البراهين القاطعة المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: محمّد جعفر الأسترآبادي

المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

الناشر: مؤسسة بوستان كتاب

المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-371-766-6

المكتبة الإسلامية

آثار مركز مطالعات وتحقيقات اسلامی 182

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

لمحمد جعفر الأسترآبادي المعروف ب«شريعتمدار»

الجزءالثاني

مركزالأبحاث والدراسات الإسلامية

قسم إحياء التراث الإسلامي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

دليل المجلّد الثاني

مقدّمة : في المسائل العلميّة وأقسام الأدلّة ... 7 - 14

المقصد الثالث في الأصل الأوّل من أصول الدين

التوحيد / معناه... 17 - 24

الفصل الأوّل : في وجوده تعالى... 25 - 42

الفصل الثاني : في صفاته تعالى... 43 - 45

المطلب الأوّل : في بيان الصفات الثبوتيّة... 45

المسألة الأولى : في القدرة... 45

المقدّمة الأولى : في تعريف القدرة والإيجاب المقدّمة... 45 _48

الثانية : في بيان القدم والحدوث... 48 - 60

في إثبات القدرة ، بمعنى أنّه تعالى صاحب القدرة... 60 - 77

دلائل النافين لقدرة اللّه والجواب عنها... 77 - 106

في عموم قدرته تعالى... 106 - 113

المسألة الثانية : في علمه تعالى... 113

تعريف العلم ، أقسامه ومراتبه... 114 - 121

علم الواجب تعالى بذاته وبما سواه عين ذاته... 121 - 158

في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء... 158 - 194

في معنى قولهم : إنّه تعالى لا يعلم غيره وإنّه عالم بجميع المخلوقات... 194-205

مباحث متعلّقة بالمقام لتوضيح المرام... 205 - 230

تكميل عرشيّ : في بيان حقيقة الوجود... 230 - 233

تدقيق إلهاميّ : في حديث الصور وحصولها في ذاته تعالى... 233 - 235

في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات المتغيّرة... 235 - 252

ص: 5

المسألة الثالثة : في أنّه تعالى حيّ... 252 - 254

المسألة الرابعة : في إرادته تعالى... 255 - 270

المسألة الخامسة : في سمعه وبصره... 270 - 273

المسألة السادسة : في كلامه تعالى... 273 - 280

المسألة السابعة : في أنّه تعالى صادق... 280 - 283

المسألة الثامنة : في أنّه تعالى قديم أزليّ... 283

المطلب الثاني : في أنّ الأوصاف الثمانية عين الذات... 284 - 290

المطلب الثالث : في بيان الصفات السلبيّة... 290 - 304

في نفي الرؤية عنه تعالى... 304 - 325

المطلب الرابع : في بيان صفات الجمال... 326 - 330

أنّه تعالى واحد من جميع الجهات... 330 - 342

تذنيبان... 342

الأوّل : في فرق الصوفيّة ومذاهبهم... 342 - 350

الثاني : فيما ورد من الأحاديث في التوحيد... 350 - 364

الفصل الثالث : في العدل... 365 - 368

المقام الأوّل : في نفي الظلم عنه تعالى... 368 - 374

المقام الثاني : في حسن أفعاله تعالى... 374 - 393

المقام الثالث : في غاية أفعاله تعالى... 393 - 414

المقام الرابع : في اختيار العباد في أفعالهم... 414 - 452

المقام الخامس : في وجوب اللطف عليه تعالى... 452 - 469

تذنيب : في خلق العالم... 469

الفائدة الاولى : في حدوث العالم وبدء خلقه... 469 - 476

الفائدة الثانية : براهين إبطال التسلسل... 476 - 492

الفائدة الثالثة : في خلق العالم العلوي... 492 - 509

الفائدة الرابعة : في البسائط والعناصر... 509 - 537

الفائدة الخامسة : في المواليد الثلاثة... 537 - 553

ص: 6

مقدّمة : في المسائل العلميّة وأقسام الأدلّة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هو الواجب الوجود بالذات ، المنزّه عن صفات النقص والكدورات ، الذي له صفات الكمال والجمال ، وصفاته الذاتيّة عين الذات ، وهو المتعالي عن مطارح طائر أفكار العقول والتصوّر والتصديق بكمال الذات ، والخارج عن نتائج القياس والاستقراء والتمثيل ، بل الوهم والتخييل إلاّ بالوجوهات ، فيتصوّر التصوّر والتصديق بأنّه الواحد من جميع الجهات ، وأنّه عادل منزّه عن الظلم والقبح وفاعل المحسّنات ؛ للأغراض العائدة إلى العباد ، وهو غاية الغايات ، وخالق الأرضين ومن فيهنّ والسماوات ، وقد خلق العباد مع الاختيار من غير تفويض وإجبار في الشرور والخيرات.

والصلاة والسلام على رسوله المعصوم المبعوث إلى الثقلين مع المعجزات بالشريعة الباقية إلى يوم العرصات ، وعلى آله المعصومين المنصوبين بنصّ بعض الأخبار والآيات ، وكلّ واحد منهم أعلم عصره وأشرف المخلوقات ، وهم الذين تجب مودّتهم وطاعتهم على المؤمنين والمؤمنات ، وهم شفعاؤهم للعفو عن الخطيئات ، ودخول الجنّات والغرفات.

أمّا بعد ، فهذا هو المجلّد الثاني من البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة من تأليف خادم المذهب الجعفريّ من مذاهب الشرع المحمّديّ ، محمّد جعفر الأسترآبادي ، جعل اللّه عواقب أموره خيرا من المبادئ ، وهو المتعلّق ببيان المطلب الكلّي والمقصد الأصلي من مقاصد الكتاب ، الذي هو حياة أرواح الأجساد ،

ص: 7

المتعرّض لمباحث الإلهيّات وما يتعلّق بها من أحوال النبوّة والإمامة والمعاد ، وأسأل اللّه أن يكتبه في صحائف الحسنات ، وأوتى بيميني يوم الحساب ، فأقول : هاؤم اقرءوا كتابيه ، إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه ، لأكون في عيشة راضية ، في جنّة عالية ، قطوفها دانية ، (1) وأدخل في خطاب ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) . (2) وأردت أن أجمع فيه العقائد الحقّة التي أقول في حقّها : هذه سبيلي أدعو إلى اللّه تعالى على بصيرة أنا ومن اتّبعني. (3)

اعلم أوّلا : أنّ المسائل العلميّة على أقسام خمسة :

الأوّل : الإجماعيّة حقيقة أو حكما.

الثاني : الاختلافيّة التي يكون المخالف فيها غير معتنى به.

الثالث : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به ، ولكنّ الثمرة المترتّبة عليها تكون غير معتدّ بها.

الرابع : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به والثمرة معتدّا بها ، ولكن لا يكون الدليل على الخلاف معتمدا عليه.

الخامس : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به والثمرة معتدّا بها ، والدليل على الخلاف معتمدا عليه. وهذا القسم ممّا ينبغي بسط (4) الكلام فيه وإعمال القواعد فيه.

ص: 8


1- من قوله : « هاؤم » إلى هنا اقتباس من الآيات 19 - 23 من سورة الحاقّة (69).
2- الحاقّة (69) : 24.
3- اقتباس من الآية 108 من سورة يوسف (12).
4- إشارة إلى أنّ الاستدلال على وجوه خمسة : الأوّل : الوجه الأخصر بالاكتفاء بالدليل العقلي والنقلي اللبّي كالإجماع والسيرة ونحو ذلك. الثاني : الوجه المختصر بذكر الدليل اللفظي _ مثلا _ وبيان دلالته ودفع الإيراد الوارد عليه. الثالث : الوجه المتوسّط بذكر الدليل اللفظي والفحص عن معارضه وإعمال الترجيح سندا ومتنا ودلالة ومدلولا وخارجا. الرابع : الوجه المبسوط بذكر أقوى الأدلّة مع ملاحظة السند والمتن والدلالة والفحص عن المعارض الأقوى لكنّه على الوجه المذكور. الخامس : الوجه الأبسط بذكر جميع الأدلّة أصلا ومعارضا ، كما أشرنا إليه. ( منه رحمه اللّه).

وثانيا : أنّه لا بدّ في كلّ مسألة استدلاليّة من ملاحظة الموضوع جنسا ونوعا وصنفا ووصفا وشخصا ، وكذا متعلّقه ، وكذا المحمول ومتعلّقه وجهة القضيّة ، وتعيين محلّ الكلام ؛ لئلاّ يصير النزاع لفظيّا ، ولا يحصل الخلط والاشتباه.

وثالثا : أنّه لا بدّ للمخاطب من الإنصات والالتفات والتخلية عن الشبهات والإدراك والإنصاف لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل.

ورابعا : أنّه لا بدّ من إعمال آداب المناظرة بترك الاعتراض عند نقل المذهب إلاّ في صورة الشبهة ، ومعرفة مقام المنع والمناقضة والنقض والحلّ والمعارضة ، بأنّ عدم تسليم مقدّمة معيّنة منع غير محتاج إلى السند ، وعدم التسليم إجمالا نقض إجماليّ ومناقضة تحتاج إلى بيان الخلل بالنقض بوجود مقتضى الدليل فيما لا يقول به المستدلّ ، بل ولا غيره ، والحل بإبطال الدليل ، وأنّ الإتيان بدليل مثبت لخلاف مدّعى المستدلّ يسمّى معارضة صرفة أو مع المنع.

وخامسا : أنّ بعض أفاضل العصر قد أفاد أنّ الأدلّة ثلاثة ، كما قال سبحانه لنبيّه : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) . (1)

فالأوّل دليل الحكمة ، وهو آلة للآية المحكمة ، أي علم التوحيد ، وهو أشرف الأدلّة ؛ ولهذا قدّمه اللّه تعالى ، وهو عبارة عن الدليل الكشفيّ العيانيّ الذي يخبر به المستدلّ بعد معاينة ما أراد اللّه من معاني ألفاظه ، لا مجرّد الألفاظ.

وشروط العلميّة ، منه (2) أن يجمع قلبه على استماع المقصود والتوجّه إليه من غير أن يريد العناد والردّ ؛ لأنّه لو استمع وهو يريد الردّ والعناد ، كان مشتغلا بغير ما هو

ص: 9


1- النحل (16) : 125.
2- كذا في النسخ. والصحيح : « منها ».

بصدده ، فلا يفهم المراد ؛ وأن لا تركن نفسه إلى ما آنست به ؛ فإنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ؛ وأن لا يعتمد على ما عنده من القواعد والضوابط ؛ لئلاّ يرى المرجوح راجحا وبالعكس.

وشرط العمليّة ، منه (1) أن يكون مخلصا لله - عزّ وجلّ - في توحيده وعبادته بحيث لا يكون له غرض إلاّ رضا اللّه في كلّ شيء.

فإذا تمّت له شروط العلم والعمل جميعا على الوجه المطابق للكتاب والسنّة ، حصل له دليل الحكمة الذي لا يعرف اللّه إلاّ به ؛ فإنّه آلة للمعارف الإلهيّة الحقّة ، وبه يعرف الحكماء العقلاء ، والعلماء النبلاء الواجب تعالى ؛ لأنّه الدليل الذوقيّ العيانيّ الذي يلزم منه الضرورة والبداهة بالمستدلّ عليه ؛ لأنّه نوع من المعاينة. وذلك منحصر في إدراك الفؤاد الذي يدرك الشيء مجرّدا عن جميع ما سوى محض وجود الشيء مع قطع النظر عن جميع العوارض الذاتيّة له ، وهو نور اللّه الذي ورد فيه : « أنّ المؤمن ينظر بنور اللّه » (2) وهو على مشاعر الإنسان كالصدر ، والخيال الذي هو محلّ الصور العلميّة ، كلّيّة أو جزئيّة يرفع الجهل ، والقلب الذي هو محلّ المعاني واليقين يرفع الشكّ والريب.

وبالجملة ، فالمراد بالفؤاد في كلام الأئمّة علیهم السلام هو الوجود الذي هو أثر لفعل اللّه ؛ فإنّه لا ينظر إلى نفسه أبدا بل إلى ربّه ؛ لأنّه أثره ، كما أنّ الماهيّة لا تنظر إلى ربّها أبدا بل إلى نفسها.

الثاني : دليل الموعظة الحسنة ، وهو آلة لعلم الطريقة والفريضة العادلة ، أي علم تهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى ، كما إذا قلت : إن اعتقدت أنّ لك صانعا ، فلا شكّ في كونك ناجيا من عقوبته ، وإن لم تعتقد فلا تقطع بنجاتك من عقوبته ،

ص: 10


1- كذا في النسخ. والصحيح : « منها ».
2- « المحاسن » 1 : 223 ، باب ما خلق اللّه تبارك وتعالى المؤمن من نوره ، ح 1.

بل يجوز أن يعذّبك ، فلا يحصل لك القطع بالنجاة إلاّ مع اعتقاد وجوده تعالى.

ومثل هذا لا يحصل به المعرفة ، وإنّما هو بيان طريق السلامة ؛ لأنّه طريق الاحتياط وفيه السلامة والنجاة ، وعلم طريقة السلوك العمليّ الذي هو روح السلوك العلميّ ، وذلك بمعرفة تهذيب الأخلاق ودوام الذكر وملازمة الأعمال والتجنّب عن الأخلاق الذميمة ، كالطمع والحرص والبخل والشحّ والسرف والتبذير والجبن والتهوّر. ومستنده القلب والعقل ، ومثاله قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (1) وأمثال ذلك.

الثالث : دليل المجادلة بالتي هي أحسن ، وهو آلة لعلم الشريعة والسنّة القائمة ، وذلك كما إذا قلت : إن كان في الموجودات قديم ، خالق وليس بمخلوق ، ثبت الواجب تعالى ، وإلاّ فلا بدّ لها من صانع ؛ إذ يستحيل أن توجد نفسها ، أو توجد بغير موجد لها. ومثل هذا لا يحصل به المعرفة الحقّة وإنّما يقطع حجّة المخالف ، بخلاف دليل الحكمة ، كما إذا قلت : إنّ كلّ أثر يشابه صفة مؤثّره ، وأنّه قائم به - أي بفعله - قيام صدور ، كالكلام ؛ فإنّه قائم بالمتكلّم قيام صدور ، وكالأشعّة والصور في المرايا ، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها ؛ لأنّه تعالى لا يظهر بذاته ، وإلاّ لاختلفت حالتاه ، ولا يكون شيء أشدّ ظهورا وحضورا وبيانا من الظاهر في ظهوره ؛ لأنّ الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصّل إلى معرفته إلاّ بظهوره ، مثل القيام والقعود ؛ فإنّ القائم أظهر في القيام من القيام وإن كان لا يمكن التوصّل إليه إلاّ بالقيام ، فتقول : يا قائم ويا قاعد ، فأنت إنّما تعني القائم لا القيام ؛ لأنّه بظهوره لك غيب عنك مشاهدة القيام أصلا ، إلاّ أن تلتفت إلى نفس القيام فيحتجب عنك القائم بالقيام.

فبهذا الاستدلال الذي هو من دليل الحكمة يكون عند العارف أظهر من كلّ

ص: 11


1- فصّلت (41) : 52.

شيء ، كما قال سيّد الشهداء علیه السلام : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ » (1) وتحصل به المعرفة الحقّة ولا تحصل بغيره أصلا.

وبالجملة ، فلا بدّ في هذا الدليل من إقامة البرهان على النحو المقرّر في الميزان من المقدّمات وكيفيّة الدليل ، ولا حاجة إلى التمثيل ؛ لأنّ الكتب مشحونة به ، بل لا نكاد نجد غيره إلاّ نادرا إمّا لضعف المستدلّ أو المستدلّ له أو عليه ، ولكنّ الأوّل أولى ، ثمّ الثاني ثمّ الثالث.

أقول أوّلا : إنّ الظاهر أنّ المراد من الحكمة هي المقالة المحكمة والدليل الموضّح للحقّ ، المزيل للشبهة للخواصّ ؛ فإنّ الحكمة عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر ، فيكون المراد هنا ما يوصل إليه.

مع أنّ الدليل الذوقيّ العيانيّ لو سلّم صحّته في المقام لا يمكن حصوله ظاهرا بالنسبة إلى الطائفة الذين أمر اللّه نبيّه أن يدعوهم به إلى سبيله تعالى.

والمراد من الموعظة الحسنة يمكن أن يكون هو الخطابات المقنعة والعبر النافعة للعوامّ. والمجادلة بالطريقة - التي هي أحسن طرق المجادلة - يمكن أن يراد منها ما يكون مع الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر والمقدّمات الأشهر ، أو ذكر مسلّمات الخصم مع كونها حقّة.

وثانيا : إنّ البرهان الإنّيّ بل كثيرا من الصناعات الخمس خارج عمّا أفاده ، مع أنّه أيضا من أدلّة المعرفة بل هو الغالب ، كما يشهد عليه قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ) (2) وقوله تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (3) ونحو ذلك من الآيات الدالّة على لزوم الاعتبار والاستدلال من المعلول على العلّة ، وقوله علیه السلام :

ص: 12


1- « بحار الأنوار » 95 : 226 ، ح 3.
2- الأعراف (7) : 185.
3- فصلت (41) : 53.

« من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (1) إلى غير ذلك. واحتمال إرادته من الحكمة لو لم يكن أظهر فلا أقلّ من التساوي ، مع أنّ الآية الشريفة لا تقتضي حصر الأدلّة في الثلاثة كما هو المدّعى ظاهرا.

وأيضا الدليل الذوقيّ العيانيّ لو سلّم صحّته سيّما بالنسبة إلى الطائفة المذكورة من أسباب عين اليقين الذي هو من خواصّ المقرّبين ، فيلزم عدم اعتبار ما هو من أسباب علم اليقين الذي هو من وظائف عامّة المؤمنين ؛ فإنّ اليقين له أقسام :

الأوّل : علم اليقين بمراتب شتّى من جهة أسباب العلم على وجه البرهان اللمّيّ أو الإنّيّ أو الحدس أو التجربة أو نحو ذلك ممّا يتفاوت بتفاوت المقدّمات.

الثاني : عين اليقين بمراتبه.

الثالث : حقّ اليقين ، ووظيفة العامّة هو الأوّل ، وأمّا غيره فهو من وظائف الأخيار والمقرّبين.

ومنه ما روي عن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « ويحك كيف أعبد ربّا لم أره؟! » (2) وقوله علیه السلام : « لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا ». (3)

ثمّ اعلم أنّ البرهان الممكن إقامته على إثبات واجب الوجود هو البرهان الإنّيّ الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة ؛ لأنّا نستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة ، ولا يمكن إقامة البرهان اللمّيّ الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ؛ إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.

ص: 13


1- « غوالي اللآلئ » 4 : 102 / 149 ؛ « مصباح الشريعة » : 13 ، الباب 5 ، ونسبه كلّ منهما إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ونسبه الآمدي إلى أمير المؤمنين علیه السلام في « غرر الحكم ودرر الكلم » 2 : 164.
2- انظر « المحاسن » 1 : 373 باب جوامع التوحيد ، ح [817] 219 : « التوحيد » : 109 باب ما جاء في الرؤية ، ح 6 ؛ « الكافي » 1 : 98 باب إبطال الرؤية ، ح 6 ؛ « الإرشاد » 1 : 225 ؛ « الاحتجاج » 1 : 493 / 123.
3- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 47 ؛ « غرر الحكم ودرر الكلم » 2 : 142 ، الفصل 75 ، الرقم 1 ؛ « شرح ابن ميثم البحراني على المائة كلمة لأمير المؤمنين علیه السلام » : 52 ، الكلمة الأولى ؛ « بحار الأنوار » 64 : 321.

وزعم بعض أهل الإشراق إمكان إثباته بالبرهان اللمّيّ بملاحظة حقيقة الوجود. (1)

وهو كما ترى ؛ فإنّ الاستدلال إمّا بحدوث الأجسام والأعراض على وجود الخالق ، وبصفاتها على صفاته - كما عن المتكلّمين - أو بوجود الحركة على محرّك وبامتناع اتّصال الحركات لا إلى نهاية على وجود محرّك أوّل غير متحرّك ووجود مبدأ أوّل - كما عن الحكماء الطبيعيّين - أو بالنظر في الوجود ، وأنّه واجب أو ممكن - كما عن الحكماء الإلهيّين - وكلّ ذلك برهان إنّيّ ؛ لكون الكلّ باعتبار الوجود الخارجيّ المعلوم الذي هو المعلول.

والحاصل : أنّه ينبغي لطالب كلّ علم أن يعرف قبل الشروع فيه أمورا خمسة :

الأوّل : ماهيّته بنفسه ورتبته وشرافته حتّى يكون على بصيرة وشوق في تحصيله ، ولا يخرج حين البحث عن الفنّ.

الثاني : موضوعه ؛ ليكون على بصيرة ، ولئلاّ يبحث عن غيره فيخرج عن الفنّ.

الثالث : محموله ؛ لئلاّ يحمل غيره على ذلك الموضوع فيخرج عن الفنّ.

الرابع : مدركه ؛ لئلاّ يستدلّ بغيره.

الخامس : غرضه وفائدته ؛ ليكون على شوق موجب للاهتمام وعدم صيرورة سعيه عبثا.

فاعلم : أنّه قال المصنّف العلاّمة - أعلى اللّه مقامه - :

ص: 14


1- نسبه المحقّق الخوانساري قدس سره إلى القيل ، كما في « الحاشية على حاشية الخفري على التجريد » : 67.

( المقصد الثالث ): في الأصل الأوّل من أصول الدين

اشارة

[وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في وجوده تعالى

الفصل الثاني : في صفاته تعالى

الفصل الثالث : في العدل]

ص: 15

ص: 16

( المقصد الثالث )

في الأصل الأوّل من أصول الدين

وهو التوحيد الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات في الذات.

اعلم : أنّ التوحيد - بحسب المعنى التصوّري - عبارة عن نسبة المكلّف الواجب الوجود بالذات إلى الوحدة من جميع الجهات :

كالوحدة باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس الذي هو عبارة عمّا به الاشتراك في الذات ، والفصل الذي هو عبارة عمّا به الامتياز.

والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة من المادّة والصورة.

والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة العنصريّة الرئيسة أو غيرها.

والوحدة باعتبار الذات والصفات.

والوحدة باعتبار الأفراد والجزئيّات ، بمعنى أنّه لا شريك له في الذات ، ولا شبيه له في الصفات ، ولا تعدّد ولا تكثّر له في الذات ، ويندرج فيه توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الذات والصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد العبادة.

بيان ذلك : أنّه روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ ووجهان يثبتان فيه. فأمّا

ص: 17

اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّه تشبيه ، عزّ وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود لا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ ». (1)

وقد يقال : مراتب التوحيد عبارة عن نفي استحقاق إله آخر للعبادة ، ونفي وجوده ، ونفي إمكانه ، وإثبات الثلاثة لله تعالى.

وقد يقال : إنّ التوحيد توحيد الأحديّة كما للعصاة ، وتوحيد الفردانيّة كما للولاة.

وقد يقال : إنّه علميّ يظهر بالبرهان ، وعينيّ يثبت بالوجدان ، وحقّي اختصّ بالرحمن.

وقد يقسم إلى القشر ، وقشر القشر ، واللبّ ، ولبّ اللبّ.

والأوّل : كإيمان عموم المسلمين ، وهو التصديق بمعنى الكلمة.

والثاني : كإيمان المنافقين.

والثالث : كإيمان المقرّبين ، وهو بأن يشاهد ذلك بطريق الكشف ، ويرى أشياء كثيرة صادرة من الواحد القهّار.

والرابع : إيمان الصدّيقين ، وهو بأن لا يرى في الوجود إلاّ واحدا حتّى لا يرى نفسه.

وقيل : التوحيد كامل وناقص ، والأوّل أن يعلم أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن

ص: 18


1- « التوحيد » : 83 - 84 ، باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح 3 : « الخصال » : 2 ، باب الواحد ، ح 1 ، وصحّحنا النقل على المصدر.

يكون لذاتين ، والثاني أن يعلم أنّ اللّه سبحانه واجب الوجود فقط.

ويمكن أن يقال : إنّ مراتب التوحيد خمس : توحيد الذات ، وتوحيد الصفات ، وتوحيد الذات والصفات ، وتوحيد الأفعال ، وتوحيد العبادة.

فقوله تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) (1) إشارة إلى توحيد الذات ، وكذا قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (2).

وقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (3) إشارة إلى توحيد الصفات ، وكذا قوله تعالى : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (4).

وقوله علیه السلام : « لم يزل اللّه عزّ وجلّ والعلم ذاته » (5) الحديث ، إشارة إلى توحيد الذات والصفات ، بل توحيد الصفات أيضا.

وقوله تعالى : ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (6) وقوله تعالى : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (7) وقوله تعالى : ( هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) (8) إشارة إلى توحيد الأفعال.

وقوله تعالى : ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (9) إشارة إلى توحيد العبادة.

ومثله ما روي في « الكافي » - في الصحيح - عن هشام بن الحكم أنّه سأل

ص: 19


1- النحل (16) : 51.
2- الإخلاص (112) : 1.
3- الشورى (42) : 11.
4- الإخلاص (112) : 4.
5- « التوحيد » : 139 باب صفات الذات ... ح 1 : « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ، ح 1.
6- فاطر (35) : 3.
7- الرعد (13) : 16.
8- لقمان (31) : 11.
9- الكهف (18) : 110.

أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتقّ؟ فقال : « يا هشام! اللّه مشتقّ من أله وإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أفهمت يا هشام؟ » قال : قلت : زدني ، قال : « لله تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان لكلّ شيء منها إله ولكنّ اللّه تعالى تدلّ عليه هذه الأسماء وكلّها غيره » (1).

كما أنّ التوحيد - كما أشرنا - قد يكون باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس وهو ما به الاشتراك ، والفصل وهو ما به الامتياز ، بمعنى أنّه ليس له أجزاء عقليّة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزائها من المادّة والصورة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة ، مثل العنصريّة الرئيسة وغيرها ، وقد يكون باعتبار الذات والصفات ، وقد يكون باعتبار الأفراد والجزئيّات.

والتوحيد الذاتي يندرج فيه التوحيد الأجزائي بملاحظة الأجزاء العقليّة والخارجيّة بإزائها وغيرها ، والتوحيد الجزئيّاتي ، بمعنى أنّه واحد لا ينقسم أصلا ، ولا شريك له في الذات ، والمتداول بين الناس خصوص التوحيد الذاتي الجزئيّاتي من غير ملاحظة التوحيد الذاتي الأجزائيّ والتوحيد الصفاتي ، والذاتي والصفاتي والأفعالي والعباداتي ، مع أنّ الجمع مهما أمكن أولى.

وبحسب (2) المعنى التصديقي عبارة عن الاعتقاد مع الإقرار بأنّ اللّه - الذي هو الواجب الوجود بالذات ، وصاحب جميع الصفات من صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص ؛ لكونه صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة كوجوده ، ووجوبه عين الذات - واحد من جميع الجهات لا تكثّر فيه ، ولا شريك له في الذات ،

ص: 20


1- « الكافي » 1 : 87 باب المعبود ، ح 2 و: 114 باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح 2 ، بتفاوت يسير.
2- مرّ التوحيد بحسب المعنى التصوّري في ص 17.

ولا كفو ولا شبه له في الصفات ، بمعنى أنّ المكلّف لا بدّ أن يعتقد أنّ اللّه تعالى موجود بوجود هو عين ذاته ؛ لأنّه موجد للعالم وللآثار الممكنة التي لا تحدث بنفسها ، بل تحتاج إلى مؤثّر غير متأثّر ولو بواسطة ، فيكون وجوده ضروريّا بالذات ؛ لضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، وعدمه ممتنعا بالذات ؛ لامتناع اجتماع الضدّين.

وأنّه تعالى قديم بذاته بمقتضى وجوب وجوده ؛ إذ لولاه لكان حادثا محتاجا إلى محدث.

وأنّه تعالى أبديّ يمتنع عليه العدم كما يقتضيه القدم وعينيّة الوجود المعلومة من وجوب الوجود وعدم جواز الاحتياج إلى الغير.

وأنّه تعالى حيّ بشهادة حياة المصنوعات بالحياة القديمة التي هي عين الذات ؛ لئلاّ يلزم الاحتياج وتعدّد القدماء. (1)

وأنّه تعالى عالم بالعلم القديم الذاتي ؛ لمثل ما مرّ.

وأنّه تعالى قادر ، مختار ، غنيّ مطلق يحتاج إليه ما سواه ؛ لأنّه خلق الاختيار وأخّر بعض المختار ، مع أنّ العجز مستلزم للاحتياج المستلزم للحدوث.

وأنّه تعالى سميع ، بصير ، مريد ، متكلّم ، صادق ؛ لمثل ما مرّ.

وأنّه تعالى ليس بجسم ولا مركّب ولا مرئيّ ولا محلّ ولا حالّ ولا صاحب نحو ذلك من الأحوال.

وبالجملة ، فلا بدّ أوّلا من معرفة اللّه بخمس صفات :

الأولى : أنّه خالق العالم والممكنات ؛ لشهادة السماوات والأرض وما فيهما من البسائط والمركّبات.

الثانية : أنّه واجب الوجود بالذات ، بمعنى أنّ الوجود - بمعنى منشأ الأثر - لكونه عين ذاته تعالى لازم وضرور لذاته ؛ للزوم ثبوت الشيء لنفسه وكون نفس الذات

ص: 21


1- هذا تعريض بمذهب الأشاعرة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشته.

علّة لإثبات الوجود له ، لا علّة للثبوت ليلزم معلوليّة الذات ، فيلزمه ضرورة الوجود بمعنى الكون والتحقّق - المعبّر عنه في الفارسيّة ب- « بودن » و « هستى » - لذاته واستحالة العدم عليه ؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه.

الثالثة : أنّه صاحب صفات الكمال والجمال.

الرابعة : أنّه تعالى منزّه عن صفات النقص وله الجلال.

الخامسة : أنّ صفاته الذاتيّة عين ذاته.

وثانيا من معرفة جهات التوحيد ، أعني التوحيد الذاتي والصفاتي وغيرهما ، فهذا الأصل مشتمل على خمسة اعتقادات :

الأوّل : أنّ العالم له صانع واجب الوجود بالذات ، فهو من أصول الدين ، ومنكره كالدهري من الكافرين.

الثاني : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات صاحب الصفات لا نائب الصفات ، وهو من أصول المذهب أو كماله ، ومنكره - كبعض (1) أرباب المعقول أو المنقول - ناقص المذهب.

الثالث : أنّ الصانع الواجب بالذات - الذي هو صاحب جميع صفات الكمال والجمال - منزّه عن صفات النقص كالتجسّم والحلول ؛ لكونه صاحب الجلال ، وهو أيضا من أصول الدين من وجه ، والمذهب من وجه آخر ، ومنكره - كالمجسّمة والحلوليّة وأمثالهم - خارج عن الدين أو المذهب.

ومن جملة النقائص ما يحكى عن النصارى أنّ اللّه والد ومولود وروح القدس وشفيع ، وهو يتجلّى ودخل في رحم مريم وخرج إلى الدنيا وصلب وقتل ودفن ، ثمّ رجع إلى الدنيا بعد ثلاثة أيّام وغاص في جهنّم لنجاة أرواح الأنبياء والمؤمنين ، ثمّ صعد إلى السماء ، ثمّ ينزل إلى الدنيا لإيصال الثواب إلى الأخيار والعقاب

ص: 22


1- هم المعتزلة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشة.

إلى الفجّار.

الرابع : أنّ الصفات الذاتيّة - كالحياة والعلم والقدرة - عين الذات ، وهو أيضا من أصول المذهب ، ومنكره كالأشاعرة خارج عن المذهب.

الخامس : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات - الذي هو صاحب صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص وهو صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة عين ذاته تعالى - واحد من جميع الجهات ، لا تكثّر في ذاته ، لا شريك له في الذات ، ولا كفو ولا شبيه له في الصفات.

وهو أيضا من أصول الدين ، ومنكره كالمشركين من الكافرين ، فليكن الكلام في هذا الأصل - بل في كلّ أصل من الأصول - في خمسة فصول ، وبعد كلّ فصل وصل لبيان ما يترتّب على الاعتقاد المذكور في ذلك الفصل وجودا وعدما.

وليكن الكلام قبل الشروع في إثبات التوحيد ( في إثبات الصانع ) أي صانع العالم ، على أنّ اللام عوض عن المضاف إليه ، أو مغن عن الإضافة ، أو على أنّه الفرد الكامل المنصرف إليه اللفظ المطلق.

والظاهر أنّ وجه اختياره هو الإشارة إلى أنّ البرهان الممكن - إقامته عليه إنّما هو البرهان الإنّي - الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة - ؛ لأنّه يستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة بملاحظة الصنع والإبداع والتكوين. ولا يمكن إقامة البرهان اللمّي الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ولو بملاحظة إمكان العالم أو طبيعة الوجود كما عن الحكماء (1) - إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.

ص: 23


1- انظر « الشفاء » الإلهيات : 327 - 331 ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 22 ؛ « النجاة » : 235 ؛ « المعتبر في الحكمة » 3 : 26 - 27 ؛ « المطالب العالية » 1 : 72 - 73 ؛ « المحصّل » 342 وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 20 - 28 ؛ « مناهج اليقين » : 158 ؛ « النافع يوم الحشر » : 8 - 9 ؛ « إرشاد الطالبين » : 176 - 179 ؛ « شرح المواقف » 8 : 5 ؛ « شرح المقاصد » 6 : 15 - 16 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 26 ؛ « شرح الهداية الأثيرية » لملاّ صدرا : 15 - 17 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 494.

وما يقال - [ من ] (1) أنّ كون العالم مصنوعا علّة لكون الواجب صانعا أي لهذا الوجود الرابطي لا الأصل - فاسد ؛ لكون الأمر بالعكس ، كما لا يخفى.

نعم ، هو علّة في الإثبات لا الثبوت (2) وليس الوجه دفع ورود الاعتراض على ذكر « الواجب » بأنّ ما هو واجب فهو موجود بالضرورة ، فلا حاجة إلى إثباته ؛ (3) إذ (4) ليس المراد من الواجب ما هو كذلك في نفس الأمر ، بل ما فرض كونه كذلك ، فيكون المقصود إثبات أنّ لهذا المفهوم فردا في الخارج ، وليس كالمفهومات الفرضيّة التي لا تحقّق لها فيه. ولا شكّ أنّ هذا ليس بديهيّا ، بل يحتاج إلى البرهان في إثباته.

( و ) في إثبات ( صفاته ) الثبوتيّة الحقيقيّة التي هي عين الذات ( وآثاره ) المترتّبة عليه في مقام الفعل كالصفات الإضافيّة ( وفيه فصول ) :

ص: 24


1- انظر « شوارق الإلهام » 2 : 499.
2- أي وجه اختيار كلمة « الصانع » دون « واجب الوجود » مثلا.
3- انظر « شوارق الإلهام » 2 : 494.
4- هذا تعليل لقوله : « وليس الوجه ».

( الفصل الأوّل : في وجوده )

اشارة

أي في بيان أنّ الواجب الوجود بالذات ، الصانع للممكنات له فرد موجود في الخارج ، بمعنى أنّ للعالم صانعا واجب الوجود بالذات ؛ ردّا على من قال : (1) إنّ موجده الدهر أو الطبيعة من جهة توهّم كفاية الأولويّة الذاتيّة.

وذلك بأن يقال : لا شكّ في وجود فرد من أفراد الموجود المعلوم وجودها بديهة ، فذلك الفرد ( الموجود إن كان واجبا فهو المطلوب ) وهو أنّ واجب الوجود موجود ( وإلاّ ) يكن ذلك الموجود واجبا ، بل كان ممكنا ( استلزمه ) أي استلزم وجود ذلك الممكن وجود واجب الوجود ؛ لأنّ له حينئذ مؤثّرا لا محالة ؛ لأنّ الإمكان يوجب افتقار الممكن إلى العلّة ؛ لأنّ الممكن ما يتساوى طرفاه ، وتحقّق أحد المتساويين لا بدّ له أن يرجّح بمرجّح ، وذلك المرجّح هو المراد بالعلّة.

لا يقال : (2) لعلّ أحد طرفي الممكن كان له أولويّة ذاتيّة توجب تحقّقه من غير

ص: 25


1- هم الدهرية. انظر « أصول الدين » للبغدادي : 69 ؛ « الملل والنحل » للشهرستاني 2 : 235 ؛ « شرح المقاصد » 5 : 227 ؛ « الفصل في الملل والأهواء والنحل » 1 :1. 55 ؛ « كشاف اصطلاحات الفنون » 1 : 800 ؛ « الحكمة المتعالية » 7 : 111.
2- لمزيد الاطّلاع انظر « الأربعين في أصول الدين » 1 : 103 وما بعدها ؛ « المحصّل » : 344 وما بعدها ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : 84 - 85.

احتياج إلى العلّة ، فيكون العالم مستغنيا عن المؤثّر.

لأنّا نقول : لو فرضنا أنّ للممكن أولويّة ذاتيّة ، بمعنى كون الذات كافية فيها ، وفرضنا كون تلك الأولويّة كافية في وقوع أحد طرفيه ، يلزم إمّا أن لا تكون الأولويّة أولويّة بل وجوبا فيلزم الانقلاب ، وإمّا أن لا تكون ذاتيّة وحينئذ فكون الأولويّة أولويّة ذاتية غير متصوّر.

بيان الملازمة : أنّه لو تحقّق أحد الطرفين لتلك الأولويّة ، فإن لم يمكن تحقّق الآخر ، كان ذلك الآخر ممتنعا والطرف الراجح واجبا ، فيلزم الأمر الأوّل. وإن أمكن تحقّقه ، فإمّا أن يكون ذلك الإمكان بلا سبب ، فيلزم ترجيح المرجوح بلا سبب ، وهو أقبح من ترجّح أحد المتساويين بلا سبب ، أو بسبب فإمّا أن لا يقتضي أولويّة ذلك الآخر ، فلم يكن السبب سببا ، أو يقتضيها ، فيلزم مرجوحيّة الطرف الأوّل لذاته ، فلم تكن الأولويّة أولويّة ذاتيّة ؛ لامتناع زوال ما بالذات ، فيلزم الأمر الثاني.

على أنّه لو أمكن تحقّق ذلك الآخر ، لكان تحقّق غيره مع إمكان تحقّقه ترجيحا بلا مرجّح.

وأيضا كون الأولويّة ذاتيّة ومستندة إليها ومنسوبة إليها قبلها غير متصوّر ؛ إذ لا معنى لنسبة الشيء إلى شيء وكونه مقتضاه قبله ، وكونها بعده يستلزم استناده إلى علّة واجبة والاستغناء عن غيرها ولو كان « أولى » من الأولويّة ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين تفسير الأولويّة الذاتيّة باقتضاء ذات الممكن رجحان أحد الطرفين اقتضاء غير بالغ حدّ الوجوب ، أو كون أحد طرفي الممكن أليق بالنسبة إلى الذات لياقة غير بالغة حدّ الوجوب ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فتلك العلّة إن كانت ممكنة تكون محتاجة إلى علّة أخرى ، وتلك الأخرى إن كانت عين الأولى يلزم الدور المصرّح ، وإن كانت غيرها وكانت ممكنة تكون محتاجة إلى أخرى وهكذا ، فإمّا أن تنتهي السلسلة إلى الواجب ، أو ترجع ، أو

ص: 26

تذهب إلى غير النهاية على وجه الدور والتسلسل ؛ ولا سبيل إلى الثاني ؛ ( لاستحالة الدور والتسلسل ) ببرهان التطبيق ونحوه كما تقدّم ، فيلزم الانتهاء إلى الواجب ، فيثبت وجود الواجب الوجود وهو المطلوب.

قال المحقّق الخفري في تعليقاته على شرح الفاضل القوشجي على إلهيّات التجريد : « اختار المصنّف قدس سره في إثبات الواجب منهج الحكماء الإلهيّين ، وهو الذي يستدلّ فيه بالنظر إلى الوجود ؛ لأنّه أخصر وأوثق وأشرف من المنهج الذي اعتبر فيه حدوث الخلق ، أو إمكانه بشرط الحدوث - كما هو طريقة بعض (1) المتكلّمين - أو الحركة ، كما هو طريقة الطبيعيّين.

بيان ذلك : أنّ لأرباب العقول في إثبات الواجب مناهج ، (2)

كما أشرنا إليه : الأوّل : منهج الحكماء الإلهيّين ، وهو الذي يستدلّ فيه بالنظر إلى الوجود بملاحظة طبيعة الوجود بما هو وجود من غير نظر إلى الخصوصيّات ، فالاستدلال باللوازم المنتزعة عن حاقّ الملزوم.

الثاني : منهج جماعة من المتكلّمين ، وهو الذي اعتبر فيه حدوث الخلق المتوقّف على إثبات حدوث العالم ، بأن يقال : إنّ العالم حادث ؛ للدلائل الدالّة عليه ، فلا بدّ من محدث ، ويجب الانتهاء إلى محدث غير حادث ؛ دفعا للدور والتسلسل ، وهو الواجب تعالى ، فيثبت المطلوب.

الثالث : منهج طائفة أخرى منهم ، وهو الذي اعتبر فيه الإمكان بشرط الحدوث.

ص: 27


1- مراده طائفة من المتكلّمين ، كما سيذكر ذلك في المنهج الثالث.
2- المعروف أنّ أرسطو سلك منهج الحكماء الطبيعيّين وابن سينا سلك منهج الحكماء الإلهيّين. ولمزيد المعرفة عن المناهج الأربعة انظر « الشفاء » الإلهيات :2. 331 ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 22 و 34 - 38 ؛ « النجاة » : 235 ؛ « المعتبر في الحكمة » 3 : 22 - 27 ؛ « المطالب العالية » 1 : 72 ؛ « المحصل » : 342 وما بعدها ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 467 - 471 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 20 - 28 ؛ « مناهج اليقين » : 158 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 15 - 24 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 12 - 48 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 494 - 500.

وتقريره مثل ما مرّ.

الرابع : منهج الحكماء الطبيعيّين ، وهو الذي يكون النظر فيه إلى طبيعة الحركة ، بأن يقال : لا شكّ في وجود متحرّك ، ولا بدّ له من محرّك غير ذاته ؛ إذ حركته أمر ممكن لا بدّ له من علّة لا محالة ، فيجب الانتهاء إلى محرّك غير متحرّك أصلا ؛ دفعا للدور أو التسلسل ، وهو الواجب.

أو يقال : إنّ النفس الناطقة خارجة في كمالاتها من القوّة إلى الفعل ، فلا بدّ لها من مخرج ، ويجب الانتهاء إلى مخرج غير مخرج ؛ دفعا للدور أو التسلسل ، وهو الواجب تعالى.

والمنهج الأوّل أخصر ؛ لكونه أقلّ مقدّمة وأوثق ؛ لكونه أشبه بالبرهان اللمّي ، بل قيل : (1) إنّه برهان لمّي ؛ إذ هو استدلال بحال مفهوم « الموجود » (2) على أنّ بعض الموجود (3) واجب ، لا على ذات الواجب في نفسه ، وكون طبيعة الوجود مشتملة على فرد وهو الواجب لذاته ، وهي حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للأولى ، وأشرف المناهج ؛ إذ الوجود منبع كلّ شرافة ، وموجب كلّ إنافة ». (4)

ثمّ قال : « ويمكن تقرير هذا الدليل بوجوه أربعة :

أحدها : أنّ للموجود أفرادا بالبديهة ، فإن كان واحد منها واجب الوجود بالذات ثبت المطلوب. وإن كان كلّها ممكنا فله مؤثّر موجود بالضرورة ، ولزم الانتهاء إلى الواجب ؛ لاستحالة الدور والتسلسل.

ص: 28


1- قال به العلاّمة الحلّي قدس سره في « كشف المراد » : 280 والفاضل السيوري في « إرشاد الطالبين » : 177 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 71 ، ونسبه اللاهيجي إلى القيل في « شوارق الإلهام » 2 : 498.
2- في « أ » : « الوجود » بدل « الموجود ».
3- في « أ » : « الوجود » بدل « الموجود ».
4- الإنافة من نوف : الارتفاع.

وثانيها : أن يقال في الشقّ الثاني : إن لم يتحقّق في أفراد الموجود واجب الوجود لزم الدور أو التسلسل.

وثالثها : أن يقال فيه : إن لم يتحقّق واجب الوجود في أفراد الموجود لزم أن يتحقّق فيها ؛ لاستحالة الدور والتسلسل.

ويمكن حمل كلام المصنّف على هذا.

ورابعها : ما قرّر الشارح ، (1) وهو أحد احتمالي عبارة المصنّف ». (2) انتهى.

والفرق بين الوجوه يظهر بالتأمّل.

ويمكن الاستدلال بوجه آخر ، وهو أن يقال : مجموع الموجودات في حال وجوده واجب ؛ لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ؛ وذلك لأنّ الأولويّة الذاتيّة غير متصوّرة كما سبق ، فلا تكون سببا للوجود ، والأولويّة الناشئة من العلّة الخارجة عن ذات الممكن وإن كانت متصوّرة ؛ لعدم لزوم شيء ممّا لزم على الأولويّة الذاتيّة لكنّها غير كافية في الوجود ؛ لأنّها إن جعلت الطرف المقابل للأولى محالا ممتنع الوقوع لم تكن أولويّة خارجيّة بل وجوبا بالغير ، وإلاّ فيمكن مع تلك الأولويّة وقوع الطرف المقابل كما يمكن وقوع الطرف الأوّل ، فالوقوع مع تلك الأولويّة واللاوقوع معها متساويان ، فلو فرض وقوع أحدهما يلزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجّح وهو باطل ، فيلزم وجوبه.

ولأنّ الموجود في حال وجوده لو لم يكن واجبا فإمّا أن يكون ممتنعا أو ممكنا ، والامتناع ممتنع ؛ لوجوده ، وكذا الإمكان غير ممكن ؛ لأنّ معناه صلاحية وجوده مع عدمه وقد فرضناه موجودا ، وهذا خلف ، فتعيّن وجوبه.

ولأنّ الموجود لا يوجد إلاّ بعد تحقّق جميع الدواعي ، وارتفاع جميع الموانع ،

ص: 29


1- مراده الفاضل القوشجي. انظر « شرح تجريد العقائد » : 310.
2- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 3 ، مخطوط.

كما لا يخفى ، وحينئذ يكون وجوده واجبا ، فذلك الوجوب إمّا في جميعها بالذات ، أو في جميعها بالغير ، أو في بعضها بالذات وفي بعض آخر بالغير.

لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّه - مع استلزامه لمطلوبنا ، وهو وجود الواجب بالذات - مستلزم لتعدّد الواجب بالذات أيضا وهو باطل ؛ لما سيأتي ، ولا إلى الثاني ؛ للزوم الدور أو التسلسل ؛ فتعيّن الثالث ، فثبت أنّ واجب الوجود موجود.

وقد استدلّ عليه ببراهين أخر (1) أيضا :

منها : أنّ الموجودات لو كانت منحصرة في الممكنات الصرفة لزم الدور ؛ لأنّها في حكم ممكن واحد في إمكان انعدامها بدلا عن وجودها ؛ وذلك لأنّه وإن امتنع عدم كلّ منها بسبب علّة لكن لا شكّ في إمكان عدمه مع عدم علّته ؛ لكونها أيضا من الممكنات على هذا التقدير ، فتحقّق موجود ما يتوقّف على إيجاد ما ؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقّق بالإيجاد ، وتحقّق إيجاد ما أيضا يتوقّف على تحقّق موجود ما ؛ إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد ، وليس موجود على هذا التقدير غير ما توقّف على ذلك الإيجاد ، فيلزم الدور ، فلا بدّ من موجود غير ممكن لا يحتاج في وجوده إلى إيجاد ، فيصدر منه إيجاد الممكنات وهو واجب الوجود ، فثبت وجود الواجب. كذا ذكره المحقّق الخفري في التعليقات المشار إليها. (2)

ومنها : أنّه لو لم يكن واجب الوجود بالذات موجودا ، لم يكن شيء من الممكنات موجودا ولو لم يستحل الدور والتسلسل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ مجموع الممكنات إمّا موجود حقيقي بكونه معروضا لجهة

ص: 30


1- انظر « المطالب العالية » 1 : 249 - 278 ؛ « المحصّل » : 342 - 352 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 468 - 471 ؛ « مجموعة مصنفات شيخ الإشراق » 1 : 33 - 39 ؛ « إرشاد الطالبين » : 177 - 179 ؛ « شرح المواقف » 8 : 2 - 12 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 17 - 24 ؛ « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 3 ، مخطوط ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 165 - 186 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 499 - 500.
2- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 3 ، مخطوط.

الوحدة حقيقة كالبيت والسرير ، أو موجود اعتباري معروض لجهة الوحدة الاعتبارية كالعسكر.

وعلى الأوّل يكون المجموع أيضا ممكنا آخر بحسب الخارج لا واجبا سيّما على تقدير عدم الواجب كما هو المفروض ، فيحتاج إلى علّة مرجّحة للوجود على العدم ، والمفروض عدم الواجب ، فلا يكون الواجب علّته مع امتناع كون نفس المجموع أو بعضه علّة ؛ لامتناع كون الشيء علّة لنفسه بديهة ، فيكون المجموع بلا علّة ، ويمتنع وجود الممكن بلا علّة ، فيلزم عدم المجموع.

وعلى الثاني فإن أمكن عدم المجموع لزم إمكان عدم آحاده ، فوجوبها - الذي لا يمكن وجودها إلاّ به - محتاج إلى علّة منتفية وإن لم يمكن لزم وجود واحد يكون علّة للكلّ حتّى لنفسه وهو الواجب ، والمفروض عدمه ، فيلزم عدم الممكنات بأسرها ، وهو خلاف البديهة.

ومنها : برهان التضايف :

وتقريره : أنّه إذا تسلسلت العلل ولم يكن في الوجود واجب الوجود ، فكلّ واحد واحد ممّا هو فوق المعلول الأخير متّصف بالعلّيّة بالقياس إلى ما تحته ، وبالمعلوليّة بالقياس إلى ما فوقه ، فجميع ما فوق المعلول الأخير متّصف بالعلّيّة والمعلوليّة معا ، والمعلول الأخير متّصف بالمعلوليّة فقط ، فيلزم زيادة عدد المعلوليّة على عدد العلّيّة بواحد وهو محال ؛ لأنّ المتضايفين الحقيقيّين يجب تكافؤهما في الوجود ، فيلزم أن يكون في الوجود موجود متّصف بالعلّيّة فقط ليستقيم التكافؤ الواجب بين عدد العلّيّات والمعلوليّات ، والأمر المتّصف بالعلّيّة دون المعلوليّة باعتبار وجوده في نفسه هو الواجب بالذات ؛ بناء على أنّ العقل يحكم بأنّه يمتنع زيادة عدد أحد المتضايفين على عدد الآخر ، كما يحكم بأنّه يمتنع تحقّق أحد المتضايفين بدون الآخر ولو كان بملاحظة إجماليّة.

ومنها : أنّه ليس للموجود المطلق - من حيث هو موجود - مبدأ يكون مبدأ

ص: 31

لجميع أفراده ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ لأنّه لكونه من جملة الموجودات التي هو مبدأ لها يكون مبدأ لنفسه أيضا ، والممكن من حيث هو لا بدّ له من مبدأ يكون مبدأ لجميع أفراده ؛ لكونها في حكم ممكن واحد محتاج إلى العلّة كما سبق ، فلا يمكن إيجاد أفراد الموجود المطلق وأفراد الممكن ، فلا بدّ من وجود فرد للموجود المطلق غير الممكن وهو الواجب ، فيثبت وجود الواجب بالذات. كذا ذكره المحقّق الخفري. وقال : « وهذا حقيق بأن يكون طريقة الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ لا عليه ». (1)

ومنها : أنّ كلّ عاقل يحكم بملاحظة ما سبق أنّ جميع الممكنات لا بدّ لها من علّة بالذات ، أي علّة يكون جميع أجزائها متأخّرا عنها ، محتاجا إليها ، وظاهر أنّه إذا كان جزء من أجزاء الممكنات علّة لها بهذا المعنى يلزم تقدّمه على نفسه وعلى علله ، فيجب أن يكون لها علّة خارجة عنها ، وهو الواجب بالذات.

ومنها : أنّه لو لم يتحقّق الواجب ، لم يتحقّق شيء من الممكنات ؛ إذ لا شيء من الممكنات مستقلّ بنفسه لا في الوجود - كما هو الظاهر - ولا في الإيجاد ؛ إذ المستقلّ بإيجاد شيء هو ما يمتنع بسببه جميع أنحاء عدم ذلك الشيء ، ولا شيء من الممكنات كذلك ؛ لأنّها لجواز عدمها لا يتصوّر كون شيء منها سببا لامتناع عدم شيء آخر ؛ إذ لا وجود ولا إيجاد ، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّ الممكن الكلّي الموجود في ضمن مصداقه (2) بالبديهة - بناء على بداهة وجود الكلّي الطبيعي بمشاهدة انتزاع العقل من المصاديق شيئا مشتركا فيه بالعيان وكون الممكن الكلّي كلّيا طبيعيّا بالنسبة إلى مصاديقه مع كفاية الجوهر الممكن

ص: 32


1- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 3 ، مخطوط.
2- المراد أنّ الممكن ما لا يجب لذاته ، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود لذاته ، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود ، فلا بدّ من واجب لذاته ، فقد ثبت واجب الوجود لذاته. وهذه طريقة حسنة مستقيمة خفيفة المئونة مبنيّة على أنّ الشيء ما لم يجب ولم تمتنع جميع أنحاء عدمه لم يوجد. ( منه رحمه اللّه ).

الذي هو جنس الأجناس - لا بدّ له من موجد موجود خارج ؛ حذرا عن الترجيح بلا مرجّح ونحوه وهو الواجب ؛ لانحصار المفهوم في الواجب والممكن والممتنع ، وحيث امتنع كون الممتنع موجدا ؛ لعدم وجوده ، وامتنع كون نفس الممكن علّة ؛ لئلاّ يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، أو تحصيل الحاصل ، أو كونه بلا علّة ؛ لما مرّ ، مضافا إلى [ أنّ ] الممكن ما تساوى نسبة الوجود والعدم إلى ذاته ، بمعنى عدم اقتضاء ذات الممكن شيئا منهما حتّى لا يرد عدم تصوّر نسبة شيء إلى المعدوم ، وعدم تصوّر ترجّح أحدهما مع اقتضاء الذات التساوي تعيّن (1) كون موجده هو الواجب بالذات ، فثبت وجوده وهو المطلوب. هذا ما يتعلّق ببيان البراهين العقليّة.

الأدلّة النقليّة

وأمّا ذكر الأدلّة النقليّة ليجتمع البحران ، ويطابق العقل مع النقل سيّما القرآن ، فيتوقّف على ملاحظة الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب ففيه آيات كثيرة :

منها : قوله تعالى : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (2) الآية.

ومنها : قوله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) . (3)

ومنها : قوله تعالى : ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) . (4)

ومنها : قوله تعالى : ( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) . (5)

ومنها : قوله تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ

ص: 33


1- جواب لقوله آنفا : « وحيث امتنع ... ».
2- إبراهيم (14) : 32.
3- لقمان (31) : 25 ؛ الزمر (39) : 38.
4- النحل (16) : 4.
5- النحل (16) : 5.

أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . (1) بيان :

قال الطبرسي في جوامع الجامع : « والمعنى أنّ الموعود - من إظهار آيات اللّه في الآفاق وفي أنفسهم - سيرونه ويشاهدونه ، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كلّ شيء شهيد ، أي مطّلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلا على أنّه حقّ ، وأنّه من عنده ». (2)

والظاهر أنّ المراد الاستدلال بالحقّ - الشاهد على كلّ شيء - على وجوده ، بمعنى أنّ آثار وجوده تعالى متحقّقة في الأنفس والآفاق من جهة ملاحظة أصل الوجود واختلاف الألسنة والألوان والحجم والاستحكام وأمثال ذلك من الآثار الممكنة المحتاجة إلى المدبّر القادر العالم الحكيم ، فبعد ملاحظتها يظهر أنّ الواجب الوجود بالذات موجود حقّ ، فبمشاهدة الأثر يحكم بوجود المؤثّر ، وبملاحظة أنّ وجود الأثر مستند إلى وجود المؤثّر يدرك وجود الحقّ في كلّ شيء حتّى كأنّه مشاهد ، فيكفي مشاهدته في الحكم بوجوده تعالى على وجه أجلى وأحلى وأعلى وأغلى وأولى ؛ لأنّه برهان إنّيّ كالبرهان اللمّيّ.

وتوهّم (3) أنّ المراد أنّه استدلال بالحقّ على الحقّ على وجه الحقيقة فاسد ؛ لأنّه يتمّ على مذهب من يقول بوحدة الوجود ، كما لا يخفى ، وهو كفر وزندقة.

ص: 34


1- فصلت (41) : 53.
2- « جوامع الجامع » : 426.
3- هذا تعريض من الأسترآباديّ ; بطريقة العرفاء ، وليس مرادهم ما فهمه هو ، بل طريقتهم معضدة بعدّة من الروايات. انظر في ذلك « التوحيد » باب التوحيد ونفي التشبيه :3. 58 / 15 وباب صفات الذات ... : 143 / 7 حول هذا المبحث راجع « الفتوحات المكّيّة » 11 : 343 ؛ 4 : 37 ؛ « شرح فصوص الحكم » للقيصريّ : 388 و 505 ؛ « التأويلات » للكاشانيّ 2 : 422 ؛ « جامع الأسرار » : 105 وما بعدها ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 135 ؛ 3 : 396 ؛ 5 : 27 ؛ 6 :3. 26 ؛ 9 : 374 - 376 ؛ « شرح المشاعر » : 369 وما بعدها ؛ « شرح الأسماء الحسنى » للسبزواريّ : 436 - 439 ؛ « روح البيان » 8 : 484.

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على وجود الصانع من باب البرهان الإنّي ، البالغة إلى أربع وسبعين آية على ما عددتها.

وأمّا السنّة :

فمنها : ما روي عن هشام بن الحكم أنّه قال : كان من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد اللّه علیه السلام أن قال : ما الدليل على صانع العالم؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها ، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ ، علمت أنّ له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده؟ ».

قال : وما هو؟ قال : « شيء بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي : « شيء » إلى إثباته ، وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يجسّ ولا يحسّ ، ولا يدرك بالحواسّ الخمس ، ولا تدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا يغيّره الزمان ».

قال السائل : فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد منّا مرتفعا ؛ فإنّا لم نكلّف أن (1) نعتقد غير موهوم ، لكنّا نقول : كلّ موهوم بالحواسّ مدرك بما تحدّه الحواسّ ممثّلا ، فهو مخلوق ، ولا بدّ من إثبات صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين ، إحداهما : النفي ؛ إذ كان النفي هو الإبطال والعدم. والجهة الثانية : التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بدّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه أنّهم مصنوعون وأنّ صانعهم غيرهم وليس مثلهم ؛ إذ لو كان مثلهم لكان شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف ، وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا ، وتقلّبهم من صغر إلى كبر ، وسواد إلى بياض ، وقوّة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها ».

قال السائل : فأنت قد حدّدته إذا أثبتّ وجوده. قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لم أحدّده

ص: 35


1- في « د » : « لم نكلّف إلاّ أن نعتقد غير موهوم ».

ولكن أثبتّه ؛ إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة ».

قال السائل : فقوله : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (1)؟ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له ، ولا أنّ العرش حاو له ، ولا أنّ العرش محلّ له ، لكنّا نقول : هو حامل للعرش وممسك للعرش ، ونقول في ذلك ما قال : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (2) فثبّتنا من العرش والكرسيّ ما ثبّته ، ونفينا أن يكون العرش والكرسيّ حاويا له ، وأن يكون - جلّ وعزّ - محتاجا إلى مكان أو إلى شيء ممّا خلق ، بل خلقه محتاجون إليه ».

قال السائل : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنّه عزّ وجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ؛ لأنّه جعله معدن الرزق ، فثبّتنا ما ثبّته القرآن والأخبار عن الرسول صلی اللّه علیه و آله حين قال : ارفعوا أيديكم إلى اللّه عزّ وجلّ ». (3) وهذا تجمع عليه فرق الأمّة كلّها.

بيان :

المراد بالشيئيّة ما يساوق الوجود ، أو نفسه ، والمراد بيان عينيّة الوجود ، أو قطع لطمع السائل عن تعقّل كنهه ، بل لا يعقل إلاّ بأنّه شيء ، وأنّه بخلاف الأشياء.

و « الجسّ » كما قيل بالجيم : المسّ.

قوله : « فإنّا لم نجد موهوما إلاّ مخلوقا » أي يلزم ممّا ذكرت أنّه لا تدركه

ص: 36


1- طه (20) : 5.
2- البقرة (2) : 255.
3- « التوحيد » : 243 - 350 ، الباب 26 في الردّ على الثنويّة والزنادقة ؛ « الاحتجاج » 2 : 197 ، احتجاجات الإمام الصادق علیه السلام ، ح 213 ، وقد أخذ المؤلّف موضع الحاجة منه.

الأوهام ؛ إذ كلّ ما يحصل في الوهم فهو مخلوق ، فأجاب علیه السلام بأنّه تعالى لا تدرك كنه حقيقته العقول والأوهام ، ولا يتمثّل أيضا في الحواسّ ؛ إذ هو مستلزم للتشبيه بالمخلوقين ، ولو كان كما توهّمت - من أنّه لا يمكن تصوّره بوجه من الوجوه - لكان تكليفنا بالتصديق بوجوده وتوحيده وسائر صفاته تكليفا بالمحال ؛ إذ لا يمكن التصديق بثبوت شيء لشيء بدون تصوّر ذلك الشيء ، فهذا القول مستلزم لنفي وجوده وسائر صفاته عنه تعالى ، ولا بدّ في التوحيد من إخراجه عن حدّ النفي والتعطيل ، وعن حدّ التشبيه بالمخلوقين.

ثمّ استدلّ علیه السلام بتركيبهم وحدوثهم وتغيّر أحوالهم وتبدّل أحوالهم وأوضاعهم على احتياجهم إلى صانع منزّه عن جميع ذلك غير مشابه لهم في الصفات الإمكانيّة ، وإلاّ لكان هو أيضا مفتقرا إلى صانع ؛ لاشتراك علّة الافتقار.

قوله : « فقد حدّدته إذا أثبتّ وجوده » أي إثبات الوجود له يوجب التحديد ، إمّا بناء على توهّم أنّ كلّ موجود لا بدّ أن يكون محدودا بحدود جسمانيّة أو عقلانيّة ، أو باعتبار التحديد بوصف أنّه موجود ، أو باعتبار كونه محكوما عليه ، فيكون موجودا في الذهن محاطا به ، فأجاب علیه السلام بأنّه لا يلزم أن يكون كلّ موجود جسما أو جسمانيّا حتّى يكون محدودا بحدود جسمانيّة ، ولا أن يكون مركّبا حتّى يكون محدودا بحدود عقلانيّة ، ولا يلزم كون حقيقته حاصلة في الذهن أو محدودة بصفة ؛ فإنّ الحكم لا يستدعي حصول الحقيقة في الذهن ، بل يكفيه التصوّر بوجه ما ، والوجود ليس من الصفات الموجودة المغايرة التي تحدّ بها الأشياء ، بل شيء يعتبر له بملاحظة آثاره.

ومنها : ما روي عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن عليّ بن محمّد علیهم السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقال : « اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه ، تقول : بسم اللّه ،

ص: 37

أي أستعين على أموري كلّها باللّه الذي لا تحقّ العبادة إلاّ له ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي ، وهو ما قال رجل للصادق علیه السلام : يا ابن رسول اللّه! دلّني على اللّه ما هو ، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني؟ فقال له : يا عبد اللّه! هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم ، قال الصادق علیه السلام : فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث ». (1)

ومنها : ما روي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « سمعت أبي يحدّث عن أبيه علیهماالسلام أنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال له : يا أمير المؤمنين! بما عرفت ربّك؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم لمّا أن هممت حال بيني وبين همّي ، وعزمت فخالف القضاء عزمي ، فعلمت أنّ المدبّر غيري. قال : فبما ذا شكرت نعماءه؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرف عنّي وابتلى به غيري ، فعلمت أنّه قد أنعم عليّ ، فشكرته. قال : فبما ذا أحببت لقاءه؟ قال : لمّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه ، علمت أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه ». (2)

ومثله عنه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام . (3)

ومنها : ما روي عن الصادق علیه السلام أنّه قال للمفضّل : « يا مفضّل أوّل العبر والأدلّة على البارئ - جلّ قدسه - هيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه ؛ فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ،

ص: 38


1- « التوحيد » : 230 - 231 ، الباب 21 ، ح 5 ؛ « معاني الأخبار » : 4 باب معنى اللّه عزّ وجلّ ، ح 1.
2- « الخصال » : 33 باب الاثنين معرفة التوحيد بخصلتين ، ح 1 ، ورواها عن زياد بن منذر عن الإمام الباقر عن أبيه عن جدّه علیهم السلام في « التوحيد » : 288 ، الباب 41 ، ح 6.
3- « التوحيد » : 289 ، الباب 41 ، ح 8.

والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمحوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الذي ألّفه ونظمه بعضا إلى بعض جلّ قدسه ، وتعالى جدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون ». (1)

ومنها : ما روي عن الاحتجاج أنّه دخل أبو شاكر الديصاني - وهو زنديق - على أبي عبد اللّه علیه السلام ، فقال : يا جعفر بن محمّد! دلّني على معبودي ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « اجلس » فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « ناولني يا غلام البيضة » فناوله إيّاها ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « يا ديصاني! هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى ، تتفلّق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبّرا؟ ». قال : فأطرق مليّا قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّك إمام وحجّة من اللّه على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه. (2)

بيان :

تقرير استدلاله علیه السلام : أنّ ما في البيضة - من الإحكام والإتقان والاشتمال على ما به صلاحها ، وعدم اختلاط ما فيها من الجسمين السيّالين والحال أنّه ليس فيها

ص: 39


1- « بحار الأنوار » 3 : 61 ، كتاب التوحيد ، الباب 4.
2- « الاحتجاج » 2 : 201 - 202 ، احتجاجات الإمام الصادق علیه السلام ، ح 215 ، ورواها الكلينيّ في « الكافي » 1 : 80 ، كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، ح 4 وكذا الصدوق في « التوحيد » : 124 الباب 9 ، ح 1.

مصلح حافظ لها من الأجسام ، فيخرج مخبرا عن إصلاحها ، ولا يدخلها جسماني من خارج ، فيفسدها كما هو شأن أهل الحصن الحافظين له وحال الداخل فيه بالقهر والغلبة - دليل على وجود الصانع.

قوله : « وهي تتفلّق عن مثل ألوان الطواويس » يدلّ على أنّ الأمر المذكور يدلّ على أنّ له مبدأ غير جسم ولا جسمانيّ.

والطواويس جمع الطاوس ، وهو طائر معروف.

ومنها : ما روي عنه ، عن عيسى بن يونس قال : قال ابن أبي العوجاء - بعد الاعتراض على أبي عبد اللّه علیه السلام من جهة طواف بيت اللّه على وجه التهاون وجوابه علیه السلام بأنّه بيت استعبد اللّه به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى غفرانه ، خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام - : ذكرت اللّه فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ، ويرى أشخاصهم ، ويعلم أسرارهم؟! ».

فقال ابن أبي العوجاء : فهو في كلّ مكان أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟! وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟! فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان شغل به [ مكان ] (1) وخلا به مكان ، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فأمّا اللّه العظيم الشأن الملك الديّان ، فلا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ». (2)

ص: 40


1- الزيادة أضفناها من « الاحتجاج » 2 : 208.
2- « الاحتجاج » 2 : 206 - 208 احتجاجات الإمام الصادق علیه السلام ، ح 218 ، ورواها في « التوحيد » : 253 - 254 / 4 ؛ « أمالي الصدوق » :493- 494 / 4 ؛ « علل الشرائع » 2 : 403 - 404 / 4 ؛ « الفقيه » 2 : 162 - 163 / 32 ؛ « الإرشاد » 2 : 199 - 201 ؛ « كنز الفوائد » 2 : 75 - 76.

بيان :

قوله : « أقرب إليه من حبل الوريد » مشعر بأنّ قربه قرب بالعلّيّة والتأثير ؛ إذ الوريد عرق في صفحة العنق بقطعه تزول الحياة. وفيما بعده إشارة إلى قربه من جهة الإحاطة العلميّة.

ومنها : ما روي عن محمّد بن عبد اللّه الخراساني خادم الرضا علیه السلام قال : دخل رجل من الزنادقة على الرضا علیه السلام وعنده جماعة ، فقال له أبو الحسن علیه السلام : « أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإيّاكم شرعا سواء ، ولا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا؟ » فسكت ، فقال أبو الحسن علیه السلام : « إن يكن القول قولنا - وهو قولنا وكما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا؟ ».

قال : رحمك اللّه فأوجد لي كيف هو؟ وأين هو؟ قال : « ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أيّن الأين ، وكان ولا أين ، هو كيّف الكيف ، وكان ولا كيف ، ولا يعرف بكيفوفيّة ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسّة ، ولا يقاس بشيء ».

قال الرجل : فإذا إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ ، فقال أبو الحسن علیه السلام : « ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا ، وأنّه شيء بخلاف الأشياء ». (1)

فساق الحديث على وجه يدلّ على أنّه لا يخلو عنه فرش ولا عرش ولا برّ ولا بحر ، فلا أرض ولا ماء ولا نار ولا هواء ولا كرسيّ ولا سماء ولا غير من الأشياء ، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء ، خارج من الأشياء لا كشيء من شيء خارج.

ص: 41


1- « الكافي » 1 : 78 - 80 باب حدوث العالم ... ح 3 ؛ « التوحيد » :2. 252 ، الباب 36 ، ح 3 ؛ « عيون أخبار الرضا » 1 : 131 - 132 ، الباب 11 ، ح 28 ؛ « الاحتجاج » 2 : 354 - 356 ، احتجاجات الإمام الرضا ، ح 281.

ووردت أخبار أخر دالّة على وجود صانع موصوف بصفات الكمال. وذكرها يوجب التطويل والكلال.

وبالجملة ، فثبت بالدليل العقليّ والنقليّ في هذا الفصل - الذي هو الفصل الأوّل من الأصل الأوّل - أنّ للعالم صانعا واجب الوجود بالذات.

وصل :

هذا الاعتقاد من أصول الدين ، فمن أنكره كان من الكافرين ، ومن عرفه وأقرّ به كان في الجملة من المؤمنين ، ومن اعترف به عند الآخرين وأنكره عند الأوّلين كان من المنافقين والمذبذبين ، ومن لا يعرفه ولا يعانده كان من المستضعفين ، ومن أنكر بعض لوازمه ممّا سيأتي كان من المخالفين ، ويترتّب على كلّ فرقة حكمهم ممّا شطر في فروع الدين من الطهارة والنجاسة وقبول الشهادة ونحو ذلك من أحكام الدين.

ص: 42

( الفصل الثاني ) في الاعتقاد الثاني : [ في صفاته تعالى ]

اشارة

وهو أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات صاحب الصفات لا نائب الصفات ، فلا بدّ أوّلا من بيان ( في صفاته تعالى ).

اعلم أنّ صفات واجب الوجود بالذات على قسمين : ثبوتيّة لا يعتبر في مفهومها السلب ، وسلبيّة يعتبر في مفهومها السلب ، ويقال لها : صفات النقص والجلال.

والثبوتيّة على قسمين : حقيقيّة لا يعتبر في مفهومها السلب والإضافة إلى الغير وإن أمكن عروض الإضافة لبعضها ، ويقال لها : صفات الذات والكمال ، وإضافيّة يقال لها : صفات الفعل والجمال.

والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل - التي تكون ثابتة لله في مقام الفعل لا في مقام الذات ، بمعنى كون الفعل جهة تعليليّة للثبوت لا تقييديّة كما في التميز ليلزم أن يكون الفعل موصوفا بحسب الواقع كما في الصفات التي تكون بحسب متعلّق الموصوف والمسند السببيّ - أنّ صفات الذات ما يكون ثابتا للذات ، ولا يمكن إثباته وإثبات نقيضه له ولو بالاعتبارين كالقدرة والعلم ؛ إذ لا يمكن أن يقال : إنّه قادر ليس بقادر ، وعالم وليس بعالم. وتوهّم إمكان النفي بالنسبة إلى الممتنع من باب كون السالبة بانتفاء الموضوع فاسد ؛ لعدم كون الممتنع قابلا لأن يكون متعلّق القدرة وهو على حاله معلوم ، وصفات الفعل ما يكون ثابتا للذات ، ويمكن إثباته مع نقيضه لها بالاعتبارين كالخالقيّة المثبتة بالنسبة إلى الموجود ، المنفيّة بالنسبة إلى المعدوم.

ص: 43

وتوهّم لزوم (1) كون العدل من صفات الذات ؛ لامتناع إثبات نقيضه لله تعالى مع أنّهم حكموا بأنّه كمال الواجب بالذات في الأفعال كما أنّ التوحيد كماله في الذات فاسد ؛ لإمكان نفي العدل بإثبات الفضل لا الجور بالمنع في صورة الاستحقاق ، أو الإعطاء مع عدم الاستعداد في حقّه تعالى ؛ ولهذا يقال : ربّنا عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك.

والإيراد بأنّ سياق الكلام يقتضي إثبات الصفات السلبيّة مع أنّها منفيّة مدفوع بأنّ المراد بيانها لا إثباتها ، أو المراد بالنسبة إلى السلبيّة إثبات سلبها أو إثباتها على طريق المعدولة بأن يقال : إنّه تعالى لا مركّب ولا جسم ولا نحوهما ، أو بحمل الصفات على الثبوتيّة وكون ذكر السلبيّة بالتبع.

وكيف كان ، فأشرف الصفات الصفات الثبوتيّة الحقيقيّة - التي هي عين الذات وكمالها ، بمعنى أنّها ثابتة للذات على وجه العينيّة من غير أن تكون الذات نائبة عنها ؛ لما سيأتي ، أو تكون زائدة عنها كما سنبيّن إن شاء اللّه تعالى - وهي ثمان صفات بعدد أبواب الجنان وإن كان أصولها ثلاثة : القدرة ، والعلم ، والحياة بكون ما عداها راجعة إليها ، وكونها من شعبها ككون الإرادة - بمعنى العلم بالمصلحة المقتضية لمشيئة الفعل ، وبالمفسدة المقتضية لمشيئة الترك - من شعب مطلق العلم ، وكذا السمع والبصر ، وكون الكلام - بمعنى القدرة على إيجاد ما يدلّ على المراد لا نفس الإيجاد أو ما يدل على المراد - من شعب القدرة ، وكذا الصدق ، وكون القدم والأزليّة والأبديّة والسرمديّة من شعب الحياة التي ، هي عين الذات.

وتوهّم (2) لزوم التكثّر في ذات اللّه ؛ لتعدّد الصفات العينيّة مدفوع : بأنّ التعدّد باعتبار الآثار ، لا باعتبار نفس الذات التي تنسب إليها الوحدة من جميع الجهات ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 44


1- يظهر هذا اللزوم من كلام الصدوق رحمه اللّه حيث عدّ العدل من صفات الذات. انظر « التوحيد » : 148 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ذيل ح 19.
2- انظر « المطالب العالية » 3 : 226.

وبالجملة ، ففي هذا الفصل مطالب :

المطلب الأوّل :

اشارة

في بيان الصفات الثبوتيّة الحقيقيّة التي تسمّى صفات الذات وصفات الكمال. وفي هذا المطلب مسائل :

المسألة الأولى : في القدرة
اشارة

ولا بدّ قبل الشروع في إثباتها له تعالى على وجه العينيّة ونفي القول بعدمها أو كون الذات نائبة عنها أو كونها زائدة عنها من رسم مقدّمتين :

[ المقدّمة ] الأولى : في تعريف القدرة والإيجاب ، وتقسيمهما ، وبيان محلّ الكلام.

اعلم أنّ القدرة قد تفسّر (1) بأمر يؤثّر على وفق الإرادة والقصد والشعور. وقد تفسّر بصفة تكون مبدأ لأفعال مختلفة على خلاف المزاج والطبيعة. وبينهما عموم من وجه ؛ لتصادقهما في القوّة الحيوانيّة ، وتحقّق الأوّل بدون الثاني في النفس الفلكيّة ، والعكس في النباتيّة. وقد تفسّر بأنّها ما يصحّ به من الفاعل الفعل وتركه.

وقال الخفري : « للفلاسفة في تفسير القدرة عبارتان : إحداهما : صحّة صدور

ص: 45


1- لمزيد المعرفة حول أقوال الفلاسفة والمتكلّمين في تعريف القدرة انظر « الشفاء » الإلهيّات : 172 - 173 ؛ « التحصيل » 472 - 473 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 151 ؛ « الأربعين » 1 : 174 ؛ « المطالب العالية » 3 : 9 - 12 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 502 - 505 ؛ « نقد المحصّل » : 269 ؛ « مناهج اليقين » : 75 ؛ « نهاية المرام » 2 : 238 - 240 ؛ « التعريفات » للجرجانيّ : 221 ، الرقم 1125 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 53 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 273 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1302 - 1303.

الفعل ولا صدوره ، وأرادوا منها إمكان الصدور واللاصدور بالنسبة إلى الفاعل من حيث هو فاعل. والثانية : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل. والتلازم بين معنييهما ظاهر ، فمعناهما متّفق عليه بين الفريقين » (1).

أقول : والأولى أن يقال : إنّ القدرة تطلق على معنيين :

الأوّل : التمكّن على الفعل والترك وكون الشيء بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك.

الثاني : منشأ التمكّن المذكور سواء كان ذاتا كما في الواجب أو عرضا كما في الممكن.

والإيجاب يمكن كونه مصدرا مبنيّا للفاعل بمعنى الموجبيّة وكون الفاعل موجبا بصيغة الفاعل ، ويمكن كونه مبنيّا للمفعول بمعنى الموجبيّة وكون الفاعل موجبا بصيغة المفعول بكونه مصدرا للفعل من غير قدرة واختيار ، كإضاءة النور وإحراق النار ونحوهما ممّا يكون على وجه الاضطرار ، فيكون كلفظ « المضطرّ » بخلاف الأوّل ؛ فإنّه يطلق على فاعل يجب فعله بقدرته واختياره ، فلا يلزم الاضطرار ؛ فإنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما في الأفعال التوليديّة للمختار.

فالقدرة قد تكون مؤثّرة بالنسبة إلى طرفي الفعل والترك ، بمعنى أنّ الفاعل شاء الترك فترك وشاء الفعل ففعل ، حتّى بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى إمّا باعتبار كونها زائدة على الذات ومنفكّة عنها وقتا ما ، كما يقول الأشاعرة ، (2) أو باعتبار تأثيرها في المشيّة الزائدة على الذات الموجبة لوجود الممكنات على وجه التأخّر بالإرادة ليتحقّق طرفا القدرة ، كما يقول المحقّقون من المتكلّمين. (3)

وقد تكون مؤثّرة بالنسبة إلى الفعل خاصّة ، كما في قدرة اللّه عند الحكماء ، (4)

ص: 46


1- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 3 - 4 ، مخطوط.
2- « الشفاء » الإلهيات : 170 - 185 ؛ « التعليقات » : 19 - 20 ؛ « التحصيل » : 382 - 384 ؛ « نقد المحصّل » :
3- « الشفاء » الإلهيات : 170 - 185 ؛ « التعليقات » : 19 - 20 ؛ « التحصيل » : 382 - 384 ؛ « نقد المحصّل » :
4- « الشفاء » الإلهيات : 170 - 185 ؛ « التعليقات » : 19 - 20 ؛ « التحصيل » : 382 - 384 ؛ « نقد المحصّل » : 269- 277 ؛ « شرح المواقف » 8 : 49 - 53 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 89 - 95 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 273 ؛ « الأسفار الأربعة » 4 : 111 - 113 ؛ « المبدأ والمعاد » لملاّ صدرا : 130 - 135 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 439 - 443.

بمعنى وجوب صدور الفعل عنه دائما مع صحّة صدور الفعل والترك عنه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الإرادة.

والإيجاب أيضا على قسمين : إيجاب بمعنى الاضطرار ، وإيجاب على وجه الاختيار.

ويتصوّر النزاع بالنسبة إلى القدرة والإيجاب المذكورين في مقامات :

الأوّل : أنّ صدور الفعل عن اللّه تعالى هل هو على وجه الإيجاب بمعنى الموجبيّة - بالفتح - أم لا ، بل على وجه القدرة بمعنى صحّة صدور الفعل ولا صدوره بالنظر إلى ذاته تعالى؟

فالأوّل محكيّ عن بعض الحكماء (1) على ما هو بخيالي ، بل ظاهر كلام الشارح القوشجي كونه مذهب الفلاسفة قاطبة. (2) ولكن قال الفاضل اللاهيجي : لا نزاع لأحد في صحّة صدور الفعل والترك عنه بالنظر إلى ذاته تعالى مع قطع النظر عن الإرادة. (3) واحتمل حمل كلام الشارح على الإيجاب للقابل للصحّة بمعنى الإمكان الوقوعي. والثاني مذهب المحقّقين من الحكماء والمتكلّمين. (4)

ص: 47


1- قال الفاضل المقداد بانتشار انتساب هذا القول إلى الفلاسفة بين المتكلّمين ، ثمّ ذكر أنّ « المحقّقين ينفون صحّة هذا النقل عنهم ». انظر « إرشاد الطالبين » : 183.
2- ذكر الشارح القوشجي كلمة « الإيجاب » واحتمل أن تكون كلمة « الموجب » بالفتح والكسر كليهما. انظر « شرح تجريد العقائد » : 310.
3- « شوارق الإلهام » 2 : 500.
4- للاطّلاع على محلّ النزاع في المسألة انظر « الشفاء » الإلهيات : 172 - 173 ؛ « التعليقات » : 19 - 20 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 151 ؛ « المطالب العالية » 3 : 77 - 100 ؛ « المباحث المشرقية » 2 : 517 - 518 ؛ « المحصّل » : 372 ؛ « نقد المحصّل » : 163 - 165 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 132 - 137 ؛ « مناهج اليقين » : 160 - 161 ؛ « أنوار الملكوت » : 61 - 64 ؛ « شرح المواقف » 8 : 49 - 51 ؛ « اللوامع الإلهية » : 118 ؛ « إرشاد الطالبين » : 182 - 187 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 10 - 15 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 500 - 503.

الثاني : أنّه هل يجب عليه تعالى فعل في الجملة أم لا؟ (1) قولان : الأوّل : مذهب الحكماء والمحقّقين من المتكلّمين. والثاني : مذهب الأشاعرة.

والثالث : أنّه هل يجب عليه تعالى الفعل دائما بسبب كونه مستندا إلى قدرته وإرادته التي هي عين الذات الموجب لكونه تعالى بالنظر إلى الإرادة المذكورة علّة تامّة يمتنع تخلّف المعلول عنها ، أو يجب في وقت متأخّر مقارن للمشيئة؟ قولان : الأوّل : مذهب الحكماء. والثاني : مذهب غيرهم.

[ المقدّمة ] الثانية : في بيان القدم والحدوث
اشارة

اعلم أنّ الحدوث عبارة عن مسبوقيّة الوجود بالعدم المطلق. والقدم عبارة عن عدم مسبوقيّة الوجود بالعدم المطلق.

والقديم - الذي هو عبارة عن الموجود غير المسبوق بالعدم المطلق - منحصر في الواجب تعالى ، وجميع الممكنات حادثة مسبوقة بالعدم المطلق ، وإلاّ لكانت موجودة مع قطع النظر عن الغير ؛ إذ لو لم تكن كذلك لم تكن موجودة على الإطلاق ؛ لأنّ الموجود المطلق ما كان موجودا على جميع التقادير ، فلو لم تكن مع قطع النظر عن الغير موجودة لكانت معدومة ، فحينئذ يكون وجودها من الغير لا محالة ؛ إذ الذاتي لا يختلف ولا يتخلّف ، فذلك الوجود مسبوق بالعدم ، وإلاّ لم يكن قبوله من الغير ممكنا ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، وقد بيّنّا أنّ قبوله من الغير ممكن ، فيكون وجودها مسبوقا بالعدم المطلق ، وهو معنى الحدوث كما مرّ ، فجميع الممكنات حادثة بالحدوث الذاتي ، وهو المطلوب مع أنّه لا نزاع في ثبوته للممكنات ؛ فإنّ

ص: 48


1- للاطّلاع على محلّ النزاع في المسألة انظر « الشفاء » الإلهيات : 172 - 173 ؛ « التعليقات » : 19 - 20 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 151 ؛ « المطالب العالية » 3 : 77 - 100 ؛ « المباحث المشرقية » 2 : 517 - 518 ؛ « المحصّل » : 372 ؛ « نقد المحصّل » : 163 - 165 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 132 - 137 ؛ « مناهج اليقين » : 160 - 161 ؛ « أنوار الملكوت » : 61 - 64 ؛ « شرح المواقف » 8 : 49 - 51 ؛ « اللوامع الإلهية » : 118 ؛ « إرشاد الطالبين » : 182 - 187 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 10 - 15 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 500 - 503.

الحكماء (1) أيضا قائلون به ، فإنّهم أيضا يقولون (2) بصحّة صدور الفعل والترك عن الواجب بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الإرادة وإن قالوا بوجوب الفعل عنه بالنظر إلى إرادته القديمة التي هي عين ذاته ، فيكون موجبا - بكسر الجيم - لا موجبا - بفتح الجيم - كما نسب إلى الفلاسفة ، (3) فإنّي لم أقف على قائل به ، وليس الأوّل منافيا لقدرته تعالى ؛ إذ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فهم يقولون بدوام الفعل وقدم الأثر بسبب الإرادة القديمة ومسبوقيّة الوجود بالعدم بالنظر إلى ذات الممكنات ؛ فإنّ العلّة التي تحتاج إليها الممكنات متقدّمة عليها بالذات وهي متأخّرة عنها بالذات وإن لم تتأخّر عنها بالزمان ، فلها بالنسبة إلى ذات العلّة عدم ، فيكون وجودها مسبوقا بالعدم الذاتي وهو المعنيّ من الحدوث الذاتي.

ولكن يرد عليهم أنّ ما ذكر عين القول بكونه موجبا بفتح الجيم لأنّهم يقولون بامتناع تخلّف المعلولات عن الواجب تعالى بعد انضمام الإرادة ، والإرادة عين الذات ، فيلزم امتناع التخلّف عن الذات ، وملاحظة الذات بدون الإرادة من قبيل سلب الشيء عن نفسه ، وليس ذلك أمرا واقعيّا ، بل هو أمر اعتباريّ محض ، فيلزم كونه تعالى مختارا فرضيّا اعتباريّا لا حقيقيّا ، فيلزم النقص اللازم على القائل بكونه تعالى موجبا بفتح الجيم.

فالتحقيق أنّ الإرادة التي هي عين ذاته تعالى عبارة عن العلم بالمصلحة الذاتيّة أو

ص: 49


1- « الجمع بين رأيي الحكيمين » : 100 - 104 ؛ « الشفاء » الإلهيات : 264 - 268 ؛ « النجاة » : 223 ؛ « التعليقات » : 85 ؛ « المطالب العالية » 4 : 318 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 121 - 138 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 160 - 162 ؛ « شوارق الإلهام » : 96.
2- انظر التعليقة 4 في الصفحة 47.
3- هذه النسبة مشهورة بين المتكلّمين وإن لم يصرّح بها بعضهم. انظر « شرح الأصول الخمسة » :3. 156 ؛ « المحصّل » : 372 - 382 ؛ « المطالب العالية » 3 : 77 ؛ « الأربعين » 1 : 174 - 187 ؛ « مناهج اليقين » : 160 - 162 ؛ « شرح المواقف » 8 : 49 - 59 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 89 - 100 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 118 ؛ « إرشاد الطالبين » : 182 - 187 ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : 99 - 105 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 310 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 500 - 503.

العرضيّة ، أو المفسدة كذلك المقتضي لمشيئة الفعل أو الترك ، بمعنى كونه منشأ لصدور الفعل أو الترك بعد المشيئة مع القصد والشعور بسبب العلم المذكور ، وأنّه ممّا تنشأ منه المشيئة بمقتضى المصلحة أو المفسدة فإذا حصلت المشيئة ، حصل الفعل أو الترك ، فالمشيئة حادثة خارجة عن الذات تحدث بحدوثها على وفقها الممكنات ، فلا يكون حدوث الممكنات - ولو بعد انضمام الإرادة بالمعنى المذكور - لازما.

ولعلّهم جعلوا الإرادة بمعنى المشيئة ، ولكن لا يخفى أنّها بهذا المعنى أمر معنويّ لا يمكن أن تكون عين الذات للممكن ، فكيف الواجب تعالى.

وبالجملة ، فالكلام في أمرين آخرين :

[ الأمر ] الأوّل : أنّ تقدّم عدم الممكنات على وجودها تقدّم ذاتيّ كتقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض كما عن المتكلّمين ، (1) أم ليس كذلك كما عن الحكماء (2) بناء على أنّ تقدّم أجزاء الزمان أيضا زمانيّ والتقدّم الزمانيّ مطلقا مستلزم للزمان ، فيلزم أن يكون قبل وجود العالم زمان ، بل وحركة أيضا ؛ إذ منشأ عدم اجتماع المتأخّر مع المتقدّم في الوجود ، المعتبر في التقدّم الزماني عدم كونهما ممّا هو قارّ الذات وهو مخصوص بالزمان والحركة ، فيلزم تقدّم الحركة والزمان على العالم ، وهو بديهيّ البطلان.

والقول (3) بأنّ تقدّم عدم الممكنات على وجودها تقدّم بالذات فاسد ؛ لأنّ التقدّم بالذات عندهم عبارة عن التقدّم بالعلّيّة ، وكيف يمكن كون عدمها علّة تامّة لوجودها!؟ فمرادهم أنّ العدم المقدّم على الوجود عدم ذاتيّ لا أنّ تقدّم ذلك العدم

ص: 50


1- « الأربعين » 1 : 25 - 27 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 227 - 230 ؛ « المحصّل » : 215 ؛ « المطالب العالية » 4 : 13 - 18 ؛ « نهاية المرام » 1 : 217 - 224 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 19 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 41 - 45 ؛ « شوارق الإلهام » 1 : 100.
2- انظر « الشفاء » الإلهيّات : 266 ؛ « النجاة » : 222 ؛ « التحصيل » : 524 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 82 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 244.
3- تعريض بالحكماء. انظر « الحاشية على حاشية الخفري » للخوانساريّ : 100.

تقدّم ذاتيّ.

وعن ظاهر كلام بعضهم (1) أنّ تقدّم العدم على الوجود تقدّم بالطبع ، لتوقّف الوجود الغيري على العدم كما مرّ من غير أن يكون العدم علّة للوجود كما تقدّم.

وفي الكلّ نظر سيظهر.

[ الأمر ] الثاني : أنّ العالم حادث بالحدوث الزائد عن الذاتي أيضا ، أم لا؟ فإنّ القدم على قسمين : حقيقيّ ، وإضافيّ. والحدوث أيضا على قسمين : ذاتيّ ، وزمانيّ حقيقيّ أو حكميّ كحدوث الزمان والزمانيّ. وقد وقع الخلاف فيما هو فوق الحدوث الذاتيّ وزائد عنه ، فأنكره الفلاسفة (2) وأثبته المتكلّمون ، (3) بل قاطبة الملّيّين على وفق قوله علیه السلام : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » (4) واختلف المتكلّمون في التعبير عنه ، فقيل : (5) إنّ العالم حادث بالحدوث الزماني بالزمان الموهوم ، بمعنى أنّ وجود الممكنات - حتّى الزمان - مسبوق بالعدم الزماني ، ومحلّه الجواهر العقليّة ونحوها ، ولكن يكفي في كون عدم الزمان ونحوه في زمان الزمان الموهوم ، وهو ما ينتزع من استمرار وجود الواجب من أمر ممتدّ على سبيل التجدّد والتقضّي كانتزاع الحركة التوسّطيّة من القطعيّة ، والزمان من الآن السيّال ، وهو مختار مولانا جمال الدين الخوانساري. (6)

وعن الميرزا إبراهيم بن صدر الدين الشيرازيّ (7) أنّ العالم حادث بالحدوث الزماني بالزمان المنتزع ، بمعنى أنّه إذا كان زمان وجود العالم متناهيا في جانب البداءة

ص: 51


1- « شوارق الإلهام » 1 : 100 ؛ « الحاشية على حاشية الخفري » للخوانساريّ : 99 - 100.
2- « الأسفار الأربعة » 3 : 244 - 255 ؛ « شوارق الإلهام » 1 : 96 وما بعدها.
3- « الأسفار الأربعة » 3 : 244 - 255 ؛ « شوارق الإلهام » 1 : 96 وما بعدها.
4- انظر « التوحيد » : 59 / 17 باب التوحيد ونفي التشبيه ؛ « بحار الأنوار » 54 : 168 / 110 ؛ « صحيح البخاري » 3 : 1166 / 3019 من كتاب بدء الخلق ؛ « المعجم الكبير » 18 : 203 / 417.
5- انظر الهامش الأوّل من الصفحة المتقدّمة.
6- انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » للخوانساريّ : 99 - 100.
7- نقل عنه الخوانساريّ ذلك ، انظر الهامش المتقدّم.

- كما هو مذهب الملّيّين (1) - كان للعدم تقدّم عليه سوى التقدّم الذاتي الذي أثبته الفلاسفة (2) لعدم الممكن على وجوده المعبّر عنه بالحدوث الذاتي كتقدّم الحوادث الزمانيّة وأجزاء الزمان بعضها على بعض في عدم اجتماع السابق مع المسبوق ، ولكن هذا التقدّم ، له تقدير وتعيين ، بخلاف تقدّم العدم على وجود العالم على مذهب الملّيّين ؛ فإنّه لا يكون فيه قرب وبعد وزيادة ونقصان إلاّ بمحض التوهّم.

ونظير ذلك ما قالوا : (3) إنّ فوق محدّد الجهات لا خلاء ولا ملاء مع أنّ الفوقيّة به ، وكما أنّ العقل هناك يعلم من تناهي البعد المكاني أنّ وراءه عدم صرف ونفي محض ، وينتزع من ذلك ويحكم بمعونة الوهم أنّ لهذا العدم المحض فوقيّة ما على المكان والمكانيّات كفوقيّة بعض أجزاء المكان على بعض مع أنّه لا مكان هناك ، كذلك يعلم من تناهي الزمان والزمانيّات في جانب البداءة أنّ وراءها عدم صرف ونفي محض ، ويحكم بأنّ لهذا العدم الصرف قبليّة ما على وجود العالم والزمان شبيهة بقبليّة أجزاء الزمان بعضها على بعض ، ولا يلزم من ذلك وجود زمان قبل الزمان ، بل مجرّد ذلك الزمان الموجود مع ملاحظة تناهيه كاف لانتزاع الوهم وحكم العقل بهذه القبليّة.

قيل : (4) قال : وهذا هو الحدوث الزمانيّ المتنازع فيه بين الملّيّين والفلاسفة ، وليس هذا إثبات الزمان الموهوم كما أنّه ليس ذلك إثبات المكان الموهوم وإن أورد عليه (5) بأنّ هذا ليس إلاّ القول بالقدم بالحقيقة ؛ لأنّه إذا لم يكن انفصال بين ذات الواجب

ص: 52


1- انظر الهامش 2 من الصفحة المتقدّمة.
2- انظر الهامش 2 من الصفحة المتقدّمة.
3- أي الحكماء في الطبيعيّات. انظر « الشفاء » الطبيعيّات 1 :3. 258 ؛ « النجاة » : 130 - 131 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 170 وما بعدها ؛ « التحصيل » : 606 - 612.
4- القائل هو ابن ملاّ صدرا الشيرازيّ على ما نقل عنه المحقّق الخوانساريّ في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : 101.
5- هذا الإيراد للمحقّق الخوانساري. انظر المصدر السابق.

تعالى وبين العالم ، ولا يمكن أن يقال : كان الواجب ولم يكن العالم ، يكون العالم قديما البتّة.

وعن السيّد الداماد أنّه قال : إنّ العالم حادث بالحدوث الدهري لا الذاتي ولا الزماني ، بمعنى أنّ الوجود مسبوق بالعدم الصريح المحض مسبوقيّة انسلاخيّة انفكاكيّة غير زمانيّة ولا سيّالة ولا متقدّرة ولا متكمّمة كما في الحدوث الزمانيّ ، ولمّا كان وعاء الوجود الصريح المسبوق بالعدم الصريح المرتفع عن أفق التقدير واللاتقدير هو الدهر لا الزمان ؛ لأنّه وعاء الأمور المتقدّرة المتغيّرة السيّالة ، ولا السرمد ؛ لأنّه وعاء بحت الوجود الثابت الحقّ المنزّه عن التغيّر وسبق العدم المطلق ، كان حريّا باسم الحدوث الدهري. (1)

وأورد (2) عليه : بأنّ اتّصاف العدم بالسابقيّة على الوجود سبقا غير ذاتي إن كان في نفس الأمر ، يكون محتاجا إلى وعاء وظرف يكون فيه ، ويتّصف هو لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيرهما ؛ إذ لا يتصوّر السابقيّة بدون ذلك ، وإلاّ يلزم القدم كما مرّ.

أقول : يرد عليه أيضا أنّ الدهر إن كان أمرا واقعيّا ، فلا يخلو إمّا أن يكون واجبا أو ممكنا ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لاستحالة تعدّد الواجب تعالى كما سيأتي. وعلى الثاني ننقل الكلام إليه ، فنقول : إنّه إمّا متّصل الوجود بواجب الوجود أو منفصل الوجود ، وعلى الأوّل يلزم القدم ، وعلى الثاني نقول مثل ما سبق ، فيلزم القدم بالأخرة ؛ لاستحالة التسلسل.

وإن لم يكن أمرا واقعيّا ، فلا يكون الانفصال واقعيّا ، فيلزم القدم.

ومن هذا يظهر أنّ القولين الأوّلين أيضا مخدوشان.

فالأولى أن يقال : إنّ حدوث العالم - الذي يقول به الملّيّون على وفق ما روي من

ص: 53


1- انظر « القبسات » القبس الأوّل ، وعنه نقل الخوانساريّ في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : 103 - 106 والسبزواريّ في « شرح المنظومة » قسم الحكمة : 80 - 82.
2- الإيراد هنا للخوانساريّ. انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » :2. 104.

قوله علیه السلام : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » (1) ونحو ذلك - حدوث سرمدي مراتبيّ.

وبعبارة أخرى : حدوث زمانيّ بالزمان التقديريّ ، بمعنى أنّ وجود العالم مسبوق بالعدم المراتبيّ كما أنّه مسبوق بالعدم الذاتيّ ، وأنّ الواجب تعالى كان ثابتا في مراتب من مراتب وجوده الواقعيّ ولم يكن العالم ثابتا فيها كما أنّه تعالى كان في مرتبة ذاته - من حيث إنّها علّة له - ثابتا ولم يكن العالم في تلك المرتبة ثابتا ، وتلك المراتب منتزعة من وجوده المستمرّ الثابت المنزّه عن سبق العدم ، بمعنى أنّه ينتزع من وجوده المستمرّ مراتب عديدة بعد مرتبة ذاته من حيث إنّها علّة يتّصف ذات الواجب بالكون بالنسبة إلى تلك المراتب ولم يكن فيها إلاّ واجب الوجود وعدم العالم ، فيكون وجود العالم مسبوقا بالعدم سوى العدم الذاتي أيضا ، ويكون العدم سابقا على الوجود سبقا ذاتيّا كسبق أجزاء الزمان بعضها على بعض على ما هو مختار المتكلّمين ، (2) أو شبيها به أو بغيره كما سيأتي ، وذلك العدم مستند إلى مشيئة الترك ، فباعتبار كون مستنده وجوديّا يصلح أن يكون موصوفا بوصف كالسابقيّة ، فلا يرد (3) أنّ ثبوت الشيء لشيء فرع لثبوت المثبت له ، فلا بدّ من وعاء يكون فيه ، وذلك الوعاء إمّا واجب أو ممكن ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لامتناع تعدّد الواجب ، فيتعيّن الثاني ، فيلزم اتّصال العالم بالواجب وهو معنى القدم.

وبالجملة ، فقد ظهر ممّا قرّرنا سابقا أنّ ترك الفعل بالنسبة إلى الواجب يكون مستندا إلى مشيئته ؛ ولهذا عدلنا عن العبارة المشهورة في بيان معنى الإرادة ، وهي قولهم : إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ، إلى قولنا : إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، فليتأمّل.

ص: 54


1- تقدّم في ص 51 هامش 4.
2- « الأربعين » 1 : 25 - 27 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 227 ؛ « المحصل » 4 : 13 - 18 ؛ « نهاية المرام » 1 : 217 ؛ « شوارق الإلهام » 1 : 100.
3- الإيراد لملاّ شمسا الجيلانيّ ، على ما نقله عنه المحقّق الخوانساريّ في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : 105.

وكيف كان ، فالعمدة في الاستدلال على حدوث العالم هو النقل اللبّيّ (1) المطابق للنقل اللفظيّ المذكور الكاشف عن قول الصانع : بأنّي أوجدت العالم حادثا بالحدوث الزائد على الحدوث الذاتيّ المبطل للاجتهاد في مقابل ذلك النصّ الجليّ ، لا ما يقال من أنّ العالم لا يخلو من حركة وسكون وكلّ منهما يقتضي المسبوقيّة بالعدم ؛ لأنّ الحركة عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني ، والسكون عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل ، وكلّ منهما يقتضي المسبوقيّة والثانويّة ؛ فإنّ ذلك لا يخلو من مناقشة من جهة عدم تماميّته في نفس الزمان والمكان ونحو ذلك.

فإن قلت : يلزم من توقّف الحدوث المتنازع فيه على الشرع الدور المحال كما توهّمه بعض الفضلاء.

قلت : إثبات الشرع غير موقوف على الاختيار والحدوث الذي قلنا به ؛ لكفاية الحدوث والاختيار بالمعنى المتّفق عليه بيننا وبين الحكماء فيه كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالعقل أيضا يوافق النقل المذكور من جهة أنّ وقوع جزأي القدرة والإخبار به أدخل في صحّة الاعتقاد ، فهو راجح يجب على الصانع اختياره.

والظاهر أنّ ما ذكرنا هو مراد الطبرسيّ ممّا ذكره في مجمع البيان (2) - على ما حكي عنه - من الزمان التقديريّ ، بمعنى أنّا لو فرضنا وقدّرنا قبل حدوث العالم زمانا آخر ، لم يكن العالم ثابتا فيه ، وكان الواجب تعالى كائنا فيه بالمعنى الذي يقال الآن : إنّه تعالى موجود ، فيتصحّح معنى حدوث العالم ، ومعنى « كان اللّه ولم يكن معه شيء » (3) بمعنى أنّه حادث بالحدوث الزمانيّ بالزمان التقديريّ من دون حاجة

ص: 55


1- انظر « التوحيد » للصدوق : 300 ذيل ح 7 من باب إثبات حدوث العالم ؛ « المطالب العالية » 4 : 309 ؛ « نهاية المرام » 3 : 15 ؛ « شرح المواقف » 7 : 222 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 111 - 114.
2- « مجمع البيان » 9 : 382 ذيل الآية 3 من سورة الحديد (57).
3- مرّ تخريجه في ص 51 هامش 4.

إلى التمسّك بالزمان الموهوم أو المنتزع أو الدهر ، فلا بأس علينا أن نبدّل الحدوث المراتبيّ بالحدوث الزماني بالزمان التقديريّ بالمعنى الذي ذكرنا في الحدوث المراتبيّ ؛ لعدم لزوم الإيراد الوارد على غير هذا الوجه.

والأولى أن يعبّر عن ذلك الحدوث بالحدوث السرمديّ كما لا يخفى.

والقول (1) بأنّ أقسام الحدوث منحصرة في معان ثلاثة : ذاتيّ ، وهو عبارة عن وجود الماهيّة بعد عدمها في لحاظ العقل دون الواقع ، ودهريّ ، وهو عبارة عن وجودها بعد نفي صريح واقعيّ غير كمّي ، وزمانيّ ، وهو عبارة عن وجودها بعد عدم واقعيّ كمّيّ ، فإذا لم يكن الزمان التقديريّ بمعنى الحدوث الذاتيّ ، ولا الزمانيّ ؛ لأنّه زمان واقعيّ نفس أمريّ لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار ، لا زمان فرضيّ تقديريّ ، فلا بدّ أن يكون بمعنى الحدوث الدهريّ ؛ إذ لم يعهد اصطلاح غير ما ذكرنا [ و ] على تقدير تسليمه لا يوجب بطلان ما ذكرنا ؛ إذ لا مشاحّة في الاصطلاح ، والعمدة تصحيح العقيدة على وجه يطابق النقل المشهور بل المتواتر - على ما قيل (2) - الذي يكون - على ما قيل (3) - من ضروريّات الدين.

وعن العلاّمة (4) دعوى الإجماع على أنّ من اعتقد قدم العالم فهو كافر حكمه في الآخرة حكم باقي الكفّار وإن تنظّر بعض في التخصيص بالآخرة وذلك حاصل بما ذكرناه مع خلوّه عن المناقشة الواردة على غير المختار ، فيلزم الاعتقاد بما ذكرنا ؛ حذرا عن إنكار ضروريّ الدين ، مع أنّ العقل لا يمنع من تعلّق مشيئة الفاعل المختار

ص: 56


1- القائل هو السيد محمد باقر الداماد. انظر : « القبسات » :1. 5 ، القبس الأوّل.
2- يمكن استفادة الشهرة أو التواتر والضرورة من تصريح أو ظاهر عبارات العلماء. انظر : « أنوار الملكوت » : 28 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 3 : 4 ؛ « القبسات » :2. 26 ؛ القبس الأوّل ؛ « التوحيد » : 223 باب أسماء اللّه تعالى ، ذيل ح 14 ؛ « بحار الأنوار » 54 : 238 و 240 و 247 و 252 و 258 باب حدوث العالم.
3- يمكن استفادة الشهرة أو التواتر والضرورة من تصريح أو ظاهر عبارات العلماء. انظر : « أنوار الملكوت » : 28 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 3 : 4 ؛ « القبسات » :3. 26 ؛ القبس الأوّل ؛ « التوحيد » : 223 باب أسماء اللّه تعالى ، ذيل ح 14 ؛ « بحار الأنوار » 54 : 238 و 240 و 247 و 252 و 258 باب حدوث العالم.
4- انظر : « أجوبة المسائل المهنّائية » : 89 ، المسألة 138.

بإيجاد العالم على وجه التأخير بالنسبة إلى أوّل مرتبة من مراتب الوجود بفصل مراتب عديدة ولو لمصلحة خفيّة تكشفها الشريعة إن لم نقل بأنّه يقتضيه كما أشرنا ، مضافا إلى أنّ الدهر ليس زمانا تقديريّا كما لا يخفى.

وممّا يدلّ على هذا المطلب ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في بعض خطب نهج البلاغة من قوله علیه السلام : « فإنّه يعود سبحانه بعد فناء العالم وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان. عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلاّ اللّه ». (1)

وهذا ظاهر في نفي ما عدا ما ذكرنا كما لا يخفى ، ومبطل لما حكي عن بعض المتصوّفة أنّه لمّا سمع الحديث المشهور ، قال : « الآن كما كان » (2) كما لا يخفى أيضا ، ودالّ على إنّيّة الزمان كما هو المعلوم بالوجدان وإن اختلف في ماهيّته (3) أنّه جوهر ليس بجسم ولا جسمانيّ ، واجب بذاته كما عن بعض ، أو هو المعدّل كما عن آخر ، أو الحركة كما عن آخر ، أو مقدار الوجود كما عن أبي البركات ، (4) أو مقدار الحركة كما عن أرسطو والمتأخّرين. والظاهر أحد الأخيرين.

ص: 57


1- « نهج البلاغة » : 137 ، الخطبة 186.
2- هو أبو القاسم الجنيد البغداديّ على ما في « شرح فصوص الحكم » للخوارزميّ : 142 و « نصوص الخصوص في شرح الفصوص » : 119.
3- للاطّلاع على الأقوال حول ماهية الزمان انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 148 ؛ « النجاة » : 115 - 118 ؛ « التحصيل » : 453 - 463 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 69 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 755 - 768 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 94 ؛ « نهاية المرام » 1 : 329 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 115 - 118.
4- « المعتبر في الحكمة » 2 : 69 - 70 ، وعنه في « المطالب العالية » 5 : 51 و « نقد المحصّل » : 138 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 144.

وكيف كان ، فالحقّ أنّ العالم حادث بالحدوث الزائد على الحدوث الذاتيّ أيضا بشهادة النقل ، بل والعقل ، وأنّ ماهيّة الممكنات موجودة حقيقة بوجود أفرادها ، بمعنى أنّهما - كليهما - موجودان بوجود واحد ، وليس الماهيّة اعتباريّة محضة ، وإلاّ يلزم جواز صدق الحماريّة على أفراد الإنسان وبالعكس.

ويشهد على ذلك العقل مضافا إلى ظاهر النقل ، كقوله تعالى : ( خُلِقَ الْإِنْسانُ ) (1) ونحوه ، فيكون الجعل مركّبا ، بمعنى أنّ الماهيّة أيضا مجعولة كالوجود بجعل واحد ، وأنّه تعالى جعل الماهيّة ماهيّة كما جعلها موجودة ، فهما مجعولان بجعل واحد ، كما أنّ الماهيّة والأفراد موجودتان بوجود واحد كالهيولى والصورة ونحوهما ، وليس في ذلك شبهة لمن جعل مرجعه العقل والنقل ، وأعرض عن جنود الجهل ، فلنرجع عنان الكلام إلى بيان أصل المرام ، فنقول :

[ في أنّه تعالى صاحب الصفات ]

إنّ العلماء اختلفوا في أنّ صانع العالم - الذي هو الواجب الوجود بالذات - صاحب الصفات ، أو نائب الصفات على قولين :

الأوّل : أنّه تعالى صاحب الصفات. وهو المشهور (2) المنصور.

الثاني : أنّه تعالى نائب الصفات ، بمعنى أنّ ذاته تعالى يصدر منها أثر القدرة من غير قدرة ، وأثر العلم من غير علم ، وهكذا سائر الصفات ، كما أنّ التيمّم يحصل منه أثر الوضوء أو الغسل من استباحة الدخول في نحو الصلاة من غير طهارة وارتفاع

ص: 58


1- النساء (4) : 28 ؛ النحل (16) : 4 ؛ الأنبياء (21) : 37 ؛ الرحمن (55) : 3 و 14.
2- انظر : « الشفاء » الإلهيّات : 343 - 349 ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 19 - 21 ؛ « التعليقات » : 6 - 67 ؛ « التحصيل » : 560 - 581 ؛ « التلويحات » ضمن « مصنفات شيخ الإشراق » 1 : 39 - 41 ؛ « التوحيد » للنيسابوريّ : 457 ؛ « مناهج اليقين » : 180 - 188 ؛ « شرح المواقف » 8 : 45 - 49.

الحدث كما هو ظاهر شارح المواقف (1) والمحكيّ عن بعض. (2)

لنا عقلا : أنّ كلّ واحد من الصفات الكماليّة كالعلم والحياة والقدرة صفة كمال لا يقتضي ثبوتها على وجه العينيّة نقص صاحبها ، وكلّ ما هو كذلك فهو ممكن وثابت له تعالى على وجه الوجوب.

أمّا الصغرى : فبالوجدان.

وأمّا الكبرى : فلعدم المانع عقلا ونقلا ؛ لعدم الاستحالة فيه ، واقتضاء عدم الثبوت نقص الذات في مرتبة الذات والصفات وإن ترتّب عليها آثارها في مقام الفعل ، وذلك مناف لوجوب الوجود ، كما لا يخفى.

ونقلا : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3) و ( وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (4) و ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) (5) و ( هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (6) إلى غير ذلك من الآيات.

وما روي عن الرضا علیه السلام أنّه قال بعد السؤال عن علمه تعالى قبل الأشياء : « إنّ اللّه هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء ». (7)

وما روي عن الصادق علیه السلام أنّه قال - بعد سؤال الزنديق - : « هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع ويبصر بنفسه ، وليس قولي : إنّه سميع بنفسه أنّه شيء والنفس شيء آخر ، ولكنّي أردت عبارة عن نفسي ؛ إذ كنت مسئولا ، وإفهاما لك ؛ إذ كنت سائلا ، فأقول : يسمع بكلّه لا أنّ كلّه له بعض لأنّ الكلّ لنا [ له ]

ص: 59


1- « شرح المواقف » 8 : 44 - 49.
2- حكي عن طائفة من المعتزلة. انظر « الفرق بين الفرق » :2. 94 ؛ « كشف المراد » : 292 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 327.
3- البقرة (2) : 20 ؛ آل عمران (3) : 165 ؛ النحل (16) : 77 ؛ النور (24) : 45.
4- البقرة (2) : 282 ؛ النساء (4) : 186 ؛ النور (24) : 35 ؛ الحجرات (49) : 16.
5- الأعلى (87) : 7.
6- البقرة (2) 255 ؛ آل عمران (3) : 2.
7- « التوحيد » : 136 باب العلم ، ح 8 ؛ « عيون أخبار الرضا » : 118 ، الباب 11 ، ح 8.

بعض ، ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك كلّه إلاّ أنّه السميع البصير ، العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى » (1) إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ ذاته تعالى صاحب الصفات لا نائبها. (2)

وما ورد (3) - من أنّ كمال التوحيد نفي الصفات - معناه نفي الصفات الزائدة كما يقول الأشاعرة ، (4) بمعنى أن يقال : له ذات وصفات على وجه التعدّد والاثنينيّة ؛ فإنّ ذلك خلاف الحقّ ، بل الحقّ أنّ ذاته تعالى صفاته ، وصفاته ذاته. مع أنّ ما ذكرنا من العقل والنقل مقدّم على الخبر الواحد ولو سلّم دلالته على خلافه بعد اعتباره في الجملة في المسألة العلميّة الاعتقاديّة الأصوليّة.

وبالجملة ، فالقول بالنيابة ناش من توهّم لزوم عرضيّة الذات ، أو التكثّر ، أو الزيادة. وهو غفلة عن ملاحظة كون العلم - مثلا - بمعنى سبب ظهور المعلوم ومنشأ انكشاف الأشياء عين الذات ، لا بالمعنى المصدري - وهو الاطّلاع على الأشياء - ونحوه ، وكذا القدرة بمعنى منشأ التمكّن على الفعل والترك عين الذات ، لا نفس التمكّن ، وكذا الحياة بمعنى منشأ صحّة الاتّصاف بالعلم والقدرة - لا نفسها - عين الذات.

وكيف كان ، فتفصيل ذلك يقع في مسائل :

المسألة الأولى : في القدرة ، بمعنى أنّه تعالى صاحب القدرة ، وأنّه يصحّ منه فعل العالم وإيجاده وتركه ، وأنّه ليس شيء منهما لازما لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه في أيّ وقت فرض وإن كان وقتا موهوما كما أفاد الخفري. (5)

ص: 60


1- « الكافي » 1 : 108 - 109 / 2 ؛ « التوحيد » : 144 - 145 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 10.
2- انظر : « التوحيد » : 134 - 148 باب العلم وباب صفات الذات وصفات الأفعال.
3- « نهج البلاغة » : 14 ، الخطبة الأولى.
4- « المحصّل » : 421 - 427 ؛ « المطالب العالية » : 3 : 223 ؛ « الأربعين » 1 : 219 ؛ « شرح المواقف » 8 : 44 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 69.
5- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 3 - 4 ، مخطوط.

اعلم أنّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

الأوّل : أنّ اللّه تعالى قادر بالمعنى المذكور. وهو مختار المصنّف وسائر المتكلّمين ، بل قاطبة الملّيّين. (1)

الثاني : أنّ اللّه تعالى فاعل على وجه الإيجاب ، بمعنى امتناع انفكاك ذاته تعالى عن إيجاد العالم مطلقا في الأزل ؛ لوجوب إيجاد العالم مع اعتبار الإرادة التي هي عين الذات وإن أمكن إيجاده وعدم إيجاده بالنسبة إلى الذات بدون اعتبار الإرادة ، فيكون الإيجاب بمعنى الموجبيّة بكسر الجيم. وهو مختار الحكماء ، (2) مع احتمال القول بالموجبيّة بفتح الجيم ، فقد قال الشارح القوشجي : « ذهب الملّيّون قاطبة إلى أنّ تأثير الواجب تعالى في العالم بالقدرة والاختيار على معنى أنّه يصحّ منه فعل العالم وتركه. وذهب الفلاسفة إلى أنّ تأثيره تعالى فيه بالإيجاب ». (3)

نعم ، أفاد الفاضل اللاهيجي أنّ الإيجاب الذي قال به الحكماء هو بمعنى دوام الفعل وقدم الأثر بسبب دوام المبادئ ، كالعلم والإرادة. وأمّا الإيجاب بمعنى عدم إمكان الترك عنه تعالى بالنظر إلى ذاته تعالى فلم يقل به أحد ، (4) بمعنى أنّ الكلام في عدم الإمكان الوقوعي لانفكاك الفعل ، لا الإمكان الذاتي ، فيكون النزاع في ثبوت الموجبيّة بكسر الجيم دائما كما يقول الحكماء ، وعدمه كما هو مختار المتكلّمين ، لا الموجبيّة بفتح الجيم. وأمّا الموجبيّة - بكسر الجيم - في وقت ما كما اختاره المصنّف (5) ومن يحذو

ص: 61


1- « المغني » 5 : 204 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 151 ؛ « المحصّل » : 372 - 374 ؛ « المطالب العالية » 3 : 9 ؛ « نقد المحصّل » : 269 - 277 ؛ « قواعد المرام » : 82 - 85 ؛ « مناهج اليقين » : 160 - 164 ؛ « إرشاد الطالبين » : 182 - 187.
2- انظر المصادر السابقة مضافا إلى « الشفاء » الإلهيات : 170 - 185 ؛ « التعليقات » : 19 - 20 ؛ « التحصيل » : 473 ؛ « المباحث المشرقية » 2 : 517 ؛ « الأسفار الأربعة » 4 : 111 - 113 ؛ « شرح المنظومة » قسم الحكمة : 177 - 178.
3- « شرح تجريد العقائد » : 310.
4- « شوارق الإلهام » : 502.
5- « كشف المراد » 305 و 343 - 344 ؛ « شوارق الإلهام » 503.

حذوه ، (1) وعدمها كما عن الأشاعرة ، (2) فهي محلّ نزاع آخر بين المتكلّمين والملّيّين.

والحقّ مع المتكلّمين والملّيّين.

لنا على ذلك برهانان منحلاّن إلى براهين عقليّة ونقليّة.

أمّا البرهان العقلي ، فأمور :

منها : ما أشار إليه المصنّف رحمه اللّه بقوله : ( وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب ) بمعنى أنّه إن كان تأثير الواجب بالذات في وجود العالم بعد العدم بعديّة حقيقيّة لا على وجه القدم ، لما كان على وجه الإيجاب ، ولكن تأثيره تعالى فيه بعد العدم بعديّة حقيقيّة لا على وجه القدم ، فلا يكون على وجه الإيجاب ، بل يكون على وجه القدرة والاختيار ، فيكون صاحب القدرة ومختارا ، لا موجبا.

أمّا الملازمة : فلما أفاد الخفري من أنّ المناسب في هذا الكتاب (3) أن يفسّر الإيجاب المذكور هاهنا بامتناع انفكاك ذاته تعالى عن إيجاد العالم مطلقا في الأزل ، (4) فلو كان تأثيره تعالى في وجود العالم على وجه الإيجاب لزم قدم العالم بالضرورة ، وهو مناف لكون تأثيره تعالى فيه بعد العدم لا على وجه القدم بالضرورة ، فثبوت أحد المتنافيين ينفي ثبوت الآخر ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين بالبديهة ،

ص: 62


1- انظر : « شرح الأصول الخمسة » 131 - 144 و 301 وما بعدها ؛ « المغني » 6 : 3 وما بعدها و 177 وما بعدها ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 85 - 88 ؛ « مناهج اليقين » : 243 - 244 ؛ « إرشاد الطالبين » : 260 - 263 ؛ « شوارق الإلهام » : 503.
2- « شرح المواقف » 8 : 195 - 202 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 296 - 306 و 321 و 334 ؛ « مفتاح الباب » 167 ؛ « شوارق الإلهام » 503.
3- يعني إذا كان وجوب الفعل عنه تعالى مع ضمّ العلم والإرادة متّفقا عليه بين المصنّف ومن يحذو حذوه وبين الحكماء وإن اختلفوا في أنّ الوجوب على وجه الدوام أو في وقت ما وكان عدم الوجوب بدون الانضمام أيضا متّفقا عليه بينهما ، ينبغي أن يفسّر الإيجاب بامتناع الانفكاك في الأزل ؛ لتعلّق علمه وإرادته ، فإذا ثبت حدوث العالم انتفى هذا الإيجاب بالضرورة ، فلا حاجة إلى الاستدلال الذي ذكره الشارح القوشجي.
4- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورق 4 من المخطوطة.

فيكون التأثير بعد العدم نافيا للإيجاب بمعنى وجوب صدور الفعل عنه تعالى دائما كما اختاره الحكماء ، (1) لا في وقت.

وقال الشارح القوشجي : « إنّ تأثيره تعالى في وجود العالم إن كان بالإيجاب يلزم قدمه ؛ إذ لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث لئلاّ يلزم التخلّف عن الموجب التامّ ، وذلك الشرط الحادث يتوقّف على شرط حادث آخر ، ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة متعاقبة أو مجتمعة ، وكلاهما محال على زعم المصنّف وسائر المتكلّمين على ما مرّ في مبحث إبطال التسلسل ، فتأمّل ». (2)

وبالجملة ، فالعقل يحكم - بالضرورة - بأنّ كون تأثير الواجب تعالى في العالم بعد العدم بعديّة حقيقيّة ينفي ما ذهب إليه الحكماء من أنّ مبادئ الأفعال الاختياريّة من العلم والقدرة والإرادة والمشيئة حاصلة له تعالى دائما ؛ لعينيّة صفاته تعالى ، فيكون الفعل أيضا دائما على وجه الإيجاب بالاختيار مع صحّة تركه عنه تعالى بالنظر إلى ذاته من دون انضمام تلك المبادئ ، وأولى منه القول بالإيجاب الاضطراري. مع أنّ الفاضل اللاهيجيّ قال : « لم يقل به أحد بناء على أنّ الكلام في الإمكان الوقوعي بالنسبة إلى الترك ، لا الذاتيّ ». (3)

وأمّا الحمليّة : (4) فلما تقدّم من أنّ العالم حادث ، وعدمه مقدّم على وجوده ، ولا شكّ أنّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيّا ولا طبيعيّا ؛ (5) إذ ليس لوجوده توقّف على عدمه حتّى يكون للعدم تقدّم ذاتيّ أو طبيعيّ ، (6) وظاهر أنّه لا يتصوّر هاهنا

ص: 63


1- انظر : « المغني » 5 : 204 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 151 ؛ « المحصّل » : 372 - 374 ؛ « المطالب العالية » 3 : 9 ؛ « نقد المحصّل » : 372 - 374 ؛ « مناهج اليقين » : 160 - 164 ؛ « شوارق الإلهام » : 502.
2- « شرح تجريد العقائد » : 310.
3- « شوارق الإلهام » : 502.
4- المراد بها استثناء المقدّم.
5- كذا في النسخ والصحيح : « طبعيّا » و « طبعيّ ».
6- كذا في النسخ والصحيح : « طبعيّا » و « طبعيّ ».

من أقسام التقدّم سوى نحو الزمانيّ ، أو ما يشبه التقدّم بالذات ، بمعنى أنّ العدم يكون متحقّقا مع المتقدّم بالذات من غير أن يكون له ذات وزمان حتّى يكون متقدّما بالذات ، أو بالطبع ، أو بالزمان ، بل يكون متحقّقا مع الواجب بالذات المتقدّم ، وبهذا الاعتبار أطلق عليه المتقدّم ، فيكون العالم حادثا بهذا النحو ، كما دلّ عليه العقل كما مرّ.

مضافا إلى إجماع الملّيّين ، والحديث المشهور : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » (1) والقدسيّ « كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف » (2) ونحو ذلك من الأدلّة النقليّة المطابقة للعقل كما في دعاء العديلة « وجوده قبل القبل في أزل الآزال ، وبقاؤه بعد البعد من غير انتقال ولا زوال ». (3)

ثمّ اعلم أنّه بيّن الفاضل المقدّس الأردبيليّ مراد المصنّف بوجه آخر ؛ حيث قال :

« واستدلّ المصنّف رحمه اللّه على ثبوته - يعني الاختيار - بالمعنى الأوّل - يعني أنّه يصحّ منه إيجاد العالم وتركه بالقصد ، فليس شيء منهما لازما لذاته - بأنّه لا شكّ في أنّ العالم - أي الشيء الذي غير اللّه مطلقا - حادث ، يعني : هاهنا مصنوع موجود حادث ، وذلك مستلزم للمطلوب ؛ إذ لا بدّ له من علّة مؤثّرة ، موجودة ، مستجمعة لشرائط التأثير ، موجبة ، فإن كانت موجبة بالمعنى المتقدّم أو منتهية إليها ، يلزم قدم الحادث ، وهو خلف ، وإلاّ فننقل الكلام إلى ذلك المؤثّر وهكذا ، فإمّا أن يلزم قدم الحادث ، أو يوجد مؤثّرات غير منتهية ، مجتمعة في الوجود ، وهو محال بالاتّفاق

ص: 64


1- « التوحيد » : 67 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 20 ؛ « صحيح البخاريّ » 3 : 1166 ؛ « بحار الأنوار » 54 : 168 / 109.
2- انظر : « الدرر المنتثرة » : 227 و « الفتوحات المكّية » 2 : 393 ؛ « فصوص الحكم » : 203 ؛ « التجلّيات الإلهيّة » : 100 ؛ « جامع الأسرار » : 102 ؛ « مصباح الأنس » : 164 ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 285.
3- لم يرد دعاء العديلة في كتب الروايات والأدعية سوى « مفاتيح الجنان » حيث ذكر مؤلّفه نقلا عن أستاذه أنّ هذا الدعاء هو من مؤلفات بعض أهل العلم.

بين المتكلّمين والحكماء ، (1) والبرهان ؛ إذ لا بدّ من اجتماع الفاعل المؤثّر وجودا مع معلوله.

وإن تنزّلنا وقلنا : إنّ تلك الحوادث شروط لا يجب اجتماعها كالمعدّات ، فيلزم التسلسل في الأمور المترتّبة الموجودة ، وذلك أيضا محال عند المصنّف وسائر المتكلّمين ، (2) ولا يضرّ عدم بطلانه عند الحكماء ؛ (3) لقيام الدليل على بطلانه كما مرّ في بطلان التسلسل ، وليس المراد من « العالم » جميع ما سوى اللّه ، بل واحد منه ؛ فإنّ « العالم » واحد ، ولهذا يجمع على « العالمين ». نعم ، قد يراد منه الجميع بحمل الألف واللام على الاستغراق ونحو ذلك ، فحاصل كلامه قدس سره جعل وجود حادث ما دليل القدرة.

ويمكن جعل دليل العلم أيضا دليلة ؛ فإنّ الفعل - المحكم ، المتقن ، المشتمل على أمور عجيبة ، ودقائق غريبة ، ومصالح غير متناهية - يدلّ على القدرة وهو ظاهر ، وقد عرفت أنّه لا بدّ من الانتهاء إلى القادر.

وأيضا يمكن جعل النصوص الكثيرة مثل : ( إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (4) وإجماع الملّيّين أيضا دليل القدرة.

بل يمكن جعل دليل وجود الواجب دليله مثل أن يقال : من المعلوم لزوم عدم وجود شيء ما لم ينته إلى واجب ؛ إذ لو لا وجوده فمن أين يوجد؟ وهو ظاهر.

ويمكن جعل كونه قادرا دليل حدوث جميع العالم ؛ فإنّه لا بدّ من الانتهاء إلى

ص: 65


1- « الشفاء » الإلهيّات : 322 ؛ « النجاة » : 235 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 20 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 596 - 602 ؛ « المطالب العالية » 1 : 141 - 157 ؛ « المحصّل » : 343 - 344 ؛ « نقد المحصّل » : 245 - 247 ؛ « كشف المراد » : 117 - 119 ؛ « مناهج اليقين » : 157 - 158 ؛ « إرشاد الطالبين » : 166 ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 144 - 169 ؛ « شوارق الإلهام » : 215 - 226.
2- انظر المصادر ، هامش 1.
3- انظر المصادر ، هامش 1.
4- البقرة (2) : 20 ؛ آل عمران (3) : 165 ؛ النور (24) : 45 ؛ العنكبوت (29) : 20 ؛ فاطر (35) : 1.

القادر المختار ، وقد عرفت أنّ فعله لا يمكن أن يكون قديما ؛ فإنّه يصحّ منه الفعل والترك ، ولا يلزمه الفعل. وعلى تقدير الإيجاب يلزم الاستلزام وعدم إمكان الانفكاك على ما مرّ تقريره من أنّه لا يمكن استناد القديم إلاّ إلى الموجب. وإلى هذا أشار المصنّف في مواضع :

مثل قوله متّصلا ببحث الماهيّة : « والقديم لا يجوز عليه العدم ؛ لوجوبه بالذات ، أو لاستناده إليه » (1) ومعناه لمّا امتنع استناد القديم إلى الفاعل بالاختيار ، فما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ لأنّه إمّا واجب لذاته ، وامتناعه ظاهر حينئذ ، وإمّا مستند إلى الواجب بالذات بلا واسطة أو بوسائط قديمة وإنّما كان يمتنع عدمه ؛ لوجوب دوام المعلول بدوام علّته.

ومثل قوله قبل ذلك : « والمؤثّر يفيد البقاء بعد الإحداث ، ولهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثّر الموجب لو أمكن » (2) فإنّه إشارة ، بل تصريح بأنّ الممكن القديم لا يمكن صدوره إلاّ عن الموجب ، وهو ظاهر ، فافهم.

وأيضا الظاهر أن لا نزاع لأحد في ذلك ؛ فإنّ الحكماء أيضا يقولون : (3) إنّ القديم لم يكن أثرا للمختار.

قال في شرح المواقف : « أثر القادر حادث اتّفاقا » (4) ولهذا قال في الشرح في تقرير الدليل الثالث للإيجاب لهم : « والأزلي لم يكن أثرا للقادر » (5).

وممّا ذكرنا ظهر معنى قوله فيما سبق : « ولا قديم سوى اللّه ؛ لما سيأتي » (6) أي من كونه تعالى قادرا مختارا ، بل من كونه موجودا ؛ فإنّه مستلزم لكونه قادرا مختارا

ص: 66


1- « تجريد الاعتقاد » : 119.
2- نفس المصدر السابق : 120.
3- انظر ص 61 هامش 1 و 2.
4- « شرح المواقف » 8 : 54.
5- انظر « شرح تجريد العقائد » : 311.
6- « تجريد الاعتقاد » : 120 ؛ « كشف المراد » : 82.

على ما مرّ ؛ فإنّا إذا أثبتنا ذلك - إمّا بوجود حادث ما كما ذكرناه ، أو بالدليل المذكور على أنّه عالم كما حرّرناه ، أو بالنصّ - وهو كثير - وإجماع أهل الملل - لزم حدوث جميع ما سوى اللّه ؛ إذ لو كان قديم واحد ، لزم إيجابه تعالى ؛ إذ لم يؤثّر في القديم إلاّ الموجب ، كما مرّ تفصيله ، فتأمّل.

ومن ذلك علم أنّه يمكن جعل القدرة دليل الحدوث ، لا العكس ، إلاّ أن يريد حدوث أمر واحد ، فيصحّ العكس كما مرّ تفصيله ، فثبت أنّه لا قديم سوى اللّه وجاء دليله ، فسقط ما قيل (1) [ من ] أنّه وعد بلا وفاء ، أو أنّه مجرّد دعوى بلا دليل مع ما قال في ديباجة الكتاب : (2) لا يذكر إلاّ ما قاده [ إليه ] الدليل ، وأنّه لم يثبت حدوث العالم ، فكيف يقول : حدوث العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب!؟ » (3).

وقال جمال العلماء بعد عنوان قول المصنّف : « وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب » (4) : « قال الفاضل المعاصر (5) : في الحواشي الفخريّة (6) : يعني به البعديّة الزمانيّة ؛ إذ لا شكّ أنّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيّا ولا طبيعيّا ، وظاهر أنّه لا يتصوّر [ هاهنا ] من أقسام التقدّم الخمسة سوى الزماني.

وفيه ما أفاده والدي العلاّمة (7) - طاب ثراه - من أنّ تقدّم عدم العالم على وجوده لو كان زمانيّا ، لزم أن يكون قبل كلّ زمان زمان لا إلى نهاية ، ويلزم القدم والزمان

ص: 67


1- القائل هو الشارح القوشجي على ما نقله ملاّ جلال في حاشية « شرح تجريد العقائد » : 71 وهو تعريض بقول الطوسي في أوائل كتاب « تجريد الاعتقاد ».
2- أي ديباجة « تجريد الاعتقاد » : 101.
3- « الحاشية على إلهيات الشرح الجديد » للأردبيليّ : 40 - 43.
4- « تجريد الاعتقاد » : 191.
5- هو ميرزا إبراهيم بن ملاّ صدرا. انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » لآقاجمال الخوانساري : 321.
6- هي حواشي الميرزا فخر الدين محمد بن الحسين الأسترآبادي على « شرح التجريد » للقوشجي ، ألّفها في سنة 965 ، انظر : « الذريعة » 1 : 99.
7- ما أفاده من تعليقات على الشرح الجديد لم يطبع لحدّ الآن.

الموهوم الذي أثبته الأشاعرة قبل وجود العالم (1) ، وهو غير صحيح عند المحصّلين من المتكلّمين ومنهم المصنّف كما يظهر من تصفّح كلامهم. (2)

وأيضا ما ذكره - من أنّ تقدّم العدم على الوجود ليس ذاتيّا ولا طبيعيّا - ممنوع عند الحكماء كما صرّحوا به في إثبات الحدوث الذاتي (3). انتهى (4).

والظاهر - كما يستفاد من كلام الشارح في بحث الأمور العامّة (5) - أنّ مراد المصنّف من البعديّة هاهنا هو البعديّة بالذات التي أثبتها المتكلّمون (6) وجعلوها قسما سادسا ، وزعموا أنّ تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض من هذا القبيل.

لكنّ التحقيق أنّه لا محصّل له ؛ إذ لا نجد له معنى معقولا سوى الخمسة ، بل الظاهر أنّه تقدّم بالزمان ؛ فإنّ ذلك التقدّم إذا عرض لغير الزمان كان بواسطة زمان مغاير للسابق والمسبوق. وإن عرض لأجزاء الزمان لم يحتج إلى زمان مغاير لهما. وإن عرض للزمان وغيره ، فلا بدّ أن يكون لذلك الغير زمان. وأمّا الزمان فلا يحتاج إلى زمان آخر ، وحينئذ فعدم الزمان يجب أن يكون في زمان لكن يكفي فيه الزمان الموهوم ، وحينئذ فلا بدّ من القول بالزمان الموهوم. وسنحقّق القول فيه عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا ما ذكره في ذيل « أيضا » فيرد عليه : أنّ مراده أنّه ظاهر أنّه ليس تقدّم عدم الزمان على وجوده تقدّما ذاتيّا ، لا أنّه لا يمكن تقدّم العدم على الوجود تقدّما ذاتيا أصلا ، فاندفع المنع الذي ذكره. على أنّ فيما ذكره الحكماء في إثبات الحدوث الذاتي - من تقدّم عدم الممكن على وجوده تقدّما ذاتيا البتّة - تأمّلا ليس هاهنا

ص: 68


1- انظر المصادر المذكورة في ص 50 هامش 1.
2- انظر المصادر المذكورة في ص 50 هامش 1.
3- راجع المصادر في ص 48 - 49 هامش 1.
4- أي كلام الفاضل المعاصر.
5- الشارح هنا هو القوشجي ، انظر : « شرح تجريد العقائد » : 39.
6- انظر المصادر المتقدّمة في ص 50 هامش 1 و 3.

موضع تحقيقه ، فافهم.

ثمّ قال (1) - سلّمه اللّه تعالى - : « ثمّ أقول : يشبه أن يقال : إذا كان زمان وجود العالم متناهيا في جانب البداءة - كما هو مذهب الملّيّين (2) - كان للعدم تقدّم عليه - سوى التقدّم الذاتي الذي أثبته الفلاسفة (3) لعدم الممكن على وجوده ، المعبّر عنه بالحدوث الذاتي - شبيه بالتقدّم الزماني الذي للحوادث الزمانيّة ، ولأجزاء الزمان بعضها على بعض عندهم في عدم اجتماع السابق والمسبوق.

والفرق أنّ لتقدّم الزمانيّات ملاكا في الخارج متجدّدا متصرّما مستمرّا ، يعرض لأجزاء ما يحصل من تجدّدها وتصرّمها واستمرارها في الخيال ذلك التقدّم أوّلا وبالذات ، ثمّ بتوسّطها يعرض للحوادث ، ولهذا يعرض له خواصّ التقدّر والتكمّم ، بخلاف تقدّم العدم على وجود العالم على مذهب الملّيّين (4) ؛ فإنّه ليس له مثل ذلك الملاك ، ولا يمكن تقديره وتعيينه ، ولا يكون فيه قرب وبعد ، وزيادة ونقصان إلاّ بمحض التوهّم.

ونظير ذلك ما قالوا (5) : إنّ فوق محدّد الجهات لا خلاء ولا ملاء مع أنّ الفوقيّة متحدّدة به ، فكما أنّ العقل هناك يعلم من تناهي البعد المكاني أنّ وراءه عدما صرفا ونفيا محضا ، وينتزع من ذلك ويحكم بمعونة الوهم أنّ لهذا العدم المحض فوقيّة ما على المكان والمكانيّات ، كفوقيّة بعض أجزاء المكان على بعض مع أنّه لا مكان هناك ، كذلك هاهنا يعلم من تناهي الزمان والزمانيّات في جانب البداءة أنّ وراءها عدما صرفا ونفيا محضا ، وينتزع من ذلك ويحكم بأنّ لهذا العدم الصرف قبليّة ما

ص: 69


1- أي قال الفاضل المعاصر.
2- راجع الهامش 1 من ص 50 أعلاه.
3- انظر المصادر المتقدّم ذكرها في ص 50.
4- انظر المصادر المتقدّم ذكرها في ص 50.
5- أي قول الحكماء في الطبيعيّات. انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 246 ؛ « النجاة » : 130 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 170 وما بعدها ؛ « التحصيل » :5. 612.

على وجود العالم والزمان ، شبيهة بقبليّة أجزاء الزمان بعضها على بعض. وهذا هو المراد من قول المصنّف : « وجود العالم ... » إلى آخره ، بل هذا هو الحدوث الزماني المتنازع فيه بين الملّيّين والفلاسفة ، ولا يلزم من ذلك وجود زمان قبل الزمان ، بل مجرّد ذلك الزمان الموجود مع ملاحظة تناهيه كاف في انتزاع الوهم وحكم العقل بهذه القبليّة. وليس هذا إثبات الزمان الموهوم كما ليس ذلك إثبات المكان الموهوم ، فتدبّر » انتهى (1).

وأنت خبير بأنّ سبق العدم على الزمان - على ما أفاده - لا يرجع إلاّ إلى كون الزمان متناهيا من غير أن يكون سبق عدم حقيقة ، بل بمحض التوهّم ، وهذا ليس إلاّ القول بالقدم بالحقيقة ؛ لأنّه إذا لم يكن انفصال بين ذات الواجب تعالى وبين العالم ، ولا يمكن أن يقال : إنّه كان الواجب ولم يكن العالم ، فيكون العالم قديما البتّة ، ولو أطلق عليه الحادث ، فلا يكون إلاّ بمجرّد الاصطلاح في إطلاق « القديم » و « الحادث » على ما كان زمانه متناهيا وغير متناه ، وهو لا يفيد.

وبالجملة ، إنّه لا بدّ على طريقة الملّة من القول بوجود إله العالم بدون العالم بأن يكون بينهما انفصال. وعلى ما ذكره هذا الفاضل لا يكون كذلك ، بل يكون وجود العالم متّصلا بوجوده تعالى من غير انفكاك ولا انفصال بينهما. ولو جوّز هذا فلم لا يجوّز كونه غير متناه أيضا؟ إذ لا يلزم فيه إلاّ عدم الانفصال وهو قد لزم في صورة التناهي أيضا.

لا يقال : إنّه ليس وجود الواجب تعالى زمانيّا ، فلا معنى لاتّصال العالم بالواجب وانفكاكه عنه.

لأنّا نقول : فعلى هذا إذا كان الزمان غير متناه أيضا ، لا اتّصال للعالم به تعالى فلم لم يجوّزه؟

ص: 70


1- أي انتهى كلام الفاضل المعاصر.

والحلّ : أنّا لا نقول : إنّه يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، حتّى يرد ما ذكرت ، بل الغرض أنّه يجب أن يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم يصحّ فيه قولنا : « كان الواجب - على المعنى الذي يصحّ الآن - ولا يكون العالم فيه » ولم يتحقّق ذلك على ما أفاده هذا الفاضل.

هذا ، على أنّ الظاهر أنّه كما يقال في الأجسام : إنّه زمانيّ ، بمعنى أنّ وجوده مقارن لوجود الزمان ، يصحّ ذلك في شأن الواجب تعالى أيضا ؛ إذ يصدق أنّ وجوده تعالى مقارن لوجود الزمان.

نعم ، لا يصحّ أن يقال : إنّه زمانيّ ، بمعنى أنّ وجوده ينطبق على الزمان مثل الحركة ، ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ، وعلى هذا فلا إشكال أصلا.

هذا ما يخطر بالبال ، على سبيل الاحتمال ، فإن كان من الحقّ ، فهو الحقّ ، وإن كان من الوساوس الشيطانيّة ، فنعوذ باللّه منه. واللّه يعلم حقيقة الحال.

وأمّا النظير الذي ذكره من قولهم : « لا خلاء ولا ملاء فوق المحدّد » فهو قول على سبيل التوسّع ، والمقصود أنّه لا شيء وراءه بدون توهّم فوقيّة أصلا ، فلا يصلح للتنظير. على أنّه - على تقدير صحّته - ممّا لا يفيد بعد ما بيّنّا أنّه لا يجوز أن يكون حدوث العالم بهذا الوجه ، فتأمّل » (1). انتهى ما أردنا ذكره من كلامه (2) ؛ ويظهر ماله وعليه ممّا ذكرنا في مقامه.

وبالجملة ، فهذه الجملة بيان لوجه واحد من الوجوه العقليّة لإثبات القدرة.

ومنها : ما يستفاد ممّا حكيناه من كلام المقدّس الأردبيلي.

ومنها : ما أشرنا إليه من أنّ القدرة صفة كمال لا يقتضي ثبوتها على وجه العينيّة نقص صاحبها ، وكلّ ما هو كذلك فهو ممكن الثبوت في حقّه تعالى على وجه

ص: 71


1- « الحاشية على حاشية الخفري على الشرح الجديد » لجمال العلماء 99 - 103.
2- أي من كلام جمال العلماء الخوانساريّ.

العينيّة ، وكلّ ما هو كذلك فهو ثابت كذلك على سبيل الوجوب بمقتضى وجوب الوجود.

ومنها : أنّ الاضطرار نقص مناف لوجوب الوجود ، فيتعيّن الاختيار ؛ لأنّ الواسطة غير معقولة.

ومنها : أنّ العالم لا يخلو من الحركة والسكون المستدعيين للمسبوقيّة ، المستدعية للحدوث المنافي للقدم المقتضي لوجود المحدث المختار. هذا ما يتعلّق ببيان البراهين العقليّة.

وأمّا البراهين النقليّة ، فكثيرة :

منها : قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) فإنّها تدلّ على أنّ اللّه قادر بالقدرة الواقعيّة باعتبار جزأيها بأن شاء الترك فترك ، وشاء الفعل ففعل بإحياء الموتى ونحوه سيّما بالنسبة إلى عزير.

فعن مولانا عليّ علیه السلام : « إنّ عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة ،

ص: 72


1- البقرة (2) : 258 - 260.

فأماته اللّه مائة سنة ، ثمّ بعثه ، فرجع إلى أهله ابن خمسين سنة وله ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه ، فذلك من آيات اللّه » (1).

وقيل : إنّه رجع وقد أحرق بخت نصّر التوراة فأملاها من ظهر قلبه ، فقال رجل منهم : حدّثني أبي عن جدّي أنّه دفن التوراة في كرم ، فإن أريتموني في كرم جدّي أخرجتها لكم ، فأروه فأخرجها ، فعارضوا ذلك بما أملى ، فما اختلفا في حرف ، فقالوا : ما جعل اللّه التوراة في قلبه إلاّ وهو ابنه ، فقالوا : عزير ابن اللّه (2).

وكذا إحياء أربعة من الطير ، وهي : الطاوس والديك والحمام والغراب ، كما عن أبي عبد اللّه علیه السلام (3) ؛ فإنّه يدلّ على أنّ اللّه قادر عزيز قويّ لا يعجز عن شيء ، بل تذلّ الأشياء له ولا يمتنع عليه شيء.

ومنها : قوله تعالى : ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . (4)

ومنها : قوله تعالى : ( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (5) بمعنى أنّه تعالى قدير على نصركم فيما بعد أيضا ، كما نصركم يوم بدر فأصبتم مثلي ما أصابكم يوم أحد ، من جهة مخالفتكم باختياركم الفداء من الأسرى يوم بدر ، وكان الحكم فيهم القتل وقد شرط عليكم بأنّكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدّتهم ، فقلتم : رضينا فإنّا نأخذ

ص: 73


1- « مجمع البيان » 2 : 174 و 178.
2- « مجمع البيان » 2 : 174 و 178.
3- انظر : « مجمع البيان » 2 : 174 ؛ « تفسير القمّي » 1 : 86 - 91 ؛ « تفسير العياشيّ » 1 : 159 - 166 ؛ « التبيان » 2 : 320 - 331 ؛ « البرهان في تفسير القرآن » 1 : 246 - 252 ؛ « الصافي » 1 : 264 - 272 ؛ « كنز الدقائق » 1 : 622 - 639 ؛ « الدرّ المنثور » 2 : 26 - 36 ؛ « الكشّاف » 1 : 305 - 310.
4- البقرة (2) : 284.
5- آل عمران (3) : 165.

الفداء وننتفع به ، وإذا قتل منّا فيما بعد كنّا شهداء. كما عن عليّ علیه السلام (1) ، أو نحو ذلك (2).

ومنها : قوله تعالى : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).

ومنها : قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) (4).

ومنها : ما رواه في « الكافي » في باب الصفات - في الصحيح على الصحيح - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « خلق اللّه المشيئة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة » (5) لدلالته على أنّ اللّه تعالى خلق المشيئة - التي هي عبارة عن الإرادة الحادثة - بنفسها من غير توسّط مشيئة أخرى ليلزم التسلسل كجعل النور مضيئا بنفسه والمنوّر مضيئا بالنور ، وخلق الموجود بالوجود والوجود بنفسه ، ثمّ خلق بتلك المشيئة الحادثة الأشياء ، فيدلّ على أنّ تأثير الواجب بالذات في المخلوقات والممكنات على وجه الحدوث الفعلي الذي يقول به الملّيّون سيّما بملاحظة كلمة « ثمّ » فيلزم القدرة الفعليّة بتحقّق الجزء السلبيّ والإيجابيّ معا.

ومنها : الصحيح الآخر عنه علیه السلام ، قال : « المشيئة محدّثة » (6) ووجه الدلالة مثل ما مرّ.

ومنها : الآخر عنه علیه السلام : « لم يزل اللّه عزّ وجلّ ربّنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر

ص: 74


1- « تفسير القمّي » 1 : 126 - 127 ؛ « تفسير العياشيّ » 1 : 229 / 169 ؛ « التبيان » 3 : 40 - 41 ؛ « مجمع البيان » 2 : 436 ؛ « روح الجنان » 1 : 680 - 681.
2- « تفسير القمّي » 1 : 126 - 127 ؛ « تفسير العياشيّ » 1 : 229 / 169 ؛ « التبيان » 3 : 40 - 41 ؛ « مجمع البيان » 2 : 436 ؛ « روح الجنان » 1 : 680 - 681.
3- المائدة (5) : 40.
4- القيامة (75) : 3 - 4.
5- « الكافي » 1 : 110 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ح 4 ؛ « التوحيد » : 148 باب صفات الذات ... ح 19.
6- « الكافي » 1 : 110 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ح 7 ؛ « التوحيد » : 147 باب صفات الذات ... ح 18.

على المبصر ، والقدرة على المقدور » (1) لدلالته على ثبوت القدرة - كالعلم ونحوه من صفات الذات - له تعالى ، وأنّه خلق بالمشيئة والإرادة الحادثة - المقدّرة على وفق نظام الكلّ - كلّ شيء بعد أن لم يكن ، كما أنّه تعالى علم بكلّ شيء بالعلم الذي هو عين ذاته.

والمقصود أنّ علمه تعالى قبل الإيجاد هو بعينه علمه بعد الإيجاد ، والمعلوم قبله هو بعينه المعلوم بعده ، وهكذا المقدور ونحوه من غير تفاوت وتغيّر في العلم والقدرة ونحوهما ، ولكنّ المعلوم بوصف المعلوميّة والمقدور بوصف المقدوريّة ونحوهما من الحوادث ، فيدلّ على حدوث الاتّصاف بوصف المعلوميّة والمقدوريّة ، لا حدوث التعلّق كما هو ظاهر الذيل لصرف الصدر كما لا يخفى ، مضافا إلى العقل ؛ لدلالته على أنّ علمه تعالى متعلّق بالمعلوم قبل الإيجاد وبعده على نحو واحد ، وهو المذهب الصحيح الذي ذهب إليه الإماميّة (2).

والحاصل : أنّ الحديث يدلّ على أنّ المعلوم بوصف المعلوميّة في مقام ذاته حادث وإن كان العلم به على وجهه حاصلا في مقام ذات العلّة ، وكان معلوميّته في مقام ذات العلّة أيضا حاصلة كعالميّة العلّة ، كما هو مقتضى وصف التضايف في المتضايفين.

وتوهّم (3) دلالته على أنّ علمه تعالى قديم ، وتعلّقه حادث ، أو على أنّ العلم على قسمين : ذاتيّ وفعليّ ، والذاتيّ قديم والفعليّ حادث فاسد ؛ لأنّ ذاته تعالى علّة تامّة للمعلولات وهو تعالى عالم بالعلم التامّ بذاته الذي هو علّة تامّة ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم التامّ بالمعلولات ، فهو عالم بالمعلولات بتفصيلها الذي هو من

ص: 75


1- « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ... ح 1 ؛ « التوحيد » : 139 باب صفات الذات ... ح 1.
2- انظر : « شرح أصول الكافي » للمازندرانيّ 3 : 315 - 321 ؛ « شرح أصول الكافي » لملاّ صدرا : 274 - 278 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 407 - 417 ؛ « شوارق الإلهام » : 509 وما بعدها ؛ « مرآة العقول » 2 : 9 - 10.
3- راجع « شرح أصول الكافي » للمازندرانيّ 3 : 319 - 321.

المعلولات أيضا في مقام الذات ، كما سيأتي إن شاء اللّه.

ومنها : ما ذكره مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة الغرّاء : « وأستعينه قاهرا قادرا » (1).

ومنها : قوله علیه السلام في الخطبة الأخرى : « فطر الخلائق بقدرته » (2).

ومثله ما يدلّ على أنّه تعالى ذو القدرة التامّة الكاملة ، كقول الصادق علیه السلام : « فذلك الشيء هو اللّه القادر » (3).

إلى غير ذلك من الأدلّة السمعيّة الدالّة على أنّ تأثير اللّه تعالى في وجود العالم بالقدرة والاختيار من غير إيجاب واضطرار كتأثير الشمس والنار فيما هو من لوازم ذاتهما كالإشراق والإحراق والإضرار.

وأمّا ما ذكره في خطبته الأخرى - من قوله علیه السلام : « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال التوحيد الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه » (4) - فمعناه أنّ كمال التوحيد نفي الصفات الزائدة عنه ؛ بشهادة قوله : « لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف » إلى آخره ؛ لدلالته على أنّ المراد نفي الصفات الزائدة عنه تعالى ؛ بقرينة ذكر المغايرة والمقارنة والتثنية في وجوب الوجود ، والتجزئة والتركّب في ذاته من أمور عديدة ؛ على أنّه معارض بالأقوى من العقل والنقل الكتابيّ والخبريّ.

ص: 76


1- « نهج البلاغة » : 116 ، الخطبة 83.
2- نفس المصدر : 13 ، الخطبة 1.
3- « تفسير الإمام العسكرىّ » : 22 ؛ « التوحيد » : 231 باب معنى بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ح 5 ؛ « معاني الأخبار » : 5 باب معنى اللّه عزّ وجلّ ؛ « البرهان في تفسير القرآن » 1 : 45 ذيل تفسير البسملة ، ح 8.
4- « نهج البلاغة » : 14 - 15 ، الخطبة 1.
[ دلائل المخالفين النافين لقدرة اللّه ؛ والجواب عنها ]

اعلم أنّ المخالفين النافين (1) لقدرة اللّه تمسّكوا في نفيها بوجوه :

الأوّل : ما هو كالاعتراض على الدليل المذكور ، وهو أنّ دليلكم يدلّ على أنّ مؤثّر العالم مختار قادر ، ولا يدلّ [ على ] أنّ واجب الوجود هو القادر ؛ لجواز أن يكون الواجب تعالى موجبا لذاته اقتضى على سبيل الإيجاب معلولا قديما قادرا ليس بجسم ولا جسمانيّ يؤثّر في العالم على سبيل القدرة والاختيار.

وأشار المصنّف إلى الجواب عنه بقوله : ( والواسطة غير معقولة ) بمعنى أنّا بيّنّا حدوث العالم - بمعنى ما سوى اللّه - بجملته وأجزائه وجزئيّاته ، وثبوت الواسطة بين ذات اللّه تعالى وبين العالم - بمعنى مطلق ما سواه - غير معقول ، بل عقل كلّ ذي عقل يحكم بفساده. هكذا قرّر العلاّمة رحمه اللّه (2) بل الشارح القوشجي (3) وغيره. (4)

ويمكن تقريره بوجه آخر (5) بأن يقال : إذا انتفى كونه موجبا ، تعيّن أن يكون قادرا مختارا ؛ إذ لا واسطة بينهما ؛ لأنّ صدور الفعل إمّا أن يكون مع جواز أن لا يصدر عنه ، أو مع امتناع أن لا يصدر عنه ، فإن كان الأوّل كان المؤثّر قادرا. وإن كان الثاني كان المؤثّر موجبا ، ولا يعقل بينهما واسطة.

وقال المحقّق الأردبيليّ رحمه اللّه بعد عنوان قوله : « والواسطة غير معقولة » : « يحتمل أن يكون إشارة إلى بطلان الاحتمال المذكور في الشرح (6) بأنّ ذلك الاحتمال قول باطل غير معقول لا يقول به متكلّم ولا حكيم ؛ لأنّ دليل الحكيم على الإيجاب يقتضي أن

ص: 77


1- انظر « شرح تجريد العقائد » : 310.
2- « كشف المراد » : 281.
3- « شرح تجريد العقائد » : 310.
4- « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد » : 43 - 44 ؛ « شوارق الإلهام » : 503 - 504.
5- انظر : « شوارق الإلهام » : 504.
6- « شرح تجريد العقائد » : 310.

لا يكون قادر أصلا ، بل نقل في حواشي المطالع العلاّمة الدواني (1) : أنّ ذلك تحقيق مذهبهم وإن قال الشارح غير ذلك من أنّ العبد فاعل مختار عندهم (2) ، أو لأنّ اللّه تعالى لا يصدر منه ذو إرادة ؛ فإنّه متعدّد وهو واحد من جميع الوجوه ولا يصدر منه إلاّ واحد كذلك أو لأنّ ذلك الواحد إنّما يكون عقلا والإيجاب كمال ولا بدّ من حصول جميع ما يكون كمالا للعقل عندهم. »

قال في شرح المواقف : فأنكر الحكماء القدرة بالمعنى المذكور ؛ لاعتقادهم أنّه نقصان ، وأثبتوا له الإيجاب ؛ زعما منهم أنّه الكمال التامّ (3).

وأمّا ما ذكره الشارح (4) واعترض عليه فهو ما ذكره في المواقف وأورد ذلك الاعتراض حيث قال : « اللّه تعالى قادر ، وإلاّ لزم أحد الأمور الأربعة : إمّا نفي الحادث ، أو عدم استناده إلى المؤثّر ، أو التسلسل - بالمعنى المتقدّم - أو تخلف الأثر عن المؤثّر الموجب التامّ. وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم.

أمّا بيان الملازمة : فهو أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد ، فإن لم يوجد فهو الأمر الأوّل. وإن وجد فإمّا أن لا يستند إلى مؤثّر أو يستند ، فإن لم يستند فهو الثاني. وإن استند فإمّا أن لا ينتهي إلى قديم أو ينتهي ، فإن لم ينته فهو الثالث. وإن انتهى فلا بدّ هناك من قديم يوجب حادثا بلا واسطة دفعا للتسلسل ، فيلزم الرابع.

وأمّا بطلان اللوازم : فالأوّل بالضرورة ، والثاني بما علمت من أنّ الممكن محتاج إلى مؤثّر ، والثالث بما مرّ في مباحث التسلسل ، والرابع بأنّ الموجب التامّ ما يلزمه أثره وتخلّف اللازم عن الملزوم محال (5).

قال في الشرح : وقيل هذا الدليل برهان بديع لا يحتاج إلى إثبات حدوث العالم

ص: 78


1- « حاشية حاشية شرح المطالع » الورقة 50.
2- « شرح تجريد العقائد » : 341.
3- « شرح المواقف » 8 : 49.
4- نفس المصدر ، ص 50.
5- « المواقف » ضمن « شرح المواقف » 8 : 50.

وقد تفرّد به المصنّف (1).

وقال صاحب المواقف بعد تقرير الدليل بطوله : وإن شئت قلت - أي في إثبات كونه قادرا - : لو كان البارئ تعالى موجبا بالذات ، لزم قدم الحادث. والتالي باطل ؛ إذ لو حدث لتوقّف على شرط حادث ، وحينئذ يتسلسل (2).

ثمّ قال : واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يتمّ بأحد طريقين : الأوّل : أن يبيّن حدوث ما سوى ذات اللّه تعالى ، وأنّه لا يجوز قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته (3). فاعتراض الشارح (4) هو ما ذكره مع شيء زائد.

والظاهر أنّ مراده (5) أنّه يرد على الدليل على هذا المطلب سواء قرّر على الوجه الذي ذكره أوّلا مفصّلا ، أو اختصر بقوله : « وإن شئت » ، وأنّ ذلك اختصار للدليل الأوّل ، لا أنّه دليل آخر غير ذلك ، وأنّ الإيراد وارد على الكلّ.

فقوله : « قيل ... » باطل. وكذا حمل السيّد الشارح قول المصنّف : « وإن شئت » على أنّه دليل آخر ؛ حيث قال - بعد قول المصنّف : « واعلم أنّ هذا الاستدلال لا يتمّ ... » - : أي الذي أشار إليه بقوله : « وإن شئت قلت » (6) وقال أيضا : « ولقائل أن يقول ... » (7) فجعل ذلك دليلا آخر غير الأوّل ، مع أنّه ليس إلاّ اختصار ذلك ، كما فهمه صاحب « قيل » وهو باطل.

وكذا قوله بعده : « واعلم - إلى قوله - ولقائل أن يقول : ذلك البرهان البديع لا يتمّ أيضا إلاّ بالطريق الأوّل ؛ إذ لو جاز قديم سوى ذاته تعالى وصفاته أو جاز تعاقب

ص: 79


1- « شرح المواقف » 8 : 51.
2- نفس المصدر مع اختلاف في المنقول.
3- نفس المصدر مع اختلاف في المنقول.
4- « شرح المواقف » 8 : 51.
5- أي مراد صاحب المواقف من قوله : « واعلم ... » وقوله : « إن شئت ... ».
6- « شرح المواقف » 8 : 51.
7- « المواقف » ضمن « شرح المواقف » 8 : 52.

صفاته التي لا تتناهى ، لم يلزم الأمر الرابع ، أعني التخلّف عن المؤثّر التامّ.

أمّا على الأوّل : فلأنّه جاز أن يكون ذلك القديم مختارا كما مرّ.

وأمّا على الثاني : فلجواز استناد الحادث إلى الموجب بتعاقب حوادث لا تتناهى ، وليس يلزم على شيء من هذين تخلّف الأثر عن المؤثّر الموجب التامّ ؛ لأنّ مؤثّره إمّا مختار مع كون البارئ تعالى موجبا ، وإمّا غير تامّ في المؤثّريّة ؛ لتوقّف تأثيره فيه على شرائط حادثة غير متناهية قائمة بذاته تعالى » (1).

على أنّ الأوّل يدفع بما مرّ ، والثاني قد يدفع بدليل بطلان التسلسل مطلقا.

ثمّ إنّه يحتمل أن يدفع كون الواجب موجبا ، ويثبت كونه تعالى قادرا بأنّه نقص ، بل يلزم أن يكون أنقص من مخلوقه ؛ فإنّ القدرة بالمعنى المذكور كمال والإيجاب عجز ، بل فعله كلا فعل وهو ظاهر ، وبإجماع أهل الملل ، والنصوص الكثيرة ، مثل قوله : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (2) من وجهين ، فافهم.

ويمكن أن يقال : يمكن تقرير المتن هكذا : إنّه لا شكّ في وجود العالم الحادث المخلوق لله تعالى بلا واسطة ، وهو ظاهر ؛ إذ نعلم أنّ بعض الأشياء لا يصدر إلاّ منه ، ولهذا أثبت النبوّة بإظهار المعجزة ، وأنّه ليس إلاّ فعله ، وعلمنا بأنّه فعل فعلا متقنا ذا مصالح كثيرة وهي حادثة ، فيلزم قدرته ، وهو ظاهر ، وهو معنى قوله قدس سره : « وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب » أي وجود ذي علم مثل الإنسان ينفي كون الواجب الذي يوجده موجبا ؛ إذ يلزم قدمه لو كان موجبا ، وهو ظاهر ، ولا يرد عليه شيء أصلا إلاّ منع أن يكون له فعل حادث ، وهو مكابرة وإن لم يمكن إسكات الخصم من الحكماء وغيرهم من الملاحدة ، ولكنّ الظاهر أنّه لا ينكره أحد من الملّيّين مسلما وغيره ، فيحتمل أن يكون

ص: 80


1- « شرح المواقف » 8 : 51 - 53.
2- الفاتحة (1) : 2.

حينئذ معنى قوله : « والواسطة غير معقولة » أنّ الواسطة بين الواجب والحادث - بمعنى أنّه لا يمكن استناد الحادث إليه - غير معقولة ؛ لكونه منه ولو بالإمكان وذلك كاف ، أو نقول بأنّه قد يكون موجبا بالنسبة إلى غير الحادث ، مختارا بالنسبة إليه ، وهو واسطة بين قول الحكيم والمتكلّم ، فهي أيضا غير معقولة ؛ لأنّه إمّا قادر أو موجب.

ثمّ إنّه يتراءى من قوله : « ولمّا لم يثبت عند المصنّف » (1) أنّه يعترض على المصنّف بالتنافي والتناقض ؛ حيث قال : لا دليل على امتناع العقل (2) ، مع أنّه قال : لا قديم سوى اللّه ، وأنّ جميع ما سوى اللّه حادث (3).

وهو بريء عن ذلك ؛ فإنّ مجرّد تجويز العقل من حيث هو هو لا يدلّ على عدم امتناعه والدليل عليه على تقدير قدمه ، وهو ظاهر وإن قال القائل بوجود العقل بقدمه وأنّ الحادث إنّما يكون ماله مادّة ومدّة على ما ذكر في شرح المواقف وغيره (4) ، ولم يلزم قول المصنّف (5) بذلك ، وهو ظاهر.

ثمّ اعلم أنّ الدليل المذكور منقوض - خصوصا على ما ذكره في المواقف (6) - بكونه مختارا فينفيه أيضا ؛ لأنّه ينقل الكلام إلى الإرادة ، فيلزم التسلسل ، أو استغناء الحادث عن المؤثّر والترجيح بلا مرجّح ، أو نفي الحادث ؛ فإنّ الإرادة بمنزلة شرط حادث. وهذا من أعظم أدلّتهم وأقواها على الإيجاب.

قال في المواقف : « احتجّ الحكماء - ( أي على إيجابه تعالى ) - بوجوه كثيرة :

ص: 81


1- « شرح تجريد العقائد » : 310.
2- قال المحقّق نصير الدين : « أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ، وأدلّة وجوده مدخولة ». انظر : « تجريد الاعتقاد » : 155.
3- « تجريد الاعتقاد » : 120. وفيه : « ولا قديم سوى اللّه ».
4- « شرح المواقف » 4 : 5 - 6 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 14.
5- قال في « تجريد الاعتقاد » : 120 : « ولا يفتقر الحادث إلى المدّة والمادّة وإلاّ لزم التسلسل ».
6- « المواقف » ضمن « شرح المواقف » 8 : 53.

الأوّل : قيل (1) : إنّما عبّر بالأوّل ؛ لأنّه الذي يعوّلون عليه أنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين المقدورين له إمّا لذاتها ، كتخصيص بعض الجسم بشكل معيّن ولون مخصوص دون ما عداه فيستغني الممكن عن المرجّح ، وأنّه ينسدّ باب إثبات الصانع. وأيضا يلزم قدم الأثر. وإمّا لا لذاتها ، فيحتاج إلى مرجّح آخر فيلزم التسلسل (2).

وأنت تعلم أنّ هذا على طريق الاستدلال لا يصحّ ؛ فإنّ غاية ما يلزم التسلسل في الحوادث والإرادات التي قد تكون متفرّقة مرتّبة ، وهو غير باطل عندهم.

وأمّا إلزاما للمتكلّم ، فلهم أن يقولوا بعدم احتياج الإرادة إلى مرجّح وعلّة ما ، أو يقولوا بجواز الترجيح بلا مرجّح كما صرّح به في المواقف وغيره (3).

قال : والجواب أنّ تعلّقها إنّما هو بذاتها كما بيّنّا في طريقي الهارب وقدحي العطشان.

قولكم : فيستغني الممكن عن المرجّح ، قلنا : لا يلزم من ترجيح القادر لأحد مقدوريه بلا مرجّح ترجّح الممكن في حدّ ذاته من غير المرجّح.

وبالجملة ، فالترجيح بلا مرجّح غير الترجيح بلا مرجّح ، ولا يلزم من صحّته صحّته (4) ، فتأمّل فيه ؛ فإنّه قيل باستلزام الترجيح بلا مرجّح الترجّح ، وقد يمنع ذلك ، فتأمّل.

وقال أيضا : قولكم : يلزم قدم الأثر ، قلنا : ممنوع ، وإنّما يلزم في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاء دائما ؛ إذ نسبته إلى الأزمنة سواء. وأمّا القادر ، فيجوز أن تتعلّق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت دون غيره » (5).

ص: 82


1- القائل هو الشريف الجرجاني في « شرح المواقف » 8 : 53.
2- « شرح المواقف » 8 : 53 - 54 ، نقله بتصرف.
3- « شرح المواقف » 8 : 54 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 97.
4- « المواقف » ضمن « شرح المواقف » 8 : 54.
5- نفس المصدر السابق ، ص 55.

ويمكن أن يختار أنّه لا لذاتها ؛ بل للعلم بالمنفعة والمصلحة المترتّبة على ذلك الشيء الذي خلق على ذلك الوجه وذلك الزمان ، فالعلم هو داع ومرجّح وسبب لتعلّق الإرادة ، والإيجاد - وإن وجب بذلك - لا يخرج عن القادريّة ؛ لأنّه بالإرادة والاختيار ، وهو غير مناف للاختيار ، وهو ظاهر ، وقد ذكروه أيضا ، فتأمّل ؛ فإنّ علم الواجب في الأزل بأنّ في إيجاد شيء معيّن على وجه معيّن في وقت معيّن نفعا ومصالح لا في غيره لا يضرّ الاختيار ، بل ولا وجوب الإرادة ، فيختار لذلك ويوجده حينئذ وإن وجب الفعل بعد الإرادة بالعلم وعدم احتياج العلم إلى علّة غير الذات ، فتأمّل فيه ، فلا يحتاج إلى ما اختاره في « المواقف » أيضا من قوله : « وربما يقال : الفعل مع الدواعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى الوجوب » مع تضعيفه بقوله : « وقد عرفت ضعفه » (1) ؛ لأنّه قد ذكر قبله « أنّ الفعل لا يوجد بالأولويّة ، بل لا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب » (2) على أنّه قد يمنع ذلك ، فتأمّل (3). انتهى كلامه رفع مقامه.

وبالجملة ، فمراد المصنّف - ظاهرا - أنّه ثبت فيما سبق أنّ العالم - بمعنى جميع ما سوى اللّه - حادث ، فيحتاج إلى محدث قادر ، وذلك القادر إن كان غير اللّه تعالى ، يلزم الواسطة بين اللّه وما سواه ، والواسطة غير معقولة ، فثبت أنّ ذلك القادر هو اللّه تعالى ، فثبت عقلا أنّه تعالى قادر موصوف بصفة القدرة.

ولكنّ الشارح القوشجي قال : « أقول : لم يثبت فيما سبق أنّ جميع ما سوى اللّه تعالى حادث ، بل إنّما ثبت حدوث الأجسام وعوارضها ، ولمّا لم يثبت عند المصنّف وجود المجرّدات أطلق القول بحدوث العالم ، لكن كما لم يثبت عنده وجود المجرّدات لم يثبت عنده عدمها أيضا ، كما قال في صدر الفصل الرابع في الجواهر المجرّدة : أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ، وأدلّة وجوده مدخولة. فللمعترض

ص: 83


1- « شرح المواقف » 8 : 55.
2- نفس المصدر 3 : 164.
3- « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد للتجريد » للأردبيليّ : 43 - 49.

أن يقول : لم لا يجوز أن يوجد الواجب تعالى بطريق الإيجاب جوهرا مجرّدا ليس بجسم ولا جسمانيّ ، قديما قادرا يكون هو الذي أوجد العالم الجسمانيّ بالقدرة والاختيار؟ » (1).

وأنا أقول : لمّا كان المصنّف من الملّيّين ، وإجماع الملّيّين على حدوث العالم - بمعنى جميع ما سوى اللّه - بالحدوث الواقعي المذكور يقتضي عدم الالتفات إلى احتمال الواسطة على الوجه المذكور ؛ لأنّها غير معقولة على هذا الفرض المقتضي للعلم بإخبار الصانع بأنّي أوجدت العالم على وجه الحدوث المذكور ، حكم بما ذكر.

وإلى ما ذكرنا أشار المحقّق الخفري حيث قال : « أقول : العمدة في إثبات حدوث العالم إجماع الملّيّين والحديث (2) المشهور الذي لا دليل عقليّ يعارضه ، فليس للمتكلّمين التفات إلى هذا التجويز (3) المخالف للإجماع والحديث ، ولهذا قال المصنّف : « والواسطة غير معقولة » أي لا دليل عقليّ عليه ، فتجويزها - مع أنّه مخالف للإجماع المذكور والحديث المشهور - غير ملتفت إليه.

وأيضا الدليل العقلي قائم بأنّ الممكن الذي لا وجود له باعتبار ذاته لا يوجد جوهرا ، وهذا ممّا يوافق كلام الحكماء.

قال بهمنيار في كتابه المسمّى ب- « التحصيل » : « وإن سألت الحقّ ، فلا يصحّ أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ الوجه من معنى ما بالقوّة ، وهذا هو صفة الأوّل تعالى لا غير ؛ إذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى بالقوّة - سواء كان عقلا أو جسما - كان للعدم شركة في إفادة الوجود ، وكان لما بالقوّة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل » (4) انتهى.

ص: 84


1- « شرح تجريد العقائد » : 310.
2- هو قوله علیه السلام : « كان اللّه ولم يكن معه شيء ».
3- أي احتمال وجود جوهر مجرّد قديم قادر يكون واسطة. ( منه رحمه اللّه ).
4- « التحصيل » : 521 - 522.

فمعنى قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » أنّ الواسطة في إيجاد العالم الجسمانيّ ممّا ينفيه البرهان العقلي الدالّ على أنّ إيجاد الجواهر والأعراض المفارقة لذات الموجد ممّا هو مختصّ بالمبدإ الأوّل تعالى ، وهذا لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنها » (1). انتهى.

وقال الفاضل اللاهيجيّ : « يعني أنّ حدوث العالم - بمعنى جميع ما سوى اللّه - وإن لم يكن ثابتا بالدليل العقليّ ، بل الثابت بالدليل إنّما هو حدوث عالم الأجسام فقط ، لكنّه ثابت بالإجماع والحديث اللّذين هما المعتمدان فيما لا سبيل للعقل إليه ، فالواسطة - أي كون بعض ما سوى اللّه قديما وواسطة في الإيجاد بين اللّه وبين سائر ما سواه - غير معقولة أي غير ثابتة بالدليل العقليّ ، وما لا يكون ثابتا بالدليل العقليّ إذا كان مخالفا للإجماع والحديث ، فهو باطل ، ولا يلتفت إلى تجويز الباطل عاقل.

وقد يقال (2) : إثبات حدوث العالم بالإجماع والحديث يستلزم الدور ؛ لتوقّف حجّيّتهما على إثبات النبوّة ، المتوقّف على قدرة الواجب تعالى ، وإلاّ لجاز أن لا يقدر على عدم إظهار المعجزة على يد الكاذب.

وقد يجاب (3) بأنّ إثبات النبوّة لا يتوقّف على القدرة بمعنى وقوع الفعل والترك ،

ص: 85


1- « حاشية الخفري على إلهيّات شرح القوشجي » الورقة 5 ، مخطوط.
2- انظر : « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » للخوانساريّ : 148.
3- قوله : « وقد يجاب ... ». أقول : قال الفاضل الجيلاني المدعوّ ب- « ملاّ شمسا » واسمه محمد في حاشيته على إلهيّات التجريد وشرحه وحاشية الخفري : « والحقّ أن يقال : إنّ إثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة والاختيار ، لا على العلم بوجود القدرة والاختيار ؛ لأنّا نعلم بديهة أنّ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا بحسب تنزيهه تعالى عنه ، وهذا القدر كاف في إثبات النبوّة ، وبعد إثبات النبوّة يثبت صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ إذ إثبات صدقه يثبت في كلّ ما أخبر به ، ومنه حدوث العالم ، فيجوز أن يكون إثبات النبوّة موقوفا على إثبات القدرة ، فقد حصل اختلاف الجهة ، فلم يلزم الدور » انتهى. وفيه أنّ إثبات النبوّة للمعتقد موقوف على العلم بالقدرة الواقعية ؛ للعلم بأنّ إظهار المعجزة اختياري ، بل يتوقّف العلم به على العلم بالقدرة ؛ لما لا يخفى ، فلم تختلف الجهة. ( منه رحمه اللّه ).

بل بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ؛ فإنّه عند الحكماء أيضا يكون أفعاله تعالى مشتملة على حكم ومصالح ، فلا يجوز عليه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، وبأنّه بمجرّد مشاهدة المعجزة يحصل العلم بصدق صاحبها ، فيحصل العلم بكلّ ما أخبر به حتّى بوجود الواجب.

وفي هذا تأمّل ».

ثمّ قال (1) : « مدلول كلام التحصيل أنّ ما فيه معنى ما بالقوّة لا يمكن أن يكون مفيدا للوجود ، لا أنّه لا يمكن أن يكون واسطة في الإيجاد.

وأيضا يرد عليه ما أورده المحقّق الفخري (2) من أنّه إن أراد بالمعنى في قوله : « ما فيه معنى ما بالقوّة » الصفة المتحقّقة في الواقع ، سلّمنا الملازمة ، لكن لا نسلّم أنّ العقل كذلك ؛ لما تقرّر عندهم من أنّه ليس له حالة منتظرة. وإن أراد به أعمّ من ذلك ، حتّى يشمل الإمكان الذاتي الذي ينتزعه العقل من مجرّد ملاحظة ذات الممكن ، منعنا الملازمة مستندا بأنّه ليس للعدم - الذي ينسب العقل ذات الممكن إليه وإلى الوجود في الملاحظة - تحقّق في نفس الأمر ، حتّى يكون له شركة في إفادة الوجود ، وكان لما بالقوّة المحضة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل » (3) انتهى.

وقد دقّق وأجاب عن هذا خاتم الحكماء والمجتهدين (4) - على ما بلغنا - بالفرق بين قولنا : « معنى ما بالقوّة » - على التنكير - وقولنا : « معنى ما بالقوّة » على الإضافة ؛ فإنّ المراد من الأوّل هو أن يكون الذات بالفعل ، ويكون معنى ما وصفة ما له بالقوّة ،

ص: 86


1- أي الفاضل اللاهيجي في الحاشية.
2- هو فخر الدين الحسيني الأسترآبادي ، وأورد ما نقله المصنّف عنه في حواشيه على شرح القوشجي للتجريد ولكن لم نعثر عليها. نعم ، نقل المحقق الخوانساريّ رحمه اللّه في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : 151.
3- لم نعثر على حاشية اللاهيجي ، ولكن ذكر في « شوارق الإلهام » : 509 نحو ذلك.
4- هو السيد الداماد رحمه اللّه على ما نقل المحقّق الخوانساري في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : 151.

وهذا لا يكون إلاّ في المادّيّات ؛ لأنّ المجرّدات جميع صفاتها حاصلة لها بالفعل ، والمراد من الثاني أن يكون الذات والصفة - كلتاهما - داخلتين تحت مفهوم « ما بالقوّة » وهذا المعنى شامل للمادّيّات والمجرّدات ؛ إذ كلّ ممكن بما هو ممكن ومن حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة. ومراد المستدلّ هو الثاني.

ثمّ قال : « ثمّ أقول : يمكن أن يقال : معنى قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » هو أنّ استناد صدور العالم الحادث إلى الواسطة القديمة إنّما يصحّ بإرادة مفوّضة إليها ، مستندة إلى ذاتها بالاستقلال ؛ إذ لو لم يكن الإرادة مفوّضة إليها ، مستندة إلى ذاتها ، بل مستندة إلى الواجب الموجب بالمفروض ، استحال صدور الحادث عنها لا محالة ، والتفويض والاستقلال بالتأثير من الممكن باطل غير معقول » (1).

وظنّي أنّ هذا توجيه وجيه. ويمكن بعيدا أن يكون هذا هو مراد المحشّي رحمه اللّه ، فتأمّل.

وقد يوجّه (2) قول المصنّف بتوجيهات :

منها : أنّه ردّ لما قد يقال : إنّ الواجب واسطة بين الموجب والمختار ؛ لأنّ المراد بالإيجاب هو ما نعلمه من الطبائع وهو منفيّ عنه تعالى لا محالة ، والمراد بالاختيار هو ما نعلمه من الحيوان - مثلا - وهو أيضا منفيّ عنه تعالى ؛ لكون اختيار الحيوان ممكنا واختياره يجب أن يكون واجبا ، فهو واسطة بين الموجب الذي نفهمه وبين المختار الذي نفهمه ، فأشار المصنّف إلى أنّه لا معنى للواسطة بين الموجب والمختار ؛ إذ المختار ما يكون فعله باختياره سواء كان اختياره واجبا أو ممكنا ، ألا ترى أنّ صفاته تعالى ليست كصفاتنا ، ولا يلزم ثبوت الواسطة ، فكذلك الاختيار أيضا.

ص: 87


1- انظر : « شوارق الإلهام » : 504 ، وقد ذكر هنا ما يقرب من هذا الكلام.
2- حول التوجيهات المذكورة على كلام المحقّق الطوسي انظر : « كشف المراد » : 281 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 310 ؛ « شوارق الإلهام » : 503 - 504 ؛ « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد » للأردبيليّ : 43 - 49 ؛ « حاشية الخفري على إلهيّات شرح القوشجي » الورقة 5 ، مخطوط.

ومنها : أنّ حاصل الكلام هو أنّه لمّا ثبت حدوث العالم ، انتفى الإيجاب ، ولمّا انتفى الإيجاب ثبت الاختيار ؛ إذ لا واسطة بين الإيجاب والاختيار ، فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ، وذلك لأنّ موجد الشيء إمّا أن يمكن تخلّف أثره عنه وهو المختار ، أولا وهو الموجب ، ولا واسطة بين النفي والإثبات.

ومنها : أنّه إشارة إلى ردّ ما يلزم الأشاعرة القائلين بأنّ القدرة زائدة على الذات (1) فإنّها حينئذ لا تكون مستندة إلى غير الذات ، بل إلى الذات لا بالقدرة بل بالإيجاب ، فيلزم كون الواجب موجبا في البعض - وهو صفة القدرة - وقادرا في البعض - وهو غير ماهيّة الصفات والأفعال - فيلزم الواسطة ، والتزموها وهي غير معقولة ؛ لما سيجيء من أنّ صفاته تعالى عين ذاته » انتهى.

وقال شمس العلماء والمحشّين (2) - بعد عنوان قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » - : « معنى كلامه موافق لما ذكره في نقد المحصّل (3) ولا بأس بأن ننقل عبارته ؛ إذ قال فيه - بعد ما نقل هذا الاعتراض الذي ذكره الشارح عن الإمام الرازي - : والمعتمد في إبطالها أنّ الواسطة يمتنع أن تكون واجبة الوجود ؛ لامتناع أن يكون الواجب أكثر من واحد ، فإذن هي ممكنة وهي من جملة العالم ؛ لأنّ المراد من العالم ما سوى المبدأ الأوّل ، فإذن وقوع الواسطة بين واجب الوجود لذاته وبين العالم محال » انتهى.

وقد يقال (4) في توجيه كلام المصنّف - وهو قوله : « والواسطة غير معقولة » - : « إنّه بعد نفي الإيجاب يتوهّم أنّه لا يلزم ثبوت الاختيار ؛ لأنّ الإيجاب الذي علمناه من الطبائع منفيّ عن الواجب جلّ شأنه ، لكن لمتوهّم أن يقول : إنّ الاختيار الذي نشاهد

ص: 88


1- تقدّم في أوائل الكتاب الكلام عن مذهب الأشاعرة بزيادة الصفات على الذات.
2- لعلّه إشارة إلى الملاّ شمسا الجيلاني في حاشيته على التجريد.
3- « نقد المحصّل » : 275.
4- نسب اللاهيجي هذا التوجيه إلى القيل. انظر : « شوارق الإلهام » : 504.

من بعض الموجودات كالإنسان - مثلا - ليس في الواجب أيضا ؛ لأنّ اختيار الواجب تعالى ليس من قبيل اختيارنا ؛ لأنّ اختياره تعالى واجب واختيارنا ممكن ، فيلزم ثبوت الواسطة بين الإيجاب الذي في الطبائع وبين الاختيار الذي فينا ، فأشار قدس سره إلى دفع هذا بقوله : والواسطة غير معقولة ».

وحاصله : أنّا سلّمنا أنّ اختيار الواجب ليس من قبيل اختيارنا ، بمعنى أنّه ليس ممكنا واختيارنا ممكن ، وأنّه ليس زائدا واختيارنا زائد ، لكن هذا لا يخرجه عن كونه اختيارا ، بل اللازم حينئذ أن يكون اختياره - جلّ ذكره - آكد وأقوى من اختيارنا ، ويكون اختياره فردا كاملا من الاختيارات ، ومثل ذلك أنّ الوجود إذا فرضناه قائما بذاته ، فهذا لا يخرجه عن كونه وجودا ، بل يكون فردا تامّا من الوجودات. وكالبياض مثلا ؛ فإنّه لو جاز قيامه بنفسه بدون الموضوع لكان بياضا تامّا حاصلا في نفسه ، فقس على ذلك علمه تعالى وقدرته وحياته وغيرها من الصفات الكماليّة.

وعلى هذا التوجيه يكون اعتراض الشارح على المصنّف قدس سره غير مقابل نشأ من سوء فهم مراده قدس سره ، فوجّه بعض الشارحين (1) كلام المصنّف بحيث يكون اعتراض الشارح غير مقابل أيضا.

وحاصله : أنّ موجد الشيء لا يخلو إمّا أن يكون بوجه لا يمكن أن يتخلّف عنه معلوله ، أولا ، فإن كان الأوّل كان موجبا ، وإن كان الثاني كان مختارا ، فلو لم يكن البارئ - سبحانه وتعالى - مختارا كان موجبا ؛ لأنّه لا واسطة بين كون موجد العالم قادرا وبين كونه موجبا على ما ذكرنا ، فتجويز أنّ موجد العالم لا يكون قادرا ولا موجبا ، بل يكون متوسّطا بين الإيجاب والاختيار غير معقول. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : « والواسطة غير معقولة ».

ص: 89


1- ذكر اللاهيجي رحمه اللّه هذا التوجيه في « شوارق الإلهام » : 504.

والوجهان متقاربان.

قيل (1) : « أقول : لا يبعد كون قول المصنّف قدس سره إشارة إلى ردّ قول الأشاعرة الذاهبين إلى أنّ القدرة زائدة على الذات. وتوجيهه : أنّه لمّا امتنع تعدّد الواجب تكون القدرة ممكنة ، ولا يجوز أن تكون علّتها غير الذات ؛ لاستحالة احتياج الواجب في الصفة الحقيقيّة إلى أمر خارج ؛ لكونه نقصا يجب تنزيهه تعالى عنه اتّفاقا ، ولأنّ غير الذات مستند إلى الذات ، فيكون الذات موجبا في إيجاده لا قادرا ؛ لاستحالة التسلسل ، ولا يجوز أن يكون فاعلا بالاختيار للقدرة ؛ لهذا الأخير بعينه ، فيلزمهم كون الذات موجبا في البعض ، فلا يكون قادرا على الكلّ ، وليس أيضا موجبا في الكلّ وهو الواسطة بين القادر والموجب المنفيّة بقوله : « والواسطة غير معقولة. وسيجيء بيان عدم المعقوليّة في الكتاب عن قريب ، وحينئذ لا توجّه لما سيذكره الشارح » انتهى كلامه بألفاظه.

ويمكن أن يناقش بأنّه لا حسن لهذا التوجيه ؛ لأنّ ردّ مذهب الأشاعرة ، وبيان المفاسد - التي تلزم عليهم - سيجيء وهو مبحث برأسه ، وليس غرض المصنّف الإشارة إلى ردّ مذهبهم هنا ؛ لأنّه قدس سره سيجعل له بحثا على حدة على ما سيأتي.

ويمكن أن يقال : إنّ قول المصنّف قدس سره إشارة إلى جواب الاعتراض الذي أورده الشارح.

تقريره : أنّ المختار أكمل وأتمّ من الموجب ، والمنع عليه مكابرة كما ذكره غياث المدقّقين (2) ، والخالق أكمل من المخلوق وهذا بديهيّ أيضا ، فإذا كان كذلك لم يصحّ أن يكون المخلوق قادرا وخالقه غير قادر ، فتجويز كون الواجب غير قادر وأثره قادرا غير معقول ؛ لأنّه يستلزم أن يكون المخلوق أشرف من خالقه وأكمل منه.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » إشارة إلى دفع

ص: 90


1- القائل هو فخر الدين. ( منه رحمه اللّه ).
2- انظر « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد للتجريد » : 46.

ما أورده الشارح.

وتقريره : أنّ موجد القادر المختار وخالقه يجب أن يكون قادرا كما أنّ موجد العالم يجب أن يكون عالما ، على ما سيجيء في مبحث إثبات علم الواجب جلّ شأنه ، فتجويز كون الواسطة قادرا مختارا دون موجده وخالقه غير معقول.

والوجهان متقاربان لكنّ الفرق بينهما بيّن (1).

واعلم أنّ جميع ما ذكرنا من التوجيهات لقول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » إنّما هو على سبيل المماشاة وعدم بيان الإيجاب الذي هو محلّ النزاع بين الحكماء والمتكلّمين ، فنقول : قد عرفت فيما سبق أن الإيجاب له ثلاثة معان :

أحدها : الإيجاب الذي يكون للطبائع كالنار ، وهذا المعنى منفيّ عن الواجب جلّ شأنه بإجماع العقلاء.

وثانيها : الإيجاب الخاصّ وهو الوجوب بالنظر إلى الإرادة ، وهذا الوجوب ثابت له تعالى بإجماع الحكماء والمعتزلة ؛ لأنّه لا نزاع بين الحكماء والمتكلّمين في إثبات القدرة والاختيار ، على ما نقلنا عن المصنّف في شرح الإشارات. (2)

وثالثها : امتناع انفكاك وجود العالم عن وجود الواجب تعالى ، وهذا المعنى ثابت له تعالى عند الحكماء القائلين بقدم العالم ، ومنفيّ عنه جلّ شأنه بإجماع المتكلّمين ، بل بإجماع الملّيين ، فالنزاع بين الحكماء والمتكلّمين ليس إلاّ في المعنى الأخير ، وهذا النزاع يرجع إلى النزاع في قدم العالم وحدوثه ، فالنزاع بين الحكماء والمتكلّمين ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه.

إذا عرفت هذا التحقيق فيمكن لك توجيه كلام المصنّف على وجه يكون مبنيّا

ص: 91


1- لأنّ الوجه الأوّل من باب عدم صحّة زيادة الفرع على الأصل ، والوجه الثاني من باب عدم صحّة كون معطي الكمال فاقدا له. والوجهان وإن كانا مستندين إلى عدم صحّة نقص الفاعل الموجد للكامل إلاّ أنّ الأوّل باعتبار ملاحظة قبول الكمال من الناقص ، والثاني باعتبار ملاحظة إعطاء الكمال مع فقده ( منه رحمه اللّه ).
2- « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 81 - 82.

على هذا التحقيق ، كأن يقال : إنّ هذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ معترضا يعترض بأنّه بقي احتمال آخر وهو أنّه يجوز أن لا يكون الواجب جلّ شأنه موجبا بالإيجاب الذي للطبائع ، ولا موجبا بالإيجاب الذي بالنظر إلى الإرادة والاختيار ، فلا يكون موجبا ولا مختارا ، بل يكون واسطة بينهما ، فيكون موجبا بإيجاب آخر بينهما.

فأجاب بأنّ الواسطة غير معقولة. ووجه عدم المعقوليّة هو أنّه إن لم يكن له شعور وإرادة واختيار في فعله فيكون كالطبائع ، وإن كان له شعور وإرادة واختيار في فعله فيكون مختارا.

وأيضا سيجيء البرهان على إثبات القدرة والاختيار له جلّ شأنه ، فلا معنى للواسطة أصلا.

ويمكن حمل كلام المصنّف على وجه آخر وهو أنّ هذا ردّ على القول بأنّ النزاع بين الحكماء والمتكلّمين في أمرين : أحدهما في الإيجاب والاختيار.

وثانيهما في القدم والحدوث.

وحاصل الردّ هو أنّ الإيجاب الذي للطبائع منفيّ عنه جلّ شأنه بإجماع العقلاء وإثبات القدرة والاختيار ، والإيجاب بسبب الإرادة والاختيار مشترك بين الحكماء وأكثر المتكلّمين ، والواسطة بين الإيجاب الذي للطبائع وبين الإيجاب الذي بالإرادة والاختيار غير معقولة ، فلا يتصوّر النزاع في الإيجاب ، فبقي أن يكون النزاع منحصرا في قدم العالم وحدوثه ، فالنزاع بين الحكماء والمتكلّمين ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه ؛ لأنّ الواسطة غير معقولة.

وهذا توجيه وجيه موافق لما ذكره المصنّف قدس سره في شرح الإشارات من أنّه لا نزاع بين الحكماء والمتكلّمين في إثبات القدرة والاختيار للواجب جلّ شأنه ، بل النزاع بينهما في قدم العالم وحدوثه (1).

ص: 92


1- « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 81 - 82.

ثمّ قال بعد عنوان قول الشارح القوشجي : « أقول : لم يثبت فيما سبق ... » : « هذا الاعتراض إنّما نشأ من عدم فهم غرض المصنّف ؛ لأنّ المصنّف لم يقل : وجود العالم بعد عدمه لما سبق ينفي الإيجاب ، حتّى يرد عليه أنّه لم يثبت فيما سبق إلى آخر ما ذكره الشارح.

وبالجملة ، ليس في كلام المصنّف إشارة إلى تعليل هذا المطلب بشيء أصلا ، فكيف يصحّ الجزم بأنّ تعليله يكون بما سبق ثمّ الاعتراض عليه؟!

ويحتمل أن يكون تعليل هذا المطلب بالإجماع والحديث النبويّ المشهور (1) الدالّ صريحا على هذا.

ولمّا كان المشهور أنّ دليل وجود العالم بعد عدمه هو الإجماع والحديث النبويّ المشهور الدالّ صريحا على هذا ، لم يصرّح المصنّف قدس سره بهما ؛ لأنّ الشهرة كفت مئونة الذكر ، وقد عرفت سابقا توجيهات أخر لكلام المصنّف بحيث يندفع بها اعتراض الشارح » انتهى كلامه في هذا المقام وهو جيّد ؛ لما لا يخفى.

ثمّ قال - بعد عنوان ما حكى الفاضل الخفري عن بهمنيار من قوله : « كان للعدم شركة في إفادة الوجود ... » - : « تحرير هذا البرهان وتوضيحه على وجهه أنّ كلّ ممكن بما هو ممكن وباعتبار ذاته بذاته لا يكون إلاّ بالقوّة الصرفة ، وليس له بهذا الاعتبار استشمام رائحة من الفعل أصلا وهو ظاهر جليّ ، فلا بدّ أن يكون لكلّ ممكن مخرج من القوّة إلى الفعل ، ولا بدّ أن يكون ذلك المخرج ممّا هو مخرج من القوّة إلى الفعل بالفعل من كلّ الوجوه ، وإلاّ يلزم أن يكون للقوّة دخل في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل وهو باطل بالبديهة ، فيلزم أن يكون المخرج المذكور بالفعل من كلّ الوجوه ، والفعليّة من كلّ الوجوه إنّما هي صفة الأوّل تعالى شأنه ، فثبت من هذا أنّ مقتضي الفعليّة والوجود ليس إلاّ الواجب جلّ سلطانه.

ص: 93


1- مضى تخريج الحديث في ص 51 و 64.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الممكن بعد اكتساب الوجود من الواجب جلّ شأنه ، وبعد خروجه من القوّة إلى الفعل يفيض الوجود على ممكن آخر؟

قلت : مسلك التحليل يبطل هذا الاحتمال. بيان ذلك : أنّ العقل يحلّل الممكن الموجود إلى ما بالقوّة ، وإلى ما بالفعل ، ثمّ نقول : إنّ ما بالقوّة لا دخل له في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل فيطرحه خلف قاف ثمّ ينظر إلى ما بالفعل ، فلو كان مشوبا بالقوّة ، فيخلّله أيضا وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما بالفعل المحض ، وليس هذا إلاّ الواجب بالذات جلّ ذكره.

فظهر من هذا سرّ ما وقع في الكتاب الكريم الإلهي ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) ، ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (2) و ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (3) وصحّة قول من قال : إنّ الإمكان علّة للحاجة إلى علّة ما في بادئ الرأي وأوّل النظر ، وبعد الفحص وتعمّق النظر ينكشف أنّ الإمكان علّة للاحتياج إلى علّة واجبة الوجود بالذات.

فإن قيل : إذا كان موجد جميع الأشياء هو الواجب جلّ ذكره ، فينهدم بنيان التكاليف الشرعيّة والثواب والعقاب وغيرها.

قلت : لا منافاة بين ما حكم عليه البرهان واقتضاه ، وبين كون العبد فاعلا مختارا ، الذي هو مناط صحّة التكاليف الشرعيّة والثواب والعقاب ؛ لأنّ الذي دلّ عليه البرهان هو أنّ مفيض الفعليّة والوجود لا يكون إلاّ الواجب جلّ شأنه ، لا أنّه لا يكون ممكن موقوفا عليه بالنسبة إلى ممكن آخر ، ولا يكون ممكن جزءا لممكن آخر ، فهذا ممّا لا ينفيه البرهان ، فنقول : إنّ العبد فاعل إنّما هو بمعنى أنّه مباشر للفعل ، ويكون هو باعتبار قدرته وإرادته جزءا أخيرا من العلّة التامّة ، فقدرة العبد وإرادته لهما دخل في أفعاله ، وهذا القدر كاف في صحّة التكليف والثواب والعقاب.

ص: 94


1- الرعد (13) : 16 ؛ الزمر (39) : 62.
2- الأنعام (6) : 102.
3- فاطر (35) : 3.

وما يشعر بذلك ما روي عن بعض أئمّتنا - صلّى اللّه عليهم - : « لا جبر ولا تفويض - في أفعالنا الاختياريّة - بل أمر بين أمرين » (1).

إلى أن قال : « وإذا عرفت بالبرهان أنّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب جلّ سلطانه ، وأنّ الإمكان بالفحص والبرهان علّة للاحتياج إلى الواجب بالذات لا إلى علّة ما مطلقا ، فاعلم أنّ سلسلة الممكنات المترتّبة إذا لوحظت باعتبار أنّ كلّ واحد واحد منها بحسب جوهر ذاته الممكنة مجعول الواجب بالذات ، تكون بهذا الاعتبار سلسلة عرضيّة ، وجميع آحاد تلك السلسلة متساوية في الفاقة والاستناد إليه جلّ شأنه ابتداء بلا واسطة ، وإذا لوحظت تلك السلسلة باعتبار أنّ بعضها مربوط ببعض آخر ومتوقّف عليه من حيث الشرطيّة والمشروطيّة والسببيّة والمسبّبيّة - بناء على أنّ بعضا لمّا كان ناقصا في حدّ ذاته بحيث يمتنع استناده إليه جلّ شأنه بدون الشروط والأسباب ، فيحتاج إلى الشروط والأسباب ليمكن له الاستناد إليه جلّ شأنه - تكون سلسلة طوليّة منتهية إليه تعالى بالضرورة البرهانيّة ، فالممكنات باعتبار السلسلة الطوليّة يختلف مراتب احتياجها إلى الواجب جلّ سلطانه ، فكلّ ما كان أبعد عن جنابه تعالى يكون احتياجه إليه جلّ شأنه أكثر ؛ لأنّه يحتاج إلى جنابه تعالى في إفاضة وجود نفسه وإفاضة وجود شرائطه وأسبابه ؛ لنقصانه عن أن يستند إليه جلّ شأنه بدون تلك الشروط والأسباب ، وكلّ ما كان أقرب يكون احتياجه أقلّ ؛ ولهذا قال بعض الأكابر من الحكماء : كلّما كان المعلول أبعد كان الفيض والخير أكثر ، وكلّما كان المعلول أقرب كان الفيض والخير أقلّ فالعقل الأوّل والنظام (2) الجملي يستندان إلى الواجب جلّ سلطانه بلا واسطة ، فلا يتصوّر سلسلة طوليّة بالقياس إليهما بل المتصوّر بالقياس إليهما هو السلسلة العرضيّة ، وبالقياس

ص: 95


1- « الكافي » 2 : 160 باب الجبر والقدر ... ح 13 ؛ « التوحيد » : 362 باب نفي الجبر والتفويض.
2- أي جميع ما سوى اللّه. ( منه رحمه اللّه ).

إلى ما عداهما يتصوّر السلسلة الطوليّة والعرضيّة جميعا.

ومن قال بهذه التحقيقات كالمحقّقين من الحكماء والمتكلّمين لو قال : إنّ بعض ممكن (1) علّة لبعض آخر ، فليس مراده إلاّ الشرطيّة والسببيّة ، لا أنّه يصحّ أن يكون ممكن علّة فاعليّة بالقياس إلى ممكن ، فلا يعترض عليه بما اعترض أبو البركات البغدادي ، وحاصل اعتراضه أنّ الحكماء يقولون تارة : لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، وتارة : إنّ العقل الأوّل علّة للعقل الثاني فبين كلاميهم تدافع (2).

وأجاب عنه المصنّف بما حاصله : أنّ مرادهم بكون العقل الأوّل علّة للعقل الثاني ليس إلاّ السببيّة والمسبّبيّة ، والشرطيّة والمشروطيّة ، لا أنّ العقل الأوّل علّة مفيضة لوجود العقل الثاني ، والعقل الثاني يكتسب الوجود منه (3).

ومن قال بأنّ بعض الممكنات يفيض وجود بعض آخر كالعقل الأوّل للثاني لا يقول بأنّ الإمكان علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات ابتداء ، بل علّة الانتهاء إلى الواجب بالذات ، بمعنى أنّ الممكن له احتياجان : احتياج إلى علّته القريبة ونحوها من الوسائط ، واحتياج إلى الواجب ، فليس شيء من الممكنات غنيّا عن الواجب » انتهى. وهو جيّد.

الثاني (4) - أي من جملة أنواع الاعتراضات للخصم وأدلّة المخالفين وحججهم على نفي القدرة - أنّ اتّصاف الواجب تعالى بالقدرة ممّا يقتضي صحّة الفعل والترك ، وكلّ ما هو كذلك فهو محال.

أمّا الصغرى فواضحة ؛ لأنّها من لوازم القدرة ، بمعنى كون الشخص بحيث إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، كما لا يخفى.

ص: 96


1- كذا ، والصحيح : « الممكنات ».
2- « المعتبر في الحكمة » 3 : 161 - 163 ؛ « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 249.
3- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 254 - 255.
4- مرّ الأوّل في ص 77.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ صدور الأثر عن المؤثّر إمّا واجب ، أو ممتنع لا يخلو عن أحدهما قطّ ؛ لأنّ المؤثّر إن استجمع شرائط التأثير ، فصار علّة تامّة ، وجب صدور الأثر ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وإن لم يستجمع كان ممتنعا ، فيكون إمكان الفعل والترك معا محالا ، ومستلزم المحال محال ، فالاتّصاف بالقدرة المستلزم للإمكان المحال محال ، فلا يمكن كونه تعالى قادرا.

وأشار المصنّف إلى جوابه بقوله : ( ويمكن عروض الوجوب والإمكان للأثر بالاعتبارين ) بمعنى أنّ الكبرى ممنوعة ؛ لمنع امتناع إمكان الفعل حتّى يكون الاتّصاف بالقدرة مستلزما للمحال ؛ فإنّ الأثر باعتبار ملاحظة القدرة وحدها وملاحظة ذات القادر من غير ملاحظة الإرادة ممكن ، كما أنّه ممكن بالذات ، فالشرطيّة الثانية ممنوعة ، فإنّ الأثر بشرط عدم الاستجماع للشرائط محال لا حال العدم ، بل هو حينئذ مع ملاحظة القدرة ممكن ، كما أنّه بالذات ممكن ، وباعتبار الإرادة على النحو الأصلح واجب ، وهذا وجوب بالاختيار ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يحقّقه ويدلّ على أنّ المؤثّر قادر مختار ؛ لأنّ القادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل ويترك بأن يريد الفعل فيفعل على وجه الوجوب ، ويريد الترك ، أولا يريد الفعل فيترك وجوبا ، فالأثر يعرضه الوجوب والإمكان بالاعتبارين ، بل قد يعرضه الامتناع أيضا باعتبار اشتراط عدم الشرائط كما أشرنا إليه ، فلا يكون الاتّصاف بالقدرة مستلزما للمحال حتّى يكون محالا. هكذا قرّر الشارح القوشجي (1) والعلاّمة في شرح الكتاب (2) مع تفاوت ما.

وأورد عليه الفاضل الخفري (3) بأنّ الوجوب الناشئ من الإرادة التي هي عين الذات ينافي القدرة التي هي بمعنى صحّة الفعل والترك كما هو مراد المتكلّمين ؛ لأنّ

ص: 97


1- « شرح تجريد العقائد » : 310 - 311.
2- « كشف المراد » : 280 وما بعدها.
3- « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة 5 ، مخطوط.

الإرادة إذا كانت عين الذات كانت لازمة لها ، فلا يمكن الترك.

نعم ، الوجوب بالاختيار والإرادة التي هي غير زائدة على الذات لا ينافي القدرة والاختيار والإرادة على تفسير الحكماء ، بمعنى إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ، لكن شاء في الأزل ، ففعل فيه بالمشيئة القديمة التي هي غير زائدة على الذات ولا على العلم بالنظام الأعلى.

والحاصل : أنّ انفكاك العلّة التامّة عن المعلول في الزمان محال ، فكيف حكم بانفكاك إرادة الواجب تعالى - مع كونها غير زائدة على الذات - عن تعلّقها بالمراد في الزمان كما حكم به المتكلّمون ، فاللائق بهذا المقام إيراد تحقيق شاف كاف يوجب طرح ما قيل فيه خلف قاف (1).

أقول : الإرادة الموجبة للتأثير هي المشيئة الزائدة الحادثة لا ما هو عين الذات كما مرّت إليه الإشارة ، فترتفع المنافاة ، مضافا إلى ما يقال من أنّ المعلول هو الأمر الذي يتعلّق به العلم بالأصلح وهو الحادث في الوقت المعيّن ، لا القديم الأزلي حتّى يلزم وجوده في الأزل ، فيلزم قدم العالم حتّى على القول بكون الإرادة زائدة قديمة ؛ لأنّ الأصلح بحال المعلول هو الوجود الحدوثيّ لا الأزليّ مع جواز (2) كون الوجود الأزليّ ممتنعا كشريك البارئ ، فلا يصير متعلّق الإيجاد ؛ لنقص القابل لا الفاعل ، أو لاقتضاء تحقّق جزأي القدرة تعلّق المشيئة بالترك والعدم في الجملة ، فيصير ممتنعا بالعرض ، فلا يرد ما أورده جمال العلماء (3) من أنّ الوجود الأزليّ للممكن إذا كان ممتنعا بذاته ، فذاته لا بدّ أن يقتضي العدم ، فإن اقتضى العدم مطلقا ، فيجب أن يكون معدوما دائما ، وإلاّ يلزم الانقلاب. وإن اقتضى العدم في وقت ، فآل الأمر إلى مدخليّة الوقت ، فلا بدّ من القول بقدم الزمان ، وحينئذ فلا حاجة إلى التمسّك بما ذكر ؛ إذ

ص: 98


1- انتهى كلام الخفري.
2- هذا كلام أحد تلامذة السيد الداماد رحمه اللّه . انظر : « الحاشية على حاشية الخفري على الشرح الجديد » : 159 و 349.
3- هو الآقا جمال الخوانساري رحمه اللّه . انظر المصدر السابق : 159.

القول بقدم الزمان يكفي لتصحيح ربط الحادث بالقديم.

وقال شمس المحشّين : « وتقرير الدليل على وجه يكون كلام المصنّف جوابا له هو أنّ القدرة والاختيار على الفعل والأثر الذي هو المعلول فرع إمكان ذلك الأثر ، وإمكان ذلك الأثر محال ؛ لأنّ الأثر إمّا واجب الوجود أو ممتنع الوجود ؛ لأنّ الفاعل إمّا مستجمع لجميع شرائط التأثير ، أولا ، فإن كان مستجمعا لها فالأثر واجب الوجود ، وإن لم يكن مستجمعا لها كان الأثر ممتنع الوجود ، فلم يتحقّق إمكان الأثر حتّى تصحّ القدرة عليه.

وتقرير الجواب : أنّ الأثر ممكن بالنظر إلى ذاته ، وواجب بالنظر إلى استجماع شرائط الفاعل ، وممتنع بالنظر إلى عدم استجماع الشرائط ، والإمكان الذاتي لا ينافي الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير ، والتنافي إنّما يكون بين الإمكان الذاتي والوجوب الذاتي والامتناع الذاتي.

وعلى ما قرّرنا لا وجه لقول الشارح (1) : « وهذا ما يقال : إنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » ؛ لأنّ النافي للقدرة إنّما يكون دليله بالنظر إلى جانب المعلول ، فقول الشارح : « وهذا ما يقال أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » إنّما يناسب لجواب الدليل الثاني.

وأيضا : الإمكان في عبارة المصنّف منسوب إلى الأثر نفسه لا إلى صدور الأثر كما ذكره الشارح ، فتوجيه الشارح ليس بوجيه ، فتأمّل ».

الثالث : أنّ القدرة على الأثر - بمعنى التمكّن على فعله وتركه - إمّا حال وجود الأثر ، وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكّن من الترك ؛ وإمّا حال عدمه ، فيجب عدمه ، فلا يتمكّن من الفعل ، فلا يتحقّق القدرة ، فلا يكون الصانع قادرا.

وأشار المصنّف إلى جوابه بقوله : ( ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل مع

ص: 99


1- أي القوشجي. انظر : « شرح تجريد العقائد » : 311.

العدم في الحال ) بمعنى أنّ القدرة حال عدم الأثر ، لكنّها عبارة عن التمكّن على الفعل في ثاني الحال ، فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه ؛ إذ القدرة حال عدم الأثر - لا بشرط العدم - على فعل الوجود في الاستقبال لا في الحال ؛ لامتناع اجتماع النقيضين ، وعلى تركه بإبقاء العدم على حاله.

والإيراد (1) - بأنّ الوجود في الاستقبال غير ممكن في الحال ؛ لأنّه مشروط بالاستقبال الممتنع في الحال ، وإذا كان كذلك ، فلا قدرة عليه في الحال ، وعند حصول الاستقبال يعود الكلام مدفوع بأنّ القدرة لا تتعلّق بالوجود في الاستقبال في الحال ، بل في الاستقبال ، بمعنى أنّ القدرة التي هي صفة الفاعل القادر - في الحال - الذي هو ظرف العدم - والوجود - الذي هو صفة المعلول والمقدور - في الاستقبال ، فلا يلزم نفي القدرة.

قال الفاضل اللاهيجي رحمه اللّه :

« وذكر المصنّف في نقد المحصّل (2) أنّ هذا الجواب لا يصحّ من قبل الأشعري ؛ لأنّ القدرة عنده مع الفعل لا قبله ، بل هذا الجواب إنّما هو جواب أصحابنا القائلين بتقدّم القدرة على الفعل »

ثمّ قال : « لكنّه فيه إشكالان :

أحدهما : أن يقال : إنّ التمكّن أمر إضافي ، والإضافة تستلزم تحقّق المضافين ، فلا يجوز ثبوت التمكّن الآن مع أنّ أحد المضافين ليس بمتحقّق الآن.

والجواب عنه : أنّا لا نسلّم أنّ هذا من الإضافات التي يمتنع تحقّقها إلاّ عند تحقّق المضافين ، ولم لا يجوز أن يكون التمكّن كالعلم ؛ فإنّه لا يفتقر إلى تحقّق المضافين ولذلك يعلم واحد منّا ما يقطع بأنّه لا تحقّق له ، وكالإرادة ؛ فإنّ الواحد منّا يريد ما لا يتحقّق بعد مع أنّ العلم لا يعقل إلاّ بين عالم ومعلوم ، والإرادة إلاّ بين مريد

ص: 100


1- هذا الإيراد ودفعه ذكره العلاّمة الحلّي قدس سره في « كشف المراد » : 282.
2- « نقد المحصّل » : 276 - 277.

ومراد؟ وهذا يدلّ على أنّ الإضافة المفتقرة إلى تحقّق المضافين نوع آخر أخصّ من هذا النوع وهو ما كان من باب الفوقيّة والتحتيّة ، وكون الشيء يمينا وشمالا ونحو ذلك.

والإشكال الثاني : أن يقال : إذا أجزتم حصول التمكّن الآن لا من أمر يقع الآن بل من أمر يقع في ثاني الحال ، فأجيزوا سبق العلّة على معلولها بالزمان ؛ لأنّ كليهما يشتركان في أنّ كلّ واحد منهما مؤثّر وفاعل.

والجواب : أنّ هذا قياس بجامع المشترك وهو المؤثّريّة ، وهو غير مفيد ، لجواز أن تكون خصوصيّة الإيجاب فارقة بين الموضعين هذا ، فتأمّل.

فإن قيل : الأولى أن يجاب عن هذا الدليل بما أجاب به عن الدليل الأوّل ؛ فإنّ وجوب وجود الأثر بالإرادة في حال الوجود لا ينافي إمكان الترك بالنظر إلى ذات القادر ؛ فإنّ التمكّن من الفعل والترك إنّما يكون بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر ، وهذا يتحقّق في كلتا حالتي الوجود والعدم.

وأمّا جواب المصنّف ، فيرد عليه أنّ ثاني الحال لا يخلو عن وجود الفعل وعدمه ، فيعود السؤال على التقديرين ، فلا تتحقّق القدرة على المستقبل ، ويحتاج إلى الجواب المذكور.

قلنا : الدليل الأوّل كان باعتبار منافاة الوجوب مع الإمكان بمعنى التساوي في الطرفين ، فيكفي في دفعه كونهما باعتبارين.

وأمّا السؤال الثاني ، فهو باعتبار منافاة الوجوب مع الإمكان الوقوعي ؛ فإنّ التمكّن بنفسه متضمّن للإمكان الوقوعي ، ولا تندفع هذه المنافاة بكونها من اعتبارين ؛ فإنّ اجتماع النقيضين - أعني الوقوع واللاوقوع - لا يمكن أن يتصحّح بحيثيّتين تعليليّتين.

وأمّا على ثاني الحال لا يخلو عن وجود الفعل وعدمه فغير ضائر ؛ لأنّ شيئا منهما ليس بمتعيّن في الحال لا بالنظر إلى القدرة - وهو ظاهر - ولا بحسب الإرادة ؛

ص: 101

لإمكان تغيّرها في ثاني الحال ، فيمكن تحقّق التمكّن في الحال من كلّ منهما في ثاني الحال.

( وانتفاء الفعل ليس فعل الضدّ ) جواب عن ثالث.

تقريره : أنّ القادر على وجود الشيء يكون قادرا على عدمه أيضا ، لكنّ القدرة على العدم باطلة ؛ لأنّه نفي محض لا يصلح أثرا للمؤثّر ، ولأنّه في الأصل أزليّ ولا شيء من الأزليّ بمتعلّق للقدرة بالمعنى المتنازع فيه.

وتقرير الجواب : أنّ متعلّق القدرة هو انتفاء الفعل وهو يتحقّق بأن لا يفعل الفعل ، لا بأن يفعل العدم والنفي.

وتفصيله : أنّ المستدلّ إن أراد بقوله : « إنّ القادر على وجود الشيء قادر على عدمه أيضا » أنّه قادر على فعل العدم ، فهو ممنوع ، ومفهوم القدرة لا يستلزمه. وإن أراد أنّه قادر على أن لا يفعل ، فهو مسلّم ، وبطلان اللازم ممنوع ؛ لأنّ انتفاء الفعل لا يستلزم فعل الضدّ حتّى يبطل بالوجهين ، والعدم الأزليّ مقدور بهذا المعنى أي بأن لا يفعل الفعل فيستمرّ العدم ، أو يفعله فيزول.

وأيضا العدم لا يصلح أثرا للوجود ، لكنّه أثر للعدم بمعنى الاستتباع ؛ فإنّ عدم المعلول يترتّب على عدم العلّة على ما مرّ سابقا ، وهاهنا عدم الفعل يترتّب على عدم المشيّة ، فهو أثر للقدرة بهذا المعنى.

هذا ، وأورد على الدليل أنّه إذا لم يكن العدم أثرا للغير ، يلزم أن يكون عدم الحوادث لذواتها ، فيلزم امتناعها حال عدمها وانقلابها حال وجودها ، وأن لا ينعدم شيء من الموجودات الممكنة ؛ لاستحالة انعدامها بالذات بالضرورة ، وبالغير أيضا ؛ لما ذكره ، وأن يكون الممكن القديم واجب الوجود لذاته ؛ إذ لا يجوز عدمها بالغير ؛ لما ذكره ، ولا بالذات ؛ لكونه ممكنا ، فيلزم تعدّد الواجب على الحكماء.

وقد يدفع هذا الأخير بأنّ عدم جواز العدم عليها ليس نظرا إلى ذواتها ، بل لكون العدم غير صالح للتأثير وهو خارج عن ماهيات الممكنات ، فلا يلزم وجوبها

ص: 102

بالذات ، ويمكن بذلك دفع الأوّل أيضا ، كما لا يخفى.

واعلم أنّ أصل هذا الدليل شبهة حكاها الإمام في المحصّل (1) ولم يجب عنها ومحصولها : أنّ قول المتكلّمين : القادر هو الذي يجب أن يكون متردّدا بين الفعل والترك ، إنّما يصحّ لو كان الفعل والترك مقدورين له ، لكنّ الترك محال أن يكون مقدورا ؛ لأنّ الترك عدم والعدم نفي ، ولا فرق بين قولنا : لم يؤثّر أثرا ، وبين قولنا : أثّر تأثيرا عدميا. ولأنّ قولنا : « ما أوجد » أنّه بقي على العدم الأصلي ، وإذا كان العدم الحالي هو العدم الذي كان ، استحال استناده إلى القادر ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال ، فثبت أنّ الترك غير مقدور ، وإذا كان كذلك استحال أن يقال : إنّ القادر هو الذي يكون متردّدا بين الفعل والترك.

وأجاب عنه المصنّف في النقد (2) بأن قال : لم لا يجوز أن يكون في الوجود حقيقة متمكّنة من أن يفعل الفعل في الثاني ، ومن أن لا يفعل الفعل في الثاني؟

فأمّا الإشكال الأوّل - وهو قوله : لا فرق بين قولنا : لم يؤثّر ، وبين قولنا : أثّر - فليس بلازم ؛ لأنّ بينهما فرقا معقولا كالفرق بين قولنا : لم يعلم وبين قولنا : علم لا ، فإنّا نعلم بالضرورة العدم المقيّد والعدم المطلق ، وكلاهما عدم ، وليس مفهوم قولنا : لا يعلم هو مفهوم قولنا : علم العدم ؛ لأنّ قولنا : لا يعلم قضيّة صادقة على الجماد والمعدوم وكلّ ما لا يعلم ، وقولنا : يعلم العدم لا يصدق على ذلك.

وكذلك يعقل الفرق بين قولنا : لا يجب وبين قولنا : يجب لا ؛ فإنّ الجسم لا يجب وجوده وهو قضيّة صادقة ، ولا تصدق الأخرى وهي قولنا : يجب لا وجوده ؛ لأنّه لو وجب « لا وجوده » ، لما وجدت الأجسام.

وأمّا الإشكال الثاني - وهو قولنا : ما أوجد معناه أنّه بقي على العدم الأصليّ - فالجواب عنه أنّ هذا الكلام إمّا أن يفرض في البارئ تعالى ، أو فينا.

ص: 103


1- « نقد المحصّل » : 377 - 378.
2- « نقد المحصّل » : 276.

فإن فرض في البارئ تعالى ، فإمّا أن يفرض فيه قبل أن خلق العالم والزمان ، أو بعد أن خلق العالم والزمان ، فإن فرض قبل الخلق ، فليس قبل خلق العالم أمر يستمرّ ويتصرّم أوّلا فأوّلا ليصدق عليه أنّه كاستمرار بقاء الجسم ودوامه ، فكما أنّ الاستمرار الوجودي لا يتعلّق به القدرة ، فكذلك الاستمرار العدميّ ، فقد بطل على هذا الفرض ما ابتنى عليه الإشكال.

وإن فرض الكلام فينا ، أو في البارئ تعالى بعد خلق العالم والزمان ، فالجواب أنّ العدم مستمرّ بحسب استمرار الزمان حالا فحالا ، ونحن لا نقول : إنّه متمكّن من العدم الحالي ، كما لا نقول في طرف الوجود : إنّه متمكّن من الوجود الحالي ، بل كما قلنا في طرف الوجود : إنّه متمكّن الآن من الإيجاد في الثاني ، كذلك نقول في طرف العدم : إنّه الآن متمكّن من أن لا يوجد في الثاني ، وعدم الفعل في الثاني ليس هو العدم الحاصل الآن ليلزم من قولنا : « إنّه متمكّن منه » أن نقول بتحصيل الحاصل ، بل هو عدم غير العدم الحالي ، فقد بان أنّ الإشكال مندفع على كلا الفرضين ، هذا.

ثمّ إنّ الإمام حكى شبهة أخرى (1) ، ومحصولها : أنّ البارئ لو كان قادرا لكانت قادريّته إمّا أن تكون أزليّة ، أو لا تكون.

والأوّل محال ؛ لأنّ التمكّن من التأثير يستدعي صحّة الأثر لكن لا صحّة في الأزل ؛ لأنّ الأزل عبارة عن نفي الأوّليّة ، والحادث ما يكون مسبوقا بغيره ، والجمع بينهما محال.

والثاني أيضا محال ؛ لأنّ قادريّته إذا لم تكن أزليّة ، كانت حادثة ، فافتقرت إلى مؤثّر ، فإن كان المؤثّر مختارا ، عاد البحث كما كان. وإن كان موجبا ، كان المبدأ الأوّل موجبا.

ص: 104


1- راجع « المحصّل » : 378 - 380.

وأجاب عنهما الناقد البارع (1) - قدس سره - بأنّ هذه الشبهة مبنيّة على كون توهّم الأزل حالة معيّنة منفصلة عن الحالة الأخرى المسمّاة « لا يزال » ، وهذا توهّم فاسد ؛ فإنّه ليس الأزل حالة معيّنة يمتنع فيها الفعل ، ولا « لا يزال » حالة أخرى يصحّ فيها الفعل ، والمعقول من الأزل انتفاء الأوّليّة فقط ، وإذا كان كذلك ، فمعنى قولنا : إنّ البارئ سبحانه لم يزل قادرا - إن توهّمنا العدم مستمرّا قبل خلق العالم - أنّه لا حال من الأحوال فيما مضى إلاّ ويصدق عليه فيها أنّه قادر على أن يفعل ، وهذه القضيّة لا يناقضها قولنا : العالم مستحيل أن يكون قديما ؛ لأنّه لا منافاة بين قولنا : الحادث الذي له كون زماني يجوز تقديم حدوثه على وقت حدوثه ، ولا يقف هذا التقديم على المحكوم بجوازه على أوّل ينقطع هذا الحكم عنده ، ويقال : إنّه قبل هذا الأوّل بلحظة لا يجوز حدوثه فيه ، وبين قولنا : الحادث الذي له كون زمانيّ يستحيل أن يكون قديما ؛ لأنّه لو كان قديما ، لاجتمع له أنّه قديم ، وأنّ له كونا زمانيّا ، وذلك متناقض.

وإنّما قلنا : إنّه لا منافاة بين القولين ؛ لأنّهما قد صدقا معا ، فلو كان بينهما منافاة لم يصدقا ، فقد بان أنّه لا منافاة ولا مناقصة بين قولنا : لم يزل البارئ تعالى قادرا ، وبين قولنا : الحادث لا يصحّ أن يكون قديما.

وإن بني الكلام على بطلان توهّم كون العدم قبل العالم مستمرّا ، كان الجواب عن الشبهة أسهل ؛ لأنّه يكون معنى قولنا : البارئ تعالى لم يزل قادرا أنّ من لوازم ذاته المقدّسة صحّة أن يفعل ، ومضمون قولنا : « صحّة أن يفعل » أن يحدث ، ولا يلزم من قولنا : هذه الذات لها لازم - وهو صحّة أن يحدث - أن يكون لها لازم آخر ، وهو أن يخلق القديم ؛ لأنّ القديم لا يخلق ، فإذا قيل لنا : هذا قادريّته أزليّة أم لا؟ قلنا للسائل : أتعني أنّ ذاته من لوازمها - التي لا تنفكّ عنها كما لا تنفكّ الثلاثة عن

ص: 105


1- راجع « نقد المحصّل » : 274 - 277.

الفرديّة - أن يتمكّن من أن يفعل ، أم تعني به أنّ من لوازمها أن تجمع بين الشيء ونقيضه؟

فإن قال : سألتكم عن الثاني ، قيل له : الجواب لا ؛ إذ ليس من لوازمها أمر يستحيل عقلا ، فليس معنى قولنا : إنّها لم تزل قادرة أنّها تتمكّن من جعل ما لا يتصوّر أن يكون قديما قديما.

وإن قال : سألتكم عن الأوّل ، قيل له : نعم ، هي ذات من لوازمها صحّة أن يفعل ، لكن لا يصدق مسمّى أن يفعل إلاّ مع الحدوث ، فإذن هي مستلزمة لأمر لا يعقل إلاّ مع الحدوث ، فلا يلزم أن يستلزم أمرا غير ذلك يناقض الحدوث انتهى. (1)

[ في عموم قدرته تعالى ]

ولمّا أثبت قادريّته تعالى أشار إلى إثبات أنّ قدرته شاملة لجميع الممكنات ، فقال : ( وعموميّة العلّة ) أي علّة المقدوريّة وهي الإمكان ؛ لأنّه علّة الحاجة إلى المؤثّر ، وهو إمّا موجب أو قادر ، ويجب انتهاء كلّ منهما إلى المؤثّر القادر ، على ما مرّ ، فكلّ ممكن فهو ممكن الصدور عن المؤثّر مطلقا ، وكلّ ممكن الصدور عن المؤثّر مطلقا ، فهو ممكن الصدور عن المؤثّر القادر الذي ينتهي إليه كلّ مؤثّر من حيث هو قادر أعني نظرا إلى مجرّد قدرته وإن كان قد يمتنع نظرا إلى إرادته وعلمه بنظام الخير ، وهو - أعني الإمكان - عامّ للممكنات ، فعموميّته ( تستلزم عموميّة الصّفة ) أي المقدوريّة بالمعنى المذكور ، فجميع الممكنات مقدورة له تعالى بالمعنى المذكور وهو المطلوب.

واستدلّ على عموم قدرته تعالى في المشهور - على ما في المواقف (2) وشرحه - بأنّ المقتضي للقدرة هو الذات ؛ لوجوب استناد صفاته إلى ذاته ، والمصحّح

ص: 106


1- كلام المحقّق الطوسيّ الذي نقله اللاهيجي عنه بشيء من التصرّف.
2- « شرح المواقف » 8 : 60.

للمقدوريّة هو الإمكان ؛ لأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدوريّة ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها ، وذلك بناء على أنّ المعدوم ليس بشيء ، وإنّما هو نفي محض لا امتياز فيه أصلا ، ولا تخصيص ليتصوّر اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه خلافا للمعتزلة ، وعلى أنّ المعدوم لا مادّة له ولا صورة خلافا للحكماء ، وإلاّ لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريّته تعالى دون بعض كما يقوله الخصم.

فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن يكون خصوصيّة بعض المعدومات الثابتة المتميّزة مانعة من تعلّق القدرة به.

وعلى قانون الحكماء جاز أن تستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ، وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.

ولا بدّ أيضا من تجانس الأجسام ؛ لتركّبها من الجواهر المفردة المتماثلة ، الحقيقيّة ليكون اختصاصها ببعض الأعراض لإرادة الفاعل المختار ؛ إذ مع تخالفها جاز أن يكون ذلك الاختصاص لذواتها ، فلا قدرة على إيجاد لبعض آخر منها.

وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأنّ نفي شيئيّة المعدوم في الخارج لا يستلزم نفي التمايز عن المعدومات مطلقا ؛ ضرورة أنّ لمفهوم العدم أفرادا متمايزة عند العقل يختصّ كلّ منها بأحكام مخصوصة صادقة في نفس الأمر ؛ فإنّ عدم العلّة موجب لعدم المعلول من غير عكس ، وعدم الشرط مناف لوجود المشروط ، وعدم المشروط لا ينافي وجود الشرط إلى غير ذلك ، على ما مرّ في مباحث الأمور العامّة.

وأيضا لامكان مجال المناقشة على قواعد الحكماء ، فالأولى هو التمسّك بالنصوص الدالّة على شمول قدرته تعالى ، كقوله : ( وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1)

ص: 107


1- البقرة (2) : 284 ؛ آل عمران (3) : 29 و 189 ؛ المائدة (5) : 19 و 40 ؛ الأنفال (8) : 41 ؛ التوبة (9) : 39 ؛ الحشر (59) : 6.

وأمثال ذلك كذا في شرح المقاصد. (1)

ثمّ إنّ الشارح العلاّمة - رحمه اللّه - حمل كلام المصنّف هاهنا على اختيار مذهب الأشاعرة والإشارة إلى الاستدلال المذكور ، فقال : « يريد بيان أنّه تعالى قادر على كلّ شيء وهو مذهب الأشاعرة ، وخالف أكثر (2) الناس في ذلك - ثمّ ذكر مقالاتهم ، ثمّ قال - : وهذه المقالات كلّها باطلة ؛ لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور إنّما هو الإمكان ؛ إذ مع الوجوب والامتناع لا تعلّق ، والإمكان مساو في الجميع ، فثبت الحكم وهو صحّة التعلّق. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : « وعموميّة العلّة » أي الإمكان « تستلزم عموميّة الصفة » أي القدرة. انتهى. (3)

وأنا أقول : إنّ هاهنا مقامين :

أحدهما : أنّ اللّه تعالى قادر على كلّ ممكن سواء تعلّقت به القدرة فوجد ، أم لا فلم يوجد ، أو وجد بقدرة مخلوق. وهذا هو الذي حملنا كلام المصنّف عليه. والقول بعموم القدرة بهذا المعنى غير مختصّ بالأشاعرة ، بل أكثر الملّيين قائلون به كما ستعلم عن قريب إن شاء اللّه.

والثاني : أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور. وهذا أخصّ من الأوّل ؛ لجواز أن يكون من الممكن ما ليس بموجود فضلا عن أن يكون مقدورا لقادر.

وهذا المقام الثاني قد يفسّر بأنّ كلّ ما يوجد من الممكنات فهو معلول له تعالى بالذات ، أو بالواسطة ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد من القائلين بوحدة الواجب ، وإنّما الخلاف في كيفيّة الاستناد ووجود الوسائط وتفاصيلها ، وأنّ كلّ ممكن إلى أيّ

ص: 108


1- « شرح المقاصد » 4 : 101.
2- وهي الفلاسفة ، قالوا : إنّ اللّه قادر على شيء واحد. والمجوس ذهبوا إلى أنّ الخير من اللّه والشرّ من الشيطان ، والثنويّة إلى أنّ الخير من النور والشرّ من الظلمة ، والنّظام إلى أنّ اللّه لا يقدر على مثل مقدور العبد ، والجبائيان إلى أنّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد. ( منه رحمه اللّه ).
3- أي كلام العلاّمة قدس سره في « كشف المراد » : 283.

ممكن يستند حتّى ينتهي إلى الواجب.

وقد يفسّر بأنّ ما سوى اللّه من الموجودات واقع بقدرته وإرادته ابتداء ، وهذا هو بعينه مذهب الأشاعرة. وظاهر أنّ ذلك ليس بمختار عند المصنّف ، فلا وجه لحمل كلام المصنّف على مذهب الأشاعرة.

والشارح القديم أيضا حمل (1) كلام المصنّف على الاستدلال المشهور بحمل العلّة على المصحّح لا الموجب ، ولذلك علّل كون علّة المقدوريّة هو الإمكان بأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدوريّة. وكذا العلاّمة (2) - رحمه اللّه - حيث علّل بأنّه مع الوجوب والامتناع لا تعلّق. وأمّا نحن ، فإنّا حملنا العلّة على الموجب ؛ لما ذكرنا من ضعف الدليل المذكور ، كيف؟ ومجرّد وجود المقتضي والمصحّح غير كاف بدون وجود الشرط وعدم المانع ، فيجوز اختصاص بعض الممكنات بشرط لتعلق القدرة ، أو بمانع عنه.

وأمّا الشارح القوشجي فهو أيضا حمل العلّة على الموجب (3) كما حملناها عليه ، لكن لم يتفطّن بوجه الاستدلال ، فأورد عليه أنّا لا نسلّم أنّ الإمكان هو علّة المقدوريّة ، بل هو علّة الحاجة إلى المؤثّر ، والمؤثّر إمّا موجب أو قادر ، هذا.

واعلم : أنّ المنكرين لعموم قدرته تعالى في المقام الأوّل طوائف :

فمنهم الثنويّة القائلون (4) بأنّ للعالم إلهين : نورا هو مبدأ الخيرات ، وظلمة هو مبدأ الشرور ، وكذا المجوس القائلون بأنّ مبدأ الخيرات هو « يزدان » ومبدأ الشرور هو

ص: 109


1- لم نعثر على شرحه.
2- « كشف المراد » : 283.
3- « شرح تجريد العقائد » : 311.
4- للتعرّف على أقوال الثنوية والمجوس وأجوبتها راجع « الملل والنحل » 1 : 232 - 233 ؛ « نقد المحصّل » : 300 ؛ « كشف المراد » : 283 - 284 ؛ « أنوار الملكوت » : 90 ؛ « مناهج اليقين » : 222 - 223 ؛ « شرح المواقف » 8 : 62 - 63 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 102 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 312 ؛ « شرح المنظومة » : 153 - 155.

« أهر من » وحاصل شبهتهم أنّ في العالم خيرات وشرورا ، فلو كان مبدأ الخير والشرّ واحدا ، لزم كون الواحد خيّرا وشرّيرا وهو محال.

والجواب - على ما في كتب القوم - هو منع اللزوم إن أريد بالخيّر من غلب خيره ، وبالشّرير من غلب شرّه ، ومنع استحالة اللازم إن أريد خالق الخير وخالق الشرّ في الجملة ، غاية الأمر أنّه لا يصحّ إطلاق الشرّير عليه تعالى ؛ لظهوره فيمن غلب شرّه ، أو لعدم التوقيف من الشرع.

وهذا الجواب لا يحسم مادّة الشبهة ؛ إذ لهم أن يقرّروها بأنّ اللّه تعالى صرف الوجود ومحض الخيريّة ، فيمتنع أن يصدر عنه الشرّ الذي مناطه ليس إلاّ العدم على ما تقرّر في موضعه سواء كان الشرّ غالبا أو مغلوبا ؛ لامتناع صدور العدم وفيضانه من الوجود.

بل حقّ الجواب أن يقال : إنّ الشرور الذاتيّة - أعني الأعدام بما هي أعدام - لا تستدعي علّة موجودة ، بل علّتها عدم الوجود كما تقرّر في محلّه.

وأمّا التي هي شرور بالعرض - كمصادفة النار للثوب والقاطع للعضو - فهي من حيث كونها شرورا صادرة عن المبدأ الموجود الذي هو صرف الوجود بالعرض لا بالذات والمحال هو صدور الشرّ عن الخير المحض بالذات لا بالعرض ، هذا.

ونقل عن أرسطو (1) في دفع شبهة الثنويّة أنّ الأشياء على خمسة احتمالات : ما لا خير فيه ، وما لا شرّ فيه ، وما يتساويان فيه ، وما خيره غالب ، وما شرّه غالب. وذات الواجب بالذات لمّا لم يمكن أن يصير مبدأ للشرور وجب أن لا يصدر عنه إلاّ قسمان من هذه الأقسام ، أي ما لا شرّ فيه ، وما خيريّته غالبة ؛ لأنّ ترك الخير

ص: 110


1- راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 319 - 324 ؛ « القبسات » : 432 - 443 ؛ « الأسفار الأربعة » 7 : 68 - 70 ؛ « شرح المنظومة » : 153 - 155.

الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، وأنّه قد تفاخر بذلك.

وتحقيقه ما ذكرنا ، وإلاّ لورد عليه أنّ صدور الشرّ عن الخير المحض إذا كان ممتنعا فسواء في ذلك قليله وكثيره. وأمّا إذا قلنا بامتناع الصدور بالذات دون بالعرض ، فيتفاوت القليل والكثير في ذلك ؛ لامتناع أن يكون ما بالعرض زائدا على ما بالذات ، أو مساويا له ، فليتدبّر.

ثمّ إنّ المذكور في حكمة الإشراق وشرحه (1) أنّ القول بالنور والظلمة كان طريقة أهل الإشراق من حكماء الفرس ، وهو رمز على الوجوب والإمكان ، لا أنّ المبدأ الأوّل اثنان : أحدهما نور ، والآخر ظلمة ؛ لأنّ هذا لا يقوله عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخائضين غمرات العلوم الحقيقيّة ، ولهذا قال النبيّ - صلی اللّه علیه و آله - في مدحهم : لو كان الدين بالثريّا ، لتناولته رجال من فارس (2). وأنّ هذا الذي يقوله حكماء الفرس ليس قاعدة كفرة المجوس القائلين بظاهر النور والظلمة ، وأنّهما مبدءان أوّلان ؛ لأنّهم مشركون لا موحّدون. وليس أيضا الحادماني البابلي الذي كان نصرانيّ الدين ، مجوس الطين ، وإليه ينسب الثنويّة القائلون بإلهين : أحدهما إله الخير وخالقه ، والآخر إله الشرّ وخالقه ، هذا.

ومنهم في المشهور (3) : الفلاسفة القائلون بامتناع أن يصدر عن الواحد إلاّ الواحد. وقد مرّ في مباحث الأمور العامّة.

وأمّا ما قيل أنّهم أنكروا أصل القدرة (4) ، فلا معنى لعدّهم من منكري عمومها ،

ص: 111


1- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 11 ؛ « شرح حكمة الإشراق » لقطب الدين الشيرازي : 18 - 19 ؛ « شرح حكمة الإشراق » للشهرزوري : 22 - 24.
2- « قرب الإسناد » : 109 ، ح 377 ؛ « حلية الأولياء » 6 : 64.
3- أي المشهور بين المتكلّمين. راجع « المحصّل » : 417 ؛ « كشف المراد » : 283 ؛ « مناهج اليقين » : 162 ؛ « شرح المواقف » 8 : 61 ؛ « إرشاد الطالبين » : 187.
4- هو ظاهر كلام بعض المتكلّمين - راجع « المحصّل » : 372 وما بعدها ؛ « نقد المحصّل » : 269 ؛ « إرشاد الطالبين » : 182 وما بعدها ؛ « مناهج اليقين » : 161 ؛ « شرح المواقف » 8 : 49 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 96.

ففساده ظاهر ممّا مرّ إلاّ أن يكون مراده أنّهم منكرون للقدرة بالمعنى المتنازع فيه ، فليتأمّل.

وإنّما قلنا : « في المشهور » لأنّ التحقيق أنّ الحكماء وإن قالوا بالوسائط ، لكن لا مؤثّر عندهم في الحقيقة إلاّ اللّه ، والوسائط ليست إلاّ جهات الصدور والتأثير ، لا مؤثّرة بالاستقلال.

وناهيك في ذلك كلام بهمنيار في التحصيل حيث قال : فإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ الوجه من معنى ما بالقوّة وهذا هو صفة الأوّل تعالى لا غير ؛ إذ لو كان مفيدا لوجود ما فيه معنى ما بالقوّة سواء كان عقلا أو جسما كان للعدم شركة في إفادة الوجود ، وكان لما بالقوّة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل (1). انتهى.

وتحقيقه أنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ مشتمل على ما بالقوّة ولو بحسب الذات فقط ، وهو الذي له من جهة ذاته ، وعلى ما بالفعل ، وهو الذي له من جهة مبدئه الحقيقي ، فما يصدر منه إنّما يصدر من الجهة التي هي له من المبدأ ، لا من الجهة التي هي له من ذاته ؛ فإنّ ما له من ذاته ليس إلاّ العدم والقوّة ، فلو صدر عنه من هذه الجهة شيء لزم كون العدم والقوّة مؤثّرا في الوجود والفعليّة ، هذا.

ومنهم : النظّام (2) وأتباعه القائلون بأنّه لا يقدر على خلق القبائح ؛ لإفضائه إلى الجهل والسفه ، تعالى عن ذلك.

ومنهم : القائل (3) بأنّه لا يقدر على ما علم أنّه لا يقع ؛ لاستحالة وقوعه ، وكذا

ص: 112


1- « التحصيل » : 521 - 522.
2- « مقالات الإسلاميّين » 2 : 232 ؛ « الملل والنحل » 1 : 54 ؛ « المحصّل » : 418 ؛ « كشف المراد » : 183 ؛ « مناهج اليقين » : 162 ؛ « أنوار الملكوت » : 89 ؛ « شرح المواقف » 8 : 63 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 102 ؛ « إرشاد الطالبين » : 188.
3- القائل هو معمّر بن عبّاد السلميّ على ما في « شرح المقاصد » 4 : 103 ، أو عبّاد بن سليمان الصيمريّ على ما في غيره. انظر : « مقالات الإسلاميّين » 1 : 277 ؛ « المحصّل » : 419 ؛ « مناهج اليقين » : 163 ؛ « أنوار الملكوت » : 90.

ما علم أنّه يقع ؛ لوجوبه.

ومنهم : الكعبي (1) وأتباعه القائلون بأنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد حتّى لو حرّك جوهرا إلى حيّز وحرّكه العبد إلى ذلك الحيّز ، لم تتماثل الحركتان ؛ وذلك لأنّ فعل العبد إمّا عبث أو سفه أو طاعة ، بخلاف فعل الربّ.

ومنهم : الجبائيان (2) وأتباعهما القائلون بأنّه لا يقدر على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم إمكان وقوع الفعل والترك معا في وقت واحد إذا اختلفا فيهما ، وإمكان وقوع واحد بمؤثّرين مستقلّين إذا اتّفقا في أحدهما.

والجواب عن الكلّ - بعد شبهة الثنويّة والمجوس وتحقيق مذهب الحكماء - هو أنّ شيئا ممّا تمسّكتم به - على تقدير تمامه - لا يدلّ على امتناع الصدور نظرا إلى مجرّد القدرة كما هو المطلوب على ما مرّ ، غاية ما في ذلك إنّما هو امتناع الصدور لمانع ، فلا ينافي إمكانه من حيث هو ، هذا.

وأمّا منكر عموم القدرة في المقام الثاني بحسب التفسير الثاني بعد الثنويّة والمجوس ، فالمعتزلة القائلون باستناد أفعال العباد إليهم ، والحكماء القائلون بوجوب الوسائط في صدور الكثرة عنه تعالى » (3).

المسألة الثانية : في الصفة الثانية
اشارة

الثابتة لواجب الوجود بالذات الصانع للممكنات ، أعني علمه تعالى بالذات وبالمعلولات في مقام الذات.

ص: 113


1- هو أبو القاسم البلخيّ المعروف بالكعبيّ. راجع « المحصّل » : 420 ؛ « كشف المراد » : 283 ؛ « مناهج اليقين » : 163 ؛ « أنوار الملكوت » : 91 ؛ « شرح المواقف » 8 : 63 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 103 ؛ « إرشاد الطالبين » :1. 192.
2- « المحصّل » : 420 ؛ « كشف المراد » : 283 ؛ « مناهج اليقين » : 164 ؛ « أنوار الملكوت » : 88 ؛ « شرح المواقف » 8 : 64 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 102.
3- « شوارق الإلهام » : 505 - 509 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

اعلم أوّلا : أنّ العلم من الكيفيّات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة ، بمعنى أنّها تكون من بين الأجسام للحيوان دون النبات والجماد ، فلا ينافي ثبوت بعضها لبعض المجرّدات كالعقول.

والكيفيّة إن كانت راسخة سمّيت ملكة. وإن كانت غير راسخة سمّيت حالا.

والعلم قد يطلق ويراد منه الصورة الحاصلة في الذهن ، وهي إن كانت إذعانا وقبولا للنسبة تسمّى تصديقا ، وإلاّ تصوّرا. والتصديق إن كان مع تجويز نقيضه يسمّى ظنّا ، وإلاّ يسمّى جزما واعتقادا. والجزم إن لم يكن مطابقا للواقع يسمّى جهلا مركّبا ، وإن كان مطابقا له ، فإن كان ثابتا - أي ممتنع الزوال بالتشكيك - يسمّى يقينا - ولو كان في النظريّات ؛ فإنّها أيضا لا تزول بالتشكيك بعد حصولها ولو حصل الغفلة عن مبادئها كما في المسائل الحسابيّة ؛ فإنّها إذا تيقّن بها عن مبادئها التي لا شبهة فيها ، لم يتطرّق إليها شكّ وإن غفل عن خصوص تلك المبادئ ، فلا يلزم انحصار العلم اليقيني في الضروريّات - وإلاّ يسمّى تقليدا.

وقد يطلق ويراد به اليقين فقط.

وقد يطلق ويراد به ما يتناول اليقين والتصوّر مطلقا. وفسّر العلم بهذا المعنى بأنّه صفة توجب لمحلّها تميّزا لا يحتمل متعلّق ذلك التميّز نقيض ذلك التميّز ، والصفة ما يقوم بغيره ، فيتناول العلم وغيره.

وبتقييدها بكونها موجبة لتمييز محلّها - الذي هو النفس - بشيء يخرج غير العلم من الصفات التي لا توجب التمييز ، بل توجب تميّز محلّها عن غيره كالقدرة ؛ فإنّها توجب تميّز محلّها عن العاجز لا تميّزه بشيء ، بخلاف العلم ؛ فإنّه يوجبهما معا.

وقيد « عدم احتمال متعلّق ذلك التميّز نقيضه » مخرج الصفات الإدراكيّة التي توجب التمييز مع احتمال متعلّقه نقيضه كالظنّ والجهل المركّب والتقليد ؛ فإنّا إذا قلنا : « زيد قائم » فقد حصل لنا تمييز متعلّق بنسبة القيام إلى زيد يحتمل السلب ، بمعنى أنّا لو أخطرنا هذا السلب بالبال ، فجوّزناه في الحال ، وفي صورة الجهل

ص: 114

المركّب والتقليد وإن لم نجوّزه في الحال ، لكن يمكن أن يظهر أمر يوجب أن يسلب القيام عن زيد ، فلم يبق في الحدّ من التصديقات إلاّ التصديق الجازم المطابق الثابت أعني اليقين ، وتناوله للتصوّرات بأسرها بناء على أنّها لا نقيض لها.

واعترض (1) على هذا الحدّ بأنّه يوجب أن لا يكون التصديق - أعني النفي والإثبات - علما ، بل ما يوجبهما ، وأن لا يكون التصوّر أيضا علما ، بل ما يوجبه ، فالصواب أن يقال : إنّه تمييز لا يحتمل متعلّقة نقيض ذلك التمييز ، فتأمّل.

وقد يقال (2) : إنّ العلم لا يحدّ ؛ لأنّه بديهيّ التصوّر ، والتحديد يكون للكسبي ، وما ذكروه في معرض التعريف تعريف له بحسب اللفظ ، والأشياء البديهيّة قد تعرّف بحسب اللفظ.

وردّ بأنّه إن أراد أنّ تصوّره بوجه ما بديهيّ ، فلا نزاع في بداهته ، وإن أراد تصوّره بكنه حقيقته ، فهو ممنوع ؛ لأنّه عين المتنازع فيه.

وقد يقال (3) : لا يمكن أن يحدّ العلم ؛ لأنّ غير العلم لا يعلم إلاّ بالعلم ، فلو علم العلم بغيره ، لزم الدور ؛ لتوقّف معلوميّة كلّ منهما على معلوميّة الآخر.

واعترض (4) عليه بأنّ معلوميّة غير العلم إنّما تكون بحصول علم جزئي متعلّق بذلك الغير ، لا بمعلوميّة حقيقة العلم ، والموقوف على معلوميّة الغير هو معلوميّة حقيقة العلم ، لا حصول العلم الجزئيّ ، فلا دور.

وبالجملة ، فهو قد يكون حصوليّا ، وقد يكون حضوريّا. لا بدّ في العلم الحصوليّ من انطباع شبح ومثال من المعلوم في النفس مغاير له ، لا نفسه ، فلا يلزم أن يكون

ص: 115


1- للتعرّف على الأقوال الواردة في تحديد العلم والاعتراضات عليها راجع « المحصّل » : 81 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 450 - 453 ؛ « نقد المحصّل » : 6 وما بعدها ؛ « كشف المراد » : 225 - 226 ؛ « أنوار الملكوت » : 12 - 13 ؛ « مناهج اليقين » : 86 - 87 ؛ « نهاية المرام » 2 : 5 - 8 ؛ « شروح الشمسية » 1 : 55 ؛ « شرح المواقف » 1 : 61 - 86 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 189 - 197 ؛ « إرشاد الطالبين » 101 - 102 ؛ « جامع العلوم » 2 : 341 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1220 - 1225 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 278 - 279 ؛ « شوارق الإلهام » : 416 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 249 - 250.
2- للتعرّف على الأقوال الواردة في تحديد العلم والاعتراضات عليها راجع « المحصّل » : 81 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 450 - 453 ؛ « نقد المحصّل » : 6 وما بعدها ؛ « كشف المراد » : 225 - 226 ؛ « أنوار الملكوت » : 12 - 13 ؛ « مناهج اليقين » : 86 - 87 ؛ « نهاية المرام » 2 : 5 - 8 ؛ « شروح الشمسية » 1 : 55 ؛ « شرح المواقف » 1 : 61 - 86 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 189 - 197 ؛ « إرشاد الطالبين » 101 - 102 ؛ « جامع العلوم » 2 : 341 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1220 - 1225 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 278 - 279 ؛ « شوارق الإلهام » : 416 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 249 - 250.
3- للتعرّف على الأقوال الواردة في تحديد العلم والاعتراضات عليها راجع « المحصّل » : 81 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 450 - 453 ؛ « نقد المحصّل » : 6 وما بعدها ؛ « كشف المراد » : 225 - 226 ؛ « أنوار الملكوت » : 12 - 13 ؛ « مناهج اليقين » : 86 - 87 ؛ « نهاية المرام » 2 : 5 - 8 ؛ « شروح الشمسية » 1 : 55 ؛ « شرح المواقف » 1 : 61 - 86 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 189 - 197 ؛ « إرشاد الطالبين » 101 - 102 ؛ « جامع العلوم » 2 : 341 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1220 - 1225 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 278 - 279 ؛ « شوارق الإلهام » : 416 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 249 - 250.
4- للتعرّف على الأقوال الواردة في تحديد العلم والاعتراضات عليها راجع « المحصّل » : 81 ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 450 - 453 ؛ « نقد المحصّل » : 6 وما بعدها ؛ « كشف المراد » : 225 - 226 ؛ « أنوار الملكوت » : 12 - 13 ؛ « مناهج اليقين » : 86 - 87 ؛ « نهاية المرام » 2 : 5 - 8 ؛ « شروح الشمسية » 1 : 55 ؛ « شرح المواقف » 1 : 61 - 86 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 189 - 197 ؛ « إرشاد الطالبين » 101 - 102 ؛ « جامع العلوم » 2 : 341 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1220 - 1225 ؛ « الأسفار الأربعة » 3 : 278 - 279 ؛ « شوارق الإلهام » : 416 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 249 - 250.

النفس حارّا باردا مستقيما معوجّا إلى غير ذلك من الصفات المتضادّة الممتنعة الحصول للنفس.

وأمّا الحضوريّ - كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها - فليس فيه ارتسام وانطباع ، بل هناك حضور المعلوم بحقيقته - لا بمثاله - عند العالم ، وهو أقوى من العلم الحصوليّ ؛ ضرورة أنّ انكشاف الشيء على آخر لأجل حضوره بنفسه عنده أقوى من انكشافه عليه لأجل حصول مثاله عنده.

وقد يقال (1) : إنّ علمه تعالى بالأشياء من هذا القبيل ؛ لامتناع حصول صور الأشياء في ذاته تعالى.

واستشكل بالنسبة إلى المعدومات خصوصا والممتنعات ، ولهذا قيل (2) : إنّ علمه تعالى بها بحصول صورها في مجرّد آخر. وتحقيقه سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه.

والقول باتّحاد العالم بالمعلوم عند العلم أو بالعقل الفعّال (3) فاسد ؛ لأنّ الاثنين لا يتّحدان ، والعلم الواحد لا يتعلّق بمعلومين فصاعدا على التفصيل ، بل يختلف باختلاف المعلوم ، ولا يتحقّق العلم إلاّ بأن يكون هناك إضافة ، بمعنى أنّه أمر حقيقيّ يستلزم تلك الإضافة ، لا نفسها.

والإشكال بلزوم اجتماع صورتين متماثلتين في صورة اتّحاد العالم والمعلوم أعني صورة علم الشيء بنفسه ، وبأنّه للإضافة عند الاتّحاد ، فلا يتحقّق العلم ؛ لانتفاء لازمه الذي هو الإضافة مدفوع بأنّ علم الشيء بنفسه علم حضوريّ ، فلا اجتماع. وبأنّ إحدى الصورتين موجودة بوجود أصيل ، والأخرى بوجود ظلّيّ ، وبذلك

ص: 116


1- « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 70 - 76 ؛ « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 150 - 153.
2- القائل هو ثاليس الملطيّ ، على ما نقله الشهرستانيّ في « الملل والنحل » 2 : 62.
3- قال به فرفوريوس وأتباعه من المشّائين ، راجع « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 293 - 294 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 251 ؛ « شوارق الإلهام » : 417.

تمتازان ، فلا استحالة. وبأنّ التغاير الاعتباريّ كاف لتحقّق النسبة وهو حاصل ؛ لمغايرة كون الشيء عالما لكونه معلوما.

وهو عرض ؛ لوجود حدّه فيه.

وما قيل : من أنّ الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا عرض ؛ لصدق حدّ الجوهر عليها وهو أنّه ماهيّة إذا وجدت في الخارج ، كانت لا في الموضوع ؛ لأنّها وإن كانت بحسب الوجود الذهنيّ في الذهن ، لكنّها بحسب الوجود الخارجيّ لا يكون في موضوع كصورة الحيوان ؛ فإنّها إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع والجوهريّة والعرضيّة بحسب الوجود الخارجيّ.

فمردود بأنّه من باب اشتباه العلم بالمعلوم ؛ فإنّ المعلوم كالحيوان - مثلا - عين كونه معلوما ، موجود في الذهن ، وإذا وجد في الخارج يكون لا في موضوع ، فيصدق عليه حدّ الجوهر دون العرض.

وأمّا صورته العقليّة - أعني العلم به - فليست موجودة في الذهن بل في الخارج ، وفي وجودها الخارجيّ موجودة في موضوع هو الذهن ، فهي قائمة بالذهن لا موجودة فيه ، فيصدق عليها حدّ العرض لا الجوهر.

والعلم إمّا أن يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج كما إذا تصوّرت شيئا ففعلته ، ويسمّى فعليّا ، أو يكون مسبّبا عن وجود المعلوم كما إذا شاهدت شيئا فتعقّلته ، ويسمّى انفعاليّا ، لا هذا ولا ذاك كما إذا تصوّرت الأمور المستقبلة التي ليست فعلا لك.

وثانيا : (1) أنّ العلم ينقسم إلى الضروري ، والنظري المنقسم إلى الكسبيّ واللدنّيّ الموهبيّ.

ص: 117


1- عطف على قوله « اعلم أوّلا » في ص 113.

وأقسام الضروريّ ستّة : البديهيّات ، والمشاهدات ، والفطريّات ، والتجربيّات ، والحدسيّات ، والمتواترات ؛ لأنّ القضايا إمّا أن يكون تصوّر أطرافها - بعد شرائط الإدراك من الالتفات وسلامة الآلات - كافيا في حكم العقل ، أولا.

فالأوّل البديهيّات ، كالحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، وتسمّى أوّليّات أيضا.

والثاني إمّا أن يتوقّف على واسطة غير الحسّ ، أولا.

والثاني المشاهدات ، وتسمّى حسّيّات أيضا ، وتعمّ الإدراكات بالحواسّ الظاهرة والباطنة معا ، كالحكم بأنّ الشمس نيّرة ، أو بأنّي جائع ، ويسمّى ما يدرك بالباطنة وجدانيّات أيضا ، ومنها ما نجده بنفوسنا لا بالآلات البدنيّة كالتصديق بأنّي موجود.

والأوّل إن كان تلك الواسطة فيه لازمة يعني لا تعزب عن العقل عند تصوّر الأطراف ، فهي الفطريّات ، وتسمّى قضايا قياساتها معها أيضا ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ؛ لانقسامها بمتساويين. وإن كانت غير لازمة فإمّا أن يستعمل فيها الحدس ، أولا.

فالأوّل الحدسيّات ، كالحكم بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس ؛ لما يرى من اختلاف تشكّلات نوره بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس.

والثاني إن كان الحكم فيها من شأنه أن يحصل بالإخبار ، فهي المتواترات ، كالحكم بأنّ الملائكة موجودة ، أولا ، فهي المجرّبات ، كالحكم بأنّ السقمونيا مسهل للصفراء.

وقد تقسّم الحسّيّات إلى الوهميّات إن كان المدرك هو الوهم ، وإلى المشاهدات إن كان غيره ، وجميع ذلك يفيض على الإنسان من المبدأ الفيّاض ، فهو قابل لا فاعل إلاّ أنّ فيضانها عليه يتوقّف على استعدادات مخصوصة.

أمّا الضروريّات فاستعداداتها باستعمال الحواسّ الظاهرة والباطنة. وأمّا النظريّات فاستعداداتها بهذه الضروريّات ، وله مراتب :

[ المرتبة ] الأولى : كونه بالقوّة المحضة ، وهو عدم العلم عمّا من شأنه العلم.

وهذه القوّة قد تكون بعيدة عن الفعل ، كما في العقل الهيولانيّ أعني كون النفس

ص: 118

في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم ، مستعدّة لها ؛ فإنّها حينئذ شبيهة بالهيولى الخالية عن الصور مع كونها قابلة لها.

وقد تكون متوسّطة ، كما في العقل بالملكة ، أعني كونها مستعدّة لاكتساب النظريّات بحسب حصول العلوم الأوّليّة لها من جهة استعمال الآلات ، أعني الحواسّ الظاهرة والباطنة ؛ فإنّها حصل لها بسبب تلك الأوّليّات ملكة الانتقال إلى النظريّات.

وقد تكون قريبة من الفعل ، كما في العقل بالفعل ، أعني كونها بحيث حصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشّم كسب جديد.

وأمّا إذا رتّبت النفس العلوم الأوّليّة ، وأدركت النظريّة مشاهدة إيّاها - وسمّي حالها بالعقل المستفاد ؛ لاستفادتها من العقل الفعّال - فهو خارج عن هذه المرتبة.

المرتبة الثانية : العلم الإجماليّ ، وهو حالة متوسّطة بين القوّة المحضة التي هي حالة الجهل ، وبين العقل المحض الذي هو حالة التفصيل.

[ المرتبة ] الثالثة : العلم التفصيليّ ، وهو أن يعلم الأشياء متمايزة في العقل ، منفصلا بعضها عن بعض ، ملحوظا واحد منها قصدا ، كمن علم مسألة ثمّ غفل عنها ، ثمّ سئل عنها ؛ فإنّه يحضر الجواب في ذهنه بعد السؤال وقبل الجواب ، وليس ذلك بالقوّة المحضة ؛ فإنّ عنده حالة بسيطة هي مبدأ تفاصيل تلك المسألة ، فلم يكن علمه بالقوّة من كلّ وجه ، بل هي بالفعل من وجه ، وبالقوّة من آخر ؛ فإنّه علم بالفعل نظرا إلى الجملة من حيث هي جملة ، وبالقوّة نظرا إلى التفاصيل في ضمنها.

وحصول العلم بعد النظر الصحيح لازم إمّا بطريق التوليد ، أو بجريان العادة ، أو من جهة لزوم الإفاضة. وشرطه - بعد شرائط العلم من الحياة ، والعقل ، وعدم النوم والغفلة ونحو ذلك - أمران :

الأوّل : عدم غاية النظر ، أعني العلم بالمطلوب ؛ لامتناع تحصيل الحاصل بغير ذلك التحصيل من حيث هو كذلك.

ص: 119

والثاني : عدم ضدّ الغاية ، أعني الجهل المركّب ؛ فإنّه صارف عن النظر وعن أثره.

وقد يزاد شرط آخر وهو حضور الغاية - أعني الشعور بالمطلوب - لئلاّ يلزم طلب المجهول مطلقا. وهو داخل فيما ذكرنا.

ثمّ اعلم أنّ العلم ينقسم بقسمة أخرى إلى قسمين :

الأوّل : الحصوليّ الذي يحصل بحصول المعلوم بأشباحه لا بماهيّته في العالم ، كعلمنا بالمبصرات ونحوها.

الثاني : الحضوريّ الذي يحصل بحضور المعلوم عند العالم حقيقة ، كعلمنا بمشاهداتنا ، أو حكما بمعنى عدم كون المعلوم غائبا عن العالم ، كعلمنا بأنفسنا.

وقد يحصل بحضور علّة المعلوم عند العالم حقيقة ، أو حكما كعلمنا بآثار النار ، وعلمنا بآثار أنفسنا قبل وجودها ، ولا يتصوّر الأوّل في الواجب ؛ لامتناع كونه محلاّ للحوادث ونحوها ، ولهذا قال بعض المحقّقين - على ما حكي (1) - : إنّ علمه تعالى حضوريّ بمعنى حضور المعلومات عنده وعدم غيبتها عنه تعالى.

ولمّا أشكل عليه الأمر بالنسبة إلى المعدومات ؛ لعدم تصوّر حضورها حال عدمها عنده ، قال بكون صورها في العقل الأوّل الحاضر عنده. (2)

ولا يخفى أنّه يستلزم احتياج الواجب إلى العقل الأوّل المنافي لوجوب الوجود ، وجهله بالمعدومات في مرتبة ذاته المقدّمة على مرتبة معلوله ، وهو محال.

فالصواب أن يقال : إنّ للأشياء مرتبتين من الوجود : إجماليّ وتفصيليّ.

والإجماليّ عبارة عن وجودها في مرتبة ذات علّتها بجميع ما لها من الأحوال والكيفيّات والكمّيّات ونحوها ؛ فإنّها أيضا من الأشياء المعلولة له تعالى ، بمعنى وجود علّتها من حيث إنّها علّتها ، لا وجودها حقيقة كما يقول من قال بوحدة الوجود ، ففي الإجمال في الحقيقة تفصيل.

ص: 120


1- حكاه الصدر الشيرازيّ في « الأسفار الأربعة » 6 : 181 واللاهيجيّ في « شوارق الإلهام » : 517.
2- راجع « شرح مسألة العلم » 28 - 29 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 306 - 307.

والتفصيلي عبارة عن وجودها في الخارج بجميع ما لها من الأحوال الخارجيّة.

[ علم الواجب تعالى بذاته وبما سواه بالعلم الحضوري ]

والواجب تعالى عالم بذاته بالعلم الذي هو عين ذاته ؛ لأنّ العلم عبارة عن منشأ انكشاف الأشياء ، وذاته تعالى كذلك ؛ لأنّ انكشافها حادث بحدوثها ، فلا بدّ له من مرجّح ، فهو إمّا غير ذاته ، أو ذاته.

ولا سبيل إلى الأوّل ، وإلاّ يلزم احتياج الواجب ونقصه ، فتعيّن الثاني ، فذاته منشأ لانكشاف الأشياء ، فهو العلم ، ومن الأشياء ذاته ، فهو عالم بذاته على ما هي عليه ، ويلزم من ذلك كونه عالما بجميع الأشياء على ما هي عليه من الكلّيّات والجزئيّات والمجرّدات والمادّيّات : الموجودات منها ، والمعدومات حتّى مفهوم الممتنعات ؛ لكونه من الممكنات ، وذاته وغير ذاته ؛ لوجود جميعها في مرتبة ذاته ، بمعنى أنّ ذاته موجودة حقيقة وهي علّة لجميع الممكنات التي منها مفهوم المعدومات ، الموجود في الذهن ، وذاته تعالى حاضرة عنده تعالى ، بمعنى عدم غيبوبة ذاته عن ذاته ، وحيث كان ذاته علّة لجميع الممكنات وكان حضور علّة المعلوم كافيا في العلم بالمعلوم قبل وجوده الخاصّ به ، لزم علمه تعالى بذاته وبما سواه بالعلم الحضوريّ ، بمعنى حضور المعلوم عند العالم ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم ، وحضور علّة المعلوم بهذا المعنى عند العالم في مرتبة ذاته.

وقال بعض (1) الأعلام : علمه تعالى على عدّة أقسام :

ص: 121


1- نقل المحقّق الخوانساريّ نحو هذا القول عن بعض المحقّقين. انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » :1. 240. ولمزيد الاطّلاع عن مراتب علم الواجب تقدّست أسماؤه راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٥١ _ ١٥٢ و ٣١٧ _ ٣١٨ ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : ١٢٤ _ ١٢٨ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٩٠ _ ٣٠٦ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥٥٠ _ ٥٥٤ ؛ « شرح المنظومة » : ١٧٥ _ ١٧٧.

منها : العناية ، وهي عبارة عن علمه تعالى بالأشياء في مرتبة ذاته علما مقدّسا عن شوب الإمكان والتركيب بحيث تنكشف له الموجودات الواقعة في عالم الإمكان على أتمّ نظام وهي على بسيط واجب لذاته قائم بذاته ناشئ عنه العلوم التفصيليّة ، لا أنّها فيه.

ومنها : القضاء ، ويقال له : « أمّ الكتاب » وهو عبارة عن صور علميّة لازمة لذاته بلا جعل وتأثير وتأثّر ، وليست من أجزاء العالم ؛ إذ ليس لها جهة عدميّة ، والإمكانات واقعيّة ، فهو صور علم اللّه قائمة بالذات ، باقية ببقاء اللّه تعالى ، وهو الذي لا يردّ ولا يبدّل.

ومنها : القدر ، ويقال له : « كتاب المحو والإثبات » وهو عبارة عن وجود صور الموجودات في عالم النفس السماويّ على الوجه الجزئيّ ، مطابقة لما في موادّها الخارجيّة الشخصيّة ، مستندة إلى أسبابها وعللها ، واجبة بها ، لازمة لأوقاتها المعيّنة وأمكنتها المخصوصة ، ويشملها القضاء شمول العناية للقضاء ، بمعنى أنّ العالي إجمال للسافل ، والسافل تفصيل للعالي ، ومحلّهما اللوح والقلم ، الأوّل على سبيل الانفعال ، والثاني على سبيل الفعل والحفظ.

واللوح على قسمين : الأوّل : اللوح المحفوظ. والثاني : لوح المحو والإثبات.

والأوّل : عبارة عن النفس الكلّيّة الفلكيّة سيّما الفلك الأقصى ؛ إذ كلّ ما جرى في العالم ، أو يجري مكتوب مثبت فيها ، وكونها لوحا محفوظا باعتبار انحفاظ صورها الفائضة عليها على الدوام.

والثاني : عبارة عن النفوس المنطبعة الفلكيّة فإنّه تنتقش فيها صور جزئيّة متشخّصة بأشكال وهيئات مقدّرة مقارنة لأوقات معيّنة على مثال ما يظهر في المادّة الخارجيّة ، وهذه الصور - لجزئيّتها وشخصيّتها - متبدّلة متجدّدة مستمرّة على نسق واحد ، كالكبريات الكلّيّة.

والقلم عبارة عن الجواهر القدسيّة ، وهي العقول المترتّبة في الشرف والكمال

ص: 122

على مرتبة في القرب منه تعالى إلى العقل العاشر المؤثّر بنوريّته الضعيفة في النفوس السماويّة والناطقة باعتبار كونها مصوّرة لصور المعلومات ، ناقشة في قوابل النفوس والأجرام على وجه التجدّد. وهذه أصول وفروعها كلّ ما في الوجود من موضع شعور كالنفوس والقوى الحيوانيّة الوهميّة والخياليّة وغيرها من المدارك والمشاعر.

نعم ، العقلاء لا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء.

وبالجملة ، العلم على أقسام خمسة :

الأوّل : العلم الحصوليّ بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحصول صورة ذلك المعلوم في ذلك العالم ، وهو المسمّى بعلم اليقين.

الثاني : العلم الحضوريّ بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحضور ذلك المعلوم عند ذلك العالم مع المغايرة بينهما بالذات كالعلم.

الثالث : العلم الحضوريّ ، بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحضور علّة ذلك المعلوم عند العالم كالعلم بالمحسوسات وبالآثار الاستقباليّة للمحسوسات عند العلم بكنه تلك المحسوسات. وهذان القسمان مسمّيان بعين اليقين.

الرابع : العلم الحضوريّ بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحضور ذلك المعلوم عند ذلك العالم مع عدم التغاير بينهما إلاّ بالاعتبار كعلمنا بأنفسنا.

الخامس : العلم الحضوريّ بمعنى ظهور المعلوم عند العالم بحضور علّة ذلك المعلوم عند ذلك العالم مع عدم المغايرة بينهما إلاّ بالاعتبار كعلمنا بالآثار الاستقباليّة لأنفسنا عند علمنا بكنه أنفسنا. وهذان القسمان يسمّيان بحقّ اليقين.

وعلم اللّه تعالى من قبيل العلم الحضوريّ كما ذكرنا.

وما دلّ على أنّه لمّا وقع المعلوم وقع العلم عليه (1) - مع أنّه معارض بما دلّ على

ص: 123


1- إشارة إلى ما رواه الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق علیه السلام في « التوحيد » : 139 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 1.

خلافه من أنّ اللّه تعالى كان عالما والعلم ذاته ولا معلوم (1) - محمول على أنّ المعلوميّة حصلت للمعلوم في مقام الوجود الخارجيّ أو في مقام الذات بمعنى أنّه عالم أزل الآزال كما هو ظاهر قوله علیه السلام : « ولا معلوم » مع أنّ العقل القاطع سيّما عند التطابق مع النقل يدفع الظاهر ، مضافا إلى أنّ نفس النقل الأقوى مقدّم ، وأنّ الخبر الواحد عند عدم التطابق مع العقل غير حجّة في المسائل الاعتقاديّة والعلميّة كما لا يخفى ، وبالجملة فالعاقل إن عجز عمّا ذكرنا لا بدّ أن يعتقد أنّه عالم بالأشياء قبلها وإن لم يعلم كيفيّة علمها لا أن يقول بمقالته (2) ؛ فإنّ ذلك لو لم يكن بيّن الفساد وبعيدا عن الصواب ، فلا أقلّ من كونه محلّ الارتياب.

وقال الشيخ المعاصر (3) في رسالة « حياة النفس » في مبحث علم اللّه تعالى هذه العبارة :

« وعلمه قسمان : علم قديم هو ذاته ، وعلم حادث وهو ألواح المخلوقات ، كالقلم واللوح وأنفس الخلائق.

فأمّا العلم القديم ، فهو ذاته تعالى بلا مغايرة ولو بالاعتبار ؛ لأنّ هذا العلم لو كان حادثا كان تعالى خاليا منه قبل حدوثه ، فيجب أن يكون قديما لا يخلو إمّا أن يكون هو ذاته بلا مغايرة ، أولا ، فإن كان هو ذاته بلا مغايرة ، ثبت المطلوب ، وإن كان غير ذاته ، تعدّدت القدماء وهو باطل.

وأمّا العلم الحادث ، فهو حادث بحدوث المعلوم ؛ لأنّه لو كان قبل المعلوم ، لم يكن علما ؛ لأنّ العلم الحادث شرط تحقّقه وتعلّقه أن يكون مطابقا للمعلوم ، وإذا لم يوجد المعلوم لم يحصل المطابقة التي هي شرطه ، وأن يكون مقترنا بالمعلوم ، وقبله لم يتحقّق الاقتران ، وأن يكون واقعا على المعلوم ، وقبله لم يتحقّق الوقوع.

ص: 124


1- وهي رواية الكلينيّ في « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ، ح 1.
2- أي بمقالة الشيخ المعاصر.
3- هو الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائيّ المعاصر للمؤلّف.

وهذا العلم الحادث هو فعله ومن فعله ومن جملة مخلوقاته ، وسمّيناه علما لله تبعا لأئمّتنا علیهم السلام واقتداء بكتاب اللّه تعالى حيث قال : ( عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) (1) وقال : ( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) (2) ».

أقول : هذا - مع كونه خلاف الكتاب والسنّة ونحوهما من جهة كون إطلاق العلم على الصور اللّوحيّة (3) ونحوها لا محلّها وظروفها (4) - غفلة (5) عن أقسام العلم ؛ لأنّ العلم قد يكون حصوليّا يحصل بحصول صورة المعلوم في العالم.

وقد يكون حضوريّا حاصلا بحضور المعلوم بنفسه عند العالم مع المغايرة بينهما ، أو بدونهما ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم.

وقد يكون حضوريّا حاصلا بحضور علّة المعلوم عند العالم مع المغايرة ، كما في العلم بالنار الحاضرة بالنسبة إلى الحرارة التي لم تحسّ ؛ فإنّه إذا علم كنه النار يعلم حرارتها وغيرها من لوازمها ومعلولاتها ، أو بدون المغايرة كما إذا علمنا نفسنا بكنهها علما موجبا للعلم بمقتضياتها ، بمعنى عدم الغيبوبة ، وعلم الواجب بالنسبة إلى الممكن قبل الإيجاد من هذا القبيل ، فيكفي وجود ذات العلّة في حصول العلم بالمعلوم من غير أن يحتاج إلى القول بأنّ للممكن نحوا من الوجود في مرتبة وجود العلّة وهو سبب يحقّق العلم ؛ لاستلزام ذلك على وجه القول بوحدة الوجود ، كما يقول الصوفيّة خذلهم اللّه ونحن من ذلك برآء.

وإطلاق العلّة عليه تعالى صحيح. أمّا الناقصة فلنقص المعلول لا العلّة ، وأمّا

ص: 125


1- طه (20) : 52.
2- ق (50) : 4.
3- يعني المكتوب في اللوح ، لا نفس اللوح.
4- كما زعمه الشيخ المعاصر.
5- خبر ل- « هذا ».

التامّة فبملاحظة المشيئة والإرادة. وعلى ما ذكره يلزم إيجاد المصنوع جهلا ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

مضافا إلى أنّ القول بأنّ العلم نفس المعلوم ينافي قوله : « إنّه حادث بحدوثه ، وأنّ شرطه أن يكون مطابقا للمعلوم ، ومقترنا به ، وواقعا عليه » لعدم تصوّر مطابقة الشيء لنفسه ، واقترانه بها ، ووقوعه عليها ، فهذا أيضا يوهم التدليس والطفرة.

فإن قلت : مراده أنّه يثبت بعد وجود الأشياء أحوالها كأرزاقها وآجالها في ملكه كاللوح بمعنى أنّه يوجد فيه العلم بها وضبط حدودها حين يوجدها ، لا أنّه يوجد لنفسه علما بها ؛ لأنّه عالم بها قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها ، كما إذا كان بينك وبين زيد حساب تكون عالما به غير ناس له ومع ذلك تكتبه في الدفتر ؛ لكونه أردع عن الإنكار ، ولهذا قال موسى لفرعون : ( فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) (1)

قلت : المراد أنّ ظاهر كلامه يقتضي ذلك من غير قرينة صارفة ، وبيان المراد من الخارج لا يدفع الإيراد ؛ فإنّه موجب للشبهة لأهل الشريعة ، مع أنّ في الكلام ما يمنع عن هذا التوجيه كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ علمه تعالى بالنسبة إلى ذاته تعالى علم حضوريّ - بمعنى ظهور المعلوم - بحضور ذلك المعلوم بنفسه عند العالم بدون المغايرة بينهما إلاّ بالاعتبار ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم كعلمنا بأنفسنا.

وعلمه تعالى بالنسبة إلى ما سواه من نحو الممكنات قبل إيجادها علم حضوريّ - بمعنى ظهور المعلوم - بحضور علّة المعلوم - وهي ذاته تعالى - عند العالم من غير مغايرة بينهما ، بمعنى عدم غيبوبة علّة المعلوم عن العالم ، فهو عالم بها في مقام الذات بالذات والصفات والأحوال والتغيّرات التي هي أيضا من المعلومات من غير لزوم تغيّر في الذات ؛ لكون التغيّر في المعلوم وكونه على وجهه معلوما في مقام

ص: 126


1- طه (20) : 52.

الذات ، فهو في الحقيقة علم تفصيليّ وإن كان بحسب الظاهر علما إجماليّا.

وعلمه تعالى بالنسبة إلى ما سواه بعد الإيجاد علم حضوريّ بحضور المعلوم بنفسه عند العالم مع المغايرة بينهما بسبب الإحاطة العلميّة بالممكنات.

والأولى حصل من باب العلم الحضوريّ بحضور المعلوم عند العالم بحضوره علّة وهو الواحد عند العالم يكون التغيّر في المعلوم لا العلم لئلاّ يلزم الجهل في مرتبة الذات ، أو تحصيل الحاصل في مرتبة الممكنات ، ومثل ذلك تفاصيل الممكنات وكيفيّاتها وكمّيّاتها وأمثالها ؛ فإنّ كلّ ذلك معلول للواجب بالذات ، وكلّ ما هو معلول له معلوم له في مقام الذات فالممكنات بتفاصيلها وأحوالها معلومة له تعالى في مقام الذات من باب العلم الحضوريّ بحضور علّة المعلوم عند العالم على الوجه المذكور والآتي ، فتوهّم كون علمه قسمين : ذاتي قديم ، وفعلي حادث ، وكون تعلّقه حادثا ، فاسد ؛ لما أشرنا.

وعلمه تعالى بالنسبة إلى أحوال الممكنات وصفاتها وآثارها المستقبلة علم حضوري بحضور علّة المعلوم عند العالم مع المغايرة بين العالم وعلّة المعلوم كالمعلوم ، فجميع الأشياء له تعالى في جميع الأحوال معلوم وهو تعالى عالم بها في الأزل ولا يزال وأزل الآزال ، وخلق السماوات وسائر الممكنات مع العلم والشعور والإرادة.

وكيف كان ، فالدليل على ثبوت العلم لله تعالى أمور :

منها : أنّ كلّ ما حكم العقل بكونه كمالا لموجود ما من حيث هو موجود ، ولا يوجب التجسّم والتغيّر والتركّب ونحوها ، وتحقّق في موجود من الموجودات ، كان ممكن التحقّق في الموجود الحقّ بالإمكان العامّ ، فيجب وجوده له تعالى لا محالة ، وإلاّ لكان فيه جهة إمكانيّة منافية للوجوب الذاتي ، ويلزم نقص الواجب في مرتبة ذاته وذات ذلك الكمال وإن كان أثره مترتّبا على ذاته كما يقول من يذهب

ص: 127

إلى كون ذاته تعالى نائبا عن الصفات (1) وهو محال ، وصفة العلم كذلك ، فيجب تحقّقه فيه من غير أن يكون زائدا على ذاته ليلزم تعدّد القدماء ، مضافا إلى ما مرّ وكون العينيّة كمالا بالنسبة إلى الزيادة ، ووجوب حصول كلّ كمال له تعالى.

ومنها : أنّ واجب الوجود واهب الكمال ومفيضه ومعطيه ، والمفيض لا يصلح أن يكون قاصرا عن ذلك الكمال إذا لم يوجب ما ذكر ، كما روي (2) أنّ النمل يقول : إن لله زبانيتين ، فهو تعالى عالم بما كان وما هو كائن وما يكون على وجه هي عليه في نفس الأمر ؛ لكونه علّة تامّة لما سواه على ترتّب ونظام ، وكونه عالما بالعلم التامّ بذاته ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم بمعلولها ؛ إذ لا بدّ في كلّ علّة مستقلّة لمعلول أن يكون المعلول من لوازمه ، فالعلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول ، فعلمه تعالى بجميع ما عداه لازم لعلمه بذاته ، كما أنّ وجود ما عداه تابع لوجود ذاته.

فإن قلت : نحن عالمون بذواتنا التي هي علل لأفعالنا الآتية مع عدم علمنا بها قبلها.

قلت : ذواتنا ليست علّة مستقلّة لها ، بل محتاجة إلى دواع وأسباب خارجة ، بخلاف واجب الوجود ؛ فإنّه علّة مستقلّة لجميع معلولاته ، والداعي إلى الفعل - وهو العلم بالمصالح - عين ذاته ، غير مستفاد من خارج ، وغير محتاج إلى الآلات والأسباب ، مضافا إلى عدم علمنا بذواتنا بالكنه ، فلا يصحّ القياس بالناس.

وبيان كيفيّة هذا العلم على وجه لا يلزم منه تكثّر في ذاته ولا في صفاته الحقيقيّة ، ولا كونه فاعلا وقابلا ، ولا يبقى اشتباه بأنّ هذا العلم هل هو قبل الأشياء أو بعدها أو معها بأن لا يعلمها إلاّ حين وجودها ، فيكون لها فيه تأثير ، ويكون

ص: 128


1- قالت به المعتزلة كما في « شرح الأصول الخمسة » : 182 وما بعدها. ونقل عنهم في « مقالات الإسلاميّين » 1 : 244 وما بعدها ؛ « المحصّل » : 421 ؛ « شرح المقاصد » 4 :1. 71.
2- « الأربعون حديثا » البهائي : 81.

بسببها بحال لم يكن قبل على ذلك الحال ، فلا يكون واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الصفات؟ أنّ الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيّات ، فيجب أن يكون ذاته - مع بساطته وأحديّته - كلّ الأشياء ، ويكون لكلّ واحد منها وجود إجمالي في مرتبة ذات العلّة ، فتعقّله لذاته تعقّل لجميع ما سواه ، وتعقّله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فيكون علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلا في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه ، بمعنى أنّه لا بدّ عند ملاحظة ذاته تعالى وتعقّله وإدراكه على وجه واقع من ملاحظة جميع الممكنات المستندة إليه ؛ فإنّ من الوجوه التي لذات الواجب تعالى كونه قادرا على إيجاد الأشياء الممكنة ومؤثّرا فيها على وجه هي عليها ، وعلى أحوال تكون عليها آنا فآنا ، فتعقّله على هذا الوجه مستلزم لتعقّل جميع الأشياء ، فجميعها موجود بالوجود التعقّلي في ضمن تعقّل الذات كوجود الابن بالوجود التعقّلي في ضمن تعقّل الأبوّة ، وليس المراد وجودها في مرتبة الذات بالوجود الخارجيّ الحقيقيّ ، كما يقوله المتصوّفة (1) ؛ فإنّ ذلك مستلزم لإمكان الواجب ، أو وجوب الممكن كما لا يخفى ، بل هو خلاف الضروريّ من المذهب ، بل الدين.

والحاصل : أنّ العلم على قسمين : حصوليّ ، وحضوريّ. والحضوريّ قد يكون بحضور المعلوم عند العالم مع التغاير بينهما.

وقد يكون بحضور علّة المعلوم عنده كذلك.

وقد يكون على الوجه الأوّل من غير تغاير ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم كما في العلم بالذات.

وقد يكون على الوجه الثاني من غير تغاير بين العالم وعلّة المعلوم ، بمعنى عدم غيبوبة علّة المعلوم عن العالم ، وكون انكشاف علّة المعلوم بالكنه على وجه

ص: 129


1- انظر « الأسفار الأربعة » 6 : 182 - 187 ؛ « شرح المنظومة » 2 : 574 - 575.

الحضور المذكور علّة انكشاف المعلوم في تلك المرتبة على وجه سيكون عليه من الأحوال والكيفيّات والتشخّص والتفاصيل الخارجيّة أو الذهنيّة.

وعلم اللّه تعالى بما عداه قبل الإيجاد من هذا القبيل ، فيكون الإجمال فيه عين التفصيل. وهذا هو العلم الكماليّ التفصيليّ من وجه والإجماليّ من وجه ، وذلك لأنّ المعلومات - على كثرتها وتفصيلها - موجودة بوجود في اتّصافه بوجوده [ لا يحتاج ] إلى شيء آخر ، حتّى يلزم أن يكون معلولا.

وبالجملة ، فادّعاء المخلوق لنفسه الإحاطة العلميّة بجلائل الملك ودقائق الملكوت ، وتسميته لنفسه فيلسوفا حكيما ، وسلب العلم عن خالقه الحكيم العليم - الذي أفاض ذوات العلماء ونوّر قلوبهم بمعرفة الأشياء - من أقبح القبائح وأفحش الأغلاط.

ومنها : أنّه تعالى فاعل فعلا محكما متقنا ، وكلّ من كان كذلك ، فهو عالم.

أمّا الكبرى ، فبالضرورة ، وينبّه عليه أنّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع ألفاظا فصيحة تنبئ عن معان دقيقة وأغراض صحيحة ، علم أنّ فاعلها عالم.

وأمّا الصغرى ، فلما ثبت من أنّه تعالى خالق للأفلاك والعناصر وما فيها من الأعراض والجواهر وأنواع المعادن والنباتات وأصناف الحيوانات على إتقان وإحكام تحيّرت فيه العقول والأفهام ، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة والتشريح ونحوهما مع أنّ الإنسان لم يؤت من العلم إلاّ قليلا ، ولم يجد إلى الكثير سبيلا. والمراد اشتمال الأفعال على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملاءمة للمنافع والمطابقة للمصالح على وجه الكمال ، فلا يقدح الاشتمال على نوع من الخلل والشرور بالعرض.

ومنها : أنّ اللّه تعالى فاعل بالقصد والاختيار ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ مع العلم بالمقصد.

ومنها : أنّ البارئ تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد عاقل ؛ لأنّ التعقّل والتجرّد متلازمان ،

ص: 130

بمعنى أنّ كلّ عاقل مجرّد ، وكلّ مجرّد عاقل.

بيانه : أنّ التعقّل عبارة عن إدراك شيء لم يعرضه العوارض الجزئيّة التي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجيّ من الكمّ والكيف والأين والوضع إلى غير ذلك.

والتجرّد عبارة عن كون الشيء بحيث لا يكون مادّة ولا مقارنا لها مقارنة الصورة والأعراض.

فنقول : وجه كون كلّ عاقل مجرّدا أنّ التعقّل إنّما يكون بارتسام صورة المعقول في العاقل ، ومحلّ الصورة يجب أن يكون مجرّدا ؛ إذ لو كان مادّيّا ، لكان منقسما ، ويلزم من انقسامه انقسام الحالّ فيه ؛ إذ لم يكن الحلول من حيث لحوق طبيعة أخرى به ، كما في النقطة الحالّة في الخطّ لا من حيث ذاتها ، بل من حيث إنّها طبيعة أخرى وهي كونها نهاية الخطّ ، والصورة المعقولة ليست كذلك ، فيلزم انقسامها ، وذلك الانقسام إمّا إلى الأجزاء المتشابهة في الحقيقة ، فيلزم أن تكون الصورة المعقولة المجرّدة عن اللواحق المادّيّة من المقدار والوضع معروضة لها ، أو إلى أجزاء متخالفة ، فيلزم تركّب تلك الصورة من أجزاء غير متناهية بالفعل ، وهو محال ؛ لبرهان التطبيق.

ووجه اللزوم : أنّ المحلّ لكونه مادّيّا يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فيكون الحالّ أيضا كذلك ، والفرض أنّ الأجزاء متخالفة في الحقيقة ، فلا بدّ أن تكون حاصلة بالفعل في المركّب ، فيلزم تركّب الشيء من أجزاء غير متناهية.

وأورد عليه بأنّ كلّ تعقّل ليس بالارتسام - كما في تعقّل الواجب - إلاّ أن يخصّص بالعلم الحصوليّ ، وأنّه يمكن أن يكون ذو الصورة بريئا عن عوارض الجسم ، ولا يكون الصورة كذلك.

ووجه كون كلّ مجرّد عاقلا أنّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا لبراءته عن الشوائب المادّيّة ، فلا يحتاج إلى عمل يعمل به ليعقل ؛ فإن لم يعقل كان ذلك من جهة العاقلة ، وكلّ ما يصحّ أن يكون معقولا ، يصحّ أن يكون معقولا مع غيره ؛ لصحّة

ص: 131

الحكم عليه بالوجود ونحوه من الأمور العامّة المعقولة ، الموقوف على تصوّرهما معا ، فكلّ ما يصحّ أن يكون معقولا مع غيره ، يصحّ أن يكون مقارنا لمعقول آخر ، وكلّ ما هو كذلك ، يصحّ أن يكون عاقلا إذا كان مجرّدا قائما بذاته ؛ لجواز مقارنتهما في الخارج ؛ لأنّ صحّة المقارنة المطلقة مقدّمة عليها ، وهي مقدّمة على المقارنة في العقل ؛ فالصحّة مقدّمة عليها ، فلا تتوقّف عليها ، وإلاّ يلزم الدور ، فإذا وجد في الخارج مجرّد قائم بذاته ، يكون صحّة مقارنته المطلقة - التي لا تتوقّف على المقارنة في العقل - بأن يحصل فيه المعقول حصول الحالّ في المحلّ ، وذلك لأنّه إذا كان قائما بذاته ، امتنع أن تكون مقارنته للغير بحلوله فيه ، أو حلولهما في ثالث.

والمقارنة المطلقة تنحصر في هذه الثلاث ، فإذا امتنع اثنتان منها ، تعيّن الثالثة وهي أن تكون مقارنته للمعقول مقارنة المحلّ للحالّ ، ولا نعني بالتعقّل إلاّ مقارنة المعقول للموجود المجرّد القائم بذاته مقارنة الحالّ لمحلّه ، فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لغيره ، وكلّ ما هو كذلك ، يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ؛ لاستلزام تعقّله الغير إمكان تعقّل أنّه تعقّله ، وذلك يستلزم إمكان تعقّل ذاته ؛ لأنّ تعقّل القضيّة يستلزم تعقّل المحكوم عليه ، فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ، فيجب أن يكون عاقلا لذاته دائما ؛ لأنّ تعقّله لذاته إمّا بحصول نفسه ، أو بحصول مثاله. والثاني باطل ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين ، فتعيّن أن يكون تعقّله بحصول نفسه ، ونفسه دائما حاصلة لا تغيب أصلا ، فيكون التعقّل دائما حاصلا ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

وأورد عليه بأنّه لا يتمّ في علم الواجب تعالى إلاّ أن يقال : إنّه مخصوص بالعلم الحصوليّ ، وغيره يقاس عليه.

وبأنّ تقدّم المقارنة المطلقة على المقارنة الخاصّة إنّما يصحّ إذا كانت المقارنة المطلقة ذاتية لها وهو ممنوع.

وبأنّه يجوز أن يصحّ لذات المجرّد المقارنة المطلقة المتحقّقة في ضمن الفرد الخاصّ - أعني المقارنة العقليّة - لا لتوقّف المطلقة عليها ، بل لعدم قبول ذات

ص: 132

المجرّد إلاّ هذه المقارنة الخاصّة ، مع أنّ ما ذكر يدلّ على امتناع توقّف المقارنة المطلقة بالنسبة إلى القسم الثالث أيضا من جهة لزوم الدور فيه أيضا على الوجه المذكور.

وبأنّه يجوز أن يكون من خاصيّة بعض المجرّدات أن يعقل المعقولات ، ويمتنع عليه أن يعقل أنّه تعقّلها.

والقياس على ما يجده الإنسان من نفسه لا يفيد حكما كلّيّا يقينيّا.

وفي هذا الباب مذاهب أخر حكي كلّ عن بعض :

الأوّل (1) : القول بكون وجود صور الأشياء في الخارج - سواء كانت مجرّدات أو مادّيّات ، مركّبات أو بسائط - مناطا لعالميّته تعالى بها حتّى بذاته ؛ لكفاية التغاير الاعتباري من جهة صحّة العالميّة والمعلوميّة في تحقّق النسبة التي يقتضيها حصول العلم ، وعلمه تعالى بغيره بارتسام صوره ، بل بحضورها بأنفسها عنده كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها. وهو أقوى من الأوّل ، فلا يلزم كثرة الصور في الذات الأحديّ من كلّ وجه بحسب كثرة المعلومات.

وتغيّر المعلوم لا يستلزم تغيّر ذاته من صفة إلى أخرى ، بل التغيّر في العلم إن قلنا : إنّه إضافة [ أو ] إن قلنا : إنّه صفة حقيقيّة ذات إضافة ، وتغيّر الإضافات ممكن.

ولمّا أمكن اجتماع الوجوب بالغير والإمكان الذاتي ، لا يلزم أن لا يعلم الواجب

ص: 133


1- قال به السهرورديّ وتبعه المحقّق الطوسيّ وابن كمّونة وقطب الدين الشيرازيّ وشمس الدين محمّد الشهرزوريّ. انظر « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٥٨ _ ٣٦٥ ؛ « المطارحات » ١ : ٤٨٨ ؛ « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠ _ ١٥٣ ؛ « شرح مسألة العلم » : ٢٨ _ ٢٩ ؛ « شرح حكمة الإشراق » لقطب الدين الشيرازيّ : ٣٥٨ _ ٣٦٥ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥١٦ _ ٥١٨.

الحوادث قبل وقوعها من جهة أنّه يستلزم وجوبها ، أو انقلاب علمه جهلا إن لم تكن واجبة ، مع أنّ العلم تابع للمعلوم لا علّة له ومفيد لوجوبه ، لا بمعنى أنّ العلم الأزليّ متأخّر عنه حتّى يلزم الدور ، بل بمعنى أصالة موازنة ، أعني المعلوم ؛ لأنّ العلم حكاية عنه ومثال له كصورة الفرس المنقوشة على الجدار بالنسبة إلى ذات الفرس ، فكما يصحّ أن يقال : إنّما كانت الصورة هكذا ؛ لأنّ ذات الفرس هكذا ، ولا يصحّ أن يقال : إنّما كانت ذات الفرس هكذا ؛ لأنّ صورته هكذا ، كذلك يصحّ أن يقال : إنّي علمت زيدا فاسقا ؛ لأنّه كان في نفسه فاسقا ، ولا يصحّ أن يقال : إنّه كان في نفسه فاسقا ؛ لأنّي علمته فاسقا ، فاللّه سبحانه إنّما علمهم في الأزل كذلك ؛ لأنّهم كانوا فيما لا يزال كذلك ، لا أنّ الأمر بالعكس.

والإيراد بأنّه يلزم أن لا يكون علمه تعالى فعليّا مدفوع بأنّ العلم الفعليّ إنّما يكون تصوّرا وهذا من الأمور التصديقيّة التي لا بدّ لها من واقع يطابقه.

الثاني : أنّ علمه تعالى بارتسام صور الممكنات في ذاته تعالى وحصولها فيه حصولا ذهنيا على الوجه الكلّيّ (1).

الثالث : القول باتّحاده مع الصور المعقولة (2).

الرابع : القول بإثبات الصور المفارقة والمثل العقليّة ، وأنّها علوم إلهيّة بها يعلم اللّه الموجودات كلّها (3).

الخامس : القول بثبوت المعدومات الممكنة قبل وجودها ، فعلم البارئ تعالى

ص: 134


1- هذا هو قول المشّائين. انظر « التعليقات » للفارابيّ : 24 ؛ « فصوص الحكم » : 58 ؛ « الجمع بين رأيي الحكيمين » : 106 ؛ « التعليقات » لابن سينا :1. 32 و 81 - 82 و 116 و 119 - 120 و 149 و 153 و 156 ؛ « الشفاء » الإلهيات : 363 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 180 ؛ « شوارق الإلهام » : 516.
2- نسب هذا القول إلى فرفوريوس. انظر « الأسفار الأربعة » 6 : 186 ؛ « شوارق الإلهام » : 516 ؛ « شرح المنظومة » : 167.
3- نسب هذا القول إلى أفلاطون ، كما في « الملل والنحل » 2 : 90 - 91 ؛ « الجمع بين رأيي الحكيمين » : 105 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 181 ؛ « شوارق الإلهام » : 516 ؛ « شرح المنظومة » : 165.

بثبوت هذه الممكنات في الأزل (1).

السادس : القول بأنّ ذاته علم إجماليّ بجميع الممكنات ، فإذا علم ذاته ، علم بعلم واحد كلّ الأشياء ، فللواجب علمان بالأشياء : علم إجماليّ مقدّم عليها ، وعلم تفصيليّ مقارن لها (2).

السابع : القول بأنّ ذاته تعالى علم تفصيليّ بالمعلول الأوّل وإجماليّ بما سواه ، وذات المعلول الأوّل علم تفصيليّ بالمعلول الثاني وإجماليّ بما سواه وهكذا إلى آخر الموجودات (3).

ويعرف ما في كلّ منها بالتأمّل.

ومنها : ما أفاده بعض المحقّقين (4) - وهو بالنسبة إلى علمه تعالى بذاته - : أنّ حقيقة العلم على قسمين :

الأوّل (5) : علمه بذاته تعالى. والدليل عليه - مع بداهته على ما ذكر بعض المحقّقين - أنّ حقيقة العلم مرجعها إلى حقيقة الوجود بشرط سلب النقائص العدميّة وعدم الاحتجاب بالملابس الظلمانيّة ، وأنّ كلّ ذات مستقلّة الوجود مجرّدة عمّا يلابسها ، فهي حاصلة لذاتها ، فتكون معقولة لذاتها ، وعقلها لذاتها هو وجود ذاتها لا غير ، وهذا الحصول أو الحضور لا يستدعي تغايرا بين الحاصل والمحصول له ، والحاضر والذي حضر عنده ، لا في الخارج ولا في الذهن ، فكلّ ما هو أقوى وجودا وأشدّ تحصّلا وأرفع ذاتا من النقائص والقصورات فيكون أتمّ عقلا ومعقولا ، وأشدّ عاقليّة لذاته.

ص: 135


1- هذا قول المعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » 4 : 124 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 181 - 182 ؛ « شرح المنظومة » : 165.
2- نسب هذا القول إلى أكثر المتأخّرين ، كما عن « الأسفار الأربعة » 6 : 181 ؛ « شرح المنظومة » : 166.
3- ذكره في « الأسفار الأربعة » 6 : 181 من دون نسبته إلى قائل معيّن ، وفي « شرح المنظومة » : 168 نسبه السبزواريّ إلى بعض الحكماء ، وهو مختاره أيضا.
4- هو الصدر الشيرازيّ في « الأسفار الأربعة » 6 : 174 - 175.
5- أمّا القسم الثاني فلم يذكره المصنّف.

فواجب الوجود لمّا كان مبدأ سلسلة الوجودات المترتّبة في أعلى مراتب شدّة الوجود وتجرّده ، ويكون غير متناه في كمال شدّته ، وغيره من الموجودات وإن فرض كونها غير متناهية في القوّة بحسب العدّة والمدّة لكنّها ليست بحيث لا يمكن تحقّق مرتبة أخرى في الشدّة هي فوقها ، فواجب الوجود لكونه فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى كان وزان عاقليّته لذاته على هذا الوزان ، فنسبة عاقليّته في التأكّد إلى عاقليّة الذوات المجرّدة لذواتها كنسبة وجوده في التأكّد إلى وجودها ، فعلم الموجود الحقّ بذاته أتمّ العلوم وأشدّها نورية وجلاء وظهورا ، بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم ما سواه بذواتها كما لا نسبة بين وجوده ووجودها ، وكما أنّ وجودات الممكنات منطوية مستهلكة في وجوده ، فكذلك علوم الممكنات منطوية في علمه بذاته.

ومنها : كلّ ما حكم به العقل بأنّه كمال لموجود ما من حيث هو موجود ولا يوجب تخصّصا بشيء أدنى ولا تغيّرا ولا تجسّما أو تركّبا ، وتحقّق في موجود من الموجودات ، كان ممكن التحقّق في الموجود الحقّ بالإمكان العامّ ، فيجب وجوده له تعالى لا محالة ، وإلاّ لكان فيه تعالى جهة إمكانيّة مقابلة للوجوب الذاتيّ ، وواجب الوجود لذاته واجب الوجود من جميع الحيثيّات ، ولا شكّ أنّ العلم صفة كماليّة للموجود بما هو موجود ولا يقتضي تجسّما ولا تغيّرا ولا مكانا خاصّا وقد تحقّق في كثير من الموجودات كالذوات العاقلة ، فيجب حصوله لذاته تعالى على سبيل الوجوب بالذات.

ومنها : أنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة عقليّة أن يكون واهب كمال ما ومفيضه قاصرا عن ذلك الكمال ، فيكون المستوهب أشرف من الواهب ، والمستفيد أعلى من المفيد؟! وحيث تكون جميع الممكنات مستندة إلى ذاته تعالى التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ، ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ، والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال لئلاّ يقصر معطي الكمال عنه ، فكان الواجب عالما بذاته ،

ص: 136

وعلمه غير زائد على ذاته ؛ لأنّ ذاته منشأ انكشاف الأشياء ، والعلم عبارة عن هذا.

وبالنسبة إلى علمه تعالى بما سواه - من الكلّيّات والجزئيّات ممّا كان وما يكون وما هو كائن على وجه هي عليه في نفس الأمر - أنّه تعالى علّة تامّة لما سواه على ترتيب ونظام ، وقد ثبت أنّه تعالى عالم بالعلم التامّ بذاته ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم بمعلولها ؛ إذ لا بدّ في كلّ علّة مستقلّة لمعلول أن يكون المعلول من لوازمها ، فكلّ معلول من لوازم ذات علّته المقتضية إيّاه ، فكلّما حصلت تلك العلّة بخصوصها - سواء كان حصولها في ذهن أو خارج - حصل ذلك المعلول بخصوصه ؛ لأنّه من لوازم ذاتها ، ولا عكس ؛ فإنّ المعلول لا يقتضي إلاّ علّة ما من جهة إمكانه وافتقاره لا علّته بخصوصها ، وإلاّ لكانت العلّة معلولة لمعلولها.

فحصول العلّة برهان قاطع على وجود المعلول بخصوصه ، وحصول المعلول برهان قاطع على علّة ما ودليل ظنّيّ على ذات العلّة بخصوصها ، وإنّما سمّي الاستدلال من المعلول على العلّة قسما من البرهان ، وهو المسمّى بالبرهان الإنّيّ بالاعتبار الأوّل ، لا بالاعتبار الثاني.

وبالجملة ، فالعلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول ، بل العلم بذي السبب علما نظريّا متعلّقا بذاته المتعيّنة لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببه ؛ لأنّه إذا نظر إليه من حيث هو مع قطع النظر عن سببه ، امتنع الجزم برجحان أحد طرفيه على الآخر ؛ لتساويهما نظرا إلى ذات الممكن ، وإذا التفت إلى وجود سببه ، حكم بوجوده حكما قطعيّا ، فكان علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته ، كما أنّ وجود ما عداه تابع لوجود ذاته.

وأمّا كيفيّة هذا العلم على وجه لا يلزم منه تكثّر في ذاته ولا في صفاته الحقيقيّة ، ولا كونه فاعلا وقابلا ، ولا يبقى اشتباه بأنّ هذا العلم هل هو قبل الأشياء أو بعدها أو معها بأن لا يعلمها إلاّ حين وجودها ، فيكون لها فيه تأثير ، ويكون بسببها بحال لم يكن قبل ذلك الحال ، فلا يكون واجب الوجود بالذات واجب الوجود من

ص: 137

جميع الجهات؟

فبيانها أنّ الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيّات ، فيجب أن يكون ذاته مع بساطته وأحديّته كلّ الأشياء ، ويكون لكلّ واحد منها وجود إجماليّ في مرتبة ذات العلّة ، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه ، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه ، فيكون علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلا في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه.

وهذا هو العلم الكماليّ التفصيليّ من وجه والإجماليّ من وجه ؛ وذلك لأنّ المعلولات على كثرتها وتفصيلها موجودة بوجود واحد بسيط ، ففي هذا المشهد الإلهيّ والمجلى الأزليّ ينكشف ويتجلّى الكلّيّ من حيث لا كثرة فيها ، ولا يلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهيّة حتّى يلزم أن يكون معلولا ؛ لأنّ كون الشيء ذا ماهيّة عبارة عن كونه بحيث يفتقر في اتّصافه بوجوده إلى شيء آخر ، ولا يكون أيضا متحقّق الوجود في جميع المراتب الوجوديّة ، فيتحقّق قبل وجوده الخاصّ مرتبة لم يكن هو موجودا في تلك المرتبة مع تحقّق إمكان الوجود لماهيّته في تلك المرتبة ، ففي تلك المرتبة انفكّت الماهيّة عن وجودها الخاصّ بها ، وواجب الوجود ليس على هذا الوجه ؛ إذ لا حدّ له ولا نهاية لوجوده ؛ لكونه غير متناه في مراتب الشدّة والكمال ، كلّ مرتبة منها غير متناهية في عدّة الآثار والأفعال وهو واحد حقيقي غير ذي ماهيّة ، ولا تخلو عنه أرض ولا سماء ، ولا برّ ولا بحر ، ولا عرش ولا فرش ألا إلى اللّه تصير الأمور.

فعلمه تعالى بالأشياء في مرتبة ذاته ليس بصور زائدة مغايرة لذاته ، بل هي معان كثيرة غير محدودة انسحب عليها حكم الوجود الواجبي من غير أن يصير وجودا لكلّ منها أو لشيء منها ، بل كان مظهرا لكلّ منها.

فالقائل بأنّه تعالى ليس عالما بشيء من الموجودات غير ذاته وصفاته التي هي عين ذاته كالقائل بأنّه تعالى ليس عالما بشيء أصلا بناء على أنّ العلم عندهم عبارة

ص: 138

عن إضافة بين العالم والمعلوم ، والإضافة بين الشيء ونفسه أو صورة زائدة على ذات المعلوم مساوية له ، فيلزم تعدّد الواجب ، وإذا لم يعلم ذاته لم يعلم غيره ؛ إذ علم الشيء بغيره بعد علمه بذاته ، فقد ضلّ ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا ، فما أشنع وأقبح من أن يدّعي (1) مخلوق لنفسه الإحاطة العلميّة بجلائل الملك ودقائق الملكوت ، ويسمّي نفسه فيلسوفا حكيما ، ثمّ يرجع ويسلب العلم - بأيّ شيء كان من الأشياء - عن خالقه الحكيم العليم الذي أفاض ذوات العلماء ، ونوّر قلوبهم بمعرفة الأشياء.

والدليل النقليّ على هذا المطلب أيضا كثير ، كقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2) وقوله تعالى : ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (3) وقوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (4) وقوله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ ) (5) وقوله تعالى : ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) (6) ونحو ذلك.

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه عزّ وجلّ؟ قال : « لا ، بل كان في علمه قبل أن ينشئ السماوات والأرض ». (7)

وعن الرضا علیه السلام أنّه قال : « ... فلم يزل اللّه - عزّ وجلّ - علمه سابقا للأشياء قديما قبل أن يخلقها ... خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء » (8).

وعن جعفر بن محمّد ، عن أبيه علیهماالسلام أنّه قال : « إنّ لله علما خاصّا وعلما عامّا ،

ص: 139


1- تقدّمت المناقشة في ص 125.
2- الأنفال (8) : 75 ؛ التوبة (9) : 115 ؛ العنكبوت (29) : 62.
3- سبأ (34) : 3.
4- البقرة (2) : 255.
5- الأنعام (6) : 59.
6- الأعلى (87) : 7.
7- « التوحيد » : 135 باب العلم ، ح 6.
8- نفس المصدر : 137 ، ح 8.

فأمّا العلم الخاصّ فالعلم الذي لم يطلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين. وأمّا علمه العامّ فإنّه علمه الذي أطلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين. وقد وقع إلينا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1).

وعن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال : « إنّ لله لعلما لا يعلمه غيره ، وعلما يعلمه ملائكته المقرّبون وأنبياؤه المرسلون ، ونحن نعلمه ». (2)

وعنه علیه السلام أنّه قال في العلم : « هو كيدك (3) منه » (4).

وعن الرضا علیه السلام أنّه قال بعد السؤال عن علمه تعالى قبل الأشياء : « إنّ اللّه هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء » (5).

وعن الصادق علیه السلام أنّه قال بعد سؤال الزنديق : « هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه ، وليس قولي : إنّه سميع بنفسه أنّه شيء والنفس شيء آخر ، ولكنّي أردت عبارة عن نفسي ؛ إذ كنت مسئولا ، وإفهامك ؛ إذ كنت سائلا ، فأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ له بعضا لأنّ الكلّ لنا بعض ، ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك كلّه إلاّ أنّه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى » (6) إلى غير ذلك من الأخبار ، كما سيأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى.

وبالجملة ، فإلى بعض ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه اللّه بقوله : ( والإحكام ، والتجرّد ، واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم ، والأخير عامّ ) فقد نظمت ذلك بقولي :

ص: 140


1- نفس المصدر : 138 ، ح 14.
2- نفس المصدر ، ح 15.
3- بمعنى أنّ العلم كمال له تعالى كما أنّ يدك كمال لك. ( منه رحمه اللّه ).
4- في المصدر : « وهو كيدك منك ».
5- « التوحيد » : 136 باب العلم.
6- « الكافي » 1 : 83 باب إطلاق القول بأنّه شيء ، ح 6 و: 109 باب آخر وهو من الباب الأوّل ، ح 2 ؛ « التوحيد » : 142 - 145 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 10.

كلّ من الإحكام والتجرّد *** ثمّ استناد الكلّ بالتعدّد

دليل علم أكمل العلوم *** وذلك الأخير ذو العموم

بمعنى أنّ اللّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة في العالم ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم.

أمّا الصغرى ، فبالحسّ والعيان ؛ لظهور آثار الحكمة والإتقان في العالم العلويّ والسفليّ من البسيط والمركّب الجماديّ والنباتيّ والحيوانيّ والأنفس والآفاق المشتملة على لطائف الصنع وبدائع الترتيب والمصالح والمنافع كما يطّلع عليه أهل علم الهيئة والتشريح ، بل يحكى عن أهل علم التشريح أنّهم وجدوا اثني عشر ألفا من الخواصّ في بدن الإنسان. إلى غير ذلك من الحكم كما يشير إليه ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال :

وتزعم أنّك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر(1)

وأمّا الكبرى فبالضرورة العقليّة ؛ لاستحالة وقوع المحكم المتقن من غير العالم.

وأنّ اللّه تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد عالم بذاته وبغيره.

أمّا الصغرى فلوجوب الوجوب المنافي للاحتياج الذي هو من لوازم عدم التجرّد.

وأمّا الكبرى فلأنّ التجرّد مستلزم لصحّة المعقوليّة والعاقليّة ؛ لإمكان المقارنة بحصوله معقولا أو عاقلا للآخر كما تقدّم.

وأنّ اللّه تعالى واجب وما سواه ممكن ، وكلّ ممكن مستند إلى الواجب تعالى بلا واسطة أو بواسطة.

واللّه تعالى عالم بذاته بالعلم التّام - بمعنى حضور ذاته عنده وعدم غيبوبة ذاته عن ذاته - وذاته علّة تامّة لجميع ما سواه ، والعلم التامّ بالسبب التامّ سبب تامّ للعلم

ص: 141


1- الديوان المنسوب للإمام عليّ علیه السلام : 178.

التامّ بالمعلول العامّ من الكلّيّ والجزئيّ وأحوالهما وكيفيّاتهما وكمّيّاتهما ونحو ذلك من الموجودات الخارجيّة والذهنيّة ، فلا يعزب عنه شيء من الممكنات ، بل الممتنعات.

وهذا معنى قوله : « والأخير عامّ » بمعنى أنّه يقتضي العلم بالكلّيّات والجزئيّات المجرّدة والمادّيّات.

وقال الفاضل اللاهيجيّ رحمه اللّه (1) : « أشار بقوله : والإحكام ، والتجرّد ، واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم. إلى دليلين مشهورين :

أوّلهما : في المشهور للمتكلّمين وهو يدلّ على ثبوت علمه تعالى بأفعاله أوّلا ، وبواسطته على ثبوت علمه بذاته. وإنّما قلنا : في المشهور ؛ لأنّ الحكماء أيضا يستدلّون به كما ستعلم.

وثانيهما : للحكماء وهو بالعكس من الأوّل ، أعني أنّه يدلّ على ثبوت علمه بذاته أوّلا ، وبواسطته على ثبوت علمه بمعلولاته.

أمّا الأوّل : فتقريره أنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، وكلّ من كان فعله محكما متقنا ، فهو عالم.

أمّا الكبرى فبديهيّة بعد الاستقراء والاختبار ؛ فإنّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع ألفاظا فصيحة تنبئ عن معان دقيقة وأغراض صحيحة ، لم يشكّ في أنّها صادرة عن علم ورويّة لا محالة.

فإن قيل : كيف يمكن ادّعاء الضرورة في الكبرى وقد أسند جمع من العقلاء الحكماء عجائب خلقة الحيوان وتكوّن تفاصيل الأعضاء إلى قوّة عديمة الشعور سمّوها المصوّرة؟!

قلنا : خفاء الضروري على بعض العقلاء جائز ، على أنّهم لم يجعلوا المصوّرة

ص: 142


1- « شوارق الإلهام » 509.

مستقلّة في ذلك ، بل هم معترفون بكونها مسخّرة تحت إرادة صانع خبير - جلّت صنعته - كما صرّح به الشيخ في مواضع من الشفاء (1) وسائر كتبه (2) ، وقد مرّ في مبحث القوى وفي مبحث إثبات الغايات للطبيعيّات من هذا الكتاب (3) ، هذا.

وأمّا الصغرى فلما في خلق الأفلاك والعناصر وأنواع الحيوان والنبات والمعادن على انتظام واتّساق ومن عجائب الصنع وغرائب التدبير وآثار الإتقان والإحكام بحيث تحار فيها العقول والأفهام ، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام ، على ما شهد بذلك علم الهيئة والتشريح ، وعلم الآثار العلوية والسفلية ، وعلم الحيوان والنبات.

وإلى جميع ذلك أشير في قوله تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (4) فكيف إذا رقي إلى عالم الروحانيّات والمجرّدات النفسيّة والعقليّة مع أنّ الإنسان لم يؤت من العلم إلاّ قليلا ، ولم يجد إلى كثير منه سبيلا.

ناهيك في ذلك قول أفضل البشر بعد سيّدهم في خطبة من خطب نهج البلاغة : « وما الذي نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيّب عنّا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه أعظم ، فمن فرّغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، وكيف ذرأت خلقك ، وكيف علّقت في الهواء سماواتك ، وكيف مددت على مور الماء أرضك ، رجع طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا » (5) هذا.

ص: 143


1- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 48 وما بعدها ، والإلهيّات : 283 ، الفصل الخامس من المقالة السادسة.
2- « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 227 - 229 و 3 : 15 و 361.
3- أي « شوارق الإلهام » : 240 - 251.
4- البقرة (2) : 164.
5- « نهج البلاغة » 295 ، الخطبة (160).

فإن قيل : إن أريد بالإحكام حسن الصنيعة ، أو مطابقة المنفعة من جميع الوجوه ، فلا نسلّم أنّ المخلوقات كذلك.

أمّا مطابقة المنفعة فلكثرة ما نشاهده في العالم من الآفات.

وأمّا حسن الصنيعة فلأنّا لا ندري أنّ تركيب السماوات والكواكب وأبدان الحيوانات على وجه أحسن ممّا هي عليه الآن ممكن ، أم لا؟ وإن أريد من بعض الوجوه ، فلا نسلّم دلالته على العلم ؛ فإنّ فعل النائم والساهي ، بل الجماد قد يستحسن وينفع من بعض الوجوه. وإن أريد شيء آخر ، فلا بدّ من بيانه.

قلت : المراد به حسن الصنيعة ومطابقة المنفعة غالبا وعلى سبيل الكثرة دون الندرة ، وما نحن بصدده كذلك ؛ إذ لا ريب في أنّ ترتيب السماوات والعناصر والكواكب سيّما الشمس والقمر ، وسيرهما في فلكيهما على وجه يقربان تارة ويبعدان أخرى ، فيتعلّق بذلك الحرّ والبرد ورطوبة الهواء ويبوسته وكثرة الأنداء والأمطار وشدّة الحرّ وإنضاج الثمار وتربية النبات وصلاح الأمزجة ترتيب مطابق للمنفعة ، مستحسن الصنعة غالبا.

وكذلك القول في أعضاء الحيوان وما ذكره الأطبّاء فيها وفي مواضعها من الحكم اللطيفة ، فإذا عنى بالإحكام مجموع الأمور الثلاثة ، فلا يرد فعل الساهي والنائم ؛ لكونه نادرا جدّا.

وكذلك الحركات الصادرة عن الجمادات إمّا أن لا تكون كثيرة ، أو لا تكون مستحسنة ، وإن كانت مستحسنة لم تكن مطابقة للمنفعة. كذا في « نقد المحصّل ». (1)

ولا بدّ أن نذكر هاهنا شيئا ممّا ذكره الحكماء في بيان حكمته تعالى في ترتيب هذا النظام المشاهد ، وأنّه في غاية الإتقان ونهاية الإحكام.

قال الشيخ في كتاب المبدأ والمعاد : « لمّا كان علم الأوّل بنظام الخير في الوجود

ص: 144


1- « نقد المحصّل » : 279 - 280.

علما لا نقص فيه ، وكان ذلك العلم سببا لوجود ما هو علم به ، حصل الكلّ في غاية الإتقان ، لا يمكن أن يكون الخير فيه إلاّ ما هو عليه ، ولا شيء ممّا يمكن أن يكون له إلاّ وقد كان له ، فكلّ شيء من الكلّ على جوهره الذي ينبغي له ، فإن كان فاعلا فعلى فعله الذي ينبغي ، وإن كان مكانيّا فعلى مكانه الذي ينبغي ، وإذا كان الخير فيه هو أن يكون منفعلا قابلا للأضداد ، فقوّته مقسومة بين الضدّين على البدل ، وإذا كان أحدهما بالفعل فهو الآخر بالقوّة ، والذي بالقوّة حقّ أن يصير بالفعل مرّة ، ولكلّ ذلك أسباب معدّة. وما عرض له من ذلك أن يزول عن كماله بالقسر فإنّ فيه قوّة تردّه إلى الكمال ، وجعلت الأسطقسّات قابلة للقسر حتّى يمكن فيها المزاج ، ويمكن بقاء الكائنات منها بالنوع ؛ فإنّ ما أمكن بقاؤه بالعدد أعطي السبب المستبقي له على ذلك ، وكانت القسمة العقليّة توجب باقيات بالعدد وباقيات بالنوع ، فوفّى الكلّ وجوده ، ورتّبت الأسطقسّات مراتبها ، فأسكن النار منها أعلى المواضع وفي مجاورة الفلك ، ولو لا ذلك لكان مكانها في موضع آخر ، وعند الفلك مكان جرم آخر يلزمه السخونة ؛ لشدّة الحركة ، فيتضاعف الحارّ بالفعل وبغليان سائر الأسطقسّات ، فيزول العدل.

ولمّا كان يجب أن يغلب في الكائنات - التي تبقى بالنوع - الجوهر اليابس والصلب ، ومكان كلّ كائن حيث يكون الغالب عليه ، وجب أن يكون الأرض أكثر بالكمّ في الحيوان والنبات ، ومع ذلك فقد كان يجب أن يكون مكانها أبعد من الحركات السماويّة ؛ فإنّ تلك الحركة إذا بلغت بتأثير الأجساد غيّرتها وأفسدتها ، فوضعت الأرض في أبعد المواضع عن الفلك ، وذلك هو الوسط ، وإذا كان الماء يتلو الأرض في هذا المعنى وكان مكانا أيضا لكثير من الكائنات وكان مشارك الأرض في الصورة الباردة ، جعل الماء يتلو الأرض ، ثمّ الهواء بهذا السبب ، ولأنّه يشارك النار في الطبيعة.

ولمّا كانت الكواكب أكثر تأثيرها بوساطة الشعاع النافذ عنها وخصوصا الشمس

ص: 145

والقمر وكانت هي المدبّرة لما في هذا العالم ، جعل ما فوق الأرض من الأسطقسّات مشفّا لينفذ فيها الشعاع ، وجعلت الأرض ملوّنة بالغبرة ليثبت عليها الشعاع ولم يحط بها الماء فيستقرّ عليها الكائنات.

والسبب الطبيعيّ في ذلك يبس الأرض وحفظها للشكل الغريب إذا استحال منه أو إليه ، فلا يبقى مستديرا بل مضرّسا ، ويميل الماء إلى الغور من أجزائه ، والأجرام السماويّة لم تخلق بجميع أجزائها مضيئة ، وإلاّ لتشابه فعلها في الأمكنة والأزمنة ، ولا بجميع أجزائها كثيفة ، وإلاّ لما نفذ عنها الشعاع ، بل خلق فيها كواكب ، ثمّ لم يجعل الكواكب ساكنة ، وإلاّ أفرط فعلها في موضع بعينه ، ففسد ذلك الموضع ولم يؤثّر في موضع آخر ، ففسد ذلك أيضا ، بل جعلت متحركة لينتقل التأثير من موضع إلى آخر ، ولا يبقى في موضع واحد فيفسد.

ولو كانت الحركة التي ترى لها غير سريعة ، لفعلت من الإفراط والتفريط ما يفعل السكون ، ولو كانت حركتها الحقيقيّة تلك السريعة بعينها ، للزمت دائرة واحدة وأفرط فعلها هناك ولم يبلغ سائر النواحي ، بل جعلت هذه الحركة فيها تابعة لحركة مشتملة على الكلّ ، ولها في نفسها حركة بطيئة تميل بها إلى نواحي العالم جنوبا وشمالا ، ولو لا أنّ للشمس مثل هذه الحركة لم يكن شتاء ولا صيف ولا فصول ، فخولف بين منطقتي الحركتين ، وجعلت الأولى سريعة وهذه بطيئة ، فالشمس تميل إلى الجنوب شتاء ليستولي على الأرض الشماليّة البرد ، وتتحقّق الرطوبات في باطن الأرض وتميل إلى الشمال بعد ذلك صيفا لتستولي الحرارة على ظاهر الأرض ، وتستعمل الرطوبات في تغذية النبات والحيوان ، وإذا جفّ باطن الأرض يكون البرد جاء ، والشمس مالت فتارة تحيل الأرض غذاء ، وتارة تعدّ.

ولمّا كان القمر يفعل شبيه ما يفعل الشمس من التسخين والتحليل إذا كان متبدّرا قويّ النور ، جعل مجراه في تبدّره مخالفا لمجرى الشمس ، فالشمس تكون في الشتاء جنوبيّة والبدر شماليّا لئلاّ يعدم السببان المسخّنان معا.

ص: 146

ولمّا كانت الشمس صيفا على سمت رءوس أهل المعمورة ، جعل أوجها هناك لئلاّ يجتمع قرب الميل وقرب المسافة معا ، ويشتدّ التأثير.

ولمّا كانت شتاء بعيدة عن سمت الرءوس ، جعل سمت حضيضها هناك لئلاّ يجتمع بعد الميل وبعد المسافة فينقطع التأثير.

ولو كانت الشمس دون هذا القرب ، أو فوق هذا البعد ، لما استوى تأثيرها الذي يكون عنها الآن.

وكذلك يجب أن يعتقد في كلّ كوكب وفي كلّ شيء ، ويعلم أنّه بحيث ينبغي أن يكون عليه » (1). انتهى كلام الشيخ.

وقوله : وكذلك يجب أن يعتقد ... معناه أنّه لمّا دلّ التدبير - التامّ المعلوم لنا في البعض - على علم الفاعل تعالى ، وأنّ هذا التدبير مسبّب عن علم كامل ، دلّ ذلك على التدبير في سائر أفعاله وإن لم نعلمه ، فليتدبّر.

فظهر أنّ الاستدلال بهذا الوجه غير مختصّ بالمتكلّمين ، بل هو أحرى بالحكماء ؛ لأنّ وجوه الإتقان والإحكام من التدابير الكلّيّة والمنافع الجزئيّة إنّما ظهرت بحسن سعيهم وشدّة اعتنائهم كما لا يخفى على المتدرّب في فهم العلوم الطبيعيّة والرّياضيّة ، فثبت علمه تعالى بأفعاله ، وأنّها صادرة عنه عالما بمصالحها ومنافعها.

فإن قيل : دليلكم منقوض بما قد يصدر عن بعض الحيوانات العجم من الأفعال المحكمة المتقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها كما لكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور ، وفيما بين الناس مشهور.

وكفى في ذلك ما يفعله النحل من البيوت المسدّسات المتساوية بلا مسطرة ولا فرجار ، واختيارها للمسدّس الذي هو أوسع من المثلّث والمربّع والمخمّس ،

ص: 147


1- « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 88 - 90.

ولا يقع بين المسدّسات فرج كما يقع بين المدوّرات وما سواها من المضلّعات ، وهذا لا يعرفه إلاّ الحذّاق من أهل الهندسة.

وكذلك العنكبوت ينسج تلك البيوت ، وتجعل لها سدى ولحمة على تناسب هندسي بلا آلة مع أنّها ليست من أولي العلم.

قلنا : لا نسلّم أنّها ليست من أولي العلم مطلقا ؛ لجواز أن يكون فيها قدر ما يهتدي إلى ذلك بأن يخلقها اللّه تعالى عالمة بذلك ، أو يلهمها هذا العلم حين ذلك الفعل.

قال الشيخ في طبيعيّات الشفاء : « من الواجب أن يبحث الباحث ، ويتأمّل أنّ الوهم - الذي لم يصحبه العقل حال توهّمه - كيف ينال المعاني التي في المحسوسات عند ما ينال الحسّ صورتها من غير أن يكون شيء من تلك المعاني يحسّ؟

فنقول : إنّ ذلك للوهم من وجوه : من ذلك الإلهامات الفائضة على الكلّ من الرحمة الإلهيّة مثل حال الطفل ساعة يولد في تعلّقه بالثدي ، ومثل حال الطفل إذا أفل وأقيم ، فكاد يسقط من مبادرته إلى أن يتعلّق ويعتصم بشيء لغريزة جعلها فيه الإلهام الإلهيّ ، وإذا تعرّض لحدقته بالقذى ، بادر ، فأطبق جفنه قبل فهم ما يعرض له ، وما ينبغي أن يفعل بحسبه كأنّه غريزة لنفسه لا اختيار معه ، وكذلك للحيوانات إلهامات غريزيّة.

والسبب في ذلك مناسبات موجودة بين هذه الأنفس ومبادئها هي دائمة لا تنقطع غير المناسبات التي يتّفق أن تكون مرّة ، وأن لا تكون كاستعمال العقل وكخاطر الصواب ؛ فإنّ الأمور كلّها من هناك.

وهذه الإلهامات يقف بها الوهم على المعاني المخالطة للمحسوسات فيما يضرّ وينفع ، فيكون الذئب يحذره كلّ شاة وإن لم تره قطّ ولا أصابتها منه نكبة ، وتحذر الأسد حيوانات كثيرة ، وجوارح الطير يحذرها سائر الطير ويشنع عليها الطير

ص: 148

الضعاف من غير تجربة ، فهذا قسم (1). » ثمّ ذكر الأقسام الأخر. وفيما ذكرناه كفاية.

وعند الإشراقيّين أنّ لكلّ نوع من الجسمانيّات : البسائط والمركّبات عقلا مجرّدا مدبّرا له ذا عناية به ، معتنيا بشأنه ، حافظا إيّاه ، ويسمّون تلك العقول أرباب الطلسمات ، والطلسم عندهم عبارة عن النوع الجسمانيّ ، فكلّ من تلك العقول ربّ لطلسم أي مربّ إيّاه يربّي كلّ فرد منه ويوصله إلى كماله ، ويلهمه ويهديه إلى مصالحه (2).

وشيخ الإشراق يؤوّل ما ذهب إليه أفلاطن ومن سبقه من الفلاسفة كهرمس وفيثاغورس وأبناذقلس من القول بالمثل إلى ذلك (3).

وبالجملة ، فهذا السؤال ممّا يؤكّد إحكام أفعاله تعالى وإتقانها ، وتحقّق وجه الاستدلال بها على كمال علمه وتدبيره وعنايته تعالى بالمخلوقات ، كما لا يخفى.

وأمّا إيراد هذا السؤال على سبيل المنع على الكبرى ، فخارج عن القانون ؛ لادّعاء الضرورة فيها كما مرّ. وإذا ثبت علمه تعالى بأفعاله ، دلّ على علمه بذاته أيضا ؛ لأنّ كلّ من علم شيئا فله أن يعلم أنّه يعلمه ، وهذا ضروري ، وكلّ ما هو ممكن في حقّه تعالى فهو واجب له ؛ لبراءته عن القوّة والإمكان الخاصّ ، فهو يعلم ذاته بالفعل دائما وهو المطلوب.

قال الشيخ في الإشارات : إنّك تعلم أنّ كلّ شيء يعقل شيئا فإنّه يعقل بالقوّة القريبة من الفعل أنّه يعقله ، وذلك عقل منه لذاته ، فكلّ ما يعقل شيئا فله أن يعقل ذاته (4).

واعترض عليه الإمام بأنّ العقول المفارقة ليس منها شيء بالقوّة ، فهي إنّما تعقل

ص: 149


1- « الشفاء » الطبيعيات 2 : 162 - 163 ، الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الظنّ السادس.
2- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 143.
3- نفس المصدر : 154 - 164.
4- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 2 : 382 - 383.

بالفعل ، فكان الواجب أن يقول : فإنّه يمكن أن يعقله بالإمكان العامّ (1).

وأجاب عنه المصنّف بأنّ الإمكان العامّ يقع على الإمكانات البعيدة حتّى على دائم العدم من غير ضرورة ، ولذلك لم يعبّر به الشيخ عن المقصود في هذا الموضع ، وعبّر بالقوّة القريبة التي هي العقل بالفعل ، وهو الذي يقتضي أن يكون للعاقل أن يلاحظ معقوله متى شاء.

فالمراد أنّ كلّ شيء يعقل شيئا فله أن يعقل بالفعل متى شاء أنّ ذاته عاقلة لذلك الشيء ؛ وذلك لأنّ تعقّله لذلك الشيء هو حصول ذلك الشيء ، وتعقّله لكون ذاته عاقلة لذلك هو حصول ذلك الحصول له ، ولا شكّ أنّ حصول الشيء لشيء لا ينفكّ عن حصول ذلك الحصول له إذا اعتبر معتبر ، فتعقّل الشيء مشتمل على تعقّل صدور التعقّل من المتعقّل بالقوّة القريبة ، فالمشتمل على القوّة القريبة هو التعقّل لا المتعقّل. وكون المتعقّل بحيث يجب أن يكون له بالفعل ما يكون لغيره بالقوّة بسبب يرجع إلى ذاته لا ينافي ذلك (2).

هذا ، وللمتكلّمين طريق آخر في إثبات علمه تعالى ، وهو أنّه تعالى فاعل بالقصد والاختيار - كما مرّ - ولا يتصوّر ذلك إلاّ مع العلم بالمقصود.

ويرد عليه منع استدعاء صدور الفعل الاختياريّ العلم بالمقصود ، مستندا بصدوره عن الحيوانات العجم مع خلّوها عن العلم.

وادّعاء الضرورة فيه لا يخلو عن إشكال ؛ لمكان فعل النائم والساهي ، ولا فرق بين القليل والكثير في ذلك ؛ إذ لو امتنع صدور الكثير بلا علم ، امتنع صدور الواحد ؛ لامتناع تحقّق المشروط بدون تحقّق الشرط.

فدعوى المواقف (3) ضرورة الفرق غير مسموعة ، والمفروض أنّه لا دخل للإتقان

ص: 150


1- نفس المصدر السابق.
2- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 2 : 383.
3- « شرح المواقف » 8 : 67.

في هذا الدليل ، فقول شارح المواقف (1) في توجيه كلام المصنّف - من أنّها يجوز صدور قليل من المتقن من قادر غير عالم ، ولا يجوز صدور كثير عنه - مبنيّ على الخلط ، كما لا يخفى.

وقال شارح المقاصد : إنّ المحقّقين من المتكلّمين على أنّ طريق القدرة والاختيار أوكد وأوثق من طريقة الإحكام والإتقان ؛ لأنّ عليها سؤالا صعبا ، وهو أنّه لم لا يجوز أن يوجب البارئ تعالى موجودا تسند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة ، ويكون له العلم والقدرة؟

ودفعه بأنّ إيجاد مثل ذلك الموجود ، وإيجاد العلم والقدرة فيه يكون أيضا فعلا محكما ، بل أحكم ، فيكون فاعله عالما لا يتمّ إلاّ ببيان أنّه قادر مختار ؛ إذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدلّ على العلم ، فيرجع طريق الإتقان إلى طريق القدرة ، مع أنّه كاف في إثبات المطلوب (2).

وفيه نظر.

ومنهم من يتمسّك في إثبات علمه تعالى بالأدلّة السمعيّة من الكتاب والسنّة والإجماع وليس بذلك ؛ إذ تصديق الرسل والكتب يتوقّف على التصديق بالعلم والقدرة.

وما قيل من أنّه إذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات ، حصل العلم بكلّ ما أخبروا به وإن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما ، ففيه أنّ دلالة المعجزة على صدق الرسل تتوقّف لا محالة على أن يكون المرسل عالما قادرا ؛ فإنّ طلب المعجزة ليس إلاّ طلب تصديق الرسول من المرسل ، فلا بدّ من كونه عالما بالطلب وقادرا على التصديق.

ص: 151


1- نفس المصدر السابق.
2- « شرح المقاصد » 4 : 112.

نعم ، يصحّ ذلك في صفة الكلام من غير لزوم دور ؛ فإنّ صدق الرسول لا يتوقّف على كون المرسل متكلّما ؛ لصحّة الإرسال من غير تكلّم بأن ينصب ما يدلّ على المراد.

وقد يقال : لعلّ تمسّكهم بالأدلّة السمعيّة إنّما هو في عموم العلم وشموله لجميع الموجودات كلّيّة كانت أو جزئيّة ، فلا يلزم الدور ، فتأمّل.

وأمّا الثاني من الطريقين على إثبات علمه تعالى بذاته وبما سواه - وهو المختصّ بالحكماء - فتقريره أنّه تعالى مجرّد عن المادّة وغواشيها ؛ لأنّ ملابسة الغواشي المادّيّة نقص وحاجة ، فهي ممتنعة عليه تعالى ، وكلّ مجرّد عاقل لذاته ؛ لما مرّ في مبحث التعقّل من مسألة العلم من مباحث الأعراض مستقصى.

ونقول هاهنا : إنّ حقيقة التعقّل إنّما هو حصول المجرّد لمجرّد سواء كان بقيامه به - كما في تعقّل النفس الناطقة لمعقولاتها - أو بنحو آخر كما في إدراكها لذاتها ، وكلّ مجرّد قائم بذاته ؛ فإنّ ذاته حاصلة لذاته ، غير فاقدة إيّاها بالضرورة ، فذاته - من حيث إنّها يصدق عليها أنّها مجرّدة حاصلة لمجرّد - هي معقولة ، ومن حيث إنّها مجرّدة قد حصل لها مجرّد هي عاقلة ، فكلّ مجرّد عاقل لذاته ، ومعقول لذاته.

قال الشيخ في التعليقات : إذا قلت : إنّي أعقل الشيء ، فالمعنى أنّ أثرا منه موجود في ذاته ، فيكون لذلك الأثر وجود ، ولذاتي وجود ، فلو كان وجود ذلك الأثر لا في غيره ، بل فيه ، لكان أيضا يدرك ذاته ، كما أنّه لو كان وجوده لغيره أدركه الغير (1) انتهى.

وإذا ثبت هذا ثبت أنّه تعالى عاقل لذاته وعالم بها ، ثمّ إنّه تعالى علّة لجميع ما سواه ؛ لكون جميع ما سوى اللّه ممكنات ؛ لبرهان التوحيد - على ما سيأتي - ولوجوب انتهاء الحاجة في الممكنات إلى واجب الوجود كما مرّ.

والعلم بالعلم يستلزم العلم بالمعلول. والمراد بها أنّ العلم التامّ بالعلّة - أي العلم

ص: 152


1- « شرح المقاصد » 4 : 112.

بجميع جهاتها واعتباراتها اللازمة لها - يستلزم العلم بما يلزمها ويجب بها على ما حقّقناه فيما مرّ في مسألة العلم.

وقد يقال : الحكم بكون الفاعل العالم بذاته عالما بما صدر عنه بديهيّ ، كما قال تعالى : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) هذا ، فثبت كونه تعالى عالما بذاته وبجميع ما سواه من معلولاته اللازمة له بأيّة جهة كانت ، وهو المطلوب.

وهذا الدليل كما دلّ على ثبوت علمه تعالى بالموجودات دلّ على شمول علمه تعالى بجميع الموجودات أيضا كلّيّة كانت أو جزئيّة.

لا يقال : المعلوم بعلّته إنّما هو ماهيّة كذا ، مع كونها معلّلة بكذا ، وكلّ منهما كلّيّ ، وتقييد الكلّيّ بالكلّيّ لا يفيد الجزئيّة ، فلا يدلّ هذا الدليل على علمه بالجزئيّات ، بل بالكلّيّات فقط.

لأنّا نقول : العلم بماهيّة العلّة كما يدلّ على العلم بماهيّة المعلول ، كذلك العلم بخصوصيّة العلّة يدلّ على العلم بخصوصيّة المعلول ، وهو تعالى عالم بخصوصيّة ذاته ، وجميع الموجودات بماهيّاتها وخصوصيّاتها مستندة إليه تعالى.

قال الشيخ في النمط السابع من الإشارات : واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقّق ، ويعقل ما بعده من حيث هو علّة لما بعده ، ومن وجوده يعلم سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا (2).

وقال المصنّف في شرحه : أشار إلى إحاطة علمه تعالى بجميع الموجودات ، فذكر أنّه يعقل ذاته بذاته ؛ لكونه عاقلا لذاته معقولا لذاته على ما تحقّق في النمط الرابع ، ويعقل ما بعده يعني المعلول الأوّل من حيث هو علّة لما بعده ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة يقتضي العلم بالمعلول ؛ فإنّ العلم بالعلّة التامّة لا يتمّ من غير العلم بكونها

ص: 153


1- الملك (67) : 14.
2- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 299 - 301.

مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها ، وهذا العلم يتضمّن العلم بلوازمها التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها ، ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأوّل من حيث وقوعها في سلسلة المعلوليّة النازلة من عنده إمّا طولا كسلسلة المعلولات المترتّبة المنتهية إليه تعالى في ذلك الترتيب ، أو عرضا كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه تعالى ، لكنّها منتهية إليه تعالى من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه ، وهو احتياج عرضي يتساوى جميع آحاد السلسلة فيه بالنسبة إليه تعالى (1). انتهى.

وإلى هذا أشار بقوله : ( والأخير عامّ ) (2) بخلاف الدليل الأوّل ؛ فإنّه يدلّ على علمه تعالى بما علم الإتقان فيه ممّا علم أنّه من معلولاته.

واعلم أنّ المشهور في كتب المتأخّرين تقرير هذا الدليل على أنّه دليلان :

الأوّل : أنّه تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد فهو عاقل لذاته ولغيره من المعلولات كما مرّ في مبحث التعقّل.

الثاني : أنّه تعالى عاقل لذاته - كما مرّ - وذاته علّة لما سواه ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول كما مرّ.

والشارحون أيضا حملوا كلام المصنّف على ذلك (3).

والأوجه ما ذكرنا كما لا يخفى على من تتبّع كتب الشيخ سيّما الإشارات تتبّع فحص وإتقان.

وظاهر كلام المصنّف وإن كان يوهم التثليث لكنّ الأظهر عند التدبّر خلافه ؛ إذ ليس مجرّد استناد الكلّ إليه دليل العلم ، بل بعد الضمّ إلى الدليل الدالّ على علمه بذاته ، ولذلك حمل بعضهم قوله : والأخير عامّ ، على أنّ المراد أنّه دليل لعموم العلم.

ص: 154


1- نفس المصدر السابق.
2- « تجريد الاعتقاد » : 192.
3- « كشف المراد » : 284 - 285 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 312 - 313.

والأولى - على تقدير التثليث - أن نحمل قوله : واستناد كلّ شيء إليه ، على أحد دليلين آخرين دالّين على أصل العلم وعمومه ، كما ذكرهما بعض الأعلام (1) :

أحدهما : أنّه تعالى لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات التي منها العلماء مطلقا ، أو العلماء بذواتهم بلا شبهة ، كان عالما بذاته لا محالة ؛ لوجوب كون العلّة أكمل وأشرف من المعلول ، ثمّ من كونه تعالى عالما بذاته ومبدأ لجميع الموجودات يعلم كونه عالما بجميع الموجودات.

والثاني : أنّه تعالى لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات التي منها الصور العلميّة ، كان مبدأ لفيضان العلوم على العلماء وكان عالما بالضرورة ، إذ فيّاض العلوم وملهمها أولى بأن يكون عالما ، ثمّ من كونه عالما مطلقا يعلم كونه عالما بذاته ومن كونه عالما بذاته ومبدأ لجميع الموجودات كونه عالما بجميع الموجودات.

ولمّا أثبت كونه تعالى عالما بذاته وبما سواه ، أراد أن يجيب عن أدلّة المنكرين لعلمه تعالى وهم فرقتان من الأوائل :

الأولى : من ينفي علمه تعالى مطلقا ، متمسّكا بأنّ العلم إمّا إضافة ، أو صفة ذات إضافة ، على ما مرّ في مسألة العلم.

وعلى التقديرين يستدعي نسبة بين العالم والمعلوم ، والنسبة تستدعي المغايرة بين الطرفين ، فلا يمكن تحقّقها حيث لا مغايرة أصلا ، فلا يمكن أن يعلم ذاته ، وإذا امتنع علمه بذاته ، امتنع علمه تعالى بما سواه ؛ لأنّ علمه بغيره يستلزم (2) علمه بذاته على ما مرّ.

والجواب منع استدعاء النسبة العلميّة المغايرة الحقيقيّة ، بل المغايرة الاعتباريّة كافية فيها كما في علمنا بذواتنا. وإلى هذا أشار بقوله : ( والتغاير اعتباريّ ).

ص: 155


1- منهم المحقّق الخفري في حاشيته على شرح تجريد العقائد للقوشجي ، انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : 43 - 44.
2- لعلّ المراد هنا الاستلزام في مقام الإثبات دون الثبوت.

وتحقيق ذلك في الشفاء حيث قال : « واجب الوجود عقل محض ؛ لأنّه ذات مفارقة للمادّة من كلّ وجه ، وقد عرفت أنّ السبب في أن لا يعقل الشيء هو المادّة وعلائقها ، لا وجوده. وأمّا الوجود الصوريّ ، فهو الوجود العقليّ وهو الوجود الذي إذا تقرّر في الشيء صار للشيء به عقل ، والذي يحتمل نيله هو عقل بالقوّة ، والذي ناله العقل بعد القوّة هو العقل بالفعل على سبيل الاستكمال ، والذي هو له ذاته هو عقل بذاته ، ولذلك (1) هو معقول محض ؛ لأنّ المانع للشيء أن يكون معقولا هو أن يكون في مادّة وعلائقها وهو المانع عن أن يكون عقلا ، وقد تبيّن لك هذا ، فالبريء عن المادّة والعلائق ، المتحقّق بالوجود المفارق هو معقول لذاته ، ولأنّه عقل بذاته وهو أيضا معقول بذاته ، فهو معقول ذاته ، فذاته عقل وعاقل ومعقول لا أنّ هناك أشياء متكثّرة ؛ وذلك لأنّه بما هو هويّة مجرّدة عقل ، وبما يعتبر له أنّ هويّته المجرّدة لذاته ، فهو معقول لذاته ، وبما يعتبر له أنّ ذاته له هويّة مجرّدة ، فهو عاقل ذاته ؛ فإنّ المعقول هو الذي ماهيّته المجرّدة لشيء ، والعاقل هو الذي له ماهيّة مجرّدة لشيء ، وليس من شرط هذا الشيء أن يكون هو أو آخر ، بل شيء مطلقا والشيء مطلقا أعمّ من هو أو غيره ، فالأوّل باعتبارك أنّ له ماهيّة مجرّدة لشيء هو عاقل ، وباعتبارك أنّ ماهيّته المجرّدة لشيء هو معقول ، وهذا الشيء هو ذاته ، فهو عاقل بأنّ له ماهيّته المجرّدة التي لشيء هو ذاته ، ومعقول بأنّ ماهيّته المجرّدة هي لشيء هو ذاته ، وكلّ من تفكّر قليلا علم أنّ العاقل يقتضي شيئا معقولا ، وهذا الاقتضاء لا يتضمّن أنّ ذلك الشيء هو أو آخر (2).

ثمّ قال : فقد فهمت أنّ نفس كونه معقولا وعاقلا لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ، ولا اثنين في الاعتبار أيضا ؛ فإنّه ليس تحصيل الأمرين إلاّ اعتبار أنّ ماهيّة

ص: 156


1- في « الشفاء » : « وكذلك » بدل « ولذلك ».
2- « الشفاء » الإلهيّات : 356 - 357 ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

مجرّدة لذاته ، وأنّ ماهيّته مجرّدة ذاتها لها ، وهاهنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصّل شيء واحد بلا قسمة فقد بان أنّ كونه تعالى عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة البتّة (1). انتهى.

الثانية : من ينفي علمه بغيره مع كونه عالما بذاته ، متمسّكا بأنّ العلم صورة مساوية للمعلوم ومرتسمة في العالم كما مرّ في مسألة العلم ، فصور الأشياء المختلفة مختلفة على ما مرّ هناك أيضا ، فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات الأحديّة [ وكونها فاعلة قابلة ] (2) وكونها قابلة لتلك الصور وفاعلة لها ؛ لوجوب استنادها إليها ؛ لامتناع أن يكون تعالى محتاجا فيما هو كمال له إلى غيره.

قال المصنّف في شرح رسالة العلم : إنّ هذين المذهبين مذكوران في كتب المذاهب والآراء ، منقولان عن القدماء. (3)

والجواب يستدعي تمهيد مقدّمة ، هي أنّ العلم على قسمين : حصوليّ وحضوريّ ؛ لأنّ العلم عبارة عن حصول المعلوم لما من شأنه أن يكون عالما ، وهو المجرّد القائم بذاته ، وذلك الحصول قد يكون بارتسام صورة المعلوم في العالم حيث لا حضور لذاته لديه ، كما في علمنا بما سوى ذواتنا وقوانا والصور المرتسمة فينا.

وقد يكون بحضوره بنفس ذاته عند العالم من غير حاجة إلى ارتسام صورته فيه وقيامها به ، وذلك كما للمعلول عند العلّة ؛ فإنّ حصوله عندها لا يتوقّف على ارتسام صورته فيها ، بل يكفي فيه حضوره بنفس ذاته لديها ؛ إذ لا انفكاك بين ذات العلّة وذات المعلول في الوجود ، فحيثما وجدت العلّة وجد المعلول معها غير منفكّ عنها.

وهذا معنى حصوله لها ، فإذا كانت العلّة مجرّدة قائمة بذاتها ، فهي لا محالة عالمة بمعلولها ، كما أنّها عالمة بذاتها ؛ لكونها غير فاقدة إيّاه كما أنّها غير فاقدة لذاتها.

ص: 157


1- نفس المصدر : 358.
2- العبارة غير موجودة في « شوارق الإلهام » الطبعة الحجريّة.
3- « شرح رسالة العلم » : 27.

وما مرّ في مسألة العلم كان من أحكام العلم الحصوليّ ؛ لكونه من الكيفيّات النفسانيّة ( و ) البحث هنالك كان منها دون العلم الحضوريّ ، فإذا ثبت ذلك ثبت أنّه ( لا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات عنده تعالى ) مرتسمة فيه ؛ لكونه علّة لذوات المعلومات غير فاقدة إيّاها ، فيكفي في علمه تعالى بها حضور ذواتها لديه وحصولها عنده ( لأنّ نسبة الحصول ) أي حصول المعلومات المعلولة له تعالى في كونه حصولا ( إليه تعالى أشدّ من نسبة حصول الصور المعقولة لنا ) الحاصلة في أنفسنا إلينا ؛ لكون تلك المعلومات معلولة له تعالى وصادرة عنه بدون مشاركة من غيره ، وكون هذه الصور صادرة عنّا ومعلولة لنا بمشاركة من غيرنا ؛ لكون أنفسنا قابلة لها فقط.

وأمّا العلّة الفاعلة لها المفيضة إيّاها ، فهي خارجة عن أنفسنا لا محالة ، فحصول الصور لنا حصول للقابل وهو بالإمكان ، وحصول المعلومات له حصول للفاعل المستقلّ وذلك بالوجوب ، ولا شكّ في كون الوجوب أشدّ من الإمكان ، فإذا كان الحصول هو حقيقة العلم ، وكان حصول المعقولات لنا علما ، كان حصول المعلومات له تعالى علما بالطريق الأولى.

فثبت أنّ علمه تعالى بالأشياء لا يتوقّف على ارتسام صورها فيه ليلزم التكثّر في ذاته الأحديّة ، وكونها فاعلة وقابلة.

واعلم أنّ هذا الكلام من المصنّف - مع كونه جوابا عن الدليل المذكور - إشارة إلى ما هو مختاره في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء ؛ فإنّ للحكماء فيها اختلافا ، ولا بأس بأن نفصّل المقام ونبسط الكلام ، ونأتي بمرّ الحقّ في المرام فنقول :

[ في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء ]

اختلف الحكماء في علمه تعالى بالأشياء إلى خمسة مذاهب :

[ المذهب ] الأوّل : مذهب انكسمانس الملطيّ ، وهو أنّ علمه تعالى بالأشياء إنّما

ص: 158

هو بصور زائدة على الأشياء مطابقة لها قائمة بذاته تعالى.

[ المذهب ] الثاني : مذهب ثالس الملطيّ ، وهو أنّ علمه تعالى بالأشياء بصور زائدة عليها ومطابقة لها قائمة بذات المعلول الأوّل لا بذاته كما نقل عنه في كتاب الملل والنحل أنّه قال :

إنّ القول الذي لا مردّ له هو أنّ المبدع كان ولا شيء مبدع ، فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات ؛ لانّه قبل الإبداع إنّما هو فقط ، وإذا كان هو فقط ، فليس يقدح جهة وجهة حتّى يكون هو صورة ، أو حيث وحيث حتّى يكون هو ذا صورة ، والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين هو يؤيّس ما ليس بأيس ، وإذا كان هو مؤيّس الأيسات ، فالتأييس لا من شيء متقادم ، فمؤيّس الأشياء لا يحتاج [ إلى ] (1) أن يكون عنده صورة.

ثمّ قال : وأيضا فلو كانت الصورة عنده ، أكانت مطابقة للموجود الخارج ، أم غير مطابقة؟ فإن كانت مطابقة فلتتعدّد تعدّد الموجودات ، ولتكن كلّيّاتها مطابقة للكلّيّات وجزئيّاتها مطابقة للجزئيّات ، ولتتغيّر بتغيّرها كما تتكثّر بتكثّرها ، وكلّ ذلك محال ؛ لأنّه ينافي الوحدة الخالصة. وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذن صورة إنّما هي شيء آخر.

ثمّ قال : لكنّه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات ، وانبعث من كلّ صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأوّل ، فمحلّ الصور ومنبع الموجودات كلّها هو ذات العنصر ، وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلاّ في ذات العنصر صورة له.

قال : ومن كمال الأوّل الحقّ أنّه أبدع مثل هذا العنصر ، فما يتصوّره العامّة في ذاته تعالى أنّ فيها الصور - يعني صور المعلومات - فهو في مبدعه ، ويتعالى بوحدانيّته

ص: 159


1- الزيادة أثبتناها من المصدر.

وهويّته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه (1). انتهى.

[ المذهب ] الثالث : المذهب المنسوب إلى أفلاطن ، وهو أنّ تلك الصور قائمة بذواتها.

وقد اتّفقوا على بطلانها ؛ إذ لا معنى لكون الصور العلميّة قائمة بذواتها لا في محلّ ولا في موضوع ؛ لأنّها موجودات ظلّيّة لا عينيّة.

وقد بالغ الشيخ في الشفاء في إبطال المثل والتعليميّات بما لا مزيد عليه (2) ، بل أوجب أكثرهم تأويلها ، وأحسن التوجيهات أنّها عبارة عن أرباب الطلسمات وهي الجواهر العقليّة العرضيّة المدبّرة كلّ منها لنوع من الأنواع المادّيّة المسمّاة عندهم بالطلسمات (3).

وهذه المذاهب الثلاثة مشتركة في كون علمه تعالى بالأشياء بصورها المطابقة لها ، وهذا العلم هو المسمّى بالعلم الصوريّ (4) ، والأوّل منها بالحصوليّ.

[ المذهب ] الرابع : مذهب فرفوريوس ومن تبعه من المشّائين ، وهو القول باتّحاده تعالى مع المعقولات ، بناء على مذهبهم من القول باتّحاد العاقل والمعقول ، على ما مرّ في مسألة العلم من الأعراض مستقصى.

[ المذهب ] الخامس : مذهب صاحب الإشراق وهو القول بالعلم الحضوريّ الإشراقيّ ، وقد استفادها بزعمه في خلوته الذوقيّة عن روحانيّة أرسطاطاليس.

قال في التلويحات :

« كنت زمانا شديد الاشتغال ، كثير الفكر والرياضة ، وكان يصعب عليّ مسألة

ص: 160


1- « الملل والنحل » 2 : 62.
2- « الشفاء » الإلهيّات : 317 - 324 ، الفصل الثالث من المقالة السابعة.
3- انظر « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 143.
4- في « شوارق الإلهام » : « الحضوريّ » بدل « الصوريّ ».

العلم ، وما ذكر في الكتب لم يتنقّح لي ، فوقعت لي ليلة من الليالي خلسة في شبه نوم لي فإذا أنا بلذّة غاشية ، وبرقة لامعة ، ونور شعشعانيّ مع تمثّل شبح إنسانيّ ، فرأيته فإذا هو غياث النفوس وإمام الحكمة ، المعلّم الأوّل على هيئة أعجبتني ، وأبّهة أدهشتني ، فتلقّاني بالترحيب والتسليم حتّى زالت دهشتي ، وتبدّلت بالأنس وحشتي ، فشكوت إليه من صعوبة هذه المسألة ، فقال : ارجع إلى نفسك تنحلّ لك.

فقلت : وكيف؟ فقال : إنّك مدرك لنفسك ، فإدراكك لذاتك بذاتك ، أو غيرها؟ فيكون لك إذن قوّة أخرى ، أو ذات تدرك ذاتك ، والكلام عائد وظاهر استحالته ، وإذا أدركت ذاتك بذاتك ، أباعتبار أثر في ذاتك؟ فقلت : بلى.

قال : فإن لم يطابق الأثر ذاتك ، فليس صورتها ، فما أدركتها ، فقلت : فالأثر صورة ذاتيّ ، قال : صورتك لنفسك مطلقة ، أو متخصّصة بصفات أخرى؟ فاخترت الثاني ، فقال : كلّ صورة في النفس هي كلّيّة وإن تركّبت أيضا من كلّيّات كثيرة ، فهي لا تمنع الشركة لنفسها ، وإن فرض منعها تلك فلمانع آخر ، وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها ، فليس هذا الإدراك بالصورة.

فقلت : أدرك مفهوم أنا فقال : مفهوم أنا من حيث هو مفهوم أنا لا يمنع وقوع الشركة فيه ، وقد علمت أنّ الجزئيّ - من حيث هو جزئيّ لا غير - كلّيّ « وهذا » و « أنا » و « نحن » و « هو » لها معان كلّيّة من حيث مفهوماتها المجرّدة دون إشارة جزئيّة.

فقلت : فكيف إذن؟

فقال : فلمّا لم يكن علمك بذاتك بقوّة غير ذاتك ، فإنّك تعلم أنّك أنت المدرك لذاتك لا غير ، ولا بأثر غير مطابق ، ولا بأثر مطابق (1) ، فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.

ص: 161


1- في « شوارق الإلهام » : « لا بأثر مطابق ولا بأثر غير مطابق ».

فقلت : زدني.

فقال : ألست تدرك بدنك الذي تتصرّف فيه إدراكا مستمرّا لا تغيب عنه؟ فقلت : بلى.

قال : أبحصول (1) صورة شخصيّة في ذاتك وقد عرفت استحالته؟ فقلت : لا ، بل على أخذ صفات كلّيّة ، قال : وأنت تحرّك بدنك الخاصّ ، وتعرفه بدنا خاصّا جزئيّا ، وما أخذت من الصورة نفسها لا يمنع وقوع الشركة فيها ، فليس إدراكك لها إدراكا لبدنك الذي لا يتصوّر أن يكون مفهومه لغيره.

ثمّ أما قرأت من كتبنا أنّ النفس تتفكّر باستخدام المفكّرة وهي تفصل وتركّب الجزئيّات وترتّب الحدود الوسطى؟ والمتخيّلة لا سبيل لها إلى الكلّيّات ؛ لأنّها جزئيّة (2).

فإن لم يكن للنفس اطّلاع على الجزئيّات ، فكيف تركّب مقدّماتها؟! وكيف تنزع الكلّيّات من الجزئيّات؟! وفي أيّ شيء تستعمل المتفكّرة؟ وكيف تأخذ الخيال؟ وما ذا يفيدها تفصيل المتخيّلة؟ وكيف تستعدّ بالفكر للعلم بالنتيجة؟ ثمّ المتخيّلة جزئيّة (3) كيف تدرك نفسها والصورة المأخوذة عنها في النفس كلّيّة؟ وأنت تعلم بتخيّلك ووهمك الشخصين الموجودين ودريت أنّ الوهم ينكرها (4).

قلت : فأرشدني جزاك اللّه عن زمرة العلم خيرا ، قال : وإذا دريت أنّها تدرك لا بأثر يطابق ولا بصورة ، فاعلم أنّ التعقّل حضور الشيء للذات المجرّدة عن المادّة. وإن شئت قلت : عدم غيبته عنها ، وهذا أتمّ ؛ لأنّه يعمّ إدراك الشيء لذاته وغيره ؛ إذ الشيء لا يحضر لنفسه ولكن لا يغيب عنها. أمّا النفس ، فهي مجرّدة غير غائبة عن ذاتها ، بقدر تجرّدها أدركت ذاتها وما غاب عنها ، إذا لم يكن لها استحضار عينه

ص: 162


1- في المصدر المذكور : « الحصول ».
2- في المصدر : « الجرمية ».
3- في المصدر : « الجرمية ».
4- أي ينكر المتخيّلة بل نفسها أيضا أعني الواهمة ، والإنكار لا يحصل إلاّ بالإدراك. ( منه رحمه اللّه ).

كالسماء والأرض ونحوهما ، فاستحضرت صورته.

أمّا الجزئيّات ففي قوى حاضرة لها. وأمّا الكلّيّات ففي ذاتها ؛ إذ من المدركات صورة كلّيّة لا تنطبع في الأجرام ، والمدرك هو نفس الصورة الحاضرة لا ما خرج عن التصوّر.

وإن قيل للخارج : إنّه مدرك فذاك بقصد ثان ، فذاتها غير غائبة عن ذاتها ، ولا بدنها جملة ما ، ولا قوى مدركة لبدنها جملة ما ، وكما أنّ الخيال غير غائب عنها ، فكذلك الصور الخياليّة ، فيدركها النفس لحضورها لا لتمثّلها في ذات النفس ، ولو كان تجرّدها أكثر ، لكان الإدراك بذاتها أكثر وأشدّ ، ولو كان تسلّطها على البدن أشدّ كان حضور قواها وأجزائها لها أشدّ.

ثمّ قال لي : اعلم أنّ العلم كمال للموجود (1) من حيث مفهومه ، ولا يوجب تكثّرا ، فيجب للواجب وجوده [ لأنّه كمال للوجود (2) من حيث هو وجود (3) ، ولا يوجب تكثّرا ، فلا يمتنع ، والممكن العامّ على واجب الوجود يجب له ؛ إذ لا يمكن بالإمكان الخاصّ شيء عليه ، فيوجب فيه جهة إمكانيّة ، فيتكثّر ] (4).

ثمّ قال : فواجب الوجود ذاته مجرّدة عن المادّة وهو الوجود البحت والأشياء حاضرة له على إضافة مبدئيّة تسلّطيّة ؛ لأنّ الكلّ لازم ذاته ، فلا يغيب عنه ذاته ، ولا لازم ذاته ، وعدم غيبته عن ذاته أو لوازمه مع التجرّد عن المادّة هو إدراكه كما قرّرناه في النفس.

ورجع الحاصل في العلم كلّه إلى عدم غيبة الشيء عن المجرّد عن المادّة صورة كانت أو غيرها ، فالإضافة جائزة في حقّه تعالى ، وكذلك السلوب ، ولا يخلّ بوحدانيّته تكثّر أسمائه بهذه السلوب والإضافات ، ولو كان لنا على غير بدننا سلطنة

ص: 163


1- في المصدر : « للوجود ».
2- في « شوارق الإلهام » : « للموجود ... موجود ».
3- في « شوارق الإلهام » : « للموجود ... موجود ».
4- العبارة لم ترد في « التلويحات ».

كما على بدننا ، لأدركناه كإدراك البدن كما سبق من غير حاجة إلى صورة ، فتعيّن من هذا أنّه بكلّ شيء محيط ، وإدراك أعداد الوجود هو نفس الحضور له والتسلّط من غير صورة ومثال. ثمّ قال لي : كفاك في العلم هذا (1) انتهى كلام التلويحات.

وقال في حكمة الإشراق : لمّا تبيّن - يعني على قاعدة الإشراق - أنّ الإبصار ليس من شرطه انطباع شبح أو خروج شيء ، بل يكفي عدم الحجاب بين الباصر والمبصر ، فنور الأنوار ظاهر لذاته على ما سبق بيانه في كلّ مجرّد وغيره ظاهر له ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض ؛ إذ لا يحجبه شيء عن شيء ؛ فعلمه وبصره واحد (2).

وقال أيضا : علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته ، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إمّا بأنفسها أو بمتعلّقاتها التي هي مواضع الشعور المستمرّ للمدبّرات العلويّة وذلك - أي علمه بالأشياء - إضافة - لكونه عبارة عن ظهور الأشياء - وعدم الحجاب سلبيّ.

والذي يدلّ على أنّ هذا القدر - أي ظهور الأشياء له - كاف في علمه بها هو أنّ الإبصار إنّما كان بمجرّد إضافة ظهور الشيء للمبصر مع عدم الحجاب ، فإضافته إلى كلّ ظاهر له ، إبصار وإدراك له ، وتعدّد الإضافات العقليّة - التي له إلى الأشياء الكثيرة - لا يوجب تكثّرا في ذاته (3). انتهى كلام حكمة الإشراق.

ومختار المصنّف هذا المذهب كما أشرنا إليه ؛ قال في شرح رسالة العلم : والحقّ أنّه ليس من شرط كلّ إدراك أن يكون بصورة ذهنيّة ؛ وذلك لأنّ ذات العاقل إنّما تعقل نفسه بعين صورته التي بها هي هي.

وأيضا المدرك للصورة الذهنيّة إنّما يدركها بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى ،

ص: 164


1- « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 70 - 73.
2- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 150.
3- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 152.

وإلاّ لتسلسل ، ولزم مع ذلك أن يجتمع في المحلّ الواحد صور متساوية في الماهيّة ، مختلفة بالعدد فقط ، وذلك محال.

فإذن إنّما يحتاج في الإدراك إلى صورة المدرك. أمّا الاحتياج إلى صورة ذهنيّة ، فقد يكون حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك ، وعدم الحضور يكون ، إمّا لكون المدرك غير موجود أصلا ، أو لكونه غير موجود عند المدرك ، أي يكون بحيث لا يصل إليه الإدراك البتّة ، وذلك إنّما يكون بسبب شيء من الموانع العائدة إمّا إلى المدرك نفسه ، أو آلة الإدراك ، أو إليهما جميعا (1).

ثمّ قال : وإدراك الأوّل تعالى إمّا لذاته ، فيكون بعين ذاته لا غير ، ويتّحد هناك المدرك والمدرك والإدراك ، ولا تتعدّد إلاّ بالاعتبارات التي تستعملها العقول.

وإمّا لمعلولاتها القريبة منه فيكون بأعيان ذوات تلك المعلولات ؛ إذ لا يتصوّر هناك عدم حضورها بالمعاني المذكورة أصلا ، وتتّحد هناك المدركات والإدراكات ، ولا يتعدّدان إلاّ بالاعتبار ، ويغايرهما المدرك.

وإمّا لمعلولاته البعيدة كالمادّيّات والمعدومات التي من شأنها إمكان أن توجد في وقت ، أو تتعلّق بموجود ، فيكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أوّلا وبالذات ، وكذلك إلى أن ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركيها ؛ وذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر ، والمدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه ، فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ، ولا في السماء ، ولا أصغر منها ولا أكبر ، فيكون ذوات معلولاته مرتسمة بجميع الصور وهي التي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين ، وتارة باللوح المحفوظ ، ويسمّيها الحكماء بالعقول الفعّالة ، ولا يلزم على هذا التقدير شيء من المحالات المذكورة والمذاهب الشنيعة (2). انتهى كلامه.

ص: 165


1- « شرح رسالة العلم » : 28.
2- « شرح رسالة العلم » : 28 - 29.

وستعلم تلك المحالات والشنائع عن قريب.

وقال في شرح الإشارات : العاقل كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو ، فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر ، التي بها هو هو ، واعتبر من نفسك أنّك تعقل شيئا بصورة تتصوّرها ، أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا ، بل بمشاركة ما من غيرك ، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها ، بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك ، بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلّقة بذاتك أو بتلك الصورة على سبيل التركّب ، وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال ، فما ظنّك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟

ولا تظنّنّ أنّ كونك محلاّ لتلك الصورة شرط في تعقّلك إيّاها ؛ فإنّك تعقل ذاتك مع أنّك لست بمحلّ لها ، بل إنّما كان كونك محلاّ لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة لك ، الذي هو شرط في تعقّلك إيّاها ، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك ، حصل التعقّل من غير حلول فيك ، ومعلوم أنّ حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله ، فإذن المعلولات الذاتيّة للعاقل الفاعل لذاته حاصلة له من غير أن تحلّ فيه ، فهو عاقل إيّاها من غير أن تكون هي حالّة فيه (1).

ثمّ قال : وقد علمت أنّ الأوّل عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلاّ في اعتبار المعتبرين على ما مرّ ، وحكمت أنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل ، فإذن حكمت بكون العلّتين - أعني ذاته وعقله لذاته - شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأوّل والثاني متقرّرا فيه ،

ص: 166


1- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 304 - 305.

فكما حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريا محضا ، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك ، فإذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحلّ ذات الأوّل ، تعالى عن ذلك.

ثمّ لمّا كانت الجواهر العقليّة تعقل ما ليس بمعلولات لها بحصول صور فيها وهي تعقل الأوّل الواجب ، ولا موجود إلاّ وهو معلول للأوّل الواجب ، كانت جميع صور الموجودات الكلّيّة والجزئيّة على ما عليه الوجود حاصلة فيها ، والأوّل الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه ، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة (1). انتهى كلام شرح الإشارات.

وفيه وجوه من البحث ؛ فإنّ قياس الوجود الصادر عن العاقل لذاته في عدم الحاجة إلى صورة زائدة ، على العاقل لذاته في ذلك قياس مع الفارق ؛ فإنّ العاقل إنّما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة زائدة ؛ لمكان الاتّحاد. وأمّا الصادر المباين ، فليس بهذه المثابة ، وكذا قياس الصادر عن العاقل بالاستقلال على الصورة الحاصلة في النفس بالمشاركة ؛ فإنّ الصورة الحاصلة إنّما لا تحتاج إلى صورة أخرى ؛ لأنّ الحصول هناك متحقّق بالقيام ، وهو كاف في العلم ، بخلاف الصادر المباين.

والحاصل : أنّ الحصول الذي يكفي في تحقّق العلم - على ما هو المسلّم - إنّما هو الحصول المتحقّق في ضمن الاتّحاد أو القيام ، وأمّا كفاية مطلق الحصول على أيّ نحو كان في ذلك ، فممنوعة ، وعلى من يدّعيه الإثبات. وسيأتي ما يتّضح به حقيقة ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر ما في قوله : ولا تظنّنّ ... إلى آخره ، أيضا إلى غير ذلك.

وأمّا مذهب انكسمانس ، فهو من فلاسفة الإسلام مختار معلّمهم أبي نصر و

ص: 167


1- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 306.

رئيسهم ابن سينا وهو مختار أرسطو ، بل أفلاطن أيضا كما صرّح به الفارابيّ في كتاب الجمع بين الرأيين (1) ، وأوّل كلامه في المثل إلى ذلك.

أمّا الشيخ الرئيس ، فقال في إلهيّات الشفاء في فصل نسبة المعقولات إليه تعالى لبيان كون علمه تعالى بالأشياء بصورها العقليّة لا بأعيانها الخارجيّة بهذه العبارة : ولا يظنّ أنّ الإضافة العقليّة إليها إضافة إليها كيف وجدت ، وإلاّ لكان كلّ مبدأ صورة في مادّة - من شأن تلك الصورة أن تعقل بتدبير ما من تجريد وغيره - يكون هو عقلا بالفعل ، بل هذه الإضافة له إليها - وهي بحال - معقولة ، ولو كانت من حيث وجودها في الأعيان ، لكان إنّما يعقل ما يوجد في كلّ وقت ، ولا يعقل المعدوم منها في الأعيان إلى أن يوجد ، فيكون لا يعقل من نفسه أنّه مبدأ ذلك الشيء على ترتيب إلاّ عند ما يصير مبدأ ، فلا يعقل ذاته ؛ لأنّ ذاته من شأنها أن يفيض عنها كلّ وجود ، وإدراكها من حيث شأنها أنّها كذا يوجب إدراك الآخر وإن لم يوجد ، فيكون العالم الربوبيّ محيطا بالوجود الحاصل ، والممكن يكون لذاته إضافة إليها من حيث هي معقولة لا من حيث هي لها وجود في الأعيان (2).

ثمّ أشار إلى كون علمه تعالى بالأشياء بالصور الحاصلة في ذاته ؛ حيث قال ما ملخّصه : فبقي لك النظر في حال وجودها معقولة أنّها تكون موجودة في ذات الأوّل على أنّها أجزاء ذاته ، أو على أنّها كاللوازم التي تلحقه ، أو يكون لها وجود مفارق لذاته وذات غيره ، أو من حيث هي موجودة في عقل أو نفس ، إذا عقل الأوّل هذه الصور ، ارتسمت في أيّها كان ، فيكون ذلك العقل ، أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة ، وتكون معقولة له على أنّها فيه ، ومعقولة للأوّل على أنّها عنه ، ويعقل الأوّل من ذاته أنّه مبدأ لها.

ص: 168


1- « كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين » : 105 - 109.
2- « الشفاء » الإلهيّات : 364 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

فإن جعلت هذه المعقولات أجزاء ذاته ، عرض الكثرة في ذاته تعالى ، وإن جعلتها لواحق ذاته ، عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود ؛ لملاصقته ممكن الوجود.

وإن جعلتها أمورا مفارقة لكلّ ذات ، عرضت الصور الأفلاطونيّة ، وإن جعلتها موجودة في عقل ما أو نفس ما ، عرض أنّه لما كانت تلك الأشياء المرتسمة في ذلك الشيء من معلولات الأوّل ، فيدخل في جملة ما الأوّل يعقل ذاته مبدأ له ، فيكون صدورها عنه لا على أنّه إذا عقله خيرا وجد ؛ لأنّها نفس عقله للخير ، أو يتسلسل الأمر ؛ لأنّه يحتاج أن يعقل أنّها عقلت وكذلك إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال ، فهي نفس عقله للخير ، فإذا قلنا لما عقلها : وجدت ولم يكن معها عقل آخر ولم يكن وجودها إلاّ أنّها تعقّلات ، فإنّا نكون كأنّا قلنا : لأنّه عقلها عقلها ، أو لأنّه وجدت عنه وجدت عنه ، فينبغي أن تجتهد جهدك في التخلّص عن هذه الشبهة ، وتتحفّظ أن لا يتكثّر ذاته ، ولا تبالي بأن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود ؛ فإنّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود ، بل من حيث ذاتها ، وتعلم أنّ العالم الربوبيّ عظيم جدّا (1). انتهى.

فقوله : « ولا تبالي » صريح في اختيار هذا الشقّ. وأمّا بيان عدم المبالاة بلزوم كون ذاته تعالى من هذه الجهة ممكنة الوجود ، فسيأتي ، فتأمّل ليظهر لك أنّ ما قيل نظرا إلى هذا الكلام - من أنّ الشيخ في الشفاء متحيّر شاكّ في أمر هذه الصورة (2) - توهّم محض.

وقال أيضا : اعلم أنّ المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود ، كما عرض أن أخذنا عن الفلك بالرصد والحسّ صورته المعقولة ، وقد يكون الصورة المعقولة

ص: 169


1- « الشفاء » الإلهيّات : 364 - 366 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.
2- انظر « الأسفار الأربعة » 6 : 198.

غير مأخوذة من الموجود ، بل بالعكس ، كما أنّا نعقل صورة بنائيّة نخترعها ، ثمّ يكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن نوجدها ، فلا تكون وجدت ، فعقلناها ، ولكن عقلناها فوجدت ، ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود هو هذا ؛ فإنّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ، ويعلم من ذاته كيفيّة كون الخير في الكلّ ، فيتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده ، لا على أنّها تابعة اتّباع الضوء للمضيء والإسخان للحارّ ، بل هو عالم بكيفيّة نظام الخير في الوجود ، وأنّه منه ، وعالم بأنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود على الترتيب الذي يعقله خيرا ونظاما (1).

ثمّ قال : ولا يظنّ أنّه لو كانت للمعقولات عنده صور وكثرة ، كانت كثرة الصور التي يعقلها أجزاء لذاته ، وكيف؟ وهي تكون بعد ذاته ؛ لأنّ عقله لذاته ذاته ، ومنه يعقل كلّ ما بعده ؛ فعقله لذاته علّة عقله ما بعد ذاته ؛ فعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته ، على أنّ المعقولات والصور - التي له بعد ذاته - إنّما هي معقولة على نحو المعقولات العقليّة لا النفسانيّة ، وأنّ له إليها إضافة المبدأ الذي يكون عنه لا فيه ، بل إضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ، وإن كانت معا لا تتقدّم ولا تتأخّر في الزمان ، فلا يكون هناك انتقال في المعقولات (2).

وقال في التعليقات :

تعليق : الأوّل تعالى يعرف كلّ شيء من ذاته ، لا على أن يكون الموجودات علّة علمه ، بل علمه علّة لها مثل أن يكون البنّاء يبدع في الذهن صورة بيت ، فيبنيه على ما هو في الذهن ، فلو لا تلك الصورة المتصوّرة من البيت في الذهن ، لم يكن ثمّ للبيت وجود ، فلم يكن صورة البيت علّة لعلم البنّاء ، بل الأمر بالعكس ، وما كان

ص: 170


1- « الشفاء » الإلهيّات : 363 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.
2- نفس المصدر : 364.

بخلاف ذلك فإنّه كالسماء التي هي علّة لعلمنا بها ؛ فإنّ وجودها علّة لعلمنا ، وقياس الموجودات مع (1) علمه كقياس الموجودات التي نستنبطها بأفكارنا ، ثمّ نوجدها ؛ فإنّ الصور الموجودة من خارج علّتها الصور المبدعة في أذهاننا ، ولكنّ البارئ تعالى لم يكن يحتاج إلى استعمال آلة وإصلاح مادّة ، بل كما يتصوّر يجب وجود الشيء بحسب التصوّر.

وأمّا نحن ، فنحتاج - مع التصوّر - إلى استعمال آلات ، ونحتاج إلى شوق إلى تحصيل ذلك المتصوّر وطلب لتحصيلها ، فالأوّل غنيّ عن كلّ هذا.

تعليق. شبّه طاعة الموادّ والموجودات لتصوّره سبحانه بأن نتصوّر شيئا ، فإذا حصل منّا الإجماع لطلبه ، انبعثت القوّة التي في العضلات إلى تحريك الآلات من دون استعمال آلة أخرى في تحريك تلك الآلات. وهذا معنى قوله جلّ وعلا : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (2). (3)

تعليق. العلم هو حصول صور المعلومات في النفس ، وليس يعنى به أنّ تلك الذوات تحصل في النفس ، بل آثار منها ورسوم ، وصور الموجودات مرتسمة في [ ذات ] (4) البارئ تعالى ؛ إذ هي معلولات ، وعلمه بها سبب وجودها (5).

وقال في رسالة منسوبة إليه : اعلم أنّ المعلوم ليس هو الصورة الموجودة من خارج وجودا عينيّا ؛ لأنّه لو كان كذلك ، لكان كلّ موجود وجودا عينيّا معلوما لنا ، ولكنّا لا نعلم المعدوم : لكنّا نحكم عليه حكما تصديقيّا ، كما نحكم على الخلاء بأنّه

ص: 171


1- في « شوارق الإلهام » : « قياس الموجودات إلى علّتها ».
2- البقرة (2) : 117 ؛ آل عمران (3) : 47 و 59 ؛ الأنعام (6) : 73 ؛ النحل (16) : 40 ؛ مريم (19) : 35 ؛ يس (36) : 83 ؛ غافر (40) : 68.
3- « التعليقات » : 192.
4- الزيادة أثبتناها من المصدر.
5- « التعليقات » : 82.

غير موجود ، فلو لم يكن متصوّرا لنا ، لم نحكم عليه بشيء.

وأيضا لو كان المعدوم غير متصوّر ، لم يتحقّق الكذب في الأقوال ؛ لأنّ قولنا : هذا الكلام كذب ، معناه أنّه ليس له في الوجود الخارجيّ مطابق ، فلو كان كلّ متصوّر في الذهن معبّر عنه بعبارة أمرا موجودا في الأعيان ، لما كان لقولنا : هذا الكلام كذب ، معنى ، بل كانت الأقوال كلّها صادقة ؛ إذ لها مطابق في الوجود الخارجيّ.

فقد تبيّن بيانا واضحا أنّ المعلوم ليس هو الموجود في الأعيان ، بل ذلك معلوم بالضرورة. والقول في المحسوس أيضا هكذا. ولا أيضا أثر يحصل من حصول المعلوم في الأذهان ، بل هو نفس حصوله في الأذهان.

والدليل عليه أنّه لو كان أثرا يحصل منه لم يخل الأمر إمّا أن يكون لهذا الأثر حصول بنفسه ، أولا ، فإن كان الثاني لم يحصل العلم البتّة ، بل كان الذهن كما كان قبل حصول صورة المعلوم. وإن كان الأوّل فأيّ فرق بين الحصول الأوّل والثاني؟ فإن لم يكن العلم هو حصول الصورة الأولى ، بل أثر يحصل منه ولهذا الأثر أيضا حصول ، فيجب أن لا يكون العلم هو نفس حصول الصورة الأولى ، بل هو أثر يحصل من حصول الصورة الثانية ويتسلسل ، فيبقى أنّ العلم هو حصول الصورة المعلومة وهو مثال مطابق للأمر الموجود دون الذهن. وهذا أمر مطّرد في العلم القديم والعلوم الحادثة.

ثم قال : اعلم أنّ العلم ينقسم قسمين :

أحدهما : ما هو حادث من وجود الشيء ، مثل علمنا بالفلك.

وثانيهما : علم حادث منه وجود الشيء ، مثل علم الباني بالبناء قبل وجود البناء ، وعلم البارئ من قبيل القسم الثاني ؛ لأنّه متقدّم على وجود المعلومات ، وقد قلنا : إنّ العلم فهو نفس مثل المعلومات وصورها لا أثر يحصل منها ، وإذا كان كذلك فصور المعلومات حاصلة عنده قبل أن أبدعها وأوجدها ؛ إذ لمّا ثبت تقدّمها على المعلومات ، ولم تكن هي نفس الموجودات الخارجيّة ، ولم يجز أن تكون في

ص: 172

موضوع مفارق لذات البارئ عزّ اسمه ؛ لأنّه يحتاج إلى سبب لكونها في ذات الشيء ، فإن كان السبب ذات البارئ تعالى ، كان ذلك المسبّب - الذي هو صورة تلك الموجودات - قبل كونه في ذلك الموضوع موجودا ؛ إذ قلنا : إنّ مثل ذلك العلم متقدّم على ذوات الموجودات الخارجيّة ، فإن كان ذلك العلم المتقدّم عليه في موضوع مفارق أيضا لذات البارئ ، كان الكلام باقيا ، وهكذا إلى غير النهاية ، فيتسلسل الأمر.

ويلزم التسلسل من وجه آخر أيضا ، وهو أنّ العلم المتقدّم على كون هذه الصورة في موضوع هو وجود تلك الصور ، فيلزم أن يكون علم فعلم ، أو وجد فوجد ، وهذا محال ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن لا يكون الشيء معلوما البتّة ، وإمّا أن يكون صور تلك الأشياء أجزاء ذاته تعالى ، وهذا يؤدّي إلى تكثّر في ذات الأحد الحقّ ، تعالى عن ذلك.

فلم يبق قسم إلاّ أن تكون لوازم الذات ؛ إذ لمّا ثبت وجود تلك الصور وتقدّمها ، وثبت أنّها غير الموجودات الخارجيّة وغير موجودة في موضوع آخر ، وبطل أن تكون موجودة مفارقة للموجودات الخارجيّة وللموضوع الآخر ولذات البارئ تعالى ، فتكون في صقع من الربوبيّة على ما عني من المثل الأفلاطونيّة المزيّفة في موضعها ، وثبت أنّها ليست عين الذات الأحد الحقّ ، بل هي غيره ، فبقي أنّها لوازم الذات ؛ إذ بطلت سائر الأقسام ، فلا بدّ من تعيين هذا الباقي.

وأنت إن لم تدرك حقيقة هذا فلا بأس ؛ لأنّ خطر العلم أضيق من أن يكون له إلى مثل ذلك الجناب تعالى مطمح نظر لا سيّما في دار الغربة ، فلا يلتمس من نفسك شيئا عجز عنه الملائكة المقرّبون والأنبياء المرسلون. انتهى ملخّصا.

وقال في الإشارات ما محصوله : إنّ إدراك الشيء مطلقا - سواء كان بآلة أو بغير آلة - هو أن تكون حقيقته متمثّلة عند المدرك ، حاضرة عند ما به الإدراك سواء كان ذاته أو آلته ، فإن كان تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك وآلته ، كان حقيقة ما لا وجود له بالفعل في الأعيان - مثل كثير من الأشكال الهندسيّة ،

ص: 173

بل كثير ممّا لا يمكن وجوده من الأمور الفرضيّة - غير متحقّقة أصلا ، فيمتنع تعلّق الإدراك ، هذا خلف ، فبقي أن يكون مثال حقيقة مرتسمة في ذات المدرك أو آلته غير مباين لهما (1).

وقال أيضا - بعد إبطال اتّحاد العاقل مع المعقول على ما مرّ في مسألة العلم - :

فيظهر لك من هذا أنّ كلّ ما يعقل فإنّه ذات موجودة تتقرّر فيها الجلايا تقرّر شيء في شيء آخر (2).

ثمّ قال : ولعلّك تقول : إن كانت المعقولات لا تتّحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض ، ثمّ قد سلّمت أنّ واجب الوجود يعقل كلّ شيء ، فليس واحدا حقّا ، بل هناك كثرة ، فنقول : إنّه لمّا كان يعقل ذاته بذاته ، ثمّ يلزم قيّوميّته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة ، جاءت الكثرة لازمة متأخّرة لا داخلة في الذات مقوّمة ، وجاءت أيضا على ترتيب ، وكثرة اللوازم من الذات - مباينة أو غير مباينة - لا تثلم الوحدة ، والأوّل تعالى تعرض له كثرة لوازم إضافيّة وغير إضافيّة وكثرة سلوب ، وبسبب ذلك كثرت الأسماء ولكن لا تأثير لذلك في وحدانيّة ذاته تعالى (3). انتهى.

والمراد من الترتيب ما بيّنه في التعليقات حيث قال : الأوّل تعالى هو سبب في لزوم المعلومات له ووجوبها عنه لكن على ترتيب وهو ترتيب السبب والمسبّب ؛ فإنّه مسبّب الأسباب وهو سبب معلوماته ، فيكون بعض الشيء مقدّما علميّته له على بعض ، فيكون بوجه ما علّة لأن عرف الأوّل معلولها ، وبالحقيقة فإنّه علّة كلّ معلوم وسبب لأن علم كلّ شيء.

مثال ذلك أنّه علّة لأن عرف العقل الأوّل ، ثمّ إنّ العقل الأوّل هو علّة لأن عرف لازم العقل الأوّل ، فهو وإن كان سببا لأن عرف العقل الأوّل ولوازمه ، فبوجه ما صار

ص: 174


1- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 293 - 297.
2- نفس المصدر.
3- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 302 - 303.

العقل الأوّل علّة لأن عرف [ الأوّل ] (1) لوازم العقل الأوّل (2). انتهى.

ثمّ إنّ المصنّف في شرح الإشارات ردّ على الشيخ ، فقال : لا شكّ في أنّ القول بتقرّر لوازم الأوّل في ذاته قول بكون الشيء فاعلا وقابلا معا ، وقول بكون الأوّل موصوفا بصفات غير إضافيّة ولا سلبيّة ، وقول بكونه محلاّ لمعلولاته الممكنة المتكثّرة ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وقول بأنّ معلوله الأوّل غير مباين لذاته ، وبأنّه تعالى لا يوجد شيئا ممّا يباينه بذاته ، بل بتوسّط الأمور الحالّة فيه ، إلى غير ذلك ممّا يخالف الظاهر من مذهب الحكماء. والقدماء القائلون بنفي العلم عنه تعالى ، وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها ، والمشّاءون القائلون باتّحاد العاقل والمعقول إنّما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني (3). انتهى.

أقول - وباللّه التوفيق - : قد حقّقنا فيما مرّ من مباحث العلّة والمعلول أنّ المراد من القبول في قولهم : الواحد لا يكون فاعلا وقابلا ، هو القبول الانفعاليّ ، أعني القبول من الغير ؛ فإنّ القابل هذا القبول يجب أن يتعرّى في حدّ ذاته عن المقبول ، والفاعل لا يمكن أن يتعرّى في حدّ ذاته عن المفعول ؛ ضرورة أنّ المفعول فائض عنه وصادر منه ويمتنع فيضان الشيء عن العاري عن ذلك الشيء ، وكذا يمتنع قبول الشيء من الغير ما لا يتعرّى في حدّ ذاته عنه.

وهذا معنى قولهم في الاستدلال على هذا المطلب : إنّ نسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ، ونسبة القابل إلى المقبول بالإمكان ، فلو اجتمعا في شيء واحد ، لزم اجتماع الوجوب والإمكان في شيء واحد من جهة واحدة.

وأمّا قبول الشيء المقبول عن نفسه ، فلا يستدعي تعرية عنه في حدّ ذاته ، بل يمتنع ذلك فيه ، فلا ينافي كونه مفعولا لذلك الشيء كما أنّه مقبول له.

ص: 175


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- « التعليقات » : 153.
3- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 304.

وهذا معنى قول الشيخ : إنّ عاقليّته تعالى لهذه المعقولات إنّما هي لكونها صادرة عنه لا لكونها حاصلة فيه (1) ، وذلك لأنّ المتبادر من الحصول في الشيء هو أن يكون حاصلا فيه من غيره لا من ذاته.

قال في الشفاء في فصل سابق على الفصل المذكور : وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء ، وإلاّ فذاته إمّا متقوّمة بما يعقل ، فيكون تقوّمها بالأشياء ، وإمّا عارض لها أن تعقل ، فلا تكون واجبة الوجود من كلّ وجه وهذا محال. ويكون لو لا أمور من خارج لم يكن هو بحال ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره ، فيكون لغيره فيه تأثير. والأصول السابقة تبطل هذا وما أشبهه (2).

وقال في التعليقات :

تعليق : نفس تعقّله لذاته نفس وجود هذه الأشياء عنه ، ونفس وجود هذه الأشياء نفس معقوليّتها له على أنّها عنه (3).

تعليق : هو يعقل الأشياء لا على أنّها تحصل في ذاته كما نعقلها نحن ، بل على أنّها تصدر عن ذاته وأنّ ذاته سبب لها (4).

تعليق : إن ورد على ذات البارئ تعالى شيء من الخارج يكون ثمّة انفعال ويكون هناك قابل له ؛ لأنّه يكون بعد ما لم يكن ، وكلّ ما يفرض أنّه يكون له بعد ما لم يكن فإنّه يكون ممكنا فيه ، فبطل أن يكون واجب الوجود ، فيؤدّي ذلك إلى تغيّر في ذاته أو تأثير من خارج فيه فإذن تعقّل كلّ شيء من ذاته (5).

تعليق : هذه الموجودات من لوازم ذاته ، ولوازمه فيه بمعنى أنّه يصدر عنه ، لا أنّه

ص: 176


1- « التعليقات » : 153 ، وانظر « الشفاء » الإلهيّات : 364 - 365 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.
2- « الشفاء » الإلهيّات : 358 - 359 ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.
3- « التعليقات » : 153.
4- « التعليقات » : 153.
5- نفس المصدر : 117.

يصدر عن غيره فيه ثمّ قبله قبول انفعال.

وقولنا : فيه ، يعتبر على وجهين : أحدهما أن يكون فيه عن غيره. والآخر أن يكون فيه لا عن غيره ، بل فيه من حيث يصدر عنه (1).

تعليق : الأوّل - تعالى - يعقل الأشياء والصور على أنّه مبدأ لتلك الصور الموجودة المعقولة ؛ فإنّها فائضة [ عنه ] (2) مجرّدة غاية التجريد ليس فيه اختلاف صور مترتّبة متخالفة ، بل يعقلها بسيطة ومعا لا باختلاف ترتيب وليس يعقلها من خارج. وكما أنّ وجود الأوّل مباين لوجود الموجودات بأسرها ، فكذلك تعقّله مباين لتعقّل الموجودات ، وكذلك أحواله ، فلا يقاس حال من أحواله إلى حال ما سواه فهكذا يجب أن يعقل حتّى يسلم من التشبيه تعالى عن ذلك (3).

تعليق : إضافة البارئ - عزّ اسمه - إلى هذه المعقولات إضافة محضة معقولة ، لا إضافة المادّة إلى الصورة - أي القابل - أو وجود الصورة في المادّة ، بل الإضافة له إليها وهي معقولة لا من حيث هي موجودة ؛ لأنّه يعقلها من ذاته لا من خارج ، ويعقل من ذاته أنّه مبدأ لها ، وإن كان تعقّلها من حيث هي موجودة يكون إمّا أن يكون لا يعقل ذاته ويكون مدرك الشيء عند وجوده ، أو لا يكون مبدأ لها وهذا محال ؛ فإنّه يعقل ذاته وإدراكه لها من حيث شأنها أن يفيض عنها كلّ موجود ، وهذا الإدراك للذات يوجب الإدراك للأمر اللازم لذاته ، وهو صدور المعقولات عنه (4).

تعليق : القابل يعتبر فيه وجهان : أحدهما أن يكون يقبل شيئا من خارج ، فيكون ثمّة انفعال في هيولى تقبل ذلك الشيء الخارج. وقابل (5) من ذاته لما هو في ذاته

ص: 177


1- نفس المصدر : 119 - 120.
2- الزيادة أضفناها من المصدر.
3- « التعليقات » : 121.
4- نفس المصدر : 125.
5- هذا هو الوجه الثاني.

لا من خارج ، فلا يكون ثمّة انفعال ، فإن كان هذا الوجه الثاني صحيحا ، فجائز أن يقال على البارئ تعالى (1).

تعليق : وجوده - تعالى - مباين لسائر الوجودات ، وتعقّله لسائر التعقّلات ؛ فإنّه يعقله على أنّه عنه ، وتعقّل غيره على أنّه فيه (2).

تعليق : اللازم ما يلزم الشيء لأنّه هو ولا يقوّم الشيء ، واللوازم كلّها على هذا ، أي تلزم ملزومها لأنّه هو (3).

تعليق : لوازم الأوّل تكون صادرة عنه لا حاصلة فيه فلذلك لا يتكثّر بها ؛ لأنّه مبدؤها فلا يرد عليه من خارج ، ومعنى اللزوم أن يلزم شيء شيئا بلا واسطة شيء ، ولوازم الأوّل لمّا كان هو مبدؤها كانت لازمة له وصادرة عنه ، لا لازمة له عن غيره حاصلة فيه ، وصفاته لازمة لذاته على أنّها صادرة عنه لا على أنّها حاصلة فيه ؛ فلذلك لا يتكثّر بها فهو موجبها ، فتلك اللوازم وتلك الصفات تلزم ذاته لأنّه هو - أي هو سببها - لا شيء آخر ، واللوازم التي تلزم غيره لا تلزمه لأنّه هو فاللوازم كلّها حقيقتها أنّها تلزم الشيء لأنّه هو (4).

تعليق : لازم الأوّل لا يجوز إلاّ أن يكون واحدا بسيطا ؛ فإنّه لا يلزم عن الواحد إلاّ واحد ، ثمّ اللازم الآخر يكون لازم لازمه ، ثمّ يكون الأمر على ذلك ويكون كثرة اللوازم على هذا الوجه (5).

تعليق : واجب الوجود لا يصحّ أن يكون فيه كثرة حتّى يكون ذاته مجتمعة من أجزاء مثل بدن الإنسان ، أو من أجزاء كلّ واحد منها قائم بذاته كأجزاء البيت من الخشب والطين ، ولا من أجزاء كلّ واحد منها غير قائم بذاته كالمادّة والصورة

ص: 178


1- نفس المصدر : 115.
2- نفس المصدر : 157.
3- نفس المصدر : 180.
4- « التعليقات » : 180.
5- نفس المصدر.

للأجسام الطبيعيّة ؛ فإنّه لو كان ذاته متعلّقا بالأجزاء لكان وجوب وجوده يتعلّق بأسباب ، وكلّ وجود يتعلّق وجوبه بأسباب لا يكون واجب الوجود بذاته.

ولا يصحّ أيضا أن يكون فيها صفات مختلفة ؛ فإنّه لو كانت تلك أجزاء لذاته ، كان الحكم فيها ما ذكر.

وإن كانت تلك الصفات عارضة لذاته ، كان وجود تلك الصفات إمّا عن سبب من خارج ويكون واجب الوجود قابلا له ، ولا يصحّ أن يكون واجب الوجود بذاته قابلا لشيء ؛ فإنّ القبول لما (1) فيه معنى ما بالقوّة.

وإمّا أن تكون تلك العوارض توجد فيه عن ذاته ، فيكون إذن قابلا كما هو فاعل.

اللّهمّ إلاّ أن تكون تلك الصفات والعوارض لوازم ذاته ؛ فإنّه حينئذ لا تكون ذاته موضوعة لتلك الصفات ؛ لأنّ تلك الصفات موجودة فيه ، بل لأنّها لازمة له لأنّه هو.

وفرق بين أن يوصف جسم بأنّه أبيض ؛ لأنّ البياض يوجد فيه من خارج ، وبين أن يوصف بأنّه أبيض ؛ لأنّ البياض من لوازمه وإنّما وجد فيه لأنّه هو لو كان نحو ذلك في الجسم. وإذا أخذت حقيقة الأوّل على هذا الوجه ، ولوازمه على هذه الجهة ، استمرّ (2) هذا المعنى فيه ، وهو أنّه لا كثرة فيه وليس هناك قابل وفاعل ، بل هو - من حيث هو - قابل فاعل.

وهذا الحكم مطّرد في جميع البسائط ؛ فإنّ حقائقها هي أنّه تلزم عنها اللوازم ، وفي ذواتها تلك اللوازم على أنّها - من حيث هي - قابلة فاعلة ؛ فإنّ البسيط عنه وفيه شيء واحد ؛ إذ لا كثرة فيه ولا يصحّ فيه غير ذلك ، والمركّب ما عنه غير ما فيه ؛ إذ هناك كثرة ، وثمّ وحدة ، وحقيقته أنّه يلزمه ذلك ، فيكون عنه وفيه شيئا واحدا ، وكلّ اللوازم هذا حكمها ؛ فإنّ الوحدة في الأوّل هي عنه وفيه لأنّها من لوازمها ، والوحدة في غيره واردة عليه من خارج ، فهي « فيه » لا « عنه » وهو هناك قابل ، وفي

ص: 179


1- في « شوارق الإلهام » : « فإنّ القبول ما فيه معنى ما بالقوة ».
2- في « شوارق الإلهام » : « يستمرّ ».

الأوّل أيضا القابل والفاعل شيء واحد (1).

تعليق : النفس الإنسانيّة لا يصحّ أن تكون فاعلة للمعقولات ؛ لأنّها قابلة لها بعد أن لم تكن ومثل ذلك يجب أن يسبقه معنى ما بالقوّة ، فأمّا الشيء الذي حقيقته أنّه يلزمه المعقولات ، فلا يجب أن يكون فيه معنى ما بالقوّة ، ولمّا كانت النفس الإنسانيّة تعقل المعقولات بعد أن لم تكن متعقّلة ، كان فيها معنى ما بالقوّة (2).

تعليق : الذي يعقل (3) المعقولات لا يصحّ أن يكون فاعلا للمعقولات ؛ لأنّه لا يصحّ أن يكون شيء واحد فاعلا وقابلا بعد أن لم يكن قابلا وفاعلا ؛ لأنّه يسبقه معنى ما بالقوّة (4). انتهى كلام التعليقات.

وقال تلميذه بهمنيار : وإذا كان واجب الوجود تعقّل (5) ذاته فتعقّل أيضا لوازم ذاته ، وإلاّ فليس تعقّل ذاته بالتمام. واللوازم التي هي معقولاته وإن كانت أعراضا موجودة فيه ، فليس ممّا يتّصف بها أو ينفعل عنها ؛ فإنّ كونه واجب الوجود هو بعينه كونه مبدأ للوازمه أي معقولاته ، بل ما صدر عنه إنّما يصدر عنه بعد وجوده عنه وجودا تامّا ؛ وإنّما يمتنع أن يكون ذاته محلاّ لأعراض ينفعل عنها ، أو يستكمل بها ، أو يتّصف بها ، بل كماله في أنّه بحيث يصدر عنه اللوازم لا في أنّها توجد له ، فإذا وصف بأنّه تعقّل هذه الأمور ، فإنّه يوصف به لأنّه يصدر عنه هذه لا لأنّه محلّها ؛ ولوازم ذاته هي صور معقولاته لا على أنّ تلك الصور تصدر عنه فيعقلها ، بل نفس تلك الصور - لكونها مجرّدة عن الموادّ - تفيض عنه وهي معقولة له ، فنفس وجودها عنه نفس معقوليّتها له ، فمعقولاته إذن فعليّة (6). انتهى كلام التحصيل.

ص: 180


1- « التعليقات » : 181.
2- نفس المصدر : 182.
3- في المصدر : « لا يقبل ».
4- « التعليقات » : 182.
5- في « شوارق الإلهام » و « التحصيل » : « ويعقل ذاته فيعقل ... فليس يعقل ».
6- « التحصيل » : 574.

فبهذا التحقيق اندفع الأوّل والثاني من المفاسد.

وأمّا الثالث منها - وهو كونه محلاّ للمعلولات المتكثّرة (1) - فينحلّ إلى ثلاثة مفاسد :

أحدها : كونه محلاّ. وهذا أيضا قد اندفع به ؛ إذ لا فرق بينه وبين كونه قابلا.

وثانيها : كونه محلاّ للكثرة من حيث هي كثرة. وهذا مندفع ؛ لكون تلك الكثرة على الترتيب.

وثالثها : كونه محلاّ للمعلول من حيث هو معلول ؛ لأنّ الظاهر من مذاهب الحكماء هو اتّفاقهم على امتناع كونه تعالى محلاّ لشيء من معلولاته.

وهذا مع الوجهين الباقيين من تلك المفاسد مندفعة ، بأنّه على تقدير التسليم فالمراد من المعلول وكذا من الإيجاد ما يكون بحسب الوجود العينيّ ، فلا ينافي كونه محلاّ لمعلوله بحسب الوجود العقليّ ، ولا كونه غير مباين ، ولا كونه غير موجد لشيء من معلولاته بحسب الوجود الخارجيّ إلاّ بتوسّط ما هو حالّ فيه ومعلول له بحسب الوجود العقليّ.

وقد يجاب أيضا عن لزوم كون المعلول الأوّل غير مباين لذاته تعالى بأنّه إن أراد بعدم المباينة قيام صورته بذاته تعالى ، فهو عين محلّ النزاع.

وإن أراد به كون صورته عين ذاته تعالى - بناء على أنّ صدور كلّ معلول إذا كان بتوسّط صورته السابقة عليه ، فلو لم يكن صورة المعلول الأوّل عين الواجب ، لزم التسلسل - فجوابه أنّ هذه الصورة نفس وجودها عنه نفس عقله لها ، فهي من حيث هي موجودة معقولة ، ومن حيث هي معقولة موجودة ، فنفس إيجاده تعالى إيّاها عين علمه تعالى بها ، وكلّ إيجاد لا يكون نفس العلم يحتاج إلى علم سابق. وأمّا إذا كان الإيجاد والعلم واحدا وكانت الصورة العلميّة نفس الموجود ، فلا يحتاج إلى علم سابق ؛ فإنّ الإيجاد يجب أن يكون عن علم ، ولا يجب أن يكون العلم أيضا

ص: 181


1- تقدّم بيانها في ص 157.

عن علم ، هذا.

وينبغي أن يعلم أنّ بناء العلم الحصولي على وجوب كون هذه الموجودات عن علم متعلّق بهذا النظام والترتيب الواقعين على أكمل وجوه الخيريّة وأتمّها ، وامتناع صدور مثل ذلك النظام لا عن علم به بل بمحض اتّفاق أو طبع.

وهذا العلم يجب أن يكون متقدّما على الصدور ومتعلّقا بتفاصيل النظام ، فلا يجوز كونه عين تلك الأشياء ولا كونه إجماليّا كما سيأتي ، فثبت وجوب كون هذا النظام معقولا له تعالى سابقا على صدور الأشياء وسببا له.

وهو معنى قول الشيخ : إنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود مع الترتيب الذي يفعله خيرا ونظاما (1) ، وأنّ الأشياء لمّا عقلت هكذا وجدت لا أنّها وجدت ثمّ عقلت. وهذا هو مرادهم من العناية (2).

قال في الإشارات : فالعناية هي إحاطة علم الأوّل بالكلّ وبالواجب أن يكون عليه الكلّ حتّى يكون على أحسن النظام وبأنّ ذلك واجب عنه وعن إحاطته به ، فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد وطلب من الأوّل الحقّ ، فعلم الأوّل بكيفيّة الصواب في ترتيب وجود الكلّ منبع لفيضان الخير في الكلّ (3).

وقال في كتاب المبدأ والمعاد : وأمّا وجود العناية من العلل العالية في العلل السافلة ، فهي أنّ كلّ علّة عالية فإنّها تعقل نظام الخير الذي يجب أن يكون عنه في كلّ ما يكون ، فيتبع معقوله وجود ذلك النظام ، وليس يمكننا أن ننكر التدبير في أعضاء الحيوان والنبات ، والزينة (4) الطبيعيّة ، ولا يمكننا أن نجعل القوى العالية بحيث

ص: 182


1- « الشفاء » الإلهيّات : 363 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة ، و 415 ، الفصل السادس من المقالة التاسعة. وانظر التعليقات : 157.
2- « الشفاء » الإلهيّات : 363 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة ، و 415 ، الفصل السادس من المقالة التاسعة. وانظر التعليقات : 157.
3- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 318.
4- في « شوارق الإلهام » و « التعليقات » : « الرتبة ».

تعمد (1) تكوّن هذه الفاسدات أو ما دونها فقد بيّنّا هذا ، بل الوجه المخلّص عن الباطل (2) أنّ كلّ واحدة منها تعقل ذاته ، وهو تعقّله مبدأ النظام الذي يجب أن يكون عنه وذلك صورة ذاته ، فيجوز أن يكون ذلك بالكلّيّة للمبدإ الأوّل.

وأمّا الجزئيّات والتغاير فلا يجوز أن تنسب إليه ، فإذا كان كذلك فإنّ تعقّل كلّ واحدة منها لصورة نظام الخير - الذي يمكن أن يكون عنه - مبدأ لوجود ما يوجد عنه على نظمه ، فالصور المعقولة التي عند المبدأ مبدأ للصور الموجودة للثواني. ويشبه أن يكون أفلاطن يعني بالصور هذه الصور ، ولكن ظاهر كلامه منتقض فاسد قد فرغ الفيلسوف من بيانه في عدّة كتب ، وإذا كانت كذلك ، كانت عناية اللّه مشتملة على الجميع (3). انتهى.

فظهر أنّ وجود العناية ممّا لا بدّ منه في وجود الموجودات ، وهو لا يكون إلاّ بتقدّم العلم الصوريّ بها عليها ، فأمّا وجوب كون هذه الصور المعقولة قائمة بذاته تعالى ، فإنّما لزم لاستحالة سائر الاحتمالات ، على ما مرّ فيما نقلناه عن الشيخ في رسالة منسوبة إليه. وأيضا لكون مناط المعقوليّة - على ما هو المعلوم المتحقّق - إمّا العينيّة أو القيام بالعاقل.

وأمّا كفاية مطلق الحضور والحصول في التعقّل ، فغير معلومة ، بل في محلّ المنع ؛ فإنّ كون حصول المعلول للعلّة أشدّ من حصول المقبول للقابل في كونه حصولا للغير ممنوع وإن كان الربط آكد.

وكون الأوّل بالوجوب والثاني بالإمكان لا يقتضي إلاّ ذلك ، وهل هذا إلاّ كما يقال : نسبة السواد إلى قابله بالإمكان وإلى فاعله بالوجوب ، والنسبة الأولى منشأ للاتّصاف فأن تكون النسبة الثانية منشأ للاتّصاف أولى.

وهذا ممّا لا يمكن للعقل تصديقه ، كيف؟ والعلم بالشيء يقتضي نسبة مخصوصة ،

ص: 183


1- في المصدر : « أن نجعل القوى العالية عشيقة بعمل يتكوّن عنها هذه الفاسدات ».
2- في المصدر : « الباطلين ».
3- « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 84 - 85.

فلا يجدي تحقّق نسبة أخرى وإن كانت آكد من الأولى على ما قيل.

وعلى تقدير تسليم كفايته في مطلق التعلّق ، فلا يكفي فيما نحن بصدده ؛ لما عرفت من وجوب تقدّم هذا التعقّل على الوجود ، فظهر ضعف مختار صاحب الإشراق في علمه تعالى (1).

وهذا وارد على مذهب ثالس (2) أيضا ؛ فإنّه إذا كان حضور المعلولات بذواتها للعاقل غير كاف في كونها معقولات ، كان قيام صورها بما لا يكفي حضوره بذاته في كونه معقولا كذلك ، كما لا يخفى.

ويرد عليه أيضا صحّة كون زيد عالما بالأشياء بصور قائمة بذهن عمرو إلاّ أن يكون محلّ تلك المعقولات مرتبطا به تعالى ارتباط الآلة بذي الآلة ، وذلك أشنع.

وأيضا أن يكون صدور ذلك العقل الذي هو محلّ تلك الصور عن غير علم ، فلا يصدق في شأنه أنّه تعالى لمّا عقل خيرا وجد ، كما مرّ في كلام الشيخ.

فأحرى المذاهب بالقبول هو مختار الشيخ ؛ لسلامته عن المفاسد المذكورة إلى الآن كما عرفت.

وأمّا وجوب كون صفاته الكماليّة عين ذاته تعالى ، فلا ينافيه أيضا ؛ لأنّ الشيخ قد صرّح غير مرّة بأنّ كماله تعالى ومجده ليس بهذه الصور ، بل بأن يفيض عنه هذه الصور معقولة.

قال في الشفاء في صدر فصل نسبة المعقولات إليه تعالى : ثمّ يجب لنا أن نعلم أنّه إذا قيل للأوّل : عقل ، قيل على المعنى البسيط الذي عرفته في كتاب النفس ، وأنّه ليس فيه اختلاف صور مترتّبة متخالفة كما يكون في النفس ، فهو كذلك تعقّل (3)

ص: 184


1- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 150. وانظر « الأسفار الأربعة » 6 : 230 ؛ « شرح المنظومة » قسم الحكمة :1. 166.
2- في « شوارق الإلهام » : « انكسيمايس ».
3- في « الشفاء » و « شوارق الإلهام » : « يعقل » بدل « تعقّل ».

الأشياء دفعة واحدة من غير أن يكثر بها في جوهره أو يتصوّر في حقيقة ذاته بصورها ، بل يفيض عنه صورها معقولة ، وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليّته ؛ لأنّه تعقّل ذاته وأنّها مبدأ كلّ شيء [ فيعقل من ذاته كلّ شيء ] (1).

وقال في التعليقات :

تعليق : ليس علوّ الأوّل ومجده هو تعقّل الأشياء بل علوّه ومجده بأن يفيض عنه الأشياء معقولة ، فيكون بالحقيقة علوّه ومجده بحيث يخلق ، لا بأنّ الأشياء خلقه ، فعلوّه ومجده إذن بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات (2).

وقال في رسالة الفصول :

فصل : ليس علوّ الأوّل ومجده بأن تعقّل الأشياء ، بل بأن يفيض عنه الأشياء معقولة ، فيكون بالحقيقة علوّه ومجده بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات. وكذلك الأمر في الخلق ؛ فإنّ علوّه ومجده بأنّه بحيث يخلق ، لا بأنّ الأشياء خلقها ، فعلوّه ومجده إذن بذاته (3).

وقال التلميذ في التحصيل : وليس مجده بحيث يحصل له تلك المعقولات ، بل مجده بحيث يصدر عنه تلك المعلومات وليس هو عالما لأنّ له تلك الصور ، بل هو عالم بمعنى أنّه يصدر عنه تلك الصور (4). انتهى.

وهذا هو ما قال المصنّف في شرح الرسالة :

كما أنّ الكاتب يطلق على من يتمكّن من الكتابة - سواء كان مباشرا للكتابة أو لم يكن - وعلى من يباشرها حال المباشرة باعتبارين ، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن من العلم - سواء كان في حال استحضار المعلومات أو لم يكن - وعلى من

ص: 185


1- « الشفاء » الإلهيّات : 362 - 363 الفصل السابع من المقالة الثامنة.
2- « التعليقات » : 174.
3- الرسالة غير متوفّرة لدينا.
4- « التحصيل » : 575.

يكون مستحضرا حال الاستحضار باعتبارين ، فوقوع اسم العلم على الأمر الأوّل يكون بالاعتبار الأوّل ، وعلى الأمر الثاني بالاعتبار الثاني والعالم الذي يكون علمه ذاتيا فهو بالاعتبار الأوّل كأنّه بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته (1). انتهى.

واعلم أنّ هذا العقل هو الذي سمّاه المتأخّرون العلم الإجماليّ.

بيانه ما قاله الشيخ في كتاب النفس من طبيعيّات الشفاء حيث قال :

« تصوّر المعقولات على وجوه ثلاثة :

أحدها : التصوّر الذي يكون في النفس مفصّلا منظّما ، وربما كان ذلك التفصيل والنظام غير واجب ، بل يصحّ أن يغيّر ، مثاله أنّك إذا فصلت في نفسك معاني الألفاظ التي يدلّ عليها قولك : كلّ إنسان حيوان ، وجدت كلّ معنى منها كلّيّا لا يتصوّر إلاّ في جوهر غير بدنيّ ، ووجدت لتصوّرها فيه تقديما وتأخيرا ، فإن غيّرت ذلك - حتّى كان ترتيب المعاني المتصوّرة الترتيب المحاذي لقولك : الحيوان محمول على كلّ إنسان - لم تشكّ أنّ هذا الترتيب من حيث هو ترتيب معان كلّيّة لم يترتّب إلاّ في جوهر غير بدنيّ ، وإن كان أيضا يترتّب من وجه ما في الخيال ، فمن حيث المسموع لا من حيث المعقول ، وكان الترتيبان مختلفين ، والمعقول الصرف منه واحد.

والثاني : أن يكون قد حصل واكتسب لكنّ النفس معرضة عنه فليست تلتفت إلى ذلك المعقول ، بل قد انتقلت عنه مثلا إلى معقول آخر ؛ فإنّه ليس في وسع أنفسنا أن تعقل الأشياء معا دفعة واحدة.

ونوع آخر (2) من التصوّر وهو مثل ما يكون عندك من مسألة تسأل عنها ممّا علمته أو ممّا هو قريب من أن تعلم ، فحضرك جوابها في الوقت وأنت متيقّن بأنّك تجيب عنها [ ... ] (3) عن يقين منك بالعلم به قبل التفصيل والترتيب.

ص: 186


1- « شرح مسألة العلم » : 28.
2- هذا بمنزلة قوله : « ثالثها ».
3- إشارة إلى زيادة وردت في « الشفاء » ولم ترد في « شوارق الإلهام ».

فيكون الفرق بين التصوّر الأوّل والثاني ظاهرا ؛ فإنّ الأوّل كأنّه شيء قد أخرجته من الخزانة وأنت تستعمله ، والثاني كأنّه شيء لك مخزون متى شئت استعملته.

والثالث يخالف الأوّل بأنّه ليس شيئا مرتّبا في الفكر البتّة ، بل هو مبدأ لذلك مع مقارنته لليقين ، ويخالف الثاني بأنّه لا يكون شيئا معرضا عنه ، بل منظورا إليه نظرا ما بالفعل يقينا ؛ إذ يتخصّص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون.

فإن قال قائل : إنّ ذلك علم أيضا بالقوّة ولكن قوّة قريبة من الفعل ، فذلك باطل ؛ لأنّ لصاحبه يقينا بالفعل حاصلا لا يحتاج إلى أن يحصّله بقوّة بعيدة أو قريبة ، فذلك اليقين إمّا (1) لأنّه متيقّن أنّ هذا حاصل عنده إذا شاء علمه ، فيكون تيقّنه بالفعل بأنّ هذا حاصل بالفعل تيقّنا به بالفعل ؛ فإنّ الحصول حصول لشيء ، فيكون هذا الشيء الذي نشير إليه حاصلا بالفعل ؛ لأنّه من المحال أن يتيقّن أنّ المجهول بالفعل معلوم عنده مخزون [ ... ] (2) فهو بهذا النوع البسيط معلوم عنده ، ثمّ يريد أن يجعله معلوما بنوع آخر.

ومن العجائب أنّ هذا المجيب حين يأخذ في تعليم غيره تفصيل ما هجس في نفسه دفعة يكون مع ما يعلّمه يتعلّم العلم بالوجه الثاني ، فيترتّب تلك الصور فيه مع ترتيب ألفاظه ، فأحد هذين هو العلم الفكري الذي إنّما يستكمل به تمام الاستكمال إذا ترتّب وتركّب. والثاني هو العلم البسيط الذي ليس من شأنه أن يكون له في نفسه صورة بعد صورة لكن هو واحد عنه يفيض الصور في قابل الصور ، فذلك علم فاعل للشيء الذي نسمّيه علما فكريّا ومبدأ له وذلك هو للقوّة العقليّة المطلقة من النفس المشاكلة للعقول الفعّالة. وأمّا التفصيل ، فهو للنفس من حيث هو نفس ، فما لم يكن له ذلك ، لم يكن له علم نفسانيّ (3). انتهى.

ص: 187


1- كلمة « إمّا » غير موجودة في « الشفاء ».
2- إشارة إلى زيادة وردت في « الشفاء » ولم ترد في « شوارق الإلهام ».
3- « الشفاء » الطبيعيات 2 : 213 - 215 ، الفصل السادس من المقالة الخامسة من الظنّ السادس.

ثمّ اعلم أنّه قد ظهر من هذا البيان أنّ التفاوت بين المعلوم بالعلم الإجماليّ البسيط ، وبين المعلوم بالعلم التفصيليّ ليس إلاّ في نحو الإدراك لا في نفس المدرك ؛ فإنّ المعلوم بالحالة الثالثة المسمّاة بالعلم الإجماليّ هو أنّ جميع ما له مدخل في الجواب عن هذه المسألة حاصل لي ، وهذه صورة علميّة واحدة مطابقة لجملة المقدّمات التي لها مدخل في الجواب من حيث الجملة وليست صورة كلّ واحدة من تلك المقدّمات ملحوظة بهذه الملاحظة فإذا أخذ في الجواب من حيث الجملة ، وليست صورة كلّ واحدة من تلك المقدّمات ملحوظة بهذه الملاحظة ، فإذا أخذ في الجواب والاستنباط تحصل كلّ مقدّمة بصورتها المخصوصة المطابقة إيّاها بخصوصها ، فتترتّب في النفس تلك المقدّمات ويتكثّر تلك الصور ، فيحصل الحالة الأولى المسمّاة بالعلم التفصيليّ الفكريّ ، فالمعلوم بكلتا الحالتين ليس إلاّ ما هو جواب عن المسألة لكن في إحداهما بصورة واحدة ، وفي الأخرى بصور متكثّرة.

ونظير ذلك في التصوّرات تصوّر المحدود كالإنسان ؛ فإنّه يكون بصورة واحدة ، وتصوّر الحدّ كالحيوان الناطق ؛ فإنّه بصور متعدّدة ، فالأوّل علم إجماليّ بحقيقة الإنسان ، والثاني علم تفصيليّ بها ، والمعلوم في كلا الحالين ليس إلاّ حقيقة الإنسان. يدلّ على ذلك صريحا قول الشيخ : وكان الترتيبان مختلفين والمعقول الصرف واحد (1).

هذا ، فما أبعد عن الحقّ من زعم أنّ العلم الإجماليّ بهذا المعنى حالة متوسّطة بين العقل المحض الذي هو العلم بالمعلومات مفصّلة ، متميّزا بعضها عن بعض ، وبين القوّة المحضة التي هي حالة اختزان المعلومات وحصول الأمر المسمّى بالملكة ؛ فإنّه علم بجملة مخصوصة من معلومات متعدّدة من حيث الجملة ، ومبدأ التفاصيل علوم متعلّقة بخصوصيّات تلك المعلومات ، فهو بالفعل من حيث إنّه علم بجملة تلك

ص: 188


1- مرّ في ص 186 من هذا الجزء.

المعلومات ، وبالقوّة من حيث العلم بخصوصيّات تلك المعلومات ؛ وذلك لأنّه ليس في المثال قوّة من حيث كونه علما بحقيقة الجواب ، بل من حيث إنّ هذه الصورة الواحدة قابلة للتحليل إلى صور كثيرة كلّ واحدة من هذه الصورة الواحدة وتلك الصور الكثيرة نحو على حدة من العلم بحقيقة الجواب. والعالم بالجواب بالنحو الأوّل ليس قابلا للعلم به بالنحو الآخر ؛ فإنّ أحدهما للقوّة العقليّة الصرفة ، والآخر للقوّة النفسانيّة ، فليتفطّن.

فإذا عرفت ما ذكرناه فمعنى كونه تعالى عقلا بسيطا بالأشياء هو كون ذاته تعالى نفس العلم بالموجودات بلا تكثّر صور في ذاته ، وهذا يمكن أن يكون مراد من قال باتّحاد العاقل والمعقول ، فالاتّحاد معقول في علمه تعالى بالأشياء ، وبالجملة ، في كلّ عقل مفارق بالقياس إلى معلولاته ، وغير معقول في عقلنا بالأوّل تعالى وبالمبادئ المفارقة ومعلولاتها. وهذا ما وعدناك سابقا في مبحث إبطال الاتّحاد من مسألة العلم.

وأمّا أنّه كيف يمكن ذلك - أعني كون ذاته تعالى علما بالأشياء المستلزم لمطابقتها إيّاها - ، فسيأتي منّا بيانه إن شاء اللّه.

والشيخ أيضا غير غافل عن ذلك - أعني عن اتّحاد العاقل والمعقول بالمعنى المذكور - بل صرّح به في التعليقات حيث قال :

تعليق : لا محالة أنّه تعالى يعقل ذاته ويعقلها مبدأ للموجودات ، فالموجودات معقولات له وهي غير خارجة عن ذاته ؛ لأنّ ذاته مبدأ لها ، فهو العاقل والمعقول وليصحّ هذا الحكم فيه ولا يصحّ فيما سواه ؛ فإنّ ما سواه يعقل ما هو خارج عن ذاته (1).

تعليق : كلّ ما يعقل عن ذاته فإنّه هو العقل والمعقول والعاقل ، وهذا الحكم

ص: 189


1- « التعليقات » : 159.

لا يصحّ إلاّ في الأوّل. وأمّا ما يقال - أنّا إذا عقلنا شيئا فإنّا نصير ذلك المعقول - فهو محال ؛ فإنّه يلزم أن نكون إذا عقلنا البارئ نتّحد معه ونكون هو ، فهذا الحكم لا يصحّ إلاّ في الأوّل ؛ فإنّه يعقل ذاته ، وذاته مبدأ المعقولات ، فهو يعقل الأشياء من ذاته ، فكلّ شيء حاصل له حاضر عنده معقول له بالفعل (1).

وقال في المبدأ والمعاد : وليس كون الكلّ عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكلّ عنه لا لمعرفة ولا رضى منه ، وكيف يصحّ هذا وهو عقل محض يعقل ذاته؟ فيجب أن يعقل أنّه يلزمه وجود الكلّ عنه ؛ لأنّه لا يعقل ذاته إلاّ عقلا محضا ومبدأ أوّلا. وتعقّل وجود الكلّ عنه على أنّه مبدؤه هو ذاته لا غير ذاته ؛ فإنّ العقل والعاقل والمعقول فيه واحد ، وذاته راضية لا محالة بما عليه ذاته ، ولكن تعقّله الأوّل وبالذات أنّه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود ، فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون ، لا عقلا خارجا عن القوّة إلى الفعل ، ولا عقلا منتقلا من معقول إلى معقول ؛ فإنّ ذاته بريئة عمّا بالقوّة من كلّ وجه على ما أوضحنا قبل ، بل عقلا واحدا معا ، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود أنّه كيف يمكنه ، وكيف يكون وجود الكلّ على مقتضى معقولة ؛ فإنّ الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها - على ما علمت - علم وقدرة وإرادة.

وأمّا نحن ، فنحتاج في تنفيذ ما نتصوّره إلى قصد وإلى حركة وإلى إرادة ، وهذا لا يحسن فيه ، ولا يصحّ ؛ لبراءته عن الاثنينيّة (2). انتهى.

فالشيخ مع تفطّنه لذلك ذهب إلى القول بالعلم الصوري ؛ تحقيقا لأمر العناية وتحصيلا للعلم الذي هو سبب النظام ومقدّم عليه ؛ فإنّ العلم بالنظام وأمر العناية إنّما يتمّ بالعلم التفصيليّ ولا يكفي الإجماليّ فقط ، وأيضا فرارا من الشناعة الواردة على

ص: 190


1- نفس المصدر.
2- « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 75 - 76.

القدماء في نفيهم علمه تعالى بما سوى ذاته كما شنع الغزاليّ في كتاب التهافت (1) على الفلاسفة بذلك ، وقال : إنّ جميعهم قائلون به إلاّ ابن سينا وصدّقه الحكيم ابن رشد في ذلك لكن قال : إنّ مرادهم أنّه لا يعلم الأشياء من خارج ذاته لئلاّ يلزم استكماله بالغير ، بل يعلمه من ذاته ، وأنّهم لا يقولون : إنّه يعلم غير ذاته لئلاّ يتوهّم أنّه يعلمه من خارج ذاته ، وأنّ ابن سينا أراد الجمع بين القول بأنّه لا يعلم غير ذاته ، وأنّه يعلم الأشياء كلّها بأنّه يعلمها من ذاته لا من خارج ذاته ، فهو لا يعلم ما هو خارج عن ذاته ، هذا.

وأمّا المعلّم الثاني ، فقال في كتاب الجمع بين الرأيين ما ملخّصه : أنّه لمّا كان البارئ - جلّ جلاله - بإنّيّته وذاته مباينا لجميع ما سواه وذلك له بمعنى أشرف وأفضل وأعلى بحيث لا يناسبه شيء في إنّيّته ولا يشاكله ولا يشبهه حقيقة ولا مجازا ، ثمّ مع ذلك لم يكن بدّ من وصفه وإطلاق اللفظ فيه من هذه الألفاظ المتواطئة عليه ؛ فإنّ الواجب الضروري أن يعلم أنّ مع كلّ لفظة نقولها في شيء من أوصافه معنى لذاته بعيد من المعنى الذي نتصوّره من تلك الألفاظ أشرف وأعلى حتّى إذا قلنا : إنّه موجود ، علمنا مع ذلك أنّ وجوده ليس كوجود سائر ما هو دونه ، وإذا قلنا : حيّ ، علمنا أنّه حيّ بمعنى أشرف ممّا نعلمه من الحيّ الذي هو دونه ، وكذلك الأمر في سائرها.

فحينئذ نقول : لمّا كان اللّه تعالى حيّا مريدا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب أن يكون عنده صور ما يريد إيجاده في ذاته ، ولو لم يكن للموجودات صور وآثار في ذات الموجد الحيّ فما الذي كان يوجده؟ وعلى أيّ مثال ينحو بما يفعله ويبدعه؟ أما علمت أنّ من نفى هذا المعنى عن الفاعل الحيّ المريد ، لزمه القول بأنّ ما يوجده إنّما يوجده جزافا وعلى غير قصد ولا ينحو نحو غرض مقصود بإرادته ، وهذا من

ص: 191


1- نقله عن ابن رشد في « تهافت التهافت » : 343.

أشنع الشناعات (1).

وقال في فصوصه :

« فصّ : واجب الوجود لا موضوع له ولا عوارض له [ ... ] فهو ظاهر (2). يعني أنّه ظاهر بذاته على ذاته ، والمراد إثبات كونه عالما بذاته ؛ لكونه مجرّدا.

ثمّ قال :

فصّ : واجب الوجود مبدأ كلّ فيض وهو ظاهر بذاته على ذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو - من حيث هو ظاهر - ينال الكلّ من ذاته ، فعلمه بالكلّ بعد ذاته وعلمه بذاته ، [ ... ] ويتّحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته ، فهو الكلّ في حدة (3).

فصّ : علمه الأوّل لا ينقسم ؛ لأنّه عين ذاته ، وعلمه الثاني عن ذاته إذا تكثّر لم يكن الكثرة في ذاته ، بل بعد ذاته ( وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ) (4) و (5).

فصّ : كلّ ما عرف سببه من حيث يوجبه فقد عرف ، وإذا رتّبت الأسباب ، فقد انتهت أواخرها إلى الجزئيّات [ انتهاء على سبيل الإيجاب ] (6) فكلّ كلّيّ وجزئيّ ظاهر عن ظاهريّته الأولى لكن ليس يظهر له شيء منها عن ذواتها داخلة في الزمان والآن ، بل عن ذاته والترتيب الذي عنده شخصا فشخصا بغير نهاية ، فعالم علمه بالأشياء بذاته هو الكلّ الثاني [ لا نهاية له ولا حدّ وهناك الأمر ] (7) و (8). انتهى ما أردناه منه.

فقوله : هو الكلّ الثاني ، إشارة إلى اعتبار [ ذاته تعالى مع العلم الصوريّ المتأخّر

ص: 192


1- « الجمع بين رأيي الحكيمين » : 106.
2- « فصوص الحكم » للفارابيّ : 53 ، الفصّ 10.
3- نفس المصدر : 58 ، الفصّ 11.
4- الأنعام (6) : 59.
5- « فصوص الحكم » للفارابيّ : 60 ، الفصّ 14.
6- العبارات غير موجودة في « شوارق الإلهام » ، الطبعة الحجريّة.
7- العبارات غير موجودة في « شوارق الإلهام » ، الطبعة الحجريّة.
8- « فصوص الحكم » للفارابيّ : 59 ، الفصّ 13.

عن ذاته ، فيكون الكلّ الأوّل هو علمه بذاته الذي هو عين ذاته وعين علمه بالموجودات بالعلم الاتّحاديّ ] (1) الإجماليّ الذي هو عين ذاته وهو المراد من ظاهريّته الأولى.

وقال أيضا :

فصّ : لا يجوز أن يقال : إنّ الحقّ الأوّل يدرك الأمور المبتدعة عن قدرته من جهة تلك الأمور كما ندرك الأشياء المحسوسة من جهة حضورها وتأثيرها فينا ، فتكون هي الأسباب لعالميّة الحقّ ، بل يجب أن يعلم أنّه يدرك الأشياء من ذاته تقدّست ؛ لأنّه إذا لحظ ذاته لحظ القدرة المستقلّة ، فلحظ من القدرة المقدور ، فلحظ الكلّ ، فيكون علمه بذاته سبب علمه بغيره (2).

ثمّ قال :

ليس علمه بذاته مفارقا لذاته ، بل هو ذاته ، وعلمه بالكلّ صفة لذاته ليست هي ذاته ، بل لازمة لذاته ، وفيها الكثرة غير المتناهية ، فلا كثرة في الذات ، بل بعد الذات ؛ فإنّ الصفة بعد الذات لا بزمان ، بل بترتيب الوجود لكن تلك الكثرة ترتقي به ممّا يطول شرحه.

والترتيب يجمع الكثرة في نظام ، فالنظام وحدة ما ، وإذا اعتبر الحقّ ذاتا وصفات كان الكلّ في وحدة ، فإذا كان كلّ كلّ متمثّلا في قدرته وعلمه ، ومنهما يحصل حقيقة الكلّ مقرّرة ، ثمّ يكثر الموادّ ، فهو كلّ الكلّ من حيث صفاته وقد اشتملت عليها أحديّة ذاته » (3) انتهى.

فإن قلت : ما معنى قول الفارابيّ وكذا قول الشيخ : « إنّ كثرة الصور كثرة بعد الذات » وظاهر كون العرض متأخّرا عن الموضوع؟

ص: 193


1- العبارات غير موجودة في « شوارق الإلهام » ، الطبعة الحجريّة.
2- « فصوص الحكم » للفارابيّ : 97 ، الفصّ 66.
3- نفس المصدر : 99 ، الفصّ 67.

وأيضا فأيّ فائدة لكون الصور بعد الذات إذا تأدّت كثرتها إلى كثرة الذات ؛ فإنّ الظاهر أنّ المقصود من هذا الكلام هو دفع مفسدة لزوم الكثرة في الذات باعتبار اجتماع جهتي الفعل والقبول أو جهات الصدور؟

قلت : معناه أنّ كثرة تلك الصور وقيامها بالذات إنّما هو بعد كمال الذات وتمامها ؛ لما مرّ من أنّ كماله تعالى ليس بتلك الصور ، بل بأن يفيض عنه تلك : الصور ؛ وذلك لوجوب كون العلّة غير عارية في حدّ ذاتها عن المعلول ، وإلاّ لامتنعت الإفاضة ، بخلاف سائر الصور والأعراض ؛ فإنّ قيامها بمحالّها ليس بعد كمال محالّها ؛ لكون محالّها مستكملة لا محالة بها ، فيكون في ذات تلك المحالّ قوّة القبول لها ، فلو كان صدورها أيضا عن محالّها ، لزم تحقّق الكثرة في ذوات تلك المحالّ لا محالة.

ومن هذا التحقيق ظهر أنّ كثرة صور معقولاته تعالى ليست ككثرة الصور في النفس - أعني التفصيل الذي لا يكون إلاّ للنفس - ليرد أنّ هذا التفصيل لا يكون لما ليس له نفس ، كما مرّ في كلام الشيخ ، فكيف حكموا بكونه ثابتا له تعالى ولو بعد ذاته؟! وذلك لأنّ كثرة معقولاته تعالى ليست كثرة متجدّدة زمانيّة فكريّة ليلزم من ثبوتها لشيء ثبوت النفس له. والتفصيل - الذي قد مرّ في كلام الشيخ أنّه لا يكون إلاّ لما له نفس - إنّما هو الكثرة التفصيليّة الفكريّة.

وبالجملة ، قابل العلم التفصيليّ الفكريّ - الذي لا بدّ أن يفيض عن الغير - لا يكون إلاّ النفس من حيث هي نفس.

وأمّا قبول التفصيل الفائض عن ذات العاقل ، فلا يلزم وجود النفس ، بل يكون من شأن العقل - من حيث هو عقل - قبول ذلك ، وهذا هو القبول بمعنى مطلق الموصوفيّة لا القبول المستدعي للانفعال بخلاف القبول الذي ليس إلاّ للنفس ، فليتدبّر.

زيادة بسط في المقال لمزيد تحقيق الحال

ثمّ ينبغي لنا أن نزيد في بسط الكلام ليظهر أنّ الفلاسفة من أيّ جهة يقولون : إنّه

ص: 194

تعالى لا يعلم غيره؟ ومن أيّ جهة يجب أن يقال : إنّه عالم بجميع الموجودات؟ فنقول : قال أبو الوليد محمّد بن رشد الأندلسي في كتاب جامع الفلسفة (1) - بعد ذكر المبادئ المفارقة ووجوب انتهائها إلى مبدأ أوّل ، وأنّ كلاّ عاقل لذاته - : فلينظر هل يمكن في واحد واحد منها أن يعقل شيئا خارجا من ذاته ، أم لا؟ فنقول : إنّه قد تبيّن في كتاب النفس أنّ المعقول كمال العاقل وصورته ، فمتى أنزلنا واحدا منها يعقل غيره ، فإنّما يعقله على أنّه يستكمل به ، فذلك الغير مقدّم عليه وسبب في وجوده ، فمن البيّن أنّه ليس يمكن أن يتصوّر العلّة منها معلولها ، وإلاّ أمكن أن يعود العلّة معلولة ويستكمل الأشرف بالأقلّ شرفا ، وذلك محال.

ومن هنا يظهر - كلّ الظهور - أنّه إن وضع لها مبدأ أوّل ليس بمعلول لشيء - على ما تبيّن فيما سلف أنّه لا يتصوّر إلاّ ذاته وليس يتصوّر معلولاته وليس هذا شيئا يخصّ المبدأ الأوّل منها ، بل ذلك شيء يعمّ جميعها حتّى عقول الأجرام السماويّة - فإنّا لا نرى أنّها تتصوّر الأشياء التي دونها فإنّه لو كان كذلك لاستكمل الأشرف بالأخسّ ، وإذا كان الأمر على هذا ، فكلّ واحد من هذه المبادئ وإن كان واحدا - بمعنى أنّ العاقل والمعقول فيه واحد - فهي في ذلك متفاضلة ، وأحقّها بالوحدانيّة هو الأوّل البسيط ثمّ الذي يليه.

وبالجملة ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أكثر ، فهو أقلّ بساطة وفيه كثرة ما وبالعكس ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أقلّ فهو أكثر بساطة ، حتّى أنّ البسيط الأوّل بالتحقيق إنّما هو الذي لا يحتاج في تصوّر ذاته إلى شيء من خارج.

فهذا هو الذي أدّى إليه القول من أمر تصوّر هذه المبادئ إلاّ أنّه قد يلحق ذلك شناعات كثيرة إحداها أن تكون هذه المبادئ جاهلة بالأشياء التي هي لها مبادئ ،

ص: 195


1- في النسخ : « الفلاسفة » وما أثبتناه من « شوارق الإلهام ».

فيكون صدورها عنها كما تصدر الأشياء الطبيعيّة بعضها عن بعض مثل الإحراق الصادر عن النار ، والتبريد عن الثلج ، فلا يكون صدورها من جهة العلم ، ومحال أن يصدر عن العالم - من جهة ما هو عالم - شيء لا يعلمه.

وإلى هذا أشار بقوله جلّ وعزّ : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1).

وأيضا فإنّ الجهل نقص ، والشيء الذي في غاية الفضيلة ليس يمكن أن يوجد فيه نقص ، فهذا أقوى الشكوك التي تلحق هذا الموضع ونحن نحلّها.

فنقول : إنّه لمّا كان الفاعل إنّما يعطي المفعول شبيه ما في جوهره ، وكان المفعول يلزم فيه أن يكون غيرا وثانيا بالعدد ، وجب ضرورة أحد أمرين :

إمّا أن يكون مغايرا له بالهيولى وذلك لازم متى كان المفعول هو الفاعل بالنوع من غير تفاضل بينهما بالصورة.

وإمّا أن يكون المغايرة التي بينهما في التفاضل في النوع الواحد ، وذلك بأن يكون الفاعل في ذلك النوع أشرف من المفعول ؛ فإنّ المفعول ليس يمكن فيه أن يكون أشرف من الفاعل بالذات ؛ إذ كانت ماهيّته إنّما تحصل عن الفاعل ، وإذا كان ذلك كذلك فهذه المبادئ التي ليست في هيولى إنّما يغاير فيها الفاعل المفعول والعلّة المعلول بالتفاضل في الشرف في النوع الواحد لا باختلاف النوعيّة.

ولمّا كان العقل الذي بالفعل منّا ليس شيئا أكثر من تصوّر الترتيب والنظام الموجود في هذا العالم ، وفي جزء جزء منه ، ومعرفة شيء شيء ممّا فيه بأسبابه البعيدة والقريبة حتّى العالم بأسره ، وجب ضرورة أن لا يكون العقل الفاعل لهذا العاقل منّا غير تصوّر هذه الأشياء ؛ ولذلك ما قيل : إنّ العقل الفاعل يعقل الأشياء التي هنا لكن يجب أن يكون يعقل هذه الأشياء بجهة أشرف ، وإلاّ لم يكن بيننا وبينه فرق ، ولقصور العقل الذي فينا احتاج في عقله إلى الحواسّ.

ص: 196


1- الملك (67) : 14.

ولذلك متى عدمنا حاسّة ما ، عدمنا معقولها ، وكذلك متى تعذّر علينا حسّ شيء ما ، فاتنا معقوله ولم يكن حصوله لنا إلاّ على جهة الشهرة ؛ ولذلك يمكن أن تكون هاهنا أشياء مجهولة الأسباب بالإضافة إلينا هي موجودة في ذات العقل الفعّال ، وبهذه الجهة أمكن إعطاء أسباب الرؤيا وغير ذلك من الإنذارات الإلهيّة ، وإنّما كان هذا القصور لنا لمكان الهيولى.

وكذلك يلزم أيضا أن لا يكون معقول العقل الفاعل للعقل الفعّال شيئا أكثر من معقول العقل الفعّال ؛ إذ كان وإيّاه واحدا بالنوع إلاّ أن يكون بجهة أشرف وهكذا الأمر حتّى يكون المبدأ الأوّل يعقل الموجود بجهة أشرف من جميع الجهات التي يمكن أن يتفاضل فيها العقول البريئة عن المادّة ؛ إذ كان معقوله ليس هو غير المعقولات الإنسانيّة بالنوع فضلا عن سائر معقولات سائر المفارقات وإن كان مباينا بالشرف جدّا للعقل الإنساني ، وأقرب شيء من جوهره هو العقل الذي يليه ، ثمّ هكذا على الترتيب إلى العقل الإنساني.

ولو كان ما يعقل المعلول من هذه المبادئ من علّته ما يعقل العلّة من ذاتها ، لم يكن هناك مغايرة بين العلّة والمعلول ، ولما كانت كثرة لهذه الأمور المفارقة أصلا.

فقد ظهر من هذا القول أنّه على أيّ جهة يمكن أن يقال : إنّها تعقل الأشياء كلّها ؛ فإنّ الأمر في ذلك واحد في جميعها حتّى في عقول الأجرام السماويّة ، وعلى أيّ جهة يقال فيها : إنّها ليست تعقل ما دونها ، وانحلّت بهذا الشكوك المتقدّمة ؛ فإنّها بهذه الجهة يقال : إنّها عالمة بالشيء الذي صدر عنها ؛ إذ كان ما يصدر عن العالم بما هو عالم يلزم ضرورة - كما قلنا - أن يكون معلوما ، وإلاّ كان صدوره كصدور الأشياء الطبيعيّة بعضها عن بعض.

وبهذا القول تمسّك القائلون بأنّ اللّه يعلم الأشياء. وبالقول الثاني تمسّك القائلون بأنّه لا يعلم ما دونه ، وذلك أنّهم لم يشعروا باشتراك اسم العلم ، فأخذوه على أنّه يدلّ

ص: 197

على معنى واحد ، فلزمهم عن ذلك قولان متناقضان على جهة ما يلزم في الأقاويل التي تؤخذ أخذا مهملا.

وكذلك الشنعة (1) التي قيلت فيما سلف تنحلّ بهذا وذلك بأنّه ليس النقص في أن نعرف الشيء بمعرفة أتمّ ولا نعرفه بمعرفة أنقص وإنّما النقص في خلاف هذا ؛ فإنّ من فاته أن يبصر الشيء بصرا رديئا وقد أبصره بصرا تامّا ليس ذلك نقصا في حقّه.

وهذا الذي قلنا هو الظاهر من مذهب أرسطو وأصحابه أو اللازم عن مذهبهم ، فقد تبيّن من هذا القول كيف تعقل هذه المبادئ ذواتها وما هو خارج عن ذواتها. انتهى كلامه في الجامع بأدنى تلخيص.

وقال في كتاب ردّ التهافت : ولمّا كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء ، وكان العقل ليس شيئا أكثر من إدراك المعقولات ، كان العقل منّا هو المعقول بعينه من جهة ما هو معقول ، ولم يكن هناك مغايرة بين العقل والمعقول إلاّ من جهة أنّ المعقولات هي معقولات أشياء ليست في طبيعتها عقلا ، وإنّما تصير عقلا بتجريد العقل صورها من الموادّ ، ومن قبل هذا لم يكن العقل منّا هو المعقول من جميع الجهات ، فإن ألقي شيء في غير مادّة فالعقل منه هو المعقول من جميع الجهات وهو عقل المعقولات ولا بدّ ؛ لأنّ العقل ليس شيئا هو أكثر من إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها ، ولكنّه يجب فيما هو عقل مفارق أن لا يستند (2) في عقل الأشياء الموجودة وترتيبها (3) ، إلى الأشياء الموجودة ، ويتأخّر (4) معقوله عنها ؛ لأنّ كلّ عقل هو بهذه الصفة فهو تابع للنظام الموجود في الموجودات ، ومستكمل به ، وهو ضرورة يقصر فيما يعقله من الأشياء ، ولذلك كان العقل منّا مقصّرا عمّا يقتضيه طبائع

ص: 198


1- في « شوارق الإلهام » : « الشبهة ».
2- الضمير المستتر في « يستند » راجع إلى العقل.
3- متعلّق ب- « لا يستند ».
4- عطف على « يستند ».

الأشياء (1) من الترتيب والنظام الموجود فيها ، فإن كانت طبائع الموجودات جارية على حكم العقل ، وكان هذا العقل منّا مقصّرا عن إدراك طبائع الموجودات ، فواجب أن يكون هاهنا علم بنظام وترتيب هو السبب في النظام والترتيب والحكمة الموجودة في موجود موجود ، وواجب أن يكون هذا العقل للنظام الذي منه هو السبب في النظام الذي في الموجودات ، وأن يكون إدراكه لا يتّصف بالكلّيّة فضلا عن الجزئيّة ؛ لأنّ الكلّيّات معقولات تابعة للموجودات ومتأخّرة عنها ، وذلك العقل الموجودات تابعة له ، فهو عاقل ضرورة بعقله من ذاته النظام والترتيب الموجود في الموجودات لا بعقله شيئا خارجا عن ذاته ؛ لأنّه كان يكون معلولا عن الموجود الذي يعقله لا علّة له وكان يكون مقصّرا.

وإذا فهمت هذا من مذهب القوم فهمت أنّ معرفة الأشياء بعلم كلّيّ هو علم ناقص ؛ لأنّه علم لها بالقوّة ، وأنّ العقل المفارق لا يعقل إلاّ ذاته ، وأنّه بعقل ذاته يعقل جميع الموجودات ؛ إذ كان عقله ليس شيئا أكثر من النظام والترتيب الذي في جميع الموجودات ، فإذا أنزلت أنّ العقل الذي هنالك شبيه بعقل الإنسان ، لحقت تلك الشكوك المذكورة ؛ فإنّ العقل الذي فينا هو الذي يلحقه التعدّد والكثرة ، وأمّا ذلك العقل ، فلا يلحقه شيء من ذلك ، وذلك أنّه بريء عن الكثرة اللاحقة لهذه المعقولات ، وليس يتصوّر فيه مغايرة بين المدرك والمدرك ، وأمّا العقل الذي فينا فإدراكه ذات الشيء غير إدراكه أنّه مبدأ للشيء وكذلك إدراكه غيره غير إدراكه ذاته بوجه ما ، ولكن فيه شبه من ذلك العقل وذلك العقل هو الذي أفاده ذلك الشبه.

بيان ذلك : أنّ العقل إنّما صار هو المعقول من جهة ما هو معقول ؛ لأنّ هاهنا عقلا هو المعقول من جميع الجهات ، وذلك أنّ كلّ ما وجدت فيه صفة ناقصة فهي موجودة له من قبل موجود فيه تلك الصفة كاملة ، مثال ذلك أنّ ما وجدت فيه حرارة

ص: 199


1- في « شوارق الإلهام » : « طبائع الموجودات ».

ناقصة فهي موجودة له من قبل شيء هو حارّ بحرارة كاملة ، وكذلك ما وجد فيه الحياة ناقصة فهي موجودة له من قبل حيّ بحياة كاملة ، فكذلك ما وجد عاقلا بعقل ناقص فهو موجود له من قبل شيء هو عاقل بعقل كامل ، وكذلك كلّ ما وجد له فعل عقلي كامل فهو موجود له من قبل عقل كامل ، فإن كانت جميع أفعال الموجودات أفعالا عقليّة كاملة وليست ذوات عقول ، فها هنا عقل من قبله صارت أفعال الموجودات أفعالا عقليّة.

ومن لم يفهم هذا المعنى من ضعفاء الحكماء هو الذي يطلب هل المبدأ الأوّل يعقل ذاته أو يعقل شيئا خارجا عن ذاته؟ فإن وضع أنّه يعقل شيئا خارجا عن ذاته لزمه أن يستكمل بغيره ، وإن وضع أنّه لا يعقل شيئا خارجا عن ذاته لزمه أن يكون جاهلا بالموجودات.

والعجب من هؤلاء القوم أنّهم نزّهوا الصفات الموجودة في البارئ تعالى وفي المخلوقات عن النقائص التي لحقتها في المخلوقات وجعلوا العقل الذي فينا شبيها بالعقل الذي فيه ، وهو أحقّ شيء بالتنزيه.

ثمّ قال : ليس يمتنع في العلم الأوّل أن يوجد فيه مع الاتّحاد تفصيل بالمعلومات ؛ فإنّه لم يمتنع عند الفلاسفة أن يكون يعلم غيره وذاته علما مفرّقا (1) من جهة أن يكون هناك علوم كثيرة.

وإنّما امتنع عندهم أن يستكمل العقل بالمعقول المعلول عنه ، فلو عقل غيره على جهة ما نعقله نحن لكان عقله معلولا عن الموجود المعقول لا علّة له وقد قام البرهان على أنّه علّة للموجودات ، والكثرة التي نفى الفلاسفة هو أن يكون عالما لا بنفسه ، بل بعلم زائد على ذاته ، وليس يلزم من نفي هذه الكثرة عنه تعالى نفي كثرة المعلومات ، لكنّ الحقّ في ذلك هو أنّه ليس تعدّد المعلومات في العلم الأزليّ

ص: 200


1- في « شوارق الإلهام » : « مفترقا ».

كتعدّدها في العلم الإنسانيّ ، وذلك أنّه تعدّد ليس شأن العقل منّا إدراكه ، ولذلك أصدق ما قال القوم : إنّ للعقول حدّا تقف عنده ولا تتعدّاه وهو العجز عن التكييف الذي في ذلك العلم.

وإنّما امتنع عندنا إدراك ما لا نهاية له بالفعل ؛ لأنّ المعلومات عندنا منفصل بعضها عن بعض ، فأمّا إن وجد هاهنا علم يتّحد فيه المعلومات ، فالمتناهية وغير المتناهية في حقّه سواء ، هذا كلّه ممّا يزعم القوم أنّه ممّا قام البرهان عليه عندهم ، وإذا لم نفهم نحن من الكثرة في العلم إلاّ هذه الكثرة وهي منتفية عنه ، فعلمه واحد لكن تكييف هذا المعنى وتصوّره بالحقيقة ممتنع على العقل الإنسانيّ ؛ لأنّه لو أدرك الإنسان هذا المعنى ، لكان عقله هو عقل البارئ تعالى وذلك مستحيل.

ولمّا كان العلم بالشخص عندنا هو العلم بالفعل ، علمنا أنّ علمه هو أشبه بالعلم الشخصيّ منه بالعلم الكلّي وإن كان لا كلّيّا ولا شخصيّا. ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى : ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (1) وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.

وقال أيضا : القوم إنّما نفوا أن يعرف غيره من الجهة التي بها ذلك الغير أخسّ وجودا ؛ لئلاّ يرجع المعلول علّة والأشرف وجودا أخسّ وجودا ؛ لأنّ العلم هو المعلوم ، ولم ينفوه من جهة أنّه يعرف ذلك الغير بعلم أشرف وجودا من العلم الذي نعلم نحن به الغير ، بل واجب أن يعلمه من هذه الجهة ؛ لأنّها الجهة التي من قبلها وجود الغير عنه.

وبالجملة ، لئلاّ يشبه علمه علمنا - الذي في غاية المخالفة له - فابن سيناء إنّما رام أن يجمع بين القول بأنّه لا يعلم إلاّ ذاته ، ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف ممّا يعلمها به الإنسان ؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته ، وذلك بيّن من قوله : « إنّ علمه

ص: 201


1- سبأ (34) : 3.

بنفسه وبغيره - بل بجميع الأشياء - هو ذاته. وإن كان لم يشرح هذا المعنى كما شرحناه وهو قول جميع الفلاسفة أو اللازم عن قول جميعهم.

ثمّ قال في موضع آخر : الكلام في علم البارئ تعالى بذاته وبغيره ممّا يحرّم على طريق الجدل في حال المناظرة فضلا عن أن يثبت في كتاب ؛ فإنّه لا تنتهي أفهام الجمهور إلى مثل هذه الدقائق ، وإذا خيض معهم في هذا بطل معنى الإلهيّة عندهم ؛ فلذلك كان الخوض في هذا العلم محرّما عليهم ؛ إذ كان الكافي في سعادتهم أن يفهموا من ذلك ما أطاقته أفهامهم ، ولذلك لم يقتصر الشرع - الذي قصده الأوّل تعليم الجمهور في تفهيم هذه الأشياء في البارئ تعالى - بوجودها في الإنسان كما قال تعالى : ( لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) (1) بل واضطرّ إلى تفهيم معان في البارئ تعالى بتمثيلها في الجوارح الإنسانيّة مثل قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) (2) وقوله : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) (3) فهذه المسألة هي خاصّة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم اللّه على الحقائق.

ولذلك لا يجب أن تثبت في كتاب إلاّ في الموضوعة على الطريق البرهانيّ ، وهي التي شأنها أن تقرأ على ترتيب بعد تحصيل آخر يضيق على أكثر الناس النظر فيها على النحو البرهانيّ إذا كان ذا فطرة فائقة مع قلّة وجود هذه الفطرة في الناس.

فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات التي تلك الأشياء سموم لها فإنّ السموم إنّما هي أمور مضافة ؛ فإنّه قد يكون سمّا في حقّ حيوان شيء هو غذاء في حقّ حيوان آخر ، وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان.

ثمّ قال : ولكن إذا تعدّى الشرير الجاهل فسقى السمّ من هو في حقّه سمّ على أنّه

ص: 202


1- مريم (19) : 42.
2- يس (36) : 71.
3- ص (38) : 75.

غذاء ، فقد ينبغي على الطبيب أن يجتهد بضاعته في شفائه ، ولذلك استجزنا نحن التكلّم في مثل هذه الكلّيّات ، وإلاّ فما كنّا نرى أنّ ذلك يجوز لنا ، بل هو من أكبر المعاصي أو من أكبر الفساد في الأرض ، وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة ، وإذا لم يكن بدّ من الكلام في هذه المسألة ، فلنقل في ذلك بحسب ما تبلغه قوّة الكلام في هذا الموضع ، فنقول :

إنّ القوم لمّا نظروا إلى جميع المدركات ، وجدوا أنّها صنفان : صنف مدرك بالحواسّ وهي أجسام قائمة بذواتها ، مشار إليها ، وأعراض مشار إليها في تلك الأجسام. وصنف مدرك بالعقل وهي ماهيّات تلك الأمور المحسوسة وطبائعها أعني الجواهر والأعراض ، فلمّا تميّزت لهم الأمور المعقولة من الأمور المحسوسة وتبيّن لهم أنّ في المحسوسات طبيعتين : إحداهما قوّة ، والأخرى فعل ، نظروا أيّ الطبيعتين هي المتقدّمة للأخرى ، فوجدوا أنّ العقل مقدّم على القوّة ؛ لكون الفاعل متقدّما على المفعول ، ونظروا في العلل والمعلولات أيضا فأفضى بهم الأمر إلى علّة أولى هي بالفعل السبب الأوّل لجميع العلل ، فلزم أن تكون فعلا محضا ، وأن لا يكون فيها قوّة أصلا ؛ لأنّه لو كان فيها قوّة ، لكانت معلولة من جهة وعلّة من جهة ، فلم تكن أولى.

ولمّا كان كلّ مركّب من صفة وموصوف فيه قوّة وفعل ، وجب عندهم أن لا يكون الأوّل مركّبا من صفة وموصوف.

ولمّا كان كلّ بريء عن القوّة عندهم عقلا وجب أن يكون الأوّل عندهم عقلا ، فهذه هي طريقة القوم بجملة ، فإن كنت من أهل الفطرة المعدّة لقبول العلوم وكنت من أهل الثبات والفراغ ، ففرضك أن تنظر في كتب القوم وعلومهم لتقف على ما في علومهم من حقّ أو ضدّه ، وإن كنت ممّن نقصك واحد من هذه الثلاث ففرضك أن تفرغ في ذلك إلى ظاهر الشرع ولا تنظر إلى هذه العقائد المحدثة في الإسلام ؛ فإنّك إن كنت من أهلها لم تكن من أهل اليقين ، فهذا هو الذي حرّك القوم أن يعتقدوا أنّ هذه الذات - التي وجدوا أنّها مبدأ العالم - بسيطة ، وأنّها علم وعقل.

ص: 203

ولمّا رأوا أنّ النظام الموجود هاهنا في العالم وأجزائه هو صادر عن علم متقدّم عليه ، قضوا أنّ هذا العقل والعلم هو مبدأ العالم الذي أفاده أن يكون موجودا ، وأن يكون معقولا.

وقال أيضا في موضع آخر : والمحقّقون من الفلاسفة لا يصفون علمه تعالى بالموجودات لا بكلّيّ ولا بجزئيّ ، وذلك أنّ العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول ، والعقل الأوّل هو عقل محض وعلّة ، فلا يقاس علمه على العلم الإنسانيّ ، فمن جهة ما لا يعقل غيره من حيث هو غير هو علم منفعل ، ومن جهة ما يعقل الغير من حيث هو ذاته هو علم فاعل.

وتلخيص مذهبهم أنّهم لمّا وقفوا بالبراهين على أنّه لا يعقل إلاّ ذاته ، فذاته عقل ضرورة ، ولمّا كان العقل بما هو عقل إنّما يتعلّق بالموجود لا بالمعدوم وقد قام البرهان على أنّه لا موجود إلاّ هذه الموجودات التي نعقلها نحن ، فلا بدّ أن يتعلّق علمه بها ، وإذا وجب أن يتعلّق علمه بهذه الموجودات ، فإمّا أن يتعلّق بها على نحو تعلّق علمنا بها ، وإمّا أن يتعلّق بها على وجه أشرف من جهة تعلّق علمنا بها ، وتعلّق علمه بها على نحو تعلّق علمنا بها مستحيل ، فوجب أن يكون تعلّق علمه بها على نحو أشرف ووجود أتمّ لها من النحو الذي تعلّق علمنا بها ؛ لأنّ العلم الصادق هو الذي يطابق الوجود ، فإن كان علمه أشرف من علمنا ، فعلم اللّه يتعلّق بالموجود بجهة أشرف من الجهة التي يتعلّق علمنا بها.

فللموجود إذن وجودان : وجود أشرف ، ووجود أخسّ ، والوجود الأشرف هو علّة الوجود الأخسّ ، وهذا هو معنى قول القدماء : إنّ البارئ تعالى هو هذه الموجودات كلّها وهو المنعم بها والفاعل لها ؛ ولذلك قال رؤساء الصوفيّة : لا هو إلاّ هو ، ولكن هذا كلّه هو من علم الراسخين في العلم ، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلّف الناس اعتقاد هذا ، ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي ، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم ، كما أنّ من كتمه عن أهله فقد ظلم ، فأمّا أنّ الشيء الواحد له

ص: 204

أطوار من الوجود ، فذلك معلوم من النفس. انتهى ما أردنا من كلماته التي التقطناها من مواضع متفرّقة ؛ لكونها متلائمة بحسب المرام ، وملائمة جدّا للمقام.

مباحث متعلّقة بالمقام ، ممّا يزيد الاطّلاع عليها في توضيح المرام

[ المبحث ] الأوّل : اعترض الإمام الرازيّ في المباحث المشرقيّة على الحكماء - حيث ذهبوا إلى أنّ علوم المجرّدات بذواتهم هي نفس ذواتهم - بأنّه لو كان كذلك ، لكان من عقلها عقلها عاقلة لذواتها وليس كذلك ؛ إذ إثبات كونها عاقلة لذواتها يحتاج إلى تجشّم إقامة برهان ، وبيان إثبات علمها غير بيان إثبات وجودها ، وكذا ليس من أثبت وجود البارئ أثبت علمه بذاته ، بل يلزمه إقامة حجّة أخرى له (1).

وأجاب عنه أستادنا صدر المتألّهين قدس سره في كتابه الموسوم بالمبدإ والمعاد بأنّ معقوليّة الشيء عبارة عن وجوده لشيء له فعليّة الوجود والاستقلال ، أي كونه غير قائم بشيء آخر ، فالجوهر المفارق لمّا كان بحسب الوجود العينيّ غير موجود لشيء آخر ، بل موجودا لذاته ، كان معقولا لذاته ، وإذا حصلت ماهيّته في عقل آخر صارت بهذا الاعتبار موجودة لشيء آخر وجودا ذهنيّا لا لذاته ، فلا جرم صارت معقولة لذلك الشيء الآخر لا لذاته ، وإذا لم يكن ذاته بهذا الاعتبار - أي باعتبار وجودها في ذلك العاقل - عاقلة لذاتها ، فكيف يعقلها ذلك العاقل عاقلة لذاتها بهذا الاعتبار؟!

ومحصّل القول : أنّ عالميّة الجوهر المجرّد لذاته عين وجوده لا عين ماهيّته ، فلا يلزم من ذلك أنّ من عقل ماهيّته عقلها عاقلة لذاتها إلاّ فيما يكون وجوده عين ماهيّته كالواجب تعالى ، لكن لمّا استحال ارتسام حقيقته تعالى في ذهن من الأذهان بالكنه ، لا يلزم من تعقّلنا له تعقّلنا عقله لذاته ، بل يحتاج إلى استيناف بيان وبرهان (2).

ص: 205


1- « المباحث المشرقيّة » 1 : 461.
2- « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : 86.

واعترض بعضهم أيضا بأنّا نعلم بالضرورة أنّ كون الشيء عالما ينكشف له المعلومات حال خارجيّ مغاير لنفس حقيقة الأشياء ، فلا يكون نفس حقيقة العالم وحدها مصداقا لصدق العالم في علم شيء بنفسه ؛ فإنّ كلّ شيء في نفسه هو هو ، فلو تغيّر عمّا هو عليه في نفسه لاحتاج إلى مصداق آخر وراء ذاته ، فلا بدّ في كون الشيء عالما بنفسه - مثلا - من أمر آخر غير نفس ذاته يكون مصداقا لعالميّته ، فلا يكون العلم بالشيء نفس حصول ذلك الشيء فقط.

وأجيب بأنّ كون الشيء عالما خارجيا في علم الشيء بنفسه ممنوع ، فيجوز أن يكون نفس حقيقة الشيء مصداقا لكونه عالما بنفسه من غير أن يحتاج إلى مصداق مغاير لنفسه ؛ لأنّ صدق المفهومات المتغايرة على ذات واحدة لا يستدعي تغاير المصداقات إلاّ إذا استلزم ذلك الصدق تغيّرا خارجيّا في الذات ، والتغيّر الخارجيّ فيما نحن فيه - وهو علم الشيء بنفسه - ممنوع.

ولو سلّم فإنّما نسلّم في علم الشيء بغيره بعد ما لم يكن في حدّ ذاته كذلك.

[ المبحث ] الثاني : قد اتّفقوا على أنّ المعتبر في كون الشيء معقولا تجرّده عن المادّة فقط ، وفي كونه عاقلا تجرّده عن المادّة وكونه قائما بذاته معا ؛ لأنّ ما لا يكون قائما بذاته يكون حاصلا لغيره لا حاصلا لنفسه ، وما لا يكون حاصلا لنفسه فكيف يكون شيء آخر حاصلا له؟! وحقيقة العلم إنّما هو حصول شيء لشيء كما مرّ غير مرّة ، فلا يجوز كون شيء من الصور والأعراض عاقلا ، ولا يلزم كون المادّة - لكونها قائمة بذاتها - عاقلة ؛ لأنّ مرادهم من القائم بذاته أن يكون موجودا بالفعل وقائما بذاته ، ووجود المادّة في حدّ ذاتها ليس بالفعل ، بل بالقوّة ؛ فإنّ فعليّة المادّة إنّما هي بالصورة المقيمة لها لا بذاتها.

وما قيل - من أنّه لو كان حقيقة العلم هو الحصول ، لكان كلّ جماد عالما ؛ إذ ما من جماد إلاّ وقد حصل ماهيّته له والمعلوم من كلّ شيء إنّما هو ماهيّته -

ص: 206

فمندفع بأنّ الصور الجماديّة لمّا كانت قائمة بموادّها فماهيّتها كانت حاصلة لموادّها ، لا لأنفسها على ما مرّ.

وأيضا ما هو شرط في المعقوليّة - أعني التجرّد عن المادّة - مفقود في الصور الجماديّة ؛ لكونها مقارنة لموادّها.

[ المبحث ] الثالث : قد تلخّص من تضاعيف ما ذكرنا أنّ حقيقة العلم هي حصول مجرّد لمجرّد قائم بذاته ، وذلك الحصول يتصوّر على أنحاء ثلاثة :

أحدها : حصول الشيء بنفس ذاته العينيّة لشيء مستقلّ في الوجود بالفعل قائم بذاته حصولا حقيقيّا كحصول المعلول بحسب وجوده العينيّ لعلّته.

وثانيها : أن يكون ذلك الحصول حصولا حكميّا لا حقيقيّا كحصول ذات المجرّد لنفس ذاته ولا شكّ في كونه حكميا راجعا إلى كون ذات المجرّد غير فاقدة لذاتها.

وهذان القسمان هما المراد (1) بالعلم الحضوريّ ، وبهذا الاعتبار قيل : العلم هو حضور الشيء لمجرّد ، أو عدم غيبة شيء عن مجرّد.

وثالثها : حصول شيء بصورته وماهيّته - لا بنفس حقيقته العينيّة - لمجرّد قائم بذاته ، وهذا هو المسمّى بالعلم الحصوليّ المفسّر بحصول صورة الشيء في العقل. ولا شكّ عند الحكماء والمحقّقين في كفاية كلّ واحد من النحوين الأخيرين من الحصول لتحقّق العلم ، ولذلك اتّفقوا على أنّ علم العاقل بذاته إنّما هو عين ذاته ، وأنّ علمه بغيره هو بحصول صورته في العقل.

وأمّا أنّه هل يكفي النحو الأوّل من الحصول أيضا لتحقّق العلم؟ فلم يشتهر من الفلاسفة قبل صاحب الإشراق ما يدلّ على ذلك ، بل هو أوّل من صرّح (2) به وتبعه المصنّف وجماعة من المتأخّرين ، ومنعه جماعة أخرى منهم (3) ، وقد مرّ في كلام

ص: 207


1- كذا ، والأصحّ : « المرادان ».
2- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 150.
3- راجع « الأسفار الأربعة » 6 : 230.

الشيخ ما يدلّ على المنع. ومرّ أيضا بعض ما قيل على ذلك من أنّ كون الحصول للفاعل آكد من الحصول للقابل لا يدلّ على كون الحصول الآكد علما ؛ لجواز أن يكون تحقّق العلم موقوفا على القيام أو لاتّحاد ، بل الحقّ أنّ حصول المعلول إنّما هو حصول لنفسه إذا كان قائما بذاته ، أو لمحلّه إذا كان قائما بالمحلّ ، وليس حصولا للعلّة إلاّ على نحو من التجوّز.

وما الفرق في ذلك بين حصول المعلول للعلّة وبين حصول العلّة للمعلول؟ فلو كان حصول المعلول للعلّة علما لكان حصول العلّة للمعلول أيضا علما ، ولكنّا عالمين بعللنا بالعلم الحضوريّ ، وليس الأمر كذلك ، فتأمّل.

وأيضا لو كان مثل ذلك الحصول - أعني حصول المعلوم للعلّة - كافيا في العلم ، لكان اعتبار القيام بذاته في العاقل ضائعا ؛ ضرورة أنّ معلول الصورة المادّيّة حاصل للصورة لا لمادّتها وإنّما يكون الحصول للصورة حصولا لمادّتها إذا كان الحصول في ضمن القيام لا مطلقا ، فيلزم كون الصور الطبيعيّة عاقلة لآثارها الصادرة عنها ؛ لكون الربط - الذي اكتفوا به في العاقليّة - حاصلا بينهما.

وأيضا يلزم بمثل ذلك كون الصورة المادّيّة عاقلة لذاتها.

[ المبحث ] الرابع : قال بعض (1) من مقلّدة صاحب الإشراق : « حقيقة العلم مساوقة للحصول والوجود مطلقا ، فكلّ موجود يكون معلوما وعالما إلاّ أن يمنع عن ذلك مانع كالحصول لغيره ، فإن اعتبر بما هو ظاهر منكشف متميّز ذو نسبة إلى أمر صالح لأن يكون هذا الشيء ظاهرا له ، منكشفا عنده ، متميّزا لديه ، كان بهذا الاعتبار معلوما ، وذلك الشيء المنسوب إليه عالما.

وإن لم يعتبر بهذا الوجه واعتبر بنسبة أخرى أو بغير نسبة كان موجودا ، فالوجود

ص: 208


1- هو السيّد الفاضل الأمير نظام الدين أحمد الشيرازيّ رحمه اللّه ممّا كتب هو في حاشية الكتاب. ( منه رحمه اللّه ).

والحصول والعلم متّحدان بالذات ، متغايران بالاعتبار ؛ فإنّ العلم هو الحصول بوجه التميّز.

ثمّ إنّه من البيّن أنّ كل واحد من الموجودات ليس كذلك ، فلا بدّ في حصول أحد الأمرين الموجودين للآخر بوجه التميّز والانكشاف من أن تتحقّق بينهما علاقة ذاتيّة بحسب الوجود والحصول ، فيكون كلّ أمرين بينهما علاقة الحصول وربط وتعلّق من جهة الحصول عالما بصاحبه إلاّ لمانع ، وإذا لم يتحقّق بين أمرين علاقة ذاتيّة كذلك لا يكون أحدهما عالما أصلا ، فكلّ شيء مستقلّ في الوجود عالم بنفسه ؛ إذ لا علاقة آكد من الاتّحاد ، وكلّ علّة مستقلّة في الوجود عالمة بمعلولها ، وكلّ معلول كذلك عالم بعلّته إذا لم يكن المعلول جسمانيّا ، والعلّة مجرّدة ، فالجسمانيّ لا يتمكّن من أن يعلم المجرّد.

فظهر وتبيّن أنّ العلم إنّما يتحقّق بعلاقة ذاتيّة وجوديّة بين أمرين مستلزمة لحصول أحدهما للآخر وانكشافه لديه وامتيازه عنده ، وتلك العلاقة الذاتيّة الوجوديّة قد تكون بين ذات المعلوم بحسب وجوده العينيّ وذات العالم كما في العلم الحضوريّ بأنواعه ، وقد تكون بين صورة المعلوم وذات العالم كما في العلم الحصوليّ المتحقّق بحصول صورة الشيء في نفس ذات العالم أو في آلته حصولا ذهنيّا ، فالمعلوم الخارجيّ في هذه الصورة يكون معلوما بالعرض ؛ فإنّ العلاقة الوجوديّة المستلزمة للعلم في الحقيقة إنّما هي بين العالم والصورة بخلاف المعلوم بالعلم الحضوريّ بحسب وجوده العينيّ ؛ إذ المعلوم بالذات حينئذ هو نفس ذات الأمر العينيّ ؛ لتحقّق العلاقة الوجوديّة بين نفس ذات ذلك الأمر العينيّ والعالم به ، فالعلم الحضوريّ أتمّ أفراد العلم وأكملها. ومن ذهب إلى أنّ العلم بالغير منحصر في العلم الحصوليّ لا غير ، فقد أخطأ وأنكر أتمّ أفراد العلم وأكملها.

ثمّ قال : ولا يخفى على الخبير أنّه ممّا حقّقناه - من أنّ منشأ تحقّق العلم بين الأمرين إنّما هو علاقة ذاتيّة بينهما بحسب الوجود والحصول - يتّضح أنّ الأمر

ص: 209

القائم بغيره لا يحصل له نفسه ولا غيره أصلا ، فلا يكون عالما بنفسه ولا بغيره أيضا وضوحا تامّا بحيث لا يبقى فيه ريبة لمنصف. انتهى.

أقول - بعد ما مرّ من وجوه ما يرد على العلم الحضوريّ - : إنّه لا يخفى أنّ ما ادّعاه من مساوقة الوجود والعلم دعوى من غير بيّنة ، ولم يتّضح ذلك ممّا ادّعى اتّضاحها به.

نعم ، بين العلم وبين الحصول والوجود لمن له صلاحية العلم مساوقة لا مطلقا.

وما ذكره - من العلاقة الذاتيّة بين موجودين - إن كانت سببا لحصول أحدهما للآخر ، كانت موجبة للعلم ، لكنّ الكلام في أنّ العلاقة الذاتيّة التي بين العلّة والمعلول هل هي موجبة لحصول أحدهما للآخر ، أم لا؟

وقد عرفت أنّها ليست موجبة لذلك ؛ ومع تسليم ذلك كلّه فدعوى كون العلم الحضوريّ أتمّ أفراد العلم وأكملها إنّما تتمّ لو كان العلم الحصوليّ بحصول الشبح والمثال ، لا بحصول الحقائق أنفسها على ما هو مذهب المحقّقين بأجمعهم ؛ فإنّه على تقدير حصول الحقائق بأنفسها يكون المعلوم أو المنكشف بالذات في العلم الحصوليّ هو حقائق الأشياء وماهيّاتها وفي العلم الحضوريّ هو هويّات الأشياء وإنّيّاتها ، وكيف يصحّ القول بأنّ العلم بهويّات الأشياء أتمّ من العلم بماهيّاتها سيّما في الأمور الجسمانيّة المحفوفة بالغواشي المادّيّة؟! وهل هذا إلاّ مثل أن يقال : إنّ الإبصار أتمّ من العلم ، وأنّ الحسّ أكمل في باب الإدراك من العقل؟ ومن يجترئ على أمثال ذلك؟

نعم ، كثيرا ما يمثّل العلم بالبصر ، والمعقول بالمحسوس لكن للعقول العامّيّة الوهمانيّة والمدارك الجمهوريّة الهيولانيّة ، ولذلك قد شاعت الأمثال في الكلام الإلهي وكلمات الأنبياء بل الحكماء أيضا حيث كان المقصود تفهيم الجمهور. وأمّا فيما نحن بصدده فالخطب أعظم من ذلك ؛ ولذلك لم يقع التكليف بمعرفة كيفيّة علمه تعالى.

ص: 210

وأيضا حينئذ - أي حين كون الحاصل من الأشياء في الذهن هو حقائق الأشياء - فالمعلوم بالذات هو حقيقة الشيء الخارجي ، وليس المعلوم بالعرض إلاّ خصوص الفرد الخارجي من حيث هو فرد ، فما ذكره لبيان كون العلم الحضوريّ أتمّ من الحصوليّ لا يدلّ على ذلك ، هذا.

ثمّ إنّ هذا البعض اعترض على ما نقلنا من الشيخ في رسالة منسوبة إليه من أنّ المعلوم لو كان هو الصور العينيّة ، لكان كلّ موجود - وجودا عينيّا - معلوما لنا ، ولكنّا لا نعلم المعدوم : بأنّ هذا كلام في نهاية الضعف ؛ فإنّه لا يلزم من جواز كون الوجود الخارجيّ معلوما في الجملة أن يكون كلّ موجود خارجيّ معلوما لكلّ أحد ؛ لجواز أن يكون معلوميّته مشروطة بشرط لا يتحقّق في كلّ موجود خارجيّ بالنسبة إلى كلّ واحد.

وأيضا لا يلزم من معلوميّة الموجود الخارجيّ انحصار المعلوم فيه حتّى يقال : لو كان الموجود الخارجيّ معلوما ، لكنّا لا نعلم المعدوم.

بل الحقّ الحقيق بالتصديق أنّ العلم بالشيء عبارة عن حصول ذلك الشيء لمن له صلاحية العالميّة ، وحصول شيء لشيء قد يكون بصورته وذلك في العلم الحصوليّ ، وقد يكون بذاته وذلك في العلم الحضوريّ ، وليس كلّ موجود خارجيّ حاصلا بذاته لكلّ أحد ، بل إنّما يحصل الموجود العينيّ بذاته لأمر تحقّق بينهما علاقة وجوديّة مستلزمة لحصوله له كالعلّيّة والمعلوليّة (1). هذا كلامه.

وأقول : مراد الشيخ هو أنّ من المعلوم المتحقّق أنّ العلم بالشيء إنّما يتحقّق بأن يحصل أثر من ذلك الشيء في العالم ، فالعلم هو ذلك الأثر الحاصل في العالم لا الموجود في الخارج ، وإلاّ - أعني إن لم يكن الأثر الحاصل هو العلم ، بل الموجود في الخارج - لزم أن لا يحصل لنا علم بالمعدوم.

وأيضا لو كان وجود الشيء في الخارج كافيا في العلم به من دون أثر يحصل منه

ص: 211


1- في « شوارق الإلهام » : « كالعلّة والمعلول ».

في العالم ، لزم أن يكون كلّ أحد عالما بكلّ موجود يكون موجودا معه وفي زمانه ؛ إذ نسبته إلى كلّ موجود كذلك على السواء فيما له مدخل في العلم.

وما ذكره المعترض من علاقة العلّيّة والمعلوليّة لا مدخل لها في العلم أصلا ؛ إذ ليست هي ممّا يوجب حصول أحدهما للآخر حقيقة ؛ لما عرفت ممّا ذكرناه في المبحث السابق ، بل تلك العلاقة ممّا يوجب المعيّة في الوجود فقط في الحقيقة ، فلو كانت معيّة شيء مع شيء في الوجود حصولا لأحدهما عند الآخر ، لكان كلّ موجود حاصلا لكلّ موجود يكون موجودا معه وفي زمانه وكان معلوما له. هكذا يجب أن يفهم كلام الأعلام ، واللّه تعالى هو وليّ الفضل والإنعام.

[ المبحث ] الخامس : الظاهر - بل التحقيق - أنّ النفس الناطقة تدرك بدنها الجزئيّ وسائر آلاتها الجزئيّة بالقوّة المتخيّلة ، وكذا المتخيّلة تدرك نفسها ، ولا يلزم اجتماع المثلين في محلّها ؛ لأنّ الصور المتخيّلة ، بل الحسّيّة مطلقا إنّما هي أشباح وأمثلة للجزئيّات ، وليست حقائق لها ؛ فإنّ إدراك الحقائق شأن العقل لا الحسّ.

وبالجملة ، فهذا الاحتمال قادح في كون علم النفس بهذه الأمور بالمشاهدة الحضوريّة وجعل ذلك طريقا إلى العلم الحضوريّ للواجب بأعيان الموجودات على ما نقله صاحب الإشراق في خلسته عن إمام المشّائين (1) ، وهذا دليل على عدم الاعتماد على مجرّد الكشف الذي يدّعيه أرباب المجاهدات إلاّ ما ساعده البرهان ، وفي ذلك غنى عن ارتكاب تلك المخاطرات.

وبما ذكرنا ظهر ضعف ما زعمه الإشراقيّون من كون سائر الحيوانات ذوات نفوس مجرّدة (2) بناء على أنّ مدار إدراك الشيء لنفسه على التجرّد ، وأنّها مدركة

ص: 212


1- انظر « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 70 - 73.
2- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 203 - 207. وانظر « الأسفار الأربعة » 8 :2. 53 و 230 - 241.

لأنفسها ، وذلك لأنّ إدراك الشيء لنفسه - إذا كان بنفسه لا بحصول صورة - يستلزم التجرّد ، ولعلّ نفوس الحيوانات يدركون أنفسهم بحصول صورها في محلّ تلك النفوس كالمتخيّلة.

قال الشيخ رحمه اللّه في التعليقات : نفوس الحيوانات غير الإنسان ليست مجرّدة وهي لا تعقل ذواتها ؛ فإنّها إذا أدركت ذواتها فإنّها تدركها بقوّتها الوهميّة ، فلا تكون معقولة ، والوهم لها بمنزلة العقل من الإنسان (1). انتهى.

[ المبحث ] السادس : نفى صاحب الإشراق العلم المقدّم على الإيجادات كلّها ، وأبطل العناية رأسا ؛ زعما أنّ قبل كون الموجودات ووجودها ذهنا وخارجا كيف يتصوّر تحقّق العلم بها؟! فإنّ العلم بها لا يتصوّر بدون وجودها ذهنا أو خارجا ؛ ضرورة عدم تمايز المعدومات الصرفة ، ولا يمكن وجود الموجودات قبل وجودها ، أمّا خارجا ، فظاهر. وأمّا ذهنا ، فللزوم الكثرة في ذاته تعالى ، فليس للواجب علم فعليّ أصلا (2). تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وذلك قادح في كون فعله تعالى اختياريّا ؛ إذ لا بدّ في الفعل الاختياريّ من مسبوقيّته بالعلم ولا يكفي مجرّد مقارنته للعلم.

وما قيل : إنّ الفعل الإراديّ غير منفكّ عن العلم بالمراد ؛ وأمّا وجوب السبق ، فممنوع ، بل هو مثل ما يدّعي المتكلّمون أنّ الإرادة يجب أن تكون سابقة على المراد سبقا زمانيّا ، وأنّه غير مسلّم منهم ، غاية الأمر أنّ وجوب السبق الذاتيّ في الإرادة مسلّم دون العلم ، بل مقارنة الشعور والعلم للفعل الناشئة من نفس الفاعل كافية في كونه إراديّا. ففيه تأمّل ، ومع ذلك يرد عليه ما يأتي.

وكذا ما قيل : إنّ وجود المعلول في الخارج وإن كان هو عين العلم بالذات ، لكنّه يغايره بالاعتبار ، فهو من حيث إنّه علم مقدّم وسبب له من حيث كونه موجودا في

ص: 213


1- « التعليقات » : 82.
2- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 150 - 153.

الخارج. ففيه أنّ المغايرة الاعتباريّة إنّما تتحقّق وتؤثّر حيث يعتبرها العقل ويتمايز المتغايران فيه فحيث لا عقل ولا ذهن ، فلا أثر لها أصلا.

ويرد عليهم أيضا عدم كون صفة العلم عين ذاته. وما قيل في توجيه كون صفاته تعالى عين ذاته : إنّ الصفة هاهنا بمعنى الخارج المحمول كالعالم والقادر والمريد وحينئذ فلا امتناع في كون العالم عين ذاته وإن كان العلم زائدا عليه ، فمشترك بين الواجب وغيره ؛ فإنّ صفات جميع الأشياء عين ذاته بهذا الوجه ، على ما ذكره المحقّق الدواني (1).

وقد تدفع هذه الشناعة عنهم بأنّ العلم الفعليّ له صورتان :

إحداهما أن يكون العلم من أسباب وجود المعلوم بالذات ، وهو الظاهر المشهور.

وثانيتهما أن يكون ذات العالم سببا لوجود المعلوم بالذات كما في الصورة المخترعة للعالم ؛ فإنّ نفس وجودها عنه نفس معلوميّتها له بالذات ، وذات الواجب بالنسبة إلى أعيان الموجودات من هذا القبيل ، فكما أنّ العالم يعلم الصورة الذهنيّة باختراعها ، يعلم الواجب العينيّ (2) الخارجيّ بإيجاده ، والعلم بالصورة حصولا (3) وبالعيني حضورا (4) كلاهما فعليّ ، ولا يلزم الإيجاب بناء على كون مقارنة الشعور كافية في الفعل الاختياري على ما مرّ.

وفيه : أنّه على تقدير التسليم يلزم أن لا يكون صدور الموجودات عنه تعالى على نحو العناية والتدبير ؛ إذ لا يصدق حينئذ أنّها لمّا علمت خيرا وجدت ، بل لمّا علمت علمت ، أو لمّا وجدت وجدت ، والتغاير الاعتباريّ بين المعلوميّة والوجود قد عرفت أنّه لا جدوى له هاهنا ، وفساد هذا اللازم ليس بأقلّ من مفسدة الإيجاب ، بل هو عينها عند التحقيق كما لا يخفى على الخبير.

ص: 214


1- لم نعثر عليه.
2- في « شوارق الإلهام » : « العين الخارجيّ ».
3- في المصدر : « بالصورة حقيقة حصولا ».
4- في « شوارق الإلهام » : « وبالعين حضورا ».

ولا يلزم ذلك في صدور الصور العلميّة عنه تعالى ؛ لأنّه نفس تعقّله الخير وعلمه به ، ولا يجب كون العلم مسبوقا بالعلم ، ولا كون التدبير مسبوقا بالتدبير ، بل يجب كون الوجود مسبوقا بالعلم والتدبير.

على أنّ القائل بالصور العلميّة الحاصلة في ذاته تعالى قائل بالعلم الإجماليّ البسيط الذي هو عين ذاته تعالى ، وتلك الصور إنّما هي تفصيل له ، فتكون مسبوقة به ، فليتدبّر.

ثمّ إنّه أعني صاحب الإشراق بعد إبطال العناية جعل النظام المشاهد في عالم الأجسام لازما عن النظام الواقع بين المفارقات العقليّة الطوليّة والعرضيّة ، وأضوائها المنعكسة من بعضها إلى بعض ، وجعل ذلك بدلا عن العناية في سببيّة النظام ، صرّح بذلك في حكمة الإشراق (1).

وأنت خبير بأنّ ذلك النظام الواقع بين المجرّدات أيضا لا بدّ له من سبب وإلاّ لتسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى علمه تعالى بنظام الكلّ ، أو صدور ذلك النظام عن طبع وإيجاب ، ولا بدّ من كون هذا العلم عين ذاته تعالى أو قائما بذاته من غير لزوم مفسدة الكثرة ، على ما عرفت مفصّلا.

وأمّا المصنّف - قدس سره - فلم ينسج على منواله في نفي العلم المقدّم على الإيجاد ، بل أثبت العلم الإجماليّ ؛ حيث قال في شرح رسالة العلم : كما أنّ الكاتب يطلق على من يتمكّن من الكتابة سواء كان مباشرا للكتابة أو لم يكن ، وعلى من يباشرها حال المباشرة باعتبارين ، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن من أن يعلم سواء كان في حال استحضار المعلوم أو لم يكن ، وعلى من يكون مستحضرا له حال الاستحضار باعتبارين ، والعالم الذي يكون علمه ذاتيّا ، فهو بالاعتبار الأوّل ؛ لأنّه بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته والعلم بهذا الاعتبار شيء واحد (2). انتهى.

ص: 215


1- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 152 - 155.
2- « شرح مسألة العلم » : 28.

لكنّ العلم الإجماليّ بهذا المعنى - أعني التمكّن من الاستحضار - إنّما هو الحالة الثانية لا الثالثة وهو ليس بجيّد ؛ لمقارنة القوّة ، فتدبّر.

[ المبحث ] السابع : قد ظنّ جماعة كالمحقّق الدواني في بعض رسائله وصاحب القبسات وغيرهما (1) : أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كآن واحد ، كما أنّ نسبة جميع الأمكنة إليه كأين واحد بمعنى أنّ أعيان الموجودات الزمانيّة - قديمة أو حادثة - حاضرة عنده تعالى دفعة بلا اختلاف في القبليّة والبعديّة والمعيّة والمضيّ والحال والاستقبال ؛ لكونه بريئا عن الوقوع في شيء من الأزمنة كبراءته عن الوقوع في شيء من الأمكنة ، بل هو محيط بقاطبة الزمانيّات والمكانيّات إحاطة واحدة ، وإنّما ذلك الاختلاف لها بقياس بعض (2) إلى بعض وفيما بينها ، لا بالقياس إلى الحضور عنده تعالى والغيبة عنه ، ومثّلوا ذلك بخيط مختلف الأجزاء بالسود والبيض ؛ فإنّه إذا نظر إليه الإنسان مثلا يلاحظ مجموع تلك الأجزاء المختلفة الألوان دفعة واحدة ، ويرى الجزء الأسود في موضعه والأبيض في موضعه كليهما معا وفي آن واحد ، بخلاف الحيوان الضيّق الحدقة كالنملة ؛ فإنّه يرى كلّ جزء يصل إليه في آن وصوله ، ولا يرى الجزء الذي بعده أو قبله في هذا الآن بل في آن هو بعد ذلك الآن أو قبله ، وهذا الظنّ لعلّه متوهّم من كلام المصنّف في شرح رسالة العلم (3) كما سننقله في بيان كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات المتغيّرة وسنبيّن حقيقة الأمر فيه.

وهو منظور فيه ؛ لأنّ نسبة الزمانيّات إلى الزمان لا يجب أن تكون بانطباق فقط ، وإلاّ لم يكن الأجسام - التي في زمان ولا يعرض لها التغيّر - زمانيّة ، بل تلك النسبة

ص: 216


1- انظر « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 116 - 120 ؛ « القبسات » : 3 و 159 ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 50 - 52 و 3 : 407 - 417 ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : 203.
2- في « شوارق الإلهام » : « بعضها ».
3- « شرح مسألة العلم » : 38 - 41.

إنّما هي بالمعيّة في الوجود سواء كانت منطبقة أو غير منطبقة ، فهو تعالى وإن لم يكن واقعا في الزمان لكنّه مع الزمان معيّة وجوديّة.

واختلاف نسبة الزمان إلى ما مع الزمان يتصوّر على وجهين :

أحدهما : بالتغيّر في ذات ذلك الشيء الذي مع الزمان كما هو في الأشياء المختصّة (1) الوجود ببعض الأزمان كالحادث اليومي مثلا ؛ فإنّه في اليوم ؛ لكونه معه في الوجود ، لا في الأمس والغد ؛ لفقدانه فيهما.

وثانيهما : بالتغيّر في الزمان دون ما مع الزمان كالفلك ؛ فإنّه اليوم (2) في اليوم ؛ لكونه معه في الوجود ، دون الغد ؛ لفقدانه.

والوجه الأوّل وإن لم يتصوّر نسبته إليه تعالى ، لكن لا خفاء في تحقّق الوجه الثاني بالنظر إليه ؛ فإنّه في اليوم مع اليوم مثلا ؛ لكونه معه في الوجود دون الأمس والغد ؛ لفقدانهما لا لفقدانه ، تعالى عن ذلك ، فيتصوّر بالنظر إليه الماضي والحال والاستقبال بهذا الوجه ، إذ اليوم مثلا حال بالنظر إليه ؛ لكونه معه في الوجود حاضرا عنده ، والأمس ماض نظرا إليه ؛ لفقدانه اليوم مع تحقّقه قبل ذلك ، والغد مستقبل نظرا إليه ؛ لفقدانه اليوم مع كونه سيكون ، فالأزمنة الثلاثة وإن لم تتصوّر بالنظر إليه بالمعنى المختصّ بالحوادث ولكنّها - بمعنى أنّ الحال هو الزمان الحاضر الذي هو معه بالفعل ، والماضي هو الزمان المتقدّم على ذلك الزمان بالنظر إليه ، والمستقبل هو الزمان المتأخّر عنه بالنظر إليه - متحقّقة بلا شبهة ؛ فإنّ تحقّق الماضي والمستقبل بالنظر إلى شيء لا يقتضي كون ذلك الشيء مفقودا في الماضي والمستقبل مطلقا على ما مرّ. كذا قال سيّد المدقّقين وغيره.

وهذا مأخوذ من كلام المصنّف في نقد المحصّل ، حيث قال ما ملخّصه : أنّ القضيّة التي يدّعى استحالتها - وهي كون اللّه زمانيّا - تفسّر على وجهين :

ص: 217


1- في « شوارق الإلهام » : « المختلفة الوجود ».
2- في « شوارق الإلهام » : « اليومي في اليوم ».

أحدهما : أن يكون اللّه تعالى زمانيّا بمعنى أنّه يتغيّر أو يقبل التغيّر.

والثاني : أن يكون وجوده في أيّ حال فرض مقارنا لوجود جزء من الزمان.

وعلى هذا الوجه الثاني لا استحالة في كون البارئ تعالى زمانيّا ، وأيّ استحالة في أن يكون سبقه على هذا الجزء من الزمان ، بمعنى أنّه قارن وجوده وجود جزء آخر من الزمان لم يكن هذا الجزء متحقّقا حيث تحقّق ذلك الجزء؟

فإن قيل : هل يطلق على البارئ تعالى أنّ الزمان ظرف له ووعاء كما يطلق على عدم هذا الحادث أنّ الزمان السابق على وجوده ظرف له ووعاؤه؟

قيل : قول القائل : « إنّ عدم هذا الحادث وقع في زمان سابق على وجوده » من باب المجاز الذي دعا إليه ضيق العبارة ، وليس هناك ظرف ومظروف على الحقيقة ، وليس الزمان أمرا يتحقّق فيه معنى الاشتمال والاحتواء ليمكن أن يكون ظرفا ولا سيّما والحادث إنّما يحدث في آن ، والآن عند الأكثرين غير منقسم ، فهو أبعد من معنى الظرفيّة.

والمراد من قولنا : « إنّ عدم الحادث وقع في زمان سابق على زمان وجوده » أنّه صدق على عدم الحادث أنّه متحقّق حين صدق على زمان سابق على وجوده أنّه متحقّق ولم يكن زمان الوجود المشار إليه حينئذ متحقّقا ، ومثل هذا التفسير لا يستحيل إطلاقه على البارئ تعالى ؛ فإنّه يصدق عليه أنّه متحقّق حين صدق على جزء مخصوص من الزمان أنّه متحقّق (1). انتهى.

وأيضا : قياس الأزمنة على الأمكنة مع الفارق ؛ لتقضّي أحدهما وقرار الآخر ، وحضور الأمر التدريجي دفعة - ولو عند من لا يتغيّر أصلا - واضح البطلان ، وكيف يمكن حضور المعدوم؟! فالتمثيل المذكور غير مطابق للممثّل له إلاّ إذا كان أجزاء الخيط المذكور تدريجيّة ، ومع ذلك تكون حاضرة دفعة عند الشخص الإنسانيّ مثلا وغير حاضرة عند النملة ، ولا ريب أنّها إذا فرضت تدريجيّة لا تكون حاضرة دفعة

ص: 218


1- « نقد المحصّل » : 250 - 252.

عند الشخص الإنساني أيضا.

والحاصل : أنّه لمّا كان امتناع الإدراك في المثال المذكور ناشئا من جانب العالم ؛ لضعف قوّته ، فحيث لا ضعف أمكن الإدراك ، وامتناع الإدراك في الزمان ليس من جانب العالم ليختلف القويّ والضعيف في ذلك ، بل من جانب المعلوم ؛ لأنّه ينعدم شيئا فشيئا ، والمعدوم غير قابل للحضور ، فلا محالة لا يختلف القويّ والضعيف في ذلك.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو كان ما ظنّوه حقّا ، لما احتيج إلى الفرق بين المعلولات القريبة والبعيدة في تعلّق العلم الحضوريّ بها بكون العلم بالقريبة بذواتها وبالبعيدة بصورها القائمة بالقريبة ؛ لكون الجميع على السواء في الحضور بالقياس إليه تعالى.

لكن كلام شرح رسالة العلم (1) وشرح الإشارات (2) صريح في الفرق بين القبيلين ، وكذا كلام حكمة الإشراق (3) ، لكن كلام التلويحات - أعني قوله : وإدراك أعداد الوجود نفس الحضور له والتسلّط من غير صورة ومثال (4) - ممّا يوهم الابتناء على الظنّ المذكور.

والمراد أنّه كذلك عند وجود تلك الأعداد وفي أوقات وجوداتها وإن كانت قبل أوقات وجوداتها معلومة بصورها المرتسمة في المدبّرات الفلكيّة ، كما يدلّ عليه كلامه في حكمة الإشراق (5) على ما نقلنا ، فتفصيل مذهبهم أنّ علمه تعالى بمعلولاته القديمة - سواء كانت مجرّدة أو مادّيّة - إنّما هو بحضور ذواتها عنده تعالى أزلا وأبدا ، وبمعلولاته (6) الحادثة بحضور ذواتها عنده في أوقات وجودها ، وأمّا قبل أوقات وجودها ، فبصورها الحاصلة في المعلولات القديمة ؛ فإنّ الحاصل في

ص: 219


1- راجع ص 164 - 166 من هذا الجزء.
2- راجع ص 164 - 166 من هذا الجزء.
3- راجع ص 164 - 166 من هذا الجزء.
4- « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 73.
5- راجع ص 164 من هذا الجزء.
6- في « شوارق الإلهام » : « وبمعلوماته ».

الحاضر عند الشيء حاضر عنده أيضا. هذا هو المصرّح به في كتبهم ، كما لا يخفى على من تتبّعها.

ثمّ إنّه يمكن أن يتصوّر هذا المظنون على وجهين :

أحدهما : أن يكون القدماء بالنسبة إليه تعالى كالحوادث في تخلّل الانفكاك بينهما وإن كان بلا تقدّر (1).

وثانيهما : أن يكون الحوادث كالقدماء في عدم الانفكاك.

وإلى الأوّل نظر صاحب القبسات (2) ، وبنى عليه حدوث العالم وسمّاه حدوثا دهريّا.

وبالنظر إلى الثاني قيل عليهم : إنّه لو كان كذلك ، لزم قدم الحوادث. وليس شيء منهما بشيء ؛ لكون كلّ منهما منقدحا بالآخر ، كما لا يخفى على المتدبّر.

[ المبحث ] الثامن : الحضور حقيقة إنّما يتحقّق لمادّي عند مادّي ، فلو كان لهذا المادّي الثاني ارتباط بمجرّد ارتباط الآلة بذي الآلة يتحقّق الحضور بالنسبة إلى ذلك المجرّد أيضا.

وأمّا حضور المادّي عند المجرّد المتبرّئ عن الآلة فممّا يتنفّر عنه العقل الصريح فضلا عن أن يتحقّقه.

وإذا عرفت هذا عرفت معنى ما نقلناه عن الشيخ من قوله : لا تظنّنّ أنّ الإضافة العقليّة إليها إضافة إليها كيف وجدت ، وإلاّ لكان كلّ مبدأ صورة في مادّة - من شأن تلك الصورة أن تعقل بتدبير ما من تجريد وغيره - يكون هو عقلا بالفعل ، بل هذه الإضافة إليها وهي - بحال - معقولة (3).

وأمّا قوله بعد ذلك : ولو كانت من حيث وجودها في الأعيان لكان إنّما يعقل

ص: 220


1- في « شوارق الإلهام » : « بلا تصوّر ».
2- « القبسات » : 3 وما بعدها.
3- « الشفاء » الإلهيات : 364 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

ما يوجد في كلّ وقت ، فلا يعقل المعدوم منها في الأعيان (1) إلى آخره ، فهو دليل آخر على امتناع كون الصورة المادّيّة - من حيث هي مادّيّة - معقولة له تعالى ، مبنيّ على تحقّق المضيّ والاستقبال بالنسبة إليه تعالى على الوجه الذي قد مرّ آنفا ، فهذا الكلام المنقول من الشفاء مع المنقول من الرسالة المنسوبة إليه على ما وجّهناه مشتمل على أربع دلائل على عدم تحقّق العلم الحضوريّ ، فتعيّن العلم الحصوليّ ؛ لامتناع الأقسام الأخر بالاتّفاق.

وقد يستدلّ على العلم الحصوليّ بأنّ ذاته تعالى علّة للأشياء وهو عالم بذاته ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ؛ فيجب تحقّق العلم بالأشياء في الأزل ، والعلم لا معنى له إلاّ انكشاف المعلوم إمّا بذاته وإمّا بصورته بالضرورة والاتّفاق ، ولا يمكن تحقّق ذوات الأشياء في الأزل ، وإلاّ لزم قدم الحوادث ، فتعيّن تحقّق صورها فيه ، ولا يمكن قيامها بذواتها ولا بموجود آخر ؛ لما مرّ غير مرّة ، فتعيّن قيامها بذاته تعالى ، وهو المطلوب.

ويمكن أنّ يستدلّ بأنّ العلم صفة كمال لا محالة ، فهو صفة حقيقيّة ؛ إذ لا كمال له تعالى بالإضافيّات (2) ، فيجب أن يكون عين ذاته تعالى أو قائمة (3) بذاته من ذاته ؛ لامتناع أن يكون ما هو كمال له تعالى ثابتا له من خارج ، لكنّ العلم التفصيليّ بالأشياء يمتنع كونه عين ذاته تعالى ، فتعيّن كونه قائما بذاته من ذاته ، فيجب أن يكون صورا زائدة على ذوات الأشياء قائمة بذاته تعالى ؛ لكون العلم الحضوريّ عين ذوات الأشياء المباينة لذاته تعالى ، ويجب أيضا كونها متقدّمة على ذوات الأشياء ؛ لأنّ العلم المتأخّر عن ذوات الأشياء يكون مستفادا منها كعلمنا بالأشياء ، فيلزم كون ما هو كمال له تعالى مستفادا من خارج ، فتعيّن كون علمه تعالى بالأشياء

ص: 221


1- نفس المصدر.
2- في « شوارق الإلهام » : « بالإضافات ».
3- التأنيث باعتبار الصفة.

فعليّا متقدّما على ذوات الأشياء قائما بذاته تعالى من ذاته ، وهو المطلوب.

فإن قلت : قد مرّ أنّ كماله ومجده تعالى ليس بتلك الصور ، بل بأن تفيض عنه تلك الصور ، فكماله ومجده إذن بذاته لا بأمر زائد على ذاته ، فكيف يكون تلك الصور (1) كمالا له تعالى؟!

قلت : لا ريب في كون تلك الصور - لكونها علما - كمالا له تعالى ، لكنّ المراد ممّا مرّ أنّ تلك الصور لمّا كانت فائضة عن ذاته تعالى ، كان كماله تعالى في الحقيقة بذاته لا بأمر زائد على ذاته ، بخلاف ما لو كانت مستفادة من غيره ؛ فإنّه حينئذ يلزم أن يكون كماله بغيره لا بذاته.

ومن هنا ظهر - ظهورا بيّنا - معنى كون ذاته موضوعة لتلك الصور ، ومتّصفة بتلك اللوازم ؛ لكون تلك الصور واللوازم صادرة عنه تعالى ، لا لكونها حاصلة فيه على ما مرّ في كلام الشيخ غير مرّة.

[ المبحث ] التاسع : ناقض صاحب المطارحات (2) القائلين بالعلم الحصوليّ بما حاصله : أنّ القول بارتسام الصور في ذاته تعالى على الترتيب العلّيّ يستلزم أن يكون تعالى منفعلا عن الصورة الأولى ؛ لكونها علّة لاستكمال ذاته تعالى بحصول الصورة الثانية.

وأمّا أنّ تلك الصور كمالات له تعالى فلأنّ تلك الصور - لكونها ممكنات لا محالة - يكون حصولها له تعالى بالقوّة لا بالفعل نظرا إلى ذواتها ، فلذاته تعالى قوّة الاتّصاف بها باعتبار ذواتها الممكنة ، ولا ريب في أنّ كون ذاته تعالى بالقوّة - من أيّ جهة كانت - نقص ، وزوال تلك القوّة إنّما يحصل بوجود تلك الصور بالفعل في ذاته ،

ص: 222


1- في « شوارق الإلهام » : « فكيف حكمت بكون تلك الصور ... ».
2- « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 477 - 489.

فوجودها كمال له تعالى ، ومزيل النقص مكمّل ، وكلّ صورة سابقة من تلك الصور تكون مكمّلة لذاته تعالى بحصول الصورة اللاحقة على ما يقتضيه الترتيب العلّيّ.

ودفعه (1) أستادنا قدس سره أمّا أوّلا ، فبجريان دليله في صورة صدور الموجودات عنه تعالى فينتقض به.

وأمّا ثانيا فبأنّ فعليّة تلك الصور إنّما هي من جهة المبدأ ووجوبها مترتّب على وجوبه ، وليس هناك فقد ولا قوّة أصلا ، ولا لتلك الصور إمكان من الجهة المنسوبة إليه تعالى ، وإنّما يلزم الانفعال لو كان فيضان تلك الصورة على ذاته عن غيره تعالى وليس كذلك (2) ، هذا.

وممّا اعتمد عليه أستادنا قدس سره في كتاب المبدأ والمعاد (3) في ردّ مذهب الشيخ - بعد تزييفه ما أورده المصنّف وغيره عليه - هو أنّه يلزم على هذا المذهب صدور الكثير عن الواحد الحقيقيّ. (4).

بيانه : أنّ صورة العقل الأوّل تكون حينئذ واسطة في صدور العقل الأوّل وفي صدور صورة العقل الثاني معا عن الواجب ، فيكون قد صدر عن الواحد بوساطة أمر واحد - هو صورة العقل الأوّل - أمران ، هما : ذات العقل الأوّل ، وصورة العقل الثاني معا.

ولا يجوز أن يقال : ذات العقل الأوّل إنّما صدرت عن الواجب من حيث ذاته لا بوساطة الصورة ، وصدرت صورة العقل الثاني عنه بواسطة الصورة ، فلا يلزم صدور الاثنين عن الواحد من جهة واحدة ، بل من جهتين ؛ وذلك لأنّه يلزم أن لا يكون علم الواجب بالعقل الأوّل علما فعليّا ، وهو خلاف مذهبه ، وقادح فيما لأجله ذهب إلى العلم الحصوليّ.

ص: 223


1- لا زال الكلام للمحقّق اللاهيجي في « شوارق الإلهام ».
2- لا زال الكلام للمحقّق اللاهيجي في « شوارق الإلهام ».
3- « الأسفار الأربعة » 6 : 199 - 209.
4- « الأسفار الأربعة » 6 : 199 - 209.

وعندي أنّ ذلك ضعيف ؛ لأنّ صدور صورة العقل الثاني ليس بوساطة صورة العقل الأوّل ، بل بوساطة ذات العقل الأوّل ؛ فإنّ وجود العقل الأوّل لمّا كان من لوازمه وجود العقل الثاني ، والعلم بالعلّة والملزوم مستلزم للعلم بالمعلول واللازم صار العلم بالعقل الأوّل - أعني صورته - مستلزما للعلم بالعقل الثاني أعني بصورته ، وإنّما يلزم كون صدور صورة العقل الثاني بوساطة صورة العقل الأوّل لو كان وجود العقل الثاني من لوازم صورة العقل الأوّل ، وليس كذلك ، بل هو من لوازم وجود العقل الأوّل.

وهذا معنى كلام الشيخ في التعليقات حيث نقلناه (1) سابقا لبيان ترتيب السبب والمسبّب من قوله : مثال ذلك أنّه تعالى علّة لأن عرف العقل الأوّل ، ثمّ إنّ العقل الأوّل هو علّة لأن عرف لازم العقل الأوّل ، فهو تعالى وإن كان سببا لأن عرف العقل ولوازمه ، فبوجه ما صار العقل الأوّل علّة لأن عرف لوازم العقل الأوّل (2). انتهى.

وممّا اعتمد عليه أيضا أستادنا - قدس سره - أنّه لو كان علمه بالأشياء بحصول صورها فيه لم يخل إمّا أن تكون تلك اللوازم لوازم ذهنية له أو خارجيّة ، أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين.

لا سبيل إلى الأوّل والثالث ؛ إذ لا يتصوّر للواجب إلاّ نحو واحد من الوجود ، وهو الوجود الخارجيّ الذي هو عين ذاته ، واللوازم الخارجيّة لا تكون إلاّ حقائق خارجيّة لا صورا علميّة ذهنيّة ، وذلك خلاف ما فرضناه ؛ لأنّ الصور العلميّة تكون جواهرها جواهر ذهنيّة وأعراضها أعراضا ذهنيّة وإن كان الكلّ ممّا يعرض لها في الخارج مفهوم العرض كما سلف تحقيقه (3).

وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنّ انقسام اللازم إلى الأقسام الثلاثة إنّما يصحّ حيث يكون

ص: 224


1- انظر ص 174 - 175 من هذا الجزء.
2- « التعليقات » : 152.
3- « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : 104 - 107.

للملزوم ماهيّة غير الوجود ، والواجب تعالى ليس له ماهيّة سوى الوجود ، على ما مرّ في الأمور العامّة ، لكن يشبه أن يكون حكم معقولاته تعالى حكم اللوازم الذهنيّة ؛ لأنّها إنّما تلزمه من حيث عقله تعالى لذاته لا مطلقا ، وعقله لذاته وإن كان عين ذاته لكنّ الاعتبار مختلف ، فهو باعتبار عقله لذاته يلزمه أن يعقل الأشياء ؛ لكون ذاته علّة للأشياء ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، وذوات الأشياء تلزمه باعتبار ذاته ، ومعقولات الأشياء تلزمه باعتبار عقله لذاته.

وعلى هذا تكون جواهر تلك المعقولات جواهر ذهنيّة وأعراضها أعراضا ذهنيّة وإن كان ممّا يصدق عليه مفهوم العرض بحسب الخارج بلا إشكال.

[ المبحث ] العاشر : ذهب جماعة في كيفيّة العلم قبل الإيجاد إلى أنّ ذاته تعالى علم تفصيليّ ببعض الموجودات وهو المعلول الأوّل ، وعلم إجماليّ بسائرها (1).

وبيّن ذلك بعضهم (2) بما محصّله : أنّ العلم بمعنى ما به الانكشاف لا يجب أن يكون حقيقة المعلوم مساوية له في الماهيّة ، بل قد يكون كما في علم الشيء بالكنه ، وقد لا يكون كما في علم الشيء بالوجه.

وما يقال - أنّ حضور غير حقيقة الشيء أو حصوله لا يفيد العلم به ، والمعلوم في الحقيقة في المعلوم بالوجه إنّما هو كنه الوجه لا ذي الوجه - فإن أريد أنّ ذا الوجه ليس معلوما أصلا ، فممنوع ، والسند ظاهر. وإن أريد أنّه ليس معلوما بالكنه فممنوع ولا يضرّنا ، ولا يلزم في صورة العلم بالمعدوم تعلّق العلم بالمعدوم الصرف ؛ فإنّ المعدوم الصرف هو الذي لا يكون بحقيقته ولا بما ينكشف به حاصلا للعالم.

ثمّ إنّ العلم الفعليّ ما يكون سببا لوجود المعلوم ومقدّما عليه بالذات أو

ص: 225


1- « الأسفار الأربعة » 6 : 181 ؛ شرح المنظومة ، قسم الفلسفة : 165.
2- هو الأمير نظام الدين أحمد. منه رحمه اللّه .

بالطبع سواء كان علما بوجهه أو بكنهه ؛ فإنّ كون العلم مقدّما على المعلوم وسببا لوجوده لا يقتضي أن يكون علما بكنه حقيقته ، فالعلم بمعنى ما به الانكشاف عبارة عن أمر حاصل عند العالم ، له مناسبة مخصوصة إلى المعلوم ، بسببها يتميّز وينكشف ذلك المعلوم عند من حصل له ذلك الأمر سواء كان مساويا له في الماهيّة ، أو لا.

ولا ريب أنّ للعلّة مناسبة مخصوصة مع المعلول ، بها يصدر عنها ذلك المعلول المعيّن دون غيره ، فيجوز أن تكون نفس ذات العلّة علما بالمعلول ، فلا يبعد أن يكون علمه تعالى بذاته علما تفصيليّا بمعلوله الأوّل ، وإجماليّا بسائر معلولاته البعيدة بأن يعلم معلوله الأوّل قبل إيجاده علما تفصيليّا بنفس ذاته المقدّسة ، ويعلم المعلول الثاني كذلك بنفس ذات المعلول الأوّل وهكذا ، ولا يجب أن يكون علمه الفعلي التفصيليّ بجميع الموجودات في مرتبة واحدة ، بل ذلك ممتنع ؛ لامتناع أن يعلم بأمر واحد بسيط معلومات متكثّرة بخصوصيّاتها ، ممتازا بعضها عن بعض.

وعلى هذا وإن لزم احتياج الواجب في العلم التفصيليّ بأكثر الموجودات إلى معلولاتها المغايرة لذاته ، وكونه في مرتبة الذات غير عالم بحقائق الممكنات بالذات ، بل يتجدّد علمه بها بعد مرتبة الذات ، لكن احتياجه في علمه التفصيليّ إلى غيره غير ممتنع ؛ فإنّ كماله الذاتيّ إنّما هو في العلم الإجماليّ الذي هو عين ذاته ، والتغيّر في علمه إذا لم يكن بحسب الزمان بل بحسب الذات فلا دليل على امتناعه ، بل قد صرّحوا بأنّ علمه بذاته علّة لعلمه بمعلولاته ، وهذا تغيّر وتجدّد بحسب الذات. انتهى.

ولا يخفى ما فيه ؛ لأنّ الوجه يجب كونه محمولا على ذي الوجه ، متّحدا معه بوجه ما ؛ فإنّ وجه الإنسان هو الضاحك - مثلا - لا الضحك ، وليس العلّة مع معلولها الخارج عنها ، المباين لها كذلك. إلى غير ذلك على ما يظهر بالتأمّل.

ص: 226

واكتفى بعضهم (1) بكونه إجماليّا فقط من قبيل الحالة الثالثة من الحالات الثلاث المذكورة في كتاب النفس قال :

فأمّا أن يكون من قبيل الحالة الأولى ، فهو محال ؛ لأنّ العلم المفصّل هو العلم الإنسانيّ الذي لا يجتمع اثنان منه في النفس في حالة واحدة ، بل يضادّ واحدا واحدا ؛ فإنّ العلم نقش في النفس ، فكما لا يتصوّر أن يكون في شمعة نقشان وشكلان في حالة واحدة ، لا يتصوّر أن يكون في النفس علمان مفصّلان حاضران في حالة واحدة ، بل يتعاقب (2) على القرب بحيث لا يدرك تعاقبهما للطف الزمان ، أو يصير المعلومات الكثيرة بجملة كالشيء الواحد ، فيكون للنفس منها حالة واحدة نسبتها إلى كلّ الصور واحدة ، ويكون ذلك كالنقش الواحد.

وهذا التفصيل والانتقال لا يكون إلاّ للإنسان ، فإن فرض وجودها مفصّلا في حقّه تعالى كانت علوما متعدّدة بلا نهاية واقتضى كثرة ، ثمّ كانت متناقضات ؛ لأنّ الاشتغال بواحد يمنع من الآخر.

فإذن معنى كون الأوّل عالما أنّه على حالة بسيطة نسبتها إلى سائر المعلومات واحدة ، فمعنى عالميّته مبدئيّته لفيضان التفاصيل منه في غيره ، فعلمه هو المبدأ الخلاّق لتفاصيل العلوم في ذوات الملائكة والإنس ، فهو عالم بهذا الاعتبار ، وهذا أشرف من التفصيل ؛ لأنّ المفصّل لا يزيد على واحد ولا بدّ أن يتناهى ، وهذا نسبته إلى ما يتناهى وما لا يتناهى واحدة.

ومثاله أن نفرض ملكا معه مفاتح خزائن الأرض وهو يستغني عنها ، فلا ينتفع بذهب ولا فضّة ولا يأخذه ولكن يفيضه على الخلق ، فكلّ من له ذهب يكون منه أخذه ، وبوساطة مفتاحه وصل إليه ، فكذلك الأوّل تعالى عنده مفاتح علم الغيب

ص: 227


1- نسب إلى أكثر المتأخّرين. راجع « الأسفار الأربعة » 6 : 181 ؛ « المبدأ والمعاد » :1. 118 ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : 167.
2- كذا ، والصحيح : « يتعاقبان ».

يفيض العلم بالغيب والشهادة على الكلّ ، وكما يستحيل أن لا يسمّى الملك الذي بيده المفاتيح غنيّا ، يستحيل أن لا يسمّى الذي عنده مفاتح العلم عالما ، فالفقير الذي يأخذ منه دنانير معدودة يسمّى غنيّا باعتبار أنّ الدنانير في يده ؛ والملك باعتبار أنّ الدنانير من يده وبإفاضته ويفيض منه الغنى على الكلّ كيف لا يسمّى غنيّا؟! فكذلك حال العلم (1). انتهى.

واعترض عليه بأنّه لو انحصر علمه في الإجماليّ ، لزم أن لا يعلم إلاّ ذاته بخصوصها ، ولا يعلم سائر الموجودات بخصوصيّاتها ، ولا يمتاز في نظره بعضها عن بعض.

وفساده أظهر من أن يذكر.

ولزم أيضا أن لا يصدر عنه موجود بالعلم ؛ إذ العلم الإجماليّ - كما صرّح به - نسبته إلى جميع الموجودات على السويّة ، فلا يصدر عنه معلول دون آخر ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، وعدم صدور الموجودات عنه بالعلم مناف لكون علمه تعالى فعليّا.

وبأنّه يجوز أن يعلم الواجب جميع الموجودات بعلوم كثيرة لكن بالتفات واحد ، فلا يشغله شأن عن شأن (2).

ومنهم من قال : إنّ ذاته علم إجماليّ بجميع الموجودات ، بمعنى أنّه علم بالفعل بخصوصيّات جميع الموجودات عليه وجه يتميّز بعضها عن بعض في علمه تعالى (3).

وعليه حمل كلام بعض العارفين ؛ حيث قال : نحو العلم هنالك على عكس نحو العلم عندنا ؛ فإنّ المعلوم هنالك يجري من العلم مجرى الظلّ من الأصل ، فما عند

ص: 228


1- نحوه في « الأسفار الأربعة » 6 : 242 ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : 167 - 168.
2- « الأسفار الأربعة » 6 : 243 - 245.
3- قاله بعض المتأخّرين في الجواب عن القول السابق ، راجع « الأسفار الأربعة » 6 : 243 ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : 119.

اللّه هو الحقائق المتأصّلة التي تنزل الأشياء منها بمنزلة الصور والأشباح ، فما من الأشياء عند اللّه أحقّ بها ممّا عند أنفسها ، فالعلم هنالك في شيئيّة المعلوم أقوى من المعلوم في شيئيّة نفسه ؛ فإنّه مشيّئ الأشياء ومحقّق الحقيقة والشيء مع نفسه بالإمكان ؛ فإنّه بين أن يكون وأن لا يكون ، ومع مشيّئه بالوجوب ، ومشيّئ الشيء فوق الشيء ؛ فإنّه الشيء ويزيد ، وإن كان فهم هذا يحتاج إلى تلطّف شديد ، وإذا كان ثبوت نفس الشيء عند العالم حضورا له ، فثبوت ما هو أولى به من نفسه أولى بذلك.

وكذا كلام المحقّق الدواني من أنّ الذي يشبه أن يكون مذهب الحكماء هو أنّ ذاته تعالى عين العلم القائم بذاته ، فهو علم بذاته وعلم بمعلولاته إجمالا.

كما قال بعضهم : إنّ الصورة المحسوسة لو قامت بنفسها ، كانت حاسّة ومحسوسة ، فهذا العلم القائم بذاته هو علم بذاته باعتبار ، وعلم إجماليّ بمعلولاته باعتبار آخر ، والحيثيّة الأولى علّة للحيثيّة الثانية فالمعلولات كلّها حاضرة له تعالى من غير أن يكون فيها كثرة بحسب ذلك الحضور ؛ فإنّ الصورة العقليّة في العلم الإجماليّ واحدة مع كثرة المعلومات على ما تقرّر في موضعه (1). انتهى.

وأورد على هذا المذهب أنّه كيف يتميّز بصورة واحدة مباينة لحقائق مختلفة تلك الحقائق المختلفة في نظر العالم؟! وهل هذا إلاّ تمايز المعدومات الصرفة (2)؟

ومنهم من قال : إنّ ذاته تعالى علم إجماليّ بالموجودات كلّها بخصوصيّاتها لكن لا على أن يتميّز بعضها عن بعض ؛ فإنّ العلم شيء ، والتميّز شيء آخر ، والأوّل لا يوجب الثاني على ما حقّق في موضعه (3).

وهذا أيضا بعد التسليم كالأوّل في أنّه كيف يمكن أن يعلم معلومات مختلفة

ص: 229


1- انظر « الأسفار الأربعة » 6 : 238 - 240 ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : 119.
2- نفس المصدر.
3- قاله بعض المتأخّرين في الإيراد على القول السابق ، كما ذكر ذلك الصدر الشيرازيّ في « الأسفار الأربعة » 6 : 241.

بحقيقة واحدة مباينة لجميعها وإن لم يتميّز بعضها عن بعض؟! ويشتركان مع سابقهما في أنّ نسبة العلم الإجماليّ إلى جميع الموجودات على السواء ، فلا يترجّح صدور واحد دون آخر ، فلا يكون الصدور عن علم كما مرّ.

هذا آخر ما أردناه من إيراد المباحث المتعلّقة بهذا المقام ، وتلك عشرة كاملة في ذاتها ، مكمّلة للمرام ، وهو تعالى وليّ الفضل والإنعام.

تكميل عرشيّ

قد عرفت في تضاعيف ما ذكرنا في مباحث الوجود من الأمور العامّة من تحقيق مذهب الحكماء في حقيقة الوجود أنّ للوجود أفرادا حقيقيّة ، وأنّها حقائق مختلفة بالشدّة والضعف ، متّحدة مع الماهيّات في الخارج ، وزائدة عليها بحسب العقل فقط ، لا كما يقوله المتأخّرون من أنّ الوجود مفهوم مصدري اعتباري لا حقيقة له في الخارج ، وأنّ الماهيّة المتحقّقة في الخارج باعتبار صدورها عن الجاعل ونسبتها إليه وارتباطها به منشأ لانتزاع هذا المفهوم الاعتباري ؛ لئلاّ يلزم كونه اعتباريا محضا غير مطابق لما في نفس الأمر (1) ، ولا كما قاله الأشعريّ من كون الوجود مرادفا للماهيّة وعينا لها عينا وذهنا غير زائد عليها حقيقة ومفهوما (2) ، ولا كما نسبه صاحب الإشراق إلى المشّائين من كون الوجود زائدا على الماهيّة في الخارج قائما بها كالسواد والبياض (3) ؛ لفساد كلّ من هذه الثلاثة :

أمّا فساد الأخيرين فهو ظاهر ، ومع ظهوره مفروغ عنه في مقامه ، وقد مرّ في الكتاب مستقصى هناك.

وأمّا الأوّل فلما أومأنا إليه هناك غير مرّة.

ص: 230


1- هذا القول للسهرورديّ وأتباعه. انظر « شرح حكمة الإشراق » لقطب الدين الشيرازيّ :1. 191 ؛ « التلويحات » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 39 و 411 ؛ « شرح المنظومة » قسم الحكمة : 10 - 11.
2- « المباحث المشرقيّة » 1 : 130.
3- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 65 - 66.

وممّا يزيده بيانا أنّ حقيقة الجعل والصدور لا تتصحّح مع اعتباريّة الوجود ؛ لأنّ محصّل ما يتصوّر ويعقل منهما ليس إلاّ الفيض ، ولا معنى لأن يفيض من شيء ما لا يكون هو أو سنخه فيه ، فلا معنى لفيضان ماهيّة المجعول من ماهيّة العلّة ؛ لأنّ الماهيّات متضادّة متباينة موقوفة كلّ واحدة على مرتبتها غير قابلة للتشكيك والاختلاف بالشدّة والضعف ليمكن اشتمال ماهيّة على ماهيّة أخرى أو على سنخها أو شبهها ، فيعقل فيضان الأخرى من الأولى.

وما قالوا من أنّ معنى المجعوليّة هو أن يجعل الجاعل الماهيّة بحيث ينتزع منها الوجود ، ليس بشيء ؛ لأنّ تلك الحيثيّة إن كانت اعتباريّة أيضا ، فلا جدوى لها ، وإن كانت حقيقيّة من شأنها أن تفيض عن الجاعل ، فلا نعني بحقيقة الوجود سوى ذلك ؛ لأنّ التي نقول بها ليست فردا ذاتيّا للوجود المصدريّ ، بل هي فرد عرضيّ له يكون الوجود المصدريّ وجها من وجوهه ، وهي متصوّرة لنا بهذا الوجه ، لا بكنه حقيقتها ، والذي لأجله فرّوا من كون الوجود ذا فرد حقيقيّ هو توهّم قيامه على ذلك التقدير بالماهيّة بحسب الخارج قيام العرض بالموضوع ، واستحالته ظاهرة على ما سبق. فأمّا إذا قلنا بكونه عين الماهيّة في الخارج وزيادته عليها في العقل ، فلا مجال لقولهم (1) بالاستحالة.

وفرق بين قولنا : الوجود عين الماهيّة في الخارج ، وبين قولنا : ليس في الخارج إلاّ الماهيّة ، فليتدبّر. والأوّل هو ما نقوله. والثاني هو ما يقوله الانتزاعيّون.

فالحقّ الحقيق بالتصديق هو أنّ الفائض عن العلّة والصادر عنها بالذات إنّما هو وجود المعلول ، فإذا فاض الوجود من العلّة وباينها بالعدد ، يلزم أن يكون له هويّة امتاز بها عن العلّة ، وهذه الهويّة اللازمة هو المراد من الماهيّة ، فهذا الفائض من الجاعل أمر واحد في الخارج يحلّله العقل إلى أمرين :

أحدهما : ما يعبّر عنه بالكون وهو المراد من حقيقة الوجود.

ص: 231


1- في « شوارق الإلهام » : « لتوهّم » بدل « لقولهم ».

وثانيهما : الكائن بهذا الكون ، وهو المراد بالماهيّة ، فالمعبّر عنه بمنزلة ذات الشيء الموجود ؛ فإنّ الوجود بهذا المعنى يرادف الذات ، والمعبّر به من عوارضه ، ولفظ الوجود اسم مشترك بين هذين المعنيين. وما تواطئوا عليه - من كون الوجود مقولا بالتشكيك - هو الوجود بهذا المعنى لا الوجود الانتزاعيّ ؛ إذ لا معنى لكون الكون المصدريّ قابلا للتشكيك ، بل هو في الكلّ على السواء كما لا يخفى على الخبير ، فلنكتف هاهنا بهذا القدر من البيان ، ومن أراد الاستقصاء فليراجع ما حقّقناه في تضاعيف مباحث الوجود ، وفي نيّتنا أن نأتي برسالة مفردة لتمام التحقيق فيه بحيث ترتفع عنه جميع الأوهام والشكوك إن شاء اللّه العزيز.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الوجود العلّة أشدّ لا محالة من الوجود المعلول.

والمراد من الشدّة هو كون الشيء بحيث ينتزع منه أمثال شيء آخر ، فيكون الشيء الأوّل هو الشديد ، والثاني هو الضعيف ، فالأشدّ ما كأنّه يشتمل على عدّة أمثال الأضعف ، فالوجود العلّة - لكونه أشدّ من الوجود المعلول - يكون مشتملا على الوجود المعلول مع زيادة ، فالعلّة - التي هي مبدأ للعلل كلّها وينتهي إليها جميع المعلولات - كأنّها تشتمل على المعلولات كلّها ، فهي المعلولات كلّها بعنوان الوحدة ، وإذا صدرت عنها المعلولات وتباينت وتمايز بعضها عن بعض ، كانت جميعها هي العلّة بعنوان الكثرة من دون أن ينتقص من العلّة شيء ؛ إذ المعلول ليس جزءا من العلّة وبعضا منها حقيقة ، بل إنّما هو أثر منها ، وظلّ لها ، وما من المعلول في العلّة إنّما هو أصله وسنخه ؛ إذ فرق بين أن يفيض من شيء شيء ، وبين أن يقسّم شيء إلى شيء ، ومفاد العلّيّة والتأثير إنّما هو الأوّل لا الثاني ، فالوجود الواجبيّ يشتمل على جميع وجودات الممكنات التي هي عبارة عن ذواتها ، لا أقول : عن ماهيّاتها إذ فرق بين الماهيّة والذات على ما عرفت ، فعلمه تعالى بذاته عين العلم بجميع ذوات الأشياء ، وهذا هو المراد من كون ذاته تعالى علما إجماليّا بالأشياء وعقلا بسيطا لها على معنى ما حصّلناه من كلام الشيخ كما مرّ.

ص: 232

فظهر أنّه لا يعزب عن هذا العلم - الذي هو عين ذاته - مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء بلا تكلّف وتجوّز ، لكن لمّا لم يمكن التميّز بين أمثال الضعيف التي يشتمل عليها الشديد في الخارج ؛ لكونها متّحدة بحسبه ، بل هي - من حيث هي متميّزة - إنّما هي في العقل ، لم يكف هذا العلم في صدور النظام من حيث هو نظام ؛ لاستدعائه التفصيل كما عرفت أيضا وإن كان هذا العلم علما بالماهيّات أيضا من وجه لكن ليس علما بها من حيث هي ماهيّات ؛ حيث لم تتميّز الماهيّة عن الوجود بحسب الخارج ، بل إنّما يتميّز عنه في العقل فقط ، وفي العقل البسيط لا يكون تميّز أصلا لا بين وجود ووجود ، ولا بين وجود وماهيّة ، فبالاضطرار لزم القول بالعقل التفصيليّ المتحقّق بحصول صور الماهيّات في العاقل متميّزا بعضها عن بعض وعن الوجود في علمه تعالى بالأشياء.

وهذان العلمان هما المشار إليهما بالكلّ الأوّل والكلّ الثاني في كلام الفارابيّ في الفصوص على ما نقلناه (1).

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الحصول ليس هو بالمعنى المشهور ؛ فإنّ المتبادر من الحصول في المشهور هو أن يكون الصور حاصلة من الأشياء في العاقل وفيما نحن فيه الأشياء حاصلة من الصور في الخارج ، وجميع المفاسد - التي أوردوها على القول بالعلم الحصوليّ في الواجب - مبنيّة على الاشتباه بين هذين المعنيين للحصول ، فعلى هذا لو قال قائل : إنّ علمه تعالى بالأشياء ليس حصوليّا كما أنّه ليس بحضوريّ ، لكان صوابا من هذا الوجه.

تدقيق إلهاميّ

يمكن أن يدقّق النظر ويقال : إنّ حديث الصور وحصولها في ذاته تعالى إنّما هو

ص: 233


1- انظر ص 192 من هذا الجزء.

لتفهيم كون ذاته تعالى علما بجميع الأشياء تفصيلا ، ويتبيّن معنى عنايته بها في صدورها عنه عن علم ، وذلك لا يستدعي حصول الصور حقيقة في ذاته تعالى متميّزا بعضها عن بعض ، بل يكفي فيه كون ذاته تعالى بحيث لو اعتبرها العقل وفصل ما اشتملت هي عليه بعنوان الوحدة من الموجودات المعلولة ، لحصل في العقل الصور المتكثّرة المطابقة لتلك الموجودات حقيقة ، فعبّروا عن تلك الحيثيّة - المستدعية لحصول الصور في العقل بالاعتبار المذكور - بحصول الصور في ذاته كما هو شائع في الاعتباريّات ؛ فإنّهم يقولون : إنّ الماهيّة البسيطة مركّبة من الأجزاء العقليّة ، ومعنى التركّب هو حصول الأجزاء في المركّب ، وليس للأجزاء العقليّة - كالجنس والفصل - حصول حقيقة في الماهيّة البسيطة ، بل حصولهما في الحقيقة إنّما هو في العقل ، لكن لمّا كان ذلك الحصول في العقل بسبب ملاحظته إيّاها من جهتين منها هما : جهتا ما به الاشتراك وما به الامتياز ، جعلوا حصولهما في العقل حصولا في الماهيّة ، واعتبروها مركّبة منهما في العقل ، وكذا الحال في الاعتبارات العرضيّة للماهيّات ، وكون ذاته تعالى العالمة بذاتها بالحيثيّة المذكورة كاف في صدور الأشياء عنه تعالى عن علم.

واستدعاء صدور النظام شيئا أزيد من الحيثيّة المذكورة ممنوع ، وكذا استدعاء علمه تعالى بالماهيّات - من حيث هي ماهيّات - ذلك ؛ فإنّ كونه تعالى عالما بشيء - من شأنه أن يحلّله العقل إلى ماهيّة ووجود - كاف في علمه تعالى بالماهيّة والوجود معا ، فليتفطّن.

وبهذا يمكن أن يوجّه ما مرّ في كلام ابن رشد من أنّ ذاته تعالى ليس شيئا أزيد من عقل (1) النظام ، فليتدبّر.

وممّا يؤيّد هذا التدقيق أنّ الغزاليّ في « التهافت » نقل مذهب الشيخ على أنّه قائل

ص: 234


1- في المصدر : « من تعقّل النظام ».

بكون ذاته تعالى علما تفصيليّا بجميع الأشياء وأنّه متفرّد من بين الفلاسفة بذلك ولم ينسب إليه القول بحصول الصور في ذاته ، وصدّقه ابن رشد في ذلك النقل (1) إلاّ أنّه جعله موافقا للفلاسفة في ذلك على ما مرّ ، فلو لا أنّ مراد الشيخ هو ما ذكرنا ، لما صحّ ذلك النقل وتصديقه فيه مع كون كتبه ورسائله مشحونة بحديث الصور على ما عرفت ، وعلى هذا يكون ما مرّ غير مرّة في كلام الشيخ - من أنّ اتّصافه تعالى بتلك الصور إنّما هو من حيث هي حاصلة فيه أو أنّها حاصلة فيه من ذاته لا من غيره وأمثال ذلك - إشارة إلى أنّ المراد من الحصول هاهنا ليس هو المعنى المشهور المتبادر ، بل هو معنى آخر ، فليتأمّل جدّا.

وهذا هو الكلام في العلم بالكلّيّات والطبائع المرسلة والجزئيّات المجرّدة ، وهذا العلم ثابت دائما غير متغيّر أصلا كالمعلوم.

[ في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات الماديّة المتغيّرة ]

وأمّا العلم بالجزئيّات المادّيّة المبدعة والحادثة المتغيّرة ، فقد يكون أيضا دائما غير متغيّر وإن تغيّر المعلوم وذلك إذا كان العلم بها حاصلا من أسبابها وعللها المتأدّية إليها ، فيكون تعقّلا وغير محتاج إلى آلة ، وقد يكون متغيّرا ، فيكون حادثا بعد ما لم يكن ، وزائلا بعد ما كان ، وذلك إذا كان حاصلا من وجوداتها ، فيكون إحساسا ومحتاجا إلى آلة ، وعلم البارئ تعالى بالأشياء لمّا لم يجز أن يكون حاصلا له من وجودات الأشياء - لما عرفت - وجب أن يكون علمه بالجزئيّات حاصلا له من ذاته التي هي علّة للوجودات كلّها فينتهي إليها سلسلة العلل والأسباب ، فيكون تعقّلا ويكون ثابتا غير متغيّر أصلا وإن تغيّر المعلوم ؛ فإنّه تعالى يعلم كلاّ في وقته علما ثابتا قبل ذلك الوقت وفيه وبعده ، فيعلم وجوده بالأسباب المتأدّية إليه وعدمه بالأسباب المعدمة له ، ولا يتوقّف علمه بالوجود إلى حضور الآن والزمان الذي

ص: 235


1- انظر ص 190 - 191 من هذا الجزء.

يختصّ الوجود به ، ولا علمه بالعدم إلى حضور الآن والزمان الذي يختصّ به العدم ، فلا مدخل في علمه تعالى ماض ولا مستقبل ولا حال.

قال الشيخ في إلهيّات الشفاء : ولأنّه مبدأ كلّ وجود ، فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للوجودات (1) التامّة بأعيانها والوجودات (2) الكائنة الفاسدة بأنواعها أوّلا ، وبتوسّط ذلك بأشخاصها.

ومن وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيّرات مع تغيّرها من حيث هي متغيّرة عقلا زمانيّا مشخّصا ، بل على نحو آخر نبيّنه ؛ فإنّه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيّا منها أنّها موجودة غير معدومة ، وتارة يعقل عقلا زمانيّا أنّها معدومة غير موجودة ، فيكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقليّة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات.

ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهيّة المجرّدة (3) وبما يتبعها ممّا لا يتشخّص ، لم تعقل بما هي فاسدة.

وإن أدركت بما هي مقارنة لمادّة وعوارض مادّة ووقت وتشخّص وتركيب ، لم تكن معقولة ، بل هي محسوسة أو متخيّلة ، ونحن قد بيّنّا في كتب أخرى أنّ كلّ صورة لمحسوس وكلّ صورة خياليّة فإنّما تدرك من حيث هي محسوسة ومتخيّلة بآلة متجزّئة ، وكما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له ، كذلك إثبات كثير من التعقّلات ، بل الواجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّيّ ، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصيّ ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض. وهذا من العجائب التي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة (4).

ثمّ أشار إلى بيان النحو الآخر الذي عليه يجب أن يكون تعقّله لهذه المتغيّرات ،

ص: 236


1- في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « الموجودات ».
2- في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « الموجودات ».
3- في « شوارق الإلهام » : « المجرّدة بما ».
4- « الشفاء » الإلهيّات : 359 ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

فقال : وأمّا كيفيّة ذلك ، فلأنّه إذا عقل ذاته ، وعقل أنّه مبدأ كلّ موجود ، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولّد عنها ، ولا شيء من الأشياء يوجد إلاّ وقد صار من جهة ما يكون (1) واجبا بسببه وقد بيّنّا هذا ، فتكون هذه الأسباب تتأدّى بمصادماتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئيّة ، فالأوّل يعلم الأسباب ومطابقاتها ، فيعلم ضرورة ما يتأدّى إليها ، وما بينها من الأزمنة ، وما لها من العودات ؛ لأنّه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذا ، فيكون مدركا للأمور الجزئيّة من حيث هي كلّيّة ، أعني من حيث لها صفات. وإن تخصّصت بها شخصا ، فبالإضافة إلى زمان متشخّص ، أو حال متشخّصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها ، كانت أيضا بمنزلتها ، لكنّها تستند إلى مبادئ ، كلّ واحد منها نوعه في شخصه ، فيستند (2) إلى أمور شخصيّة ، وقد قلنا : إنّ مثل هذا الاستناد قد يحصل للشخصيّات رسما ووضعا (3) مقصورا عليها (4) و (5).

ثمّ أورد لذلك مثالا ، فقال :

« كما أنّك تعلم حركات السماويّات كلّها ؛ فأنت تعلم كلّ كسوف وكلّ اتّصال وكلّ انفصال جزئيّ يكون ، بعينه ، ولكنّه على نحو كلّيّ ؛ لأنّك تقول في كسوف ما : إنّه كسوف يكون بعد زمان حركة يكون لكذا من كذا شماليّا نصفيّا ينفصل القمر منه إلى مقابله كذا ، ويكون بينه وبين كسوف مثله سابق له أو متأخّر عنه مدّة كذا ، وكذلك بين حال الكسوفين الآخرين حتّى (6) لا تقدّر عارضا من عوارض تلك الكسوفات إلاّ علمته ، ولكنّك علمته كلّيّا ؛ لأنّ هذا المعنى يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كلّ واحد منها يكون حاله تلك الحال ، لكنّك تعلم بحجّة ما أنّ ذلك

ص: 237


1- كلمة « يكون » ليست في « الشفاء ».
2- كذا ، والأولى : « تستند ».
3- في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « رسما ووصفا ».
4- في الطبعة الحجريّة من « الشفاء » : « مقصودا عليها ».
5- « الشفاء » الإلهيّات : 359 - 360 ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.
6- في « شوارق الإلهام » : « حتّى لا نتصوّر ».

الكسوف لا يكون إلاّ واحدا بعينه.

وهذا لا يدفع الكلّيّة إن تذكّرت ما قلناه قبل ، ولكنّك مع هذا كلّه لم يجز أن تحكم في هذا الآن بوجود هذا الكسوف أولا وجوده إلاّ أن تعرف جزئيّات الحركات بالمشاهدة الحسّيّة (1).

ثمّ قال : فإن منع مانع أن يسمّى هذا معرفة للجزئيّ من جهة كلّيّة ، فلا مناقشة معه ؛ فإنّ غرضنا الآن في غير ذلك ، وهو في تعريفنا أنّ الأمور الجزئيّة كيف تعلم وتدرك علما وإدراكا يتغيّر معهما العالم ، وكيف تعلم وتدرك علما واحدا وإدراكا لا يتغيّر معهما العالم ؛ فإنّك إذا علمت أمر الكسوفات كما توجد أنت ، أو لو كنت موجودا دائما ، كان لك علم لا بالكسوف المطلق ، بل بكلّ كسوف كائن ، ثمّ كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يغيّر منك أمرا ؛ فإنّ علمك في الحالين يكون واحدا ، وهو أنّ يكون كسوفا له وجود بصفات كذا بعد كسوف كذا ، أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا ، في مدّة كذا ، ويكون بعد كذا ، وبعده كذا ، ويكون هذا القصد (2) منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده ، فأمّا إن أدخلت الزمان في ذلك ، فعلمت في آن مفروض أنّ هذا الكسوف ليس بموجود ، ثمّ علمت في آن آخر أنّه موجود ، لم يبق علمك ذلك عند وجوده ، بل كان يحدث علم آخر ، ويكون فيك التغيّر الذي أشرنا إليه ، ولم يصحّ أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبل الانجلاء وأنت زمانيّ وآنيّ ، والأوّل الذي لا يدخل في زمان وحكمه ، فهو بعيد أن يحكم حكما في هذا الزمان ، وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم جديد أو معرفة جديدة (3).

وقال في « الإشارات » : الأشياء الجزئيّة قد تعقل كما تعقل الكلّيّات من حيث

ص: 238


1- « الشفاء » الإلهيّات : 360.
2- في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « العقد » بدل « القصد ».
3- « الشفاء » الإلهيّات : 361 - 362 ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه (1) في شخصه يتخصّص (2) به كالكسوف الجزئي ؛ فإنّه يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئيّة وإحاطتها بها ، ويعقلها ، كما يعقل الكلّيّات (3) ، وذلك غير الإدراك الجزئيّ الزمانيّ لها الذي يحكم أنّه وقع الآن أو قبله ، أو يقع بعده ، بل مثل أن يعقل أنّ كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئيّ ما ، في وقت كذا وهو جزئيّ ما ، في مقابلة كذا ، ثمّ ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل إحاطة بأنّه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأوّل ؛ لأنّ هذا إدراك آخر جزئيّ يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله ، وذلك الأوّل يكون ثابتا الدهر كلّه وإن كان علما بجزئيّ ؛ فإنّ العاقل يغفل أنّه بين كون القمر في موضع كذا وبين كونه في موضع كذا يكون كسوف معيّن في وقت من زمان أوّل الحالين محدود عقله (4) ، وذلك أمر ثابت قبل كون الكسوف ومعه وبعده (5).

ثمّ قسّم الصفات للأشياء ، ومحصّل القسمة أنّ من الصفة ما يتغيّر بتغيّرها الموصوف ، ومنها ما لا يتغيّر بتغيّرها الموصوف ، فالثاني لا يكون متقرّرا في ذات الموصوف مثل كونك يمينا وشمالا ، والأوّل يكون متقرّرا في ذات الموصوف ، وهذه إمّا أن لا يلزمها إضافة إلى غير الموصوف وهي الصفة الحقيقيّة المحضة مثل السواد والبياض ، وإمّا أن يلزمها إضافة إلى غيره. وهذه على قسمين : ما لا يتغيّر بتغيّر المضاف إليه ، وما يتغيّر بتغيّره.

فالأوّل كالقدرة ؛ فإنّها هيئة ما للذات ، بسببها يصحّ أن يصدر عن تلك الذات فعل

ص: 239


1- أي ينحصر في شخصه.
2- في المصدر : « يتشخّص ».
3- في المصدر : « وإحاطته بها وتعقّلها كما تعقل الكلّيّات ». وفي « الإشارات والتنبيهات » : « وإحاطة العقل بها أو تعقّلها كما تعقل الكلّيات ».
4- في « الإشارات والتنبيهات » : « ذلك » بدل « وذلك ».
5- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 307 - 308.

وهي تقتضي كون القادر مضافا إلى مقدور عليه ولا يتغيّر بتغيّر المضاف إليه ؛ فإنّ القادر على تحريك زيد لا يصير غير قادر في ذاته عند انعدام زيد ، ولكن يتغيّر إضافته تلك ؛ فإنّه حينئذ لا يكون قادرا على تحريك زيد وإن كان قادرا في ذاته.

والسبب في ذلك أنّ القدرة تستلزم الإضافة إلى أمر كلّيّ لزوما أوّليّا ذاتيّا ، وإلى الجزئيّات التي تقع تحت ذلك الكلّيّ لزوما ثانيا غير ذاتيّ ، بل بسبب ذلك الكلّيّ ، والأمر الكلّيّ الذي يتعلّق الصفة به لا يمكن أن يتغيّر ، فلأجل ذلك لا يتطرّق التغيّر إلى الصفة.

وأمّا الجزئيّات ، فقد تتغيّر ولتغيّرها يتغيّر الإضافات الجزئيّة العرضيّة المتعلّقة بها.

والثاني كالعلم ؛ فإنّه صورة متقرّرة في العالم تقتضيه الإضافة إلى معلومه ، ويتغيّر بتغيّر المعلوم ؛ فإنّ العالم بكون زيد في الدار يتغيّر علمه بخروجه عن الدار ؛ وذلك لأنّ العالم يستلزم الإضافة إلى معلومه المعيّن ، ولا يتعلّق بغير ذلك المعلوم بعين التعلّق الأوّل ، بخلاف القدرة ؛ فإنّ القدرة تتعلّق بالمقدور الكلّيّ أوّلا ، وبسببه بالمقدور الجزئيّ الذي يقع تحت ذلك الكلّيّ ثانيا. أمّا العلم ، فإنّه إذا تعلّق بالكلّيّ ، فلا يتعلّق بالجزئيّ الذي يقع تحت ذلك الكلّيّ البتّة إلاّ إذا استؤنف العلم وتجدّد وتعلّق بذلك الجزئيّ تعلّقا آخر ، مثلا العلم بأنّ الحيوان جسم لا يقتضي بانفراده العلم بكون الإنسان جسما ما لم يقترن إلى ذلك علم آخر هو العلم بكون الإنسان حيوانا فإذن العلم بكون الإنسان جسما علم مستأنف له إضافة مستأنفة وهيئة جديدة للنفس ، لها إضافة جديدة غير العلم بكون الحيوان جسما وغير هيئة تحقّق ذلك العلم.

ويلزم من ذلك أن يختلف حال الموصوف بالصفة التي تكون من هذا القسم باختلاف حال الإضافات المتعلّقة بها ، لا في الإضافات ، بل في نفس تلك الصفة (1).

ص: 240


1- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 311 - 314.

ثمّ بعد تمهيد ذلك قال ما محصّله : أنّ كلّ ما لا يكون موضوعا للتغيّر لا يجوز أن تتبدّل صفاته المتقرّرة المحضة ، ولا صفاته المتقرّرة المتعلّقة بالإضافة ، التي تتغيّر بتغيّر الإضافة ويجوز أن تتبدّل إضافاته اللازمة لصفاته المتقرّرة التي لا تتغيّر بتغيّر تلك الإضافات ، ولا محالة يكون ذلك في إضافات بعيدة لازمة لزوما ثانيا ، ولا يمكن أن يكون في إضافات قريبة لازمة لزوما أوّليا ؛ فإنّ التغيّر فيهما يقتضي التغيّر في نفس تلك الصفات ، وكذا يجوز أن يتبدّل إضافاته المحضة وهو ظاهر (1).

ثمّ قال : الواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيّات علما زمانيّا حتّى يدخل فيه الآن والماضي والمستقبل ، فيعرض لصفة ذاته أن يتغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيّات على الوجه المقدّس العالي على الزمان والدهر (2).

وقال في التعليقات : « العالم إنّما يصير مضافا إلى الشيء المعلوم بهيئة تحصل في ذاته ، وليس الحال في العالميّة كالحال في التيامن والتياسر الذي إذا تغيّر الأمر الذي كان متيامنا ومتياسرا ، ولم يتغيّر هيئة فيمن كانت له هذه الإضافة إلاّ نفس هذه الإضافة أعني التيامن ؛ فإنّ الإضافة قد تكون في المضاف والمضاف إليه كالعاشق والمعشوق ، والعلم والمعلوم ، وقد لا تكون بهيئة كالحال في التيامن ؛ فإنّ العلم يبطل ببطلان هيئة كانت الإضافة بينه وبين المعلوم بسببهما (3) والتيامن لا يبطل منه هيئة ، ثمّ يبطل ببطلانه التيامن ، والإضافة بالحقيقة عارضة لتلك الهيئة التي في العالم والعاشق لا أنّ تلك الهيئة هي نفس الإضافة (4).

ثمّ قال : فالعلم ليس هو وجود المعلوم في ذاته ؛ إذ ليس وجود الشيء في ذاته سببا لحصول العلم ، وإلاّ لم يكن علم بالمعدوم ، بل العلم وجود هيئة في ذات العالم ،

ص: 241


1- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 314 - 315.
2- نفس المصدر.
3- في « شوارق الإلهام » : « نسبتها ».
4- « التعليقات » : 13.

فالشيء إذا كان معلوما ثمّ يصير لا معلوما فلحالة تتغيّر في العالم لا لنفس الإضافة مطلقة ، فواجب الوجود لو كان علمه زمانيّا - أعني زمانا مشارا إليه حتّى يعلم أنّ الشيء الفلانيّ في هذا الوقت غير موجود وغدا يكون موجودا - كان علمه متغيّرا ؛ فإنّه كما أنّ هذا الشيء غير موجود الآن ويصير موجودا غدا كذلك العالم به إمّا أن يعلمه كذلك فيكون متغيّرا ، وإمّا أن يكون علمه غدا كعلمه في هذا اليوم فلا يكون علما ؛ فإنّه يكون محالا ، أو لا يكون علمه غدا كعلمه في هذا اليوم بل قد يتغيّر.

وأمّا أنّه كيف يكون علمه فهو أن يكون بسبب ، أعني أن يكون يعرف الموجودات كلّها على وجه كلّيّ ، وإذا كانت الأشياء كلّها واجبة عنده إلى أقصى الوجود ، فإنّه يعرفها كلّها ؛ إذ كلّها من لوازمه ولوازم لوازمه ، وإذا علم أنّه كلّما كان كذا ، كان كذا أعني جزئيا آخر ، ويكون هذه الجزئيّات مطابقة لهذا الحكم ، يكون قد عرف الجزئيّات على الوجه الكلّيّ الذي لا يتغيّر ، الذي يمكن أن يتناول أيّ جزئيّ كان ، لا هذا المشار إليه (1).

ثمّ قال : ومثال هذا أنّ منجّما يعلم أنّ الكوكب الفلانيّ كان أوّلا في الدرجة الفلانيّة فصار إلى الدرجة الفلانيّة ، ثمّ بعد كذا ساعة قارن الكوكب الفلانيّ ، ثمّ دخل بعد كذا ساعة في ذلك الكسوف ، ثمّ بقي بعد كذا ساعة في ذلك الكسوف ، ثمّ فارق الشمس وانجلى ، وقد يكون قد عرف كلّ ذلك بأسبابه ، ولا يكون قد عرف أنّ هذا الكوكب في هذه الساعة في الدرجة الفلانيّة حتّى يكون الساعات التي بعدها مستندة إلى هذه المشار إليها ، ويتغيّر علمه بحسب تغيّر الأحوال وتجدّدها ، فإذا عرف على الوجه الذي ذكرناه - أعني بالسبب - كان حكمه في اليوم وغدا وأمس حكما واحدا والعلم لا يتغيّر ؛ فإنّه صحيح « دائما في هذا الوقت وفيما قبله وفيما بعده أنّ الكوكب الفلانيّ كذا ساعة يقارن الكوكب الفلانيّ.

ص: 242


1- « التعليقات » : 13 - 14.

فأمّا إن قال : إنّ الكوكب الفلانيّ في هذا الوقت الفلانيّ - المشار إليه المستفاد علمه من خارج - مقارن للكوكب الفلانيّ وغدا مقارن لكوكب آخر ، فإنّه إذا جاء الغد بطل الحكم الوقتيّ والعلم الوقتيّ.

فإذن الفرق بين العلمين ظاهر ، فواجب الوجود علمه على الوجه الكلّيّ علم لا يعزب عنه مثقال ذرّة ، وهذا الكسوف الشخصيّ وإن كان معقولا على الوجه الكلّيّ ؛ إذ قد علم بأسبابه ، والمعقول فيه بحيث يجوز حمله على كسوفات كثيرة كلّ واحد منها حاله حال هذا الكسوف ، فإنّ الأوّل تعالى يعلم أنّه مشخّص في الوجود وعلمه محيط بوحدانيّته ، فإنّه إن لم يعرف وحدانيّته لم يعرفه حقّ المعرفة ، وكذلك نظام الموجودات عنه وإن عرفه على وجه كلّيّ بحيث يكون معقوله يجوز حمله على كثيرين ، فإنّه يعلم أنّه واحد ، وكذلك يعلم أنّ العقل الفعّال واحد وإن كان عقله على وجه كلّيّ ، وعلمه بأنّ هذا الكسوف شخصيّ لا يرفع (1) المعقول الكلّيّ.

والعلم ما يكون بأسباب ، والمعرفة ما يكون بمشاهدة ، والعلم لا يتغيّر البتّة وإن كان جزئيّا ؛ فإنّ علمنا بأنّ الكسوف غدا يكون مركّبا من علم ومشاهدة ، ولو كان غدا لم يكن مشارا إليه ، بل كان معلوما بأسبابه لم يكن إلاّ علما كلّيّا ، ولم يكن يجوز أن يتغيّر ، ولم يكن زمانيّا ؛ فإنّ كلّ علم لا يعرف بالإشارة وبالاستناد إلى شيء مشار إليه كان بسبب ، والعلم بالمسبّب لا يتغيّر ما دام السبب موجودا ، لكنّ العلم الذي يتغيّر هو أن يكون مستفادا من وجود الشيء ومشاهدته ، فواجب الوجود تعالى منزّه عن ذلك ؛ إذ لا يعرف الشيء من وجوده ، فيكون علمه زمانيا ومستحيلا ومتغيّرا ، ولو كنّا نعرف حقيقة واجب الوجود وما يوجبه ذاته من صدور اللوازم كلّها عنه لازما بعد لازم إلى أقصى الوجود ، لكنّا نحن أيضا نعلم الأشياء بأسبابها ولوازمها ، وكان علمنا أيضا لا يتغيّر ، وإذا كان هو يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ، فيجب

ص: 243


1- في « التعليقات » : « لا يدفع ».

أن يكون علمه كلّيّا بأسباب الشيء ولوازمه ، فلا يتغيّر (1). انتهى.

واعلم أنّه كما أنّه من هذا الطريق بتصحّح العلم بالجزئيّات المتغيّرة ، كذلك يتصحّح العلم بالجزئيّات المتشكّلة أيضا ؛ فإنّ إدراك المتشكّلات - إذا لم يكن من سبيل الجزئيّة المستندة إلى الإشارة والإحساس ، بل من سبيل التخصيص بصفات مستندة إلى مبدأ نوعه في شخصه - لا يستدعي الانطباع في آلة جسمانيّة.

واعلم أيضا أنّه لا يخرج من هذا الطريق عن إحاطة علمه تعالى شيء جزئيّ ، بل نفي علمه تعالى عن الجزئيّات على وجه الجزئيّة عبارة عن نفي الإحساس بها عنه تعالى كما هو الظاهر ، بل الصريح من كلام الشيخ ، ولا يلزم من نفي الإحساس بالشيء نفي العلم به.

فلا وجه لما أورده المصنّف في شرح الإشارات على الشيخ من أنّ : هذه السياقة قد تشبه سياقة الفقهاء في تخصيص بعض الأحكام بأحكام يعارضها في الظاهر ، وذلك لأنّ الحكم بأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول إن لم يكن كلّيا ، لم يمكن أن يحكم بإحاطة الواجب بالكلّ ، وإن كان كلّيّا وكان الجزئيّ المتغيّر من جملة معلولاته ، أوجب ذلك الحكم أن يكون عالما به لا محالة ، فالقول بأنّه لا يجوز أن يكون عالما به ؛ لامتناع كون الواجب موضوعا للتغيّر تخصيص لذلك الحكم الكلّيّ بحكم آخر عارضه في بعض الصور ، وهذا دأب الفقهاء ومن يجري مجراهم ، ولا يجوز أن تقع أمثال ذلك من المباحث المعقولة ؛ لامتناع تعارض الأحكام فيها.

فالصواب أن يؤخذ بيان هذا المطلب من مأخذ آخر ، وهو أن يقال : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، ولا يوجب الإحساس به ، وإدراك الجزئيّات المتغيّرة من حيث هي متغيّرة لا يمكن إلاّ بالآلات الجسمانيّة كالحواسّ وما يجري مجراها والمدرك بذلك الإدراك يكون موضوعا للتغيّر لا محالة. أمّا إدراكها على الوجه

ص: 244


1- « التعليقات » : 14 - 15.

الكلّيّ ، فلا يمكن إلاّ بالعقل ، والمدرك بهذا الإدراك يمكن أن لا يكون موضوعا للتغيّر ، فإذن الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون موضوعا للتغيّر ، بل كلّ ما هو عاقل يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني (1). انتهى كلام شرح الإشارات.

وأنت بما نبّهنا عليه خبير بما فيه. هذا تصحيح العلم بالجزئيّات المتغيّرة على القول بارتسام الصور في ذاته تعالى بالمعنى الذي حقّقناه.

وأمّا تصحيحه على القول بالعلم الحضوريّ ، فواضح ؛ فإنّه لمّا لم يكن العلم مستدعيا لارتسام الصور في ذاته تعالى ، لم يكن تغيّر المعلوم موجبا لتغيّر ما هو صفة حقيقيّة له تعالى ، بل يتغيّر إضافة بينه وبين معلومه وهو جائز اتّفاقا.

وإلى هذا أشار المصنّف - قدس سره - بقوله : ( وتغيّر الإضافات ممكن ).

وقال في شرح رسالة العلم : وأمّا علم البارئ بالجزئيّات ، ففيه خلاف بين المتكلّمين والفلاسفة ؛ وذلك أنّ المتكلّمين قالوا : إنّ البارئ تعالى يعلم الحادث اليوميّ على الوجه الذي يعلم أحدنا أنّه موجود في هذا الوقت ولم يكن موجودا قبله ويمكن أن يوجد بعده أو لا يمكن ، ثمّ إذا تنبّهوا بوجوب تغيّر العلم بالمتغيّرات حسب تغيّرها ، التزم بعضهم جواز التغيّر في صفات اللّه تعالى ، أو في بعضها ، فقال القائلون بالإضافات فقط : إنّ تغيّر الإضافات في اللّه تعالى جائز عند جميع العقلاء كالخالقيّة والرازقيّة والإضافة إلى كلّ شخص.

وقال غيرهم : يجوز أن يكون ذاته محلاّ للحوادث كما جوّز طائفة من الحكماء كونه محلاّ للحوادث ، قابلا لصور المعلومات غير المتغيّرة. ومن لم يجوّز التغيّر في صفاته تعالى ، عاند في هذا الموضع ، وأنكر التغيّر أصلا وقال : العلم بما سيوجد هو العلم بوجوده حين وجوده » إلى أمثال ذلك من التمسّكات الواهية.

ص: 245


1- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 316.

وأمّا الحكماء ، فالظاهريّون من المنتسبين قالوا : إنّه تعالى عالم بالجزئيّات على الوجه الكلّيّ لا على الوجه الجزئيّ ، فقيل لهم : لا يمكن أن ينكر وجود الجزئيّات على وجه الجزئيّة المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة إلى البارئ تعالى الذي هو مبدؤه وعلّته الأولى ، وعندكم أنّ العلم التامّ بالعلّة التامّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها ، وأنّ علم البارئ تعالى بذاته أتمّ العلوم ، فأنتم بين أن تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيّات على وجه الجزئيّة المتغيّرة ، وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ؛ إذ من الممتنع أن يستثنى من الأحكام الكلّيّة العقليّة بعض جزئيّاتها الداخلة فيها ، كما يستثنى في الأحكام النقليّة بعضها ؛ لتعارض الأدلّة السمعيّة ، فهذه هي المذاهب المشهورة.

وأمّا التحقيق في هذا الموضع فيحتاج - كما تقدّم - إلى لطف قريحة.

ثمّ قال - بعد تمهيد مقدّمة محصّلها : أنّ الكثرة العدديّة إمّا أن تكون آحادها غير قارّة ، أو تكون قارّة.

والأوّل : لا يمكن أن يوجد إلاّ مع زمان ، أو في زمان ؛ لأنّ العلّة الأولى للتغيّر على هذا الوجه في الوجود هو الموجود غير القارّ لذاته الذي يتصرّم ويتجدّد على الاتّصال وهو الزمان.

والثاني : لا يمكن أن يوجد إلاّ في مكان ، أو مع مكان ؛ لأنّ العلّة الأولى للكثرة على هذا الوجه إنّما هو الموجود الذي يقبل الوضع لذاته ويلزمه التجزّؤ بأجزاء مختلفة الأوضاع وكلّ موجود يكون شأنه ذلك فهو مادّي ، فالطبائع إذا تحصّلت في أشخاص كثيرة ، يكون الأسباب الأولى لتعيّن أشخاصها إمّا الزمان كما للحركات ، أو المكان كما في الأجسام ، أو كليهما كما في الأشخاص المتغيّرة المتكثّرة الواقعة تحت نوع من الأنواع. وما لا يكون زمانيّا ولا مكانيّا فلا يتعلّق بهما ، ويتنفّر العقل من استناده إليهما كما إذا قيل : الإنسان من حيث طبيعته الإنسانيّة متى يوجد؟ أو أين يوجد؟ أو كون الخمسة نصف العشرة في أيّ زمان يكون؟ أو في أيّ بلدة

ص: 246

يكون؟ بل إذا تعيّن شخص منهما - كهذا الإنسان أو هذه الخمسة والعشرة - فقد يتعلّق بهما بسبب تشخّصهما - بهذه (1) العبارة : فنعود إلى المقصود ونقول : إذا كان المدرك متعلّقا بزمان أو مكان ، فإنّما يكون هذه الإدراكات منه بآلة جسمانيّة لا غير كالحواسّ الظاهرة والباطنة أو غيرها ؛ فإنّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ، ويحكم بوجودها ، ويفوته ما يكون وجوده في زمان غير ذلك الزمان ، ويحكم بعدمه ، بل يقول : إنّه كان ، أو سيكون ، وليس الآن ، ويدرك المتكثّرات التي يمكن له أن يشير إليها ، ويحكم عليها بأنّها في أيّ جهة منه ، وعلى أيّ مسافة إن بعدت عنه.

وأمّا المدرك الذي لا يكون كذلك ، ويكون إدراكه تامّا ، فإنّه يكون محيطا بالكلّ ، عالما به بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة وكم يكون من المدّة بينه وبين الحادث الذي يتقدّمه أو يتأخّر منه ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك بل بدل ما يحكم المدرك الأوّل بأنّ الماضي ليس موجودا في الحال يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الأزمنة التي تكون قبله أو بعده ، ويكون عالما بأن كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان ، وأيّ نسبة يكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما جميعا على الوجه المطابق للوجود ، ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ؛ لأنّه ليس بزمانيّ ولا مكانيّ ، بل نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة.

وإنّما يختصّ بالآن ، أو بهذا المكان ، أو ذاك المكان ، أو بالحضور والغيبة ، أو بأنّ هذا الجسم قدّاميّ أو خلفيّ أو تحتيّ أو فوقيّ من يقع وجوده في زمان معيّن ومكان معيّن ، وعلمه تعالى بجميع الموجودات أتمّ العلوم وأكملها ، وهذا هو المعنيّ بالعلم بالجزئيّات على الوجه الكلّيّ ، وإليه أشير بطيّ السماوات التي هي جامعة

ص: 247


1- أي : ثمّ قال بعد تمهيد مقدّمة ... بهذه العبارة.

الأمكنة والأزمنة كلّها كطيّ السجلّ للكتب ؛ فإنّ القارئ للسجلّ يتعلّق نظره بحرف حرف على الولاء ، ويغيب عنه ما تقدّم نظره إليه أو تأخّر عنه.

أمّا الذي بيده السجلّ مطويّا فيكون نسبته إلى جميع الحروف نسبة واحدة لا يفوته شيء منها.

وظاهر أنّ هذا النوع من الإدراك لا يمكن إلاّ لمن يكون غير زمانيّ وغير مكانيّ ، ويدرك لا بآلة من الآلات ولا بتوسّط شيء من الصور ، ولا يمكن أن يكون شيء من الأشياء - كلّيّا أو جزئيّا ، على أيّ وجه كان - إلاّ وهو عالم به ، فلا يسقط من ورقة إلاّ يعلمها ، ولا حبّة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلاّ وجميعها يثبت عنده في الكتاب المبين ، الذي هو دفتر الوجود من كلّ شيء ممّا مضى أو حضر أو يستقبل أو يوصف بهذه الصفات على أيّ وجه كان.

أمّا العلم بالجزئيّات على الوجه الجزئيّ المذكور ، فهو إنّما يصحّ لمن يدرك إدراكا حسّيّا بآلة جسمانيّة في وقت معيّن (1).

وكما ترى أنّ البارئ تعالى يقال (2) : إنّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ، ولا يقال (3) : إنّه ذائق أو شامّ أو لامس ؛ لأنّه منزّه عن أن يكون له حواسّ جسمانيّة ولا يثلم ذلك في تنزيهه تعالى ، بل يؤكّده ، فكذا نفي العلم بالجزئيّات المشخّصة على الوجه المدرك بالآلات الجسمانيّة عنه لا يثلم في تنزيهه بل يؤكّده ، ولا يوجب ذلك تغيّرا في ذاته الوحدانيّة ولا في صفاته الذاتيّة التي تدركها العقول [ و ] إنّما يوجب التغيّر في معلولاته (4) والإضافات بينه وبينها فقط ، فهذا ما عندي من التحقيق في هذا الموضع (5). انتهى كلام المصنّف في شرح الرسالة.

ص: 248


1- في المصدر و « شوارق الإلهام » : « في وقت معيّن ومكان معيّن ».
2- كذا ، والأصحّ : « يقال له » و « لا يقال له ».
3- كذا ، والأصحّ : « يقال له » و « لا يقال له ».
4- في المصدر و « شوارق الإلهام » : « في معلوماته ومعلولاته ».
5- « شرح مسألة العلم » : 38 - 41.

وأقول : على القول بالعلم الحضوريّ لا حاجة إلى ذلك التطويل ، ولا إلى الفرق بين من تعلّق بزمان ومكان ، ومن لم يتعلّق بهما ؛ فإنّ مناطه ليس إلاّ تحقّق الإضافة الحضوريّة ، ألا ترى أنّ صاحب الإشراق يرى الإبصار بالإضافة الإشراقيّة للنفس إلى المبصرات ، ويرى علمها بالبدن والقوى بالإضافة التسلّطيّة إليهما مع تعلّقهما بالزمان والمكان (1).

وهذه الإضافة الحضوريّة متحقّقة - على قولهم - بين البارئ تعالى ، وبين جميع معلولاته في أوقات وجوداتها.

ولا حاجة أيضا إلى كون نسبته تعالى إلى جميع الأزمنة واحدة في ذلك مع أنّ ذلك ليس من مذهبه ، وإلاّ فأيّ حاجة إلى الفرق بين المعلولات (2) القريبة والبعيدة بكون علمه تعالى بالأولى بحضور ذواتها العينيّة ، وبالثانية بحصول صورها في الأولى على ما عرفت من مذهبه؟ وحينئذ فلا حاجة أيضا إلى نفي حكمه تعالى بعدم شيء ممّا مضى أو يستقبل في الحال ، ولا فرق بينه وبين المدرك الأوّل في ذلك.

نعم ، أمثال ذلك إنّما تلائم مذهب من زعم أنّه ليس بالنسبة إليه تعالى ماض ولا حال ولا مستقبل ، بل نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كنسبة جميع الأمكنة ، وأنّه لا يتغيّر بالنسبة إليه تعالى شيء من الأشياء ، بل التغيّر إنّما هو فيما بينهما ، وبقياس بعضها إلى بعض ، كما مرّ في المباحث السابقة ، وقد قلنا هناك : إنّ هذا المذهب متوهّم من هذا الكلام من المصنّف. كيف؟ ولو كان مراد المصنّف ذلك ، لما صحّ منه ما ذكرناه ، ولما صحّ أن يحكم أنّ ذلك إنّما يوجب التغيّر في معلوماته ومعلولاته والإضافات التي بينه وبينها ؛ فإنّه إذا لم يكن التغيّر واقعا بالنسبة إليه تعالى ،

ص: 249


1- « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 484 - 487. وانظر « حكمة الإشراق » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » 2 :1. 103.
2- في « شوارق الإلهام » : « بين المعلومات ».

لم يوجب تغيّر إضافته تعالى إليهما أيضا.

وبالجملة ، هذا الكلام من المصنّف ليس على ما ينبغي ، بل هو مناسب لمذهب القائلين بالعلم الحصوليّ ، ومأخوذ من كلام الشيخ وغيره من الحكماء في بيان كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات ، وأنّه لا يدخل في علمه تعالى ماض ومستقبل ولا حال ؛ لأنّ علمه تعالى ليس مستفادا من الأشياء ليمكن أن يدخل فيه شيء من ذلك حسب تعلّق الأشياء بالأزمنة الثلاثة ، بل علمه تعالى بالأشياء إنّما هو من ذاته المنزّهة عن الوقوع في شيء من الأزمنة ، وسابق بالذات على الأشياء ، فلا مجال لدخول شيء من الأزمنة فيه.

وكيف كان ، فظهر وثبت من تضاعيف ما ذكرناه في هذا المقام لمن تأمّل حقّ التأمّل أنّ الحقّ الحقيق بالتحقيق ، والقول الحريّ بالتصديق هو أنّ علمه تعالى بجميع الموجودات - الكلّيّة والجزئيّة والحادثة والقديمة - إنّما هو من ذاته تعالى في ذاته بحيث يطابقه الوجود ، وينطبق عليه النظام الموجود ، وهذا العلم هو سبب فيضان هذا النظام المعقول في الأشياء الموجودة من الأزل إلى الأبد في الطول والعرض ، فلا يعزب عن هذا العلم مثقال ذرّة في السماء ولا في الأرض سواء سمّي هذا العلم حصوليّا أو اتّحاديّا أو إجماليّا أو تفصيليّا بعد ما كان المراد من الحصول غير الحصول من الأشياء في ذاته ، ومن الاتّحاد غير الاتّحاد المعروف بين الاثنين الظاهر الاستحالة ، ومن الإجمال غير الذي فهمه المتأخّرون ، بل ما ذكرناه في تفسير كلام الشيخ المنقول من كتاب النفس ، ومن التفصيل غير التفصيل الذي تلزمه هذه الكثرة العارضة للموجودات على ما عرفت في كلام ابن رشد ، ولا يوجب تغيّر المعلوم تغيّر هذا العلم ؛ لكون العلم بالتغيّر غير مستفاد من الأشياء المتغيّرة ليلزم من تغيّرها تغيّره كما في علمنا بالجزئيّات المتغيّرة من طريق الحواسّ ، ومن سبيل الإشارة الحسّيّة على ما مرّ ، ولهذا - أعني لكون هذا العلم غير مستفاد من الأشياء - لا يصحّ كون هذا العلم حضوريا لو فرض كون حضور الأمر المباين كافيا في العلم

ص: 250

ولوجوب كون هذا العلم سببا لنظام جميع الموجودات لا يجوز أن يكون بالصور القائمة بذواتها أو بذات المعلول الأوّل ، وإلاّ لكانت هذه الصورة من جملة تلك الموجودات ، فيكون نظامها لا عن علم ، أو عن علم آخر ، ويتسلسل ، بل هذه الصورة هي عين ذاته تعالى من وجه ، وغير ذاته تعالى من وجه على ما مرّ في التكميل العرشي (1) ، أو عين ذاته تعالى حقيقة وغير ذاته تعالى اعتبارا على ما مرّ في التدقيق الإلهاميّ (2).

وممّا يدلّ على أنّ علمه تعالى لا يتفاوت قبل وجود الأشياء وبعدها ، وأنّه على حال واحد أزلا وأبدا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم قبلا وبعدا - فلو كان علمه بحضور الأشياء أنفسها عنده بوجوداتها العينيّة ، لكان علمه تعالى بها عند وجوداتها أشدّ انكشافا ممّا كان قبلها على ما اعترفوا به وادّعوا الضرورة فيه سيّما والعلم قبل الإيجاد إجماليّ محض على زعم من ذهب منهم إليه - ما (3) رواه في الكافي عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : سمعته يقول : كان اللّه ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه (4).

وعن أيّوب بن نوح أنّه كتب إلى أبي الحسن علیه السلام يسأله عن اللّه عزّ وجلّ : أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوّن عند ما كوّن؟ فوقّع بخطّه علیه السلام : لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء (5).

ص: 251


1- انظر ص 230 وما بعدها من هذا الجزء. وكذا « شوارق الإلهام » :1. 542.
2- انظر ص 233 وما بعدها من هذا الجزء.
3- مبتدأ مؤخّر خبره قوله : « ممّا ».
4- « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ، ح 2.
5- نفس المصدر ، ح 4.

إلى غير ذلك ممّا روي عن أصحاب العصمة والطهارة ، من ورثة خير أهل الرسالة والسفارة ، صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين.

هذا آخر ما أردنا إيراده في شرح هذا المقام ، وتحقيق ذلك المرام ، واللّه تعالى وليّ الإنعام.

وأمّا قوله : ( ويمكن اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين ) فهو جواب عن إشكال على كونه تعالى عالما بالأمور المتجدّدة قبل وقوعها.

وتقريره : أنّها ممكنة لا محالة ؛ لحدوثها ، ويلزم على تقدير تعلّق علمه تعالى بها أن تكون واجبة أيضا ، وإلاّ لأمكن أن لا توجد ، فينقلب علمه تعالى جهلا ، وهو محال.

وتقرير الجواب : أنّها ممكنة لذواتها وواجبة لتعلّق علمه تعالى بها ، فيكون اجتماعهما باعتبارين ، وهو جائز.

فإن قيل : فيلزم وجوب صدور أفعال العباد عنه تعالى ، وهو ينافي كونها اختياريّة لهم ، كان الجواب ما مرّ في مسألة العلم من الأعراض ، وسيأتي من أنّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون موجبا له ، ولا يلزم من وجوب الأمور المتجدّدة - لئلاّ ينقلب علمه تعالى جهلا - أن يكون وجوبها من العلم ؛ لجواز أن يكون ذلك لأسباب أخر كإرادة العبد في أفعاله على ما هو الحقّ كما سيأتي ، فتدبّر » (1).

المسألة الثالثة : في أنّه تعالى حيّ

اعلم أنّ الحياة - وهي عبارة عن صفة مصحّحة لاتّصاف الوجود (2) بالعلم والقدرة ؛ فإنّ الجسم بما هو جسم لا يصحّ أن يتّصف بهما ، وكذا الجماد من حيث هو جماد ، والنبات من حيث هو نبات. وأمّا الحيوان فهو من حيث إنّه حيوان يصحّ أن

ص: 252


1- « شوارق الإلهام » : 549.
2- في « أ » و « و» و « ز » : « الموجود ». وما أثبتناه من « ب » وهي النسخة التي عليها خطّ المصنّف.

يتّصف بهما بصفة مصحّحة للاتّصاف بهما ، وهي الحياة التي تقتضي الحسّ والحركة بشرط اعتدال المزاج اعتدالا نوعيّا ، فلا بدّ من البدن والروح الحيواني ، أعني الجسم اللطيف البخاريّ المتكوّن من لطائف الأخلاط المنبعث من التجويف الأيسر من القلب ، الساري إلى البدن في عروق نابتة من القلب.

والمراد هنا أنّ ذاته تعالى منشأ لصحّة اتّصافه بالعلم والقدرة ، كما أنّ غيره تعالى يتّصف بهما بسبب صفة زائدة على ذاته مسمّاة بالحياة ، فالحياة عبارة عن منشأ صحّة الاتّصاف بالعلم والقدرة ، وهي في الواجب تعالى عين الذات ، وفي الممكن صفة زائدة.

ودليل كونه تعالى حيّا أنّ المتّصف بالعلم والقدرة لا يمكن أن لا يكون حيّا وقد بيّنا اتّصافه تعالى بهما ، فيلزم اتّصافه بالحياة أيضا.

والدليل النقليّ على ذلك المطلب كثير ، كقوله تعالى : ( اللّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (1) ونحو ذلك ممّا سيأتي الإشارة إلى قليل منها.

وقال الفاضل اللاهيجي : « قد علم بالضرورة من الدين ، وثبت بالكتاب والسنّة ، وانعقد إجماع أهل الأديان ، بل جميع العقلاء على أنّ البارئ تعالى حيّ.

وليس المراد من الحياة ما هو من الكيفيّات النفسانيّة وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة ، مشروطة باعتدال المزاج على ما مرّ في مباحث الأعراض ، بل صفة تصحّح الاتّصاف بالعلم والقدرة ، فالاتّصاف بالعلم والقدرة يدلّ ضرورة على صحّة الاتّصاف بها ، وهذا معنى قوله : ( وكلّ قادر عالم حيّ بالضرورة ).

والكلام في كون حياته تعالى صفة زائدة على ذاته تعالى ، أو عين ذاته كالكلام في سائر صفاته الثبوتيّة ، فعند الصفاتيّة (2) صفة زائدة على ذاته ، وعند غيرهم عين

ص: 253


1- البقرة (2) : 255 ؛ آل عمران (3) : 2.
2- هم الذين يثبتون لله تعالى صفات أزليّة من العلم والقدرة وغيرهما. انظر « الملل والنحل » للشهرستانيّ 1 : 92.

ذاته أو مرجعها (1) إلى السلب ، أي عدم استحالة كونه تعالى عالما قادرا ، أو هي نفس كونه قادرا عالما على ما قال الشيخ في الشفاء : إذا قال له : حيّ ، لم يعن إلاّ هذا الوجود العقليّ مأخوذا مع الإضافة إلى الكلّ المعقول أيضا بالقصد الثاني ؛ إذ الحيّ هو الدرّاك الفعّال (2). انتهى.

وقوله : « هذا الوجود العقليّ » أي ذاته المعقولة. وقوله : « مع الإضافة » أي الإضافة التي هي المبدئيّة للكلّ.

قال المصنّف قدس سره في « شرح رسالة العلم » : المسألة الخامسة عشرة في أنّ كونه حيّا هل يرجع إلى كونه عالما ، أو هو وصف زائد على ذلك؟

المستند في إثبات الحياة هو الذي ذكرناه وهو أنّ العقلاء قصدوا وصفه تعالى بالطرف الأشرف من طرفي النقيض ، ولمّا وصفوه تعالى بالعلم والقدرة ، ووجدوا كلّ ما لا حياة له ممتنع الاتّصاف بهما ، وصفوه بالحياة لا سيّما وهو أشرف من الموت الذي هو ضدّها عندهم.

ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوّة : هل سمّي عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين ، وكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، والبارئ تعالى واهب الحياة ، مقدّر الموت ، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله تعالى زبانيين (3) [ ؛ فإنّ ذلك ] كمالها ؛ فإنّها تتصوّر أنّ عدمهما (4) نقصان لمن لا يكونان له هكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى به فيما أحسب ، وإليه المفزع (5). انتهى (6).

ص: 254


1- في المصدر : « ومرجعها ».
2- « الشفاء » الإلهيّات : 238 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.
3- في جميع النسخ والمصدر : « زبانيتين ». وما أثبتناه موافق لما في « الرواشح السماويّة ». وزبانيين تثنية زبانى. وزبانيا العقرب : قرناها.
4- في « علم اليقين » : « وتتصوّر أنّ عدمها ». وفي « بحار الانوار » : « ويتوهّم أنّ عدمها ».
5- « علم اليقين » 1 : 73 - 74 ؛ « بحار الأنوار » 66 : 292 - 293.
6- « شرح مسألة العلم » : 43. وانظر « شوارق الإلهام » : 549.
المسألة الرابعة : في إرادته تعالى

واعلم أنّ الإرادة في اللغة : المشيئة وقد اختلف في معناها الاصطلاحيّ ، فقيل : هي عبارة عن اعتقاد النفع - سواء يقينيا أو غيره - فالقادر الذي يكون نسبة قدرته إلى طرفي المقدور - أعني الفعل والترك - بالسويّة ، إذا اعتقد نفعا في أحد طرفيه ، يرجّح ذلك الطرف عنده ، وصار هذا الاعتقاد مع القدرة مخصّصا لوقوعه منه.

وقيل : هذا الاعتقاد هو المسمّى بالداعي إلى الفعل أو الترك. وأمّا الإرادة ، فهي ميل يعقب اعتقاد النفع ، كما أنّ الكراهة انقباض يعقب اعتقاد الضرر ؛ وذلك لأنّا كثيرا نعتقد نفعا في شيء ولا نريده إلاّ إذا أحدث فينا ميل بعد هذا الاعتقاد.

وردّ بأنّا لا نجعلها مجرّد اعتقاد النفع أو ظنّه ، بل نفع له أو لغيره ممّن يؤثر خيره بحيث يمكن وصول ذلك النفع إليه أو إلى غيره إذا لم يكن هناك مانع من تعب أو معارضة.

وما ذكر من الميل إنّما يحصل لمن لا يقدر على تحصيل ذلك الشيء قدرة تامّة كالشوق إلى المحبوب لمن لا يصل إليه. وأمّا القادر التامّ القدرة ، فيكفي فيه الاعتقاد المذكور.

وذهبت الأشاعرة - على ما حكي عنهم (1) - إلى أنّ الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع أو ميل يتبعه ، فلا يكون شيء منهما لازما فضلا عن أن يكون نفسها ؛ فإنّ الهارب عن السبع إذا ظهر له طريقان متساويان في الإفضاء إلى المقصود يختار أحدهما باختياره من غير توقّف على ترجيح أحدهما لنفع يعتقده فيه ، ولا على ميل يتبعه ، بل يرجّح أحدهما على الآخر بمجرّد الإرادة ؛ إذ لا يخطر بباله طلب مرجّح ،

ص: 255


1- انظر « المحصّل » : 255 - 256 ؛ « شرح المواقف » 6 : 64 - 70 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 337 - 340.

ولهذا لم يتوقّف متفكّرا أصلا ، بل لا يخطر بباله سوى النجاة.

وكذلك العطشان إذا كان عنده قدحان متساويان من كلّ جهة.

وأجيب بأنّ المرجّح موجود وهو شاعر به وإن لم يكن شاعرا بأنّه شاعر لأجل الدهشة ؛ وذلك لأنّ الطبيعة تقتضي سلوك الطريق الذي على يساره ؛ لأنّ القوّة أكثر ، والقويّ يدفع الضعيف كما يشاهد فيمن يدور على عقبه.

وأمّا القدحان فيختار ما هو الأقرب إلى اليمين.

ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّ الهارب عن السبع ليس فيه إرادة وشعور أحيانا ، وفي صورة الشعور يرجّح أحد الطريقين ؛ لمرجّح يقتضيه.

وبالجملة ، فالإرادة على الأوّل عبارة عن العلم بالمصلحة أو المفسدة في الفعل أو الترك ، الذي يوجب الميل إلى أحدهما ، فمعنى كونه تعالى مريدا أنّه يفعل الأشياء بالقصد والشعور والإرادة والعلم بكونها ممّا فيه مصلحة.

والمشيئة عبارة عن الميل إلى أحدهما وطلبه.

والاختيار عبارة عن ترجيح الفعل أو الترك فيفعل أو يترك.

والثلاثة متلازمة الوجود بالنسبة إلى اللّه تعالى ؛ لأنّه تعالى غنيّ مطلق ، وقادر مطلق ، وفعل الأشياء وتركها منوطان إلى المصلحة والمفسدة الراجعتين إلى المخلوق ، فالعلم بالمصلحة المخصوصة بوقت يقتضي اختيار الفعل ؛ لعدم وجود المعارض والمنازع بالنسبة إليه تعالى واستحالة التردّد فيه تعالى بخلاف غيره تعالى ؛ فإنّه يمكن أن يعلم مصلحة شيء ولا يطلبه ، أو يطلبه ولا يختاره ؛ لعدم القدرة عليه.

وقد يحصل العلم بالمصلحة والمفسدة بعد التردّد وقد لا يحصل.

وكيف كان فإذا كان الإرادة من شعب العلم ، يكون وجه ثبوتها له تعالى ووجه كونها عين الذات ظاهرين ممّا مرّ ، مضافا إلى أنّ تخصيص بعض الممكنات بالوقوع دون بعض ، وفي بعض الأوقات دون بعض - مع استواء نسبته إلى الكلّ - لا بدّ له من

ص: 256

مخصّص غير خارج ؛ لئلاّ يلزم احتياج الواجب في فاعليّته إلى أمر منفصل ، وذلك المخصّص هو الإرادة.

ويظهر ممّا ذكر أنّه تعالى كاره ؛ لأنّ إرادة الشيء تستلزم كراهة ضدّه إن لم تكن نفسها ، مضافا إلى أنّه تعالى نهى العباد - بالنهي التنزيهي - عن المكروهات ، فهو تعالى يكون كارها لها ، فالكراهة من متفرّعات الإرادة ، وهذا في إرادة الواجب.

وأمّا إرادة الممكن ، فلها مراتب حاصلة بعد الخطور :

الأولى : الميل الحاصل من اعتقاد النفع.

والثانية : العزم الذي هو توطين النفس إلى أحد الأمرين بعد سابقة التردّد فيهما.

والثالثة : الجزم الحاصل بعد زوال التردّد بالكلّيّة.

ولا يستلزم شيء منها الفعل ؛ لإمكان أن يجزم بأنّه سيقصد الفعل وقد حصل زوال التردّد بالكلّيّة ؛ لزوال شرط من شرائط الفعل أو حدوث مانع من موانعه ، فلا يوجد الفعل ، فإذا لم يكن ذلك التوطين البالغ حدّ الجزم موجبا للفعل ، فالذي لم يبلغه كان أولى بعدم الإيجاب.

والرابعة : القصد ، وهي الإرادة المقارنة للفعل التي لم تنفكّ عنه ، فكلّ فعل اختياريّ للممكن مسبوق بالأحوال الخمسة ، بل الستّة إن قلنا بأنّ الشوق الحاصل من اعتقاد النفع المسمّى بالميل غير نفس ذلك الاعتقاد ، كما هو الظاهر.

والدليل النقليّ على ذلك قوله تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) وقوله تعالى : ( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (2) ونحو ذلك.

وقال الفاضل اللاهيجي :

« الدليل على ثبوت الإرادة له تعالى - بعد ما اتّفق جميع أرباب العقول وأهل

ص: 257


1- يس (36) : 82.
2- هود (11) : 107 ؛ البروج (85) : 16.

الملل على إطلاق القول بأنّه تعالى مريد ، وشاع ذلك في كلام اللّه عزّ وجلّ وكلام الأنبياء علیهم السلام - هو كونه تعالى قادرا ؛ فإنّ القادر لا يصحّ أن يصدر عنه - من حيث هو قادر - أحد الطرفين بخصوصه ؛ لاستواء نسبة القدرة إلى الطرفين ، بل لا بدّ من أن يتخصّص ويترجّح أحد الطرفين ليصحّ صدوره عنه ، ويكون ذلك لا محالة بصفة شأنها ذلك ؛ لامتناع التخصيص من غير مخصّص ، واحتياج الواجب تعالى في فاعليّته إلى أمر منفصل.

ولا يمكن أن يكون المخصّص هو مطلق العلم ؛ لكونه كالقدرة في تساوي النسبة إلى الطرفين.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( وتخصيص بعض الممكنات ) دون بعض ( بالإيجاد في وقت ) دون وقت ( يدلّ على إرادته ).

ثمّ الفرق بين الإرادة والاختيار هو أن الاختيار إيثار لأحد الطرفين وميل إليه ، والإرادة هو القصد إلى إصدار ما يؤثره ويميل إليه. وأمّا في البارئ تعالى ، فيشبه أن يكون كلاهما واحدا.

وأمّا المشيئة ففي شرح المقاصد : أنّه لا فرق بينها وبين الإرادة إلاّ عند الكراميّة ؛ حيث جعلوا المشيئة صفة واحدة أزليّة تتناول ما شاء اللّه بها من إحداث محدث ، والإرادة حادثة متعدّدة تعدّد (1) المرادات (2).

ثمّ اختلفوا في أرادته تعالى (3) : فعند الأشاعرة وجمهور معتزلة البصرة : صفة قديمة زائدة على الذات ، قائمة بها كسائر الصفات الحقيقيّة عندهم.

وعند الجبائيّة : صفة زائدة قائمة لا بمحلّ.

وعند الكرامية : صفة حادثة قائمة بالذات.

ص: 258


1- في المصدر : « بعدد ».
2- « شرح المقاصد » 4 : 134.
3- « شرح المقاصد » 4 : 132 - 136 ؛ « شرح المواقف » 8 : 81 - 87.

وعند ضرار : نفس الذات.

وعند النجّار : صفة سلبيّة هي كون الفاعل ليس بمكره ولا ساه.

وعند الفلاسفة : العلم بالنظام الأكمل.

وعند الكعبي : إرادته لفعله تعالى العلم به ، ولفعل غيره الأمر.

وعند المحقّقين من المعتزلة كأبي الحسن وجماعة من رؤساء المعتزلة كالنّظام والجاحظ والعلاّف والبلخيّ والخوارزميّ : العلم بما في الفعل من المصلحة. ويسمّيه أبو الحسين بالداعي ، واختاره المصنّف ، فقال : ( وليست زائدة على الداعي وإلاّ لزم التسلسل أو تعدّد القدماء ).

يعني لو كانت الإرادة زائدة على الداعي الذي هو عين الذات ، لكانت إمّا حادثة في الذات - على ما زعمه الكراميّة - أو لا في محلّ - على ما زعمه الجبائيّة - وعلى التقديرين يلزم التسلسل ؛ لأنّ حدوث الإرادة يستلزم ثبوت إرادة أخرى مخصّصة للأولى ، ويعود الكلام فيهما. وإمّا قديمة قائمة بذاته تعالى - على ما زعمه الأشاعرة - فيلزم تعدّد القدماء.

واعلم أنّ إرادته تعالى عند جمهور المتكلّمين عبارة عن القصد إلى إصدار الفعل كما في المشاهد (1).

وعند الفلاسفة يمتنع القصد على الواجب تعالى ؛ لأنّ الفاعل بالقصد يكون فعله لغرض ، وكلّ قاصد للغرض مستكمل به سواء كان الغرض عائدا إليه أو إلى غيره ؛ لأنّ إيصال النفع إلى الغير إذا كان عن قصد شوقي يكون استكمالا (2).

ص: 259


1- انظر « المحصّل » : 391 - 399 ؛ « نقد المحصّل » : 281 - 287 ؛ « مناهج اليقين » : 171 - 175 ؛ « أنوار الملكوت » : 67 - 68 ؛ « شرح المواقف » 8 : 81 - 87 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 128 - 137 ؛ « إرشاد الطالبين » : 203 - 205.
2- « الشفاء » الإلهيّات : 414 - 415 ، الفصل السادس من المقالة التاسعة ؛ « النجاة » : 284 - 285 ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 88 - 90 ؛ « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 142 - 144 ؛ « شرح مسألة العلم » : 44 - 46.

قال الشيخ في الإشارات : الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض ، ولعلّ من يهب السكّين لمن لا ينبغي ليس بجواد ، ولعلّ من يهب ليستعيض معامل ليس بجواد. وليس العوض كلّه عينا بل وغيره حتّى الثناء والمدح والتخلّص من المذمّة والتوسّل إلى أن يكون على الأحسن ، أو على ما ينبغي ، فمن جاد ليشرف ، أو ليحمد ، أو ليحسن به ما يفعل ، فهو مستعيض غير جواد ، فالجواد الحقّ هو الذي يفيض منه الفوائد لا لشوق منه وطلب قصديّ لشيء يعود إليه. واعلم أنّ الذي يفعل شيئا لو لم يفعله قبح به ، أو لم يحسن منه ، فهو [ بما ] (1) يفيده من فعله متخلّص (2). انتهى.

وما قيل (3) من أنّه لم لا يجوز أن يقصد أحد شيئا يحبّه بمجرّد أنّه خير في نفسه لا لأنّه خير له؟ فجوابه أنّ ما هو خير في نفسه لو لم يكن أولى به ، لم يكن إرادته قصدا ، بل يكون الداعي إلى فعله مجرّد العلم بخيريّته لا أمر آخر ، فيكون إرادته عقليّة محضة.

نعم ، البارئ تعالى يحبّ ذاته ويبتهج بها أجلّ ابتهاج ، فيحبّ أفعاله لأجل ذاته ؛ لأنّ من أحبّ شيئا أحبّ آثاره ، فيثبتون لأفعاله غرضا هو ذاته. وهذا معنى قولهم : إنّه هو الفاعل والغاية ، لكن بذلك لا يصحّح تعلّق القصد بأفعاله ؛ لأنّ القصد إنّما يكون عن شوق إلى ملائم أو موافق لو لم يحصل لم يكن الفاعل على كماله ، فواجب الوجود ليس فاعلا بالقصد عند الفلاسفة ، بل فاعلا بالعناية ، فإرادته تعالى عندهم عبارة عن عنايته أعني علمه بنظام الكلّ ، الذي هو السبب لهذا النظام المشاهد على ما مرّ.

قال الشيخ في إلهيّات الشفاء : فذلك النظام لأنّه يعقله هو مستفيض كائن موجود ، وكلّ معلوم الكون ، وجهة الكون عن مبدئه عند مبدئه وهو خير غير مناف وهو تابع

ص: 260


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 145 و 150.
3- « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 145 و 150.

لخيريّة ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتيهما ، فذلك الشيء مراد ، لكن ليس مراد الأوّل على نحو مرادنا حتّى يكون له فيما يكون عنه غرض ، فكأنّك قد علمت استحالة هذا وستعلم ، بل هو لذاته مريد هذا النحو من الإرادة العقليّة (1).

ثمّ قال : فواجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه ، ولا مغايرة المفهوم لعلمه ، فقد بيّنّا أنّ العلم هو بعينه الإرادة التي له. وهذه الإرادة - على الصورة التي حقّقناها ، التي لا تتعلّق بغرض في فيض الوجود - لا تكون غير نفس الفيض وهو الجود ، فقد كنّا حقّقنا لك من أمر الجود ما إذا تذكّرته ، علمت أنّ هذه الإرادة نفسها تكون جودا (2).

وقال في رسالته (3) في إثبات المبدأ الأوّل : فصل في بيان إرادته.

هذه الموجودات كلّها صادرة عن ذاته ، ومن مقتضى ذاته ، فهي غير منافية له ، ولأنّه يعشق ذاته ، فهذه الأشياء كلّها مرادة لأجل ذاته ، فكونها مرادة له ليس لأجل غرض ، بل لأجل ذاته ؛ لأنّها مقتضى ذاته ، فليس يريد هذه الموجودات لأنّها هي ، بل لأجل ذاته ، ولأنّها مقتضى ذاته.

مثلا لو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشيء. ونحن إنّما نريد الشيء لأجل الشهوة أو اللذّة لا لأجل ذات الشيء المراد ، ولو كانت الشهوة أو اللذّة أو غيرهما من الأشياء شاعرة بذاتها ، وكان مصدرا لأفعال عنها ذاتها ، لكانت مريدة لتلك الأشياء لذاتها ؛ لأنّها صادرة عن ذاتها ، والإرادة لا تكون إلاّ لشاعر بذاته ، وكلّ ما يصدر عن فاعل فإنّه إمّا أن يكون بالذات أو بالعرض ، وما يكون بالذات يكون إمّا طبيعيّا وإمّا إراديا ، وكلّ فعل يصدر عن علم فإنّه لا يكون بالطبع ولا بالعرض ، فإذن يكون بالإرادة.

ص: 261


1- « الشفاء » الإلهيّات : 366 - 367 ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.
2- نفس المصدر : 367.
3- الرسالة غير متوفّرة لدينا.

وكلّ فعل يصدر عن فاعل والفاعل يعرف صدوره عنه ، ويعرف أنّه فاعله ، فإنّ ذلك الفعل صدر عن علم ، وكلّ فعل صدر عن إرادة فإمّا أن يكون مبدأ تلك الإرادة علما أو ظنّا أو تخيّلا.

مثال ما يصدر عن العلم فعل المهندس أو الطبيب ، ومثال ما يصدر عن الظنّ التحرّز ممّا فيه خطر ، ومثال ما يصدر عن التخيّل فإمّا أن يكون شيئا يشبه شيئا عاليا ، أو طلبا لشيء يشبه شيئا حسنا ليخلصه بمشابهة الأمر العالي أو الأمر الحسن.

ولا يجوز أن يكون فعل واجب الوجود بحسب الظنّ أو بحسب التخيّل ؛ فإنّ ذلك يكون لغرض ، ويكون معه انفعال ؛ فإنّ الغرض يؤثّر في ذي الغرض فإذن ينفعل عنه ، وواجب الوجود بذاته واجب من جميع جهاته ، فإن حدث فيه غرض من جهة انفعاله عن الغرض ، فلا يكون واجب الوجود بذاته ، فإذن يجب أن يكون إرادته علميّة.

ثمّ قال : الأولى أن نفصّل أمر الإرادة ، فنقول : نحن إذا أردنا شيئا ، فإنّا نتصوّر ذلك الشيء تصوّرا إمّا ظنّيّا وإمّا تخيّليا وإمّا علميّا ، وأنّ ذلك الشيء المتصوّر موافق ، والموافق هو أن يكون حسنا أو نافعا ، ثمّ يتبع هذا التصوّر والاعتقاد شوق إليه وإلى تحصيله ، فإذا قوي الشوق والإجماع حرّكت القوّة التي في العضلات الآليّة إلى تخيّله.

ولهذا السبب تكون أفعالنا تابعة للغرض ، وقد بيّنّا أنّ واجب الوجود تامّ ، بل فوق التامّ ، فلا يصحّ أن يكون فعله لغرض ، فلا يصحّ أن يعلم أنّ شيئا هو موافق له ، فيشتاقه ثمّ يحصّله ، فإذن إرادته من جهة العلم أن يعلم أنّ ذلك الشيء كونه خير من لا كونه ، وأنّ وجود ذلك يجب أن يكون على الوجه الفلانيّ حتّى يكون وجودا فاضلا ، فلا يحتاج بعد هذا العلم إلى إرادة أخرى ليكون هذا الشيء موجودا ، بل نفس علمه بنظام الأشياء الممكنة على الترتيب الفاضل هو سبب موجب لوجود تلك الأشياء على النظام الموجود والترتيب الفاضل.

ص: 262

فلوازم ذاته - أعني المعلومات - لم يعلمها ، ثمّ رضي بها ، بل لمّا كان صدورها عن مقتضى ذاته ، كان نفس صدورها عنه رضاه بها ، فإذا لم يكن صدورها عنه منافيا لذاته ، بل مناسب لذات الفاعل ، وكلّ ما كان غير مناف وكان مع ذلك يعلم الفاعل أنّه فاعله ، فهو مراده ؛ لأنّه مناسب له ، فنقول : هذه المعلومات صدرت عن مقتضى ذات الواجب الوجود بذاته المعشوقة له مع علم منه بأنّه فاعلها وعلّتها ، وكلّ ما صدر عن شيء على هذه الصفة فهو غير مناف لذلك الفاعل ، وكلّ فعل يصدر عن فاعل - وهو غير مناف له - فهو مراده.

فإذن الأشياء كلّها مرادة لواجب الوجود. وهذا هو المراد الخالي عن الغرض ؛ لأنّ الغرض في رضاه بصدور تلك الأشياء عنه أنّه مقتضى ذاته المعشوقة ، فيكون رضاه بتلك الأشياء لأجل ذاته ، فيكون الغاية في فعله ذاته.

ومثال هذا إذا أحببت شيئا لأجل إنسان ، كان المحبوب بالحقيقة ذلك الإنسان ، فكذلك المعشوق المطلق هو ذاته.

ومثال الإرادة فينا أنّا نريد شيئا فنشتاقه ؛ لأنّا محتاجون إليه ، وواجب الوجود يريده على الوجه الذي ذكرنا ، ولكنّه لا يشتاق إليه ؛ لأنّه غنيّ عنه ، فالغرض لا يكون إلاّ مع الشوق ؛ فإنّه يقال : لم طلب هذا؟ فيقال : لأنّه يشتاقه ، وحيث لا يكون الشوق لا يكون الغرض. انتهى.

وهذا الذي نقلناه من هذه الرسالة ذكره بعينه في التعليقات أيضا (1).

وقال أيضا في التعليقات : والعناية هي أن يعقل الواجب الوجود بذاته أنّ الإنسان كيف يجب أن تكون أعضاؤه ، والسماء كيف يجب أن تكون حركتها ليكونا فاضلين ، ويكون نظام الخير فيهما موجودا من دون أن يتبع هذا العلم الشوق ، أو غرض آخر سوى علمه بما ذكرناه مع موافقة معلومه لذاته المعشوقة له ؛ فإنّ الغرض وبالجملة ،

ص: 263


1- « التعليقات » : 16 - 17 ، مع الاختلاف في بعض العبارات.

النظر إلى أسفل ، أعني (1) لو خلق الخلق طلبا لغرض ، أعني أن يكون غرض الخلق أو الكمالات الموجودة في الخلق - أعني ما يتبع الخلق - طلب كمال ، لم يكن لو لم يخلق. وهذا لا يليق بما هو واجب الوجود من جميع جهاته.

فإن قال قائل : إنّا قد نفعل أفعالا بلا غرض ولا يكون لنا فيها نفع كالإحسان إلى إنسان من دون أن يكون لنا فيه فائدة ، فكذلك يصحّ أن يكون واجب الوجود يخلق الخلق لأجل الخلق لا لغرض آخر كما نحسن إلى إنسان ما.

قلنا : إنّ مثل هذا الفعل لا يخلو عن غرض ؛ فإنّا نريد الخير بالغير ليكون لنا اسم حسن ، أو ثواب أو شيء هو أولى بأن يكون لنا من أن لا يكون (2). انتهى.

وقال في الرسالة : إنّ الغرض - أعني الغاية - هو السبب في أن يصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن ، فلا يجوز أن يكون لواجب الوجود بذاته - الذي هو تامّ - أمر يجعله على صفة لم يكن عليها ؛ فإنّه يكون ناقصا عن تلك الجهة. وتلك الصفة إمّا أن تكون فضيلة أو نقصانا ، وعلى جميع الأحوال فإنّ ذلك لا يليق به لا النقصان ولا التكميل.

ثمّ قال : وقد عرفت إرادة واجب الوجود بذاته ، وأنّها بعينها علمه وهو بعينه عنايته ، وأنّ هذه الإرادة غير حادثة ، وبيّنّا أنّ منّا أيضا إرادة على هذا الوجه. انتهى.

إذا عرفت هذا ، فاعلم : أنّ الأشبه أنّ مراد محقّقي المعتزلة من كون الإرادة عين الداعي الذي هو العلم بالأصلح إنّما هو الذي ذهب إليه الفلاسفة على ما ذكرنا (3) ، فيكون الواجب تعالى عندهم أيضا فاعلا بالعناية [ بالمعنى ] (4) وإن لم يقولوا به

ص: 264


1- أي لو خلق الخلق طلبا لغرض لكان النظر إلى أسفل. وكلمة « أعني » الثانية تفسير ل- « الغرض ». وكلمة « أعني » الثالثة تفسير للكمالات.
2- « التعليقات » : 18.
3- راجع ص 259 من هذا الجزء.
4- ليست في « شوارق الإلهام ».

بحسب اللفظ.

والغرض تصحيح إطلاق الإرادة عليه تعالى التي هي هي بحسب اللغة والعرف بمعنى القصد التابع للشوق ؛ فإنّ ذلك ممتنع عليه تعالى.

وبالجملة ، القصد أمر معلوم بالوجدان لا يمكن أن يكون عين العلم ولا عين الذات ، فكلّ من قال بكون الإرادة عين العلم لا ينبغي أن يكون مراده بها هو القصد ، فيكون مراده أنّه تعالى فاعل بمجرّد العلم المتعلّق بالخيريّة والمصلحة في الفعل ، فتكون إرادته عقليّة محضة.

وهذا هو مراد الفلاسفة من الفاعل بالعناية ، فهؤلاء المحقّقون يوافقونهم في المعنى الذي هو مرادهم من العناية وإن لم يوافقوهم في اصطلاح الفاعل بالعناية بحسب اللفظ.

ثمّ من لم يقل بالعناية والعلم المقدّم في الواجب تعالى من المنتسبين إلى الفلاسفة ، كصاحب الإشراق قال بكونه تعالى فاعلا بالرضى ، وهو ما يكون فعله مقارنا للعلم والشعور من غير تقديم للعلم على الفعل (1).

وأنت خبير بأنّ هذا لا يكون من الفاعل بالإرادة والاختيار في شيء ؛ فإنّ الفاعل المختار ما يكون فعله صادرا عن علم سواء كان ذلك مستتبعا للقصد ، كما في الفاعل بالقصد ، أولا ، كما في الفاعل بالعناية ؛ فإنّ كليهما داخلان في الفاعل المختار.

فأمّا الفاعل بالرضى فليس فعله عن علم أصلا وإن كان مقارنا للعلم ، فلا يكون من الفاعل المختار ، بل هو من الفاعل بالإيجاب ؛ فإنّ الموجب ما لا يكون فعله عن

ص: 265


1- نسب إلى الإشراقيّين في « الأسفار الأربعة » 2 : 224 ؛ « الشواهد الربوبيّة » : 55 ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : 134 ؛ « شرح المنظومة » قسم الحكمة : 121. ولم نعثر على تصريح بذلك في مصنّفات شيخ الإشراق.

علم سواء كان مقارنا له كما في الفاعل بالرضى ، أو لا كما في الفاعل بالطبع ، فعند من ينفي العلم عن الواجب تعالى مطلقا - كما مرّ نقلا عن بعض الأوائل (1) - يكون تعالى فاعلا بالطبع ، تعالى عن ذلك. وعند من يقول بالعلم الحضوري المقارن فقط كصاحب الإشراق يكون فاعلا بالرضى. وكلاهما داخلان في الفاعل الموجب ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

واعلم أنّ الإمام الرازيّ أيضا في المباحث المشرقيّة رجع إلى سبيل التحقيق في إرادته تعالى ، فقال : فإذا كانت إرادة اللّه تعالى دائمة الوجود ، لم تكن تلك الإرادة قصدا إلى التكوين ؛ لأنّ القصد إلى الشيء يستحيل بقاؤه بعد حصول ذلك الشيء ، فثبت أنّ إرادة اللّه تعالى ليست عبارة عن القصد ، بل الحقّ في معنى كونه مريدا أنّه تعالى يعقل ذاته ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ أنّه كيف يكون ذلك النظام ويكون لا محالة كائنا مستفيضا ، وهو خير غير مناف لذات المبدأ الأوّل ، فعلم المبدأ بفيضانه عنه ، وأنّه غير مناف لذاته هو إرادته لذلك ورضاه.

ثمّ إنّا إذا حقّقناه ، حكمنا بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد - سواء كان في حقّنا ، أو في حقّ اللّه تعالى - هو ما ذكرناه ؛ فإنّ إرادتنا ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه ، لم تكن صالحة لترجيح أحد ذينك الطرفين على الآخر ، وإذا صارت نسبتها إلى وجود المراد أرجح بالنسبة إلى عدمه ، وثبت أنّ الرجحان لا يحصل إلاّ عند الانتهاء إلى حدّ الوجوب ، لزم منه الوقوع ؛ لأنّ الإرادة الجازمة إنّما تتحقّق عند اللّه ، وهنا لك قد صارت موجبة للفعل.

فإذن ما يقال من الفرق بين الموجب والمختار : إنّ المختار يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل ، والموجب لا يمكنه أن لا يفعل ، كلام باطل ؛ لأنّا بيّنّا أنّ الإرادة متى كانت

ص: 266


1- « شوارق الإلهام » : 514. وانظر « شرح مسألة العلم » : 22 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 180 ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : 90 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 :1. 498 ؛ « المحصّل » : 384 ؛ « نقد المحصّل » : 277 - 280 و 294 ؛ « شرح المواقف » 8 : 71 - 72.

متساوية النسبة ، لم تكن جازمة ، وهناك يمتنع حدوث المراد ، ومتى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبة للفعل ، ولا يبقى بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة ، بل الفرق ما ذكرناه أنّ المريد هو الذي يكون عالما بصدور الفعل غير المنافي عنه ، وغير المريد هو الذي لا يكون عالما بما يصدر عنه كالقوى الطبيعيّة وإن كان الشعور حاصلا لكنّ الفعل لا يكون ملائما له ، بل منافرا مثل الملجأ إلى الفعل ؛ فإنّ الفعل لا يكون مرادا (1). انتهى كلامه ، فتأمّل فيه ؛ فإنّه بظاهره يشعر بكون الفاعل بالرضى أيضا داخلا في المريد. والتحقيق ما ذكرناه ، هذا.

فإن قيل : إرادته تعالى لا يصحّ أن تكون عين علمه ؛ فإنّه تعالى يعلم كلّ شيء ولا يريد كلّ شيء ؛ فإنّه لا يريد شرّا ولا ظلما ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والسيّئات ؛ فإرادته أمر آخر وراء علمه تعالى.

قلنا : لا يلزم من كون إرادته عين علمه بكلّ شيء أن يتعلّق إرادته أيضا بكلّ شيء ؛ فإنّ الإرادة ليست هو العلم مطلقا ، بل العلم بما فيه مصلحة وخير. وهذا كما أنّ سمعه وبصره راجعان عند المحقّقين إلى العلم ، ولا يلزم منه تعلّق السمع بما سوى المسموع ، ولا تعلّق البصر بما سوى المبصر ، فليتفطّن.

فإن قلت : ما ذا تقول فيما رواه ثقة الإسلام رئيس المحدّثين أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب الكافي (2) والشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّيّ في كتابي التوحيد (3) والعيون (4) عن الأئمّة الطاهرين وسادتنا المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين في حدوث الإرادة والمشيئة ، وأنّهما من

ص: 267


1- « المباحث المشرقية » 2 : 513 - 515.
2- « الكافي » 1 : 109 - 110 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ، ح2. 7.
3- « التوحيد » : 145 - 148 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 13 - 19 و: 336 - 344 باب المشيئة والإرادة ، ح 1 - 13.
4- « عيون أخبار الرضا » 1 : 179 - 191 ، الباب 13 ، ح 1.

صفات الفعل دون صفات الذات؟

وذكر محمّد بن يعقوب في الكافي (1) في الفرق بين صفات الفعل وصفات الذات ما حاصله : أنّ كلّ شيئين وصفت اللّه بهما ، وكانا جميعا في الوجود - كما أنّ في الوجود ما يريده وما لا يريده ، وما يرضاه وما يسخطه وما يحبّه ويبغضه - فهما من صفات الفعل ؛ فإنّهما لو كانا من صفات الذات كانت الصفات التي هي عين الذات ناقضا بعضها لبعض ، فيكون ما يريده ناقضا لما لا يريده ، وما يسخطه ناقضا لما يرضاه ، وما يبغضه ناقضا لما يحبّه ، وهذا محال.

وكلّ شيئين وصفته تعالى بأحدهما وكان في الوجود ، ولم يكن الآخر في الوجود مثل العلم والقدرة ؛ فإنّ في الوجود ما يعلمه ويقدر عليه ، وليس في الوجود ما لا يعلمه ولا يقدر عليه ، فهو من صفات الذات. هذا ، فإذا كانت الإرادة محدثة ومن صفات الفعل ، فكيف يجوز أن تكون عين العلم القديم الذي هو عين ذاته تعالى (2)؟!

قلت : لعلّ المراد من الإرادة في تلك الروايات إنّما هو القصد إلى الفعل على ما يفهمه الجمهور من لفظ الإرادة ، والخطاب إنّما معهم ، وعلى هذا فتخلّف المراد عن الإرادة بمعنى القصد نقص وعجز لا يليق بجنابه تعالى ، والمراد حادث ، فيجب كون الإرادة أيضا حادثة لكن نسبة القصد إليه تعالى ليست على الحقيقة ؛ لامتناعه عليه تعالى ، بل بمعنى ترتّب الغاية والأثر ، بمعنى أنّ كلّ ما يمكن أن يترتّب على القصد في غيره تعالى ، فهو مرتّب على ذاته تعالى فقط من غير توسّط القصد على ما قالوا في صفة الرحمة وغيرها ، فإطلاق لفظ القصد والإرادة في حقّه إنّما هو على سبيل التمثيل.

ص: 268


1- « الكافي » 1 : 111 - 112 ، آخر باب الإرادة أنّها من صفات الفعل.
2- « عيون أخبار الرضا » 1 : 179 - 191 ، الباب 13 ، ح 1.

وعلى هذا فيكون المراد من حدوث إرادته هو حدوث مراده تعالى حسب اقتضاء علمه تعالى بالمصلحة فيه.

وممّا يدلّ صريحا على ما ذكرنا : ما رواه في الكافي عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه علیه السلام فكان من سؤاله أن قال له : فله رضا وسخط؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : نعم ، ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ، وذلك أنّ الرضا حال يدخل عليه ، فينقله من حال إلى حال ؛ لأنّ المخلوق أجوف معتمل مركّب ، للأشياء فيه مدخل ، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه ؛ لأنّه أحديّ الذات وأحديّ المعنى ، فرضاه ثوابه ، وسخطه عقابه ، من غير شيء يتداخله ، فيهيجه وينقله من حال إلى حال ؛ لأنّ ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين (1).

هذا كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه.

ونعم ما قال بعض (2) أفاضل إخواننا الإلهيين - كثّر اللّه أمثاله في العالمين - في هذا المقام ما محصّله أنّ التحقيق أنّ للإرادة والمشيئة جهة ثبات هي أزليّة وعين ذاته تعالى ، وجهة تجدّد هي إضافة حادثة مع حدوث المشيء والمراد ، كما أنّ العلم والقدرة كذلك إلاّ أنّ جهة الثبات في العلم والقدرة أدلّ على الكمال والبهاء ؛ حيث يوجب (3) تخلّف متعلّقيهما عنهما تحقّق العلم والقدرة وإن لم يكن المقدور والمعلوم ، وذلك ممّا يعدّ غاية في كمال العلم والقدرة جدّا.

فلذلك عدّتا من صفات الذات ، وجهة التجدّد في المشيئة والإرادة أدلّ على العزّ والجلال ؛ حيث يوجب عدم تخلّف المشيء والمراد عنهما ، وذلك ممّا يعدّ في غاية

ص: 269


1- « الكافي » 1 : 110 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ، ح 6.
2- في هامش « ب » : وهو مولانا محمّد محسن صاحب كتاب الوافي سلّمه اللّه من العاهات. منه رحمه اللّه .
3- في « ب » : « يوجد ».

العزّ والجلال ، فلذلك عدّتا من صفات الفعل. وخطاب الشارع إنّما هو مع الجماهير ، فينبغي أن يذكر في نعته تعالى معهم ما يكون أدلّ عندهم على الكمال ، وأظهر في العزّ والجلال هذا. ولنا في هذا المقام تحقيق آخر ذكرناه في كتابنا المسمّى بگوهر مراد (1) فليرجع إليه من أراد » (2).

المسألة الخامسة : في سمعه وبصره

اعلم أنّ الإدراك للمسموعات والمبصرات - الذي يراد ممّا ذكر في الآيات والأخبار من كونه تعالى سميعا بصيرا - هو علم متعلّق بالمسموعات والمبصرات ، بل بجميع الجزئيّات المحسوسة بإحدى الحواسّ ، فيكون إسناد السمع والبصر إليه تعالى مجازا ؛ إذ ليس له القوّة السامعة والباصرة ؛ لاستلزامهما النقص والاحتياج المنافيين لوجوب والوجود. والدليل النقليّ على ذلك قوله تعالى : ( سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (3) ونحو ذلك.

وقال الفاضل اللاّهيجي : « قد علم بالضرورة من الدين ، وثبت في الكتاب والسنّة ، وانعقد عليه إجماع أهل الأديان على أنّه تعالى سميع بصير وإليه أشار بقوله : ( والسمع (4) دلّ على اتّصافه تعالى بالإدراك ) أي السمع والبصر دون الذوق والشمّ واللّمس ؛ لعدم ورود السمع بها وإن الإدراك يشملها جميعا.

قال المصنّف في شرح رسالة العلم : الإدراك كالجنس للإدراك الحسّي والإدراك العلميّ ، والإدراك الحسّيّ إنّما يحصل بالآلات الجسمانيّة التي هي الحواسّ ، والإدراك العلمي إنّما يحصل للذات العاقلة من غير آلة ، ولذلك لا يدرك حسّ نفسه ولا آلته ؛ فإنّه لا آلة تتوسّط بينه وبينها ، ويدرك الذات العاقلة نفسها وآلاتها وتعقّلاتها.

ص: 270


1- « گوهر مراد » : 249 - 257.
2- انتهى كلام الفاضل اللاهيجي ، انظر « شوارق الإلهام » : 549 - 554.
3- الحجّ (22) : 61 و 75 ؛ لقمان (31) : 28 ؛ المجادلة (58) : 1.
4- في بعض نسخ التجريد : « النقل » بدل « السمع ».

أمّا البارئ تعالى ، فكلّ من يعتقد أنّه جسم أو مباشر للأجسام ، فقد يمكن له أن يصفه بالإدراك الحسّيّ ، وكلّ من ينزّهه عن ذلك ، ينزّهه أيضا عن هذا الوصف.

ولمّا كان السمع والبصر ألطف الحواسّ وأشدّها مناسبة للعقل ، عبّر بهما عن العلم في كثير من المواضع ، كما في قوله عزّ من قائل : ( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) (1) وقوله تعالى : ( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (2) وفي غير ذلك من المواضع التي لا يمكن أن تعدّ ، ولذلك وصفوا البارئ تعالى بالسميع والبصير دون الشامّ والذائق واللاّمس ، وعنوا بهما العلم بالمسموعات والمبصرات وفرّقوا بين السامع والسميع ، والمبصر والبصير ، وجميع ذلك من المباحث اللفظيّة ، وأكثر المتكلّمين يخصّصون الإدراك بالحسّ ويتنازعون في جواز وصف البارئ تعالى به ، ثمّ في المراد منه إذا وصفوه به ، فيذهب بعضهم إلى الإحساس ، وبعضهم إلى العلم بالمحسوسات (3). انتهى.

فقوله : ( والعقل على استحالة الآلات ) إشارة إلى تنزيهه تعالى عن الجسميّة ومباشرة الأجسام ، فوجب من مجموع الدلالتين القول بكونه سميعا بصيرا من دون آلة وجارحة.

وفي قوله : والسمع دلّ ، إشارة إلى ضعف ما استدلّ به بعضهم على كونه تعالى سميعا بصيرا وهو أنّه حيّ ، وكلّ حيّ يصحّ اتّصافه بالسمع والبصر ، وكلّ ما يصحّ في حقّه تعالى ، يجب أن يكون ثابتا له بالفعل ؛ لبراءته عن القوّة والإمكان ، وذلك لتوقّفه على أنّ الحياة في الغالب تقتضي صحّة السمع والبصر.

وغاية متشبّثهم في ذلك إمّا طريق السبر والتقسيم على ما ذكره إمام الحرمين (4) ؛ فإنّ الجماد لا يتّصف بقبول السمع والبصر ، وإذا صار حيّا اتّصف بهما إن لم يقم به

ص: 271


1- الملك (67) : 10.
2- الأعراف (7) : 198.
3- « شرح رسالة العلم » : 37 - 38.
4- « شرح المقاصد » 4 : 139.

آفة ، ثمّ إذا سبرنا صفات الحيّ ، لم نجد ما يصحّح قبوله لهما سوى كونه حيّا ، ولزم القضاء بمثل ذلك في حقّه تعالى.

وإمّا أنّه لا خفاء في أنّ المتّصف بهما أكمل ممّن لا يتّصف بهما ، فلو لم يتّصف البارئ تعالى بهما ، لزم كون الإنسان ، بل سائر الحيوانات أكمل منه تعالى ، وهو باطل قطعا ، على ما ذكره الغزاليّ (1).

ويرد على الأوّل : أنّه يتوقّف على كونه تعالى حيّا بحياة مثل حياتنا المصحّحة للسمع والبصر وهو ممنوع.

وعلى الثاني : أنّ كون المتّصف بهما أكمل ممّن لا يتّصف بهما مسلّم في الشاهد. وأمّا في الغائب ، فهو ممنوع ، بل هو أوّل المسألة.

وأيضا وجوب كونه تعالى منزّها عن النقائص ثابت عندهم بالإجماع ، والظواهر الدالّة على ثبوت السمع والبصر أقوى جدّا من الظواهر الدالّة على حجّيّة الإجماع ؛ لكثرة المنوع والاعتراضات عليها.

فالأولى التمسّك في إثبات السمع والبصر بالظواهر القطعيّة ابتداء.

قال شارح المواقف في المحصّل : إنّ المسلمين اتّفقوا على أنّه تعالى سميع بصير ، لكنّهم اختلفوا في معناه ، فقال الفلاسفة والكعبيّ وأبو الحسين البصريّ : ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات. وقال الجمهور منّا ومن المعتزلة والكراميّة : إنّهما صفتان زائدتان على العلم.

وقال ناقده : أراد فلاسفة الإسلام ؛ فإنّ وصفه تعالى بالسمع والبصر مستفاد من النقل ، وإنّما لم يوصف بالذوق والشمّ واللمس ؛ لعدم ورود النقل. وإذا نظر في ذلك من حيث العقل ، لم يوجد له وجه سوى ما ذكره هؤلاء ؛ فإنّ إثبات صفتين شبيهتين بسمع الحيوانات وبصرها لا يمكن بالعقل.

والأولى أن يقال : لمّا ورد النقل بهما آمنّا بذلك وعرفنا أنّهما لا يكونان إلاّ

ص: 272


1- نفس المصدر.

بالآلتين المعروفتين ، واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما (1). انتهى.

ولعلّ هذا هو معنى قوله : والنقل (2) دلّ على اتّصافه بالإدراك ، والعقل على استحالة الآلات ، فتدبّر.

وقريب من هذا ما قال الشارح العلاّمة - رحمه اللّه - في شرح هذا الكلام : اتّفق المسلمون كافّة على أنّه تعالى مدرك ، واختلفوا في معناه : والذي ذهب إليه أبو الحسين أنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات. وأثبت الأشعريّة وجماعة من المعتزلة صفة زائدة على العلم.

والدليل على كونه تعالى سميعا بصيرا السمع ؛ فإنّ القرآن وإجماع المسلمين دلّ على ذلك.

إذا عرفت هذا ، فنقول : السمع والبصر في حقّنا إنّما يكونان بالآلات الجسمانيّة ، وكذا غيرهما من الإدراكات ، وهذا الشرط ممتنع في حقّه تعالى بالعقل ، فإمّا أن يرجع إلى ما ذهب إليه أبو الحسين ، وإمّا إلى صفة زائدة غير مفتقرة إلى الآلات في حقّه تعالى » (3). انتهى (4).

المسألة السادسة : في كلامه تعالى

قال الفاضل اللاهيجي : « اعلم أنّ لفظ الكلام حقيقة في هذا الملفوظ المسموع المركّب من الأصوات والحروف. وقد يطلق ويراد به التكلّم أعني القدرة على إلقاء الكلام بالمعنى الأوّل ، وهذا المعنى الثاني هو صفة المتكلّم وقائم به ، والكلام بالمعنى الأوّل هو ما به التكلّم ، وليس صفة للمتكلّم ولا قائما به ، بل هو قائم

ص: 273


1- « شرح المواقف » 8 : 89 - 90. وانظر « نقد المحصّل » : 288.
2- كذا في النسخ ، وفي « شوارق الإلهام » وبعض نسخ « تجريد الاعتقاد » : « السمع ».
3- « كشف المراد » : 289.
4- أي كلام الفاضل اللاهيجي. انظر « شوارق الإلهام » :4. 555.

بالهواء ؛ لكونه من جنس الأصوات ، كما عرفت في مباحث الأعراض.

وهذا - أعني التكلّم وإلقاء الكلام - يتوقّف فينا على آلة وجارحة لا محالة ، وقد أخبر الأنبياء علیهم السلام بأنّ اللّه تعالى متكلّم ، وجاءوا بكلام أخبروا أنّه كلام اللّه تعالى ، وهو منقسم إلى إخبار وأمر ونهي إلى غير ذلك من أقسام الكلام ، ودلّت المعجزة على صدقهم ، وهو أمر ممكن ؛ فإنّه وإن كان متوقّفا فينا على الآلة ويمتنع صدوره عنّا بدونها ، لكن لا يدلّ ذلك على كونه ممتنعا في حقّه تعالى أيضا بدون الجارحة والآلة ؛ لعموم قدرته التامّة وضعف قدرتنا الناقصة ، وكلّ ما أخبر الأنبياء علیهم السلام عن اللّه تعالى من الممكنات يجب تصديقهم فيه من غير تأويل وصرف عن ظاهره.

وهذا معنى قوله : ( وعموميّة قدرته تدلّ على ثبوت الكلام ) أي بعد ضمّ إخبار الأنبياء كما عرفت ، فالكلام الذي هو من صفته تعالى هو بمعنى التكلّم ؛ فإنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، لا من قام به الكلام ، وهذا ظاهر جدّا.

والأشاعرة توهّموا أنّ الصفة هو الكلام بمعنى ما به التكلّم ، والمتكلّم من قام به الكلام بهذا المعنى ، وأطلقوا القول بأنّ القرآن قديم ، وأنّ من قال بخلق القرآن وحدوثه مبتدع ، بل كافر.

ثمّ لمّا رأوا أنّ الكلام بهذا المعنى - الذي حقيقته ليست إلاّ الأصوات والحروف الحادثة - لا يجوز أن يكون قديما قائما بذاته تعالى ، اخترعوا أمرا محالا سمّوه بالكلام النفسيّ ، وقالوا : إنّه مدلول الكلام اللفظيّ ، وأرادوا به غير العلم بمدلولات الألفاظ ، وغير إرادة إلقاء الكلام ، وغير القدرة على ذلك ، وغير حديث النفس. وقالوا : إنّه أمر واحد في نفسه ليس بخبر ولا أمر ولا نهي إلى غير ذلك ، ولا يدخل فيه ماض ولا حال ولا استقبال. وقالوا : إنّ الكلام حقيقة ليس إلاّ ذلك ، واللفظيّ سمّي كلاما ؛ لدلالته على ذلك (1).

ص: 274


1- انظر « شرح المواقف » 8 : 90 - 104 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 143 - 151.

وعمدة ما تمسّكوا به في ذلك أمران :

[ الأمر ] الأوّل - وهو ما عوّل عليه إمامهم في « المحصّل » - : هو قول الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا(1)

وإنّما التعجّب أنّهم من أين عرفوا أنّ مراد الشاعر ممّا في الفؤاد غير الأمور المذكورة التي سمّوه كلاما نفسيا؟ مع أنّي لا أظنّ أنّ عاقلا يجد في نفسه هذا الأمر المحال.

ونعم ما قال المصنّف في نقد المحصّل : فقد صارت مسألة قدم الكلام - إلى أن قام العلماء فيها وقعدوا وضرب الخلفاء لأجلها الأكابر بالسوط ، بل بالسيف - مبنيّة على هذا البيت الذي قاله الأخطل (2). انتهى. والأعجب تكفيرهم من يأبى القول بهذا الأمر.

قال شارح المقاصد : وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسيّ وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستّة أشهر ، ثمّ استقرّ رأيهما على أنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر (3). انتهى.

[ الأمر ] الثاني : هو ما قالوا من أنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ولو في محلّ آخر ؛ للقطع بأنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحرّكا.

والجواب ما مرّ من أنّ المتكلّم من قام به الكلام بمعنى التكلّم ، وهو القدرة على إيجاد الكلام بمعنى ما به التكلّم ، وهو ما يلقيه المتكلّم إلى غيره لإظهار ما في ضميره أعني الألفاظ الدالّة على المعاني بحسب الوضع ، وليس المتكلّم من قام به الكلام بمعنى ما به التكلّم ، وإلاّ لزم كون الهواء متكلّما ؛ لكون الألفاظ قائمة به ،

ص: 275


1- « المحصّل » : 408.
2- الموجود في « نقد المحصّل » : 292 كالتالي : « الاستدلال بهذا البيت ركيك ، وهو يقتضي أن يقال للأخرس : متكلّم ؛ لكونه بهذه الصفة ، والباقي ظاهر ».
3- « شرح المقاصد » 4 : 149.

وحينئذ يكون الأمر في صيغة الفاعل هاهنا وفي المتحرّك وأمثال ذلك على سبيل واحد ، كما لا يخفى.

وأمّا تمسّكهم في ثبوت الكلام النفسي بأنّ من يورد صيغة أمر ، أو نهي ، أو إخبار ، أو استخبار ، أو غير ذلك ، يجد في نفسه معاني ، ثمّ يعبّر عنها بالألفاظ التي نسمّيها الكلام الحسّيّ ، فهذا المعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده (1) هو الذي نسمّيه الكلام النفسيّ.

فقد مرّ الجواب عنه في مبحث الأصوات من الأعراض عند شرح قول المصنّف : « ولا يعقل كلام غيره (2). وحاصله منع كون تلك المعاني التي يجدها غير الإرادة والطلب والعلم ، فمن أراد تفصيل الجواب وتحقيقه ، فليراجع إلى هناك ؛ فإنّا لا نطوّل الكلام بإعادة ذلك. وإلى بطلان الكلام النفسيّ والإشارة إلى ما أشار إليه هناك أشار هاهنا بقوله : ( والنفسانيّ غير معقول ) (3).

وقال الشارح القوشجي : « لصاحب المواقف كلام (4) في تحقيق الكلام النفسي محصّله : أنّ لفظ « المعنى » يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على الأمر القائم بالخير ، فالشيخ الأشعري لمّا قال : الكلام هو المعنى النفسيّ ، فهم الأصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده ، وأمّا العبارات فإنّما تسمّى كلاما مجازا ؛ لدلالتها على ما هو كلام حقيقة حتى صرّحوا بأنّ اللفظ حادث على مذهبه أيضا ، لكنّها ليست كلاما حقيقة ، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ ، له لوازم كثيرة فاسدة : كعدم إنكار من أنكر كلاميّة ما بين دفّتي المصحف مع أنّه علم ضرورة كونه كلام اللّه حقيقة ، وكعدم المعارضة والتحدّي بكلام اللّه الحقيقيّ ، وكعدم كون المقروّ

ص: 276


1- الخلد : البال والقلب والنفس.
2- « شوارق الإلهام » : 414 - 415. وفي تجريد الاعتقاد : 168 « ولا يعقل غيره ».
3- إلى هنا نهاية كلام المحقق اللاهيجي ، راجع شوارق الإلهام : 555.
4- « شرح المواقف » 8 : 93 - 99.

والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتفطّن في الأحكام الدينيّة ، فوجب حمل كلام الشيخ على أنّه أراد به المعنى واللفظ ليكون الكلام النفسيّ عنده أمرا شاملا للّفظ والمعنى جميعا قائما بذات اللّه - تعالى - ، وهو مكتوب في المصاحف ، مقروء بالألسن ، محفوظ في الصور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة.

وما يقال من أنّ الحروف والألفاظ مرتبة متعاقبة ، فجوابه أنّ ذلك المرتّب إنّما هو في التلفّظ بسبب عدم مساعدة الأدلة ، فالتلفّظ حادث والأدلّة الدالّة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلّة » (1).

أقول (2) : بيان ذلك أنّ الكلام على قسمين :

الأوّل : ما هو من صفاته تعالى وهو القدرة على إيجاد الكلام والألفاظ والحروف الدالّة على المعاني المقصودة وهي في الإنسان باللسان وفيه تعالى في مخلوقاته كلسان جبرئيل وشجرة موسى ونحوهما.

والثاني : ما هو غير صفته وهو أيضا على قسمين :

الأوّل الكلام بمعنى إيجاد ما يدلّ على المراد.

والثاني نفس ما يدلّ على المراد وهو بمعنى المتكلّم به المراد من قولنا للقرآن : إنّه كلام اللّه وهو غير صفته تعالى ؛ لكونه حادثا نوعا وشخصا. أمّا نوعا ، فعند النزول ، وأمّا شخصا ، فحين التلاوة ، ولا شيء من الحوادث صفة له تعالى.

ووجه ثبوت تلك الصفة [ له ] تعالى ، ووجه كونها من الصفات العينيّة أنّ دليل ثبوت القدرة وعينيّتها دليل لها أيضا ؛ لأنّها من شعبها.

ووجه حصول أثرها أنّ حصول الغرض من الخلق موقوف على إيجادها

ص: 277


1- « شرح تجريد العقائد » : 319. ما نقل عن القوشجي في « ب » و « ز » غير موجود في الشوارق ، وكلام الشارح باعتراف ابنه محمّد حسن يبتدئ من « أقول ».
2- إلى هنا كلام الفاضل اللاهيجي ، وقد جفّ قلمه ، وأتمّه الوالد الماجد بقوله : أقول ... [ محمّد حسن ابن الشارح ].

الألفاظ المذكورة ؛ لتوقّف العلم [ و ] الإيصال إلى النعيم الأبديّ الذي هو الغرض على تحصيل القابليّة ، وهذا يتوقّف على العمل بمقتضى ومباشرة الطاعات ، والاجتناب عن المعاصي ، وذلك موقوف على العلم بالأحكام الشرعيّة ، وهو موقوف على بيانه تعالى ، وهو موقوف على إيجاد الألفاظ المذكورة ، فالداعي على الإيجاد موجود والمانع عنه مفقود ، فالإيجاد لازم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ كلام اللّه لفظيّ لا نفسيّ محض. بيانه أنّه لا خلاف لأرباب المذاهب أنّه تعالى متكلّم ، وإنّما الخلاف في معنى كلامه وقدمه وحدوثه ، وذلك لأنّ هاهنا قياسين متعارضين لهم - على ما حكي (1) عنهم - :

أحدهما : أنّ كلامه تعالى صفة له ، وكلّ ما هو صفة له فهو قديم ، فكلامه تعالى قديم.

وثانيهما : أنّ كلام اللّه تعالى مؤلّف من أجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود ، وكلّ ما هو كذلك فهو حادث ؛ فكلامه حادث.

فالحنابلة قالوا بالقياس الأوّل ومنعوا كبرى القياس الثاني ، وادّعوا قدم الحروف والأصوات القائمة بذاته تعالى.

[ و ] الكراميّة عكسوا ؛ حيث جوّزوا قيام الحوادث بذاته تعالى.

والمعتزلة قالوا بصحّة القياس الثاني أيضا ولكنّهم قدحوا في صغرى القياس الأوّل ؛ حيث ادّعوا أنّ كلام اللّه ليس قائما بذاته ، بل خلقه اللّه في غيره كجبرئيل والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فمعنى التكلّم عندهم خلق الكلام.

والأشاعرة عكسوا ؛ حيث قالوا : إنّ كلام اللّه معنى قائم بذاته يسمّى بالكلام

ص: 278


1- للتعرّف للأقوال في المسألة راجع « الأربعين في أصول الدين » 1 : 247 - 258 ؛ « المحصّل : 403 - 408 ؛ « نقد المحصّل » : 289 - 292 و 307 - 310 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 527 - 563 ؛ « كشف المراد » : 289 - 290 ؛ « مناهج اليقين » 193 - 194 ؛ « شرح المواقف » 8 : 91 - 99 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 143 - 151 ؛ « النافع يوم الحشر » : 16 - 18 ؛ « مفتاح الباب » : 121 - 126 ؛ « إرشاد الطالبين » : 208 - 213 و 219 - 221.

النفسيّ ، وهو مدلول الكلام اللفظيّ المركّب من الحروف.

وتمسّك المعتزلة بوجوه :

الأوّل : أنّه علم بالضرورة من دين النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ القرآن هو هذا المؤلّف المفتتح بالتحميد ، المختتم بالاستعاذة.

الثاني : أنّ خواصّ القرآن الثابتة بالنصّ والإجماع - ككونه ذكرا وعربيّا ونحو ذلك - ثابتة لهذا المؤلّف لا المعنى.

الثالث : أنّ كلام اللّه لو كان أزليّا ، لزم الكذب في إخباره الذي يكون بطريق المضيّ ؛ لاقتضائه سبق وقوع النسبة.

وأجيب : بأنّ الاتّصاف بالمضيّ ونحوه ليس في الأزل ، بل فيما لا يزال بحسب التعلّقات.

وفيه : أنّه مناف للقول بأنّ الأزليّ مدلول اللفظيّ المتّصف بالمضيّ ونحوه.

الرابع : أنّ كلامه مشتمل على أمر ونهي ونحوهما ، فلو كان أزليّا ، يلزم الأمر بلا مأمور والنهي بلا منهيّ ونحو ذلك.

والإيراد هنا كالسابق.

والخامس : أنّه لو كان أزليّا ، لكان أبديّا ؛ لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ فيلزم أبديّة التكليف ، وهو باطل إجماعا.

وأيضا لم يختصّ مكالمة موسى علیه السلام بالطور ونحو ذلك ، وهو باطل إجماعا.

وقد تذكر وجوه أخر ككون التكلّم صفة كمال ، وعدمه صفة نقص ، ولزوم عدم تكفير من أنكر كلاميّة ما بين الدفّتين إذا علم بالضرورة أنّه كلام اللّه تعالى ، ولزوم عدم المعارضة والتحدّي بكلام اللّه الحقيقي ، وعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة.

أقول : يرد - مضافا إلى ما ذكر - عدم كون القرآن من معجزات نبيّنا صلی اللّه علیه و آله من اللّه ؛ إذ الإعجاز إنّما هو بسبب الفصاحة والبلاغة اللتين هما من صفات اللفظ ، مع أنّه

ص: 279

من أعلى معجزاته صلی اللّه علیه و آله ، فلعلّ مراد بعض محقّقي الأشاعرة من الكلام النفسي هو الأمر القائم بالغير الشامل للّفظ والمعنى جميعا بأن يكون ترتّب الحروف وتعاقب الألفاظ في التلفّظ بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالمتلفّظ حادث دون الملفوظ ، فتأمّل.

والدليل النقلي على ذلك قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً ) (1) ونحو ذلك.

المسألة السابعة : في أنّه تعالى صادق

كما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وانتفاء القبح يدلّ على صدقه ).

بيان ذلك : أنّ الصدق قد يطلق على ضدّ الكذب ، وهو كون الخبر مطابقا للواقع والاعتقاد ، أو لأحدهما على الاختلاف.

وقد يطلق على القدرة على إيجاد الكلام المطابق للواقع والاعتقاد ، بمعنى أنّ ذاته منشأ لصدور الخبر المطابق للواقع عنه تعالى ، فيمتنع عليه الكذب المقابل للصدق ، وهذا المعنى هو المراد في مقام بيان الصفات الذاتيّة.

قال الشارح القوشجي : « اتّفق المسلمون على أنّ الكذب في كلام اللّه تعالى محال :

أمّا المعتزلة فلوجهين أشار المصنّف إلى أوّلهما ، وهو أنّ الكذب في الكلام - الذي هو عندهم من قبيل الأفعال دون الصفات ؛ لأنّ الكلام عندهم - كما ذكرنا آنفا - عبارة عن خلق الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة منها [ وخلقها على خلاف الواقع والاعتقاد (2) ] - قبيح وهو سبحانه لا يفعل القبيح. وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها.

ص: 280


1- النساء (4) : 164.
2- العبارة غير موجودة في « شرح تجريد العقائد » للقوشجي.

والثاني : أنّه ينافي مصلحة العالم ؛ لأنّه إذا جاز وقوع الكذب في كلام اللّه ، ارتفع الوثوق عن إخباره تعالى بالثواب والعقاب وسائر ما أخبر به من أحوال الآخرة والأولى ، وفي ذلك فوات مصالح لا تحصى [ مضافا إلى أنّ الصدق قد صلح بحال العباد (1) ] والأصلح واجب عليه تعالى عندهم ، فلا يجوز إخلاله به.

وأمّا الأشاعرة فلوجوه :

أوّلها : أنّه نقص ، والنقص عليه تعالى محال إجماعا. وأيضا فيلزم أن نكون نحن أكمل منه تعالى في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا وكذبه تعالى.

قيل : هذا الوجه إنّما يدلّ على صدق الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى ، وإلاّ لزم نقصان صفته تعالى مع كمال صفتنا ، ولا يدلّ على صدقه في الكلام اللفظيّ الذي يخلقه في جسم دالاّ على معنى مقصود منه ؛ لأنّه على هذا التقدير يلزم النقص في فعله تعالى. ولا فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه وهم لا يقولون به.

اللّهمّ إلاّ أن يقصدوا بذلك إلزام المعتزلة مع أنّ الأهمّ بيان صدقه تعالى في الكلام اللفظيّ.

أقول : مرجع الصدق والكذب إنّما هو المعنى دون اللفظ. ولمّا كان الكلام النفسيّ عندهم مدلول الكلام اللفظيّ ومعناه ، كان كذب الكلام اللفظيّ راجعا إلى كذب الكلام النفسيّ ، ولزم النقص في صفته تعالى.

الثاني : أنّه لو اتّصف بالكذب لكان كذبه قديما ؛ إذ لا يقوم الحادث بذاته ، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب ، وإلاّ لجاز زوال ذلك الكذب ، وهو محال ؛ فإنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، واللازم - وهو امتناع الصدق عليه - باطل ؛ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه على ما هو عليه.

ص: 281


1- العبارة غير موجودة في « شرح تجريد العقائد » للقوشجي.

أقول : لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع كذبه تعالى أيضا بأن يقال : إنّه تعالى لو اتّصف بالصدق ، لكان صدقه قديما فيمتنع عليه الكذب المقابل لذلك الصدق ، لكنّا نعلم ضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه لا على ما هو عليه.

فإن قيل : الإخبار عن الشيء لا على ما هو عليه نقص.

قلنا : كان رجوعا إلى الوجه الأوّل.

وقيل : هذا الوجه أيضا إنّما يدلّ على كون الكلام النفسيّ صادقا دون الكلام اللفظيّ.

أقول : لا يمكن الجواب بمثل ما ذكرنا في الوجه الأوّل - بأن يقال : كذب الكلام اللفظيّ راجع إلى كذب الكلام النفسيّ كما ذكرنا آنفا ، وكذب الكلام النفسيّ قديم ، فكذب اللفظيّ أيضا قديم ، ويلزم ما ذكر من المحذور - ؛ لأنّهم لمّا جوّزوا حدوث الكلام اللفظيّ مع قدم الكلام النفسيّ ، فلأن يجوّزوا حدوث صفة اللفظيّ - أعني حدوث كذبه - لكان أولى ، ولقبول العقول أحرى.

الثالث - وهو معتمد الأصحاب ؛ لدلالته على الصدق في الكلام اللفظيّ والنفسيّ معا ، ولبراءته عن المناقشات - : إجماع العلماء والأنبياء علیهم السلام ، وقد ثبت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقّف على ثبوت كلام اللّه تعالى فضلا عن صدقه ». (1)

أقول : أورد المقدّس الأردبيليّ رحمه اللّه على قوله : « أقول : لا يمكن ... » بأنّه لا يخفى أنّه يمكن الجواب بمثل ما تقدّم بعينه هنا أيضا بأن يقال : لمّا ثبت أنّ الكلام النفسيّ صادق ، ولا معنى لصدق الكلام اللفظيّ إلاّ صدق المعنى بناء على ما ذكره من أنّ كذبه راجع إليه ، وأن يقال : لا يمكن صدق الأوّل مع كذب الثاني ؛ فإنّ معنى صدق الأوّل مطابقته للواقع ، وكذب الثاني عدم مطابقة معناه للواقع ، ومعناه هو الكلام النفسيّ ، فيلزم كذبه على تقدير كذبه ، وهو ظاهر ؛ فإنّ قدم أحدهما لا يستلزم قدم

ص: 282


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 319 - 320.

الآخر وكذا الحدوث.

نعم ، لو استدلّ على صدق اللفظيّ بالدليل المتقدّم - بأن يقال : لو كان كاذبا لكان كذبه قديما - لصحّ (1) ما ذكره بأن يمنع لزوم قدم الكذب ؛ فإنّه لمّا جاز كون النفسيّ قديما واللفظيّ حادثا ، فجواز كون الكذب اللفظيّ حادثا أولى ولا يندفع.

ولكن قد عرفت أنّ المقصود أنّه يلزم من صدق الأوّل صدق الثاني ومن كذبه كذبه ؛ فإنّه قال في الأوّل : إنّ صدقه راجع إليه ، فتأمّل (2).

ثمّ أورد على قوله : « الثالث ... » بأنّه لا خصوصيّة له بالأشاعرة.

وأيضا لا دخل للإجماع ؛ إذ يكفي قول نبيّ واحد ؛ إذ ثبت صدقه بالمعجزة (3).

وهو جيّد ، فتدبّر.

المسألة الثامنة : في أنّه تعالى قديم أزلي أبدي سرمديّ

بمعنى أنّه غير مسبوق بالعدم ولو ذاتا وغير متناه في جانب الماضي والمستقبل ، وأنّه باق بالبقاء الذي هو نفس ذاته ؛ وذلك لأنّه موجود لذاته ، وما هو موجود لذاته فهو باق لذاته ؛ ضرورة أنّ ما بالذات لا يزول أبدا ، فالبقاء وجود مخصوص ، وهو الوجود المستمرّ الذي يعبّر عنه بالوجود بعد الوجود ، كما أنّ الحدوث وجود بعد العدم ، فهو باق بالبقاء الذي هو نفس ذاته ، كما هو أنّه موجود بالوجود الذي هو نفس ذاته.

وإليه أشار المصنّف بقوله : ( ووجوب الوجود يدلّ على سرمديّته ) لاقتضائه امتناع العدم ، المستلزم لاستمرار البقاء ، والقدم ، ودوام الوجود أزلا وأبدا.

ص: 283


1- في النسخ : « لصحّة » والصحيح ما أثبتناه في المتن.
2- « الحاشية على إلهيات الشرح الجديد للتجريد » للمحقّق الأردبيليّ : 87 - 88.
3- « الحاشية على إلهيات الشرح الجديد للتجريد » للمحقّق الأردبيليّ : 88.

المطلب الثاني :

المطلب الثاني (1) :

في أنّ الأوصاف الثمانية - التي هي الصفات الثبوتيّة الحقيقيّة المسمّاة بصفات الكمال وصفات الذات - عين الذات وليست بزائدة عنها كعلمنا وقدرتنا وحياتنا الزائدة عن ذواتنا ، ردّا على الأشاعرة (2) ؛

وذلك لأنّ العينيّة صفة كمال لا تقتضي نقص صاحبها ، فهي ثابتة على وجه الوجوب له تعالى لئلاّ يلزم النقص والاحتياج ، أو كون فاقد القدرة قادرا على إيجاد القدرة لنفسه ، وتعدّد القدماء المستلزم لتعدّد الواجب الذي سيأتي نفيه.

ويطابقه النقل كما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « لم يزل اللّه عزّ وجلّ والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور (3) ».

وعن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال : « إنّه سميع بصير ، يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع (4) » إلى غير ذلك من الأخبار (5).

وأمّا قوله علیه السلام : « إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ، كان اللّه عزّ وجلّ ولا متكلّم (6) » ، وقوله علیه السلام : « لم يزل عالما قادرا ثمّ أراد (7) » ، وقوله علیه السلام : « خلق اللّه

ص: 284


1- أي من مطالب الفصل الثاني في المقصد الثالث من مقاصد الكتاب الستّة ، التي أولها في الأمور العامة ، وثانيها في الجواهر والأعراض ، وثالثها في إثبات الصانع ، ورابعها في النبوّة ، وخامسها في الإمامة ، وسادسها في المعاد.
2- انظر « الملل والنحل » 1 : 95 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 19 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 8 : 44 وما بعدها.
3- « التوحيد » : 139 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 1 ؛ « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ، ح 1.
4- « التوحيد » : 144 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 9 ؛ « الكافي » 1 : 108 باب آخر وهو من الباب الأوّل ، ح 1.
5- راجع « التوحيد » : 139 - 148 ؛ « الكافي » 1 : 107 - 109.
6- « التوحيد » : 139 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 1 ؛ « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ، ح 1.
7- « التوحيد » : 146 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 15 ؛ « الكافي » 1 : 109 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ، ح 1.

المشيئة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة (1) » ونحوها ممّا يدلّ على أنّ الكلام والإرادة من الصفات الزائدة ، فهي محمولة على زيادة الكلام ، بمعنى إيجاد ما يدلّ على المراد ، أو المتكلّم به ، لا القدرة على إيجاده.

وكذا الإرادة بمعنى القصد والمشيئة - كما هو المتعارف في المحاورات العرفيّة - لا بمعنى العلم بالمصلحة المقتضي لمشيئة الفعل ، والعلم بالمفسدة المقتضي لمشيئة الترك ، فلا يلزم المخالفة مع ما عليه المتكلّمون من كون الكلام والإرادة من الصفات العينيّة.

وقوله تعالى : ( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ ) (2) أو نحوه محمول على نفي المشيئة ، كحمل قوله تعالى : ( وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ ... ) (3) على عدم حصول الامتياز الخارجيّ ، لا العلم الذاتي الذي هو نفس الذات المتميّز.

فإن قلت : العلم مثلا - بمعنى ظهور المعلوم للعالم ، أو انكشافه عنده بالحضور أو الحصول ، أو نحوهما ؛ والقدرة بمعنى التمكّن على الفعل والترك ؛ والحياة بمعنى صحّة الاتّصاف بالعلم والقدرة ونحو ذلك بسبب المصدريّة ، أو نحوها - من الأعراض التي لا يمكن أن تكون عين ذات الجواهر الممكنة ، فكيف تصحّ دعوى العينيّة بالنسبة إلى الواجب؟!

قلت : قد تطلق الألفاظ المذكورة على المعنى الوصفيّ والعرضيّ كما ذكر.

وقد تطلق على المعنى الاسميّ ، فالعلم يكون بمعنى منشأ انكشاف الأشياء وسبب ظهورها ، والقدرة بمعنى منشأ التمكّن على الفعل والترك ، والحياة بمعنى منشأ صحّة الاتّصاف بالعلم والقدرة ونحوه ، هي بهذه المعاني في الواجب عين

ص: 285


1- « التوحيد » : 148 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح 19 ؛ « الكافي » 1 : 110 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ح 4.
2- المائدة (5) : 41.
3- آل عمران (3) : 142.

الذات ، وفي الممكن أعراض تعرض الذات ، والحمل في الواجب يكون بسبب التغاير الاعتباريّ ، والتعدّد والتكثّر إنّما يكون باعتبار الآثار الخارجيّة ، وإلاّ فهي في الخارج واحدة عين الذات.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف بقوله : ( ونفي الزائد ) بمعنى أنّ وجوب الوجود يقتضي عدم الوصف الزائد على ذاته تعالى ، وكون الصفات الذاتيّة المذكورة عين الذات ؛ حذرا عن لزوم النقص والاحتياج المنافيين لوجوب الوجود.

وقد يبيّن المراد بأنّ العلماء لمّا اختلفوا في أنّ البقاء صفة زائدة على الذات حتّى تكون الصفات ثمانية - كما عن الشيخ الأشعريّ - أم لا - كما عن الأكثرين -؟ (1) أشار بقوله : « ونفي الزائد » إلى أنّ البقاء ليس صفة زائدة ، بل هو عين الذات كسائر الصفات الذاتيّة ؛ فإنّه في مقام الآثار من شعب الحياة التي هي عين الذات ، وقد أشرنا إليه.

فلا يتوجّه ما تمسّك به الشيخ الأشعريّ من أنّ الواجب باق بالضرورة ، فلا بدّ أن يقوم به معنى هو البقاء كما في العالم والقادر ؛ لأنّ البقاء ليس من السلوب والإضافات وهو ظاهر ، وليس أيضا عبارة عن الوجود ، بل زائد عليه ؛ إذ الوجود متحقّق دونه كما في آن الحدوث.

مضافا إلى أنّه ردّ بالنقض بالحدوث ؛ فإنّه غير الوجود ؛ لتحقّق الوجود بعد الحدوث ، والحلّ (2) بأنّ البقاء وجود مخصوص ؛ فإنّه وجود مستمرّ كما أنّ الحدوث أيضا كذلك ؛ فإنّه وجود بعد العدم.

ص: 286


1- لمزيد المعرفة حول الأقوال في هذه المسألة راجع « الأربعين في أصول الدين » 1 : 259 - 265 ؛ « المحصّل » : 408 - 410 ؛ « نقد المحصّل » : 292 - 293 ؛ « كشف المراد » : 290 ؛ « مناهج اليقين » : 179 ؛ « شرح المواقف » 8 : 106 - 109 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 164 - 168 ؛ « إرشاد الطالبين » : 213 - 215 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 320 - 323.
2- أي وردّ بالحلّ.

وحكى الفاضل القوشجي عن الأكثرين - القائلين بأنّ البقاء ليس صفة زائدة - أنّهم استدلّوا عليه بوجوه :

« أحدها : أنّ المعقول منه استمرار الوجود ، ولا معنى لذلك سوى الوجود من حيث انتسابه إلى الزمان الثاني.

وثانيها : أنّ ذات الواجب لو كان باقيا بالبقاء الذي هو ليس نفس ذاته ، لما كان الوجود لذاته ؛ لأنّ ما هو موجود لذاته فهو باق لذاته ؛ ضرورة أنّ ما بالذات لا يزول أبدا ، وإذا فسّر البقاء بصفة يعلّل بها الوجود في الزمان الثاني ، لكان لزوم المحال أظهر ؛ لأنّه يؤول إلى أنّ الواجب موجود في الزمان الثاني لأمر سوى ذاته.

واعترض [ عليه ] صاحب الصحائف (1) بأنّ اللازم ليس إلاّ افتقار صفة إلى صفة أخرى ، ولا امتناع فيه كالإرادة تتوقّف على العلم ، والعلم على الحياة.

وردّ بأنّ افتقاره في الوجود إلى أمر سوى الذات ينافي الوجوب بالذات.

أقول : فيعود إلى الوجه الأوّل ؛ إذ لا بدّ في إتمامه من أنّ البقاء وجود خاصّ ، فباقي المقدّمات مستدرك.

وثالثها : أنّ الذات لو كان باقيا بالبقاء لا بنفسه ، فإن افتقر صفة البقاء إلى الذات ، لزم الدور ؛ لتوقّف ثبوت كلّ في الزمان الثاني على الآخر ، وإن افتقر الذات إلى البقاء مع استغنائه عنه ، كان الواجب هو البقاء لا الذات ، هذا خلف ، وإن لم يفتقر أحدهما إلى الآخر ، بل اتّفق تحقّقهما معا - كما ذكره صاحب المواقف (2) - لزم تعدّد الواجب ؛ لأنّ كلاّ من الذات والبقاء يكون مستغنيا عمّا سواه ؛ إذ لو افتقر البقاء إلى شيء آخر ، لافتقر إلى الذات ؛ ضرورة افتقار الكلّ إليه ، والمستغني عن جميع ما سواه واجب قطعا.

ص: 287


1- نقله التفتازانيّ عنه في « شرح المقاصد » 4 : 166 وكذا في « مفتاح الباب الحادي عشر » : 120.
2- « شرح المواقف » 8 : 107.

هذا ، مع أنّ ما فرض - من عدم افتقار البقاء إلى الذات - محال ؛ لأنّ افتقار الصفة إلى الذات ضروريّ.

ورابعها : أنّ البقاء لو كان صفة أزليّة زائدة على الذات ، قائمة به كانت بالبقاء ويتسلسل.

فإن قيل : هو باق بالبقاء لكن بقاؤه نفسه ليس زائدا عليه حتّى يتسلسل.

قلنا : فحينئذ يجوز أن يكون البارئ تعالى باقيا ببقاء هو نفسه » (1).

أقول : الدليل الإجماليّ على ثبوت تلك الصفات له تعالى أنّ ثبوتها كمال وعدمها نقص ، ولا شكّ في صحّة اتّصاف الموجود - بما هو موجود - بها ، بمعنى أنّ حيثيّة الموجود لا تنافي الاتّصاف بها وإن أمكن تحقّق المنافي لها في بعض الموجودات كالصورة والطبيعة الزائدة على وصف الموجوديّة ، فالموجود الذي ليس فيه إلاّ جهة الموجوديّة ليس فيه ما ينافي الاتّصاف بالكمال ، وواجب الوجود موجود بما هو موجود من غير خصوصيّة زائدة ؛ لما مرّ من أنّ حقيقته عين الوجود ، وليس حقيقته إلاّ الوجود ، فليس فيه خصوصيّة تكون فرعا لماهيّة زائدة على الوجود ، فليس فيه ما ينافي الاتّصاف بالكمالات ، وقد مرّ أنّ كلّ ما يمكن اتّصاف الواجب به ، فهو واجب الحصول ؛ لامتناع كون صفته تعالى بالقوّة ، فواجب الوجود متّصف بالكمالات المذكورة على وجه الوجوب.

وأيضا : فإنّ آثار تلك الصفات ، الصادرة عن الواجب - كانكشاف الأشياء ونحوه - إمّا أن تكون بلا منشأ أو معه. والأوّل مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، أو الترجّح بلا مرجّح ، وكلاهما فاسد.

وعلى الثاني إمّا أن يكون المنشأ غير ذاته تعالى ، أو نفس ذاته.

وعلى الأوّل يلزم الاحتياج المنافي لوجوب الوجود ، وتعدّد الواجب إن كان ذلك

ص: 288


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 323.

الغير واجبا وتقدّم الشيء على نفسه إن كان ممكنا ؛ لاستناد ذلك الممكن إلى الواجب استنادا محوجا إلى القدرة والعلم ونحوهما ، وجميع ذلك محال ، فتعيّن الثاني ، فيلزم كون ذاته تعالى منشأ للآثار المترتّبة على الصفات كالعلم والقدرة ، فيكون ذاته منشأ لانكشاف الأشياء كما أنّ علمنا منشأ له ، وهكذا سائر الآثار ، فيثبت المطلوب.

وأيضا : لو لم يكن تلك الصفات ثابتة له تعالى ، يلزم نقص الواجب في مرتبة الذات ، وإن لم يتفاوت الأمر بالنسبة إلى الآثار بأن كان ذاته نائب الصفات مع أنّه تعالى معط لتلك الكمالات التي لا توجب نقص الذات ، ومعطي الشيء لا بدّ أن يكون واجدا له وغير فاقد له.

وأيضا : ظواهر الآيات والأخبار (1) - نحو قوله تعالى : ( عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) (2) وغيره - دالّة على كون ذاته تعالى صاحب الصفات لا نائب الصفات ؛ لأنّ المشتقّ حقيقة فيما ثبت له المبدأ لا ما ناب عنه ، فالقول بأنّ ذاته تعالى نائب الصفات مخالف لها (3).

ويجب أن يكون اتّصافه تعالى بتلك الصفات على طريق أكمل بمعنى أنّه تعالى في اتّصافه بها لا يحتاج إلى قيام صفة زائدة به ، بل ذاته تعالى بذاته متّصف بمفاهيمها بأن يترتّب عليه بذاته ما يترتّب على غيره بصفة زائدة ، وكما أنّ الصفات في غيره منشأ لحصول آثارها ، كذلك ذاته تعالى منشأ لحصولها ؛ لئلاّ يلزم النقص في الذات بالاحتياج إلى الصفات ، وتعدّد الواجب ، أو احتياج الواجب إلى غيره المستلزم للإمكان ، وتعدّد الواجب ، أو تقدّم الشيء على نفسه إن كان ذلك العين ممكنا محتاجا إلى الواجب المؤثّر فيه تأثيرا محتاجا إلى ثبوت القدرة والعلم

ص: 289


1- انظر المصادر المتقدّمة في ص 284 من هذا الجزء.
2- النحل (16) : 70 ؛ الشورى (42) : 50.
3- نسب هذا القول إلى المعتزلة ، كما في « الفرق بين الفرق » : 78 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 70 ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : 161.

ونحوهما ، مع أنّ العينيّة كمال بالنسبة إلى الزيادة وقد مرّ أنّ كلّ كمال ممكن في حقّه تعالى ، وواجب الثبوت له تعالى.

وصل : الاعتقاد بأنّ الصانع الواجب بالذات صاحب الصفات لا نائب الصفات من أصول المذهب الجعفريّ ولو كمالا ، ومنكره - كشارح المواقف (1) - ليس له مذهب كامل ، ومن لم يعرف ذلك الاعتقاد الحقّ ولم ينكره ، كان من المستضعفين في المذهب ، كما أنّ منكر أصل من أصول الدين خارج عن الدين ، ومن لم يعرفه ولم ينكره كان من المستضعفين في الدين.

المطلب الثالث : في بيان أنّ الصانع الواجب بالذات منزّه عن صفات النقص والكدورات

اشارة

وهي الصفات المسمّاة بالصفات السلبيّة وصفات الجلال أيضا ، وهي صفات عديدة راجعة إلى أوصاف سبعة :

منها : أنّه تعالى ليس بجوهر ؛ إذ الجوهر عبارة عن الموجود لا في الموضوع ، أو المتقوّم بنفسه ، أو محلّ الأعراض. والأوّل يقتضي زيادة الوجود على الذات. والثاني يقتضي الانفعال والعدم. والثالث يقتضي النقص. وكلّ ذلك محال في حقّه تعالى ، مع أنّ غلبة إطلاق الجوهر على الممكن توهم إمكانه تعالى لو أطلق عليه تعالى.

ومنها : أنّه تعالى ليس بعرض ؛ لأنّ العرض محتاج في وجوده إلى الغير ، وهو مناف لوجوب الوجود ، ويلزم من هذا أن لا يكون ضدّ الشيء ، ولا يكون له ضدّ ؛ إذ الضدّان عرضان لا يمكن اجتماعهما وارتفاعهما في زمان واحد من جهة واحدة بالنسبة إلى شيء واحد.

ص: 290


1- « شرح المواقف » 8 : 44 - 49.

ومنها : أنّه تعالى ليس بجسم ؛ إذ كلّ جسم محتاج إلى الغير وهو مناف لوجوب الوجود ، ويلزم من هذا أنّه تعالى ليس متحيّزا ، واقعا في مكان كما يقوله المجسّمة ؛ تمسّكا بقوله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (1) ؛ إذ معنى « استوى » استولى وغلّب للقرينة العقليّة ؛ وكذا إنّه ليس حالاّ في شيء كما يقوله الحلوليّة من الصوفيّة من أنّه تعالى يحلّ في قلوب العارفين ، بل غيرها ، كما حكي عن أبي يزيد البسطاميّ أنّه قال : « ليس في جبّتي إلاّ اللّه (2) » وعن النصارى أنّهم قالوا : إنّه تعالى حلّ في عيسى (3) ؛ وكذا إنّه تعالى ليس له جهة ؛ إذ كلّ ذي جهة إمّا جسم ، أو جسمانيّ ، وكلاهما غير واجب الوجود.

ومنها : أنّه تعالى ليس مركّبا لا من الأجزاء العقليّة - أعني الجنس والفصل - ولا من الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة - أعني الهيولى والصورة - والتي هي مقابلة لهما كالعناصر وغيرها ؛ لاستلزام التركيب بجميع أقسامه الاحتياج المنافي لوجوب الوجود.

ومنها : أنّه تعالى ليس ذا شريك ؛ لما سيأتي.

ومنها : أنّه تعالى ليس بمعان بمعنى أنّ الصفات الثمان السابقة - أعني العلم والقدرة وغيرهما - عين ذاته تعالى ، وليست بمعان زائدة عليه ، قائمة به كما يقوله

ص: 291


1- طه (20) : 5.
2- حكاه عنه صاحب المثنويّ في الدفتر الرابع بنحو هذا الكلام. راجع « مثنويّ معنويّ » :2. 727 ، الدفتر 4 ، البيت 2119 - 2120. ونقل من دون نسبة إلى قائل معيّن في « مفاتيح الإعجاز في شرح گلشن راز » : 312 و 2. ونسب إلى بعض العرفاء في « شرح منازل السائرين » لعبد الرزّاق الكاشانيّ : 18 و 368. ونسب إلى أبي سعيد بن أبي الخير في « شرح شطحيات » : 2. الفصل 463 ؛ « مرصاد العباد » : 321 ، الفصل 19 من الباب الثالث.
3- « شرح الأصول الخمسة » : 292 - 298 ؛ « نقد المحصّل » : 261 - 262 ؛ « كشف المراد » : 293 ؛ « مناهج اليقين » : 203 - 204 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 165 - 167 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 57 - 60 ؛ « شرح المواقف » 8 : 29 - 31 ؛ « إرشاد الطالبين » : 227 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 19 - 21.

الأشاعرة (1) ؛ لأنّها إن كانت واجبة في صورة الزيادة ، يلزم تعدّد القدماء والواجب وقد مرّ بطلانه. وإن كانت ممكنة تكون محتاجة إلى الغير.

فإن احتاجت إلى الذات يلزم كون الشيء الواحد من جهة واحدة فاعلا وقابلا ، مضافا إلى لزوم نقص الذات والدور ، أو التسلسل في القدرة والإرادة والحياة والعلم والإدراك والكلام ؛ لتوقّف التأثير في القدرة على قدرة أخرى وهكذا.

وعلى تقدير كون تأثير الذات بالاضطرار ، يلزم مضافا إلى النقص انقلاب الماهيّة المحال ، وكذا في غيرها ، ويلزم الحدوث بالنسبة إلى السرمديّة المنافي لوجوب الوجود.

وإن احتاجت إلى غير الذات يلزم الاحتياج المنافي لوجوب الوجود ، بل يلزم التغيّر في الذات وتعدّد الواجب ؛ لامتناع صدور ذلك الغير منه تعالى قبل القدرة على هذا التقدير ، بل لا بدّ إمّا كونه واجبا أو مستندا إلى واجب آخر ، وجميع ذلك محال. ويلزم من هذا أنّه تعالى ليس محلاّ للحوادث بمعنى أن تكون صفات كماله كالقدرة حادثة في ذاته تعالى ، وأنّه تعالى ليس محلاّ للآلام لا الآلام المزاجيّة الحسّيّة - أعني إدراك ما ينافي الكمال من حيث هو كذلك - و [ لا ] الآلام العقليّة المستندة إلى العقل ، لا إحدى الحواسّ الظاهرة و [ لا ] الباطنة ؛ لاستلزامهما (2) التغيّر والإمكان المنافيين لوجوب الوجود ، وهكذا اللذّة بقسميها.

ومنها : أنّه تعالى ليس محتاجا ، بل هو غنيّ عن المكان والزمان والشكل والصورة والمحلّ والمادّة ونحوها ؛ لمنافاة الجميع لوجوب الوجود.

ويتفرّع على هذا بعض ما ذكر وكذا عدم كونه مرئيّا. بيانه أنّ الرؤية على معان :

الأوّل : الرؤية بمعنى الانكشاف التامّ العلميّ ، ولا نزاع في جواز تعلّق هذا القسم

ص: 292


1- « المحصّل » : 421 - 427 ؛ « مناهج اليقين » : 180 - 188 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 69 ؛ « شرح المواقف » 8 : 44 - 49 ؛ « إرشاد الطالبين » : 215 - 217 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 24.
2- أي استلزام كونه محلاّ للحوادث وكونه محلاّ للآلام.

بالبارئ ، كما قال سيّد الوصيّين : « اعبد اللّه كأنّك تراه (1) » و « كيف أعبد ربّا لم أره؟ » (2).

الثاني : الرؤية بمعنى الانكشاف الحسّيّ وهو عند الطبيعيّين ما يحصل بارتسام صورة المرئيّ في عين الرائي. وعند الرياضيّين ما يحصل من اتّصال شعاع مخروط خارج من عين الرائي بالمرئيّ بحيث يكون مركزه ورأسه متّصلا ببصره ، وقاعدته متّصلا بالمرئيّ ، ولا نزاع - كما قيل - في امتناع تعلّق هذا القسم بالواجب ؛ لاختصاصه بالممكن.

الثالث : الرؤية بمعنى المعرفة الزائدة الحاصلة بعد المعرفة الحاصلة من الحدّ أو الرسم ؛ فإنّا إذا عرّفنا الشيء بالحدّ أو الرسم تحصل معرفة علميّة ، فإذا أبصر ذلك الشيء فغمض البصر ولوحظ ثانيا حصل إدراك فوق الإدراك الأوّل ، وبعد فتح البصر يحصل إدراك فوق الإدراكين السابقين ، ويسمّى هذا الإدراك رؤية.

وقد اختلف في جواز تعلّقها بالواجب ، فجوّزه الأشاعرة (3) للمؤمنين في الدار الآخرة على وجه يتنزّه به الواجب الوجود عن الجهة والمكان ، ولهذا لا يمكن حصولها في الدنيا ؛ إذ الرؤية الدنيويّة لا تحصل بلا جهة ومكان ، والواجب منزّه عنهما.

والمشبّهة القائلون بأنّ اللّه تعالى ليس بجسم ولكنّه شبيه به ، والكراميّة القائلون بأنّه تعالى جسم لا كالأجسام الممكنة يقولون بجواز [ تعلّق ] الرؤية به تعالى مع الجهة والمكان.

ص: 293


1- « الدرّ المنثور » 1 : 714 ؛ « صحيح مسلم » 1 : 37 كتاب الإيمان ، ح 1 ؛ « سنن أبي داود » 4 : 224 كتاب السنّة ، باب في القدر ، ح 4695 ؛ « سنن ابن ماجة » 1 : 24 ، المقدّمة ، باب في الإيمان ، ح 63.
2- « بحار الأنوار » 4 : 54 ، ح 34 و 36 : 406 ، ح 16.
3- لمزيد الاطّلاع حول الأقوال في الرؤية راجع « شرح الأصول الخمسة » : 232 - 277 ؛ « المغني » : 4 : 243 ؛ « المحصّل » : 441 - 454 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 266 - 307 ؛ « نقد المحصّل » : 316 - 322 ؛ « كشف المراد » : 296 - 299 ؛ « مناهج اليقين » : 210 - 213 ؛ « شرح المواقف » : 8 : 115 - 143 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 181 - 211 ؛ « إرشاد الطالبين » : 241 - 249 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 22 - 23 ؛ « شرح الأسماء » للسبزواريّ : 509 - 519.

وتمسّك الأشاعرة بسؤال موسى علیه السلام ؛ حيث قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (1) لأنّ موسى علیه السلام لم يكن ممّن يسأل عن الممتنع ، وتعليق الرؤية باستقرار الجبل الممكن يقتضي الإمكان أيضا ، وبقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (2). ودلالته ظاهرة.

والجواب عن الأوّل أوّلا - بعد منافاة مقتضاه الظاهر لمدّعاهم ؛ حيث يدلّ على تقدير تسليم الدلالة على جواز رؤيته في الدنيا - أنّ سؤال موسى علیه السلام كان لإسكات قومه ولم يكن سؤالا حقيقيّا ، ولا أقلّ من كونه لحصول زيادة الاطمئنان كما في سؤال إبراهيم علیه السلام بقوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) (3) واستقرار الجبل لم يكن ممكنا كما لم يتحقّق.

وثانيا : أنّ الآية - على تقدير دلالتها - ظاهرة مدفوعة بالإجماع القاطع ، والعقل الذي هو النور الساطع.

وعن الثاني : أنّ كلمة « إلى » مشتركة بين المعنى الاسميّ - وهو معنى ما هو مفرد الآلاء بمعنى النعم - وبين المعنى الحرفيّ وهو انتهاء الغاية. والمراد هو الأوّل لا الثاني ، ولا أقلّ من الاحتمال المنافي للاستدلال. مضافا إلى أنّ الإجماع والعقل القطعيّين يدفعان الظاهر.

وأيضا : إن كان هذا الإدراك هو الانكشاف العلميّ ، فهو خارج عن محلّ النزاع.

وإن كان عبارة عن الانكشاف البصريّ - كما حكي عن بعضهم أنّه لا يمتنع أن يحصل لأبصار المؤمنين في الآخرة حالة بقدر معرفتهم ليشاهدوا بها نور الوجود الواجبيّ ، بناء على مبناهم الفاسد من جواز حصول كلّ شيء لكلّ شيء كحصول العلم بجميع

ص: 294


1- الأعراف (7) : 143.
2- القيامة (75) : 22.
3- البقرة (2) : 260.

الفنون للجماد بما هو جماد وحصول آثار النار للماء وبالعكس ونحوهما بسبب عدم مدخليّة القابليّة والاستعداد والمصالح والمفاسد في إيجاد الأشياء - فلا شبهة في امتناعه ؛ لاستلزامه الشكل والصورة والجهة والمكان وسائر ما يستلزمه الجسميّة ، وكلّ ذلك مستلزم للإمكان والاحتياج المنافيين لوجوب الوجود.

فالحقّ امتناع تعلّق الرؤية بالقسمين الأخيرين بالواجب تعالى ، كما قال تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) (1) ونحو ذلك من الآيات والأخبار ، بل هو ضروريّ المذهب ، ومنكره كافر بالكفر المقابل للإيمان ، المفضي إلى الخلود في النيران والبعد عن رحمة الرحمن ، أعاذنا اللّه عن ذلك بحقّ سيّدي شباب أهل الجنان.

وإلى ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان الشارح القوشجي بقوله : « ( والشريك ) يعني وجوب الوجود يدلّ على نفي الشريك في الوجوب أي لا يمكن تعدّد الواجب ، وإلاّ فالتعيّن الذي به الامتياز إن كان نفس الماهيّة الواجبة ، أو معلّلا بها ، أو بلازمها ، فلا تعدّد. وإن كان معلّلا بأمر منفصل ، فلا وجوب بالذات ؛ لامتناع احتياج الواجب في تعيّنه إلى أمر منفصل ؛ لأنّ الاحتياج في التعيّن يقتضي الاحتياج في الوجود ؛ إذ الشيء ما لم يتعيّن لم يوجد.

أقول : هذا من قبيل اشتباه المفهوم بما صدق ؛ فإنّ الماهيّة الواجبة أريد بها في أوّل شقّي الترديد مفهومها ، وفي الآخر ما صدقت هي عليه ليستقيم الكلام ؛ فإنّ قوله : « إن كان نفس الماهيّة الواجبة فلا تعدّد » إن أريد بالواجب ما صدق عليه ، ورد المنع على اللزوم ؛ فإنّه يجوز أن يوجد واجبان تعيّن كلّ واحد منهما نفس ذاته ، فلا محذور.

وكذا قوله : وإن كان معلّلا بأمر منفصل عن الواجب فلا وجوب بالذات ، إن أريد به المفهوم ، ورد المنع على اللزوم ؛ فإنّه يجوز أن يكون تعيّن كلّ واجب

ص: 295


1- الأنعام (6) : 103.

معلّلا بأمر منفصل عن مفهوم الواجب - أعني ذات الواجب - فلا محذور.

لا يقال : لا انفصال بين ذات الواجب ومفهومه.

لأنّا نقول : فحينئذ يكون شقّا خامسا نختاره في الجواب.

وأيضا : لو كان الواجب أكثر من واحد ، لكان لكلّ منهما تعيّن ضرورة وحينئذ إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم ، أو لا ، فإن لم يكن بل جاز انفكاكهما لزم جواز الوجوب بدون التعيّن ، وهو محال ؛ لأنّ كلّ موجود متعيّن ، أو جواز التعيّن بدون الوجوب ، وهو ينافي كون الوجوب ذاتيا ، بل يستلزم كون الواجب ممكنا ؛ حيث تعيّن بلا وجوب.

وإن كان بين الوجوب والتعيّن لزوم ، فإن كان الوجوب بالتعيّن لزم تقدّم الوجوب على نفسه ؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب ، وإن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض ، وهو تعدّد الواجب ؛ لأنّ التعيّن المعلول لازم غير متخلّف ، فلا يوجد الواجب بدونه.

وإن كان التعيّن والوجوب لأمر منفصل ، لم يكن الواجب واجبا بالذات ؛ لاستحالة احتياجه في الوجوب والتعيّن ، بل في أحدهما إلى أمر منفصل ، وهو ظاهر.

أقول : قوله : لزم تقدّم الوجوب على نفسه ضرورة تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب ، فيه أنّ تقدّم العلّة على المعلول بالوجود والوجوب إنّما هو على تقدير كون المعلول موجودا خارجيّا والمعلول هنا ليس كذلك ؛ لما سبق من أنّ الوجوب من الأمور الاعتباريّة ، ولو سلّم فالموقوف مغاير للموقوف عليه ؛ لأنّ أحدهما وجوب الذات ، والآخر وجوب التعيّن.

وأيضا قوله : إمّا أن يكون بين الوجوب والتعيّن لزوم أولا ، إن أراد بالتعيّن الواحد المعيّن من التعيّنين ، نختار أن لا لزوم بينه وبين الوجوب.

قوله : بل إن جاز انفكاكهما لزم جواز الوجوب بدون التعيّن. قلنا : ممنوع ، وإنّما يلزم لو لم يكن هناك تعيّن آخر.

ص: 296

وإن أراد بالتعيّن أحد التعيّنين لا على التعيين ، فقوله : وإن كان التعيّن بالوجوب أو كلاهما بالذات ، لزم خلاف المفروض وهو تعدّد الواجب ، ممنوع.

قوله : لأنّ التعيّن المعلول لازم غير متخلّف ، قلنا : ممنوع ؛ لكون لزوم أحد التعيّنين لا على التعيين لا ينافي التعدّد.

( و ) هو أعني وجوب الوجود يدلّ على نفي ( المثل ) أيضا أي الواجب لا يكون له مثل ، وإلاّ لكان لكلّ من المثلين ماهيّة مشتركة بينهما ، ووجود عارض ؛ لامتناع تركّب الواجب كما سيأتي ، لكنّ الواجب لا يكون وجوده عارضا ؛ لما تقدّم بيانه.

( و ) يدلّ على نفي ( التركيب ) أيضا ( بمعانيه ) يعني التركيب من الأجزاء العقليّة كالمركّب من الجنس والفصل ، والتركيب من الأجزاء الخارجيّة كالتركيب من الجدران والسقف ؛ لما بيّنّا أنّ الواجب لا يكون مركّبا لا ذهنا ولا خارجا.

( و ) على نفي ( الضدّ ) أيضا لأنّ الضدّ يقال لمشارك في الموضوع معاقب ، والواجب لا يكون في الموضوع

( و ) على نفي ( التحيّز ) أيضا يعني أنّ الواجب لا يكون متحيّزا ، وإلاّ لزم إمكان الواجب ووجوب الممكن ؛ لأنّه لو كان في مكان ، لكان محتاجا إليه ضرورة ، والمحتاج إلى الغير ممكن ، فيلزم إمكان الواجب ، ولكان المكان مستغنيا عنه ؛ لأنّ المكان قد يوجد بدون المتمكّن ؛ لإمكان الخلاء والمستغني عن الواجب يكون مستغنيا عمّا سواه ؛ إذ لو احتاج إلى الغير ، فذلك الغير إمّا واجب أو ممكن محتاج إلى الواجب ، وعلى التقديرين يلزم الاحتياج إلى الواجب ، وهو خلاف المفروض ، فيلزم وجوب الممكن.

أقول : اللازم من تحيّز الواجب هو الاحتياج إلى الغير في التمكّن لا في الوجود ،

ص: 297

والمتمكّن هو المحتاج إلى الغير في الوجود لا في أمر آخر غيره ، فلا يلزم إمكان الواجب.

وأيضا : استغناء المكان عن المتمكّن في وجوده ممنوع.

قوله : لأنّ المكان قد يوجد بدون المتمكّن ، قلنا : ممنوع لو لم يكن المتمكّن هو الواجب كما في فرضنا هذا.

وأيضا : لو كان متحيّزا ، فإمّا أن يكون في جميع الأحياز ، فيلزم تداخل المتحيّزات ، ومخالطة الواجب لما لا ينبغي من القاذورات ، وإمّا أن يكون في البعض دون البعض ، فإن كان المخصّص لزم احتياج الواجب إلى ذلك المخصّص ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح.

أقول : يجوز أن يكون المخصّص هو الإرادة ، على أنّ الاحتياج المستحيل هو احتياج الواجب في وجوده لا احتياجه في صفة أخرى ، كما ذكرنا آنفا.

وأيضا لو كان في مكان لكان المكان قديما ، وقد بيّنّا أنّ العالم حادث.

وأيضا لو كان متحيّزا ، لكان جوهرا ؛ لاستحالة كون الواجب عرضا ، فإمّا أن لا ينقسم ، وحينئذ يكون جزءا لا يتجزّأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ، أو ينقسم وحينئذ يكون جسما ، وكلّ جسم حادث ؛ لما بيّنّا من حدوث الأجسام ، ومركّبا أيضا ، فيلزم حدوث الواجب وتركّبه.

( و ) على نفي ( الحلول ) أيضا وهو الحصول على سبيل التبعيّة ؛ فإنّه ينفي الوجوب الذاتي.

وأيضا إن حلّ في شيء ، فمحلّه إن قبل الانقسام لزم انقسامه بحسب انقسام المحلّ وتركّبه ، وإن لم ينقسم ، كان الواجب أحقر الأشياء.

أقول : هذا لا ينافي كونه حالاّ في مجرّد. وذهب بعض المتصوّفة إلى أنّ اللّه يحلّ في العارفين ، والنصارى إلى حلوله في عيسى علیه السلام فإن أرادوا بالحلول هذا المعنى فباطل. وإن أرادوا غير ذلك فلا يمكن نفيه وإثباته إلاّ بعد تصوّر معناه.

ص: 298

( و ) يدلّ على نفي ( الاتّحاد ) أيضا ؛ لما ذكرنا من أنّ الاثنين لا يتّحدان.

أقول : في جعله من فروع وجوب الوجود نظر لا يخفى على المتأمّل.

وقال بعض المتصوّفة : إذا انتهى العارف نهاية مراتبه انتفت هويّته ، فصار الموجود هو اللّه وحده ، وهذه المرتبة هو الفناء في التوحيد ، فإن كان المراد بالاتّحاد ما ذكرنا فلا شكّ أنّه باطل. وإن كان المراد غيره ، فلا يمكن نفيه أو إثباته إلاّ بعد تصوّر ما هو المراد.

( و ) يدلّ على نفي ( الجهة ) ؛ لأنّ كلّ ما هو في جهة فهو جسم وجسمانيّ ، وكلّ منهما ممكن ، بل حادث ؛ لما بيّنّا من حدوث الأجسام.

( و ) يدلّ على نفي ( حلول الحوادث فيه ) أيضا اتّفق الجمهور على أنّ الواجب يمتنع أن يتّصف بالحادث أي الموجود بعد العدم خلافا للكراميّة (1).

أمّا اتّصافه بالسلوب والإضافات الحاصلة بعد ما لم يكن (2) - ككونه غير رازق لزيد الميّت ، رازقا لعمرو الموجود - وبالصفات الحقيقيّة المتغيّرة المتعلّقات - ككونه عالما بهذا الحادث ، قادرا عليه - فجائز.

واستدلّوا عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه لو جاز اتّصافه بالحادث لجاز النقصان عليه ، وهو باطل بالإجماع.

ووجه اللزوم : أنّ ذلك الحادث إن كان من صفات الكمال كان الخلوّ عنه مع جواز الاتّصاف به نقصا بالاتّفاق ، وقد خلا عنه قبل حدوثه ، وإن لم يكن من صفات الكمال امتنع اتّصاف الواجب ؛ للاتّفاق على أنّ كلّ ما يتّصف هو به يلزم أن يكون صفة كمال.

ص: 299


1- « إرشاد الطالبين » : 232 - 233 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 21 - 22 ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : 136.
2- أي بعد ما لم يكن الاتّصاف.

واعترض بأنّا لا نسلّم أنّ الخلوّ عن صفة الكمال نقص ، وإنّما يكون لو لم يكن حال الخلوّ متّصفا بكمال يكون زواله شرطا لحدوث هذا الكمال ، وذلك بأن يتّصف دائما بنوع كمال متعاقب أفراده بغير بداية ونهاية ، ويكون حصول كلّ لاحق مشروطا بزوال السابق على ما ذكره الحكماء في حركات الأفلاك ، فالخلوّ عن كلّ فرد يكون شرطا لحصول كمال ، بل الاستمرار كمالات غير متناهية ، فلا يكون نقصا.

وأجيب بأنّ ذات الواجب حينئذ لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ؛ إذ لو كان قديما لزم وجود الحادث في الأزل ، وأنّه محال.

أقول : الملازمة ممنوعة.

الثاني - وهو المعتمد عند الحكماء - : أنّ الاتّصاف بالحادث تغيّر ، وهو على اللّه تعالى محال.

واعترض عليه أنّه إن أريد بالتغيّر مجرّد الانتقال من حال إلى حال ، فالكبرى نفس المتنازع فيه.

وإن أريد تغيّر في الواجبيّة ، أو تأثّر وانفعال عن الغير ، فالصغرى ممنوعة ؛ لجواز أن يكون الحادث معلول الذات بطريق الاختيار ، أو بطريق الإيجاب بأن يقتضي صفة كماليّة متلاحقة الأفراد ، مشروطا ابتداء كلّ بانقضاء الآخر ، كحركات الأفلاك عندهم.

الثالث : أنّه لو اتّصف بالحادث لزم جواز أزليّة الحادث بوصف الحادث ، وهو باطل ؛ ضرورة أنّ الحادث ما له أوّل ، والأزليّ ما لا أوّل له.

ووجه اللزوم أنّه يجوز الاتّصاف بذلك الحادث في الأزل ؛ إذ لو امتنع لاستحال انقلابه إلى الجواز ، وجواز الاتّصاف بالشيء في الأزل يقتضي جواز وجود ذلك الشيء في الأزل ، فيلزم جواز وجود الحادث في الأزل.

وجوابه : أنّ اللازم من استحالة الانقلاب جواز الاتّصاف في الأزل على أن يكون الأزل قيدا للجواز ، وهو لا يستلزم إلاّ أزليّة جواز الحادث لا جواز الاتّصاف

ص: 300

في الأزل - على أن يكون الأزل قيدا للاتّصاف - ليلزم جواز أزليّة الحادث.

ولا خفاء في أنّ المحال جواز أزليّة الحادث بمعنى إمكان أن يوجد في الأزل لا أزليّة جوازه ، بمعنى أن يمكن في الأزل وجوده في الجملة.

وهذا كما يقال : إنّ قابليّة الإله لإيجاد العالم متحقّقة في الأزل ، بخلاف قابليّته تعالى لإيجاد العالم في الأزل أي يمكن في الأزل أن يوجده ، ولا يمكن أن يوجده في الأزل ، ومعنى الكلام أن يعتبر الحادث بشرط الحدوث ، وإلاّ فلا خفاء في إمكان وجوده في الأزل.

الرابع : أنّه لو جاز اتّصافه بالحادث لزم عدم خلوّه عن الحادث ، فيكون حادثا ؛ لما سبق من أنّ كلّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

أمّا الملازمة ، فلوجهين :

أحدهما : أنّ المتّصف بالحادث لا يخلو عنه وعن ضدّه ، وضدّ الحادث حادث ؛ لأنّه ينقطع عن الحادث ، ولا شيء من القديم كذلك ؛ لما تقرّر من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وثانيهما : أنّه (1) لا يخلو عنه وعن قابليّته وهي حادثة ؛ لما مرّ من أنّ أزليّة القابليّة تستلزم جواز أزليّة قابليّة المقبول ، فيلزم جواز أزليّة الحادث ، وهو محال.

وكلا الوجهين ضعيف :

أمّا الأوّل ، فلأنّه إن أريد بالضدّ ما هو المتعارف ، فلا نسلّم أنّ لكلّ صفة ضدّا ، وأنّ الموصوف لا يخلو عن الضدّين ، وإن أريد مجرّد ما ينافيه وجوديّا كان أو عدميّا حتّى أنّ عدم كلّ شيء ضدّ له ويستحيل الخلوّ عنهما ، فلا نسلّم أنّ ضدّ الحادث حادث ؛ فإنّ القدم والحدوث إن جعلا من صفات الموجود خاصّة ، فعدم الحادث قبل وجوده ليس بقديم ولا حادث ، وإن أطلقا على المعدوم أيضا باعتبار كونه غير مسبوق بالوجود ، أو مسبوقا به ، فهو قديم ، وامتناع زوال القديم إنّما هو في

ص: 301


1- أي المتّصف بالحادث.

الموجود ؛ لظهور زوال العدم الأزلي لكلّ حادث.

وأمّا الثاني ، فلأنّ القابلية اعتبار عقليّ معناه إمكان الاتّصاف ، ولو سلّم فأزليّتها إنّما تقتضي أزليّة جواز المقبول - أي إمكانه - لا جواز أزليّته ليلزم المحال ، وقد عرفت الفرق.

واحتجّ الخصم بوجوه :

الأوّل : الاتّفاق على أنّه تعالى متكلّم سميع بصير ، ولا يتصوّر هذه الأمور إلاّ بوجود المخاطب والمسموع والمبصر وهي حادثة ، فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى.

وأجيب بأنّ الحادث متعلّق تلك الصفات ، وأنّه إضافة يجوز تجدّدها.

الثاني : أنّ المصحّح للقيام به تعالى إمّا كونه صفة ، فيعمّ هذا المصحّح الحادث ، أو كونه صفة مع وصف القدم ، وهو كونه غير مسبوق بالعدم ، وأنّه [ سلب ] لا يصلح جزءا للمؤثّر في الصحّة ، فتعيّن الأوّل ، فيصحّ قيام الصفة الحادثة به.

والجواب منع الحصر ؛ لجواز أن يكون المصحّح حقيقة الصفة القديمة المخالفة لحقيقة الصفة الحادثة ، فلا يلزم اشتراك الصحّة.

ولو سلّم فيجوز أن يكون القدم شرطا أو الحدوث مانعا.

الثالث : أنّه تعالى صار خالقا للعالم بعد ما لم يكن وصار عالما ؛ لأنّه وجد بعد أن كان عالما بأنّه سيوجد ، فقد حدث فيه صفة الخالقيّة وصفة العلم.

وأجيب بأنّ التغيّر في الإضافات ؛ فإنّ العلم صفة حقيقيّة ، لها تعلّق بالمعلوم يتغيّر ذلك التعلّق بحسب تغيّره ، والخالقيّة من الصفات الإضافيّة ، أو من الحقيقيّة والمتغيّر تعلّقها بالمخلوق لا نفسها.

وقالت الكراميّة : أكثر العقلاء يوافقوننا في قيام الصفة الحادثة بذاته تعالى وإن أنكروه باللسان ؛ فإنّ الجبائيّة قالوا : إنّ الإرادة والكراهة حادثتان لا في محلّ ، لكنّ المريديّة والكارهيّة حادثتان في ذاته تعالى ، وكذا السامعيّة والمبصريّة تحدث

ص: 302

بحدوث المسموع والمبصر.

وأبو الحسين يثبت علوما متعدّدة. والأشعريّة يثبتون النسخ ، وهو إمّا رفع الحكم القائم بذاته تعالى ، أو انتهاؤه ، وهما عدم بعد الوجود ، فيكونان حادثين.

والفلاسفة قالوا بوجود الإضافات مع عروض المعيّة والقبليّة المتّحدتين لذاته تعالى.

وأجيب بأنّ التغيّر في الإضافات وهو جائز كما ذكرنا آنفا ، وتحرير محلّ النزاع أنّ الصفات على ثلاثة أقسام :

حقيقيّة محضة كالحياة ، وحقيقيّة ذات إضافة كالعلم والقدرة ، وإضافيّة محضة كالمعيّة والقبليّة ؛ وفي عدادها الصفات السلبيّة.

ولا يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغيّر في القسم الأوّل مطلقا. وأمّا القسم الثاني ، فإنّه لا يجوز التغيّر في نفسه ويجوز في تعلّقه.

أقول : الأدلّة المذكورة لو تمّت لدلّت على امتناع التغيّر في صفاته مطلقا أي من أيّ قسم كان ، وتخصيص الدعوى مع عموم الأدلّة خطأ.

( و ) يدلّ على نفي ( الحاجة ) أيضا يعني واجب الوجود لا يكون محتاجا في وجوده وفيما يتوقّف عليه وجوده إلى أمر غير ذاته ، وإلاّ لم يكن واجبا لذاته.

( و ) يدلّ على نفي ( الألم مطلقا ) يعني سواء كان مزاجيا أو عقليا ؛ فإنّ الواجب لا يتألّم أصلا ؛ لأنّ الألم إدراك المنافي من حيث هو مناف ، واللّه تعالى منزّه عن أن يكون شيء منافيا له ؛ إذ الشيء لا يكون منافيا لمبدئه.

( و ) يدلّ على نفي ( اللّذّة المزاجيّة ) لأنّها من توابع المزاج ، وظاهر أنّه مستحيل على واجب الوجود. وخصّ اللّذّة بالمزاجيّة ؛ لأنّ الحكماء يثبتون له (1) اللذّة العقليّة ؛

ص: 303


1- أي للمزاج.

فإنّهم يقولون : اللذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، فمن أدرك كمالا في ذاته التذّ به ، وذلك ضروريّ يشهد به الوجدان.

ثمّ إنّ كماله تعالى أجلّ الكمالات ، وإدراكه أقوى الإدراكات ، فوجب أن تكون لذّته أقوى اللذّات ، ولذلك قالوا : أجلّ مبتهج هو المبدأ الأوّل بذاته تعالى (1).

واعترض (2) عليه بأنّه إن أريد أنّ الحالة التي نسمّيها اللّذّة هي نفس إدراك الملائم ، فغير معلوم. وإن أريد أنّها حاصلة عند إدراك الملائم ، فربما يختصّ ذلك بإدراكنا دون إدراكه ؛ فإنّهما مختلفان قطعا.

( والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا ) يعني وجوب الوجود يدلّ على نفي المعاني ، خلافا للشيخ أبي الحسن الأشعريّ (3) ؛ فإنّه قال : إنّ لله تعالى معاني قائمة بذاته هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر ، وعلى نفي الأحوال خلافا لأبي هاشم ؛ فإنّه قال : إنّ لله تعالى أحوالا مثل العالميّة والقادريّة والمريديّة والحيّية وغيرها ، وعلى نفي الصفات الزائدة في الأعيان خلافا لطائفة من المعتزلة ؛ فإنّهم قالوا : إنّ لله تعالى صفات زائدة في الأعيان ، واختار المصنّف نفي هذه الأمور كلّها ؛ لأنّ وجوب الوجود دلّ (4) على نفيها ؛ لأنّ هذه الأمور إن كانت واجبة لذواتها لزم تعدّد الواجب ، وقد أبطلناه. وإن كانت ممكنة لذواتها فالموجب لها إن كان هو ذات الواجب لزم أن يكون الواجب قابلا وفاعلا وهو باطل. وإن كان غيره لزم افتقار الواجب إلى غيره.

واعترض عليه بأنّه لم يثبت امتناع كون الواحد قابلا وفاعلا.

( و ) كذا وجوب الوجود يدلّ على نفي ( الرؤية ).

ص: 304


1- قاله ابن سينا ، كما في « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » 3 : 359.
2- المعترض هو الفخر الرازيّ انظر المصدر السابق.
3- راجع ص 286 من هذا الجزء.
4- في المصدر : « دالّ ».

ذهب الأشاعرة إلى أنّه تعالى يجوز أن يرى ، وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّها عن المقابلة والجهة والمكان. وخالفهم في ذلك جميع الفرق ؛ فإنّ المشبّهة والكراميّة إنّما يقولون برؤيته في الجهة والمكان ؛ لكونه عندهم جسما ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ولا نزاع للنافين في جواز الانكشاف التامّ العلميّ ، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة من المرئيّ في العين ، أو اتّصال الشعاع الخارج من العين بالمرئيّ ، وإنّما محلّ النزاع أنّا إذا عرفنا الشمس - مثلا - بحدّ أو رسم ، كان نوعا من المعرفة ، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين ، كان نوعا آخر فوق الأوّل ، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسمّيها الرؤية ولا يتعلّق في الدنيا إلاّ بما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الإدراكيّة هل يصحّ أن يقع بدون المقابلة والجهة وأن يتعلّق بذات اللّه تعالى منزّها عن الجهة والمكان ، أولا؟

ولهم على الإمكان من المنقول قوله تعالى حكاية عن موسى : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (1).

والاحتجاج من وجهين :

أحدهما : أنّ موسى علیه السلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيّا ، لما سأل ؛ لأنّه حينئذ إمّا أن يعلم امتناعه ، أو يجهله ، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال ؛ لأنّه عبث ، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على اللّه تعالى ويمتنع لا يكون نبيّا كليما ، وقد وصفه اللّه تعالى بذلك في كتابه ، بل ينبغي أن لا يصلح للنبوّة ؛ إذ المقصود من البعث هو الدعوة إلى العقائد الحقّة والأعمال الصالحة.

وثانيهما : أنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ؛ لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير.

ص: 305


1- الأعراف (7) : 143.

واعترض على الأوّل بوجوه :

الأوّل : أنّ موسى علیه السلام لم يسأل الرؤية ، بل تجوّز بها عن العلم الضروريّ ؛ لأنّه لازمها ، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيّما استعمال رأى بمعنى علم وأرى بمعنى أعلم ، فكأنّه قال : اجعلني عالما بك علما ضروريّا.

وأجيب بأنّ الرؤية وإن استعملت بمعنى العلم لكن هاهنا يمتنع حملها عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه لو كانت بمعنى العلم لكان النظر المترتّب عليها بمعناه أيضا ، لكنّ النظر الموصول بإلى نصّ في الرؤية.

الثاني : أنّه يلزم أن لا يكون موسى علیه السلام عالما بربّه ضرورة مع أنّه يخاطبه ، وذلك لا يعقل ؛ لأنّ المخاطب في حكم الحاضر المشاهد.

الثالث : أنّه لا يكون الجواب حينئذ مطابقا للسؤال ؛ لأنّ قوله : ( لَنْ تَرانِي ) نفي لرؤيته تعالى ، لا للعلم الضروريّ بإجماع المعتزلة.

الثاني : أنّ الكلام على حذف المضاف ، والمعنى أرني آية من آياتك أنظر إلى آيتك.

أجيب من ذلك بأنّه لا يستقيم أمّا أوّلا ، فلأنّ الجواب حينئذ لا يطابق السؤال ؛ لأنّ قوله : ( لَنْ تَرانِي ) على ما ذكرنا من الإجماع نفي لرؤيته تعالى ، لا لرؤية آية من آياته.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ اندكاك الجبل أعظم آية من آياته تعالى ، فكيف يستقيم نفي رؤية الآية؟!.

وأمّا ثالثا ، فلأنّ الآية إنما هي عند اندكاك الجبل لا استقراره ، فكيف يصحّ تعلّق رؤيتها بالاستقرار؟!

الثالث : أنّ موسى علیه السلام إنّما سأل الرؤية بسبب قومه لا لنفسه ؛ لأنّه كان عالما بامتناعها ، لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا : أرنا اللّه جهرة ، فسأل ليمنع ، فيعلم قومه امتناعها.

ص: 306

وأجيب بأنّه - مع مخالفته الظاهر ، حيث لم يقل : أرهم ينظروا إليك - فاسد من وجوه :

أمّا أوّلا ، فلأنّهم لمّا سألوا وقالوا : أرنا اللّه جهرة ، زجرهم اللّه تعالى وردعهم بأخذ الصاعقة ، فلم يحتج موسى في زجرهم إلى سؤال الرؤية ، وليس في أخذ الصاعقة دلالة على امتناع المسئول ؛ لجواز أن يكون ذلك بقصدهم إعجاز موسى علیه السلام عن الإتيان بما طلبوه تعنّتا ، لا لامتناع ما طلبوه.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ تجويز الرؤية باطل ، بل كفر عند أكثر المعتزلة ، فلا يجوز لموسى علیه السلام تأخير الردّ وتقرير الباطل ، ألا ترى أنّهم لمّا قالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، ردّ عليهم من ساعته بقوله : ( إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (1).

وأمّا ثالثا ، فلأنّهم إن كانوا مؤمنين بموسى علیه السلام مصدّقين بكلامه ، كفاهم إخباره بامتناع الرؤية من غير طلب للمحال ، ومشاهدة لما جرت من الأحوال والأهوال ، وإلاّ لم يفسد الطلب (2) والجواب (3) ؛ لأنّهم وإن سمعوا الجواب فهو علیه السلام المخبر بأنّه كلام اللّه تعالى.

وردّ هذا بأنّهم كانوا مؤمنين لكن لمّا لم يعلموا مسألة الرؤية ، وظنّوا جوازها عند سماع الكلام ، فاختار موسى علیه السلام في الردّ عليهم طريق السؤال والجواب من اللّه ليكون أوثق عندهم ، وأهدى إلى الحقّ ؛ وأضاف موسى علیه السلام الرؤية إلى نفسه دونهم ؛ لئلاّ يبقى لهم عذر ، ولا يقولوا : لو سأله لنفسه لرآه ؛ لعلوّ قدره عند اللّه.

الرابع : أنّه سأل الرؤية مع علمه بامتناعها ؛ لزيادة الطمأنينة بتعاضد دليل العقل والسمع ، كما في طلب إبراهيم أن يريه كيفيّة إحياء الأموات.

ص: 307


1- الأعراف (7) : 138.
2- أي قوله : « أرني ».
3- أي قوله : « لن تراني ».

الخامس : أنّ معرفة اللّه لا تتوقّف على العلم بمسألة الرؤية ، فيجوز أن يكون (1) - لاشتغاله بسائر العلوم والوظائف الشرعيّة - لم تخطر بباله هذه المسألة حتّى سألوها منه ، فطلب العلم ، أو خطرت بباله وكان ناظرا فيها وكان طالبا للحقّ ، فاجترأ على السؤال ليتبيّن له جليّة الحال.

وأجيب بأنّ التزام جهل النبيّ المصطفى بالتكلّم [ ذاهل (2) ] في معرفة اللّه - سبحانه وتعالى - وما يجوز عليه ويمتنع ، دون آحاد المعتزلة ومن حصّل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء والطريقة العوجاء التي لا يسلكها أحد من العقلاء.

وعلى الوجه الثاني (3) أيضا بأنّه لم يعلّق الرؤية على استقرار الجبل مطلقا ، أو حالة السكون ليكون ممكنا ، بل عقيب النظر ؛ بدلالة الفاء وهو حالة التزلزل والاندكاك ، ولا نسلّم إمكان الاستقرار حينئذ.

وأجيب بأنّها علّقت على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال السكون أو الحركة ، وإلاّ لزم الإضمار في الكلام.

فإن قيل : استقرار الجبل واقع في الدنيا ، فيلزم وقوع الرؤية فيها.

قلنا : المراد استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال حركة أو سكون ، لكن في المستقبل وعقيب النظر ؛ بدليل الفاء « وإن » فلا يرد السكون السابق واللاحق.

فإن قيل : وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط.

قلنا : ذلك في الشرط بمعنى ما يتوقّف عليه الشيء ، ولا يكون داخلا. وأمّا الشرط التعليقيّ فمعناه ما يتمّ به علّيّة العلّة ، وآخر ما يتوقّف عليه الشيء وما جعل بمنزلة الملزوم لما علّق عليه.

وأيضا الاستقرار حال الحركة ممكن بأن يحصل بدل الحركة السكون ، ومن

ص: 308


1- الضمير المستتر راجع إلى موسى علیه السلام .
2- الكلمة غير موجودة في المصدر.
3- أي واعترض على الوجه الثاني من وجوه الاحتجاج.

المعقول أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرهما من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، وذلك ظاهر ، ونرى الجواهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ؛ ولهذا نميّز الطويل عن العريض ، ونميّز الطويل عن الأطول ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ؛ لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة ، فالطول إن قام بجزء واحد منها ، فذلك الجزء يكون أكبر حجما من الجزء الآخر ، فتقبل القسمة ، هذا خلف. وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض بمحلّين وهو محال ، فرؤية الطول هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم ، فيثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة ، لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود وانتفائها عند العدم ؛ فإنّ الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئيّة بالضرورة والاتّفاق ، ولو تحقّق أمر مصحّح حال الوجود غير متحقّق حال العدم لكان اختصاص الصحّة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة الصحّة - على تقدير استغنائها عن العلّة - إلى طرفي الوجود والعدم على السواء وهذه العلّة المصحّحة للرؤية لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ؛ لكون معلولها مشتركا بينهما ، وإلاّ لزم تعليل الأمر الواحد - وهو صحّة كون الشيء مرئيّا - بالعلل المختلفة وهي الأمور المختصّة إمّا بالجوهر ، وإمّا بالعرض ، وهو غير جائز ؛ لما مرّ في مبحث العلل.

وهذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ؛ إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ؛ فإنّ الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامّة يتوهّم كونها مصحّحة سوى هذين ، لكنّ الحدوث لا يصلح أن يكون علّة للصحّة ؛ لأنّه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق ، والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلّة ؛ لأنّ التأثير صفة إثبات ، فلا يتّصف به العدم ولا ما هو مركّب منه.

فإذن العلّة المشتركة هي الوجود ليس إلاّ ، وأنّه مشترك بينهما وبين الواجب ؛ لما تقدّم من اشتراك الوجود بين الموجودات كلّها ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في

ص: 309

الواجب ، فيجوز أن يرى ذاته تعالى ، وهو المطلوب.

أقول : شمول الرؤية للجواهر ممنوع ، وما ذكرنا من دليله - مع ابتنائه على إثبات الجوهر الفرد - مبنيّ على امتناع قيام عرض واحد بمحلّين وهو مسلّم بمعنى أن يقوم عرض بتمامه بمحلّ ، ثمّ يقوم ذلك العرض بتمامه بمحلّ آخر لا بمعنى أن يقوم عرض واحد بمجموع محلّين من حيث المجموع ، فإنّه ليس بممتنع ، واللازم هو القيام بالمعنى الثاني دون الأوّل.

وبعد تسليمه فقد اعترض عليه بوجوه يندفع (1) بما دلّ عليه كلام إمام الحرمين (2) من أنّ المراد بالعلّة هاهنا ما يصلح لتعلّق الرؤية ، لا المؤثّر في الصحّة على ما فهمه الأكثرون.

فالاعتراض الأوّل : أنّ الصحّة معناها الإمكان وهو أمر اعتباريّ لا يفتقر إلى علّة موجودة ، بل يكفيه الحدوث الذي هو أيضا اعتباريّ.

ووجه اندفاعه : أنّ ما لا تحقّق له في الأعيان لا يصلح متعلّقا للرؤية بالظاهر.

الثاني : أنّه لا حصر للمشترك بينهما في الحدوث والوجود ؛ فإنّ الإمكان أيضا مشترك ، فلم لا يجوز أن يكون هو العلّة؟

ووجه اندفاعه : أنّ الإمكان أمر اعتباريّ لا تحقّق له في الخارج ، فلا يكفي تعلّق الرؤية به.

وأيضا علّة الصحّة يجب أن تكون مختصّة بحال الوجود ، والإمكان ليس كذلك ؛ فإنّ المعدوم متّصف بالإمكان ، فيلزم أن يصحّح رؤيته وهو باطل بالضرورة.

الثالث : أنّ صحّة رؤية الجوهر لا تماثل صحّة رؤية العرض [ أو ذات أحدهما ليس هو الآخر (3) ] فلم لا يجوز أن يعلّل كلّ منهما بعلّة على الانفراد؟

ص: 310


1- الضمير يرجع إلى الاعتراض لا الوجوه ، أي يندفع الاعتراض.
2- « شرح المقاصد » 4 : 189.
3- في المصدر : « إذ لا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر ».

ولو سلّم تماثلهما فالواحد النوعيّ قد يعلّل بعلّتين مختلفتين كالحرارة بالشمس والنار ، فلا يلزم أن يكون للمعلول المشترك علّة مشتركة. وما ذكرنا - من أنّ الأمر الواحد لا يعلّل بالعلل المختلفة - إنّما هو في الواحد بالشخص (1).

ووجه اندفاعه : أنّ متعلّق الرؤية لا يجوز أن يكون هو من خصوصيات الجوهريّة والعرضيّة ، بل يجب أن يكون ممّا يشتركان فيه ؛ للقطع بأنّا قد نرى وندرك له هويّة ما من غير أن ندرك كونه جوهرا أو عرضا فضلا عن أن ندرك ما هو زيادة خصوصيّة لأحدهما ، ككونه إنسانا أو فرسا ، سوادا أو خضرة ، بل ربما نرى زيدا بأن يتعلّق رؤية واحدة بهويّته من غير تفصيل لما فيه من الجواهر والأعراض ، ثمّ قد نفصّله إلى ما له من تفاصيل الجواهر والأعراض ، وقد نغفل عن التفاصيل بحيث لا نعلمها عند ما سئلنا عنها وإن استقصينا في التأمّل ، فعلم أنّ ما يتعلّق به الرؤية هو الهويّة المشتركة لا الخصوصيّات التي بها الافتراق. وهذا معنى كون علّة صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض.

قيل : إنّ الهويّة المطلقة المشتركة بين خصوصيّات الهويّات أمر اعتباريّ كمفهوم الماهيّة والحقيقة ، فلا يتعلّق بها الرؤية أيضا ، وأنّ المدرك من زيد في تلك الصورة هو خصوصيّة ذاته الموجودة إلاّ أنّ إدراكها إجماليّ لا يتمكّن به على تفاصيلها ؛ فإنّ مراتب الإجمال متفاوتة قوّة وضعفا ، فليس يجب أن يكون كلّ إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلّق به من الأحوال.

الرابع : أنّه بعد ثبوت كون الوجود هو العلّة وكونه مشتركا بين الجوهر والعرض وبين الواجب ، لا يلزم من صحّة رؤيتهما صحّة رؤيته ؛ لجواز أن يكون خصوصيّة الجوهريّة أو العرضيّة شرطا لها ، أو خصوصيّة الواجبيّة مانعة عنها.

ووجه اندفاعه : أنّ صحّة الرؤية عند تحقّق ما يصلح متعلّقا لها ضروريّة ،

ص: 311


1- في المصدر : « الواحد الشخصيّ ».

بل لا معنى لصحّة الرؤية إلاّ ذلك ، ثمّ الشرطيّة أو المانعيّة إنّما تتصوّر لتحقّق الرؤية لا لصحّتها.

واعترض أيضا بوجوه أخر :

منها : لا نسلّم اشتراك الوجود بين الواجب وغيره ، كيف؟ وقد جزمتم معاشر الأشاعرة بأنّ وجود كلّ شيء عين حقيقته.

وأجاب الآمدي بأنّ المتمسّك بهذا الدليل إن كان ممّن يعتقد كون الوجود مشتركا كالقاضي وجمهور الأشاعرة (1) ، لم يرد عليه ما ذكرتموه. وإن كان ممّن لا يعتقد كالشيخ (2) ، فهو بطريق الإلزام ، ولا يجب كون الملزم معتقدا لما تمسّك به (3).

وقال بعض المحقّقين (4) : مفهوم الوجود مشترك بين الموجودات كلّها عند الشيخ أيضا ، والاتّحاد الذي ادّعاه أراد به أنّ الوجود ومعروضه ليس لهما هويّتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم ، ولا منافاة بين كون الوجود عين الماهيّة بالمعنى الذي صوّرناه ، وبين اشتراكه بين الموجودات كلّها ، والأكثرون توهّموا أنّ ما نقل عنه من أنّ الوجود عين الماهيّة ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات ؛ إذ يلزم منهما معا كون الأشياء كلّها متّفقة الحقيقة ، وهو ممّا لا يقول به عاقل.

ومنها : أنّه يلزم على ما ذكرتم صحّة رؤية كلّ موجود حتّى الأصوات والطعوم والروائح والاعتقادات والقدرة والإرادة وغير ذلك من الموجودات ، وبطلانه ضروري والشيخ الأشعريّ يلتزمه ، ويقول : إنّما لا يتعلّق به الرؤية بناء على جري عادة اللّه بأن لا يخلق فينا رؤيتها لا بناء على امتناع ذلك ، لكن يلزم فساد آخر وهو

ص: 312


1- لمزيد المعرفة حول الأقوال في اشتراك الوجود راجع « المحصّل » : 147 ؛ « مناهج اليقين » : 9 - 10 ؛ « شرح المواقف » 2 : 112 - 127 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 307 وما بعدها.
2- لمزيد المعرفة حول الأقوال في اشتراك الوجود راجع « المحصّل » : 147 ؛ « مناهج اليقين » : 9 - 10 ؛ « شرح المواقف » 2 : 112 - 127 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 307 وما بعدها.
3- « شرح المواقف » 8 : 127.
4- هو السيد الشريف في « شرح المواقف » 8 : 126 - 127.

أن يكون المرئيّ من كلّ موجود مفهوم الوجود المطلق المشترك بين الموجودات بأسرها.

وقال الإمام الرازيّ في نهاية العقول : من أصحابنا من التزم ذلك وقال : إنّ المرئيّ هو الوجود فقط ، وإنّا نبصر اختلاف المختلفات ، بل نعلمها بالضرورة. وهذه مكابرة لا يرضاها العقل ، بل الوجود علّة لصحّة كون الحقيقة المخصوصة مرئيّة (1).

ومنها : نقض الدليل بصحّة المخلوقيّة بأنّها مشتركة بين الجوهر والعرض ، ولا مشترك بينهما يصلح علّة لذلك سوى الوجود ، فيلزم صحّة مخلوقيّة الواجب ، تعالى اللّه عن ذلك.

وأجيب بأنّها أمر اعتباريّ محض لا يقتضي علّة ؛ إذ ليست ممّا يتحقّق عند الوجود وينتفي عند العدم كصحّة الرؤية.

سلّمنا ، لكنّ الحدوث يصلح هاهنا علّة ؛ لأنّ المانع من ذلك في صحّة الرؤية إنّا هو امتناع تعلّق الرؤية بما لا تحقّق له في الخارج. وأمّا النقض بصحّة الملموسيّة فقويّ.

أقول : إنّ تعلّق الرؤية بشيء بمعنى كونه مرئيّا يقتضي كونه من الأمور العينيّة لا من الاعتبارات المحضة ، كذلك تعلّق الخلق بشيء بمعنى كونه مخلوقا يقتضي كونه مخلوقا يقتضي كونه ممّا له تحقّق في الأعيان ؛ فإنّ الأمور الاعتباريّة المحضة لا تكون مخلوقة.

والعجب من هذا المجيب أنّه سلّم ورود النقض بصحّة الملموسيّة ، ولا وجه له غير أن يقال : تعلّق اللمس بشيء بمعنى كونه ملموسا يقتضي كونه من الموجودات الخارجيّة ، وإلاّ فصحّة الملموسيّة عبارة عن إمكان كونه ملموسا ، والإمكان من الاعتبارات العقليّة التي لا تقتضي علّة ؛ إذ ليس ممّا يتحقّق عند الوجود ، وينتفي عند

ص: 313


1- حكاه عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » 4 : 191.

العدم كصحّة الرؤية.

ولا تفاوت فيما ذكرنا بين صحّة الملموسيّة وصحّة المخلوقيّة ؛ إذ كلّ ما يقال في هذه يقال في تلك ، وبالعكس ، فمن أين سلّم ورود النقض بإحداهما وأجاب عن الأخرى؟

وعلى (1) الوقوع الإجماع والنصّ.

أمّا الإجماع ، فباتّفاق الأمّة قبل ظهور المخالفين على وقوع الرؤية وكون الآيات والأحاديث الواردة فيها على ظواهرها حتّى روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبائر الصحابة رضي اللّه عنهم.

وأمّا النصّ ، فمن الكتاب قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (2) وبيان ذلك أنّ « النظر » في اللغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة ، وجاء بمعنى التفكّر ويستعمل بفي ، وجاء بمعنى الرأفة ويستعمل باللام ، وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل بإلى ، والنظر في الآية موصول ب « إلى » فوجب حمله على الرؤية.

واعترض عليه بوجوه :

الأوّل : أنّا لا نسلّم أنّ لفظة إلى صلة للنظر ، بل هو واحد الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الانتظار ، فمعنى الآية نعمة ربّها منتظرة.

ولو سلّم ، فالنظر الموصول ب « إلى » قد جاء للانتظار ، قال الشاعر :

وشعث ينظرون إلى بلال (3) *** كما نظر الظماء (4) حباء الغمام

ومن المعلوم أنّ العطاش ينتظرون مطر الغمام ، فوجب حمل النظر المشبّه على الانتظار ليصحّ التشبيه.

ص: 314


1- عطف على قوله : « ولهم على الإمكان » في ص 305.
2- القيامة (75) : 22.
3- في المصدر : « هلال ».
4- في المصدر : « ماء الغمام ».

وقال :

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمن يأتي بالفلاح

أي منتظرات لإتيانه بالنصرة والفلاح.

وقال :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله *** نظر الحجيج إلى طلوع هلال

أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجيج الهلال.

وأجيب عنها بأنّ انتظار النعمة غمّ ؛ ولذا قيل : الانتظار موت أحمر ، فلا يصحّ الإخبار به بشارة مع أنّ سوق الآية بشارة المؤمنين وبيان أنّهم يومئذ في غاية الفرح والسرور.

على أنّ كون إلى اسما بمعنى النعمة لو ثبت في اللغة ، فلا خفاء في بعده وغرابته وإخلاله بالفهم عند تعلّق النظر به ، ولهذا لم يحمل الآية عليه أحد من أئمّة التفسير في القرن الأوّل والثاني ، بل أجمعوا على خلافه.

وكون النظر الموصول بإلى سيّما المستند إلى الوجه بمعنى الانتظار ممّا لم يثبت عند الثقات ولم يدلّ عليه الأبيات ؛ لاحتمال أن يكون المعنى في الأوّل يرون بلالا (1) كما يرى الظمآن ماء وجده (2) بعد الاشتياق. ولا يمتنع حمل النظر الوارد بلا صلة على الرؤية بطريق الحذف والإيصال ، إنّما الممتنع حمل الموصول بإلى على غيرها.

وفي الثاني أي ناظرات إلى جهة اللّه تعالى وهي العلوّ في العرف ، ولذلك يرفع إليه الأيدي في الدعاء ، أو ناظرات إلى آثاره من الضرب والطعن الصادرين من الملائكة التي أرسلها اللّه تعالى لنصرة المؤمنين يوم بدر.

وذكر بعض الرواة أنّ الرواية هكذا :

ص: 315


1- في المصدر : « هلالا ».
2- في المصدر : « كما يرون الظماء ماء وجدوه ».

وجوه ناظرات يوم بكر.

وأنّ قائله شاعر من أتباع مسيلمة الكذّاب. والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة ؛ لأنّهم بطن من بكر بن وائل. وأراد بالرحمن مسيلمة ، وعلى هذا فالجواب ظاهر.

وفي الثالث أي يرون سجاله ، ويجوز كون النظر المجرّد من الصلة للرؤية كما مرّ آنفا.

الثاني : النظر الموصول ب- « إلى » موضوع لتقليب الحدقة ، لا للرؤية ؛ لاتّصافه بما لا يتّصف به الرؤية مثل الشدّة ، والشزر ، والازورار ، والرضى ، والتجبّر ، والذلّ ، والخشوع ، وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية ، بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة نحو المرئيّ ، ولتحقّقه مع انتفاء الرؤية يقال : نظرت إلى الهلال فما رأيته. ولو كان بمعنى الرؤية ، لكان تناقضا ، و: لم أزل أنظر إلى الهلال حتّى رأيته. ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه ، و: أنظر كيف ينظر فلان إليّ. والناظر لا ينظر إلى الرؤية ، بل ينظر إلى تقليب الحدقة.

وقال اللّه تعالى : ( تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (1) وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية ، ولا ملزومها لزوما عقليّا حتّى يجب من تحقّقه تحقّقها ، بل لزوما عاديّا مصحّحا للتجوّز ، وجعله مجازا عن الرؤية ليس بأولى من حمله على حذف المضاف ، أي ناظرة إلى ثواب ربّها على ما ذكره عليّ علیه السلام (2) وكثير من المفسّرين (3).

وأجيب بأنّ النظر مع إلى نصّ في الرؤية ، بشهادة النقل عن أئمّة اللغة ، والتتبّع لموارد استعماله ، وليس حقيقة في تقليب الحدقة.

قولكم : يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره. قلنا : لا يصحّ نقله من العرب ، بل يقال :

ص: 316


1- الأعراف (8) : 198.
2- « تفسير الطبريّ » 12 : 343 - 344 ؛ التفسير الكبير 10 : 731 - 732 ؛ « مجمع البيان » 10 : 198 - 201 ؛ « الصافي » 5 : 256 ، ذيل الآية 23 من سورة القيامة (75) ؛ « شرح المقاصد » 4 : 194 ؛ المغني » 4 : 229 - 230.
3- « تفسير الطبريّ » 12 : 343 - 344 ؛ التفسير الكبير 10 : 731 - 732 ؛ « مجمع البيان » 10 : 198 - 201 ؛ « الصافي » 5 : 256 ، ذيل الآية 23 من سورة القيامة (75) ؛ « شرح المقاصد » 4 : 194 ؛ المغني » 4 : 229 - 230.

نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال. وكذا لم أزل أنظر إلى مطلع الهلال حتّى رأيت الهلال. ولو سلّم فمحمول على حذف المضاف.

والبواقي من الأمثلة كلّها مجازات ؛ حيث أطلق النظر على تقليب الحدقة إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.

وعلى تقدير كون النظر مجازا عن الرؤية يجب الحمل عليه ؛ لأنّ الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة كنعمه وجهته وآثاره ، ولا قرينة - هاهنا - لتعيين المراد ، فالتعيين تحكّم لا يجوز لغة ، فوجب المصير إلى المجاز المتعيّن.

ومنه قوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (1) حقّر شأن الكفّار ، وخصّهم بكونهم محجوبين عن ربّهم ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية. والحمل على كونهم محجوبين عن رضوانه تعالى وكرامته خلاف الظاهر.

ومنه قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (2) فسّر جمهور أئمّة التفسير « الحسنى » بالجنّة ، و « الزيادة » بالرؤية على ما ورد في الخبر (3) ، كما سيجيء ، وهو لا ينافي ما ذكره بعض من أنّ الحسنى هي الجزاء المستحقّ ، والزيادة هي التفضيل (4).

فإن قيل : الرؤية أجلّ الكرامة وأعظمها ، فكيف يعبّر عنها بالزيادة؟!

قلنا : للتنبيه على أنّها أجلّ من أن تعدّ في الحسنات وفي أجزية الأعمال الصالحات.

والنصّ من السنّة قوله علیه السلام : « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر

ص: 317


1- المطفّفين (83) : 15.
2- يونس (10) : 26.
3- « تفسير الطبريّ » 6 : 549 - 553 ؛ « التفسير الكبير » 6 : 240 - 241 ؛ « الدرّ المنثور » 4 : 356 - 360 ؛ « مجمع البيان » 5 : 179 ؛ « تفسير القرآن العظيم » لابن كثير 2 : 429 - 430 ؛ « الصافي » 2 : 400 ، ذيل الآية 26 من سورة يونس (10).
4- في المصدر : « الفضل ».

لا تضامّون (1) في رؤيته ». (2).

ومنها : ما روي عن صهيب أنّه قال : قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الآية ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) وقال : « إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنّة! إنّ لكم عند اللّه موعودا يشتهي أن ينجزكموه » قالوا : ما هذا الموعود؟ ألم يثقّل موازيننا ، ويبيّض وجوهنا ، ويدخلنا الجنّة ، ويجرنا من النار؟ فيرفع الحجاب ، فينظرون إلى وجه اللّه عزّ وجلّ ، قال : « فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم » (3).

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينظر إلى جنّاته وأزواجه ونعمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنّة ، وأكرمهم إلى اللّه من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة ». ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (4). (5)

وقد صحّح هذه الأحاديث من يوثق به من أئمّة الحديث إلاّ أنّها آحاد.

والمنكرون احتجّوا بوجوه عقليّة وسمعيّة بعضها يمنع صحّة الرؤية ، وبعضها وقوعها.

فالعقليّة :

منها : أنّ الرؤية إمّا باتّصال شعاع العين بالمرئيّ ، أو انطباع شبح في المرئيّ في

ص: 318


1- من الضمم بمعنى الازدحام ، ويجوز أن يكون من الضيم بمعنى الظلم والفعل هنا مجهول.
2- « صحيح مسلم » 1 : 439 باب فضل صلاتي الصبح والعصر ... ح 211 ؛ « كنز العمّال » 14 : 2. ح 39206 ؛ « صحيح البخاريّ » 1 : 209 باب فضل صلاة الفجر ... ح 547 ؛ « سنن أبي داود » 5 : 97 باب في الرؤية من كتاب السنّة ، ح 4729 ؛ « مسند أحمد بن حنبل » 7 : 2. ح 19211.
3- « صحيح مسلم » 1 : 163 باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربّهم سبحانه وتعالى ، ح 297 ؛ « سنن ابن ماجة » 1 : 67 باب ما أنكر الجهميّة ... ح 187 ؛ « مسند أحمد بن حنبل » 6 : 3. ح 18957 ؛ « سنن الترمذيّ » 4 : 92 باب ما جاء في رؤية الربّ تبارك وتعالى ... ح 2676 ؛ « كنز العمّال » 14 : 3. ح 39205.
4- القيامة (75) : 22.
5- « مسند أحمد بن حنبل » 2 : 240 - 241 ، ح 5317 ؛ « سنن الترمذي » 4 : 93 باب ما جاء في رؤية الربّ ... ح 2677.

حدقة الرائي على اختلاف المذهبين ، وكلاهما في حقّ اللّه تعالى ظاهر الامتناع ؛ لتجرّده واختصاصهما بالجسمانيّات ، فتمتنع رؤيته.

وأجيب بمنع الحصر خصوصا في الغائب.

ومنها : أنّ شرط الرؤية - كما علم بالضرورة من التجربة - المقابلة أو ما في حكمها ، وهي مستحيلة في البارئ تعالى ؛ لتنزّهه عن المكان والجهة.

وأجيب بمنع الاشتراط سيّما في الغائب ؛ فإنّ الأشاعرة جوّزوا رؤية ما لا يكون مقابلا ولا في حكمه ، بل جوّزوا رؤية أعمى الصين بقّة أندلس.

ومنها : أنّه لو جازت لدامت لكلّ سليم الحاسّة في الدنيا والآخرة ، فيلزم أن نراه الآن وفي الجنّة على الدوام ، والأوّل منتف بالضرورة ، والثاني بالإجماع وبالنصوص القاطعة الدالّة على اشتغالهم بغير ذلك من اللذّات.

وجه اللزوم : أنّ للرؤية شرائط - عددناها فيما سلف - يجب الرؤية معها ، وتمتنع بدونها ، ولا يعقل من تلك الشرائط في حقّ رؤية اللّه تعالى إلاّ اثنان : سلامة الحاسّة ، وكون الشيء جائز الرؤية ؛ لاختصاص ما سواهما بالجسمانيّات ، فإن كفيا في رؤيته تعالى ولم تشترط بشرط آخر غيرهما ، لزم أن نراه الآن ؛ إذ لو جاز عدم الرؤية مع تحقّق شرائطها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها ، وتجويز ذلك سفسطة.

وإن لم يكفيا في ذلك ، لزم أن لا نراه الآن ، ولا نراه في الآخرة أيضا ؛ لأنّ الشرائط التي من قبلنا سوى سلامة الحاسّة فقد ذكرنا أنّها لا تعقل بالنسبة إليه تعالى ، وقد فرضنا أنّ سلامة الحاسّة متحقّقة ، والتي من قبله تعالى لا يتصوّر فيها التغيير والتبديل ؛ لأنّ كلّ حكم ثابت له تعالى فإمّا لذاته أو لصفة لازمة لذاته ؛ لامتناع اتّصافه بالحوادث ، فلو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلّها.

وأجيب بأنّ قولكم : تجويز ذلك سفسطة. إن أردتم بالتجويز حكم العقل بأنّه من الأمور الممكنة التي لا يلزم من فرض وقوعها محال ، فهو ليس بسفسطة ، بل هو

ص: 319

صحيح مطابق للواقع.

وإن أردتم به تردّد العقل فيه وعدم جزمه بانتفائها ، فاللزوم ممنوع ؛ فإنّ انتفاءها من العاديّات القطعيّة الضروريّة ، كعدم صيرورة أواني البيت أناسا فضلاء عالمين بأشكل العلوم كالمجسطي والمخروطات ونحو ذلك ممّا يخلق اللّه تعالى ؛ للعلم الضروريّ بانتفائها وإن كان ثبوتها من الممكنات دون المحالات ، وليس الجزم به - أي بعدم الجبل المذكور - مبنيّا على العلم بأنّه تجب الرؤية عند وجود شرائطها ؛ لأنّ هذا الجزم حاصل لمن لا تخطر بباله هذه المسألة ، بل لمن يجحدها ويعتقد خلافها ، ولأنّه ينجرّ إلى أن يكون ذلك الجزم نظريّا مع اتّفاق الكلّ على كونه ضروريّا ، بل نقول : قد تتحقّق شرائط رؤية شيء بأجمعها ولا نرى ذلك الشيء ؛ لأنّا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا ، وما ذلك إلاّ لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماعها.

لا يقال : أبعاد تلك الأجزاء عند البصر مختلفة ، فلا نرى ما هو أبعد.

لأنّا نقول : هذا التفاوت لا يزيد على مقدار قطر المرئيّ [ أبعد (1) ] الامتدادات الواقعة فيه ، فلو كان عدم رؤية بعض الأجزاء لأجل البعد ، وفرضنا أنّ هذا المرئيّ زاد بعده عن البصر بقدر قطره ، وجب أن لا يرى أصلا ، لكنّه يرى فلا أثر للبعد المذكور في عدم الرؤية.

قال المصنّف : لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا ، وإنّما يلزم ذلك أن لو كان صغر المرئيّ وكبره بحسب رؤية الأجزاء وعدمها ، وليس كذلك ، بل صغر المرئيّ وكبره بحسب صغر الزاوية الجليديّة وكبرها على ما تبيّن في علم المناظر (2).

وقال صاحب المواقف : ضعفه ظاهر ، بناء على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ؛

ص: 320


1- في هامش « ب » : « أطول » بدل « أبعد ».
2- نقله صاحب المواقف عن بعض الفضلاء ، وفسرّه الشارح بصاحب اللباب. انظر « شرح المواقف » 8 :2. 137.

إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلّها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا ، وذلك لأنّ رؤية كلّ منها أو بعضها أصغر ممّا هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزّأ ؛ لثبوت ما هو أصغر منه ، ورؤية كلّ من الأجزاء أكبر ممّا هو عليه بمثله أو أزيد منه توجب أن لا ترى (1) إلاّ ضعفا أو أكبر من ذلك وهو باطل قطعا ، ورؤيته أكبر بأقلّ من مثل توجب الانقسام ، ورؤية بعضها على ما هو عليه ، وبعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجّح ، فوجب أن يرى الكلّ على حالها ، فلا تفاوت حينئذ في الصغر والكبر ، فتعيّن أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض (2).

والنقليّة : منها : قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) (3)

والتمسّك به من وجهين :

الأوّل : أنّ إدراك البصر عبارة شائعة في الإدراك بالبصر ؛ وإسنادا إلى الآلة (4) ، والإدراك بالبصر هو الرؤية بمعنى اتّحاد المفهومين أو تلازمهما ؛ والجمع المعرّف باللام - عند عدم قرينة العهد والبعضيّة - للعموم والاستغراق بإجماع أهل العربيّة والأصول ، وأئمّة التفسير ، وبمشاهدة استعمال الفصحاء ، وصحّة الاستثناء ، فاللّه سبحانه قد أخبر بأنّه لا يراه أحد في المستقبل ، فلو رآه المؤمنون في الجنّة لزم كذبه ، وهو محال.

والجواب : أنّ اللام في الجمع لو كان للعموم والاستغراق - كما ذكرتم - كان قوله : ( تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) موجبة كلّيّة ، فدخل عليها النفي ورفعها ، فرفعها رفع الإيجاب الكلّيّ ، ورفع الإيجاب الكلّيّ سلب جزئيّ.

ص: 321


1- أي الأجزاء.
2- انظر « شرح المواقف » 8 : 137.
3- الأنعام (6) : 103.
4- في المصدر : « استنادا للفعل إلى الآلة ».

ولو لم يكن للعموم كان قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة في قوّة الجزئيّة ، وكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار ، ونحن نقول بموجبة جزئيّة ، حيث لا يراه الكافرون ، بل نقول : تخصيص البعض بالنفي يدلّ على الإثبات للبعض الآخر ، فالآية حجّة لنا لا علينا.

سلّمنا عموم الأبصار ، وأنّ مدلول الكلام عموم السلب لا سلب العموم ، فلا نسلّم عمومه في الأحوال والأوقات ، فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا ؛ جمعا بين الأدلّة.

سلّمنا ولكن لا نسلّم أنّ الإدراك بالبصر هو الرؤية أو لازم لها ، بل رؤية مخصوصة ، وهو أن يكون على وجه الإحاطة بجوانب المرئيّ ؛ إذ حقيقته النيل والوصول مأخوذا من أدركت فلانا : إذا لحقته ، ولهذا يصحّ : رأيت القمر وما أدركه بصري ؛ لإحاطة الغيم به ، فلا يصحّ : أدركه بصري وما رأيته ، فيكون أخصّ من الرؤية ، ملزوما لها بمنزلة الإحاطة من العلم ، فلا يلزم من نفيه نفيها ، أو نقول (1) : الإدراك بالبصر هو الرؤية بالجارحة المخصوصة ، فلا يلزم من نفيه نفي الرؤية مطلقا ؛ إذ يمكن أن يرى لا بتلك الجارحة المخصوصة ، كما هو المدّعى ؛ فإنّ المثبتين لرؤية اللّه تعالى يدّعون أنّ الحالة المخصوصة التي تحصل لنا بالبصر في الدنيا - وتسمّى رؤية - تحصل لنا تلك الحالة بعينها بالنسبة إليه تعالى من غير توسّط تلك الجارحة.

وثانيهما : أنّه تعالى يمدح بكونه لا يرى فإنّه تعالى ذكره في أثناء المدائح ، وما كان - من الصفات - عدمه مدحا كان وجوده نقصا ، يجب تنزيه اللّه تعالى عنه ، فظهر أنّه تمتنع رؤيته ، وإنّما قلنا : من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام ؛ فإنّ الأوّل فضل. والثاني عدل ، وكلاهما كمال.

والجواب : أنّ ما ذكرتم حجّة لنا على أنّ المنفيّ ليس هو الرؤية بالمعنى المتنازع

ص: 322


1- قسيم لقوله : « بل رؤية مخصوصة ».

فيه ، بل هو إدراك البصر بأحد المعنيين اللذين ذكرناهما ، أعني الإدراك على وجه الإحاطة بجوانب المرئيّ ، والإدراك بالجارحة المخصوصة ؛ لإشعارهما بسمات الحدوث والنقصان ، وذلك في الأوّل ظاهر. وأمّا في الثاني ، فلأنّ الإدراك بالجارحة المخصوصة إنّما يكون لما يقابلها كما علم بالضرورة من التجربة.

وأمّا رؤيته على الوجه المذكور - أعني من غير المقابلة ولا توسّط الآلة ، بل بمحض عناية من اللّه تعالى على عباده - فلا نسلّم أنّها نقص.

ومنها : أنّ اللّه تعالى حيثما ذكر في كتابه سؤال الرؤية استعظمه استعظاما شديدا واستكبره استكبارا بليغا حتّى سمّاه ظلما وعتوّا كبيرا ، كقوله تعالى : ( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) (1).

وقوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) (2).

وقوله تعالى : ( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (3) فلو جازت رؤيته لما كان كذلك.

والجواب : أنّ ذلك لتعنّتهم وعنادهم على ما يشعر به سياق الكلام - لا لطلبهم الرؤية ، ولهذا عوتبوا على طلب إنزال الملائكة عليهم والكتاب مع أنّهما من الممكنات وفاقا.

ولو سلّم ، فلطلبهم الرؤية في الدنيا وعلى طريق الجهة والمقابلة على ما عرفوا من حال الأجسام والأعراض.

ص: 323


1- الفرقان (25) : 21.
2- البقرة (2) : 55.
3- النساء (4) : 153.

وقوله تعالى حكاية عن موسى علیه السلام : ( تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) معناه التوبة عن الجرأة والإقدام على السؤال بدون الإذن ، أو عن طلب الرؤية في الدنيا ، ومعنى الإيمان التصديق بأنّه لا يرى في الدنيا وإن كانت ممكنة.

وما قال بعض السلف - من وقوع الرؤية بالبصر ليلة المعراج (2) - فالجمهور على خلافه. وقد روي أنّه سئل عليه الصلاة والسلام : هل رأيت ربّك؟ فقال : رأيته بفؤادي (3). وأمّا الرؤية في المنام ، فقد حكي القول بها عن كثير من السلف (4).

ومنها : قوله تعالى لموسى علیه السلام : ( لَنْ تَرانِي ) (5) ولن للتأبيد ، وإذا لم يره موسى أبدا ، لم يره غيره إجماعا.

والجواب : منع كون لن للتأبيد ، بل هو للنفي المؤكّد في المستقبل فقط ؛ لقوله تعالى : ( وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) (6) أي الموت ، ولا شكّ أنّهم يتمنّوه في الآخرة للتخلّص عن العقوبة.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) (7) حصر تكليمه تعالى للبشر في الوحي إلى الرسل ، وتكليمه لهم من وراء الحجاب ، وإرساله إيّاهم إلى الأمم ليكلّمهم على ألسنتهم ، وإذا لم يره من يكلّمه في وقت الكلام ، لم يره في غيره إجماعا ، وإذا لم يره هو أصلا ، لم يره غيره أيضا ؛ إذ لا قائل بالفرق.

والجواب : أنّ التكليم وحيا قد يكون حال الرؤية ؛ فإنّ الوحي كلام يفهم بسرعة.

ص: 324


1- الأعراف (7) : 143.
2- « شرح المقاصد » 4 : 210.
3- « الدرّ المنثور » 7 : 648 ؛ « أنوار التنزيل » 3 : 337 ، ذيل الآية 11 من سورة النجم (53).
4- « شرح المقاصد » 4 : 210.
5- الأعراف (7) : 143.
6- البقرة (2) : 95.
7- الشورى (42) : 51.

والمصنّف - غفر اللّه له - ذهب إلى أنّه تعالى لا يمكن أن يرى ، وجعل ذلك من فروع وجوب الوجود محتجّا بما ذكرنا في احتجاج المنكرين للرؤية.

وقوله : ( وسؤال موسى لقومه ) إشارة إلى الثالث من الاعتراضات التي ذكرناها على الوجه الأوّل من وجهي احتجاج الأشاعرة بالآية الكريمة على إمكان الرؤية.

وقوله : ( والنظر لا يدلّ على الرؤية ) إشارة إلى الأوّل من الاعتراضين اللذين ذكرناهما على دليل الأشاعرة على وقوع الرؤية ، وهو أنّا لا نسلّم أنّ النظر بمعنى الرؤية ، بل هو بمعنى الانتظار ، وإلى بمعنى النعمة ، وهو واحد الآلاء ، أو صلة النظر بمعنى الانتظار.

وقوله : ( مع قبوله التأويل ) إشارة إلى الاعتراض الثاني ، وهو أنّ الكلام على حذف المضاف ، أي ناظرة إلى ثواب ربّها.

وقوله : ( وتعليق الرؤية باستقرار المتحرّك لا يدلّ على الإمكان ) إشارة إلى الاعتراض على الوجه الثاني من وجهي احتجاج الأشاعرة على إمكان الرؤية بالآية.

وقوله : ( واشتراك المعلولات لا يدلّ على اشتراك العلل ) إشارة إلى الثالث من الاعتراضات التي ذكرناها على الدليل العقليّ للأشاعرة على إمكان الرؤية.

وقوله : ( مع منع التعليل ) إشارة إلى الأوّل منها ، وهو أنّا لا نسلّم أنّ الصحّة تفتقر إلى علّة موجودة.

وقوله : ( والحصر ) - أي منع الحصر - إشارة إلى الثاني منها ، وهو أنّا لا نسلّم أنّ المشترك بين الجوهر والعرض منحصر في الحدوث والوجود ؛ فإنّ الإمكان أيضا مشترك بينهما » (1).

ص: 325


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 323 - 336.

المطلب الرابع :

اشارة

في أنّ الواجب بالذات - الذي هو صاحب الكمال ، ومنزّه عن صفات النقص ، وهو صاحب الجلال - صاحب صفات الجمال ، التي هي صفات الفعل والصفات الثبوتيّة الإضافيّة ، وهي كثيرة :

منها : الجود ، وهو عبارة عن إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي لا لغرض ولا لعوض (1).

ووجه ثبوته : أنّ واجب الوجود لو أعطى غير من هو أهل للإعطاء يلزم القبح ، ولو كان متعوّضا لكان ناقصا مستكملا ومحتاجا إلى غيره ، ولو كان إعطاؤه لغرض عائد إليه يلزم ذلك أيضا ، وكلّ ذلك ينافي وجوب الوجود.

ومنها : الملك ؛ لأنّ الملك هو الغنيّ المفتقر إليه ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّه لا يفتقر إلى غيره ؛ لوجوب وجوده وجميع أغياره محتاج إليه ؛ لأنّه منه أو ممّا هو منه.

ومنها : التمام ، وهو الذي حصل له جميع ما يمكن أن يحصل لغيره ، وواجب الوجود كذلك ؛ لامتناع كون كمالاته بالقوّة كما مرّ ، وإلاّ يلزم التغيّر والانتقال المنافي لوجوب الوجود.

ومنها : فوق التمام ، وهو أن يحصل منه جميع ما يمكن أن يحصل لغيره ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّ وجود جميع أغياره مستند إليه ، مستفاد منه ، وكذلك سائر الصفات.

ومنها : الحقّيّة ، وهي بمعنى الثبوت والدوام وعدم قبول العدم والفناء ، وهي من فروع السرمديّة.

ومنها : الخيريّة ؛ وذلك لأنّه وجود محض والوجود خير محض ، فذات البارئ هو الخير.

ص: 326


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 323 - 336.

ومنها : الحكمة ، وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه ، والعمل على وفق الصواب ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّه تعالى عالم كما مرّ ، وكلّ ما يصدر عنه فهو على وفق المصلحة كما مرّ أيضا.

ومنها : الجبّاريّة ؛ لأنّ الجبّار هو الذي يجبر الشيء على ما لا يقتضيه ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّه يجبر الممكنات على الوجود الذي ليس من مقتضيات ذاتها.

ومنها : القهّاريّة ؛ لأنّه يغلب الممكنات بانتزاع الصور والأعراض من موادّها وإفاضة الوجود عليها.

ومنها : القيموميّة ؛ لأنّه القائم بذاته ، المقيم لغيره.

ومنها : الرازقيّة ، وهي مثل الجود.

ومنها : الخالقيّة ، وهي من آثار القدرة.

ومنها : اليد ، وهي عبارة عن القدرة أو النعمة.

ومنها : الوجه ، وهو عبارة عن الوجود أو الحياة.

ومنها : الرحمة والكرم والرضا ، وهي راجعة إلى الإرادة ؛ لأنّها إرادات مخصوصة مقتضية للإحسان بسبب كما في الرحمة ، أو بدونه كما في الكرم ، أو لبقاء الإحسان على ما كان كما في الرضا.

ومنها : الصنع والإبداع والتكوين والإحداث.

والأوّل : عبارة عن إيجاد شيء مسبوق بالمادّة والمدّة كإيجاد المواليد.

والثاني : عبارة عن إيجاد شيء غير مسبوق بالمادّة والمدّة كإيجاد الفلك الأعظم.

والثالث : عبارة عن إيجاد شيء مسبوق بمدّة غير مسبوق بمادّة كإيجاد العناصر.

والرابع : عكسه كإيجاد الزمان.

وكلّ ذلك راجع إلى القدرة أو الإرادة.

وبالجملة ، فالإبداع أعلى مرتبة من الإحداث والتكوين وهما من الصنع ، ولكلّ من الإحداث والتكوين جهة رجحان ومرجوحيّة من جهة الاحتياج والعدم الزمانيّ.

ص: 327

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( وعلى ثبوت الجود ) « عطف على قوله : على سرمديّته (1). يعني وجوب الوجود كما يدلّ على سرمديّته (2) ، يدلّ على ثبوت هذه الأمور التي نذكرها الآن :

منها : الجود ، وهو إفادة ما ينبغي لا لعوض ؛ فإنّ واجب الوجود لو كان مستعوضا (3) بإفادة ما ينبغي للممكنات ، لكان ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره ، فكان محتاجا إلى غيره.

( و ) منها : ( الملك ) ؛ لأنّ الملك هو الغنيّ الذي لا يستغني عنه شيء ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّه لا يفتقر إلى غيره ، وكلّ ما هو غيره مفتقر إليه من أنّه منه أو ممّا هو منه.

( و ) منها : ( التامّ (4) ) ؛ لأنّ التامّ هو الذي حصل له جميع ما من شأنه أن يحصل له ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّه يمتنع عليه التغيّر والانفعال.

( و ) منها : ( فوقه ) أي فوق التمام ، وهو أن يحصل منه جميع ما من شأنه أن يحصل لغيره ، وواجب الوجود كذلك ؛ لأنّ الوجود كلّه مستند إليه ، مستفاد منه.

( و ) منها : ( الحقّيّة ) أي وجوب الوجود يدلّ على أنّه تعالى حقّ ، أي ثابت دائما ، غير قابل للعدم والفناء.

( و ) منها : ( الخيريّة ) أي وجوب الوجود يدلّ على أنّه تعالى خير ؛ وذلك لما سبق من أنّ الوجود خير محض ، والعدم شرّ محض ، وقد سبق أيضا أنّ وجوب الوجود يقتضي أن يكون ذات الواجب نفس الوجود ، فذات البارئ تعالى هو الوجود ، والوجود هو الخير ، فذات البارئ تعالى هو الخير.

ص: 328


1- في المصدر : « ونفي الزائد ».
2- في المصدر : « نفي الأمور المذكورة ».
3- كذا في النسخ والمصدر ، والأصحّ : « مستعينا ».
4- كذا في النسخ ، وفي المصدر و « تجريد الاعتقاد » : 195 و « كشف المراد » : 30 : « التمام » بدل « التامّ ».

( و ) منها : ( الحكمة ) وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه ؛ لأنّ وجوب الوجود يقتضي التجرّد ، وكلّ مجرّد عالم بالأشياء كما هي.

( و ) منها : ( التجبّر ) ؛ لأنّ الجبّار هو الذي يجبر الشيء على ما لا يقتضيه ، ولا شكّ أنّ واجب الوجود كذلك ؛ لأنّ كلّ موجود سواه لا يقتضي الوجود وهو يوجده ويجبره على الوجود.

( و ) منها : ( القهر ) لأنّه يقهر عدم الممكنات بإعطاء الوجود وإفاضته عليها.

( و ) منها : ( القيّوميّة ) لأنّه هو القائم بذاته الذي يقيم به جميع الممكنات.

( وأمّا اليد والوجه والقدم والرحمة والكرم والرضا والتكوين ، فراجعة إلى ما تقدّم ) يعني أنّ اليد عبارة عن القدرة ، والوجه عن الوجود ، والقدم عن البقاء ، والرحمة والكرم والرضا كلّ واحدة منها إرادة مخصوصة ، والتكوين ليس أمرا وراء القدرة والإرادة.

وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعريّ إلى أنّ اليد صفة مغايرة للقدرة ، والوجه صفة مغايرة للوجود. (1)

[ وذهب عبد اللّه بن سعيد (2) إلى أنّ القدم صفة مغايرة للبقاء ، وأنّ الرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة ] (3)

وذهب الحنفيّة (4) إلى أنّ التكوين صفة أزليّة زائدة على السبع المشهورة ، أخذا من قوله تعالى : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (5) فقد جعل قوله : ( كُنْ ) مقدّما على كون الحادث ، أعني

ص: 329


1- « المحصّل » : 437 ؛ « كشف المراد » : 301 ؛ « مناهج اليقين » : 198 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 174.
2- « المحصّل » : 437 - 438 ؛ « كشف المراد » : 301 ؛ « مناهج اليقين » : 198 ؛ « شرح المواقف » 8 : 109 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 174.
3- الزيادة أضفناها من المصدر.
4- نسبه إليهم في المواقف كما في « شرح المواقف » 8 : 113 ، وفي « المحصّل » : 435 نسبه إلى بعض فقهاء الحنفيّة.
5- البقرة (2) : 117 ؛ آل عمران (3) : 47 و 51 ؛ الأنعام (6) : 73 وغيرها.

وجوده ، والمراد به التكوين والإيجاد والتخليق ، قالوا : وإنّه غير القدرة ؛ لأنّ القدرة أثرها الصحّة ، والصحّة لا تستلزم الكون ، فلا يكون الكون أثرا للقدرة ، وأثر التكوين هو الكون.

والجواب : أنّ الصحّة هي الإمكان ، وأنّه للممكن ذاتيّ ، فلا يصلح أثرا للقدرة ؛ لأنّ ما بالذات لا يعلّل بالغير ، بل بالإمكان يعلّل المقدوريّة ، فيقال : هذا مقدور ؛ لأنّه ممكن ، وذلك غير مقدور ؛ لأنّه واجب أو ممتنع ، فإذن أثر القدرة هو الكون - أعني كون المقدور ووجوده - لا صحّة إمكانه ، فاستغنى عن إثبات صفة أخرى يكون أثرها الكون.

فإن قيل : المراد بالصحّة - التي جعلناها أثرا للقدرة - هو صحّة الفعل بمعنى التأثير والإيجاد من الفاعل ، لا صحّة المفعول في نفسه ، وهذه الصحّة هي الإمكان الذّاتي الذي لا يمكن تعليله بغيره.

وأمّا الصحّة الأولى ، فهي بالقياس إلى الفاعل معلّلة بالقدرة ؛ فإنّ القدرة هي الصفة التي باعتبارها يصحّ من الفاعل طرفا الفعل والترك ، فلا يحصل بها منه أحدهما بعينه ، بل لا بدّ في حصوله من صفة أخرى تتعلّق به ، أي بذلك الطرف وحده ، فتلك الصفة هي التكوين.

قلنا : كلّ من ذينك الطرفين يصلح أثرا للقدرة ، وإنّما يحتاج صدور أحدهما بعينه عنه إلى مخصّص وهو الإرادة المتعلّقة بذلك الطرف ، وحينئذ لا حاجة إلى مبدأ للكون غير القدرة المؤثّرة فيه بواسطة الإرادة المتعلّقة به » (1).

[ أنّه تعالى واحد من جميع الجهات ]

ثمّ اعلم : أنّ المكلّف بعد معرفة اللّه تعالى - بأنّه خالق العالم والممكنات ، وأنّه

ص: 330


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 336 - 337.

الواجب الوجود بالذات ، وأنّه صاحب صفات الكمال والجمال ، وأنّه منزّه عن صفات النقص ، وصاحب الجلال ، وأنّ صفاته الذاتية عين الذات - لا بدّ أن يعتقد بالجنان ، ويقرّ باللسان بأنّ ذلك الواجب الوجود بالذات ، المعروف بتلك الوجوه الخمسة واحد من جميع الجهات من التوحيد الذاتيّ والجزئيّاتيّ والصفاتيّ والأفعاليّ والعباداتيّ ، ردّا على المشركين كالثنويّة القائلين باليزدان وأهرمن ، أو النور والظلمة (1) ، ومن اتّخذ آلهة ثلاثة (2) وأمثالهم. ولا بدّ أن يكون ذلك بالبراهين العقليّة والنقليّة من الكتاب والسّنّة.

أمّا البراهين العقليّة :

فمنها : أنّ التعدّد بوجود الشريك مفهوم من المفاهيم ، وكلّ مفهوم إمّا واجب ، أو ممكن ، أو ممتنع ، فالتعدّد إمّا واجب ، أو ممكن ، أو ممتنع.

لا سبيل إلى الأوّل ، وإلاّ يلزم عدم وجود الواجب أصلا ؛ لأنّ وجوب التعدّد لو كان لكان بمقتضى ذات الواجب ؛ لئلاّ تلزم المعلوليّة في الواجب ، فيكون وجود الواجب من غير تعدّد محالا ، وإلاّ يلزم عدم اللزوم ، أو انفكاك اللازم عن الملزوم فيلزم عدم تحقّقه في أفراده ؛ لأنّه في كلّ فرد واحد ، فيلزم ما ذكر ، وهو محال.

ولا سبيل إلى الثاني ، وإلاّ يلزم إمكان الواجب الذي يحصل به التعدّد ، وهو أيضا محال ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين ، فتعيّن الثالث ، وهو كون التعدّد ممتنعا ، وهو المطلوب.

ومنها : أنّ وجود الشريك لواجب الوجود بالذات ممتنع في الماهيّة والوجود.

أمّا امتناع وجود الشريك في الماهيّة ، فلأن الماهيّة المشتركة إن كانت تمام

ص: 331


1- انظر « شرح الأصول الخمسة » : 284 - 291 ؛ « الملل والنحل » 1 : 230 ؛ « مناهج اليقين » : 221 - 222 ؛ « شرح المواقف » 8 : 43 - 44 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 40.
2- هذا الكلام تعريض بالنصارى. انظر « الملل والنحل » 1 :2. 228 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 291 - 298 ؛ « مناهج اليقين » : 222 - 223 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 42.

حقيقة كلّ ، فهما متماثلان. وإن كانت جزء حقيقته ، فهما متجانسان ؛ لأنّ بعض الحقيقة المشترك إمّا جنس أو فصل بعيد يلزمه جنس ما ، فيلزم أن يكون لواجب الوجود جنس ، وكلّ ماله جنس فله فصل مختصّ مميّز له عن غيره لئلاّ ترتفع الاثنينيّة ، فيلزم التركّب في الواجب ، وهو محال ؛ لاستلزامه الاحتياج إلى الأجزاء ، وهو مناف لوجوب الوجود.

[ و ] على تقدير كونها تمام الحقيقة يلزم احتياج كلّ منهما إلى ما به الامتياز عن العوارض المشخّصة ، والمحتاج إلى الغير في الوجود لا يمكن أن يكون واجب الوجود. ومن هنا يعلم أنّ تشخّص الواجب عين ذاته كوجوده.

وأمّا امتناع الشريك في وجوب الوجود ، فلأنّ الوجود في الواجب عين حقيقته ، فلو وجد واجبان ، لكان حقيقة الوجود مشتركة بينهما ، والحقيقة المشتركة إمّا جنسيّة أو نوعيّة ، وعلى التقديرين يلزم تركّب الواجب كما مرّ وهو محال كما تقدّم ، فوجود الشريك يستلزم التركّب وهو محال ، فهو محال وهو المطلوب.

ومنها : أنّ وجود الشريك يستلزم عجز الواجب ؛ لأنّ كلاّ من الشريك (1) إمّا أن يقدر على الإتيان بما شاء بالنسبة إلى الآخر ، أم لا وعلى الأوّل ، فإمّا أن يقدر الآخر مع منع الأوّل أم لا ، والأوّل يستلزم عجز الأوّل ، والثاني عجز الثاني. وعلى الثاني يلزم عجز كليهما.

لا يقال : يشترط في القدرة إمكان المقدور ، والتأثير في الواجب ممتنع.

لأنّا نقول : تأثير الواجب في الواجب ليس بممتنع ؛ لأنّ الفاعل - وهو الواجب - كامل عن جميع الجهات ، والقابل متحقّق لا نقص فيه أصلا على هذا التقدير ، مضافا إلى إمكان التمثيل بمثال واضح كإماتة زيد وإبقائه ، وتحريك الفلك وتسكينه في آن واحد.

ص: 332


1- كذا ، والصحيح : « الشريكين ».

وقد حكي عن « ابن كمونة » في هذا المقام شبهة (1) ، وهي أنّ معنى عينيّة الوجود ليس إلاّ أنّ نفس حقيقة الواجب منشأ لانتزاع وجوده من دون حاجة إلى أمر خارج ، لا أنّ في الخارج حقيقة ووجودا [ هو ] عين تلك الحقيقة.

فعلى هذا يمكن أن يوجد في الخارج حقيقتان مختلفتان كلّ واحدة منهما تمام الحقيقة ، ويكون كلّ واحد منشأ لانتزاع وجوده ، ولم يكن الوجود إلاّ لازما منتزعا من نفس حقيقة كلّ منهما ؛ لجواز أن يكون للحقائق المختلفة لازم واحد ، فلا تلزم حقيقة مشتركة في الخارج ليلزم تركّب الواجب.

وجوابها : أنّ ماهيّة الواجب لمّا كانت عين مفهوم الوجود في الذهن الذي هو معنى واحد ، فلو كان ذلك المعنى الواحد منتزعا من حقيقتين مختلفتين في تمام الماهيّة ، يلزم أن تكون الماهيّة الواحدة تمام ماهيّة حقيقتين مختلفتين في تمام الماهيّة ، وهو بديهيّ البطلان.

بيان ذلك : أنّ الوجود - كما أفيد - على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الوجود الحقّ ، وهو الوجود الواجب المقدّس عن كلّ ما سواه ، بل لا تطلق العبارة أيضا عليه ؛ فإنّ العبارة إنّما تطلق على العنوان وآثار صنعه ، وهذا الوجود لا يدرك بعموم ولا خصوص ، ولا إطلاق ولا تقييد ، ولا كلّ ولا جزء ، ولا كلّيّ ولا جزئيّ ، ولا كمّ ولا كيف ، ولا أين ولا وضع ، ولا إضافة ولا نحو ذلك ، بل إنّما يعرف بالوجوه والآثار كالبناء والبنّاء ونحو ذلك ، وكذا يعرف بضدّ ما للممكن مثل أنّه ليس بمحتاج ، ولا حادث ، ولا مركّب ، ولا ذي كيف وشبه ، ونحو ذلك ، ويعبّر عنه بالذات البحت ، بمعنى أنّه ذات بسيط ليس له وجود غير ماهيّته ، ولا ماهيّة غير وجوده ، ولا ذات غير صفته ، ولا صفة غير صفته.

ص: 333


1- حكاه في « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 394 - 395 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 132 ؛ « شرح الهداية الأثيريّة » للصدر الشيرازيّ : 291 ؛ « المبدأ والمعاد » : 53.

الثاني : الوجود المطلق.

الثالث : الوجود المقيّد وهو الوجود الخاصّ الممكن.

والوجود المنتزع هو الوجود المطلق لا الوجود الحقّ ، فلو تعدّد الواجب يلزم الاشتراك في الوجود الحقّ ، فيحتاج إلى ما به الامتياز ، فيلزم التركّب الموجب للاحتياج إلى الأجزاء والمركّب ، المنافي لوجوب الوجود ، وإلاّ يلزم أن يكون الماهيّة الواحدة تمام ماهيّة حقيقتين مختلفتين في تمام الماهيّة ، وهو بديهيّ البطلان ، مضافا إلى أنّ ما ذكرنا آنفا يحسم مادّة تلك الشبهة ، كما لا يخفى.

وأمّا البراهين النقليّة الواردة في الكتاب :

فمنها : قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1).

ومنها : قوله تعالى : ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (2).

بيان :

يمكن أن يكون المراد أنّه لو تعدّد الإله لكان كلّ فرد من أفراد الواجب الوجود بالذات ، وكاملا في الصفات كالعلم والقدرة والحياة ، فيكون كلّ فرد علّة مستقلّة في أفعاله ، فلا يمكن أن يكون مخلوق واحد مخلوقا للاثنين ؛ لامتناع توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد شخصيّ ؛ حذرا عن عدم استقلال كلّ منهما ، أو تحصيل الحاصل ، فيكون كلّ مخلوق مخلوقا لخالق على حدة ، فيذهب كلّ إله بما خلق ، ولعلا بعض المخلوقين على بعض ، بناء على وحدة محدّد الجهات المحيط بالعالم ، فيلزم التفاوت في المخلوق مع التساوي في الخالق ، وهو محال.

أو المراد أنّه لو تعدّد الإله ، فإمّا أن يكون كلّ فرد علّة مستقلّة ، أم يكون بعض الأفراد علّة مستقلّة ، وبعضها غير مستقلّة ، مستندا إلى الآخر ، محتاجا إليه.

ص: 334


1- الأنبياء (21) : 22.
2- المؤمنون (23) : 91.

فعلى الأوّل لذهب كلّ إله بما خلق ؛ حذرا عمّا ذكر.

وعلى الثاني لكان بعض الآلهة عاليا محتاجا إليه ، وبعضهم دانيا محتاجا ، وكلّ منهما فاسد ؛ إذ الأوّل - مع كونه خلاف الوجدان والعيان - خلاف اعتقاد المشركين القائلين بتعدّد الإله لكلّ مخلوق. والثاني يستلزم وحدة الإله المستقلّ ، بل عدم كون الشريك من أفراد الواجب بالذات الغنيّ بالذات ، وهو خلاف المفروض.

ومن هذا يمكن فهم المراد من الآية الأولى ؛ لاقتضاء استقلال كلّ فرد أن يتعلّق إرادة بعض ببقاء السماوات والأرض ، والآخر بإعدامهما ، فإذا تعارضا وتعادلا ، بقي المعلول بلا مبق ففسدتا ؛ الاحتياج الباقي إلى المؤثّر ، فلا يرد أنّ الغنيّ المطلق الكامل لا يعارض غنيّا آخر مثله ، وأنّه حال الممكن كالسلاطين الذين يدفع بعضهم بعضا. ويدلّ على ذلك أنّه قال : ( لَفَسَدَتا ) ولم يقل : لأفسدوا.

ومنها : قوله تعالى : ( اللّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) (1).

ومنها : قوله تعالى : ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) (2).

ومنها : قوله تعالى : ( وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللّهُ ) (3).

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) الآية (4).

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) الآية (5).

ص: 335


1- البقرة (2) : 255 ؛ آل عمران (3) : 2 ؛ النساء (4) : 87 ؛ طه (20) : 80 ؛ النحل (27) : 26 ؛ التغابن (64) : 13.
2- البقرة (2) : 163.
3- آل عمران (3) : 62.
4- آل عمران (3) : 64.
5- النساء (4) : 48 و 116.

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ) (1).

ومنها : قوله تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) (2).

ومنها : قوله تعالى : ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ) (3).

ومنها : قوله تعالى : ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ) (4).

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (5).

ومنها : قوله تعالى حكاية عن لقمان : ( يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (6).

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ* اللّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (7) وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة على نفي الشريك وهي - على ما عددتها - ثلاث وتسعون آية.

وأمّا الواردة في السّنّة :

فمنها : ما روي عن شريح بن هانئ ، قال : إنّ أعرابيّا مال يوم الجمل إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين! أتقول : إنّ اللّه واحد؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين علیه السلام من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « دعوه ؛ فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

قال : « يا أعرابي! إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها

ص: 336


1- النساء (4) : 116.
2- النحل (16) : 51.
3- الإسراء (17) : 22.
4- الإسراء (17) : 39.
5- الأنبياء (21) : 98.
6- لقمان (31) : 13.
7- الإخلاص (112) : 1 - 4.

لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّه تشبيه عزّ وجلّ ربّنا ، وتعالى عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود : لا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ (1) ».

ومنها : ما روي عن أبي هاشم الجعفريّ ، قال : قلت لأبي جعفر الثاني : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (2) ما معنى الأحد؟ قال : « المجمع عليه بالوحدانيّة أما سمعته يقول : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (3) بعد ذلك له شريك وصاحبة (4)؟ »

بيان :

كلامه الأخير استفهام إنكاريّ ، أي كيف يكون له شريك وصاحبة بعد إجماع العقول على خلافه وكون غرائز الخلق كلّها مجبولة على الإذعان بتوحيده إذا تركوا العناد؟!

ومنها : ما روي في جواب سؤال الزنديق رواية (5) أبطل فيها مذاهب ثلاثة للثنويّة :

ص: 337


1- « التوحيد » : 83 - 84 باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح 3.
2- الإخلاص (112) : 1.
3- العنكبوت (29) : 61.
4- « التوحيد » : 82 - 83 باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح 1 - 2 ؛ « الكافي » 1 : 118 ، باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح 12.
5- « التوحيد » : 243 - 270 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 1 ، وأورد الكلينيّ قسما منه في « الكافي » 1 : 83 - 85 باب إطلاق بأنّه شيء ، ح 6.

الأوّل : مذهب الأيضائيّة (1) ، وهم أثبتوا أصلين : نورا وظلاما فالنور يفعل الخير قصدا واختيارا ، والظلام يفعل الشرّ طبعا (2).

الثاني : مذهب المانويّة أصحاب ماني الحكيم الذي ظهر بعد عيسى علیه السلام ، وأخذ دينا بين المجوسيّة والنصرانيّة ، وكان يقول بنبوّة المسيح دون الكليم ، وزعم أنّ العالم مصنوع مركّب من أصلين قديمين : أحدهما نور ، والآخر ظلمة ، وأنّهما أزليّان ، حسّاسان ، سميعان ، بصيران ، متضادّان في النفس والصورة ، والفعل والتدبير (3).

الثالث : مذهب المرقوبيّة أثبتوا أصلين متضادّين : أحدهما النور ، والثاني الظلمة ، وأثبتوا أصلا ثالثا وهو المعدّل الجامع وهو سبب المزاج ؛ فإنّ المتنافرين المتضادّين لا يمزجان إلاّ بجامع وهو دون النور وفوق الظلمة ، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم ، كذا حكي عنهم (4).

ومنها : ما روي هشام [ بن ] الحكم أنّه قال : من سؤال الزنديق عن الصادق علیه السلام أن قال : لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟ قال أبو عبد اللّه - علیه السلام - : « لا يخلو قولك : إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين ، أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويّين فلم لا يدافع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير؟ وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ، ثبت أنّه واحد - كما نقول - للعجز الظاهر في الثاني. وإن قلت : إنّهما اثنان لم يخل من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة ، فلمّا رأينا الخلق منتظما ، والفلك حاويا ، واختلاف

ص: 338


1- ما نسبه إلى الأيضائيّة هنا نسبه الشهرستانيّ في « الملل والنحل » 1 : 250 إلى الديصانيّة ، فالأيضائيّة والديصانيّة إمّا مذهب واحد ، أو أنّ الأيضائيّة تحريف عن الديصانيّة.
2- انظر « الملل والنحل » 1 : 220 - 252 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 291 - 298 ؛ « مناهج اليقين » 222 - 223 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 40 - 44.
3- نفس المصادر السابقة.
4- نفس المصادر السابقة.

الليل والنهار ، والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير ، وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد (1) ».

وزيد في بعض الأخبار : « ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين ، فلا بدّ من فرجة بينهما حتّى يكونا اثنين ، فصارت الفرجة ثالثا بينهما ، قديما معهما ، فيلزمك ثلاثة ، وإن ادّعيت ثلاثة ، لزمك ما قلنا في الاثنين حتّى يكون بينهما فرجتان ، فيكون خمسة ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة (2) ».

ومنها : ما روي عن هشام بن الحكم ، قال : قال أبو شاكر الديصانيّ : إنّ في القرآن آية هي قوّة لنا. قلت : وما هي؟ فقال : ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (3) فلم أدر بما أجيبه ، فحججت ، فخبّرت أبا عبد اللّه علیه السلام ، فقال : « كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل : ما اسمك بالكوفة؟ فإنّه يقول : فلان ، فقل : ما اسمك بالبصرة؟ فإنّه يقول : فلان ، فقل : كذلك اللّه ربّنا إنّه في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله ، وفي كلّ مكان إله ».

قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر ، فأخبرته ، فقال : هذه نقلت من الحجاز (4). وغير ذلك من الأخبار التي لا تكاد تحصى ممّا دلّ على التوحيد ، ونفي الرؤية ونحو ذلك.

ومنها : ما روي في « الكافي » عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتقّ؟ قال : فقال لي : « يا هشام! اللّه مشتقّ من أله ، والإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المسمّى فقد كفر ولم يعبد شيئا ؛ ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ؛ ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أفهمت يا هشام!؟ ».

ص: 339


1- « التوحيد » : 243 - 244 باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 1.
2- نفس المصدر.
3- الزخرف (43) : 84.
4- « الكافي » 1 : 128 - 129 ، ذيل باب الحركة والانتقال ، ح 10 ؛ « التوحيد » : 133 ، باب القدرة ، ح 16.

قال : فقلت : زدني ، فقال : « إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان لكلّ اسم منها إلها ، ولكنّ اللّه معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره ، يا هشام! الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ، أفهمت يا هشام! فهما تدفع به أعداءنا والملحدين مع اللّه جلّ وعزّ غيره؟ » قلت : نعم ، فقال : « نفعك اللّه به وثبّتك يا هشام ».

فقال هشام : فو اللّه ما قهرني أحد في التوحيد حتّى قمت مقامي هذا (1).

ومنها : ما روي فيه أيضا عن أبي بصير ، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر علیه السلام فقال له : أخبرني عن ربّك متى كان؟ فقال : « ويلك ، إنّما يقال لشيء [ لم يكن فكان ] : متى كان ، إنّ ربّي - تبارك وتعالى - كان ولم يزل حيّا بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكونه كون ، كيف (2) لم يكن؟ ولا كان له أين ، ولا كان في شيء ، ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا كان ضعيفا قبل أن يكوّن شيئا ، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا ، ولا يشبه شيئا مذكورا ، ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه ، لم يزل حيّا بلا حياة ، وملكا قادرا قبل أن ينشئ ، وملكا جبّارا بعد إنشائه للكون ، فليس لكونه كيف ، ولا له أين ، ولا له حدّ ، ولا يعرف بشيء يشبهه ، ولا يهرم لطول البقاء ، ولا يصعق لشيء ، بل لخوفه تصعق الأشياء كلّها ، كان حيّا بلا حياة حادثة ، ولا كون موصوف ، ولا حدّ محدود ، ولا أين موقوف عليه ، ولا مكان جاور شيئا ، بل حيّ يعرف ، وملك لم يزل له القدرة والملك أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته ، لا يحدّ ، ولا يبعّض ، ولا يفنى ، كان

ص: 340


1- « الكافي » 1 : 114 باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح 2 ؛ « التوحيد » : 220 - 221 باب أسماء اللّه تعالى ... ح 13.
2- في « أ » و « ب » : « ولا كان لكونه كون ، كيف لم يكن ولا كان له أين ». وفي « ز » : « ولا كان لكونه كيف لم يكن ولا كان له أين ». وفي المصدر : « ولا كان لكونه كون كيف ولا كان له أين ». وفي « التوحيد » للصدوق : « ولا كان لكونه كيف ، ولا كان له أين ».

أوّلا بلا كيف ، ويكون آخرا بلا أين ، وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الخلق والأمر ، تبارك اللّه ربّ العالمين » (1).

ومنها : ما روي فيه أيضا عن عليّ بن حمزة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم : أنّ اللّه تعالى جسم صمديّ نوريّ ، معرفته ضرورة يمنّ بها على من يشاء من خلقه ، فقال علیه السلام : « سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، لا يحدّ ، ولا يحسّ ولا يجسّ ، ولا يدركه الحواسّ ، ولا يحيط به شيء ، ولا جسم ولا صورة ، ولا تخطيط ولا تحديد » (2).

ومنها : ما قد روي عن مولانا الصادق علیه السلام أنّه قال : « من زعم أنّ لله وجها كالوجوه فقد أشرك ؛ ومن زعم أن لله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر باللّه ، فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته ، تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون بصفة المخلوقين ، فوجه اللّه أنبياؤه وأولياؤه ، وقوله : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ ) (3) القدرة كقوله : ( وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ) (4) فمن زعم أنّ اللّه في شيء ، أو على شيء ، أو يحول من شيء إلى شيء ، أو يخلو منه شيء ، أو يشغل به شيء ، فقد وصفه بصفة المخلوقين ، واللّه خالق كلّ شيء ، لا يقاس بالقياس ، ولا يشبه بالناس ، لا يخلو منه مكان ، قريب في بعده ، بعيد في قربه ، ذلك اللّه ربّنا لا إله غيره ، فمن أراد اللّه وأحبّه بهذه الصفة ، فهو من الموحّدين ، ومن أحبّه بغير هذه الصفة ، فاللّه منه بريء ، ونحن منه

ص: 341


1- « الكافي » 1 : 88 - 89 باب الكون والمكان ، ح 3.
2- « الكافي » 1 : 104 باب النهي عن الجسم والصورة ، ح 1 ؛ « التوحيد » : 98 باب أنّه عزّ وجلّ ليس بجسم ولا بصورة ، ح 4.
3- ص (38) : 75 ، وهو قوله تعالى : ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) .
4- الأنفال (8) : 26.

برآء » (1) إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على التوحيد ونفي الشريك. واللّه العالم.

تذنيبان :

[ التذنيب ] الأوّل : أنّه ورد في بعض الأخبار المعتبرة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إذا ظهرت البدع في أمّتي ، فعلى العالم أن يظهر علمه ، وإلاّ فعليه لعنة اللّه » (2).

وفي الآخر : « فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (3).

وروي أيضا أنّ « من علم علما وكتمه ، ألجمه اللّه تعالى يوم القيامة بلجام من النار » (4) فأقول : قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ تعدّد الوجود ، بمعنى أنّ الوجود على أقسام : منها : الوجود المطلق. ومنها : الوجود المقيّد الممكن. ومنها : الوجود الحقّ الواجبيّ.

وبعبارة أخرى : الوجود وجود عامّ ، ووجود خاصّ واجبيّ ، ووجود خاصّ ممكنيّ ، بالبرهان العقليّ والنقليّ والوجدان والعيان ، بمعنى أنّ الوجود الواجبيّ منشأ للوجود العلميّ الممكنيّ وهو منشأ للوجود العينيّ الممكنيّ الذي هو من آثار الوجود الواجبيّ سواء كان على وجه الإبداع غير المسبوق بالمادّة والمدّة ، كالسماوات ، أو الصنع المسبوق بالمدّة دون المادّة ، كالعناصر ، أو التكوين المسبوق بهما ، كالمواليد المركّبات أو نحو ذلك ، كما يستفاد من النقل ، خلافا لما ذهب إليه جماعة من الصوفيّة (5) الذين يسمّون أنفسهم بالعرفاء.

ص: 342


1- « كفاية الأثر » : 255 - 257.
2- « المحاسن » 1 : 361 باب إظهار الحقّ ، ح 776 ؛ « الكافي » 1 : 54 باب البدع والمقاييس ، ح 2 ؛ « غوالي اللآلئ » 4 : 70 ، ح 39.
3- « المحاسن » 1 : 361 باب إظهار الحقّ ، ح 776 ؛ « الكافي » 1 : 54 باب البدع والمقاييس ، ح 2 ؛ « غوالي اللآلئ » 4 : 70 ، ح 39.
4- « الأمالي » للطوسيّ : 377 ، المجلس 13 ، ح 808 ؛ « غوالي اللآلئ » 4 : 71 ، ح 40.
5- « شرح فصوص الحكم » للقيصريّ 1 : 13 - 29 ؛ « مصباح الأنس » : 46 - 47 ؛ « تمهيد القواعد » : 25 - 34 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 48 - 49.

بيان ذلك : أنّ التحقيق أنّ الصوفيّة على سبع فرق بعدد أبواب جهنّم ؛ فإنّها أيضا سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم ، ومن زاد على هذه السبعة فهو من جعل قسم القسم قسما ، وعدّد الشعب من الأقسام ؛ لما لا يخفى.

الفرقة الأولى : من قال بوحدة الوجود والموجود ، بمعنى أنّ جميع ما في الكون هو الوجود الواجبيّ والموجود هو الواجب ، والتكثّر بحسب الشئونات أو الخيالات والتوهّمات كما عن الجامي انّه قال :

كلّ ما في الكون وهم أو خيال

أو عكوس في مرايا أو ظلال (1)

وعن بايزيد البسطاميّ أنّه قال : « ليس في جبّتي إلاّ اللّه » (2).

وعن بعض أنّه قال :

در مسجد ودر ميكده هرجا كه مى بينم توئى *** غير از تو در كون ومكان ، ديّار كو ديّار كو

وعن صاحب المثنوي أنّه قال :

هر لحظه به شكلى بت عيّار بر آمد *** دل برد ونهان شد

هر دم بلباس دگر آن يار بر آمد *** گه پير وجوان شد

نى نى كه همان بود كه مى آمد ومى رفت *** در صورت ومعنى

تا عاقبت آن شكل عرب وار بر آمد *** داراى جهان شد (3)

ص: 343


1- « نقد الفصوص في شرح نقش الفصوص » : 181.
2- تقدّم في ص 291.
3- لم نهتد إلى قائله.

إلى آخر الكلام.

وفي المثنوي :

چون كه بى رنگى أسير رنگ شد *** موسيى با موسيى در جنگ شد (1)

ونحو ذلك من الكلمات الظاهرة في وحدة الوجود والموجود ، وكون الممكن من الأمور الاعتباريّة الوهميّة والخياليّة ، ويعبّر عن هذا المذهب بالموج والدريا.

ولا يخفى أنّه موجب لإنكار النبوّة والإمامة والدين والمعاد والثواب والعقاب ؛ لعدم تعقّل تكليف اللّه نفسه وتعذيبها ونحو ذلك ممّا يتعلّق بالدين ، فهو إنكار للدين ، ومعتقده من أخبث الكافرين.

الفرقة الثانية : من قال بوحدة الوجود وتعدّد الموجود ، ويمثّلون بالفارسيّة بقولهم : « نم ويم » ويقولون :

چه (2) ممكن گرد إمكان برفشاند *** بجز واجب ، ديگر (3) چيزى نماند (4)

ويقولون : إنّ أحوال الممكن من تنزّلات وجود الواجب.

ويقولون :

ما ز بالائيم وبالا مى رويم.

ونحو ذلك من الكلمات الدالّة على أنّ صدور المعلول عن العلّة عبارة عن تنزّل العلّة إلى مرتبة وجود المعلول ، وتطوّرها بطور المعلول ، وأنّ الوجود بشرط عدم الماهيّة حقيقة الواجب ، وبشرط التعيّن بالماهيّة حقيقة الممكن.

وهم أيضا كالسابقين من الكافرين ؛ لما لا يخفى على أحد من المؤمنين المتفطّنين.

ص: 344


1- « مثنوىّ معنوىّ » : 126 ، الدفتر الأوّل ، البيت 2525.
2- في المصدر : « چو ».
3- في المصدر : « دگر ».
4- « گلشن راز » ضمن « مجموعة آثار الشيخ محمود الشبستريّ » : 86.

الفرقة الثالثة : الاتّحاديّة ، وهم من قال بالاتّحاد ، بمعنى أنّ العارف بعد الترقّي بالرياضة وتكميل النفس بها يتّحد مع الواجب ، ويصيران كالشيء الواحد. ويقولون :

گفت بوديم بهم شام وسحر *** بهم آميخته چون شير وشكر

وهذا المذهب يستلزم إنكار الضرورة والتجسّم بالجسم كالأجسام ، وهذا كفر بلا كلام.

الفرقة الرابعة : الواصليّة ، وهم من قال بالوصل باللّه كالباب والجدران بالترقّي والتكميل كما لا يخفى.

وصاحب هذا المذهب كالسابقين من الكافرين ؛ لما لا يخفى.

الفرقة الخامسة : الحلوليّة ، وهم من قال بحلول الواجب في الممكن العارف بعد التكميل.

وهم كالسابقين من الكافرين ؛ لإنكار ضروري الدين.

الفرقة السادسة : المباحيّة ، وهم من قال بإباحة جميع الأشياء حتّى اللواط والزنا بإطلاق النفس فيما تهويه ليصير الهمّ واحدا.

وهم أيضا منكرون لضروريّ الدين ، فهم أيضا من الكافرين.

الفرقة السابعة : الملامتيّة ، وهم من يقول بجواز تصوير الحلال بصورة الحرام كشرب الخلّ بصورة الخمر ؛ لبلود الناس ، ولئلاّ يحصل العجب والكبر.

وهم أيضا مثل السابقين من جهلة الكافرين ؛ لما لا يخفى. وغيرهم راجعون إليهم.

نعم ، بعضهم كالقائلين بوحدة الوجود من باب الظلّ وذي الظلّ ، أو الشجر والثمر - بمعنى أنّ الوجود بمعنى منشأ الأثر من غير أن يكون أثرا واحد ، وهو وجود الواجب ، وما عداه أثر ذلك الوجود - من الفاسقين ؛ لعدم إلقائهم عن موضع التهمة الواجب على وجه الإصرار ، وهو فسق بلا إنكار.

ويدلّ على فساد تلك الاعتقادات - مضافا إلى ما أشرنا إليه من نحو الضرورة -

ص: 345

بعض الأخبار المعتبرة الدالّة على براءة الأئمّة علیهم السلام ممّن قال بها من الصوفيّة كما أفاد بعض الأجلّة (1).

فعن المقدّس الأردبيليّ أنّه أفاد أنّه روي بسند صحيح عن أحمد بن أبي نصر البزنطيّ وإسماعيل بن بزيع ، عن مولانا الرضا علیه السلام أنّه قال : « من ذكر عنده الصوفيّة ولم ينكرهم بلسانه وقلبه فليس منّا ، ومن أنكرهم فكأنّما جاهد الكفّار بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (2).

وفي الآخر : أنّه قال رجل من أصحابنا للصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : وقد ظهر في هذا الزمان قوم يقال لهم : الصوفيّة فما تقول فيهم؟ فقال علیه السلام : « إنّهم أعداؤنا ، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم ، وسيكون أقوام يدّعون حبّنا ، ويميلون إليهم ، ويتشبّهون بهم ، ويلقّبون أنفسهم بلقبهم ، ويؤوّلون أقوالهم ، ألا فمن مال إليهم فليس منّا ، وإنّا منهم برآء ، ومن أنكرهم وردّ عليهم ، كان كمن جاهد بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « يا أبا ذرّ! يكون في آخر الزمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم وشتائهم ، يرون أنّ لهم الفضل بذلك على غيرهم ، أولئك يلعنهم اللّه وملائكة السماوات والأرض » (4).

وعن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام أنّه خاطب أبا هاشم الجعفريّ ، وقال علیه السلام : « يا أبا هاشم ، سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة ، وقلوبهم مظلمة منكدرة ، السّنّة فيهم بدعة ، والبدعة فيهم سنّة ، المؤمن بينهم محقّر ، والفاسق بينهم موقّر ، أمراؤهم جاهلون جائرون ، وعلماؤهم في أبواب الظلمة سائرون ، أغنياؤهم

ص: 346


1- « حديقة الشيعة » : 562 - 564.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.
4- « مكارم الأخلاق » 2 : 381 ، الفصل الخامس في وصية الرسول صلی اللّه علیه و آله لأبي ذرّ رضی اللّه عنه ، ح 2661 ، وعنه في « بحار الأنوار » 74 : 91 ، ح 3.

يسرقون زاد الفقراء ، أصاغرهم يتقدّمون على الكبراء ، كلّ جاهل عندهم خبير ، وكلّ عيّل عندهم فقير ، لا يميّزون بين المخلص والمرتاب ، ولا يعرفون الظانّ من الذابّ (1) ، علماؤهم شرار خلق اللّه على وجه الأرض ، ألا إنّهم يميلون إلى الفلسفة والتصوّف ، وأيم اللّه أنّهم من أهل العدوان والتحرّف ، يبالغون في حبّ مخالفينا ، ويضلّون شيعتنا وموالينا ، فإن نالوا منصبا لم يشبعوا من الرشاء ، وإن خذلوا عبدوا اللّه على الرياء ، ألا إنّهم قطّاع طريق المؤمنين ، والدعاة إلى نحلة الملحدين ، فمن أدركهم فليحذر ، وليصن نفسه وإيمانه ».

ثمّ قال علیه السلام : « يا أبا هاشم! هذا ما حدّثني أبي عن آبائه علیهم السلام عن جعفر بن محمّد علیه السلام وهو من أسرارنا ، فاكتمه إلاّ عن أهله » (2).

وعن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب أنّه قال : كنت مع الهادي عليّ بن محمّد علیهماالسلام في مسجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأتاه جماعة من أصحابه علیه السلام منهم أبو هاشم الجعفريّ ، وكان رجلا بليغا ، وكان له منزلة عظيمة عنده علیه السلام ، ثمّ دخل المسجد جماعة من الصوفيّة ، وجلسوا في جانبه مستديرا ، وأخذوا بالتهليل ، فقال علیه السلام : « لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين ؛ فإنّهم خلفاء الشياطين ، ومخرّبو قواعد الدين ، يتزهّدون لإراحة الأجسام ، ويتهجّدون لصيد الأنعام ، يتجوّعون عمرا حتّى يدبّحوا (3) للإيكاف (4) حمرا ، لا يهلّلون إلاّ لغرور الناس ، ولا يقلّلون الغذاء إلا لملء العساس (5) ، واختلاس قلب الدفناس (6) ، يكلّمون الناس بإملائهم في الحبّ ،

ص: 347


1- في هامش « ز » : « الظاهر الصحيح : الضأن من الذئب ».
2- « حديقة الشيعة » : 562.
3- يدبّحوا - بالدال المهملة ، والباء الموحّدة ، والحاء المهملة - من دبّح تدبيحا بمعنى قتب ظهره وطأطأ رأسه ، كما عن القاموس منه راجع مادّة ( د. ب. ح ) وفيه : « بسط » بدل « قتب ».
4- والإيكاف مصدر آكف الحمار أي شدّ عليه الإكاف وهو بالفارسيّة پالان خر. منه رحمه اللّه .
5- والعساس - بكسر المهملة - ككتاب : الأقداح. منه رحمه اللّه . وهو جمع العسّ بمعنى القدح.
6- والدفناس : البخيل ، والأحمق الدنيء. منه رحمه اللّه .

ويطرحونهم باذليلائهم (1) في الجبّ ، أورادهم الرقص والتصدية ، وأذكارهم الترنّم والتغنية ، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء ، ولا يعتقدهم إلاّ الحمقاء ، فمن ذهب إلى زيارة أحد منهم حيّا أو ميّتا فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبدة الأوثان ، ومن أعان أحدا منهم فكأنّما أعان يزيد ومعاوية وأبا سفيان ».

قال رجل من أصحابه علیه السلام : وإن كان معترفا بحقوقكم؟ قال : فنظر إليه شبه المغضب ، وقال علیه السلام : « صحّ كلامك ، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا ، أما تدري أنّهم أخسّ الطوائف الصوفيّة ، والصوفيّة كلّهم مخالفونا ، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا ، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الأمّة ، أولئك الذين يجهدون في إطفاء نور اللّه ، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون » (2).

وعن الرضا علیه السلام أنّه قال : « لا يقول بالتصوّف أحد إلاّ لخدعة ، أو ضلالة ، أو حماقة ؛ وأمّا من سمّى نفسه صوفيّا للتقيّة ، فلا إثم عليه » (3).

وزيد في الآخر « وعلامته أن يكتفي بالتسمية ، ولا يقول بشيء من عقائدهم الباطلة » (4).

إلى غير ذلك من الأدلّة الدالّة على فساد تلك العقائد وضلالة أهلها ممّن أشرنا إليهم أو غيرهم ممّن ذكر في حديقة الشيعة (5).

لا يقال : إنّ المريض الظاهري كما أنّه يحتاج في علاج مرضه إلى الطبيب الظاهر الذي يضع يده الظاهرة على نبضه الظاهر حتّى يعيّن مرضه الظاهر ، ويعالجه بالعلاج الظاهر ، كذلك المريض الباطنيّ يحتاج إلى الطبيب الباطنيّ الذي يضع يده الباطنة

ص: 348


1- والاذليلاء : الانطلاق في استخفاء. منه رحمه اللّه . وهو مصدر اذلولى من ذلي.
2- حديقة الشيعة : 602 نقلا عن ابن حمزة والسيّد مرتضى.
3- « حديقة الشيعة » : 605.
4- نفس المصدر.
5- نفس المصدر : 562 - 606.

على نبضه الباطنيّ حتّى يعيّن مرضه الباطنيّ ، ويعالجه بالعلاج الباطنيّ وهو العارف الإلهيّ ، فأهل العرفان محبوبون غير مبغوضين.

لأنّا نقول : إنّ اللّه قد بعث الحكيم الإلهي ، المظهر للأوامر والنواهي ، المتمّم لمكارم الأخلاق ، الطبيب لأهل الآفاق ، الرسول على الإطلاق ، فمن أراد السلوك إلى الحقّ ، يتبعه وأوصياءه وأمناءه ، ولكم في رسول اللّه أسوة حسنة وهم أطبّاء إلهيّون ، وحكماء ربّانيّون إيمانيّون ، وأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه ، ومرجعهم أهل الضلال والحكماء اليونانيّون. ونعم ما قال :

آنچه مى گويند أصحاب ضلال *** تار او وهمست وپود آن خيال

كما لا يخفى ذلك على أهل الإنصاف والعدل.

ويظهر ممّا ذكرنا أيضا ما ذكر في « الأسفار » حيث قال :

« اعلم أنّ مذهب الصوفيّة أنّ ذاته تعالى من حيث وجوده وهويّته مع قطع النظر عن الصفات والتعيّنات والمفهومات - حتّى مفهوم الذات والوجود والهويّة - مرتبة جمع الجمع ، وباعتبارها مرتبة الجمع ومقام الفرق ؛ إذ في هذه المرتبة تتميّز الصفة عن الذات وتتميّز الصفات بعضها عن بعض ، فيتميّز العلم عن القدرة وهي عن الإرادة ، فتتكثّر الصفات وبتكثّرها تتكثّر الأسماء وتتكثّر مظاهرها ، وإذا نزلت الحقائق من هذا العالم إلى مرتبة الصور النفسانيّة صارت إلى مقام فرق الفرق ، والحقائق المتأصّلة - كالإنسان وغيره من الأنواع - لكلّ منها أنحاء من الكون ، ودرجات ومقامات في الوجود ، ونشئات في الكمال ، كلّ ما هو أرفع وأشرف كان الوجود فيه أقدم ، ووحدته أقوى وإحاطته بما سواه أكثر ، وجمعيّته أشدّ ، ونوريّته أظهر ، وآثاره أوفر ، حتّى يبلغ إلى مقام يزول عنه النقائص كلّها حتّى الإمكان ، ففي هذا المقام وقع التصالح بين المتفاسدات ، والتعانق بين المتضادّات ، والتأحّد بين الكثرات ، فكانت موجودة بوجود واحد ، معلومة بعلم واحد ، كما عبّر عن هذا المقام لسان الرسول الختمي علیه السلام : لي مع اللّه وقت

ص: 349

لا يسعني فيه ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل (1). إنّما قال : وقت ، ولم يقل : مقام ؛ للفرق بين مرتبة الرسالة ومرتبة الولاية ؛ لأنّ دعوى الرسالة لا تلائم دعوى المقام هناك ، وإنّما تلائم دعوى الوقتيّة » (2).

[ التذنيب ] الثاني : أنّه قد روى في « الكافي » في كتاب التوحيد في باب حدوث العالم وإثبات المحدث عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه 7 أنّه 7 قال للزنديق : « ما اسمك؟ » فقال : اسمي عبد الملك. قال : « فما كنيتك؟ » فقال : كنيتي أبو عبد اللّه.

فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : « فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض ، أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء ، أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت تخصم ».

إلى أن قال علیه السلام : « أتعلم أنّ للأرض تحتا وفوقا؟ » قال : نعم قال علیه السلام : « فدخلت تحتها؟ » قال : لا. قال : « فما يدريك ما تحتها؟ » قال : لا أدري إلاّ أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « فالظنّ عجز لما لا يستيقن » (3).

ثمّ قال : « أفصعدت السماء؟ » قال : لا. قال : « فتدري ما فيها؟ » قال : لا.

قال علیه السلام : « عجبا لك لم تبلغ المشرق ، ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل الأرض ، ولم تصعد السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ وأنت جاحد بما فيهنّ وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟ ».

ص: 350


1- « بحار الأنوار » 18 : 36 ، ذيل ح 66 ؛ « كشف الحقائق » : 166 ؛ « شرح منازل السائرين » لعبد الرزّاق الكاشانيّ : 320 ؛ « لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام » : 156 ؛ « شرح فصوص الحكم » للقيصريّ 1 : 135 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 368 ، 8 : 349 و 9 : 85.
2- « الأسفار الأربعة » 6 : 284 - 285.
3- في « الكافي » : « لما لا تستيقن » وفي « التوحيد » : « ما لم تستيقن ».

قال الزنديق : ما كلّمني بهذا أحد غيرك ، فقال علیه السلام : « فأنت من ذلك في شكّ ، فلعلّه هو ، ولعلّه ليس هو » فقال الزنديق : ولعلّ ذلك ، فقال علیه السلام : « أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر! تفهّم عنّي ؛ فإنّا لا نشكّ في اللّه أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا ، فلم يرجعان؟ فإن كانا غير مضطرّين ، فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا - واللّه - يا أخا أهل مصر! إلى دوامهما ، والذي اضطرّهما أحكم منهما وأكبر » فقال الزنديق : صدقت.

ثمّ قال علیه السلام : « يا أخا أهل مصر إنّ الذي تذهبون إليه وتظنّون أنّه الدهر ، إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر! لم السماء مرفوعة ، والأرض موضوعة؟ لم لا تسقط السماء على الأرض؟ ولم لا تنحدر الأرض فوق أطباقها ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ » قال الزنديق : أمسكهما اللّه ربّهما وسيّدهما. قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه (1).

وأيضا فيه في رواية أخرى ، قال الصادق علیه السلام لابن أبي العوجاء ، فقال علیه السلام : « فإن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء - وهو على ما يقولون ، يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم ، وإن يكن الأمر على ما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استويتم وهم ».

قال ابن أبي العوجاء : فقلت له : يرحمك اللّه وأيّ شيء تقول؟ وأيّ شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلاّ واحد.

فقال علیه السلام : « وكيف يكون قولك وقولهم واحدا وهم يقولون : إنّ لهم معادا وثوابا

ص: 351


1- « الكافي » 1 : 72 - 74 باب حدوث العالم ... ح 1 ؛ « التوحيد » :1. 295 باب إثبات حدوث العالم ، ح 4.

وعقابا ، ويدينون بأنّ في السماء إلها ، وأنّها عمران ، وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد؟ » قال : فاغتنمتها منه ، فقلت له : ما منعه - إن كان الأمر كما يقولون - أن يظهر لخلقه ، ويدعوهم إلى عبادته حتّى لا يختلف منهم اثنان؟ ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه ، لكان أقرب إلى الإيمان به.

قال : فقال لي : « ويلك ، وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك : نشوءك ولم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقوّتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوّتك ، وسقمك بعد صحّتك ، وصحّتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد حزنك ، وحبّك بعد بغضك ، وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد أناتك ، وأناتك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك ، وكراهتك بعد شهوتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورجاءك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك بما لم يكن في وهمك ، وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك » ما زال يعدّد عليّ قدرته - التي هي في نفسي ، التي لا أدفعها - حتّى ظننت أنّه سيظهر فيما بيني وبينه (1).

وأيضا عنه علیه السلام في جواب سؤال عبد اللّه الديصانيّ عن هشام بن الحكم من أنّ اللّه يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا يكبر البيضة ولا تصغر الدنيا بعد سؤال هشام عنه علیه السلام أنّه علیه السلام قال : « يا هشام! كم حواسّك؟ » قال : خمس. قال علیه السلام : « أيّها أصغر؟ » قال : الناظر.

قال : « وكم قدر الناظر؟ » قال : مثل العدسة أو أقلّ منه ، فقال علیه السلام له : « يا هشام! فانظر أمامك وفوقك ، وأخبرني بما ترى ».

فقال : أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا ، فقال له أبو عبد اللّه - علیه السلام - : « إنّ الذي يقدر أن يدخل الذي تراه العدسة ، أو أقلّ منها

ص: 352


1- « الكافي » 1 : 75 - 76 باب حدوث العالم ... ح 2 ؛ « التوحيد » :1. 127 باب القدرة ، ح 4.

قادر على أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا يصغر الدنيا ولا يكبر البيضة » فأكبّ هشام عليه ، وقبّل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي ، فانصرف إلى منزله. وساق الحديث إلى أن قال الديصانيّ : يا جعفر بن محمّد! دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي ، فقال له علیه السلام : « اجلس » وإذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال له علیه السلام : « ناولني يا غلام البيضة » فناوله إيّاها ، فقال علیه السلام : « يا ديصانيّ! هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منه خارج مصلح ، فيخبر عن صلاحها ، ولا دخل فيها مفسد ، فيخبر عن فسادها ، ولا يدرى أللذكر خلقت أم للأنثى تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبّرا؟ » وقال : فأطرق مليّا ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه (1). إلى آخره.

وأيضا عن أبي سعيد الزهريّ ، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال علیه السلام : « كفى لأولي الألباب بخلق الربّ المسخّر ، وملك الربّ القاهر ، وجلال الربّ الظاهر ، ونور الربّ الباهر ، وبرهان الربّ الصادق ، وما أنطق به ألسن العباد ، وما أرسل به الرسل ، وما أنزل على العباد دليلا على الربّ عزّ وجلّ » (2).

وفي باب إطلاق القول بأنّه شيء عن أبي نجران ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن التوحيد ، فقلت : أتوهّم شيئا؟ فقال : « نعم ، غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ، ولا تدركه الأوهام ، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصوّر في الأوهام؟! إنّما يتوهّم شيء غير معقول ولا محدود » (3).

ص: 353


1- « الكافي » 1 : 79 - 80 باب حدوث العالم ... ح 4 ؛ « التوحيد » :1. 124 باب القدرة ، ح 1.
2- « الكافي » 1 : 82 باب حدوث العالم ... ح 6.
3- « الكافي » 1 : 82 باب إطلاق القول بأنّه شيء ، ح 1 ؛ « التوحيد » : 106 باب أنّه تبارك وتعالى شيء ، ح 6.

[ و ] عن الحسين بن سعيد ، قال : سئل أبو جعفر الثاني علیه السلام : يجوز أن يقال لله : إنّه شيء؟ قال : « نعم ، يخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه » (1).

وأيضا عن أبي المغراء رفعه عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : قال : « إنّ اللّه خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه ، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء ، فهو مخلوق ما خلا اللّه » (2).

وفي باب أنّه لا يعرف إلاّ به عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام : اعرفوا اللّه باللّه ، والرسول بالرسالة ، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان » (3).

ومعنى قوله علیه السلام : « اعرفوا اللّه باللّه » يعني أنّ اللّه خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان ، فالأعيان : الأبدان ، والجواهر : الأرواح ، وهو جلّ وعزّ لا يشبه جسما ولا روحا ، وليس لأحد في خلق الروح الحسّاس الدرّاك أمر ولا سبب ، هو المتفرّد بخلق الأرواح والأجسام ، فإذا نفى عنه الشبهين : شبه الأبدان ، وشبه الأرواح ، فقد عرف اللّه باللّه ، وإذا شبّهه بالروح أو البدن أو النور ، فلم يعرف اللّه باللّه (4).

[ و ] عن عليّ بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : سئل أمير المؤمنين علیه السلام : بم عرفت ربّك؟ قال : « بما عرّفني نفسه ».

قيل : وكيف عرّفك نفسه؟

قال : « لا يشبهه صورة ، ولا يحسّ بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس ، قريب في بعده ، بعيد في قربه ، فوق كلّ شيء ، ولا يقال : شيء فوقه ، أمام كلّ شيء ، ولا يقال : له أمام ، داخل في الأشياء لا كشيء داخل في شيء ، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج

ص: 354


1- « الكافي » 1 : 82 ، ح 2 ؛ « التوحيد » : 107 ، ح 7.
2- « الكافي » 1 : 82 ، ح 3 ؛ « التوحيد » : 106 ، ح 5.
3- « الكافي » 1 : 85 باب أنّه لا يعرف إلاّ به ، ح 1 ؛ « التوحيد » ، 286 باب أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ به ، ح 3.
4- من قوله : « معنى قوله ... » إلى هنا كلام الكلينيّ رحمه اللّه .

من شيء ، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ، ولكلّ شيء مبتدأ » (1).

وأيضا عن إبراهيم بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « إنّ أمر اللّه كلّه عجيب إلاّ أنّه قد احتجّ عليكم بما عرّفكم من نفسه » (2).

وفي باب المعبود : عن غير واحد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « من عبد اللّه بالتوهّم ، فقد كفر ؛ ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ؛ ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ؛ ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرّه وعلانيته ، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّا » (3). وفي حديث آخر « هم المؤمنون حقّا » (4).

وأيضا : عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتقّ؟ قال : فقال لي : « يا هشام اللّه مشتقّ من أله ، والإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ؛ ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ؛ ومن عبد المعنى دون الاسم ، فذاك التوحيد ؛ أفهمت يا هشام!؟ ».

قال : فقلت : زدني.

فقال : « إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى ، لكان لكلّ اسم منها إلها ، ولكنّ اللّه معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره ، يا هشام! الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ، أفهمت يا هشام! فهما تدفع به وتناظر به أعداءنا والملحدين مع اللّه جلّ وعزّ غيره؟ ».

قلت : نعم قال : فقال : « نفعك اللّه به وثبّتك يا هشام! » فقال هشام : فو اللّه ما قهرني

ص: 355


1- « الكافي » 1 : 85 - 86 باب أنّه لا يعرف إلاّ به ، ح 2.
2- نفس المصدر : 86 باب أدنى المعرفة ، ح 3.
3- نفس المصدر : 87 باب المعبود ، ح 1.
4- نفس المصدر.

أحد في التوحيد حتّى قمت مقامي هذا (1) :

وفي باب الكون والمكان : عن أبي بصير ، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر علیه السلام ، فقال له : أخبرني عن ربّك متى كان؟ فقال : « ويلك ؛ إنّما يقال لشيء لم يكن : متى كان ، إنّ ربّي - تبارك وتعالى - كان ولم يزل حيّا بلا كيف ، ولم يكن له « كان » ولا كان لكونه « كون » كيف؟ (2) ولا كان له أين ، ولا كان في شيء ، ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا كان ضعيفا قبل أن يكوّن شيئا ، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا ، ولا يشبه شيئا مذكورا ، ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه ، لم يزل حيّا بلا حياة ، وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا ، وملكا جبّارا بعد إنشائه للكون ، فليس لكونه كيف ، ولا له أين ، ولا له حدّ ، ولا يعرف بشيء يشبهه ، ولا يهرم لطول البقاء ، ولا يصعق لشيء ، بل لخوفه تصعق الأشياء كلّها ، كان حيّا بلا حياة حادثة ، ولا كون موصوف ، ولا حدّ محدود ، ولا أين موقوف عليه ، ولا مكان جاور شيئا ، بل حيّ يعرف ، وملك لم يزل له القدرة والملك ، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته ، لا يحدّ ، ولا يبعّض ، ولا يفنى ، كان أوّلا بلا كيف ، ويكون آخرا بلا أين ، وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الخلق والأمر تبارك اللّه ربّ العالمين » (3).

وعن الرضا علیه السلام أنّه علیه السلام قال - بعد سؤال رجل من ما وراء نهر بلخ : أخبرني عن ربّك متى كان؟ وكيف كان؟ وعلى أيّ شيء كان اعتماده؟ - : « إنّ اللّه تبارك وتعالى أيّن الأين بلا أين ، وكيّف الكيف بلا كيف ، وكان اعتماده على قدرته » (4).

ص: 356


1- « الكافي » 1 : 114 باب معاني الأسماء ، ح 2 ؛ « التوحيد » : 220 - 221 باب أسماء اللّه تعالى ، ح 13.
2- في « التوحيد » : « ولا كان لكونه كيف ».
3- « الكافي » 1 : 88 - 89 باب الكون والمكان ، ح 3 ؛ « التوحيد » : 173 - 174 باب نفي المكان والزمان والسكون ... ح 2.
4- « الكافي » 1 : 88 باب الكون والمكان ، ح 2.

[ و ] عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال : متى كان ربّك؟ فقال : ثكلتك أمّك ، متى لم يكن حتّى يقال : متى كان ، كان ربّي قبل القبل بلا قبل ، وبعد البعد بلا بعد ، ولا غاية ولا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنده ، فهو منتهى كلّ غاية » (1).

وفي باب النسبة عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « إنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقالوا : انسب لنا ربّك ، فلبث ثلاثا لا يجيبهم ، ثمّ نزلت ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) » (2).

[ و ] عن عاصم بن حميد ، قال : قال : سئل عليّ بن الحسين علیه السلام عن التوحيد ، فقال : « إنّ اللّه - عزّ وجلّ - علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل اللّه تعالى ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) والآيات من سورة الحديد - إلى أن قال - فمن رام وراء ذلك ، فقد هلك » (3).

وفي باب النهي عن الكلام في الكيفيّة : عن أبي بصير ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « تكلّموا في خلق اللّه ، ولا تتكلّموا في اللّه ؛ فإنّ الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّرا » (4).

وفي رواية أخرى : عن حريز : « تكلّموا في كلّ شيء ، ولا تتكلّموا في ذات اللّه » (5).

[ و ] عن أبي عبيدة الحذّاء ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « يا زياد! إيّاك والخصومات ؛ فإنّها تورث الشكّ ، وتحبط العمل ، وتردي صاحبها ، وعسى أن يتكلّم بالشيء

ص: 357


1- « الكافي » 1 : 89 - 90 باب الكون والمكان.
2- نفس المصدر : 91 باب النسبة ، ح 1.
3- « الكافي » 1 : 91 باب النسبة ، ح 3 ؛ « التوحيد » : 283 - 284 باب أدنى ما يجزي من معرفة التوحيد ، ح 2.
4- « الكافي » 1 : 92 باب النسبة ، ح 1 ؛ « التوحيد » : 454 باب النهي عن الكلام والجدال ... ح 1.
5- « الكافي » 1 : 92 باب النهي عن الكلام ، ح 1.

فلا يغفر له ؛ إنّه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكّلوا به ، فطلبوا علم ما كفوه حتّى انتهى كلامهم إلى اللّه ، فتحيّروا حتّى أن كان الرجل ليدعى من بين يديه ، فيجيب من خلفه ، ويدعى من خلفه ، فيجيب من بين يديه » (1).

وفي رواية أخرى : « حتّى تا هوا في الأرض » (2).

[ و ] محمّد بن أبي عبد اللّه رفعه ، قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « يا بن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطّاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض ، إن كنت صادقا فهذه الشمس خلق من خلق اللّه ، فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول » (3).

وفي باب إبطال الرؤية : عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن الرضا علیه السلام ، فاستأذنته في ذلك ، فأذن لي ، فدخل عليه ، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتّى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا روّينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين ، فقسم الكلام لموسى ، ولمحمّد صلی اللّه علیه و آله الرؤية ، فقال أبو الحسن علیه السلام : « فمن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين من الجنّ والإنس؟ لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شيء ، أليس محمّد صلی اللّه علیه و آله قال : بلى؟ قال : كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا ، فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه ، وأنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه ، فيقول : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (4) و ( لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (5) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (6) ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر؟!

ص: 358


1- نفس المصدر ، ح 4.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر : 93 ، ح 8.
4- الأنعام (6) : 103.
5- طه (20) : 110.
6- الشورى (42) : 11.

أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا [ إلاّ ] (1) أن يكون يأتي من عند اللّه بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر ».

قال أبو قرّة : فإنّه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) (2) فقال أبو الحسن علیه السلام : « إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى ؛ حيث قال : ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (3) يقول : ما كذب فؤاد محمّد صلی اللّه علیه و آله ما رأت عيناه ، ثمّ أخبر بما رأى ، فقال : ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (4) فآيات اللّه غير اللّه وقد قال اللّه : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة » فقال أبو قرّة : فتكذّب بالروايات؟ فقال أبو الحسن علیه السلام : « إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها. وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علما ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء » (5).

[ و ] عن محمّد بن عبيد ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا علیه السلام أسأله عن الرؤية وما ترويه العامّة والخاصّة ، وسألته أن يشرح لي ذلك ، فكتب بخطّه : « اتّفق الجميع - لا تمانع بينهم - أنّ المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يرى اللّه بالعين وقعت المعرفة ضرورة ، ثمّ لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان.

فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا ، فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان ؛ لأنّها جنده ، فلا يكون في الدنيا مؤمن ؛ لأنّهم لم يروا اللّه عزّ ذكره.

وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا ، لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول أو لا تزول في المعاد ، فهذا دليل على أنّ اللّه - عزّ ذكره -

ص: 359


1- ليست في المصدر.
2- النجم (53) : 13.
3- النجم (53) : 11.
4- النجم (53) : 18.
5- « الكافي » 1 : 95 - 96 باب في إبطال الرؤية ، ح 2.

لا يرى بالعين ؛ إذ العين تؤدّي إلى ما وصفناه » (1).

[ و ] عن هشام بن الحكم ، قال : « الأشياء لا تدرك إلاّ بأمرين : بالحواسّ ، والقلب. والحواسّ إدراكها على ثلاثة معان : إدراك بالمداخلة ، وإدراك بالمماسّة ، وإدراك بلا مداخلة ولا مماسّة.

فأمّا الإدراك الذي بالمداخلة ، فالأصوات والمشامّ والطعوم.

وأمّا الإدراك بالمماسّة ، فمعرفة الأشكال من التثليث والتربيع ، ومعرفة الليّن والخشن والحرّ والبرد.

وأمّا الإدراك بلا مماسّة ولا مداخلة ، فالبصر ؛ فإنّه يدرك الأشياء بلا مماسّة ولا مداخلة في حيّز غيره ، ولا في حيّزه.

وإدراك البصر ، له سبيل وسبب ، فسبيله الهواء ، وسببه الضياء ، فإذا كان السبيل متّصلا بينه وبين المرئيّ والسبب قائم ، أدرك ما يلاقي من الأكوان والأشخاص ، فإذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه ، رجع راجعا ، فحكى ما وراءه كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة ، فإذا لم يكن له سبيل ، رجع راجعا يحكي ما وراءه ، وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع راجعا ، فيحكي ما وراءه ؛ إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره.

فأمّا القلب ، فإنّما سلطانه على الهواء ، فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهّمه ، فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا ، رجع راجعا ، فحكى ما هو في الهواء ، فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد جلّ اللّه وعزّ ؛ فإنّه إن فعل ذلك ، لم يتوهّم إلاّ ما في الهواء موجود كما قلنا في أمر البصر تعالى اللّه أن يشبهه خلقه (2).

ص: 360


1- « الكافي » 1 : 96 - 97 باب في إبطال الرؤية ، ح 3 ؛ « التوحيد » : 109 - 110 باب ما جاء في الرؤية ، ح 8.
2- « الكافي » 1 : 99 - 100 باب إبطال الرؤية ، ح 12.

وفي باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى : عن محمّد بن حكم (1) ، قال : كتب أبو الحسن موسى بن جعفر علیهماالسلام إلى أبي : « إنّ اللّه أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك » (2).

وأيضا عنه علیه السلام : « لا تجاوز ما في القرآن » (3).

وفي باب النهي عن الجسم والصورة : عن عليّ بن حمزة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أنّ اللّه تعالى جسم ، صمديّ ، نوريّ ، معرفته ضرورة يمنّ بها على من يشاء من خلقه؟ فقال علیه السلام : « سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، لا يحدّ ، ولا يحسّ ، ولا يجسّ ، ولا يدركه الحواسّ ، ولا يحيط به شيء ، ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد » (4).

[ و ] عن حمزة بن محمّد ، قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام : أسأله عن الجسم والصورة ، فكتب : « سبحان من ليس كمثله شيء ، لا جسم ولا صورة » (5).

[ و ] عليّ بن محمّد رفعه عن محمّد بن الفرج الرخجي ، قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام : أسأله عمّا قال هشام بن الحكم في الجسم ، وهشام بن سالم في الصورة ، فكتب : « دع عنك حيرة الحيران ، واستعذ باللّه من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان » (6).

وفي حدوث الأسماء : عن إبراهيم بن عمر ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « إنّ اللّه

ص: 361


1- في المصدر : « حكيم ».
2- « الكافي » 1 : 102 باب إبطال الرؤية ، ح 6.
3- نفس المصدر ، ح 7.
4- نفس المصدر ، باب النهي عن الجسم والصورة ، ح 1.
5- نفس المصدر : 104 ، ح 3.
6- نفس المصدر ، ح 2.

تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفيّ عنه الأفكار (1) ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء ؛ لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون ، فهذه الأسماء ؛ التي ظهرت ، فالظاهر هو اللّه تبارك وتعالى ، وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان ، فذلك اثنا عشر ركنا ، ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو : الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الحيّ ، القيّوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، العليم ، الخبير ، السميع ، البصير ، الحكيم ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، العليّ العظيم ، المصوّر ، القادر ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، البارئ ، المنشئ ، البديع ، الرفيع ، الجليل ، الكريم ، الرازق ، المحيي ، المميت ، الباعث ، الوارث ، فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتمّ ثلاثمائة وستّين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهذه الأسماء الثلاثة أركان ، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) » (2) و (3).

وفي باب صفات الذات : عن الكاهلي ، قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام : في دعاء « الحمد لله منتهى علمه »؟ فكتب إليّ : « لا تقولنّ منتهى علمه ؛ فليس لعلمه منتهى ، ولكن قل منتهى رضاه » (4).

وفي باب المشيئة والإرادة : عن حريز بن عبد اللّه وعبد اللّه بن مسكان جميعا ،

ص: 362


1- في « الكافي » و « التوحيد » : « الأقطار ».
2- الإسراء (17) : 110.
3- « الكافي » 1 : 112 باب حدوث الأسماء ، ح 1.
4- « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات ، ح 3 ؛ « التوحيد » : 134 باب العلم ، ح 1.

عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة فقد كفر » (1).

[ و ] عن عليّ بن إبراهيم الهاشميّ ، قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر علیهماالسلام يقول : « لا يكون شيء إلاّ ما شاء اللّه وأراد وقدّر وقضى ».

قلت : ما معنى « شاء »؟ قال : « ابتداء الفعل » قلت : ما معنى « قدّر »؟ قال : « تقدير الشيء من طوله وعرضه ».

قلت : ما معنى « قضى »؟ قال : « فإذا قضى أمضاه ، فذلك الذي لا مردّ له » (2).

[ و ] عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : سمعته يقول : « أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر ، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ ، لم يأكل » (3).

[ و ] عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ عن أبي الحسن علیه السلام ، قال : « إنّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم ، وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك؟ ولو لم يشأ أن يأكلا ، لما غلبت مشيئتها مشيئة اللّه.

وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم علیه السلام مشيئة اللّه » (4).

وفي باب الخير والشرّ : عن عبد المؤمن الأنصاريّ ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « قال اللّه عزّ وجلّ : أنا اللّه لا إله إلاّ أنا ، خالق الخير والشرّ ، فطوبى لمن أجريت

ص: 363


1- « الكافي » 1 : 149 باب أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة ، ح 1.
2- نفس المصدر : 150 باب المشيئة والإرادة ، ح 1.
3- نفس المصدر : 150 - 151 ، ح 3.
4- « الكافي » 1 : 151 باب المشيئة والإرادة ، ح 4.

على يديه الخير ، وويل لمن أجريت على يديه الشرّ ، وويل لمن يقول : كيف ذا ، وكيف هذا؟ » (1).

[ و ] عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « من زعم أنّ اللّه يأمر بالفحشاء فقد كذب على اللّه ؛ ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على اللّه » (2).

[ و ] عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ، قال : سألته ، فقلت : اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : « اللّه أعزّ من ذلك » قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : « اللّه أعدل [ من ذلك ] (3) وأحكم من ذلك » قال : « ثمّ قال اللّه عزّ وجلّ : يا ابن آدم! أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي (4) التي جعلتها فيك » (5).

ص: 364


1- نفس المصدر ، ح 3.
2- نفس المصدر : 156 - 157 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 2.
3- الظاهر زيادة هذه العبارة من قلم الناسخ.
4- في « أ » و « ز » : « بقوّتك ».
5- « الكافي » 1 : 157 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 3.

( الفصل الثالث ) في العدل

اشارة

الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات ( في أفعاله تعالى ) كما أنّ التوحيد كماله تعالى في ذاته تعالى ، وهو بحسب المعنى التصوّري عبارة عن إيجاد الأفعال على وجه الاعتدال ، والتوسّط بين الإفراط والتفريط ، وبحسب المعنى التصديقيّ عبارة عمّا يجب تصديقه بالجنان وإقراره باللسان ، وهو أنّ اللّه تعالى عادل ، وفي جميع أفعاله كامل ، وعن الظلم هو المنزّه والمبرّأ ، وعن القبح والشرور هو المجرّد والمعرّى ، وجميع أفعاله حسنة ، وبالغرض والفائدة العائدة إلى العباد معلّلة ، وأفعاله مترتّبة على اللطف على وفق المصلحة ، وقد خلق العباد مع القدرة والاختيار من غير تفويض وإجبار.

والمراد وجوب اعتقاد كون الواجب الوجود متّصفا بفعل جميل مليح ، ومنزّها عن الظلم والفعل القبيح ، ووجوب الاعتقاد بأنّ أفعاله المتعلّقة بالعباد متّصفة بالكمال ، وتكون على حدّ التساوي والاعتدال ، وليس فيها شائبة الظلم والقبح والشر والمفسدة ، بل كلّها مع الحسن والمصلحة والفائدة ، التي هي إلى العباد عائدة ، وأنّ التكليف على قدر الطاقة ، واستحقاق الثواب على قدر الطاعة ، والعقاب على قدر المعصية ؛ لأنّه منزّه عن الظلم والحاجة ، مع إمكان العفو بنحو الشفاعة ، وأنّه تعالى خلقهم مع الاختيار ، فإن أطاعوا فباختيارهم بحيث لو شاءوا عصوا ،

ص: 365

فلمّا اختاروا الطاعة ، أجرى عليها لازمها وهو استحقاق الثواب ، وإن عصوا فباختيارهم بحيث لو شاءوا أطاعوا ، ولمّا اختاروا المعصية أجرى عليها لازمها ، وهو استحقاق العقاب مع جواز العفو ، وليس الأمر على وجه التفويض بأن لم يكن له أمر في أفعالهم حتّى يكون معزولا عن سلطانه ، ولا على وجه الإجبار بأن لم يكن للعبد دخل فيها ، وإلاّ لما كان لبعث الرسل وإنزال الكتب معنى ، ولما استحق ثوابا ولا عقابا ، ولكان العقاب ظلما ، بل الإقدار من اللّه بأن خلقهم قادرين على الفعل والترك ، فهو العلّة البعيدة ، والمباشرة من العبد ، فهو العلّة القريبة ، فليس العلّيّة منحصرة فيه تعالى كما يقوله أهل الإفراط وهم الأشاعرة (1) ، ولا منحصرة في العبد كما يقوله أهل التفريط وهم المعتزلة (2) ، بل الأمر بين الأمرين ، والعلّة مركّبة اعتباريّة حاصلة في البين كما هو المذهب الجعفريّ (3) ، كما روي عن مولانا جعفر بن محمّد علیهماالسلام : « لا جبر ولا تفويض بل الأمر بين الأمرين » (4) بمعنى أنّ المجموع المركّب من فعل اللّه تعالى التكوينيّ - بإيجاد العبد وإحيائه وإعطاء الأسباب كالقدرة ونحوها وإبقائها - ومن فعل العبد - بالمباشرة ونحوها من باب الجعل للمصلحة - علّة لحصول الفعل الاختياريّ للعبد وإن كانت الإرادة التكليفيّة على خلاف الإرادة التكوينيّة ، فالتركيب اعتباريّ في مقام الفعل ، لا في مقام الذات حتّى يلزم نحو الوحدة أو الاتّحاد ، ولا يلزم أيضا تعذيب أحد الشريكين للآخر ؛ لعدم التركيب في مقام المباشرة مع أنّ اعتباره بملاحظة مقام التكوين ، والتعذيب باعتبار التكليف المستند إلى اختيار العبد ومباشرته له.

ص: 366


1- « المطالب العالية » 9 : 9 وما بعدها ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 319 ؛ « المحصّل » : 455 - 474 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 324 ؛ « شرح المواقف » 8 : 145 - 173 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 219 وما بعدها.
2- نفس المصادر السابقة.
3- « نقد المحصّل » : 333 ؛ « مناهج اليقين » : 235 - 243 ؛ « كشف المراد » : 308 - 313 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 155 - 160 ؛ « إرشاد الطالبين » : 263.
4- « الكافي » 1 : 160 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 13.

فإن قلت : قد حقّق أنّ الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أنّ صفات الذات ما لا يصحّ إثباته ونفيه عن ذاته تعالى ولو بالاعتبار ، بخلاف صفات الفعل ، وعلى هذا فلا يصحّ جعل العدل من كمال الأفعال ؛ لعدم صحّة نفيه ، لاستحالة وقوع الظلم.

قلت : يصحّ نفي العدل بإثبات الفضل الذي هو موقوف على الاستعداد من غير استحقاق معتبر في العدل ، فتوهّم أنّ التقابل بين العدل والظلم تقابل العدم والملكة فاسد ، مخالف للوجدان والشرع.

فإن قلت : الجور لازم للجبر ، فلا فائدة في الفرق.

قلت : الجور الاعتقاديّ مستلزم للكفر في مقابل الإسلام ، بخلاف الجور الاستلزاميّ ؛ فإنّه مستلزم للكفر في مقابل الإيمان - الموجب للخلود للنيران (1) - لا الكفر المقابل للإسلام.

وبالجملة ، فأفعال اللّه تعالى على أقسام خمسة : منها الإنشاء والاختراع ، ومنها الإبداع ، ومنها الصنع ، ومنها التركيب والتكوين ، ومنها التكليف ، وقد مرّ بيان ذلك في الأمور العامّة في المسألة التاسعة والثلاثين من مسائل الوجود ، فالكلام في هذا الأصل أيضا يقع في مقامات خمسة نذكرها على وفق ما أشار إليه المصنّف :

الأوّل : أنّ اللّه تعالى عادل بالعدل الذي هو مقابل الجور ، وأنّه تعالى منزّه عن الظلم والقبح والشرور ؛ وهو من أصول الدين ، ومنكره من الكافرين.

الثاني : أنّ جميع أفعاله تعالى حتّى التكليف حسنة بالحسن العقليّ الأصليّ أو العارضيّ - ولو لم يدركه العقل إلاّ بإرشاد النقل - كما يستفاد من العقل والنقل لا أنّ ما يفعله أو يأمر به يصير حسنا ، وما لا يكون كذلك يصير قبيحا ؛ وهو من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة (2).

ص: 367


1- كذا في النسخ ، والأصحّ : « إلى النيران ».
2- حيث نفوا الحسن العقلي. انظر « المحصّل » :2. 481 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 346 - 349 ؛ « شرح المواقف » 8 : 181 - 195 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 282 - 294.

الثالث : أنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض والفائدة العائدة إلى العباد ؛ وهو أيضا من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة (1).

الرابع : أنّ اللّه تعالى خلق العباد على وجه الاعتدال ، وأوجدهم قادرين ومختارين بالاختيار المستند إلى اختيار اللّه ، فهو عادل في إيجادهم كما أنّه عادل في سائر أفعاله ، بمعنى أنّ أمر العباد في أفعالهم الاختياريّة بين الأمرين لا على وجه الجبر والتفويض ؛ وهو أيضا من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة والمعتزلة (2) ؛ فالعدل الذي هو مقابل الجور من أصول الدين ، والعدل الذي هو مقابل الجبر ونحوه من أصول المذهب.

الخامس : أنّ أفعاله تعالى مترتّبة على اللطف الواجب عليه تعالى على وفق ما هو الأصلح بحال العباد ، الذي لا يكون له مانع ؛ وهو أيضا من أصول المذهب ؛ ردّا على الأشاعرة (3).

وكيف كان ، فتفصيل الكلام في مبحث العدل أنّ

المقام الأوّل :

اشارة

في بيان أنّ اللّه تعالى عادل منفيّ عنه الظلم ، ولا يجوز عليه الظلم ، ولا يرضى به ؛ وذلك لأنّ الفعل - الذي يصدر عن الفاعل ، ولا يحتاج إلى حدّ ؛ لأنّه ضروريّ - لا يخلو إمّا أن يتّصف بأمر زائد على الحدوث وكونه فعلا صادرا عن فاعل فاهم - بأن اعتبر صدوره عن فاعل خاصّ - أم لا ، والأوّل هو فعل

ص: 368


1- « المحصّل » : 483 - 484 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 350 - 354 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 301 - 306.
2- راجع ص 366 ، المصادر المشار إليها في الهامش 1.
3- « المحصّل » : 481 - 483 ؛ « شرح المواقف » 8 : 196 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 321 - 323.

الفاعل المختار حتّى المباح ؛ لاتّصافه بتساوي الوجود والإيقاع مع العدم ، والثاني هو فعل غير المختار كفعل النائم والساهي والمضطرّ والبهائم ، وهذا لا يوصف بالحسن والقبح بالاتّفاق كما عن « شرح المواقف » مع حكاية الخلاف في أفعال الصبيان (1).

( الفعل المتّصف بالزائد إمّا حسن أو قبيح ) لأنّه إمّا أن يتعلّق بإيجاده ذمّ ، أم لا ، والأوّل هو الثاني ، والثاني هو الأوّل ، والقبيح يسمّى بالحرام ؛ والحسن بالحسن بالمعنى العامّ - وهو ما لا يتعلّق بفعله ذمّ تامّ - على أربعة أقسام : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومكروه ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يستحقّ بفعله مدح ، أولا ، والأوّل واجب إن استحقّ بتركه ذمّ ، وإلاّ فمندوب ، والثاني مكروه إن استحقّ بتركه مدح ، وإلاّ فمباح. كذا أفاد الشارح القوشجي (2).

وربّما يقال : إنّ ما تعلّق بفعله مدح فهو حسن كالواجب والمندوب ، وما تعلّق بفعله ذمّ فهو قبيح كالحرام ، وما لا يتعلّق بفعله مدح ولا ذمّ فهو مباح مع تساوي الفعل والترك ، ومكروه مع رجحان الترك ، فعلى هذا لا يكون التقسيم حاصرا. وربّما يجعل المكروه داخلا في القبيح.

والأولى أن يقال : إنّ الفعل الاختياريّ إمّا أن يكون راجح الترك ، أولا.

والأوّل : هو القبيح الشامل للحرام والمكروه من جهة كون القبح تامّا أو ناقصا ؛ لأنّه إمّا أن يكون مع المنع من الفعل ، فهو الحرام المترتّب عليه استحقاق العقاب ، وإلاّ فهو المكروه المترتّب عليه استحقاق العتاب.

والثاني : هو الحسن بالحسن العامّ الشامل للواجب والمندوب والمباح ؛ لأنّه إمّا أن يكون مع رجحان الفعل مع المنع من الترك ، أو بدونه ، أو لا.

ص: 369


1- « شرح المواقف » 8 : 181.
2- « شرح تجريد العقائد » : 337.

والأوّل هو الواجب المترتّب على فعله استحقاق الثواب ، وعلى تركه استحقاق العقاب.

والثاني هو المندوب المترتّب على فعله استحقاق الثواب من غير ترتّب استحقاق العقاب على تركه.

والثالث هو المباح.

وذلك لأنّه المناسب للإذن والرخصة في الفعل من الحكيم على الإطلاق والعقلاء بنحو : كلوا واشربوا ، والنهي التحريميّ والتنزيهيّ بنحو : لا تسرفوا ولا تصرّفوا.

وبعبارة أخرى (1) : الفعل إمّا خير محض ، أو شرّ محض ، أو خير غالب ، أو شرّ غالب ، أو متساوي الخير والشرّ ؛ والخير المحض والخير الغالب حسنان ، والشرّ المحض والشرّ الغالب والمتساوي قبائح ، فالفعل إمّا حسن أو قبيح كما مرّ. هذا بحسب مذهب الحكماء والإماميّة والمعتزلة من كون أفعال العباد اختياريّة (2).

وأمّا على مذهب الأشاعرة من كون أفعال العباد غير اختياريّة (3) ، فلا يصحّ هذه القسمة من جهة عدم اتّصاف الفعل على ما زاد على الحدوث إلاّ على وجه المسامحة أو ملاحظة المقارنة للإرادة - وإن لم تكن مؤثّرة - وعدمها المقتضية لتسمية الأوّل اختياريّا بحسب الظاهر دون الثاني ، ولكنّ الأمر في ذلك هيّن.

وكيف كان ، فالفعل الصادر من اللّه تعالى لا يكون ظلما وشرّا وقبيحا ، بل يكون عدلا حسنا سالما عن الظلم والقبح.

لنا على ذلك المطلب برهانان : عقليّ قاطع ، ونقليّ ساطع.

أمّا البرهان القاطع العقليّ فهو أنّ اللّه تعالى لوجوب وجوده غنيّ مطلق ، عالم بجهات القبح ، والظلم قبيح بالقبح الذاتيّ ببديهة العقل ، فمع الغنى والعلم بالقبح

ص: 370


1- لا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ بين التعريفين اختلافا معنويا ، وليس الاختلاف بينهما في العبارة فقط ، فإنّ المباح في التعريف الأوّل داخل في الحسن وفي الثاني داخل في القبيح ، فكيف يكون هذا عبارة أخرى لذلك؟!
2- راجع ص 428 - 429 من هذا الجزء.
3- راجع ص 428 - 429 من هذا الجزء.

لو صدر منه القبيح لزم الترجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح ، وكلاهما قبيح عقلا ، فيكون صدوره عن الحكيم المطلق محالا ، فتجويز صدور القبيح عنه تعالى تجويز لكونه موردا للذمّ عقلا ؛ لأنّ الظلم إمّا لدفع المفسدة ، أو لجلب المنفعة ، أو للجهل ، أو السفاهة ومع عدم تصوّر شيء من ذلك في حقّ العالم الغنيّ يلزم كونه موردا للذمّ ، وهو ممتنع ضرورة ، فصدور الظلم والكذب وسائر الشرور عنه تعالى قبيح ، فلا يكون الواجب تعالى خالقا للكفر والمعاصي ، وإلاّ لكان التعذيب عليهما [ قبيحا ] والقبيح لا يصدر عنه تعالى.

وأيضا إنّه تعالى أخبر بعدم صدور الظلم عنه تعالى ، فيلزم أن لا يكون واقعا ، وإلاّ لزم الكذب المحال ، وهكذا خلق الكفر والمعاصي وإرادة الكفر من الكفّار ، والفجور من الفجّار من جهة القبح ، فيكون المراد من الكفّار والفجّار الإيمان والطاعة بالإرادة والاختيار ، لا على وجه الإجبار ؛ إذ لا إكراه في الدين من غير مغلوبيّته تعالى وعجزه تعالى بسبب عدم إيمانهم وطاعتهم.

وأمّا البرهان النقليّ الذي هو النور الساطع ، فهو الآيات الكثيرة :

منها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (1).

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) (2).

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (3).

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (4).

ومنها قوله تعالى : ( أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (5).

ص: 371


1- يونس (10) : 61.
2- يونس (10) : 44.
3- غافر (40) : 31.
4- آل عمران (3) : 108.
5- آل عمران (3) : 182 ؛ الأنفال (8) : 51.

ومنها : قوله تعالى : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) (1).

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ) (2).

ومنها : قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (3) إلى غير ذلك من الآيات النافية للظلم ، المثبتة لعدالته.

ومثلها الأخبار المتكاثرة :

منها : ما روي عن الرضا علیه السلام أنّه قال : « خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق علیه السلام ، فاستقبله موسى بن جعفر علیهماالسلام فقال : يا غلام ممّن المعصية؟ فقال : « لا تخلو من ثلاثة : إمّا أن تكون من اللّه عزّ وجلّ - وليست منه - فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لم يكتسبه ، وإمّا أن تكون من اللّه عزّ وجلّ ومن العبد ، فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد - وهي منه - فإن عاقبه اللّه فبذنبه ، وإن عفا عنه فبكرمه وجوده » (4).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ اللّه أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلّم اللّه عزّ وجلّ في حكمه وهو « كافر » (5) إلى آخر الحديث على ما سيأتي.

ومنها : ما روي عن الحسن بن عليّ الوشّاء عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ، قال : سألته فقلت : اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : « اللّه أعزّ من ذلك » قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : « اللّه أعدل وأحكم من ذلك » قال : ثمّ قال : « قال اللّه :

ص: 372


1- آل عمران (3) : 18.
2- يونس (10) : 4.
3- يونس (10) : 47.
4- « التوحيد » : 96 باب معنى التوحيد والعدل ، ح 2 ؛ « عيون أخبار الرضا » 1 : 138 ، الباب 11 ، ح 37.
5- « التوحيد » : 360 باب نفي الجبر والتفويض ، ح 5.

يا ابن آدم! أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك » (1).

بيان

ذلك الحديث يدلّ على أنّ التفويض يوجب بطلان أمره تعالى ونهيه ، وعجزه عن التصرّف والتدبير والإعانة والخذلان ، واللّه تعالى أعزّ من ذلك ، بل له الأمر والنهي والتدبير والامتحان والاختبار حتّى أنّه لا يقع طاعة إلاّ بعونه ، ولا معصية إلاّ بخذلانه ، فبطل قول المعتزلة ، وأنّه يقبح من العدل الحكيم أن يجبر عبده على المعصية ، ثمّ يعذّبه بها ، بل يلزم أن لا يتّصف فعل عبد بقبح ؛ لكونه فعل اللّه ، وكون كلّ فعل من اللّه حسنا ولو من جهة أنّه فعله ، كما يقوله الأشاعرة الجبريّة ، فيدلّ على بطلان قولهم ، وعلى أنّه تعالى عادل غير ظالم ، وأنّ الأفعال صادرة عن العبد بالاختيار والقدرة المخلوقة فيهم من اللّه ، لا عنه تعالى بالقدرة الأزليّة ، كما زعمت الأشاعرة (2) ؛ لتنزّهه تعالى عن القبائح وامتناع اتّصافه بالظلم والجور ، ولا عن مجموع قدرة العبد وقدرته تعالى ، كما عن أبي إسحاق الأسفراينيّ (3) ؛ لامتناع أن يعذّب الشريك القويّ شريكه الضعيف على الفعل المشترك بينهما ، ولا بالتفويض إليهم ؛ لامتناع خروجه تعالى عن السلطنة وعدم احتياج الباقي إليه تعالى في البقاء والقدرة ، بل الحسنات تصدر منهم بالقوّة والقدرة التي خلقها اللّه فيهم بحيث يتمكّنون على الضدّين ، ولكنّها لحسنها صارت متعلّقة لرضائه تعالى ، فيضاف إلى تلك القدرة توفيقه تعالى بتوجيه أسبابها إليهم ، فهو أولى بها.

ص: 373


1- « الكافي » 1 : 157 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 3 ؛ « التوحيد » : 362 باب نفي الجبر والتفويض ، ح 10.
2- « أصول الدين » لعبد القاهر البغداديّ : 134 - 137 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 324 ؛ « المطالب العالية » 9 : 19 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 319 ؛ « المحصّل » : 455 - 474 ؛ « شرح المواقف » 8 : 145 - 173.
3- نقله عنه الرازيّ في « المطالب العالية » 9 : 11 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 319 - 320 ، والتفتازانيّ في « شرح المقاصد » 4 : 223 ، والعلاّمة الحلّيّ في « كشف المراد » : 308 ؛ « مناهج اليقين » : 236.

وأمّا السيّئات ، فلقبحها تقتضي صرف وجه التوفيق واللطف عنهم ، فهم أولى بها وإن كان الكلّ كسبهم ، كما يستفاد من كلمة « أولى » ؛ لأنّ اسم التفضيل يدلّ على ثبوت أصل الفعل في المفضّل عليه عند الإطلاق. إلى غير ذلك من الأخبار الآتية المثبتة للعدل - الذي هو مقابل الجور - والجبر معا ، وكون الأمر بين الأمرين ، كما سيأتي.

وصل

العدل في مقابل الجور من أصول الدين ، ومنكره من الكافرين.

فإن قلت : الكافر - بالكفر المقابل للإسلام - من أنكر الإلهيّة أو النبوّة أو شيئا ممّا علم بالضرورة أنّه من دين النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومنكر العدل ليس كذلك ؛ لأنّ الأشاعرة يقولون بالجبر المستلزم للجور ، فلا يكون العدل من أصول الدين ، وإلاّ يلزم تكفير الأشاعرة ، وهو خلاف المشهور المنصور.

قلت : الأشاعرة لا يقولون بالجور بمعنى الظلم ، كيف؟ وهم من أهل الكتاب ، والكتاب مصرّح بأنّ اللّه تعالى لا يظلم مثقال ذرّة.

نعم ، هم يقولون بالجبر ، واستلزامه للجور ليس سببا للكفر ؛ لأنّ السبب هو اعتقاد خلاف أصول الدين ونحوه ، لا الاعتقاد المستلزم له من غير اعتقاد به ، فلو قال أحد بأنّ اللّه تعالى جائر وظالم ، يحكم بكفره. وأمّا من قال : إنّه تعالى جائر يحمل العباد جبرا على أفعالهم ، فهو خارج عن المذهب ، لا الدين.

المقام الثاني

أنّ جميع أفعال اللّه تعالى كغيرها حسن بالحسن العقليّ - ولو لم يدركه العقل إلاّ بإرشاد النقل - كما يستفاد من العقل والنقل ، بمعنى أنّ حسن الأفعال وقبحها

ص: 374

عقليّان ، لا سمعيّان وشرعيّان ونقليّان ؛ وهو من أصول مذهب الإماميّة ؛ ردّا على الأشاعرة.

بيان ذلك يقع في مرحلتين :

الأولى : أنّ الحسن أو القبح على قسمين : عقليّ ونقليّ ؛ والعقليّ عبارة عمّا يحكم به العقل ولو لم يلاحظ النقل ، والنقليّ عبارة عمّا يحكم به الشرع بأن يكون الشرع هو المثبت له بسبب الأمر بشيء أو النهي عنه ، أو عدم الأمر به ، بمعنى أنّه ليس للفعل قبل ورود الشرع حسن ولا قبح ، بل الشرع يثبته على الوجه المذكور.

والعقليّ - كما يستفاد من إطلاقات العقلاء - على أقسام :

منها : الحسن بمعنى كون الصفة صفة الكمال ، والقبح بمعنى كون الصفة صفة النقص ، كما يقال : العلم حسن أي لمن اتّصف به كمال وارتفاع شأن ، والجهل قبيح أي لمن اتّصف به نقصان وانحطاط حال.

ومنها : الحسن بمعنى ملاءمة الطبع ، والقبح بمعنى منافرته ، كما يقال : الحلو حسن ، والبشع (1) قبيح ، ومثله حسن السلوك وقبحه وأمثال ذلك.

ومنها : الحسن موافقة الغرض ، والقبح بمعنى مخالفة الغرض ، فما وافق الغرض كان حسنا ، وما خالفه كان قبيحا ، كما إذا حصل من لقاء السلطان - مثلا - تعظيم للملاقي ، أو تحقير له ، أو إعطاء مال ، أو أخذ مال ، فيقال : صار حسنا ، أو صار قبيحا ، فما لم يكن موافقا ولا مخالفا لم يكن حسنا ولا قبيحا.

ومنها : الحسن بمعنى الاشتمال على المصلحة وكونه ممّا فيه جهة محسّنة ظاهرة أو كامنة ، والقبح بمعنى الاشتمال على المفسدة وكونه ممّا فيه جهة مقبّحة ولو كانت من الصفات الكامنة ، فيقال لما فيه المصلحة : إنّه حسن ، ولما فيه المفسدة : إنّه قبيح ، وما خلا عنهما لا يكون شيئا منهما ، وهذا المعنى - بل بعض ما تقدّم أيضا -

ص: 375


1- البشع : الخشن من الطعام واللباس والكلام. كذا في « لسان العرب » 1 : 416 « بشع ».

قد يجتمع في شيء واحد باعتبارين ، كما يقال : وجود زيد مصلحة لأوليائه ، ومفسدة لأعدائه ، أو بالعكس بالاعتبارين.

ومنها : الحسن بمعنى كون الفعل ممّا تعلّق به المدح.

وبعبارة أخرى : كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله به المدح والتعظيم باعتبار العقل ، وكونه بحيث يستحقّ فاعله الثواب باعتبار الشرع ، أو كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب بملاحظة العقل والنقل ، والقبح بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الذمّ عقلا ، والعقاب أو العتاب شرعا ، فما تعلّق به مدحه تعالى في العاجل ، وثوابه في الآجل يسمّى حسنا ، وما يتعلّق به ذمّه تعالى في العاجل ، وعقابه أو عتابه في الآجل يسمّى قبيحا ، وما لا يتعلّق به شيء منهما ، فهو خارج عنهما ، هذا في أفعال العباد. وإن أريد ما يعمّ أفعال اللّه تعالى ، اكتفي بتعلّق المدح والذمّ وترك الثواب والعقاب ؛ لما لا يخفى.

ومحلّ النزاع بالنسبة إلى موضوع المسألة هو المعنى الأخير لا غيره ، كما صرّح به الشارح القوشجي ؛ حيث قال بالنسبة إلى المعنى الأوّل : « لا نزاع في أنّ هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل » (1) وكذا بالنسبة إلى ما فيه مصلحة ومفسدة قال : « وذلك أيضا مدركه (2) العقل » (3).

وصرّح بما أشرنا أيضا صاحب « المواقف » وشارحه ؛ حيث قالا :

« ( ولا بدّ أوّلا ) أي قبل الشروع في الاحتجاج ( من تحرير محلّ النزاع ) ليتّضح المتنازع فيه ، ويرد النفي والإثبات على شيء واحد ( فنقول ) - وباللّه التوفيق - : ( الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة :

الأوّل : صفة الكمال والنقص ) فالحسن كون الصفة صفة كمال ، والقبح كون الصفة

ص: 376


1- « شرح تجريد العقائد » : 338.
2- في المصدر : « يدركه ».
3- « شرح تجريد العقائد » : 338.

صفة نقصان ( يقال : العلم حسن ) أي لمن اتّصف به كمال ، وارتفاع شأن ( والجهل قبيح ) أي لمن اتّصف به نقصان ، واتّضاع حال ( ولا نزاع ) في أنّ هذا المعنى أمر ثابت للصفات أنفسها و ( أنّ مدركه العقل ) ولا تعلّق له بالشرع.

( الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ) فما وافق الغرض كان حسنا ، وما خالفه كان قبيحا ، وما ليس كذلك لم يكن حسنا ولا قبيحا.

( وقد يعبّر عنهما ) أي عن الحسن والقبح ( بالمصلحة والمفسدة ) فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وما خلا عنهما لا يكون (1) شيء منهما ( وذلك أيضا عقليّ ) أي مدركه العقل كالمعنى الأوّل ( ويختلف بالاعتبار ؛ فإنّ قتل زيد مصلحة لأعدائه ) وموافق لغرضهم ( ومفسدة لأوليائه ) ومخالف لغرضهم ، فدلّ هذا الاختلاف على أنّه أمر إضافي لا صفة حقيقيّة وإلاّ لم يختلف كما لا يتصوّر كون الجسم الواحد أسود وأبيض.

( الثالث : تعلّق المدح والثواب ) آجلا وعاجلا ( أو الذمّ والعقاب ) كذلك ، فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى حسنا ، وما تعلّق به الذمّ في العاجل ، والعقاب في الآجل يسمّى قبيحا ، وما لا يتعلّق به شيء منهما فهو خارج عنهما ، هذا في أفعال العباد. وإن أريد ما يشمل أفعال اللّه تعالى اكتفي بتعلّق المدح والذّمّ ، وترك الثواب والعقاب ( وهذا ) المعنى الثالث ( هو محلّ النزاع ) » انتهى (2).

ومثل ما ذكر ذكر شارح « المقاصد » ؛ حيث قال :

« وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل ، وبمعنى الملاءمة للغرض وعدمها كالعدل والظلم ، وبالجملة كلّ ما يستحقّ المدح أو الذمّ في نظر العقول ومجاري العادات ؛ فإنّ ذلك يدرك بالعقل ورد الشرع أم لا ،

ص: 377


1- « لا يكون » هنا تامّة.
2- « شرح المواقف » 8 : 182.

وإنّما النزاع في الحسن والقبح عند اللّه تعالى بمعنى استحقاق فاعله في حكم اللّه تعالى المدح أو الذمّ عاجلا ، والثواب والعقاب آجلا. والتعرّض للثواب والعقاب على أنّ الكلام في أفعال العباد » (1). انتهى.

ومثل ذلك ذكر العلاّمة في « النهاية » (2).

وبالجملة ، فمحلّ النزاع بالنسبة إلى موضوع المسألة - كما ذكرنا - الحسن والقبح بالمعنى الأخير ، وبالنسبة إلى متعلّق الموضوع ما يعمّ أفعال اللّه تعالى وأفعال العباد ، وبالنسبة إلى المحمول ما أشرنا إليه من أنّ المراد من العقليّ ما يحكم به العقل ولو لم يلاحظ النقل ، والمراد من النقلي ما يحكم به الشرع خاصّة ، كما أفاد شارح المقاصد ، حيث قال :

« فعندنا ذلك بمجرّد الشرع بمعنى أنّ العقل لا يحكم بأنّ الفعل حسن أو قبيح في حكم اللّه تعالى ، بل ما ورد به الأمر به فحسن ، وما ورد به النهي عنه فقبيح من غير أن يكون للفعل جهة محسّنة أو مقبّحة في ذاته ، ولا بحسب جهاته واعتباراته حتّى لو أمر بما نهى عنه صار حسنا ، وبالعكس. وعندهم للفعل جهة محسّنة أو مقبّحة في حكم اللّه تعالى يدركها العقل بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضّارّ ، أو بالنظر كحسن الكذب النافع وقبح الصدق الضّارّ ، أو بورود الشرع كحسن صوم يوم عرفة ، وقبح صوم العيد.

فإن قيل : فأيّ فرق بين المذهبين في هذا القسم؟

قلنا : الأمر والنهي عندنا من موجبات الحسن والقبح بمعنى أنّ الفعل إن أمر به فحسن ، أو نهي عنه فقبيح ، وعندهم من مقتضياته بمعنى أنّه حسن فأمر به ، أو قبيح فنهي عنه ، فالأمر والنهي إذا وردا كشفا عن حسن وقبح سابقين حاصلين للفعل

ص: 378


1- « شرح المقاصد » 4 : 282.
2- أي كتاب « نهاية الوصول إلى علم الأصول ».

لذاته أو لجهاته » (1) انتهى.

فالمراد أنّ الفعل بحسب الواقع ونفس الأمر له حسن أو قبح أو حالة متوسّطة يمكن إدراكه للعقل وإن لم يلاحظ الشرع ، أو لم يصل إليه نقل ، لا أنّ جميع ذلك مدرك له بالفعل فضلا عن الضرورة أو الدوام ، فالقضيّة بحسب الجهة ممكنة باعتبار إدراك العقل إن اعتبر الكلّيّة في الموضوع ، وإلاّ فمطلقة عامّة ، أو وقتيّة ، أو منتشرة ودائمة ، بل ضروريّة باعتبار ثبوت صفة الحسن أو القبح ، بمعنى أنّ الحسن أو القبح ثابت للفعل في الواقع ونفس الأمر بالدوام أو بالضرورة ، وأنّ العقل يدركهما بالقوّة ، أو بالفعل على سبيل الممكنة ، أو المطلقة ، أو وقت الجلاء والالتفات ، أو وقتا ما على سبيل الوقتيّة ، أو المنتشرة.

فالمراد من عقليّة الحسن والقبح أنّه يكون للفعل بحسب الواقع حسن أو قبح ، ويمكن للعقل إدراك ممدوحيّة فاعل الأفعال في نفس الأمر ، أو مذموميّته كذلك إن لم يرد به شرع ، أو إدراك جهة ورود الشرع على تحسين الفعل أو تقبيحه إن ورد به شرع.

وعدم علم العقل بنفسه بجهات الحسن والقبح في بعض الأفعال غير قادح في عقليّتهما ؛ لأنّه يكون من جهة خفائهما وانغمار العقل بالشهوات الحيوانيّة والعلائق الجسمانيّة ، وكونه غريقا في لجّة الأغشية الناسوتيّة ، وبعيدا عن محطّ الأنوار اللاهوتيّة ، فبإدراك الحسن والقبح في بعض الأفعال - الذي ليس بمرتبة ما ذكر في الخفاء - يحكم بعدم القول بالواسطة ، الكاشف عن حكم اللّه الصانع القادر المقدّر أنّ الفعل الذي أمر به الشارع حسن في نفس الأمر ، وإلاّ لكان طلب الحكيم قبيحا ، وبأنّ الفعل الذي نهى عنه الشارع قبيح في نفس الأمر ، وإلاّ لكان النهي عنه مذموما.

والمراد من شرعيّة الحسن والقبح أنّه ليس للفعل قبل ورود الشرع حسن أو قبح

ص: 379


1- « شرح المقاصد » 4 : 282 - 283.

حتّى يمكن للعقل إدراكه.

وقد يقال : إنّ المراد من عقليّتهما اشتمال الفعل على الجهة المحسّنة أو المقبّحة وإن لم يتمكّن العقل لإدراكهما ، والمراد من شرعيّتهما أن لا يكون كذلك ، بل يكون حسنه أو قبحه بمجرّد ورود الأمر أو النهي من الشارع ، فيمكن التعاكس بورود الأمر على المنهيّ عنه في حال النهي عنه ، وبالعكس ، وعلى الأوّل لا يصحّ التعاكس إلاّ إذا اختلف الوقت وتغيّر المصلحة بالمفسدة ، أو العكس كما في نسخ الأحكام والأديان.

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ العلماء المتكلّمين اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

[ القول ] الأوّل : أنّ الحسن والقبح عقليّان وهو مختار الإماميّة والحكماء والمعتزلة (1). وأشار المصنّف رحمه اللّه إليه بقوله : ( وهما عقليّان ) بمعنى أنّ الحاكم بهما هو العقل فعلا أو قوّة ، وأنّ الفعل حسن أو قبيح في نفسه إمّا لذاته أو لصفة لازمة له ، أو بوجوه واعتبارات ، أو على وجه التركيب باعتبار الذات والصفات والاعتبارات على الاختلاف الآتي إن شاء اللّه ، فالشرع كاشف ومبيّن للحسن والقبح الثابتين له على أحد الأنحاء الثلاثة ، وليس له أن يعكس القضيّة من عند نفسه بأن يحسّن ما قبّحه العقل ويقبّح ما حسّنه إلاّ إذا اختلف حال الفعل في الحسن والقبح بالقياس إلى الأزمان ، أو الأشخاص ، أو الأحوال ؛ فإنّ له حينئذ أن يكشف عمّا يتغيّر الفعل إليه من حسنه أو قبحه في نفسه.

[ القول ] الثاني : أنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنى أنّه ليس للفعل حسن أو قبح

ص: 380


1- « تقريب المعارف » : 58 - 59 ؛ « قواعد المرام في علم الكلام » : 104 - 107 ؛ « نقد المحصّل » : 339 - 341 ؛ « كشف المراد » : 302 - 305 ؛ « مناهج اليقين » : 229 - 235 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 82 - 85 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 25 - 26 ؛ « إرشاد الطالبين » : 254 - 263 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 326 ؛ « المغني في أبواب التوحيد والعدل » 6 : 7 وما بعدها ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 371 ؛ « أصول الفقه » للمظفّر : 223 - 248.

في نفس الأمر لأمر حقيقيّ حاصل فيه قبل الشرع حتّى يمكن للعقل إدراكه ، ويكون الشرع كاشفا عنه بل الشرع هو المثبت له والمبيّن ، فلا حسن للأفعال ولا قبح لها قبل ورود الشرع ، فلو عكس الشارع القضيّة فحسّن ما قبّحه ، وقبّح ما حسّنه ، لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر ، فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ، ومن الوجوب إلى الحرمة ، فكلّ ما أمر به الشارع فهو حسن ، وكلّ ما نهى عنه مثلا فهو قبيح ، ولو لا الشرع لم يكن حسن ولا قبيح. وهو مختار الأشاعرة (1) كالشارح القوشجي ، كما صرّح به في شرح الكتاب (2) ، وشارح « المقاصد » ؛ حيث قال : « فعندنا ذلك بمجرّد الشرع » (3) وصاحب المواقف وشارحه ؛ حيث قالا : « ( القبيح ) عندنا ( ما نهي عنه شرعا ) نهي تحريم أو تنزيه ( والحسن بخلافه ) ، أي ما لم ينه عنه شرعا كالواجب والمندوب والمباح ؛ لأنّ المباح عند أكثر أصحابنا من قبيل الحسن وكفعل اللّه تعالى ؛ فإنّه حسن أبدا بالاتّفاق.

وأمّا فعل البهائم ، فقد قيل : إنّه لا يوصف بحسن ولا قبح باتّفاق الخصوم ، وفعل الصبيّ مختلف فيه ( ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها ، وليس ذلك ) أي حسن الأشياء وقبحها ( عائدا إلى أمر حقيقيّ ) حاصل في الفعل قبل الشرع ( يكشف عنه الشرع ) كما يزعمه المعتزلة ( بل الشرع هو المثبت له والمبيّن ) فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع ( ولو عكس ) الشارع ( القضيّة فحسّن ما قبّحه وقبّح ما حسّنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر ) فصار القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب ، ومن الوجوب إلى الحرمة » (4) إلى غير ذلك من الكلمات.

ص: 381


1- « المحصّل » : 478 - 481 ؛ « المطالب العالية » 3 : 289 - 358 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 346 - 349.
2- « شرح تجريد العقائد » : 337 - 338.
3- « شرح المقاصد » 4 : 282.
4- « شرح المواقف » 8 : 181 - 182.

والثمرة - مضافا إلى الثمرة العلميّة - تظهر في تصحيح العقيدة والحكم بجواز ارتكاب القبيحين ، بل وجوبه فيما لم يصل بالنسبة إليه الشريعة في جواز التكليف بما لا يطاق وعدم حكم قبل الشريعة وأمثال ذلك كثيرة.

والحقّ مع الإماميّة ؛ لبراهين عقليّة :

الأوّل : أنّ الفعل لو لم يكن له رجحان وجودا أو عدما بحسب الواقع وفي نفسه ، لكان الأمر به أو النهي عنه ترجيحا بلا مرجّح ؛ لاقتضاء الأمر جعل الوجود راجحا على العدم ، بل جعل فعل من الأفعال راجحا على غيره من غير مرجّح ، واقتضاء النهي جعل الترك راجحا كذلك ، وجعل أحد المتساويين راجحا من غير مرجّح قبيح بالبديهة وإن قلنا بجواز الترجيح بلا مرجّح ، بمعنى اختيار أحد المتساويين من غير مرجّح ، كما في قدحي عطشان ، ورغيفي جوعان ؛ حيث يختار أحدهما من غير مرجّح ولو من جهة عدم الالتفات.

وبعبارة أخرى يلزم من شرعيّة الحسن والقبح عدم الأمر والنهي ، ويلزم من عدمهما عدم شرعيّة الحسن والقبح ؛ لما لا يخفى ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل.

الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع ) بمعنى أنّ العلم بحسن الإحسان والعدل ، وقبح الإساءة والكذب والظلم كقتل النفس القدسيّة بلا جهة حاصل بالضرورة لكلّ عاقل من غير ملاحظة الشرع ؛ ولذلك يعترف بذلك منكر الشرائع كالدهريّ والزنديق أيضا ، فلو كان بحسب الشرع لما علم كذلك ، ومثل ذلك القطع بأنّه يقبح عند اللّه من العارف بذاته وصفاته أن يشرك وينسب إليه الزوجة والولد وما لا يليق به من صفات النقص وسمات الحدوث ، بمعنى أنّه يستحقّ الذمّ والعقاب في حكم اللّه تعالى سواء ورد الشرع ، أم لا.

وتوهّم أنّ كون قبح ذلك مركوزا في العقول من النقول يوهم كونه من مجرّد

ص: 382

العقول غير معقول.

فإن قلت : نمنع جزم العقل بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه.

نعم ، جزم العقل بالحسن والقبح - بمعنى الملاءمة والمنافرة ، أو صفة الكمال والنقص - مسلّم وهو غير نافع.

قلت أوّلا : إنّ العقل يحكم بديهة بأنّ قاتل الأنبياء بغير حقّ وبلا جهة مستحقّ للذمّ ؛ لظلمه ، والمحسن يستحقّ المدح ؛ لإحسانه ، والمنع مكابرة صريحة عند الإنصاف.

وثانيا : إنّ المسلّم فيما نحن فيه مستلزم للمتنازع فيه حيث يكون بالاختيار.

فإن قلت : قولنا : « العدل حسن ، والظلم قبيح » عدّ عند الحكماء من مقبولات العامّة للمصلحة العامّة والمفسدة وهي مادّة القياس الجدليّ ، فدعوى الضرورة - المعتبرة في اليقينيّات التي هي مادّة البرهان - غير مسموعة ؛ لعدم دلالة اتّفاق العقلاء عليها.

قلت : ضروريّة الحكمين المذكورين وعدم توقّفهما على النظر والفكر ضروريّة على وجه يكون إنكاره مكابرة ، ومدخليّة المصالح والمفاسد فيهما غير قادحة لصدورهما من العقل النظريّ بإعانة العقل العمليّ المزاول للأعمال ، والمباشر للأفعال بملاحظة المصالح والمفاسد من غير توقّف على النظر ، وهذا كتوقّف سائر البديهيّات إلى أمور غير النظر كالمشاهدة والملاحظة ، بل هما صادران من العقل مع قطع النظر عن المصلحة والمفسدة ؛ ولهذا يصدران من غير العارف بالمصالح والمفاسد ، ومن الغافل.

وعدّ الحكماء لهما من المقبولات مجرّد تمثيل للمصلحة العامّة والمفسدة العامّة ، فلهما جهة ضروريّة وجهة مقبوليّة ، فهما من اليقينيّات من جهة ضروريّتهما وعدم احتياجهما إلى النظر ، ومن المقبولات من جهة قبول عموم العقلاء لهما من جهة ملاحظة المصلحة والمفسدة العامّتين ، فعلى هذا يصحّ ذكرهما في البرهانيّات والجدليّات باعتبارين.

ص: 383

الثالث : أنّه لو لم يثبت الحسن والقبح إلاّ بالشرع ، لم يثبتا أصلا ؛ لأنّ العلم بحسن ما أمر به الشارع ، أو أخبر عن حسنه ، وبقبح ما نهى عنه ، أو أخبر عن قبحه يتوقّف على أنّ الكذب قبيح لا يصدر عنه ، وأنّ الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن سفه وعبث لا يليق به تعالى ، وذلك إمّا بالعقل والمفروض أنّه معزول لا حكم له ، وإمّا بالشرع فيدور. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا ).

فإن قلت : إنّ الدور إنّما يلزم إذا جعل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ، ولكنّا لم نجعلهما دليلين لهما ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح ، والقبح عبارة عن كون الفعل متعلّق النهي والذمّ.

قلت أوّلا : إنّه خلاف ما صرّح به شارح المقاصد (1) الذي هو من فحول الأشاعرة ، كما مرّ (2) إليه الإشارة.

وثانيا : إنّ كون الفعل حسنا أو قبيحا - على تقدير كونهما شرعيّين - إنّما يعلم إذا كان الفعل متعلّق الأمر والنهي [ وكون الفعل متعلّق الأمر ] (3).

الرابع : ما أشار إليه المصنّف رحمه اللّه أيضا بقوله : ( ولجاز التعاكس ) بمعنى أنّه لو كان الحسن والقبح بالشرع لا بالعقل ، لجاز أن يعكس الشارع ، فيحسّن ما قبّحه ، ويقبّح ما حسّنه ، كما في النسخ ، فيلزم جواز حسن الإساءة وقبح الإحسان بالمعنى المتنازع فيه ، وذلك باطل بالضرورة.

الخامس : ما ذكره في شرح المقاصد من أنّه لو لم يكن وجوب النظر عقليّا لزم إفحام الأنبياء (4) ، وأنّه لو لم يقبح من اللّه تعالى شيء لجاز إظهار المعجزة على يد

ص: 384


1- « شرح المقاصد » 4 : 282 - 283.
2- مرّ في ص 378.
3- كذا في النسخ.
4- هذا هو الدليل الرابع من أدلّة المعتزلة على كون الحسن والقبح عقليّين ، كما في « شرح المقاصد » 4 : 290 - 291 وردّه التفتازانيّ في نفس الكتاب 2 : 293.

الكاذب ، وفيه انسداد باب إثبات النبوّة (1).

قال : والجواب أنّ الإمكان العقليّ لا ينافي الجزم بعدم الوقوع أصلا كسائر العاديّات (2).

وفيه الفرق بين الإمكان والقبح ، فهو ممكن لكنّه لم يقع ؛ لقبحه عقلا ولو بالاعتبار مضافا إلى الآيات والأخبار.

وتمسّك الأشاعرة بوجوه ذكرها في « شرح المقاصد » (3) :

الأوّل : أنّه لو حسّن العقل أو قبّح ، لزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد الشرع أم لا - بناء على أصلهم في وجوب تعذيب من استحقّه إذا مات غير تائب - واللازم باطل ، لقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (4).

الثاني : أنّه لو كان الحسن والقبح بالعقل ، لما كان من أفعال العباد حسنا ولا قبيحا عقلا ، واللازم باطل باعترافكم.

وجه اللزوم أنّ فعل العبد إمّا اضطراريّ وإمّا اتّفاقيّ ، ولا شيء منهما بحسن ولا قبيح عقلا.

أمّا الكبرى ، فبالاتّفاق. وأمّا الصغرى ، فلأنّ العبد إن لم يتمكّن من الترك فذاك ، وإن تمكّن فإن لم يتوقّف الفعل على مرجّح ، بل صدر منه تارة ولم يصدر أخرى ، كان اتّفاقيا ، على أنّه يفضي إلى الترجّح بلا مرجّح وفيه انسداد باب إثبات الصانع. وإن توقّف على مرجّح ، فذلك المرجّح إن كان من العبد ، ننقل الكلام إليه ويتسلسل ،

ص: 385


1- وهذا أيضا الدليل السادس من أدلّة المعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » 4 : 290 - 291 ، وقد نقضه التفتازانيّ في « شرح المقاصد » 1 : 292.
2- هذا جواب التفتازانيّ عن الدليل الرابع للمعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » 4 : 293.
3- « شرح المقاصد » 4 : 284 - 289.
4- الإسراء (17) : 15.

وإن لم يكن ، فمعه إن لم يجب الفعل - بل صحّ الصدور واللاصدور - عاد الترديد ولزم المحذور. وإن وجب فالفعل اضطراريّ (1) ، أو العبد مجبور بناء على عدم كفاية الإرادة ولزوم الانتهاء إلى مرجّح لا يكون من العبد ، ويجب معه الفعل ، ويبطل استقلال العبد.

الثالث : أنّه لو كان قبح الكذب لذاته لما تخلّف عنه في شيء من الصور ضرورة ، واللازم باطل فيما إذا تعيّن الكذب لإنقاذ نبيّ من الهلاك ؛ فإنّه يجب قطعا ، فيحسن. وكذا كلّ فعل يجب تارة ويحرم أخرى كالقتل والضرب حدّا وظلما ، بناء على أنّ الكذب - مثلا - من جهة تعيّن سبب الإنجاء فيه يصير حسنا ؛ لأنّ الحسن هو الإنجاء.

الرابع : أنّه لو كان الحسن والقبح ذاتيّين لزم اجتماع المتنافيين في إخبار من قال : « لأكذبنّ غدا » لأنّه إمّا صادق ، فيلزم بصدقه حسنه ، ولاستلزامه الكذب في الغد قبحه ، وإمّا كاذب فيلزم لكذبه قبحه ، ولاستلزامه ترك الكذب في الغد حسنه ، فيلزم اجتماع الحسن والقبح بناء على أنّ ملزوم الحسن حسن ، وملزوم القبيح قبيح ، وأنّ كلّ حسن أو قبح ذاتيّ.

الخامس : أنّ الفعل لو كان حسنا أو قبيحا لذاته ، لزم قيام العرض بالعرض وهو باطل باعتراف الخصم.

وجه اللزوم أنّ حسن الفعل مثلا أمر زائد عليه ؛ لأنّه قد يعقل الفعل ولا يعقل حسنه أو قبحه ، ومع ذلك فهو وجوديّ غير قائم بنفسه ، فهو عرض صفة للفعل الذي هو أيضا عرض ، فيلزم قيام العرض بالعرض بناء على منع كونه كإمكان الفعل ، وأنّ الحسن الشرعيّ قديم متعلّق بالفعل لا صفة له حتّى يلزم النقض بلزوم قيام العرض بالعرض.

ص: 386


1- كذا في النسخ ، والصحيح « والعبد » كما في « شرح المقاصد ».

السادس : أنّه لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفاته وجهاته ، لم يكن البارئ تعالى مختارا في الحكم ، واللازم باطل بالإجماع.

وجه اللزوم : أنّه لا بدّ في الفعل من حكم ، والحكم على خلاف ما هو المعقول قبيح لا يصحّ عن البارئ ، بل يتعيّن عليه الحكم بالمعقول الراجح بحيث لا يصحّ تركه ، وفيه نفي الاختيار ، الذي لا يجوز ولو كان لصارف (1) بناء على كون الحكم عندهم قديما متعلّقا بالأفعال غير مناف للاختيار.

السابع : أنّ قبح الفعل أو حسنه إذا كان صارفا عنه أو داعيا إليه كان سابقا عليه ، فيلزم قيام الموجود بالمعدوم بناء على منع كون الصارف والداعي هو العلم باتّصاف الفعل بالحسن والقبح عند الحصول.

والمصنّف - رحمه اللّه - أشار إلى الجواب عن وجوه أخر من وجوه الأشاعرة بقوله : ( ويجوز التفاوت في العلوم ؛ لتفاوت التصوّر ، وارتكاب أقلّ القبيحين مع عدم إمكان المخلص (2) ، والجبر باطل ).

بيان ذلك : أنّ الأشاعرة قالوا : إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليّين ، لما وقع التفاوت في العلوم ؛ لاتّحاد السبب والمدرك وهو العقل ، والتالي باطل بالضرورة.

والجواب : أنّه يجوز التفاوت في العلوم بسبب التفاوت في تصوّر أطرافها ، فما كان تصوّره نظريّا يكون نظريّا ، وما كان تصوّره بديهيّا أوّليّا يكون بديهيّا أوّليّا ، وما كان تصوّره حدسيّا يكون كذلك ، وهكذا سائر مراتب العلم من الضروريّات والنظريات المحتاجة إلى النظر.

وقالوا أيضا : إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليّين ، لما اختلفا أي لما حسن القبيح ، ولما قبح الحسن ، والتالي باطل ؛ لأنّه يحسن تخليص النبيّ صلی اللّه علیه و آله - مثلا - من يد الظالم

ص: 387


1- في « أ » : « الصارف ».
2- كذا في النسخ و « كشف المراد » وفي « تجريد الاعتقاد » : 197 و « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 339 : « التخلّص ».

بالكذب المقتضي له ، فالكذب يصير حسنا ، كما أنّ الصدق المهلك قبيح (1).

والجواب : أنّ الكذب في الصورة المذكورة قبيح في نفسه ، باق على قبحه ، وكذا الصدق حسن ، باق على حسنه إلاّ أنّ ترك إنجاء النبيّ أقبح ، فيصير الكذب الموجب للإنجاء من جهة اقتضائه دفع الأقبح حسنا بالعرض عند عدم إمكان التخلّص بغيره كالتعريض ، وكذا حكم الصدق ؛ فإنّه باق على حسنه إلاّ أنّه يصير قبيحا بالعرض عند عدم إمكان التخلّص عن الضرر إلاّ بتركه.

وقالوا أيضا : الجبر حقّ ، فينتفي الحسن والقبح العقليّان. وقد قرّر الشارح القوشجي هذا الوجه ، بأنّه لو كان الحسن والقبح بالعقل لما كان شيء من أفعال العباد حسنا ولا قبيحا عقلا ، واللازم باطل باعترافكم.

وجه اللزوم أنّ العبد مجبور في أفعاله ، ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح عقلا.

أمّا الكبرى ، فبالاتّفاق. وأمّا الصغرى ، فلأنّ العبد إن لم يتمكّن من الترك فذاك ، وإن تمكّن فإن لم يتوقّف فعله على مرجّح ، بل صدر عنه تارة ولم يصدر أخرى بلا تجدّد أمر ، لزم الترجيح بلا مرجّح ، وانسدّ باب إثبات الصانع ، وإن توقّف ، فذلك المرجّح إن لم يجب معه الفعل ، بل يصحّ الصدور واللاصدور ، عاد الترديد ، وإن وجب فالفعل اضطراريّ والعبد مجبور (2).

والجواب : أنّ المرجّح هو الإرادة ؛ وصدور الفعل معها على سبيل الوجوب لا ينافي الاختيار ، فالجبر باطل كما سيأتي إن شاء اللّه ، فالصغرى المذكورة لإثبات الشرطيّة ممنوعة ، بل فاسدة ، فيكون الشرطيّة أيضا كذلك ، فلا يكون النتيجة صحيحة.

ص: 388


1- « شرح تجريد العقائد » : 339.
2- نفس المصدر.

وأمّا الجواب عن سائر الوجوه ، فيظهر بالتأمّل.

ثمّ اعلم أنّ القائلين بأنّ الحسن والقبح عقليّان اختلفوا في أنّهما ذاتيّان مطلقا - بمعنى أنّ كلّ ذات فعل له حسن أو قبح في الواقع ونفس الأمر ، لا أنّ كلّ حسن أو قبح منسوب إلى الذات ؛ لأنّ الظاهر أنّ صيرورة الحسن بالذات قبيحا بالعرض ، وبالعكس كالصدق الضارّ والكذب النافع المنجي للنفس المحترمة من الهلاك ممّا لا ينكره أحد - أو بالوجوه والاعتبارات ، أو نحو ذلك مطلقا ، أو بالتفصيل على أقوال ، ونحن نكتفي في ذلك بذكر كلمات بعض المتكلّمين.

ففي المواقف وشرحه : « ( ثمّ إنّهم اختلفوا ، فذهب الأوائل منهم ) إلى أنّ حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا بصفات (1) فيها تقتضيهما.

وذهب بعض من بعدهم من المتقدّمين ( إلى إثبات صفة ) حقيقيّة ( توجب ذلك مطلقا ) أي في الحسن والقبح جميعا ، فقالوا : ليس حسن الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدّمنا من أصحابنا ، بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما.

( و ) ذهب ( أبو الحسين من متأخّريهم إلى إثبات صفة في القبيح ) مقتضية لقبحه ( دون الحسن ) ؛ إذ لا حاجة به إلى صفة محسّنة له ، بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبّحة.

( و ) ذهب ( الجبائيّ إلى نفيه ) أي نفي الوصف الحقيقيّ ( فيهما مطلقا ) فقال : ليس حسن الأفعال وقبحها بصفات حقيقيّة فيها ، بل بوجوه اعتباريّة وأوصاف إضافيّة تختلف بحسب الاعتبار ، كما في لطم اليتيم تأديبا وظلما » (2) انتهى.

ومثله ذكر الشارح القوشجي في شرح الكتاب (3) وكذا غيره.

والحاصل : أنّ الأقوال في المسألة خمسة :

ص: 389


1- في المصدر : « لا لصفات ».
2- « شرح المواقف » 8 : 184.
3- « شرح تجريد العقائد » : 337 - 339.

الأوّل : أنّ الحسن والقبح ذاتيان بالمعنى المذكور كما عن القدماء.

الثاني : أنّهما لصفة لازمة لذات الشيء ، موجبة لهما.

الثالث : أنّهما بالوجوه والاعتبارات ؛ لترتّب مصلحة أو مفسدة ظاهرة أو كامنة ، ولكن حكم العقل مخصوص بالصورة الأولى.

الرابع : أنّ الحسن ذاتيّ ، والقبح لصفة مقبّحة كما عن أبي الحسين.

الخامس : أنّهما للقدر المشترك الأعمّ ، كما اختاره أستاذ الأستاذ (1) حاكيا عن غير المعتزلة ، وهو ظاهر المقدّس الأردبيليّ أيضا ؛ حيث قال : « ينبغي أن يختار أنّه قد يكون لذاته كما في الصدق والكذب ، وقد يكون لصفة ذاتيّة ، وقد يكون لوجوه واعتبارات كما في لطم اليتيم » (2). والحقّ هو الأوّل كما عن الأوائل (3).

ويشهد على كونهما ذاتيّين أنّ من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجّح أصلا ، ولا علم باستقرار الشرائع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب ، فإنّه يؤثر الصدق قطعا ، ويترك الكذب حتما ، وما ذاك إلاّ لأنّ حسنه بالمعنى المتنازع فيه ذاتيّ ضروريّ عقليّ ، وكذا إنقاذ من أشرف على الهلاك حيث لا يتصوّر له نفع وغرض ولو كان مدحا وثناء.

وتوهّم أنّ إيثار الصدق لملاءمة الطبع والمصلحة العامّة ، وإنقاذ الهالك لرقّة الجنسيّة المجبولة في الطبيعة كأنّه يتصوّر لنفسه مثل تلك الحالة فيستحسنه من نفسه كما يستحسنه من غيره في حقّه فاسد ؛ لما لا يخفى.

فإن قلت : الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف ، والحسن والقبح يختلفان ويتخلّفان

ص: 390


1- اختاره الحكيم السبزواريّ حاكيا عن الشيخ البهائيّ في « زبدة الأصول » وحواشيها. راجع « شرح الأسماء » : 322.
2- « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد للتجريد » : 120.
3- « كشف المراد » : 302 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 338 ؛ « شرح الأسماء » : 318 ؛ « شرح المواقف » 8 : 184.

كما في الصدق الضارّ والكذب النافع الموجب لنجاة النفس المحترمة ، فلا يمكن كونهما ذاتيين.

قلت : عدم تخلّف الذاتيّ إنّما هو بحسب نفس الأمر ، فلا ينافي صيرورة الحسن بالذات قبيحا بالعرض ، وبالعكس ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فالأحكام الشرعيّة الفرعيّة التكليفيّة كالوجوب والحرمة مترتّبة على الحسن والقبح الواقعيّين - ذاتيّين كانا أم عارضيّين لمصلحة بارزة أو كامنة - وتسمّى تلك الأحكام شرعيّة ؛ لكون الشرع كاشفا ، أو مؤكّدا لا جاعلا كما هو مذهب الأشاعرة ؛ حيث جعلوا العقل معزولا ، وجعلوا الشرع جاعلا في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة التكليفيّة كالوضعيّة.

وكيف كان ، فبعد ثبوت كون حسن الأشياء وقبحها عقليّين ذاتيّين نقول : إنّ أفعال اللّه تعالى كلّها - حتّى التكليف ونحوه - حسنة بالحسن العقليّ الذاتيّ أو العارضيّ بسبب الوجوه والاعتبار ، وليس فيها قبح وغبار ، كما أشار إليه المصنّف بقوله : ( واستغناؤه وعلمه يدلاّن على انتفاء القبح من أفعاله تعالى مع قدرته عليه ؛ لعموم النسبة ، ولا ينافي الامتناع اللاحق ).

بيان ذلك : أنّ اللّه تعالى عالم بالعلم الذاتيّ بجميع الأشياء التي منها حسن الأشياء وقبحها الواقعيّان كما تقدّم في بيان إثبات الصفات الثبوتيّة ، وهو الغنيّ المطلق كما مرّ في بيان التنزّه عن الصفات السلبيّة ، والعالم بقبح القبيح المستغني عنه لا يفعله ببديهة العقل ؛ لعدم الداعي إليه ووجود الصارف عنه ، مضافا إلى أنّه لو صدر عنه تعالى القبيح لزم ترجيح المرجوح ، فتجويز صدور القبيح عنه تعالى تجويز لكونه تعالى موردا للذمّ عقلا ، وهو ممتنع ضرورة ، فلا يكون خالقا للكفر والعصيان ، وإلاّ كان التعذيب عليهما قبيحا ، والقبيح لا يصدر عنه تعالى ، فيلزم أن لا يكون واقعا ، فيكون الإخبار بإيقاعه كذبا ، وهو محال عنه تعالى.

وبالجملة ، فهو تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، بل جميع أفعاله حسنة

ص: 391

بالحسن العامّ ؛ لأنّه عالم بالحسن ، وقادر على إيجاد الحسن من غير صارف ، فالداعي موجود ، والمانع مفقود ، فالأثر لازم ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة.

وقال الشارح القوشجي : « قد أجمعت الأمّة إجماعا مركّبا على أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب ، فالأشاعرة من جهة أنّه لا قبيح منه ، ولا واجب عليه ، ولا يتصوّر منه فعل قبيح ولا ترك واجب. وأمّا المعتزلة فمن جهة أنّ ما هو قبيح يتركه ، وما يجب عليه يفعل ، لأنّ اللّه تعالى مستغن عن غيره - قبيحا كان أو حسنا - وعالم بحسن الأعمال وقبحها ، وقد علم بالضرورة أنّ العالم بالقبيح ، المستغني عنه لا يصدر عنه » (1).

وفيه أوّلا : أنّ الأشاعرة يقولون بقبح المعاصي شرعا ، ومع ذلك يقولون بأنّ اللّه تعالى يفعلها ويخلقها ؛ ولهذا قال العلاّمة في الشرح : « ونازع الأشعريّة في ذلك وأسندوا القبائح إليه تعالى » (2).

وقال الشارح القديم : « أمّا الأشاعرة ، فلأنّهم لمّا أسندوا جميع الممكنات الموجودة إلى اللّه تعالى ، جوّزوا صدور القبيح عنه » (3).

وثانيا : أنّ إطلاق الإجماع المركّب على ذلك الاتّفاق المدّعى - لو سلّم تحقّقه - خلاف مصطلح الأصوليّين ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فالقائلون بعدم صدور القبيح عن اللّه تعالى اختلفوا في أنّه تعالى قادر عليه ، أم لا؟ فالأكثر على أنّه تعالى قادر عليه. والنظّام - على ما حكي (4) عنه - اختار أنّه تعالى لا يقدر على خلق القبيح. واختار المصنّف مذهب

ص: 392


1- « شرح تجريد العقائد » : 339.
2- « كشف المراد » : 305.
3- الشرح القديم غير متوفّر لدينا.
4- حكي عنه في « المحصّل » : 418 ؛ « كشف المراد » : 306 ؛ « إرشاد الطالبين » : 188 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 339 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 213.

الأكثر ؛ فإنّه الصحيح.

واحتجّ عليه بأنّ نسبة القدرة إلى جميع الممكنات على السواء ، والقبائح منها ، فيكون قادرا عليها.

واحتجّ النظّام بأنّ فعل القبيح محال ؛ لأنّه يدلّ على الجهل ، أو الحاجة ، وكلاهما محال ، وما يؤدّي إلى المحال محال ، والمحال غير مقدور (1).

والجواب : أنّ الامتناع الوقوعيّ من جهة القبح لاحق للإمكان الأصليّ بالنظر إلى الحكمة ، فلا ينافي القدرة الذاتيّة ؛ فإنّ المحال الوقوعيّ مقدور ذاتيّ.

وصل

هذا الاعتقاد من أصول المذهب التي عليها بناء مذهب الاثني عشريّة ، فمن أنكره فهو خارج عن المذهب ، لا الدين ، كما لا يخفى.

المقام الثالث :

أنّ أفعال اللّه تعالى كلّها معلّلة بالأغراض والفائدة العائدة إلى العباد في الدنيا أو الآخرة.

اعلم : أنّ العلماء المتكلّمين اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

الأوّل : أنّه تعالى يفعل لغرض ولا يفعل شيئا لغير فائدة ، وهو مختار الإماميّة والمعتزلة (2).

الثاني : أنّه لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة. وهو

ص: 393


1- « المحصّل » : 418 ؛ « إرشاد الطالبين » : 188 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 399.
2- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 89 ؛ « كشف المراد » : 306 ؛ « مناهج اليقين » : 246 ؛ « قواعد المرام » : 110 - 111 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 29 ؛ « التعليقات » لابن سينا : 16 - 18 ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 259 - 286.

مذهب الأشاعرة (1).

والحقّ هو الأوّل ، كما اختاره المصنّف ؛ حيث قال : ( ونفي الغرض يستلزم العبث ) بمعنى أنّ الفعل الاختياريّ الصادر عن الفاعل المختار عند خلوّه عن الغرض عبث ، والعبث قبيح ، وصدور القبيح عن اللّه تعالى محال ، مع أنّ الفعل بلا غرض يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو محال عليه تعالى ، فيكون فعله تعالى معلّلا بالغرض وهو الداعي المحرّك إلى ذلك الفعل كالمعرفة والطاعة والاستعداد لإفاضة فيض الآخرة ، الموجبة لحصول وصف الفيّاضيّة ؛ ولهذا يقال : إنّه تعالى غاية الغايات ، وغاية كلّ مقصود ، مع أنّه الأصل في الوجود.

وقيل : الغرض هو سوق الأشياء الناقصة إلى كمالاتها التي لا تحصل إلاّ بذلك السوق ، كما أنّ الجسم لا يمكن إيصاله من مكان إلى مكان إلاّ بتحريكه وهو الغرض من تحريكه.

وفيه : نظر ؛ فإنّ الإيصال أيضا لا بدّ له من غرض.

واحتجّ الأشاعرة بأنّ الفاعل لغرض مستكمل بذلك الغرض ، والمستكمل ناقص ، واللّه تعالى يستحيل عليه النقصان ؛ لوجوب وجوده المقتضي لكونه تماما ، بل فوق التمام.

بيان ذلك : أنّ الغرض لا يصلح أن يكون غرضا للفاعل إلاّ عند كون وجوده أصلح له من عدمه ؛ لأنّ ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثا على الفعل وسببا لإقدامه عليه بالضرورة ، فكلّ ما يكون غرضا يجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل ، وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال ، فإذن يكون الفاعل كاملا بوجوده وناقصا بدونه ، وهو محال في حقّ الواجب بالذات.

ص: 394


1- « المحصّل » : 483 - 484 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 350 - 354 ؛ « شرح المواقف » 8 : 202 - 206 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 301 - 306 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 340.

والجواب أوّلا : أنّ الأشاعرة ومن يحذو حذوهم قائلون بالقياس في الأحكام الشرعيّة ، والقياس فرع العلّة الباعثة والغرض الداعي للشارع على حكم الأصل ، المقيس عليه ، وإلاّ فلا يتصوّر التعدّي من المنطوق إلى المسكوت عنه ، فلا يتحقّق قياس ، فيلزم إمّا إنكار القياس ، أو نفي هذا الأصل المقتضي لعدم جواز كون الأفعال معلّلة.

وثانيا : ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( ولا يلزم عوده إليه تعالى ) بمعنى أنّ النقص والاستكمال إنّما يلزمان لو كان الغرض عائدا إليه تعالى. وأمّا إذا كان الغرض عائدا إلى غيره - وهو الخلق كما هو الحقّ ، ولهذا يقال : إنّه تعالى يخلق العالم لنفعهم (1) - فلا يكون مستكملا بذلك الفعل ، بل يكون مكمّلا ، ولكنّ المقصود الأصلي هو النفع الأخرويّ لا الدنيويّ ؛ لأنّه المشوب بالآلام ، أو دفع الآلام ، ولهذا لم يجعل لسيّد الأنام ، ولا لغيره من الأنبياء والأوصياء والأولياء العظام.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المتبادر من الغرض ما كان عائدا إلى الفاعل ، فلا يكون الغرض العائد إلى المخلوق غرضا حقيقيّا ، فيكون عبارة عن المصالح والحكم التي هي عبارة عمّا يرجع إلى الغير فيكون حكيما ؛ لأنّ الحكيم من لا يفعل فعلا بلا حكمة ومصلحة ، ولا يصدر عنه العبث.

فإن قلت : نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه ، جاء الإلزام ، وإلاّ لم يصلح أن يكون غرضا ؛ لما مرّ من العلم الضروريّ بذلك.

قلت : إيصال النفع في مقام الفعل أولى من عدمه للمخلوق ، وتلك الأولويّة كافية في ترجيح الوجود على العدم ، مع أنّ الكمال يكون للفعل لا للذات ، فلا يلزم الاستكمال المحال ؛ ولهذا يحسّن فعل من فعل شيئا لنفع غيره من غير ملاحظة نفع

ص: 395


1- نعم ما قيل بالفارسية : من نكردم خلق تا سودى كنم *** بلكه تا [ بر ] بندگان جودى كنم ( منه رحمه اللّه ). راجع « مثنوي معنوى » : 281 ، الدفتر الثاني ، البيت 1770.

لنفسه أو عدمه له ، كمن نجّى من ألقي في النار ، أو خلّص المظلوم مثلا لمجرّد نفعه ، لا نفع نفسه ، بل مع عدم النفع له أصلا.

وأيضا إذا جاز الفعل بلا غرض جاز لغرض عائد إلى الغير بطريق أولى.

وقد يقال : إنّ ذات الواجب مرجّح لا الأولويّة ؛ لأنّه فيّاض مقتضى ذاته إفاضة الفيض.

نعم ، لو كان الفعل الصادر منه تعالى غير نافع للغير ، يلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ ذاته ليس مقتضيا للفعل مطلقا ، بل ما ينفع الغير ، فلا مرجّح لما لا ينفعه فتكون ذاته محرّكا له في الفعل.

ولهذا يقال : إنّ ذاته علّة فاعليّة وغائيّة ؛ لأنّ العلّة الغائيّة ما كان محرّكا للفاعل على الفعل ، فإطلاق الغرض على الحكم والمصالح يكون من باب التشبيه ، بمعنى أنّها لو كانت في أفعالنا ، لكانت أغراضا ولو كانت نافعة للغير ؛ لأنّ إيصالنا النفع إلى غيرنا كمال لنا ، فيكون غرضا ، ولمّا لم يمكن حصول الكمال للواجب ، لا يكون غرضا ، بل شبيها به ، فظهر من هذا حسم مادّة شبهة الأشاعرة الموجبة لهم للقول بكون أفعاله تعالى غير معلّلة بالأغراض ، لا ممّا يقال : من أنّ مجرّد إيصال النفع إلى الغير - من غير أن يكون أولى بالنظر إلى الفاعل - يصحّ أن يكون مرجّحا ؛ لأنّ الإيصال واللاإيصال إذا تساويا بالنظر إلى الفاعل ، لا يمكن صدور الإيصال منه بلا رجحان ، والأولويّة إلى الغير لا يصحّ أن تكون مرجّحة لأحد المتساويين بالنظر إلى الفاعل ، ولهذا قال الحكماء - على ما حكي عنهم - : إنّه تعالى ليس فاعلها بالقصد ؛ لاقتضائه الأولويّة بالنظر إلى الفاعل المقتضية للاستكمال ، بل فاعل بالرضا.

ولعلّ مرادهم أنّ المقصود بالذات في فعله تعالى ذاته لا ما يشتمل عليه فعله كإيصال النفع إلى الغير. وأمّا الرضا بالذات ، فلا يلزم أن يتعلّق بالأولى ، بل يجوز أن يتعلّق بأحد المتساويين ، فلا يلزم كون المرضيّ راجحا بالنظر إلى الراضي ، بل يكفي رجحانه في نفس الأمر في الصدور ، فالفاعل بالرضا من كان ذاته مقتضيا للفعل

ص: 396

المشتمل على الحكمة والمصلحة ، كما أنّ الفاعل بالطبع - الذي هو مقابله - ما كان ذاته مقتضيا لفعل لا يشتمل على المصلحة من حيث هو مقتضاه وإن اشتمل ذلك الفعل عليها من جهة كون سببه مقتضي ذات يلزم أن يكون في فعله مصلحة وهو الواجب ، فإحراق النار ليس فيه مصلحة من جهة كون النار مقتضية له وإن كان فيه مصلحة من جهة كون طبيعة النار من مقتضيات ذات الواجب المقتضية للأفعال المحكمة.

وأمّا وجه حسن التكليف وكونه معلّلا بالغرض العائد إلى العباد ، فهو أنّ التكليف - لغة - عبارة عن الحمل على الكلفة والمشقّة ، وشرعا عبارة عن دعوة إلهيّة للعباد إلى أمور شاقّة دعوة مشتملة على الوعد بالثواب الأخرويّ الذي هو إيصال النفع على وجه التعظيم ، والوعيد بالعقاب الأخرويّ الذي هو إيصال الضرر على وجه الإهانة ، وهو على قسمين :

أحدهما : عقليّ ، كحكم العقل بوجوب الواجبات العقليّة ، وحرمة المحظورات العقليّة ؛ لأنّ حكمه دعوة إلهيّة حاملها العقل ، كما أنّ الشرع دعوة إلهيّة حاملها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولهذا يقال : إنّ العقل شرع من الداخل ، والشرع عقل من الخارج.

وثانيهما : التكليف شرعيّ ، كحكم الشرع بالواجبات الشرعيّة والمحرّمات الشرعيّة ، ولا شبهة في كون التكليف العقليّ حسنا بالحسن العقليّ بالمعنى الأخصّ ، وهو الذي لا يحتاج العقل في إدراك جهاته إلى الكشف من الشرع ويقابله الشرعيّ الذي يحتاج العقل في إدراك جهاته إليه ، وعند التجرّد عن القيدين يحصل العقليّ بالمعنى الأعمّ.

وأمّا التكليف الشرعيّ ، فاختلف فيه القائلون بالحسن والقبح العقليّين - المتّفقون في كونه حسنا عقليّا بالمعنى الأعمّ على ما حكي عنهم - فقال بعضهم : إنّه حسن عقليّ بالمعنى الأخصّ أيضا ، وأنكره آخرون (1).

ص: 397


1- « كشف المراد » : 319 - 321 ؛ « إرشاد الطالبين » : 272 - 273.

والحقّ أنّ العقل يدرك حسن التكاليف الشرعيّة بالنظر ، لا بالبديهة ، والدليل على حسنها أنّ النفس الناطقة ، لها قوّة عقليّة معدّة لتحصيل المعرفة واستحقاق القرب إلى ربّ العالمين ، وقوّة شهويّة يحفظ بها أمور نظام البدن التي يكون الغرض الأصليّ منها حفظ وجود الشخص والنوع. وأمّا سائر القوى ، فبعضها من أعوان الأولى ، وبعضها من أعوان الثانية ، وقد يصير الثانية أيضا بنوع من التدبير من أعوان الأولى من غير أن يحصل الضرر فيما هو الغرض منها ، وأقلّ مرتبة الإعانة أن لا تعارضها ولا تمنعها عمّا هو الغرض الأصليّ منها ، وقد يعكس الأمر ، فيبطل ما هو الغرض الأصليّ من إعطاء القوّة العقليّة ، بل ما هو الغرض من خلق الإنسان وإعطاء جميع القوى وهو استحقاق القرب إلى جوار ربّ العالمين ، فلا بدّ من التدبير المذكور ، وكيفيّة ضبط القوّة الشهويّة عن الميل إلى طرفي الإفراط والتفريط المؤدّي أوّلهما إلى فوات ما هو الغرض الأصليّ من العقليّة ، وثانيهما إلى فوت ما هو الغرض الأصليّ منها ، بل ما هو الغرض الأوّلي أيضا.

وذلك الضبط لا يمكن على وجه الكمال لأحد إلاّ بتعريف إلهي بالأمر والنهي اللذين يعبّر عنهما بالتكليف الشرعيّ ، فصدور التكليف عن الواجب تعالى حسن عقلا ؛ لاشتماله على فائدة عظيمة لا تحصل بدونه.

ويشترط فيه تقدّمه على زمان الفعل ليتهيّأ المكلّف له ، وإمكان ذلك الفعل ؛ لقبح التكليف بالمحال ، وعلم المكلّف بحسن الأفعال وقبحها ؛ لئلاّ يأمر بقبيح ، ولا ينهى عن حسن ، ويجزي على قدره ، ولا ينقص في الثواب ، ولا يزيد في العقاب ، وقدرة المكلّف على الفعل ، وإمكان تحصيل العلم بكيفيّته ؛ لقبح تكليف العاجز عن الفعل ، أو عن العلم بكيفيّته ، فلا بدّ من كون المكلّف عالما بقدرة المكلّف على الفعل وعلى تحصيل العلم بكيفيّته ؛ لئلاّ يصدر منه التكليف القبيح ، هذا كلّه مضافا إلى أنّ ما ذكر اجتهاد في مقابل النصّ من الكتاب والسّنّة الإسكاتيّة والسكوتيّة ،

ص: 398

فقد قال اللّه تعالى : ( ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) وقال اللّه تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) وقال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (3) وقال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (4) وقال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (5) ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (6).

وقال تعالى : ( خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (7).

وعن مولانا الحسين بن عليّ علیهماالسلام أنّه قال : « أيّها الناس! إنّ اللّه - جلّ ذكره - ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه » فقيل له : ما معرفة اللّه عزّ وجلّ؟ فقال : « معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم إطاعته » (8).

يعني أنّ معرفة اللّه لا تتمّ إلاّ بمعرفة إمام الزمان ، أو لا تنفع إلاّ بها ، ولا تحصل إلاّ بها ؛ لأنّه السبيل إلى اللّه تعالى.

وعن الصادق علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه - تبارك وتعالى - لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى ، بل خلقهم لإظهار قدرته ، وليكلّفهم طاعته ، فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ، ولا ليدفع بهم مضرّة ، بل خلقهم لنفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد » (9).

ص: 399


1- الذاريات (51) : 56.
2- البقرة (2) : 29.
3- الأنبياء (21) : 16.
4- المؤمنون (23) : 115.
5- الأنبياء (21) : 16.
6- ص (38) : 28.
7- الجاثية (45) : 32.
8- « علل الشرائع » 1 : 9 ، الباب 9 ، ح 1.
9- نفس المصدر ، ح 2.

وعن الصادق علیه السلام أنّه قال : « لم يجعل شيئا إلاّ لشيء » (1).

وفي الحديث القدسيّ : « كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف » (2).

وفي « البحار » في باب التوحيد عن المفضّل عن مولانا الصادق علیه السلام قال علیه السلام :

« نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان ، فاعتبر به فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث : البطن وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ؛ فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاءه حتّى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق بأمّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتّى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم - الذي كان يغذوه من دم أمّه - إلى ثدييها ، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثديي أمّه كالإدواتين المعلّقتين لحاجته ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء حتّى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوي بدنه ، طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ويسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتّى يدرك ، فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه ، فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال ؛ لما فيه من دوام النسل وبقائه » إلى أن قال المفضّل : يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته

ص: 400


1- في المصدر : « لم يجعل شيء ... ».
2- « التجلّيات الإلهيّة » : 100 ؛ « فصوص الحكم » : 203 ؛ « جامع الأسرار » : 102 ؛ « مصباح الأنس » : 164 ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 285.

ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر؟ فقال علیه السلام :

« ذلك بما قدّمت أيديهم ، وأنّ اللّه ليس بظلاّم للعبيد - إلى أن قال - : ولو كان المولود يولد فهما عاقلا ، لأنكر العالم عند ولادته ، ولبقي حيرانا ، تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف ، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ، ويوما بعد يوم.

واعتبر ذلك بأنّ من سبي من بلد إلى بلد - وهو عاقل - يكون كالواله الحيران ، فلا يسرع في تعلّم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل.

ثمّ لو ولد عاقلا ، كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصّبا بالخرق مسجّى في المهد ؛ لأنّه لا يستغني عنه هذا كلّه لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل - إلى أن قال - : لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكلّفات بالبرّ والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ، ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم ؛ لأنّ الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم (1) ، فيتفرّقون عنهم حين يولدون ، فلا يعرف الرجل أباه وأمّه ، ولا يمتنع من نكاح أمّه وأخته وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهنّ ، وأقلّ ما في ذلك من القباحة - بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن أمّه وهو يعقل - أن يرى منها ما لا يحلّ له ولا يحسن به أن يراه ، أفلا ترى كيف أقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب ، وخلا من الخطأ دقيقه وجليله؟

اعرف يا مفضّل! ما للأطفال في البكاء من المنفعة ، واعلم : أنّ في أدمعة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة وعللا عظيمة من ذهاب البصر

ص: 401


1- أي حفظهم وتعهّدهم.

وغيره ، فالبكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم ، فيعقبهم ذلك الصحّة في أبدانهم ، والسلامة في أبصارهم ، أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك؟ فهما دائبان ليسكتانه ويتوخّيان في الأمور مرضاته ؛ لئلاّ يبكي وهما لا يعلمان أنّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبة ، فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال ، ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنّه لا منفعة فيه من أجل أنّهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه ؛ فإنّ كلّ ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون وكثيرا ممّا يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جلّ قدسه ، وعلت كلمته.

فأمّا ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة ، التي لو بقيت في أبدانهم ، لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حدّ البله والجنون والتخليط إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة كالفالج واللقوة وما أشبههما ، فجعل اللّه تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم ؛ لما لهم في ذلك من الصحّة في كبرهم فتفضّل على خلقه بما جهلوه ، ونظر لهم بما لم يعرفوه ، ولو عرفوا نعمه عليهم ، لشغلهم ذلك عن التمادي في معصيته ، فسبحانه ما أجلّ نعمته ، وأسبغها على المستحقّين وغيرهم من خلقه ، وتعالى عمّا يقول المبطلون علوّا كبيرا.

انظر الآن يا مفضّل! كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك ، فجعل للذكر آلة ناشزة تمتدّ حتّى تصل النطفة إلى الرحم إذ كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره ، وخلق للأنثى وعاء قعر ليشتمل على الماءين جميعا ويحتمل الولد ويتّسع له ويصونه حتّى يستحكم ، أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف ، سبحانه وتعالى عمّا يشركون؟

فكّر يا مفضّل! في أعضاء البدن أجمع ، وتدبير كلّ منها لمآرب ، فاليدان للعلاج ، والرجلان للسعي ، والعينان للاهتداء ، والفم للاغتذاء ، والمعدة للهضم ، والكبد

ص: 402

للتخليص ، والمنافذ لتنفيذ الفضول ، والأوعية لحملها ، والفرج لإقامة النسل ، وكذلك جميع الأعضاء إذا تأمّلتها وأعملت فكرك فيها ونظرك ، وجدت كلّ شيء منها قد قدّر لشيء على صواب وحكمة ».

قال المفضّل : فقلت : يا مولاي! إنّ قوما يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة ، فقال : « سلهم عن هذه الطبيعة : أيّ شيء؟ له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإنّ هذا صفته (1) ، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة ، علم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه جارية على ما أجراها عليه.

فكّر يا مفضّل! في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير ؛ فإنّ الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكأها ، وذلك أنّ الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ، ثمّ إنّ الكبد تقبله ، فيستحيل بلطف التدبير دما ، وينفذ إلى البدن كلّه في مجار مهيّأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء حتّى يطرد في الأرض كلّها ، وينفذ ما يخرج منه إلى مفائض قد أعدّت لذلك ، فما كان منه من جنس المرّة الصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من البلّة والرطوبة جرى إلى المثانة.

فتأمّل حكمة التدبير في تركيب البدن ، ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها ، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلاّ تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه ، فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير ، فوصف نشوء الأبدان ونموّها في الرحم من غير يد تنالها ويدبّرها إلى الكمال » - إلى أن قال - :

ص: 403


1- كذا ، وفي « بحار الأنوار » : « هذه صنعته ».

« يا مفضّل! انظر إلى ما خصّ به الإنسان في خلقه تشريفا وتفضيلا على البهائم ؛ فإنّه خلق ينتصب قائما ، ويستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما ، فلو كان مكبوبا على وجهه كذات الأربع ، لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال.

انظر الآن يا مفضّل! إلى هذه الحواسّ - التي خصّ بها الإنسان في خلقه ، وشرّف بها على غيره - كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكّن من مطالعة الأشياء ، ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهنّ كاليدين والرجلين ، فتعرضها الآفات ، وتصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعلّلها ويؤثّر فيها وينقص منها ، ولا في الأعضاء التي هي وسط البدن كالبطن والظهر ، فيعسر تقلّبها واطلاعها نحو الأشياء ، فلمّا لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع ، كان الرأس أسنى المواضع للحواسّ وهو بمنزلة الصومعة لها ، فجعل الحواسّ خمسا تلقى خمسا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات ، فخلق البصر ليدرك الألوان ، فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها ، لم يكن فيها منفعة ، وخلق السمع ليدرك الأصوات ، فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها ، لم يكن فيها أرب ، وكذلك سائر الحواسّ.

ثمّ هذا يرجع متكافئا ، فلو كان بصر ولم يكن ألوان ، لما كان للبصر معنى ، ولو كان سمع ولم يكن أصوات ، لم يكن للسمع موضع ، فانظر كيف قدّر بعضها يلقى بعضا ، فجعل لكلّ حاسّة محسوسا يعمل فيه ، ولكلّ محسوس حاسّة تدركه ، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسّطة بين الحواسّ والمحسوسات لا تتمّ الحواسّ إلاّ بها كمثل الضياء والهواء ؛ فإنّه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون ، ولو لم يكن هواء يؤدّي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت ، فهل يخفى على من صحّ نظره وأعمل فكره أنّ مثل هذا الذي وصفت - من تهيئة الحواسّ والمحسوسات بعضها يلقى بعضا وتهيئة أشياء أخرتتم بها الحواسّ - لا يكون إلاّ بعمد وتقدير من لطيف خبير ».

ص: 404

فذكر ما ينال فاقد البصر من الخلل ، وكذا فاقد السمع حتّى عدّه كالغائب وهو شاهد ، وكالميّت وهو حيّ ، فقال : « فأمّا من عدم العقل ، فإنّه يلحق بمنزلة البهائم ، بل يجهل كثيرا ممّا يهتدي إليه البهائم.

فساق الكلام إلى أن قال المفضّل : فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح ، فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟

قال علیه السلام : ذلك للتأديب والموعظة لمن يحلّ ذلك به ولغيره بسببه كما قد يؤدّب الملوك الناس للتكميل والموعظة ، فلا ينكر ذلك عليهم ، بل يحمد من رأيهم ، ويصوّب من تدبيرهم ، ثمّ إنّ للذين ينزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت - إن شكروا وأنابوا - ما يستصغرون معه ما ينالهم منها ، حتّى أنّهم لو خيّروا بعد الموت ، لاختاروا أن يردّوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.

فكّر يا مفضل! في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا ، وما في ذلك من الحكمة والتقدير ، والصواب في التدبير ، فالرأس ممّا خلق فردا ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد ، ألا ترى أنّه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر ، لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه ؛ لأنّ الحواسّ التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد.

ثمّ كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان ، فإن تكلّم من أحدهما ، كان الآخر معطّلا لا أرب فيه ولا حاجة إليه ، وإن تكلّم منهما جميعا بكلام واحد ، كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه ، وإن تكلّم بأحدهما بغير الذي تكلّم به من الآخر ، لم يدر السامع بأيّ ذلك يأخذ.

واليدان ممّا خلق أزواجا ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة ؛ لأنّ ذلك كان يخلّ به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ، ألا ترى أنّ النجّار والبنّاء لو شلّت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته ، وإن تكلّف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت له يدان تتعاونان على العمل.

أطل الفكر يا مفضّل في الصوت والكلام وتهيئة الآلة في الإنسان ، فالحنجرة

ص: 405

كالأنبوبة لخروج الصوت ، واللسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم ، ألا ترى أنّ من سقطت أسنانه لم يقم السين ، ومن سقطت شفته لم يصحّح الفاء ، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء ، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم ، فالحنجرة تشبه قصبة المزمار ، والرئة تشبه الزقّ الذي ينفخ فيه ليدخل الريح ، والعضلات - التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت - كالأصابع التي تختلف في فم المزمار ، فتصوغ صفيره ألحانا غير أنّه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإنّ المزمار في الحقيقة هو المشبّه بمخرج الصوت.

قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف ، وفيها - مع الذي ذكرت لك - مآرب أخرى.

فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة فتروّح عن الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو احتبس شيئا يسيرا ، لهلك الإنسان.

وباللسان تذاق الطعوم ، فيميّز بينها ، ويعرف كلّ واحد منها : حلوها من مرّها ، وحامضها من مزّها ، ومالحها من عذبها ، وطيّبها من خبيثها ، وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب.

والأسنان تمضغ الطعام حتّى يلين ويسهل إساغته وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم ؛ واعتبر ذلك أنّك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة ومضطربها.

وبالشفتين يترشّف الشراب حتّى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر لا يثجّ ثجّا ، فيغصّ به الشارب ، أو ينكأ في الجوف ، ثمّ هما بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحهما الإنسان إذا شاء ، ويطبقهما إذا شاء ففيما وصفنا من هذا بيان أنّ كلّ واحد من هذه الأعضاء ينصرف وينقسم إلى وجوه من المنافع » (1).

ص: 406


1- « بحار الأنوار » 3 : 62 - 72.

ثمّ ذكر فوائد أخرى كجعل منافذ البول والغائط أشراجا تضبطهما ؛ لئلاّ يجريا جريانا دائما ، فيفسد على الإنسان عيشه ، وجعل الكبد رقيقة ناعمة ؛ لقبول الصفو اللطيف من الغذاء ، وجعل المخّ الرقيق ؛ لحفظ العظام ، والدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف ؛ لضبطه فلا يفيض ، وجعل الأظفار على أطراف الأصابع ؛ وقاية لها ومعونة على العمل ، وجعل داخل الأذن ملتويا كهيئة الكواكب ليطّرد فيه الصوت حتّى ينتهي إلى السمع ولينكسر حمّة الريح فلا ينكأ في السمع ، وجعل اللحم على فخذي الإنسان ليقيه من الأرض فلا يتألّم من الجلوس عليها كما يتألّم من نحل جسمه وقلّ لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها ، وجعل مخرج الغائط موضعا مستورا بالفخذين والأليتين ، وخلق الشعر والأظفار ليخرج آلام البدن بخروجهما ، ولذلك أمر الإنسان بالنورة وحلق الرأس وقصّ الأظفار في كلّ أسبوع ، ليسرع الشعر والأظفار في النبات ليخرج الآلام بخروجها ، وجعلهما عديمي الحسّ ؛ لئلاّ يؤلم الإنسان الأخذ منها ، وجعل الشبق ليقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه ، وخلق الجاذبة لقبول الغذاء وإيراده على المعدة ، والممسكة لحبس الطعام حتّى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، والهاضمة لطبخه واستخراج صفوه ، والدافعة لدفع الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ، وإعطاء الفكر والوهم والعقل والحفظ (1) وغير ذلك (2) ممّا لا يصدر إلاّ من مدبّر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إيّاها ، لا يعجزه شيء وهو اللطيف الخبير.

ص: 407


1- « بحار الأنوار » 3 : 78 - 80.
2- كخلق الحبّ لطعامه ، والوبر لكسوته ، والشجر لثمرته ، وتدبير الأمر في الماء والخبز اللذين هما رأسا معاش الإنسان سيّما الماء ؛ فإنّ حاجة الإنسان إليه أكثر ؛ لأنّه يحتاج إليه في شربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه ، فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه وتكلّفه ، وجعل الخبز متعذّرا لا ينال إلاّ بالحيلة والحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفّه عمّا يخرجه إليه الفراغ من الاشتراء والعبث كمنع المعلّم الصبيّ عنهما وغير ذلك ممّا فيه المصلحة بتدبير الحكيم. منه ( دام ظلّه العالي ).

ومثل ذلك ما يدلّ على أنّ السماء كالسقف مرفوعة ، والأرض كالبساط ممدودة ، والنجوم كالمصابيح منضودة ، والجواهر كالذخائر مخزونة ، وضروب النبات لمآربه مهيّأة ، وصنوف الحيوان في منافعه ومصالحه مصروفة ، وأنواع العوالم بتقدير ونظام وحكمة متلائمة ، فقد خلق البيضة مشتملة على الذهبة المائعة والفضّة الذائبة فلا الذهبة تختلط بالفضّة ، ولا الفضّة تختلط بالذهبة يخرج منها الطواويس وسائر الطيور من الإناث والذكور.

إلى غير ذلك كبعض فقرات بعض خطب مولانا أمير المؤمنين علیه السلام المذكورة في نهج البلاغة ؛ حيث قال علیه السلام : « [ ثمّ أنشأ - سبحانه - ] فتق الأجواء ، وشقّ الأرجاء ، وسكائك الهواء ، فأجرى فيها ماء متلاطما [ تيّاره ]. حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة ، فأمرها بردّه ، وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حدّه ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق.

ثمّ أنشأ - سبحانه - ريحا اعتقم مهبّها ، وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار ، وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، حتّى عبّ عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق وجوّ منفهق ، فسوّى منه سبع سماوات ، جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا ، وعلياهنّ سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا.

ثمّ زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثوابت ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا ، وجعل فيها الملائكة السفرة ، الكرام البررة.

ثمّ جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت ، ولاطها بالبلّة حتّى لزبت ، فجعل منها صورة ذات أجزاء ووصول ، وأعضاء وفصول ، أجمدها حتّى استمسكت ، وأصلدها حتّى صلصلت.

ثمّ نفخ فيها من روحه ، فجعلها إنسانا ، وجعل له أذهانا وأركانا ولسانا وجوارح وحواسّ وعقولا يفرق بها بين الحقّ والباطل ، والملائم والمنافر ، وصفة

ص: 408

الكمال والنقص ، فأمر الملائكة بالسجود له ، فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.

ثمّ أسكن آدم دارا أرغد فيها عيشه وحذّره إبليس وعداوته ، فاغترّه عدوّه ، ثمّ ندم فتقبّل توبته ، ثمّ اصطفى من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة زمامهم إلى أن بعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ اختار له من المعصومين أوصياءهم حفظة شريعته وكواشف ملّته مبيّنين للحلال والحرام ، والفرائض والأحكام كوجوب الصلاة والصيام والزكاة وحجّ البيت الحرام ، واختار من خلقه سمّاعا أجابوهم وصدّقوهم » (1).

ونحو ذلك من الأغراض العائدة إلى العباد في الآخرة بسبب المعرفة والطاعة كنعم الجنّة وتزويج المؤمن ثمانمائة عذراء وأربعة آلاف ثيّبات وزوجتين من الحور العين يرى مخّ ساقها من وراء سبعين حلّة كبدها مرآته وكبده مرآتها (2).

ومثل ذلك ما فيه بيان كيفيّة خلق العالم وآدم وبني آدم ، ومفاده : أنّ اللّه خلق من نور عظمته - بعد أن كان ولم يكن شيء - نور محمّد وعليّ وذرّيّتهما المعصومين قبل الخلق بألفي عام أو أزيد على الاختلاف ، وكان نبيّنا صلی اللّه علیه و آله أوّل النبيّين ميثاقا ؛ ولهذا صار أفضلهم وخاتمهم وآخرهم مبعثا ، وأنّ نوره صلی اللّه علیه و آله كان يسبّح اللّه قبل خلق آدم بألف عام ، وأنّه تعالى خاطبه بأنّك مقصودي من خلق العالم ، ولولاك لما خلقت الأفلاك ، فسطع نوره صلی اللّه علیه و آله ، فخلق منه اثنا عشر حجابا : حجاب القدرة والعظمة والعزّة والهيبة والجبروت والرحمة والنبوّة والكبرياء والمنزلة والرفعة والسعادة والشفاعة ، فدخل نوره صلی اللّه علیه و آله في كلّ حجاب ، فسبّح اللّه سنين كثيرة ، فغاص في بحر العزّة

ص: 409


1- « نهج البلاغة » : 15 - 20 ، الخطبة الأولى. بتفاوت.
2- « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 82 ، ذيل الآية 19 من سورة الحجّ ، وعنه في « بحار الأنوار » 8 : 120 - 122 ، ح 11. وراجع « ثواب الأعمال وعقاب الأعمال » :2. 149 باب ثواب قراءة سورة الإنسان ، ح 1 ، وعنه في « بحار الأنوار » 8 : 192 ، ح 171 - 172.

ونحوها فخرج من البحار ، فنضح منه صلی اللّه علیه و آله مائة وعشرون وأربعة آلاف قطرة ، فخلق من كلّ قطرة نبيّا ، وكان أنوار النبيّين يطوفون حول نوره صلی اللّه علیه و آله مع تسبيحه لله ، فخلق من نوره صلی اللّه علیه و آله جوهرا فنصّفه ، فنظر إلى أحد النصفين نظر الهيبة ، فصار ماء عذبا حلوا ، ونظر إلى الآخر ، فخلق منه العرش ، وخلق من نور العرش الكرسيّ ، ومن نور الكرسيّ اللوح ، ومن نور اللوح القلم ، فأمر القلم أن يكتب فدهش وبعد التجلّي كتب بأمره تعالى : لا إله إلاّ اللّه ، محمّد رسول اللّه ، فسأل : يا ربّ! من محمّد الذي قرنت اسمه باسمك؟ فأوحى اللّه إليه : أنّه من لولاه لما خلقت الخلق ، فسلّم عليه القلم ، فردّ صلی اللّه علیه و آله علیه السلام ؛ ولهذا صار جواب السلام واجبا ، فخرج من الماء بخار ، فخلق منه السماوات ، وخلق من زبده الأرض والجبال لتسكن الأرض ، وخلق ملكا وحجرا عليه الملك ، وبقرا عليه الحجر ، وحوتا عليه البقر ، فنوّر العرش بنور الفضل والعدل ، فخلق من نور محمّد الشمس والقمر والنجوم ، فأمر جبرئيل أن ينزل إلى الأرض ليقبض طينا ليخلق به آدم فسبق إبليس ، فقال : إنّ اللّه يريد أن يخلق منك خلقا يعذّبه بالنار ، فاستعذي باللّه واستغيثي به ، ففعلت كذا ، فرجع جبرئيل ، فأمر ميكائيل ، ففعل كما فعل جبرئيل ، وكذا إسرافيل.

ولمّا أمر عزرائيل ، أخذ - حذرا عن ترك الامتثال - من وجه تمام الأرض من الأبيض والأسود ونحوهما ؛ ولهذا اختلفت ألوان بني آدم ، فخلق من تلك الطينة آدم ، فأمر الملائكة بالسجود له بعد نفخ الروح ، فنفخ روحه كرها إلى الدماغ فعطس ، فقال بإقداره : الحمد لله ، فقال اللّه : رحمك اللّه ، فلمّا وصل الروح إلى ساقه أراد أن يقوم فما تمكّن ، ثمّ نفخ إلى أقدامه فجلس ، فسجد الملائكة كلّهم إلاّ إبليس ، ثمّ نام آدم ، فخلق من فضل طينته حوّاء ، فلمّا استيقظ مال إليها ، فقال اللّه تعالى : اخطبها ، فزوّجها اللّه تعالى إيّاه ، وجعل مهرها أن يصلّي على محمّد وآله عشر مرّات ، فقال لها : أقبلي إليّ ، فقالت : بل أنت ، فأمر اللّه تعالى آدم أن يقوم إليها ، فقام فغشيها ، فولد قابيل وهابيل ، فلمّا قتل قابيل هابيل - من جهة إرادة تفويض أمر الوصيّة إلى هابيل

ص: 410

مع كونه أصغر ، لا من جهة إرادة تزويج أخت كلّ من الآخر ، كما عن العامّة - جزع عليه جزعا قطعه عن إتيان النساء فلم يستطع أن يغشى حوّاء خمسمائة عام ، ثمّ تجلّى ما به من الجزع فغشي حوّاء ، فوهب اللّه له شيثا يقال له : هبة اللّه وهو أوّل وصيّ أوصي إليه من الآدميّين في الأرض ، ثمّ ولد له يافث ، ثمّ أنزل اللّه بعد إدراكهما بعد العصر يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزل ، فأمر اللّه أن يزوّجها من شيث فزوّجها منه ، ثمّ أنزل بعد العصر من الغد حوراء أخرى من الجنّة اسمها منزلة ، فأمر اللّه أن يزوّجها من يافث فزوّجها منه ، فولد لشيث غلام ، وليافث جارية ، فأمر اللّه بعد إدراكهما أن يزوّج ابنة يافث من ابن شيث ، ففعل ، وهكذا فعل لا بني آخرين من آدم ، ثمّ رفعهنّ اللّه وزوّج هؤلاء الأربعة أربعة من الجنّ ، فصار النسل منهم بتزويج بنات العمّ من أبناء العمّ ، لا من تزويج بناته من بنيه ، كما عن العامّة ؛ لجريان القلم على تحريم الأخوات على الإخوة في جميع الشرائع ، فبثّ رجالا كثيرا ونساء ، فما كان من حلم فمن آدم ، وما كان من جمال فمن الحور ، وما كان من قبح أو سوء الخلق فمن الجنّ (1).

ولا يخفى أنّ ذلك أيضا يدلّ على أنّ إيجاد الخلق معلّل بالغرض العائد إلى الخلق ؛ لحصول (2) الرئاسة للنبيّ وإطاعتنا له ، وتحقّق الجسم للإنسان ونحو ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل.

وبالجملة ، فالعقل والنقل متطابقان على أنّ أفعال اللّه تعالى معلّلة بالأغراض والفوائد العائدة إلى العباد ، ولكن لمّا كان ذلك منافيا لما ذهب إليه الأشاعرة (3) - من أنّه تعالى مريد لكلّ ما هو كائن حسنا كان أم قبيحا ، فعلا كان أم تركا ؛ لعدم (4) الفائدة

ص: 411


1- « تفسير علي بن إبراهيم » 1 : 36 - 42 ؛ « بحار الأنوار » 4 : 25 وما بعدها ؛ و 11 : 99 - 246 و 15 : 3 - 38.
2- كذا في النسخ. ولا يعلم لقوله : « لحصول - إلى قوله - المتأمّل » معنى محصّل.
3- « المحصّل » : 472 - 473 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 343 - 345 ؛ « شرح المواقف » 8 : 173 - 179 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 274 - 281.
4- تعليل للمنافاة.

في فعل القبيح وترك الحسن ، والأمر بغير المراد ، والنهي عن المراد كما (1) روي مرفوعا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن (2) - أشار المصنّف رحمه اللّه إلى جوابه بما اختاره وفاقا للمعتزلة (3) من أنّه تعالى لا يريد القبيح سواء وقع أم لا ، ويريد الحسن سواء وقع أم لا. واحتجّ عليه بقوله :

( وإرادة القبيح قبيحة ، وكذا ترك إرادة الحسن ، والأمر والنهي (4) ) بمعنى أنّ اللّه تعالى كما لا يفعل القبيح ، كذلك لا يريد القبيح ؛ لقبح ذلك ، وأنّه تعالى كما لا يترك الحسن ، كذلك لا يريد تركه ؛ لقبح ذلك.

وأيضا أنّه تعالى أمر الكافر بالإيمان ونهاه عن الكفر ، فلو لم يكن إيمانه مرادا ، لكان الأمر به قبيحا ، ولو لم يكن كفره مكروها ، لكان النهي عنه قبيحا ، فقوله : « والأمر » عطف على قوله : « ترك » بمعنى أنّ الأمر الحقيقي بغير المراد أيضا قبيح ، وكذا النهي عن المراد أيضا قبيح ، وقبح ذلك كلّه ببداهة العقل ، فلا حاجة إلى الدليل ، فلا يتوجّه أنّه تصرّف في ملكه حيث شاء ، وكذا المنع بأنّه ربّما لا يكون غرض الآمر الإتيان بالمأمور ، كما إذا أمر العبد امتحانا بأنّه هل يطيعه أم لا ؛ فإنّه لا يريد شيئا من الطاعة والعصيان ، واعتذارا (5) عن ضربه بأنّه لا يطيعه فإنّه يريد منه العصيان ، وكالمكره على الأمر بنهب أمواله ، وكذا النهي.

والأولى أن يقال : إنّ الإرادة على قسمين : تكوينيّة وتكليفيّة. والإرادة التكوينيّة متعلّقة بكلّ كائن ولو بإعطاء الأسباب ، والإرادة التكليفيّة لا تتعلّق

ص: 412


1- استدلال لمسلك الأشاعرة.
2- « الأمالي » للصدوق : 395 ، المجلس 74 ، ح 1 ؛ ونقل عن أمير المؤمنين علیه السلام في « الخصال » : 631 ، ح 10 ؛ « عدّة الدّاعي » : 282.
3- « المحصّل » : 472 - 473 ؛ « شرح المواقف » 8 : 173 - 179 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 431 وما بعدها.
4- في « شرح تجريد العقائد » : 340 أورد المتن بهذه الصيغة : « ... وكذا ترك إرادة الحسن قبيح ، وكذا الأمر بما لا يراد قبيح والنهي عمّا يراد أيضا قبيح ».
5- كذا في النسخ ، والصحيح - كما عليه القوشجي - : « أو اعتذارا ».

بما ذكر ؛ لما ذكر.

واحتجّ الأشاعرة على أنّ اللّه يريد القبائح بأنّه تعالى فاعل لكلّ موجود ، ومن جملة الموجودات القبائح ، فيكون مريدا لها ؛ ضرورة أنّ الإرادة هي الصفة لأحد طرفي المقدور ، واللّه هو المرجّح ؛ إذ لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه.

( و ) أجاب المصنّف - وفاقا للمعتزلة - عن هذا الدليل بأنّ ( بعض الأفعال مستندة إلينا ) بمعنى أنّا لا نسلّم أنّ اللّه تعالى فاعل لكلّ موجود بلا واسطة ؛ لكون بعض الأفعال مستندة إلينا بالضرورة كما سيأتي.

واحتجّوا على أنّ إرادة اللّه غير متعلّقة بما ليس بكائن بأنّه تعالى لو أراد الإيمان من الكافر والطاعة من العاصي - وقد صدر الكفر من الكافر ، والمعصية من العاصي - لزم أن لا يحصل مراد اللّه ، ويحصل مراد الكافر والعاصي ، فيلزم أن يكون اللّه تعالى مغلوبا ، والكافر والعاصي غالبين عليه.

( و ) أجاب المصنّف بأنّ ( المغلوبيّة غير لازمة ) لأنّ اللّه تعالى لم يرد الإيمان والطاعة مطلقا - ولو إجبارا - حتّى يلزم المغلوبيّة بسبب عدم وقوع مراده تعالى ، بل أرادهما على سبيل الاختيار وإرادة المكلّف ، ولا مغلوبيّة له تعالى في عدم الوقوع حينئذ كما لا يخفى ؛ فإنّه من لوازم الاختيار الذي أعطاه اللّه عباده.

واحتجّوا أيضا بأنّ اللّه تعالى علم عدم وقوع الإيمان من الكافر ، والطاعة من العاصي ، وكلّ ما علم اللّه وقوعه وجب وقوعه ، وكلّ ما علم عدم وقوعه امتنع وقوعه ؛ لاستحالة انقلاب علمه تعالى جهلا ، والعالم باستحالة الشيء لا يريده البتّة ؛ لقبح إرادة المحال.

( و ) أجاب المصنّف - رحمه اللّه - بأنّ ( العلم تابع للمعلوم ) كما مرّ ، فلا يؤثّر في إمكان الفعل وامتناعه ، مضافا إلى أنّ اللّه تعالى كما كان عالما بالعدم ، كذلك كان عالما بأنّه باختيار المكلّف ، فلو لم يكن مختارا لزم كون علمه تعالى جهلا ، وحيث كان مختارا جاز تعلّق إرادته تعالى.

ص: 413

وصل

هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب الجعفريّ ، وصاحب المذهب من منكره بريء ولكنّه طاهر ظاهريّ.

المقام الرابع :

اشارة

في أنّ اللّه تعالى خلق العباد مع القدرة والاختيار من غير تفويض وإجبار في أفعالهم الاختياريّة ، بمعنى أنّ اللّه تعالى أوجد العباد على وجه الاعتدال وكونهم قادرين على الفعل والترك على وجه الأمر بين الأمرين بجعلهم قادرين ومختارين بالاختيار المستند إلى اختياره تعالى ، واحتياجهم في اختيارهم - حين اختيارهم - إليه تعالى ، فهو عادل في إيجادهم كسائر أفعاله تعالى ، فأمرهم في أفعالهم الاختياريّة ليس على وجه الجبر ولا التفويض ، بل يكون الأمر بين الأمرين. وتكون العلّة مركّبة في البين من العلّة البعيدة والقريبة ، بمعنى أنّ إعطاء الأسباب وإبقاءها من الربّ ، ومباشرة العبد بالاختيار المستند إلى اختياره تعالى علّة تامّة لحصول الأفعال الاختياريّة للعباد.

وحيث كان التركيب اعتباريّا في مقام الفعل التكوينيّ لا التكليفيّ لا يلزم الحلول والاتّحاد وتعذيب الشريك القويّ للشريك الضعيف ؛ لأنّ التعذيب باعتبار الاختيار والمباشرة ممنوعة في مقام التكليف ، لا التكوين ، ولا نحو ذلك. وحيث كان العلّيّة في مقام الفعل بجعل مسبّب الأسباب ، لا يكون كونها ناقصة مستلزما للنقص في الواجب كما لا يخفى ، فيصحّ كون الأمر بين الأمرين.

اعلم أنّ في الأفعال الاختياريّة للعباد ثلاثة مذاهب :

الأوّل : مذهب الأشاعرة ، وهو القول بالجبر.

ص: 414

والثاني : مذهب المعتزلة ، وهو القول بالتفويض.

والثالث : مذهب الإماميّة ، وهو نفي الجبر والتفويض ، والقول بالأمر بين الأمرين ، وهذا أيضا مذهب الحكماء على ما حكي عنهم.

فالأشاعرة يقولون : إنّ فعل العبد ليس باختياره ، بل هو مخلوق لله وحاصل من إرادته بلا واسطة إرادة العبد ، بل إرادة العبد مقارنة للفعل من غير أن يكون لها مدخليّة في صدوره ، وتلك المقارنة تسمّى كسبا عندهم ، ويفرّقون بين الاختياريّ والاضطراريّ - كحركة المرتعش - بمجرّد المقارنة في الأوّل دون الثاني ، فعلى هذا يكون العبد مجبورا في أفعاله عندهم ؛ تمسّكا بظاهر قوله تعالى : ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (1) ونحو ذلك.

وفساد هذا المذهب في غاية الظهور ؛ لاستلزامه كون التكليف عبثا ، بل قبيحا ، وبطلان الثواب والعقاب ، بل قبح العقاب سيّما عذابه الذي يقول في وصفه في كلامه : ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار ، بل لو كان له شركة ما ، لكان ذلك قبيحا أيضا ؛ لكون ذلك ظلما وهو تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرّة كما نطقت به الآيات والأخبار ، وانعقد عليه الإجماع ، وكون الزاني واللائط والسارق والمفسد والمكذّب للرسل وقاتل الأنبياء والأوصياء والأولياء وغير ذلك من الفواحش والقبائح هو اللّه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، فينسدّ إثبات باب النبوّة والشرع.

فإن قلت : استحالة صدور ما ذكر عنه تعالى بلا واسطة مسلّمة ، وبواسطة الآلة ممنوعة.

قلت : منشأ الاستحالة إن كان هو القبح العقليّ فهو عامّ مع أنّهم لا يقولون به ، وإن

ص: 415


1- الصافّات (37) : 96.
2- النساء (4) : 56.

كان الذات فهو أيضا عامّ ، وإن كان هو العلم بعادة اللّه ، ففيه أنّه إذا كان عادته المستمرّة هي الفواحش كالخديعة والكذب ، فكيف يمكن دعوى العلم بخلافه ، وأنّه هو عادته؟! هذا مضافا إلى أنّه لا شبهة في أنّ الأشاعرة محسّنون ومادحون لمن أحسن إليهم ، وذامّون لمن أساء بهم ، فإن كان فاعل الإحسان والإساءة هو اللّه فلا وجه للذّمّ والتوبيخ والعتاب ، بل لا يقبلون اعتذار فاعل السيّئة بأنّي ما فعلته ، ولهذا لو سبّ أحد الشيخين ، أو وجد فيه علامة الرافضة يضربونه ، بل يقتلونه ويأسرونه ويحكمون بكفره وجواز أسره وبيعه وشرائه كسائر الوثاق ، فلو كان فاعل ذلك هو اللّه لما كان لذلك وجه.

وبالجملة ، فالمواضع التي لا محيص لهم عن الإنكار في إسناد الفعل إلى العبد ومذمّته أكثر من أن تحصى ، كمن قصّر في حفظ ماله ، أو أتلفه عبثا ، أو نحو ذلك.

وأيضا نعلم بالوجدان - بل الضرورة والعيان - أنّا نقدر أن نضرب أحدا ، وأن لا نضربه ونحو ذلك بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل ، وإنكار ذلك تكذيب الوجدان والضرورة.

وبالجملة ، فالقول بالجبر مناف لبعث الرسل وإتمام الحجّة وبسط التكاليف والوعد والوعيد والمبالغة فيهما وفي التبليغ والاهتمام التامّ في الإرشاد والهداية والموعظة والنصيحة والجدّ والجهد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والقصاص والديات ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

وكذا البناء على التقصير وعدمه ، والتفرقة بين المعذور وغيره ، والفرق بين العمد والنسيان ، والخطأ والغفلة ، والغرور والجهل ، والاختيار والاضطرار ونحو ذلك.

وكذا كون المباشر في أكثر الصور أقوى ، والسبب في بعضها أقوى وأمثاله.

وكذا لا يكون لقوله تعالى : ( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1)

ص: 416


1- النحل (16) : 118.

وقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (1) و ( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (2) ( أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى ) (3) ونحو ذلك معنى وهي لكثرتها تأبى عن وصول يد التأويل إليها.

فإن قلت : قد ورد في الآيات والأخبار ما يقتضي القول بالجبر كالآية المذكورة ونحوها من الآيات والأخبار والأدعية.

قلت أوّلا : إنّها لا تدلّ إلاّ على إسناد (4) أفعال العباد إلى اللّه تعالى في الجملة ، وهي أعمّ من الاستناد على وجه التأثير بلا واسطة ، والاستناد على وجه التأثير بواسطة ، والمرجعيّة والمفيد هو الأوّل لا الثاني ، والعامّ لا دلالة له على خصوص بعض الأفراد.

وثانيا : إنّها - لمعارضتها الأدلّة العقليّة والنقليّة الكثيرة التي لا حصر لها - لا بدّ من تأويلها بخلاف ما ذكرنا ؛ فإنّها - مع عدم وجود الداعي على تأويلها ، بل وجود الداعي على إبقائها على ظواهرها - لا يصل إلى أكثرها يد التأويل ، مضافا إلى أنّ قدرته تعالى عامّة ، فيقدر على خلق مخلوق قادر وإن كان قدرته مستندة إليه تعالى ، فالمقتضي - وهو عموم قدرته - موجود ، والمانع مفقود ، فلا بدّ من خلق مخلوق قادر.

فإن قلت : إنّه تعالى لمّا كان في الأزل عالما بفعل العبد ، فلو كان العبد قادرا بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، لزم كون علمه تعالى جهلا في صورة عدم الفعل ، فهو المانع عن كون العبد مختارا.

قلت : هذا مردود بالنقض والحلّ.

ص: 417


1- العصر (103) : 2.
2- الأنعام (6) : 164 ؛ الإسراء (17) : 15 ؛ فاطر (35) : 18 ؛ الزمر (39) : 7.
3- النجم (53) : 39.
4- في « أ » : « استناد ».

أمّا النقض فبأفعاله تعالى ؛ لأنّه تعالى عالم بأنّه يفعل في الاستقبال فعلا خاصّا ، فلو كان في ذلك الفعل عند إيجاده مختارا قادرا على الفعل والترك ، لزم صيرورة علمه جهلا في صورة الترك ، وكذا العلم الحاصل من عادة اللّه الذي يستدلّون به ، ولا يجوّزون التخلّف فيه ، فما هو جوابك فهو جوابنا.

وأمّا الحلّ فبأنّ علمه تعالى في الأزل حاصل بأنّ المعلوم الفلانيّ فيما لا يزال يتحقّق ، فالعلم يطابق المعلوم ، بمعنى أنّ العبد لمّا يكون فيما لا يزال فاعلا للفعل الخاصّ بالاختيار ، علم تعالى في الأزل ذلك ، لا أنّه لمّا علمه ، صار كذا ، بل لمّا كان كذا ، علمه ، مضافا إلى أنّه تعالى يكون في الأزل عالما بفاعليّة الفاعل واختياره معا ، فلو لم يكن مختارا ، لزم كون علمه تعالى جهلا.

فإن قلت : لعلّ المانع أمر آخر وهو أنّ فعل العبد إن كان لازم الصدور ، فلا يكون اختياريّا ، وإن كان ممّا يجوز صدوره وعدمه ، فإن افتقر إلى مرجّح ، فمع المرجّح يعود التقسيم بأنّه إن كان لازما فاضطراريّ ، وإلاّ احتاج إلى مرجّح آخر ، ولزم التسلسل ، وإن لم يفتقر إلى مرجّح ، بل يصدر منه تارة ولا يصدر أخرى من دون مرجّح في الحالين وصدور أمر من الفاعل ، فهو اتّفاقي ، فلا يكون اختياريّا أيضا.

قلت : هذا أيضا مردود بالنقض والحلّ.

أمّا النقض فبأفعال الواجب.

وأمّا الحلّ فباختيار الشقّ الثاني من الترديد الأوّل ، والشقّ الأوّل من الترديد الثاني.

ودفع الإيراد بأنّ المرجّح هو الإرادة المسبّبة عن وجود المصلحة ونحوها ، وحينئذ يكون لازما ، ولكنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

على أنّ هاتين الشبهتين على تقدير تماميّتهما لا تنفعان الأشاعرة ؛ لأنّ مقتضاهما كون العبد غير مختار ، لا أنّ فعله فعله تعالى ، وأنّه ليس له فعل.

فإن قلت : لعلّهم يقولون : للعبد قدرة كاسبة.

ص: 418

قلت : إن لم يقولوا بتأثيرها فلا فائدة فيها ، وإن قالوا به ، يلزم بطلان مذهبهم ، مع أنّ الشنائع السابقة بحالها ؛ لأنّه تعالى هو الشريك الأقوى ، بل الفعل فعله تعالى على سبيل الاختيار لا الاضطرار ؛ إذ بمجرّد كسب العبد لا يصير ملجأ ومضطرّا إلى الفعل قطعا.

وبالجملة فما ذكرنا ممّا لا خفاء فيه على العاقل فضلا عن الفاضل.

وأمّا المعتزلة (1) ، فهم يقولون : إنّ العبد مستقلّ في إيجاد فعله بلا مدخليّة إرادة الواجب فيه. نعم ، إنّه تعالى جعله مختارا ، فيفعل باختياره مستقلاّ ، ولا يفعل كذلك ، ويقال له : التفويض ، بمعنى تفويض اللّه تعالى إرادة الفعل إلى العبد.

وهذا المذهب أيضا فاسد ؛ لأنّ ذات العبد وصفاته من الممكنات ، وقد بيّنّا أنّ الممكن يحتاج إلى الواجب في أصل الوجود وفي البقاء أيضا ، فهو عند الفعل محتاج في ذاته وفي قدرته وتأثيره وإرادته وسائر ما يصدر منه إلى الواجب ، ومع هذا فلا معنى للاستقلال.

وأيضا فعل العبد لا يوجد بدون المرجّح الموجب ؛ لامتناع الترجيح بلا مرجّح ، ولأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فالعلّة الموجبة إمّا ذات العبد بلا حاجة إلى أمر آخر ، أو مع الحاجة.

وعلى الأوّل يلزم امتناع تخلّف الفعل المعيّن من العبد ما دام موجودا سابقا ولاحقا ، وهو خلاف الواقع.

وعلى الثاني يبطل الاستقلال. وحيث بطل الجبر والتفويض يثبت كون الأمر بين الأمرين كما ورد : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين » (2).

بيانه : أنّ كلّ فعل لا بدّ فيه - زيادة على ذات الفاعل - من أمر آخر ، وهو إرادته ،

ص: 419


1- هذا قسيم لقوله في ص 415 : « فالأشاعرة ... ».
2- الكافي 1 : 160 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ... ح 13 ؛ « التوحيد » : 362 باب نفي الجبر والتفويض ، ح 8 ؛ « عيون أخبار الرضا » 1 : 2. الباب 11 ، ح 17.

وحدوثها مستند إلى الحوادث المستندة إلى إرادة الحقّ ؛ لوجوب انتهاء سلسلة جميع الحوادث إلى الواجب ، فإرادة العبد علّة قريبة ، وإرادة الحقّ علّة بعيدة ، فالمباشرة من العبد والإقدار من اللّه تعالى ، فالأشاعرة قصروا أنظارهم إلى العلّة البعيدة ، فقالوا بالجبر ، والمعتزلة نظروا إلى مجرّد العلّة القريبة ، فمالوا إلى التفويض.

والحقّ أنّ وقوع الفعل موقوف على مجموع الإرادتين ، ولهذا يكون الأمر بين الأمرين.

فإن قلت : على ما ذكرت يلزم الجبر أيضا ؛ لاستناد فعل العبد إلى ما ليس معلولا له ، بل يكون مستندا إلى اللّه تعالى ، ولا فرق بين إيجاد العبد فعلا بلا إرادة ، وبين إيجاده فعلا بواسطة إرادة ليس العبد مستقلاّ فيها ؛ لعدم إمكان التخلّف في الصورتين ، فلم يكن مختارا قادرا على الترك.

قلت : ما ذكرنا إيجاب بالاختيار لا إكراه وإجبار ، والإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ؛ لصدق أنّ العبد أراد وفعل ، وتلك الإرادة ممكنة صادرة منه بنفسها لا بإرادة أخرى ، كما أنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، وبعد حصولها المستند إلى الواجب بالأخرة يكون الفعل ممتنع الترك ، فيكون الإيجاب بالاختيار الذي لا ينافي الاختيار ؛ إذ الإيجاب المنافي له هو الإيجاب بالطبع كإحراق النار ، والجبر إنّما يتحقّق لو لم يكن لإرادة العبد مدخليّة في الفعل حتّى يكون اضطراريّا ؛ إذ لا يصدق حينئذ أنّ العبد شاء وفعل ، ولا أقلّ من أنّه شاء وفعل غيره ، وهذا ينافي كون الفعل مع المشيّة ، الذي هو معنى اختياريّته.

ولو سلّم أنّ إرادة العبد واجبة الحصول ؛ لاستنادها إلى إرادة اللّه الواجبة ، نقول أيضا : إنّ وجوب الإرادة المستلزم لوجوب الفعل أيضا لا ينافي الاختيار ؛ إذ المعتبر في القدرة والاختيار كون الفعل جائز الترك على تقدير عدم الإرادة وإن كان ذلك العدم ممتنعا ، وليس المعتبر كون الإرادة أيضا مقدورة ، فحيث كان فعل العبد بإرادته يكون اختياريّا وإن لم تكن الإرادة اختياريّة ، بخلاف ما إذا لم يكن لإرادته

ص: 420

مدخل فيه ؛ فإنّه حينئذ يكون فعلا لغيره ، ولا يكون له اختيار فيه.

مثاله ما إذا ألجأ ظالم أحدا إلى فعل بحيث لا يمكنه الترك وإذا مال آخر إلى ذلك الفعل بسبب غضب لا يقدر به على الترك ، فيصدق عليهما أنّهما لا يتمكّنان من الترك ولكن أحدهما بإلجاء الغير ، والآخر من غير إلجاء.

والحاصل : أنّ ذات العبد علّة فاعليّة لوجوب الفعل بإعداد معدّ أو شرطيّة شيء ، لا أنّ غيره علّة فاعليّة له ، فلمّا كان العبد فاعلا للفعل ووجوبه ، لم يكن الفعل مخلوقا لله تعالى ، ولمّا كان فاعليّته لوجوب الفعل بسبب داع مستند بوسائط كثيرة إلى اللّه تعالى ، لم يكن الفعل مفوّضا إليه ، وهذا معنى كون الأمر بين الأمرين.

فإن قلت : ذات العبد مخلوق لله ، ففعله أيضا مخلوق له تعالى.

قلت : هذا ليس معنى الجبر ، بل معناه أن يكون الفعل مخلوقا له تعالى بلا واسطة وإن كان بآلة.

فإن قلت : هذا وإن لم يكن جبرا لكن يترتّب عليه ما يترتّب على الجبر من قبح التعذيب على العصيان.

قلت : هذا إذا كان خلق العاصي للعصيان بالذات. أمّا لو كان خلقه بالذات للمصلحة ولزم مفسدة العصيان بالعرض ، فلا.

والأولى الاعتماد بما ذكرناه أوّلا من كون الإرادة اختياريّة بالمعنى المذكور.

وقد روي عن حريز بن عبد اللّه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « الناس في القدر على ثلاثة أوجه :

رجل يزعم أنّ اللّه أجبر خلقه على المعاصي ، فهذا قد ظلّم اللّه تعالى في حكمه ، فهو كافر.

ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد وهّن سلطان اللّه ، فهو كافر.

ورجل يزعم أنّ اللّه تعالى كلّف العباد ما يطيقونه ولم يكلّفهم ما لا يطيقونه ، فإذا

ص: 421

أحسن حمد اللّه ، وإذا أساء استغفر اللّه ، فهو مسلم بالغ » (1).

وما دلّ على كون المعاصي من العباد غير قادح فيما ذكرنا ، كما لا يخفى ؛ لكون المشيئة التكوينيّة منهم من غير المشيئة التكليفيّة من اللّه تعالى ، كما في الخيرات.

ويشهد على مدخليّة المشيئة من اللّه ومن العبد - مضافا إلى ما ذكر ، وقوله تعالى : ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) (2) وقوله علیه السلام : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين » (3) - نحو قوله تعالى : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ) (4) أيضا على وجه ؛ إذ يستفاد منه أنّ المشيئة التكوينيّة من العبد بالنسبة إلى الفعل الاختياريّ مقترنة بالمشيئة التكوينيّة من اللّه باعتبار إعطاء الأسباب وإبقائها كالحياة والقدرة والجوارح وإن لم تقترن بالمشيئة التكليفيّة عن اللّه في الشرور كالخيرات.

اعلم : أنّ التفويض قد يطلق على معان أخر :

منها : تفويض الخلق والرزق إلى الأئمّة من جهة اعتقاد كمالهم ورفعتهم وملاحظة صدور خوارق العادات عنهم ، إلى غير ذلك.

وهو فاسد ؛ لما لا يخفى.

ومنها : تفويض تقسيم الأرزاق.

ومنها : تفويض الأحكام والأفعال إليه بأن يثبت ما رآه حسنا ، ويردّ ما رآه قبيحا ، فيخيّر إليه إثباته وردّه مثل إطعام [ الجدّ ] السدس (5) ، وإضافة الركعتين في الرباعيّة ، والواحدة في المغرب ، والنوافل أربعا وثلاثين سنّة ، وتحريم كلّ مسكر عند تحريم الخمر ونحو ذلك. وظاهره مناف لظاهر ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (6) إلاّ أن يقال : إنّ

ص: 422


1- « التوحيد » : 360 باب نفي الجبر والتفويض ، ح 5.
2- البقرة (2) : 256.
3- مرّ تخريجه في ص 419 ، التعليقة 2.
4- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29.
5- في مسألة إرث الأجداد مع وجود الأبوين. راجع « الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية » 8 : 122.
6- النجم (53) : 3.

الوحي تابع لإرادته كما يظهر من قوله : ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) (1).

ومنها : تفويض الإرادة بأن يريد شيئا لحسنه ، ولا يريد شيئا لقبحه كإرادة تغيير القبلة فأوحى اللّه بما أراد.

ومنها : تفويض القول بما هو أصلح له وللخلق وإن كان الحكم الأصلي خلافه ، كما في صورة التقيّة.

ومنها : تفويض أمر الخلق ، بمعنى أنّه أوجب عليهم طاعته في كلّ ما يأمر وينهى سواء علم وجه الصحّة أم لا ، بل ولو كان بحسب ظاهر النظر عدم الصحّة ، فيكون الواجب عليهم القبول على وجه التسليم ؛ والمراد في هذا الفنّ هو المعنى الأوّل (2).

ثمّ اعلم أنّه لا شبهة في وقوع الشرور في عالم الكون والفساد ، وتلك الشرور ممكنة ، فلا بدّ لها من استنادها إلى الواجب بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط ؛ دفعا للتسلسل أو الدور ، فيلزم صدور الشرّ من الواجب وهو ممتنع ، ولهذا قال الثنويّة بوجود إلهين واجبي الوجود : أحدهما فاعل الخير وهو « يزدان ». وثانيهما فاعل الشرّ وهو « أهرمن » (3).

والجواب : أنّ الأفعال بحسب الاحتمال العقليّ على خمسة أقسام : الخير المحض ، والخير الغالب ، والخير المساوي ، والشرّ الغالب ، والشرّ المحض ؛ وصدور الأخيرين عن الواجب محال ، كما لا يخفى. وكذا الثالث ؛ للزوم العبث بعد ملاحظة تعارض الحسن والقبح وتساقطهما ، فبقي الأوّلان ، فكلّ فعل صادر عن الواجب إمّا خير محض كإيجاد العقول ، أو خير غالب كإيجاد الإنسان.

ص: 423


1- البقرة (2) : 144.
2- انظر تفصيل أقسام التفويض في « الفوائد الرجاليّة » للوحيد البهبهاني : 40.
3- للتعرّف على أقوال الثنويّة والمجوس راجع « الملل والنحل » 1 : 232 و 244 ؛ « المحصّل » : 417 - 418 ؛ « نقد المحصّل » : 300 ؛ « كشف المراد » : 283 ؛ « شرح المواقف » 8 : 62 - 63 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 102.

ووجه جواز الأخير (1) أنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ اليسير [ أقبح ] (2) وارتكاب أقلّ القبيحين جائز عقلا ، فصدور الشرّ بالذات محال من الواجب وإن كان قليلا. وأمّا صدوره منه بتبعيّة الخير فلا ، فجميع الشرور صدوره من هذا الباب ، فلا يلزم إسناد الشرور بالذات إلى الواجب ، ولا القول بوجود إلهين ، بل الحقّ أنّ الشرور ليست مستندة إلى الواجب إلاّ باعتبار أنّ فاعلها مستند إليه ، وهذا ليس استنادا في الحقيقة.

وأمّا القضاء والقدر ، فقد وقع الاتّفاق ، ووردت الأخبار على أنّ الحوادث تحدث بهما (3) ، ومن جملتها أفعال العباد ، فيلزم عدم اختيارهم فيها ؛ لأنّ المقدّر كائن ، فهذا منشأ الإشكال.

والجواب : أنّ القضاء له معان :

منها : الخلق ، كما في قوله تعالى : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (4) وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (5) وهذا المعنى لا يتحقّق في جميع الحوادث ؛ إذ قد بيّنّا أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله.

والثاني : الإيجاب والإلزام ، كما في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (6) أي أوجب ، وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) (7) أي ألزمناه. وهذا المعنى لا يكون عامّا ؛ لاختصاصه بالواجب.

والثالث : الإعلام والتبيين ، كما في قوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) (8) الآية.

ص: 424


1- أي الأخير من الأوّلين وهو الخير الغالب.
2- أي الأخير من الأوّلين وهو الخير الغالب.
3- انظر « الكافي » 1 : 155 - 160 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ؛ « التوحيد » : 359 - 390 بابا نفي الجبر والتفويض ، والقضاء والقدر.
4- فصّلت (41) : 12.
5- فصّلت (41) : 10.
6- الإسراء (17) : 23.
7- الواقعة (56) : 60.
8- الإسراء (17) : 4.

وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (1) أي أعلمنا بذلك وكتبنا في اللوح المحفوظ. وهذا المعنى يصحّ في جميع الحوادث.

وحاصله علم الواجب بجميع الموجودات الكلّيّة والجزئيّة ، كما يقال : إنّ القضاء علم إجماليّ كلّيّ ، والقدر علم تفصيليّ جزئيّ ، وعلمه تعالى لا يستلزم عدم الاختيار في العبد ؛ لما مرّ من أنّ العلم ليس علّة ، بل هو تابع للمعلوم بالمعنى المذكور.

وحاصله : أنّ اللّه تعالى أوجد العباد على وجه الاعتدال بكونهم قادرين على الفعل والترك من غير جبر وتفويض في الأمور ، بل الأمر بين الأمرين ، يدلّ على ذلك :

أوّلا : العقل ، من جهة استلزام الجبر كونه تعالى ظالما في تعذيب من يحمله على المعاصي كالقتل والزنى والشرك وغير ذلك ، واستلزام التفويض - مضافا إلى وهن السلطنة - صيرورة الممكن واجبا بالنسبة إلى الوجود بعد الوجود ، الذي يكون البقاء عبارة عنه ، وهو محال ؛ من جهة استحالة انقلاب الماهيّة ، وامتناع تعدّد الواجب ، وكون الامتياز هو الإمكان الذي هو علّة الافتقار ، فيكون العبد فاعلا للفعل بالمباشرة والعلّيّة القريبة ، ولكن بواسطة إقدار اللّه وإبقائه ونحو ذلك ، فلا يكون مخلوقا لله ، ولا مفوّضا إلى العبد ، بل يكون الأمر بين الأمرين ، بمعنى أنّ المجموع - المركّب من فعل اللّه التكوينيّ بإيجاد العبد وإحيائه وإعطائه الأسباب كالقدرة ونحوها وإبقائها ، ومن فعل العبد بالمباشرة ونحوها من باب الجعل للمصلحة - علّة لحصول الفعل الاختياريّ للعبد وإن كانت الإرادة التكليفيّة على خلاف الإرادة التكوينيّة ، فالتركيب اعتباريّ في مقام الفعل ، لا في مقام الذات حتّى يلزم نحو الوحدة أو الاتّحاد.

ص: 425


1- النمل (27) : 57.

وثانيا : النقل ، كما قال اللّه تعالى : ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) (1) وقال تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (2) وقال تعالى : ( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) (3) وقال تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (4) وقال تعالى : ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (5) وقال تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (6) وقال تعالى : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (7) إلى غير ذلك من الآيات الآيات الدالّة على خلاف ذلك - كقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) (8) و ( مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ ) (9) وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (10) وقوله تعالى : ( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) (11) ونحو ذلك - محمولة على كون الضلالة بالاختيار كالطبيعة الشبيهة بالوصف الخلقي المجبول عليه كقلوب البهائم ، أو على وسم قلوبهم بما يعلم به الملائكة ضلالتهم وعدم اختيارهم الإيمان ، فيذمّونهم ويمدحون عليهم (12) حتّى كان اللّه تعالى شهد على ذلك ؛ إلى غير ذلك من المحامل.

وروي عن الرضا علیه السلام أنّه قال - بعد السؤال عن قول اللّه - عزّ وجلّ - : ( خَتَمَ اللّهُ

ص: 426


1- البقرة (2) : 256.
2- الرحمن (55) : 29.
3- النحل (16) : 34.
4- غافر (40) : 17.
5- الطور (52) : 16 ؛ التحريم (66) : 7.
6- الطور (52) : 19 ؛ المرسلات (77) : 43.
7- النجم (53) : 31.
8- غافر (40) : 33.
9- الزمر (39) : 37.
10- الجاثية (45) : 33.
11- النحل (16) : 108.
12- كذا في النسخ.

عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ) (1) - : « الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال تعالى : ( بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2) » (3).

وروي عن معاوية الشامي ، قال : دخلت على عليّ بن موسى الرضا علیه السلام بمرو ، فقلت : يا بن رسول اللّه روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد أنّه قال : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين » فما معناه؟ فقال : « من زعم أنّ اللّه يفعل أفعالنا ، ثمّ يعذّبنا عليها ، فقد قال بالجبر. ومن قال : إنّ اللّه - عزّ وجلّ - فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه علیهم السلام ، فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك » فقلت له : يا بن رسول اللّه فما أمر بين أمرين؟ قال : « وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه » فقلت له : هل لله - عزّ وجلّ - مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال : « أمّا الطاعات ، فإرادة اللّه تعالى ومشيئته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ».

قلت : فلله - عزّ وجلّ - فيها القضاء؟ قال : « نعم ، ما من فعل خير أو شرّ إلاّ ولله فيه قضاء ».

قلت : فما معنى هذا القضاء؟ قال : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا » (4).

إلى غير ذلك من الأخبار (5). وفي بعضها تفسير التفويض بتفويضه تعالى إلى العباد

ص: 427


1- البقرة (2) : 7.
2- النساء (4) : 155.
3- « عيون أخبار الرضا » 1 : 123 - 124 ، الباب 11 ، ح 16.
4- « عيون أخبار الرضا » 1 : 124 ، الباب 11 ، ح 17.
5- « الكافي » 1 : 155 - 160 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ؛ « التوحيد » : 359 - 360 باب الجبر والتفويض وباب القضاء والقدر.

اختيار أمره ونهيه (1) ، وهو المشهور من المفوّضة.

وفي هذا المقام يرد على الأشاعرة القائلين بالجبر والمعتزلة القائلين بالتفويض وأمثالهم. وبالجملة فإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه اللّه مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا ).

اختلفوا في أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرتهم ، أم هي واقعة بقدرة اللّه تعالى؟ مع الاتّفاق على أنّها أفعالهم لا أفعاله ؛ إذ القائم والقاعد والآكل والشارب وغير ذلك هو الإنسان - مثلا - وإن كان الفعل مخلوقا لله تعالى ؛ فإنّ الفعل إنّما يستند إلى من قام به ، لا إلى من أوجده.

فذهب الشيخ الأشعريّ إلى أن ليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل اللّه - سبحانه وتعالى - أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك تأثير منه أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاّ له (2).

وذهب الحكماء والمعتزلة إلى أنّها واقعة بقدرتهم على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار (3).

واختار المصنّف هذا المذهب وادّعى فيه الضرورة ؛ فإنّ كلّ أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، والصاعد باختياره إلى المنارة والهاوي منها ، ويعلم أنّ الأوّلين مستندان إلى قدرته واختياره ، وأنّه لولاهما لم يصدر عنه

ص: 428


1- « تحف العقول » : 463 ؛ « الاحتجاج » 2 : 491 - 492 ، احتجاجات الإمام علي بن محمد الهادي علیهماالسلام ، ح 328.
2- « المحصّل » : 455 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 320 ؛ « المطالب العالية » 9 : 9 ؛ « قواعد المرام » : 108 ؛ « إرشاد الطالبين » : 263 ؛ « النافع ليوم الحشر » : 27 ؛ « شرح المواقف » 8 : 145 - 146 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 223.
3- « شرح الأصول الخمسة » : 323 وما بعدها ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 101 ؛ « المطالب العالية » 9 : 12 ؛ « قواعد العقائد » ضمن « نقد المحصّل » : 452 ؛ « إرشاد الطالبين » : 263 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 224.

شيء منهما بخلاف الآخرين (1) ؛ إذ لا مدخل في شيء منهما لقدرته واختياره.

والأشاعرة أجابوا بأنّ الفرق بين الأفعال الاختياريّة وغير الاختياريّة ضروريّ ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة والاختيار في الأولى وعدمهما في الثانية ، لا إلى تأثيرهما في الأولى وعدمه في الثانية ؛ إذ لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياريّ مع غيره ، كالقدرة والاختيار وجودا وعدما كون المدار علّة للدائر ، ولا من العلّيّة - إنّ سلّم ثبوتها - الاستقلال بها ؛ لجواز أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلّة المستقلّة (2).

وتمسّك الأشاعرة بوجوه (3)أشار المصنّف إلى الجواب عنها :

منها : أنّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته واختياره ، لتمكّن من فعله وتركه ؛ إذ القادر ما يصحّ منه الفعل والترك ، ولتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح.

أمّا على مذهب المعتزلة القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياريّ ، فظاهر.

وأمّا على مذهب غيرهم ، فإذن لا بدّ من الإرادة الحادثة ، وذلك المرجّح لا يكون صادرا عنه باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل ؛ لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عنه ، ويكون الفعل عند ذلك المرجّح واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلّفه عنه ؛ لأنّه إذا لم يجب الفعل حينئذ جاز أن يوجد معه الفعل تارة ويعدم أخرى ، فتخصيص أحد الوقتين بالوجود يحتاج إلى مرجّح آخر ولا يتسلسل ، بل ينتهي إلى مرجّح يجب معه صدور الفعل عنه ، وإذا كان الفعل مع المرجّح - الذي لا يكون صادرا عنه باختياره - واجب الصدور عنه ، فيكون ذلك الفعل اضطراريّا لازما ، لا اختياريّا.

ص: 429


1- في « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : « الأخيرين ».
2- « شرح المواقف » 8 : 152 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 248 ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 341.
3- « المحصّل » : 456 - 458 ؛ « الأربعين في أصول الدين » 1 : 321 - 327 ؛ « المطالب العالية » 9 : 21 ؛ « قواعد المرام » : 108 - 109 ؛ « مناهج اليقين » : 340 ؛ « شرح المواقف » 8 : 148 - 152 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 227 - 237 ؛ « إرشاد الطالبين » : 265 - 269.

أقول : بهذا التقرير - حيث عمّمنا المرجّح - سقط الجواب بأنّ ترجيح المختار أحد المتساويين جائز ، كما في طريقي الهارب وقدحي العطشان ؛ لأنّ الإرادة صفة شأنها الترجيح والتخصيص من غير احتياج إلى مرجّح ، وإنّما المحال الترجّح بلا مرجّح ، ولم يحتج إلى ما قال صاحب المواقف من أنّ هذا الدليل إلزام على المعتزلة القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياريّ ، لا القائلين بأنّه يجوز للقادر ترجيح المساوي بل المرجوح ؛ فإنّ الهارب يتمكّن من سلوك أحد الطريقين وإن كان مساويا للآخر ، أو أصعب منه (1).

وأجاب المصنّف بقوله : ( والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب ) بمعنى أنّ القادر هو الذي يتمكّن من كلّ طرفي الفعل والترك قبل تحقّق الداعي إلى أحدهما وتعلّق الإرادة الجازمة به. أمّا بعده ، فيجب الطرف الذي تعلّق به الإرادة ، وهذا الوجوب لا ينافي القدرة ، بل يحقّقه.

وقوله : « كالواجب » إشارة إلى النقض الإجماليّ ، يعني (2) لو تمّ هذا الدليل ، لدلّ على أنّ الواجب تعالى لا يكون - أيضا - موجدا لفعله بالقدرة والاختيار ؛ فإنّ ما ذكرتموه جار في حقّه أيضا.

وأجاب الإمام عنه بأنّ إرادة العبد محدثة ، فتفتقر إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها اللّه تعالى فيه بلا إرادة [ واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادات التي يفرض صدورها عنه ، وإرادة اللّه تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة ] (3) أخرى (4).

وردّه المصنّف بأنّه لا يدفع التسلسل المذكور (5) ؛ إذ يقال : إن لم يمكن الترك مع

ص: 430


1- « شرح المواقف » 8 : 152.
2- في « ب » و « ز » : « بمعنى لو يتمّ ».
3- الزيادة أضفناها من « شرح تجريد العقائد » للقوشجي.
4- « الأربعين في أصول الدين » 1 : 323 ؛ « شرح المواقف » 8 : 150.
5- في المصدر و « أ » : « فلا يدفع التقسيم المذكور ».

الإرادة القديمة ، كان موجبا لا قادرا مختارا ، وإن أمكن فإن لم يتوقّف فعله على مرجّح ، استغنى الجائز عن المرجّح ، وإن توقّف عليه ، كان الفعل معه واجبا ، فيكون اضطراريّا. والفرق الذي ذكرتموه في المدلول - مع الاشتراك في الدليل - دليل على بطلان الدليل ، وإنّما يندفع النقض إذا بيّن عدم جريان الدليل في صورة التخلّف.

وقال صاحب المواقف : في هذا الردّ نظر ؛ فإنّ مآل ما ذكر - من الفرق بين إرادة العبد وإرادة البارئ تعالى - إلى تخصيص المرجّح في قولنا : ترجيح فعله يحتاج إلى مرجّح ، بالمرجّح الحادث ، فيصير الاستدلال هكذا : إن تمكّن العبد من الفعل والترك ، وتوقّف الترجيح على مرجّح ، وجب أن لا يكون ذلك المرجّح منه ، وإلاّ لكان حادثا محتاجا إلى مرجّح آخر ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجّح قديم لا يكون من العبد ويجب الفعل معه ولا يكون العبد مستقلاّ فيه.

وأمّا فعل البارئ ، فهو محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معيّن ، وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون تعالى مستبدّا مستقلاّ في الفعل ، وحينئذ لا يرد النقض ويتمّ الجواب (1).

أقول : محصول الفرق أنّ المرجّح في فعل العبد يجب أن لا يكون صادرا عنه قطعا ؛ للتسلسل ، بل صادرا عن غيره ، وحينئذ لا يكون العبد مستقلاّ في فعله ، والمرجّح في فعل البارئ تعالى يجب أن يكون صادرا عنه ، فلا يلزم عدم استقلاله في فعله.

وعلى التقديرين يكون الفعل اضطراريّا لازما ؛ لأنّ الفعل مع المرجّح - سواء كان صادرا عن الفاعل أو عن غيره - يصير واجبا ، والترك معه على التقديرين يصير ممتنعا ؛ لما ذكرنا آنفا.

ص: 431


1- « شرح المواقف » 8 : 151.

فهذا الفرق إنّما يفيد افتراق الصورتين في الاستقلال وعدمه ، وذلك لا يهمّنا ؛ لأنّه لا يفيد افتراقهما في الاضطرار وعدمه ، وهذا هو المطلوب ؛ لأنّ الناقض يدّعي لزوم كون البارئ تعالى مضطرّا في فعله لا مختارا.

على أنّ قوله : وجب أن لا يكون ذلك المرجّح منه ، وإلاّ لكان حادثا محتاجا إلى مرجّح آخر ، ممنوع ، وإنّما يلزم الاحتياج إلى المرجّح الآخر أن لو كان صادرا عنه باختياره ، أمّا إذا كان صادرا عنه لا باختياره ، فاللزوم ممنوع ، فيبطل ما ذكره من الفرق بين الصورتين بالاستقلال وعدمه أيضا.

ومنها : أنّ العبد لو كان موجدا لأفعاله ، لكان عالما بتفاصيلها ؛ إذ الإيجاد لا يتصوّر بدون العلم بالموجد ، ولهذا صحّ الاستدلال بفاعليّة الفاعل (1) على عالميّة الفاعل ، والتالي باطل ؛ لأنّ النائم يصدر عنه أفعال اختياريّة لا شعور له بتفاصيلها كمّيّاتها وكيفيّاتها ، والماشي - إنسانا كان أو غيره - تقطع مسافة معيّنة من غير شعور له بتفاصيل الأجزاء التي بين المبدأ والمنتهى ، والناطق يأتي بحروف مخصوصة على نظم مخصوص من غير شعور بالأعضاء التي هي مخارجها ، ولا بالهيئات ، ولا بالأوضاع التي تكون لتلك الأعضاء عند الإتيان بتلك الحروف ، والكاتب يصوّر الحروف والكلمات بتحريك الأنامل من غير شعور له بما للأنامل من الأعضاء والأجزاء ، أعني العظام والغضاريف والأعصاب والعضلات والرباطات ، ولا بتفاصيل حركاتها وأوضاعها التي تأتي بها تلك الصور والنقوش.

وأشار إلى الجواب عنه بقوله : ( والإيجاد لا يستلزم العلم إلاّ مع اقتران القصد ، فيكفي الإجماليّ ).

يعني لا نسلّم أنّ الإيجاد لا يتصوّر بدون العلم بالموجد ، والمثبتون لعلمه تعالى لا يستدلّون عليه بالإيجاد ، بل بإتقان الفعل وإحكامه.

ص: 432


1- في هامش « ب » : « بفاعلية العالم ».

نعم ، الإيجاد بالاختيار - لكونه مقارنا للقصد ، والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به - يستلزمه ، لكنّ العلم الإجماليّ كاف ، وهو حاصل في الصور المذكورة ، لبطلان التالي.

ومنها : أنّ العبد لو كان موجدا لفعل نفسه بالاستقلال ، فإذا فرضنا أنّه أراد تحريك جسم في وقت معيّن ، وأراد اللّه تعالى سكونه في هذا الوقت ، فإمّا أن يقع المرادان جميعا وهو ظاهر الاستحالة ، أو لا يقع شيء منهما وهو أيضا محال ؛ لامتناع خلوّ الجسم في غير آن الحدوث عن الحركة والسكون ، ولأنّ التخلّف عن المقتضي لا يكون إلاّ لمانع ، ولا مانع لكلّ من المرادين سوى وقوع الآخر ، فلو امتنعا جميعا لزم أن يقعا جميعا وهو ظاهر الاستحالة.

وإمّا أن يقع أحدهما دون الآخر ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ التقدير استقلال كلّ من القدرتين بالتأثير من غير تفاوت.

وأجاب عنه المصنّف بقوله : ( ومع الاجتماع يقع مراده تعالى ).

يعني في الصورة المفروضة يقع مراده تعالى ؛ لكون قدرته أقوى ، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير ، وهو لا ينافي التفاوت في القوّة والشدّة.

ومنها : أنّ الفاعل يجب أن يكون مخالفا لفعله في الجهة التي بها يتعلّق الفعل ، وهو الحدوث ، فيجب أن يكون الفاعل للحدوث مخالفا لفعله في الحدوث والعبد محدث ، فلا يكون فاعلا للفعل الحادث.

وأجاب عنه بقوله : ( والحدوث اعتباريّ ) لا تأثير للفاعل فيه ، بل إنّما يؤثّر الفاعل في الماهيّة بأن يوجدها.

ومنها : أنّ العبد لو كان موجدا لفعل نفسه ، لجاز أن يوجد جسما أيضا ؛ لأنّ المصحّح لتعلّق الإيجاد بفعل نفسه هو الإمكان وهو متحقّق في الجسم.

وأجاب المصنّف عنه بقوله : ( وامتناع الجسم لغيره ).

يعني أنّ امتناع صدور الجسم عن العبد بسبب الغير ، وهو أنّ الجسم لا يجوز

ص: 433

أن يصدر عن الجسم كما بيّنّا ، فلا يلزم من تحقّق العلّة المصحّحة - أعني الحدوث (1) - جواز صدور الجسم عن العبد ؛ لتحقّق المانع.

ومنها : أنّه لو كان قادرا على إيجاد فعله ، لكان قادرا على إيجاد مثله أيضا ؛ لأنّ حكم الأمثال واحد ، لكنّا قاطعون بأنّه يتعذّر علينا أن نفعل الآن مثل ما فعلناه سابقا بلا تفاوت وإن بذلنا الجهد في التدبير والاحتياط.

وأجاب المصنّف عنه بقوله : ( وتعذّر المماثلة في بعض الأفعال لتعذّر الإحاطة ).

يعني أنّ بعض الأفعال لا يتعذّر فيه المماثلة مثل كثير من الحركات ، وبعضها يتعذّر فيه المماثلة لكن لا بسبب عدم وقوعه بالقدرة ، بل بسبب تعذّر الإحاطة الكلّيّة بما فعل في الزمان الأوّل.

ومنها : أنّه لو كان موجدا لأفعاله ، كان بعض أفعاله خيرا من أفعاله تعالى ؛ لأنّ الإيمان فعل العبد ، وخلق المؤذيات فعل اللّه تعالى ، ولا شكّ أن الإيمان خير من المؤذيات.

فأجاب عنه بقوله : ( ولا نسبة في الخيريّة بين فعلنا وفعله ).

يعني أنّ النسبة في الخيريّة إنّما تكون بين المتّحدين نوعا ، وما ذكرتم ليس كذلك.

ومنها : أنّ الأمّة مجتمعون على صحّة الشكر لله تعالى - بل وجوبه - على نعمة الإيمان فلو كان الإيمان بإيجاد العبد ، لم يصحّ الشكر لله تعالى عليه ؛ إذ لا معنى لشكر العبد على فعل نفسه.

وأجاب المصنّف عنه بقوله : ( والشكر على مقدّمات الإيمان ).

يعني أنّ شكر العبد لله تعالى ليس على نفس الإيمان ، بل على إقداره وتمكينه وتوفيقه على تحصيل أسبابه.

( والسمع متأوّل ، ومعارض بمثله ).

ص: 434


1- في المصدر و « أ » : « الإمكان » وهو الصحيح.

يعني أنّ الدلائل السمعيّة - التي تمسّك الأشاعرة بها وجعلوها أنواعا باعتبار خصوصيّات - يكون لبعض منها دون البعض مثل (1) الورود بلفظ الخلق لكلّ شيء ، أو لعمل العبد خاصّة ، أو بلفظ « الجعل » ، أو « الفعل » ، أو بغير ذلك.

فمن الوارد بلفظ الخلق لكلّ شيء صريحا قوله تعالى : ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (2) تمدّحا واستحقاقا للعبادة ، فلا يصحّ الحمل على أنّه خالق لبعض الأشياء كأفعال نفسه ؛ لأنّ كلّ حيوان عند المخالفين كذلك ، بل يحمل على العموم ، وتدخل فيه أعمال العبد.

وكذلك قوله تعالى : ( قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (3) وقوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (4) وبدلالة (5) الحصر قوله : ( هُوَ اللّهُ الْخالِقُ ) (6) والحصر فيه ظاهر إذا كان هو ضمير الشأن أو ضمير إبهام يفسّره اللّه.

وأمّا إذا كان الخالق صفة ، فذكر الإمام أنّه لمّا كان اللّه علما والعلم لا يدلّ إلاّ على الذات المخصوصة بمنزلة الإشارة ، لم يجز أن يكون الحكم عائدا إليه ؛ إذ لا معنى لقولنا : إنّ هذا المعيّن ليس إلاّ هذا المعيّن ، ويلزم أن يكون عائدا إلى الوصف على معنى أنّه الخالق لا غير (7).

ولعمل العبد خاصّة قوله تعالى : ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (8). ومن هذا القبيل قوله تعالى : ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ

ص: 435


1- قوله : « مثل الورود » اسم لقوله : « يكون ».
2- الأنعام (6) : 102.
3- الرعد (13) : 16.
4- القمر (54) : 49.
5- عطف على قوله : « صريحا » أي بالمنطوق.
6- الحشر (59) : 24.
7- « شرح تجريد العقائد » : 346.
8- الصافّات (37) : 99.

خَلَقَ ) (1) احتجّ على علمه تعالى بما في القلوب من الدواعي والعقائد والخواطر بكونه خالقا لها على طريق ثبوت اللازم ، أعني العلم بثبوت ملزومه ، أعني الخلق ، وفي أسلوب الكلام إشارة إلى أنّ كلاّ من اللزوم وثبوت الملزوم واضح لا ينبغي أن يشكّ فيه ؛ ولهذا استدلّ بالآية على عدم كون العبد خالقا لأفعاله على طريق نفي الملزوم - أعني خلقه - بنفي اللازم ، أعني علمه بتفاصيلها.

وبلفظ الجعل قوله تعالى : ( وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ) (2) ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ) (3) ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (4)

وبلفظ الفعل قوله تعالى : ( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (5) ( يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ ) (6) واللّه تعالى يريد الإيمان وسائر الطاعات اتّفاقا ، فيجب أن يكون موجدها هو اللّه تعالى.

وحمل الكلام على أنّه يفعل ما يريد فعله عدول عن الظاهر.

وبغير ما ذكر قوله : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (7) ( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) (8) ( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) (9) ( أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) (10) ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (11) ( ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ ) (12) إلى غير ذلك.

ص: 436


1- الملك (67) : 13.
2- البقرة (2) : 128.
3- إبراهيم (14) : 40.
4- مريم (19) : 6.
5- البروج (85) : 16.
6- إبراهيم (14) : 27.
7- النساء (4) : 53.
8- النحل (16) : 53.
9- المجادلة (58) : 22.
10- النجم (53) : 43.
11- يونس (10) : 22.
12- النحل (16) : 79.

ومنها : ما تواتر معناه من الأحاديث الدالّة على كون كلّ كائن بتقدير اللّه ومشيئته (1) فجميعها متأوّل ، وقد ذكر العلماء تأويلها في المطوّلات ، ولها تأويل عامّ هو أنّ الفعل يجوز أن يسند إلى ما له مدخل في الجملة ، ولا شكّ أنّ اللّه تعالى مبدأ لجميع الممكنات ، ينتهي إليه الكلّ ؛ فلهذا السبب جاز استناد أفعال العباد إليه.

وأمّا الحصر عليه تعالى - كما يدلّ عليه بعض الآيات (2) - فبحسب الادّعاء ؛ لأنّ الإقدار والتمكين وتيسير الأسباب لمّا كان منه تعالى فكأنّه هو الفاعل لا غير ، ومعارض بمثله من النصوص الدالّة على أنّ أفعال العباد بقدرتهم واختيارهم وهو أيضا أنواع :

منها : الآيات الصحيحة الصريحة في إسناد الألفاظ الموضوعة للإيجاد إلى العباد وهي : العمل ، كقوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ) (3) ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ) (4) ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (5) ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها ) (6).

والفعل ، كقوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (7) ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (8).

والصنع ، كقوله تعالى : ( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (9) ( وَاللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) (10).

ص: 437


1- الكافي 1 : 150 - 152 باب المشيئة والإرادة ؛ « التوحيد » : 336 - 344.
2- مرّ في ص 415.
3- فصّلت (41) : 46 ؛ الجاثية (45) : 15.
4- النجم (53) : 31.
5- كما في البقرة (2) : 277 ويونس (10) : 9 وغيرهما.
6- غافر (40) : 40.
7- البقرة (2) : 197.
8- الحجّ (22) : 7.
9- المائدة (5) : 63.
10- العنكبوت (29) : 45.

والكسب ، كقوله تعالى : ( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) (1) ( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) (2) ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (3).

والجعل ، كقوله تعالى : ( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ ) (4) ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ ) (5).

والخلق ، كقوله تعالى : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (6) ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (7).

والإحداث ، كقوله تعالى حكاية عن الخضر علیه السلام : ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) (8).

والابتداع ، كقوله تعالى : ( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) (9) وأمثال ذلك كثير في القرآن.

وأجيب بأنّه لمّا ثبت بالدلائل القاطعة أنّ الكلّ بقضاء اللّه وقدره ، وجب جعل هذه الألفاظ مجازا عن السبب العادي ، أو جعل هذه الإسنادات مجازا ؛ لكون العبد سببا لهذه الأفعال ، هذا في غير لفظ الكسب ، فإنّه يصحّ على حقيقته والخلق فإنّه بمعنى التقدير.

وأمّا على رأي الإمام - وهو أنّ مجموع القدرة والداعية مؤثّر في الفعل ، وذلك

ص: 438


1- آل عمران (3) : 25.
2- الطور (52) : 21.
3- غافر (40) : 17.
4- البقرة (2) : 19.
5- الأنعام (6) : 100.
6- المؤمنون (23) : 14.
7- آل عمران (3) : 49.
8- الكهف (18) : 70.
9- الحديد (57) : 27.

المجموع بخلق اللّه من غير اختيار للعبد (1) - فلا مجاز ولا إشكال ، ولا استقلال للعبد ولا اعتدال.

ومنها : الآيات الدالّة على توبيخ الكفّار والعصاة ، وأنّه لا مانع من الإيمان والطاعة ، ولا ملجئ إلى الكفر والمعصية ، كقوله تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) (2) ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ ) (3) و ( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) (4) و ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (5) و ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (6) ( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (7) ( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (8) وأمثال ذلك كثيرة في القرآن.

ومنها : الآيات الدالّة في القرآن على أنّ فعل العبد بمشيئته ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (9) ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (10) ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (11) ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (12) ( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (13).

وأجيب بما سيأتي من أنّ فعل العبد بإرادة اللّه تعالى ، لكنّها موافقة لإرادة العبد بطريق جري العادة ، فلذلك رتّب عليها.

ص: 439


1- « المطالب العالية » 9 : 11.
2- الإسراء (17) : 94.
3- البقرة (2) : 28.
4- ص (38) : 75.
5- الانشقاق (84) : 20.
6- المدّثّر (74) : 49.
7- آل عمران (3) : 71.
8- آل عمران (3) : 99.
9- الكهف (18) : 29.
10- فصّلت (41) : 40.
11- المدّثّر (74) : 37.
12- المدّثّر (74) : 55 ؛ عبس (80) : 12.
13- المزّمّل (73) : 19 ؛ الإنسان (76) : 29.

وأمّا على رأي الإمام فالجواب ظاهر ، وهو أنّ فعل العبد بمشيئته ومشيئته بمشيئة اللّه ، كقوله تعالى : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ) (1).

ومنها : الآيات الواردة في الأمر والنهي ، والمدح والذمّ ، والوعد والوعيد ، وقصص الماضين للإنذار والاعتبار.

وأجيب بما سيأتي من أنّ هذه كلّها باعتبار الكسب الصادر من العبد.

ومنها : الآيات الدالّة على إسناد الأفعال إلى العباد إسناد الفعل إلى فاعله ، وهي أكثر من أن تحصى ، ولنبدأ من قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) (2) إلى قوله : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) (3).

وقد عرفت في تحرير محلّ النزاع أنّ هذا ليس من المتنازع في شيء ، والنصوص إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل اليقينيّة ، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقليّة القطعيّة.

( والترجيح معنا ) ؛ لأنّ الشواهد القطعيّة العقليّة على وفق مدّعانا كثيرة :

منها : أنّه لو لا استقلال العبد لبطل المدح والذمّ ، والأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وفوائد الوعد والوعيد ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، والفرق بين الكفر والإيمان ، والإساءة والإحسان ، وفعل النبيّ والشيطان ، وكلمات التسبيح والهذيان وكذا بين ما يقع باختيار العبد على وفق إرادته و [ ما يقع لا باختياره وعلى وفق ] (4) إرادة غيره مع أنّ التفرقة مدركة بالوجدان ؛ لأنّ الكلّ بخلق (5) اللّه تعالى من غير تأثير للعبد فيه.

وأجيب بأنّه إنّما يرد على المجبّرة النافين لقدرة العبد واختياره ، لا على من يجعل فعله متعلّقا بقدرته وإرادته ، واقعا بكسبه وعقيب عزمه وإن كان بخلق اللّه تعالى ،

ص: 440


1- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29.
2- البقرة (2) : 3.
3- الناس (114) : 5 - 6.
4- الزيادة أثبتناها من المصدر.
5- في هامش المصدر : « بفعل اللّه ».

على أنّ المدح والذّمّ قد يكونان باعتبار المحلّيّة دون الفاعليّة كالمدح والذّمّ بالحسن والقبح وسائر الغرائز ، وأنّ الثواب لمّا كان فعل اللّه تعالى وتصرّفا فيما هو حقّه ، لم يتوجّه سؤال لمّيّته عنه كما لا يقال : لم خلق اللّه الإحراق عقيب مسّ النار؟ وأنّ عدم افتراق الفعلين في المخلوقيّة لله تعالى لا ينافي افتراقهما بوجوه أخر.

ومنها : أنّ من أفعال العباد قبائح يقبح من الحكيم خلقها كالظلم والشرك ونحو ذلك.

ومنها : أنّ فعل العبد في وجوب الوقوع وامتناعه تابع لقصده وداعيته (1) وجودا وعدما ، وكلّ ما هو كذلك لا يكون بخلق الغير وإيجاده.

أمّا الصغرى فللقطع بأنّ من اشتدّ جوعه وعطشه ووجد الطعام والماء بلا صارف ، يأكل ويشرب البتّة ، ومن علم أنّ دخول النار محرق ولم يكن له داع إلى دخولها ، لا يدخلها البتّة.

وأمّا الكبرى فلأنّ ما يكون بإيجاد الغير لا يكون في الوجوب والامتناع تابعا لإرادة العبد ؛ لجواز أن لا يحدثه عند إرادته ، ويحدثه عند كراهته.

وأجيب بأنّ ما ذكر في بيان الصغرى لا يفيد الوجوب والامتناع ، بل الوقوع واللاوقوع ، فربّ فعل يتبع إرادة الغير كما للخدم والعبيد ، فينتقض الكبرى.

ولو سلّم الوجوب والامتناع فلم لا يجوز أن يكون بتبعيّة إرادة اللّه تعالى وقد وافقت إرادة العبد بطريق جري العادة؟

ومنها : أنّه لو كان اللّه تعالى خالقا لأفعال المخلوقين ، لصحّ اتّصافه بها ؛ إذ لا معنى للكافر إلاّ فاعل الكفر ، فيكون كافرا ظالما فاسقا آكلا شاربا قائما قاعدا إلى ما لا يحصى.

وأجيب بأنّ هذه الأسامي إنّما تطلق على من قام به الفعل لا على من أوجد الفعل ، ألا ترى أنّ كثيرا من الصفات قد أوجدها اللّه تعالى في محالّها وفاقا ،

ص: 441


1- كذا ، والأولى : « داعيه ».

ولا يتّصف بها إلاّ المحالّ.

نعم ، لزمهم صحّة هذه التسمية بناء على أصلهم الفاسد في إطلاق المتكلّم على اللّه تعالى ؛ لإيجاده الكلام في بعض الأجسام.

واعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتّبا ، ورأوا أيضا أنّ الفعل المترتّب على آخر يصدر عنهم وإن لم يقصدوا إليه ، فلم يمكنهم لهذا إسناد الفعل المترتّب إلى تأثير قدرتهم فيه ابتداء ؛ لتوقّفه على القصد ، قالوا بالتوليد (1) ، وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد وحركة المفتاح ؛ فإنّ الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أو لم يقصدها ، فالأفعال عندهم تنقسم إلى مباشر ومتولّد ، فالفعل الحادث ابتداء من غير توسّط فعل آخر هو المباشر كحركة اليد ، والذي حدث بسبب فعل آخر هو المولّد كحركة المفتاح بسبب حركة اليد. واختلفوا في أنّ المولّد هل هو فعل العبد كالمباشر ، أو لا؟

فذهب المعتزلة إلى أنّه من فعلنا كالمباشر (2).

وذهب الأشاعرة إلى أنّ المولّد من فعل اللّه (3).

واختار المصنّف مذهب المعتزلة ، وقال : ( وحسن المدح ) على بعض الأفعال المولّدة ( و ) كذا حسن ( الذمّ على المتولّد ) من الأفعال ( يقتضي العلم بإضافته إلينا ).

قالت الأشاعرة : المتولّد غير مقدور لنا ؛ لأنّا لا نتمكّن من تركه ، لأنّه عند سببه - أعني الفعل الذي يترتّب هو عليه - يجب ، والواجب غير مقدور. والمعتزلة قالوا : هذا الوجوب إنّما يكون باختيار السبب ( والوجوب باختيار السبب وجوب لاحق ) لا ينافي الإمكان الذاتي ، فلا يكون منافيا لكونه مقدورا.

ص: 442


1- « المغني في أبواب التوحيد والعدل » 9 : 11 وما بعدها ، ونقله عنهم في « شرح المواقف » 8 : 159 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 271 ؛ « مناهج اليقين » : 242.
2- « شرح الأصول الخمسة » : 387 - 390 ؛ « شرح المواقف » 8 : 159 - 168 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 271 - 273 ؛ « كشف المراد » : 314 ؛ « مناهج اليقين » : 242 - 243.
3- نفس المصادر السابقة.

( والذمّ في إلقاء الصبيّ عليه ، لا على الإحراق ).

جواب اعتراض ربّما يورد على دليل المعتزلة ، فيقال : إنّ حسن الذمّ والمدح لا يدلّ على إسناد المتولّد إلينا ، وذلك لأنّ حسن الذمّ للمتولّد حاصل وإن علمنا إسناده إلى غيرنا ؛ فإنّا نذمّ على إلقاء الصبيّ في النار إذا أحرق بها مع أنّا نعلم أنّ المحرق غير الملقي.

وتقرير الجواب : أنّ الذمّ للإلقاء ، لا للإحراق ؛ فإنّ الإحراق عند الإلقاء حسن ؛ لما فيه من مراعاة العادة وعدم انتقاضها.

[ في القضاء والقدر ]

( والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال ، أو الإلزام صحّ في الواجب خاصّة ، أو الإعلام صحّ مطلقا ).

اشتهر بين أكثر أهل الملل أنّ الحوادث بقضاء اللّه وقدره وهذا يتناول أفعال العباد ، فإن كان المراد بالقضاء والقدر هو الخلق - قال اللّه تعالى : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (1) أي خلقهنّ. وقال اللّه تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (2) أي خلقها - لزم المحال - أي كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى - وهو باطل عند القدريّة.

وإن كان المراد بهما الإيجاب والإلزام - كما في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (3) ، وقوله تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) (4) - فيكون الواجبات بالقضاء والقدر دون البواقي. وهذا معنى قوله : صحّ في الواجب خاصّة.

وإن كان المراد بهما الإعلام والتبيين - كقوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي

ص: 443


1- فصّلت (41) : 12.
2- فصّلت (41) : 10.
3- الإسراء (17) : 23.
4- الواقعة (56) : 60.

الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ) (1) الآية ، وقوله تعالى : ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (2) أي أعلمناها بذلك وكتبناه في اللوح المحفوظ - فعلى هذا جميع الأفعال بالقضاء والقدر. وإليه أشار بقوله : صحّ مطلقا.

( وقد بيّنه أمير المؤمنين علیه السلام في حديث الأصبغ ).

إشارة إلى ما روى الأصبغ بن نباتة من أنّ شيخا قام إلى عليّ بن أبي طالب علیه السلام بعد انصرافه من صفّين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء اللّه وقدره؟ فقال : والذي خلق [ الحبّة ] (3) وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ، ولا هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة إلاّ بقضاء اللّه وقدره.

فقال الشيخ : أحتسب عنائي ما أرى من الأجر شيئا ، فقال علیه السلام : مه أيّها الشيخ عظّم اللّه أجركم من مسيركم وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرّين.

فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال : ويحك لعلّك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ولو كان كذلك ، لبطل الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، ولم يأت مذمّة من اللّه لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجنود الشيطان ، وشهود الزور وأهل العمى عن الثواب ، وهم قدريّة هذه الأمّة ومجوسها إنّ اللّه أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلّف يسيرا ، فلم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ذلك ظنّ الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار.

فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟

ص: 444


1- الإسراء (17) : 4.
2- الحجر (15) : 60 ؛ النمل (27) : 57.
3- الزيادة أضفناها من المصدر.

قال : هو الأمر من اللّه ، والحكم من ذي الحكم ، ثمّ تلا قوله : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (1). وظاهر أنّ هذا الحديث (2) لا يوافق شيئا من المعاني المذكورة ، فإيراده للتأييد محلّ نظر.

( والإضلال : إشارة إلى خلاف الحقّ ، وفعل الضلالة ، والإهلاك ؛ والهدى مقابل له. والأوّلان منتفيان عنه تعالى ) يعني يطلق الإضلال على معان ثلاثة :

الأوّل : الإشارة إلى خلاف الحقّ.

الثاني : فعل الضلالة.

الثالث : الإهلاك.

والهدى مقابل له ، فيطلق على مقابلات المعاني الثلاثة المذكورة : الإشارة إلى الحقّ ، وفعل الهداية ، وعدم الإهلاك. والإضلال بالمعنيين الأوّلين منتف عنه ؛ لأنّه قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن القبائح.

وأمّا الهدى فيجوز أن يسند إليه بالمعاني الثلاثة ، فما ورد في الآيات من إسناد الإضلال إليه تعالى فهو بالمعنى الثالث ، أعني الإهلاك والتعذيب ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) (3) وقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) (4) وقوله تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ) (5) وغير ذلك.

وأمّا الأشاعرة فالإضلال عندهم بمعنى خلق الكفر والضلال بناء على أنّه لا يقبح منه تعالى شيء (6).

ص: 445


1- الإسراء (17) : 23.
2- « الكافي » 1 : 155 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح 1 ؛ « التوحيد » : 380 - 382 باب القضاء والقدر ، ح 28 ؛ « غوالي اللآلئ » 4 : 108 ، ح 163.
3- الرعد (13) : 23 ؛ الزمر (39) : 23 ؛ غافر (40) : 33.
4- الأعراف (7) : 178.
5- البقرة (2) : 26.
6- « شرح المقاصد » 4 : 309 - 311.

( وتعذيب غير المكلّف قبيح ).

اختلفوا في أنّ اللّه تعالى هل يعذّب غير المكلّف ، أم لا؟ فذهب الحشويّة إلى أنّه تعالى يعذّب أطفال الكفّار (1).

وردّه المصنّف بأنّ تعذيب غير المكلّف قبيح عقلا فلا يصدر من اللّه تعالى.

واحتجّت الحشويّة بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى حكاية عن نوح علیه السلام : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً ) (2) والكافر والفاجر يعذّبهما اللّه تعالى.

والمصنّف أجاب عنه بقوله : ( وكلام نوح علیه السلام مجاز ) فإنّه سمّاه فاجرا كفّارا ؛ تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.

الثاني : أنّ الأطفال يستخدمهم أهل الجنّة ، والخدمة عقوبة.

والمصنّف أجاب عنه بقوله : ( والخدمة ليست عقوبة للطفل ) بل يكون إصلاحا له كالفصد (3) والحجامة.

والثالث : أنّ حكم الطفل حكم أبيه ؛ لأنّه منع من الدفن والتوارث والتزويج والصلاة عليه كأبيه ، فيعذّبه اللّه تعالى كأبيه.

والمصنّف أجاب عنه بقوله : ( والتبعيّة في بعض الأحكام جائزة ) ولا يلزم منه التبعيّة في سائر الأحكام كالتعذيب.

[ في حسن التكليف ووجوبه ]

( والتكليف حسن ؛ لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه )

اختلفوا في أنّ التكليف حسن ، أو لا (4)؟ واختار المصنّف الأوّل ، واحتجّ عليه بأنّ

ص: 446


1- « كشف المراد » : 318.
2- نوح (71) : 27.
3- الفصد : شقّ العرق ، « لسان العرب » 3 : 336 ( فصد ).
4- « المحصّل » : 484 - 487 ؛ « مناهج اليقين » : 247 - 249 ؛ « كشف المراد » : 319 ؛ « إرشاد الطالبين » : 274.

التكليف مشتمل على مصلحة لا تحصل بدونه وهي استحقاق التعظيم ؛ فإنّ التفضّل بالتعظيم من غير الاستحقاق قبيح.

واعترض عليه بوجوه :

الأوّل : أنّ التكليف لأجل إيصال النفع بمثابة جرح الإنسان ، ثمّ تداويه ، فكما أنّ ذلك قبيح ، فكذلك التكليف.

وأجيب بأنّ الجرح مضرّة صرفة ، والتداوي لا يكون إلاّ للتخلّص من تلك المضرّة ، بخلاف التكليف ؛ فإنّ فيه منافع عظيمة ، ليس هو (1) التخلّص من المشقّة الحاصلة بسببه. وإلى ذلك أشار بقوله : ( بخلاف الجرح ، ثمّ التداوي )

الثاني : أنّ التكليف لأجل إيصال النفع بمثابة المعاوضات وهي يشترط فيها رضاء المتعاوضين ، فكذلك التكليف ينبغي أن يشترط فيه رضاء المكلّف والمكلّف ، والتكليف ، بدون رضاء المكلّف قبيح.

وأجيب بأنّ الرضى في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في المعاملات ، بخلاف التكليف ؛ فإنّ الثواب الحاصل بسببه لم يختلف العقلاء في اختياره ، فلم يحتج إلى رضاء المكلّف.

الثالث : أنّا لا نسلّم أنّ التكليف لأجل إيصال النفع ، لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا على النعمة السابقة؟

وأجيب بأنّ التكليف لو كان شكرا لخرجت النعمة ؛ بسبب وقوع المشقّة في مقابلتها عن كونها نعمة.

وإلى هذين الجوابين أشار بقوله : ( والمعاوضات ، والشكر باطل ، ولأنّ النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنّة ، النافع استعمالها للرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية وتذكّر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل مع زيادة الأجر والثواب ).

ص: 447


1- أي نفع التكليف.

أراد أن يشير إلى حسن التكليف على طريقة حكماء الإسلام.

بيان ذلك : أنّ اللّه خلق الإنسان بحيث لا يستقلّ وحده بأمور معاشة ؛ لاحتياجه إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح ، وغير ذلك من الأمور التي كلّها صناعيّ لا يقدر عليها صانع واحد مدّة حياته ، وإنّما تيسّر بجماعة يتعاضدون ويتشاركون في تحصيلها ، بأن يعمل كلّ لصاحبه بإزاء ما يعمل له الآخر ، مثلا يزرع ذاك لهذا ، ويخبز هذا لذاك ويخيط واحد لآخر ، ويتّخذ الآخر الإبرة له ، وعلى هذا قياس سائر الأمور ، فيتمّ أمر معاشه باجتماع من بني نوعه.

ولهذا قيل : إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ؛ فإنّ التمدّن باصطلاحهم عبارة عن هذا الاجتماع ، وهذا الاجتماع لا ينتظم إلاّ إذا كان بينهم معاملة وعدل ؛ لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على من يزاحمه فيه ، وذلك يدعوه إلى الجور على الغير ، فيقع من ذلك الهرج والمرج ، فيختلّ أمر الاجتماع ونظامه ، وللمعاملة والعدل جزئيّات غير محصورة لا تنضبط إلاّ بوضع قوانين هي السنّة والشرع ، فلا بدّ من شارع ليسنّ السنن وذلك على الوجه الذي ينبغي.

ثمّ إنّهم لو تنازعوا في وضع السنّة لوقع الهرج ، فينبغي أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق الطاعة لينقاد الباقون له في قبول السنّة والشرع منه ، وهذا الاستحقاق إنّما يتقرّر باختصاصه بآيات تدلّ على أنّه من عند اللّه ، وتلك هي المعجزات.

ثمّ إنّ الجمهور من الناس يستحقرون اختلال (1) الشرع إذا استولى عليهم الشوق إلى مشتهياتهم ، فيقدمون على المعصية ومخالفة الشرع ، فإذا كان للمطيع ثواب ، وللعاصي عقاب يحملهم الخوف والرجاء على الطاعة وترك المعصية ، كان انتظام الشريعة أقوى ممّا إذا لم يكن كذلك ، فوجب عليهم معرفة الشارع والمجازي.

ولا بدّ من سبب حافظ لتلك المعرقة ؛ فلذلك شرعت العبادات المذكّرة لصاحب

ص: 448


1- في المصدر : « إخلال ».

الشرع والمجازي ، وكرّرت عليهم حتّى يستحكم التذكّر بالتكرير ، فينبغي أن يكون الشارع داعيا إلى التصديق بوجود خالق عليم قدير ، وإلى الإيمان بشارع مرسل إليهم من عنده صادق ، وإلى الاعتراف بوعد ووعيد ، وثواب وعقاب أخرويّين ، وإلى القيام بعبادات يذكر فيها الخالق بنعوت جلاله ، وإلى الانقياد لسنّته التي يحتاج الناس إليها في معاملاتهم حتّى يستمرّ بذلك الدعوة إلى العدل المقيم لنظام أمور النوع.

وتلك السنّة - أعني الطريقة التي يسنّها الشارع ويدعو إليها العباد - استعمالها نافع في أمور ثلاثة :

الأوّل : رياضة القوى النفسانيّة بمنعها عن متابعة الشهوة والغضب المانعين عن توجّه النفس الناطقة إلى جناب القدس.

الثاني : إدامة النظر في الأمور العالية المقدّسة عن العوارض المادّيّة والكدورات الحسّيّة المؤدّية إلى ملاحظة الملكوت.

الثالث : تذكّر إنذارات الشارع ووعده للمحسن ووعيده للمسيء لإقامة العدل في الدنيا مع زيادة الأجر والثواب في الآخرة ، فهذا بيان حسن التكليف على رأي حكماء الإسلام.

( وواجب ؛ لزجره عن القبائح ) اختلفوا في أنّ التكليف واجب ، أم لا؟ فمنعه الأشاعرة بناء على أصلهم من عدم وجوب شيء على اللّه تعالى (1).

وأثبته المعتزلة (2). واختاره المصنّف بأنّ التكليف زاجر عن ارتكاب القبائح ؛ لأنّ الإنسان بمقتضى طبعه يميل إلى الشهوات والمستلذّات ، فإذا علم أنّها حرام انزجر عنه ، والزجر عن القبائح واجب.

ص: 449


1- « المحصّل » : 481 - 483 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 321 - 334 ؛ « شرح المواقف » 8 : 196 - 200.
2- « شرح الأصول الخمسة » : 507 - 525 ؛ « مناهج اليقين » : 249 - 250 ؛ « إرشاد الطالبين » : 273 - 274 ؛ « قواعد المرام » : 115 - 116.

( وشرائط حسنه : انتفاء المفسدة ، وتقدّمه ، وإمكان متعلّقه ، وثبوت صفة زائدة على حسنه ، وعلم المكلّف بصفات الفعل وقدر المستحقّ عليه وامتناع القبيح عليه ، وقدرة المكلّف على الفعل ، وعلمه به ، وإمكانه (1) ، وإمكان الآلة ).

يشير إلى شرائط حسن التكليف : فمنها ما يرجع إلى نفس التكليف ، ومنها ما يرجع إلى الفعل المكلّف به ، ومنها ما يرجع إلى المكلّف ، ومنها ما يرجع إلى نفس المكلّف.

وأمّا ما يرجع إلى نفس التكليف ، فأمران :

الأوّل : انتفاء المفسدة بأن لا يكون التكليف مفسدة للمكلّف ، بأن يكون موجبا للإخلال بتكليف آخر له ، وأن لا يكون مفسدة لمكلّف آخر.

الثاني : تقدّم التكليف على الفعل زمانا يتمكّن المكلّف فيه من الاستقلال به ليباشر الفعل زمان وجوب إيقاعه فيه.

وأمّا ما يرجع إلى الفعل ، فأمران أيضا :

الأوّل : إمكان وجوده ، وإليه أشار بقوله : وإمكان متعلّقه ، فإنّ التكليف بالمحال خال عن الفائدة.

الثاني : اشتمال الفعل على صفة زائدة على حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا إن كان التكليف بفعل.

وأمّا ما يرجع إلى المكلّف فهو أن يكون عالما بصفات الفعل ؛ لئلاّ يكلّف بارتكاب القبائح واجتناب الواجب والمندوب ، وأن يكون عالما بقدر ما يستحقّ على الفعل من الثواب ؛ لئلاّ ينقض الثواب ، فيكون جورا ، وأن يكون القبيح ممتنعا عليه ؛ لئلاّ يخلّ بالواجب ، فلا يثبت المستحقّ للثواب.

وأمّا ما يرجع إلى المكلّف فهو أن يكون قادرا على الفعل ، وأن يكون عالما به أو متمكّنا من العلم ، وأن يتمكّن من آلة الفعل إن كان ذا آلة.

ص: 450


1- في المصدر و « كشف المراد » : « أو إمكانه » بدل « وإمكانه ».

( ومتعلّقه إمّا علم - عقلي ، أو سمعيّ - وإمّا ظنّ ، وإمّا عمل ) أي ما يكلّف به قد يكون علما ، وقد يكون ظنّا ، وقد يكون عملا.

أمّا العلم ، فقد يكون عقليّا محضا نحو العلم بوجود الإله تعالى ، وبكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من الصفات التي لا تتوقّف على السمع ، وقد يكون سمعيّا لا يستقلّ العقل بتحصيله ، ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشرع وخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله مثل العلم بأحوال المعاد.

وأمّا الظنّ فنحو كثير من الأمور ، كظنّ القبلة وغيرها.

وأمّا العمل فكالصلاة والزكاة وغيرهما.

( وهو منقطع ؛ للإجماع ، ولإيصال الثواب ) التكليف لا بدّ وأن ينقطع من المكلّف ؛ وذلك للإجماع المنعقد على انقطاعه ، ولأنّ التكليف لو لم ينقطع لم يمكن إيصال الثواب إلى المكلّف ، والتالي ظاهر الفساد.

وبيان الملازمة : أنّ التكليف يستدعي المشقّة ، والثواب يستدعي الخلوص عن المشقّة ، فالجمع بينهما محال ، فلو تحقّق التكليف دائما انتفى الثواب دائما ، فلم يمكن إيصاله إلى المستحقّ.

( وعلّة حسنه عامّة ) أي علّة حسن التكليف - وهي التعريض للثواب - عامّة بالنسبة إلى المؤمن والكافر ( وضرر الكافر من سوء اختياره ) ولمّا كان للسائل أن يقول : من شرائط حسن التكليف انتفاء المفسدة بالنسبة إلى المكلّف كما مرّ آنفا ، وتكليف الكافر مفسدة له ؛ لأنّه مشقّة له في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة ، أجاب بقوله : ( وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه ) يعني أنّ هذه المفسدة للكافر لم تحصل من التكليف ، بل إنّما حصلت من سوء اختياره ، والمفسدة التي شرطنا عدمها في حسن التكليف هي المفسدة الحاصلة من التكليف.

( والفائدة ثابتة ) جواب سؤال مقدّر.

توجيهه : أنّ تكليف الكافر لا فائدة فيه ؛ لأنّ فائدة التكليف هي الثواب

ص: 451

ولا ثواب له ، فلا فائدة في تكليفه ، فكان عبثا.

تقرير الجواب : أنّا لا نسلّم أنّ تكليف الكافر لا فائدة فيه ، بل الفائدة ثابتة وهي التعريض للثواب لا الثواب ، كما بالنسبة إلى المؤمن ؛ وأمّا الثواب ، فإنّه فائدة امتثال المكلّف للمكلّف به لا فائدة التكليف » (1).

وصل

هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب الجعفري ؛ ردّا على الأشاعرة والمعتزلة ؛ فإنّ العدل الذي هو مقابل الجور من أصول الدين. وأمّا العدل الذي هو مقابل الجبر والتفويض فهو من أصول المذهب الجعفري (2) ، وصاحب المذهب من منكره بريء.

المقام الخامس :

اشارة

أنّ أفعال اللّه تعالى مترتّبة على اللطف الواجب عليه تعالى على وفق ما هو الأصلح بحال العباد الذي لا يكون له مانع.

اعلم أنّ اللطف عبارة عن التفضّل المقرّب إلى الطاعات والمبعّد عن المعاصي بحيث لا يصل إلى حدّ الإلجاء الموجب [ لبطلان الثواب المترتّب على الفعل الاختياريّ والمبعّد عن المعاصي كذلك. (3) ]

والدليل على ذلك أنّ اللطف متمّم للغرض الذي لا يصحّ أن يكون فعل الواجب خاليا عنه.

ص: 452


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 341 - 352.
2- للتعرّف على الأقوال في المسألة راجع « شرح الأصول الخمسة » : 299 - 313 ؛ « مناهج اليقين » : 229 - 235 ؛ « كشف المراد » : 302 وما بعدها ؛ « النافع ليوم الحشر » : 25 - 26 ؛ « إرشاد الطالبين » : 352 ؛ « شرح المواقف » 8 : 181 - 200 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 282 - 296.
3- الزيادة أثبتناها من « أ ».

بيانه : أنّ التكليف فعل من اللّه تعالى ، ولا بدّ له من الغرض ، والغرض منه ليس إلاّ امتثال الأمر ، - الذي هو عبارة عن الطاعة - والانتهاء عن النواهي ، الذي هو عبارة عن ترك المعاصي ، فلا بدّ من التقريب إلى الطاعات والتبعيد عن المعاصي بالبيان ؛ ليتمّ الغرض منه ، ولا يلزم القبيح.

والحاصل : أنّ ترك اللطف نقض للغرض ، وهو قبيح ، واللطف واجب ، فإن كان ممّا لا يصدر إلاّ عن اللّه وجب عليه إيجاده ؛ وإن كان ممّا يمكن صدوره عن المكلّف وجب عليه إعلامه وإيجابه عليه إن كان متعلّقه غير قابل للبيان من اللّه بلا واسطة ، وإن كان من غيرهما فلا بدّ من العلم بوجوده منه في حسن التكليف ؛ لئلاّ يلزم نقض الغرض ، القبيح ، كما مرّ.

اعلم أنّ المصلحة - التي هي عبارة عمّا فيه منفعة من غير ترتّب مفسدة مانعة ، ولا يخلو فعل اللّه تعالى عنها كما مرّ - على قسمين :

إحداهما : ما يكون بالنسبة إلى جميع الموجودات وهو نظام الكلّ.

وأخراهما : مصلحة خاصّة بكلّ موجود. وعند التعارض يقدّم الأولى.

وقد اختلف في أنّ كلاّ منهما هل يجب أن يكون على وجه هو أتمّ الوجوه الممكنة - وهو الأصلح - أم لا؟.

والأوّل محكيّ عن الجمهور القائلين بالحسن والقبح العقليّين (1). والثاني عن منكريهما (2).

والحقّ هو الأوّل ؛ لوجود الداعي - وهو ذات الواجب الفيّاض ؛ إذ الفيض الزائد فيض غير ما يقابل الناقض (3) - ورفع المانع ؛ لأنّه المفروض ، وبلزوم (4) ترجيح

ص: 453


1- « شرح الأصول الخمسة » : 507 - 525 ؛ « كشف المراد » : 343 - 344 ؛ « مناهج اليقين » : 261 - 262.
2- « المحصّل » : 481 - 483 ؛ « شرح المواقف » 8 : 197 - 198 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 329 - 334.
3- كذا في النسخ.
4- كذا ، والأصحّ : « وللزوم ».

المرجوح ، الذي هو قبيح ، فيجب عقلا إيجاد الأصلح ، فلا يلزم مجرّد الوجوب منه بمعنى اللزوم كما هو مقتضى الدليل الأوّل ، بل يلزم الوجوب عليه بمعنى استحقاق الذمّ على الترك أيضا ، كما هو مقتضى الدليل الثاني.

فإن قلت : إنّ الأصلح بحال الكفّار الابتلاء بالأمراض المزمنة ، بل عدم الخلق ، والموت قبل التكليف ، أو عدم العقل ؛ لئلاّ يستوجبوا خلود النار ، وهكذا الأصلح بحال العباد وجود الأنبياء والأوصياء دائما ؛ ليهتدوا بهم ، وعدم إبليس وأعوانه ؛ لئلاّ يضلّوا ، فلم يقعا (1).

قلت : وجود الكفّار وصحّتهم وبقاؤهم وعقلهم ونحو ذلك أصلح لهم من حيث إنّها من مقتضيات استحقاق خلود الجنّة ، واستحقاقهم خلود النار من جهة سوء اختيارهم لا يستلزم عدم كون ما ذكر أصلح في نفسه ، وهكذا قد يكون عدم الأنبياء والأوصياء ووجود أضدادهم أصلح للعباد ؛ لكونهما من أسباب الرياضات النفسانيّة والابتداءة (2) في تحصيل العلوم الدينيّة ، والفوز إلى الدرجات العالية مضافا إلى أنّ مصلحة الجزء إذا تعارضت مصلحة الكلّ تقدّم مصلحة الكلّ كما أشرنا إليه ، فلعلّ [ مصلحة ] الكلّ كانت فيما ذكر.

فإن قلت : إنّ مقدورات اللّه تعالى غير متناهية ، فكلّ ما يفرض أصلح يكون ما فوقه ممكنا إلى غير النهاية ، فيلزم عدم إمكان تأدية اللّه ما هو الواجب عليه.

قلت : عدم تناهي مقدوراته إنّما هو بحسب الإمكان الذاتيّ لا الوقوعيّ ؛ للزوم المفاسد ، فكلّ أصلح لا يكون ما فوقه ممكنا بسبب نقص القابل.

فإن قلت : وجوب الأصلح يستلزم عدم استحقاقه تعالى الشكر ؛ إذ كلّ ما يفعله فهو أصلح ، وكلّ ما هو أصلح فهو واجب عليه.

ص: 454


1- أي لم يقع الأصلح بحال الكافر ولم يقع الأصلح بحال المؤمن.
2- كذا في النسخ ، واحتمال « الأبدانية » ليس ببعيد.

وأيضا يستلزم بطلان فائدة الدعاء والسؤال ، وعدم قدرته تعالى على دفع البليّات وإنجاح الحاجات ؛ إذ كلّ ما فعله فهو الأصلح الذي يكون واجبا ، ولا يمكن تغيّر الواجب.

قلت أوّلا : إنّ الوجوب هنا ليس بمعنى الاضطرار وعدم الاختبار حتّى ينافي استحقاق الشكر ، الذي هو على الفعل الاختياريّ ، ويستلزم عدم القدرة.

وثانيا : إنّ أصل الوجود غير واجب ؛ لعدم قبح ترك المقدور وإن كان فعل الأصلح - على تقدير اختيار الفعل على الترك - واجبا ؛ لقبح ترك الأحسن على تقدير الفعل مع القدرة على الأحسن.

لا يقال : أصل الوجود أيضا مبنيّ على الأصلح ، فيكون واجبا.

لأنّا نقول : تحقّق الأصلح موقوف على تحقّق ما له الأصلح وهو قبل الوجود غير متحقّق فبعد تحقّق إرادة الإيجاد وحصول نفسه يتصوّر الأصلح.

وأمّا الدعاء والسؤال ، فهما من الأسباب المقتضية للمصلحة في الأمور المعلّقيّة (1) لا الحتميّة ، فقد يكون المسئول عنه أصلح بسبب الدعاء ، فيصير واجبا حينئذ على اللّه تعالى.

والحاصل أوّلا : أنّ أفعال اللّه مترتّبة على اللطف المقرّب إلى الطاعات ، المبعّد عن المعاصي المتمّم للغرض الذي لا يصحّ أن يكون فعل اللّه تعالى خاليا عنه.

يدلّ على ذلك أوّلا العقل ؛ لأنّ اللطف متمّم للغرض اللازم ، فهو لازم وتركه نقص وقبيح.

وثانيا : النقل ، كما قال : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (2) وقال : ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) (3) وقال تعالى : ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ

ص: 455


1- كذا في النسخ ، ولعلّ الصحيح : « المعلّقة ».
2- هود (11) : 7 ؛ الملك (67) : 2.
3- النور (24) : 10.

حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

وعن الصادق علیه السلام قال : « ما زالت الأرض إلاّ ولله - تعالى ذكره - فيها حجّة يعرف الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل اللّه عزّ وجلّ ، ولا تنقطع الحجّة من الأرض إلاّ أربعين يوما قبل يوم القيامة ، فإذا رفعت الحجّة أغلقت أبواب التوبة ، ولم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة أولئك شرار خلق اللّه وهم الذين تقوم عليهم الحجّة » (2) إلى غير ذلك من الأدلّة العقليّة والنقليّة.

وثانيا : أنّ أفعال اللّه تكون على الوجه الأصلح بحال العباد إمّا بالمصلحة الخاصّة أو العامّة.

ويدلّ على ذلك أوّلا : العقل ؛ لأنّ الداعي على إيجاد الأصلح - وهو ذات المبدأ الفيّاض - موجود ، والمانع عند عدم ترتّب المفسدة مفقود ؛ ولأنّ (3) اختيار غير الأصلح وعدم ترتّب المفسدة ترجيح للمرجوح وهو قبيح يمتنع صدوره من اللّه تعالى ؛ لأنّه مورد الذّمّ ، فيكون جميع أفعاله على وفق الأصلح حتّى وجود الكفّار والشيطان وغير ذلك ؛ لكونه من مقتضيات خلود الجنّة ، فاللّه أفاض الفيض ، والكفّار اختاروا بسوء اختيارهم ما استحقّوا بسببه خلود النار مع أنّه من جهة كونه سببا لترتّب مصلحة الكلّ وحصول كمال اللّذّة لأهل الآخرة له مصلحة زائدة.

وثانيا : النقل ، كما روي أنّه قال أمير المؤمنين علیه السلام : « فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر ، والزكاة تسبيبا للرزق ، والصيام ابتلاء لإخلاص المحسن ، والحجّ تقوية للدين ، والجهاد عزّا للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ ، والنهي عن المنكر دعاء للسفهاء ، وصلة الأرحام منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل ،

ص: 456


1- المائدة (5) : 6.
2- « كمال الدين » 1 : 339 ، الباب 23 ، ح 24.
3- والفرق بين الدليلين أنّ الأوّل مثبت للمدّعى بلا واسطة والثاني مثبت له عن طريق إبطال مقابل المدّعى.

ومجانبة السرقة إيجابا للعفّة ، وترك الزنى تحقيقا للنسب ، وترك اللواط تكثيرا للنسل ، والشهادات استظهارا على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفا للصدق ، والسلام أمانا من المخاوف ، والأمانة نظاما للأمّة ، والطاعة تعظيما للسلطان » (1) إلى غير ذلك من الأدلّة. وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه اللّه مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( واللطف واجب لتحصّل الغرض به ) (2).

« اللطف ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية بحيث لا يؤدّي إلى الإلجاء ، وهو واجب عند المعتزلة ، واختاره المصنّف ، واحتجّ عليه بأنّ اللطف به يحصل غرض المكلّف ، فيكون واجبا ، وإلاّ وجب نقض الغرض.

بيان الملازمة : أنّ المكلّف إذا علم أنّ المكلّف لا يطيع إلاّ باللطف ، فلو كلّفه من دونه ، لكان ناقضا لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعامه وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعا من التأدّب ، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدّب ، كان ناقضا لغرضه (3).

( وإن كان اللطف من فعله تعالى ، وجب عليه تعالى ، وإن كان من المكلّف ، وجب عليه تعالى أن يشعره به ويوجبه ، وإن كان من غيرهما ، شرط في التكليف بالملطوف فيه العلم بالفعل. ووجوه القبح منتفية ، والكافر لا يخلو من لطف ، والإخبار بالسعادة والشقاوة ليس مفسدة ) أشار إلى الأجوبة عن اعتراضات الأشاعرة على وجوب اللطف على اللّه تعالى.

تقرير الأوّل منها : أنّ اللطف إنّما يجب إذا خلا عن جهات القبح ؛ لأنّ جهة المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات المفسدة ، فلم لا يجوز أن يكون اللطف الذي يوجبونه مشتملا على جهة قبح لا يعلمونه ، فلا يكون واجبا؟

ص: 457


1- « نهج البلاغة » : 703 - 704 ، قصار الحكم ، الرقم 252.
2- في « كشف المراد » و « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : « ليحصل الغرض به ».
3- في « كشف المراد » و « شرح تجريد العقائد » : « فإن كان ».

وتقرير الجواب : أنّ جهات القبح معلومة لنا ؛ لأنّا مكلّفون بتركها ، وليس هنا وجه قبح.

وتقرير الثاني : أنّ الكافر إمّا أن يكلّف مع وجود اللطف أو عدمه.

والأوّل باطل ، وإلاّ لزم أن يكون الكافر مؤمنا لا كافرا ؛ لأنّ معنى اللطف ما حصل الملطوف فيه عنده.

والثاني إمّا أن يكون عدمه مع عدم القدرة عليه ، فيلزم عجز اللّه تعالى ، أو مع وجودها ، فيلزم الإخلال بالواجب.

وتقرير الجواب : أنّ اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف فيه عند حصوله ، بل اللطف - كما ذكرنا آنفا - هو ما يقرّب حصول الملطوف فيه ، ويرجّح وجوده على عدمه ، ويجوز أن يتحقّق مع وجود اللطف معارض أقوى ، فيغلب عليه كسوء اختيار الكافر.

وتقرير الثالث : أنّ اللطف لو كان واجبا عليه تعالى لما صدر عنه ما ينافيه ؛ إذ الجمع بين المتنافيين محال. أمّا صدور ما ينافي اللطف عنه تعالى ، فلأنّه تعالى أخبر بأنّ بعض المكلّفين من أهل الجنّة ، وبعضهم من أهل النار ، وكلاهما مفسدة ؛ لإفضاء الأوّل إلى الاتّكال ، والثاني إلى اليأس ، فلا يأتي بالطاعات ، بل يقدم على المعاصي.

وتقرير الجواب : أنّ هذا الإخبار ليس مفسدة ؛ لجواز أن يقترن بالإخبار بالجنّة من الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعاصي والاجتناب عن الطاعات ، والإخبار بالنار إنّما هو بالنسبة إلى جاهل كأبي لهب ، والمفسدة منتفية فيه ؛ لأنّه لا يعلم صدق إخباره تعالى حتّى يفضي إلى اليأس.

( ويقبح منه تعالى التعذيب مع منعه دون الذمّ ).

المكلّف إذا منع المكلّف من اللطف قبح منه عقابه ؛ لأنّه بمنزلة الأمر بالمعصية والإلجاء إليها ، فيقبح التعذيب عنه حينئذ ؛ لأنّه على ذلك التقدير له أن يقول : لم ما لطّفت بي كما قال اللّه تعالى : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا

ص: 458

لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ) (1) فإنّه أخبر بأنّه لو منعهم اللطف في بعثة الرسول ، لكان لهم هذا السؤال ، ولا يكون لهم هذا السؤال إلاّ مع قبح إهلاكهم من دون البعثة ، ولا يقبح ذمّه ؛ لأنّ الذمّ حقّ يستحقّ على القبيح ، غير مختصّ بالمكلّف بخلاف العقاب المستحقّ للمكلّف ، ولهذا لو بعث الإنسان غيره على فعل القبيح ففعله ، لم يسقط من الباعث حقّ الذمّ كما أنّ لإبليس حقّ ذمّ أهل النار وإن كان هو الباعث على المعاصي.

( ولا بدّ من المناسبة ).

يعني لا بدّ وأن يكون بين اللطف والملطوف فيه مناسبة. والمراد بالمناسبة كون اللطف بحيث يكون حصوله داعيا إلى حصول الملطوف فيه ؛ لأنّه لو لا ذلك لم يكن كونه لطفا أولى من كون غيره من الأفعال لطفا ، فيلزم الترجيح من غير مرجّح ، ولم يكن أيضا كونه لطفا في هذا الفعل أولى من كونه لطفا في غيره من الأفعال ، وهو أيضا ترجّح من غير مرجّح.

وإلى هذين أشار بقوله : ( وإلاّ ترجّح بلا مرجّح بالنسبة إلى المنتسبين ) وعنى بالمنتسبين اللطف والملطوف فيه.

( ولا يبلغ (2) الإلجاء ).

يعني ينبغي أن لا يبلغ اللطف في استدعاء الملطوف فيه حدّ الإلجاء ، وإلاّ لم يكن اللطف لطفا ؛ ضرورة اعتبار عدم الإلجاء في مفهومه ، كما ذكرنا.

( ويعلم المكلّف اللطف إجمالا أو تفصيلا ).

يعني يجب كون اللطف معلوما للمكلّف إمّا بالإجمال أو التفصيل ؛ لأنّه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم يعلم المناسبة بينهما ، لم يكن داعيا إلى فعل

ص: 459


1- طه (20) : 134.
2- هذا وما عطف عليه ب « أن » المقدّرة عطفا على « المناسبة » أي لا بدّ من المناسبة ، وعدم بلوغ اللطف إلى الإلجاء ، وعلم المكلّف باللطف ، وهكذا.

الملطوف فيه ؛ فإن كان العلم الإجماليّ كافيا في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل ، وإن لم يكن كافيا وجب التفصيل.

أقول : فيه نظر ؛ لأنّ اللطف إنّما يكون داعيا إلى الفعل بسبب المناسبة التي بينهما في نفس الأمر سواء كان تلك المناسبة معلومة للمكلّف ، أم لا.

( ويزيد اللطف على جهة الحسن ).

يعني لا بدّ من أن يكون اللطف مشتملا على صفة زائدة على الحسن من كونه واجبا أو مندوبا.

( ويدخله التخيير ).

يعني لا يجب أن يكون اللطف فعلا معيّنا ، بل يجوز أن يكون كلّ واحد من الفعلين قد اشتمل على جهة المصلحة المطلوبة من الآخر ، فيقوم مقامه ، ويسدّ مسدّه كالكفّارات الثلاث.

( ويشترط حسن البدلين ).

يعني يشترط في كلّ واحد من الأمرين - اللذين يكون كلّ منهما لطفا ، ويقوم مقام الآخر - كون كلّ منهما حسنا ليس فيه وجه قبح.

( وبعض الألم قبيح يصدر عنّا خاصّة ، وبعضه حسن يصدر عن اللّه تعالى وعنّا ، وحسنه إمّا لاستحقاقه ، أو لاشتماله على النفع ، أو دفع الضرر الزائدين ، أو لكونه عاديّا ، أو على وجه الدفع ، ولا بدّ في المشتمل على النفع من اللطف ).

لمّا بيّن وجوب اللطف - وهو ضربان : مصلحة في الدين ، ومصلحة في الدنيا ، والمصلحة في الدنيا إمّا مضرّة أو منفعة ، والمضرّة إمّا ألم أو مرض أو غلاء أو غيرها ، والمنفعة إمّا سعة في الرزق أو صحّة أو رخص أو غيرها - أورد مباحث هذه الأمور عقيب اللطف.

واختلف في حسن الألم وقبحه ، فذهب الأشاعرة إلى أنّ الآلام الصادرة عنه

ص: 460

تعالى حسنة سواء كانت مبتدأ بها أو بطريق المجازاة ، وسواء تعقّبها عوض ، أو لا (1).

وذهب الثنويّة إلى قبح جميع الآلام لذاتها وهي صادرة عن الظلمة (2).

واختار المصنّف أنّ بعض الآلام يصدر منّا خاصّة كالآلام الصادرة عن بعض المكلّفين بالنسبة إلى من لا جرم له ، وبعضها حسن يصدر من اللّه تعالى ومنّا ، وعلّة حسنه إمّا الاستحقاق ، أو اشتماله على نفع زائد على الألم ، أو على دفع ضرر زائد عليه ، أو كونه على مقتضى العادة كما يفعله اللّه تعالى في الحيّ إذا ألقيناه في النار ، أو كونه واقعا على وجه الدفع كما إذا وقع دفعا للصائل (3) فإنّا إذا علمنا اشتمال الألم على واحد من هذه الأمور حكمنا بحسنه قطعا ، والألم الذي يفعله اللّه تعالى ابتداء - وهو المشتمل على النفع الحاصل للمتألّم - مشروط باللطف للمتألّم أو لغيره ؛ لأنّ خلوّه عن النفع يستلزم الظلم ، وعن اللطف يستلزم العبث وهما قبيحان على اللّه تعالى.

( ويجوز في المستحقّ كونه عقابا ) أي يجوز أن يقع الألم على المستحقّ مثل الفسّاق والكفّار بطريق العقاب ، ويكون تعجيله قد اشتمل على مصلحة لبعض المكلّفين كما في الحدود.

( ولا يكفي اللطف في ألم المكلّف في الحسن ).

يعني أنّ اللطف غير كاف في ألم المكلّف لكونه حسنا ، بل لا بدّ فيه أن يقع في مقابلته عوض من حصول نفع أو دفع ضرر ؛ لأنّ الطاعة الواقعة لأجل الألم بسبب اللطف تقابل الثواب المستحقّ ، فيبقى الألم مجرّدا عن النفع ، فيكون قبيحا.

( ولا يحسن مع اشتمال اللذّة على لطفه ).

يعني أنّ الألم لا يحسن إذا كان اللّذّة مشتملة على اللطف الذي في الألم ؛ لأنّ

ص: 461


1- « شرح الأصول الخمسة » : 483 ؛ « كشف المراد » : 329 ؛ « مناهج اليقين » : 255 ؛ « إرشاد الطالبين » : 279.
2- نفس المصادر السابقة.
3- الصائل : الواثب والمهاجم.

الألم إنّما يصير في حكم المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلاّ ذلك الألم ، ولو أمكن الوصول إلى المنفعة بدون الألم ، كان الألم ضررا وهو قبيح.

( ولا يشترط في الحسن اختيار المتألّم بالفعل ) أي لا يشترط في حسن الألم الواقع ابتداء من اللّه تعالى اختيار المتألّم العوض الزائد عليه بالفعل ؛ لأنّ اعتبار الاختيار إنّما يكون في النفع الذي يتفاوت فيه اختيار المتألّمين ، فأمّا النفع البالغ إلى حدّ لا يتفاوت فيه اختيار المتألّمين ؛ لكونه زائدا ، فهو حسن وإن لم يحصل الاختيار بالفعل ، وهذا هو العوض المستحقّ عليه تعالى.

( والعوض نفع مستحقّ خال عن تعظيم وإجلال ).

أراد أن يشير إلى عوض الألم الواقع ابتداء وأحكامه ، فقال : « العوض نفع مستحقّ خال عن تعظيم وإجلال » والنفع يجوز أن يقع تفضّلا من غير سابقة استحقاق ، ويجوز أن يقع بعد استحقاق ، فقوله : « مستحقّ » يخرج النفع المتفضّل ؛ فإنّه لا يكون عوضا. وقوله : « خال عن تعظيم وإجلال » يخرج الثواب.

( ويستحقّ عليه تعالى بإنزال الآلام ، وتفويت المنافع لمصلحة الغير ، وإنزال الغموم - سواء استندت إلى علم ضروريّ أو مكتسب أو ظنّ لا ما يستند إلى فعل العبد - وأمر عباده بالمضارّ أو إباحته ، وتمكين غير العاقل ، بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار والقتل عند شهادة الزور ).

أراد أن يشير إلى الوجوه التي يستحقّ بها العوض على اللّه تعالى :

منها : إنزال الآلام بالعبد كالمرض وغيره ؛ فإنّه يجب على اللّه تعالى عوضه ، وإلاّ لكان ظلما ، والظلم قبيح على اللّه تعالى.

ومنها : تفويت المنافع على العبد إذا كان التفويت من اللّه تعالى لمصلحة الغير ؛ لأنّه لا فرق بين إنزال المضارّ وتفويت المنافع.

ومنها : إنزال الغموم بأن يخلق اللّه تعالى أسباب الغمّ ؛ لأنّه بمنزلة الضرر سواء كان الغمّ مستندا إلى علم ضروريّ كنزول مصيبة أو وصول ألم ، أو مستندا إلى علم

ص: 462

مكتسب ؛ لأنّه تعالى هو الباعث على النظر ، فيكون اللّه تعالى سببا للغمّ ، فكان العوض عليه ، أو كان مستندا إلى ظنّ كأن يغتمّ عند أمارة وصول مضرّة أو فوات منفعة ؛ فإنّه هو الناصب لأمارة الظنّ ، فيكون الغمّ بسببه ، فيجب عليه تعالى العوض.

قوله : « لا ما يستند إلى فعل العبد » أي الغمّ المستند إلى العبد نفسه من غير سبب من اللّه تعالى لا عوض فيه على اللّه تعالى وذلك مثل أن يبحث العبد ، فيعتقد - جهلا - بنزول ضرر أو فوات منفعة ؛ لأنّه لا عوض فيه.

ومنها : أي من الوجوه التي يستحقّ بها العوض على اللّه تعالى أمر اللّه تعالى عباده بإيلام الحيوان أو إباحته سواء كان الأمر للإيجاب كالذبح للهدي والكفّارة والنذر ، أو الندب كالضحايا ؛ فإنّ العوض يجب على اللّه تعالى ؛ لأنّ الأمر بالإيلام يستلزم الحسن ، والألم إنّما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في حدّ العظم (1) جدّا.

ومنها : تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش للإيلام ؛ فإنّ العوض يجب على اللّه تعالى ؛ لأنّه مكّنه وجعله مائلا إلى الإيلام مع إمكان عدم الميل ، ولم يجعل له عقلا يميّز به الألم لحسن من الألم القبيح ، فكان ذلك بمنزلة الإغراء ، فيقبح منه أن لا يوصل إليه عوضا ، وهذا بخلاف الإحراق إذا ألقينا صبيّا في النار واحترق ، أو شهد أحدنا شهادة زور ، فقتل بسببها ؛ فإنّ العوض يجب علينا لا على اللّه.

أمّا إلقاء الصبيّ في النار ، فلأنّ فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة ، واللّه قد منعنا من إلقائه ونهانا عنه ، فصار الملقي كأنّه أوصل الألم إليه ، فلذا يجب على الملقي العوض دونه. وأمّا شهادة الزور ، فلأنّ الشهود أوجبوا بشهادتهم على الإمام إيصال الألم من جهة الشرع فصاروا كأنّهم فعلوا.

( والانتصاف ) أي انتصاف المظلوم من الظالم ( واجب عليه ) أي على اللّه تعالى

ص: 463


1- في المصدر : « في العظم جدّا ».

( عقلا ) لأنّه لو لم ينتصف لأدّى إلى إضاعة حقّ المظلوم ؛ لأنّه تعالى مكّن الظالم وخلّى بينه وبين الظلم مع أنّه تعالى يقدر على منعه وما مكّن المظلوم من مكافأته ، فلو لم ينتصف منه لضاع حقّ المظلوم ، والتالي باطل ؛ لأنّ تضييع حقّ المظلوم قبيح عقلا ( و ) واجب ( سمعا ) أيضا ؛ لما ورد في القرآن من أنّ اللّه تعالى يقضي بين عباده بالحقّ (1).

( فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم دون عوض في الحال يوازي ظلمه (2) ) فإن لم يكن له عوض تفضّل اللّه عليه بالعوض المستحقّ عليه ، ودفعه إلى المظلوم ( فإن كان المظلوم من أهل الجنّة ، فرّق اللّه أعواضه على الأوقات ) على وجه لا يتبيّن له انقطاعها فلا يتألّم به ( أو تفضّل اللّه عليه ) أي على المظلوم ( بمثلها ) أي بمثل الأعواض عقيب انقطاعها ؛ لئلاّ يتألّم بانقطاعها.

( وإن كان ) المظلوم ( من أهل العقاب ، أسقط اللّه بها ) أي بتلك الأعواض ( جزءا من عقابه ) يوازي تلك الأعواض ( بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرّق الناقص على الأوقات ) ولا يحصل له السرور بحصول التخفيف.

وفي بعض النسخ « بحيث يظهر له التخفيف » وهو سهو من الناسخ.

( ولا يجب دوامه ) أي دوام العوض ( لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا ) أي لأنّ العوض إنّما يحسن ؛ لأنّه يشتمل على نفع زائد على الألم زيادة يختار معه (3) المتألّم ألمه ومثل هذا النفع الزائد لا يستدعي أن يكون دائما ؛ لجواز أن يكون بحيث يختاره المتألّم مع كونه منقطعا ، فلا يجب دوامه. وهذا مذهب أبي هاشم (4).

ص: 464


1- قال تعالى : « واللّه يقضي بالحقّ ». غافر 1. : 20.
2- في المصدر : « الظلم ».
3- في المصدر : « معها ».
4- « كشف المراد » : 336 - 337 ؛ « مناهج اليقين » : 258 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 494 - 495.

وذهب أبو عليّ الجبائي (1) إلى أنّه يجب دوام العوض ؛ لأنّه لو انقطع لوجب أن يوصل إليه عاجلا ؛ لأنّ المانع من الإيصال في الدنيا هو انقطاع الحياة (2) المانع من دوامه وقد انتفى.

وردّه المصنّف بقوله : ( ولا يجب حصوله في الدنيا ؛ لاحتمال مصلحة التأخير ) يعني لا نسلّم أنّ المانع هو الدوام مع انقطاع الحياة المانع من دوامه ، بل لا يجب حصوله في الدنيا ؛ لاحتمال أن يكون لتأخيره مصلحة غير ظاهرة ، فالمانع هو انتفاء تلك المصلحة الخفيّة.

وقال أيضا : لو انقطع العوض ، لزم دوامه وجه اللزوم : أنّه لو انقطع العوض لتألّم بانقطاعه ، فيستدعي المتألّم عوضا ، فيجب أن يوصله ، فإن لم ينقطع لزم دوامه. وإن انقطع تألّم به واستدعى عوضا آخر وهلمّ جرّا ، فثبت أنّه لو انقطع وجب دوامه ، وما يؤدّي وجوده إلى العدم يكون محالا ، فالانقطاع محال.

وردّ المصنّف ذلك أيضا بقوله : ( والألم على القطع ممنوع ، مع أنّه غير محلّ النزاع ).

يعني أنّه لا نسلّم أنّه يتألّم بسبب انقطاع العوض ؛ إذ يجوز أن ينقطع من غير أن يشعر بانقطاعه ، فلا يتألّم به. مع أنّه غير محلّ النزاع ؛ فإنّ النزاع في العوض المستحقّ على الدوام ، لا في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر وهكذا دائما.

( ولا يجب إشعار صاحبه ) أي المستحقّ للعوض ( بإيصاله عوضا ) بخلاف الثواب ؛ فإنّه يجب أن يقارن التعظيم ، ولا يحصل التعظيم إلاّ بأن يشعر بأنّه ثواب له.

( ولا تتعيّن منافع ) لأن يكون عوضا ، بل يجوز أن يوصل عوضا كلّ ما يحصل

ص: 465


1- نفس المصدر.
2- في المصدر و « أ » : « هو الدوام مع انقطاع الحياة ».

فيه نفع بخلاف الثواب ؛ فإنّه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلّف من ملاذّه كالأكل والشرب واللبس والتناكح ؛ لأنّه يرغب به في تحمّل المشاقّ بخلاف العوض.

( ولا يصحّ إسقاطه ) أي لا يجوز إسقاط العوض ممّن وجب عليه العوض لا في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا. هذا مذهب أبي هاشم (1).

وذهب أبو الحسين إلى أنّه يصحّ إسقاطه إن كان علينا إذا استحلّ الظالم من المظلوم وجعله المظلوم في حلّ بخلاف العوض عليه تعالى ؛ فإنّ إسقاطه عنه عبث ؛ لعدم انتفاعه به (2).

( والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حدّ الرضا عند كلّ عاقل ).

يعني أنّ العوض إذا وجب عليه تعالى ، يجب أن يكون زائدا على الألم زيادة تنتهي إلى حدّ يرضى به كلّ عاقل. ( و ) إن كان العوض ( علينا ، يجب مساواته ) للألم ؛ لأنّ الزائد على قدر ما يستحقّ عليه من الضمان يكون ظلما.

( وأجل الحيوان الوقت الذي علم اللّه تعالى بطلان حياته فيه ، والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه ) أي لو لا القتل يجوز موته في ذلك الوقت وحياته أيضا.

وقال أبو الهذيل : يموت البتّة في ذلك الوقت (3).

وقال الأشاعرة (4) : يعيش.

وقال كثير من المعتزلة : بل يعيش البتّة إلى أمد هو أجله (5).

( ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلّف ) أي يجوز أن يكون أجل

ص: 466


1- « كشف المراد » : 338.
2- نفس المصدر.
3- « كشف المراد » : 340 ؛ « مناهج اليقين » : 260 - 261 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 314.
4- نفس المصادر.
5- نفس المصادر.

الإنسان لطفا لغيره من المكلّفين ، ولا يجوز أن يكون لطفا للمكلّف نفسه ؛ لأنّه بالأجل ينقطع التكليف من المكلّف ، وعند انقطاع التكليف لا يكون اللطف متحقّقا.

( والرزق ما صحّ الانتفاع به ، ولم يكن لأحد منعه منه ) فطعام البهيمة قبل أن تستهلكه بالمضغ والبلع لا يكون رزقا لها ؛ لأنّ للمالك منعها منه ، والحرام أيضا لا يكون رزقا ؛ لأنّ اللّه تعالى منع من الانتفاع به وما كان حلالا مباحا ، فما أتى العبد منه بنصب وتعب فالعبد هو الرازق لنفسه واللّه ليس رازقا له في ذلك الرزق. وأمّا ما أتاه منه بغير فعله ، فهو من اللّه ، والرازق له في ذلك الرزق هو اللّه تعالى.

( والسعي في تحصيله قد يجب ) عند الحاجة ( وقد يستحبّ ) إذا طلب التوسعة على نفسه وعياله ( وقد يباح ) عند قصد تكثير المال من غير ارتكاب منهيّ عنه ( وقد يحرم ) عند ارتكاب المنهيّات كالغصب والسرقة والربا.

والرزق عند الأشاعرة هو ما ساقه اللّه تعالى إلى الحيوان فانتفع به (1) ، فيدخل رزق الإنسان والدوابّ وغيرهما من المأكول وغيره - مباحا أو حراما ، مملوكا أو غير مملوك - ويخرج ما لم ينتفع به وإن كان السوق للانتفاع ؛ لأنّه يقال فيمن ملك شيئا وتمكّن الانتفاع به ولم ينتفع : إنّ ذلك لم يصر رزقا. وعلى هذا يصحّ « إنّ كلّ أحد يستوفي رزقه » و « لا يأكل أحد رزق غيره ، ولا الغير رزقه ».

وذهب بعضهم إلى أنّ الرزق هو ما تولّى به (2) الحيوان من الأغذية والأشربة لا غير (3).

( والتسعير (4) تقدير العوض الذي يباع به الشيء ) طعاما كان أو غيره ( وهو رخص وغلاء ، ولا بدّ من اعتبار العادة واتّحاد الوقت والمكان ) في الرخص

ص: 467


1- « شرح المواقف » 8 : 172 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 318.
2- في المصدر وهامش « أ » : « يربّى به ».
3- « شرح المواقف » 8 : 172.
4- في المصدر و « كشف المراد » : « والسعر ».

والغلاء ؛ فإنّ انحطاط العوض إنّما يكون رخصا إذا كان الانحطاط عمّا جرت العادة بكونه عوضا في ذلك الوقت وذلك المكان ، وكذا ارتفاع العوض إنّما يكون غلاء إذا كان الارتفاع عمّا جرت العادة بكونه عوضا في ذلك الوقت وذلك المكان.

وقد يستندان إلى اللّه تعالى بأن يقلّل جنس المتاع [ المعيّن ويكثّر رغبة الناس فيه فيحصل الغلاء ، أو يكثر جنس ذلك المتاع ] (1) ويقلّل رغبة الناس فيه فيحصل الرخص ( وقد يستندان أيضا إلينا ) (2) كأن يحمل السلطان الناس على بيع تلك السلعة بثمن غال ظلما منه ، أو يحتكر الناس ، إلى غير ذلك من الأسباب المستندة إلينا ، فيحصل الغلاء ؛ والرخص بخلاف ذلك.

( والأصلح قد يجب على اللّه لوجود الداعي ) والقدرة (3) ( وانتفاء الصارف ).

ذهب المعتزلة إلى أنّه يجب على اللّه تعالى ما هو أصلح لعباده (4).

واستدلّوا على ذلك بأنّه يجب الفعل عند وجود الداعي والقدرة وانتفاء الصارف.

واعترض عليه بأنّ ذلك وجوب الفعل عنه ، بمعنى اللزوم عند تمام العلّة ، والمدّعى هو الوجوب عليه ، بمعنى استحقاق الذّمّ على الترك ، فأين هذا من ذلك؟

واعلم أنّ مفاسد هذا الباب أكثر من أن تعدّ وتحصى ولنذكر نبذا من ذلك :

منها : أنّ الأصلح بحال الكافر المبتلى بالأسقام والآفات أن لا يخلق ، أو يموت طفلا ، أو يسلب عنه عقله بعد البلوغ ، فلم لم يفعل اللّه ذلك بالنسبة إليه وأبقاه حتّى يفعل ما يوجب خلوده في النار؟

ومنها : أنّه يلزم منه أن يكون إماتة الأنبياء والأولياء والمرشدين ، وتبقية إبليس وذرّيّاته المضلّين إلى يوم الدين أصلح لعباده ، وكفى بهذا فظاعة.

ص: 468


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- في « كشف المراد » : « ويستندان إليه تعالى وإلينا أيضا ».
3- كلمة « والقدرة » غير موجودة في المصدر وفي « أ ».
4- « شرح الأصول الخمسة » : 507 - 525 ؛ « كشف المراد » : 343 - 344 ؛ « مناهج اليقين » : 261 - 262.

ومنها : أنّه يلزم أن لا يبقى للتفضّل مجال ، ولا يكون لله تعالى خيرة في الإنعام والإفضال ، بل يكون ما يفعله تأدية للواجب كردّ وديعة ، أو دين لازم قد يستوجب على فعله شكرا ، ويكون الدعاء لدفع البلاء وكشف البأساء والضرّاء سؤالا من اللّه تعالى أن يغيّر ما هو الواجب عليه.

ومنها : أنّ مقدورات اللّه تعالى غير متناهية فأيّ قدر يضبطونه في الأصلح فالمزيد عليه ممكن ، فيلزم أن لا يمكن تأدية اللّه تعالى ما هو الواجب عليه ، وفساده أظهر من أن يخفى » (1).

وصل

هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب الجعفريّ ، ومنكره كالأشاعرة من المذهب بريء.

تذنيب : [ في خلق العالم ]

فيه ما هو غريب ، وذكره عجيب ، وإلى الطباع قريب.

فقد ذكر غوّاص بحار الأخبار في كتاب « بحار الأنوار » في المجلّد الرابع عشر المسمّى بكتاب السماء والعالم أمورا متعلّقة بأفعال اللّه ونحن نذكر جملة منها من الفوائد :

[ الفائدة ] الأولى : ما يتعلّق بحدوث العالم وبدء خلقه وكيفيّته وبعض كلّيات الأمور.

قال اللّه تعالى في البقرة : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2).

ص: 469


1- « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : 352 - 357.
2- البقرة (2) : 29.

وفي الأنعام : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) (1).

وفي الأعراف : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) (2).

وفي هود : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (3).

وفي الأنبياء : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (4)

وفي السجدة : ( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (5).

وفي النازعات : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها* أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها* مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) (6).

ص: 470


1- الأنعام (6) : 1.
2- الأعراف (7) : 54.
3- هود (11) : 7.
4- الأنبياء (21) : 30.
5- فصّلت (41) : 9 - 12.
6- النازعات (79) : 27 - 33.
بيان :

قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) امتنان على العباد بخلق ما يتوقّف عليه أمور معاشهم ومعادهم وأبدانهم وأديانهم بالاستدلال والاختبار.

وبه يستدلّ على إباحة جميع الأشياء إلاّ ما أخرجه الدليل باستعمال اللام في كلّ جزئيّ من جزئيّات الانتفاع بقرينة مقام الامتنان ؛ لعدم الدليل على التعيين ، وعدم الفائدة في الإبهام.

و ( اسْتَوى ) بمعنى استولى وملك ، و ( فَسَوَّاهُنَ ) بمعنى عدّلهنّ وخلقهنّ مصونة من العوج والفطور. والسبع لا ينافي التسع الذي أثبتوها (1) أهل الرصد ؛ إذ الثامن والتاسع مسمّيان في لسان الشرع بالكرسيّ والعرش.

والخلق في ستّة أيّام من أيّام الدنيا ، أو الآخرة يكون كلّ يوم ألف سنة كما عن ابن عبّاس (2) - مع كونه تعالى قادرا على خلقها في طرفة عين بل أقلّ ؛ فإنّ أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون - إمّا لكون الاعتبار في التدريج أكثر ، أو ليعلّم الناس عدم الاستعجال في الأمور كما عن أمير المؤمنين علیه السلام (3).

وهي إمّا محمولة على الحقيقة - بناء على أنّ الزمان حاصل من حركة الفلك الأعظم وهو ظاهر ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه خلق الخير يوم الأحد ، وما كان ليخلق الشرّ قبل الخير ، وفي يوم الأحد والاثنين خلق الأرضين ، وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء ، وخلق السماوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس ، وخلق أقواتها يوم الجمعة » (4) - أو على المجاز بناء على أنّه لم يكن

ص: 471


1- كذا ، والأصحّ : « أثبتها ».
2- « تفسير القرآن العظيم » لابن كثير 2 : 229 ، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف (7).
3- نقل نحوه عن سعيد بن جبير. انظر « معالم التنزيل » 2 : 481 ؛ « زاد المسير » 3 : 143 ؛ « مجمع البيان » 4 : 3. ذيل الآية 54 من سورة الأعراف (7).
4- « الكافي » 8 : 127 ، ح 117.

قبل وجود الشمس يوم حقيقي ، فالمراد مقدارها أو مقدار حركة الفلك.

والقول بأنّ الزمان المادّي له زمان مجرّد كالنفس للجسد خارج عن طور العقل.

ومثله ما حكي عن الرازيّ من أنّ المراد ستّة أحوال : ذات السماء وصفاتها ، وذات الأرض وصفاتها ، وذات ما بينهما وصفاتها (1).

ومعنى قوله : ( « وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » ) يفهم ممّا تقدّم.

ومعنى الفتق بعد الرتق الفصل بعد الوصل بجعل كلّ منهما سبعا ، أو فتق السماء بالمطر ، والأرض بالنبات كما في الخبر (2) ، أو الرتق مجاز عن العدم ، والفتق مجاز عن الوجود.

والمراد بخلق الأرض في يومين مقدارهما ، أو أنّه خلق لها أصلا مشتركا ، ثمّ خلق لها صورا صارت بها أنواعا.

ويستفاد من بعض الأخبار أنّه كان عرش اللّه على الماء فأحدث اللّه في ذلك الماء سخونة ارتفع منه زبد ودخان ، فأحدث من الزبد الأرض ، ومن الدخان السماوات (3).

والتناقض الظاهريّ - المستفاد من الآيات بدلالة بعضها على تقدّم خلق الأرض على السماء وبعضها بالعكس - مدفوع بأنّ خلق الأرض متقدّم ، ودحوها متأخّر ، كما يشهد عليه قوله تعالى : ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) (4).

وعن أبي جعفر الثاني علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيّته ، ثمّ خلق محمّدا وعليّا وفاطمة ، فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق جميع

ص: 472


1- « مفاتيح الغيب » 9 : 136 ، ذيل الآية 4 من سورة السجدة (32).
2- « مجمع البيان » 7 : 82 ، ذيل الآية 30 من سورة الأنبياء (21) ؛ « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 69 - 70 ؛ « الكافي » 8 : 95 ، ذيل الحديث 67 ؛ « الاحتجاج » 2 : 181 - 182 ، ح 207.
3- « تفسير عليّ بن إبراهيم » 1 : 329.
4- النازعات (79) : 30.

الأشياء ، فأشهدهم خلقها ، وأجرى طاعتهم عليها » (1).

وعن الرسول أنّه احتجّ على الدهريّة ، فقال : « ما دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟ » فقالوا : لا نحكم إلاّ بما نشاهد ، ولم نجد للأشياء محدثا (2) ، فحكمنا بأنّها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء ، فحكمنا بأنّها لا تزال.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أفوجدتم لها قدما ، أم وجدتم لها بقاء أبدا؟ فإن قلتم : إنّكم وجدتم ذلك ، أثبتّم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا ، دفعتم العيان وكذّبكم العالمون الذين يشاهدونكم ».

قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبدا ، قال : « أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ » فقالوا : لا ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « فإذن ينقطع أحدهما عن الآخر ، فيسبق أحدهما ، فيكون الثاني جاريا بعده » قالوا : كذلك هو ، فقال : « قد حكمتم بحدوث ما تقدّم من ليل ونهار ولم تشاهدوهما ، فلا تنكروا لله قدرة ».

ثمّ قال صلی اللّه علیه و آله : « أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه ، أم غير متناه؟ فإن قلتم : غير متناه ، فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله ، وإن قلتم : إنّه متناه ، فقد كان ولا شيء منهما » قالوا : نعم ، قال لهم : « أقلتم : إنّ العالم قديم ليس بمحدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ » قالوا : نعم ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فهذا الذي نشاهده من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر ؛ لأنّه لا قوام للبعض إلاّ بما يتّصل به ألا ترون البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض ، وإلاّ لم يتسق

ص: 473


1- « الكافي » 1 : 441 باب مولد النبيّ ... ح 5.
2- كذا في النسخ ، وفي بحار الأنوار : « حدثا ». والأولى : « حدوثا ».

ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما ترون؟ فإن كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوّته وتمامه هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثا كيف يكون؟ وكيف كان إذا كان تكون صفته؟ ».

قال : فبهتوا وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلاّ وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنّه قديم ، فوجّهوا وقالوا : سننظر في أمرنا. الخبر (1).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على حدوث العالم ، مثل ما حكي عن ابن طاوس قال :

« وجدت في صحف إدريس من نسخة عتيقة : أوّل يوم خلق اللّه - جلّ جلاله - يوم الأحد.

ثمّ كان صباح يوم الاثنين ، فجمع اللّه - جلّ جلاله - البحار حول الأرض وجعلها أربعة (2) بحار : الفرات ، والنيل ، وسيحان ، وجيحان.

ثمّ كان مساء ليلة الثلاثاء ، فجاء الليل بظلمته ووحشته.

ثمّ كان صباح يوم الثلاثاء ، فخلق اللّه - جلّ جلاله - الشمس والقمر - وشرح ذلك وما بعده شرحا طويلا وقال - :

ثمّ كان مساء ليلة الأربعاء ، فخلق اللّه ألف ألف صنف من الملائكة ، منهم على خلق الغمام ، ومنهم على خلق النار متفاوتين في الخلق والأجناس.

ثمّ كان صباح يوم الأربعاء ، فخلق اللّه من الماء أصناف البهائم والطير ، وجعل لهنّ رزقا في الأرض ، وخلق النار العظام وأجناس الهوامّ.

ثمّ كان مساء ليلة الخميس ، فميّز اللّه سباع الدوابّ وسباع الطير ، ثمّ كان صباح يوم الخميس ، فخلق اللّه ثمان جنان ، وجعل باب كلّ واحدة منهنّ إلى بعض.

ص: 474


1- « بحار الأنوار » 54 : 68 ، ح 45 و 9 : 261 - 262 ، ح 1 ؛ « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : 534 - 537 ذيل الآية 112 من سورة البقرة (2).
2- في هامش « ب » : « أنهار ».

ثمّ كان مساء ليلة الجمعة ، فخلق اللّه النور الزهراء (1) ، وفتح اللّه مائة باب رحمة في كلّ باب جزء من الرحمة ، وو كلّ بكلّ باب ألفا من الملائكة الرحمة ، وجعل رئيسهم كلّهم ميكائيل ، فجعل آخرها بابا لجميع الخلائق يتراحمون به بينهم.

ثمّ كان صباح يوم الجمعة ، فتح اللّه له أبواب السماء بالغيث ، وأهبّ الرياح ، وأنشأ السحاب ، وأرسل الملائكة الرحمة للأرض ، [ و ] أمر السحاب تمطر على الأرض ، وزهرت الأرض بنباتها ، وازدادت حسنا وبهجة وغشي الملائكة النور ، وسمّى اللّه يوم الجمعة لذلك يوم أزهر (2) ويوم المزيد ، وقال اللّه : قد جعلت يوم الجمعة أكرم الأيّام كلّها وأحبّها إليّ.

- ثمّ ذكر شرحا جليلا بعد ذلك ، ثمّ قال - : إنّ الأرض عرّفها اللّه - عزّ وجلّ جلاله - أنّه يخلق منها خلقا ، فمنهم من يطيعه ، ومنهم من يعصيه ، فاقشعرّت الأرض واستعطفت اللّه ، وسألته أن لا يأخذ منها من يعصيه ويدخله النار ، وأنّ جبرئيل - علیه السلام - أتاها ليأخذ منها طينة آدم علیه السلام فسألته لعزّة اللّه أن لا يأخذ منها شيئا حتّى تتضرّع إلى اللّه تعالى ، وتضرّعت ، فأمره اللّه تعالى بالانصراف عنها.

فأمر اللّه ميكائيل علیه السلام فاقشعرّت وتضرّعت وسألت ، فأمره اللّه بالانصراف عنها فأمر اللّه تعالى إسرافيل بذلك ، فاقشعرّ ، وسألت ، وتضرّعت ، فأمره اللّه تعالى بالانصراف عنها.

فأمر عزرائيل ، فاقشعرّت وتضرّعت ، فقال : قد أمرني ربّي بأمر أنا ماض له سرّك ذاك ، أم ساءك ، فقبض منها كما أمره اللّه ، ثمّ صعد بها إلى موقفه ، فقال اللّه عزّ وجلّ له : كما وليت (3) قبضها من الأرض وهو (4) كاره ، كذلك تلي قبض أرواح كلّ

ص: 475


1- كذا في النسخ ، والأولى : « ملائكة الرحمة ».
2- من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.
3- في « ب » : « ولّيت ».
4- كذا ، والأصحّ : « هي كارهة ».

من عليها وكلّ ما قضيت عليه الموت من اليوم إلى يوم القيامة.

فلمّا غابت شمس يوم الجمعة ، خلق اللّه النعاس فغشّاه ذوات الأرض ، وجعل النوم سباتا ، وسمّى الليلة لذلك ليلة السبت ، وقال : أنا اللّه لا إله إلاّ أنا خالق كلّ شيء خلقت السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى في ستّة أيّام من شهر نيسان وهو أوّل شهر من شهور الدنيا ، وجعلت الليل والنهار ، وجعلت النهار نشورا ومعاشا ، وجعلت الليل لباسا وسكنا.

ثمّ كان صباح يوم السبت فميّز اللّه لغات الكلام يسبّح جميع الخلائق لعزّة اللّه جلّ جلاله ، فتمّ خلق اللّه ، وتمّ أمره في الليل والنهار.

ثمّ كان صباح يوم الأحد الثاني اليوم الثامن من الدنيا ، فأمر اللّه ملكا تعجن طينة آدم ، فخلط بعضها ببعض ، ثمّ خمّرها أربعين سنة ، ثمّ جعلها لازبا ، ثمّ جعلها حمأ مسنونا أربعين سنة ، ثمّ جعلها صلصالا كالفخّار أربعين سنة ، ثمّ قال للملائكة بعد عشرين ومائة مذ خمّر طينة آدم : إنّي خالق بشرا من طين فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فقالوا : نعم ، فقال : في الصحف ما هذا لفظه « فخلق اللّه آدم على صورته التي صوّرها في اللوح المحفوظ » (1).

الفائدة الثانية ما ذكر (2) في مقام ذكر نبذ من الدلائل العقليّة الدالّة على حدوث العالم من براهين إبطال التسلسل فقال :

« الأوّل : برهان التطبيق وهو أمّ البراهين ، وله تقريرات :

الأوّل : لو تسلسلت أمور مترتّبة إلى غير النهاية بأيّ وجه من وجوه الترتيب اتّفق كالترتيب الوضعيّ أو الطبعيّ أو بالعلّيّة أو بالزمان - وسواء كانت عددا ، أو زمانا ، أو كمّا قارّا ، أو معدودا ، أو حركة ، أو حوادث متعاقبة - فنفرض من حدّ معيّن منها

ص: 476


1- « سعد السعود » : 32 - 33 ، صحائف إدريس علیه السلام .
2- أي صاحب البحار.

على سبيل التصاعد مثلا سلسلة غير متناهية ، ومن الذي من فوق الأخير أيضا سلسلة أخرى ، ولا شكّ في أنّه يتحقّق هناك جملتان إحداهما جزء للأخرى ، ولا في أنّ الأوّل من إحداهما منطبق على الأوّل من الأخرى والثاني على الثاني في نفس الأمر وهكذا حتّى يستغرق التطبيق كلّ فرد فرد بحيث لا يشذّ فرد ، فإن كان في الواقع بإزاء كلّ واحد من الناقصة واحد من الزائدة ، لزم تساوي الكلّ والجزء وهو محال ، أو لا يكون ، فقد وجد في الزائدة جزء لا يكون بإزائه من الناقصة شيء ، فتتناهى الناقصة ، أوّلا ، ويلزم تناهي الزائدة أيضا ؛ لأنّ زيادتها بقدر متناه هو ما بين المبدأين وقد فرضناهما غير متناهيين ، وهذا خلف.

واعلم أنّه لا حاجة في التطبيق إلى جذب السلسلة الناقصة ، أو رفع التامّة وتحريكهما عن موضعهما حتّى تحصل نسبة المجازات (1) بين آحاد أجزاء السلسلتين ويحصل التطبيق باعتبار هذه النسبة ، بل النسب كثيرة في الواقع ، متحقّقة بين كلّ واحدة من آحاد إحدى السلسلتين مع آحاد السلسلة الأخرى بلا تعمّد (2) من العقل ؛ فإنّه للأوّل من السلسلة التامّة نسبة إلى الأوّل من الناقصة ، وهو الخامس من السلسلة الأولى بعد إسقاط أربعة من أوّلها ، وللثاني من الأولى إلى السادس من الثانية ، وللثالث من الأولى إلى السابع من الثانية تلك النسبة بعينها ، وهكذا في جميع آحاد السلسلتين على التوالي حتّى يستغرق.

وكذا الأوّل من السلسلتين موصوف بالأوّليّة ، والثاني بالثانويّة ، والثالث بالثالثيّة وهكذا.

وباعتبار كلّ من تلك النسب والمعاني تنطبق السلسلتان في الواقع كلّ جزء على نظيره على التوالي ، ولمّا كان أوّل الناقصة منطبقا على أوّل الزائدة وتاليها على تاليها وهكذا على التوالي كلّ على نظيره حتّى يستغرق الكلّ ، ولا يمكن فوات

ص: 477


1- كذا في النسخ ، والصحيح : « المحاذاة » كما في « بحار الأنوار ».
2- كذا ، والأصحّ : « تعمّل ».

جزء من البين ؛ لترتّب الجملتين واتّساقهما ، فلا بدّ أن يتحقّق في الزائدة جزء لا يوجد في الناقصة نظيره ، وإلاّ لتساوى الجزء والكلّ ، فيلزم انقطاع الناقصة ، وزيادة الزائدة بقدر متناه.

واعترض على هذا الدليل بالنقض بمراتب العدد وكلّ متناه بمعنى لا يقف كأجزاء الجسم ، ومثل اللزوم ولزوم اللزوم وهكذا ، والإمكان ونظائرهما ؛ فإنّ الدليل يجري فيها.

والجواب : أنّ غير المتناهي اللايقفي يستحيل وجود جميع أفراده بالفعل لا لاستحالة وجود غير المتناهي ، بل لأنّ الحقيقة اللايقفيّة تقتضي ذلك ؛ لأنّه لو خرج جميع أفرادها إلى الفعل ولو كانت غير متناهية - يقف ما فرضنا أنّه لا يقف ، ويقسم في أجزاء الجسم الجزء الذي لا يتجزّأ ، وفي المراتب العدديّة أن لا يتصوّر فوقه عدد آخر ، وهو خلاف البديهة ، بل مفهوم الجميع ومفهوم اللايقف متناهيان كما قرّروه في موضعه. إذا قرّر هذا فنقول : لعلّه يكون وجود جميع الأفراد خارجا وذهنا مستحيلا.

نعم ، يمكن ملاحظتها إجمالا في ضمن الوصف العنوانيّ ، فلا يجري فيه البرهان ، وإنّما يتمّ النقض لو ثبت أنّ جميع مراتب الأعداد المستحيلة الخروج إلى الفعل موجودة مفصّلا مرتّبا في الواقع.

وإن أورد النقض بتحقّقها في علمه سبحانه ، فالجواب أنّ علمه سبحانه مجهول الكيفيّة لا تمكن الإحاطة ، وأنّه مخالف بالنوع لعلومنا ، وإنّما يتمّ النقض لو ثبت تحقّق جميع شرائط البرهان في علمه تعالى وفي المعلومات باعتبار تحقّقه في هذا النحو من العلم ، وهو ممنوع.

وفي خبر سليمان المروزيّ (1) في البداء إيماء إلى هذه الشبهة لمن فهمه. وقد مرّ

ص: 478


1- « التوحيد » : 441 باب ذكر مجلس الرضا 7 مع سليمان المروزيّ ، ح 1 ؛ « عيون أخبار الرضا » 1 : 179 ، الباب 113 ، ح 1.

في المجلّد الثاني والرابع.

الثاني : لو كانت الأمور المتناهية ممكنة ، لأمكن وقوع كلّ واحد من إحدى السلسلتين بإزاء واحد من الأخرى على سبيل الاستغراق إلى آخر الدليل.

وهذا الدليل جار في غير المرتّبة أيضا لكنّه في المرتّبة المتّسقة أظهر ، ومنع الإمكان الذاتيّ مكابرة ، وكيف يتوقّف الذكيّ في أنّ القادر الذي أوجده أوّلا مرتّبا يمكنه أن يوجده مرّة أخرى مرتّبا منطبقا ، وأن يرتّب غير المرتّبة؟ وإنكاره تحكّم ، ومنعه مكابرة.

الثالث : ما قرّره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه (1) ، وهذّبه الفاضل الدواني ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات المشهورة ، ويكون الانطباق فيه انطباقا برهانيا لا مجال لتشكيك الوهم فيه ، وتقع فيه الزيادة والنقصان في الجهة التي فرض فيها عدم التناهي ، وهو أن يقال : تلك السلسلة المترتّبة علل ومعلولات بلا نهاية في جانب التصاعد مثلا ، وما خلا المعلول الأخير علل غير متناهية باعتبار ومعلومات غير متناهية باعتبار ، فالمعلول الأخير مبدأ السلسلة المعلوليّة والذي فوقه مبدأ السلسلة العلّيّة فإذا فرضنا تطبيقهما - بحيث ينطبق كلّ معلول على علّته - وجب أن تزيد سلسلة المعلوليّة على سلسلة العلّيّة بواحد من جانب التصاعد ؛ ضرورة أنّ كلّ علّة فرضت ، لها معلوليّة وهي بهذا الاعتبار داخلة في سلسلة المعلول ، والمعلول الأخير داخل في جانب المبدأ في سلسلة المعلول دون العلّة فلمّا لم تكن تلك الزائدة بعد التطبيق من جانب المبدأ ، كانت في الجانب الآخر لا محالة ؛ لامتناع كونها في الوسط ؛ لاتّساق النظام ، فيلزم الانقطاع ، وأن يوجد معلول بدون علّة سابقة عليه ، تأمّل ؛ فإنّه دقيق.

ويجري هذا الدليل في غير سلسلة العلل والمعلوليّة من الجمل المرتّبة ؛ فإنّ كلّ

ص: 479


1- « نقد المحصّل » : 209 ، وعنه في « الأسفار الأربعة » 2 : 149 - 150.

جملة فإنّ آحادها موصوفة في الواقع بالسابقيّة والمسبوقيّة بأيّ نوع كان من السبق وغيرهما (1) من النسب الواقعيّة المتضايفة.

البرهان الثاني : برهان التضايف
اشارة

وتقريره : لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لزم زيادة عدد المعلوليّة على عدد العلّيّة ، والتالي باطل.

بيان الملازمة : أنّ آحاد السلسلة - ما عدا المعلول الأخير - لها علّيّة ومعلوليّة ، فيتكافأ عددهما ويتساوى فيما سواه وبقيت معلوليّة المعلول الأخير زائدا ، فيزيد عدد المعلوليّات الحاصلة في السلسلة على عدد العلّيّات الواقعة فيها بواحد.

وهذا الدليل يجري في كلّ سلسلة يتحقّق فيها الإضافة في كلّ فرد منها في الواقع لا بحسب اختراع العقل. وجريانه في المقادير المتّصلة مشكل ؛ فإنّ إثبات إضافة في كلّ حدّ من الحدود المفروضة فيها في الواقع مشكل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : كلّ جزء من أجزاء المقدار المتّصل متّصف في الواقع - لا بمجرّد الفرض - بصفات حقيقيّة يتّصف باعتبارها بالتقدّم والتأخّر بحسب الوضع وهما متضايفان حقيقيّان.

ويؤيّد ذلك أنّهم قد صرّحوا بانّ أجزاء الجسم موجودة في الواقع بوجود الكلّ ، وليست القسمة إيجادا للجزءين من كتم العدم بل تمييز وتعيين حدّ بين الجزءين الموجودين فيه.

وفيه : أنّه يلزم انتهاء أجزاء الجسم ، ويلزم الجزء الذي لا يتجزّأ.

ثمّ اعلم : أنّ هذا البرهان في التسلسل في أحد الجانبيين فقط ظاهر. وأمّا في التسلسل في الجانبين فقد يتوهّم عدم جريانه.

ودفعه أنّا إذا أخذنا معلولا معيّنا ، ثمّ تصاعدنا أو تسافلنا ، يجب أن يكون

ص: 480


1- أي السابقيّة والمسبوقيّة.

المتضايفان الواقعان في تلك السلسلة متساويين ، ويتمّ الدليل ؛ ضرورة أنّ مضايف العلّيّة الواقعة في تلك القطعة هو المعلوليّة الواقعة فيها ، لا ما يقع فيما تحت القطعة من الأفراد ، مثلا إذا كان زيد علّة لعمرو وعمرو لبكر ، فمضايف معلوليّة عمرو هو علّيّة زيد ، لا غير ، بل الاثنان منها على التوالي متضايفان يتحقّق بينهما إضافة شخصيّة لا تتحقّق في غيرهما ، فالمضايف للمعلول الأخير المأخوذ في تلك القطعة هو العلّيّة القريبة التي فوقه لا غير ، فافهم.

والاعتراضات الواردة على هذا الدليل - من اعتباريّة المتضايفين وغيرها - مدفوعة بما مهّدناه من المقدّمات بعد التأمّل ، فلا نطيل الكلام بالتعرّض لدفعها.

البرهان الثالث : ما أبداه بعض الأزكياء من المعاصرين ، وسمّاه برهان العدد والمعدود ، وهو عندي متين.

وتقريره : أنّه لو تحقّقت أمور غير متناهية - سواء كانت مجتمعة في الوجود ، أم لا ، وسواء كانت مترتّبة ، أم لا - تحقّق لها عدد ؛ لأنّ حقيقة العدد هي مجموع الوحدات ، ولا ريب في تحقّق الوحدات وتحقّق مجموعها في السلسلة فيعرض العدد للجملة لا محالة ؛ إذ لا حقيقة للعدد إلاّ مبلغ تكرار الوحدات ، فيظهر من التأمّل في المقدّمات ذلك المطلوب أيضا كما لا يخفى.

وكلّ مرتبة يمكن فرضها من مراتب الأعداد على سبيل الاستغراق الشموليّ فهي متناهية ؛ لأنّه يمكن فرض مرتبة أخرى فوقها ، وإلاّ لزم أن تقف مراتب العدد ، وهو خلاف البديهة ، بل هي محصورة بين حاصرين : أحدهما الوحدة ، والآخر تلك المرتبة المفروضة أخيرا ، فالمعدود أيضا وهو مجموع السلسلة غير المتناهية أيضا - متناهية ؛ لأنّه لا يمكن أن يعرض للمجموع - بحيث لا يشذّ منه فرد - إلاّ مرتبة واحدة من مراتب العدد من جهة واحدة ، وكلّ مرتبة يمكن فرضها فهي متناهية كما مرّ.

نعم ، لو أمكن فرض جميع المراتب اللاّيقفيّة بالعدد ، وأمكن تصوّر خروج جميع

ص: 481

المراتب اللاّيقفيّة إلى الفعل ، وأمكن عروض أكثر من مرتبة واحدة للعدد للجملة الواحدة من جهة واحدة ، أمكن عروض العدد غير المتناهي لهذه الجملة لكنّه محال ؛ لأنّه لا يمكن أخذ المجموع من الأمور اللاّيقفيّة ، ولا يتصوّر خروج الجميع إلى الفعل ولو على سبيل التعاقب ، وإلاّ لزم أن يقف وهذا خلف ، وقد التزمه النظّام في أجزاء الجسم (1) بل نقول مفهوم اللاّيقفيّة ومفهوم المجموع متنافيان كما قرّر في محلّه.

وهذا البرهان واضح المقدّمات ، يجري في المجتمعة والمتعاقبة والمترتّبة وغير المترتّبة بلا تأمّل ، وكذا جريان برهان التطبيق والتضايف ظاهر بعد الرجوع في المقدّمات الممهّدة ، والنظر الجميل في التقريرات السابقة.

وذهب المحقق الطوسيّ في التجريد إلى جريان التطبيق والتضايف (2) فيها. وقال في نقد المحصّل - بعد تضييف أدلّة المتكلّمين على إبطال التسلسل في المتعاقبة - : فهذا حاصل كلامهم في هذا الموضع. وأنا أقول : إنّ كلّ حادث موصوف بكونه سابقا على ما بعده ، ولاحقا بما قبله والاعتباران مختلفان ، فإذا اعتبرنا الحوادث الماضية المبتدأة من الآن - تارة من حيث كلّ واحد منهما سابق ، وتارة من حيث هو بعينه لاحق - كانت السوابق واللواحق المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ، لا نحتاج في تطابقهما إلى توهّم تطبيق ، ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع النزاع فيه ، فإذن اللواحق متناهية في الماضي ؛ لوجوب انقطاعها قبل انقطاع السوابق ، والسوابق زائدة عليها بمقدار متناه ، فتكون متناهية أيضا (3). انتهى.

واعترض عليه بأنّه في التطبيق لا بدّ من وجود الآحاد على نحو التعدّد والامتياز. أمّا في الخارج ، فليس. وأمّا في الذهن ، فكذلك ؛ لعجز الذهن عن ذلك ، وكذا

ص: 482


1- « شرح المقاصد » 3 : 35.
2- « تجريد العقائد » : 154.
3- « نقد المحصّل » : 209.

لا يمكن للعقل تحصيل الامتياز ، ووجود كلّ واحد في الأوقات السابقة على زمان التطبيق لا يفيد ؛ لأنّه يرجع إلى تطبيق المعدوم ؛ فإنّ الوجود ضروريّ في التطبيق.

وأيضا لا بدّ في الانطباق من وجود مجموع الآحاد ، وذلك المجموع لا يمكن وجودها ؛ لأنّ ذلك المجموع لم يكن موجودا قبل الحادث الأخير وبعده ، ولم يبق شيء منه موجودا.

والقول بوجودها في مجموع الأوقات على سبيل التدريج كالحركة القطعيّة ، يدفعه أنّ وجود الكلّ في جميع الأوقات على هذا النحو يستلزم وجود الكلّ بدون شيء من أجزائه.

وفيه بحث ؛ إذ يكفي لوجود هذا الكلّ وجود أجزائه في أجزاء زمان الكلّ. انتهى.

والتحقيق : أنّ الموجود قد يوجد في طرف الزمان وهو الدفعيّات ، وقد يوجد في نفس الزمان وهو التدريجيّات ، والأمور التدريجيّة مجموعها موجودة في مجموع زمان وجودها على سبيل الانطباق ، وليس المجموع موجودا في أبعاض الزمان ، ولا في آن من الآنات ، فإن سئل : الحركة في اليوم هل هي موجودة في آن من آنات اليوم المفروض ، أو شيء من ساعاته؟ فالجواب أنّها ليست بموجودة أصلا ، بل في مجموع اليومين ، وقد بيّن ذلك بوجه شاف في مظانّه ، وانطباق الحوادث المتعاقبة الزمانيّة بعضها على بعض من قبيل الثاني.

فالتطبيق موجود في كلّ الزمان ، ولا في آن فآن ، والانطباق حكمه حكم المنطبقين كانطباق الحركة على الزمان وانطباق الحركة على المسافة ، وهذا ظاهر.

ألا ترى أنّ الكرة المدحرجة على سطح مستو تنطبق دائرة من محيط الكرة على المسافة جزما ، وانطباقها لا يمكن أن يكون في آن ؛ لأنّه لا يمكن التماسّ بين المستدير والمستوي إلاّ بنقطة ، فظهر أنّ انطباقهما تدريجي في كلّ الزمان ، أو لا تعلم أنّ الحركة والزمان متطابقان تدريجا في كلّ زمان الحركة ، ولو لم ينطبق الزمان على

ص: 483

الحركة ، لم يكن مقدارا لها سواء كانا موجودين في الخارج ، أولا.

ويمكن الجواب أيضا على القول بعدم وجود الزمانيّات بأنّه لا شكّ أنّ الآحاد المتعاقبة في إحدى السلسلتين منطبقة في الواقع على آحاد السلسلة الأخرى التي كانتا هما معا في الوجود في أزمنة وجودهما وإن لم يكونا موجودين حال حكمنا ، ووجودهما حال الحكم غير لازم في جريان البرهان ، بل وجودهما حين الانطباق ، وليس من قبيل تطبيق المعدوم على المعدوم ، بل من قبيل الحكم بانطباق المعدوم في حال الحكم على المعدوم الموجودين معا في حال الانطباق وذلك مثل سائر الأحكام الصادقة على الأمور الماضية.

وقيل أيضا : إنّ التطبيق يتوقّف على الترتيب ، وهو يتوقّف على تحقّق أوصاف ونسب وإضافات يسلكها في سلك الترتيب ، وفي المتعاقبة لا يوجد ذلك ؛ فإنّه فيما عدا الحادث الأخير لا يوجد شيء من طرفي النسبة ، وفي الحادث الأخير لا يوجد إلاّ طرف واحد ، فلا يتحقّق النسبة أيضا ؛ ضرورة أنّها فرع المنتسبين.

فإن قلت : لعلّ الاتّصاف في الذهن كما قالوا في اتّصاف أجزاء الزمان بالتقدّم والتأخّر.

قلت : لمّا كانت الحوادث لا نهاية لها ، فلا يمكن التفصيل في الأذهان ، فالمبادئ العالية والوجود الإجماليّ غير كاف ؛ لعدم الامتياز فيه. انتهى.

والجواب أنّه يجزم العقل بأنّ حوادث زمان الطوفان في الخارج قبل حوادث زمان البعثة وقبل الحوادث اليومي بلا ريب ، ولا يتفرّع على اعتبار العقل ، كيف؟ وهم معترفون بأنّ الحادث المتقدّم علّة معدّة للحادث المتأخّر بالعلّيّة والمعلوليّة الخارجيّة ؛ فإنّ العلّة ما لم توجد في الخارج من حيث إنّها علّة ، لم يوجد المعلول في الخارج وهما متضايفان.

فظهر أنّ النسبة بالعلّيّة والمعلوليّة متحقّقة بين المعلول والعلّة المعدّة ، ووجودها السابق وعدمها علّة ، فتحقّقت النسبة بين المعدوم والموجود.

ص: 484

والحقّ أنّ طرفي النسبة لا يمكن أن يكونا معدومين بالعدم المطلق ، وإذا تحقّقا نوع تحقّق - وإن لم يجتمعا في الوجود - فإنّ العقل يجوّز تحقّق النسبة بينهما ، ولم ينقبض عنه. ومن تصوّر حقيقة وجود الأعراض التدريجيّة ، تصوّر كيفيّة النسبة بين أجزائها المتعاقبة ، وقلّ استبعاده ، وأذعن بها.

ثمّ إنّ النسبة بالتقدّم والتأخّر بين أجزاء الزمان في الواقع من غير فرعيّة ولا اعتبار العقل وتصوّره ، واتّصافها بالصفات الثبوتيّة ، والحكم بالأحكام النفس الأمريّة ، بل الخارجيّة المستلزمة لثبوت المثبت له في الواقع ممّا لا يشكّ فيه أحد ، وليس من الأحكام المتفرّعة على اعتبار العقل ، الحاصلة بعد فرضه ، وليس بحاصل بالفعل إلاّ بعد الفرض ؛ فإنّه لو كان كذلك ، لكان حكم العقل بأنّ هذا الجزء متقدّم ، وذلك متأخّر في الخارج من الأحكام الكاذبة ؛ لأنّه في الخارج ليس كذلك في الحقيقة.

ألا ترى أنّه يصحّ الحكم على الذوات غير المتناهية من الحركة والزمان بالتقدّم والتأخّر والقسمة. والانتزاع الإجماليّ غير كاف لاتّصاف كلّ جزء جزء بالتقدّم والتأخّر ، والتفصيل يعجز عنه العقل عندهم ، فكيف تكون هذه الاتّصافات بعد فرض الأجزاء كما ذهبوا إليه؟!

وقد ذهب بعض المحقّقين في جواب شكّ من قال لم اتّصف هذا الجزء من الزمان بالتأخّر وذاك بالتقدّم؟ إلى أنّ هذه الاتّصافات مستندة إلى هويّات الأجزاء وتشخّصاتها الحاصلة لها ، فكما أنّه لا يصحّ السؤال بأنّ زيدا لم صار زيدا ، وعمرا عمرا؟ لا يصحّ السؤال بأنّه لم صار أمس أمس ، واليوم اليوم؟

وذهبوا أيضا إلى أنّ اختلاف أجزاء الفلك بالقطب والمنطقة مستند إلى هويّة الأجزاء ، ليس بفرض الفارض ، بل موجود فيه حقيقة ، ولكنّ الأجزاء وهويّاتها موجودة بوجود الكلّ بوجود واحد. وكما أنّ أجزاء الجسم وتشخّصاتها موجودة بوجود الجسم بوجود قارّ ، كذلك أجزاء الزمان والحركة موجودة بوجود الكلّ

ص: 485

بوجود تدريجي بلا تفاوت.

والمناقشة في هذه ناشئة من عدم تصوّر الوجود التدريجي كما ينبغي ، فلا ينافي اتّصال الزمان والحركة إذا كانت موجودة بوجود واحد ؛ فإنّ هذا النوع من الاختلاف لا يستلزم القسمة بالفعل ، والانفصال بعد الاتّصال (1) بوجود الكلّ.

ثمّ إنّهم قاطبة صرّحوا بأنّ الصفة لا يجب تحقّقها في طرف الاقتصار (2) ، والمحكوم به لا يجب وجوده في الحكم (3) مع أنّه نسبة.

وذهبوا أيضا إلى تساوي نسبة الممكن إلى طرفي الوجود والعدم ، وإلى صحّة الاتّصاف بنحو العمى من الأمور العدميّة في الخارج إلى غير ذلك من النظائر. ولا يخفى أنّه يمكن إجراء جميع ما ذكرنا - من جريان هذا الدليل في المتعاقبة - في جريان سائر البراهين فيها ، ولا نطيل بالتعرّض لخصوص كلّ منها.

البرهان الرابع : ما أورده الشيخ الكراجكي - روّح اللّه روحه - في الكنز بعد ما أورد برهان التطبيق بوجه مختصر أنيق ، قال : دليل آخر على تناهي ما مضى ، وهو أنّه قد مضت أيّام وليال وقفنا اليوم عند آخرها فلا تخلو إمّا أن تكون الأيّام أكثر عددا من الليالي ، أو الليالي من الأيّام ، أو يكونا في العدد سواء ، فإن كانت الأيّام أكثر من الليالي ، تناهت الليالي ؛ فإنّها أقلّ منها واقتضى ذلك تناهي الأيّام أيضا ؛ لبطلان اتّصالها قبل الليالي بغير ليال بينها ، فوجب على هذا الوجه تناهيهما معا.

وإن كانت الليالي أكثر من الأيّام ، كان الحكم فيهما نظير ما قدّمناه من تناهي الأوّل ، فتناهى الأيّام ؛ لزيادة الليالي عليها ، ويقتضي ذلك تناهي الليالي أيضا ؛ لما مرّ ، فيلزم تناهيهما معا.

ص: 486


1- في المصدر : « الاتّحاد ».
2- كذا ، وفي المصدر : « في ظرف الاتّصاف » وهو الصحيح.
3- كذا ، والمراد في ظرف الحكم.

وإن كانت الأيّام والليالي في العدد سواء ، كانا بمجموعهما أكثر عددا من إحداهما بانفراده ، وهذا يشهد بتناهيهما ؛ إذ لو كان كلّ واحد منهما في نفسه غير متناه ، ما تصوّرت العقول عددا أكثر منه ، وقد علمنا أنّ الأيّام مع الليالي أكثر عددا من أحدهما ، وهذا موضح عن تناهيهما.

وبهذا الدليل نعلم أيضا تناهي جميع ما مضى من الحركات والسكنات ، ومن الاجتماعات والافتراقات ، ومن الطيور والبيض والشجر والحبّ ، وما يجري مجرى ذلك (1). انتهى.

ثمّ اعلم : أنّه يمكن إبطال ما ادّعوه - من التسلسل في الأمور المتعاقبة ، بل في غير المترتّبة أيضا - بوجوه أخرى نذكر بعضها :

الأوّل : أنّهم قالوا بالحوادث غير المتناهية التي كلّ سابق منها علّة معدّة للاّحق على سبيل الاستغراق ، وأنّ إيجاد الواجب تعالى لكلّ منها مشروط بالسابق تحقيقا للإعداد ، وتصحيحا لارتباط الحادث بالقديم ، وأنّه تعالى ليس بموجب تامّ لواحد منها.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : لو تسلسلت المعدّات - على ما ذهبوا إليه - لا إلى نهاية لزم أن يكون وجوب كلّ واحد منها وجوبا شرطيّا ، بمعنى أنّه يجب كلّ منها بشرط وجوب سابقه ، ولا ينتهي إلى الوجوب القطعي البتّة الذي يكون تعالى [ موجبا له لذاته بدون شرط ؛ لأنّه عندهم أنّه تعالى ليس بموجب تامّ لكل واحد من المعدّات بل الحوادث مطلقا وتأثيره تعالى ] (2) في كلّ منها موقوف على تأثيره في معدّ سابق عليه لا إلى نهاية ، فوجوب كلّ منها وجوب شرطي لا يجب حتّى يجب سابقه ، والوجوب الشرطي غير كاف لتحقّق واحد منهما (3) ؛ فإنّه بمنزلة قضايا شرطيّة

ص: 487


1- « كنز الفوائد » 1 : 36.
2- الزيادة أضفناها من المصدر.
3- أي من اللاحق والسابق.

غير متناهية مقدّم كلّ لاحق ، تال لسابقه ؛ فإنّه ما لم ينته إلى وضع مقدّم ، لم ينتج شيئا ، ولو توقّف تأثير الواجب في كلّ حادث ، وإيجاده إيّاه على إيجاد حادث آخر ، ولم تجب لذاتها تلك الإيجادات ، لكان يجوز للواجب ترك إيجاد الحوادث بالكلّيّة وما لم يمتنع هذا الاحتمال في نفس الأمر لم يجب واحد منها في الواقع ؛ لأنّ وجوب كلّ حادث إنّما هو بشرط إيجاد حادث آخر وهكذا والكلام في ترك الإيجاد رأسا وما لم يمتنع جميع أنحاء ارتفاعه وعدماته في الواقع لم يجب وجوده.

وتوهّم بعضهم أنّه لا يمكن ارتفاع جميع الحوادث ؛ لاستلزامه ارتفاع الطبيعة القديمة المستندة بلا شرط إلى الواجب تعالى شأنه.

وهو مردود بأنّه لا يعلم استناد الطبيعة بلا شرط إلى الواجب جل شأنه ؛ لأنّ الطبيعة عندهم إذا كانت ذاتيّة لما تحتها فإنّما هي مجعولة بجعل ما هي ذاتيّة له جعلا واحدا ، ولا يمكن تعلّق جعل على حدة بالطبيعة الكلّيّة قطعا ، وجعل كلّ فرد الطبيعة عندهم إنّما هو بشرط سبق معدّ.

نعم ، لو تحقّق تأثير منفرد في الطبيعة وراء التأثير في الأفراد ، لوجب أن يكون التأثير من الواجب فيها إمّا ابتداء أو بواسطة قديمة ، وتأثير الواجب في القديم بلا واسطة وشرط ، أو بواسطة قديمة إنّما هو منشأ استحالة انعدام القديم عندهم.

فظهر أنّ سلسلة الحوادث يجب أن تنتهي إلى حادث يجب وجوده عن الواجب بلا شرط معدّ ، فتنقطع سلسلة الحوادث بأنّه لا يجوز تقدّم شرط ومعدّ من الحوادث عليه.

وكذا يمكن إجراء كثير من براهين إثبات الواجب - التي لا تتوقّف على إبطال الدور والتسلسل - هنا بأدنى تصرّف ، ولا يخفى على الفطن اللبيب ؛ فإنّ تأثير الواجب تعالى عندهم في كلّ حادث يتوقّف على معدّ ، ووجود الواجب مع عدم المعدّ في حكم قوّة فرض عدمه تعالى - والعياذ باللّه - في عدم التأثير ، والعلّة التامّة

ص: 488

عندهم هو الواجب مع المعدّ ، ومجموع المركّب من الواجب والممكن ممكن ، فالعلل التامّة لجميع الحوادث غير المتناهية ممكنات ، فكما لا ينفع التزام التسلسل في مسألة إثبات الواجب ، لا ينفع التزامه هنا أيضا ؛ إذ الأدلّة الدالّة على إثبات الواجب بدون التمسّك بإبطال التسلسل تجري هنا بأدنى التفات.

الثاني : أن نقول : على تقدير تسلسل الحوادث على سبيل التعاقب يلزم أن يتقدّم على كلّ حادث من الحوادث على سبيل الاستغراق عدم أزليّ لحادث حادث ، فالحادث الأوّل والثاني يجتمعان في العدم ؛ إذ يوجد في الواقع مرتبة من المراتب كانا معدومين فيها ، واجتمع معهما عدم الحادث الثالث ؛ ضرورة أنّ عدم كلّ حادث أزلي ، وأنّ عدم الحادث المتأخّر وإن كان أطول امتدادا من [ عدم ] الحادث المتقدّم إلاّ أنّ الكلّ متحقّق في ظرف الزمان ؛ إذ طبيعة الزمان أزليّة عندهم ، والأعدام كلّها أزليّة ، فلا بدّ من اجتماعها قطعا في زمان ما.

ويجتمع مع هذه الأعدام الثلاثة عدم الحادث الرابع ، وكذا على ترتيب الآحاد على التوالي فإمّا أن يستغرق هذا الاجتماع أعدام جميع الآحاد ، فيكون جميع الحوادث معدوما في مرتبة ما من المراتب الواقعيّة ، فتأخّر تلك الحوادث عن تلك المرتبة الواقعيّة ، ويكون الجميع معدوما في تلك المرتبة ، فيكون لها مبدأ وانقطاع وهو المطلوب. وإن لم يستغرق فينتهي إلى حادث معيّن لا يجتمع عدمه مع عدم ما قبله من الحوادث ، إمّا لأنّ هذا الحادث لا يسبقه عدمه ، فيكون قديما بالشخص ، وإمّا لأنّ الحادث الذي قبله لا يسبقه عدم أزليّ ، فيكون ذلك قديما ؛ ضرورة أنّه لو تقدّمهما عدم أزليّ ، يجب اجتماعهما مع ما تأخّر عنهما ، فتنقطع سلسلة الحوادث على أيّ تقدير.

لا يقال : كلّ جملة متناهية يجتمع في العدم ويتحقّق عدم سابق على الجميع ، وأمّا جملة الحوادث غير المتناهية ، فلا.

لأنّا نقول : قد بيّنّا أنّ هذا الحكم مستغرق لجميع الآحاد على التوالي ، وقد مرّ في

ص: 489

المقدّمات الممهّدة أنّ أمثال هذه الأحكام على كلّ فرد تسري إلى الجملة ، فلا مجال لهذا التوهّم.

ولك أن تقول : هاهنا سلسلتان : إحداهما سلسلة وجودات الحوادث ، والأخرى سلسلة عدماتها ، فإذا أخذنا مجموع الوجودات بحيث لا يشذّ عنها فرد - وكذا العدمات - فلا شكّ أنّ جملة العدمات - بحيث لا يشذّ فرد - متقدّمة على جملة الوجودات ؛ لتقدّم كلّ فرد منها على نظيره وعديله ، ومثل هذا الحكم يسري من الآحاد إلى الجملة ، ولأنّ جملة العدمات لمّا كان كلّ فرد منها أزليّا ، فالجملة أزليّة ، وجملة الحوادث حادثة ، وتقدّم الأزليّ على الحوادث ضروريّ ، ولا شبهة في إمكان أخذ المجموع بحيث لا يشذّ [ ؛ فإنّه ليس من قبيل الجملة اللاّيقفيّة التي لا يمكن فيها أخذ المجموع بحيث لا يشذّ ] (1) وقد أخذوا جملة الممكنات في دليل إثبات الواجب ، فيكون ممكنا ، فلا يكون في تلك المرتبة شيء من الحوادث وهو الانقطاع.

ولنا أيضا أن نقول : يتقدّم على كلّ حادث عدم أزليّ وهو عدم لهذا الحادث ، وينعدم معه جميع ما بعده من الحوادث التي هو معدّ لها ، وصدق (2) هذا العدم يستوعب جميع آحاد سلسلة الحوادث ، وحكم الآحاد يسري إلى الجملة ، فيلزم عدم مجموع الحوادث رأسا وانقطاعها.

أو نقول : مجموع الحوادث واحد شخصيّ ؛ لأنّ كلّ جزء منه واحد شخصيّ ، وحادث أيضا ؛ لأنّ جميع أجزائه حادث ، فيلزم الانقطاع.

ونقول أيضا : السلسلة المذكورة معدّات عندهم ، والمعدّ يعتبر وجوده وعدمه في المعدود (3) المتأخّر ، وكلاهما سابق عليه ، فنأخذ سلسلة العدمات اللاحقة السابقة

ص: 490


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- في المصدر : « سبق ».
3- في المصدر : « المعلول ».

على وجود المعلولات ، ونقول : إمّا أن يستغرق سبق كلّ فرد من العدمات لكلّ فرد من وجودات الحوادث ، النظير على النظير ، فيلزم تقدّم جملة سلسلة العدمات - إذا أخذنا بحيث لا يشذّ منها شيء - على سلسلة وجودات الحوادث ، وهو يستلزم الانقطاع وتقدّم عدم اللاحق على الموجود ، وهذا خلف ، وإن لم يستغرق فينتهي إلى فرد لا يسبقه عدم المعدّ ، فتنقطع سلسلة المعدّات.

وعلى هذه التقريرات لا يتوجّه ما قيل : أنّ الأزل ليس وقتا محدودا يجتمع فيه العدمات وغيرها ، بل مرجعه إلى أنّ قبل كلّ حادث حادث إلى غير النهاية ، وهكذا عدم الحوادث ، ولا محذور فيه ؛ لأنّ اجتماع العدم الأزليّ غير المتناهي في الماضي في زمان - مع عدم تناهي الزمان عندهم مع مثله بالغا ما بلغ سواء كانت الأعدام متناهية ، أم لا - بديهيّ ، ولا يلزمنا تعيين زمان معيّن للأزل.

وكذا ما قيل : وإن تحقّق في الأزل عدم الحوادث ، لكنّه عدم كلّ حادث مقرون بوجود حادث تقدّم على ذلك الحادث أبدا ، فلا يتحقّق وقت ينتفي فيه جميع الموجودات ، ويبقى صرف العدم.

وهذا - مع أنّه مدفوع بما قرّرنا - لو تمّ فهو فساد آخر نشأ من عدم تناهي الحوادث ؛ إذ جميع المفاسد التي ذكرنا إنّما نشأت من الحوادث إلى غير النهاية.

يمكن أن يقال أيضا : إنّ الحادث اليوميّ مسبوق بعدم معدّه ، وبعدم معدّ معدّه وهكذا إلى غير النهاية ، وعدم المعدّ البعيد بواسطة أطول امتدادا من عدم المعدّ القريب ، والمعدّ البعيد بواسطتين أطول منهما ، والمعدّ الأبعد بثلاث وسائط أطول من الثلاثة ، وكلّما تمتدّ سلسلة المعدّات تزايد امتداد الأعدام اللاحقة للمعدّات ، فلو ذهبت السلسلة إلى غير النهاية ، لزم أن يمتدّ العدم اللاحق لا إلى نهاية مع أنّه عدم لاحق مسبوق بوجود المعدّ ، واستحالته ظاهرة.

وهذا برهان لطيف قويّ لا يرد عليه ما يرد على برهان السلّم ؛ لأنّ جميع الأعلام

ص: 491

غير المتناهية جزء للعلّة التامّة للحادث اليومي ، متحقّقة في الواقع ، مجتمعة ، ووجودات المعدّات متحقّقة في الواقع ، متمايزة بخلاف برهان السلّم ؛ لأنّ ازدياد الانفراج هنا على سبيل اللاّيقف ، وموقوف على فرض النقاط في الساقين.

الثالث : قال بعض المحقّقين : إنّ الأمور غير المتناهية مطلقا تستلزم الأمور غير المتناهية المترتّبة ، ويلزم منه تناهي النفوس وحدوثها على بعض الوجوه كما سلف.

بيانه : أنّ المجموع متوقّف على المجموع إذا أسقط منه واحد ، وذلك المجموع على مجموع أقلّ منه بواحد ، وهكذا إلى غير النهاية ، فيجري التطبيق والتضايف بين المجموعات غير المتناهية ؛ إذ هي أمور موجودة مترتّبة » (1).

الفائدة الثالثة : فيما يتعلّق بأحوال العالم العلوي كاللوح والقلم والعرش والكرسيّ والأفلاك من السماء وما فيها من الآيات والأخبار على وجه الاختصار.

وفيها فصول :

الفصل الأوّل : فيما يتعلّق باللوح والقلم

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن سفيان الثوري ، قال : سألت جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن ( ن ) فقال علیه السلام : « هو نهر في الجنّة ، قال اللّه : أجمد ، فجمد فصار مدادا ، ثمّ قال - عزّ وجلّ - للقلم : اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور ، واللوح لوح من نور ».

قال سفيان : فقلت له : يا ابن رسول اللّه! بيّن لي أمر اللوح والقلم والمداد فضل

ص: 492


1- « بحار الأنوار » 4 : 262 - 277 ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

بيان ، وعلّمني ممّا علّمك اللّه ، فقال : « يا بن سعيد لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك ، فنون : ملك يؤدّي إلى القلم وهو ملك والقلم يؤدّي إلى اللوح وهو ملك ، واللوح يؤدّي إلى إسرافيل ، وإسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل ، وميكائيل يؤدّي إلى جبرئيل ، وجبرئيل يؤدّي إلى الأنبياء والرسل » قال : ثمّ قال علیه السلام : « قم يا سفيان فلا آمن عليك » (1).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام ما يقرب ذلك إلاّ أنّ فيه كون القلم من الشجر التي غرسها اللّه تعالى في الجنّة ، فقال لها : كوني قلما » (2).

ومنها ما روي عن إبراهيم الكرخيّ ، قال : سألت جعفر بن محمّد علیه السلام عن اللوح والقلم ، فقال : « هما ملكان » (3).

ومنها ما سأل ابن سلام النبيّ علیه السلام عن ( ن ، وَالْقَلَمِ ) قال : « النون : اللوح المحفوظ ، والقلم نور ساطع وذلك قوله تعالى : ( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) (4) ».

قال : صدقت يا محمّد! فأخبرني ما طوله؟ وما عرضه؟ وما مداده؟ وأين مجراه؟ قال : « طول القلم خمسمائة سنة ، وعرضه مسيرة ثمانين سنة ، له ثمانون سنّا ، يخرج المداد من بين أسنانه يجري في اللوح المحفوظ بأمر اللّه وسلطانه ».

قال : صدقت يا محمّد! فأخبرني عن اللوح المحفوظ ممّا هو؟ قال : « من زمرّدة خضراء أجوافه اللؤلؤ ، وبطانته الرحمة ».

قال : صدقت يا محمّد! ، قال فأخبرني كم لحظة لربّ العالمين في اللوح المحفوظ في كلّ يوم وليلة؟ قال : ثلاثمائة وستّون لحظة » (5).

ومنها ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر القلم فجرى

ص: 493


1- « معاني الأخبار » : 22 - 23 باب معاني الحروف المقطّعة ... ح 1. وعنه في « بحار الأنوار » 54 : 368 ، ح 5.
2- « علل الشرائع » 2 : 402 ، الباب 14 ، ح 2.
3- « معاني الأخبار » : 30 باب معنى اللوح والقلم ، ح 1 ، وعنه في « بحار الأنوار » 54 : 369 ، ح 6.
4- القلم (68) : 1.
5- « الاختصاص » : 49 ، وعنه في « بحار الأنوار » 9 : 342 ، ح 20.

على اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام ، وأنّ كتب اللّه كلّها فيما جرى فيه القلم ، منها هذه الكتب المشهورة في هذا العالم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن أنزلها اللّه من اللوح المحفوظ على رسله صلوات اللّه عليهم أجمعين » (1). الخبر.

ما ورد في بعض الأخبار - أنّ اللوح والقلم ملكان (2) - لا ينافي ظاهره كما لا يخفى.

ويظهر من الأخبار أنّ لله لوحين : اللوح المحفوظ وهو لا يتغيّر ولا يتبدّل ، ولوح المحو والإثبات ، وفيه يكون البداء (3).

وقال الصدوق - رحمه اللّه - اعتقادنا في اللوح والقلم أنّهما ملكان (4).

الفصل الثاني : في العرش والكرسيّ

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سئل أمير المؤمنين عن قول اللّه : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (5) فقال : « إنّ السماوات والأرض وما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسيّ ، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه » (6).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه لمّا خلق العرش خلق له ثلاثمائة وستّين ألف ركن ، وخلق عند كلّ ركن ثلاثمائة ألف وستّين ألف ملك لو أذن اللّه تعالى لأصغرهم ، فالتقم السماوات السبع والأرضين السبع ، ما كان ذلك

ص: 494


1- « علل الشرائع » 1 : 19 ، الباب 17 ، ح 2 ، وعنه في « بحار الأنوار » 11 : 223 ، ح 2.
2- « معاني الأخبار » : 30 باب معنى اللوح والقلم.
3- « الكافي » 1 : 146 - 149 باب البداء ؛ « التوحيد » : 331 - 336 باب البداء.
4- « اعتقاد الإماميّة » ضمن « تصحيح الاعتقاد » : 203 - 204.
5- البقرة (2) : 255.
6- « تفسير العيّاشي » 1 : 157 ، ح 459 ، وعنه في « بحار الأنوار » 55 : 33 ، ح 52.

بين لهواته إلاّ كالرملة في المفازة الفضفاضة ، وقال لهم اللّه : يا عبادي! احملوا عرشي هذا ، فتعاطوه فلم يطيقوا حمله ولا تحريكه ، فخلق اللّه بعدد كلّ واحد منهم واحدا فلم يقدروا أن يزعزعوه ، فخلق اللّه مع كلّ واحد عشره فلم يقدروا أن يحرّكوه ، فخلق اللّه بعدد كلّ واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا أن يحرّكوه ، فقال اللّه - عزّ وجلّ - لجميعهم : خلّوه عليّ أمسكه بقدرتي ، فخلّوه فأمسكه اللّه عزّ وجلّ بقدرته.

ثمّ قال لثمانية منهم : احملوا أنتم ، فقالوا : يا ربّنا! لم نطقه نحن وهذا الخلق الكثير والجمّ الغفير ، فكيف نطيقه الآن دونهم؟! فقال اللّه عزّ وجلّ : لأنّي أنا اللّه - المقرّب للبعيد ، والمخفّف للشديد والمستهلّ للعسير - أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ، أعلّمكم كلمات تقولونها يخفّف بها عليكم.

قالوا : وما هي؟ قال : تقولون : بسم اللّه الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين ، فقالوها فحملوه ، وخفّف على كواهلهم كشعرة نابتة على كاهل رجل جلد قويّ.

فقال اللّه عزّ وجلّ لسائر تلك الأفلاك : خلّوا على هذه الثمانية عرشي ليحملوه ، وطوفوا أنتم حوله ، وسبّحوني ومجّدوني وقدّسوني ، فأنا اللّه القادر على ما رأيتم وعلى كلّ شيء قدير » (1).

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه علیهم السلام أنّه قال : « في العرش تمثال جميع ما خلق اللّه في البرّ والبحر » قال : « وهذا تأويل قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) (2) وإنّ بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان (3) الطير المسرع مسيرة ألف عام ، والعرش يكسى كلّ يوم سبعون ألف لون من النور

ص: 495


1- « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ » : 146 - 148.
2- الحجر (15) : 21.
3- أي حركة الطير.

لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق اللّه ، والأشياء كلّها في العرش كحلقة في فلاة ، وإنّ لله تعالى ملكا يقال له : خرقائيل له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر : هل فوق العرش شيء؟ فزاده اللّه تعالى مثلها أجنحة أخرى ، فكان له ستّة وثلاثون ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، ثمّ أوحى اللّه إليه : أيّها الملك! أن طر ، فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ، ثمّ ضاعف اللّه له في الجناح والقوّة فأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا فأوحى اللّه إليه : أيّها الملك! لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوّتك لم تبلغ إلى ساق عرشي » (1).

الفصل الثالث : في الحجب والأستار والسرادقات

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن زيد بن وهب ، قال : سئل أمير المؤمنين علیه السلام عن الحجب ، فقال : « أوّل الحجب سبعة ، غلظ كلّ حجاب منها مسيرة خمسمائة عام ، وبين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام ، والحجاب الثاني سبعون حجابا ، بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام ، حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك ، قوّة كلّ ملك منهم قوّة الثقلين ، منها ظلمة ، ومنها نور ، ومنها نار ، ومنها دخان ، ومنها سحاب ، ومنها برق ، ومنها مطر ، ومنها رعد ، ومنها ضوء ، ومنها رمل ، ومنها جبال ، ومنها عجاج ، ومنها ماء ، ومنها أنهار ؛ وهي حجب مختلفة غلظ كلّ حجاب مسيرة سبعون ألف عام.

ثمّ سرادقات الجلال وهي ستّون سرادقا في كلّ سرادق سبعون ألف ملك ، بين كلّ سرادق مسيرة خمسمائة عام.

ثمّ سرادق العزّ ، ثمّ سرادق الكبرياء ، ثمّ سرادق العظمة ، ثمّ سرادق القدس ،

ص: 496


1- « روضة الواعظين » 1 : 47 ، وعنه في « بحار الأنوار » 55 : 34 ، ح 54.

ثمّ سرادق الجبروت ، ثمّ سرادق الفجر ، ثمّ سرادق النور الأبيض ، ثمّ سرادق الوحدانيّة وهو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام ، ثمّ الحجاب الأعلى » وانقضى كلامه علیه السلام وسكت ، فقال له : عمر لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن (1)!.

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام ، قال : « إنّ اللّه تعالى خلق نور محمّد صلی اللّه علیه و آله قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسيّ واللوح والقلم والجنّة والنار ، وقبل أن خلق آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وكلّ من قال اللّه عزّ وجلّ في قوله : ( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) إلى قوله تعالى : ( وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (2) وقبل أن خلق الأنبياء كلّهم بأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألف سنة ، وخلق معه اثني عشر حجابا : حجاب القدرة ، وحجاب العظمة ، وحجاب المشيّة ، وحجاب الرحمة ، وحجاب السعادة ، وحجاب الكرامة ، وحجاب المنزلة ، وحجاب الهداية ، وحجاب النبوّة ، وحجاب الرفعة ، وحجاب الهيبة ، وحجاب الشفاعة.

ثمّ حبس نور محمّد في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان ربّي الأعلى وبحمده ، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان عالم السرّ ، وفي حجاب المشيّة عشرة آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو قائم لا يلهو ، وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان الرفيع الأعلى ، وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو دائم لا يسهو ، وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو غنيّ لا يفقر ، وفي حجاب المنزلة ستّة آلاف سنة وهو ويقول : سبحان ربّي الكريم ، وفي حجاب

ص: 497


1- « الخصال » : 401 باب السبعة ، ح 109 ؛ « التوحيد » : 278 باب ذكر عظمة اللّه عزّ وجلّ ، ح 3.
2- الأنعام (6) : 84 - 87.

الهداية خمسة آلاف سنة وهو يقول : سبحان ذي العرش العظيم ، وفي حجاب النبوّة أربعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان ربّ العزّة عمّا يصفون ، وفي حجاب الرفعة ثلاثة آلاف سنة وهو يقول : سبحان ذي الملك والملكوت ، وفي حجاب الهيبة ألفي سنة وهو يقول : سبحان اللّه وبحمده ، وفي حجاب الشفاعة ألف سنة وهو يقول سبحان ربّي العظيم وبحمده.

ثمّ أظهر - عزّ وجلّ - اسمه على اللوح ، فكان [ على اللوح ] (1) منوّرا أربعة آلاف سنة ، ثمّ أظهره على العرش فكان على ساق العرش مثبتا سبعة آلاف سنة إلى أن وضعه اللّه تعالى في صلب آدم علیه السلام » (2).

الفصل الرابع : في سدرة المنتهى والبيت المعمور

وفيه أخبار

منها : ما روي عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « قال رسول اللّه : لمّا أسري بي إلى السماء انتهيت إلى محلّ سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ أمّة من الأمم ، فكنت من ربّي كقاب قوسين أو أدنى » (3) الخبر.

ومنها : أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « سدرة المنتهى في السماء السابعة ، وجنّة المأوى عندها » (4).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر علیه السلام : « السجّين : الأرض السابعة ، وعلّيّون : السماء السابعة » (5).

ص: 498


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- « معاني الأخبار » : 306 - 308 ، ح 1 ؛ « الخصال » 2 : 482 - 483 ، ح 55.
3- « تفسير علي بن إبراهيم » 1 : 95 ذيل الآية 285 من سورة البقرة (2).
4- نفس المصدر السابق 2 : 335 ذيل الآية 13 من سورة النجم (53).
5- نفس المصدر السابق 2 : 410 ذيل الآية 7 من سورة المطففين (83).

ومنها : ما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال :

« البيت المعمور في السماء الدنيا ، وفي السماء الرابعة نهر يقال له : الحيوان يدخل فيه جبرئيل علیه السلام كلّ يوم طلعت فيه الشمس ، وإذا خرج انتفض انتفاضة جرت منه سبعون ألف قطرة ، يخلق اللّه في كلّ قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلّوا فيه فيفعلون ، ثمّ لا يعودون إليه أبدا » (1).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « البيت الذي في السماء يقال له : الضراح ، وهو بفناء البيت لو سقط سقط عليه يدخله كلّ يوم ألف ملك لا يعودون إليه أبدا » (2).

وقيل : البيت المعمور هو الكعبة ، البيت الحرام معمور بالحجّ والعمرة (3).

وعن الحسن : وهو أوّل مسجد وضع للعبادة في الأرض.

الفصل الخامس : فيما يتعلّق بالأفلاك من السماء وما فيها

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه سئل : ممّ خلق السماوات؟ قال : « من بخار الماء ».

وسئل : عن سماء الدنيا : ممّا هي؟ قال : « من موج مكفوف ».

وسئل : كم طول الكواكب وعرضه؟ قال : « اثنا عشر فرسخا في اثني عشر فرسخا ».

وسئل : عن ألوان السماء السبع وأسمائها ، فقال : « اسم السماء الدنيا « رفيع » وهي من ماء ودخان ، واسم السماء الثانية « قيدوم » وهي على لون النحاس ، والسماء الثالثة اسمها « الماروم » وهي على لون الشبه ، والسماء الرابعة اسمها « أرفلون » وهي

ص: 499


1- « مجمع البيان » 9 : 272 ذيل الآية 4 من سورة الطور (52).
2- نفس المصدر السابق.
3- نسبه إلى الحسن في « مجمع البيان » 9 : 272.

على لون الفضّة ، والسماء الخامسة اسمها « هيفوف » وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها « عروس » وهي ياقوتة خضراء ، والسماء السابعة اسمها « عجماء » وهي درّة بيضاء » (1).

ومنها : ما سئل النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما بال النجوم تستبين صغارا وكبارا ومقدار النجوم كلّها سواء؟ قال : « لأنّ بينها وبين سماء الدنيا بحارا يضرب الريح أمواجها فلذلك تستبين صغارا وكبارا ومقدار النجوم كلّها سواء » (2).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « هذه النجوم التي في السماوات مدائن مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور طول ذلك العمود في السماء مسير مائتين وخمسين سنة » (3).

ومنها : ما في خبر الشامي عن الرضا علیه السلام أنّه : « سأل رجل أمير المؤمنين علیه السلام عن مسائل ، فكان فيما سأله عن طول الشمس والقمر وعرضهما ، قال : تسعمائة فرسخ في تسعمائة فرسخ » (4).

ومنها : ما روي عن أبي ذرّ الغفاريّ ، قال : كنت آخذا بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونحن نتماشى جميعا فما زلنا ننظر إلى الشمس حتّى غابت ، فقلت : يا رسول اللّه! أين تغيب؟ قال : « في السماء ، ثمّ ترفع من سماء إلى سماء حتّى ترفع إلى السماء السابعة العليا حتّى تكون تحت العرش ، فتخرّ ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكّلون بها ، ثمّ تقول : يا ربّ من أين تأمرني أن أطلع؟ أمن مغربي أم من مطلعي؟ فذلك قوله عزّ وجلّ : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (5) يعني بذلك صنع الربّ العزيز

ص: 500


1- « عيون أخبار الرضا » 1 : 241 ، الباب 24 ، ح 1 ؛ « الخصال » 2 : 344 - 345 باب السبعة ، ح 11.
2- « علل الشرائع » 2 : 470 ، الباب 222 ، ح 33.
3- « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 218 - 219 ذيل الآية 3 من سورة الصافّات.
4- « عيون أخبار الرضا » 1 : 241 ، الباب 24 ، ح 1.
5- يس (36) : 38.

في ملكه بخلقه » قال : « فيأتيها جبرئيل بحلّة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله بالصيف ، أو قصره في الشتاء ، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع ، قال : فتلبس تلك الحلّة كما يلبس أحدكم ثيابه ، ثمّ تنطلق بها في جوّ السماء حتّى تطلع من مطلعها ».

قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « فكأنّي بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ، ثمّ لا تكسى ضوءا ، وتؤمر أن تطلع من مغربها ، فذلك قوله عزّ وجلّ : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) (1) والقمر كذلك من مطلعه ومجراه من أفق السماء ، ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة ، ويسجد تحت العرش ، وجبرئيل يأتيه بالحلّة من نور الكرسيّ ، فذلك قوله عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) (2) » (3).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : « إنّ الشمس تطلع ومعها أربعة أملاك : ملك ينادي : يا صاحب الخير! أتمّ وأبشر ، وملك ينادي : يا صاحب الشرّ! انزع واقصر ، وملك ينادي : أعط منفقا خلفا ، وآت ممسكا تلفا ، وملك ينضحها بالماء ، ولو لا ذلك ، لاشتعلت الأرض » (4).

ومنها : ما روي عن الأصبغ أنّه قال : سأل ابن الكوّاء أمير المؤمنين علیه السلام عن المحو الذي يكون في القمر قال : « اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء ، أما سمعت اللّه تعالى يقول : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) (5) » (6) الخبر.

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة أتي بالشمس

ص: 501


1- التكوير (81) : 2.
2- يونس (10) : 5.
3- « التوحيد » : 280 باب ذكر عظمة اللّه جلّ جلاله ، ح 7.
4- « بحار الأنوار » 55 : 143 ، ح 3.
5- الإسراء (17) : 12.
6- « الاحتجاج » 1 : 615 ، احتجاج علي علیه السلام على ابن الكوّاء ، ح 139.

والقمر في صورة ثورين عقيرين فيقذفان بهما ومن يعبدهما في النار ، وذلك أنّهما عبدا فرضيا » (1).

وفي حديث كعب : إنّ الشمس والقمر ثوران عقيران في النار (2).

ومنها : ما روي عن إبراهيم بن أحمد اليقطيني ، قال : حدّثني ابن ذي العلمين ، قال : كنت واقفا بين يدي ذي الرئاستين بخراسان في مجلس المأمون وقد حضره أبو الحسن الرضا علیه السلام فجرى ذكر الليل والنهار ، وأيّهما خلق قبل؟ فخاضوا في ذلك فاختلفوا ، ثمّ إنّ ذا الرئاستين سأل الرضا علیه السلام عن ذلك وعمّا عنده فيه ، فقال له :

« أتحبّ أن أعطيك الجواب من كتاب اللّه أو من حسابك؟ » فقال : أريده أوّلا من جهة الحساب ، فقال : « أليس تقولون : إنّ طالع الدنيا السرطان ، وإنّ الكواكب كانت في شرقها؟ » قال : نعم ، قال : « فزحل في الميزان ، والمشتري في السرطان ، والمرّيخ في الجدي ، والزهرة في الحوت ، والقمر في الثور ، والشمس في وسط السماء في الحمل ، وهذا لا يكون إلاّ نهارا » قال : نعم ، فمن كتاب اللّه؟ قال : « قول اللّه عزّ وجلّ : ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) (3) أي النهار يسبقه » (4).

الفصل السادس : في علم النجوم والعمل به وحال المنجّمين

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن الحسين بن عليّ علیه السلام أنّه قال : « نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن خصال

ص: 502


1- « علل الشرائع » 2 : 605 ، الباب 385 ، ح 78.
2- « النهاية في غريب الحديث والأثر » 3 : 275 ، « عقر ».
3- يس (26) : 40.
4- « بحار الأنوار » 55 : 162 ، ح 20.

- إلى أن قال - وعن النظر في النجوم » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « قوم يقولون : إنّ النجوم أصحّ من الرؤيا ، وتلك كانت صحيحة حين لم يردّ الشمس على يوشع بن نون وعلى أمير المؤمنين علیهماالسلام ، فلمّا ردّ اللّه عليهما ضلّ فيها علماء النجوم » (2).

وعنه علیه السلام أيضا أنّه قال في جواب من سأله عن النجوم : « ما يعلمها إلاّ أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند » (3).

ومنها : ما روي عن عليّ بن الحسين علیهماالسلام أنّه قال : « الذنوب التي تظلم الهواء : السحر ، والكهانة ، والإيمان بالنجوم ، والتكذيب بالقدر (4).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن الساعة ، فقال : عند إيمان بالنجوم وتكذيب بالقدر (5).

قيل : هذا يومئ إلى أنّ الإيمان بالنجوم متضمّن للتكذيب بالقدر.

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أربعة لا تزال في أمّتي إلى يوم القيامة : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة » (6).

ومنها : ما روي عن سعيد بن جبير ، قال : استقبل أمير المؤمنين دهقان من دهاقين الفرس فقال له بعد التهنئة : يا أمير المؤمنين! تناحست النجوم الطالعات ، وتناحست السعود بالنحوس ، فإذا كان مثل هذا اليوم ، وجب على الحكيم الاختفاء ، ويومك هذا

ص: 503


1- « الخصال » 2 : 418 باب التسعة ، ح 10.
2- « بحار الأنوار » 55 : 242 ، ح 22.
3- « الكافي » 8 : 331 ، ح 55.
4- « معاني الأخبار » : 271 ، ح 2.
5- « الخصال » 1 : 62 باب الاثنين ، ح 87.
6- نفس المصدر : 226 باب الأربعة ، ح 60.

يوم صعب ، وقد انقلب منه كوكبان ، وانقدح من برجك النيران ، وليس من الحرب لك بمكان ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام :

« ويحك يا دهقان المنبئ بالآثار المحذّر من الأقدار! ما قصّة صاحب الميزان وقصّة صاحب السرطان؟ وكم المطالع من الأسد والساعات من المتحرّكات؟ وكم بين السواري والذراري؟ » قال : سأنظر وأومأ بيده إلى كمّه وأخرج منه أسطرلابا ينظر فيه ، فتبسّم علیه السلام ، فقال : « أتدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصين ، وانفرج برج ماجين ، وسقط سور سرانديب ، وانهزم بطريق الروم بأرمينية ، وفقد دنّان اليهود بإيلة ، وهاج النمل بوادي النمل ، وهلك ملك إفريقية ، أكنت عالما بهذا؟ » فقال : لا يا أمير المؤمنين ، فقال : « البارحة سعد سبعون ألف عالم ، وولد في كلّ عالم سبعون ألفا ، والليلة يموت مثلهم ، وهذا منهم » وأومأ بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي - لعنه اللّه - وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين ، فظنّ الملعون أنّه يقول : خذوه ، فأخذ بنفسه فمات.

فخرّ الدهقان ساجدا ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « ألم أرك من عين التوفيق؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، فقال : « أنا وصاحبي لا شرقيّ ولا غربيّ ، نحن ناشئة [ القطب ] (1) وأعلام الفلك ، وأمّا قولك : « انقدح من برجك النيران » فكان الواجب أن تحكم به لي ، لا عليّ ، أمّا نوره وضياؤه فعندي ، وأمّا حريقه ولهبه فذهب عنّي ، فهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا » (2).

الفصل السابع : في حقيقة الملائكة وصفاتهم وشئونهم وأطوارهم

اعلم أنّه ذكر في هذا المقام أخبار :

منها : ما روي بالإسناد إلى أبي محمّد العسكريّ فيما احتجّ رسول اللّه به

ص: 504


1- الزيادة أضفناها من المصدر.
2- « مناقب آل أبي طالب » 2 : 62 - 63.

على المشركين : « والملك لا تشاهده حواسّكم ؛ لأنّه من جنس هذا الهواء لا عيان منه ، ولو شاهدتموه - بأن يزداد في قوى أبصاركم - لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل : أنّ الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ فقال : « والذي نفسي بيده ملائكة اللّه في السماوات أكثر من عدد التراب في الأرض ، وما في السماء موضع قدم إلاّ وفيها ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الأرض شجر ولا مدر إلاّ وفيها ملك موكّل بها ، يأتي اللّه كلّ يوم بعلمها واللّه أعلم بها ، وما منهم أحد إلاّ ويتقرّب كلّ يوم إلى اللّه بولايتنا أهل البيت علیهم السلام ، ويستغفر لمحبّينا ، ويلعن أعداءنا ، ويسأل اللّه أن يرسل عليهم العذاب إرسالا » (2).

ومنها : ما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « الملائكة على ثلاثة أجزاء : فجزء لهم جناحان ، وجزء لهم ثلاثة أجنحة ، وجزء لهم أربعة أجنحة » (3).

وحكى في « البحار » (4) عن « الكافي » (5). « ولعلّ المراد أنّ أكثر الملائكة كذلك ، ولا ينافي ما ورد من كثرة أجنحة بعض الملائكة » (6).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « في خبر المعراج قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فصعد جبرئيل فصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال : إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال اللّه عزّ وجلّ : ( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) (7) وتحته سبعون ألف ملك ، وتحت كلّ ملك سبعون ألف ملك ، ثمّ مررت » و

ص: 505


1- « الاحتجاج » 1 : 54 ، احتجاج النبيّ صلی اللّه علیه و آله على عبد اللّه بن أبي أميّة ، ح 22.
2- « بحار الأنوار » 56 : 186 ، ح 7.
3- « الخصال » 1 : 153 باب الثلاثة ، ح 191.
4- « بحار الأنوار » 56 : 178 ، ذيل ح 11.
5- « الكافي » 8 : 272 ، ح 402.
6- هذا كلام صاحب البحار.
7- الصافّات (37) : 10.

ساق الحديث إلى أن قال : « حتّى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلاّ ضاحكا مستبشرا حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه ، كريه المنظر ظاهر الغضب ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا مالك خازن النار ».

ثمّ ساق الحديث إلى قوله : « ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتين وإذا بيده لوح من نور مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا وشمالا مقبلا عليه كهيئة الحزين ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا ملك الموت ، فقال رسول اللّه : ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل اللّه أمره عجبا نصف جسده النار ، والنصف الآخر ثلج ، فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار وهو ينادي بصوت رفيع ويقول : سبحان الذي كفّ حرّ هذا النار ، فلا تذيب الثلج ، وكفّ برد هذا الثلج ، فلا يطفئ حرّ هذه النار ، اللّهمّ يا مؤلّف بين الثلج والنار ، ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا ملك وكّله اللّه بأكناف السماوات وأطراف الأرضين وهو أنصح ملائكة اللّه لأهل الأرض من عباده المؤمنين ، يدعو لهم بما تسمع منذ خلق ، ورأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول : اللّهمّ! أعط كلّ منفق خلفا والآخر يقول : اللّهمّ! أعط كلّ ممسك تلفا » (1).

ومنها : ما روي عن عدّة كتب ، عن ابن عبّاس ، قال : بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه جبرئيل يناجيه إذا انشقّ أفق السماء فأقبل جبرئيل يتضاءل ، ويدخل بعضه في بعض ، ويدنو من الأرض ، فإذا ملك قد مثّل بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا محمّد! إنّ ربّك يقرئك السلام ويخيّرك بين أن تكون ملكا وبين أن تكون نبيّا عبدا ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأشار جبرئيل إليّ بيده أن تواضع ، فعرفت أنّه لي ناصح ، فقلت : عبد نبيّ فعرج ذلك الملك إلى السماء ، فقلت : يا جبرئيل! قد كنت أردت أن أسألك

ص: 506


1- « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 4 - 7 ذيل الآية من سورة الإسراء (17).

عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة ، فمن هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا إسرافيل خلقه اللّه يوم خلقه بين يديه صافّا قدميه لا يرفع طرفه ، بينه وبين الربّ سبعون نورا ما منها نور يدنو منه أحد إلاّ احترق ، بين يديه اللوح المحفوظ ، فإذا أذن اللّه في شيء في السماء أو في الأرض انقطع (1) ذلك اللوح فضرب جبهته فينظر فيه ، فإن كان من عملي أمرني به ، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به ، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به ، فقلت : يا جبرئيل! على أيّ شيء أنت؟ قال : على الرياح والجنود. قلت : على أيّ شيء ميكائيل؟ قال : على النبات والقطر. قلت : على أيّ شيء ملك الموت؟ قال : على قبض الأنفس وما ظننت أنّه هبط إلاّ لقيام الساعة ، وما ذاك الذي رأيت منّي إلاّ خوفا من قيام الساعة » (2).

قال في « البحار » : « وقال الرازيّ في تفسيره : إنّه لا خلاف من العقلاء في أنّ أشرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه ، كما أنّ أشرف الرتبة للعالم السفلي هو وجود الإنسان فيه إلاّ أنّ الناس اختلفوا في ماهيّة الملائكة وحقيقتهم.

وطريق ضبط المذاهب أن يقال : الملائكة لا بدّ أن تكون ذوات قائمة بأنفسها ، ثمّ إنّ تلك الذوات إمّا أن تكون متحيّزة أو لا تكون.

أمّا الأوّل ، ففيه أقوال :

أحدها : أنّها أجسام لطيفة هوائيّة تقدر على التشكّل بأشكال مختلفة ، مسكنها السماوات. وهذا قول أكثر المسلمين.

وثانيها : قول طوائف من عبدة الأوثان ، وهو أنّ الملائكة في الحقيقة هذه الكواكب الموصوفة بالأسعاد والأنحاس ؛ فإنّها بزعمهم أحياء ناطقة ، وأنّ المسعدات

ص: 507


1- في المصدر : « ارتفع ».
2- « بحار الأنوار » 56 : 257 ، ح 22.

منها ملائكة الرحمة ، والمنحسات منها هي ملائكة العذاب.

وثالثها : قول معظم المجوس والثنويّة ، وهو أنّ هذا العالم مركّب من أصلين أزليّين وهما النور والظلمة وهما في الحقيقة جوهران شفّافان حسّاسان ، قادران مختاران ، متضادّا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النور فاضل ، خير ، نقيّ ، طيّب الريح ، كريم النفس ، يسرّ ولا يضرّ ، وينفع ولا يمنع ، ويحيي ولا يبلي ، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك. ثمّ إنّ جوهر النور لم يزل يولّد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولّد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولّد السفه من السفيه لا على سبيل التناكح ، فهذه أقوال من جعل الملائكة أشياء متحيّزة جسمانيّة.

وأمّا الثاني ، فبأنّ الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ولا أجسام ، فهاهنا قولان :

أحدهما : قول طوائف من النصارى ، وهو أنّ الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة بذاتها ، المفارقة لأبدانها على نعت الصفا والخيريّة ، وذلك لأنّ هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.

وثانيهما : قول الفلاسفة ، وهي أنّها جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيّزة البتّة ، وأنّها بالماهيّة مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشريّة ، وأنّها أكمل قوّة منها ، وأكثر علما ، وأنّها للنفوس البشريّة جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء.

ثمّ إنّ هذه الجواهر على قسمين :

منها : ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا.

ومنها : ما هي أعلى شأنا من تدبير أجرام الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة

ص: 508

اللّه ومحبّته ومشتغلة بطاعته. وهذا القسم هم الملائكة المقرّبون. ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبّرون السماوات كنسبة أولئك المدبّرين إلى نفوسنا الناطقة ، فهذان القسمان اتّفقت الفلاسفة على إثباتهما.

ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضيّة المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي ، ثمّ إنّ مدبّرات هذا العالم السفلي إن كانت خيرات فهم الملائكة ، وإن كانت شرّيرة فهم الشياطين » (1).

الفائدة الرابعة : في البسائط والعناصر وما يتعلّق بها
اشارة

وفيها مقدّمة وفصول :

المقدّمة

قال في « البحار » : « اعلم أنّ المشهور بين الحكماء والمتكلّمين أنّ العناصر أربعة : النار ، والهواء ، والماء ، والأرض ، كما تشهد به الشواهد الحسّيّة والتجربيّة ، والتأمّل في أحوال التركيبات والتحليلات. ولقدماء الفلاسفة فيه اختلافات :

فمنهم : من جعل أصل العناصر واحدا والبواقي تحصل بالاستحالة ، فقيل : هو النار. وقيل : الهواء. وقيل : الماء. وقيل : الأرض. وقيل : البخار.

ومنهم : من جعله اثنين : فقيل : النار والأرض. وقيل : الماء والأرض. وقيل : الهواء والأرض.

ومنهم : من جعله ثلاثة : فقيل : النار والهواء والأرض ، وإنّما الماء هواء متكاثف ؛ وقيل : الهواء والماء والأرض ، وإنّما النار هواء شديدة الحرارة. وهذه الأقوال عندهم ضعيفة.

وقد ورد في الأخبار ما يدلّ على كون أصل العناصر ، بل الأفلاك الماء ، أو هو مع النار ، أو هما مع الهواء.

ص: 509


1- « بحار الأنوار » 56 : 204 - 206.

وبالجملة ، لا ريب في وجود تلك العناصر الأربعة تحت فلك القمر ، وإنّما الإشكال في وجود كرة النار. وعلى تقدير وجودها هل كانت هواء انقلبت نارا بحركة الفلك أو كانت في الأصل نارا؟ والمشهور أنّ هذه الأربعة عناصر المركّبات التامّة وأسطقسّاتها ، ومنها تتركّب ، وإليها تنحلّ.

وقيل : النار غير موجودة في المركّبات ؛ فإنّها لا تنزل عن الأثير إلاّ بالقسر ، ولا قاسر هناك. ثمّ المشهور أنّ صور البسائط باقية في المركّبات.

وقال الشيخ في « الشفاء » : لكنّ قوما اخترعوا في قريب من زماننا هذا مذهبا غريبا ، قالوا : إنّ البسائط إذا امتزجت وانفعل بعضها من بعض تأدّى ذلك بها إلى أن يخلع صورها ، فلا تكون لواحد منها صورته الخاصّة ، وليست حينئذ صورة خاصّة واحدة ، فتصير لها هيولى واحدة وصورة واحدة ، فمنهم من جعل تلك الصورة أمرا متوسّطا بين صورها. ومنهم من جعلها صورة أخرى من النوعيّات. واحتجّ على فساد هذا المذهب بوجوه تركناها.

وذهب انكساغورس وأصحابه إلى الخلط والكمون والبروز وأنكروا التغيير في الكيفيّة والصورة ، وزعموا أنّ الأركان الأربعة لا يوجد شيء منها صرفا ، بل هي تختلط من تلك الطبائع النوعيّة كاللحم والعظم والعصب ، والتمر والعسل والعنب وغير ذلك. وإنّما سمّي بالغالب الظاهر منها ، ويعرض لها عند ملاقاة الغير أن يبرز منها ما كان كامنا فيها ، فيغلب ويظهر للحسّ بعد ما كان مغلوبا غائبا ، لا على أنّه حدث ، بل على أنّه برز ، ويكمن فيها ما كان بارزا ، فيصير مغلوبا وغائبا بعد ما كان غالبا وظاهرا.

وبإزائهم قوم زعموا أنّ الظاهر ليس على سبيل البروز ، بل على سبيل النفوذ من غيره فيه كالماء مثلا ؛ فإنّه إنّما يتسخّن بنفوذ أجزاء ناريّة فيه من النار المجاورة له.

وهذان القولان سخيفان.

والمشهور عندهم أنّ العناصر يفعل بعضها في بعض ، فتستحيل في كيفيّاتها

ص: 510

وتحصل للجميع كيفيّة متوسّطة متشابهة هي المزاج ، فتستعدّ بذلك لإفاضة صورة مناسبة لها من المبدأ.

ثمّ المشهور بينهم أنّ النار التي تسطع عند ملاقاة الحجر والحديد ، أو عند احتكاك الخشبتين الرطبتين أو اليابستين إنّما هي بانقلاب الهواء الذي بينهما نارا بسبب حرارة حدثت فيه من الاصطكاك والاحتكاك ، لا بأن يخرج من الحجر أو الحديد أو الشجر نار. وظواهر الآيات والأخبار المتقدّمة لا تنافي ذلك.

وأمّا قوله علیه السلام في حديث هشام : « إنّ النار في الأجسام كامنة » فالمراد منها إمّا النار التي تركّب الجسم منها ومن سائر العناصر ، أو المعنى أنّ ما هو سبب لإحداث النار حاصل في الأجسام وإن انطفأت النيران المتولّدة منها وانقلبت هواء » (1) انتهى.

[1] فصل : في النار ، وفيه أخبار :

منها : ما روي عن المفضّل أنّه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن النيران فقال : « النيران أربعة : نار تأكل وتشرب ، ونار تأكل ولا تشرب ، ونار تشرب ولا تأكل ، ونار لا تأكل ولا تشرب ، فالنار التي تأكل وتشرب فنار ابن آدم وجميع الحيوان ، والتي تأكل ولا تشرب فنار الوقود ، والتي تشرب ولا تأكل فنار الشجرة ، والتي لا تأكل ولا تشرب فنار القداحة والحاجب » (2).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال الزنديق له : أخبرني عن السراج إذا انطفأ أين يذهب نوره؟ قال : « يذهب فلا يعود » قال : فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك إذا فات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا؟ قال : « لم تصب القياس ؛ إنّ النار في الأجسام كائنة (3) والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد ، فإذا ضرب

ص: 511


1- « بحار الأنوار » 56 : 331 - 332.
2- الحاجب - بالضمّ - : اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلاّ نارا ضعيفة مخافة الضيفان ، فضربوا بها المثل أو غير ذلك. انظر « صحاح الجوهري » مادّة ( ح. ج. ب ).
3- كذا في النسخ ، وفي المصدر : « كامنة ».

أحدهما بالآخر سطعت من بينهما نار يقتبس منها سراج له الضوء ، فالنار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب » (1).

ومنها : الخبر : « أربعة القليل منها كثير : النار القليل منها كثير ... » (2).

ومنها : ما حكي عن عليّ بن إبراهيم في تفسير ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) (3) وهو المرخ والعفار (4) يكون في ناحية بلاد العرب فإذا أرادوا أن يستوقدوا أخذوا من ذلك الشجر ، ثمّ أخذوا عودا فحرّكوه فيه فيستوقدوا منه النار (5).

[2] فصل : في الهواء

وفيه خبران :

الأوّل : ما روي عن صفوان الجمّال ، قال : كنت بالحيرة مع أبي عبيد اللّه علیه السلام إذ أقبل الربيع وقال : أجب أمير المؤمنين ، فلم يلبث أن عاد ، قلت : أسرعت الانصراف؟ قال : « إنّه سألني عن شيء فاسأل الربيع عنه » فقال صفوان : وكان بيني وبين الربيع لطف ، فخرجت إلى الربيع وسألته وقال : أخبرك بالعجب إنّ الأعراب خرجوا يجمعون الكمأة فأصابوا في البرّ خلقا ملقى فأتوني به فأدخلته على الخليفة ، فلمّا رآه قال : تخبيه وادع جعفرا ، فدعوته ، فقال : يا أبا عبد اللّه أخبرني عن الهواء ما فيه؟ قال : « في الهواء موج مكفوف » قال ففيه سكّان؟ قال : « نعم » قال : وما سكّانه؟ قال : « خلق أبدانهم أبدان الحيتان ، ورءوسهم رءوس الطير ، ولهم أعرفة كأعرفة الديكة ، ونغانغ كنغانغ الديكة ، وأجنحة كأجنحة الطير من ألوان أشدّ بياضا من الفضّة » فدعا

ص: 512


1- « بحار الأنوار » 56 : 330 ، ح 3.
2- نفس المصدر : 329 ، ح 1.
3- يس (36) : 80.
4- هما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر.
5- « بحار الأنوار » 56 : 331 ، ح 4.

المنصور بالطشت فإذا الخلق فيها لا يزيد ولا ينقص ، فأذن له فانصرف ، ثمّ قال للربيع : ويلك يا ربيع! هذا الشجا المتعرّض في خلقي (1) من أعظم الناس (2).

والثاني : ما روي أنّ زرارة وهشاما اختلفوا في الهواء هو مخلوق ، أم لا؟ فرفع إلى الصادق علیه السلام بعض مواليه وقال : فإنّي أرى بعض أصحابنا يختلفون ، فقال : « ليس هذا بخلاف يؤدّي إلى الكفر والضلال » (3).

تبصرة (4) :

قد أفاد في « البحار » أنّ في عدد طبقات الهواء وسائر العناصر بين الحكماء اختلافا :

فقال نصير الملّة والدين في التذكرة : طبقات العناصر ثمان : طبقة للنار الصرفة ، ثمّ طبقة لما يمتزج من النار والهواء الحارّ تتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة من السفل ، وتتكوّن فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك (5) وما يشبهها من الأعمدة وذوات القرون ونحوها. وربما توجد هذه الأمور المتكوّنة في هذه الطبقة متحرّكة بحركة الفلك الأعظم ، ثمّ طبقة الهواء الغالب التي تحدث [ فيها ] الشهب ، ثمّ طبقة الزمهريريّة الباردة التي هي منشأ السحب والرعد والبرق والصواعق ، ثمّ طبقة الهواء الحارّ الكثيف المجاور للأرض والماء ، ثمّ طبقة الماء وبعض هذه الطبقة منكشفة عن الأرض عناية من الحضرة الإلهيّة ، لتكون مسكنا للحيوانات المتنفّسة. ثمّ طبقة الأرض المخالطة لغيرها التي تتولّد فيها الجبال والمعادن وكثير من النباتات والحيوانات ، ثمّ طبقة الأرض الصرفة المحيطة بالمركز.

وقيل : إنّها تسع : ثامنها الطبقة الطينيّة التي تختلط فيها الأرض بالماء ، وتاسعها

ص: 513


1- كذا في النسخ ، وفي المصدر : « هذا الشجا المعترض في حلقي من أعلم الناس ».
2- « بحار الأنوار » 56 : 338 ، ح 5.
3- رواه في « بحار الأنوار » 54 : 182 مرسلا.
4- في « أ » : « فصل » بدل « تبصرة ».
5- جمع نيزك ، وهو جسم يخترق طبقات الجوّ ، فيحتدم ويضيء ، ثمّ يسقط على الأرض.

الأرض الصرفة ، والبواقي على نحو ما ذكر.

وقيل : إنّها سبع : طبقة للنار ، وطبقة للماء ، والطبقات الثلاث الأخيرة التي تعلّقت بالأرض بحالها على النحو المذكور.

والهواء ينقسم إلى طبقتين باعتبار مخالطة الأبخرة وعدمها :

إحداهما : الهواء اللطيف الصافي من الأبخرة والأدخنة والهيئات المتصاعدة من كرتي الأرض والماء ، بسبب أشعّة الشمس وغيرها من الكواكب ؛ لأنّ تلك الهيئات تنتهي في ارتفاعها إلى واحد لا تتجاوزه ، وهو من سطح الأرض في جميع نواحيها أحد وخمسون ميلا وكسر وهو قريب من تسعة عشر فرسخا ، فمن هذه النهاية إلى كرة الأثير هو الهواء الصافي وهو شفّاف لا يقبل النور والظلمة والألوان كالأفلاك.

وثانيتهما : هو الهواء المتكاثف بما فيها من الأجزاء الأرضيّة والمائيّة لكن لا يبلغ في التكاثف بحيث يحجب ما وراءه [ عن الأبصار ] وهذه الكرة تسمّى كرة البخار وعالم النسيم وكرة الليل والنهار ؛ إذ فيها تهبّ الرياح دون ما فوقها ، وهي القابلة للنور والظلمة بما فيها من الأجزاء الأرضيّة والمائيّة (1).

[3] فصل : في الصبح والشفق
اشارة

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى خلق حجابا من ظلمة ممّا يلي المشرق ووكّل به ملكا ، فإذا غابت الشمس اغترف ذلك الملك غرفة بيده ، ثمّ استقبل بها الغرب يتبع الشفق ويخرج من بين يديه قليلا قليلا ويمضي ، فيوافي المغرب عند سقوط الشفق ، فيسرح في الظلمة ، ثمّ يعود إلى المشرق ، فإذا طلع الفجر نشر جناحيه فاستاق الظلمة عن المشرق إلى المغرب حتّى يوافي بها المغرب عند طلوع الشمس (2).

ص: 514


1- « بحار الأنوار » 56 : 341 - 342.
2- « الكافي » 3 : 279 باب وقت المغرب والعشاء ، ح 3.
تتمّة

قال في « البحار » : « اعلم أنّ المذكور في كتب الحكماء والرياضيين هو أنّ الصبح والشفق الأبيض والأحمر إنّما يظهر من وقوع [ ضوء ] الشمس على كرة البخار ، فالمستضيء بالشمس من كرة الأرض أكثر من نصفها دائما ؛ لما بيّن في محلّه أنّ [ الكرة ] الصغرى إذا قبلت الضوء من الكبرى ، كان المستضيء منها أعظم من نصفها ، وظلّ الأرض على هيئة مخروط يلازم رأسه مدار الشمس وينتهي في فلك الزهرة كما علم بالحساب ، والنهار مدّة كون المخروط تحت الأفق ، والليل مدّة كونه فوقه ، فإذا ازداد قرب الشمس من شرقيّ الأفق ، ازداد ميل المخروط إلى غربيّه ولا يزال كذلك حتّى يرى الشعاع المحيط به ، وأوّل ما يرى منه هو الأقرب إلى موضع الناظر ؛ لأنّه أصدق رؤية وهو موقع خطّ يخرج من بصره عمودا على الخطّ المماسّ للشمس والأرض فيرى الضوء مرتفعا عن الأفق ، مستطيلا ، وما بينه وبين الأفق مظلما ؛ لقربه من قاعدة المخروط الموجب له بعد الضوء هناك عن الناضر وهو الضوء الكاذب ، ثمّ إذا قربت الشمس جدّا ، يرى الضوء معترضا وهو الصبح الصادق ، ثمّ يرى محمرّا.

والشفق بعكس الصبح يبدأ محمرّا ، ثمّ مبيضّا معترضا ، ثمّ مرتفعا مستطيلا ، فالصبح والشفق متشابهان متشاكلان متقابلان وضعا ؛ لأنّ هيئة آخر غروب الشمس مثل أوّل طلوع الفجر ويختلفان لونا بسبب اختلاف كيفيّة الهواء المخلوط ؛ فإنّ لون البخار في جانب المشرق مائل إلى الصفار والبياض ؛ لاكتسابه الرطوبة من برودة الليل ، وفي جانب المغرب مائل إلى الصفرة ؛ لغلبة الجزء الدخاني المكتسب بحرارة النار » (1) و (2).

ص: 515


1- في المصدر : « النهار » بدل « النار ».
2- « بحار الأنوار » 56 : 334.
[4] فصل : في السحاب والمطر والشهاب والبرق والصواعق والقوس وسائر ما يحدث في الجوّ
اشارة

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن عليّ علیه السلام ، قال : « السحاب غربال المطر ، ولو لا ذلك لأفسد كلّ شيء يقع عليه » (1).

وعنه علیه السلام ما يقربه مع زيادة أنّه « ليس من قطرة تقطر إلاّ ومعها ملائكة حتّى تضعها موضعها ، ولم ينزل من السماء قطرة من مطر إلاّ بقدر معدود ووزن معلوم إلاّ ما كان يوم الطوفان على عهد نوح ؛ فإنّه نزل منها ماء منهمر بلا عدد ووزن » (2).

ومنها : ما في تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ) (3) أي يثيره من الأرض ، ثمّ يؤلّف بينه فإذا غلظ بعث اللّه رياحا فتعصره ، فينزل منه الماء وهو قوله : ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) (4) أي المطر (5).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال علیه السلام : « ما أنزلت السماء قطرة من ماء منذ حبسه اللّه عزّ وجلّ ، ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ، ولأخرجت الأرض نباتها » (6).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في خبر المعراج ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له : إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال اللّه تعالى عزّ وجلّ : ( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ

ص: 516


1- « بحار الأنوار » 56 : 373 ، ح 5.
2- « قرب الإسناد » : 73 ؛ « بحار الأنوار » 56 : 380.
3- النور (24) : 43.
4- النور (24) : 43.
5- « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 107.
6- « الخصال » : 626 ؛ « بحار الأنوار » 10 : 104 ، ح 10.

شِهابٌ ثاقِبٌ ) (1) وتحته سبعون ألف ملك تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك » (2).

ومنها : ما روي عن الرضا علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (3) قال : « خوفا للمسافر وطمعا للمقيم » (4).

ومنها : ما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ ربّكم يقول : لو أنّ عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد » وكان إذا سمع صوت الرعد يقول : « سبحان من يسبّح الرّعد بحمده » (5).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن الرعد : أيّ شيء يقول؟ قال : « إنّه بمنزلة الرجل يكون في الإبل فيزجرها هاي هاي كهيئة ذلك ». وسئل عن البرق ، قال : « تلك مخاريق الملائكة تضرب السحاب وتسوقه إلى الموضع الذي قضى اللّه فيه المطر » (6).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « الصاعقة لا تصيب المؤمن » فقال له رجل : فإنّا رأينا فلانا يصلّي في المسجد الحرام فأصابته ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إنّه كان يرمي حمام الحرم » (7) وعنه علیه السلام : « الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكرا » (8).

ومنها : ما سأل ابن الكوّاء أمير المؤمنين ، فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني عن قوس قزح ، قال : « ثكلتك أمّك يا ابن الكوّاء لا تقل : قوس قزح ؛ فإن قزح اسم

ص: 517


1- الصافّات (37) : 10.
2- « بحار الأنوار » 18 : 321.
3- الرعد (13) : 12.
4- « معاني الأخبار » : 374 باب معنى الخوف والطمع.
5- « بحار الأنوار » 56 : 356.
6- « الفقيه » 1 : 525 ، ح 1496 ؛ « بحار الأنوار » 56 : 379.
7- « بحار الأنوار » 56 : 376 ، ح 7.
8- نفس المصدر.

الشيطان ولكن قل : قوس اللّه ، إذا بدت يبدو الخصب والريح » (1).

ومنها : ما روي عن أهل الكتابين أنّهم يقولون : لمّا هبط نوح علیه السلام من السفينة أوحى اللّه عزّ وجلّ إليه : يا نوح إنّي خلقت خلقي لعبادتي ، وأمرتهم بطاعتي فقد عصوني وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي فغرقتهم ، وإنّي قد جعلت قوسي أمانا لعبادي وبلادي وموثقا منّي بيني وبين خلقي يأمنون به إلى يوم القيامة من الغرق ومن أوفى بعهده منّي؟ ففرح نوح علیه السلام بذلك وتباشر وكانت القوس فيها سهم ووتر ، فنزع اللّه عزّ وجلّ السهم والوتر من القوس وجعلها أمانا لعباده وبلاده من الغرق (2).

تتميم :

يستفاد ممّا حكى صاحب البحار عن صاحب المقاصد أنّ البخار المتصاعد قد يلطف بتحليل الحرارة أجزاءه المائيّة ، فيصير هواء ، وقد يبلغ الطبقة الزمهريريّة فيتكاثف فيجتمع سحابا ويتقاطر قطرة إن لم يكن البرد شديدا ، وإن أصابه برد شديد يجمد السحاب قبل تشكّله بشكل القطرات نزل ثلجا ، أو بعد تشكّله بذلك نزل بردا صغيرا مستديرا إن كان من زمان بعيد لذوبان الزوايا بالحركة والاصطكاك وإلاّ فكبيرا غير مستدير في الغالب وإنّما يكون البرد في الهواء الربيعيّ أو الخريفيّ لفرط التحليل في الصيفي والجمود في الشتوي. وقد لا يبلغ البخار المتصاعد الطبقة الزمهريريّة فإن كثر صار ضبابا ، وإن قلّ وتكاشف ببرد الليل فإن انجمد نزل صقيعا وإلا فطلاّ ، فنسبة الصقيع إلى الطلّ نسبة الثلج إلى المطر.

وقد يكون السحاب الماطر من بخار كثير تكاثف بالبرد من غير أن يتصعّد إلى الزمهريريّة لمانع مثل هبوب الرياح المانعة للأبخرة من التصاعد والضاغطة إيّاها

ص: 518


1- نفس المصدر : 377 ، ح 13.
2- « علل الشرائع » 1 : 29 ، الباب 22 ، ح 1.

[ إلى الاجتماع ] بسبب وقوف الجبال قدّام الريح وثقل الجزء المتقدّم وبطء حركته ، وقد يكون مع البخار المتصاعد دخان فإذا ارتفعا معا إلى الهواء البارد - وانعقد البخار سحابا واحتبس الدخان فيه - فإن بقي الدخان على حرارته قصد الصعود ، وإن برد قصد النزول.

وقد يمزّق السحاب تمزيقا عنيفا ، فيحدث عن تمزيقه ومصاكّته صوت هو الرعد ، وناريّة لطيفة هي البرق ، أو كثيفة هي الصاعقة.

وقد يشتعل الدخان الغليظ بالوصول إلى كرة النار كما يشاهد عند وصول دخان سراج منطفئ إلى سراج مشتعل ، فيرى فيه الاشتغال ، فيرى كأنّه كوكب انقضّ وهو الشهاب.

وقد يكون لغلظه لا يشتعل ، بل يحترق ويدوم فيه الاحتراق ، فيبقى على هيئة ذؤابة أو ذنب أو حيّة أو حيوان له قرون ، وربما يقف تحت كوكب ويدور مع النار بدوران الفلك إيّاها ، وربّما تظهر فيه علامات هائلة حمر وسود بحسب زيادة غلظ الدخان ، وإذا لم ينقطع اتّصال الدخان من الأرض ونزل اشتعاله إلى الأرض ، يرى كأنّ تنّينا ينزل من السماء إلى الأرض وهو الحريق (1).

وقال صاحب البحار في موضع آخر : « قال بعض المحقّقين في تحقيق ألوان القوس : توضيح المقام يستدعي مقدّمتين :

[ المقدمة ] الأولى : أنّ سائر الألوان المتوسّطة بين الأسود والأبيض إنّما تحدث عن اختلاط هذين اللونين.

وبالجملة ، الأبيض إذا رئي بتوسّط الأسود أو بمخالطة الأسود حدثت عن ذلك ألوان أخر ، فإن كان النيّر هو الغالب رئي الأحمر ، وإن لم يكن غالبا رئي الكراثيّ والأرجواني ، وغلبته في الكراثي أكثر وفي الأرجواني أقلّ.

ص: 519


1- « بحار الأنوار » 56 : 391.

[ المقدمة ] الثانية : أنّ اللون الأسود هو بمنزلة عدم الإبصار ؛ لأنّا إذا لم نر الشمس والمضيء ظننّا أنّا نرى شيئا أسود ، فالمكان الذي يكون الأبيض فيه غالبا على ، الأسود نرى أحمر ، والمكان الذي يكون الأسود فيه غالبا نراه أرجوانيّا ، والمكان الذي فيه الأسود بين الغالب والمغلوب ، نراه كراثيا فإذا تمهّد هذا ، فنقول : إذا رأى البصر النيّر بتوسّط الغمام على تلك الشرائط رئي القوس على الأكثر ذات ألوان ثلاثة.

الأوّل : منها [ و ] هو الدور الخارج الذي يلي السماء - أحمر ؛ لقلّة سواده وكثرة بياضه.

والثاني - وهو الذي دونه : كرّاثي ؛ بتوسّطه بين الأوّل والثالث في قلّة السواد وكثرته ، وقلّة البياض وكثرته.

والدور الثالث ممّا يلي الأرض أرجوانيّ ؛ لكثرة سواده وقلّة بياضه.

وأمّا الدور الأصغر - الذي قد يرى أحيانا بين الدور الأحمر والكراثي - فإنّه ليس يحدث بنحو الانعكاس ، فإنّما يرى بمجاورة الأحمر اللون الكراثي ، والعلّة في ذلك أنّ الأبيض إذا وقع إلى جنب الأسود رئي أكثر بياضا ، ولمّا كان الدور الأحمر فيه بياض ما ، والكراثي مائلا إلى السواد رئي طرف الأحمر - لقربه من الكراثي - أكثر بياضا ، وما هو أكثر بياضا من الأحمر هو الأصفر ، فلهذا يرى طرف الدور الأحمر ، القريب من الكراثي أحمر ، وقد يظهر أحيانا قوسان معا كلّ واحدة منهما ذات ثلاثة ألوان على النحو الذي ذكرناه في الواحدة لكن وضع ألوان القوس الخارجة بالعكس من الداخلة يعني دورها الخارج الذي يلي السماء أرجوانيّ ، والذي يليه كرّاثيّ ، والذي يتلو هذا أحمر. ولا يبعد أن يكون أحد القولين عكسا للآخر » (1).

ص: 520


1- « بحار الأنوار » 56 : 395.
[5] فصل : في الرياح وأسبابها وأنواعها
اشارة

وفيه أمور :

[ الأمر ] الأوّل : في الأخبار الواردة في هذا الباب ، وهي أخبار كثيرة :

منها : ما روي عن عليّ علیه السلام أنّه قال : « إنّ للريح رأس وجناحان » (1).

ومنها : ما روي عن كامل ، قال : كنت مع أبي جعفر علیه السلام بالعريض ، فهبّت ريح شديدة ، فجعل أبو جعفر علیه السلام يكبّر ، ثمّ قال : « إنّ التكبير يردّ الريح » وقال علیه السلام : « ما بعث اللّه ريحا إلاّ رحمة أو عذابا ، فقولوا : اللّهمّ إنّا نسألك خيرها وخير ما أرسلت له ، ونعوذ بك من شرّها ومن شرّ ما أرسلت له ، وكبّروا وارفعوا أصواتكم بالتكبير ؛ فإنّه يكسرها » (2).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما خرجت ريح قطّ إلاّ بمكيال إلاّ زمن عاد ؛ فإنّها عتت على خزّانها فخرجت في مثل خرق الإبرة ، فأهلكت قوم عاد » (3).

وقال الصادق علیه السلام : « نعم الريح الجنوب ، تكسر البرد عن المساكين ، وتلقح الشجر ، وتسيل الأودية » (4).

وقال عليّ علیه السلام : « الرياح خمسة منها العقيم ، فنعوذ باللّه من شرّها وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا هبّت ريح صفراء أو حمراء أو سوداء تغيّر وجهه واصفرّ ، وكان كالخائف الوجل حتّى ينزل من السماء قطرة من مطر ، فيرجع إليه لونه ويقول : جاءتكم بالرحمة » (5).

ومنها : ما روي عن العرزمي أنّه قال : سألت أبا عبد اللّه : من أين تهبّ الريح؟

ص: 521


1- « الفقيه » 1 : 544 ، ح 1517. ولعلّ الكلام مبنيّ على الاستعارة ، أي تشبه الطائر في أنّها تطير إلى كلّ جانب.
2- نفس المصدر ، ح 1518.
3- « الفقيه » 1 : 525 ، ح 1494.
4- « بحار الأنوار » 57 : 6 ، ح 4.
5- « الفقيه » 1 : 548 ، ح 1525.

فقال : « إنّ الريح مسجونة تحت هذا الركن الشامي ، فإذا أراد اللّه عزّ وجلّ أن يرسل منها شيئا أخرجه إمّا جنوبا فجنوب ، وإمّا شمالا فشمال ، وإمّا صباء فصباء وإمّا دبورا فدبور - ثمّ قال - : ومن آية ذلك أنّك لا تزال ترى هذا الركن متحرّكا أبدا في الشتاء والصيف ، والليل والنهار » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه أنّه قال - بعد ما سئل : لم سمّيت ريح الشمال شمالا؟ قال - : « لأنّها تأتي عن شمال العرش » (2).

ومنها : ما روي عن أحدهم : « الريح العقيم تحت هذه الأرض التي نحن عليها قد زمّت بسبعين ألف زمام من حديد ، وقد وكّل بكلّ زمام سبعون ألف ملك ، فلمّا سلّطها اللّه عزّ وجلّ على عاد ، استأذنت خزنة الريح ربّها عزّ وجلّ أن تخرج منها مثل منخري الثور ، ولو أذن اللّه لها ، لما ترك شيئا على ظهر الأرض إلاّ أحرقته ، فأوحى اللّه تعالى إلى خزنة الريح : أن أخرجوا منها مثل ثقب الخاتم ، فأهلكوا بها » (3).

[ الأمر ] الثاني : في سبب الرياح وحدّها

قال في البحار : « قال الرازي : حدّ الريح أنّه هواء متحرّك ، فنقول : كون هذا الهواء متحرّكا ليس لذاته ولا للوازم ذاته ، وإلاّ لدامت الحركة بدوام ذاته ، فلا بدّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو اللّه جلّ جلاله.

وقالت الفلاسفة : هاهنا سبب آخر هو أنّه يرتفع من الأرض أجزاء أرضيّة لطيفة مسخّنة تسخينا قويّا شديدا ، فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد ، فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعّر الفلك متحرّكا على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء وهي تمنع هذه

ص: 522


1- « الكافي » 8 : 271 ، ح 401.
2- « علل الشرائع » 2 : 576 ، الباب 382.
3- « علل الشرائع » 1 : 33 ، الباب 30 ، ح 1.

الأدخنة من الصعود بل تردّها عن سمت حركتها فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرّق في الجوانب وبسبب ذلك التفرّق تحصل الرياح ، ثمّ كلّما كانت تلك الأدخنة أكثر ، وكان صعودها أقوى ، كان رجوعها أيضا أشدّ حركة ، فكانت الرياح أقوى وأشدّ » (1).

ثمّ قال : « وقال المنجّمون : إنّ قوى الكواكب هي التي تحرّك هذه الرياح وتوجب هبوبها » (2).

[ الأمر ] الثالث : في أقسام الرياح.

وقد روي في البحار عن ابن عمر : « الرياح ثمان : أربع منها رحمة وهي : الناشرات ، والمبشّرات ، والمرسلات ، والذاريات. وأربع منها العذاب وهي : العقيم ، والصرصر - وهما في البرّ - والعاصف ، والقاصف وهما في البحر » (3).

وفي رواية ابن عبّاس مكان الذاريات الرخاء (4).

وفي رواية أخرى : « الرياح سبع : الصبا ، والدبور ، والجنوب ، والشمال ، والخروق ، والنكباء ، وريح القائم » (5).

[6] فصل : في الماء

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن معلّى بن قيس ، قال : قلت : ما لكم من هذه الأرض؟ فتبسّم ، ثمّ قال : « إنّ اللّه تعالى بعث جبرئيل وأمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض منها : سيحان وهو نهر الهند ، وجيحان وهو نهر بلخ ، والخشوع وهو نهر التناش (6) ، ومهران وهو نهر الهند ، ونيل مصر ، ودجلة ، والفرات ، فما سقت أو استقت فهو لنا ،

ص: 523


1- « بحار الأنوار » 57 : 2.
2- نفس المصدر : 3.
3- نفس المصدر : 17 ، ح 22.
4- « بحار الأنوار » 57 : 18 ، ح 31.
5- نفس المصدر ، ح 32.
6- في المصدر : « الشاش ».

وما كان لنا فهو لشيعتنا ، وليس لعدوّنا منه شيء إلاّ ما غصب عليه » (1).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّ أوّل عين فاضت على وجه الأرض عين الحياة التي وقف بها موسى علیه السلام وفتاه ومعهما النون المالح ، فسقط فيها فحيي ، وهذا الماء لا يصيب ميّتا إلاّ حيي (2).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام ما يقربه (3).

ومنها : ما روي عن الصادق علیه السلام : « إنّ مهبّ الشمال أرفع من مهبّ الجنوب ، فما رفع اللّه كذلك إلاّ تنحدر المياه على وجه الأرض ، ثمّ تفيض آخر ذلك إلى البحر » (4).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في جواب سائل سأل عن الجزر والمدّ فقال : « ملك موكّل بالبحار يقال له : رومان ، فإذا وضع قدميه في البحر فاض ، وإذا أخرجهما غاض » (5).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أربعة أنّها من الجنّة : الفرات ، والنيل ، وسيحان ، وجيحان ، فالفرات الماء في الدنيا والآخرة ، والنيل العسل ، وسيحان الخمر ، وجيحان اللبن » (6).

ومنها : ما روي عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : أنزل اللّه من الجنّة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحان وهو نهر الهند ، وجيحان وهو نهر بلخ ، ودجلة ، والفرات وهما نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر ، أنزلها اللّه من عين واحدة من عيون الجنّة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبرئيل فاستودعها الجبال ، وأجراها في الأرض

ص: 524


1- « الكافي » 1 : 409 باب أنّ الأرض كلّها للإمام علیه السلام ، ح 5.
2- « إعلام الورى » 2 : 170.
3- « بحار الأنوار » 57 : 40 ، ح 5.
4- نفس المصدر 3 : 122.
5- « علل الشرائع » 2 : 554 ، الباب 342 ، ح 1.
6- « الخصال » : 250 ، ح 116.

وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم ، فذلك قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ) (1). فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج رفعها إلى السماء وذلك قوله تعالى : ( وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) (2) فعند ذلك فقد أهل الأرض خير الدنيا والآخرة » (3).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « نهران مؤمنان ، ونهران كافران ، فالمؤمنان نيل مصر والفرات ، والكافران نهر بلخ ودجلة ، فحنّكوا أولادكم بماء الفرات » (4).

[7] فصل : في الأرض
اشارة

وفيه مطالب :

الأوّل : في الأخبار الواردة في هذا المقام وهي أخبار عديدة :

منها : ما في خبر الشاميّ أنّه سئل أمير المؤمنين عن الأرض : ممّ خلق؟ قال علیه السلام : « من زبد الماء » (5).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « خلق الأرض قبل السماء ، ووضع الأرض على الحوت ، والحوت في الماء ، والماء في صخرة مجوّفة ، والصخرة على عاتق ملك ، والملك على الثرى ، والثرى على الريح ، والريح على الهواء ، والهواء تمسكه القدرة ، وليس تحت الريح العقيم إلاّ الهواء والظلمات ، ولا وراء ذلك سعة ولا ضيق ولا شيء يتوهّم » (6).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ الأرض سبع طبقات وهي على ظهر

ص: 525


1- المؤمنون (23) : 19.
2- المؤمنون (23) : 19.
3- « تفسير القرطبي » 12 : 113 ؛ « الدرّ المنثور » 5 : 8.
4- « بحار الأنوار » 57 : 42 ، ح 11.
5- « علل الشرائع » 2 : 593.
6- « الاحتجاج » 2 : 100.

الديك ، والديك على الصخرة ، والصخرة على ظهر الحوت وهو في البحر المظلم ، والبحر المظلم في الهواء وهي في الثرى (1).

ومنها : ما روي عن أبان بن تغلب ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الأرض :

على أيّ شيء هي؟ قال : « هي على الحوت » قلت : فالحوت على أيّ شيء؟ قال : « على الماء » قلت : فالماء على أيّ شيء هو؟ قال : « على الصخرة » قلت : فعلى أيّ شيء الصخرة؟ قال : « على قرن ثور أملس » قلت : فعلى أيّ شيء الثور؟ قال : « على الثرى » قلت : فعلى أيّ شيء الثرى؟ فقال : « هيهات! عند ذلك ضلّ علم العلماء » (2).

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، عن آبائه ، قال : « أقبل رجلان إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال أحدهما لصاحبه : اجلس على اسم اللّه تعالى والبركة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اجلس على أمّك ، فأقبل يضرب الأرض بعصاه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : لا تضربها ؛ فإنّها أمّك وهي بكم برّة » (3).

وبهذا الإسناد ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « تمسّحوا بالأرض ؛ فإنّها أمّكم وهي بكم برّة » (4).

المطلب الثاني : في كرويّة الأرض وما ضاهاها

اعلم أنّه قد أفاد في « البحار » أنّ الطبيعيّين والرياضيّين اتّفقوا على أنّ الأرض كرويّة بحسب الحسّ ، وكذا الماء المحيط بها ، وصار بمنزلة كرة واحدة فالماء ليس بتمام الاستدارة ، بل هو على هيئة كرة مجوّفة قطع بعض منها وملئت الأرض على وجه صارت الأرض مع الماء بمنزلة كرة واحدة ومع ذلك ليس شيء من سطحيه

ص: 526


1- « بحار الأنوار » 57 : 83 ، ح 10.
2- « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 59.
3- « كتاب النوادر » للراونديّ : 104.
4- نفس المصدر.

صحيح الاستدارة ، أمّا المحدّب ، فلما فيه من الأمواج ، وأمّا المقعّر ، فللتضاريس فيه من الأرض وقد أخرج اللّه تعالى قريبا من الربع من الأرض من الماء بمحض عنايته الكاملة لتكون مسكنا للحيوانات المتنفّسة.

والتضاريس التي على وجه الأرض من جهة الجبال والأعوار لا تقدح في كرويّتها الحسّيّة ؛ إذ ارتفاع أعظم الجبال وأرفعها فرسخان وثلث فرسخ ، ونسبتها إلى جرم الأرض كنسبة جرم سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ، بل أقلّ من ذلك (1).

ثمّ قال : « ثمّ إنّهم استعلموا بزعمهم مساحة الأرض وأجزاءها ودوائرها في زمان المأمون وقبله ، فوجدوا مقدار محيط الدائرة العظمى من الأرض ثمانية آلاف فرسخ ، وقطرها ألفين وخمسمائة وخمسة وأربعين فرسخا ونصف فرسخ تقريبا ، ومضروب القطر في المحيط مساحة سطح الأرض وهي عشرون ألف ألف وثلاثمائة وستّون ألف فرسخ ، وربع ذلك مساحة الربع المسكون من الأرض ، وأمّا المقدار المعمور من الربع المسكون - وهو ما بين الخطّ الاستواء والموضع الذي عرضه بقدر تمام الميل - فمساحته ثلاثة آلاف ألف وسبعمائة وخمسة وستّون ألفا وأربعمائة وعشرون فرسخا وهو قريب من سدس سطح جميع الأرض وسدس عشره. والفرسخ ثلاثة أميال بالاتّفاق ، وكلّ ميل أربعة آلاف ذراع عند المحدثين ، وثلاثة آلاف عند القدماء ، وكلّ ذراع أربعة وعشرون إصبعا عند المحدثين ، واثنان وثلاثون عند القدماء ، وكلّ إصبع بالاتّفاق مقدار ستّ شعيرات مضمومة بطون بعضها إلى ظهور بعض من الشعيرات المعتدلة » (2).

المطلب الثالث : في علّة حدوث الزلزلة

قال في « البحار » : « قالوا في علّة حدوث الزلزلة والرجفة : إذا غلظ البخار وبعض

ص: 527


1- « بحار الأنوار » 57 : 95 - 96.
2- نفس المصدر : 97.

الأدخنة والرياح في الأرض بحيث لا ينفذ في مجاريها ؛ لشدّة استحصافها (1) وتكاثفها اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه النفوذ ، فزلزلت الأرض ، وربما اشتدّت الزلزلة فخسفت (2) فتخرج منه نار ؛ لشدّة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لا سيّما إذا امتزجا امتزاجا مقرّبا إلى الدهنيّة ، وربّما قويت (3) على شقّ الأرض ، فتحدث أصوات هائلة ، وربّما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدات في باطن الأرض ، فيتموّج بها الهواء المحتقن ، فيتزلزل به الأرض ، وقليلا ما يتزلزل بسقوط قلل الجبال عليها لبعض الأسباب ، وقد يوجد في بعض نواحي الأرض قوّة كبريتيّة ينبعث منها دخان وفي الهواء رطوبة بخاريّة فيحصل من اختلاط دخان الكبريت بالأجزاء الرطبة الهوائيّة مزاج دهني ، وربّما اشتعل بأشعّة الكواكب وغيرها ، فيرى بالليل شعل مضيئة » (4) انتهى ما أردنا ذكره.

وعن ابن عبّاس أنّه قال : خلق اللّه جبلا يقال له : قاف محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد اللّه أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فتحرّك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ، ويحرّكها ، ومن ثمّ تحرّك القرية دون القرية (5).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام « أنّ ذا القرنين لمّا دخل في الظلمات ، فإذا بملك قائم على جبل طوله خمسمائة ذراع ، فقال له : من أنت؟ قال : ملك من ملائكة الرحمن موكّل بهذا الجبل ، فليس من جبل خلقه اللّه عزّ وجلّ إلاّ وله عرق من هذا الجبل ، فإذا أراد اللّه أن يزلزل مدينة أوحى إليّ فزلزلتها » (6)

ص: 528


1- أي استحكامها.
2- « بحار الأنوار » 57 : 148 - 149.
3- في المصدر : « فخسفت الأرض ».
4- في المصدر : « قويت المادّة ».
5- « بحار الأنوار » 57 : 127 ، ح 18.
6- « الفقيه » 1 : 542 ، ح 1511 ؛ « تهذيب الأحكام » 3 : 290 ، ح 874.

وعنه علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلق الأرض فأمر الحوت فحملتها ، فقالت : حملتها بقوّتي ، فبعث اللّه حوتا قدر شبر ، فدخلت في منخرها فاضطربت أربعين صباحا ، فإذا أراد اللّه - عزّ وجلّ - أن يزلزل أرضا تراءت لها تلك الحوتة الصغيرة ، فزلزلت الأرض فرقا » (1).

« وعن أحدهم علیهم السلام أنّ اللّه - تبارك وتعالى - أمر الحوت بحمل الأرض وكلّ بلدة من البلدان على فلس من فلوسه ، فإذا أراد اللّه - عزّ وجلّ - أن يزلزل أرضا ، أمر الحوت أن يحرّك ذلك الفلس ، فيحرّكه ، ولو رفع الفلس لانقلبت الأرض بإذن اللّه » (2).

وفي « العلل » عن فاطمة علیهماالسلام أنّه قالت : « أصابت الناس زلزلة في عهد أبي بكر » وساقت الحديث إلى قولها : فقال لهم علیه السلام : « كأنّكم قد هالكم ما ترون قالوا : وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قطّ؟! قالت : فحرّك شفتيه ، ثمّ ضرب الأرض بيده ، ثمّ قال : مالك؟ اسكني فسكنت فقال : أنا الرجل الذي قال اللّه عزّ وجلّ : ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها* وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) وأنا الإنسان الذي يقول لها : مالك؟ ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (3) إيّاي » (4).

المطلب الرابع : في قسمة المعمور من الأرض بالأقاليم السبعة

اعلم أنّه قد أفاد في « البحار » أنّ الدائرة العظيمة - التي تحدث على سطح الأرض إذا فرض معدّل النهار قاطعا للعالم الجسمانيّ - تسمّى خطّ الاستواء ، وإذا فرضت عظيمة أخرى على وجه الأرض تمرّ بقطبيها انقسمت الأرض بهما أرباعا أحد القسمين الشماليّين هو الربع المسكون ، والباقية إمّا غامرة في البحار ، أو عامرة

ص: 529


1- « الفقيه » 1 : 542 ، ح 1512.
2- نفس المصدر ، ح 1513.
3- الزلزلة (99) : 1 - 4.
4- « علل الشرائع » 2 : 556 ، الباب 343 ، ح 7 ؛ « دلائل الإمامة » : 66.

غير معلومة الأحوال ، وطول كلّ ربع بقدر نصف الدائرة العظيمة ، وعرضه بقدر ربعها. وهذا الربع المسكون أيضا ليس كلّه معمورا ؛ إذ بعضه في جانب الشمال لفرط البرد لا يمكن التعيّش فيه ، وبعضه بحار وجبال وآكام وآجام وبطائح ومغايض وبراري.

ومبدأ العمارة عند المنجّمين من جانب المغرب ، وكان هناك جزائر تسمّى الجزائر الخالدات وهي الآن مغمورة في الماء ، فجعلها بعضهم مبدأ الطول. وآخرون جعلوا ساحل البحر الغربيّ مبدأ ، وبينهما عشر درجات.

ونهاية العمارة من الجانب الشرقيّ عندهم « كنك دز » هو مستقرّ الشياطين بزعمهم.

ثمّ قسموا المعمور من هذا الربع في جانب العرض بسبعة أقاليم بدوائر موازية لخطّ الاستواء ، طول كلّ إقليم ما بين الخافقين ، وعرضه بقدر تفاضل نصف ساعة في النهار الأطول.

فمبدأ الإقليم الأوّل في العرض عند الأكثر مواضع يكون عرضها اثنتي عشرة درجة وثلثي درجة ، ونهار هم الأطول اثنتا عشرة ساعة ونصف وربع. وبعضهم جعل مبدأه خطّ الاستواء.

ومساحة سطحه ستّمائة ألف واثنان وستّون ألف فرسخ وأربعة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ.

وعدد البلاد المشهورة الواقعة فيه خمسون : كنجران ، وجند ، وصنعاء ، وسعدة ، وسندان ، وصحار.

وفيه من الجبال والأنهار العظيمة عشرون جبلا وثلاثون نهرا ، ولون أكثر أهله السواد.

وهو يبتدئ في الطول من المشرق وأراضي الصين ، ويمرّ على بعض البلاد الجنوبيّة من الهند والسند ، ثمّ على خليج فارس وجزيرة العرب وأكثر بلاد اليمن

ص: 530

كحضر موت وصنعاء ، وعلى دار ملك الحبشة وغاية معدن الذهب وبلاد بربر إلى المحيط.

ومبدأ الإقليم الثاني في العرض عشرون درجة ونصف ونهاره الأطول ثلاث عشرة ساعة وربع.

ومساحته خمسمائة ألف واثنان وسبعون فرسخا وستّة وستّون فرسخا وثلث فرسخ.

والبلاد المشهورة الواقعة فيه أيضا خمسون : كمكّة ، والمدينة ، وجدّة ، وخيبر ، والأحساء ، والقطيف ، والبحرين ، وصومنات ، وفيه من الجبال عشرون ، ومن الأنهار مثلها ، ولون عامّة أهله بين السواد والسمرة.

وهو يأخذ في الطول من بلاد الصين ويمرّ بمعظم بلاد الهند ، ومنه إلى معظم بلاد السند ، ويصل إلى عمان ، ويقطع جزيرة العرب من أرض نجد ، ويمرّ بالطائف ومكّة والمدينة ويثرب ، ويقطع [ القلزم ... ] (1) ثمّ يقطع النيل ، ويمرّ بأوساط بلاد إفريقية ، ثمّ ببلاد البربر ، ويصل إلى المحيط.

ومبدأ الإقليم الثالث في العرض سبع وعشرون درجة ونصف ، ونهاية طول الأيّام ثلاث عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة.

ومساحته أربعمائة وستّون ألف فرسخ وأحد وتسعون فرسخا وخمسا فرسخ.

والبلاد المشهورة الواقعة فيه مائة وثمانية وعشرون : كمصر ، وقسطنطينيّة ، وبيت المقدس ، ودمشق ، والكوفة ، وبغداد ، والمدائن والبصرة ، وشيراز ، وأصفهان ، وأردستان ، وطبس ، وكابل. وفيه من الجبال ثلاثة وثلاثون ، ومن الأنهار اثنان وعشرون ، ولون أكثر أهله السمرة.

وهو يبتدئ من شرقيّ أرض الصين ويمرّ بواسطة مملكة الهند وقندهار

ص: 531


1- الزيادة أضفناها من المصدر.

وكشمير وكرمان وفارس وأصفهان وبغداد ومصر وبيت المقدس ، ثمّ يمرّ ببلاد الإفريقيّة ، ثمّ بأراضي المغرب ، وينتهي إلى المحيط.

ومبدأ الإقليم الرابع في العرض ثلاث وثلاثون درجة وأربعون درجة وأطول نهاره أربع عشرة ساعة وربع.

ومساحة سطحه ثلاثمائة ألف وثمانية وسبعون ألف وثمانية وثلاثون فرسخا وربع.

والبلاد المشهورة فيه مائتان واثنا عشر : كالموصل ، وسلماس ، وخوي ، ومراغة ، وأردبيل ، وتبريز ، وقصر شيرين ، وزنجان ، ونهاوند ، وهمدان ، وبروجرد ، وأبهر ، وساوه ، وقزوين ، والديلم ، وقمّ ، وقاشان ، والريّ ، ولاهيجان ، وطبرستان ، وسمنان ، واسترآباد ، وطوس ، وهراة. وفيه من الجبال خمسة وعشرون ، ومن الأنهار اثنان وعشرون ، ولون أكثر أهله بين السمرة والبياض.

وهذا الإقليم وسط الأقاليم ووسط معظم عمارة العالم. ويبتدئ من شمال بلاد الصين ، ويمرّ إلى خطا وختن وبجبال كشمير وبدخشان وطوس ونيشابور وجرجان ومازندران وگيلان وأردبيل ومراغة وحلب وأنطاكية وطرطوس وجزيرة قبرس ورودس ، ويمرّ بأرض المغرب على بلاد فرنجة وطنجة ، وينتهي إلى المحيط.

ومبدأ الإقليم الخامس في العرض تسع وثلاثون درجة. وغاية طول أنهارهم أربع عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة.

ومساحة سطحه مائتا ألف وتسعة وتسعون ألف فرسخ وأربعمائة وثلاثة وتسعون فرسخا وثلاثة أعشار فرسخ.

والبلاد المشهورة فيه مائتان : كبردعة ، وشيروان ، وتفليس ، وبيلقان ، وگنجة ، ونحشير ، ودرعان ، وسمرقند ، وساباط ، وكاسان. وفيه من الجبال ثلاثون ، ومن الأنهار خمسة عشر. ولون عامّة أهله البياض.

ص: 532

وهو يبتدئ من أقصى بلاد الترك ، ويمرّ إلى مواضع الأتراك المشهورة وإلى بيت المقدس وشيروان وخوارزم وبخارا وسمرقند وبحر خزر وديار أرمينية وبعض بلاد الروم وبلاد أندلس إلى أن ينتهي إلى المحيط.

ومبدأ الإقليم السادس في العرض ثلاث وأربعون درجة ونصف. وغاية طول نهاره خمس عشرة ساعة وربع.

ومساحة سطحه مائتا الف وخمسة وثلاثون ألف فرسخ وأربعة وثلاثون فرسخا وثلثا فرسخ.

والبلاد المشهورة الواقعة فيه تسعون : كجند ، وفاراب ، وخانبالق ، وقسطنطينيّة.

وفيه من الجبال أحد عشر ، ومن الأنهار أربعون ، ولون غالب أهله الشقرة.

وهو يبتدئ من المشرق ، ويمرّ بمساكن أتراك الشرق ، ويقطع وسط بحر طبرستان ، وباب الأبواب والروس ، ثمّ بمعظم بلاد الروم ، وبشمال أندلس ، وينتهي إلى المحيط.

ومبدأ الإقليم السابع حيث العرض سبع وأربعون درجة وأربع. وغاية طول نهاره خمس عشرة ساعة وثلاثة أرباع ساعة.

ومساحة سطحه مائة ألف وسبعة وثمانون ألف فرسخ وسبعمائة وواحد وعشرون فرسخا وثلثا فرسخ.

والبلاد المشهورة فيه اثنان وعشرون : ككرش ، وأرق ، وبلغار. وفيه من الجبال أحد عشر ، ومن الأنهار أربعون ، ولون أكثر أهله بين الشقرة والبياض.

وهو يبتدئ من المشرق ، ويمرّ بنهايات الأتراك الشرقيّة ، وبشمال بلاد يأجوج ومأجوج ، ثمّ على عياض وبلغار وروس والصقالبة ، ويقطع بحر الشام ، وينتهي إلى المحيط.

وبعض أهل بلاد هذا الإقليم يسكنون مدّة ستّة أشهر في الحمّامات ؛ لشدّة البرد.

وآخر الأقاليم - حيث عرضه خمسون درجة ونصف ، وغاية طول نهاره ستّ عشرة

ص: 533

ساعة وربع إلى عرض التسعين - لا يعدّونه من الأقاليم (1).

المطلب الخامس : في الممدوح من البلدان والمذموم منها فها هنا أمران :

الأوّل : في بيان البلدان الممدوحة وهي عديدة :

منها : مكة ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً ) (2) ونحوه.

ومنها : المدينة.

ومنها : بيت المقدس.

ومنها : الكوفة ؛ لما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه اختار من البلدان أربعة : التين ، والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، فالتين : المدنية ، والزيتون : البيت المقدس ، وطور سنين : الكوفة ، وهذا البلد الأمين : مكّة » (3).

ومنها : كربلاء ؛ لما روي عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « البقعة المباركة في القرآن هي كربلاء » (4).

ومنها : أرض سرانديب ؛ لما ورد من أنّه أكرم واد على وجه الأرض (5).

ومنها : قمّ ؛ لما روي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لمّا أسري بي إلى السماء ، حملني جبرئيل على كتفه الأيمن ، فنظرت إلى بقعة بأرض الجبل حمراء ، أحسن لونا من الزعفران ، وأطيب ريحا من المسك فإذا فيها شيخ على رأسه البرنس فقلت لجبرئيل : ما هذه البقعة الحمراء؟ قال : بقعة شيعتك وشيعة وصيّك عليّ ، فقلت : من الشيخ صاحب البرنس؟ قال : إبليس ، قلت : فما يريد منهم؟ قال : يريد أن يصدّهم عن ولاية أمير المؤمنين علیه السلام ويدعوهم إلى الفسق والفجور فقلت : يا جبرئيل! أهو بنا

ص: 534


1- « بحار الأنوار » 57 : 130 - 138.
2- آل عمران (3) : 96.
3- « بحار الأنوار » 57 : 204 ، ح 2.
4- « بحار الأنوار » 57 : 203.
5- « علل الشرائع » 2 : 572 ، الباب 373 ، ح 1.

إليهم فأهوى بنا إليهم أسرع من البرق الخاطف والبصر اللامح فقلت : قم يا ملعون! فشارك أعداءهم [ في أموالهم وأولادهم ونسائهم ] (1) فإنّ شيعتي ليس لك عليهم من سلطان » (2) فسمّيت قمّ ، ونحو ذلك كالخبر المرويّ عن زرارة بن أعين عن الصادق علیه السلام قال : « أهل خراسان أعلامنا ، وأهل قمّ أنصارنا ، وأهل كوفة أوتادنا ، وأهل السواد منّا ونحن منهم » (3).

وعن عفّان البصري عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال لي : « أتدري لم سمّي قمّ؟ » قلنا : اللّه ورسوله أعلم فقال : « إنّما سمّي قمّ ؛ لأنّ أهله يجتمعون مع قائم آل محمّد ، ويقومون معه ويستقيمون عليه » (4).

وعن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه احتجّ بالكوفة على سائر البلاد ، وبالمؤمنين من غيرهم من أهل البلاد ، واحتجّ ببلدة أهل قمّ على سائر البلاد ، وبأهلها على جميع أهل المشرق والمغرب من الجنّ والإنس ولم يدع اللّه قمّ وأهله مستضعفا بل وفّقهم وأيّدهم » (5). ثمّ قال : « إنّ الدين بقم وأهله ذليل (6) ولو لا ذلك لأسرع الناس إليهم فخرب قمّ وبطل أهله فلم يكن حجّة على سائر العباد » (7).

وعن الأئمّة علیهم السلام « لو لا القمّيّون لضاع الدين » (8).

ولكن ورد عن أبي الحسن الأوّل ، قال : « قمّ عشّ آل محمّد ، ومأوى شيعتهم ، ولكن سيهلك جماعة من شبابهم بعقوق آبائهم والاستخفاف والسخريّة

ص: 535


1- العبارة لم ترد في « ز ».
2- « علل الشرائع » 2 : 572 ، ح 1.
3- « بحار الأنوار » 57 : 214 ، ح 30.
4- نفس المصدر : 216 ، ح 38.
5- نفس المصدر : 213 ، ح 22.
6- في « أ » : « إنّ الدين وأهله بقم ذليل ».
7- « بحار الأنوار » 57 : 213 ، ح 21.
8- نفس المصدر : 217 ، ح 43.

بكبرائهم ومشايخهم » (1).

ومنها : اليمن ؛ « لما روي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من أحبّ أهل اليمن فقد أحبّني ومن أبغضهم أبغضني » (2).

ومنها : قزوين ؛ لما ورد من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « قزوين باب من أبواب الجنّة » (3) وإن ورد عن الصادق علیه السلام أنّه « ملعون وشؤم » (4).

وأمّا الطالقان ، فعن أمير المؤمنين علیه السلام : « ويحا للطالقان [ فإنّ لله تعالى بها كنوزا ليست من ذهب ولا فضّة ] (5) ولكن بها رجال مؤمنون عرفوا اللّه حقّ معرفته وهم أنصار المهديّ » (6).

ومنها : طوس ؛ لما روي أنّ بين الجبلين روضة من رياض الجنّة (7).

الثاني : في بيان البلدان المذمومة وهي عديدة :

منها : الريّ وساوة ؛ لما ورد عن الصادق علیه السلام : « أنّ ريّ وقزوين وساوة ملعونات وشؤمات » (8) وإن روي أنّه في التوراة مكتوب : « الريّ باب من أبواب الأرض وإليها متجر الناس » (9).

وقال الأصمعي : الريّ عروس الدنيا وإليها متجر الناس (10).

ولكنّه روي عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام : « أنّ أهل الريّ هم أعداء اللّه ورسوله ،

ص: 536


1- نفس المصدر : 214 ، ح 31.
2- « كنز الفوائد » : 266.
3- « بحار الأنوار » 57 : 229 ، ح 57.
4- نفس المصدر ، ح 55.
5- الزيادة أضفناها من المصدر.
6- « بحار الأنوار » 57 : 229 ، ح 56.
7- « مدينة المعاجز » 7 : 181.
8- « بحار الأنوار » 57 : 229 ، ح 55.
9- نفس المصدر : 228 ، ح 65.
10- نفس المصدر ، ح 55.

وأعداء أهل بيته ، يرون حرب أهل بيته جهادا ومالهم مغنما ، ولهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة ولهم عذاب مقيم » (1).

ومنها : الموصل ؛ لما روي عنه علیه السلام : « هم شرّ من على وجه الأرض » (2).

ومنها : البصرة ؛ لما روي أنّ عليّا علیه السلام لمّا أراد الخروج من البصرة ، قام على أطرافها ثمّ قال : « لعنك اللّه يا أنتن الأرض ترابا وأسرعها خرابا وأشدّها عذابا! فيك الداء الدويّ » (3).

وقد أفاد في « البحار » بأنّه يمكن الجمع بين الآيات والأخبار الواردة في مدح الشام ومصر وذمّه باختلاف أحوال أهله في الأزمان المختلفة (4).

الفائدة الخامسة : في المواليد الثلاثة ، أعني الجمادات ، والنباتات ، والحيوانات ، وفيها فصول :
الفصل الأوّل : في المعادن

وفيه أخبار :

منها : ما روي من أنّ ضبّاع بن نصر الهنديّ سأل عن الرضا علیه السلام : ما أصل الماء؟ قال : « أصل الماء خشية اللّه » ثمّ قال : كيف منها عيون نفط وكبريت وقار وملح وأشباه ذلك؟ قال : « غيّره الجوهر وانقلبت كانقلاب العصير خمرا ، وكما انقلبت الخمر فصارت خلًّا ، وكما يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا » قال : فمن أين أخرجت أنواع الجواهر؟ قال : « انقلب منها كانقلاب النطفة علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ خلقة

ص: 537


1- « الخصال » : 507 ، ح 4.
2- « بحار الأنوار » 57 : 206 ، ح 5.
3- نفس المصدر 47 : 357 ، ح 64.
4- نفس المصدر 57 : 208 ، ذيل ح 8.

مجمعة مبنيّة على المتضادّات الأربعة ».

ثمّ قال : إذا كانت الأرض خلقت من الماء والماء بارد رطب ، فكيف صارت الأرض باردة يابسة؟! قال : « سلبت النداوة وصارت يابسة » (1).

ومنها : ما روي عن الثمالي ، قال : مررت مع أبي عبد اللّه علیه السلام في سوق النحاس فقلت : جعلت فداك هذا النحاس أيّ شيء أصله؟ فقال : « فضّة إلاّ أنّ الأرض أفسدتها ، فمن قدر على أن يخرج الفساد منها انتفع بها » (2).

ومنها : ما روي عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « فكّر يا مفضّل في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجصّ والكلس والجبسين والزرانيخ والمرتك والقوينا والزيبق والنحاس والرصاص والفضّة والذهب والزبرجد والياقوت والزمرّد وضروب الحجارة وكلّ ما يخرج منها من القار والموميا والكبريت والنفط وغير ذلك ممّا يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أنّ هذا كلّها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها؟ » (3).

الفصل الثاني : في النباتات ؛

وفيها أخبار :

منها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام : « أنّ أوّل شجرة غرست في الأرض العوسجة ، ومنها عصا موسى ، وأنّ أوّل شجرة نبتت في الأرض الدّبّاء وهي القرع » (4).

ص: 538


1- « مناقب آل أبي طالب » 3 : 464.
2- « الكافي » 5 : 307 باب المملوك يتّجر ... ح 15.
3- « بحار الأنوار » 3 : 128.
4- نفس المصدر 10 : 78.

ومنها : ما روي عن أبي جعفر علیه السلام : « أنّ أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض النخلة » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « لم يخلق اللّه - عزّ وجلّ - شجرة إلاّ ولها ثمرة تؤكل ، فلمّا قال الناس : اتّخذ اللّه ولدا ، أذهب نصف ثمرها ، فلمّا اتّخذوا مع اللّه إلها ، شاك الشجر » (2).

ومنها : ما روي عنه علیه السلام أنّه قال : « لمّا أهبط اللّه - عزّ وجلّ - آدم من الجنّة ، أهبط معه عشرين ومائة قضيب ، أربعون منها ما يؤكل داخلها وخارجها ، وأربعون منها ما يؤكل داخلها ويرمى بخارجها ، وأربعون منها ما يؤكل خارجها ويرمى بداخلها ، وغرارة (3) فيها بذر كلّ شيء » (4).

ومنها : ما روي عنه علیه السلام أنّه قال : « خمس من فاكهة الجنّة في الدنيا : الرمّان الملاسي ، والتفّاح الأصفهاني ، والسفرجل ، والعنب ، والرطب المشان » (5).

ومنها : ما روي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يأكل الفاكهة الرطبة ، وكان أحبّها إليه البطّيخ والعنب (6).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه أخذ بطّيخة ليأكلها ، فوجدها مرّة ، فرمى بها وقال : « بعدا وسحقا » فقيل له : يا أمير المؤمنين علیه السلام ما هذه البطّيخة؟ فقال له : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه عقد مودّتنا على كلّ حيوان ونبت ، فما قبل

ص: 539


1- « الأمالي » للطوسي : 215 ، ح 373.
2- « علل الشرائع » 2 : 573 ، الباب 374 ، ح 1.
3- في هامش « ب » : « في القاموس : الغرارة - بالكسر - الجوالق. وقال : البذر : كلّ حبّ يبذر للنبات - كذا في البحار ». منه رحمه اللّه .
4- « بحار الأنوار » 11 : 204 ، ح 4.
5- « المحاسن » 2 : 536.
6- « مكارم الأخلاق » : 29.

الميثاق كان عذبا طيّبا ، وما لم يقبل الميثاق كان ملحا زعاقا » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « لكلّ شيء حلية ، وحلية الخوان البقل » (2).

ومنها : ما روي عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنّه سئل : ممّا خلق اللّه الشعير؟ فقال علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى أمر آدم أن ازرع ممّا اخترت لنفسك ، وجاءه جبرئيل بقبضة من الحنطة فقبض آدم على قبضة وقبضت حوّاء إلى أخرى ، فقال آدم لحوّاء : لا تزرعي فلم تقبل أمر آدم فكلّما زرع آدم جاء حنطة ، وكلّما زرعت حوّاء جاء شعيرا » (3).

الفصل الثالث في الحيوانات ،

وفيها أخبار :

منها : ما روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعجّ إلى اللّه ويقول : يا ربّ إنّ هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ، ولم يدعني فآكل من حشارة (4) الأرض » (5).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « ما من طير يصاد في برّ ولا بحر ، ولا يصاد شيء من الوحوش إلاّ بتضييعه التسبيح » (6).

ومنها : ما روي عنه علیه السلام أنّه قال : « كانت الوحوش والطير والسباع وكلّ شيء

ص: 540


1- « علل الشرائع » 2 : 464 ، ح 10.
2- « الأمالي » للطوسيّ : 304 ، ح 606.
3- « علل الشرائع » 2 : 574 ، ح 2.
4- في « مستدرك الوسائل » 8 : 304 : « خشاش ».
5- « بحار الأنوار » 61 : 4 ، باب عموم أحوال الحيوان.
6- « الكافي » 3 : 505 باب منع الزكاة ، ح 18 ؛ « تفسير علي بن إبراهيم » 2 : 107.

خلق اللّه عزّ وجلّ مختلطا بعضه ببعض ، فلمّا قتل ابن آدم أخاه نفرت فرغب كلّ شيء إلى شكله » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في ذئب أتوا إليه علیه السلام : « أمرتهم أن لا يؤذوا وليّا لي ولأهل بيتي ، فضمنوا لي ذلك » (2).

وفي حلية لأبي نعيم ، قال : بلغني أنّ الأسد لا يأكل إلاّ من أتى محرّما (3).

ومنها : ما روي عن الحسين علیه السلام أنّه قال : « إذا صاح النسر ، فإنّه يقول : يا ابن آدم! عش ما شئت ؛ فإنّ آخرك الموت ، وإذا صاح الطاوس ، يقول : مولاي! ظلمت نفسي واغتررت بزينتي فاغفر لي ، وإذا صاح الديك ، يقول : من عرف اللّه لم ينس ذكره ، وإذا قرقرت الدجاجة ، تقول : يا إله الحقّ! أنت الحقّ ، وقولك الحقّ يا حقّ ، وإذا صاح الدرّاج ، يقول : الرحمن على العرش استوى ، وإذا صاح الغراب ، يقول : يا رزّاق! ابعث الرزق الحلال ، وإذا صاح اللقلق ، يقول : من تخلّى عن الناس نجا من أذاهم ، وإذا صاح الهدهد ، يقول : ما أشقى من عصى اللّه ، وإذا صاح العصفور ، يقول : أستغفر اللّه ممّا يسخط اللّه ، وإذا صاح البلبل ، يقول : لا إله إلاّ اللّه حقّا حقّا ، وإذا صاح الجمل ، يقول : كفى بالموت واعظا ، وإذا صاح الثور ، يقول : يا ابن آدم! مهلا مهلا ، يا ابن آدم! أنت بين يدي من يرى ولا يرى وهو اللّه ، وإذا صاح الفيل ، يقول : لا يغني عن الموت قوّة ولا حيلة ، وإذا صهل الفرس ، يقول : سبحان ربّنا سبحانه » (4).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى عرض أمانتي وولايتي على الطيور فأوّل من آمن بها البزاة البيض والقنابر ، وأوّل من جحد بها

ص: 541


1- « قصص الأنبياء » للراوندي : 64 ، ح 38.
2- « مدينة المعاجز » : 392 ، ح 127 ؛ « دلائل الإمامة » : 260.
3- لم نعثر عليه.
4- « الخرائج والجرائح » 1 : 252.

البوم والعنقاء. فأمّا البوم ، فلا تقدر أن تظهر بالنهار ؛ لبغض الطير لها. وأمّا العنقاء ، فغابت في البحار لا ترى ».

ومنها : ما سئل الحسن علیه السلام عن الآية الشريفة : ( إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) (1) : إنّ الفيل أعظم من الإبل في الأعجوبة؟ فقال علیه السلام : « أمّا الفيل فالعرب بعيد العهد بها ، ثمّ هو خنزير ، لا يركب ظهرها ، ولا يؤكل لحمها ، ولا يحلب ضرعها ، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه ، تأكل النوى والقتّ ، وتخرج اللبن ، ويأخذ الصبيّ بزمامها فيذهب بها حيث يشاء مع عظمها في نفسها » (2).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليكم بالغنم والحرث ؛ فإنّهما يروحان بخير ، ويغدوان بخير » (3).

ومنها : ما روي عنه علیه السلام أنّه قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الغنم إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت ، والبقر إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أدبرت ، والإبل أعنان الشياطين إذا أقبلت أدبرت ، وإذا أدبرت أدبرت » (4).

ومنها : ما روي عنه علیه السلام « أنّ أفضل ما يتّخذه الرجل في منزله لعياله الشاة ، فمن كانت في منزله شاة قدّست له الملائكة في كلّ يوم ، وانتقل عنهم الفقر » (5).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أكرموا البقر ؛ فإنّها سيّد البهائم ما رفعت طرفها إلى السماء حياء من اللّه عزّ وجلّ منذ عبد العجل » (6).

وعن أمير المؤمنين مثله (7).

ص: 542


1- الغاشية (88) : 17.
2- « بحار الأنوار » 61 : 108.
3- « المحاسن » 2 : 643 ، ح 165.
4- « بحار الأنوار » 61 : 123 ، ح 6 ، عن معاني الأخبار.
5- « الخصال » : 617.
6- « بحار الأنوار » 13 : 209 ، ح 3.
7- « الفضائل » لابن شاذان : 147.

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لمّا خلق اللّه الفرس ، قال لها : خلقتك عربيّا ، وجعلت الخير معقودا بناصيتك ، والغنائم محتازة على ظهرك ، وبوّأتك سعة في الرزق ، وأيّدتك على غيرك من الدوابّ ، وأعطفت عليك صاحبك ، وجعلتك تطيرين بلا جناح فأنت للطلب ، وأنت للهرب ، وإنّي سأجعل على ظهرك رجالا يسبّحوني ويحمدوني » (1).

وعنه صلی اللّه علیه و آله : « الخيل معقود بناصيتها الخير إلى يوم القيامة ، والمنفق عليها في سبيل اللّه كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها ، فإذا أعددت شيئا [ فأعدّه ] أقرح ، أرثم ، محجّل [ الثلاثة ] ، طلق اليمين ، كميتا ، ثمّ أغرّ تسلم وتغنم » (2).

ومنها : ما روي عن أبي الحسن علیه السلام أنّه قال : « من خرج من منزله أو من منزل غيره في أوّل الغدوة فلقي فرسا أشقر به وضح - وإن كانت به غرّة سائلة فهو العيش كلّ العيش - لم يلق في يومه ذلك إلاّ سرورا وإن توجّه في حاجة فلقي الفرس ، قضى اللّه حاجته » (3).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « يمن الخيل في كلّ أحوى أحمر ، وفي كلّ أدهم أغرّ مطلق اليمين » (4).

ومنها : ما روي علیه السلام عنه أنّه قال : « من ارتبط فرسا عتيقا محيت عنه ثلاث سيّئات في كلّ يوم ، وكتب له إحدى وعشرون حسنة ، ومن ارتبط هجينا محيت عنه في كلّ يوم سيّئتان ، وكتب له سبع حسنات ، ومن ارتبط برذونا محيت عنه في كلّ يوم سيّئة ، وكتب له ستّ حسنات » (5).

ص: 543


1- « بحار الأنوار » 61 : 156 ، ح 7 ؛ « الدرّ المنثور » 3 : 195.
2- « الفقيه » 2 : 283 ، ح 2459.
3- « ثواب الأعمال » : 191 ، ثواب ارتباط الخيل.
4- « المستدرك » للنيسابوري 2 : 92.
5- « المحاسن » 2 : 631.

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « تسعة أعشار الرزق مع صاحب الدابّة » (1).

وعنه علیه السلام « إذا اشتريت دابّة فإنّ منفعتها لك ورزقها على اللّه » (2).

ومنها : ما روي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن شيء أحبّ إليه بعد النساء من الخيل (3).

وعنه علیه السلام أنّه كان يكره الشكال من الخيل (4).

والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض ، أو في يده اليسرى ، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى بياض. كذا وقع في تفسير صحيح مسلم (5).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّ البغال كانت تتناسل وكانت أسرع الدوابّ في نقل الحطب لنار إبراهيم ، فدعا عليها فقطع اللّه نسلها » (6).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال : « أحبّ المطايا إليّ الحمر » (7).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انّه قال : « أكثروا من الدواجن في بيوتكم لتشاغل بها الشياطين عن صبيانكم » (8).

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه أنّه قال : « كانوا يحبّون أن يكون في البيت دواجن مثل الحمام والدجاج أو العناق ليعبث به صبيان الجنّ ولا يعبثون بصبيانهم » (9).

ص: 544


1- « الكافي » 6 : 535 باب ارتباط الدابّة والمركوب ، ح 2.
2- « المحاسن » 2 : 625.
3- « بحار الأنوار » 61 : 181.
4- نفس المصدر.
5- « بحار الأنوار » 61 : 181.
6- نفس المصدر : 189.
7- « وسائل الشيعة » 8 : 360 ، ح 15354.
8- « بحار الأنوار » 60 : 74 ، ح 25.
9- « قرب الإسناد » : 93.

ومنها : ما روي عن الرضا علیه السلام أنّه قال : « في الديك الأبيض خمس خصال من خصال الأنبياء : معرفته بأوقات الصلاة ، والعزّة ، والسخاء ، والشجاعة ، وكثرة الطروقة » (1).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إنّ لله ديكا في الأرض ورأسه تحت العرش ، جناح له في المشرق ، وجناح له في المغرب يقول : سبحان الملك القدّوس ، فإذا قال ذلك صاحت الديوك وأجابته فإذا سمع صوت الديك فليقل أحدكم : سبحان ربّي الملك القدّوس » (2).

ومنها : ما روي عنه علیه السلام أنّه قال : « ديك أفرق أبيض يحرس دويرته وسبع دويرات حوله ، ولنفضة من حمامة منمّرة أفضل من سبع ديوك فرق بيض » (3).

ومنها : ما روي أنّ عمر قال : أطيب اللحمان لحم الدجاج ، فقال أمير المؤمنين : « كلاّ إنّ ذلك خنازير الطيور ، وإنّ أطيب اللحمان لحم فرخ قد نهض أو كاد أن ينهض » (4).

ومنها : ما روي من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يقول : « الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبرئيل ، يحرس بيته وستّة عشر بيتا من جيرانه » (5).

ومنها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « اتّخذوا الحمام الراعبيّة في بيوتكم ؛ فإنّها تلعن قتلة الحسين علیه السلام » (6).

وعنه علیه السلام أنّه قال : « يستحبّ أن تتّخذ طيرا مقصوصا تأنس به مخافة الهوامّ » (7).

ص: 545


1- « بحار الأنوار » 62 : 5.
2- « الأصول الستّة عشرة » : 74.
3- « الكافي » 6 : 549 باب الديك ، ح 2.
4- « الكافي » 6 : 313 باب لحوم الطير ، ح 2.
5- « بحار الأنوار » 62 : 7.
6- « الكافي » 6 : 547 باب الحمام ، ح 13.
7- نفس المصدر : 546 ، ح 3.

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من سرّه أن يقلّ غيظه ، فليأكل الدرّاج » (1).

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من اشتكى فؤاده ، وكثر غمّه ، فليأكل الدرّاج » (2).

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد أنّه قال : « المسوخ ثلاثة عشر : الفيل ، والدبّ ، والأرنب ، والعقرب ، والضبّ ، والعنكبوت ، والدعموص ، والجرّي ، والوطواط ، والقرد ، والخنزير ، والزهرة ، وسهيل » قيل : يا ابن رسول اللّه! ما كان سبب مسخ هؤلاء؟ قال :

« أمّا الفيل فكان رجلا جبّارا لوطيّا لا يدع رطبا ولا يابسا.

وأمّا الدبّ فكان رجلا مؤنّثا مخنّثا يدعو الرجال إلى نفسه.

وأمّا الأرنب فكانت امرأة قذرة لا تغتسل من حيض ولا غير ذلك.

وأمّا العقرب فكان رجلا همّازا لا يسلم منه.

وأمّا الضبّ فكان رجلا أعرابيّا يسرق الحاجّ بمحجنه (3).

وأمّا العنكبوت فكانت امرأة سحرت زوجها.

وأمّا الدعموص فكان رجلا نمّاما يقطع بين الأحبّة.

وأمّا الجرّي ، فكان ديّوثا يجلب الرجال على حلائله.

وأمّا الوطواط ، فكان رجلا سارقا يسرق الرطب من رءوس النخل.

وأمّا القردة فاليهود اعتدوا في السبت.

وأمّا الخنازير فالنصارى حين سألوا المائدة فكانوا بعد نزولها أشدّ ما كانوا تكذيبا.

وأمّا سهيل فكان رجلا عشّارا باليمن.

ص: 546


1- نفس المصدر : 312 باب لحوم الطير ، ح 3.
2- « مكارم الأخلاق » : 161.
3- المحجن : عصا في رأسها اعوجاج. « تاج العروس » 9 : 171 « ح ج ن ».

وأمّا الزهرة فإنّها كانت امرأة تسمّى « ناهيد » وهي التي تقول الناس : إنّه افتتن بها هاروت وماروت (1) ».

وروي عن أبي الحسن علیه السلام « أنّ الزنبور أيضا من المسوخ وكان لحّاما يسرق في الميزان » (2).

ومنها : ما روي عن الرضا علیه السلام أنّه قال : « كان الخفّاش امرأة سحرت ضرّة لها فمسخها اللّه خفّاشا ، وأنّ الفأر كان سبطا من اليهود غضب اللّه عزّ وجلّ عليهم فمسخهم » قال : « إنّ البعوض كان رجلا يستهزئ بالأنبياء فمسخه ، وإنّ القملة من الجسد ، وإنّ نبيّا من أنبياء بني إسرائيل كان قائما يصلّي إذ أقبل إليه سفيه من سفهاء بني إسرائيل ، فجعل يهزأ به ويكلح في وجهه ، فما برح من مكانه حتّى مسخه اللّه قملة ، وإنّ الوزغ كان سبطا من أسباط بني إسرائيل يسبّون أولاد الأنبياء ويبغضونهم فمسخهم اللّه أوزاغا. وأمّا العنقاء ، فمن غضب اللّه - عزّ وجلّ - عليه فمسخه وجعله مثله ، فنعوذ باللّه من غضب اللّه ونقمته » (3).

ومنها : ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن قال : « إنّ القنفذ كان رجلا من صناديد العرب فمسخ ؛ لأنّه إذا نزل به الضيف ردّ الباب في وجهه ويقول لجاريته : اخرجي إلى الضيف وقولي له : إنّ مولاي غائب عن المنزل فيبيت الضيف بالباب جوعا ، ويبيت أهل البيت شباعا مخضبين » (4).

ومنها : ما روي عن الرضا علیه السلام أنّه قال : « الطاوس مسخ ، كان رجلا جميلا ، فكابر امرأة رجل مؤمن تحبّه فوقع بها ، ثمّ راسلته بعد ، فمسخهما اللّه طاوسين : أنثى

ص: 547


1- « علل الشرائع » 2 : 486.
2- « الكافي » 6 : 246 باب جامع في الدوابّ ... ح 14.
3- « علل الشرائع » 2 : 487 ، ح 3.
4- « بحار الأنوار » 62 : 228 ، ح 9.

وذكرا ، فلا تأكل لحمه وبيضه » (1).

الفصل الرابع : في الإنسان

وفيه أخبار مضافا إلى ما ذكرناه في باب التوحيد :

منها : ما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « سمّي الإنسان إنسانا ؛ لأنّه ينسى ، وقال اللّه - عزّ وجلّ - : ( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ) (2) » (3).

ومنها : ما روي أنّه سئل النبيّ صلی اللّه علیه و آله : أنّ آدم خلق من الطين كلّه ، أو من طين واحد؟ قال : « بل من الطين كلّه ، ولو خلق من طين واحد ، لما عرف الناس بعضهم بعضا وكانوا على صورة واحدة » قال : فلهم في الدنيا مثل؟ قال : « التراب فيه أبيض ، وفيه أخضر ، وفيه أشقر ، وفيه أغبر ، وفيه أحمر ، وفيه أزرق ، وفيه عذب ، وفيه ملح ، وفيه خشن ، وفيه ليّن ، وفيه أصهب ؛ فلذلك صار الناس فيهم ليّن ، وفيهم خشن ، وفيهم أبيض ، وفيهم أصفر ، وأحمر ، وأصهب ، وأسود ، على ألوان التراب » (4).

ومنها : ما روي عن أبي الحسن الرضا علیه السلام أنّه سئل : لم خلق اللّه - عزّ وجلّ - الخلق على أنواع شتّى؟ ولم يخلقه نوعا واحدا؟ فقال : « لئلاّ يقع في الأوهام أنّه عاجز ، ولا يقع صورة في وهم ملحد إلاّ وقد خلق اللّه - عزّ وجلّ - عليها خلقا » (5).

ومنها : ما روي عن عليّ بن محمّد العسكريّ يقول : « عاش نوح ألفين وخمسمائة سنة ، وكان يوما في السفينة نائما ، فهبّت ريح فكشفت ، فضحك حام

ص: 548


1- « الكافي » 6 : 247 باب جامع في الدوابّ ... ح 13.
2- طه (20) : 115.
3- « علل الشرائع » 1 : 15 ، الباب 11 ، ح 1.
4- نفس المصدر 2 : 471 ، الباب 222 ، ح 33.
5- « علل الشرائع » 1 : 14 ، الباب 9 ، ح 11.

ويافث ، فزجرهما سام ، ونهاهما عن الضحك - وكان كلّما غطّى السام شيئا تكشفه الريح ، كشفه حام ويافث - فانتبه نوح علیه السلام فرآهم وهم يضحكون ، فقال : ما هذا؟ فأخبره سام بما كان ، فرفع نوح يده إلى السماء يدعو ويقول : اللّهمّ غيّر ماء صلب حام حتّى لا يولد إلاّ السودان ، اللّهمّ! غيّر ماء صلب يافث ، فغيّر اللّه ماء صلبهما فجميع السودان - حيث كانوا - من حام ، وجميع الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، والصين من يافث حيث كانوا ، وجميع البيض سواهم من سام ، فقال نوح لحام ويافث : جعل ذرّيّتكما خولا لذرّيّة سام إلى يوم القيامة ؛ لأنّه برّ بي وعققتماني ، فلا زالت سمة عقوقكما لي في ذرّيّتكما ظاهرة ، وسمة البرّ بي في ذرّيّة سام ظاهرة ما بقيت الدنيا » (1).

ومنها : ما روي في البحار أنّه ورد في الحديث : « إذا ولد المولود لبني آدم ، قرن إبليس به شيطانا ، وقرن اللّه به ملكا ، فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر ، والملك قائم على أذنه الأيمن ، فهما يدعوانه » (2).

ومنها : ما أفاد في البحار في تفسير الآية الشريفة ( ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) (3) حيث قال : فيروى أنّ الشيطان لمّا قال هذا الكلام ، رقّت قلوب الملائكة على البشر ، فقالوا : يا إلهنا! كيف يتخلّص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع؟! فأوحى اللّه تعالى إليهم : أنّه بقي للإنسان جهتان : الفوق ، والتحت ، فإذا رفع يده إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع ، غفرت له ذنب سبعين سنة » (4).

ص: 549


1- نفس المصدر 1 : 32 ، الباب 28 ، ح
2- « بحار الأنوار » 60 : 141.
3- الأعراف (7) : 17.
4- « بحار الأنوار » 60 : 155.
الفصل الخامس : في الجنّ
اشارة

وفيه أمور :

[ الأمر ] الأوّل : في ماهيّة الجنّ.

اعلم : أنّه قد أفاد في البحار أنّه أطبق الكلّ على أنّه ليس الجنّ عبارة عن أشخاص جسمانيّة كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم ، بل القول المحصّل فيه قولان :

الأوّل : أنّها أجسام هوائيّة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقّة.

والقول الثاني : أنّ كثيرا من الناس أثبتوا موجودات غير متحيّزة ولا حالّة في المتحيّز ، وزعموا أنّها موجودات مجرّدة عن الجسميّة (1).

الأمر الثاني : في وجود الجنّ.

اعلم أنّه اختلفوا في وجوده وعدمه على قولين ، والحقّ وجوده.

ويدلّ على ذلك - مضافا إلى الآيات - أخبار.

منها : ما روي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا أسري ، رأى عفريتا من الجنّ يطلبه بشعلة من نار كلّما التفت رآه ، فقال جبرئيل : ألا أعلّمك كلمات إذا قلتهنّ طفئت شعلته وصرفته؟ قل : أعوذ بوجه اللّه الكريم ، وبكلمات اللّه التامّات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر من شرّ ما ينزل من السماء ، ومن شرّ ما يعرج فيها ، ومن شرّ ما ينزل إلى الأرض ، ومن شرّ ما يخرج منها ، ومن شرّ فتن الليل والنهار ، ومن شرّ طوارق الليل والنهار إلاّ طارقا يطرق بخير يا رحمن » (2).

ص: 550


1- انظر « بحار الأنوار » 58 : 86 وما بعدها.
2- « الموطّأ » 2 : 951 ، ح 10 ؛ « بحار الأنوار » 60 : 329.

ومنها : ما قال في البحار : « اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلة الجنّ ، وقراءته عليهم ، ودعوته إيّاهم إلى الإسلام » (1).

ومنها : ما روي عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنّه دخل على أبي سعيد الخدري ، قال : وجدته يصلّي ، فجلست أنتظره حتّى يقضي صلاته قال : فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته ، فإذا حيّة نفرت فهممت أن أقتلها فأشار أبو سعيد أن اجلس ، فجلست أنتظره حتّى يقضي صلاته فلمّا انصرف من صلاته ، أشار إلى بيت في الدار ، فقال : ترى هذا البيت؟ قلت : نعم ، قال : إنّه كان فيه فتى من الأنصار قريب عهد بعرس - وساق الحديث إلى أن قال - : فرأى امرأته واقفة بين البابين فهيّأ الرمح ليطعنها بسبب الغيرة ، فقالت امرأته : ادخل بيتك لترى ، فدخل ، فإذا هو بحيّة على فراشه فوكزها فيها الرمح واضطربت الحيّة في رأس الرمح وخرّ الفتى ، فما يدرى أيّهما كان أسرع موتا : الفتى أم الحيّة؟ فسألنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : « إنّ بالمدينة جنّيّا قد أسلموا (2) ، فمن بدا لكم منه فأذنوه ثلاثة أيّام ، فإن عاد فاقتلوه ؛ فإنّه شيطان » (3).

الأمر الثالث : في بيان أنّ الجنّ مخلوق من النار.

والدليل عليه قوله تعالى : ( وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) (4) وقال تعالى حاكيا عن إبليس إنّه قال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (5).

قال في البحار : « واعلم أنّ حصول الحياة في النار غير مستبعد ، ألا ترى أنّ الأطبّاء قالوا : إنّ المتعلّق الأوّل للنفس هو القلب والروح وهما في غاية السخونة » (6).

ص: 551


1- « بحار الأنوار » 60 : 329.
2- كذا ، والصحيح : « أسلم ».
3- « بحار الأنوار » 60 : 328.
4- الحجر (15) : 27.
5- الأعراف (7) : 12.
6- « بحار الأنوار » 60 : 330.

الأمر الرابع : أنّه اتّفقوا على أنّ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون.

وأمّا الجنّ فإنّهم يأكلون ويشربون. قال علیه السلام : « الروث والعظم زاد إخوانكم من الجنّ » (1) وأيضا فإنّهم يتوالدون ، قال تعالى : ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) (2) واللّه أعلم.

وفي البحار في باب نهك العظام : « والظاهر أنّ الجنّ يشمّون العظم فإذا استقصي لا يبقى شيء لاستشمامهم ، فيسرقون من البيت » (3).

واختلف في أنّ الشياطين من جنس الجنّ أم طائفة مستقلّة.

قال في البحار حاكيا عن القاضي عياض : « الأكثر على أنّه أبو الجنّ كما أنّ آدم أبو البشر » (4).

وعن محمّد بن كعب القرظي أنّه قال : « الجنّ مؤمنون ، والشياطين كفّار ، وأصلهم واحدا » (5).

أقول : يستفاد من ظاهر قوله تعالى : إنّه ( كانَ مِنَ الْجِنِ ) (6) أنّ الشيطان من الجنّ.

وفي الخبر : « أنّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم » (7).

الأمر الخامس : في أنّ الجنّ مختارون ولا يعلمون الغيب ؛

إذ قد بيّن اللّه عزّ وجلّ في كتابه أنّهم بقوا في قيد سليمان وحبسه بعد موته مدّة وهم ما كانوا يعلمون موته ، وذلك يدلّ على أنّهم لا يعلمون الغيب.

ص: 552


1- نفس المصدر : 332.
2- الكهف (18) : 50.
3- « بحار الأنوار » 63 : 426 ، ح 1.
4- نفس المصدر 60 : 308.
5- نفس المصدر : 309.
6- الكهف (18) : 50.
7- « الكافي » 8 : 113 ؛ « عوالي اللآلئ » 1 : 273 ، ح 97.

ومثله قوله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ ) (1) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.

[ ربّ! عاملنا بفضلك وكرمك وجودك وإحسانك ، ولا تعاملنا بعدلك يا كريم ]. (2)

ص: 553


1- الأنعام (6) : 59.
2- قد تمّ تسويد هذه النسخة الشريفة الموسومة بالبراهين القاطعة بيد أقلّ الخليقة ، بل لا شيء في الحقيقة ، تراب أقدام الطالبين خلف المرحوم المغفور له حاج محمّد قاسم. اللّهمّ اغفر لهما ولجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها في يوم الاثنين من ١٤ شهر ربيع الثاني من شهور سنة ١٢٥٦ اللّهمّ احفظنا من شرور شياطين الجنّ والإنس بحقّ محمّد وآله.

ص: 554

الفهرس

في أقسام المسائل العلميّة ، وهي خمسة... 8

فيما أفاده بعض أفاضل العصر في أقسام الأدلّة وأنّها ثلاثة... 9

الأوّل : دليل الحكمة... 9

الثاني : دليل الموعظة الحسنة... 10

الثالث : دليل المجادلة بالتي هي أحسن... 11

بيان أنّ المراد من الحكمة هي المقالة المحكمة... 13

في أنّ البرهان الإنّي ، بل كثيرا من الصناعات الخمس من أدلّة المعرفة ... 13

في أقسام اليقين : علم اليقين ، عين اليقين وحقّ اليقين... 13

البرهان الممكن إقامته على إثبات الواجب هو البرهان الإنّي... 13

ما ينبغي لطالب كلّ علم معرفته... 14

المقصد الثالث في الأوّل من أصول الدين : في التوحيد

التوحيد بحسب المعنى التصوّري وبيان مراتبه... 17

التوحيد بحسب المعنى التصديقي... 20

في بيان ما لا بدّ معرفته في إثبات الصانع ... 21

ص: 555

أوّلا : معرفة اللّه بصفاته ... 21

ثانيا : معرفة جهات التوحيد ( التوحيد الذاتي والصفاتي )... 22

الكلام في إثبات الصانع وصفاته وآثاره وفيه فصول : ... 23

الفصل الأوّل : في إثبات الصانع... 25

في بيان أنّ الواجب الوجود بالذات موجود في الخارج... 25

في بيان استلزام وجود الممكن وجود واجب الوجود... 25

بيان الملازمة ... 26

مناهج الحكماء والمتكلّمين في الاستدلال على إثبات الواجب بتقرير المحقّق الفخري 27

تقرير الاستدلال على وجود الواجب بوجه آخر... 29

ذكر براهين أخر لإثبات وجود الواجب تعالى... 30

ومنها برهان التضايف ... 31

الأدلّة النقليّة على إثبات الصانع من الكتاب والسنّة... 33

الفصل الثاني : في الاعتقاد الثاني في صفاته تعالى... 43

في أقسام صفات واجب الوجود ، والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل... 43

مطالب : ... 45

المطلب الأوّل في بيان الصفات الثبوتيّة الحقيقيّة... 45

المسألة الأولى : في القدرة... 45

المقدّمة الأولى : في تعريف القدرة والإيجاب ، وتقسيمهما... 45

تحرير محلّ النزاع بالنسبة إلى القدرة والإيجاب في مقامات... 47

المقدّمة الثانية : في بيان القدم والحدوث... 48

الكلام في أمرين آخرين... 50

ص: 556

الأمر الأوّل : في أنّ تقدّم عدم الممكنات على وجودها هل هو تقدّم ذاتي أم زماني؟ 50

الأمر الثاني : في أنّ العالم حادث بالحدوث الزائد عن الذاتي ، أم لا؟... 51

الحقّ أنّ حدوث العالم حدوث سرمديّ مراتبيّ ... 54

اختلاف العلماء في أنّ صانع العالم صاحب الصفات ، أو نائب الصفات... 54

بيان الحقّ بأنّ الصانع تعالى صاحب الصفات... 58

تفصيل الكلام يقع في مسائل : ... 60

المسألة الأولى : في القدرة بمعنى أنّه تعالى صاحب القدرة ، وبيان اختلاف العلماء على قولين 60

بيان الحقّ في المسألة مع إقامة البرهان... 62

البراهين العقليّة مع بيان قول المصنّف « وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب »... 62

البراهين النقليّة من الآيات والأحاديث... 72

دلائل المخالفين النافين لقدرة اللّه مع الجواب عنها... 77

الوجه الأوّل : ما هو كالاعتراض على دليل المثبتين... 77

في معنى قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة »... 85

بيان الحقّ في توجيه كلام المصنّف... 91

الوجه الثاني : أنّ اتّصاف الواجب بالقدرة ممّا يقتضي صحّة الفعل والترك ... 96

الجواب عن هذا الوجه مع تقرير كلام المحقّق الطوسي وتفسيره... 97

الوجه الثالث : أنّ القدرة على الأثر إمّا حال وجود الأثر ، وإمّا حال عدمه ، وكلاهما ينفي القدرة 99

الجواب عن الوجه الثالث بتقرير كلام المحقّق الطوسي... 100

طرح إيرادات على كلام الطوسي مع الجواب عنها... 100

في عموم قدرته تعالى ... 106

ص: 557

المنكرين لعموم قدرته طوائف... 109

المسألة الثانية : في الصفة الثانية أعني علمه تعالى... 113

في تعريف العلم وأنّه من الكيفيّات النفسانيّة... 114

في أقسام العلم وبيان مراتبه... 117

في تقسيم العلم إلى الحصولي والحضوري... 120

ما قاله بعض الأعلام في أقسام علم اللّه تعالى... 121

ما قاله الشيخ المعاصر في رسالة « حياة النفس » في مبحث علم اللّه... 124

في كيفيّة علم اللّه تعالى بالنسبة إلى ذاته وما سواه... 126

الأدلّة العقليّة على ثبوت العلم لله تعالى وكيفيّة علمه... 127

الأدلّة النقليّة على ثبوت العلم لله تعالى وكيفيّة علمه... 139

بيان قول المصنّف : « والإحكام ، والتجرد واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم ... » 140

تقرير طريق المتكلّمين على ثبوت علمه تعالى بذاته وبما سواه... 142

في بيان حكمته تعالى في ترتيب هذا النظام المشاهد... 144

طريق آخر للمتكلّمين في إثبات علمه تعالى بأنّه تعالى فاعل بالقصد والاختيار... 150

تقرير طريق الحكماء على إثبات علمه تعالى بذاته وبما سواه... 152

أدلّة المنكرين لعلمه تعالى والجواب عنها ، وهم فرقتان :... 155

من ينفي علمه تعالى مطلقا باستلزام المغايرة بين العالم والمعلوم ، والجواب عنها بكفاية المغايرة الاعتباريّة 155

من ينفي علمه بغيره مع كونه عالما بذاته ، باستلزام كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات الأحديّة ، تقرير الجواب عنها برسم مقدّمة في كيفيّة العلم الحصولي والحضوري... 157

اختلاف الحكماء في علمه تعالى بالأشياء إلى خمسة مذاهب... 158

الأوّل : أنّ علمه تعالى بالأشياء إنّما هو بصور زائدة عليها ... قائمة بذاته... 158

ص: 558

الثاني : أنّ علمه تعالى بالأشياء إنّما هو بصور زائدة عليها ... قائمة بذات المعلول الأوّل 159

الثالث : أنّ تلك الصور قائمة بذواتها ... 160

الرابع : القول باتّحاده تعالى مع المعقولات ... 160

الخامس : القول بالعلم الحضوريّ الإشراقي ، وهو مختار المصنّف... 160

مختار أبي نصر الفارابي وابن سينا هو المذهب الأوّل... 167

تقرير الشيخ الرئيس لبيان كون علمه تعالى بالأشياء بصورها العقليّ... 168

في تقسيم العلم إلى ما هو حادث من وجود الشيء وعلم حادث منه وجود الشيء وأنّ علمه تعالى من قبيل الثاني 172

فيما أورده الماتن على قول الشيخ بتقرّر لوازم الأوّل في ذاته... 175

في دفع إيرادات الماتن وبيان المراد من القبول في قولهم : « الواحد لا يكون قابلا وفاعلا » ومعنى تعقّله للمعقولات 175

في دفع الوجوه الأخيرة التي أوردها المصنّف على الشيخ... 181

في بيان معنى قولهم : « وجوب وجود العناية من العلل العالية في العلل السافلة » 182

في بيان أنّ هذا العقل هو الذي سمّاه المتأخّرون العلم الإجمالي... 186

في بيان التفاوت بين المعلوم بالعلم الإجمالي البسيط ، وبين المعلوم بالعلم التفصيلي 188

في بيان معنى كونه تعالى عقلا بسيطا بالأشياء... 189

تقرير كلام المعلّم الثاني في كيفيّة علمه بذاته وبما سواه... 191

في معنى قول الفارابي والشيخ : « إنّ كثرة الصور كثرة بعد الذات » ... 193

في بيان قول الفلاسفة : « إنّه تعالى لا يعلم غيره ، وإنّه عالم بجميع الموجودات » 194

مباحث متعلّقة بالمقام... 205

المبحث الأوّل : اعتراض الإمام الرازي على ما ذهب إليه الحكماء بأنّ علوم المجرّدات بذواتهم هي نفس ذواتهم ، والجواب عنه 205

ص: 559

المبحث الثاني : اتّفاق الحكماء على أنّ المعتبر في كون الشيء معقولا تجرّده ... 206

المبحث الثالث : حقيقة العلم هي حصول مجرّد لمجرّد قائم بذاته... 207

المبحث الرابع : في بيان قول بعض من مقلّدة صاحب الإشراق : « حقيقة العلم مساوقة للحصول والوجود مطلقا ... » والردّ عليه... 208

المبحث الخامس : في أنّ النفس الناطقة تدرك بدنها الجزئي و ... بالقوّة المتخيّلة 212

المبحث السادس : في ردّ ما ذهب إليه صاحب الإشراق من نفي العلم المقدّم على الإيجادات وإبطال العناية رأسا 213

المبحث السابع : فيما ظنّه المحقّق الدواني وجماعة بأنّ نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كآن واحد ، كما أنّ نسبة جميع الأمكنة إليه كأين واحد ، والنظر فيه... 216

المبحث الثامن : في بيان امتناع حضور المادّي من حيث هو مادّي عند المجرّد... 220

المبحث التاسع : في ردّ نقض صاحب المطارحات على القائلين بالعلم الحصولي بأنّ القول بارتسام الصور في ذاته يستلزم أن يكون تعالى منفعلا عن الصورة الأولى... 222

المبحث العاشر : في كيفيّة العلم قبل الإيجاد هل أنّ ذاته تعالى علم تفصيليّ بالموجودات أو إجماليّ؟ 225

تكميل عرشيّ : في أنّ للوجود أفرادا حقيقيّة مختلفة بالشدّة والضعف متّحدة مع الماهيّات في الخارج 230

بيان المراد بالشدّة والضعف في الوجود... 230

تدقيق إلهامي : في أنّ حديث الصور وحصولها في ذاته تعالى إنّما هو لتفهيم كون ذاته تعالى علما بجميع الأشياء تفصيلا 233

في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات المادّيّة المبدعة والحادثة المتغيّرة... 235

في أقسام الصفات للأشياء وأنّ علمه تعالى بالجزئيّات لا يكون زمانيّا... 239

في الخلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين في أنّه هل يجوز التغيّر في علم اللّه بالجزئيّات بتغيّر الإضافات أم لا؟ 245

ص: 560

في أنّ الكثرة العدديّة إمّا أن تكون آحادها غير قارّة أو تكون قارّة... 246

التحقيق أنّ علمه تعالى بجميع الموجودات إنّما هو من ذاته تعالى في ذاته لا يوجب تغيّر المعلوم تغيّر هذا العلم 250

في إمكان اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين... 252

المسألة الثالثة : في أنّه تعالى حيّ... 252

في أنّ حياته تعالى عين ذاته كما في سائر صفاته الثبوتيّة... 253

المسألة الرابعة : في إرادته تعالى... 255

في معنى الإرادة... 255

في أنّ الإرادة عين ذاته تعالى... 256

في أنّ إرادة الممكن لها مراتب... 257

إقامة الدليل على ثبوت الإرادة له تعالى... 257

الفرق بين الإرادة والاختيار والمشيئة... 258

في بيان الخلاف في إرادته تعالى هل هي صفة زائدة على الذات ، أم ليست زائدة بل هي عين ذاته تعالى 258

في أنّه يمتنع القصد على الواجب تعالى وأنّ إرادته عين علمه... 259

في الفرق بين إرادة اللّه وأنّها ليس لأجل غرض ، وإرادة الإنسان وأنّها تابعة للغرض 261

في أنّ مراد محقّقي المعتزلة من كون الإرادة عين الداعي أنّ الواجب تعالى يكون فاعلا بالعناية 264

فيما ورد في بعض الروايات في حدوث الإرادة والمشيئة وأنّهما من صفات الفعل

المسألة الخامسة : في سمعه وبصره... 270

في أنّ إسناد السمع والبصر إليه تعالى مجاز... 270

في تنزيهه تعالى عن الجسميّة ومباشرة الأجسام... 271

ص: 561

المسألة السادسة : في كلامه تعالى... 273

في معنى الكلام وحقيقته... 273

عموميّة قدرته تعالى تدلّ على ثبوت الكلام... 274

فيما توهّمه الأشاعرة في معنى الكلام والمتكلّم ، والقول بأنّ القرآن قديم ومن قال بخلق القرآن مبتدع بل كافر 274

في أنّ الكلام النفسي غير معقول... 276

في أنّ الكلام اللّه تعالى على قسمين : ما هو من صفاته تعالى ، وما هو من غير صفته 277

بيان الخلاف في معنى كلامه تعالى وقدمه وحدوثه... 278

المسألة السابعة : في أنّه تعالى صادق... 280

بيان اتّفاق المسلمين على امتناع الكذب في كلام اللّه بتقرير الشارح القوشجي... 280

المسألة الثامنة : في أنّه تعالى قديم ، أزليّ ، أبديّ ، سرمديّ... 283

المطلب الثاني : في أنّ الأوصاف الثمانية الثبوتيّة عين الذات... 284

في أنّ البقاء ليس صفة زائدة... 286

في إقامة الدليل على ثبوت تلك الصفات لذاته تعالى وأنّه صاحب الصفات لا نائب الصفات 288

المطلب الثالث : في بيان أنّ الصانع الواجب بالذات منزّه عن صفات النقص... 290

الأوصاف المسمّاة بالسلبيّة راجعة إلى أوصاف سبعة... 290

في معنى الرؤية وأنّه تعالى لا يكون مرئيّا بمعنى الانكشاف الحسّي والإدراك بالبصر 292

في نفي الشريك في الوجوب... 295

في نفي المثل والتركيب والضدّ والتحيّز... 297

ص: 562

في نفي الحلول والاتّحاد... 298

في نفي الجهة وحلول الحوادث فيه... 299

في جواز اتّصافه بالسلوب والإضافات الحاصلة وبالصفات الحقيقيّة المتغيّرة... 299

في ذكر دلائل المانعين وردّها... 299

في نفي الحاجة والألم مطلقا واللذّة المزاجيّة... 303

في نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا... 304

في نفي الرؤية وبيان مذاهب المجوّزين للرؤية... 304

في ذكر أدلّة المجوّزين وردّها... 305

في ذكر أدلّة وقوع الرؤية من القرآن والجواب عنها... 314

في ذكر أدلّة وقوع الرؤية من السنّة والجواب عنها... 317

في ذكر الأدلّة العقليّة للمنكرين للرؤية... 318

في ذكر الأدلّة النقليّة للمنكرين للرؤية... 321

في بيان مذهب المصنّف في نفي الرؤية مع الإشارة إلى الدلائل... 325

المطلب الرابع : في أنّ الواجب بالذات صاحب صفات الجمال... 326

في أنّ صفات الجمال هي صفات الفعل والصفات الثبوتيّة الإضافيّة... 326

في أنّه تعالى واحد من جميع الجهات... 330

البراهين العقليّة... 331

البراهين النقليّة الواردة في الكتاب... 334

البراهين النقليّة الواردة في السنّة... 336

تذنيبان... 342

التذنيب الأوّل : في فرق الصوفيّة وإبطال آرائهم... 342

فيما يدلّ على فساد اعتقاداتهم من الأخبار المعتبرة... 345

ص: 563

التذنيب الثاني : فيما رواه الكليني في الكافي في إثبات الصانع وصفاته... 350

الفصل الثالث : في العدل

العدل هو كمال الواجب الوجود بالذات في أفعاله تعالى... 365

الكلام في هذا الفصل يقع في مقامات خمسة... 368

المقام الأوّل : في بيان أنّ اللّه تعالى عادل منفيّ عنه الظلم... 368

في أنّ الفعل الاختياري إمّا أن يكون راجح الترك ، أو لا... 369

في أنّ الفعل الصادر من اللّه تعالى لا يكون ظلما و ... بل يكون عدلا... 370

البرهان العقلي على عدم كون أفعاله ظلما... 370

البرهان النقلي... 371

وصل : العدل في مقابل الجور من أصول الدين ، ومنكره كافر... 374

المقام الثاني : في أنّ جميع أفعال اللّه تعالى حسن بالحسن العقلي... 374

في أقسام الحسن والقبح وتحرير محلّ النزاع... 375

بيان المراد من الحسن والقبح العقلي والشرعي... 379

اختلاف المتكلّمين بأنّ الحسن والقبح عقليّان أو شرعيّان... 381

في الأدلّة على إثبات الحسن والقبح العقليّين... 382

تمسّك الأشاعرة للشرعيّان بوجوه... 385

وجوه أخر للأشاعرة والجواب عنها... 387

اختلاف القائلين بالحسن والقبح العقليّين في أنّهما ذاتيّان مطلقا أو بالوجوه والاعتبارات على خمسة أقوال 389

في أنّ أفعال اللّه تعالى كلّها حسنة بالحسن العقلي... 391

اختلاف القائلين بعدم صدور القبيح عنه تعالى في أنّه قادر عليه أم لا... 392

المقام الثالث : في أنّ أفعال اللّه تعالى معلّلة بالأغراض والفائدة العائدة إلى العباد... 393

ص: 564

في احتجاج الأشاعرة على أنّه لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض ، والجواب عنه بوجهين 394

في بيان وجه حسن التكليف وكونه معلّلا بالغرض العائد إلى العباد... 397

في بيان أنّ العقل يدرك حسن التكاليف الشرعيّة بالنظر... 398

في ذكر الآيات والروايات التي تدلّ على حسن التكاليف وكونها معلّلة بالأغراض والفوائد العائدة إلى العباد 398

في الجواب عمّا ذهب إليه الأشاعرة من أنّ اللّه تعالى مريد لكلّ ما هو كائن ، حسنا كان أم قبيحا 411

المقام الرابع : في أنّه لا جبر ولا تفويض في أفعال العباد... 414

في بيان مذهب الأشاعرة بأنّ أفعال العباد ليس باختيارهم ، وبيان فساده... 415

في بيان مذهب المعتزلة بأنّ العبد مستقلّ في إيجاد فعله بلا مدخليّة إرادة الواجب فيه ، وبيان فساده 419

في بيان أنّ وقوع الفعل من العبد موقوف على مجموع الإرادتين :... 420

في أنّ التفويض يطلق على معان... 422

في بيان مذهب الثنويّة القائلين بوجود إلهين : فاعل الخير ، وفاعل الشرّ... 423

في بيان معنى القضاء والقدر وأنّ علمه تعالى لا يستلزم عدم الاختيار في العبد... 424

في إقامة الدليل على الأمر بين الأمرين بالعقل والنقل... 425

في اختلاف القائلين بالجبر والتفويض في أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرتهم ، أم هي واقعة بقدرة اللّه تعالى؟ 428

الوجوه العقليّة التي تمسّك بها الأشاعرة لقولهم بالجبر ، والجواب عنها... 429

في الدلائل السمعيّة للأشاعرة... 435

في تأويل ما استندوا إليه بما يدلّ عليه الآيات والروايات الصريحة في أنّ أفعال العباد بقدرتهم واختيارهم 437

ص: 565

في ذكر الشواهد القطعيّة العقليّة على وفق مدّعانا... 440

في بيان قول المعتزلة في أفعال العبد بالتوليد... 442

في بيان القول الصحيح في القضاء والقدر... 443

في أنّ الإضلال والإهلاك منتفيان عنه تعالى... 445

في أنّ تعذيب غير المكلّف منه تعالى قبيح... 446

في أنّ التكليف لاشتماله على مصلحة حسن... 446

في بيان حسن التكليف على طريقة حكماء الإسلام... 448

في أنّ التكليف واجب... 449

في بيان شرائط حسن التكليف... 450

المقام الخامس : في أنّ أفعال اللّه تعالى مترتّبة على اللطف الواجب عليه... 452

في بيان أنّ اللطف متمّم للغرض فيجب ، وتركه نقض للغرض فقبيح... 452

في أنّ المصلحة هل يجب أن تكون على أتمّ الوجوه ، أم لا؟... 453

في إقامة الدليل على أنّ اللطف متمّم للغرض اللازم... 455

في إقامة الدليل على أنّ أفعال اللّه تعالى تكون على وجه الأصلح... 456

في الأجوبة عن اعتراضات الأشاعرة على وجوب اللطف على اللّه تعالى... 457

في شرائط وجوب اللطف... 458

في بيان حسن الألم وقبحه وبيان مواردهما مع الأحكام... 460

في بيان الوجوه التي يستحقّ بها العوض على اللّه تعالى بإنزال الآلام... 462

فيما يجب أو لا يجب على اللّه تعالى بإنزال الآلام... 463

فيما ذهب إليه المعتزلة من أنّه يجب على اللّه تعالى ما هو أصلح بعباده... 468

تذنيب : فيه فوائد... 469

الفائدة الأولى : ما يتعلّق بحدوث العالم وبدء خلقه وكيفيّته... 469

بيان : في تفسير الآية الشريفة « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ... » وما ورد من الأخبار في كيفيّة خلق السماوات والأرضين... 471

ص: 566

الفائدة الثانية : في ذكر نبذ من الدلائل العقليّة الدالّة على حدوث العالم... 476

الأوّل : برهان التطبيق ، وله تقريرات ثلاث... 476

الثاني : برهان التضايف... 480

الثالث : المسمّى ببرهان العدد والمعدود... 481

الرابع : ما أورده الكراجكي في الكنز... 486

في بطلان ما ادّعوه من التسلسل في الأمور المتعاقبة... 487

الفائدة الثالثة : فيما يتعلّق بأحوال العالم العلوي... 492

الفصل الأوّل : فيما يتعلّق باللوح والقلم... 492

الفصل الثاني : في العرش والكرسي... 494

الفصل الثالث : في الحجب والأستار والسرادقات... 496

الفصل الرابع : في سدرة المنتهى والبيت المعمور... 498

الفصل الخامس : فيما يتعلّق بالأفلاك من السماء وما فيها... 499

الفصل السادس : في علم النجوم والعمل به وحال المنجّمين... 502

الفصل السابع : في حقيقة الملائكة وصفاتهم و... 504

الفائدة الرابعة : في البسائط والعناصر... 509

المقدّمة : في اختلاف القدماء في العناصر... 509

فصل : في النار... 511

فصل : في الهواء... 512

تبصرة : في عدد طبقات الهواء... 513

فصل : في الصبح والشفق... 514

فصل : في السحاب والمطر والشهاب و... 516

تتميم : في البخار المتصاعد من الأرض... 518

في تحقيق ألوان القوس... 519

ص: 567

فصل : في الرياح وأسبابها وأنواعها... 521

الأمر الأوّل : في الأخبار الواردة... 521

الأمر الثاني : في سبب الرياح وحدّها... 522

الأمر الثالث : في أقسام الرياح... 523

فصل : في الماء... 523

فصل : في الأرض ، وفيه مطالب :... 525

المطلب الأوّل : في الأخبار الواردة... 525

المطلب الثاني : في كرويّة الأرض وما ضاهاها... 526

المطلب الثالث : في علّة حدوث الزلزلة... 527

المطلب الرابع : في قسمة المعمور من الأرض بالأقاليم السبعة... 529

المطلب الخامس : في الممدوح من البلدان والمذموم منها... 534

الفائدة الخامسة : في المواليد الثلاثة... 537

الفصل الأوّل : في المعادن... 537

الفصل الثاني : في النباتات... 538

الفصل الثالث : في الحيوانات... 540

الفصل الرابع : في الإنسان... 548

الفصل الخامس : في الجنّ... 549

الأمر الأوّل : في ماهيّة الجنّ... 550

الأمر الثاني : في وجود الجنّ... 550

الأمر الثالث : في بيان أنّ الجنّ مخلوق من النار... 551

الأمر الرابع : في أنّ الجنّ يأكلون ويشربون... 551

الأمر الخامس : في أنّ الجنّ مختارون ولا يعلمون الغيب... 552

ص: 568

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.