثله رواية نعمان بن بشير عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

[13] ومنها : عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان يخرج في كلّ ليلة جمعة إلى ظاهر المدينة ولا يعلم أحد أين يمضي ، قال : فبقي على ذلك برهة من الزمان ، فلمّا كان في بعض الليالي قال عمر بن الخطّاب : لا بدّ أن أخرج وأبصر أين يمضي عليّ بن أبي طالب ، فقعدت عند باب المدينة حتّى خرج ومضى على عادته وتبعه عمر ، فوصل في زمان قليل إلى بلدة عظيمة ذات نخل وشجر ومياه غزيرة.

ثمّ إنّ أمير المؤمنين دخل إلى حديقة بها ماء جار فتوضّأ ، ووقف بين النخل يصلّي إلى أن مضى من الليل أكثره ونام عمر ، ولمّا قضى وطره على الصلاة عاد إلى المدينة وصلّى الصبح مع رسول اللّه ، فانتبه عمر فلم ير أمير المؤمنين علیه السلام ورأى قوما لا يعرفونه فسأله رجل : من أنت ، ومن أين أتيت؟ فقال : من يثرب مدينة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا شيخ متى خرجت؟ فقال : البارحة! فقال : اسكت ، إنّ النّاس لو سمعوا يقولون : هذا مجنون ، بيننا وبين مدينة رسول اللّه أزيد من مسيرة سنين ، فحكى القصّة ، ودخل المدينة فرأى الناس كلّهم يلعنون ظالمي آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ويسمّونهم بأسمائهم ، فضاقت الأرض على عمر بما رحبت فبقي إلى الجمعة الآتية ، فمضى إلى ذلك المكان فجاء أمير المؤمنين علیه السلام فصلّى فتبعه عمر حتّى وصلا إلى المدينة وصلّيا خلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسأله النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أين كنت يا عمر لا نراك أسبوعا؟ » فحكى القصّة فقال : « لا تنس ما شاهدت » فلمّا سأله غيره عن حاله ، قال : نفذ فيّ سحر بني هاشم (2).

[14] ومنها : ما روي عن عمر بن الخطّاب على ما حكي عن فضائل أحمد قال :

ص: 303


1- نفس المصادر السابقة.
2- لم نعثر عليه فيما لديّ من المصادر.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حبّ عليّ براءة من النار » (1).

[15] ومنها : ما روي عن زيد بن أرقم قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي عزّ وجلّ وغرس قضبانها بيده ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام فإنّه لم يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة » (2).

[16] ومنها : ما روي عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه : « إنّ اللّه خلق قضيبا من نور فعلّقه ببطان عرشه ، لا يناله إلاّ عليّ ومن تولاّه من شيعته » (3) ، ومثل ذلك أخبار أخر.

[17] ومنها : ما روي عن سلمان قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني » (4).

[18] ومنها : ما روي عن عمّار بن ياسر قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ ، طوبى لمن أحبّك ، وويل لمن أبغضك وكذب فيك » (5).

[19] ومنها : ما روي عن أبي أيّوب الأنصاري قال : قال رسول اللّه لعليّ بن أبي طالب : « لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق أو ولد زنية أو حملته أمّه وهي طامث » (6).

[20] ومنها : ما روي عن أنس قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « عنوان صحيفة المؤمن : حبّ

ص: 304


1- « الفردوس بمأثور الخطاب » 2 : 142 ، الرقم 2723 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 258.
2- « المعجم الكبير » للطبراني 5 : 194 ، الرقم 5067 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 137 ، الرقم 14639 ؛ « حلية الأولياء » 4 : 349 - 350 ، الرقم 277 ؛ « كنز العمّال » 11 : 611 ، الرقم 32959 ؛ « بشارة المصطفى » : 159.
3- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 233 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 259.
4- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 238.
5- « مجمع الزوائد » 9 : 179 ، الرقم 14756 ؛ « المستدرك على الصحيحين » 3 : 135 ؛ « كنز العمّال » 11 : 622 - 623 ؛ « عمدة عيون صحاح الأخبار » : 272 ، الرقم 354 باختلاف يسير ؛ « بحار الأنوار » 39 : 293.
6- « علل الشرائع » 1 : 174 باب 120 ، ح 12.

عليّ بن أبي طالب » (1).

[21] ومنها : ما روي عن الثمالي ، عن مولانا الباقر علیه السلام قال : قال رسول اللّه : « يا عليّ ، ما ثبت حبّك في قلب امرئ مؤمن فتزلّ به قدم على الصراط إلاّ ثبت له قدم أخرى حتّى يدخله اللّه بحبّك الجنّة » (2).

[22] ومنها : ما روي عن الصادق علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا عليّ ، أنا مدينة العلم وأنت بابها ، وهل يؤتى المدينة إلاّ من بابها؟ يا عليّ ، أهل مودّتك كلّ أوّاب حفيظ ، يا عليّ ، محبّوك جيران اللّه في دار الفردوس لا يتأسّفون على ما خلّفوا من الدنيا.

يا عليّ ، أنا وليّ لمن واليت ، وأنا عدوّ لمن عاديت ، يا علي ، أنت وشيعتك على الحوض يسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم ، وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش.

يا عليّ ، شيعتك الذين يتنافسون في الدرجات ، يا عليّ ، إنّ أعمال شيعتك تعرض عليّ كلّ يوم جمعة فأفرح بصالح ما يبلغني من أعمالهم وأستغفر لسيّئاتهم ». وذكر في الحديث (3) مناقب كثيرة.

[23] ومنها : ما روي ما بلغني عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « المراد من « العالين » الذين هم أعلى من الملائكة أجمعين في قوله تعالى : ( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) (4) ، أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين كنّا في سرادق العرش نسبّح اللّه ، وتسبّح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام ، فنحن باب اللّه

ص: 305


1- « بشارة المصطفى » : 154 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 173 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 219 - 220 ، الرقم 290 ؛ « عمدة عيون صحاح الأخبار » : 430 - 431 ، الرقم 656.
2- « فضائل الشيعة » : 48 ، ح 4 ؛ « الأمالي » للصدوق : 467 ، المجلس 85 ، ح 28.
3- « فضائل الشيعة » : 55 - 59 ؛ « الأمالي » للصدوق : 450 - 452 ، المجلس 83 ، ح 2 ؛ « بشارة المصطفى » : 180 - 182.
4- ص (83) : 75.

الذي يؤتى منه ، فبنا يهتدي المهتدون ، فمن أحبّنا أحبّه اللّه تعالى وأسكنه جنّته ، ومن أبغضنا أبغضه اللّه وأسكنه ناره ، لا يحبّنا إلاّ من طاب مولده » (1).

[24] ومنها : ما روي عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ ، الكوثر نهر يجري تحت عرش اللّه تعالى عزّ وجلّ ماؤه أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ، حصاه الزبرجد والياقوت والمرجان ، حشيشه الزعفران ، ترابه المسك الأذفر ، مراكده تحت عرش اللّه عزّ وجلّ ، يا عليّ ، إنّ هذا النهر لي ولك ولمحبّك من بعدي » (2).

[25] ومنها : ما روي عن الصادق علیه السلام قال : « ولايتي لعليّ بن أبي طالب أحبّ إليّ من ولادتي منه ؛ لأنّ ولايتي لعليّ بن أبي طالب فرض وولادتي منه فضل » (3).

[26] ومنها : ما روي عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ ، لو أنّ عبدا عبد اللّه مثل ما قام نوح في قومه ، وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل اللّه ، ومدّ في عمره حتّى حجّ ألف حجّة ، ثمّ قتل بين الصفا والمروة ، ثمّ لم يوالك يا عليّ لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها.

أما علمت يا عليّ ، أنّ حبّك جنّة لا تضرّ معها سيّئة ، وبغضك سيّئة لا تنفع معها طاعة ، يا عليّ ، لو نثرت الدرّ على المنافق ما أحبّك ، ولو ضربت خيشوم المؤمن ما أبغضك ؛ لأنّ حبّك إيمان وبغضك نفاق ، لا يحبّك إلاّ مؤمن تقيّ ، ولا يبغضك إلاّ منافق شقيّ » (4).

[27] منها : ما روي عن مولاتنا فاطمة الزهراء قالت : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : هذا جبرئيل يخبرني أنّ السعيد كلّ السعيد من أحبّ عليّا في حياته وبعد موته ، وأنّ

ص: 306


1- « فضائل الشيعة » : 49 - 50 ؛ « تفسير البرهان » 4 : 64 - 65 ، ح 3 ؛ « تأويل الآيات الظاهرة » : 497 - 498.
2- « تفسير فرات الكوفي » 2 : 609 ، الرقم 766 ؛ « الأمالي » للمفيد : 294 ، المجلس 35 ، ح 5 ؛ « الأمالي » للطوسي : 69 - 70 ، المجلس 3 ، الرقم 102.
3- « الفضائل » : 123 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 299.
4- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 229 - 230 ؛ « المناقب » للخوارزمي : 67 - 68 ، ح 40 ؛ « بشارة المصطفى » : 94 - 95 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 102.

الشقيّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّا في حياته وبعد موته » (1).

[28] ومنها : ما روي عن أنس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه خلق خلقا لا هم من الجنّ ولا من الإنس يلعنون مبغض عليّ علیه السلام » قيل : يا رسول اللّه من هم؟ قال : « القنابر ينادون في السحر على رءوس الأشجار : ألا لعنة اللّه على مبغض عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (2).

[29] ومنها : ما روي عن أحمد بن مظفر العطّار قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ ، لا تبارك بمن مات وهو مبغض لك ؛ فمن مات على بغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (3).

[30] ومنها : ما روي عن مولانا الرضا علیه السلام قال : « قال رسول اللّه : يقول اللّه : من آمن بي وبرسولي وتولّى عليّا أدخلته الجنّة على ما كان من عمله » (4).

[31] ومنها : ما روي عن ابن مسعود قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « حرّمت النار على من آمن بي وأحبّ عليّا وتولاّه ، ولعن اللّه من مارى عليّا وناواه ، عليّ منّي كجلدة ما بين العين والحاجب » (5).

[32] ومنها : ما روي عن جابر قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ أن يجاور الجليل في داره ويأمن من حرّ ناره فليتولّ عليّ بن أبي طالب » (6).

ونقل عن جابر أنّه كان يقول في مجالس الأنصار : « عليّ خير البشر من أباه فقد كفر » (7).

ص: 307


1- « الأمالي » للصدوق : 153 ، المجلس 34 ، ح 8 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 93 ؛ « بشارة المصطفى » : 149 ؛ « المناقب » للخوارزمي : 79 ؛ « المعجم الكبير » للطبراني 22 : 415 ، ح 1026.
2- « مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب » : 154 ، الرقم 187.
3- « بحار الأنوار » 39 : 250 ، ح 15.
4- « الأمالي » للطوسي : 366 ، المجلس 13 ، الرقم 778 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 247 - 248 ، ح 7.
5- « الأمالي » للطوسي : 295 ، الرقم 579 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 247 ، ح 5.
6- « الأمالي » للطوسي : 295 ، الرقم 580 ؛ « بحار الأنوار » 39 : 247 ، ح 6.
7- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 82 ؛ « علل الشرائع » 1 : 142 ، باب 120 ؛ « إعلام الورى » 1 : 319 ؛ « الأمالي » للصدوق : 1. المجلس 18 ، ح 6 ؛ « كنز العمّال » 11 : 625 ، ح 23045 ؛ « تنزيه الشريعة » 1 : 353 ، الرقم 39 ؛ « الفوائد المجموعة » للشوكاني : 348 ، عن ابن مسعود لا عن جابر.

[33] ومنها : ما روي عن طلحة بن زيد ، عن مولانا جعفر الصادق قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه يقول : بشّر أخاك عليّا بأنّي لا أعذّب من تولاّه ، ولا أرحم من عاداه » (1).

[34] ومنها : ما روي عن رزين قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ عليّا منّي ، وأنا منه ، من آذى عليّا فقد آذاني (2) ».

[35] ومنها : ما روي عن ابن مسعود ، قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « اعلم أنّ اللّه خلقني وعليّا من نور قدرته قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ؛ إذ لا تسبيح ولا تقديس ، ففتق نوري فخلق اللّه منه السماوات والأرضين ، وأنا واللّه أجلّ من السماوات والأرضين ، وفتق نور عليّ بن أبي طالب فخلق منه العرش والكرسيّ ، وعليّ بن أبي طالب أفضل من العرش والكرسيّ ، وفتق نور الحسن صلوات اللّه عليه فخلق منه اللوح والقلم ، والحسن علیه السلام واللّه أفضل من اللوح والقلم ، وفتق نور الحسين فخلق منه الجنان والحور العين ، ثمّ أظلمت المشارق والمغارب فشكت الملائكة إلى اللّه أن يكشف عنهم الظلمة فتكلّم اللّه جلّ جلاله كلمة ، فخلق منها روحا ، ثمّ تكلّم بكلمة فخلق من تلك الكلمة نورا ، فأضاف النور إلى تلك الروح وأقامها مقام الأرض ، وزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة الزهراء ، ولذلك سمّيت زهراء ؛ لأنّ نورها زهرت به السماء. يا بن مسعود ، إذا كان يوم القيامة يقول اللّه عزّ وجلّ لي ولعليّ : أدخلا الجنّة من شئتما وأدخلا النار من شئتما وذلك قوله تعالى : ( أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) (3) ، فالكافر من جحد نبوّتي ، والعنيد من جحد بولاية

ص: 308


1- « الأمالي » للصدوق : 42 ، المجلس 10 ، ح 8 ؛ « بشارة المصطفى » : 16.
2- « الأمالي » للطوسي : 133 - 134 ، الرقم 215 ؛ « الطرائف » : 75.
3- ق (50) : 24.

عليّ بن أبي طالب علیه السلام والجنّة لشيعته » (1).

[36] ومنها : ما روي عن سلمان الفارسي قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ جبرئيل هبط عليّ يوم الأحزاب وقال : إنّ ربّك يقرئك السّلام ويقول لك : إنّي قد افترضت حبّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام ومودّته على أهل السماوات وأهل الأرض فلم أعذّب في محبّته أحدا ، فمر أمّتك بحبّه فمن أحبّه فبحبّي وبحبّك أحبّه ، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه ، أما إنّه ما أنزل اللّه كتابا ولا خلق خلقا إلاّ وجعل له سيّدا ، فالقرآن سيّد الكتب المنزلة ، وشهر رمضان سيّد الشهور ، وليلة القدر سيّدة الليالي ، والفردوس سيّد الجنان ، وبيت اللّه الحرام سيّد البقاع ، وجبرئيل سيّد الملائكة ، وأنا سيّد الأنبياء ، وعليّ سيّد الأوصياء ، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، ولكلّ امرئ من عمله سيّد ، وحبّي وحبّ عليّ بن أبي طالب سيّد الأعمال وما تقرّب به المتقرّبون من طاعة ربّهم » (2).

[37] ومنها : ما روي عن أبي ذرّ قال : كنت جالسا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذات يوم في منزل أمّ سلمة ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحدّثني وأنا أسمع إذ دخل عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال رسول اللّه : « يا أبا ذرّ ، هذا الإمام الأزهر وباب اللّه الأكبر ، فمن أراد اللّه فليدخل الباب. يا با ذرّ ، هذا القائم بقسط اللّه ، والذابّ عن حريم اللّه ، والناصر لدين اللّه ، وحجّة اللّه على خلقه ، إنّ اللّه تعالى لم يزل يحتجّ به على خلقه في الأمم ، كلّ أمّة يبعث فيها نبيّا.

يا با ذرّ ، إنّ اللّه جعل على كلّ ركن من أركان عرشه سبعين ألف ملك ليس لهم تسبيح ولا عبادة إلاّ الدعاء لعليّ وشيعته والدعاء على أعدائه.

يا با ذرّ ، لو لا عليّ ما بان الحقّ من الباطل ولا المؤمن من الكافر ولا عبد اللّه ؛ لأنّه

ص: 309


1- « بحار الأنوار » 40 : 43 - 44 ، ح 81.
2- المصدر السابق 40 : 54 ، ح 89.

ضرب رءوس المشركين حتّى أسلموا وعبدوا اللّه ، ولو لا ذلك لم يكن ثواب ولا عقاب ، ولا يستره من اللّه سترة ، ولا يحجبه من اللّه حجاب ، وهو الحجاب والستر » (1).

[38] ومنها : ما روي عن عمر بن الخطّاب قال : سمعت رسول اللّه يقول في عليّ بن أبي طالب خصال لأن يكون في إحداهنّ أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها (2).

[39] ومنها : ما روي عن ابن عبّاس قال : قال النبيّ : « عليّ منّي مثل رأسي من بدني » (3).

[40] ومنها : ما روي عن أنس قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « عليّ خير البشر من شكّ فقد كفر » (4) ، وفي رواية : « من أبى فقد كفر » (5).

[41] ومنها : عن جابر بن عبد اللّه قال : كنت عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حفر الخندق وقد حفر الناس وحفر عليّ علیه السلام فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « بأبي من يحفر وجبرئيل يكنس التراب بين يديه ويعينه ميكائيل ، ولم يكن يعين قبله أحدا من الخلق » (6).

ثمّ قال النبيّ لعثمان : « احفر » فغضب عثمان ، فقال : لا يرضى محمّد أن أسلمنا على يده حتّى أمرنا بالكدّ ، فأنزل اللّه تعالى على نبيّه صلی اللّه علیه و آله : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) (7) الآية. (8)

ص: 310


1- المصدر السابق 40 : 54 ، ح 90.
2- « الأمالي » للطوسي : 362 ، المجلس 13 ، الرقم 752.
3- « الأمالي » للطوسي : 353 ، المجلس 12 ، الرقم 732 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 123 - 124 ، ح 135 - 136 ؛ « الفردوس بمأثور الخطاب » 3 : 62 ، الرقم 4174.
4- « الفردوس بمأثور الخطاب » 3 : 62 ، ح 4175 ؛ « بحار الأنوار » 40 : 77.
5- « الأمالي » للصدوق : 71 ، المجلس 18 ، ح 5 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 3 : 82 ؛ « كنز العمّال » 11 : 625 ، الرقم 33045 ؛ « الموضوعات لابن الجوزي » 1 : 348 ؛ « تنزيه الشريعة » 1 : 353 ؛ « اللآلئ المصنوعة » 1 : 328.
6- « مدينة المعاجز » 1 : 467 ؛ « تأويل الآيات » 2 : 608.
7- الحجرات (49) : 17.
8- « تفسير البرهان » 4 : 215 ؛ « تأويل الآيات الظاهرة » : 588.

[42] ومنها : عن سعد الخفّاف ، عن زاذان أبي عمرو قال : قلت له : يا زاذان إنّك لتقرأ القرآن فتحسن قراءته فعلى من قرأت؟ قال : فتبسّم ، ثمّ قال : إنّ أمير المؤمنين مرّ بي وأنا أنشد الشعر ، وكان لي خلق حسن فأعجبه صوتي فقال : « يا زاذان ، فهلاّ تقرأ القرآن؟ » قلت : يا أمير المؤمنين وكيف بي بالقرآن؟ فو اللّه ما أقرأ إلاّ بقدر ما أصلّي به ، قال : « فادن منّي » ، فدنوت فتكلّم في أذني بكلام ما عرفته ولا علمت ما يقول.

ثمّ قال لي : « افتح فاك » فتفل في فيّ ، فو اللّه ما زالت قدمي من عنده حتّى حفظت القرآن بإعرابه وهمزه ، وما احتجت أن أسأل عنه أحدا بعد موقفي ذلك. قال سعد : فقصصت قصّة زاذان على أبي جعفر قال : « صدق زاذان إنّ أمير المؤمنين علیه السلام دعا لزاذان بالاسم الأعظم الذي لا يردّ » (1).

[43] ومنها : « عليّ في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض ، وفي السماء الدنيا كالقمر في الليل في الأرض. أعطى اللّه عليّا من الفضل جزءا لو قسّم على أهل الأرض لوسعهم ، وأعطى اللّه عليّا من الفهم جزءا لو قسّم على أهل الأرض لوسعهم ، ... عليّ محمود عند الحقّ مزكّى عند الملائكة وخاصّتي وخالصتي ومصباحي وجنّتي ورفيقي آنسني به ربّي.

[44] ومنها : « أمير المؤمنين أفضل عند اللّه من الأئمّة كلّهم ، وله ثواب أعمالهم وعلى قدر أعمالهم فضّلوا » (2).

[45] ومنها : ما روي عن صاحب مدينة الحكمة : أنّ جبرئيل علیه السلام كان جالسا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله فدخل عليّ علیه السلام فقام له جبرئيل علیه السلام فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لجبرئيل : « أتقوم لهذا الفتى؟ » فقال جبرئيل : إنّ هذا له عليّ حقّ التعليم ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « كيف ذلك التعليم يا جبرئيل؟ » فقال : لمّا خلقني اللّه تعالى سألني : من أنت؟ وما اسمك؟ ومن أنا؟

ص: 311


1- « الخرائج والجرائح » 1 : 195.
2- « كامل الزيارات » : 38.

وما اسمي؟ فتحيّرت في ردّ الجواب ، وبقيت ساكتا ، ثمّ حضر هذا الشابّ في عالم الأنوار ، وعلّمني الجواب ، فقال هذا : « قل : أنت الربّ الجليل ، وأنا العبد الذليل ، واسمي جبرئيل » ؛ ولهذا قمت إجلالا له وعظّمته.

فقال النبيّ : « كم عمرك يا جبرئيل؟ » فقال : إنّ لله نجما يطلع من العرش في كلّ ثلاثين ألف سنة مرّة واحدة ، وقد شاهدته طالعا ثلاثين ألف مرّة ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا رأيت ذلك النجم هل تعرفه؟ » فقال : كيف لا أعرفه؟! فقال النبيّ لعليّ : « خذ العمامة من جبهتك » فلمّا كشفها ورآها جبرئيل علیه السلام رأى ذلك النجم في جبهة عليّ (1).

[46] ومنها : بعض فقرات دعاء الندبة من قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ففيه : « فلمّا انقضت أيّامه أقام وليّه عليّ بن أبي طالب علیه السلام صلواتك عليهما وآلهما هاديا إذ كان هو المنذر ولكلّ قوم هاد ، فقال والملأ أمامه : ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وقال : من كنت نبيّه فعليّ أميره ، وقال : أنا وعليّ من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتّى وأحلّه محلّ هارون من موسى ، فقال : عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وزوّجه ابنته سيّدة نساء العالمين ، وأحلّ له من مسجده ما حلّ له ، وسدّ الأبواب إلاّ بابه ، ثمّ أودعه علمه وحكمته فقال : أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها ، ثمّ قال له : أنت أخي ووصيّي ووارثي ، لحمك من لحمي ودمك من دمي ، وسلمك سلمي وحربك حربي ، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي ، وأنت غدا على الحوض خليفتي ، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي ، وشيعتك على منابر من نور مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة وهم جيراني ، ولو لا أنت يا عليّ ، لم يعرف المؤمنون بعدي » (2).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ فضائل مولانا عليّ بن أبي طالب أكثر من

ص: 312


1- « الأنوار النعمانيّة » 1 : 15.
2- « مفاتيح الجنان » : 977 - 979 ، دعاء الندبة.

أن تحصى كما في بعض الأخبار ، ولكن المكلّف لا بدّ أن يحبّه على سبيل التوسّط بين الإفراط والتفريط بأن يكون واليا لا غاليا ولا قاليا.

[ فيما صدر عن الأحسائى بأنّ أهل البيت علیهم السلام علّة الموجودات ]

فلا يوافق الشرع النبوي ما صدر عن الشيخ المعاصر في بعض رسائله في جواب الشيخ أحمد بن الشيخ صالح بن سالم بن طوق بعد ما سئل عمّا ورد من أنّ سيّدنا محمّدا ووصيّه عليّا أوّل الخلق وعلّة الموجودات وأنّهما كانا نورا واحدا حتّى افترقا في صلب عبد اللّه وأبي طالب (1) علیهماالسلام إلى أن قال : « فما معنى هذا السبق وهذه العليّة؟ وأيّ العلل هي؟ أفاعليّة أم صوريّة أم مادّيّة أم غائيّة ، أم علل متعدّدة ، أم الكلّ متّحدة؟ وما حقيقة المختار؟ وما معنى هذا الافتراق؟ وهل تعود تلك الوحدة بعد الافتراق أم لا؟ ... » (2) إلى آخره ، حيث قال : إنّ الوجودات ثلاثة : « وجود حقّ ، ووجود مطلق ، ووجود مقيّد. والوجود الحقّ ذات الواجب مع قطع النظر عن الصفات ، والوجود المطلق فعل اللّه ومشيئته وإرادته ، والوجود المقيّد المعقولات بأسرها من المجرّدات والماديّات » (3).

إلى أن قال : « والوجود المقيّد من الوجود المطلق مثل الوجود المطلق من الوجود الحقّ. فمراتب الوجود متناسبة صعودا ونزولا فمحمّد صلی اللّه علیه و آله هو السراج المنير ، والسراج مركّب من دهن ونار ، فالدهن في السراج هو أرض الاستعداد ، والنار هي نار المشيئة والوجود المطلق ؛ ولذا قالوا : « نحن محالّ مشيئة اللّه » (4) ، إلى

ص: 313


1- « علل الشرائع » 1 : 134 - 135 باب 115 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 120 - 122 ، ح 130 - 132 ؛ « الفردوس بمأثور الخطاب » 2 : 191 ، ح 2952.
2- هذا الكلام ليس للشيخ المعاصر ، وإنّما الأسئلة التي سألها الشيخ أحمد بن طوق منه.
3- « جوامع الكلم » ، الرسالة القطيفيّة : 156 ، نقله باختصار.
4- المصدر السابق.

أن قال : « فمحض ممّا قرّرنا وبيّنّا أنّ محمّدا أوّل ما خلق اللّه ، وأنّه علّة الموجودات فالسبق بهذا المعنى ؛ لأنّ السبق على أنحاء سبعة : السبق الطبيعي ، والذاتي ، والشرفي ، والمكاني ، والزماني ، والسبق الحقيقي وهو تقدّم عالم المشيئة والإبداع على سائر المفعولات ؛ إذ هو سبق بكلّ من هذه الحيثيّة المتقدّمة وزيادة سبق السرمديّة ، والسبق الحقّي وهو تقدّم الواجب على من سواه ؛ إذ هو السبق بكلّ سبق من الستّة المتقدّمة وزيادة سبق الأزليّة الأبديّة المطلقة » (1).

ثمّ قال بهذه العبارة : « وأمّا العلّة فهي فاعليّة كما قال علیه السلام : « نحن صنائع اللّه والخلق بعد صنائع لنا » (2) ، كما في قوله علیه السلام لكميل : « نور أشرق من صبح الأزل فتلوح على هياكل التوحيد آثاره » (3) ، فالنور هو المشار إليه ، وصبح الأزل هو الموجود المطلق وعالم المشيئة ، وهياكل التوحيد الصور القائمة بمرايا الوجود المطلق ؛ فإنّها فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ، والآثار مظاهر الوجود المطلق وتجلّياته ، فإنّ هيئاتها تحكي كينوناته ، فالصور صفاته بالذات أو بالعرض ، فتلوح تجليّات الوجود أي تبرز على هيئات تلك الهياكل ، فجميع الصور صور شئونه صلی اللّه علیه و آله وتطوّراته ، وإليه الإشارة بقول : عليّ علیه السلام : « وإنّا نتقلّب في الصور كيف ما شاء اللّه ، من رآهم فقد رآني ، ومن رآهم فقد رآهم » (4) ، فهو صلی اللّه علیه و آله العلّة الصوريّة ، وهو أيضا علّة مادّيّة ؛ لأنّ الوجودات بأسرها أشعّة أنوارها وصدى أصوات خطاباته ، فإنّ جميع ما في الإمكان غيرهم فإنّما خلقوا من أشعّة أنوارهم ، فجميع موادّ الأشياء من تلك الأشعّة ، والأشياء مركّبة من الموادّ والصور. أمّا الموادّ فعرفتها كما قلنا لك.

ص: 314


1- المصدر السابق : 156 - 157.
2- « الاحتجاج » 2 : 563. بتفاوت يسير.
3- « جوامع الكلم » ، الرسالة القطيفيّة : 157.
4- المصدر السابق : 157.

وأمّا الصور فجنسيّة ونوعيّة وشخصيّة كلّها كينونات تلك الأشعّة سواء كانت موادّ نوريّة وموادّ عنصريّة ؛ لأنّ الموادّ العنصريّة من المواد النوريّة كالثلج من الماء ، فظهر أنّهم علیهم السلام علّة مادّيّة وعلّة صوريّة وهو صلی اللّه علیه و آله أيضا علّة غائيّة ؛ لأنّ الموجودات بأسرها إنّما خلقت لمصالحهم وشئونهم وجميع الخلق أنعامهم وغنمهم كما أشار الصادق علیه السلام من قوله لعبيد بن زرارة : والذي فرّق بينكم هو داعيكم الذي استرعاه اللّه أمر غنمه ، فإن شاء فرّق بينها لتسلم ثمّ يجمع بينهما لتسلم ... (1) إلى آخره.

ومثله قوله علیه السلام : « نحن صنائع اللّه ربّنا والخلق بعد صنائع لنا » (2) على أحد التأويلين ، وهو أنّ اللّه سبحانه صنع لنا الخلق ، والوجه الثاني تقدّم. وأمّا الوجه المستشهد به هنا فيجري عليه تأويل قوله : ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (3).

وقوله سلّمه اللّه : « أم متعدّدة ». قد تقدّم جوابه أنّها متعدّدة في كلّ شيء بحسبه ، أمّا في الباطن فلأنّه صلی اللّه علیه و آله كما أنّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خلقه في تبليغ الشرائع والتأديبات الشرعيّة التكليفيّة دقيقها وجليلها ».

إلى أن قال : « وأمّا قوله : ما معنى هذا الاتّحاد والوحدة؟ فجوابه أنّ الاتّحاد إنّما يقال لشيئين قد تحقّقت بينهما الاثنينيّة فطرأ عليهما الاتّحاد ، والاتّحاد قد منع تحقّقه المحقّقون وأحاله المدقّقون ، فلا يقال : ما هذا الاتّحاد إلاّ مجازا ، أو المراد به على المجاز البساطة ، وليس المراد بالبساطة عدم الأجزاء وعدم تحقّق التشخّص ؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام والجسمانيّات ونفوسها المقارنة لها غير القدسيّة ، بل التعدّد متحقّق في أصل الخلقة إلاّ أنّه تعدّد كتعدّد الضوء من الضوء ، فإنّ السراج إذا

ص: 315


1- المصدر السابق.
2- مرّ تخريج الحديث في الصفحة السابقة ، هامش (2).
3- النحل (16) : 80.

اشتعل من السراج ليس بينهما كثرة باعتبار الوحدة الجنسيّة والنوعيّة ، وأمّا باعتبار الوحدة الشخصيّة وباعتبار فعل النبوّة وفعل الولاية ومتعلّقها ومقامها والترتيب إلى غير ذلك من المشخّصات.

فالتعدّد موجود وهو معنى : فقسّمه بنصفين. فإذا تطاولت المدد في العود وعاد كلّ شيء إلى ما منه بدأ حصل بينهما عود مجاورة لا عود ممازجة ، وأمّا محلّ الأئمّة فهو كالشجرة وأغصانها أو ثمرها ، والشيعة الورق الملتفّ بالثمر وكالضوء من الضوء » (1).

إلى أن قال في جواب قوله : « فمتى أنّه في الزمان وهو وعاء عالم الأجسام ، وفي الدهر وعاء عالم الجبروت والملكوت ، وفي السرمد هو وعاء عالم المشيئة وعالم الأمر والإبداع » (2).

وقال في شرح الزيارة : « ففي البصائر عن الثمالي عن أبي جعفر علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) (3) ، يعني عليّا أنّه خازنه على ما في السماوات وما في الأرض من شيء وائتمنه عليه » (4).

قال : أقول : ما يفيد العموم فكلّ شيء عندهم خزائنه وهم خزائنه وعندهم مفاتحه وهم مفاتحه. وأمّا قوله « يعني عليّا » يريد أنّ معنى ( أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) أنّها تصير إلى عليّ علیه السلام وبيان ذلك : أنّ الأمور حادثة مخلوقة ، والحادث المخلوق لا يصل إلى القديم ولا يرجع إليه سبحانه ؛ لأنّه متعال عن كلّ شيء ، وإنّما المعنى أنّ الأمور ترجع وتصير إلى أمره تعالى ، وأمره تعالى جعله عند وليّه فالمصير إليه مصير إلى اللّه والرادّ إليه رادّ إلى اللّه ، وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنا

ص: 316


1- « جوامع الكلم » ، الرسالة القطيفيّة : 157.
2- المصدر السابق : 158.
3- الشورى (42) : 53.
4- « بصائر الدرجات » 2 : 106 باب 19 ، ح 16.

إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) (1) » إلى أن قال : « فهذا معنى قوله علیه السلام ( أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) - يعني عليّا - مراده إلى اللّه سبحانه لقول ( أَلا إِلَى اللّهِ ) أي ألا إلى عليّ علیه السلام جعله اللّه وليّ الأمور ، فالرجوع إلى اللّه رجوع إليه.

ثمّ إنّه بيّن معنى قوله : « يعني عليّا » فقال : « إنّه جعل عليّا خازنا له على ما في السماوات وما في الأرض من شيء وائتمنه عليه ، وهذا ظاهر » (2).

وقال - في جواب من قال : ما الدليل على أنّ « أئمّتنا » أفضل من « أولي العزم » مع تلقّي النبيّ الوحي بنفسه ومعاينة الملك دون الإمام؟ - : « قد دلّ الدليل العقلي والنقلي على أنّ نبيّنا محمّدا صلی اللّه علیه و آله خير الخلق من جميع ما خلق اللّه من غائب وشاهد ومتحرّك وساكن ، ودلّ الدليل أيضا على أنّ الأئمّة مساوون له في جميع ما له من الفضائل والمراتب إلاّ الخواصّ التي اختصّ بها ولم يكن لأحد من خلق اللّه ذلك لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل أولي العزم وغيرهم حتّى أنّ عليّا علیه السلام قال ما معناه : وإنّما أوتي موسى ما أوتيت أقلّ من جزء من مائة ألف جزء من مثقال ذرّة ».

إلى أن ذكر ما رواه جابر : « أنّ مروان بن الحكم في خلافته صعد منبر رسول اللّه ، وخطب وسبّ عليّا فخرجت من القبر الشريف يد كلّ من حضر عرف أنّها يد رسول اللّه مكتوب عليها : يا عدوّ اللّه أكفرت بالذي خلقك من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ سوّاك رجلا؟! هو واللّه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ، ثمّ عقد بيده ثلاثا وعشرين فما لبث إلاّ ثلاثا وعشرين ليلة ، ثمّ مات » (3).

إلى أن قال : « إنّ قوله تعالى : ما وسعني أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن. (4) وهو هو صلی اللّه علیه و آله ونفسه عليّ علیه السلام ومع هذا فلم يصل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وحي ولا خطاب إلاّ بلسان

ص: 317


1- الغاشية (88) : 25 - 26.
2- « جوامع الكلم » ، الرسالة القطيفيّة : 131.
3- المصدر السابق.
4- « المحجّة البيضاء » 5 : 26 ؛ « بحار الأنوار » 55 : 39.

الوليّ علیه السلام والأنبياء كلّهم ما هم منه إلاّ ذرّات من الوجود ومعنى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يرى الملك والإمام يسمع الصوت ولا يرى الشخص : أنّ الملك ما يظهر بالوحي إلاّ للنبيّ صلی اللّه علیه و آله والإمام يسمع كلام الملك والوحي إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإنّما لم يظهر له ؛ لأنّه إنّما جاء للوحي فظهوره بالوحي لمحمّد صلی اللّه علیه و آله لأنّ الإمام لا يراه ، كيف؟ ولا يصدر إلاّ بإذنه كما قال عليّ علیه السلام : واللّه ما أعلم أنّ ملكا في السماء يخطو قدما بغير إذني إلاّ وقد احترق. ولمّا كان رسول اللّه لم يمت حتّى كمل الدين وانقطع الوحي عند موته انقطاع كمال لا انقطاع نقصان ، وإلاّ لم يكن خاتم النبيّين ، فلا يحتاج إلى نزول الملك في تأسيس الأحكام ، وإنّما تتنزّل الملائكة على الإمام بالأمر افعل ولا تفعل عن أمر أجراه ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون » (1).

أقول :

يرد عليه أوّلا : أنّ عدم كون النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ بن أبي طالب علیه السلام وأولاده علیهم السلام علّة فاعليّة وخالقا لمن عداهم من ضروريّات الدين ظاهرا ، فما ذكر إنكار للضروريّ ، واحتمال الحمل على العلّة الغائيّة مع ذكرها أيضا بابه مسدود.

وثانيا : أنّ تغيير الأسلوب في قوله علیه السلام : « صنائع لنا » (2) بذكر اللام وعدم الإضافة - كما في صدر [ الرواية ] دالّ على كون المراد في الذيل مخالفا للصدر باعتبار الفاعليّة والغائيّة كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ اللام من الحروف ، والحروف تستعمل في خصوصيات الكلّي بالاتّفاق ، فالمستعمل فيه إن لم يكن خصوص جزئي من جزئيّات العلّة الغائيّة فلا أقلّ من الإجمال ، فإنّ الاستعمال في جزءين من الكلّيّين - كما يظهر من كلامه - خلاف الظاهر.

ورابعا : أنّ ملاحظة السياق وسائر الأخبار والاعتبار ممّا يقتضي كون المراد أن

ص: 318


1- « جوامع الكلم » ، الرسالة القطيفيّة : 132.
2- تقدّم في ص 314 هامش (2).

يجعلهم رؤساء آمرين ممّا لا بدّ فيه من إيجاد المرءوسين المأمورين ؛ لئلاّ يبقى الأمر بلا مأمور ، فالمراد أنّ الخلق مصنوع لإطاعتنا. وإن تنزّلنا سلّمنا كون المراد لمصالحنا.

وخامسا : أنّ الحديث لو سلّمت دلالته معارض بالكتاب الدالّ على حصر إيجاد الخلق في اللّه تعالى كقوله تعالى : ( وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (1) ؛ لإفادة تعريف المسند الحصر ، كما حقّق في محلّه ، ونحو ذلك من الآيات.

وسادسا : أنّه يلزم أن يعتقد أنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام خلق أباه وأمّه ثمّ تولّد منهما.

سابعا : أنّه يلزم كون مخلوقه قاتله.

وثامنا : أنّ حديث البصائر - على ما حكي عن الصافي - هكذا : ( صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (2) « يعني عليّا » (3) فقوله : « عليّا » تفسير للصراط ، لا للذي تصير الأمور إليه.

وتاسعا : أنّ عليّا علیه السلام إن كان قديما يلزم تعدّد الواجب والشرك ، وإن كان حادثا يلزم ما فرّ منه من ارتباط الحادث بالقديم.

وعاشرا : أنّ ارتباط الحادث بالقديم ارتباط صدور جائز وواقع ، والمحال ارتباط القيام المستلزم لكونه محلّ العرض. إلى غير ذلك.

ومثل ما ذكرنا إثبات إمامة مولانا عليّ بن أبي طالب علیه السلام بالمعجزة المصدّقة ، والتي هي كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، وسيأتي الإشارة إلى بعض آخر ، وكذا بالموعظة الحسنة بأن يقال : إنّ التمسّك بعليّ علیه السلام لا خلاف فيه بين الشيعة والمحقّقين من أهل السنّة ، بل جلّهم بل كلّهم إلاّ من لا يعتنى به بخلاف القول بكونه خليفة رابعا ، فإنّ مذهب الإماميّة أنّه ضلالة مصيرها النار ، فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون؟

ص: 319


1- يس (36) : 81.
2- الشورى (42) : 53.
3- « تفسير الصافي » 4 : 382.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع شرح الشارح القوشچي بعد قوله : والعصمة تقتضي النصّ وسيرته علیه السلام بقوله : « ( وهما ) أي العصمة والتنصيص ( مختصّان بعليّ علیه السلام ) اختلفوا في أنّ الإمام الحقّ بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هو؟ حدّث الإماميّة إلى أنّه عليّ علیه السلام واختاره المصنّف وذهب الباقون إلى أنّه أبو بكر.

واحتجّ المصنّف بأنّ العصمة والنصّ كلاهما مختصّان بعليّ علیه السلام أي المعصوم والمنصوص عليه بالإمامة هو عليّ دون أبي بكر ، فهو الإمام دونه.

أقول : دعوى انحصار العصمة في عليّ علیه السلام تنافي ما يقال من أنّها خفيّة لا يعلمها إلاّ اللّه ، وما قيل. من أنّهما مختصّان بعليّ علیه السلام لأنّ عليّا أفضل الصحابة بما سيأتي ، والأفضل يجب أن يكون إماما ؛ لما بيّنا أنّ إمامة المفضول قبيحة ، وإذا كان إماما يجب أن يكون منصوصا عليه ، وأن يكون معصوما ؛ لأنّ الإمامة مشروط بالعصمة لا تتحقّق العصمة بدون التنصيص. ففيه مصادرة لا تخفى.

( والنصّ الجليّ في قوله علیه السلام ) مخاطبا لأصحابه ( سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ) (1) والإمرة - بالكسر - الإمارة من أمر الرجل إذا صار أميرا.

وقوله علیه السلام لعليّ علیه السلام : ( أنت الخليفة بعدي ) (2) وغيرها مثل قوله صلی اللّه علیه و آله مشيرا إلى عليّ : وأخذ اللّه هذا خليفتي فيكم من بعدي فاستمعوا ما سمعوا له وأطيعوا (3).

وقوله علیه السلام وقد جمع من عبد المطّلب : أيّكم يبايعني ويوازرني يكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي. (4) فبايعه عليّ.

ص: 320


1- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 65 ؛ « تأويل الآيات الظاهرة » : 265 ؛ « تفسير القمّي » 1 : 389 ؛ « إتحاف السادة المتّقين » 2 : 222.
2- « كفاية الأثر » : 133 و 157 و 195.
3- « تاريخ الطبري » 2 : 321 ؛ « معالم التنزيل في التفسير والتأويل » 4 : 279 ؛ « كنز العمّال » 13 : 133 ، ح 36419 ؛ « تفسير القرآن العظيم » 3 : 364.
4- تقدّمت آنفا.

وأجيب بأنّه لو كان في مثل الأمر الخطير المتعلّق بمصالح الدين والدنيا لعامّة الخلق مثل هذه النصوص الجليّة لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة ولم يتوقّعوا في العمل بموقعه ولم يتردّدوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الإمام تردّدهم حيث قال الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير ، ومالت طائفة إلى أبي بكر وطائفة إلى العبّاس وأخرى إلى عليّ ولم يترك عليّ علیه السلام محاجّة الأصحاب ومخاصمتهم وادّعاء الأمر له والتمسّك بالنصّ عليه بل قام بأمره وطلب حقّه كما قام به حين أفضت النوبة إليه ، وقاتل حتّى أفنى الخلق الكثير مع أنّ الخطب إذ ذاك أشدّ وفي أوّل الأمر أسهل وعهدهم بالنبيّ أقرب وهمّتهم في تنفيذ الأحكام أرغب ، وكيف يزعم من له أدنى مسكة أنّ أصحاب رسول اللّه مع أنّهم بذلوا مهجهم وقتلوا أقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإقامة شريعته وانقياد أمره واتّباع طريقته أنّهم خالفوه قبل أن يدفنوه مع وجود هذه النصوص القطعيّة الظاهرة الدالّة على المراد ، بل هاهنا أمارات وروايات ربّما تفيد باجتماعهما القطع بعدم مثل تلك النصوص ، وهي أنّها لم تثبت عمّن يوثق به من الحديث مع شدّة حبّهم لأمير المؤمنين ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين ، ولم ينقل عنه في خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته وعند تأخّره عن البيعة إشارة إلى تلك النصوص ، وجعل عمر الخلافة شورى بين ستّة ودخل عليّ في الشورى وقال العبّاس لعليّ علیه السلام : امدد يدك أبايعك حتّى يقول الناس : هذا عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايع ابن عمّه فلا يختلف فيك اثنان ، فقال أبو بكر : وددت أنّي سألت النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن هذا الأمر فيمن هو وكنّا لا ننازعه ، وحاجّ عليّ معاوية ببيعة الناس لا بنصّ من النبيّ.

ولقوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (1) وإنّما جمعت الأوصاف فى عليّ ).

ص: 321


1- المائدة (5) : 55.

بيان ذلك أنّها نزلت باتّفاق المفسّرين في عليّ بن أبي طالب علیه السلام حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع في صلاته ، وكلمة « إنّما » للحصر بشهادة النقل والاستعمال ، و « الوليّ » كما جاء بمعنى الناصر فقد جاء بمعنى المتصرّف والأولى والأحقّ بذلك ، كما يقال : أخو المرأة وليّها والسلطان وليّ من لا وليّ له وفلان وليّ الدم. وهذا هو المراد هاهنا ؛ لأنّ الولاية بمعنى النصرة يعمّ جميع المؤمنين لقوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (1) ، فلا يصحّ حصرها بالمؤمنين الموصوفين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حال الركوع والتصرّف من المؤمنين في أمر الإمامة بكونه هو الإمام ، فتعيّن عليّ لذلك ؛ إذ لم توجد الصفات في غيره.

وأجيب بمنع كون الوليّ بمعنى المتصرّف في أمر الدين والدنيا والأحقّ بذلك على ما هو خاصّة الإمام بل الناصر والمولى والمجيب على ما يناسب ما قبل الآية وهو مثل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (2) ، وولاية اليهود والنصارى المنهيّ عن اتّخاذها ليست عليل التصرّف والإمامة بل النصرة والمحبّة وما بعدها وهو قوله : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (3) ؛ فانّ التولّي هاهنا بمعنى المحبّة والنصرة دون الإمامة ، فيجب أن يحمل ما بينهما أيضا على النصرة ليلائم أجزاء الكلام.

على أنّ الحصر إنّما يكون نفيا لما وقع فيه تردّد ونزاع ، ولا خفاء في أنّ ذلك عند نزول الآية لم يكن في إمامة الأئمّة الثلاثة.

وأيضا ظاهر الآية ثبوت الدلالة بالفعل في الحال ولا شبهة في أنّ إمامة عليّ علیه السلام إنّما كانت بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والقول بأنّه كانت له ولاية التصرّف في أمر المسلمين في

ص: 322


1- التوبة (9) : 71.
2- المائدة (5) : 51.
3- المائدة (5) : 56.

حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا مكابرة. وصرف الآية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حقّ اللّه سبحانه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .

وأيضا و ( الَّذِينَ آمَنُوا ) صيغة جمع فلا يصرف إلى الواحد إلاّ بدليل. وقول المفسّرين : إنّ الآية نزلت في حقّ عليّ علیه السلام لا يقتضي اختصاصها به واقتصارها عليه.

ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنيّة على جعل ( وَهُمْ راكِعُونَ ) حالا من ضمير ( يُؤْتُونَ ) وليس بلازم ، بل يحتمل العطف بمعنى أنّهم يركعون في صلاتهم لا كصلاة اليهود خالية عن الركوع أو بمعنى أنّهم خاضعون.

( ولحديث الغدير المتواتر )

بيانه : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد جمع الناس يوم غدير خمّ - موضع بين مكّة والمدينة بالجحفة - وذلك بعد رجوعه عن حجّة الوداع وجمع الرحال وصعد عليها وقال مخاطبا : يا معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، قال : « فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (1). وهذا الحديث أورده عليّ يوم الشورى عند ما حاول ذكر فضائله ولفظ « المولى » قد يراد به المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العمّ ، والناصر ، والأولى بالتصرّف قال اللّه تعالى : ( وَمَأْواكُمُ النَّارُ ) (2) هي تولاّكم هي أولى بكم ، ذكره أبو عبيدة.

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها » (3) - أي الأولى بها في التصرّف والمالك لتدبير أمرها - ومثله في الشعر كثير.

وبالجملة ، استعمال المولى بمعنى المتولّي والمالك للأمر والأولى بالتصرّف شائع

ص: 323


1- « الطرائف » 1 : 144 - 153 ، ح 218 - 239 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 192 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 3 : 29 و 36 - 37 و 45 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 67 - 78 ، ح 24 و 39.
2- العنكبوت (29) : 25 ؛ الجاثية (45) : 34 ؛ الحديد (57) : 15.
3- « مسند أحمد » 9 : 335 ، الرقم 24426 ؛ « مجمع الزوائد » 4 : 525 ، الرقم 7513 ؛ « النهاية في غريب الحديث » 5 : 229 ؛ « سنن الدارمي » 2 : 137 ؛ « فتح الباري » 9 : 239 باب 41 ... ح 5135.

في كلام العرب منقول عن أئمّة اللغة. والمراد أنّه اسم لهذا المعنى لا صفة بمنزلة الأولى لتعرض بأنّه ليس من صفة اسم التفضيل وأنّه لا يستعمل استعماله ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ليوافق صدر الحديث أعني قوله : « ألست أولى بكم من أنفسكم » ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأوّل وهو ظاهر ولا للسادس ؛ لظهوره وعدم احتياجه إلى بيان وجمع الناس لأجله سيّما وقد قال اللّه تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (1) ، ولا خفاء في أنّ الأولويّة بالناس والتولّي والمالكيّة لتدبير أمرهم والتصرّف فيهم بمنزلة النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو معنى الإمامة.

وأجيب بأنّه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابل الإجماع ، كيف؟ وقد قدح في صحّته كثير من أهل الحديث ولم يفعله المحقّقون منهم كالبخاري ومسلم والواقدي وأكثر من رواه لم ترو المقدّمة التي جعل دليلا على المراد بالوليّ الأوّل بالتصرّف وبعد صحّة الرواية فمؤخّر الخبر أعني قوله : « اللّهمّ وال من والاه » يشعر بأنّ المراد بالمولى هو الناصر والمجيب بل مجرّد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال.

وما ذكر من أنّ ذلك معلوم ظاهر من قوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) ، لا يدفع الاحتمالات ؛ لجواز أن يكون الغرض التنصيص على موالاته ونصرته ؛ ليكون أبعد من التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات ، وليكون أوفى بإفادة الشرف وحيث قرن أكثر موالاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولو سلّم أنّ المراد بالمولى هو الأولى فأين الدليل؟ على أنّ المراد هو الأولى بالتصرّف والتدبير ، بل يجوز أن يراد الأولى في الاختصاص به والقرب منه كما قال اللّه تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) (2) وهنا النبيّ وكما يقول التلامذة : نحن أولى بأستاذنا ، والأتباع : نحن

ص: 324


1- التوبة (9) : 71.
2- آل عمران (3) : 68.

أولى بسلطاننا ، ولا يريدون الأولويّة في التدبير والتصرّف ، وحينئذ لا يدلّ الحديث على إمامته.

ولو سلّم معاينة الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المال ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمّة الثلاثة قبله؟.

( ولحديث المنزلة المتواتر )

( ولحديث المنزلة المتواتر ) (1)

بيانه : أنّ « المنزلة » اسم جنس أضيف فعمّ ، كما إذا عرّف باللام بدليل صحّة الاستثناء ، وإذا استثنى منها مرتبة النبوّة بقيت عامّة في باقي المنازل التي من جملتها كونها خليفة له ، ومتولّيا في تدبير الأمر ، ومتصرّفا في مصالح العامّة ، ورئيسا مفترض الطاعة لو عاش بعده ؛ إذ لا يليق لمرتبة النبوّة زوال هذه المرتبة الرفيعة الثابتة في حياة موسى علیه السلام بوفاته ، وإذ قد صرّح بنفي النبوّة لم يكن ذلك إلاّ بطريق الإمامة.

وأجيب بأنّه غير متواتر بل خبر واحد في مقابلة الإجماع ، وبمنع عموم المنازل ، بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق ، وربّما يدّعى كونه معهودا معيّنا كغلام زيد. وليس الاستثناء المذكور إخراجا لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك : إلاّ النبوّة ، بل منقطع بمعنى لكن ، فلا يدلّ على العموم ، كيف ومن منازله الأخوّة ولم يثبت لعليّ ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها.

ولو سلم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرّف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الإمامة ؛ لأنّه شريك له في النبوّة. قوله : « اخلفني » ليس استخلافا بل مبالغة وتأكيدا في القيام بأمر القوم.

ولو سلّم فلا نسلّم دلالته على بقائها بعد الموت ، وليس بقاؤها بموت المستخلف عزلا ولا نقصا بل ربّما يكون عودا إلى حالة أكمل وهي الاستقلال بالنبوّة والتبليغ

ص: 325


1- « الطرائف » 1 : 51 - 54 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 336 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 79 ، ح 40 ؛ « المناقب » للخوارزمي : 55 ؛ « صحيح البخاري » 3 : 1359 باب 9 ، الرقم 3503 ؛ « صحيح مسلم » 4 : 1870 - 1871 ، الرقم 2404 باب من فضائل عليّ بن أبي طالب ، ح 30 - 32.

من اللّه ، فتصرّف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنّما يكون لنبوّته وقد انتفت النبوّة في حقّ عليّ فينتفي ما يبتني عليها ويتسبّب عنها ، وبعد اللّتيا واللّتي لا دلالة على نفي إمامة الثلاثة قبل عليّ علیه السلام .

( ولاستخلافه على المدينة في غزوة تبوك ) (1) وعدم عزله إلى زمان وفاته ( فتعمّ ) الأزمان والأمور ( للإجماع ) على عدم الفصل ، بل الحاجة إلى الخليفة بعد الوفاة أشدّ منه حال البعثة.

وأجيب بأنّه على تقدير صحّته لا يدلّ على بقاء خلافته بعد وفاته دلالة قطعيّة مع وقوع الإجماع على خلافته.

( ولقوله صلی اللّه علیه و آله : أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني ) (2) - بكسر الدال -.

وأجيب : بأنّه خبر واحد في مقابلة الإجماع ، ولو صحّ لما خفي على الصحابة والتابعين والمهرة المتعيّن من المحدّثين سيّما على أولاده الطاهرين ، ولو سلّم فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين.

( ولأنّه أفضل ) من غيره من الأئمّة ، لما سيأتي ( وإمامة المفضول قبيحة عقلا ).

وأجيب بمنع المقدّمات.

( ولظهور المعجزة ) نفس الكرامة ( على يده كقلع باب خيبر ) (3) وعجز من إعادته تسعون رجلا من الأقوياء ، ( ومخاطبة الثعبان ) على منبر الكوفة فسئل عنه ، فقال : « إنّه من حكّام الجنّ أشكل عليه مسألة أجبته عنها » (4).

ص: 326


1- انظر التعليقة (1) من الصفحة السابقة.
2- « الطرائف » 1 : 133 ، الرقم 211 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 230 - 231 ، ح 309 ؛ « عيون أخبار الرضا » 2 : 6 باب 30 ، ح 13.
3- « إعلام الورى » 1 : 207 - 208 ؛ « إرشاد القلوب » : 245 - 246 ؛ « بحار الأنوار » 41 : 279 - 283.
4- « الكافي » 1 : 396 باب أنّ الجنّ يأتيهم ... ح 6 ؛ « كتاب الفضائل » : 71 ؛ « بشارة المصطفى » : 164 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 :4. 349 ؛ « إعلام الورى » 1 : 351 - 352.

( ودفع الصخرة عن القليب ) ، روي أنّه لمّا توجّه إلى صفّين مع أصحابه أصابهم عطش عظيم فأمرهم أن يحفروا بقرب دير ، فوجدوا صخرة عظيمة عجزوا عن نقلها ، فنزل فأقلعها ودحا بها مسافة عظيمة ، فظهر قليب فيه ماء فشربوا عنها ثمّ أعادها ولمّا رأى ذلك صاحب الدير أسلم (1) ، ( ومحاربة الجنّ ) روي أنّ جماعة من الجنّ أرادوا وقوع الضرر ما ليس حين سيره إلى بني المصطلق فحارب عليّ علیه السلام معهم وقتل منهم جماعة كثيرة (2).

( وردّ الشمس (3) وغير ذلك ) من الوقائع التي نقلت عنه.

( وادّعى الإمامة فيكون صادقا ) يعني أنّه علیه السلام ادّعى الإمامة وظهرت على وفق دعواه أمور خارقة للعادة فيكون صادقا في دعواه.

وأجيب : بأنّا لا نسلّم أنّه ادّعى الإمامة قبل أبي بكر. ولو سلّم فلا نسلّم ظهور تلك الأمور في مقام التحدّي.

ثمّ أراد أن يثبت إمامة عليّ علیه السلام بأن يبيّن عدم صلوح غيره للإمامة حتّى يثبت إمامته ضرورة ، فذكر أوّلا دلائل عامّة تظهر لهم بأسرهم ، ثمّ ذكر مطاعن واحد واحد.

أمّا الدلائل العامّة

فمنها ما أشار إليه بقوله : ( ولسبق كفر غيره فلا يصلح للإمامة غيره فتعيّن هو ) ؛ وذلك لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين بعث لم يكن عليّ بالغا سنّ التكليف ، فلم يكن كافرا بخلاف من عداه من الأئمّة فإنّهم كانوا بالغين فكانوا كافرين ، والكافر ظالم ؛ لقوله

ص: 327


1- « إعلام الورى » 1 : 346 - 348 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 : 334 - 337.
2- « إعلام الورى » 1 : 352 - 354 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 : 339 - 341 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 103.
3- « الطرائف » 1 : 84 ، الرقم 117 - 118 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 : 345 ؛ « إعلام الورى » 1 : 350 - 351 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 246 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 126 - 127 ، ح 140 - 141 ؛ « ينابيع المودّة » : 162 - 164 ، الباب 47 في ردّ الشمس بعد غروبها.

تعالى : ( وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) والظالم لا يصلح للإمامة ؛ لقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2) في جواب إبراهيم حين طلب الإمامة.

وأجيب : بأنّ غاية الأمر ثبوت التنافي بين الظلم والإمامة لا محذور إذا لم يجتمعا.

ومنها : ما أشار بقوله : ( ولقوله تعالى : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (3) ) مضمون الآية الكريمة هو الأمر بمتابعة المعصومين ؛ لأنّ الصادقين هم المعصومون ، وغير عليّ علیه السلام من الصحابة ليس بمعصوم بالاتّفاق ، فالمأمور بمتابعته إنّما هو عليّ.

وأجيب بمنع المقدّمات.

ومنها : ما أشار بقوله : ( وقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (4) أمر بالطاعة المعصومين ؛ لأنّ أولي الأمر لا يكونون إلاّ معصومين ؛ لأنّ تفويض أمور المسلمين إلى غير المعصومين قبيح عقلا ، وغير عليّ علیه السلام غير معصوم بالاتّفاق فالأمر بإطاعته لا غير.

وأجيب بمنع المقدّمات.

( ولأنّ الجماعة غير عليّ غير صالح للإمامة لظلمهم بتقدّم كفرهم ) هذا تكرار لما سبق آنفا فكأنّه من طغيان القلم.

وأمّا مطاعن أبي بكر

[1] فمنها : أنّه ( خالف أبو بكر كتاب اللّه تعالى في منع إرث رسول اللّه بخبر رواه ) وهو « نحن معاشر الأنبياء لا نورث فما تركناه صدقة » (5) وتخصيص

ص: 328


1- البقرة (2) : 254.
2- البقرة (2) : 124.
3- التوبة (9) : 119.
4- النساء (4) : 59.
5- « صحيح مسلم » 3 : 1380 كتاب الجهاد ، ح 52 ؛ « صحيح البخاري » 3 : 1126 أبواب الخمس ، ح 2926 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 384 - 385 ، الرقم 292 - 293.

الكتاب إنّما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد.

وأجيب : بأنّ خبر الواحد وإن كان ظنّيّ المتن فقد يكون قطعيّ الدلالة فيخصّص به عامّ الكتاب ؛ لكونه ظنّيّ الدلالة وإن كان قطعيّ المتن ؛ جمعا بين الدليلين.

وتحقيق ذلك في أصول الفقه. على أنّ الخبر المسموع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إن لم يكن فوق المتواتر في كونه بمنزلته فيجوز للسامع المجتهد أن يخصّص به عامّ الكتاب.

[2] ومنها : أنّه ( منع فاطمة علیهاالسلام من فدك ) وهي قرية بخيبر ( مع ادّعاء النحلة لها وشهد بذلك عليّ وأمّ أيمن ) فلم يصدّقهم ( وصدق الأزواج ) أي أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ( في ادّعاء الحجرة لهنّ ) من غير شاهد ، ومثل هذا الجور والميل لا يليق بالإمام ( ولهذا ردّها عمر بن عبد العزيز ) أي فدك إلى أولاد فاطمة.

( وأوصت فاطمة أن لا يصلّي عليها أبو بكر فدفنت ليلا ) (1).

فإنّ هذين الأمرين - أي ردّ عمر بن عبد العزيز فدك إلى أولاد فاطمة علیهاالسلام ووصيّتها من حضر أن لا يصلّي عليها أبو بكر - يدلاّن على أنّه ظلم فاطمة.

وأجيب : بأنّه لو سلّم صحّة ما ذكره فليس على الحاكم أن يحكم بشهادة رجل وامرأة وإن فرض عصمة المدّعي والشاهد ، وله الحكم لا علمه يقينا وإن لم يشهد به شاهد.

[3] ومنها : ما أشار إليه بقوله : ( ولقوله : أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم ) (2).

بيان ذلك أنّه إذا كان صادقا في هذا الكلام لم يصلح للإمامة ، وإن كان كاذبا لم يصلح أيضا لاشتراط العصمة في الإمامة.

[4] ومنها : ما أشار إليه بقوله : ( ولقوله : إنّ له شيطانا يعتريه ) (3). يعني أنّه قال : إنّ

ص: 329


1- راجع « الاحتجاج » 1 : 234 - 242 ؛ « طرائف الحكم » : 247 - 275 ؛ « تفسير القمّي » 2 : 155 - 159 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 16 : 209 ؛ « مسند أحمد » 1 : 25 ، ح 25 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 383 ، الرقم 158.
2- « مناقب آل أبي طالب » 4 : 380 ؛ « عيون أخبار الرضا » 2 : 231 باب 57 ؛ « الفضائل » : 131 ؛ « الاحتجاج » 1 : 199 ؛ « مجمع الزوائد » 5 : 334 ، الرقم 8929 ؛ « الصواعق المحرقة » : 11 ؛ « الإمامة والسياسة » : 14.
3- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 17 : 158 ؛ « تاريخ الطبري » 3 : 224 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 4 : 380 ؛ « كنز العمّال » 5 : 631 ، الرقم 14112.

لي شيطانا يعتريني ، فإن أصبت أعينوني ، وإن عصيته جنّبوني ، وبيانه كما في المتقدّم من أنّه إن كان صادقا لم يصلح للإمامة ، وإن كان كاذبا لم يصلح أيضا ، لانتفاء العصمة.

وأجيب بأنّه على تقدير صحّته قصد به التواضع وهضم النفس ، وقد ورد في الحديث « أنّ كلّ مولود له شيطان » (1). وقوله : « عصيته » شرطيّة لا يقتضي صدقها وقوع الطرفين.

[5] ومنها : ما أشار بقوله ( ولقول عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ) (2) ، يعني أنّها لو كانت فجأة عن خطإ لا عن تدبير وتأمّل.

وأجيب بأنّ المعنى أنّها كانت فجأة وبغتة وقى اللّه شرّ الخلاف الذي كاد يظهر عندها ، فمن عاد إلى مثل تلك المخالفة الموجبة لتبديل الكلمة ، فكيف يتصوّر منه القدح في إمامة أبي بكر ، مع ما علم من مبالغته في تعظيمه وانعقاد البيعة له ومن صيرورته خليفة باستخلافه؟

[6] ومنها : أنّه ( شكّ عند موته في استحقاقه للخلافة ) (3) ؛ حيث قال : وددت أنّي سألت النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن هذا الأمر فيمن هو؟ وكنّا لا ننازع أهله.

وأجيب بمنع صحّة الخبر ، وعلى تقدير صحّته أراد به المبالغة في طلب الحقّ ونفي الاحتمال البعيد.

[7] ومنها : أنّه ( خالف الرسول في الاستخلاف عندهم ) (4) والرسول مع أنّه أعرف

ص: 330


1- « بحار الأنوار » 67 : 40 - 41 ، وفيه : « ما منكم من أحد إلاّ وله شيطان ».
2- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 2 : 23 و 26 ؛ « الاحتجاج » 2 : 319 ؛ « عيون أخبار الرضا » 2 : 231 باب 57 ، ح 1 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 301 ، الرقم 101.
3- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 265 ؛ « مروج الذهب » 2 : 308 - 309 ؛ « تأريخ اليعقوبي » 2 : 24 - 25 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 301 ، الرقم 102.
4- حيث نصّ على عمر بالخلافة من بعده ، فخالف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - على زعمهم - لأنّه كان يزعم أنّه لم يستخلف النبيّ أحدا من بعده ، وهو قد استخلف عمر من بعده وترك الشورى!

بالمصالح والمفاسد وأوفر شفقة على الأمّة لم يستخلف أحدا.

وأجيب بأنّه لا نسلّم أنّه صلی اللّه علیه و آله عزل عمر بل نقصد لم يستخلف أحدا بل استخلف إجماعا ، أمّا عند الأشاعرة فأبا بكر ، وأمّا عند الشيعة فعليّا.

[8] ومنها : أنّه خالف الرسول ( في تولية من عزله ) ؛ فإنّه ولى عمر جميع أمور المسلمين مع أنّ النبيّ عزله مقدّما ولاّه أمر الصدقات.

وأجيب بأنّا لا نسلّم أنّه صلی اللّه علیه و آله عزل عمر بل أنقض توليته بانقضاء شغله ، كما إذا ولّيت أحدا عملا فأتمّه فلم يبق عاملا ، فإنّه ليس من العزل في شيء.

وأيضا لا نسلّم أنّ مجرّد فعل ما لم يفعله التي مخالفة له وترك لاتّباعه وإنّما المخالفة أو الفعل ما نهى عنه أو ترك ما أمن.

[9] منها : أنّه خالف الرسول صلی اللّه علیه و آله ( في التخلّف عن جيش أسامة مع علمهم بقصد البعد ) (1) ؛ والنبيّ صلی اللّه علیه و آله [ أمر ] أبا بكر وعمر وعثمان في أن ينفّذوا جيش أسامة ، فإنّه قال في مرضه الذي قضى فيه نحبه : « نفّذوا جيش أسامة » وكان الثلاثة في جيشه وفي جملة من يجب عليه النفوذ معه ولم يفعلوا ذلك ، مع أنّهم عرفوا قصد النبيّ ؛ لأنّ غرضه من التنفيذ في المدينة بعد الثلاثة عنها بحيث لا يتواثبوا على الإمامة بعد موت النبيّ ؛ ولهذا جعل الثلاثة في الجيش ولم يجعل عليّا.

وأجيب بمنع صحّة ذلك.

( وولى أسامة عليهم فهو أفضل وعليّ لم يولّ عليه أحد فهو أفضل من أسامة ) يعني في تولية أسامة عليهم دليل على تفضيله عليهم ، فهو ولا شكّ لأحد في أنّ عليّا علیه السلام أفضل من أسامة فعليّ أفضل منهم ، فهو المتعيّن للإمامة.

وأجيب بأنّ تولية أسامة عليهم لو ثبت فلعلّه لغرض غير الأفضليّة مثل كونه

ص: 331


1- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 1 : 159 - 160 ؛ « الملل والنحل » 1 : 23 ؛ « السيرة الحلبيّة » 3 : 227 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 302 ، الرقم 105 ؛ « الشافي » 4 : 124 وما بعدها.

أعلم بقيادة الجيش.

[10] ومنها : أنّ أبا بكر ( لم يتولّ عملا في زمانه ) وبعثه النبيّ إلى مكّة ( وأعطاه سورة براءة ) ليقرأ على الناس ( فنزل جبرئيل وأمر بردّه وأخذ السورة منه وأن لا يقرأها إلاّ هو أو واحد من أهله فبعث بها عليّا ) (1) ، وأمره أن يأخذ منه السورة ويقرأها على أهل مكّة.

وأجيب بأنّه لا نسلّم أنّه لم يتولّ عملا في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله فإنّه أمّره على الحجيج في سنة تسع من الهجرة ، واستخلفه في الصلاة في مرضه وصلّى عليّ خلفه.

وأيضا لا نسلّم أنّه عزله عن قراءة سورة براءة ، بل المرويّ أنّه ولاّه الحجيج وأردفه بعليّ علیه السلام بقراءة سورة براءة وقال : « لا يؤدّي عنّي إلاّ رجل منّي » (2) ؛ وذلك لأنّ عادة العرب أنّهم إذا أخذوا المواثيق والعهود كان لا يفعل ذلك إلاّ صاحب العهد أو رجل من بني أعمامه ، فجرى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على سابق عهدهم.

[11] ومنها : أنّه ( لم يكن عارفا بالأحكام حتّى قطع يسار سارق وأحرق بالنار ) فجاءة السلمي ، وقد نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن ذلك وقال : « لا يعذّب بالنار إلاّ ربّ النار » ( ولم يعرف الكلالة ) فإنّه سئل عنها فلم يقل فيها ، ثمّ قال : أقول في الكلالة بذاتي ، فإن أصبت فمن اللّه ، وإن أخطأت فمن الشيطان.

( ولا ميراث الجدّة ) (3) سألته جدّة عن ميراثها قال : لا أجد لك شيئا في كتاب اللّه ولا سنّة نبيّه فأخبره المغيرة ومحمّد بن مسلمة أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعطاها السدس.

( واضطرب في كثير من أحكام ) ، وكان يستفتي من الصحابة ، وهذا دليل واضح

ص: 332


1- راجع « مسند أحمد » 9 : 19 ، الرقم 23054 ؛ « الطرائف » 1 : 55 - 59 ؛ « الشافي » 4 : 152 ؛ « تفسير البرهان » 2 : 100 ؛ « مجمع البيان » 5 : 8 - 9 ؛ « الكشّاف » 2 : 234 ؛ « تفسير الصافي » 2 : 319 - 320 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 277 ، الرقم 42.
2- راجع « مسند أحمد » 9 : 19 ، الرقم 23054 ؛ « الطرائف » 1 : 55 - 59 ؛ « الشافي » 4 : 152 ؛ « تفسير البرهان » 2 : 100 ؛ « مجمع البيان » 5 : 8 - 9 ؛ « الكشّاف » 2 : 234 ؛ « تفسير الصافي » 2 : 319 - 320 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 277 ، الرقم 42.
3- « إثبات الهداة » 4 : 302 ، الرقم 106 ؛ « منهاج السنّة النبويّة » لابن تيمية 3 : 194 وما بعدها ؛ « الشافي » 4 : 157 وما بعدها ؛ « بحار الأنوار » 30 : 506 وما بعدها.

على قصور علمه فلم يصلح للإمامة.

وأجيب عنه بأنّه إن أريد به أنّه ما كان جميع أحكام الشريعة حاضرة عنده على سبيل التفصيل ، فهو مسلّم ، ولكن ليس هذا من خواصّ أبي بكر ، بل جميع الصحابة مشاركون في هذا المعنى ، ولا يقدح في استحقاق الإمامة. وإن أريد به أنّه لم يكن من أهل الاجتهاد في المسائل الشرعيّة والقدرة على معرفتها باستنباطها من مداركها فهو ممنوع.

وقطع يسار السارق لعلّه من غلط الجلاّد ، وأضيف إليه ؛ لأنّ أصل القطع كان بأمره ، ويحتمل أنّه كان كذلك في المرّة الثانية على ما هو رأي أكثر الفقهاء.

وإحراق فجاءة السلمي بالنار من غلطه في اجتهاده فكم مثله في المجتهدين.

وأمّا مسألة الكلالة والجدّة فليس بدعا من المجتهدين ويبحثون عن المدارك في الأحكام ، ويسألون من أحاط بها علما ؛ لهذا رجع عليّ في بيع أمّهات الأولاد إلى قول عمر ، وذلك لا يدلّ على عدم علمه بأحكام الشريعة.

[12] ومنها : أنّه ( لم يحدّ خالدا ولا اقتصّ منه ) حيث قتل مالك بن نويرة وهو مسلم ؛ طمعا في التزوّج بامرأته لجمالها ؛ ولذلك تزوّج بها من ليلته وصاحبها ، فأشار إليه عمر بقتله قصاصا ، فقال : لا أغمد سيفا شهره اللّه على الكفّار ، فأنكر عمر عليه ذلك ، وقال لخالد : لئن ولّيت الأمر لأقيدنّك به (1).

وأجيب عنه بأنّا لا نسلّم أنّه وجب على خالد الحدّ والقصاص فإنّه قد قيل : إنّ خالدا إنّما قتل مالكا ؛ لأنّه تحقّق منه الردّة وتزوّج امرأته في دار الحرب ؛ لأنّه من المسائل المجتهد فيها بين أهل العلم.

وقيل : إنّ خالدا لم يقتل مالكا ، بل قتله بعض أصحابه ؛ لظنّه أنّه ارتدّ وكانت

ص: 333


1- « الكامل في التأريخ » 2 : 357 - 359 ؛ « تأريخ الطبري » 3 : 278 - 280 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 1 : 179 ؛ « الشافي » 4 : 161 - 162.

زوجته مطلّقة منه وقد انقضت عدّتها ، وإنكار عمر عليه لا يدلّ على قدحه في إمامة أبي بكر ، ولا على قصده إلى القدح فيها ، بل إنّما أنكر كما ينكر بعض المجتهدين.

[13] ومنها : أنّه ( دفن في بيت رسول اللّه وقد نهى اللّه دخوله في حياته ) (1) بغير إذن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وأجيب عنه بأنّ الحجرة كانت ملكا لعائشة ، وقد دفن فيها بإذنها. والمنع من دخول المؤمنين بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله بغير إذنه حال حياته لا يقتضي عدم دفن أبي بكر في بيته إذا كان ملكا لغيره.

[14] ومنها : أنّه ( بعث إلى بيت أمير المؤمنين لمّا امتنع من البيعة فأضرم فيه النار وفيه فاطمة وجماعة من بني هاشم ) (2).

وأجيب عنه بأنّه تأخّر عليّ علیه السلام عن بيعة أبي بكر لم يكن عن شقاق ومخالفة ، وإنّما كان لعذر وطروّ أمر ؛ ولهذا اقتدى به وأخذ من إعطائه ، وكان منقادا له في جميع أوامره ونواهيه معتقدا صلاحيّته للإمامة وصحّة بيعته وقال : « خير هذه الأمّة بعد نبيّنا أبو بكر وعمر » (3).

[15] ومنها : أنّه ( ردّ عليه الحسنان لمّا بويع ). روي أنّه : لمّا صعد أبو بكر المنبر بعد البيعة ليخطب الناس جاء الحسن والحسين علیهماالسلام وقال : « هذا مقام جدّنا ولست أهلا له » (4).

وأجيب بمنع صحّة الرواية.

[16] ومنها : أنّه ( كشف بيت فاطمة علیهاالسلام ) وقال : ليتني تركت بيت فاطمة

ص: 334


1- وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... ) . الأحزاب 1. : 53.
2- « تأريخ الطبري » 3 : 202 ؛ « العقد الفريد » 5 : 13 ؛ « الإمامة والسياسة » 1 : 12 ؛ « تأريخ اليعقوبي » 2 : 11 ؛ « إثبات الهداة » 2 : 281 ؛ « الطرائف » 1 : 238.
3- راجع صفحة 291 - 292 ، المتقدّمة.
4- ذكره العلاّمة في « كشف المراد » : 377 ، وأورده الطبرسي بألفاظ أخرى في « الاحتجاج » 2 : 77 - 161.

ولم أكشفه (1). وهذا يدلّ على خطإ في ذلك.

وأجيب بأنه لم يثبت.

وأمّا مطاعن عمر

[1] فمنها : أنّه ( أمر عمر برجم امرأة حاملة وأخرى مجنونة فنهاه عليّ علیه السلام ) وقال في الأوّل : « إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل على حملها » ، وقال في الثاني : « القلم مرفوع عن المجنون » ، فقال : لو لا عليّ لهلك عمر (2).

وأجيب عنه بأنّه لم يعلم الحمل والجنون. وقوله : « لو لا عليّ لهلك عمر » باعتبار عدم مبالغته في البحث عن حالهما ، يعني لو لم ينبّه عليّ على تلك الحالة ورجمها لكان يناله من الأسف على ترك المبالغة في البحث عن حالهما ما هو أفرع من حالة الهلاك.

[2] ومنها : أنّه ( تشكّك في موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ) حتّى قبض فقال : واللّه ما مات محمّد ، ولا يترك هذا القول حتّى يقطع أيدي رجال وأرجلهم ولم يسكن إلى موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ( حتّى تلا عليه أبو بكر ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (3) فقال : كأنّي لم أسمع هذه الآية ) (4).

وأجيب بأنّ قصّته في حال موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا تدلّ على جهله بالقرآن ؛ فإنّ تلك الحالة كانت حالة تشويش البال ، واضطراب الحال ، والذهول عن الجليّات ، والغفلة عن الواضحات حتّى أنّه قيل : إنّ بعض الصحابة في تلك الحالة طرأ عليه الجنون ، وبعضهم صار أعمى ، وبعضهم صار أخرس ، وبعضهم هام على وجهه ، وبعضهم صار

ص: 335


1- « الإمامة والسياسة » : 18 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 357 ، الرقم 208 ؛ « الخصال » 1 : 171 - 172 باب الثلاثة ، ح 228.
2- « فتح الباري » 12 : 145 باب 22 ، الرقم 6816 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 12 : 202 - 203 ؛ « الشافي » 4 : 179.
3- الزمر (39) : 30.
4- « إثبات الهداة » 4 : 324 - 325 ، الرقم 141 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 12 : 195.

مقعدا لا يقدر على القيام. وفي قوله : « كأنّي لم أسمع » دلالة على أنّه سمعها وعلمها ولكن ذهل عنها. ويحتمل أنّه فهم من قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (1) ، وقوله ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) (2) أنّه يبقى على تمام هذه الأمور ظهورها غاية الظهور.

[3] ومنها : أنّه ( قال : كلّ الناس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحجال لمّا امتنع من المغالاة في الصداق ) روي أنّه قال يوما في خطبته : من غالى في صداق ابنته جعلته في بيت المال ، فقالت له امرأة : كيف تمنعنا ما أحلّه اللّه تعالى في كتابه بقوله : ( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) (3)؟ فقال هذا القول (4).

وأجيب بأنّه لم ينه نهي تحريم ، بل إنّما نهاه على معنى أنه وإن كان جائزا شرعا فتركه أولى ؛ نظرا إلى أمر المعاش. وقوله : كلّ الناس أفقه من عمر فعلى طريق التواضع وكسر النفس.

[4] ومنها : أنّه ( أعطى أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأفرض ومنع فاطمة وأهل البيت من خمسهم ) (5).

[5] ومنها : أنّه ( قضى في الحدّ بمائة قضيّة ) (6).

[6] ومنها : أنّه ( فضّل في القسمة ) والعطاء المهاجرين على الأنصار والأنصار على غيرهم ، والعرب على العجم ولم يكن ذلك في زمن النبيّ (7) صلی اللّه علیه و آله .

ص: 336


1- التوبة (9) : 33.
2- النور (24) : 55.
3- النساء (4) : 20.
4- « منهاج السنّة النبويّة » 3 : 232 ؛ « تفسير الدرّ المنثور » 2 : 466.
5- « إثبات الهداة » 4 : 364 ، الرقم 230 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 12 : 210.
6- « الشافي » 4 : 193 ؛ « فتح الباري » 12 : 23 باب 9 ؛ « كنز العمّال » 11 : 58 ، الرقم 30612 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 12 : 246 - 247.
7- « الشافي » 4 : 185 - 186 ؛ « منار الهدى » : 441.

[7] ومنها : أنّه ( منع متعتين ) ؛ فإنّه صعد على المنبر وقال : يا أيّها الناس ، ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ ، وهي متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل. (1)

وأجيب عن الوجوه الأربعة بأنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحا فيه ، فإنّ مخالفة المجتهدين لغيره في المسائل الاجتهاديّة ليس ببدع.

[8] ومنها : أنّه ( حكم في الشورى بضدّ الصواب ) (2) ؛ فإنّه خالف النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث لم يفوّض تعيين الإمام إلى اختيار الناس ، وخالف أبا بكر ؛ حيث لم ينصّ على إمامة واحد معيّن واختار الشورى وجعل الإمامة في ستّة نفر.

وأجيب بأنّ ذلك ليس من المخالفة في شيء كما مرّ من أنّ تنصيص أبي بكر على واحد معيّن ليس مخالفة للنبيّ.

[9] ومنها : أنّه ( خرق كتاب فاطمة علیهاالسلام ) (3) على ما روي من أنّ فاطمة علیهاالسلام لمّا طالت المنازعة بينها وبين أبي بكر ردّ أبو بكر عليها فدك ، وكتب لها بذلك كتابا فخرجت والكتاب في يدها ، فلقيها عمر فسألها عن شأنها فقصّت له قصّتها ، فأخذ منها الكتاب فخرقه ، ودخل على أبي بكر وعابه على ذلك ، واتّفقا على منعها عن فدك.

وأجيب عنه بمنع صحّة هذا الخبر ، كيف؟ ولم يردّه أحد من الثقات.

وأمّا مطاعن عثمان

[1] فمنها : أنّه ( ولى عثمان من ظهر فسقه حتّى أحدثوا في أمر المسلمين ما أحدثوا ) ؛ فإنّه ولى الوليد بن عتبة وظهر منه شرب الخمر ، وصلّى بالناس وهو

ص: 337


1- « التفسير الكبير » 4 : 43 - 44 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 374 ؛ « مسند أحمد » 5 : 72 ، الرقم 14486.
2- « الشافي » 4 : 199 وما بعدها ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 2 : 256.
3- « إثبات الهداة » 4 : 365 ، الرقم 231 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 16 : 274.

سكران ، واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أخرجه أهل الكوفة عنها ، وولى عبد اللّه بن أبي شريح مصرا فأساء التدبير فشكاه أهله وتظلّموا منه ، وولى معاوية الشام فظهرت منه الفتن العظيمة (1).

وأجيب عنه بأنّه إنّما ولى من ولاّه لظنّه أنّه أهل الولاية ، ولا اطّلاع له على السرائر ، وإنّما عليه الأخذ بالظاهر والعزل عند تحقق الفسق ومعاوية كان على الشام في زمن عمر أيضا وإنّما ظهر منه الفتن في زمان عليّ علیه السلام .

[2] ومنها : أنّه ( آثر أهله وأقاربه بالأموال ) العظيمة من بيت المال (2) وفرّقها عليهم مبذّرا في التفريق حتّى نقل أنه دفع إلى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف دينار.

وأجيب بأنّها لم تكن من بيت المال بل من خاصّة نفسه ، وتموّله وثروته مشهور ، وإيثار أقاربه بأموال خاصّة مستحسن شرعا وعرفا.

[3] ومنها : أنّه ( حمى الحمى لنفسه عن المؤمنين ) (3) وذلك خلاف الشرع ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جعل الناس في الماء والكلإ شرعا.

وأجيب بأنّ أخذ الحمى لم يكن لنفسه بل لنعم الصدقة والجزية والضوالّ ، وكان ذلك في زمن الشيخين أيضا إلاّ أنّه زاد في عهد عثمان لازدياد شوكة الإسلام.

[4] ومنها : أنّه ( أوقع أشياء منكرة في حقّ الصحابة ، فضرب ابن مسعود حتّى مات ، وأحرق مصحفه ، وضرب عمّارا حتّى أصابه فتق ، وضرب أبا ذرّ ونفاه إلى الربذة ) (4).

ص: 338


1- انظر « الإصابة في تمييز الصحابة » 6 : 323 ، الرقم 9148 ؛ « الاستيعاب » 4 : 1554 ، الرقم 2721 ؛ « الأعلام » للزركلي 8 : 122 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 3 : 11 - 12 ؛ « الإمامة والسياسة » : 32 ؛ « الشافي » 4 : 225.
2- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 1 : 199.
3- المصدر السابق 3 : 39.
4- المصدر السابق 1 : 199.

وأجيب بأنّ ضرب ابن مسعود إن صحّ فقد قيل : إنّه لمّا أراد عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد ويرفع الاختلاف بينهم في كتاب اللّه تعالى طلب مصحفه منه فأبى ذلك مع ما كان فيه من الزيادة والنقصان ، ولم يرض أن يجعل موافقا لما اتّفق عليه أجلّ الصحابة ، فأدّبه عثمان لينقاد ، ولا نسلّم أنّه مات من ذلك.

وضرب عمّار كان لما روي أنّه دخل عليه وأساء الأدب عليه وأغلظ له في القول بما لا يجوز الاجتراء بمثله على الأئمّة ، وللإمام التأديب لمن أساء الأدب عليه وإن أفضى ذلك إلى هلاكه ، ولا إثم عليه ؛ لأنّه وقع عن ضرورة فعل ما هو جائز له. كيف؟ وإنّ ما ذكره لازم على الشيعة حيث قيل : إنّ عليّا علیه السلام قتل أكثر الصحابة في حربه ، فإذا جاز القتل لمفسدة جاز التأديب بالطريق الأولى.

وضرب أبا ذرّ ؛ لأنّه قد بلغه أنّه كان في الشام إذا صلّى الجمعة وأخذ الناس في مناقب الشيخين يقول لهم : أرأيتم ما أحدث الناس بعدهما؟ شيّدوا البنيان ، ولبسوا الناعم ، وركبوا الخيل ، وأكلوا الطيّبات. وكاد يفسد بأقواله الأمور ويشوّش الأحوال ، فاستدعاه من الشام فكان إذا رأى عثمان قال : ( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) (1) فضربه عثمان بالسوط على ذلك تأديبا له. وللإمام ذلك بالنسبة إلى كلّ من أساء الأدب عليه وإن أفضى ذلك التأديب إلى هلاكه ، ثمّ قال : إمّا أن تكفّ وإمّا أن تخرج إلى حيث شئت ، فخرج إلى الربذة غير منفيّ ومات بها.

[5] ومنها : أنّه ( أسقط القود عن ابن عمر ) (2) ومنها أنّه أسقط ( الحدّ عن الوليد مع وجوبهما عليهما ). أمّا وجوب القود على عبد اللّه بن عمر ؛ لأنّه قتل الهرمزان ملك الهوازن ، وقد أسلم بعد ما أسر في فتح أهواز.

ص: 339


1- التوبة (9) : 35.
2- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 3 : 59 ؛ « طبقات ابن سعد » 5 : 16 ؛ « الشافي » 4 : 230 ؛ « أسد الغابة » 3 : 342 - 343.

وأمّا وجوب الحدّ على الوليد بن عتبة ؛ فلأنّه شرب الخمر (1).

وأجيب عن الأوّل بأنّه اجتهد ورأى أنّه لا يلزمه حكم هذا القتل ؛ لأنّه وقع قبل عقد الإمامة. وعن الثاني بأنّه أخّر الحدّ ليكون على ثقة من شربه الخمر. وقبل أن يتيقّن قضى نحبه وآل الأمر إلى عليّ علیه السلام .

[6] ومنها : أنّه ( خذلته الصحابة حتّى قتل ، وقال أمير المؤمنين عليّ : « قتله اللّه » ولم يدفن إلى ثلاث ) (2) ، يعني أنّ الصحابة خذلوه وكان يمكنهم الدفع عنه ، فلو لا علمهم باستحقاقه لذلك لما ساغ لهم تأخير نصرته سيّما الخذلان.

وقول عليّ علیه السلام يشعر بأنّ قتله كان بحقّ. وعدم دفنهم إلى ثلاثة أيّام دليل على شدّة غيظهم عليه ، وما ذلك إلاّ لسلوكه طريقة غير مرضيّة.

وأجيب عنه بأنّ حديث خذلان الصحابة ، وتركهم دفنه من غير عذر لو صحّ لكان قدحا فيهم لا فيه ، ونحن لا نظنّ بالمهاجرين والأنصار عموما ولعليّ علیه السلام خصوصا أن يرضوا لقتل مظلوم في دارهم وترك دفن ميّت في جوارهم ، سيّما من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما وعاكفا طول النهار وذاكرا وصائما شرّفه رسول اللّه بابنتيه وبشّره بالجنّة وأثنى عليه ، وكيف يخذلونه وقد كان من زمرتهم وطول العمر في نصرتهم ، وعلموا سابقته في الإسلام وخاتمته إلى دار السّلام ، لكنّه لم يأذن لهم في المحاربة ولم يرض بما حاولوا من المدافعة تجانبا عن إراقة الدماء ورضى بسابق القضاء ، ومع ذلك لم يدع الحسن والحسين علیهماالسلام في الدفع عنه مقدورا.

[7] ومنها : أنه لم يحضر المشاهد الثلاثة ، وإليه أشار بقوله : ( وعابوا عثمان غيبته عن بدر وأحد والبيعة ) (3) ، أي بيعة الرضوان ، وذلك نقص بيّن في حقّه.

ص: 340


1- « الشافي » 4 : 253 ؛ « كشف المراد » : 380 - 381.
2- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 3 : 62 - 63.
3- « إثبات الهداة » 4 : 367 ، الرقم 367 ؛ « كشف المراد » : 381.

وأجيب بأنّ غيبته كانت بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وكفى منقبة أنّه صلی اللّه علیه و آله أقام يده في البيعة مقام يده.

[ في خصائص عليّ علیه السلام ]

( وعليّ علیه السلام أفضل لكثرة جهاده وعظم بلائه في وقائع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في غزاة بدر ) وهي أوّل حرب امتحن بها المؤمنون لقلّتهم وكثرة المشركين ، فقتل عليّ الوليد بن عتبة ، ثمّ شيبة ، ثمّ ابن ربيعة ، ثمّ العاص بن سعد ، ثمّ سعد بن العاص ، ثمّ حنظلة بن أبي سفيان ، ثمّ طعيمة بن عدي ، ثمّ نوفل بن خويلد ، ولم يزل يقاتل حتّى قتل نصف المشركين ، والباقي من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتلوا النصف الآخر ، ومع ذلك كانت الراية في يد عليّ (1).

وفي غزاة ( أحد ) جمع له رسول اللّه بين اللواء والراية ، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ، وكان يسمّى كبش الكتيبة فقتله عليّ فأخذ الراية غيره فقتله عليّ علیه السلام ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد حتّى قتل تسعة نفر ، فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم ، فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ ، وضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتّى غشي عليه ، فانهزم الناس عنه سوى عليّ علیه السلام فنظر إليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد إفاقته وقال له : « اكفني هؤلاء » فهزمهم عنه فكان أكثر المقتولين منه (2).

وفي ( يوم الأحزاب ) وقد بالغ في هذا اليوم في قتل المشركين ، وقتل عمرو بن عبد ودّ ، وكان بطل المشركين وطلب البراز مرارا فامتنع عنه المسلمون وعليّ يروم مبارزته والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يمنعه من ذلك لينظر صنيع المسلمين فلمّا رأى امتناعهم أذن له وعمّمه بعمامته ودعا له. قال حذيفة : لمّا دعا عمرو إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافّة ما خلا عليّا علیه السلام فإنّه برز إليه ، فقتله اللّه تعالى على يد

ص: 341


1- « كشف المراد » : 382 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 3 : 143 ؛ « المعجم الكبير » 11 : 311 ، الرقم 12101.
2- « كشف المراد » : 382 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 : 82 ؛ « شرح نهج البلاغة » 15 : 7.

عليّ علیه السلام ، والذي نفس حذيفة بيده لعمله في ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله إلى يوم القيامة ، وكان الفتح في ذلك اليوم على يد عليّ ، وقال النبيّ : لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين (1).

( وفي غزاة خيبر ) واشتهار جهاده فيها غير خفيّ وفتح اللّه تعالى على يده ؛ فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله حصر حصنهم ستّة عشر يوما ، وكانت الراية بيد عليّ فأصابه رمد فسلّم النبيّ صلی اللّه علیه و آله الراية إلى أبي بكر ، وانصرف مع جماعة فرجعوا منهزمين خائفين ، فدفعها من الغد إلى عمر ففعل مثل ذلك ، فقال : « لأسلمنّ الراية غدا إلى رجل يحبّه اللّه ورسوله ، ويحبّ اللّه ورسوله كرّارا غير فرّار ائتوني بعليّ » فقيل : به رمد ، فتفل في عينيه فدفع الراية إليه فقتل مرحبا ، فانهزم أصحابه وغلقوا الأبواب وفتح عليّ الباب واقتلعه وجعله جسرا على الخندق وعبروا وظفروا ، فلمّا انصرفوا أخذه بيمينه ورماه أذرعا وكان يغلقه عشرون رجلا ، وعجز المسلمون من نقله حتّى نقله سبعون رجلا ، وقال عليّ : « ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة ولكن قلعته بقوّة ربّانيّة » (2).

وفي غزاة ( حنين ) وقد سار النبيّ صلی اللّه علیه و آله في عشرة آلاف من المسلمين فتعجّب أبو بكر من كثرتهم وقال : لن نغلب اليوم لقلّة ، فانهزموا بأجمعهم ولم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله سوى تسعة نفر : عليّ والعبّاس وابنه الفضل ، وأبو سفيان بن الحارث ، ونوفل بن الحارث ، وعبد اللّه بن الزبير ، وعتبة ومصعب ابنا أبي لهب فخرج أبو جزول فقتله عليّ فانهزم المشركون وأقبل النبيّ وسارقوا العدوّ فقتل عليّ أربعين وانهزم الباقون وغنمهم المسلمون (3).

ص: 342


1- « كشف المراد » : 382 - 383 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 376 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 3 : 159 وما بعدها.
2- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 152 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 176 - 185 ؛ « الأمالي » للصدوق : 415 ، المجلس 77 ، ح 10 ؛ « إثبات الهداة » 4 : 479 ، الرقم 73.
3- « إعلام الورى » 1 : 386 ؛ « كشف المراد » : 383 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 : 140 وما بعدها.

( وغيرها من الوقائع ) (1) المأثورة والغزوات المشهورة التي نقلها أرباب السير.

فيكون عليّ أفضل ؛ لقوله تعالى : ( فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) (2) ؛ ( ولأنّه أعلم لقوّة حدسه ، وشدّة ملازمته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ) ؛ لأنّه في صغره كان في حجره وفي كبره كان ختنا له يدخله كلّ وقت ، وكثرة استفادته منه ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان في غاية الحرص على إرشاده.

وقال حين نزل قوله تعالى : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (3) : « اللّهمّ اجعلها أذن عليّ علیه السلام » ، قال عليّ علیه السلام : « ما نسيت بعد ذلك شيئا » (4) ، وقال : « علّمني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألف باب من العلم فانفتح لي من كلّ باب ألف باب من العلم » (5).

( ورجعت الصحابة إليه في أكثر الوقائع بعد غلطهم ، وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أقضاكم عليّ » (6) فاستند الفضلاء في جميع العلوم إليه ) كالأصول الكلاميّة والفروع الفقهيّة وعلم التفسير وعلم التصوّف وعلم النحو وغيرها ، فإنّ حرفة المشايخ تنتهي إليه وابن العبّاس رئيس المفسّرين تلميذه ، وأبو الأسود الدؤلي دوّن النحو بإرشاده (7).

( وأخبر هو بذلك ) حيث قال : « واللّه لو كسرت إليّ الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، واللّه ما نزلت من آية في برّ أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو

ص: 343


1- كغزوة بني قريظة والحديبيّة ويوم فتح مكّة وغيرها.
2- النساء (4) : 95.
3- الحاقّة (69) : 12.
4- « نور الثقلين » 5 : 402 ، الرقم 10 - 11 ؛ « مجمع البيان » 10 : 107 ؛ « تفسير البرهان » 4 : 376.
5- « الإرشاد » للمفيد 1 : 34 ؛ « إعلام الورى » 1 : 267.
6- « تهذيب الأحكام » 6 : 221 ، ح 521 ؛ « وسائل الشيعة » 27 : 19 ، أبواب صفات القاضي ، ح 9 ؛ « دعائم الإسلام » 1 : 92.
7- « الفصول المختارة » : 91 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 1 : 18 - 20.

أرض أو ليل أو نهار إلاّ أنا أعلم فيمن نزلت؟ وفي أيّ شيء نزلت من آية؟ » (1) وإذا كان أعلم كان أفضل.

( ولقوله تعالى : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) (2) ) ليس المراد به نفسه ؛ لأنّ أحدا لا يدعو نفسه. كما لا يأمر نفسه.

وليس المراد فاطمة والحسن والحسين علیهم السلام ؛ لأنّهم اندرجوا في قوله تعالى : ( أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ) (3) فلا بدّ وأن يكون شخصا آخر غير نفسه وغير فاطمة والحسن والحسين علیهم السلام وليس غير عليّ بالإجماع ، فتعيّن أن يكون عليّا.

وبيان دلالته على كونه أفضل الصحابة أنّ دعاءه للمباهلة يدلّ على أنّه في غاية الشفقة والمحبّة لعليّ وإلاّ لقال المنافقون : إنّ الرسول لم يدع للمباهلة من يحبّه ويحذر عليه من العذاب.

( ولكثرة سخائه على غيره ) يدلّ على ذلك ما اشتهر عنه من إيثار المحاويج على نفسه وأهل بيته حتّى جاد بقوته وقوت عياله وبات طاويا هو وإيّاهم ثلاثة أيّام حتّى أنزل اللّه في حقّهم : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (4).

وتصدّق في الصلاة بخاتمه ونزل في شأنه : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (5).

( وكان أزهد الناس بعد النبيّ ) لما تواتر ، وتصدّق مرّة أخرى بجميع ما يملكه وقد كان يملك حينئذ أربعة دراهم لا غير فتصدّق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا ، وإعراضه عن لذّات الدنيا مع اقتداره عليها ؛ لاتّساع أبواب الدنيا عليه ، ولهذا قال : « يا دنيا يا دنيا إليك عنّي أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك هيهات غرّي غيري ،

ص: 344


1- « تفسير فرات الكوفي » 1 : 188 ، الرقم 239 - 21.
2- آل عمران (3) : 61.
3- آل عمران (3) : 61.
4- الإنسان (76) : 8.
5- المائدة (5) : 55.

لا حاجة لي فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير » (1).

وقال : « واللّه فدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم » (2).

وكان أخشن الناس أكلا وشربا ولم يشبع من طعام.

وقال عبد اللّه بن رافع : دخلت يوما فقدّم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فأكلنا منه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لم ختمته؟ فقال : « خفت هذين الولدين يلتّانه بزيت أو سمن » (3).

وهذا شيء اختصّ به عليّ علیه السلام ولم يشاركه غيره فيه ولم ينل أحد بعض درجته ، وكان نعلاه من ليف ويرقع قميصه بجلد تارة وبليف أخرى ، وقلّ أن يأتدم ، فإن فعل فبالملح أو الخلّ ، فإن ترقّى فبنبات الأرض ، فإن ترقّى فبلبن. وكان لا يأكل اللحم إلاّ قليلا ويقول : « لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان » (4).

( وأعبدهم ) حتّى روي أنّ جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده ، وكان يحافظ على النوافل ، وكانوا يستخرجون النصول من جسده وقت الصلاة ؛ لالتفاته بالكليّة إلى اللّه تعالى واستغراقه في المناجاة معه (5).

( وأحلمهم ) حتّى ترك عبد الرحمن بن ملجم في دياره وجواره يعطيه العطاء مع علمه بحاله ، وعفا عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدّة عداوته له ، وقوله فيه : « ستلقى الأمّة منه ومن ولده يوما أحمر » ، وعفا عن سعيد بن العاص وكان عدوّا له غاية العداوة ، ولمّا حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوه من

ص: 345


1- « نهج البلاغة » : 666 ، الرقم 77.
2- المصدر السابق : 702 ، الرقم 236 ، قصار الحكم.
3- « شرح نهج البلاغة » لابن أبي الحديد 1 : 148.
4- المصدر السابق 1 : 26.
5- المصدر السابق : 27.

الماء ، فلمّا اشتدّ عطش أصحابه حمل عليهم وفرّقهم وملك الشريعة ، فأراد أصحابه أن يفعلوا ذلك فنهاهم عن ذلك ، وقال : « افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك » (1).

( وأشرفهم خلقا وأطلقهم وجها ) حتّى نسب إلى الدعابة به مع شدّة بأسه وهيبته.

قال صعصعة بن صوحان : كان فينا كأحدنا في لين جانب وشدّة تواضع وسهولة قياد ، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه (2).

( وأقدمهم إيمانا ) يدلّ على ذلك ما روي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « بعثت يوم الاثنين وأسلم عليّ يوم الثلاثاء ، ولا أقرب من هذه المدّة » (3) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (4).

وما روي عن عليّ أنّه كان يقول : « أنا أوّل من صلّى وأوّل من آمن باللّه ورسوله ، لا يسبقني إلى الصلاة إلاّ نبيّ اللّه » (5) ، وكان قوله مشهورا بين الصحابة ولم ينكر عليه منكر فدلّ على صدقه ، وإذا ثبت أنّه أقدم إيمانا من الصحابة كان أفضل منهم ؛ لقوله تعالى : ( السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (6) وروي أنّه قال علیه السلام على المنبر بمشهد من الصحابة : « أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل إيمان أبي بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم » (7) ، ولم ينكر عليه منكر فيكون أفضل من أبي بكر.

( وأفصحهم لسانا ) على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة ، وقال البلغاء : إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق (8) ، ( وأسدّهم رأيا وأكثرهم حرصا على إقامة

ص: 346


1- المصدر السابق : 22 - 24.
2- المصدر السابق : 25.
3- « كنز الفوائد » : 21.
4- « المستدرك » للنيسابوري 3 : 136.
5- « بحار الأنوار » 38 : 203 و 241 و 257.
6- الواقعة (56) : 10.
7- « الاحتجاج » 2 : 311.
8- راجع « بحار الأنوار » 41 : 145.

حدود اللّه تعالى ) ولم يتساهل في ذلك أصلا ، ولم يلتفت إلى القرابة والمحبّة ( وأحفظهم لكتاب اللّه العزيز ) ؛ فإنّ أكثر أئمّة القراءة كأبي عمرو وعاصم وغيرهما يسندون قراءتهم إليه ، فإنّهم تلامذة أبي عبد الرحمن السلمي ، وهو تلميذ عليّ علیه السلام .

( ولإخباره بالغيب ) وذلك كإخباره بقتل ذي الثدية ، ولمّا لم يجده أصحابه بين القتلى قال : « واللّه ما كذبت » (1) ، فاعتبر القتلى حتّى وجده وشقّ قميصه ووجد على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعر ينجذب كتفه مع جذبها ويرجع مع تركها.

وقال له أصحابه : إنّ أهل النهروان قد عبروا فقال علیه السلام : « لم يعبروا » فأخبروه مرّة ثانية ، فقال : « لم يعبروا » فقال جندب بن عبد اللّه الأزدي في نفسه : إن وجدت القوم قد عبروا كنت أوّل من يقاتله ، قال : فلمّا وصلنا النهر لم نجدهم عبروا فقال : « يا أخا الأزد أتبيّن لك الأمر » (2) ، وذلك يدلّ على اطّلاعه على ما في ضميره.

وأخبر علیه السلام بقتل نفسه في شهر رمضان.

وقيل له : قد مات خالد بن عويطة بوادي القرى ، فقال : « لم يمت ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة ، صاحب لوائه حبيب بن حمّاد » (3) ، فقام رجل من تحت المنبر وقال : واللّه إنّي لك لمحبّ وأنا حبيب ، قال : « إيّاك أن تحملها ولتحملنّها فتدخل لها من هذا الباب » وأومأ إلى باب الفيل ، فلمّا بعث ابن زياد عمر بن سعد إلى الحسين علیه السلام جعل على مقدّمته خالدا وحبيب صاحب رايته ، فسار بها حتّى دخل المسجد من باب الفيل (4) ، ( واستجابة دعوته ) فإنّه لغاية شهرته غنيّ عن البيان.

( وظهور المعجزات عنه ) وقد أشير إلى ذلك فيما تقدّم.

ص: 347


1- « خصائص الأئمّة » : 61 ؛ « بحار الأنوار » 33 : 390.
2- « بحار الأنوار » 41 : 312.
3- « المناقب » 2 : 270 ؛ نفس المصدر السابق 42 : 162.
4- « بحار الأنوار » 34 : 298.

( واختصاصه بالقرابة والأخوّة ) ؛ فإنّه علیه السلام لمّا آخى بين الصحابة اتّخذ عليّا أخا لنفسه (1).

( ووجوب المحبّة ) ؛ فإنّه علیه السلام كان من أولي القربى ومحبّة أولي القربى واجبة ؛ لقوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2).

( والنصرة ) لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدلّ عليه قوله تعالى في حقّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) (3). والمراد بصالح المؤمنين عليّ علیه السلام على ما صرّح به المفسّرون (4). والمراد بالمولى هو الناصر.

( ولمواساة الأنبياء ) يدلّ على ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (5) ، أوجب مساواته للأنبياء في صفاتهم ، والأنبياء أفضل من باقي الصحابة ، فكان عليّ أفضل من باقي الصحابة ؛ لأنّ المساوي للأفضل أفضل.

( وخبر الطائر ) ، أهدي إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله طائر مشويّ فقال : « اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي » (6) ، فجاء عليّ وأكل ، والأحبّ إلى اللّه تعالى أفضل.

( وخبر المنزلة وخبر الغدير ) وقد مرّ ذكرهما ( وغيره ) من الأخبار التي تقدّم ذكر بعضها.

ص: 348


1- « كشف الغمّة » 1 : 326 - 330 ؛ « العمدة » لابن بطريق 1 : 209.
2- النور (24) : 22 ؛ الروم (30) : 38 ؛ الشورى (42) : 23.
3- التحريم (66) : 4.
4- « مجمع البيان » 10 : 59 ؛ « الدرّ المنثور » 8 : 224 ؛ « نور الثقلين » 5 : 370 ؛ « تفسير البرهان » 4 : 353.
5- « الأمالي » للمفيد : 14 ، المجلس 2 ، ح 3 ؛ « الأمالي » للطوسي : 416 - 417 ، المجلس 14 ، ح 938 ؛ « البداية والنهاية » 7 : 357 ؛ « اللآلئ المصنوعة » 1 : 356.
6- « كشف الغمّة » 1 : 150 ؛ « بشارة المصطفى » : 165 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 163 - 176 ، ح 189 - 212 ؛ « العمدة » لابن بطريق : 303 - 313 ؛ « كنز العمّال » 13 : 167 ، الرقم 36507 و 36508.

( ولانتفاء سبق كفره ) فإنّه لم يكفر بل من حين بلوغه كان مسلما مؤمنا بخلاف باقي الصحابة ، فإنّهم كانوا قبل بعثة النبيّ كفرة.

( ولكثرة الانتفاع به ) ، يعني انتفاع المسلمين به أكثر من انتفاعهم بغيره ، يدلّ على ذلك كثرة حروبه وشدّة بلائه وقوّة شوكة الإسلام به.

( وتميّزه بالكمالات النفسانيّة ) كالعلم والشجاعة والسخاوة وحسن الخلق ( والبدنيّة ) كمزيد القوّة وشدّة البأس ( والخارجيّة ) من كونه ابن عمّ رسول اللّه وزوج البتول وأبا السبطين إلى غير ذلك.

وأجيب بأنّه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتّصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات ، إلاّ أنّه لا يدلّ على الأفضليّة ، بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند اللّه تعالى ، بعد ما ثبت من الاتّفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضليّة أبي بكر ثمّ عمر ، ودلالة الكتاب والسنّة والآثار والأمارات على ذلك.

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (1) على أنّها نزلت في أبي بكر ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنده نعمة تجزى وهي نعمة التربية.

وأمّا السنّة : فقوله صلی اللّه علیه و آله : « اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، (2) ودخل في الخطاب عليّ علیه السلام فيكون مأمورا بالاقتداء ، ولا يؤمر الأفضل والمساوي بالاقتداء سيّما عند البيعة.

وقوله علیه السلام : « لو كنت متّخذا خليلا دون ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلا ، لكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمّتي » (3).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « وأين مثل أبي بكر كذّبني الناس وصدّقني وآمن بي ، وزوّجني ابنته

ص: 349


1- الليل (92) : 17 - 19.
2- « مسند أحمد » 9 : 74 ، ح 23305 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 40 ، ح 14356.
3- « صحيح البخاري » 3 : 1338 ، ح 3456 - 3458 ؛ « لقط اللآلئ » : 51.

وجهّزني بماله وواساني بنفسه ، وجاهد معي ساعة الخوف » (1).

وقوله لأبي الدرداء حين كان يمشي أمام أبي بكر : « أتمشي أمام من هو خير منك واللّه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيّين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر » (2).

ومثل هذا الكلام وإن كان ظاهره نفي أفضليّة الغير ، لكن إنّما يساق لإثبات أفضليّة المذكور ؛ ولهذا أفاد أنّ أبا بكر أفضل من أبي الدرداء.

والسرّ في ذلك أنّ الغالب من حال كلّ اثنين هو التفاضل دون التساوي ، فإذا نفيت أفضليّة أحدهما ثبتت أفضليّة الآخر.

وعن عمرو بن العاص قال : قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال : « عائشة » قلت : من الرجال؟ قال : « أبوها » قلت : ثمّ من؟ قال : « عمر » (3).

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لو كان بعدي نبيّ لكان عمر » (4).

وعن عبد اللّه بن حنطب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله رأى أبا بكر وعمر فقال : « هذان السمع والبصر » (5).

وأمّا الأثر : فعن ابن عمر كنّا نقول - ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيّ - : أفضل أمّة النبيّ بعده أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان.

وعن محمّد بن الحنفيّة قلت لأبي : أيّ الناس أفضل بعد النبيّ؟ قال : « أبو بكر » ، قلت : ثمّ من؟ قال : « عمر » ، وخشيت أن أقول : من؟ فيقول : عثمان ، قلت : ثمّ أنت؟

قال : « ما أنا إلاّ رجل من المسلمين » (6).

ص: 350


1- « الموضوعات » 1 : 317.
2- « كنز العمّال » 11 : 556 ، ح 32622.
3- « صحيح البخاري » 3 : 1339 ، ح 3462 ، « صحيح مسلم » 4 : 1856 ، ح 1384.
4- « المعجم الكبير » 17 : 310 ، ح 857 ؛ « كنز العمّال » 11 : 578 ، ح 32745.
5- « كنز العمّال » 11 : 562 ، ح 32653.
6- « صحيح البخاري » 3 : 1342 ، ح 3468.

وعن عليّ علیه السلام : « خير الناس بعد النبيّين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ اللّه أعلم » (1).

وعنه علیه السلام لمّا قيل له : أما توصي؟ « ما أوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى أوصي ، ولكن إن أراد اللّه بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيّهم على خيرهم » (2).

وأمّا الأمارات : فما تواتر في أيّام أبي بكر من اجتماع الكلمة وتألّف القلوب وتتابع الفتوح وقهر أهل الردّة وتطهير جزيرة العرب عن الشرك وإجلاء الروم عن الشام وأطرافها وطرد فارس عن حدود السواد وأطراف العراق مع قوّتهم وشوكتهم ووفور أموالهم وانتظام أحوالهم.

وفي أيّام عمر من فتح جانب المشرق إلى أقصى خراسان وقطع دولة العجم وثلّ عرشهم الراسبي البنيان الثابت الأركان ، ومن ترتيب الأمور وسياسة الجمهور وإفاضة العدل وتقوية الضعفاء ، ومن إعراضه عن متاع الدنيا وطيّباتها وملاذّها وشهواتها.

وفي أيّام عثمان من فتح البلاد وإعلاء لواء الإسلام وجمع الناس على مصحف واحد ، مع ما كان له من الورع وتجهيز جيوش المسلمين والاتّفاق في نصرة الدين والمهاجرة هجرتين وكونه ختنا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله على ابنتين والاستحياء من أدنى شين ، ولشرفه بقوله عليه الصلاة والسّلام : « عثمان رفيقي في الجنّة » (3) وقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّه يدخل الجنّة بغير حساب (4) » (5).

[ ذكر بعض الأدلة على إمامة عليّ علیه السلام ]

اعلم أنّ العلاّمة رحمه اللّه قد ذكر في الألفين ألف دليل على إمامة سيّد الوصيّين

ص: 351


1- « سنن ابن ماجة » 1 : 39 ، ح 106.
2- ذكره القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 379.
3- « كنز العمّال » 11 : 587 ، الرقم 32808 و 32855 - 32857.
4- انظر « الرياض النضرة في مناقب العشرة » 3 : 34.
5- انتهى ما نقله المصنّف عن الشارح القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 367 - 380.

عليّ بن أبي طالب علیه السلام أمير المؤمنين ، وألف دليل على إبطال شبه الطاعنين فينبغي ذكر أدلّة متينة منها لتحصل زيادة اطمئنان وبصيرة فيها فأقول :

[1] من جملة تلك الأدلّة : أنّ الإمامة عندنا من جملة ما هو أعظم أركان الدين ، وأنّ الإيمان لا يثبت بدونها ، وعندهم أنّها ليست من أركان الدين بل من فروع الدين ، لكنّها من المسائل الجليلة والمطالب العظيمة ؛ فكيف يجوز استناد مثل هذا الحكم إلى اختيار المكلّف وإرادته ، ولو جاز ذلك فجاز فيما هو أدون منه من أحكام الفروع.

[2] ومنها : أنّ اللّه تعالى في غاية الرحمة والشفقة على الخلق ، فكيف يهمل تعالى أمر نصب الرئيس مع شدّة الحاجة إليه ووقوع النزاع العظيم من تركه أو مع استناده إلى اختيار المكلّفين ، فإنّ كلّ واحد منهم يختار رئيسا ، وذلك فتح باب عظيم للفساد ، ومناف للحكمة الإلهيّة؟! تعالى اللّه من ذلك.

[3] ومنها : أنّ اللّه تعالى قد بيّن جميع الأحكام الشرعيّة أجلّها وأدونها ، حتّى بيّن تعالى كيفيّات الأكل والشرب وأحكام دخول الخلاء والخروج منه والعلامات الجليلة والحقيرة ، فكيف يهمل مثل هذا الأصل العظيم ، ويجعل أمره إلى اختيار المكلّفين مع علمه تعالى بتباين آرائهم وتنافر طباعهم؟!

[4] ومنها : أنّ القول باستناد الإمامة إلى الاختيار مناقض للغرض ومناف للحكمة ، والقصد من نصب الإمام امتثال الخلق لأوامره ونواهيه والانقياد إلى طاعته وسكون نائرة الفتن وإزالة الهرج والمرج ، وإبطال التغلّب والمقاهرة ، وإنّما يتمّ هذا الغرض ويكمل المقصود لو كان الناصب للإمام غير المكلّفين ؛ لأنّه لو استند إليهم الاختيار لاختار كلّ منهم من يميل طبعه إليه ، وفي ذلك ثوران لفتن عظيمة ووقوع هرج ومرج بين الناس ، فيكون نصب الإمام مناقضا للغرض من نصبه ، وهو باطل.

[5] ومنها : أنّ وجوب طاعة الإمام حكم عظيم من أحكام الدين ، فلو جاز استناده إلى المكلّفين لجاز استناد جميع الأحكام إليهم ، وذلك يستلزم الاستغناء من

ص: 352

بعثة الأنبياء ؛ لأنّهم إنّما بعثوا كبعث الأحكام ، فإذا كان أصلها مستغنى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان غيره أولى.

[6] ومنها : أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما فيجب أن يثبت التعيين بالنصّ لا بالاختيار ؛ لخفاء العصمة عنّا ، لأنّها من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

[7] ومنها : أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل أهل زمانه دينا وورعا وعلما وسياسة ، فلو ولّينا أحدنا باختيارنا لم نأمن أن يكون باطنه كافرا أو فاسقا ، فيخفى علينا أمر علمه والمقايسة بينه وبين غيره في الكمالات ، وإذا جهلنا الشرط كيف يصحّ أن يناط هذا الأمر ويستند إلى اختيارنا.

[8] ومنها : أنّ الإمام كما أنّه لطف باعتبار أنّ الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد من التنازع والهرج والمرج ، وكان ذلك علّة في وجوب نصبه كذلك كونه منصوصا عليه معيّنا من عند اللّه ، فإنّ الناس مع الإمام المنصوص عليه من قبل اللّه تعالى أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الهرج والمرج ممّا إذا كان تعيينه مستندا إلى اختيار المكلّفين ومفوّضا إلى تعيين العامّة ، فإنّه لا فساد أعظم من ذلك ولا اختلاف أشدّ منه ، فيكون تعيينه من قبل اللّه تعالى واجبا ، كما وجب أصل تعيينه.

وإنكار كون الناس أقرب إلى الصلاح مع التنصيص على الإمام وبعدهم مع التفويض إلى الاختيار مكابرة محضة وإنكار للضرورة ؛ فإنّ كلّ عاقل يجزم بذلك ، ويحكم بأنّ المنكر معاند جاحد.

[9] ومنها : أنّ الصفات المشترطة في الإمام خفيّة لا يمكن الاطّلاع للبشر كالإسلام والعدالة والعفّة والشجاعة وغيرها من الكيفيّات النفسيّة ، فلو كان نصبه منوطا باختيار العامّ لكان إمّا أن يشترط العلم بحصولها في المنصوب بالاختيار ، وهو تكليف ما لا يطاق أو يشترط الظنّ وقد نهي من اتّباعه في الآيات ، وتجويزه في بعض المواضع لا يخرجه عن الحجيّة في غير محلّ التخصيص.

[10] ومنها : أنّه لو ثبت الإمام بالاختيار لكان لمن أثبتها باختياره أن يبطلها

ص: 353

ويزيلها باختياره ، كما في الأمير والقاضي ، والتالي باطل والمقدّم مثله. وتوهّم كونه كوليّ المرأة في أنّه يملك التزويج دون الطلاق فاسد ؛ فإنّ الشارع جعل لإزالة قيد النكاح سببا مخصوصا غير منوط باختيار العامّة لمصلحتهم.

[11] ومنها : أنّ الإمام خليفة اللّه والرسول ، فلو ثبتت إمامته بالاختيار ، لما كان خليفة لهما ؛ لأنّهما لم يستخلفا ولم ينصّا عليه وعدم كفاية التفويض إلى اختيارنا في الاستناد إليه تعالى كما في الأحكام الفرعية.

[12] ومنها : أنّه قد أوجب اللّه تعالى الوصيّة كما في كتابه وحثّ عليها رسول اللّه ، حتّى قال : « من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة » (1) ، فكيف يليق أن ينسب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى ترك هذا الواجب المجمع على وجوبه المنصوص في القرآن والمتواتر عليها من الأخبار؟ فكيف يوجب على الأمّة ثمّ يتركه من غير نسخ ولا إبطال؟ ولو نسب الكفّار إلى نبيّنا صلی اللّه علیه و آله شيئا لم ينسبوا بأعظم من ذلك ، وإذا امتنع منه أن يترك الوصيّة بطل القول بالاختيار مع أنّ الوصيّة في الدين أعظم من الوصيّة في الأمور الدنيويّة فكيف يتصوّر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي هو مبدأ الخير ومنبع الدين ومعلّمه والمرشد إليه والدالّ عليه أن يهملها ويجعلها منوطة بمن يتلاعب بها ويوصلها إلى غير مستحقّها؟ فيجب أن يوصي النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما وصّى إبراهيم لبنيه وكذلك يعقوب.

[13] ومنها : أنه لو وجب لغير الإمام نصبه لوجب أن يكون أعلم منه ، من جهة العلم بعلمه وفضله ، وأنّه أفضل من الآخر من غير واسطة وإخبار غيره ، فيكون أولى منه.

[14] ومنها : أنّه لو وجب نصب الرعيّة على أهل جميع البلاد المتباعدة والأصقاع المتعدّدة يلزم الهرج والمرج وإثارة الفتن وانتشار التنازع بين الرؤساء لو اختار أهل كلّ بلد رئيسا أو الإخلال بالواجب لو ترك الكلّ أو البعض ، ولو وجب على أهل

ص: 354


1- « وسائل الشيعة » 19 : 259 ، ح 8 ؛ « المقنعة » : 666 ، باب الوصيّة.

بعض البلاد يلزم الترجيح بلا مرجّح واللوازم باطلة ، فالمقدّم أيضا باطل ، فيجب على اللّه تعالى.

[15] ومنها : أنّ الإجماع واقع على أنّ قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (1) ، ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (2) ، وغيرهما من الآيات مطلقة غير مقيّدة ، فالخطاب إمّا للأمّة أو للإمام ، والأوّل باطل ، للإجماع على أنّ الحدود لا يتولاّها إلاّ الإمام أو من أذن له الإمام ، وأنّه ليس للأمّة أن يأمر الجلاّد بالقطع من دون أن يتولّى ذلك الأمر الإمام. والحمل على وجوب نصب الأئمّة على الأمّة إخراج الكلام عن حقيقته من غير ضرورة ولا دلالة.

[16] ومنها : أنّ الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا ؛ لافتقاره في بقائه إلى مأكل وملبس ومسكن لا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة غيره ، بحيث يفرغ كلّ منهم لما يحتاج إليه صاحبه حتّى يتمّ نظام النوع ، ولمّا كان الاجتماع في مظنّة التغالب والتناوش فإنّ كلّ واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره ، فتدعوه قوّته الشهويّة إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدّي ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن ، فلا بدّ من نصب إمام معصوم يصدّهم عن الظلم والتعدّي ، ويمنعهم من التغلّب والقهر ، وينتصف للمظلوم من الظالم ، ويوصل الحقّ إلى مستحقّه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية ، وإلاّ لم يتمّ النظام.

[17] ومنها : أنّ اللّه تعالى قادر على نصب الإمام المعصوم ، والحاجة داعية إليه ، ولا مفسدة فيه ، والكلّ ظاهر فيجب نصبه.

[18] ومنها : أنّه لو كان الإمام غير معصوم لزم تخلّف المعلول عن علّته التامّة ، لكنّ التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

ص: 355


1- المائدة (5) : 38.
2- النور (24) : 2.

بيان الملازمة : أنّ تجويز الخطإ على المكلّف موجب لإيجاب كونه مرءوسا لإمام من غير احتياج إليه.

[19] ومنها : أنّه اختلفت الأمّة في مسائل ليست في كتاب اللّه ولا السنّة المتواترة والإجماع عليها ، والقياس ليس بحجّة ؛ لما بيّن في الأصول ، وأخبار الآحاد لا تصلح للإفادة الشرعيّة ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (1) ، فلا بدّ من معصوم يعرف الحقّ والباطل ، وذلك هو الإمام.

[20] ومنها : أنّ القرآن إنّما أنزل ليعلم ويعمل به ، وهو مشتمل على ألفاظ مشتركة مجملة وآيات متشابهة ومتعارفة ، وقد وقع الاختلاف فيها بين المفسّرين ، فلا بدّ من عالم معصوم يبيّن الحقّ من الباطل ، ويعتمد عليه وهو الإمام.

[21] ومنها : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) ، وكلّ من أمر اللّه بطاعته فهو معصوم ؛ لاستحالة إيجاب طاعة غير المعصوم مطلقا ؛ لأنّه قبيح عقلا.

[22] ومنها : قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... ) (3) ، فإنّ طريق غير المعصوم قد يكون غير الصراط المستقيم ، فلا بدّ من المعصوم في كلّ زمان ؛ إذ لا يختصّ هذا الدعاء لقوم دون قوم.

[23] ومنها : قوله تعالى ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (4) ؛ إذ كلّ من صدر منه ذنب في وقت ما كان للشيطان عليه سلطان في الجملة ، وهو ينافي قوله تعالى : ( لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (5) بمقتضى النكرة المنفيّة ، ويدلّ هذا على عصمة قوم من

ص: 356


1- النجم (53) : 28.
2- النساء (4) : 59.
3- الفاتحة (1) : 6.
4- الحجر (15) : 42.
5- الإسراء (17) : 65.

ابتداء وجودهم إلى آخر عمرهم من الصغائر والكبائر عمدا وسهوا وتأويلا ، وكلّ من أثبت ذلك أثبت عصمة الإمام ؛ إذ كلّ من قال بعصمة الأنبياء قال بعصمة الإمام ، فالفرق خرق للإجماع المركّب.

[24] ومنها : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ؛ فإنّ غير المعصوم لا يهدي إلاّ أن يهدى ، وقد لا يهدي مع أنّه يهدى فلا يجوز اتّباعه.

[25] ومنها : قوله تعالى : ( الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) (2) ؛ إذ نفي الريب من جميع الوجوه وفي جميع الأزمنة لا يكون إلاّ بوجود معصوم مبيّن لمعانيه ، وذلك هو الإمام.

[26] ومنها : قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (3).

وجه الاستدلال أنّه تعالى وصفهم بالعدالة المطلقة لأجل الشهادة على الناس ، ولا بدّ أن يكون الشاهد منزّها عن مخالفة الرسول في شيء أصلا حتّى يكون للمشهود عليه لمخالفته حجّة عليه ، ولا يكون كذلك إلاّ المعصوم.

[27] ومنها : أنّ غير المعصوم إمّا أن يكفي في تقريب نفسه من الطاعة وتبعيده عن المعصية أو لا يكفي ، فإن كان الأوّل استغنى عن الإمام مطلقا ولم يحتجّ إلى إمام ، وإن كان الثاني فإذا لم يكف في تقريب نفسه فالأولى أن يكفي في تقريب غيره ، ولا يصلح.

[28] ومنها : أنّ الجزم بالنجاة يحصل باتّباع الإمام المعصوم لا غيره.

[29] ومنها : قوله تعالى : ( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (4) ؛ فإنّ الأمر بالمقاتلة

ص: 357


1- يونس (10) : 35.
2- البقرة (2) : 1 - 2.
3- البقرة (2) : 143.
4- البقرة (2) : 190.

يقتضي وجود رئيس معصوم ؛ لئلاّ يتحقّق سفك الدماء وإتلاف الأموال بغير حقّ.

[30] منها : قوله تعالى : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (1) ؛ لدلالته على أنّ مقامه تعالى في كلّ الأوقات إخراج المؤمنين من كلّ ظلمة إلى النور ، بقرينة الجمع المعرّف باللام ، فيدلّ على ثبوت المعصوم في كلّ عصر ، فيستحيل أن يكون الإمام غيره مع أنّ مقتضى رحمته تعالى جعل طريق يوصل إليه ، وليس إلاّ بوجود المعصوم في كلّ عصر.

[31] ومنها : قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (2) ؛ لدلالته على مطلوبيّة الاستباق إلى جميع الخيرات ، وذلك موقوف على معرفتها ، وذلك موقوف على معرفة الخطاب الإلهي ولا يحصل إلاّ من المعصوم.

[32] ومنها : قوله تعالى : ( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) - إلى قوله تعالى - : ( وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (3) ؛ فإنّ نصب الإمام نعمة جميع النعم مستحقرة عندها ، فلو لم ينصب الإمام لم يكن قد أتمّ النعم مع أنّ العلّة في بعث الرسل التقريب إلى الطاعة والتبعيد عن المعصية والهداية إلى ما لم يعلم ، وهذا الداعي موجود بالنسبة إلى الإمام مع القدرة عليه ، فيدلّ العقل على وجود الإمام المعصوم في كلّ زمان ، ويطابقه قوله تعالى : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ ) (4) ؛ لدلالته على أنّ المراد من إنزال الكتب الهداية الموقوفة على المعرفة الموقوفة على وجود الإمام المعصوم.

ص: 358


1- البقرة (2) : 257.
2- المائدة (5) : 48.
3- البقرة (2) : 150 - 151.
4- آل عمران (3) : 3 - 4.

[33] ومنها : قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) - إلى قوله تعالى - : ( وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (1) ؛ فإنّ دفع الذين في قلوبهم زيغ ويتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ، وردعهم عن ذلك يستلزم ثبوت المعصوم ؛ لأنّ غيره لا ترجيح لقول بعضهم على بعض فكلّ منهم يدّعي ما يخالف غيره ، وذلك هو الفتنة.

[34] ومنها : قوله علیه السلام : « لا تجتمع أمّتي على الخطاء » (2) ؛ لدلالته بمقتضى كون لام التعريف لتعريف الجنس على عدم اجتماع الأمّة على جنس الخطإ وماهيّته من حيث هي هي فيدلّ على وجود المعصوم في كلّ عصر ؛ إذ لم يكن منهم معصوم من أوّل عمره إلى آخره لجاز في زمان عدم المعصوم فعل كلّ واحد نوعا من الخطإ مغايرا لما يفعله الآخر ، فيكونوا قد اجتمعوا على جنس الخطإ ، لكنّه منفيّ بالخبر ، فدلّ على ثبوت معصوم بينهم من أوّل عمره إلى آخره في كلّ عصر فثبت مطلوبنا ؛ لاستحالة كون الإمام غيره.

[35] ومنها : قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) (3) ؛ فإنّ معرفة جميع الصالحات ليست إلاّ للمعصوم ، فيجب في كلّ عصر لعموم كلّ عصر من جهة حذف المتعلّق. ومثله سورة والعصر.

[36] ومنها : قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (4) ؛ فإنّ الأمر بكلّ معروف والنهي عن كلّ منكر لا يكون إلاّ من المعصوم ، ونحوه آيات أخر أمثالها.

ص: 359


1- آل عمران (3) : 7.
2- « كشف الخفاء » 2 : 470 ، ح 2999 ؛ « سنن ابن ماجة » 2 : 1303 ، ح 3950 باب السواد الأعظم ؛ « الشافي » 1 : 236 ؛ « المقاصد الحسنة » : 454 - 455 ، ح 1288.
3- آل عمران (3) : 57.
4- آل عمران (3) : 104.

[37] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (1) ؛ فإنّ حقّ تقاته لا يمكن إلاّ بالعلم اليقيني بالأحكام ، وذلك لا يكون إلاّ من المعصوم.

[38] ومنها : قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) ؛ فإنّ الاعتصام بحبل اللّه يقينا بامتثال أوامر اللّه اليقينيّة والامتناع من مناهيه الواقعيّة ، وعدم الافتراق في الحقّ ، لا يكون إلاّ بوجود معصوم في كلّ عصر يحملهم على الاجتماع.

[39] ومنها : قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (3) ؛ فإنّ ذلك لا يعلم إلاّ من المعصوم.

[40] ومنها : قوله تعالى : ( وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (4) ؛ فإنّه يدلّ على ثبوت المعصوم ؛ فإنّ غيره ظالم.

[41] ومنها : قوله تعالى : ( يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) (5) ؛ فإنّ نصب الإمام من أعظم الأمور ، فيكون مستندا إلى اللّه.

[42] ومنها : أنّ اللطف - الذي هو مقرّب إلى الطاعة ومبعّد عن المعصية الذي هو الشرط في التكليف - إنّما هو عصمة الإمام ، فهي واجبة بالقصد الأوّل.

[43] ومنها : أنّ الإمامة إنّما وجبت لرفع المفسدة التي يمكن حصولها من خطإ المكلّف وتحصيل المصلحة الناشئة من فعله ؛ إذ لو لم يجز الخطأ علي شيء من المكلّفين لم تجب الإمامة ، فلو لم يكن الإمام معصوما مع وجود الإمامة لم تحصل العلّة الدافعة لتلك المفسدة والمحصّلة للمصلحة مع زيادة مفسدة فيها ، وهو جواز

ص: 360


1- آل عمران (3) : 102.
2- آل عمران (3) : 103.
3- آل عمران (3) : 133.
4- آل عمران (3) : 140.
5- آل عمران (3) : 154.

خطئه وحمله المكلّف على الخطإ والمفسدة الممكنة في إهمالها ممكنة في إعمالها حينئذ مع زيادة مفسدة.

[44] ومنها : أنّ الغاية من خلق الإنسان حصول الكمال في القوّة العلميّة والعمليّة وأقوى المراتب في القوّة العلميّة هو العقل المستفاد ، وفي العمليّة الامتناع عن القبيح وفعل الأفضل وتكميل النفس ، وذلك لا يحصل إلاّ بالمعصوم.

[45] ومنها : أنّه لو لم يكن الإمام معصوما أمكن أن يكون مقرّبا إلى المعصية ومبعّدا عن الطاعة ، فيكون نصبه مفسدة حين وجوب نصبه.

[46] ومنها : أنّ الإمام مظهر للأحكام وحافظ لها ، فيجب أن يكون معصوما.

[47] ومنها : أنّ الإمام لإتمام التكليف ، فيجب أن يكون معصوما.

[48] ومنها : أنّ الإمام واسطة بين اللّه وبين الأمّة بعد النبيّ ، فيجب أن يكون أكمل من الكلّ فيما هو واسطة فيه ، فيجب أن يكون معصوما.

[49] ومنها : أنّ الإمام مقتدى الكلّ ، فيجب عليهم الاقتداء به ومتابعته في أقواله وأفعاله جميعها ، فلا بدّ أن يكون أعقل وأكمل من الكلّ ، فيجب أن يكون معصوما.

[50] ومنها : أنّ تقديم المفضول على الفاضل قبيح ، فيجب أن يكون الإمام في الكمال الأقصى ، فهو معصوم.

[51] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (1) ؛ فإنّ الهداية لمن كان بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله تحتاج إلى العلم بجميع ما جاء به النبيّ في كلّ واقعة ، فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، وأن يكون عاملا بها ، وأن يكون مصيبا فيها ؛ ليكون المكلّف جازما مطمئنّا في اتّباعه وإطاعته.

[52] ومنها : أنّ الإمام حجّة على كلّ مكلّف في كلّ حكم ، فلا يصدر منه ذنب ؛ لاستحالة جعل المذنب حجّة.

ص: 361


1- الرعد (13) : 7.

إلى غير ذلك من الأدلّة التي في بعضها المناقشة.

فصل [4] : في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بطريق المعجزة
اشارة

وفيه أوّلا : بيان معجزة ذكرت في الاحتجاج. وفيه عن أبي محمّد العسكري علیه السلام عن زين العابدين علیه السلام أنّه قال : « كان أمير المؤمنين علیه السلام قاعدا ذات يوم فأقبل عليه رجل من اليونانيّين المدّعين للفلسفة والطبّ قال له : يا أبا الحسن ، بلغني خبر صاحبك محمّد صلی اللّه علیه و آله وأنّ به جنونا فجئت لأعالجه ، فلحقته قد مضى لحال سبيله وفاتني ما أردت من ذلك ، وقد قيل لي : إنّك ابن عمّه وصهره ، وأرى بك صفارا قد علاك ، وساقين دقيقين وما أراهما تقلاّنك ، فأمّا الصفار فعندي دواؤه. وأمّا الساقان الدقيقان فلا حيلة لي لتغليظهما ، والوجه أن ترفق بنفسك في المشي تقلّله ولا تكثّره ، وفيما تحمله على ظهرك وتحضنه بصدرك أن تقلّلهما ولا تكثّرهما ، فإنّ ساقيك دقيقان لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما. فأمّا الصفار فدواؤه عندي وهو هذا ، وأخرج دواء وقال : هذا لا يؤذيك ولا يخيبك ، ولكنّه يلزمك حمية من اللحم أربعين صباحا ، ثمّ يزيل صفارك.

فقال له عليّ بن أبي طالب علیه السلام : قد ذكرت نفع هذا الدواء لصفاري ، وهل تعرف شيئا يزيد فيه ويضرّه؟ فقال الرجل : بلى حبّة من هذا ، وأشار إلى دواء معه وقال : إن تناوله الإنسان وبه صفار أماته من ساعته ، وإن كان لا صفار به صار به صفار حتّى يموت في يومه.

فقال له عليّ علیه السلام : فأرني هذا الضارّ ، فأعطاه إيّاه ، فقال له : كم قدر هذا؟ فقال : قدر مثقالين سمّ ناقع قدر حبّة منه تقتل رجلا فتناوله عليّ علیه السلام فقمحه وعرق عرقا خفيفا وجعل الرجل يرتعد ويقول في نفسه : الآن أوخذ بابن أبي طالب علیه السلام ، ويقال : لي : قتلته ، ولا يقبل منّي قولي : إنّه هو الجاني على نفسه فتبسّم عليّ علیه السلام وقال : يا عبد اللّه ، أصحّ ما كنت بدنا الآن لا يضرّني ما زعمت أنّه سمّ ، ثمّ قال : فغمّض عينيك ، فغمّض ،

ص: 362

ثمّ قال : افتح ، ففتح عينيه ، ونظر إلى وجه عليّ علیه السلام وقال : أين الصفار الذي زعمت أنّه بي ، فقال : واللّه لكأنّك لست من رأيت قبل كنت مصفارا فأنت الآن مورّد.

فقال عليّ علیه السلام : فزال عنّي الصفار لسمّك الذي تزعم أنّه قاتلي ، وأمّا ساقاي هاتان - ومدّ رجليه وكشف عن ساقيه - فإنّك إن زعمت أنّي أحتاج إلى أن أرفق بيدي في حمل ما أحمل ما عليه لئلاّ ينقصف الساقان وإنّي أريك أنّ طبّ اللّه عزّ وجلّ خلاف طبّك ، وضرب بيده إلى أسطوانة خشب عظيمة على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه وفوقه حجرتان إحداهما فوق الأخرى وحرّكها فاحتملها فارتفع السطح والحيطان وفوقهما الغرفتان ، فغشي على اليونانيّ.

فقال أمير المؤمنين علیه السلام صبّوا عليه. فصبّوا عليه ماء ، فأفاق وهو يقول : واللّه ما رأيت كاليوم ، فقال له عليّ : هذا قوّة الساقين الدقيقين واحتمالهما أفي طبّك هذا يا يونانيّ؟ فقال اليونانيّ : أمثلك كان محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟ فقال عليّ علیه السلام : وهل علمي إلاّ من علمه وعقلي إلاّ من عقله وقوّتي إلاّ من قوّته ، ولقد أتاه ثقفي كان أطبّ العرب فقال : إن كان بك جنون داويتك ، فقال له محمّد صلی اللّه علیه و آله أتحبّ أن أقرئك آية تعلم بها غناي عن طبّك وحاجتك إلى طبّي؟ قال : نعم ، قال : أي آية تريد؟ قال : تدعو ذلك العذق وأشار إلى نخلة سحوق فدعاها فانقلع أصلها من الأرض وهي تخدّ الأرض خدّا حتّى وقفت بين يديه فقال له : أكفاك؟ قال : لا ، قال : فتريد ما ذا؟ قال : تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه ، وتستقرّ في مكانها الذي انقلعت منه فأمرها فرجعت واستقرّت في مقرّها.

قال اليونانيّ لأمير المؤمنين علیه السلام : هذا الذي تذكره لمحمّد غائب عنّي وأنا أقتصر منك على أقلّ من ذلك أنا أتباعد عنك فادعني وأنا أختار الاجابة ، فإن جئت إليك فهي آية.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : هذا إنّما يكون آية لك وحدك ؛ لأنّك تعلم في نفسك أنّك لم ترده وأنّي أزلت اختيارك من غير أن باشرت منّي شيئا أو ممّن أمرته أن يباشرك أو ممّن

ص: 363

قصد إلى اختيارك وإن لم آمره إلاّ ما يكون من قدرة اللّه القاهر ، وأنت يا يونانيّ ، يمكنك أن تدّعي ويمكن غيرك أن يقول : إنّي واطأتك على ذلك فاقترح إن كنت مقترحا وهو آية لجميع العالمين ، قال له اليونانيّ : إن جعلت الاقتراح إليّ فأنا أقترح أن تفصل أجزاء تلك النخلة وتفرّقها وتباعد ما بينها ثمّ تجمعها وتعيدها كما كانت.

فقال عليّ علیه السلام : هذه آية وأنت رسولي إليها - يعني إلى النخلة - فقل لها : إنّ وصيّ محمّد صلی اللّه علیه و آله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأمر أجزاءك أن تتفرّق وتتباعد ، فذهب وقال لها ذلك فتفاصلت وتهافتت وتناثرت وتصاغرت أجزاؤها حتّى لم ير لها عين ولا أثر ، حتّى كأن لم تكن هناك نخلة قطّ.

فارتعدت فرائص اليونانيّ وقال : يا وصيّ محمّد ، قد أعطيتني اقتراحي الأوّل فأعطني الآخر. فأمرها أن تجتمع وتعود كما كانت ، فقال علیه السلام : أنت رسولي إليها فعد فقل لها : يا أجزاء النخلة إنّ وصيّ محمّد صلی اللّه علیه و آله يأمرك أن تجتمعي كما كنت وأن تعودي ، فنادى اليونانيّ فقال ذلك ، فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور ، ثمّ جعلت تجتمع جزء جزء منها حتّى تصوّر لها القضبان والأوراق وأصول السعف وشماريخ الأعذاق ، ثمّ تألّفت وتجمّعت واستطالت وعرضت واستقرّ أصلها في مستقرّها وتمكّن عليها ساقها وتركّب على الساق قضبانها وعلى القضبان أوراقها وفي أمكنتها أعذاقها ، وكانت في الابتداء شماريخها متجرّدة لبعدها من أوان الرطب والبسر والخلال ، فقال اليونانيّ : وأخرى أحبّها أن تخرج شماريخها خلالها وتقلبها من خضرة إلى صفرة وحمرة وترطيب وبلوغ إناه لتأكل وتطعمني ومن حضرك منها.

فقال عليّ علیه السلام : وأنت رسولي إليها بذلك فمرها به ، فقال لها اليونانيّ ما أمره أمير المؤمنين علیه السلام فأخلت وأبسرت وأبصرت واصفرّت واحمرّت وترطّبت وثقلت أعذاقها برطبها ، فقال اليونانيّ : وأخرى أحبّها تقرب من يدي أعذاقها أو تطول يدي لتنالها وأحبّ شيء إليّ أن تنزل إلي إحداهما وتطول يدي إلى الأخرى التي هي أختها ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : مدّ اليد التي تريد أن تناولها وقل : يا مقرّب البعيد

ص: 364

قرّب يدي منها واقبض الأخرى التي تريد أن تنزل العذق إليها وقل : يا مسهّل العسير سهّل لي تناول ما يبعد عنّي منها ، ففعل ذلك وقاله فطالت يمناه فوصلت إلى العذق وانحطّت الأعذاق الأخر فسقطت على الأرض وقد طالت عراجينها.

ثمّ قال أمير المؤمنين علیه السلام : إنّك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك عجائبها عجّل اللّه عزّ وجلّ إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه وجهّالهم فقال اليونانيّ : إنّي إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد وتناهيت في التعرّض للهلاك ، أشهد أنّك من خاصّة اللّه ، صادق في جميع أقاويلك عن اللّه فأمرني بما تشاء أطعك.

قال عليّ علیه السلام : آمرك أن تقرّ لله في الوحدانيّة ، وتشهد له بالجود والحكمة ، وتنزّهه عن العبث والفساد وعن ظلم الإماء والعباد ، وتشهد أنّ محمّدا الذي أنا وصيّه سيّد الأنام وأفضل رتبة في دار السّلام ، وتشهد أنّ عليّا الذي أراك ما أراك وأولاك من النعم ما أولاك خير خلق اللّه بعد محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأحقّ خلق اللّه بمقام محمّد صلی اللّه علیه و آله بعده والقيام بشرائعه وأحكامه ، وتشهد أنّ أولياءه أولياء اللّه وأعداءه أعداء اللّه ... » إلى آخر الحديث (1).

وفيه أيضا عن سعيد بن جبير قال : استقبل أمير المؤمنين دهقان من دهاقين الفرس ، فقال له بعد التهنئة : يا أمير المؤمنين ، تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس ، وإذا كان مثل ذلك اليوم وجب على الحكيم الاختفاء ، ويومك هذا يوم صعب وقد اتّصل فيه كوكبان وانقدحت من برجك النيران ، وليس الحرب لك بمكان ، فقال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام : « ويحك يا دهقان ، المنبّئ بالآثار المحذّر من الأقدار ما قصّة صاحب الميزان وقصّة صاحب السرطان؟ وكم المطالع من الأسد والساعات من المحرّكات؟ وكم بين السراري والذراري؟ » قال : سأنظر وأومى بيده

ص: 365


1- « الاحتجاج » 1 : 547 - 554.

إلى كمّه مكّة وأخرج منه اصطرلابا ينظر فيه.

فتبسّم عليّ علیه السلام فقال : « أتدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصين وانفرج برج ماجين وسقط سور سرنديب ، وانهزم بطريق الروم بأرمينية ، وفقد ديّان اليهود بابلة ، وهاج النمل بوادي النمل ، وهلك ملك إفريقيّة أكنت عالما؟ » قال : لا ، يا أمير المؤمنين ، فقال علیه السلام : « البارحة سعد سبعون ألف عالم ، وولد في كلّ عالم سبعون ألفا ، والليلة يموت مثلهم ، وهذا منهم » وأومى بيده علیه السلام إلى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه اللّه ، وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين علیه السلام ، فظنّ الملعون أنّه يقول : خذوه فأخذ بنفسه فمات ، فخرّ الدهقان ساجدا ، فقال له أمير المؤمنين علیه السلام : « ألم أروك من عين التوفيق؟ » فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « وأنا وصاحبي لا شرقيّون ولا غربيّون ، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك ، أمّا قولك : انقدحت من برجك النيران فكان الواجب أن تحكم به لي لا عليّ ، وأمّا نوره وضياؤه فعندي ، وأمّا حريقه ولهبه فذهب عنّي وهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا » (1).

وثانيا (2) : في بيان نبذ من معجزات مولانا وسيّدنا أبي الحسن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام على وفق ما انتخبت من كتاب « بحار الأنوار » وهي كثيرة :

[1] منها : ما روي عن سلمان قال : كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذات يوم جالسا بالأبطح وعنده جماعة من أصحابه وهو مقبل علينا بالحديث إذ نظرنا إلى زوبعة قد ارتفعت فأثارت الغبار ، وما زالت تدنو والغبار يعلو إلى أن وقفت بحذاء النبيّ ، ثمّ برز منها شخص كان فيها ، ثمّ قال : يا رسول اللّه ، إنّي وافد قومي وقد استجرنا بك فأجرنا ، وابعث معي من قبلك من يشرف على قومنا فإنّ بعضهم قد بغى علينا ليحكم بيننا وبينهم بحكم اللّه وكتابه ، وخذ عليّ العهود والمواثيق المؤكّدة أن أردّه إليك في غداة

ص: 366


1- المصدر السابق 1 : 558 ، ح 135.
2- مرّ الأوّل في ص 362.

غد سالما إلاّ أن تحدث عليّ حادثة من عند اللّه.

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من أنت ومن قومك؟ » قال : أنا عطرفة بن شمراخ أحد بني نجاح ، أنا وجماعة من أهلي كنّا نسترق السمع فلمّا منعنا من ذلك ، ولمّا بعثك اللّه نبيّا آمنّا بك على ما علمته وقد صدّقناك ، وقد خالفنا بعض القوم ، وأقاموا على ما كانوا عليه ، فوقع بيننا وبينهم الخلاف وهم أكثر منّا عددا وقوّة ، وقد غلبوا على الماء والمراعي وأضرّوا بنا فابعث معي من يحكم بيننا بالحقّ ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « اكشف لنا عن وجهك حتّى نراك على هيئتك التي أنت عليها » ، قال : فكشف لنا عن صورته فنظرنا فإذا شخص عليه شعر كثير وإذا رأسه طويل ، عيناه في طول رأسه ، صغير الحدقتين ، وله أسنان كأنّها أسنان السباع ، ثمّ إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخذ عليه العهد والميثاق على أن يردّ عليه من غد من يبعث به معه.

فلمّا فرغ من ذلك التفت إلى أبي بكر فقال : « سر مع أخينا عطرفة وانظر إلى ما هم عليه واحكم بينهم بالحقّ ». فقال وأين هم؟ قال : « هم تحت الأرض ».

فقال أبو بكر : وكيف أطيق النزول تحت الأرض؟ وكيف أحكم بينهم ولا أحسن كلامهم؟ ثمّ التفت إلى عمر بن الخطّاب فقال له مثل قوله لأبي بكر فأجاب مثل جواب أبي بكر ، ثمّ أقبل إلى عثمان وقال له مثل قولهما فأجاب بجوابهما.

ثمّ استدعى بعليّ علیه السلام وقال له : « يا عليّ ، سر مع أخينا عطرفة وتشرف على قومه وتنظر إلى ما هم عليه وتحكم بينهم بالحقّ » ، فقام أمير المؤمنين علیه السلام مع عطرفة وقد تقلّد سيفه قال سلمان : فتبعتهما إلى أن صار إلى الوادي فلمّا توسّطاه نظر إليّ أمير المؤمنين علیه السلام وقال : « قد شكر اللّه سعيك يا با عبد اللّه فارجع » ، فوقفت أنظر إليهما فانشقّت الأرض ودخلا فيها ورجعت وتداخلني من الحسرة ما اللّه أعلم به ، كلّ ذلك إشفاقا على أمير المؤمنين علیه السلام فأصبح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالناس الغداة ، وجاء وجلس على الصفا وحفّ به أصحابه ، وتأخّر أمير المؤمنين علیه السلام وارتفع النهار ، وأكثر الناس الكلام إلى أن زالت الشمس وقالوا : إنّ الجنّي قد احتال على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقد أراحنا

ص: 367

اللّه من أبي تراب ، وذهب عنّا افتخاره بابن عمّه علينا ، وأكثروا الكلام إلى أن صلّى صلی اللّه علیه و آله الصلاة الأولى وعاد إلى مكانه وجلس على الصفا ، وما زال يحدّث أصحابه إلى أن وجبت صلاة العصر ، وأكثر القوم الكلام وأظهروا الكفر في أمير المؤمنين علیه السلام وظهرت شماتة المنافقين بأمير المؤمنين علیه السلام وكادت الشمس تغرب ، وتيقّن القوم أنّه قد هلك ، وإذا قد انشقّ الصفا وطلع أمير المؤمنين علیه السلام منه وسيفه يقطر دما ومعه عطرفة.

فقام إليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقبّل بين عينيه وجبينه وقال له : « ما الذي حبسك عنّي إلى هذا الوقت؟ ».

فقال علیه السلام : « صرت إلى جنّ كثير قد بغوا على عطرفة وقومه فدعوتهم إلى ثلاث خصال فأبوا عليّ ، وذلك إنّي دعوتهم إلى الإيمان باللّه والإقرار بنبوّتك ورسالتك فأبوا ، فدعوتهم إلى أداء الجزية فأبوا ، فسألتهم أن يصالحوا عطرفة وقومه ، فيكون بعض المرعى لعطرفة وقومه وكذلك الماء فأبوا ذلك كلّه ، فوضعت سيفي فيهم ، وقتلت منهم ثمانين ألفا فلمّا نظروا إلى ما حلّ بهم طلبوا الأمان والصلح ، ثمّ آمنوا وزال منهم الخلاف بينهم وما زلت معهم إلى الساعة » ، فقال عطرفة : جزاك اللّه وأمير المؤمنين منّا خيرا. (1)

[2] ومنها : ما روي عن سماعة بن مهران قال : كنت عند أبي عبد اللّه علیه السلام فأرعدت السماء وأبرقت ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أما إنّه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنّه من أمر صاحبكم » ، قلت : من صاحبنا؟ قال : « أمير المؤمنين علیه السلام » (2).

وروى بعض الإماميّة في كتاب « منهج التحقيق إلى سواء الطريق » عن سلمان الفارسيّ قال : كنت أنا والحسن والحسين ومحمّد بن الحنفيّة ومحمّد بن أبي بكر

ص: 368


1- « بحار الأنوار » 39 : 168 - 170.
2- المصدر السابق 27 : 33.

وعمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود الكندي رضي اللّه عنهم ، فقال له ابنه الحسن علیه السلام : « يا أمير المؤمنين ، إنّ سليمان بن داود علیه السلام سأل ربّه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه ذلك ، فهل ملكت ممّا ملك سليمان بن داود شيئا؟ ».

فقال علیه السلام : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّ سليمان بن داود سأل اللّه عزّ وجلّ الملك فأعطاه ، وإنّ أباك ملك ما لم يملكه بعد جدّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أحد قبله ولا يملكه أحد بعده » فقال الحسن علیه السلام : « نريد أن ترينا ممّا فضّلك اللّه عزّ وجلّ من الكرامة » ، فقال علیه السلام : « أفعل إن شاء اللّه » فقام أمير المؤمنين وتوضّأ ، وصلّى ركعتين ودعا اللّه عزّ وجلّ بدعوات لم نفهمها ، ثمّ أومأ بيده إلى جهة المغرب فما كان بأسرع من أن جاءت سحابة ، فوقفت على الدار وإلى جانبها سحابة أخرى ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « أيّتها السحابة اهبطي بإذن اللّه عزّ وجلّ » ، فهبطت وهي تقول : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وأنّك خليفته ووصيّه ، من شكّ فيك فقد هلك ، ومن تمسّك بك سلك سبيل النجاة ، قال : ثمّ انبسطت السحابة إلى الأرض حتّى كأنّها بساط موضوع ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « اجلسوا على الغمامة » ، فجلسنا وأخذنا مواضعنا فأشار إلى السحابة الأخرى فهبطت وهي تقول كمقالة الأولى ، وجلس أمير المؤمنين علیه السلام عليها مفردة ثمّ تكلّم بكلام ، وأشار إليهما بالمسير إلى المغرب وإذا بالريح قد دخلت تحت السحابتين فرفعتهما رفعا رفيقا ، فتأمّلت نحو أمير المؤمنين علیه السلام فإذا به على كرسيّ والنور يسطع من وجهه يكاد يخطف الأبصار ، فقال الحسن : « يا أمير المؤمنين ، إنّ سليمان بن داود كان مطاعا بخاتمه وأمير المؤمنين علیه السلام بما ذا يطاع؟ » فقال علیه السلام : « أنا عين اللّه في أرضه ، أنا لسان اللّه الناطق في خلقه ، أنا نور اللّه الذي لا يطفأ وحجّته على عباده ».

ثمّ قال : « أتحبّون أن أريكم خاتم سليمان بن داود؟ » قلنا : نعم ، فأدخل يده إلى جيبه فأخرج خاتما من ذهب ، فصّه من ياقوتة حمراء عليه مكتوب : محمّد وعليّ ، قال سلمان : فتعجّبنا من ذلك ، فقال : « من أيّ شيء تعجبون؟ وما العجب من مثلي أنا

ص: 369

أريكم اليوم ما لم تروه أبدا » ، فقال الحسن : « أريد أن تريني يأجوج ومأجوج والسدّ الذي بيننا وبينهم » ، فسارت الريح تحت السحابة فسمعنا لها دويّا كدويّ الرعد وعلت في الهواء وأمير المؤمنين علیه السلام يقدمنا حتّى انتهينا إلى جبل شامخ في العلوّ وإذا شجرة جافّة قد تساقطت أوراقها وجفّت أغصانها ، فقال الحسن : « ما بال هذه الشجرة قد يبست؟ » فقال علیه السلام : « سلها فإنّها تجيبك » ، فقال الحسن علیه السلام : « أيّتها الشجرة ما بالك قد حدث بك ما نراه من الجفاف؟ » فلم تجبه ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « بحقّي عليك إلاّ ما أجبتيه ».

قال الراوي : واللّه لقد سمعتها وهي تقول : لبّيك لبّيك يا وصيّ رسول اللّه وخليفته ، ثمّ قالت : يا أبا محمّد ، إنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان يجيئني في كلّ ليلة وقت السحر ، ويصلّي عندي ركعتين ويكثر من التسبيح ، فإذا فرغ من دعائه جاءته غمامة بيضاء ينفح منها ريح المسك وعليها كرسيّ فيجلس فيسير به ، وكنت أعيش ببركته فانقطع عنّي منذ أربعين يوما ، فهذا سبب ما تراه منّي.

فقام أمير المؤمنين علیه السلام وصلّى ركعتين ومسح بكفّه فاخضرّت وعادت إلى حالها ، وأمر الريح فسارت بنا ، وإذا نحن بملك يده في المغرب والأخرى بالمشرق ، فلمّا نظر الملك إلى أمير المؤمنين علیه السلام قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، وأشهد أنّك وصيّه وخليفته حقّا وصدقا.

فقلنا : يا أمير المؤمنين ، من هذا الذي يده في المغرب والأخرى في المشرق؟

فقال علیه السلام : « هذا الملك الذي وكّله اللّه عزّ وجلّ بظلمة الليل والنهار لا يزول إلى يوم القيامة ، وإنّ اللّه عزّ وجلّ جعل أمر الدنيا إليّ وإنّ أعمال الخلق تعرض في كلّ يوم عليّ ثمّ ترفع إلى اللّه ».

ثمّ سرنا حتّى وقفنا على سدّ يأجوج ومأجوج فقال أمير المؤمنين علیه السلام للريح : « اهبطي بنا ممّا يلي هذا الجبل » ، وأشار بيده إلى جبل شامخ في العلوّ وهو جبل

ص: 370

الخضر علیه السلام فنظرنا إلى السدّ ، وإذا ارتفاعه مدّ البصر وهو أسود كقطعة ليل دامس يخرج من أرجائه الدخان ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا أبا محمّد ، أنا صاحب هذا الأمر على هؤلاء العبيد ».

قال سلمان : فرأيت أصنافا ثلاثة طول أحدهم مائة وعشرون ذراعا ، والثاني طول كلّ واحد سبعون ذراعا ، والثالث يفرش أحد أذنيه تحته والآخر يلتحف به.

ثمّ إنّ أمير المؤمنين علیه السلام أمر الريح فسارت بنا إلى جبل قاف فانتهينا إليه ، وإذا هو من زمرّدة خضراء وعليها ملك على صورة النسر ، فلمّا نظر إلى أمير المؤمنين قال الملك : السّلام عليك يا وصيّ رسول اللّه وخليفته أتأذن لي في الكلام؟ فردّ علیه السلام فقال : « إن شئت تكلّم وإن شئت أخبرتك بما تسألني عنه » ، فقال الملك : بل تقول أنت يا أمير المؤمنين ، قال : « تريد أن آذن لك أن تزور الخضر علیه السلام ؟ » قال : نعم ، فقال علیه السلام : « قد أذنت لك » ، فأسرع الملك بعد أن قال : بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ثمّ تمشّينا على الجبل هنيئة فإذا بالملك قد عاد إلى مكانه بعد زيارة الخضر علیه السلام فقال سلمان : يا أمير المؤمنين ، رأيت الملك ما زار الخضر إلاّ حين أخذ إذنك؟

فقال علیه السلام : « والذي رفع السماء بغير عمد لو أنّ أحدهم رام أن يزول من مكانه بقدر نفس واحد ، لما زال حتّى آذن له ، وكذلك يصير حال ولدي الحسن وبعده الحسين وتسعة من ولد الحسين تاسعهم قائمهم ».

فقلنا : ما اسم الملك الموكّل بقاف؟ فقال علیه السلام : « ترجائيل » فقلنا : يا أمير المؤمنين ، كيف تأتي كلّ ليلة إلى هذا الموضع وتعود؟ فقال : « كما أتيت بكم ، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّي لأملك من ملكوت السماوات والأرض ما لو علمتم ببعضه لما احتمله جنانكم إنّ اسم اللّه الأعظم على اثنين وسبعين حرفا ، وكان عند آصف بن برخيا حرف واحد فتكلّم به ، فخسف اللّه عزّ وجلّ الأرض ما بينه وبين عرش بلقيس حتّى تناول السرير ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرف النظر ، وعندنا نحن واللّه اثنان وسبعون حرفا وحرف واحد عند اللّه عزّ وجلّ استأثر به في علم

ص: 371

الغيب ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم ، عرفنا من عرفنا وأنكرنا من أنكرنا ».

ثمّ قام علیه السلام وقمنا فإذا نحن بشابّ في الجبل يصلّي بين القبرين فقلنا : يا أمير المؤمنين ، من هذا الشابّ؟ فقال علیه السلام : « صالح النبيّ » ، فقال علیه السلام : « وهذان القبران لأمّه وأبيه وأنّه يعبد اللّه بينهما » ، فلمّا نظر إليه صالح لم يتمالك نفسه حتّى بكى وأومأ بيده إلى أمير المؤمنين علیه السلام ثمّ أعادها إلى صدره وهو يبكي ، فوقف أمير المؤمنين علیه السلام عنده حتّى فرغ من صلاته ، فقلنا له : ما بكاؤك؟ قال صالح : إنّ أمير المؤمنين كان يمرّ بي عند كلّ غداة فيجلس فتزداد عبادتي بنظري إليه فقطع ذلك عشرة أيّام فأقلقني ذلك فتعجّبنا من ذلك.

فقال علیه السلام : « تريدون أن أريكم سليمان بن داود؟ » قلنا : نعم ، فقام ونحن معه حتّى دخل بستانا ما رأينا أحسن منه وفيه من جميع الفواكه والأعناب ، والأنهار تجري ، والأطيار يتجاوبن على الأشجار فحين رأته الأطيار أتت ترفرف حوله حتّى توسّطنا البستان وإذا سرير عليه شابّ ملقى على ظهره واضع يده على صدره ، فأخرج أمير المؤمنين علیه السلام الخاتم من جيبه ، وجعله في إصبع سليمان بن داود فنهض قائما وقال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين ، أنت واللّه الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم ، قد أفلح من تمسّك بك ، وقد خاب وخسر من تخلّف عنك ، وإنّي سألت اللّه عزّ وجلّ بكم أهل البيت فأعطيت ذلك الملك.

قال سلمان : فلمّا سمعنا كلام سليمان بن داود لم أتمالك نفسي حتّى وقعت على أقدام أمير المؤمنين علیه السلام أقبّلها ، وحمدت اللّه تعالى عزّ وجلّ على جزيل عطائه بهدايته إلى ولاية أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وفعل أصحابي كما فعلت ثمّ سألت أمير المؤمنين : ما وراء قاف؟ قال علیه السلام : « وراءه ما لا يصل إليكم علمه. فقلنا : تعلم ذلك يا أمير المؤمنين ، فقال علیه السلام « علمي بما وراءه كعلمي بحال هذه الدنيا وما فيها ، إنّي الحفيظ الشهيد عليها بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكذلك الأوصياء من ولدي بعدي ».

ص: 372

ثمّ قال علیه السلام : « إنّي لأعرف بطرق السماوات من طرق الأرض ، نحن الاسم المخزون المكنون ، نحن أسماء اللّه الحسنى التي إذا سئل اللّه عزّ وجلّ بها أجاب ، نحن أسماء المكتوبة على العرش ، ولأجلنا خلق اللّه عزّ وجلّ السماء والأرض والعرش والكرسيّ والجنّة والنار ، ومنّا تعلّمت الملائكة التسبيح والتقديس والتوحيد والتهليل والتكبير ، ونحن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ».

ثمّ قال علیه السلام : « أتريدون أن أريكم عجبا؟ » ، قلنا : نعم قال : « غضّوا أعينكم » ، ففعلنا ، ثمّ قال : « افتحوها » ، ففتحناها فإذا نحن بمدينة ما رأينا أكبر منها : الأسواق فيها قائمة ، وفيها أناس ما رأينا أعظم من خلقهم على طول النخل ، قلنا : يا أمير المؤمنين ، من هؤلاء؟ قال : « بقيّة قوم عاد كفّار لا يؤمنون باللّه عزّ وجلّ أحببت أن أريكم إيّاهم وهذه المدينة وأهلها أريد أن أهلكهم وهم لا يشعرون ».

قلنا : يا أمير المؤمنين ، تهلكهم بغير حجّة؟ قال : « لا ، بل بحجّة عليهم » ، فدنا منهم وتراءى لهم فهمّوا أن يقتلوه ونحن نراهم وهم يرونا ، ثمّ تباعد عنهم ودنا منّا ومسح بيده على صدورنا وأبداننا وتكلّم بكلمات لم نفهمها وعاد إليهم ثانية حتّى صار بإزائهم وصعق فيهم صعقة ، قال سلمان : لقد ظنّنا أنّ الأرض قد انقلبت والسماء قد سقطت وأنّ الصواعق من فيه قد خرجت فلم يبق منهم في تلك الساعة أحد ، قلنا : يا أمير المؤمنين ، ما صنع اللّه بهم؟ قال : « هلكوا فصاروا كلّهم إلى النار » ، قلنا : هذا معجز ما رأينا ولا سمعنا بمثله ، فقال علیه السلام : « أتريدون أن أريكم أعجب من ذلك؟ » فقلنا : لا نطيق بأسرنا على احتمال شيء آخر فعلى من لا يتولاّك ويؤمن بفضلك وعظيم قدرك على اللّه عزّ وجلّ لعنة اللّه ولعنة اللاعنين والملائكة والخلق أجمعين إلى يوم الدين.

ثمّ سألنا الرجوع إلى أوطاننا فقال : « أفعل ذلك إن شاء اللّه » ، فأشار إلى السحابتين فدنتا منّا فقال علیه السلام : « خذوا مواضعكم » ، فجلسنا على سحابة وجلس علیه السلام على الأخرى ، وأمر الريح فحملتنا حتّى صرنا في الجوّ ورأينا الأرض كالدرهم ، ثمّ حطتنا في دار أمير المؤمنين علیه السلام في أقلّ من طرف النظر ، وكان وصولنا إلى المدينة

ص: 373

وقت الظهر والمؤذّن يؤذّن وكان خروجنا منها وقت علت الشمس ، فقلنا : باللّه العجب كنّا في جبل قاف مسيرة خمس سنين ، وعدنا في خمس ساعات من النهار.

فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « لو أنّني أردت أن أجوب الدنيا بأسرها والسماوات السبع وأرجع في أقلّ من الطرف ، لفعلت بما عندي من اسم اللّه الأعظم » ، فقلنا : يا أمير المؤمنين ، واللّه أنت الآية العظمى والمعجزة الباهرة بعد أخيك وابن عمّك (1).

[3] ومنها : ما روي أنّ أسود أدخل على عليّ علیه السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي سرقت فطهّرني ، فقال : « لعلّك سرقت من غير حرز » ونحّى رأسه عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، سرقت من حرز ، فلمّا أقرّ ثلاث مرّات قطعه أمير المؤمنين ، فذهب وجعل يقول في الطريق : قطعني أمير المؤمنين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين ويعسوب الدين وسيّد الوصيّين ، وجعل يمدحه ، فسمع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلاه فدخلا على أمير المؤمنين وقالا : « رأينا أسودا يمدحك في الطريق ».

فبعث أمير المؤمنين من أعاده إلى حضرته ، فقال له عليّ علیه السلام : « قطعتك وأنت تمدحني؟ » فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّك طهّرتني وإنّ حبّك من قلبي قد خالط لحمي وعظمي ، فلو قطعتني إربا إربا لما ذهب حبّك من قلبي ، فدعا له أمير المؤمنين ، ووضع المقطوع إلى موضعه ، فصحّ وصلح كما كان (2).

[4] ومنها : ما روي أنّ قصّابا كان يبيع اللحم من جارية إنسان ، وكان يحيف عليها ، فبكت وخرجت ، فرأت عليّا فشكته إليه ، فمشى معها نحوه ، ودعاه إلى الإنصاف في حقّها ويعظه ويقول : « ينبغي أن يكون الضعيف عندك بمنزلة القويّ ، فلا تظلم الجارية » ولم يكن القصّاب يعرف عليّا فرفع يده وقال : اخرج أيّها الرجل ، فانصرف علیه السلام ولم يتكلّم بشيء فقيل للقصّاب : هذا عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقطع يده

ص: 374


1- « بحار الأنوار » 27 : 32 - 40.
2- « الخرائج والجرائح » 2 : 561 - 562 ، ح 19 ؛ « بحار الأنوار » 76 : 188 ، ح 24.

وأخذها وخرج إلى أمير المؤمنين معتذرا فدعا علیه السلام فصلحت يده (1).

[5] ومنها : ما روي أنّ خارجيّا اختصم مع آخر إلى عليّ علیه السلام فحكم بينهما ، وقال الخارجي : لا عدلت في القضيّة ، فقال علیه السلام : « اخسأ يا عدوّ اللّه » ، فاستحال كلبا وطارت ثيابه في الهواء ، فجعل يبصبص وقد دمعت عيناه فرقّ له عليّ علیه السلام فدعا فأعاده اللّه إلى حال الإنسانيّة ، وتراجعت ثيابه من الهواء إليه. الحديث (2).

[6] ومنها : ما روي أنّ قوما من النصارى كانوا دخلوا على النبيّ وقالوا : نخرج ونجيء بأهلينا وقومنا فإن أخرجت لنا مائة ناقة من الحجر سوداء من كلّ واحدة فصيل آمنّا ، فضمن ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وانصرفوا إلى بلادهم.

فلمّا كان بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجعوا فدخلوا المدينة ، فسألوا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقيل لهم : توفّي علیه السلام ، فقالوا : نجد في كتابنا أنّه لا يخرج من الدنيا نبيّ إلاّ ويكون له وصيّ فمن كان وصيّ نبيّكم محمّد؟ فدلّوا على أبي بكر فدخلوا عليه فقالوا : لنا دين على محمّد ، قال : وما هو؟ قالوا : مائة ناقة مع كلّ ناقة فصيل ، وكلّها سود ، فقال : ما ترك رسول اللّه تركة تفي بذلك ، فقال بعضهم لبعض بلسانهم : ما كان أمر محمّد إلاّ باطلا ، وكان سلمان حاضرا وكان يعرف لغتهم ، فقال لهم : أنا أدلّكم على وصيّ محمّد ، فإذا بعليّ قد دخل المسجد فنهضوا إليه وجثوا بين يديه فقالوا : لنا على نبيّكم دين مائة ناقة دينا بصفات مخصوصة ، قال عليّ علیه السلام : « وتسلمون حينئذ؟ » قالوا : نعم ، فواعدهم إلى الغد.

ثمّ خرج إلى الجبّانة والمنافقون يزعمون أنّه يفتضح ، فلمّا وصل إليهم صلّى ركعتين ودعا خفيّا ، ثمّ ضرب بقضيب رسول اللّه على الحجر فسمع منه أنين كما يكون للنوق عند مخاضها ، فبينما كذلك إذا انشقّ الحجر وخرج منه رأس ناقة وقد تعلّق

ص: 375


1- « الخرائج والجرائح » 2 : 759 ؛ « بحار الأنوار » 41 : 203 ، ح 18.
2- « الخرائج والجرائح » 2 : 568 ، ح 24 ؛ « بحار الأنوار » 41 : 203 ، ح 17.

منه رأس الزمام فقال علیه السلام لابنه الحسن : « خذه » فخرج منه مائة ناقة مع كلّ واحدة فصيل كلّها سود الألوان ، فأسلم النصارى كلّهم ، ثمّ قالوا : كانت ناقة صالح النبيّ واحدة وكان بسببها هلاك قوم كثير فادع يا أمير المؤمنين ، حتّى تدخل النوق وفصالها إلى الحجر ؛ لئلاّ يكون شيء منها سبب هلاك أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله فدخلت كما خرجت (1).

[7] ومنها : ما روي أنّه كان يطلب قوما من الخوارج ، فلمّا بلغ الموضع المعروف اليوم بساباط أتاه رجل من شيعته وقال : يا أمير المؤمنين ، أنا من شيعتك وكان لي أخ وكنت شفيقا عليه فبعثه عمر في جنود سعد بن أبي وقّاص إلى قتال أهل المدائن فقتل هناك أريد أن تحييه لي ، قال : « فأرني قبره ومقتله » فأراه إيّاه فمدّ الرمح وهو راكب بغلته الشهباء فوكز القبر بأسفل الرمح فخرج رجل أسمر طويل يتكلّم بالعجميّة ، فقال له أمير المؤمنين علیه السلام : « لم تتكلّم بالعجميّة وأنت رجل من العرب؟ » قال : أنا أبغضك وأوالي أعداءك فانقلب لساني في النار ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ردّه من حيث جاء فلا حاجة لنا فيه ، فقال له أمير المؤمنين : « ارجع » فرجع إلى القبر وانطبق عليه (2).

[8] ومنها : ما روي أنّ ابن أبي جعدة قال : حضرت مجلس أنس بن مالك بالبصرة وهو يحدّث ، فقام إليه رجل من القوم فقال : يا صاحب رسول اللّه ما هذه الشيمة التي أراها بك فأنا حدّثني أبي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « البرص والجذام لا يبلي اللّه به مؤمنا » ، قال : فعند ذلك أطرق أنس بن مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدموع ثمّ رفع رأسه وقال : دعوة العبد الصالح عليّ بن أبي طالب علیه السلام نفذت فيّ.

قال : فعند ذلك قام الناس حوله وقصدوه وقالوا : يا أنس ، حدّثنا ما كان سبب دعوة عليّ؟ فقال لهم : انتهوا عن هذا ، فقالوا : لا بدّ من أن تخبرنا بذلك ، فقال : اقعدوا

ص: 376


1- « الخرائج والجرائح » 1 : 213 ، ح 56 ؛ « بحار الأنوار » 41 : 198 ، ح 10.
2- « بحار الأنوار » 41 : 216 ، ح 29.

مواضعكم واسمعوا منّي حديثا كان هو السبب لدعوة عليّ علیه السلام اعلموا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان قد أهدي له بساط شعر من قرية كذا وكذا من قرى المشرق يقال لها : عندف ، فأرسلني رسول اللّه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، فأتيته بهم وعنده ابن عمّه عليّ بن أبي طالب فقال لي : « يا أنس ، ابسط البساط وأجلسهم عليه » ، ثمّ قال : « يا أنس ، اجلس حتّى تخبرني بما يكون منهم » ، ثمّ قال : « قل يا عليّ : يا ريح احملينا » فإذا نحن في الهواء ، فقال : « سيروا على بركة اللّه » ، قال : فسرنا ما شاء اللّه ، ثمّ قال : « يا ريح ضعينا » ، فوضعتنا ، فقال : « أتدرون أين أنتم؟ » قلنا : اللّه ورسوله وعليّ أعلم ، فقال : « هؤلاء أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ، قوموا يا أصحاب رسول اللّه حتّى تسلّموا عليهم ».

فعند ذلك قام أبو بكر وعمر ، فقالا : السّلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم ، قال : فلم يجبهما أحد ، قال : فقمت أنا وعبد الرحمن بن عوف وقلنا : السّلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم أنا خادم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يجبنا أحد ، فعند ذلك قام الإمام علیه السلام وقال : « السّلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم الذين كانوا من آيات اللّه عجبا » فقالوا : وعليك سلام اللّه يا وصيّ رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

فقال : « يا أصحاب الكهف ، ألا رددتم على أصحاب رسول اللّه » قالوا : نعم يا خليفة رسول اللّه إنّا فتية آمنوا بربّهم وزادهم اللّه هدى وليس معنا إذن بردّ السّلام إلاّ بإذن نبيّ أو وصيّ نبيّ ، وأنت وصيّ خاتم النبيّين والمرسلين ، وأنت خاتم الأوصياء ، ثمّ قال : « أسمعتم يا أصحاب رسول اللّه؟ » قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : « فاقعدوا في مواضعكم » فقعدنا في مجالسنا.

ثمّ قال صلی اللّه علیه و آله : « يا ريح احملينا » فسرنا ما شاء اللّه إلى أن غربت الشمس ، ثمّ قال : « يا ريح ضعينا » فإذا نحن على أرض كأنّها الزعفران ليس فيها حسيس ولا أنيس ، نباتها الشيح وليس فيها ماء فقلنا : يا أمير المؤمنين ، دنت الصلاة وليس معنا ماء نتوضّأ به ، فقام وجاء إلى موضع من تلك الأرض فرفسه برجله فنبعت عين ماء ،

ص: 377

فقال : « دونكم وما طلبتم ولو لا طلبتكم لجاءنا جبرئيل بماء من الجنّة » قال : فتوضّأنا وصلّينا إلى أن انتصف الليل ، ثمّ قال : « يا ريح احملينا » فإذا نحن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد صلّى من الغداة ركعة واحدة ، فقضيناها وكان قد سبقنا بها رسول اللّه فالتفت إلينا فقال : « يا أنس ، تحدّثني أم أحدّثك » فقلت : بل من فيك أحلى يا رسول اللّه ، قال : فابتدأ بالحديث من أوّله إلى آخره كأنّه كان معنا ، ثمّ قال : « يا أنس ، تشهد لابن عمّي بها إذا استشهدك؟ » فقلت : نعم ، يا رسول اللّه. فلمّا وليّ أبو بكر الخلافة أتى عليّ علیه السلام وكنت حاضرا عند أبي بكر والناس حوله وقال لي : « يا أنس ألست تشهد لي بفضيلة البساط ويوم عين الماء ويوم الجبّ » ، وقلت له : يا عليّ ، نسيت من كبري ، فعندها قال لي : « يا أنس إن كنت كتمته مداهنة بعد وصيّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فرماك اللّه ببياض في وجهك ولظى في جوفك وعمى في عينيك » ، فما قمت من مقامي حتّى برصت وعميت ، والآن لا أقدر على صيام في شهر رمضان ولا غيره من الأيّام ؛ لأنّ البرد لا يبقى في جوفي ، ولم يزل أنس على تلك الحالة حتّى مات بالبصرة (1).

[9] ومنها : ما روي عن عمّار الساباطي قال : قدم أمير المؤمنين علیه السلام المدائن فنزل بإيوان كسرى ، وكان معه دلف بن مجير ، فلمّا صلّى قام فقال لدلف : « قم معي » وكان معه جماعة من أهل ساباط ، فما زال يطوف منازل كسرى ويقول لدلف : كان لكسرى في هذا المكان كذا وكذا ، ويقول دلف : هو واللّه كذلك ، فما زال كذلك حتّى طاف المواضع بجميع من كان عنده ودلف يقول : يا سيّدي ومولاي ، كأنّك وضعت هذه الأشياء في هذه المساكن ، ثمّ نظر علیه السلام إلى جمجمة فقال لبعض أصحابه : « خذ هذه الجمجمة » ثمّ جاء علیه السلام إلى الإيوان وجلس فيه ودعا بطشت فيه ماء ، فقال للرجل : « دع هذه الجمجمة في الطشت ». ثمّ قال علیه السلام : « أقسمت عليك يا جمجمة

ص: 378


1- المصدر السابق 41 : 217 - 220 ، ح 31.

لتخبريني من أنا؟ ومن أنت؟ » فقال الجمجمة بلسان فصيح : أمّا أنت فأمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وإمام المتّقين ، وأمّا أنا فعبد اللّه وابن أمة اللّه كسرى أنوشيروان. فقال له أمير المؤمنين علیه السلام : « كيف حالك؟ ».

فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي كنت ملكا عادلا شفيقا على الرعايا رحيما لا أرضى بظلم ، ولكن كنت على دين المجوس وقد ولد محمّد صلی اللّه علیه و آله في زمان ملكي فسقط من شرفات قصري ثلاث وعشرون شرفة ليلة ولد ، فهممت أن أؤمن به من كثرة ما سمعت من الزيادة من أنواع شرفه وفضله ومرتبته وعزّه في السماوات والأرض ومن شرف أهل بيته ، ولكنّي تغافلت عن ذلك وتشاغلت منه في الملك ، فيا لها من نعمة ومنزلة ذهبت منّي حيث لم أؤمن ، فأنا محروم من الجنّة بعدم إيماني به ، ولكنّي مع هذا الكفر خلّصني اللّه تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعيّة ، وأنا في النار والنار محرّمة عليّ ، فوا حسرتاه لو آمنت لكنت معك يا سيّد أهل بيت محمّد ويا أمير أمّته.

قال : فبكى الناس وانصرف القوم الذين كانوا من أهل ساباط إلى أهلهم وأخبروهم بما كان وبما جرى ، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين فقال المخلصون منهم : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام عبد اللّه ووليّه ووصيّ رسوله صلی اللّه علیه و آله . وقال بعضهم : بل هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله . وقال بعضهم : بل هو الربّ. الحديث (1).

[10] ومنها : ما روي عن معاوية بن عمر قال : دخل أبو بكر على أمير المؤمنين علیه السلام فقال له : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يحدّث إلينا في أمرك شيئا بعد أيّام الولاية في الغدير ، وأنا أشهد أنّك مولاي مقرّ بذلك ، وقد سلّمت عليك على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإمرة المؤمنين ، وأخبرنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّك وصيّه ووارثه وخليفته في أهله ونسائه ...

ولم يخبرنا أنّك خليفته في أمّته من بعده ، ولا جرم لي فيما بيني وبينك ولا ذنب لنا

ص: 379


1- المصدر السابق 41 : 213 - 214 ، نقلا عن « الفضائل » لابن شاذان : 71 - 72.

فيما بيننا وبين اللّه تعالى. فقال له عليّ علیه السلام : « إن أريتك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى يخبرك بأنّي أولى بالأمر الذي أنت فيه منك ، وأنّك إن لم تعزل نفسك عنه فقد خالفت اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ؟ » فقال : إن أريتنيه حتّى يخبرني ببعض هذا اكتفيت به ، فقال علیه السلام : « فتلقّاني إذا صلّيت المغرب حتّى أريكه ».

قال : فرجع إليه بعد المغرب فأخذ بيده فأخرجه إلى مسجد قبا ، فإذا هو برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس في القبلة ، فقال : « يا فلان ، وثبت على مولاك عليّ علیه السلام وجلست مجلسه ومجلس النبوّة لا يستحقّه غيره ؛ لأنّه وصيي وخليفتي فنبذت أمري وخالفت ما قلته لك وتعرّضت بسخط اللّه وسخطي ، فانزع هذا السربال الذي تسربلته بغير حقّ ولا أنت من أهله وإلاّ فموعدك النار ».

قال : فخرج مذعورا ليسلّم الأمر إليه وانطلق أمير المؤمنين علیه السلام فحدّث سلمان بما كان جرى ، فقال له سلمان : ليبدينّ هذا الحديث لصاحبه وليخبرنّه بالخبر ، فضحك أمير المؤمنين علیه السلام فقال : « أما إنّه سيخبره وليمنعه إن همّ بأن يفعل » ، ثمّ قال : « لا واللّه لا يذكران ذلك أبدا حتّى يموتا » ، قال : فلقي صاحبه فحدّثه بالحديث كلّه فقال له : ما أضعف رأيك وأخور قلبك ، أما تعلم أنّ ذلك من بعض سحر ابن أبي كبشة ، أنسيت سحر بني هاشم؟ فأقم على ما أنت عليه (1).

[11] ومنها : ما روي عن الباقر علیه السلام : « مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدخل عليّ علیه السلام المسجد فإذا جماعة من الأنصار ، فقال لهم : « أيسرّكم أن تدخلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ » قالوا : نعم ، فاستأذن لهم ودخلوا ، فجاء عليّ علیه السلام فجلس عند رأس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخرج يده من اللحاف لدفع الحمّى وبيّن صدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإذا الحمّى تنقضه نفضا شديدا فقال عليّ علیه السلام : أمّ ملدم اخرجي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وانتهرها ، فجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وليس به بأس فقال : يا بن أبي طالب لقد أعطيت من

ص: 380


1- المصدر السابق 41 : 228 - 229 نقلا عن « الاختصاص » : 272 - 273.

خصال الخير حتّى أنّ الحمّى لتفزع منك » (1).

[12] ومنها : ما روي عن ابن عبّاس أنّه دخل أسود على أمير المؤمنين علیه السلام وأقرّ أنّه سرق ، فسأله ثلاث مرّات قال : يا أمير المؤمنين علیه السلام طهّرني فإنّي سرقت ، فأمر علیه السلام بقطع يده ، فاستقبله ابن الكوّاء فقال : من قطع يدك؟ فقال : ليث الحجاز وكبش العراق ومصادم الأبطال ، المنتقم من الجهّال ، كريم الأصل ، شريف الفضل ، محلّ الحرمين ، وارث المشعرين ، أبو السبطين ، أوّل السابقين ، وآخر الوصيّين من آل ياسين ، المؤيّد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل ، الحبل المتين ، المحفوظ بجند السماء أجمعين ، ذلك واللّه أمير المؤمنين على رغم الراغمين.

في كلام له قال ابن الكوّاء : قطع يدك وتثني عليه؟ قال : لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلاّ حبّا.

فدخل على أمير المؤمنين علیه السلام وأخبره بقصّة الأسود ، فقال : « يا بن الكوّاء ، إنّ محبّينا لو قطّعناهم إربا إربا ما ازدادوا لنا إلاّ حبّا ، وإنّ في أعدائنا لو ألعقناهم السمن والعسل ما ازدادوا منّا إلاّ بغضا ». وقال للحسن علیه السلام : « عليك بعمّك الأسود » ، فأحضر الحسن الأسود إلى أمير المؤمنين علیه السلام فأخذ يده ونصبها في موضعها وتغطّى بردائه وتكلّم بكلمات يخفيها فاستوت يده وصار يقاتل بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام إلى أن استشهد بالنهروان ويقال : كان اسم هذا الأسود أفلح (2).

[13] ومنها : ما روي عن سلمان الفارسي قدس سره قال : كنت ذات يوم عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ أقبل أعرابي على ناقة له فسلّم ثمّ قال : أيّكم محمّد صلی اللّه علیه و آله فأومئ إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، أخبرني عمّا في بطن ناقتي حتّى أعلم أنّ الذي جئت به حقّ وأؤمن بإلهك وأتّبعك؟

ص: 381


1- المصدر السابق 41 : 210.
2- المصدر السابق 41 : 210 - 211.

فالتفت النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : « حبيبي عليّ يدلّك » ، فأخذ عليّ علیه السلام بخطام الناقة ثمّ مسح يده على نحرها ثمّ رفع طرفه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وأهل بيت محمّد وبأسمائك الحسنى وبكلماتك التامّات لمّا أنطقت هذه الناقة حتّى تخبرنا بما في بطنها » فإذا الناقة قد التفتت إلى عليّ علیه السلام وهي تقول : يا أمير المؤمنين ، إنّه ركبني يوما وهو يريد زيارة ابن عمّ له وواقعني فأنا حامل منه ، فقال الأعرابي : ويحكم النبيّ هذا أم هذا؟ فقيل : هذا النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهذا أخوه وابن عمّه ، فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه وسأل النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يسأل اللّه عزّ وعلا أن يكفيه ما في بطن ناقته ، فكفاه وحسن إسلامه (1).

قال الراوندي رحمه اللّه ليس في العادة أن تحمل الناقة من الإنسان ، ولكن اللّه جلّ ثناؤه قلب العادة في ذلك دلالة لنبيّه صلی اللّه علیه و آله ، على أنّه يجوز أن نطفة الرجل على هيئتها في بطن الناقة حينئذ ولم تصر علقة بعد ، وإنّما أنطقها اللّه تعالى عزّ وجلّ ليعلم به صدق رسول اللّه (2) صلی اللّه علیه و آله .

[14] ومنها : ما روي أنّه دخل أسد الكوفة فقال : دلّوني على أمير المؤمنين علیه السلام فذهبوا معه فدلّوه عليه ، فلمّا نظر إليه الأسد مضى نحوه يلوذ به ويتبصبص إليه فمسح على ظهره ثمّ قال له : « اخرج » فنكس الأسد رأسه ونبذ ذنبه على الأرض ولا يلتفت يمينا ولا شمالا حتّى خرج منها (3).

[15] ومنها : ما روي عن أبي هريرة أنّه قال : صلّينا الغداة مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمّ أقبل علينا بوجهه الكريم وأخذ معنا في الحديث ، فأتاه رجل من الأنصار وقال : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كلب فلان الذمّي خرق ثوبي وخدش ساقي فمنعني من الصلاة معك ، فلمّا كان في اليوم الثاني أتاه رجل آخر من الصحابة وقال : يا رسول اللّه ، كلب

ص: 382


1- المصدر السابق 211.
2- المصدر السابق 41 : 230 - 231 ، نقلا عن « قصص الأنبياء » للراوندي : 295 - 296.
3- المصدر السابق 41 : 231 - 232 ، ح 3 ، نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 198 ، ح 36.

فلان الذمّي خرق ثوبي وخدش ساقي فمنعني من الصلاة معك فقال علیه السلام : « إذا كان الكلب عقورا وجب قتله ».

ثمّ قام علیه السلام وقمنا معه حتّى أتى منزل الرجل ، فبادر أنس فدقّ الباب فقال : من بالباب؟ فقال أنس : النبيّ صلی اللّه علیه و آله ببابكم ، قال : فأقبل الرجل مبادرا ففتح بابه فخرج إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقال : بأبي وأمّي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما الذي جاء بك إليّ ولست على دينك ، ألاّ كنت وجّهت إليّ كنت أجيبك؟

قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لحاجة لنا إليك أخرج كلبك فإنّه عقور ، وقد وجب قتله فقد خرق ثياب فلان وخدش ساقه ، وكذا فعل اليوم بفلان » فبادر الرجل إلى كلبه وطرح في عنقه حبلا وجرّه إليه وأوقفه بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلمّا نظر الكلب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال بلسان فصيح بإذن اللّه تعالى : السّلام عليك يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما الذي جاء بك؟ ولم تريد قتلي؟ قال : « خرقت ثياب فلان وفلان وخدشت ساقيهما » قال : يا رسول اللّه ، إنّ القوم الذين ذكرتهم منافقون نواصب يبغضون ابن عمّك عليّ بن أبي طالب علیه السلام ولو لا أنّهم كذلك ما تعرّضت لهم ، ولكنّهم جازوا يرفضون عليّا ويسبّونه فأخذتني الحميّة الأبيّة والنخوة العربيّة ففعلت بهم.

قال : فلمّا سمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك من الكلب أمر صاحبه بالالتفات إليه وأوصاه به ، ثمّ قام ليخرج وإذا صاحب الكلب الذمّي قد قام على قدميه وقال : أتخرج يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد شهد كلبي بأنّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّ ابن عمّك عليّا وليّ اللّه ، ثمّ أسلم وأسلم جميع من كان في داره (1).

[16] ومنها : ما روي عن الحرث قال : خرجنا مع أمير المؤمنين علیه السلام حتّى انتهينا إلى العاقول فإذا هو بأصل شجرة قد وقع لحاؤها (2) وبقي عمودها ، فضربها بيده ثمّ قال : « ارجعي بإذن اللّه خضراء مثمرة » فإذا هي تهتزّ بأغصانها حملها الكمّثرى ، فقطعنا

ص: 383


1- المصدر السابق 41 : 246 - 247 ، ح 15.
2- اللحاء - بالكسر والمدّ - : قشر الشجر.

وأكلنا وحملنا معنا ، فلمّا كان من الغد غدونا فإذا نحن بها خضراء فيها الكمّثرى (1).

[17] ومنها : ما روي عن أبي جعفر علیه السلام عن آبائه أنّ الحسين بن عليّ علیه السلام قال : « كنّا قعودا ذات يوم عند أمير المؤمنين علیه السلام وهناك شجرة رمّان يابسة إذ دخل عليه نفر من مبغضيه وعنده قوم من محبّيه ، فسلّموا فأمرهم بالجلوس ، فقال عليّ علیه السلام : إنّي أريكم اليوم آية تكون فيكم كمثل المائدة في بني إسرائيل ؛ إذ يقول اللّه : ( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) (2).

ثمّ قال : انظروا إلى الشجرة ، وكانت يابسة فإذا هي قد جرى الماء في عودها ، ثمّ اخضرّت وأورقت وعقدت وتدلّى حملها على رءوسنا ، ثمّ التفت إلينا فقال للذين هم محبّوه : مدّوا أيديكم وتناولوا وكلوا ، فقلنا : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وتناولنا وأكلنا رمّانا لم نأكل قطّ شيئا أعذب منه وأطيب.

ثمّ قال علیه السلام للنفر الذين هم مبغضوه : مدّوا أيديكم وتناولوا ، فمدّوا أيديهم فارتفعت ، فكلّما مدّ رجل منهم يده إلى رمّانة ارتفعت فلم يتناولوا شيئا فقالوا : يا أمير المؤمنين علیه السلام ، ما بال إخواننا مدّوا أيديهم وتناولوا وأكلوا ومددنا أيدينا فلم ننل؟ فقال علیه السلام : وكذا الجنّة لا ينالها إلاّ أولياؤنا ومحبّونا ولا يبعد منها إلاّ أعداؤنا ومبغضونا » فلمّا خرجوا قالوا : هذا من سحر عليّ بن أبي طالب علیه السلام قليل. قال سلمان : ما ذا تقولون ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ » (3).

[18] ومنها : ما روي عن فاطمة علیهاالسلام قالت : « أصابت الناس زلزلة على عهد أبي بكر ، وفزع الناس إلى أبي بكر وعمر فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى عليّ ، فتبعهما الناس إلى أن انتهوا إلى باب عليّ علیه السلام فخرج إليهم عليّ علیه السلام غير مكترث لما هم فيه فمضى وأتبعه الناس حتّى انتهى إلى قلعة فقعد عليها وقعدوا حوله وهم

ص: 384


1- المصدر السابق 41 : 248 ، نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 218 ، ح 62.
2- المائدة (5) : 115.
3- « بحار الأنوار » 41 : 249 - 250 ، نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 219 - 220.

ينظرون إلى حيطان المدينة ترتجّ جائية وذاهبة.

فقال لهم عليّ علیه السلام : كأنّكم قد هالكم ما ترون؟ قالوا : وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قطّ؟ قالت : فحرّك شفتيه ثمّ ضرب الأرض بيده ثمّ قال : مالك؟ اسكني ، فسكنت ، فعجبوا من ذلك أكثر من تعجّبهم أوّلا حيث خرج إليهم ، قال لهم : فإنّكم قد عجبتم من صنيعي ، قالوا : نعم ، فقال : أنا الرجل الذي قال اللّه : ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها* وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) (1) فأنا الإنسان الذي يقول لها ذلك ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (2) إيّاي تحدّث » (3).

[19] ومنها : ما روي عن سلمان أنّ عليّا علیه السلام بلغه عن عمر ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ علیه السلام قوس عربيّة فقال : « يا عمر ، بلغني عنك ذكرك لشيعتي؟ » فقال : أربع على ظلعك ، فقال علیه السلام : « إنّك لها هنا؟ » ثمّ رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغر فاه ، وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فصاح عمر : اللّه اللّه يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء وجعل يتضرّع إليه ، فضرب يده إلى الثعبان فعادت القوس كما كانت ، فمرّ عمر إلى بيته مرعوبا.

قال سلمان : فلمّا كان في الليل دعاني عليّ علیه السلام فقال : « صر إلى عمر فإنّه حمل إليه مال من ناحية المشرق ولم يعلم به أحد ، وقد عزم أن يحتبسه فقل له : يقول لك عليّ : اخرج إليك مال من ناحية المشرق ففرّقه على من جعل لهم ولا تحبسه فأفضحك » ، قال سلمان : فأدّيت إليه الرسالة فقال : حيّرني أمر صاحبك من أين علم؟ فقلت : وهل يخفى عليه مثل هذا؟

فقال لسلمان : اقبل منّي ما أقول لك ما عليّ إلاّ ساحر ، وإنّي لمشفق عليك منه ، والصواب أن تفارقه وتصير في جملتنا ، قلت : بئس ما قلت ، لكنّ عليّا ورث من

ص: 385


1- الزلزال (99) : 1 - 3.
2- الزلزال (99) : 4.
3- « علل الشرائع » 2 : 277 ، ح 8 ؛ « بحار الأنوار » 41 : 254 ، ح 14.

أسرار النبوّة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه ، قال : ارجع إليه فقل له : السمع والطاعة لأمرك ، فرجعت إلى عليّ علیه السلام فقال : « أحدّثك بما جرى بيننا » ، ثمّ قال : « إنّ رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت » (1).

[20] ومنها : عن عبد اللّه بن سعيد بن العاص قال : كنت مع أمير المؤمنين علیه السلام وقد خرج من الكوفة إذ عبر بالصعيد التي يقال لها : النخلة على فرسخين من الكوفة ، فخرج منها خمسون رجلا من اليهود وقالوا : أنت عليّ بن أبي طالب علیه السلام الإمام؟

فقال : « أنا ذا » فقالوا : لنا صخرة مذكورة في كتبنا عليها اسم ستّة من الأنبياء وهو ذا نطلب الصخرة فلا نجدها فإن كنت إماما أوجدنا الصخرة.

فقال علیه السلام : « اتّبعوني » قال عبد اللّه بن خالد : فسار القوم خلف أمير المؤمنين علیه السلام إلى أن استبطن فيهم البرّ ، وإذا بجبل من رمل عظيم فقال عليّ علیه السلام : « أيّتها الريح انسفي الرمل عن الصخرة بحقّ اسم اللّه الأعظم » ، فما كان إلاّ ساعة حتّى نسفت الرمل وظهرت الصخرة فقال عليّ علیه السلام : « هذه صخرتكم » فقالوا : عليها اسم ستّة من الأنبياء على ما سمعنا وقرأنا في كتبنا ولسنا نرى عليها الأسماء؟ فقال علیه السلام : « الأسماء التي عليها هي في وجهها التي على الأرض فاقلبوها » ، فاعصوصب عليها ألف رجل حضروا في هذا المكان فما قدروا على قلبها ، فقال علیه السلام : « تنحّوا عنها » فمدّ يده إليها فقلبها ، فوجدوا عليها اسم ستّة من الأنبياء علیهم السلام أصحاب الشرائع آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد علیهم السلام . فقال النفر اليهود : نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وأنّك أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وحجّة اللّه في أرضه ، من عرفك سعد ونجا ، ومن خالفك ضلّ وغوى وإلى الحميم هوى ، جلّت مناقبك عن التحديد وكثرت آثار نعتك عن التعديد (2).

ص: 386


1- « بحار الأنوار » 41 : 256 ، ح 17 ؛ نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 232 - 233.
2- المصدر السابق 41 : 257 - 258 ، ح 18 نقلا عن « كتاب اليقين » : 252 - 253.

[21] ومنها : ما روي عن أبي جعفر علیه السلام قال : قال أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام : يا أمير المؤمنين ، لو أريتنا ما نطمئنّ إليه ممّا أنهى إليك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لو رأيتم عجيبة من عجائبي لكفرتم وقلتم : ساحر كذّاب وكاهن وهو من أحسن قولكم » ، قالوا : ما منّا أحد إلاّ وهو يعلم أنّك ورثت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصار إليك علمه قال : « علم العالم شديد ولا يحتمله إلاّ مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان وأيّده بروح منه ».

ثمّ قال : « أمّا إذا أبيتم الآن أريكم بعض عجائبي وما آتاني اللّه من العلم » فاتّبعه سبعون رجلا كانوا في أنفسهم خيار الناس من شيعته ، فقال لهم علیه السلام : « إنّي لست أريكم شيئا حتّى آخذ عليكم عهد اللّه وميثاقه ألاّ تكفروا بي ولا ترموني بمعضلة ، فو اللّه ما أريكم إلاّ ما علّمني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » ، فأخذ عليهم الميثاق أشدّ ما أخذه اللّه على رسله.

ثمّ قال : « حوّلوا وجوهكم عنّي حتّى أدعو بما أريد » ، فسمعوه بدعوات لم يسمعوا بمثلها ، ثمّ قال : « حوّلوا وجوهكم » ، فحوّلوها فإذا بها جنّات وأنهار وقصور من جانب والسعير تتلظّى من جانب ، حتّى أنّهم لم يشكّوا في معاينة الجنّة والنار فقال أحسنهم قولا : إنّ هذا السحر عظيم ورجعوا كفّارا إلاّ رجلين ، فلمّا رجع مع الرجلين قال لهما : « قد سمعتم مقالتهم وأخذي عليهم العهود والمواثيق ورجوعهم يكفرون ، أما واللّه إنّها لحجّتي عليهم غدا عند اللّه ، فإنّ اللّه يعلم أنّي لست بكاهن ولا ساحر ولا يعرف ذلك لي ولا لآبائي ، ولكنّه علم اللّه وعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنهاه اللّه إلى رسوله وأنهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليّ وأنهيته إليكم ، فإذا رددتم عليّ رددتم على اللّه ».

حتّى إذا صار إلى مسجد الكوفة دعا بدعوات فإذا حصى المسجد درّ وياقوت ، فقال لهما : « ما الذي تريان » قالا : هذا درّ وياقوت ، فقال : « لو أقسمت على ربّي فيما هو أعظم من هذا لأبرّ قسمي » فرجع أحدهما كافرا ، وأمّا الآخر فثبت فقال علیه السلام : « إن أخذت شيئا ندمت وإن تركت ندمت » فلم يدعه حرصه حتّى أخذ درّة فصيّرها في كمّه حتّى إذا أصبح نظر إليها فإذا هي درّة بيضاء لم ينظر الناس إلى مثلها فقال :

ص: 387

يا أمير المؤمنين علیه السلام ، إنّي أخذت من ذلك الدرّ واحدة ، قال : « وما دعاك إلى ذلك؟ » قال : أحببت أن أعلم أحقّ هو أم باطل؟ قال : « إنّك إن رددتها إلى الموضع الذي أخذتها منه عوّضك اللّه الجنّة ، وإن أنت لم تردّها عوّضك اللّه النار » ، فقام الرجل فردّها إلى موضعها الذي أخذها منه فحوّلها اللّه حصاة كما كانت. فبعضهم قال : كان هذا ميثم التمّار ، وقال بعضهم : بل كان عمرو بن الحمق الخزاعي (1).

[22] ومنها : ما يستفاد من حديث الراهب بأرض كربلاء ، وهو أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لمّا توجّه إلى صفّين لحق أصحابه عطش شديد ونفد ما كان عندهم من الماء ، فأخذوا يمينا وشمالا يلتمسون الماء فلم يجدوا له أثرا ، فعدل بهم أمير المؤمنين علیه السلام عن الجادّة وسار قليلا ولاح لهم دير في وسط البريّة ، فسار بهم نحوه ، حتّى إذا صار في فنائه أمر من نادى ساكنه بالاطّلاع إليهم ، فنادوه فاطّلع فقال له أمير المؤمنين علیه السلام : « وهل قرب قائمك هذا من ماء يتغوّث به هؤلاء القوم؟ » فقال : هيهات بيني وبين الماء أكثر من فرسخين وما بالقرب منّي شيء من الماء ، ولو لا أنّني أوتي بما يكفيني كلّ شهر على التقتير لتلفت عطشا.

فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « أسمعتم ما قال الراهب؟ » قالوا : نعم ، أفتأمرنا بالمسير إلى حيث أومأ إليه لعلّنا أن ندرك الماء وبنا قوّة؟ فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « لا حاجة لكم إلى ذلك » ، ولوّى عنق بغلته وأشار بهم إلى مكان يقرب من الدير فقال : « اكشفوا الأرض في هذا المكان » ، فعدل منهم جماعة إلى الموضع فكشفوه بالمساحي ، فقال لهم : « إنّ هذه الصخرة على الماء فإن زالت عن موضعها وجدتم الماء فاجتهدوا في قلعها » ، فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا واستصعب عليهم.

فلمّا رآهم علیه السلام قد اجتمعوا وبذلوا الجهد في قلع الصخرة واستصعب عليهم لوّى رجله عن سرجه حتّى صار على الأرض ، ثمّ حسر عن ذراعيه ووضع أصابعه

ص: 388


1- « بحار الأنوار » 41 : 259 - 260.

تحت جانب الصخرة ، فحرّكها ثمّ قلعها بيده ورمى بها أذرعا كثيرة فلمّا زالت من مكانها ظهر لهم بياض الماء فبادروا إليه فشربوا منه ، فكان أعذب ما شربوا منه في سفرهم وأبرده وأصفاه ، فقال لهم : « تزوّدوا وارتووا » ففعلوا ذلك ، ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت فأمر أن يعفى أثرها بالتراب والراهب ينظر من فوق ديره ، فلمّا استوفى علم ما جرى نادى : أيّها الناس ، أنزلوني فاحتالوا في إنزاله ، فوقف بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام فقال له : يا هذا أنت نبيّ مرسل؟ قال : « لا » قال : فمن أنت؟ قال : « أنا وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله محمّد بن عبد اللّه خاتم النبيّين » قال : ابسط يدك أسلم لله تبارك وتعالى على يدك ، فبسط أمير المؤمنين يده فقال : « اشهد الشهادتين » فقال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأشهد أنّك وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأحقّ الناس بالأمر من بعده.

فأخذ أمير المؤمنين علیه السلام شرائط الإسلام ، ثمّ قال : « ما الذي دعاك الآن إلى الإسلام بعد طول مقامك في هذا الدير على الخلاف؟ » قال : أخبرك يا أمير المؤمنين علیه السلام أنّ هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها ، وقد مضى عالم قبلي فلم يدركوا ذلك ، وقد رزقنيه اللّه عزّ وجلّ ، إنّا نجد في كتاب من كتابنا وأثر عن علمائنا في هذا الصقع عينا عليها صخرة لا يعرف بمكانها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ وأنّه لا بدّ من وليّ اللّه يدعو إلى الحقّ آيته معرفة مكان هذه الصخرة ، وقدرته على قلعها ، وإنّي لمّا رأيتك قد فعلت ذلك تحققت ما كنت منتظره وبلغت الأمنية منه فأنا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقّك ومولاك.

فلمّا سمع أمير المؤمنين علیه السلام بكى حتّى اخضلّت لحيته من الدموع ، وقال : « الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكورا » ، ثمّ دعا الناس فقال : « اسمعوا ما يقول أخوكم المسلم » فسمعوا مقاله ، فكثر حمدهم لله وشكرهم على النعمة التي أنعم بها عليهم في معرفته بحقّ أمير المؤمنين علیه السلام ثمّ ساروا والراهب بين يديه في جملة أصحابه حتّى لقي أهل الشام ، وكان الراهب في جملة من استشهد معه ، فتولّى عليه الصلاة والسّلام

ص: 389

الصلاة عليه ودفنه وأكثر من الاستغفار له ، وكان إذا ذكره يقول : « ذاك مولاي » (1).

[23] ومنها : ما روي بالإسناد إلى عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنّه قدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبر من أحبار اليهود ، وقال : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قد أرسلوني إليك قومي أن عهد إلينا نبيّنا موسى أنّه يبعث بعدي نبيّ اسمه محمّد وهو عربيّ فامضوا إليه واسألوه أن يخرج لكم من جبل هناك سبع نوق حمر الوبر سود الحدق ، فإن أخرجها لكم فسلّموا عليه وآمنوا به واتّبعوا النور الذي أنزل معه وصيّا وهو سيّد الأنبياء ووصيّه سيّد الأوصياء ، وهو منه بمنزلة هارون من موسى علیه السلام فعند ذلك قال : « اللّه أكبر قم بنا يا أخا اليهود » قال : فخرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمون حوله إلى ظاهر المدينة ، وجاء إلى جبل فبسط البردة ، وصلّى ركعتين وتكلّم بكلام خفيّ فإذا الجبل يصرّ صريرا عظيما وانشقّ وسمع الناس حنين النوق فقال اليهودي : فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّك محمّدا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّ جميع ما جئت به حقّ وصدق وعدل ، يا رسول اللّه ، أمهلني حتّى أمضي إلى قومي وأجيء بهم ليقضوا عدتهم منك ويؤمنوا بك ، فمضى الحبر إلى قومه ، فأخبرهم بذلك.

فتجهّزوا بأجمعهم للمسير يطلبون المدينة ، فلمّا دخلوها وجدوها مظلمة لفقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد انقطع الوحي من السماء ، وجلس مكانه أبو بكر ، فدخلوا عليه وقالوا : أنت خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ قال : نعم. قالوا : أعطنا عدتنا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : وما عدتكم؟ قالوا : أنت أعلم بعدتنا إن كنت خليفته حقّا ، وإن كنت لم تعلم شيئا ما أنت خليفته ، فكيف جلست مجلس نبيّك بغير حقّ ولست له أهلا؟!

قال : فقام وقعد وتحيّر في أمره ولم يعلم ما ذا يصنع ، وإذا برجل من المسلمين فقال : اتّبعوني حتّى أدلّكم على خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : فخرجوا من بين يدي أبي بكر وتبعوا الرجل حتّى أتوا منزل الزهراء علیهاالسلام وطرقوا الباب وإذا بالباب قد فتح ،

ص: 390


1- « إعلام الورى » 1 : 246 - 248 : « الإرشاد » 1 : 334 - 337.

وإذا بعليّ قد خرج وهو شديد الحزن على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا رآهم قال : « أيّها اليهود ، تريدون عدتكم من رسول اللّه؟ » قالوا : نعم ، فخرج معهم فسار إلى ظاهر المدينة إلى الجبل الذي صلّى عنده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا رأى مكانه تنفّس الصعداء وقال : بأبي وأمّي من كان بهذا الجبل هنيئة ثمّ صلّى ركعتين وإذا بالجبل قد انشقّ وخرجت النوق منه وهي سبع نوق ، فلمّا رأوا ذلك قالوا بلسان واحد : نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّك الخليفة من بعده ، وأنّ

ما جاء به من عند ربّنا هو الحقّ ، وأنّك خليفته حقّا ووصيّه ووارث علمه فجزاك اللّه وجزاه عن الإسلام خيرا ، ثمّ رجعوا إلى بلادهم مسلمين موحّدين (1).

[24] ومنها : ما روي عن ميثم التمّار أنه قال : كنت بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام في جامع الكوفة في جماعة من أصحابه وأصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو كأنّه البدر بين الكواكب إذ دخل علينا من باب المسجد رجل طويل عليه قباء خزّ أدكن وقد اعتمّ بعمامة صفراء وهو متقلّد بسيفين ، فدخل وبرك بغير سلام ولم ينطق بكلام ، فتطاولت إليه الأعناق ونظروا إليه بالآماق ، وقد وقف عليه الناس من جميع الآفاق ، ومولانا أمير المؤمنين علیه السلام لا يرفع رأسه إليه ، فلمّا هدأت من الناس الحواسّ أفصح من لسان كأنّه حسام جذب من غمده ، أيّكم المجتبى في الشجاعة والمعمّم بالبراعة؟ أيّكم المولود في الحرم والعالي في الشيم والموصوف بالكرم؟ أيّكم أصلع الرأس والبطل الدعّاس والمضيّق للأنفاس والآخذ بالقصاص؟ أيّكم غصن أبي طالب علیه السلام الرطيب وبطله المهيب والسهم المصيب والقسم النجيب؟ أيّكم خليفة محمّد صلی اللّه علیه و آله الذي نصره في زمانه وأعزّ به سلطانه وعظم به شأنه؟

فعند ذلك رفع أمير المؤمنين علیه السلام رأسه إليه فقال : « ما لك يا با سعد بن الفضل بن الربيع بن المدركة بن نجيبة بن صلت بن الحارث بن عوان بن الأشعث بن أبي السمع

ص: 391


1- « بحار الأنوار » 41 : 270 - 271 نقلا عن « الفضائل » لابن شاذان : 129 - 130.

الرومي؟ اسأل عمّا شئت أنا عيبة علم النبوّة ».

قال : قد بلغنا عنك أنّك وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخليفته على قومه بعده ، وأنّك محلّ المشكلات ، وأنا رسول إليك من ستّين ألف رجل يقال لهم : العقيمة ، وقد حمّلوني ميّتا قد مات من مدّة وقد اختلفوا في سبب موته وهو بباب المسجد ، فإن أحييته علمنا أنّك صادق نجيب الأصل وتحقّقنا أنّك حجّة اللّه في أرضه وخليفة محمّد صلی اللّه علیه و آله على قومه ، وإن لم تقدر على ذلك رددناه إلى قومه وعلمنا أنّك تدّعي غير الصواب ، وتظهر من نفسك ما لا تقدر عليه.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا ميثم اركب بعيرك وناد في شوارع الكوفة ومحالّها : من أراد أن ينظر إلى ما أعطاه اللّه عليّا أخا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وزوج ابنته من العلم الربّاني ، فليخرج إلى النجف » فخرج الناس إلى النجف ، فقال الإمام علیه السلام : « يا ميثم ، هات الأعرابي وصاحبه » ، فخرجت فرأيته راكبا تحت القبّة التي فيها الميّت ، فأتيت بهما إلى النجف فعند ذلك قال عليّ علیه السلام : « قولوا فينا ما ترون وارووا عنّا ما تشاهدونه منّا ».

ثمّ قال : « يا أعرابي ، أبرك الجمل وأخرج صاحبك أنت وجماعة من المسلمين ».

قال ميثم : فأخرجت تابوتا وفيه وطء ديباج أخضر وفيها غلام أوّل ما تمّ عذاره على خدّه بذوائب كذوائب الامرأة الحسناء ، فقال عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « كم لميّتكم؟ » قال : أحد وأربعون يوما وقال : « ما سبب موته؟ » فقال الأعرابي : يا فتى إنّ أهله يريدون أن تحييه ليخبرهم من قتله ؛ لأنّه بات سالما وأصبح مذبوحا من أذنه إلى أذنه ، ويطالب بدمه خمسون رجلا يقصد بعضهم بعضا فاكشف الشكّ والريب يا أخا محمّد.

قال الإمام علیه السلام : « قتله عمّه ؛ لأنّه زوّجه ابنته فخلاّها وتزوّج بغيرها فقتله حنقا عليه ».

قال الأعرابي : لسنا نقنع بقولك فإنّا نريد أن يشهد لنفسه عند أهله ، لترتفع الفتنة والسيف والقتال ، فعند ذلك قام الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام فحمد اللّه وأثنى عليه

ص: 392

وذكر النبيّ وقال : « يا أهل الكوفة ما بقرة بني إسرائيل بأجلّ عند اللّه منّي قدرا وأنا أخو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّها أحيت ميّتا بعد سبعة أيّام ».

ثمّ دنا أمير المؤمنين علیه السلام من الميّت وقال : « إنّ بقرة بني إسرائيل ضرب ببعضها الميّت فعاش ، وأنا أضرب بهذا الميّت ببعضي ؛ لأنّ بعضي خير من البقرة كلّها » ، ثمّ هزّه برجله وقال له : « قم بإذن اللّه يا مدرك بن حنظلة بن غسّان بن بحير بن قهر بن سلامة بن الطيب بن الأشعب ، فقد أحياك اللّه تعالى على يد عليّ بن أبي طالب علیه السلام ».

قال ميثم التمّار : فنهض غلام أضوأ من الشمس أضعافا ومن القمر أوصافا فقال : لبّيك لبّيك يا حجّة اللّه على الأنام ، المتفرّد بالفضل والإنعام فعند ذلك قال : « يا غلام من قتلك؟ » قال : قتلني عمّي الحارث بن غسّان ، قال له الإمام علیه السلام : « انطلق إلى قومك فأخبرهم بذلك » ، فقال : يا مولاي لا حاجة لي إليهم أخاف أن يقتلوني مرّة أخرى ولا يكون عندي من يحييني.

قال : فالتفت الإمام إلى صاحبه وقال له : « امض إلى أهلك فأخبرهم » ، قال : يا مولاي ، واللّه لا أفارقك بل أكون معك حتّى يأتي اللّه بأجلي من عنده فلعن اللّه من اتّضح له الحقّ ، وجعل بينه وبين الحقّ سرّا ولم يزل بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام حتّى قتل بصفّين ، ثمّ إنّ أهل الكوفة رجعوا إلى الكوفة واختلفوا أقوالا فيه (1).

[25] ومنها : ما روي عن عمّار بن ياسر وزيد بن أرقم قالا : كنّا بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام وكان يوم الاثنين لسبع عشر خلت من صفر وإذا بزعقة عظيمة ملأت المسامع وكان على دكّة القضاة فقال : « يا عمار ، ائتني بذي الفقار » وكان وزنه سبعة أمنان وثلثي منّ مكّي فجئت به فانتضاه من غمده وتركه على فخذه وقال : « يا عمّار ، هذا يوم أكشف فيه لأهل الكوفة الغمّة ؛ ليزداد المؤمن وفاقا والمخالف نفاقا ، يا عمّار ائت بمن على الباب ».

ص: 393


1- « بحار الأنوار » 40 : 274 - 277 نقلا عن « الفضائل » لابن شاذان : 3 - 6.

قال عمّار : فخرجت وإذا على الباب امرأة في قبّة على جمل وهي تشتكي وتصيح : يا غياث المستغيثين ، ويا بغية الطالبين ، ويا كنز الراغبين ، ويا ذا القوّة المتين ، ويا مطعم اليتيم ، ويا رازق العديم ، ويا محيي كلّ عظم رميم ، ويا قديم سبق قدمه كلّ قديم ، يا عون من ليس له عون ولا معين ، يا طود من لا طود له ، يا كنز من لا كنز له ، إليك توجّهت وبوليّك توسّلت وخليفة رسولك قصدت ، فبيّض وجهي وفرّج عنّي كربتي.

قال عمّار : وحولها ألف فارس بسيوف مسلولة قوم لها وقوم عليها ، فقلت : أجيبوا أمير المؤمنين علیه السلام أجيبوا عيبة (1) علم النبوّة ، قال : فنزلت المرأة من القبّة ونزل القوم معها ودخلوا المسجد فوقفت المرأة بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام وقالت : يا مولاي يا أمير المؤمنين علیه السلام ، ويا إمام المتّقين إليك أتيت وإيّاك قصدت فاكشف كربتي وما بي من غمّة ، فإنّك قادر على ذلك وعالم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

فعند ذلك قال : « يا عمّار ، ناد في الكوفة : من أراد أن ينظر إلى ما أعطاه اللّه أخا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فليأت المسجد ».

قال : فاجتمع الناس حتّى امتلأ المسجد ، فقام أمير المؤمنين علیه السلام قال : « سلوني ما بدا لكم يا أهل الشام » فنهض من بينهم شيخ قد شاب ، عليه بردة يمانية فقال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين علیه السلام ويا كنز الطالبين ، يا مولاي هذه الجارية ابنتي قد خطبها ملوك العرب ، وقد نكست رأسي بين يدي عشيرتي ، وأنا موصوف بين العرب ، وقد فضحتني في أهلي ورجالي؟ لأنّها عاتق (2) حامل وأنا فليس بن عفريس لا تخمد لي نار ولا يضام لي جار وقد بقيت حائرا في أمري فاكشف لي هذه الغمّة ، فإنّ الإمام خبير بالأمر وهذه غمّة عظيمة لم أر مثلها ولا أعظم منها.

فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « ما تقولين يا جارية ، فيما قال أبوك؟ » قالت : يا مولاي أمّا قوله : أنا عاتق فصدق. وأمّا قوله : إنّي حامل فو حقّك يا مولاي ما علمت من

ص: 394


1- عيبة الرجل : موضع سرّه.
2- جارية عاتق ، أي شابّة أوّل ما أدركت فخدرت في بيت أهلها ولم تبن إلى زوج.

نفسي خيانة قطّ ، وإنّي أعلم أنّك أعلم بي منّي ، وإنّي ما كذبت فيما قلت ، ففرّج عنّي يا مولاي.

قال عمّار : فعند ذلك أخذ الإمام ذا الفقار وصعد المنبر ، فقال : « اللّه أكبر اللّه أكبر ، جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا » ، ثمّ قال علیه السلام : « عليّ بداية الكوفة ».

فجاءت امرأة تسمّى لبناء وهي قابلة لنساء أهل الكوفة ، فقال : « اضربي بينك وبين الناس حجابا وانظري في هذه الجارية عاتق حامل أم لا؟ » ففعلت ما أمر به ، ثمّ خرجت وقالت : نعم ، يا مولاي هي عاتق حامل.

فعند ذلك التفت الإمام إلى أبي الجارية وقال : « يا أبا الغضب ألست من قرية كذا وكذا من أعمال دمشق؟ » قال : وما هذه القرية؟ قال : « هي قرية تسمّى أسعار؟ » قال : بلى يا مولاي ، قال : « ومن منكم يقدر على قطعة ثلج في هذه الساعة؟ » قال : يا مولاي ، الثلج في بلادنا كثير ولكن لا نقدر عليه هاهنا ، فقال علیه السلام : « بيننا وبينكم مائتان وخمسون فرسخا؟ » قال : نعم يا مولاي ، ثمّ قال علیه السلام : « أيّها الناس ، انظروا ما أعطاه اللّه عليّا من العلم النبويّ والذي أودعه اللّه ورسوله من العلم الربّاني ».

قال : عمّار بن ياسر : فمدّ يده من أعلى منبر الكوفة وردّها وإذا فيها قطعة من الثلج يقطر الماء منها ، فعند ذلك ضجّ الناس وماج الجامع بأهله فقال علیه السلام : « اسكتوا ولو شئت أتيت بجبالها ».

ثمّ قال : « يا داية ، خذي هذه القطعة من الثلج وأخرجي بالجارية من المسجد واتركي تحتها طشتا ، وضعي هذه القطعة ممّا يلي الفرج فسترين علقة وزنها سبعمائة وخمسون درهما ودانقان » ، فقالت : سمعا وطاعة لله ولك يا مولاي.

ثمّ أخذتها وخرجت بها من الجامع وجاءت بطشت فوضعت الثلج على الموضع كما أمرها علیه السلام فرمت علقة وزنتها الداية فوجدتها كما قال علیه السلام فأقبلت الداية والجارية فوضعت العلقة بين يديه قال : « يا أبا الغضب ، خذ ابنتك فو اللّه ما زنت ، وإنّما دخلت الموضع فيه الماء فدخلت هذه العلقة في جوفها وهي بنت عشر سنين

ص: 395

وكبرت إلى الآن في بطنها ».

فنهض أبوها وهو يقول : أشهد أنّك تعلم ما في الأرحام وما في الضمائر ، وأنت باب الدين وعموده ، قال : فضجّ الناس عند ذلك وقالوا : يا أمير المؤمنين ، لنا اليوم خمس سنين لم تمطر السماء علينا وقد أمسك عن الكوفة هذه المدّة وقد مسّنا وأهلنا الضرّ فاستسق لنا يا وارث محمّد صلی اللّه علیه و آله فعند ذلك قام في الحال فأشار بيده قبل السماء فسال الغيث حتّى بقيت الكوفة غدرانا فقالوا : يا أمير المؤمنين ، كفانا وروينا ، فتكلّم بكلام فمضى الغيث وانقطع المطر وطلعت الشمس ، فلعن اللّه الشاكّ في فضل عليّ بن أبي طالب (1).

[26] ومنها : ما روي عن أبي المليح الهذلي ، عن أبيه قال : كنّا جلوسا عند عمر بن الخطّاب ، إذ دخل علينا رجل من أهل الروم قال له : أنت من العرب؟ قال : نعم ، قال : أما إنّي أسألك عن ثلاثة أشياء فإن خرجت إلي منها آمنت بك وصدّقت نبيّك محمّدا.

قال : سل عمّا بدا لك يا كافر ، قال : أخبرني عمّا لا يعلمه اللّه ، وعمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند اللّه.

قال عمر : ما أتيت يا كافر إلاّ كفرا ، إذ دخل علينا أخو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال لعمر : « أراك مغتمّا؟ » فقال : وكيف لا أغتمّ يا بن عمّ رسول اللّه ، وهذا الكافر يسألني عمّا لا يعلمه اللّه ، وعمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند لله ، فهل لك في هذا شيء يا أبا الحسن؟ قال : « نعم ».

قال : فرّج اللّه عنك وإلاّ قد تصدّع قلبي ، فقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أحبّ أن يدخل المدينة فليقرع الباب » ، فقال : « أمّا ما لا يعلمه اللّه فلا يعلم اللّه أنّ له شريكا ولا وزيرا ولا صاحبة ولا ولدا وشرحه في القرآن ( قُلْ

ص: 396


1- « بحار الأنوار » 40 : 277 - 280 ، ح 42 نقلا عن « الفضائل » لابن شاذان : 153 - 155.

أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِما لا يَعْلَمُ ) (1) ، وأمّا ما ليس عند اللّه فليس عنده ظلم للعباد ، وأمّا ما ليس لله فليس له ضدّ ولا ندّ ولا شبه ولا مثل ».

قال : فوثب عمر وقبّل ما بين عيني عليّ علیه السلام ثمّ قال : يا أبا الحسن ، منكم أخذنا العلم وإليكم يعود ، ولو لا عليّ لهلك عمر ، فما برح النصرانيّ حتّى أسلم وحسن إسلامه (2).

[27] ومنها : وعن أبي عبد اللّه علیه السلام قال أتي عمر بن الخطّاب بامرأة قد تعلّقت برجل من الأنصار وكانت تهواه ولم تقدر على حيلة ، فذهبت وأخذت بيضة فأخرجت منها الصفرة وصبّت البياض على ثيابها وبين فخذيها ، ثمّ جاءت إلى عمر فقالت : يا أمير المؤمنين ، إنّ هذا الرجل قد أخذني في موضع كذا وكذا ففضحني ، فقال : فهمّ عمر أن يعاقب الأنصاريّ فجعل الأنصاريّ يحلف وأمير المؤمنين علیه السلام جالس ويقول : يا أمير المؤمنين ، تثبّت في أمري ، فلمّا أكثر الفتى قال عمر لأمير المؤمنين علیه السلام : يا أبا الحسن ما ترى؟

فنظر أمير المؤمنين علیه السلام إلى بياض على ثوب المرأة وبين فخذيها فاتّهمها أن تكون احتالت لذلك قال : « ائتوني بماء حارّ قد أغلي غليانا شديدا » ففعلوا ، فلمّا أتي بالماء أمرهم فصبّوا على موضع البياض فاشتوى ذلك البياض ، فأخذه أمير المؤمنين علیه السلام فألقاه في فيه ، فلمّا عرف طعمه ألقاه من فيه ثمّ أقبل على المرأة حتّى أقرّت بذلك ، ودفع اللّه عزّ وجلّ من الأنصاريّ عقوبة عمر (3).

[28] ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « أتي عمر بامرأة وزوجها شيخ ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها فجاءت بولد فادّعى بنوه أنّها فجرت فتشاهدوا عليها وأمر عمر بها أن ترجم فمرّ بها عليّ علیه السلام فقالت : يا ابن عمّ رسول اللّه ، إنّ لي حجّة

ص: 397


1- يونس (10) : 18.
2- « بحار الأنوار » 40 : 286 ، ح 42.
3- « الكافي » 6 : 423 ، باب النوادر ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » 6 : 304 ، ح 55 من باب الزيادات في القضايا والأحكام ؛ « بحار الأنوار » 40 : 303 ، ح 79.

فقال : « هاتي حجّتك » ، فدفعت إليه كتابا فقرأه فقال : « هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها وكيف كان جماعه لها ، ردّوا المرأة ».

فلمّا كان من الغد دعا بصبيان أتراب ودعا بالصبيّ معهم فقال : « العبوا » حتّى إذا ألهاهم اللعب فقال لهم : « اجلسوا » حتّى إذا تمكّنوا صاح بهم ، فقام الصبيان وقام الغلام فاتّكأ على راحتيه فدعا به عليّ علیه السلام فورثه من أبيه وجلد إخوته حدّا - حدّ المفتري - فقال له عمر : كيف صنعت؟ قال : « عرفت ضعف الشيخ في اتّكاء الغلام على راحتيه » (1).

[29] ومنها : عن أبي عبد اللّه علیه السلام « أن رجلا قد أقبل على عهد عليّ علیه السلام من الجبل حاجّا ومعه غلام له فأذنب فضربه مولاه ، فقال : ما أنت مولاي بل أنا مولاك قال : فما زال ذا يتواعد ذا ، وذا يتواعد ذا ويقول : كما أنت حتّى نأتي الكوفة يا عدوّ اللّه فأذهب بك إلى أمير المؤمنين.

فلمّا أتيا الكوفة أتيا أمير المؤمنين فقال الذي ضرب الغلام : أصلحك اللّه إنّ هذا غلام لي وأنّه أذنب فضربته فوثب عليّ وقال الآخر : هو واللّه غلام لي أرسلني أبي معه ليعلّمني وأنّه وثب عليّ يدّعيني ليذهب بمالي ، قال : فأخذ هذا يحلف وهذا يحلف وذا يكذّب هذا وذا يكذّب هذا.

قال : فقال : « فانطلقا فتصادقا في ليلتكم هذه ولا تجيئاني إلاّ بحقّ » ، فلمّا أصبح أمير المؤمنين علیه السلام قال لقنبر : « اثقب في الحائط ثقبين » قال : وكان إذا أصبح عقّب حتّى تصير الشمس على رمح يسبّح ، فجاء الرجلان واجتمع الناس فقالوا : لقد وردت علينا قضيّة ما ورد علينا مثلها لا يخرج منها فقال لهما : « قوما فإنّي لست أراكما تصدقان » ، ثمّ قال لأحدهما : « ادخل رأسك في هذا الثقب » ، ثمّ قال للآخر :

ص: 398


1- « الكافي » 7 : 424 - 425 ، باب النوادر ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » 6 : 306 - 307 ، ح 57 من باب الزيادات في القضايا والأحكام.

« ادخل رأسك في هذا الثقب » ، ثمّ قال : « يا قنبر عليّ بسيف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عجّل بضرب رقبة العبد منهما » ، قال : فأخرج الغلام رأسه مبادرا ومكث الآخر في الثقب ، فقال عليّ علیه السلام للغلام : « ألست تزعم أنّك لست بعبد؟ » فقال : بلى ، ولكنّه ضربني وقعد عليّ فقال : فتوثّق له أمير المؤمنين علیه السلام فدفعه إليه (1).

[30] ومنها : ما روي عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « أتي عمر بن الخطّاب بجارية قد شهدوا عليها أنّها بغت ، وكانت من قصّتها أنّها كانت يتيمة عند رجل ، وكان الرجل كثيرا ما يغيب عن أهله فشبّت اليتيمة ، فتخوّفت المرأة أن يتزوّجها زوجها ، فدعت بنسوة حتّى أمسكنها فأخذت عذرتها بإصبعها ، فلمّا قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة فأقامت البيّنة من جاراتها التي ساعدنها على ذلك ، فرفع ذلك إلى عمر فلم يدر كيف يقضي فيها؟ ثمّ قال للرجل : ائت عليّ بن أبي طالب علیه السلام وأذهب بها إليه فأتوا عليّا علیه السلام وقصّوا عليه القصّة فقال لامرأة الرجل : « ألك بيّنة أو برهان؟ » قالت : لي شهود ، وهؤلاء جاراتي يشهدون عليها بما أقول ، وأحضرتهنّ فأخرج عليّ علیه السلام السيف من غمده فطرح بين يديه وأمر بكلّ واحدة منهنّ فأدخلت بيتا ، ثمّ دعا امرأة الرجل فأدارها بكل وجه فأبت أن تزول عن قولها ، فردّها إلى البيت الذي كانت فيه ، ودعا إحدى الشهود وجثا على ركبتيه ثمّ قال : « تعرفيني أنا عليّ بن أبي طالب علیه السلام وهذا سيفي ، وقد قالت امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحقّ فأعطيتها الأمان ، وإن لم تصدّقيني لأملأنّ السيف منك » فالتفتت إلى عمر فقالت : يا أمير المؤمنين الأمان على الصدق ، فقال لها عليّ علیه السلام : « فاصدقي » فقالت : لا واللّه إلاّ أنّها رأت جمالا وهيئة فخافت فساد زوجها فسقتها المسكر ودعتنا فأمسكناها فافتضّتها بإصبعها.

فقال علیه السلام : « اللّه أكبر أنا أوّل من فرّق بين الشهود إلاّ دانيال النبيّ علیه السلام » وألزمهنّ

ص: 399


1- « بحار الأنوار » 40 : 308 ، ح 82.

عليّ علیه السلام حدّ القاذف والزمهنّ جميعا العقر وجعل عقرها أربعمائة درهم ، وأمر المرأة أن تنفى من زوجها ويطلّقها زوجها وزوّجه الجارية وساق عنه عليّ علیه السلام فقال : « إنّ دانيال كان يتيما لا أمّ له ولا أب ، وإنّ امرأة من بني إسرائيل عجوزا كبيرة ضمّته فربّته ، وإنّ ملكا من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان وكان لهما صديق وكان رجلا صالحا ، وكانت له امرأة بهيّة ، وكان يأتي الملك فيحدّثه فاحتاج الملك إلى رجل يبعثه في بعض أموره ، فقال للقاضيين : اختارا رجلا أرسله في بعض أموري ، فقالا : فلان ، فوجّهه الملك فقال الرجل للقاضيين : أوصيكما بامرأتي خيرا ، فقالا : نعم ، فخرج الرجل فكان القاضيان يأتيان باب الصديق فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها فأبت ، فقالا لها : واللّه لئن لم تفعلي لنشهدنّ عليك عند الملك بالزنى ، ثمّ لنرجمنّك فقالت : افعلا ، ما أحببتما.

فأتيا الملك فأخبراه وشهدا عنده أنّها بغت ، فدخل الملك من ذلك أمر عظيم واشتدّ بها غمّه ، وكان بها معجبا ، فقال لهما : إنّ قولكما مقبول ولكن ارجموها بعد ثلاثة أيّام ، ونادى في البلد الذي هو فيه : احضروا قتل فلانة العابدة فإنّها قد بغت ، وإنّ القاضيين قد شهدا عليها بذلك وأكثر الناس في ذلك ، وقال الملك لوزيره : ما عندك في هذه الحيلة؟ فقال : ما عندي في ذلك من شيء.

فخرج الوزير اليوم الثالث وهو آخر أيّامها ، فإذا هو بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال علیه السلام وهو لا يعرفه فقال دانيال علیه السلام : « يا معشر الصبيان تعالوا حتّى أكون أنا الملك ، وتكون أنت فلانة العابدة ، ويكون فلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها ، ثمّ جمع ترابا وجعل سيفا من قصب وقال للصبيان : خذوا بيد هذا فنحّوه إلى مكان كذا وكذا ، ثمّ دعا بأحدهما فقال له : قل حقّا فإنّك إن لم تقل حقّا قتلتك ، بم تشهد؟ والوزير قائم يسمع وينظر ، فقال : أشهد أنّها بغت ، فقال : متى؟ قال : يوم كذا وكذا ، قال : مع من؟ قال : مع فلان بن فلان ، قال : أين؟ قال : موضع كذا وكذا قال : ردّوه إلى مكانه.

وجاءوا بالآخر ، فقال له : بم تشهد؟ قال : أشهد أنّها بغت ، قال : متى؟ قال : يوم كذا

ص: 400

وكذا قال : مع من؟ قال : فلان بن فلان ، قال : وأين؟ قال : موضع كذا وكذا ، فخالف صاحبه فقال دانيال علیه السلام : اللّه أكبر شهدا بزور يا فلان ناد في الناس : إنّما شهدا على فلانة بزور فاحضروا قتلهما ، فذهب الوزير إلى الملك مبادرا فأخبره الخبر ، فبعث الملك إلى القاضيين فاختلفا كما اختلف الغلامان ، فنادى الملك في الناس فأمر بقتلهما وبصلبهما » (1).

[31] ومنها : ما روي عن أنس ، عن عمر بن الخطّاب ، أنّ عليّا علیه السلام رأى حيّة تقصده وهو في مهده ، وقد شدّت يداه في حال صغره ، فحوّل نفسه وأخرج يده وأخذ بيمينه عنقها وغمزها غمزة حتّى أدخل أصابعه فيها ، وأمسكها حتّى ماتت ، فلمّا رأت ذلك أمّه نادت واستغاثت فاجتمع الحشم ، ثمّ قالت : كأنّك حيدرة. حيدرة : اللّبوة إذا غضبت من قبل أذى أولادها (2).

[32] ومنها : ما روي عن محمّد بن الحنفيّة قال : لمّا رجع أمير المؤمنين علیه السلام من صفّين وسقى القوم من الماء التي تحت الصخرة التي قلبها أراد ليقعد لحاجته ، فقال بعض منافقي عسكره : سوف أنظر إلى سوأته وإلى ما يخرج منه فإنّه يدّعي مرتبة النبيّ لأخبر أصحابي بكذبه.

فقال عليّ علیه السلام لقنبر : « يا قنبر ، اذهب إلى تلك الشجرة وإلى التي تقابلها - وكان بينهما أكثر من فرسخ - فنادهما : إنّ وصيّ محمّد يأمركما أن تتلاصقا » فقال قنبر : يا أمير المؤمنين ، أو يبلغهما صوتي؟

قال عليّ علیه السلام : « إنّ الذي يبلغ بصر عينك السماء وبينك وبينهما مسيرة خمسمائة عام سيبلّغهما صوتك » ، فذهب قنبر فنادى فسعت إحداهما إلى الأخرى سعي المتحابّين ، طالت غيبة أحدهما عن الآخر واشتدّ إليه شوقه وانضمّا ، فقال قوم من

ص: 401


1- « بحار الأنوار » 40 : 309 - 311 ، ح 83 نقلا عن « الكافي » 7 : 425 ، باب النوادر ، ح 9 ؛ « تهذيب الأحكام » 6 : 308 - 310 ، ح 59.
2- « بحار الأنوار » 41 : 275.

منافقي العسكر : إنّ عليّا يضاهي في سحره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابن عمّه ما ذلك رسول اللّه ولا هذا إمام وإنّما هما ساحران ، لكنّا سندور من خلفه لننظر إلى عورته وما يخرج منه ، فأوصل اللّه عزّ وجلّ ذلك إلى أذن عليّ علیه السلام من قبلهم ، فقال جهرا : « يا قنبر ، إنّ المنافقين أرادوا مكايدة وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وظنّوا أنّه لا يمتنع منه إلاّ بالشجرتين ، فارجع إليهما يعني الشجرتين فقل لهما : إنّ وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأمركما أن تعودا إلى مكانكما » ففعل ما أمره به ، فانقلعتا وعدت كلّ واحدة تفارق الأخرى كهزيمة الجبان من الشجاع البطل.

ثمّ ذهب عليّ علیه السلام ورفع ثوبه ليقعد وقد مضى من المنافقين جماعة لينظروا إليه ، فلمّا رفع ثوبه أعمى اللّه أبصارهم فلم يبصروا شيئا ، فولّوا عنه وجوههم فأبصروا كما كانوا يبصرون ، فنظروا إلى جهته فعموا فما زالوا ينظرون إلى جهته فيعمون ويصرفون عنه وجوههم فيبصرون ، إلى أن فرغ عليّ علیه السلام وقام ورجع ، وذلك ثمانون مرّة من كلّ واحد ، ثمّ ذهبوا ينظرون ما خرج عنه فاعتقلوا في مواضعهم فلم يقدروا أن يروها فإذا انصرفوا أمكنهم الانصراف أصابهم ذلك مائة مرّة ، حتّى نودي فيهم بالرحيل فرحلوا وما وصلوا إلى ما أرادوا من ذلك ، ولم يزدهم ذلك إلاّ عتوّا وطغيانا وتماديا في كفرهم وعنادهم ، فقال بعضهم لبعض : انظروا إلى هذا العجب من هذه آياته ومعجزاته ، يعجز عن معاوية وعمر ويزيد فنظروا فأوصل اللّه ذلك من قبلهم إلى أذنه.

فقال عليّ علیه السلام : « يا ملائكة ائتوني بمعاوية وعمر ويزيد » ، فنظروا في الهواء فإذا ملائكة كأنّهم السودان قد علق كلّ واحد منهم بواحد فأنزلوهم إلى حضرته ، فإذا أحدهم معاوية والآخر عمر والآخر يزيد فقال عليّ علیه السلام : « تعالوا فانظروا إليهم أما لو شئت لقتلتهم ولكنّي أنظرهم كما أنظر اللّه عزّ وجلّ إبليس إلى الوقت المعلوم ، إنّ الذي ترونه بصاحبكم ليس بمعجز ولا ذلّ ، ولكنّه محنة من اللّه عزّ وجلّ ينظر كيف تعملون ، ولئن طعنتم على عليّ فلقد طعن الكافرون والمنافقون قبلكم على رسول ربّ العالمين ».

ص: 402

فقال : « إنّ من طاف ملكوت السماوات والجنان في ليلة ورجع كيف يحتاج إلى أن يهرب ويدخل النار ويأتي إلى المدينة من مكّة في أحد عشر يوما ، وإنّما هو من اللّه إذا شاء أراكم القدرة لتعرفوا صدق أنبياء اللّه وإذا شاء امتحنكم بما تكرهون ؛ لينظر كيف تعملون وليظهر حجّته عليكم » (1).

[33] ومنها : ما روي عن جابر الأنصاريّ قال : جاء العبّاس إلى عليّ علیه السلام يطالبه بميراث النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال له : « ما كان لرسول اللّه شيء يورث إلاّ بغلته دلدل وسيفه ذو الفقار ودرعه وعمامته السحاب وأنا أربأ بك أن تطالب بما ليس لك » فقال : لا بدّ من ذلك ، وأنا أحقّ وأنا عمّه ووارثه دون الناس كلّهم ، فنهض أمير المؤمنين علیه السلام ومعه الناس حتّى دخل المسجد.

ثمّ أمر إحضار الدرع والعمامة والسيف والبغلة فأحضر فقال للعبّاس : « يا عمّ ، إن أطقت النهوض بشيء منها فجميعه لك ، فإنّ ميراث الأنبياء لأوصيائهم دون العالم ولأولادهم ، فإن لم تطق النهوض فلا حقّ لك فيه » قال : نعم ، فألبسه أمير المؤمنين علیه السلام الدرع بيده وألقى عليه العمامة والسيف ، ثمّ قال : « انهض بالسيف والعمامة يا عمّ » فلم يطق النهوض فأخذ السيف منه وقال له : « انهض بالعمامة فإنّه آية من نبيّنا صلی اللّه علیه و آله » فأراد النهوض فلم يقدر على ذلك وبقي متحيّرا.

ثمّ قال له : « يا عمّ ، وهذه البغلة بالباب لي خاصّة ولولديّ فإن أطقت ركوبها فاركبها » ، فخرج ومعه عدوي فقال له : يا عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، خدعك عليّ فيما كنت فيه ، فلا تخدع نفسك في البغلة إذا وضعت رجلك في الركاب فاذكر اللّه وسمّ واقرأ ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (2).

قال : فلمّا نظرت البغلة إليه مقبلا مع العبّاس نفرت وصاحت صياحا ما سمعناه

ص: 403


1- « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : 165 - 168.
2- فاطر (35) : 41.

منها قطّ ، فوقع العبّاس مغشيّا عليه واجتمع الناس وأمر بإمساكها فلم يقدر عليها ، ثمّ دعا علي علیه السلام البغلة باسم ما سمعناه فجاءت خاضعة ذليلة فوضع رجله في الركاب ووثب عليها فاستوى عليها راكبا ، فاستدعى أن يركب الحسن والحسين علیهماالسلام فأمرهما بذلك ، ثمّ لبس عليّ الدرع والعمامة والسيف وركبها وسار عليها إلى منزله وهو يقول : « هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أنا وهما أم تكفر أنت يا فلان؟ » (1).

[34] ومنها : ما روي عن سلمان الفارسيّ قال : كنّا مع مولانا أمير المؤمنين علیه السلام فقلت : يا أمير المؤمنين ، أحبّ أن أرى من معجزاتك شيئا ، قال علیه السلام : « أفعل إن شاء اللّه تعالى عزّ وجلّ » ثمّ قام ودخل منزله ثمّ خرج إليّ وتحته فرس أدهم وعليه قباء أبيض وقلنسوة بيضاء ، ثمّ نادى : « يا قنبر ، أخرج إليّ ذلك الفرس » ، فأخرج فرسا آخر أدهم فقال علیه السلام : « اركب يا عبد اللّه » قال سلمان : فركبته فإذا له جناحان ملتصقان إلى جنبه قال : فصاح به الإمام علیه السلام فتعلّق في الهواء فكنت أسمع حفيف أجنحة الملائكة وتسبيحها تحت العرش ، ثمّ خطونا على ساحل بحر عجاج مغطمط الأمواج ، فنظر إليه الإمام شزرا فسكن البحر من غليانه ، فقلت له : يا مولاي ، أسكن البحر من غليانه من نظرك إليه؟ فقال : صلوات اللّه عليه وآله : « يا سلمان ، خشي أن آمر فيه بأمر ».

ثمّ قبض أمير المؤمنين على يدي وسار على وجه الماء والفرسان تتبعاننا لا يقودهما أحد فو اللّه ما أبلّت أقدامنا ولا حوافر الخيل.

قال سلمان : فعبرنا ذلك البحر ورفعنا إلى جزيرة كثيرة الأشجار والأثمار والأطيار والأنهار ، وإذا شجرة عظيمة بلا صدع ولا زهر فهزّها علیه السلام بقضيب كان في يده فانشقّت وخرجت منها ناقة طولها ثمانون ذراعا وعرضها أربعون ذراعا وخلفها قلوص ، فقال علیه السلام : « ادن منها واشرب من لبنها » ، قال سلمان : فدنوت منها وشربت حتّى رويت ، وكان لبنها أعذب من الشهد ، وألين من الزبد وقد اكتفيت قال علیه السلام : « هذا

ص: 404


1- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 363.

حسن يا سلمان؟ » فقلت : مولاي حسن ، فقال علیه السلام : « تريد أن أريك ما هو أحسن منه؟ » فقلت : نعم يا أمير المؤمنين.

قال سلمان : فنادى مولاي أمير المؤمنين علیه السلام : « اخرجي يا حسناء » قال : فخرجت ناقة طولها عشرون ومائة ذراع وعرضها ستّون ذراعا ورأسها من الياقوت الأحمر وصدرها من العنبر الأشهب وقوائمها من الزبرجد الأخضر وزمامها من الياقوت الأصفر وبجنبها الأيمن من الذهب وجنبها الأيسر من الفضّة وعرضها من اللؤلؤ الرطب ، فقال علیه السلام : « هذا لك ولسائر الشيعة من أوليائي ».

ثمّ قال علیه السلام : « ارجعي إلى الصخرة » ورجعت من الوقت وسار بي في تلك الجزيرة حتّى ورد بي إلى شجرة عظيمة عليها طعام يفوح منه رائحة المسك ، فإذا هي بطائر في صورة النسر العظيم ، قال سلمان : فوثب ذلك الطائر فسلّم عليه علیه السلام ورجع إلى موضعه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما هذه المائدة؟ فقال صلوات اللّه عليه : « هذه منسوبة في هذا المكان للشيعة من الموالي إلى يوم القيامة » ، فقلت : ما هذا الطائر؟

قال صلوات اللّه عليه : « ملك موكّل بها إلى يوم القيامة » ، فقلت : وحده يا سيّدي؟

فقال صلوات اللّه عليه : « يجتاز به الخضر صلوات اللّه عليه في كلّ يوم مرّة ».

ثمّ قبض صلوات اللّه عليه على يدي وسار إلى بحر ثان فعبرنا ، وإذا جزيرة عظيمة فيها قصر لبنة من ذهب ولبنة من فضّة بيضاء وشرفها من عقيق أصفر ، وعلى كلّ ركن من القصر سبعون صفّا من الملائكة فأتوا وسلّموا ، ثمّ أذن لهم فرجعوا إلى مواضعهم قال سلمان رحمه اللّه ثمّ دخل أمير المؤمنين علیه السلام القصر فإذا أشجار وأنهار وأثمار وأطيار وألوان النبات فجعل الإمام علیه السلام يمشي فيه حتّى وصل إلى آخره ، فوقف علیه السلام على بركة كانت في البستان ، ثمّ صعد إلى قصر فإذا كرسيّ من الذهب الأحمر فجلس عليه علیه السلام وأشرفنا على القصر فإذا بحر أسود ويغطمط أمواجه كالجبال الراسيات ، فنظر صلوات اللّه شزرا فسكن من غليانه حتّى كانت كالمذنب ، فقلت : يا سيّدي ، سكن البحر من غليانه من نظرك إليه فقال صلوات اللّه عليه : « خشي أن

ص: 405

آمر فيه بأمر ، تدري يا سلمان أيّ بحر هذا؟ » فقلت : لا يا سيّدي.

فقال صلوات اللّه عليه : « هذا الذي غرق فيه فرعون وملؤه المذنبة ، حملها جناح جبرائيل ، ثمّ زجّها في هذا البحر فهو يهوي لا يبلغ قراره إلى يوم القيامة » ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، هل سرنا فرسخين؟ فقال صلوات اللّه عليه : « يا سلمان ، لقد سرت خمسين ألف فرسخ ودرت حول الدنيا عشر مرّات » ، فقلت : يا سيّدي ، وكيف هذا؟

قال : « إذا كان ذو القرنين طاف شرقها وغربها وبلغ إلى سدّ يأجوج ومأجوج فأنّى يتعذّر عليّ وأنا أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين؟ » يا سلمان ، أما قرأت قول اللّه عزّ وجلّ حيث يقول : ( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) (1) فقلت : بلى يا أمير المؤمنين ، فقال علیه السلام : « أنا ذلك المرتضى من الرسول الذي أظهره اللّه عزّ وجلّ على غيبه ، أنا العالم الربّاني ، أنا الذي هوّن اللّه عليّ الشدائد فطوي له البعيد » ، قال سلمان رضی اللّه عنه : فسمعت صائحا يصيح في السماء ، أسمع الصوت ولا أرى الشخص وهو يقول : صدقت صدقت أنت الصادق المصدّق صلوات اللّه عليك.

قال : ثمّ نهض صلوات اللّه عليه فركب الفرس فركبت معه ، وصاح بهما فطارا في الهواء ، ثمّ خطونا على باب الكوفة هذا كلّه وقد مضى من الليل ثلاث ساعات فقال علیه السلام لي : « يا سلمان ، الويل كلّ الويل لمن لا يعرفنا حقّ معرفتنا وأنكر معرفتنا وولايتنا ، أيّما أفضل محمّد صلی اللّه علیه و آله أم سليمان علیه السلام ؟ » قلت : بل محمّد صلی اللّه علیه و آله ثمّ قال علیه السلام : « فهذا آصف بن برخيا قدر أن يحمل عرش بلقيس من فارس بطرفة عين وعنده علم من الكتاب ولا أفعل أنا ذلك وعندي مائة كتاب وأربعة وعشرون كتابا؟ » الحديث (2).

ص: 406


1- الجنّ (72) : 26 - 27.
2- « بحار الأنوار » 42 : 50 - 53 و 54 : 339 - 341.

[35] ومنها : عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت يوما مع مولانا أمير المؤمنين علیه السلام إذ دخل عليه نفر من أصحابه ، منهم أبو موسى الأشعري وعبد اللّه بن مسعود وأنس بن مالك وأبو هريرة والمغيرة بن شعبة وحذيفة بن اليمان وغيرهم فقالوا : يا أمير المؤمنين علیه السلام ، أرنا شيئا من معجزاتك التي خصّك اللّه بها إلى قوله علیه السلام : « قوموا إلى اسم اللّه وبركاته » ، قال : فقمنا معهم حتّى أتى بالجبّانة ولم يكن في ذلك الموضع ماء ، قال : فنظرنا فإذا روضة خضراء ذات ماء ، وإذا في الروضة غدران ، وفي الغدران حيتان ، فقلنا : واللّه إنّها لدلالة الإمامة فأرنا غيرها يا أمير المؤمنين علیه السلام ، وإلاّ فقد أدركنا بعض ما أردنا فقال صلوات اللّه عليه : « حسبي اللّه ونعم الوكيل » ، ثمّ أشار بيده العليا نحو الجبّانة فإذا قصور كثيرة مكلّلة بالدرّ والياقوت والجواهر وأبوابها من الزبرجد الأخضر فإذا في القصور حور وغلمان وأنهار وأشجار وطيور ونبات كثير ، فبقينا متحيّرين متعجّبين وإذا وصائف وجوار وولدان وغلمان كاللؤلؤ المكنون.

فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لقد اشتدّ شوقنا إليك وإلى شيعتك وأوليائك فأومأ إليهم بالسكوت ، ثمّ ركض الأرض برجله صلوات اللّه عليه فانفلقت الأرض عن منبر من ياقوت أحمر فارتقى إليه فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على نبيّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ قال علیه السلام : « غمّضوا أعينكم » ، فغمّضنا أعيننا فسمعنا حفيف أجنحة الملائكة بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم والتقديس ، ثمّ قاموا بين يديه قالوا : مرنا بأمرك يا أمير المؤمنين علیه السلام ، وخليفة ربّ العالمين صلوات اللّه عليك ، فقال صلوات اللّه عليه : « يا ملائكة ربّي ، آتوني الساعة بإبليس الأبالسة وفرعون الفراعنة ».

قال : فو اللّه ما كان بأسرع من طرفة عين حتّى أحضروه عنده ، فقال صلوات اللّه عليه : « ارفعوا أعينكم » ، قال : فرفعنا أعيننا ونحن لا نستطيع أن ننظر إليه من شعاع نور الملائكة ، فقلنا : يا أمير المؤمنين ، اللّه اللّه في أبصارنا فما ننظر شيئا البتّة ، وسمعنا صلصلة السلاسل واصطكاك الأغلال ، وهبّت ريح عظيمة ، فقالت الملائكة : يا خليفة اللّه ، زد الملعون لعنة وضاعف عليه العذاب ، فقلنا : يا أمير المؤمنين ، اللّه اللّه

ص: 407

في أبصارنا ومسامعنا ، فو اللّه ما يقدر على احتمال هذا السرّ والقدرة ، فلمّا جرّه بين يديه قام وقال : وا ويلاه من ظلم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله وا ويلاه من اجترائي عليهم ، ثمّ قال : يا سيّدي ارحمني فإنّي لا أحتمل هذا العذاب ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « لا رحمك اللّه ولا غفر لك أيّها الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان ».

ثمّ التفت إلينا وقال صلوات اللّه عليه : « أنتم تعرفون هذا باسمه وحسبه؟ » قلنا : لا يا أمير المؤمنين ، فقال صلوات اللّه عليه : « سلوه حتّى يخبركم من هو؟ » فقالوا : من أنت؟ فقال : أنا إبليس الأبالسة وفرعون هذه الأمّة ، أنا الذي جحدت سيّدي ومولاي أمير المؤمنين علیه السلام وخليفة ربّ العالمين وأنكرت آياته ومعجزاته.

ثمّ قال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا قوم غمّضوا أعينكم » ، فغمّضنا أعيننا فتكلّم صلوات اللّه عليه بكلام أخفى فإذا نحن في الموضع الذي كنّا فيه لا قصور ولا ماء ولا غدران ولا أشجار.

قال الأصبغ بن نباتة رضی اللّه عنه : والذي أكرمني بما رأيت من تلك الدلائل والمعجزات ما تفرّق القوم حتّى ارتابوا وشكّوا ، وقال بعضهم : سحر وكهانة وإفك ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ بني إسرائيل لم يعاقبوا ولم يمسخوا إلاّ بعد ما سألوا الآيات والدلالات فقد حلّت عقوبة اللّه بهم والآن حلّت لعنة اللّه فيكم وعقوبته عليكم » ، قال الأصبغ بن نباتة رضی اللّه عنه : إنّي أيقنت أنّ العقوبة حلّت بتكذيبهم الدلالات والمعجزات (1).

[36] ومنها : ما روي عن عمّار بن ياسر قال : كنت عند أمير المؤمنين علیه السلام جالسا بمسجد الكوفة ولم يكن سواي أحدا فيه وإذ هو يقول : « صدّقيه صدّقيه » ، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر أحدا ، فبقيت متعجّبا ، فقال لي : « يا عمّار ، كأنّي بك تقول : لم يتكلّم عليّ » ، فقلت : هو كذلك يا أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال : « ارفع رأسك » ، فرفعت رأسي وإذا أنا بحمامتين ، يتجاوبان ، فقال لي : « يا عمّار ، أتدري ما تقول إحداهما للأخرى؟ »

ص: 408


1- « بحار الأنوار » 42 : 53 - 55.

فقلت : لا وعيشك يا أمير المؤمنين ، قال : « تقول الأنثى للذكر أنت استبدلت بي غيرك وهجرتني وأخذت سواي وهو يحلف لها ، ويقول : ما فعلت ذلك ، وهي تقول : ما أصدّقك ، فقال لها : وحقّ هذا القاعد في هذا الجامع ما استبدلت بك سواك ولا أخذت غيرك ، فهمّت أن تكذّبه ، فقلت لها : صدّقيه صدّقيه » ، قال عمّار : يا أمير المؤمنين ، ما علمت أحدا يعلم منطق الطير إلاّ سليمان بن داود علیه السلام ، فقال له : « يا عمّار ، واللّه إنّ سليمان بن داود علیه السلام سأل اللّه تعالى بنا أهل البيت حتّى علّم منطق الطير » (1).

[37] ومنها : ما روي أنّه كان ملك الموصل شخص يقال له : أحمد بن حمدون بن الحارث العدوي كان شديد العناد وكثير البغض لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام ، فأراد بعض أهل الموصل الحجّ ، فجاء إليه يودّعه ، فقال : إنّي قد عزمت على الخروج إلى الحجّ فإن كان لك حاجة تعرّفني حتّى أقضيها لك؟ فقال : إنّ لي حاجة مهمّة وهي سهلة عليك ، فقال له : مرني بها حتّى أفعلها ، فقال : إذا قضيت الحجّ ووردت المدينة وزرت النبيّ صلی اللّه علیه و آله فخاطبه عنّي وقل : يا رسول اللّه ، ما أعجبك من عليّ بن أبي طالب علیه السلام حتّى تزوّجه بابنتك عظم بطنه أو دقّة ساقه أو صلعة رأسه وحلّفه وعزم عليه أن يبلّغه هذا الكلام ، فلمّا ورد المدينة وقضى حوائجه أنسي تلك الوصيّة فرأى أمير المؤمنين علیه السلام في منامه ، فقال له : « ألا تبلغ وصيّة فلان إليك » ، فانتبه ومشى لوقته إلى القبر المقدّس وخاطب النبيّ صلی اللّه علیه و آله بما أمره ذلك الرجل به.

ثمّ نام فرأى أمير المؤمنين علیه السلام فأخذه ومشى هو وإيّاه إلى منزل ذلك الرجل وفتح الأبواب وأخذ مدية فذبحه علیه السلام ثمّ مسح المدية بملحفة كانت عليه ثمّ جاء إلى سقف باب الدار فرفعه بيده ووضع المدية تحته وخرج ، فانتبه الحاجّ منزعجا من ذلك وكتب صورة المنام هو وأصحابه وانتبه سلطان الموصل في تلك الليلة وأخذ الجيران والمشتبهين ورماهم ، وتعجّب أهل الموصل من قتله حيث لا يجدوا نقبا

ص: 409


1- المصدر السابق 42 : 56.

ولا تسلّقا على حائط ولا بابا مفتوحا ولا قفلا ، وبقي السلطان متحيّرا في أمره ما يدري ما يصنع في قضيّته ، فإنّ ورود أحد من الخارج متعذّر مع هذه العلامات ولم يسرق من الدار شيء البتّة ولم تزل الجيران وغيرهم في السجن إلى أن ورد الحاجّ من مكّة فلقي الجيران بالسجن فسأل عن ذلك ، فقيل : إنّ في الليلة الفلانية وجدوا فلانا مذبوحا في داره ولم يعرف قاتله ، ففكّر وقال لأصحابه : أخرجوا صورة المنام فإذا هي ليلة القتل ، ثمّ مشى هو والناس بأجمعهم إلى دار المقتول فأمر بإخراج الملحفة وأخبرهم بالدم فيها فوجدوها كما قال ، ثمّ أمر برفع المردّم (1) فرفع فوجد السكّين تحته فعرفوا صدق منامه وأفرج عن المحبوسين ورجع أهله إلى الإيمان وكان ذلك من ألطاف اللّه تعالى في حقّ ذرّيّته (2).

[38] ومنها : ما روي أنّه كان في الحلّة شخص من أهل الدين والصلاح ، ملازم لتلاوة الكتاب العزيز ، فرجمه الجنّ فكانت تأتي الحجارة من الخزائن والروازن المسدودة وألحّوا عليه بالرجم وأضجروه وشاهدت أنا المواضع التي كان يأتي الرجم بها ، ولم يقصّر في طلب العزائم والتعاويذ ووضعها في منزله وقراءتها فيه ولم ينقطع عنه الرجم مدّة ، فخطر بباله أنّه دخل ووقف على باب البيت الذي كان يأتي الرجم منه فخاطبهم وهو لا يراهم وقال : واللّه لئن لم تنتهوا عنّي لأشكونّكم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فانقطع عنه الرجم في الحال ولم يعد إليه (3).

[39] ومنها : قيل : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام صعد على المنبر يوما في البصرة بعد الظفر بأهلها وقال : « أقول قولا لا يقوله أحد غيري إلاّ كان كافرا : أنا أخو نبيّ الرحمة وابن عمّه وزوج ابنته وأبو سبطيه » ، فقام إليه رجل من أهل البصرة وقال : أنا أقول مثل قولك هذا ، أنا أخو الرسول وابن عمّه ثمّ لم يتمّ كلامه حتّى إذا أخذته الرجفة

ص: 410


1- ثوب مردّم - بتشديد الدال - : خلق مرقّع.
2- « كشف اليقين » : 480 - 482.
3- المصدر السابق : 484 - 485.

فما زال يرجف حتّى سقط ميّتا لعنه اللّه (1).

[40] ومنها : ما روي عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « بينما عليّ علیه السلام بالكوفة إذ أحاطت به اليهود ، فقال : أنت الذي تزعم أنّ الجرّي منّا معشر اليهود ثمّ مسخ فقال لهم : نعم ثمّ ضرب يده إلى الأرض ، فتناول منها عودا فشقّه باثنين وتكلّم عليه بكلام وتفل عليه ، ثمّ رمى به في الفرات فإذا الجرّي يتراكب بعضه على بعض يقولون بصوت عال : يا أمير المؤمنين علیه السلام ، نحن طائفة من بني إسرائيل عرضت علينا ولايتكم فأبينا أن نقبلها فمسخنا اللّه جرّيا » (2).

[41] ومنها : ما روي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لمّا بلغه ما فعل بسر بن أرطاة باليمن قال : « اللّهمّ إنّ بسرا قد باع دينه بالدنيا فاسلبه عقله ولا تبق من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك » ، يدعو بالسيف فاتّخذ له سيفا من خشب وكان يضرب به حتّى يغشى عليه فإذا أفاق قال : السيف السيف ، فيدفع إليه فيضرب به ، فلم يزل كذلك حتّى مات (3).

إلى غير ذلك من المعجزات المرويّة في البحار وغيره.

حكاية عجيبة : وهي ما روى عبد اللّه المبارك ، كان يحجّ سنة ويغزو سنة وداوم ذلك خمسين سنة فخرج في بعض سنيّ الحجّ وأخذ معه خمسمائة دينار إلى موقف الجمال بالكوفة ليشتري جمالا للحجّ ، فرأى امرأة علويّة على مزابل تنتف ريش بطّة ميّتة قال : فقدمت إليها فقلت : فلم تفعلين هذا؟ فقالت : يا عبد اللّه ، لا تسأل عمّا لا يعنيك ، قال : فوقع في خاطري من كلامها فألححت عليها ، فقالت : يا عبد اللّه ، قد ألجأتني إلى كشف سرّي إليك ، أنا امرأة علويّة ولي أربع بنات يتامى مات أبوهنّ من قريب وهذا اليوم الرابع ما أكلنا وقد حلّت لنا الميتة ، فأخذت هذه البطّة أصلحها

ص: 411


1- « الفضائل » لابن شاذان : 97.
2- « الخرائج والجرائح » 2 : 823 ، ح 37.
3- « بحار الأنوار » 41 : 204.

وأحملها إلى بناتي يأكلنها.

قال : فقلت في نفسي : ويحك يا ابن المبارك ، أين أنت عن هذه؟ فقلت : افتحي حجرك ، ففتحت فصببت الدنانير في طرف إزارها وهي مطرقة لا تلتفت ، قال : ومضيت إلى المنزل ونزع اللّه من قلبي شهوة الحجّ في ذلك العام ، ثمّ تجهّزت إلى بلادي فأقمت حتّى حجّ الناس وعادوا ، فخرجت أتلقّى جيراني وأصحابي فجعل كلّ من أقول له : قبل اللّه حجّك وشكر سعيك ، يقول لي : وأنت قبل اللّه حجّك وشكر سعيك ، إنّا قد اجتمعنا في مكّة بك في مكان كذا وكذا ، وأكثر الناس عليّ في القول ، فنمت متفكّرا فرأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المنام وهو يقول لي : يا عبد اللّه ، لا تعجب فإنّك أغثت ملهوفة من ولدي ، فسألت اللّه أن يخلق على صورتك ملكا يحجّ عنك كلّ عامّ إلى يوم القيامة فإن شئت أن تحجّ وإن شئت لا تحجّ (1).

وثالثا : بيان ما ذكره بعض المخالفين كابن حجر في صواعقه (2) - فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء - حيث قال في فضائله : إنّها كثيرة عظيمة شهيرة حتّى قال أحمد : ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعليّ ومرّ في فضائل أبي بكر جمل من فضائل عليّ علیه السلام ثمّ ذكر أربعين حديثا في فضائله.

[1] منها : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلّفه في غزوة تبوك فقال : « يا رسول اللّه ، تخلّفني في النساء والصبيان؟ » فقال : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى علیه السلام غير أنّه لا نبيّ بعدي » (3).

[2] ومنها : أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدا رجلا يفتح اللّه

ص: 412


1- « تذكرة الخواص » : 328.
2- من هنا إلى ص 420 منتخب ممّا ذكره في « الصواعق المحرقة » : 120 - 131 ، وللمزيد نذكر في كلّ مورد مصادر أخرى.
3- « الاحتجاج » 2 : 489 : « الأمالي » للطوسي : 307 ، المجلس 11 ؛ « صحيح البخاري » 4 : 1602 ، الرقم 4154 ؛ « بحار الأنوار » 23 : 297.

على يديه يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله » ، فبات كلّ من الناس متفكّرا راجيا أن يعطيها ، فقال : « أين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ؟ » فقيل : يشتكي عينيه ، قال : « فأرسلوا إليه » ، فأتي إليه فبصق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عينيه ودعا له فبرئ حتّى كأنّه لم يكن به وجع وأعطاه الراية (1).

وعن عائشة : كانت فاطمة أحبّ النساء إلى رسول اللّه ، وزوجها أحبّ الرجال إليه (2).

[3] ومنها : أنّه لمّا نزل آية ( نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ) (3) دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : « اللّهمّ هؤلاء أهلي » (4).

[4] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال يوم غدير خمّ : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » (5) الحديث. وقد رواه ثلاثون صحابيّا وكثير من طرقه صحيح أو حسن.

[5] ومنها : رواية أحمد وغيره أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « عليّ منّي وأنا من عليّ ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ » (6).

[6] ومنها : رواية ابن عمر أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أنت أخي في الدنيا والآخرة » (7).

[7] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » ، وفي رواية « من أراد العلم

ص: 413


1- « إعلام الورى » 1 : 207 ؛ « علل الشرائع » 1 : 194 باب 130 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 110 ؛ « صحيح البخاري » 3 : 1077 ، الرقم 2783 من كتاب الجهاد.
2- « بحار الأنوار » 43 : 38.
3- آل عمران (3) : 61.
4- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 419 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 110.
5- « تفسير العياشي » 2 : 342 ، الرقم 180 ؛ « تفسير البرهان » 2 : 454 ، الرقم 14 ؛ « عيون أخبار الرضا » 1 : 55 ، الباب 6 ؛ « مصابيح السنّة » 4 : 172 ، الرقم 4767 ؛ « كنز العمّال » 11 : 609 ، الرقم 32496 و 32950.
6- « الإرشاد » 1 : 66 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 145 ؛ « طرائف الحكم » 1 : 65.
7- « الأمالي » للمفيد : 174 ، المجلس 22 ، ح 4 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 211 - 212 ؛ « بحار الأنوار » 28 : 332.

فليأت الباب » (1) ، وفي أخرى « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » (2) ، وفي أخرى « عليّ باب علمي » (3) ، وقد اضطرب الناس في صحّة الحديث أو حسنه أو كونه موضوعا.

[8] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « الناس من شجر شتّى وأنا وعليّ من شجرة واحدة » (4).

[9] ومنها : الحسن أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « النظر إلى عليّ عبادة » (5).

[10] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من آذى عليّا فقد آذاني » (6).

[11] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه » (7).

[12] ومنها : الصحيح أنّه قال صلی اللّه علیه و آله : « من سبّ عليّا فقد سبّني » (8).

[13] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ فيك مثلا من عيسى أبغضته اليهود حتّى بهتوا أمّه وأحبّته النصارى حتّى نزّلوه بالمنزل الذي ليس به » (9). وأنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّه يهلك

ص: 414


1- « الأمالي » للطوسي : 559 ، ح 1172 / 8 ؛ « إعلام الورى » 1 : 317 - 318 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 42 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 115 - 116 ، الرقم 120 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 113.
2- « المناقب » لابن المغازلي : 120 ، الرقم 129 ؛ « مصابيح السنّة » للبغوي 4 : 174 ، الرقم 4772 ؛ « كنز العمّال » 11 : 600 ، الرقم 32899.
3- « بحار الأنوار » 27 : 113 ، ح 87 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 93.
4- « تفسير فرات الكوفي » 1 : 161 ، الرقم 203 ؛ « إعلام الورى » 1 : 316 ؛ « بحار الأنوار » 21 : 279 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 295.
5- « الأمالي » للطوسي : 454 - 455 ، المجلس 16 ، ح 1016 ؛ « الفردوس بمأثور الخطاب » 4 : 294 ، الرقم 6865 ؛ « كنز العمّال » 11 : 32895.
6- « الأمالي » للطوسي : 134 ، المجلس 5 ؛ « طرائف الحكم » 1 : 75 - 76 ، الرقم 96 - 97 ؛ « كنز العمّال » 11 : 601 ، الرقم 32901.
7- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 238 ؛ « الاحتجاج » 2 : 27 ؛ « كنز العمّال » 11 : 601 ، الرقم 32902.
8- « الأمالي » للطوسي : 86 ، المجلس 3 ؛ « الاحتجاج » 2 : 55 ؛ « كنز العمّال » 11 : 602 ، الرقم 32903 ؛ « الفردوس بمأثور الخطاب » 3 : 542 ، الرقم 8689.
9- « العمدة » لابن بطريق : 265 ، ح 239 ؛ « شواهد التنزيل » 2 : 227 ، ح 860 ؛ « الغارات » 2 : 589 ؛ « بحار الأنوار » 14 : 219 ، ح 27.

فيّ اثنان : محبّ مفرط يفرطني بما ليس فيّ ومبغض بجهله عليّ بهتني » (1).

[14] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض » (2).

[15] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله التزم عليّا وقبّله وهو يقول : « بأبي الوحيد الشهيد » (3).

[16] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ » (4).

[17] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّا منّي وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي » (5).

[18] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ اللّه جعل ذرّيّة كلّ نبيّ في صلبه ، وجعل ذرّيّتي في صلب عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (6).

[19] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « خير إخوتي عليّ ، وخير أعمامي حمزة ، وذكر عليّ عبادة » (7).

[20] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « السبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب آل ياسين ، والسابق إلى محمّد عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (8).

[21] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « الصدّيقون ثلاثة : حزقيل من آل فرعون ، وحبيب

ص: 415


1- « العمدة » لابن بطريق : 266 - 268 ، الرقم 342 و 345 و 347.
2- « كشف الغمّة » 1 : 148 ؛ « طرائف الحكم » : 103 ، الرقم 152.
3- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 249 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 97 - 98.
4- « الاحتجاج » 2 : 310 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 331 - 333 ؛ « كنز العمّال » 11 : 598 ، الرقم 32877.
5- « سنن الترمذي » 5 : 632 ، ح 3712 ؛ « كنز العمّال » 11 : 599 ، الرقم 32883 ؛ « المستدرك على الصحيحين » 3 : 110 - 111 ؛ « الخصائص » للنسائي : 30 ؛ « الكامل في ضعفاء الرجال » 2 : 145 - 146 ، الرقم 18 / 343.
6- « كشف الغمّة » 1 : 94 ؛ « كنز العمّال » 11 : 600 ، الرقم 32892.
7- « كشف الغمّة » 1 : 328 ؛ « كنز العمّال » 11 : 600 - 601 ، الرقم 32893 - 32894.
8- « كشف الغمّة » 1 : 83 ؛ « المعجم الكبير » 11 : 77 ، الرقم 11152 ؛ « البداية والنهاية » 1 : 221 ؛ « مجمع الزوائد » 9 : 124 ، الرقم 14598 ؛ « تفسير الكشّاف » 4 : 10.

النجار صاحب آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب » (1) ومثله الآخر.

[22] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (2).

[23] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إمام البررة وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله » (3).

[24] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « علي باب حطّة من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا » (4).

[25] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني » (5).

[26] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « عليّ يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين » (6).

[27] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله وجد عليّا مضطجعا في المسجد وقد سقط رداؤه عن شقّه فأصابه تراب فجعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمسحه عنه ويقول : « قم أبا تراب! قم أبا تراب! » (7) فلذلك كان هذه الكنية أحبّ الكنى إليه ؛ لأنّه صلی اللّه علیه و آله كنّاه بها ، إلى غير ذلك من الأخبار التي اعترف بها الخصم ، وتدلّ على كونه خليفة بلا فصل كما لا يخفى على المتأمّل ، فأجرى اللّه تعالى الحجّة والحقّ على لسانه إتماما للحجّة.

ثمّ ذكر ثناء الصحابة والسلف عليه من جهة أنّه قال عمر بن الخطّاب : عليّ أقضانا وأنّه كان عمر بن الخطّاب يتعوّذ باللّه من معضلة ليس لها أبو حسن يعني عليّا ، ثمّ ذكر كراماته وقضاياه وكلماته الدالّة على علوّ قدره علما وحكمة وزهدا

ص: 416


1- « طرائف الحكم » 1 : 69 ؛ « المأثور بفردوس الخطاب » 2 : 421 ، الرقم 3866 ؛ « كنز العمّال » 11 : 601 ، الرقم 32897.
2- « بشارة المصطفى » : 154 ؛ « الفضائل » لابن شاذان : 112 ؛ « كنز العمّال » 11 : 601 ، الرقم 32900.
3- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 68 - 69 ؛ « كشف الغمّة » 1 : 148 ؛ « كفاية الأثر » : 137 ؛ « كشف اليقين » : 236.
4- « الفردوس بمأثور الخطاب » 3 : 64 ، الرقم 4179 ؛ « بحار الأنوار » 40 : 76.
5- « كشف الغمّة » 1 : 296 ؛ « طرائف الحكم » 1 : 68 ؛ « كشف اليقين » : 281.
6- « الأمالي » للطوسي : 355 ، المجلس 12 ، الرقم 735 ؛ « اليقين في إمرة أمير المؤمنين » : 199.
7- بحار الأنوار 35 : 60.

ومعرفة باللّه ، فقال : ومن كراماته الباهرة أنّ الشمس ردّت عليه لمّا كان رأس النبيّ في حجره والوحي ينزل عليه وعليّ لم يصلّ العصر فما سرى عنه علیه السلام إلاّ وقد غربت الشمس فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله « اللّهمّ إنّه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس » (1) فطلعت بعد ما غربت.

[28] ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله حدّث بحديث فكذّبه رجل ، فقال له : « أدعوا عليك إن كنت كاذبا؟ » قال : ادع فدعا عليه فلم يبرح حتّى ذهب بصره (2).

[29] ومنها : أنّه جلس رجلان يتغدّيان مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة ، فمرّ بهما ثالث فأجلساه فأكلوا الأرغفة الثمانية على السواء ، ثمّ طرح لهما الثالث ثمانية دراهم ولصاحب الثلاثة ثلاثة وصاحب الثلاثة أرغفة يدّعي أنّ له أربعة ونصفا ، فاختصما إلى عليّ علیه السلام ، فقال لصاحب الثلاثة : « خذ ما رضي به صاحبك وهو الثلاثة فإنّ ذلك خير لك » ، فقال : لا رضيت إلاّ بمرّ الحقّ ، فقال : « ليس لك في مرّ الحقّ إلاّ درهم واحد » ، فسأله عن بيان وجه ذلك ، فقال : « أليست الثمانية أرغفة أربعة وعشرون ثلثا أكلتموها وأنتم ثلاثة ولا يعلم أكثركم أكلا فتحمّلوه على السواء ، فأكلت أنت ثمانية أثلاث والذي لك تسعة أثلاث ، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث والذي له خمسة عشر ثلثا ، فبقي له سبعة ولك واحد فله سبعة بسبعة ولك واحد بواحدك » فقال : رضيت الآن (3).

[30] ومنها : أنّه أتي برجل فقيل : زعم هذا أنّه احتلم بأمّي فقال : « اذهب فأقمه في الشمس واضرب ظلّه » (4).

ص: 417


1- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 353 ؛ « الإرشاد » للمفيد 1 : 345 - 347 ؛ « المناقب » لابن المغازلي : 126 - 127 ، ح 140 - 141 ؛ « وقعة صفّين » لنصر بن مزاحم : 135 - 136.
2- « بحار الأنوار » 41 : 206 ؛ « الصراط المستقيم » 2 : 14.
3- « الكافي » 7 : 427 ، باب النوادر ، ح 10 ؛ « الفقيه » 3 : 23 ، ح 13.
4- « الكافي » 7 : 263 ، باب النوادر ، ح 19 ؛ « مناقب آل أبي طالب » 2 : 397.
ومن كلامه :

« الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » (1) ، و « لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا » (2) ، و « ما هلك امرؤ عرف قدره » (3) ، و « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (4) ، و « لا ثناء مع الكبر » (5) ، و « لا شرف مع سوء الأدب » (6) ، و « لا راحة مع الحسد » (7) ، و « لا مروّة للكذوب » (8) ، و « لا كرم أعزّ من التقى » (9) ، و « لا شفيع أنجح من التوبة » (10) ، و « لا لباس أجمل من العافية » (11) ، و « لا داء أعيى من الجهل » (12) ، و « المرء عدوّ ما جهله » (13) ، و « رحم اللّه امرأ عرف قدره » (14) ، و « النصح بين الملأ تقريع » (15) ، و « الجزع أتعب من الصبر » (16) ، و « إذا حلّت المقادير ضلّت التدابير » (17) ، و « الإحسان يقطع اللسان » (18) ، و « أفقر الفقر الحمق ، وأغنى الغنى العقل » (19) ، و « الطامع في وثاق الذلّ » (20) ، و « إذا قدرت على عدوّك فاجعل

ص: 418


1- « بحار الأنوار » 4 : 43 و 6 : 277 و 50 : 134 و 66 : 306.
2- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 46 ؛ « بحار الأنوار » 64 : 321 و 66 : 209.
3- « نهج البلاغة » : 687 ، قصار الحكم ، الرقم 149.
4- « شرح غرر الحكم » للخوانساري 5 : 194 ، الرقم 7946.
5- المصدر السابق 6 : 360 ، الرقم 10520.
6- المصدر السابق 6 : 361 ، الرقم 10530.
7- المصدر السابق 6 : 346 ، الرقم 10435.
8- « تحف العقول » : 215.
9- « الأمالي » للصدوق : 263 - 264 ، المجلس 52.
10- « الأمالي » للصدوق : 263 - 264 ، المجلس 52.
11- « الأمالي » للصدوق : 263 - 264 ، المجلس 52.
12- « الصواعق المحرقة » : 129 ، وفي « غرر الحكم » : 72 ورد : « الجهل داء وعياء ».
13- « غرر الحكم » : 74.
14- « شرح غرر الحكم » للخوانساري 5 : 42 ، الرقم 5204 ؛ « الصواعق المحرقة » : 129.
15- « غرر الحكم » : 225 ، الرقم 4566 ؛ « شرح نهج البلاغة » 20 : 341.
16- « شرح غرر الحكم » للخوانساري 1 : 314 ، الرقم 1198 ؛ « الصواعق المحرقة » : 129.
17- المصدر السابق 3 : 130 ، الرقم 4037 ؛ « الصواعق المحرقة » : 129.
18- « الصواعق المحرقة » : 129.
19- « نهج البلاغة » : 660 ، الرقم 38 ؛ « شرح غرر الحكم » للخوانساري 2 : 371 ، الرقم 2849.
20- « نهج البلاغة » : 700 ، الرقم 226.

العفو عنه شكر القدرة عليه » (1) ، و « العلم يرفع الوضيع ، والجهل يضع الرفيع » (2) ، و « العلم خير من المال » (3).

ومن جملته : « لا يخافنّ أحد منكم إلاّ ذنبه ، ولا يرجونّ إلاّ ربّه » ، و « لا يستحي من لا يعلم أن يتعلّم ، ولا يستحي من يعلم إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول : اللّه أعلم ».

ومنه : « الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد » (4).

ومنه : « الفقيه كلّ الفقيه من لم يقنّط الناس من رحمة اللّه ، ولم يرخّص لهم في معاصي اللّه ولم يؤمّنهم من عذاب اللّه ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره » (5).

ومنه : « سبع من الشيطان : شدّة الغضب ، وشدّة العطاس ، وشدّة التثاؤب ، والقيء والرعاف ، والنجوى ، والنوم عند الذكر » (6).

ومنه : « التوفيق خير قائد » (7) ، و « حسن الخلق خير قرين » (8) ، و « العقل خير صاحب » (9) ، و « الأدب خير ميراث » (10) إلى غير ذلك.

ورابعا : (11) في بيان نبذ ممّا ذكر في بعض كتب الأخبار لأمير المؤمنين علیه السلام من الأسرار ينبغي الإشارة إليها ولو على وجه الاختصار وهي أمور :

ص: 419


1- المصدر السابق : 652 - 653 ، الرقم 11.
2- « بحار الأنوار » 75 : 6 ، ح 57 ؛ « الصواعق المحرقة » : 130.
3- « نهج البلاغة » : 685 ، الرقم 147.
4- المصدر السابق : 667 ، الرقم 82.
5- « معاني الأخبار » : 226 ، ح 1.
6- « الصواعق المحرقة » : 130.
7- « نهج البلاغة » : 676 ، الرقم 113 ، نحوه.
8- « تحف العقول » : 89 ؛ « عيون أخبار الرضا » 2 : 38 باب 31 ، ح 106.
9- « الصواعق المحرقة » : 131 ، وفي « غرر الحكم » : 49 قوله علیه السلام : « العقل صديق محمود ».
10- « تحف العقول » : 89 ، والكلّ منتخب ممّا أورده ابن حجر في « الصواعق المحرقة » : 120 - 131.
11- قد مرّ أوّلها في ص 361.

[1] منها : أنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين علیه السلام فاستغاثه فاستدعى قرصة من شعير يابسة وقصعة من ماء ثمّ كسر قطعة وألقاها في الماء ثمّ قال للرجل : « تناولها » فأخرجها فإذا هي فخذ طائر مشوي ثمّ رمى له أخرى وقال : « تناولها » فأخرجها فإذا هي قطعة من الحلوى (1).

[2] ومنها : قصّة فضّة الجارية التي كانت بنت ملك الهند ، وكان عندها ذخيرة من الإكسير ، فإنّها لمّا رأت أنّه لا يوجد في بيت الزهراء علیهاالسلام إلاّ السيف والدرع ، أخذت قطعة من النحاس وجعلتها على هيئة سمكة وألقت عليها الدواء وجعلتها ذهبا فلمّا جاء أمير المؤمنين علیه السلام وضعتها بين يديه فلمّا رآها قال : « أحسنت يا فضّة ، لكن لو أذبت الجسد لكان الصبغ أعلى والقيمة أغلى ».

فقالت : يا سيّدي تعرف هذا العلم؟ فقال : « نعم ، وهذا الطفل يعرفه » وأشار إلى الحسن علیه السلام فقال : « نحن نعرف أعظم من هذا » ثمّ أومأ بيده إلى كنوز الأرض (2).

[3] ومنها : ما روي عن عمّار بن ياسر قال : كنت مع سيّدي أمير المؤمنين علیه السلام يوما في بعض صحارى الحيرة وإذا راهب يضرب ناقوسه ، فقال لي : « يا عمّار ، أتدري ما يقول الناقوس؟ » فقلت : يا مولاي ، وما تقول الخشبة ، فقال : « إنّه يضرب مثلا للدنيا ويقول : أهل الدنيا! خلقت الدنيا مهلا مهلا رفقا رفقا ، إنّ المولى الصمد يبقى حقّا حقّا صدقا صدقا ، يا مولانا ، إنّ الدنيا قد استهوتنا واستغوتنا ، ما من يوم يمضي منها إلاّ وهي إفناء لنا ، لسنا ندري ما فرّطنا فيها إلاّ لو قد متنا ».

قال عمّار : فأتيت الراهب من الغد فقلت له : اضرب الناقوس ، قال : فما تفعل به وأنت مسلم؟ فقلت : لأريك سرّه ، قال : فأخذ يضرب ناقوسه وأنا أتلو عليه ما يقول ، قال : فخرّ ساجدا وأسلم وقال : إنّ عندي خطّ هارون بن عمران بيده : إنّ اللّه يبعث

ص: 420


1- « مشارق أنوار اليقين » : 80.
2- « مشارق أنوار اليقين » : 80 ؛ وعنه في « بحار الأنوار » : 41 : 273 - 274 ، ح 29.

يبعث في الأرض رسولا ، له وزير يعلم ما يقول الناقوس (1).

[4] ومنها : ما روي عن الرضا علیه السلام أنّ يهوديّا جاء إلى أبي بكر في ولايته وقال له : إنّ أباه قد مات وخلّف كنوزا ولم يذكر أين هي؟ فإن أظهرتها كان لك ثلث وللمسلمين ثلث آخر ولي الثلث ، وأدخل في دينك ، فقال أبو بكر : لا يعلم الغيب إلاّ اللّه ، فجاء إلى عمر فقال له ما قال أبو بكر ، ثمّ دلّه على عليّ فجاء فسأله فقال له : « رح إلى بلد اليمن واسأل عن وادي برهوت بحضرموت ، فإذا حضرت الوادي فاجلس هناك إلى غروب الشمس فسيأتيك غراب أسود فاهتف باسم أبيك وقل له : يا فلان ، أنا رسول وصيّ رسول اللّه إليك كلّمني ، فإنّه يكلّمك فاسأله عن الكنوز فإنّه يدلّك أماكنها ».

ففعل كما قال فدلّه أبوه ، ثمّ قال : اتّبع دين محمّد تسلم ، فانصرف الغراب ورجع اليهودي فوجد كنزا من ذهب وكنزا من فضّة فأوقر بعيرا وجاء به إلى أمير المؤمنين علیه السلام وهو يقول : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وأنّك وصيّ رسول اللّه وأخوه وأمير المؤمنين حقّا كما سمّيت ، وهذه الهديّة فاصرفها حيث شئت (2).

[5] ومنها : ما رواه ابن عبّاس أنّ جماعة من أهل الكوفة من أكابر الشيعة سألوا عن أمير المؤمنين علیه السلام أن يريهم من عجائب أسرار اللّه فقال لهم : « إنّكم لن تقدروا أن تروا واحدة وتكفروا » ، فقال : لا شكّ أنّك صاحب الأسرار ، فاختار منهم سبعين رجلا وخرج بهم إلى ظاهر الكوفة ثمّ صلّى ركعتين وتكلّم بكلمات وقال : « انظروا » ، فنظروا فإذا أشجار وأثمار حتّى تبيّن لهم أنّه الجنّة والنار ، فقال أحسنهم قولا : هذا سحر بيّن ورجعوا كفّارا إلاّ رجلين.

فقال لأحدهما : « أسمعت ما قال أصحابك؟ وما هو واللّه بسحر وما أنا بساحر ،

ص: 421


1- « مشارق أنوار اليقين » : 80 - 81 ؛ « معاني الأخبار » : 231.
2- « مشارق أنوار اليقين » : 81 - 82.

ولكن علم اللّه ورسوله فإذا رددتم عليّ فقد رددتم على اللّه » ، ثمّ رجع إلى المسجد يستغفر لهم ، فلمّا دعا تحوّلت حصيّات المسجد درّا وياقوتا ، فرجع أحد الرجلين كافرا وثبت الآخر (1).

[6] ومنها : أنّه خطب بالبصرة فقال : « سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوا من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب في الأصلاب وفصل الخطاب » ، وأنّه قال علیه السلام : « سلوني عمّا دون العرش » ، فقام إليه رجل في عنقه كتاب فقال رافعا صوته : أيّها المدّعي ما لا يعلم ، والمتقلّد ما لا يفهم إنّي أسألك فأجب ، فوثب إليه أصحاب عليّ علیه السلام ليقتلوه ، فقال علیه السلام : « دعوه ؛ فإنّ حجج اللّه لا تقوم بالبطش ولا بالباطل حتّى يظهر براهين اللّه » ، ثمّ التفت إلى الرجل وقال : « قل بكلّ لسانك فإنّي مجيب إن شاء اللّه تعالى » ، فقال الرجل : كم بين المشرق والمغرب؟ فقال : « مسافة الهواء » ، قال : وما مسافة الهواء؟ قال : « دوران الفلك » ، قال : فما دوران الفلك؟ قال : « مسيرة يوم الشمس » ، قال الرجل : صدقت ، قال : فمتى يوم القيامة؟ قال : « عند حضور المنيّة وبلوغ الأجل » ، قال صدقت. قال : فكم عمر الدنيا؟ قال : « يقال سبعة آلاف ، ثمّ لا تحديد » ، قال : صدقت. فأين مكّة من بكّة؟ فقال : « مكّة أكناف الحرم وبكّة مكان البيت » ، قال : لم سمّيت مكّة؟ قال : « لأنّ اللّه مكّ الأرض تحتها أي دحاها » ، قال : فلم سمّيت بكّة؟ قال : « لأنّها بكّت عيون الجبّارين والمذنبين » قال : صدقت. قال : وأين كان اللّه قبل خلق عرشه؟ فقال علیه السلام : « سبحان اللّه من لا يدرك كنه صفاته حملة عرشه على قرب مراتبهم ، ويحك لا يقال : لم ، ولا : كيف ، ولا : أين ، ولا : متى ، ولا : حيث » ، فقال الرجل : صدقت ، فكم مقدار ما لبث العرش على الماء قبل خلق الأرض والسماء؟ فقال علیه السلام : « لو صبّ في الأرض خردل حتّى سدّ الهواء ، وملأ ما بين الأرض والسماء ، ثمّ أذن لك على ضعفك أن تنقله حبّة حبّة من المشرق إلى

ص: 422


1- « مشارق أنوار اليقين » : 82 ؛ « مدينة المعاجز » 2 : 47.

المغرب ، ثمّ مدّ لك في العمر حتّى نقلته وأحصيته ، لكان ذلك أيسر من إحصاء ما لبث العرش على الماء قبل خلق الأرض والسماء » ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه (1).

[7] ومنها : أنّه لمّا ولد في البيت الحرام وكعبة الملك العلاّم خرّ ساجدا ، ثمّ رفع رأسه الشريف فأذّن وأقام ، وشهد لله بالوحدانيّة ولمحمّد صلی اللّه علیه و آله بالرسالة ولنفسه بالخلافة والولاية ، ثمّ أشار إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « أقرأ يا رسول اللّه؟ » فقال : « نعم » ، فابتدأ بصحف آدم فقرأها حتّى لو حضر ثبت لأقرّ أنه أعلم بها منه ، ثمّ تلا صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل ، ثمّ تلا : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) (2) ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « نعم ، قد أفلحوا إذ أنت إمامهم » ، ثمّ خاطبه بما خاطب به الأنبياء والأوصياء ثمّ سكت ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عد إلى طفوليّتك » فأمسك (3).

[8] ومنها : أن راهب اليمامة الأثرم كان بشّر أبا طالب بقدوم عليّ علیه السلام ويقول : سيولد لك ولد يكون سيّد أهل زمانه وهو الناموس الأكبر ، ويكون لنبيّ زمانه عضدا وناصرا ، وصهرا ووزيرا له ، وإنّي لا أدرك أيّامه ، فإذا رأيته فاقرأه منّي السّلام ، ويوشك أن أراه ، فلمّا ولد أمير المؤمنين علیه السلام مرّ أبو طالب إليه ليعلمه فوجده قد مات ، فرجع فقصّ عليّ علیه السلام لأبيه القصّة فقال له علیه السلام صدقت يا وليّ اللّه (4).

[9] ومنها : أنّه حين تجهيز أصحابه لقتال معاوية [ فقال ] لرجل أساء الأدب : « اخسأ » ، فصار كلبا فبهت من حوله ، وجعل الرجل يتضرّع إليه علیه السلام فنظر إليه وحرّك شفتيه فإذا هو بشر سويّ ، فقام إليه بعض أصحابه وقال : مالك وتجهيز الناس إلى قتال معاوية ولك مثل هذه القدرة؟

فقال : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة

ص: 423


1- « مشارق أنوار اليقين » : 83 - 84.
2- المؤمنون (23) : 1.
3- « مشارق أنوار اليقين » : 75.
4- المصدر السابق : 75 - 76 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

في هذه الفلوات حتّى أضرب صدر معاوية فأقلبه من سريره لفعلت ولكن ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (1) » (2).

[10] ومنها : أنّه قال في كربلاء عند التوجّه إلى صفّين : « صبرا يا أبا عبد اللّه ، بشاطئ الفرات » ، ثمّ بكى وقال : « هذا مناخ القوم ومحطّ رحالهم » (3).

[11] ومنها : قوله علیه السلام بصفّين وقد سمع الغوغاء يقولون : قتل معاوية ، فقال : « ما قتل ولا يقتل حتّى تجتمع عليه الأمّة » (4).

[12] ومنها : أنّه كان على منبر الكوفة يخطب وحوله الناس فجاء ثعبان فقال علیه السلام : « وسّعوا له » ، فأقبل حتّى رقى المنبر والناس ينظرون إليه ، ثمّ قبّل أقدام أمير المؤمنين علیه السلام وجعل يتمرّغ عليها ونفخ ثلاث نفخات ، ثمّ نزل وانساب ولم يقطع أمير المؤمنين علیه السلام خطبته ، فسألوه عن ذلك فقال : « هذا رجل من الجنّ ذكر أنّ ولده قتله رجل من الأنصار اسمه جابر بن سميع وقد استوهب دم ولده ».

فقام رجل وقال : أنا قتلت الحيّة في المكان الفلاني ، وأنا منذ قتلتها لا أقدر أن استقرّ في مكان ، فهربت إلى الجامع وأنا منذ سبع ليال هاهنا فقال علیه السلام : « خذ جملك واعقره في مكان قتلت الحيّة وامض لا بأس عليك » (5).

[13] ومنها : ما روي عن الأصبغ بن نباتة عن زيد الشحّام : أنّ أمير المؤمنين علیه السلام جاءه نفر من المنافقين قالوا : أنت الذي تقول : إنّ الجرّي مسخ حرام؟ فقال : « نعم » ، فقالوا : أرنا برهانه فجاء بهم إلى الفرات ثمّ نادى : « هنامش بن هنامش » ، فأجابه الجرّي : لبّيك فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « من أنت؟ » فقال : ممّن عرضت ولايتك عليه فأبى فمسخ ، وأنّ فيمن معك من يمسخ كما مسخنا ويصير كما صرنا.

ص: 424


1- الأنبياء (21) : 26 - 27.
2- « مشارق أنوار اليقين » : 76.
3- « مدينة المعاجز » 2 : 40.
4- « مدينة المعاجز » 2 : 40.
5- « مشارق أنوار اليقين » : 76 - 77.

فقال علیه السلام : « بيّن قصّتك ليسمع من حضر فيعلم ».

فقال : نعم كنّا أربعة وعشرين قبيلة من بني إسرائيل ، وكنّا قد تمرّدنا وعصينا ، وعرضت علينا ولايتك فأبينا ، وفارقنا البلاد واستعملنا الفساد ، فجاءنا آت أنت أعرف به منّا فصرخ فينا صرخة فجمعنا واحدا وكنّا متفرّقين في البراري ، ثمّ صاح صيحة أخرى وقال : كونوا مسوخا بقدرة اللّه فمسخنا أجناسا مختلفة ، ثمّ قال : أيّها القفار كوني أنهارا تسكنك هذه المسوخ واتّصلي ببحار الأرض حتّى لا يبقى ماء إلاّ وفيه من هذه المسوخ فصرنا كما ترى (1).

[14] ومنها : ما روى عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إنّ عليّا لمّا قدم من صفّين وقف على شاطئ الفرات وأخرج قضيبا أخضر وضرب به الفرات والناس ينظرون إليه ، فانفجرت اثنتا عشر عينا كلّ فرق كالطود العظيم ، ثمّ تكلّم بكلام ولم يفهموه ، فأقبلت الحيتان رافعة رءوسها بالتهليل والتكبير فقالت : السّلام عليك يا حجّة اللّه في أرضه ، وعين اللّه الناظرة في عباده خذلوك كما خذل هارون بن عمران قومه ، فقال لأصحابه : « سمعتم؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « هذه آية لي وحجّة عليكم » (2).

[15] ومنها : ما يستفاد ممّا حكي أنّ رجلا حضر مجلس أبي بكر فادّعى أنّه لا يخاف اللّه ولا يرجو الجنّة ولا يخشى النار ولا يركع ولا يسجد ، ويأكل الميتة والدم ويشهد بما لم ير ويحبّ الفتنة ويكره الحقّ ويصدّق اليهود والنصارى ، وأنّ عنده ما ليس عند اللّه وله ما ليس لله ، وأنا أحمد النبيّ وأنا عليّ وأنا ربّكم ، فقال له عمر : ازددت كفرا على كفرك ، فقال له أمير المؤمنين علیه السلام : « هوّن عليك يا عمر ، فإن هذا رجل من أولياء اللّه لا يرجو الجنّة ولكن يرجو اللّه ، ولا يخاف النار ولكن يخاف ربّه ، ولا يخاف اللّه من ظلم ولكن يخاف عدله ؛ لأنّه حكم عدل ، ولا يركع

ص: 425


1- المصدر السابق : 77.
2- « بحار الأنوار » 33 : 47 نقلا عن « الخرائج والجرائح » 1 : 232.

ولا يسجد في صلاة الجنازة ، ويأكل الجراد والسمك ، ويحبّ الأهل والولد ، ويشهد بالجنّة والنار ولم يرهما ، ويكره الموت وهو الحقّ ، ويصدّق اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضا ، وعنده ظلم على نفسه وليس عند اللّه ، وله ولد وليس لله.

وقوله : إنّي أحمد النبيّ معناه أن أحمده على تبليغه الرسالة من ربّه. وقوله : أنا عليّ يعني عليّ في قلبي. وقوله : أنا ربّكم أي لي كمّ أرفعها وأضعها » ، فانزعج عمر ، فقام فقبّل رأس أمير المؤمنين علیه السلام وقال : لا بقيت بعدك يا أبا الحسن (1).

[16] ومنها : أنّ رجلا من الخوارج مرّ بأمير المؤمنين علیه السلام ومعه حوتان من الجرّي قد غطّاهما بثوبه فقال له أمير المؤمنين علیه السلام : « بكم اشتريت أبويك من بني إسرائيل؟ » فقال : ما أكثر ادّعاءك للغيب ، فقال علیه السلام : « أخرجهما » ، فأخرجهما ، فقال علیه السلام : « من أنتما؟ » فقالت إحداهما : أنا أبوه ، وقالت الأخرى : أنا أمّه (2).

إلى غير ذلك من المعجزات والكرامات والكمالات الدالّة على أنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام أحقّ بالخلافة ممّن عارضه وتقمّصها كما قال علیه السلام في الخطبة الشقشقيّة : « أما واللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ؛ ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى » (3) إلى آخرها.

وقد روي أنّ موسى وهارون لمّا دخلا [ على ] فرعون أوجسا منه خيفة ، فإذا فارس يقدمهما ولباسه من ذهب وفي يده سيف من ذهب ، وكان فرعون يحبّ الذهب ، فقال لفرعون : أجب هذين الرجلين ، وإلاّ قتلتك ، فانزعج فرعون لذلك

ص: 426


1- « مشارق أنوار اليقين » : 78.
2- المصدر السابق : 79.
3- « نهج البلاغة » : 26 ، الخطبة 3 ، المعروفة بالشقشقية.

وقال : ائتنا غدا ، فلمّا خرجا دعا البوّابين وعاقبهم وقال : كيف دخل عليّ هذا الفارس بغير إذن؟ فحلفوا بعزّة فرعون أنّه ما دخل إلاّ هذان الرجلان فإنّه ذكر أنّ الفارس كان عليّا علیه السلام فإنّه كلمة اللّه العليا والآية الكبرى ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : ( وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا ) (1) كما عن ابن عباس (2).

وخامسا : الإشارة إلى بعض الحكايات الواقعة بعد وفاته علیه السلام كحكاية حكاها بعض الثقات من أهل عصرنا بواسطة مثله أو مثليه ، وهي أنّ أهل النجف عصوا والي بغداد فهيّأ الوالي عسكرا إليهم وعيّن لهم رئيسا وأميرا ، وعدا الأمير يوم الورود فرسه ووقع حين العدو على الأرض ، فقال بعض عشيرته : هذا من باطن عليّ ، فقال الأمير : أين عليّ عليّ عليّ الناقة ، فقال : أنا أمتحن ذلك بوضع ذنب الكلب على جنبي ، فوضعه عليه فمنع العسكر عن النهب والإيذاء ، فدخلوا النجف فذهب الأمير إلى إيوان الحرم فارتفع إلى السطح فوقع على الأرض فهلك ، فانهزم العسكر خائفين على وقوع مثل ذلك عليهم على وجه هلك جمع منهم من التصادم فجمعنا.

وكحكاية مرّة بن قيس المشهورة التي جعل لها علامة لموضع إصبعيه علیه السلام في صندوق قبره علیه السلام إلى غير ذلك من الحكايات والمعجزات والكرامات الكاشفة عن كونه أحقّ أهل زمانه بالخلافة بلا فصل.

فصل : في الموعظة الحسنة عملا بقوله تعالى : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ).

فصل : في الموعظة الحسنة عملا بقوله تعالى : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (3).

فنقول : لا كلام بين أهل الخلاف والوفاق من أهل التحقيق في أنّ عليّا علیه السلام على

ص: 427


1- القصص (28) : 35.
2- « مشارق أنوار اليقين » : 81.
3- النحل (16) : 125.

الحقّ وأنّ صراط عليّ حقّ فمن تمسّك به نجا ؛ فقد ورد « أنّ من أحبّ حجرا حشره اللّه يوم القيامة معه » (1) ، وأمّا غيره ممّن تقدّم عليه وفصل بينه وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقد اختلف فيه ، فأهل السنّة أنّ طريقهم أيضا حقّ والشيعة على أنّه باطل موجب للهلاك والتعذيب بالنار ، وأنّ من تمسّك بهم فهو من أهل النار ، فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون؟ فالعاقل - على تقدير الحيرة - يختار طريقا هو قطعي النجاة كما في السالك الظاهر بالنسبة إلى المسالك الظاهرة ؛ لقوله علیه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (2) ، وقد روي مثل ذلك في إرشاد بعض المعصومين لبعض الزنادقة المنكر لأصل الشريعة بل الصانع الحكيم ، فأسلم بعد التأمّل والملاحظة بأنّ هذا النحو قطعي السلامة.

المطلب الثاني في بيان إمامة سائر الأئمّة الاثني عشر

على عدد نقباء بني إسرائيل صلوات اللّه عليهم أجمعين بعد الخليفة بلا فصل عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

أعني الحسن والحسين علیهماالسلام ، وعليّ بن الحسين ، ومحمّد بن عليّ ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، وعليّ بن موسى ، ومحمّد بن عليّ ، وعليّ بن محمّد ، والحسن بن عليّ ، ومحمّد بن الحسن قائمهم الباقي الغائب الذي سيظهر بإذن اللّه ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، عجّل اللّه فرجه وجعلنا من أنصاره وأتباعه والمستشهدين بين يديه.

والدليل على ذلك أنّه يجب في الإمام العصمة والأفضليّة علما وعملا ، وورود نصّ من اللّه ورسوله وإمام معصوم أو صدور معجزة وكان جميع ذلك موجودا في

ص: 428


1- « كفاية الأثر » : 151 ؛ « عيون أخبار الرضا » 1 : 300 ، ح 58.
2- « عوالي اللآلى » 1 : 394 ، ح 40 ؛ « النهاية في غريب الحديث » 2 : 286 ؛ « بحار الأنوار » 2 : 60.

الحسن علیه السلام بعد عليّ بن أبي طالب وهكذا في الحسين علیه السلام على الترتيب المذكور.

وأمّا العصمة فبالعقل والنقل :

أمّا العقل فلأنّ خلوّ العصر عن المعصوم محال ، وإلاّ يلزم عدم حصول اللطف الواجب على اللّه دفعا للعبث في الأفعال ، من جهة عدم حصول التقريب إلى الطاعات والتبعيد عن المعاصي عن غير المعصوم على وجه الكمال بالنسبة إلى عامّة المكلّفين والعقلاء كما لا يخفى.

ويلزم أيضا التسلسل : إذ المحوج إلى الإمام جواز الخطإ على الأمّة في العلم والعمل ، فلو جاز الخطأ على الإمام وجب له إمام آخر ويتسلسل.

مضافا إلى أنّ حفظ الشريعة لا يتمّ مع جواز الخطإ ، وأنّه يفوت الغرض من نصب غير المعصوم علیه السلام لإقدامه على المعصية الموجبة للإنكار والمنافي لوجوب طاعته وللاعتقاد بمقالته من جهة احتمال الخطإ ، مع أنّ صدور المعصية منه أقبح من العوامّ ولكن مع القدرة عليها ، وإلاّ لما استحقّ على الاجتناب عن المعاصي الثواب والمدح ، ولكان كالملك بل أدون في عدم المجاهدة النفسانيّة الموجبة لأفضليّته ، ولمّا كانت العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يعلمها إلاّ عالم الأسرار يجب التنصيص أو الإتيان بالمعجزة ، وليس ذلك بعد عليّ علیه السلام إلاّ للحسن علیه السلام وبعده للحسين علیه السلام وهكذا على الترتيب المذكور بالاتّفاق ولا أقلّ من عدم ثبوته لغيرهم ، ومنع المانعين الغاصبين لا ينافيه ؛ إذ لكلّ نبيّ عدوّ فضلا عن وصيّه.

وأمّا النقل فلآية التطهير (1) ونحوها.

وهكذا الأعلميّة ونحوها من صفات الفضيلة.

وأمّا ورود النصّ على ما ذكر ؛ فلأنّه ثبت بالتواتر أو التظافر والتسامع أنّ كلّ سابق معصوم صادق مفترض الطاعة نصّ على من بعده.

ص: 429


1- الأحزاب (33) : 33.

مضافا إلى ما روي عن عبد اللّه بن عبّاس أنّه قال : قدم يهوديّ إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقال له : نعثل ، يا محمّد! إنّي أسألك عن أشياء تلجلج في صدري فإن أجبتني عنها أسلمت على يدك. قال : « سل » فسأل عنه صلی اللّه علیه و آله فأجاب إلى أن قال : فأخبرني عن وصيّك من هو فما من نبيّ إلاّ وله وصيّ ، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون؟ فقال : « نعم ، إنّ وصيّي والخليفة من بعدي عليّ بن أبي طالب علیه السلام وبعده سبطاي : الحسن والحسين علیهماالسلام يتلوه تسعة من صلب الحسين علیه السلام أئمّة أبرار ».

قال : يا محمّد ، فسمّهم لي ، قال : « فإذا مضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا مضى محمّد فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن ، وبعده الحجّة بن الحسن بن عليّ ، فهؤلاء اثنا عشر إماما على عدد نقباء بني إسرائيل ».

قال : فأين مكانهم في الجنّة؟ قال : « معي في درجتي ».

قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأشهد أنّهم الأوصياء بعدك ، ولقد وجدت هذا في الكتب المتقدّمة ، وفيما عهده إلينا موسى بن عمران أنّه إذا كان آخر الزمان يخرج نبيّ يقال له : أحمد خاتم الأنبياء لا نبيّ بعده ، يخرج من صلبه أئمّة أبرار عدد الأسباط (1).

وعنه : قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه - تبارك وتعالى - اطّلع على الأرض اطّلاعة واختارني منها ، فجعلني نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار منها عليّا علیه السلام فجعله إماما ، ثمّ أمرني أن أتّخذه أخا ووصيّا وخليفة ووزيرا ، فعليّ منّي وأنا من عليّ علیه السلام وهو زوج ابنتي وأبو سبطيّ - الحسن والحسين علیهماالسلام - ألا وإنّ اللّه - تبارك وتعالى - جعلني وإيّاهم حججا على عباده ، وجعل من صلب الحسين علیه السلام أئمّة يقومون

ص: 430


1- « كفاية الأثر » : 11 - 12.

بأمري ويحفظون وصيّتي ، التاسع منهم قائم أهل بيتي ، ومهديّ أمّتي ، وأشبه الناس في شمائله وأقواله وأفعاله ، يظهر بعد غيبة طويلة وحيرة مضلّة فيعلن أمر اللّه ، ويظهر دين اللّه ، ويؤيّد بنصر اللّه وبنصر ملائكته ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما » (1).

وعن عبد اللّه بن مسعود قال : سمعت رسول اللّه يقول : « الأئمّة بعدي اثنا عشر تسعة من صلب الحسين علیه السلام التاسع مهديّهم » (2).

وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « الأئمّة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، التاسع قائمهم ، فطوبى لمن أحبّهم والويل لمن أبغضهم » (3).

وعنه : صلّى بنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصلاة الأولى ثمّ أقبل بوجهه الكريم علينا ، فقال : « يا معاشر أصحابي! إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حطّة في بني إسرائيل ، فتمسّكوا بأهل بيتي بعدي والأئمّة الراشدين من ذرّيّتي فإنّكم لن تضلّوا أبدا » ، فقيل : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كم الأئمّة بعدك؟ قال : « اثنا عشر من أهل بيتي » ، أو قال : « من عترتي » (4).

ومثله حديث آخر عن أبي ذرّ (5).

وروي عن سلمان الفارسي أنّه قال : خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « معاشر الناس! إنّي راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب ، أوصيكم في عترتي خيرا ، وإيّاكم والبدع ؛ فإنّ كلّ بدعة ضلالة ، والضلالة وأهلها في النار. معاشر الناس! من افتقد الشمس فليتمسّك بالقمر ، ومن افتقد القمر فليتمسّك بالفرقدين ، فإذا فقدتم الفرقدين

ص: 431


1- المصدر السابق : 10 - 11.
2- المصدر السابق : 23.
3- المصدر السابق : 30 - 31.
4- المصدر السابق : 33 - 34.
5- المصدر السابق : 38 - 39.

فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة بعدي ، أقول قولي وأستغفر اللّه لي ولكم » (1).

قال : فما نزل عن منبره [ حتّى ] (2) دخل بيت عائشة فدخلت إليه وقلت : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه! سمعتك تقول : « إذا فقدتم الشمس فتمسّكوا بالقمر ، وإذا فقدتم القمر فتمسّكوا بالفرقدين ، وإذا فقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم » فما الشمس؟

وما القمر؟ وما الفرقدان؟ وما النجوم الزاهرة؟ [ قال : ] « فهم الأئمّة التسعة من صلب الحسين والتاسع مهديّهم » ، ثمّ قال علیه السلام : « هم الأوصياء والخلفاء بعدي الأئمّة الأبرار عدد أسباط يعقوب وحواري عيسى ».

فقلت فسمّهم يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « أوّلهم وسيّدهم عليّ بن أبي طالب ، وسبطاي ، وبعدهما عليّ زين العابدين ، وبعده محمّد بن عليّ باقر علم النبيّين ، ثمّ ابنه الصادق جعفر بن محمّد ، وابنه الكاظم سمي موسى بن عمران ، والذي يقتل بأرض الغربة وعليّ ابنه ، ثمّ ابنه محمّد ، والصادقان : عليّ والحسن ، والحجّة القائم المنتظر في غيبته ؛ فإنّهم عترتي ، علمهم علمي ، وحكمهم حكمي ، من آذاني فيهم فلا أناله اللّه شفاعتي » (3).

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « يا حسين! يخرج من صلبك تسعة من الأئمّة ، منهم مهديّ هذه الأمّة فإذا استشهد أبوك فالحسن بعده ، فإذا سمّ الحسن فأنت ، فإذا استشهدت فعليّ ابنك ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا مضى محمّد فجعفر ابنه ، فإذا مضى فموسى ابنه ، فإذا مضى موسى فعليّ ابنه ، فإذا مضى عليّ فمحمّد ابنه ، فإذا مضى محمّد فعليّ ابنه ، فإذا مضى عليّ فالحسن ابنه ، ثمّ الحجّة بعد الحسن يملأ اللّه به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما » (4).

ص: 432


1- المصدر السابق : 40 - 41.
2- الزيادة أثبتناها من المصدر.
3- المصدر السابق : 41 - 42.
4- المصدر السابق : 61 - 62.

وعن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمّا عرج بي إلى السماء رأيت مكتوبا على ساق العرش بالنور : لا إله إلاّ اللّه ، محمّد رسول اللّه ، أيّدته بعليّ ونصرته به ، ثمّ بعده الحسن والحسين ، ورأيت عليّا عليّا عليّا ورأيت محمّدا مرّتين ، وجعفرا وموسى والحسن والحجّة اثني عشر اسما مكتوبا بالنور ، فقلت : أسامي من هؤلاء الذين قد قرنتهم بي؟ فنوديت : يا محمّد! هم الأئمّة بعدك ، والأخيار من ذرّيّتك » (1).

وروي عن عائشة أنّها قالت : كانت لنا مشربة وكان النبي صلی اللّه علیه و آله إذا أراد لقاء جبرئيل علیه السلام لقيه فيها ، فلقيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مرّة وأمرني لا يصعد إليه أحد ، فدخل الحسين بن عليّ علیه السلام ولم يعلم حتّى غشيهما ، فقال جبرئيل : من هذا؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ابني » ، فأخذه النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأجلسه على فخذه ، فقال جبرئيل علیه السلام : أما إنّه سيقتل ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أمّتي تقتله؟ » قال : نعم وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها ، وأشار جبرئيل إلى الطفّ بالعراق وأخذ منه تربة حمراء فأراه إيّاها ، فقال : هذه من تربة مصرعه ، فبكى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال جبرئيل علیه السلام : لا تبك فسوف ينتقم اللّه منهم بقائمكم أهل البيت.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حبيبي جبرئيل! ومن قائمنا أهل البيت؟ » قال : التاسع من ولد الحسين علیه السلام كذا أخبرني ربّي عزّ وجلّ أنّه سيخلق من صلب الحسين ولدا وسمّاه عنده عليّا خاضع لله خاشع ، ثمّ يخرج من صلبه ابنه وسمّاه عنده محمّدا ، ثمّ يخرج من صلبه ابنه وسمّاه جعفرا ، ثمّ يخرج من صلبه ابنه وسمّاه عنده موسى واثق باللّه ، ويخرج من صلبه ابنه وسمّاه عنده عليّا ، ويخرج من صلبه ابنه وسمّاه عنده محمّدا ، ويخرج من صلبه ابنه وسمّاه عليّا ، ويخرج من صلبه ابنه وسمّاه عنده الحسن مؤمن باللّه مرشد إلى اللّه ، ويخرج من صلبه كلمة الحقّ ولسان الصدق ومظهر الحقّ حجّة اللّه على بريّته ، له غيبة طويلة ، يظهر اللّه بالإسلام وأهله ، ويخسف به الكفر وأهله (2).

ص: 433


1- المصدر السابق : 105 - 106.
2- المصدر السابق : 187 - 189.

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على إمامة الأئمّة الاثني عشر وكون الثاني عشر منهم حيّا قائما غائبا منتظرا يظهر بعد ظهور أحكام اللّه ، يا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزا عظيما.

مضافا إلى الإجماع القاطع الكاشف عن قول النور الساطع من المعصوم السابق بالنسبة إلى الحقّ.

وكذا العقل الحاكم بامتناع خلوّ الزمان عن المعصوم علیه السلام ؛ لما مرّ.

فإن قلت : لا فرق بين العدم والوجود - مع الغيبة وعدم التصرّف في الأمور - في انتفاء اللطف الواجب على اللّه.

قلت أوّلا : نمنع عدم التفرقة ، لتأثيره حين الوجود والغيبة في بقاء نظام المعاش والمعاد كما يدلّ عليه بعض التوقيعات إلى شيخنا المفيد (1) ، فيكون كالشمس تحت السحاب.

وثانيا : أنّ وجوب اللطف مقيّد بعدم وجود المانع ، ووجود الأعادي وإفسادهم مانع من غير أن يكون سببا لتعذيبنا فيما لا يكون المخالفة فيه باختيارنا.

وثالثا : أنّ تعذيب المخالفين بدون إيجاد الحجّة قبيح ، فيجب إيجاده ؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة.

ورابعا : أنّ في غيبته لطفا للشيعة من جهة مجاهدتهم النفسانيّة ورياضتهم الجسمانيّة وانتظارهم لظهوره وملازمته والاجتناب عن القبائح ؛ لاعتقاد وجوده وإمكان ظهوره وتمكّنه من إقامة الحدود.

وأمّا استبعاد طول عمره - وهو راجع إلى إنكار قدرة اللّه وعروج عيسى وبقائه وبقاء خضر وإلياس - فهو مدفوع بالنقض كما ذكرنا ، والحلّ بما أشرنا.

وظهر ممّا بيّنّا بطلان مذهب غير الإماميّة - القائلين بالأئمّة الاثني عشر من عليّ علیه السلام إلى محمّد بن الحسن - من فرق الشيعة القائلين بخلافة عليّ بن

ص: 434


1- « الاحتجاج » 2 : 596 - 603.

أبي طالب علیه السلام بلا فصل أيضا من دون الانتهاء إلى الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن عجّل اللّه فرجه :

كالكيسانيّة وهم القائلون بخلافة محمّد بن الحنفيّة ، ولعلّ وجه التسمية أنّ محمّدا كان في حجر عليّ وهو طفل ، فقال : « يا كيّس » أو أنّ المختار الملقّب ب- « كيسان » لمّا رأى أنّ عليّ بن الحسين علیه السلام لا يأذنه في الانتقام من قتلة أبيه ودعا الناس إلى محمّد ليأذنه فنسبوا إليه.

والزيديّة وهم القائلون بخلافة زيد بن الإمام زين العابدين علیه السلام .

والناووسيّة وهم القائلون بالإمامة إلى الصادق علیه السلام الواقفون عليه القائلون بأنّه سيرجع إلى الدنيا ويملأها عدلا كما ملئت جورا ، وهم منسوبون إلى عبد اللّه بن ناووس من أهل البصرة.

والفطحيّة وهم القائلون بإمامة عبد اللّه بن جعفر علیه السلام وسمّوا بذلك ؛ لكون عبد اللّه أفطح الرأس أو الرجلين ، أو لكون رئيسهم عبد اللّه بن أفطح.

والإسماعيليّة وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر علیه السلام .

والواقفيّة وهم القائلون بالإمامة إلى موسى الكاظم علیه السلام وواقفون عليه بإضلال وكيلين له بالكوفة ، طمعا لزكاة أتوها له علیه السلام قائلين : إنّه لا يموت ، إنّه القائم فاعتمد عليه طائفة وانتشر قولهما حتّى كان عند موتهما أوصيا بدفع المال إلى ورثة موسى علیه السلام وذلك لثبوت موت كلّ من ذلك ، وامتناع خلوّ الزمان عن المعصوم علیه السلام وعدم كون بعض من ذكر معصوما مع ورود الأخبار المتكاثرة المتظافرة على خلافها.

وظهر أيضا أنّ محاربي عليّ وغاصبي حقّه كفّار كما يدلّ عليه قوله : « يا علي ، حربك حربي وسلمك سلمي » (1) ؛ لأنّ دفع الإمامة في الحقيقة راجع إلى دفع النبوّة ، فلعن اللّه بني أميّة قاطبة وبرّأنا اللّه منهم إلى موالينا الأئمّة الاثني عشر.

ص: 435


1- « الأمالي » للطوسي : 364 ، المجلس 13 ، الرقم 763 / 14 ؛ « بشارة المصطفى » : 180 ؛ « بحار الأنوار » 40 : 43.

والحاصل : أنّ الإمام بعد عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين علیه السلام ابنه الحسن علیه السلام ، ثمّ الحسين علیه السلام ، ثمّ عليّ بن الحسين علیه السلام ، ثمّ محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام ، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام ، ثمّ عليّ بن موسى الرضا علیه السلام ، ثمّ محمّد بن عليّ التقيّ علیه السلام ، ثمّ عليّ بن محمّد النقيّ علیه السلام ، ثمّ الحسن بن عليّ العسكريّ علیه السلام ، ثمّ محمّد بن الحسن صاحب الزمان ردّا على طوائف من الشيعة : كالكيسانيّة ، والزيديّة ، والناووسيّة ، والفطحيّة ، والإسماعيليّة ، والواقفيّة.

والدليل على ذلك أوّلا : أنّ ذلك لطف واجب ، وخلاف ذلك ترك اللطف الواجب.

مضافا إلى ترجيح المرجوح بالنسبة إلى بعض العقائد من جهة القول بترجيح ابن الحنفيّة وزيد وعبد اللّه وإسماعيل ؛ وذلك لعصمة الأئمّة علیهم السلام المذكورين ، وأعلميّتهم.

مضافا إلى النصّ فيهم يتمّ الهداية والحجّة ويحصل الغرض دون غيرهم.

وثانيا : النقل فعن الرضا علیه السلام : « إنّ اللّه لم يقبض نبيّه حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن تبيان كلّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا فقال عزّ وجلّ : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (1) ، وأنزل في حجّة الوداع - وهي آخر عمره صلی اللّه علیه و آله - : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (2) ، وأمر الأمّة من تمام الدين ولم يمض حتّى بيّن علیه السلام لأمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحقّ ، وأقام لهم عليّا علما وإماما ، وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه فهو كافر - إلى أن قال بعد ذكر قدر الإمامة وكونها بعد النبوّة - فقلّدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا بأمر اللّه على اسم ما فرض اللّه فصارت في ذرّيّته الأصفياء الذين آتاهم العلم والإيمان - إلى أن قال : - إنّ الإمامة خلافة اللّه

ص: 436


1- الأنعام (6) : 38.
2- المائدة (5) : 3.

وخلافة الرسول صلی اللّه علیه و آله ومقام أمير المؤمنين علیه السلام وميراث الحسن والحسين علیهماالسلام - إلى أن قال : - الإمام عالم لا يجهل وداع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول ونسل المطهّرة البتول لا مغمز فيه من نسب ولا يدانيه ذو حسب ». الحديث (1).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ أوضح بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيّنا عن دينه - إلى أن قال : - فلم يزل اللّه - تبارك وتعالى - يختارهم لخلقه من ولد الحسين علیه السلام من عقب كلّ إمام » الحديث (2).

ونحو ذلك ممّا يدلّ على أنّ الإمامة مخصوصة بمن علم من جهته الاتّصاف بالقدس.

مضافا إلى ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال في وصيّة لابنه الحسن : « يا بنيّ ، أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أوصي إليك ، وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إليّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين علیه السلام » ، ثمّ أقبل على ابنه الحسين علیه السلام فقال له : « وأمرك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تدفعها إلى ابنك هذا ، ثمّ أخذ بيد عليّ بن الحسين علیه السلام ، ثمّ قال لعليّ بن الحسين : وأمرك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن عليّ وأقرئه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السّلام » (3).

وعن جابر عن أبي جعفر علیه السلام قال : سئل عن القائم فضرب بيده على أبي عبد اللّه علیه السلام فقال : « واللّه هذا قائم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ».

قال عيينة : فلمّا قبض أبو جعفر علیه السلام دخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام فأخبرته بذلك فقال : « صدق أبو جعفر » ، ثمّ قال : « لعلّكم ترون أن ليس كلّ إمام هو القائم بعد الإمام

ص: 437


1- « معاني الأخبار » : 96 - 101 ، ح 2 ؛ « الأمالي » للصدوق : 536 - 540 ، المجلس 97 ، ح 1 ؛ « كمال الدين وتمام النعمة » : 675 - 681 ، ح 31.
2- « الكافي » 1 : 203 - 205 ، باب نوادر جامع في فضل الإمام وصفاته ، ح 2.
3- المصدر السابق 1 : 297 - 298 ، باب الإشارة والنصّ على الحسن بن عليّ ، ح 1.

الذي كان قبله » (1).

وعن أبي عبد اللّه أنّه دعا أبا الحسن علیه السلام يوما فقال لنا : « عليكم بهذا واللّه صاحبكم بعدي » (2).

وعن أبي الحسن علیه السلام أنّه قال : « إنّ ابني عليّا أكبر ولدي وأبرّهم عندي وأحبّهم إليّ وهو ينظر معي في الجفر ، ولم ينظر فيه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ » (3).

وعن محمد بن إسحاق بن عمّار أنّه قال : قلت لأبي الحسن الأوّل : ألا تدلّني إلى من آخذ عنه ديني؟ فقال : « هذا ابني عليّ » (4) ، وعن معمر بن خلاّد ، قال : سمعت الرضا علیه السلام وذكر شيئا ، فقال : « ما حاجتكم إلى ذلك هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني - وقال - : إنّا أهل البيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذّة بالقذّة » (5).

وعن الخيراني ، عن أبيه أنّه قال : كنت واقفا عند أبي الحسن بخراسان ، فقال قائل له يا سيّدي! إن كان كون فإلى من؟ قال : « إلى أبي جعفر علیه السلام ابني » ، فكأنّ القائل استصغر سنّ أبي جعفر علیه السلام فقال أبو الحسن علیه السلام : « إنّ اللّه - تبارك وتعالى - بعث عيسى بن مريم رسولا نبيّا صاحب شريعة مبتدؤه في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر علیه السلام » (6).

وعن إسماعيل بن مهران أنّه قال : لمّا خرج أبو جعفر بن محمّد علیه السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خروجه ، فقلت له : جعلت فداك إنّي أخاف عليك في هذا الوجه فإلى من الأمر بعدك ، فكرّ بوجهه إليّ ضاحكا وقال : « ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة » ، فلمّا أخرج به الثانية إلى المعتصم جزت إليه ، فقلت : جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتّى اخضلّت لحيته من الدموع ، ثمّ

ص: 438


1- المصدر السابق 1 : 307 ، باب الإشارة والنصّ على أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد ، ح 7.
2- المصدر السابق : 310 ، باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى ، ح 12.
3- المصدر السابق : 311 ، باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الرضا ، ح 2.
4- المصدر السابق : 312 ، باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الرضا ، ح 4.
5- المصدر السابق : 320 ، باب الإشارة والنصّ على أبي جعفر الثاني ، ح 2.
6- المصدر السابق 1 : 322 ، باب الإشارة والنصّ على أبي جعفر الثاني ، ح 13.

التفت إليّ فقال : « عند هذه يخاف عليّ ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ علیه السلام » (1).

وعن عليّ بن عمر النوفل قال : كنت مع أبي الحسن علیه السلام في صحن داره ، فمرّ بنا محمّد ابنه علیه السلام فقلت له : جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك؟ فقال : « لا ، صاحبكم بعدي الحسن » (2).

وعن عمرو الأهوازي قال : أراني أبو محمّد ابنه قال : « هذا صاحبكم بعدي » (3).

إلى غير ذلك من الأخبار المتكاثرة.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع شرح الشارح القوشجي بقوله : « ( والنقل المتواتر دلّ على الأحد عشر ولوجوب العصمة وانتفائها من غيرهم ووجوب الكمالات فيهم ).

ذهب الإماميّة إلى أنّ الإمام الحقّ بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، ثمّ الحسن والحسين ، ثمّ ابنه زين العابدين علیه السلام ، ثمّ ابنه محمّد القائم المنتظر المهدي ، وتدّعون أنه ثبت بالتواتر نصّ كلّ من السابقين على من بعده ، ويروون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال للحسين علیه السلام : ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة تاسعهم قائمهم (4).

وعن مسروق أنّه قال : بينا نحن عند عبد اللّه بن مسعود إذ يقول لنا شابّ : هل عهد إليكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ قال : إنّك لحدث السنّ وإنّ هذا شيء ما سألني عنه أحد ، نعم عهد إلينا نبيّنا - عليه الصلاة والسّلام - أن يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل (5).

ص: 439


1- المصدر السابق 1 : 323 ، باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن الثالث ، ح 1.
2- المصدر السابق : 325 ، باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد ، ح 2.
3- المصدر السابق : 328 ، باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار ، ح 3.
4- « بحار الأنوار » 36 : 372.
5- « عيون أخبار الرضا » 1 : 48 - 49 باب 6 ، ح 10 ؛ « كمال الدين وتمام النعمة » 1 : 270 - 271 ، ح 16 ؛ « الأمالي » للصدوق : 254 ، المجلس 51 ، ح 4 ؛ « الخصال » 2 : 466 - 467 ، ح 6.

ويتشبّثون تارة بأنّه يجب أن يكون في الإمام العصمة وغير هؤلاء ليسوا معصومين إجماعا فتعيّنت العصمة لهم ، وإلاّ لزم خلوّ الزمان عن المعصوم علیه السلام وقد بيّنّا استحالته.

وأخرى بأنّ الكمالات النفسانيّة والبدنيّة بأجمعها موجودة في كلّ واحد منهم فهو أفضل أهل زمانه فتعيّنت الإمامة ؛ لأنّه يقبح عقلا رئاسة المفضول على الفاضل.

ولا يخفى على المتأمّل ما فيه بعد الاطّلاع على ما سبق. ( ومحاربو عليّ كفرة ) لقوله صلی اللّه علیه و آله : « حربك حربي يا عليّ » (1) ، ولا شكّ أنّ محارب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كافر ( ومخالفوه فسقة ) ؛ لأنّ حقّيّة إمامته واضحة فمتابعته واجبة ، فمن خالفه يكون مخالفا لسبيل المؤمنين ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ) (2).

والحقّ أنّ محارب عليّ علیه السلام يكون مخطئا ظاهرا فيكون من الفئة الباغية إن كانت محاربته عن شبهة ، وكذا محارب كلّ واحد من الخلفاء الراشدين.

وأمّا مخالفته فلا تخلو : إمّا أن تكون عن اجتهاد أو لا ، فإن كان الأوّل فالظاهر أنّ خطأه لا ينتهي إلى التفسيق ؛ لأنّه مجتهد ، والمخطئ في الاجتهاد لا يكون فاسقا.

وإن كان الثاني فلا شكّ في فسقه ، وكذا مخالفة سائر الخلفاء الراشدين » (3).

أقول : لا يخفى أنّه يكفي في ردّ المخالفين ما ورد في صحيح البخاري في مناقب فاطمة علیهاالسلام ما مضمونه أنّه قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حقّها : « إنّ فاطمة علیهاالسلام بضعة منّي فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللّه ومن آذى اللّه فقد كفر » (4).

وحكى (5) بعد عدّة أوراق أنّها خرجت من الدنيا وهي ساخطة على أبي بكر أو

ص: 440


1- تقدّم في ص 435.
2- النساء (4) : 115.
3- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 380.
4- « صحيح البخاري » 3 : 1361 باب مناقب قرابة رسول اللّه ... الرقم 3510.
5- أي الشارح القوشجي.

على أبي بكر وعمر ؛ لدلالة ذلك على كفر أبي بكر وعدم صلاحيّته فكذا عمر وعثمان كما لا يخفى.

المطلب الثالث : [ في وجود صاحب الزمان وغيبته ]

اشارة

إنّ صاحب الزمان موجود الآن ، غائب عن الأعيان ، وبوجوده استقرّ وجود الإنس والجانّ ، وسيظهر بإذن اللّه الملك المنّان ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، كما هو الضروري من المذهب.

والدليل على ذلك أنّ وجوده لطف كما أنّ في ظهوره لطفا ، فحيث لم يكن اللطف الأوّل مانع يجب تحقّقه ، فيجب وجوده ، وحيث كان للثاني مانع يجب غيبته إلى أن يصير ظهوره حسنا من جهة دفع الأقبح ، وهو الخروج عن الدين وتضييع شريعة سيّد المرسلين.

مضافا إلى النقل ، فعن أبي عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى الناس في ملكه ، حتّى يولد له ألف ذكر لا يولد فيهم أنثى ، ويبني في ظهر الكوفة مسجدا له ألف باب ، وتتّصل بيوت الكوفة بنهري كربلاء وبالحيرة ، حتّى يخرج الرجل يوم الجمعة على بغلة سفراء يريد الجمعة فلا يدركها » (1).

وعن أبي جعفر علیه السلام : « يدخل المهديّ الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت بينها فتصفو له ، فيدخل حتّى يأتي المنبر فيخطب ولا يدري الناس ما يقول من البكاء ، فإذا كانت الجمعة الثانية قال الناس : يا بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، إنّ الصلاة خلفك تضاهي الصلاة خلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسجد لا يسعنا ، فيخرج إلى الغريّ فيخطّ مسجدا له ألف باب ويحفر من خلف قبر الحسين لهم نهرا حتّى يجري إلى الغريّين حتّى يرمي

ص: 441


1- « الإرشاد » للمفيد 2 : 381 ؛ « الغيبة » للطوسي : 467 - 468.

إلى النجف ويعمل على فوهته قناطر » (1).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام : « أنّ مسجد السهلة منزل صاحبنا إذا قدم بأهله » (2).

وعنه علیه السلام : « أنّ القائم يهدم المسجد الحرام حتّى يردّه إلى أساسه ومسجد رسول اللّه إلى أساسه صلی اللّه علیه و آله ، وردّ البيت إلى موضعه وأقام على أساسه ، وقطع أيدي بني شيبة السرّاق وعلّقها على الكعبة » (3).

وعنه علیه السلام : « إذا قام القائم علیه السلام جاء بأمر غير الذي كان » (4).

وعن أبي جعفر علیه السلام : « أنّ القائم يملك ثلاثمائة وتسع سنين كما لبث أهل الكهف في كهفهم ، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ، ويفتح اللّه له شرق الأرض وغربها ويقتل الناس حتّى لا يبقى إلاّ دين ، يسير بسيرة سليمان بن داود علیه السلام » (5).

وعنه علیه السلام : « إذا قام القائم دخل الكوفة ، وأمر بهدم المساجد الأربعة حتّى يبلغ أساسها ، ويصيّرها عريشا كعريش موسى لا شرف لها ، ويوسّع الطريق الأعظم فيصير ستّين ذراعا ، فيهدم كلّ مسجد على الطريق ، ويسدّ كلّ كوّة إلى الطريق وكلّ جناح وكنيف وميزاب إلى الطريق ، فيأمر اللّه الفلك في زمانه فيبطؤ في دوره حتّى يكون اليوم من الأيّام كعشرة أيّام من أيّامكم ، والشهر كعشرة أشهر ، والسنة كعشرة سنين من سنتكم » (6).

وعنه علیه السلام : « يبايع القائم بين الرّكن والمقام ثلاثمائة ونيّف عدّة أهل بدر فيهم النجباء

ص: 442


1- « منتخب الأنوار المضيئة » : 192 ؛ « بحار الأنوار » 97 : 385.
2- « الكافي » 3 : 495 ، باب مسجد السهلة ، ح 7 ؛ « الإرشاد » للمفيد 2 : 380.
3- « الإرشاد » للمفيد 2 : 383 ؛ « إعلام الورى » 2 : 289 ؛ « كشف الغمّة » 2 : 465.
4- « الإرشاد » للمفيد 2 : 384 ؛ « الكافي » 1 : 536 ، باب أنّ الأئمّة قائمون بأمر اللّه ... ح 2 ؛ « كشف الغمّة » 2 : 465.
5- « إثبات الهداة » 7 : 336 ، ح 37 ؛ « بحار الأنوار » 52 : 331 ، ح 52.
6- « إثبات الهداة » 7 : 37 ، ح 374 ؛ « بحار الأنوار » 52 : 333 ، ح 61.

من أهل مصر والأبدال من أهل الشام والأخيار من أهل العراق ، فيقيم ما شاء اللّه أن يقيم » (1).

وعن مولانا أبي الحسن العسكري علیه السلام أنّه قال : « الخلف من بعدي الحسن علیه السلام فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ » فقلت : ولم يجعلني اللّه فداك؟ قال : « إنّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه » ، فقلت : فكيف نذكره؟ فقال : « قولوا : الحجّة من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله » (2).

وعن أبي عبد اللّه الصالح ، قال : سألني أصحابنا بعد مضيّ أبي محمّد علیه السلام أن أسأل عن الاسم [ و ] المكان فخرج الجواب : « إن دللتهم عن الاسم أذاعوه وإن عرفوا المكان دلّوا عليه » (3).

وعن أبي الحسن علیه السلام أنّه سئل عن القائم علیه السلام فقال : « لا يرى جسمه ولا يسمّى اسمه » (4).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال في خطبة له : « اللّهمّ وإنّي لأعلم العلم لا يأزر كلّه ولا ينقطع موادّه ، وإنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك ، ظاهر ليس بالمطاع أو خائف مغمور ، كيلا تبطل حجّتك ولا يضلّ أولياؤك بعد إذ هديتهم - إلى أن قال - : أولئك أتباع العلماء صحبوا أهل الدنيا بطاعة اللّه تبارك وتعالى ولأوليائه ، ودانوا بالتقيّة عن دينهم والخوف عن عدوّهم ، فأرواحهم معلّقة بالمحلّ الأعلى ، فعلماؤهم وأتباعهم خرس صمت في دولة الباطل ينتظرون لدولة الحقّ وسيحقّ اللّه الحقّ بكلماته ويمحق الباطل » (5).

ص: 443


1- « إثبات الهداة » 7 : 37 ، ح 378 ؛ « بحار الأنوار » 52 : 334 ، ح 64.
2- « إعلام الورى » 2 : 136 ؛ « الكافي » 1 : 328 ، باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد 7 ، ح 13 ؛ « كفاية الأثر » : 283 - 284 ؛ « علل الشرائع » 1 : 286 باب 79 ، ح 5.
3- « الكافي » 1 : 333 باب النهي عن الاسم ، ح 2.
4- المصدر السابق ، ح 3.
5- المصدر السابق 1 : 339 ، باب في الغيبة ، ح 13.

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « للقائم غيبتان : إحداهما قصيرة ، والأخرى طويلة ، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة مواليه » (1).

وعنه علیه السلام أنّه قيل له : أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال : « لا » ، فقيل : فولدك؟ فقال : « لا » ، فقيل : فولد ولد لك هو؟ قال : « لا » ، فقيل ولد ولد ولدك؟ فقال : « لا » ، فقيل من هو؟ فقال : « الذي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا على فترة من الأئمّة علیهم السلام كما أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث على فترة من الرسل » (2).

وعن أمّ هانئ قالت : سألت أبا جعفر محمّد علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الْكُنَّسِ ) (3) قالت : فقال : « إمام يخنس سنة ستّين ومائتين ، ثمّ يظهر كالشهاب يتوقّد في الليلة الظلماء ، فإن أدركت زمانه قرّت عينك ، وفي الآخر : الخنّس إمام يخنس في زمانه عند انقطاع من علمه عند الناس سنة ستّين ومائتين ثمّ يبدو كالشهاب الواقد في ظلمة الليل فإذا أدركت ذلك قرّت عينك » (4).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « لا بدّ للغلام من غيبة » ، قلت : ولم؟ قال : « يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - وهو المنتظر وهو الذي يشكّ الناس في ولادته فمنهم من يقول : حمل ، ومنهم من يقول : مات أبوه ولم يخلف ، ومنهم من يقول ولد قبل موت أبيه بسنتين ».

قال زرارة : فقلت : وما تأمرني لو أدركت ذلك الزمان؟ قال : « ادع اللّه بهذا الدعاء اللّهمّ عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك ، اللّهمّ عرّفني نبيّك فإنّك إن لم تعرّفني نبيّك لم أعرف حجّتك ، اللّهمّ عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك

ص: 444


1- المصدر السابق : 340 ، ح 19.
2- « الكافي » 1 : 341 ، باب في الغيبة ، ح 21 ؛ « بحار الأنوار » 51 : 39 ، ح 18.
3- التكوير (81) : 15 - 16.
4- « الكافي » 1 : 341 ، باب في الغيبة ، ح 22 و 23.

ضللت عن ديني » (1) إلى غير ذلك من الأخبار.

[ في كيفيّة الرجعة ]

ثمّ اعلم أنّ كيفيّة الرجعة إجمالا - كما أفيد - أنّه إذا كانت السنة التي يظهر فيها قائم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله وقع فيها قحط شديد ، فإذا كان العشرون من جمادى الأولى وقع مطر شديد لا يوجد مثله مطلقا منذ هبط آدم علیه السلام متّصلا إلى أوّل شهر رجب ، تنبت لحوم من يريد اللّه أن يرجع إلى الدنيا من الأموات ، وفي العشر الأوّل منه أيضا يخرج الدجّال من أصفهان ويخرج السفياني عثمان بن عنبسة - أبوه من ذرّيّة عنبسة بن أبي سفيان وأمّه من ذرّيّة يزيد بن معاوية من الرملة - من وادي اليابس ، وفي شهر رجب يظهر في قرص الشمس جسد أمير المؤمنين علیه السلام يعرفه الخلائق وينادي في السماء مناد باسمه.

وفي آخر شهر رمضان ينخسف القمر وفي الليلة الخامسة منه وفي النصف تنكسف الشمس ؛ وفي أوّل الفجر من اليوم الثالث والعشرين ينادي جبرئيل علیه السلام في السماء : ألا إنّ الحقّ مع عليّ وشيعته ، وفي آخر النهار ينادي إبليس من الأرض : ألا إنّ الحقّ مع عثمان الشهيد وشيعته يسمع الخلائق كلا النداءين ، كلّ منهم بلغته ، فعند ذلك يرتاب المبطلون.

وفي يوم الجمعة العاشر من المحرّم يخرج الحجّة علیه السلام يدخل المسجد الحرام يسوق أمامه [ ثمانا أعجابا ] ويقتل خطيبهم ، فإذا قتل الخطيب غاب عن الناس في الكعبة ، فإذا جنّه الليل ليلة السبت صعد سطح الكعبة ونادى أصحابه الثلاثمائة وثلاثة عشر ليجتمعون عنده من مشرق الأرض ومغربها ، فيصيح يوم السبت فيدعو الناس إلى بيعته ، فأوّل من يبايعه الطائر الأبيض جبرئيل علیه السلام ويبقى في مكّة حتّى يجتمع عليه عشرة آلاف ، ويبعث السفياني عسكرين : عسكرا إلى الكوفة وعسكرا

ص: 445


1- المصدر السابق : 337 ، باب في الغيبة ، ح 5.

إلى المدينة ويخرّبونها ، ويهدمون القبر الشريف وتروث بغالهم في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويخرج العسكر إلى مكّة ليهدموها ، فإذا وصلوا إلى بيداء خسف بهم ، لم ينج منهم إلاّ رجلان يمضي أحدهما نذيرا للسفياني والآخر بشيرا للقائم علیه السلام .

ثمّ يسير إلى المدينة ويخرج الجبت والطاغوت ويصلبهما في الشجرة ، ويسير في أرض اللّه ويقتل الدجّال ويلتقي بالسفياني ، ويأتيه السفياني ويبايعه فيقول أقوامه من أخواله : يا كلب ما صنعت؟ فيقول : أسلمت وبايعت ، فيقولون : واللّه ما نوافقك على هذا فلا يزالون يحثّون به حتّى يخرج على القائم فيقاتله فيقتله الحجّة علیه السلام ولا يزال يبعث أصحابه في أقطار الأرض حتّى يستقيم له الأمر ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، ويستقرّ في الكوفة ويكون مسكن أهله مسجد السهلة ومحلّ قضائه مسجد الكوفة.

ومدّة ملكه سبع سنين ، يطوّل اللّه الأيّام والليالي حتّى تكون السنة بقدر عشر سنين ؛ لأنّ اللّه سبحانه يأمر الفلك باللبوث فتكون هذه مدّة ملكه سبعون سنة من هذه السنين ، فإذا مضى منها تسع وخمسون سنة خرج الحسين علیه السلام في أنصاره الاثنين والسبعين الذين استشهدوا معه في كربلاء وملائكة النصر والشعث الغبر الذين عند قبره.

فإذا تمّت السبعون سنة أتى الحجّة الموت فتقتله امرأة من بني تميم اسمها سعيدة لها لحية كلحية الرجل تضربه على رأسه من فوق سطح وهو متجاوز في الطريق ، فإذا مات تولّى تجهيزه الحسين علیه السلام ثمّ يقوم بالأمر ويحشر له يزيد بن معاوية وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد والشمر ومن معهم يوم كربلاء ومن رضي بأفعالهم من الأوّلين والآخرين فيقتلهم الحسين علیه السلام ويقتصّ منهم ، ويكثر القتل في كلّ من رضي بفعلهم أو أحبّهم ، حتّى يجتمع عليه أشرار الناس من كلّ ناحية ويلجئونه إلى بيت الحرام.

فإذا اشتدّ به الأمر خرج السفّاح أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام لنصرته مع الملائكة فيقتلون أعداء الدين ويمكث عليّ علیه السلام مع ابنيه الحسنين علیهماالسلام ثلاثمائة وتسع سنين كما لبث أصحاب الكهف ، ثمّ يضرب على قرنه ويقتل ، ويبقى الحسين علیه السلام

ص: 446

قائما بدين اللّه ، ومدّة ملكه خمسون ألف سنة حتّى أنّه ليربط حاجبيه بعصابة من شدّة الكبر. ويبقى أمير المؤمنين علیه السلام في موته أربعة آلاف سنة أو ستّة آلاف سنة أو عشرة آلاف سنة على اختلاف الروايات ، ثمّ يكرّ في جميع شيعته ؛ لأنّه علیه السلام يقتل مرّتين ويحيا مرّتين والأئمّة كلّهم يرجعون إلى الدنيا حتّى القائم علیه السلام .

ويجتمع إبليس مع جميع أتباعه ويقتلون عند الروحاء قريب من الفرات ، فيرجع المؤمنون القهقرى حتّى يقع منهم رجال في الفرات وروي ثلاثون رجلا ، فينزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الغمام وبيده حربة من نور فإذا رآه إبليس هرب فيقول له أنصاره : أين تذهب وقد آن لنا النصر؟ فيقول : إنّي أرى ما لا ترون ، إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين ، فيلحقه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيطعنه في ظهره فتخرج الحربة من صدره ويموت ويقتلون أصحابه أجمعين ، وعند ذلك يعبد اللّه ولا يشرك به شيئا ، ويعيش المؤمن لا يموت حتّى يولد له ألف ولد ذكر ، وإذا كسى ولده ثوبا يطول معه كلّما طال ، ويكون لونه على حسب ما يريد ، وتظهر الأرض بركاتها بحيث يؤكل ثمرة الصيف في الشتاء وبالعكس ، وإذا أخذ الثمرة من الشجرة نبت مكانها حتّى لا يفقد شيئا ، وعند ذلك تظهر الجنّتان المدهامّتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء اللّه تعالى ، فإذا أراد اللّه تعالى خراب العالمين رفع محمّدا صلی اللّه علیه و آله إلى السماء وبقي الناس في هرج ومرج أربعين يوما ، ثمّ ينفخ إسرافيل في الصور نفخة الصعق.

والحاصل : أنّ وقت خروجه وظهوره علیه السلام على وجه التفصيل غير معلوم ، فعن المفضّل قال : سألت أبا جعفر علیه السلام هل لهذا الأمر وقت؟ فقال : « كذب الوقّاتون ، كذب الوقّاتون » (1).

ومثله الآخر إلاّ أنّ فيه : « كذب الموقّتون ما مضى وقتنا فيما مضى ، ولا آن وقته فيما يستقبل » (2) إلى غير ذلك من الأخبار.

ص: 447


1- « الكافي » 1 : 368 ، باب كراهية التوقيت ، ح 5.
2- « الغيبة » للطوسي : 426 ، ح 412.

وعن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لأبي جعفر علیه السلام : إنّ عليّا علیه السلام كان يقول : « إلى السبعين بلاء » ، وكان يقول : « بعد البلاء رخاء » وقد مضت السبعون ولم نر رخاء؟

فقال أبو جعفر علیه السلام : « يا ثابت! إنّ اللّه تعالى كان وقّت هذا الأمر في السبعين ، فلمّا قتل الحسين علیه السلام اشتدّ غضب اللّه على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة سنة ، فحدّثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم متاع الستر ، فأخذه اللّه ولم يجعل له بعد ذلك وقتا عندنا ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (1) » (2).

نعم ، ذكر لظهوره علامات كانت قبل خروجه كما يستفاد من الأخبار المرويّة في كتاب « الغيبة » من تأليفات الصدوق (3) رحمه اللّه .

فقد روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام بعد ما قيل له علیه السلام : إنّ أبا جعفر علیه السلام كان يقول : « خروج السفياني من المحتوم ، والنداء من المحتوم ، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم ، - إلى أن قال - : وخروج القائم من المحتوم ».

قلت : وكيف يكون النداء؟ قال : « ينادي مناد من السماء أوّل النهار يسمعه كلّ قوم بألسنتهم : ألا إنّ الحقّ في عليّ وشيعته ، ثمّ ينادي إبليس في آخر النهار من الأرض : ألا إنّ الحقّ في عثمان وشيعته ، فعند ذلك يرتاب المبطلون » (4).

وعنه علیه السلام قال : « خمس قبل قيام القائم من العلامات : الصيحة ، والسفياني ، والخسف بالبيداء ، وخروج اليماني ، وقتل النفس الزكيّة » (5).

وعنه علیه السلام : « لا يخرج القائم حتّى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلّهم يدعو

ص: 448


1- الرعد (13) : 39.
2- « الكافي » 1 : 368 ، باب كراهية التوقيت ، ح 1.
3- المعروف أنّ كتاب « الغيبة » للشيخ الطوسي رحمه اللّه وللنعماني رحمه اللّه وليس للصدوق رحمه اللّه ولعلّه كان مراد المصنّف منه كتاب إكمال الدين للصدوق ، راجع منه ص 649 وما بعدها.
4- « الإرشاد » للمفيد 2 : 371 ؛ « إعلام الورى » 2 : 279.
5- « الغيبة » للطوسي : 436 ؛ « الغيبة » للنعماني : 452 ، ح 9.

إلى نفسه » (1).

وعن الحسن بن عليّ علیه السلام : « لا يكون هذا الأمر الذي تنتظرون حتّى يتبرّأ بعضكم من بعض ، ويلعن بعضكم بعضا ، ويتفل بعضكم في وجه بعض ، وحتّى يشهد بعضكم بالكفر على بعض - قال - : عند ذلك يقوم قائمنا ويرفع ذلك » (2).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : « بين يدي القائم موت أحمر وموت أبيض وجراد في حينه وجراد في غير حينه أحمر كألوان الدم ، فأمّا الموت الأحمر فالسيف ، وأمّا الموت الأبيض فالطاعون » (3).

وعن الرضا علیه السلام : « ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء ، صوتا منها : ألا لعنة اللّه على الظالمين ، والصوت الثاني : أزفت الآزفة ، يا معشر المؤمنين ، والصوت الثالث يرون بدنا بارزا نحو عين الشمس : هذا أمير المؤمنين علیه السلام » (4).

وعن عليّ بن الحسين علیه السلام : « يكون قبل خروجه خروج رجل يقال له : عون السلمي بأرض الجزيرة ويكون مأواه تكريت وقتله بمسجد دمشق ، ثمّ يكون خروج شعيب بن صالح من سمرقند ، ثمّ يخرج السفياني الملعون من الوادي اليابس وهو من ولد عتبة من أبي سفيان ، فإذا ظهر السفياني اختفى المهديّ ، ثمّ يخرج بعد ذلك » (5).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يخرج بقزوين رجل اسمه اسم نبيّ يسرع الناس إلى طاعته المشرك والمؤمن يملأ الجبال خوفا » (6).

ص: 449


1- « الإرشاد » للمفيد 2 : 372 ؛ « إعلام الورى » 2 : 280 ؛ « كشف الغمّة » 2 : 459.
2- « الغيبة » للطوسي : 437 ؛ « الغيبة » للنعماني : 206 ، ح 10.
3- « الإرشاد » للمفيد 2 : 372 ؛ « الخرائج والجرائح » 3 : 1152 ، ح 48 ؛ « كشف الغمّة » 2 : 459.
4- « الغيبة » للطوسي : 439 ؛ « الغيبة » للنعماني : 271 ، ح 45.
5- « الغيبة » للطوسي : 443 ؛ « الخرائج والجرائح » 3 : 1155 ، الرقم 61.
6- « الغيبة » للطوسي : 444 ؛ « الخرائج والجرائح » 3 : 1148 ، الرقم 57.

وعن أبي جعفر علیه السلام : « آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم علیه السلام إلى الأرض : تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان ، والقمر من آخره » ، فقال رجل : يا بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف ، فقال أبو جعفر علیه السلام : « إنّي لأعلم بما تقول ، ولكنّهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم علیه السلام » (1).

وعنه علیه السلام : « يكثر القتلى بين الحيرة والكوفة » (2).

وعنه علیه السلام : تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان إلى الكوفة فإذا ظهر المهديّ بعث اللّه بالبيعة (3).

وعنه علیه السلام : « كأنّي بالقائم علیه السلام يوم عاشوراء يوم السبت قائم بين الركن والمقام وجبرئيل علیه السلام بين يديه ينادي : البيعة » (4).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ القائم يقوم يوم عاشوراء يوم قتل فيه الحسين علیه السلام » (5).

إلى غير ذلك من العلامات كالمطر أربعا وعشرين مطرة يرى أثرها وبركتها ، وخسف قرية من قرى الشام ، وقتل إخوان الترك حتّى ينزلوا الجزيرة ، وقتل مارقة الروم حتّى ينزلوا الرملة ، وقيام الزنديق من قزوين ، وخروج الدجال ، واختلاف ريحين بالشام ، ووقوع رجفة فيها يهلك فيها مائة ألف ، وهدم حائط مسجد الكوفة ، وقتل النفس الزكيّة غلام من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله اسمه محمّد بن الحسن بلا جرم وذنب ، وطلوع آية مع الشمس. عجّل اللّه فرجه وسهّل مخرجه.

ص: 450


1- « الكافي » 8 : 179 - 180 ، ح 258 ؛ « الغيبة » للطوسي : 444 ؛ « كشف الغمّة » 2 : 460.
2- « الإرشاد » للمفيد 2 : 374 ؛ « إعلام الورى » 2 : 285 ؛ « إثبات الهداة » 7 : 409 ، ح 55.
3- « الغيبة » للطوسي 452 ؛ « إثبات الهداة » 7 : 412 ، ح 65.
4- « الخرائج والجرائح » 3 : 1159 ؛ « إثبات الهداة » 7 : 31 ، ح 353.
5- « الإرشاد » للمفيد 2 : 379 ؛ « كشف الغمّة » 2 : 534 ؛ « إثبات الهداة » 7 : 31 ، ح 352.

فهرس الموضوعات

المقصد الرابع : في النبوّة

معنى النبوّة... 9

المعنى التصوّري... 9

المعنى التصديقي... 10

الكلام يقع في خمسة فصول... 11 - 12

الفصل الأوّل : أنّ بعثة النبيّ صلی اللّه علیه و آله واجب عقلاً... 13

فوائد البعثة عقلاً... 13

الأولى : تقوية العقل في الأحكام... 13

الثانية : تنبيه العقلاء على لزوم معرفة اللّه... 13

الثالثة : إرشاد الناس إلى المنافع النفسانيّة والجسمانيّة... 13

الرابعة : حفظ نوع الإنسانٍ... 13

الخامسة : اشتمالها على اللطف... 14 - 17

الفصل الثاني : في أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يجب أن يكون معصوماً... 18

تفسير العصمة... 18

تجب عصمة الأنبياء من وجوه ثلاثة :... 19

الأوّل : أنّها لطف للأنبياء في التبليغ... 19

الثاني : أنّها لطف للمكلّفين في تصديق الأنبياء... 20

الثالث : أنّها لطف لهم في سائر التكاليف المعدّة لإيصال النعيم الأبدي... 20

ص: 451

فيما يدلّ على وجوب العصمة... 21 - 23

بعض الأقوال في أنّ العصمة من أيّ معصية تجب... 24 - 25

الفصل الثالث : في أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة... 26 - 28

المعجزة أمر واقعيّ خارج عن العادة... 28

الفرق بين السحر والمعجزة... 29

يجب على النبيّ والوصيّ إيقاع المعجزة بإذن اللّه... 29 - 31

في جواز ظهور المعجزة على الصالحين مثل مريم علیهاالسلام ... 31

في جواز ظهور المعجزة قبل النبوّة على سبيل الإرهاص... 32

في جواز ظهور المعجزة على الكاذبين إظهارا لكذبهم... 33

هل تجب البعثة في كلّ زمان؟ وهل تجب الشريعة للنبيّ المبعوث؟ ... 33

الفصل الرابع : في أنّ نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله مبعوث إلى الثقلين مع المعجزات... 35

نسبه وحسبه صلی اللّه علیه و آله ... 35

أنّ معجزاته على قسمين : ظاهرة وخفية... 35

القرآن المجيد هو المعجزة الظاهرة التى لا ريب فيه... 35 - 36

في المعجزات الباهرة الظاهرة بالمعنى الدالّ على نبوّته سوى القرآن... 39

الآيات الدالّة على نبوّته... 49

حديث المعراج... 51

في كيفيّة المعراج وأنّه كان بتمام جسمه الشريف... 53

ما قاله الشيخ المعاصر في كيفيّة المعراج من غير لزوم خرق للعادة... 53

فى أنّ نبيّنا محمّد أفضل المرسلين وخاتم النبيّين ، ومعنى الخاتميّة... 58

وجوه إعجاز القرآن... 60

في أنّ القرآن ناسخ للشرائع السابقة... 62

الفصل الخامس : أنّ نبيّنا صلی اللّه علیه و آله أفضل الأنبياء والمرسلين... 64

في أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة... 64

احتجاج المخالفين لأفضليّة الأنبياء على الملائكة بوجوه... 65

أمّا النقليّة... 67

ص: 452

أمّا العقليّة... 69

تذنيبات : ... 70

التذنيب الأوّل : في فرق المسلمين... 70

افتراق الشيعة على ستّة عشرة فرقه... 71

افتراق المعتزلة إلى اثنتي عشرة فرقة... 72

افتراق أهل السنة وأهل الضلالة كالغلاة والجبريّة إلى فرق... 74

التذنيب الثاني : في دفع الشكوك التي أوردها بعض النصارى لنفي شريعة سيّد المرسلين صلی اللّه علیه و آله 80

مناظرة مولانا الرضا علیه السلام مع سائر علماء الأديان في مجلس المأمون... 86

في ردّ انحصار معجزة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القرآن... 94

في ردّ ايرادات أخر أورده النصراني على إعجاز القرآن... 95

في مقتضى كلامه وردّ تأويله... 98

ما ورد في التوراة من الآيات ما يدلّ على نبوّته صلی اللّه علیه و آله ... 100

فيما أفاده الفاضل الكاشاني في مقام الردّ على النصراني... 122

فيما أفاده بعض المعاصرين في جواب النصراني... 127

فيما أفاده بعض المعاصرين الأخر... 132

فيما أفاده الميرزا محمد رضا جديد الإسلام... 157

التذنيب الثالث : في بيان ما أفاده السيد بحر العلوم... 159

فيما أفاده الفاضل القمّي... 170

التذنيب الرابع : في بيان أسرار النبيّ وكراماته... 174

في أسرار مولده... 174

في بعض كراماته صلی اللّه علیه و آله في نطقه بالغيب وإخباره بالملاحم... 177

التذنيب الخامس : في نبذ من معجزاته صلی اللّه علیه و آله ... 180

المقصد الخامس : في الإمامة

تعريف الإمامة... 205

الإمامة حسب المعنى التصوّري والتصديقي... 206

ص: 453

الكلام يقع في خمسة فصول... 207

في دفع ما توهّمه بعض المفرطين من أنّ الأئمّة هم علّة الموجودات... 208

الفصل الأوّل : في وجوب نصب الإمام... 215

يجب نصب الإمام عقلا مطلقاً... 215

في ردّ معتقدات المخالطين واعتراضاتهم على وجوب نصب الإمام... 216

اختلاف المسلمين في نصب الإمام بعد زمان النبوّة وهل يجب أم لا؟ ... 220

الفصل الثاني : في العصمة... 224

أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً... 224

أنّ التنصيص لطف في معرفة الإمام... 225

في أنّ وجوب عصمة الإمام من قطعيّات مذهب الإماميّة... 227

الفصل الثالث : في الأعلميّة والأفضليّة... 232

أنّ الإمام يجب أن يكون أعلم عصره... 232

الإمامة منصب من المناصب الشرعيّة... 233

الفصل الرابع : في المنصوبيّة والمنصوصيّة... 234

أنّ الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه... 234

أنّ للإمام حقوق خمسة لا بدّ للمكلّف أن يعرفها... 235

الأوّل : العصمة... 236

الثاني : الأعلميّة والأفضليّة... 236

الثالث : المنصوبيّة والمنصوصيّة... 236

الرابع : وجوب المودّة والمحبّة ، بالحبّ الربّاني... 236

الخامس : فرض الطاعة وكونه مفترض الطاعة... 236

الفصل الخامس : الإمامة في الاثني عشرية... 238

وجوب الاعتقاد بأنّ الأئمّة اثنا عشر... 238

المطلب الأوّل : في إثبات إمامة الإمام عليّ علیه السلام ... 238

اختلاف المسلمين في خليفة الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 238

فصل : في طريق العصمة... 240

ص: 454

كلّ من قال بوجوب عصمة الإمام علیه السلام قال بإمامة عليّ علیه السلام ... 241

فصل : في طريق النصّ على إمامة عليّ بن أبي طالب علیه السلام ... 241

فمن النصّ الجليّ ما ورد من طريق العامّة... 241

القسم الأوّل من النصّ الخفي ما كان مذكورا في الفرقان... 246

القسم الثاني عن النصّ الخفي ما كان بطريق السنّة المنقولة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 274

فصل في الأعلميّة... 279

إنّ عليّا علیه السلام كان أعلم الناس بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 279

في أنّه علیه السلام كان أزهد الناس ، وأعبدهم وأحملهم... 284

في أنّه علیه السلام كان أشجع الناس... 285

في أنّه علیه السلام كان أفضل... 287

في أنّ غيره غير صالح للإمامة... 289

شكوك الشارح القوشجي في ردّ أفضليّة الإمام عليّ علیه السلام والردّ عليه... 291

أنّ الخليفة بلا فصل لخاتم النبيّين هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام ... 297

ذكر أكثر من أربعين حديثا في فضائل الإمام عليّ... 300

فيما صدر عن الشيخ أحمد الأحسائى من كونهم علیه السلام علّة الموجودات... 313

أنّ العصمة والنص كلاهما مختصّان بعليّ علیه السلام ... 320

مطاعن أبي بكر... 328

مطاعن عمر... 335

مطاعن عثمان... 337

في خصائص الإمام عليّ علیه السلام ... 341

ذكر بعض الأدلّة على إمامة عليّ علیه السلام ... 351

فصل : في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين بطريق المعجزة... 362

ما ذكره ابن حجر من فضائل الإمام عليّ علیه السلام ... 412

في بيان بعض أسرار أمير المؤمنين علیه السلام ... 419

فصل : في الموعظة الحسنة... 427

المطلب الثاني : في بيان إمامة سائر الأئمّة الاثني عشر... 428

ص: 455

يجب في الإمام العصمة والأفضليّة بالعقل والنقل... 429

امتناع خلوّ الزمان عن المعصوم... 429

بطلان مذهب غير الإمامية من فرق الشيعة... 434

أنّ محاربي عليّ علیه السلام كفرة ومخالفيه فسقة... 440

المطلب الثالث : في وجود صاحب الزمان وغيبته... 441

كيفية الرجعة... 445

علامات خروج الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ... 445

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.