البراهين القاطعة المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: محمّد جعفر الأسترآبادي

المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية

الناشر: مؤسسة بوستان كتاب

المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي

الطبعة: 0

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1424 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-371-377-6

المكتبة الإسلامية

آثار مركز مطالعات وتحقيقات اسلامی 182

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

لمحمد جعفر الأسترآبادي المعروف ب«شريعتمدار»

الجزءالأوّل

مركزالأبحاث والدراسات الإسلامية

قسم إحياء التراث الإسلامي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

دليل الكتاب

تصدير... 7

مقدّمة التحقيق... 9

التمهيد... 11

المبحث الأوّل : حول الطوسي ومتن التجريد... 13

المبحث الثاني : حول الأسترآبادي و « البراهين القاطعة »... 23

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

المقصد الأوّل : في الأمور العامّة... 77

الفصل الأوّل : في الوجود والعدم... 81

الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها... 183

الفصل الثالث : في العلّة والمعلول... 227

المقصد الثاني : في الجواهر والأعراض... 259

الفصل الأوّل : في الجواهر... 261

الفصل الثاني : في الأجسام... 293

الفصل الثالث : في بقيّة أحكام الأجسام... 319

الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة... 333

الفصل الخامس : في الأعراض... 377

ص: 5

ص: 6

بسم اللّه الرحمن الرحيم

تصدير

الحمد لله والحمد حقّه كما يستحقّه حمدا كثيرا ، وصلاته على نبيّه المصطفى ورسوله المجتبى محمّد ، وعلى آله الهداة الميامين وصحبه المنتجبين.

وبعد فإنّ الفكر الكلامي - الذي هو ثمرة لجهود ثلّة من العلماء - يمثّل أعظم ثروة تشهد بعظمة هؤلاء العلماء ، الذين دافعوا عن العقيدة بأقلامهم ، ودحضوا شبه المبطلين والمغرضين.

وقد كثرت الدعوات لإنشاء علم كلام في أسلوب حديث يتناغم وظروف العصر الحاضر ويكشف الحقيقة ويدفع الشبهات عن العقيدة الإسلامية ، الأمر الذي تشتدّ معه حاجة الباحثين إلى أن يتّجهوا صوب الذخائر الإسلامية « المخطوطات » ليستمدّوا منها ما يحقّق انطلاقتهم المباركة في هذا المجال.

وهذه الموسوعة الكلاميّة في شرح تجريد العقائد تمثّل كنزا من كنوز تراثنا الخالد ، وإخراجها وجعلها بين أيدي العلماء والباحثين يفتح آفاقا رحبة للبحث العلمي ، ويملأ فراغا في المكتبة الكلاميّة.

كلمة شكر وثناء :

وختاما فإنّنا نقدّم جزيل الشكر وجميل الثناء لكافّة الإخوة الأفاضل الذين ساهموا في تحقيق وإخراج هذا الكتاب ، ونخصّ بالذكر :

1. الإخوة الأفاضل : السيّد حسين بني هاشمي ، والسيّد خليل العابديني ، وطه نجفي ،

ص: 7

وحسان فرادى ، وإسماعيل بيك المندلاوي ، والشيخ محمّد ربّاني ، والشيخ ولي قرباني والأخ جواد فاضل بخشايشي على مقابلتهم النسخ الخطّية وتخريج مصادر الكتاب.

2. فضيلة الشيخ محمّد حسين مولوي الذي تصدّى لمسئوليّة تحقيق الكتاب وتقويم نصّ بعض المجلّدات وكتابة مقدّمة التحقيق.

وكذا فضيلة الشيخ غلامرضا نقي ، والشيخ غلام حسين قيصري ها اللذين ساهما في تقويم نصّ الكتاب.

3. الاستاذ الأديب أسعد الطيّب ، والشيخ نعمت اللّه جليلي ، والشيخ محمّد باقري ، والسيّد عبد الرسول حامدي ، والشيخ علي أوسط ناطقي ، الذين قاموا بمراجعة الكتاب علميّا وأدبيّا وفنّيا.

4. الإخوة في مركز النشر ونخصّ بالذكر الشيخ عبد الهادي أشرفي والأخ رمضان علي قرباني والأخ عبد الوهاب درواژ.

اللّهمّ تباركت أن توصف إلاّ بالإحسان ، وكرمت أن يخاف منك إلاّ العدل ، صلّ على محمّد سيّدنا ونبيّنا وعلى الهداة الطاهرين من آله والمنتجبين من صحبه ، إنّك أنت المنّان.

قسم إحياء التراث الإسلامي

مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية

ص: 8

مقدّمة التحقيق

اشارة

وفيها تمهيد ومبحثان :

الأوّل : حول الطوسي ومتن التجريد

الثاني : حول الأسترآبادي و « البراهين القاطعة »

ص: 9

ص: 10

التمهيد

اشارة

إنّ علم الكلام من العلوم الإسلاميّة التي يبحث فيها عن العقيدة الإسلاميّة وما ينبغي الاعتقاد به والاستدلال على ذلك والدفاع عنه.

وقد صنّفت التعاليم الإسلامية إلى أصناف ثلاثة :

1. الأحكام ، وهي أمور تتعلّق بالأفعال وترتبط بعمل الإنسان ، ومن خلالها يعرف كيف يؤدّي الواجبات المناطة به من الناحية الشرعية ، كالصلاة والصوم والحجّ والجهاد والبيع والزواج ... والعلم الذي يعنى بذلك هو « علم الفقه ».

2. الأخلاق ، وهي عبارة عن الصفات الروحية التي ينبغي أن يتّصف بها المسلم ، كالصدق والاستقامة والأمانة والإخلاص والورع ... والعلم الذي يبحث في ذلك يسمّى ب- « علم الأخلاق ».

3. العقائد ، وهي عبارة عن أمور يجب معرفتها والإيمان بها ، مثل التوحيد والعدل وصفات اللّه تعالى والنبوّة والإمامة ... وهي التي يعبّر عنها ب- « أصول الدين ».

والعلم الذي يبحث في ذلك يسمّى ب- « علم أصول الدين » أو « علم الكلام ».

وبما أنّ هذا العلم يتولّى مهمّة الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، لذلك أولاه علماء المسلمين أهمّية خاصّة ، وكتبوا وصنّفوا كثيرا في هذا المجال ؛ فللعقيدة دور كبير في تحديد مسيرة الفرد والمجتمع ، وهي التي توصلهم إلى السعادة أو الشقاء.

والمصنّفات الكلامية كثيرة جدّا ، والمكتبة الإسلامية زاخرة بها عبر العصور الإسلامية المتتالية ، ولا زالت المنهل الذي ينتهل منه الباحثون والمحقّقون ، وكفانا فخرا أنّنا نمتلك هذا التراث الضخم الذي يدلّ على جلالة قدر أسلافنا ودورهم المتميّز في إثراء الفكر الإنساني.

أمّا من يدّعي الحداثة والتجديد ويذمّ كلّ قديم لمجرّد قدمه فهو ليس على صواب ؛ لأنّ

ص: 11

من لا قديم له لا جديد له وأنّ أيّ أمّة تنكّرت لماضيها فليس لها حاضر ولا مستقبل ، ويكفينا ما حصل لأمّتنا الإسلامية عند ما تخلّت عن ذلك الماضي المشرق الذي بناه أسلافنا بجهودهم وتضحياتهم ، فصرنا نقتات على موائد غيرنا ونستورد أفكارهم.

إنّ التطوّر العلمي الهائل الذي وصلت إليه أوربّا إنّما كان بفضل علماء المسلمين ومفكّريهم ، فقد قام علماؤهم وكتّابهم بالاهتمام بآثارنا وتدوين تراثنا ، فالذي يراجع فهارس المكتبات العامّة في أوربّا يجد أسماء لامعة لشخصيّات شرقية من قبيل ابن سينا والكندي ونصير الدين الطوسي والفخر الرازي والعلاّمة الحلّي والغزالي وغيرهم.

ولم يكتف الأوربيّون بجمع مخطوطاتنا ، بل عملوا على تحقيق بعضها وطباعتها طباعة حديثة سهّلت على باحثيهم الاستزادة من أغنى وأغلى الأفكار الإنسانية.

إنّ الحضارة الإسلامية التي برزت إلى الوجود منذ أربعة عشر قرنا كانت حضارة العلم والعقل والتفكير ولم تكن حضارة الحروب. وإنّ تلك المدنيّة التي انتشرت في معظم أرجاء العالم ووصلت إلى أقصى الصين شرقا وأقصى أوربّا غربا لم تكن مدنيّة السيف والرمح أو السلاح النووي ، بل كانت مدنيّة القلم والقرطاس والكتاب والدرس والبحث عن الحقيقة.

لذا أرى لزاما علينا أن نعمل جاهدين على إحياء آثار أسلافنا والإشادة بفضلهم ، ونشر كتبهم وشرحها وتحليل مضامينها ؛ فإنّ الفضل في الحياة العقلية المعاصرة يعود إليهم.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وكتاب « البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة » هو لواحد من أولئك الأعلام ، الذين عاشوا في القرن الثالث عشر ، وهو المولى محمّد جعفر بن سيف الدين الأسترآبادي.

ويضمّ هذا الكتاب أربعة أجزاء ، والذي بين يدي القارئ العزيز هو الجزء الأوّل منه ، على أمل أن يتمّ إكمال تحقيق الأجزاء الباقية بعونه تعالى.

وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب.

ص: 12

المبحث الأوّل : حول الطوسي ومتن التجريد

ميلاده

ولد أبو جعفر محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسي ، المعروف ب- « المحقّق الطوسي » في مدينة طوس ، واختلف في سنة ولادته ، والأغلب - كما في أعيان الشيعة (1) - على أنّه ولد سنة 597 ، وتوفّي ببغداد في يوم الغدير سنة 672 ، ودفن في مدينة الكاظمين علیهماالسلام .

والده

هو محمّد بن الحسن ، الذي يعدّ من الفقهاء والمحدّثين ، حيث تربّى أبو جعفر في حجره ونشأ على يديه.

قالوا عنه :

« وكان هذا الشيخ أفضل أهل زمانه في العلوم العقليّة والنقليّة » (2).

« كان رأسا في علم الأوائل لا سيّما في الأرصاد والمجسطي » (3).

« هو أستاذ البشر والعقل الحادي عشر » (4).

« حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة ، كان يقوّي آراء المتقدّمين ويحلّ شكوك

ص: 13


1- « أعيان الشيعة » 9 : 414.
2- انظر : « الأسرار الخفيّة في العلوم العقلية » : 20 ، هامش 2.
3- « الوافي بالوفيات » 1 : 179.
4- ذكره في « أعيان الشيعة » 9 : 415 ونسبه إلى العلاّمة الحلّي قدس سره .

المتأخّرين والمؤاخذات التي وردت في مصنّفاتهم » (1).

« المولى الأعظم والحبر المعظّم ، قدوة العلماء الراسخين ، أسوة الحكماء المتألّهين ، نصير الحقّ والدين محمّد بن محمّد الطوسي قدّس اللّه نفسه وروّح رمسه » (2).

دراسته

درس علوم اللغة في صغره ، ثمّ علوم القرآن الكريم ، وأمره والده بعد ذلك بدراسة الرياضيات على كمال الدين الحاسب ، ثمّ درس على والده الحديث والأخبار والفقه ، ودرس المنطق والحكمة على خاله ، وقد أتقن العلوم الرياضيّة وهو ما زال في عنفوان شبابه.

انتقل بعد وفاة والده إلى نيسابور - التي كانت من الحواضر العلمية آنذاك - فلقي فيها سراج الدين القمري وقطب الدين السرخسي وفريد الدين الداماد وأبا السعادات الأصفهاني وفريد الدين العطّار ، وفي نيسابور تفجّرت طاقته وظهرت قدرته على الإبداع وبان نبوغه وتفوّقه ، فكان ممّن يشار إليه بالبنان.

الطوسي والإسماعيليّين

كان زحف المغول مقترنا بوجود المحقّق الطوسي في نيسابور حيث اجتاح جنكيز خان بلاد خراسان وهرب السلطان محمّد خوارزم شاه ، وهرب الناس وتوزّعوا على الفلوات والمدن الآمنة والقلاع ، وبقيت القوّة الوحيدة متمثّلة بالإسماعيليّين الذين تحصّنوا بقلاعهم (3). وخلال هذه المحنة لم يدر الطوسي أين يولّي وجهه ، فكان والي الإسماعيليّين - ناصر الدين - قد ولي بلدة قهستان ، وكان ذا فضل وعلم ومهتمّا بالعلماء ، وقد تناهت إليه أخبار الطوسي ومكانته العلميّة وشيوع صيته في الآفاق ، فدعاه إلى قهستان ، وهناك ترجم كتابا لأبي عليّ مسكويه الرازي وزاد عليه مطالب جديدة وسمّاه « أخلاق ناصري » تكريما

ص: 14


1- « مختصر الدول » لابن عبري ، نقلا عن « أعيان الشيعة » 9 : 414.
2- القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 2.
3- وأشهر هذه القلاع القلعة المسمّاة ب- « ألموت ». وهي كلمة فارسية مكوّنة من مقطعين : أله + موت ، وتعني وكر العقبان.

لناصر الدين.

ولمّا سمع علاء الدين محمّد زعيم الإسماعيليّين بنزول الطوسي على واليه ناصر الدين طلبه ، فأجاب المحقّق الطوسي دعوته ، واستقبله الزعيم الإسماعيلي استقبالا حافلا بالتكريم والحفاوة.

بقي الطوسي مع ركن الدين بعد وفاة والده علاء الدين في قلعة ألموت إلى أن استسلم الإسماعيليون للمغول ، حيث سار علاء الدين بصحبة أولاده ونصير الدين الطوسي والوزير مؤيّد الدين والطبيبان ، وقتل هولاكو علاء الدين ومن معه إلاّ الطوسي والطبيبين (1).

الطوسي والمغول

لمّا صار الطوسي تحت قبضة هولاكو فكّر في أن يعمل شيئا ، فعزم على أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من التراث العلمي وأهل العلم ، فاستطاع بحنكته أن يحوّل هؤلاء المتوحّشين - الذين قصدوا إشاعة الدمار والخراب في البلدان الإسلامية - إلى أناس يعتنقون الإسلام ويدعون له.

يقول الدكتور علي أكبر فيّاض :

« وكانت النهضة الإسماعيليّة في قمّة نشاطها في ذلك العصر ، وكانت لهم مشاركة تامّة في دراسة الفلسفة والنهوض بها ؛ للاستفادة منها في تقرير أصولهم وإثبات دعاويهم ، وقد أسّسوا لهم في قلعة ألموت في جبال قزوين مكتبة عظيمة بادت على أيدي المغول. وكان يعيش في رعاية الإسماعيليّين رجل يعدّ من أكبر المشتغلين بالعلوم العقلية بعد ابن سينا ، ألا وهو نصير الدين الطوسي ، قدّر لهذا الرجل العظيم أن يقوم بإنقاذ التراث الإسلامي من أيدي المغول ... لقد فرض إليه هولاكو أمر أوقاف البلاد فقام بضبطها وصرفها على إقامة المدارس والمعاهد العلمية ، وجمع العلماء والحكماء وتعاون معهم في إقامة رصد كبير في مراغة بآذربيجان ومكتبة بجانبه يقال : إنّها كانت تحوي 400 ألف من المجلّدات » (2).

ص: 15


1- انظر « أعيان الشيعة » 9 : 416 - 418 والطبيبان هما : موفّق الدولة ، ورئيس الدولة.
2- « محاضرات عن الأدب الفارسي والمدنيّة الإسلامية » نقلا عن « أعيان الشيعة » 9 : 416.
الطوسي والعلم والعلماء

إنّ الذي كان يشغل بال المحقّق الطوسي إبّان عصر المغول هو أنّه كيف ينقذ العلماء من محنتهم ، وكيف يحفظ التراث الضخم من أيدي المغول. فلم يكن بمقدور الطوسي وغيره مواجهة الطغاة بقوّة السلاح ، بل لا بدّ من وضع خطّة ذكيّة لاستيعاب الموقف وكسر شوكة المغول أو تحييدهم أو أسلمتهم.

فبعد أن اطمأنّ هولاكو للمحقّق الطوسي وكبر في عينه حاول الطوسي إقناعه بإقامة مرصد فلكي في مراغة قائلا له : « إنّ القائد المنتصر يجب أن لا يقنع بالتخريب فقط » فأدرك المغولي المغزى ، وخوّله بناء مرصد عظيم على تلّ شمالي « مراغة » وتمّ هذا العمل في 12 سنة ... وقد أظهر خطأ أربعين دقيقة في موضع الشمس في أوّل السنة على حساب الأزياج السابقة ، وجمع مكتبة عظيمة ضمّ إليها ما نهب من الكتب في بغداد.

وهكذا تسنّى للمحقّق نصير الدين أن يؤسّس أكبر جامعة علمية في مراغة ، استقطب فيها العلماء والحكماء ، الذين توافدوا على مراغة من كلّ أصقاع العالم. يقول محمّد مدرّسي زنجاني في كتابه « سرگذشت وعقائد فلسفى خواجه نصير الدين طوسى » :

« فضلا عن مقام الطوسي العلمي استطاع بتأثيره على مزاج هولاكو أن يستحوذ تدريجيّا على عقله ، وأن يروّض شارب الدماء فيوجّهه إلى إصلاح الأمور الاجتماعية والثقافية والفنّية ، فأدّى الأمر إلى أن يوفد هولاكو فخر الدين لقمان بن عبد اللّه المراغي إلى البلاد العربية وغيرها ، ليحثّ العلماء الذين فرّوا بأنفسهم من الحملة المغولية فلجئوا إلى أربل والموصل والجزيرة والشام ، ويشوّقهم إلى العودة ، وأن يدعو علماء تلك البلاد - أيضا - إلى الإقامة في مراغة » (1).

وكان فخر الدين حسن التدبير كيّسا ، فاستطاع أن يؤدّي مهمّته على أحسن وجه.

وقد استجاب للطوسي علماء البلاد العربية وغيرها ، فرحلوا إلى مراغة ، واجتمع هناك علماء من دمشق والموصل وقزوين وتفليس وغيرها.

ص: 16


1- انظر : « أعيان الشيعة » 9 : 417.
الطوسي في الميزان

غالبا ما يصنّف العلماء تبعا لاختصاصاتهم ، فيقال : هذا عالم فقه وهذا عالم كيمياء وهذا عالم أخلاق ، إلاّ أنّ المحقّق نصير الدين الطوسي قد تعدّدت مشاربه وأخذ من كلّ علوم عصره ، فهو وإن كان مشهورا في مجال الحكمة والكلام ، إلاّ أنّ له باعا طويلة في مختلف الاختصاصات ، فهو الرياضي والفلكي والفقيه والعالم الأخلاقي ، فقد مدحه أحد مساعديه في مرصد مراغة ، وهو العالم الدمشقي مؤيّد الدين العرضي بقوله :

« وكذلك (1) كلّه بإشارة مولانا المعظّم والإمام الأعظم ، العالم الفاضل المحقّق الكامل ، قدوة العلماء وسيّد الحكماء ، أفضل علماء الإسلاميّين بل المتقدّمين ، وهو من جمع اللّه سبحانه فيه ما تفرّق في كافّة أهل زماننا من الفضائل والمناقب الحميدة ، وحسن السيرة ، وغزارة الحلم ، وجزالة الرأي ، وجودة البديهة ، والإحاطة بسائر العلوم ، فجمع العلماء إليه وضمّ شملهم بوافر عطائه ، وكان بهم أرأف من الوالد على ولده ، فكنّا في ظلّه آمنين وبرؤيته فرحين كما قيل :

نميل على جوانبه كأنّا *** نميل إذا نميل على أبينا

ونغضبه لنخبر حالتيه *** فنلقى منهما كرما ولينا

وهو المولى نصير الملّة والدين محمّد بن محمّد الطوسي أدام اللّه أيّامه » (2).

ونقل عنه ما يدلّ على كمال عقله وسعة حلمه ، وهو أنّه أرسلت إليه ورقة من شخص ضمّنها كلاما بذيئا قال فيه للطوسي : « يا كلب يا ابن الكلب » فكان جواب الطوسي له : وأمّا قوله : كلبا ، فليس بصحيح ؛ لأنّ الكلب من ذوات الأربع ، وهو نابح طويل الأظفار ، وأمّا أنا فمنتصب القامة ، بادي البشرة ، عريض الأظفار ، وناطق ضاحك. فهذه الفصول والخواصّ غير تلك الفصول والخواصّ. وأطال في نقض ما ذكره كاتب الرسالة ، ولم تصدر منه كلمة بذيئة قطّ.

وذكر عنه تلميذه العلاّمة الحلّي في إجازته لبني زهرة أنّه « ... كان أشرف من شاهدناه

ص: 17


1- كذا في « أعيان الشيعة » ولعلّ الصحيح : « وكان ذلك كلّه … ».
2- « رسالة شرح آلات مرصد مراغة وأدواته » نقلا عن « أعيان الشيعة » 9 : 417.

في الأخلاق » (1).

وقال عنه الصفدي : « وكان حسن الصورة ، سمحا كريما جوادا حليما ، حسن العشرة ، غزير الفضائل ، جليل القدر ، داهية » (2).

آثاره

شملت آثار المحقّق نصير الدين معظم علوم عصره ومعارفه ، كالرياضيات والهيئة والطبّ والمنطق والفلسفة والأخلاق والفقه وغيرها ، ولست بصدد الخوض في ذلك ، فقد كفانا السيّد محمّد جواد الجلالي هذه المهمّة حيث قام بتصنيف مؤلّفات الطوسي حسب العلوم التالية :

1 - العلوم العقلية كالفلسفة والكلام والمنطق والسياسة والأخلاق.

2 - العلوم الصرفة كالهندسة والرياضيات والجبر والمثلّثات والفيزياء.

3 - العلوم الدينيّة كالفقه والتفسير والعقيدة والأدعية والأذكار.

4 - العلوم الفلكية كالفلك والرصد والتقويم والاسطرلاب والجفر والرمل.

5 - العلوم الإنسانية كالتاريخ والجغرافيا والشعر والموسيقى والتربية والتعليم.

6 - العلوم الطبيعية الأخرى كالطبّ والجواهر.

وهذا التصنيف يعتبر أفضل من الترتيب الألفبائي ، ويسهّل على الباحث الوصول إلى ما يبتغيه.

ومن أراد الاطّلاع على تفصيلات آثار المحقّق الطوسي فليراجع مقدّمة « تجريد العقائد » (3).

حول التجريد وشروحه

أشار المحقّق نصير الدين في أوائل هذا الكتاب إلى أهمّيته ومنهجيّته في البحث مع ذكر

ص: 18


1- « بحار الأنوار » 104 : 62.
2- « الوافي بالوفيات » 1 : 179.
3- « تجريد العقائد » : 36 - 68 ، مقدّمة التحقيق.

السبب الذي دعاه إلى تصنيفه فقال : « أمّا بعد حمد واجب الوجود - إلى - فإنّي مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام وترتيبها على أبلغ نظام ، مشيرا إلى غرر فرائد الاعتقاد ونكت مسائل الاجتهاد ، ممّا قادني الدليل إليه وقوي اعتقادي عليه ، وسمّيته تجريد العقائد ».

وهذا الكتاب ممّا تناقلته الأيدي واعتنى به رجالات الفكر الكلامي وناقشوا فيه بين قبول وردّ ، ولا زال يعتبر من أمّهات الكتب الكلاميّة رغم وجازته.

ولتجريد العقائد شروح كثيرة وحواش على تلك الشروح :

فأوّل شروحه هو « كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد » الذي هو شرح لتلميذه العلاّمة الحلّي ، ويعتبر من أكمل الشروح وأوفاها.

والشرح الثاني الموسوم ب- « تشييد القواعد » لشمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني المتوفّى سنة ستّ وأربعين وسبعمائة ، ويعرف ب- « الشرح القديم ». وعليه حاشية للسيّد الشريف الجرجاني المتوفّى سنة ستّ عشرة وثمانمائة ، واشتهر هذا الكتاب بين علماء الروم ب- « حاشية التجريد » والتزموا تدريسه.

وقد كثرت الحواشي على « حاشية الجرجاني » فمن تلك الحواشي حاشية محيي الدين محمّد بن حسن السامسوني المتوفّى سنة 919 ، وحاشية شجاع الدين إلياس الرومي المتوفّى سنة 929 ، وحاشية سنان الدين يوسف المعروف ب- « عجم سنان » المتوفّى مفتيا في « أماسيا ». إلى عشرات الحواشي الأخر.

والشرح الثالث هو للمولى علاء الدين عليّ بن محمّد المشهور ب- « القوشجي » المتوفّى سنة 679 ، وهو شرح مزجيّ لخّص فيه فوائد القدماء على أحسن وجه ، وأضاف إليها ما توصّل إليه هو ، كتبه بكرمان وأهداه إلى السلطان أبي سعيد خان.

وقد اشتهر هذا الشرح ب- « الشرح الجديد » وفي هذا الشرح امتدح القوشجي في مقدّمته - بعد مدح المصنّف الطوسي - كتاب « تجريد الاعتقاد » بقوله : « تصنيف مخزون بالعجائب ، وتأليف مشحون بالغرائب ، فهو وإن كان صغير الحجم ، وجيز النظم ، فهو كثير العلم ، جليل الشأن حسن النظام ، مقبول الأئمّة العظام ، لم يظفر بمثله علماء الأعصار ، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأمّهات ، مملوء بجواهر كلّها كالفصوص ، متضمّن لبيانات معجزة في عبارات موجزة.

ص: 19

يفجر ينبوع السلاسة من لفظه *** ولكن معانيه لها السحر يسجد

فهو في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار ، تداولته أيدي النظّار ، ثمّ إنّ كثيرا من الفضلاء وجّهوا نظرهم إلى شرح هذا الكتاب » (1).

وقد كثرت الحواشي - أيضا - على هذا الشرح ، وأهمّها « الحاشية الجلالية » القديمة ، نسبة إلى الفاضل جلال الدين محمّد بن أسعد الدواني المتوفّى سنة 907.

ثمّ كتب المولى صدر الدين محمّد الشيرازي المتوفّى سنة 930 حاشيته على الشرح الجديد وأهداها إلى السلطان بايزيدخان ، وفيها اعتراضات على حاشية جلال الدين الدواني ، وظلّت المعركة الكلامية سجالا بين الدواني والصدر ، فكلّما كتب أحدهم شيئا ردّ عليه الآخر ، وكان آخر الردود لغياث الدين الحسيني ابن السيّد الصدر ، حيث صدّر خطبته بالتعريض والنيل من جلال الدين الدواني قال : « ربّ يسّر وتمّم ، قد كشف جمالك على الأعالي كنه حقائق المعالي ، وحجب جلالك الدواني عن فهم دقائق المعاني ، فأسألك التجريد من أغشية الجلال بالشوق إلى مطالعة الجمال » إلى آخر ما قال ، وسمّى ذلك الكتاب ب- « تجريد الغواشي ».

وهناك حواشي كثيرة على الشرح القديم والحاشية القديمة ، مثل حاشية المحقّق ميرزا جان حبيب اللّه الشيرازي المتوفّى سنة 994 ، وحاشية فخر الدين محمّد بن الحسن الحسيني الأسترآبادي ، وحاشية المدقّق عبد اللّه النخجواني ، وحاشية المحقّق حسن جلبي ابن الفناري المتوفّى سنة 886 ، وحاشية العلاّمة شمس الدين الخفري.

ومن شروح التجريد الأخرى : شرح أبي عمرو أحمد بن محمّد المصري المتوفّى سنة 757 سمّاه « المفيد » ، وشرح العلاّمة محمّد بن محمود البابرتي المتوفّى سنة 786 وشرح الفاضل خضر شاه بن عبد اللطيف المنتشوي المتوفّى سنة 853 ، وشرح قوام الدين يوسف بن حسن المعروف ب- « قاضي بغداد » المتوفّى سنة 922 ، ومنها « تسديد النقائد في شرح تجريد العقائد » الذي ذكر الأصل ثمّ الشرح وميّز لفظ الأصل والشرح بالمداد الأحمر.

إلى غير ذلك من الشروح والحواشي المذكورة في كتب التراجم (2).

ص: 20


1- « شرح تجريد الاعتقاد » للقوشجي : 2.
2- راجع « كشف الظنون » 1 : 346 - 351 ؛ و « الذريعة » 6 : 113 - 119 و 13 : 138 - 140.
وقفة مع متن التجريد :

حاولنا - بقدر الإمكان - أن نضبط متن التجريد ، وحيث لم يتسنّ لنا مراجعة النسخ الخطيّة ، ولا يترك الميسور بالمعسور ، فقد قابلنا متن التجريد الذي أورده الأسترآبادي في « البراهين القاطعة » مع كتاب « تجريد الاعتقاد » بتحقيق السيّد محمّد جواد الحسيني الجلالي ، وكذا مع « كشف المراد » بتحقيق آية اللّه حسن حسن زاده الآملي ، وكانت هناك بعض الاختلافات اليسيرة التي لم نعتن بها ، ولكنّا أشرنا إلى بعض الموارد الضرورية وأثبتناها في الهوامش.

فمثلا أورد الأسترآبادي عبارة في متن التجريد لم نعثر عليها في « كشف المراد » (1) و « تجريد الاعتقاد » (2) حيث وردت في كلا الكتابين هكذا : « والتشخّص يغاير الوحدة » لكنّها في « البراهين القاطعة » (3) جاءت العبارة هكذا : « والتشخّص يغاير الوحدة التي هي عبارة عن عدم الانقسام ».

وهذا الأمر يكشف عن مغايرة نسخة الأسترآبادي للنسخ المعتمدة في الكتابين المذكورين. وقد أشير في هامش « تجريد الاعتقاد » إلى وجود هذه العبارة في بعض النسخ.

ونقل الأسترآبادي في موضع آخر (4) عبارة التجريد هكذا : « هذا في القضايا الشخصيّة ، أمّا المحصورة فبشرط تاسع ... » وعند مراجعتنا ل- « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » لم نجد قوله : « هذا في القضايا الشخصيّة ».

وأيضا نقل قوله : « والتناهي بحسب المدّة ... يصدق التناهي وعدمه الخاصّ على المؤثّر بالنظر إلى آثاره » (5) حيث سقطت عبارة « بالنظر إلى آثاره » من كلا الكتابين المذكورين.

ورغم وجود هذا التوافق بين كتابي « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » إلاّ أنّنا نجده أيضا بين « البراهين القاطعة » و « كشف المراد » ففي مبحث الأعراض - والكلام عن الحياة

ص: 21


1- « كشف المراد » : 99.
2- « تجريد الاعتقاد » : 126.
3- « البراهين القاطعة » 1 : 140.
4- نفس المصدر : 155.
5- نفس المصدر : 178.

- لم ترد عبارة « وتفتقر إلى الروح » (1) - التي جاء بعدها « وتقابل الموت تقابل العدم والملكة » - في « تجريد الاعتقاد » ووردت في « كشف المراد » (2).

وفي موضع آخر نقل الأسترآبادي عبارة الماتن بقوله : « فطبيعيّ الحركة إنّما يحصل عند مقارنة أمر غير طبيعي » وسقطت كلمة « غير » من متن « تجريد الاعتقاد » (3) لكنّها طابقت عبارة « كشف المراد » (4).

ص: 22


1- « تجريد الاعتقاد » : 177.
2- « كشف المراد » : 254.
3- « تجريد الاعتقاد » : 185.
4- « كشف المراد » : 272.

المبحث الثاني : حول الأسترآبادي و « البراهين القاطعة »

نبذة عن عصر المؤلّف

امتاز القرن الثالث عشر الهجري بنشوء عدد من التيّارات الفكرية عند الشيعة ، ففي منتصف هذا القرن تجدّد خلاف شديد بين الأصوليّين والأخباريّين وكان منطلقه من العراق وتحديدا في مدينة كربلاء ، التي كان فيها شخصيتان يتزعّم كلّ منهما اتجاها فكريّا ، فكان الشيخ محمّد باقر البهبهاني المعروف بالوحيد يتزعّم فريق الأصوليّين ، والشيخ يوسف البحراني يتزعّم فريق الأخباريّين.

وأهمّ موارد النزاع بين الفريقين هو أنّ الأخباريّين أسقطوا دليل الإجماع والعقل من الأدلّة الأربعة واقتصروا على الكتاب والأخبار معتبرين الدليل العقلي عملا بالرأي وقياسا. كما أنّهم يرون أنّ ما في الكتب الأربعة - التي يستند إليها الشيعة - قطعيّ السند وموثوق بصدوره عن المعصوم نبيّا كان أو إماما.

وعلى عكس ذلك قسّم الأصوليون الأخبار إلى الأقسام الأربعة ، ويرون أنّ أغلبها غير قطعي السند ولا يجوز العمل بكلّ الأخبار والحكم بصحّتها. وكان بداية ظهور الأخباريّين في مطلع القرن الحادي عشر للهجرة على يد المحقّق محمّد أمين الأسترآبادي صاحب « الفوائد المدنية » ، إلاّ أنّ النزاع تجدّد واشتدّ بين الفريقين نهاية القرن الثاني عشر ، ولم يقتصر النزاع على طلبة العلم بل تعدّاهم إلى عامّة الناس ، واستمرّ هذا الصراع الفكري واتّسع في النصف الأوّل من القرن الثالث عشر في عصر الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه اللّه الذي كان منحاه أصوليا وحاول الشيخ جاهدا تخفيف حدّة التوتّر بتأليف كتاب شرح فيه حقيقة

ص: 23

مذهب الفريقين وإرجاعهما إلى مذهب واحد ، وأنّ المجتهد أخباري والأخباري مجتهد إلاّ أنّه لم يفلح في ردم الهوّة.

وكانت مدينة كربلاء بؤرة الصراع ، حيث كانت تضمّ لفيفا من جهابذة العلم ممّن يشار إليهم بالبنان كالشيخ المحقّق يوسف البحراني والآقا الوحيد البهبهاني والسيّد مهدي بحر العلوم والمولى محمّد مهدي النراقي صاحب كتاب « جامع السعادات » والسيّد عليّ الطباطبائي صاحب « الرياض » والسيّد محمّد الطباطبائي المعروف ب- « السيّد المجاهد » والشيخ شريف العلماء والشيخ محمّد حسين الأصفهاني صاحب « الفصول » وغيرهم.

وفي هذه المدينة المقدّسة اشتدّ الصراع بين المدرستين : الأخبارية والأصولية ، إلاّ أنّها اتّخذت طابع الحوار العلمي المفتوح بين أعلام تلك المدرسة ، فكان الوحيد البهبهاني في حوار دائم مع الشيخ البحراني الذي يعدّ من أقطاب العلم واستقطب الكثير من طلاب العلم ، ونهلوا من نمير علمه العذب.

وكان للشيخ يوسف البحراني دور كبير في الحفاظ على كيان الحوزة العلمية ، حيث سعى - ومن منطلق شرعي - إلى تخفيف حدّة الاتّجاه الأخباري وتقليص الفروق بين المدرستين وانتقاد ما ذهب إليه الأخباريون من التطرّف في التهجّم ونقد المدرسة الأصولية ، وخصوصا ما صدر عن الشيخ محمّد أمين الأسترآبادي من التشنيع على الأصوليّين (1).

وكانت الخلافات في هذه الفترة علميّة تصبّ في خدمة الدين وتهدف إلى إحقاق الحقّ ودحض الباطل ، وكان كلّ فريق يدور مدار الدليل العلمي ويكتب حسب ما يمليه عليه دليله.

ومن طريف ما ينقله الشيخ محمّد حسن شريعتمدار الأسترآبادي - ولد المصنّف - قصّة تدلّ على أنّ المصنّف رحمه اللّه كان لا يستعجل بإصدار الحكم على الآخرين بل كان يتريّث ويتأمّل ، فقد نقل ولده ما يلي :

« إنّ المرجع يومئذ هو السيّد محمّد الطباطبائي الملقّب بالمجاهد ، ولما أفتى بكفر الأحسائي وافقه وأيّده علماء كربلاء والنجف عامّة ، غير أنّ الشيخ محمّد جعفر شريعتمدار

ص: 24


1- انظر : « الحدائق الناضرة » 1 : 167 - 170.

كان في مكّة يؤدّي فريضة الحجّ ، فقال الأحسائي : إنّ علماء هذه الديار فقهاء وأصوليّون وليست لهم خبرة في الحكمة والعلوم العقليّة وكلماتي ومؤلّفاتي لا يفهمها إلاّ الحكماء ، ورضي أن يحكم فيها الشيخ محمّد جعفر شريعتمدار ، واتّفق أن عاد شريعتمدار من مكّة فبعث له السيّد محمّد المجاهد « شرح الزيارة » وعدّة رسائل من مؤلّفات الأحسائي بيد رسول وطلب منه قراءتها وبيان رأيه فيها ، فقرأها بدقّة وتأمّل عباراتها وقال : إنّ هذه الكتب والرسائل متشابهة وقابلة للتأويل ويجب إطاعة أمر السيّد بحكم مقبولة عمر بن حنظلة ، ولكن من أجل التثبّت في الحكم والحكومة لا مندوحة من مذاكرة الأحسائي نفسه فيها لنرى هل أنّه يستحقّ التكفير أم لا؟

واتّفق أن التقى الأحسائي به في الحمّام فشكره على عدم تسرّعه في تكفيره كما فعل الآخرون ، ودخلا في نقاش فتجمهر الناس عليهما في الحمّام لسماع الحوار ، فسرد الأحسائي آراءه ومعتقداته كما سطّرها في مؤلّفاته ، وفهم منها شريعتمدار ما فهمه السيّد المجاهد وسائر علماء كربلاء والنجف وحكم مثلهم بتكفيره ، فوقعت في كربلاء وبلاد إيران كارثة لانتشار الخبر » (1).

وهكذا الحال بالنسبة إلى الشيخ يوسف البحراني صاحب « الحدائق الناضرة » عند ما سئل عن الصلاة خلف الشيخ محمّد باقر البهبهاني فصحّحها ، فقيل له : كيف تصحّح الصلاة خلف من لا يصحّحها بصلاتك؟ فقال : وأيّ غرابة في ذلك؟ إنّ واجبي الشرعي يحتّم عليّ أن أقول ما أعتقده وواجبه الشرعي يحتّم عليه ذلك ، وقد فعل كلّ منّا بتكليفه وواجبه ... ،

وهل يسقط عن العدالة لمجرّد أنّه لا يصحّح الصلاة خلفي (2)؟!

إلاّ أنّ كلّ محاولات تهدئة الأوضاع لم يكتب لها النجاح ؛ نظرا لتسرّب الخلافات إلى عامّة الناس ، الأمر الذي أدّى إلى الاستهانة بالعلم والاستخفاف بالعلماء.

أمّا الوضع السياسي في عصر المصنّف رحمه اللّه فقد عاش مع بدايات حكم السلسلة القاجارية في إيران وتحديدا في عصر فتح علي شاه ، ثاني ملوك القاجار.

وشهدت هذه الحقبة الزمنيّة اضطرابات سياسية وعسكرية ، فقد حاول آقا محمّد خان

ص: 25


1- « مظاهر الآثار » 1 : 1064 - 1065 نقلا عن الشيخية : 102 - 103.
2- « تنقيح المقال » 2 : 85 ، الرقم 10429.

طرد القوات الروسية الموجودة في إيران إلاّ أنّه لم يوفّق للسيطرة على كلّ البلاد ، فنرى خراسان - مثلا - موزّعة على مجموعة من القبائل المتناحرة فيما بينها ، يحكم كلّ ناحية منها حاكم ينتمي إلى قبيلة ما ، وهكذا الأمر في كردستان وبلوچستان. أمّا علاقة إيران بدول الجوار فقد سادها جوّ من الهدوء والاستقرار وخصوصا مع تركيا (1).

وكانت الدول الأوربية آنذاك قد ركّزت على إيران ؛ نظرا لموقعها الاستراتيجي ، حيث قام نابليون بونابرت بوضع خطّة ذكيّة ، حيث أرسل جيشا لينضمّ إلى القوات الفرنسية المتواجدة في قسطنطينية وآسيا الصغرى ، لينطلقوا من هناك مارّين بالأراضي الإيرانية ، وليشكّلوا قوّات مسلّحة في أصفهان للاستعداد للقيام بعمليات معادية لنفوذ شركة الهند الشرقية ، وقد أفلح نابليون في جعل إيران تدور في فلك السياسة الفرنسية.

أمّا الوضع التجاري فقد اقترحت فرنسا عام 1807 م تعزيز العلاقات التجارية مع إيران ، كما حاول فتح علي شاه توطيد علاقته مع الإنجليز على أمل الحصول على مساعدات ، إلاّ أنّ تأخّر الإنجليز في دفع المساعدات والتهديد الجدّي الذي شكّلته روسيا على إيران دفعا بالشاه إلى إرسال ممثّل سياسي له إلى فرنسا لعقد اتّفاقيّات عسكرية مع فرنسا التي أرسلت هيئة عسكرية عالية لبناء الجيش الإيراني ، وكان الغرض هو الحدّ من النفوذ الروسي في المنطقة ، حيث كان يشكّل خطرا على المصالح الفرنسية.

إلاّ أنّ الأمور جرت بما لا يشتهي فتح علي شاه ، حيث قام نابليون بعقد اتّفاقية صلح مع الروس ؛ لأجل الحدّ من النفوذ البريطاني المتزايد ، الأمر الذي أدّى بفتح علي شاه أن يتّجه صوب بريطانيا ويقيم العلاقات مع الملك جورج الثالث (2).

وكلّ هذه الأوضاع تعدّ مؤشّرا واضحا على عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي آنذاك ؛ وذلك لكثرة الصراعات الداخلية ، وتعدّد مراكز القوى ، وعدم وجود سياسة واضحة عند القاجاريّين في علاقاتهم مع الدول الأوربية ، وعكوف بعض حكّامهم على جمع المال ، حتّى شبّه بعضهم فتح علي شاه بالمستعصم باللّه ، الذي هو آخر خلفاء بني العبّاس الذي قتل

ص: 26


1- انظر : « تاريخ تحوّلات سياسى وروابط خارجى ايران » 1 : 8 وما بعدها.
2- انظر : « تاريخ إيران » 2 : 453 وما بعدها. وقد نقلت النصّ من اللغة الفارسية إلى العربية.

على يد هولاكو (1).

إلاّ أنّه رغم كلّ هذه الأوضاع السيّئة فقد راجت في أيّام فتح علي شاه سوق العلم والأدب ، وبرز كثير من جهابذة العلم ، وصنّفوا في مختلف العلوم ، ومنهم المولى محمّد جعفر الأسترآبادي مؤلّف هذا الكتاب.

بعض الملامح عن شخصيّته

عرف الأسترآبادي رحمه اللّه بالتحقيق والتدقيق وكثرة المصنّفات ، كما عرف بشدّة التقوى والورع والاحتياط في أمور الدين حتّى ضرب به المثل في ذلك.

جاور الأسترآبادي أرض كربلاء المقدّسة سنين عديدة إلى زمن محاصرة داود باشا لها وتخريبها ، فاضطرّ للانتقال إلى الريّ ، التي هي الآن من توابع طهران ، فمكث فيها ما يقرب من عشرين سنة ، مشتغلا بالإمامة والتدريس والقضاء والإفتاء إلى أن وافاه الأجل المحتوم إثر مرض عضال.

امتاز رحمه اللّه بجودة التحرير وحسن التقرير وطلاقة اللسان ، فكان ماهرا في جذب الناس وهدايتهم ، متّبعا في ذلك أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، فأجرى اللّه تعالى على يديه هداية خلق كثير من عباده.

عبّر عنه بعض المجتهدين ب- « الاثني عشري في شرائط الاجتهاد » ذلك لأنّه كان يقول : إنّ شرائط الاجتهاد اثنا عشر : العلوم العربية الأربعة التي تشمل الصرف ، النحو ، البيان واللغة ، وعلم البلاغة ، وكذا المنطق والرجال والفقه والأصول والتفسير والكلام وعلم الحديث. وقد جمعها في كتابه « جامع الفنون ».

كان للأسترآبادي رحمه اللّه هيبة وجلالة في قلوب العلماء والأمراء كما في قلوب عامّة الناس ، حتّى أنّ الحاجّ الكرباسي - المعاصر للسيّد محمّد باقر الرشتي - لم يصرّح باجتهاد أحد بعد السيّد الرشتي ، إلاّ أنّه صدّق اجتهاد « شريعتمدار الأسترآبادي » والتزم بما كان يحكم به (2).

ص: 27


1- انظر : المصدر السابق : 498.
2- انظر : « ريحانة الأدب » 3 : 208.
نسبه

هو الشيخ المولى محمّد جعفر بن المولى سيف الدين الأسترآبادي نزيل طهران.

مولده

ولد الأسترآبادي رحمه اللّه في نوكنده من قرى بلوك انزان من توابع أسترآباد في سنة 1198 ه كما ذكر الطهراني في طبقات أعلام الشيعة (1).

إلاّ أنّ صاحب « تراجم الرجال » ذكر أنّه وجد بخطّ الأسترآبادي في آخر كتابه « مصباح الهدى » نقلا عن والدته أنّه ولد وقت طلوع الشمس سادس شهر رمضان المبارك سنة 1195 ، ثمّ قال : « ويحتمل أن يكون في سنة 1196 » (2).

وفاته ومدفنه

لم أجد اختلافا يذكر في تاريخ وفاته سوى في يوم وفاته ، وهل هو اليوم التاسع أو العاشر من صفر.

فقد ذكر ابنه الشيخ عليّ شريعتمدار في كتابه « كنوز التفاسير » أنّه توفّي عاشر صفر من سنة 1263 ه (3).

وذكر صاحب « الذريعة » أنّه رحمه اللّه أجاب داعي ربّه في تاسع صفر 1263 وحمل جثمانه إلى النجف الأشرف في مكان عيّنه لنفسه عند الدرج الذي يصعد إلى سطح الكيشوانية الشمالية (4).

أساتذته

إنّ من أبرز أساتذة الأسترآبادي هو السيّد عليّ الطباطبائي الحائري قدس سره ، فبعد سنة

ص: 28


1- « طبقات أعلام الشيعة » الكرام البررة : 253.
2- « تراجم الرجال » 2 : 643.
3- نفس المصدر.
4- « طبقات أعلام الشيعة » الكرام البررة : 255.

1217 ه تشرّف الأسترآبادي إلى العتبات المقدّسة في العراق ليحضر درس السيّد عليّ الطباطبائي صاحب « رياض المسائل » وألّف « ملاذ الأوتاد في تقرير الأستاذ » في علم الأصول ، ثمّ عرضه على أستاذه (1).

ويعتبر هذا الكتاب حاشية على « المعالم » حيث ذكر في آخره تتلمذه على السيّد صاحب الرياض ، قال : « وليكن هذا آخر ما أراد العبد المذنب محمّد جعفر الأسترآبادي تأليفه من تحقيقات الأستاذ المحقّق والسند العماد المدقّق العالم الربّاني مولانا وملاذنا وسيّدنا ، السيّد عليّ الطباطبائي البهبهاني ، وممّا وصل إليه نظري القاصر ؛ ولما كانت هذه التعليقة من تحقيقات الأستاذ أعلى اللّه مقامه سمّيتها بملاذ الأوتاد من تحقيقات الأستاذ وكان الفراغ من تأليفها سنة 1237 » (2).

وقال عنه أستاذه السيّد عليّ الطباطبائي - في الإجازة التي كتبها في أوّل كتابه « ينابيع الحكمة » - : « المولى الفاضل الورع ، الكامل الزكيّ الذكيّ ، والتقيّ النقيّ الآخذ بأطراف المسائل في المطالب والمبادئ » (3).

كما أنّه حضر لدى جمع من أعاظم عصره كالوحيد البهبهاني والسيّد مهدي بحر العلوم والمقدّس الكاظمي فاشتغل عندهم مدة طويلة ثمّ رجع إلى إيران ، فحضر درس المحقّق القمّي والمولى محمّد مهدي النراقي ، بعد ذلك عاد إلى أصفهان ، فألقت إليه الرئاسة أزمّتها وتصدّى للزعامة الروحية (4).

أولاد الأسترآبادي رحمة اللّه

ذكر أصحاب التراجم أنّ للأسترآبادي ولدين هما :

1 - الشيخ محمّد حسن الذي يعتبر من أفذاذ علماء الإمامية في عصره وله تصانيف كثيرة منها : « مظاهر الآثار وحقائق الأسرار لبيان دقائق متون الأخبار وأسانيدها المنتهية

ص: 29


1- « طبقات أعلام الشيعة » الكرام البررة : 253.
2- انظر : « أعيان الشيعة » 9 : 205 ؛ « روضات الجنّات » 2 : 207.
3- « تراجم الرجال » 2 : 643.
4- « طبقات أعلام الشيعة » الكرام البررة : 14.

إلى الأئمّة الأطهار » خرج منه خمس مجلّدات ، وله « أساس الأحكام في شرح شرائع الإسلام » و « شرح ألفيّة الشهيد » وله « تحفة الممالك في إعراب ألفيّة ابن مالك » وله كتب في النسب ، وبعض التعليقات النافعة على رسالة والده في علم الدراية والرجال ، وهي « لبّ اللباب » (1).

توفي الشيخ محمّد حسن في سنة 1318 ه (2).

2 - الشيخ عليّ الأسترآبادي ، ويعدّ أيضا من مفاخر علماء الشيعة في عصره ، وقد امتاز بكثرة التصانيف - كما هو حال والده - فمن تصانيفه : « البرد اليماني في ألفاظ المعاني » و « غاية الآمال في علم الرجال » و « بروج العروج » في علم الهيئة و « كلّيّات القواعد الفقهية ومندمجاتها » و « تحرير الأصول » في أصول الفقه ، وشرحه « إيضاح التحرير » وغير ذلك من التآليف التي أغنت المكتبة الإسلامية وأثرتها (3).

أسترآباد

اسم لمدينة إيرانية قديمة عرفت بكثرة العلماء المنتسبين إليها.

فقد ذكرها ياقوت الحموي بقوله : أسترآباذ - بالفتح والسكون وفتح التاء المثنّاة من فوق وراء وألف وباء موحّدة وألف وذال معجمة - : بلدة كبيرة مشهورة أخرجت خلقا من أهل العلم في كلّ فنّ ، وهي من أعمال طبرستان بين سارية وجرجان في الإقليم الخامس » (4).

وأسترآباد في الوقت الحاضر هي إحدى مناطق محافظة « جلستان ».

وتشمل أسترآباد منطقتين : إحداهما في الشمال وتسمّى « دهستان » والأخرى في الجنوب وتسمّى « وركان ».

وكانت تتمتّع بموقع تجاري وعسكري مهمّ ، وفي آخر عهد الصفويّين تعرّضت أسترآباد للنهب والسلب ، وحوصرت في زمان نادرشاه.

ص: 30


1- هذه الرسالة قد قمنا بتحقيقها ونشرها ضمن « مجموعة ميراث حديث شيعه » دفتر دوم - مؤسّسة دار الحديث.
2- انظر : « أعيان الشيعة » 9 : 141.
3- انظر : المصدر السابق 8 : 309.
4- « معجم البلدان » 1 : 174 - 175.

وذكر دهخدا في موسوعته أنّ اسم المدينة في العصور القديمة هو « أسترك » ، وأنّ المدن المهمّة التابعة لولاية أسترآباد هي : جرجان ، بندرجز وفندرسك (1).

علماء أسترآباد

اشتهرت أسترآباد بعشرات العلماء الأفذاذ ، وفي مختلف حقول العلم والمعرفة ، وإليك بعضهم :

1. السيّد محمّد باقر ابن المير شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي ، المعروف ب- « الميرداماد ».

وكان فيلسوفا رياضيّا متفنّنا في جميع العلوم الغريبة ، شاعرا باللغتين العربية والفارسية.

2. الميرزا محمّد أمين الأسترآبادي ، ويعدّ على رأس الأخباريّين في القرن الحادي عشر ، له كتاب « الفوائد المدنية » في الردّ على من قال بالاجتهاد والتقليد (2).

3. محمّد بن عليّ بن إبراهيم الأسترآبادي ، المعروف ب- « ميرزا محمّد » صاحب كتاب الرجال الكبير والوسيط والصغير ، المسمّى أولها ب- « منهج المقال » وحاله كاسمه وكتابه في غاية الاشتهار (3).

4. محمّد حسن شريعتمدار - ولد مؤلّف هذا الكتاب - وكان عالما جليلا ، له « مظاهر الآثار وحقائق الأسرار لبيان متون الأخبار وأسانيدها المنتهية إلى الأئمّة الأطهار » وغير ذلك من الكتب والتصانيف (4).

5. الشيخ ركن الدين محمّد بن عليّ بن محمّد الجرجاني محتدا ، الأسترآبادي منشأ ومولدا ، الحلّي الغروي مسكنا ، كان عالما متكلّما جليلا ، من أبرز تلامذة العلاّمة الحلّي (5) قدّس اللّه روحه.

ولا أريد استقصاء كلّ من أنجبته هذه المدينة توخّيا للاختصار ، ولكن أحيل القارئ

ص: 31


1- « لغت نامه » 2 : 1808 - 1809 ، ونقلت النصّ من الفارسية إلى العربية بشيء من التصرّف.
2- « أعيان الشيعة » 9 : 137.
3- « توضيح المقال » : 65 المطبوع ضمن « منتهى المقال » الطبعة الحجرية.
4- « أعيان الشيعة » 9 : 141.
5- « أعيان الشيعة » 9 : 425.

على كتاب « أعيان الشيعة » لمزيد الاطّلاع (1).

رحلاته ونشاطاته

كان والد الأسترآبادي من الأتقياء الصلحاء ، ورغب في أن يوجّه ولده لطلب العلم ، فبدأ الأسترآبادي رحلته العلمية في تلقّي الدروس في بلده ثمّ انتقل إلى « بارفروش » وكان يكتب بخطّه كلّ ما يدرسه ، ومنها كتاب « المطوّل » الذي فرغ منه سنة 1217.

ثمّ يمّم الأسترآبادي وجهه صوب العراق ، فحضر على السيّد عليّ الطباطبائي صاحب « رياض المسائل » وألّف في تلك الفترة كتاب « ملاذ الأوتاد » الذي هو عبارة عن تقريرات أستاذه في علم أصول الفقه.

وألّف الأسترآبادي - أيضا - كتاب « شوارع الأنام في شرح القواعد » في سنة 1228 وهو ابن ثلاثين سنة ، وعرضه على أستاذه ، فاستحسنه وكتب له إجازة به.

وفي سنة 1231 قبل وفاة أستاذه بعامين رجع إلى بلاده أيّام رئاسة المولى محمّد رضا الأسترآبادي ، الذي كان من أجلاّء تلامذة الوحيد البهبهاني والمجاز منه ، فلم يتيسّر له الإقامة هناك ، وألّف فيها « مشكاة الورى » في شرح « الألفية » للشهيد الأوّل رحمه اللّه ، وقال في آخره : « فرغت منه في أسترآباد بعد مضيّ أربعة عشر شهرا من أوّل شروعه في سنة 1231 ».

ثمّ ذهب إلى قزوين أوائل أيّام رئاسة المولى عبد الوهّاب القزويني بها ، فنزل عليه ولاقى منه إكراما وترويجا حتّى سافر السلطان فتح علي شاه القاجاري إلى قزوين فاجتمع بالأسترآبادي وعرف فضله فطلب منه المجيء إلى طهران فأجابه.

ولمّا حلّها عيّن له السلطان دارا متّصلة بدور السلطنة في جنب مدرسة الحكيم هاشم التي عمرتها أمّ السلطان (2).

ص: 32


1- انظر : « أعيان الشيعة » 2 : 110 ، 226 ، 291 ، 316 ، 364 - 365 ، 403 - 417 ، 454 ، 494 ، 600 ، 615 ؛ 5 : 19 ، 212 ، 238 ، 243 ، 255 ، 415 ، 417 ، 457 ؛ 6 : 146 ، 180 ، 365 ، 395 ، 427 ، 470 ؛ 7 : 8 ، 27 ، 131 ، 132 - 133 ، 227 ، 299 ، 309 ، 313 ؛ 9 : 63 ، 137 ، 189 ، 192 ، 205 ، 282 ، 364 ، 367 ، 425 ؛ 10 : 20 ، 41 ، 45 ، 58 ، 68 ، 77 ، 81 ، 100 ، 127 ، 166 ، 267.
2- تعرف تلك المدرسة من أجل ذلك ب- « مدرسة مادر شاه ».

وعظمت منزلته عند السلطان القاجاري وكبر في عينيه فكان يزوره في كلّ شهر أو أقلّ منه ، فاشتغل بالتدريس والإفادة والتصنيف والتأليف ، وتخرّج على يديه خلال تلك السنين العلاّمة السيّد نصر اللّه الأسترآبادي والميرزا محمّد الأندرماني الطهراني والمولى جعفر بن محمّد طاهر النوري وغيرهم.

وكان للأسترآبادي رحمه اللّه دور في الجهاد والدفاع عن حمى الإسلام ، فقد سافر سنة 1241 مع السيّد محمّد الطباطبائي - المعروف بالسيّد المجاهد - إلى الجهاد ومواجهة القوّات الروسية التي تعدّت على بعض الحدود الإيرانية ، فما كان من السيّد محمّد المجاهد إلاّ أن طلب من الشاه إعلان الحرب على روسيا ، وتوجّه هو وجماعة من العلماء والطلاّب والصلحاء إلى « تفليس » مارّين بطهران (1).

ولمّا رجع الأسترآبادي من الجهاد ذهب إلى مكّة ليحجّ بيت اللّه الحرام ، ورجع من طريق النجف فنزل كربلاء المقدّسة مستوطنا فيها إلى أن حدث مرض الطاعون سنة 1246 ، فمات فيها جملة من أهله وأولاده.

وبعد مكثه في كربلاء عامين خرج منها قاصدا زيارة الإمام الرضا علیه السلام خائفا يترقّب ، نتيجة لما وقع بينه وبين الشيخ أحمد الأحسائي وبعده مع أصحاب الشيخ الذين أرادوا الفتك به وجرحوه مرّتين ونجّاه اللّه تعالى.

وطال سفره حيث أقام مدّة في كرمانشاه وطهران وأسترآباد ولما وصل خراسان عزم على المكث بها ، فقام بالوظائف الشرعية ، وحدث نزاع بينه وبين الشيخ عبد الخالق اليزدي إلى أن رجع السلطان محمّد شاه القاجاري من حرب هراة ، والتقى الأسترآبادي ورغّبه في العودة إلى طهران ، وأخذ منه العهود والمواثيق بذلك ، فرجع إليها ، وأقبل عليه السلطان والأعيان ووجوه الخاصّة والعامّة ، لا سيّما في الجماعة والائتمام ، وحصلت له المرجعية التامّة ، فكان المرجع الديني الذي يرجع إليه في سائر أمور الدنيا والدين إلى أن لبّى نداء ربّه الجليل (2).

ص: 33


1- حول ظروف وملابسات هذه الواقعة انظر : « أعيان الشيعة » 9 : 443.
2- لمزيد المعرفة انظر : « طبقات أعلام الشيعة » الكرام البررة 2 : 253 وما بعدها.
مصنّفات الأسترآبادي
اشارة

عرف الأسترآبادي رحمه اللّه بكثرة التصنيف والتأليف وتنوّعهما ، حتّى أنّهما شملتا معظم العلوم والمعارف الشائعة في ذلك العصر ، ونذكر ما كتبه - بحسب ما تتبّعناه من الفهارس المتوفّرة لدينا - ما يلي مرتّبة بحسب العلوم :

الفقه :

1 - إبراء الأب زوجة ابنه الصغير ؛ فصّل فيه مسألة ما لو زوّج أب الصغير في حال صغره ولده ، ولو بعد البلوغ إلى عشر سنين ، تزويجا انقطاعيّا بقدر شهر مثلا.

رقم النسخة (3851) في المكتبة المرعشيّة - قم.

2 - حكم المفقود عنها زوجها ؛ رسالة بحث فيها مسألة حكم المرأة الفاقدة لزوجها ولم يعلم حياته ولا موته بخبر يفيد القطع.

رقم النسخة (3851) في المكتبة المرعشية - قم.

3 - حاشية الروضة البهيّة ؛ حاشية مختصرة ، وقد ذكر فيها أقوال أستاذه وما توصّل إليه هو من آراء فقهيّة.

رقم النسخة (3850) في المكتبة المرعشية - قم.

4 - حاشية المدارك ؛ حاشية استدلالية مختصرة ، وقد استفاد فيها من تقريرات أستاذه ومن فوائد بعض المعاصرين ، مع ذكر ما توصّل إليه من آراء في مختلف المسائل.

رقم النسخة (3854) في المكتبة المرعشية - قم.

5 - دستور العمل ؛ رسالة عمليّة تشتمل على فتاوى المصنّف في الطهارة والصلاة والصوم و ... مع مقدّمة مختصرة في أصول الدين.

رقم النسخة (3061) في المكتبة المرعشية - قم.

6 - القبلة ؛ حيث وضع هذه الرسالة ؛ لأهمّيّة موضوع القبلة بالنسبة للمكلّفين ، وعدم كفاية ما بحثه الفقهاء في هذا المضمار.

رقم النسخة (3066) في المكتبة المرعشية - قم.

ص: 34

7 - أحكام نماز وروزه ؛ - باللغة الفارسيّة - رسالة مختصرة تشتمل على فتاوى المصنّف في أحكام الصلاة والصوم بلغة سهلة يفهمها عامّة الناس.

8 - شوارع الأنام في شرح قواعد الأحكام ؛ وهذه النسخة تحتوي على كتاب الصلاة إلى كتاب الديات.

رقم النسخة (3074) في المكتبة المرعشية - قم.

9 - شرح تبصرة المتعلّمين ؛ شرح مزجي مختصر ؛ مع نقل أقوال فحول الفقهاء.

رقم النسخة (3078) في المكتبة المرعشية - قم.

10 - إشارات الفقه ؛ وقد تناول فيها مقدّمات ومقارنات وشروط الصلاة وغيرها.

رقم النسخة (3081) في المكتبة المرعشية - قم.

11 - مشكاة الورى ؛ شرح مزجيّ استدلاليّ مختصر على « ألفيّة » الشهيد الأوّل.

رقم النسخة (3081) في المكتبة المرعشية - قم.

12 - حاشية رياض المسائل ؛ استدلالية مختصرة على كتاب « رياض المسائل » للسيّد عليّ الطباطبائي قدس سره ومتنها « المختصر النافع » للمحقّق الحلّي قدس سره .

رقم النسخة (3082) في المكتبة المرعشية - قم.

13 - مجمع الآراء ؛ حاشية مختصرة على كتاب « الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية » للشهيد الثاني قدس سره وهذه الحاشية عقدها المصنّف لحل مشاكل وإبهامات « الروضة البهيّة ».

14 - المقاليد الجعفرية في القواعد الاثني عشرية ؛ في القواعد الفقهيّة بترتيب كتب الفقه ، وذكره ولده الشيخ عليّ في « مبدأ الآمال » (1).

وهذا الكتاب مقترح للتحقيق في مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية.

أرقام النسخ الخطّية الموجودة في المكتبة المرعشيّة هي : (3857) ، (3858) ، (3882) ، (3883).

الأصول :

15 - مصابيح الأصول ؛ رسالة استدلالية مفصّلة في مباحث أصول الفقه ، أورد فيها نظريّات متقدّمي الأصوليّين بدون إطناب مملّ أو إيجاز مخلّ.

ص: 35


1- انظر : « الذريعة » 22 : 3 الرقم 5728.

رقم النسخة (3085) في المكتبة المرعشية - قم.

16 - مشارع الأصول ؛ حاشية على كتاب « معالم الأصول » للشيخ حسن بن الشهيد الثاني رحمهما اللّه.

رقم النسخة (3072) في المكتبة المرعشية - قم.

17 - خزائن العلوم ؛ بحث فيها المسائل التي يحتاج إليها المجتهد في عملية استنباط الحكم الشرعي بصورة مختصرة.

رقم النسخة (3531) في المكتبة المرعشية - قم.

18 - موازين الإحكام في استنباط الأحكام ؛ رسالة مختصرة في كيفيّة استفادة الفقيه من الأدلّة التفصيلية في استنابط الحكم الشرعي.

رقم النسخة (3066) في المكتبة المرعشية - قم.

الكلام والعقائد :

19 - الردّ على الصوفية ؛ ردّ مختصر على بطلان طرق المتصوّفة وبدعهم.

رقم النسخة (3851) في المكتبة المرعشية.

20 - أصل الأصول ؛ - باللغة الفارسية - بحث فيها أصول الدين الخمسة بصورة موجزة.

رقم النسخة (3849) في المكتبة المرعشية.

21 - صفات إلهى ؛ - باللغة الفارسية - بحث في الصفات الثبوتية والسلبيّة لواجب الوجود على طريقة الفلاسفة المشّائيّين والإشراقيّين.

رقم النسخة (3849) في المكتبة المرعشية.

22 - فلك مشحون ؛ - باللغة الفارسية - مختصر في أصول الدين والأمور الاعتقادية كتبه بطلب من شخص آخر يدعى الحاج عبد اللّه.

رقم النسخة (3063) في المكتبة المرعشية.

23 - أصول الدين ؛ رسالة في علم أصول الدين فيها شيء من التفصيل ، واستند فيها إلى الأدلّة العقلية.

رقم النسخة (3066) في المكتبة المرعشية.

ص: 36

24 - البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة ؛ شرح متوسّط على رسالة « تجريد العقائد » للمحقّق نصير الدين الطوسي رحمه اللّه .

وهو الكتاب الماثل بين يديك ، عزيزي القارئ.

25 - أصول الدين ؛ مختصر في أصول الدين مستفاد من الأحاديث والآثار الشريفة عن الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين ، وقد أحال المصنّف في هذا المختصر على كتابيه :

« مصباح الهدى ، والبراهين القاطعة.

رقم النسخة (3071) في المكتبة المرعشية.

26 - مصباح الهدى في أصول الدين ؛ وقد أشار في هذه الرسالة إلى الأدلّة العقلية والنقلية ، كتبها باسم فتح علي شاه قاجار.

27 - منهاج الإيمان ؛ رسالة مقتضبة جدّا في أصول الدين واعتقادات الشيعة ، باللغة الفارسية.

رقم النسخة (3080) في المكتبة المرعشية.

28 - سدّ رمق ؛ - باللغة الفارسية - رسالة مختصرة جدّا في أصول الدين الخمسة.

رقم النسخة (3080) في المكتبة المرعشية.

29 - وصل الفصول ؛ رسالة كلامية مختصرة جدّا في أصول الدين.

رقم النسخة (3849) في المكتبة المرعشية.

المنطق :

30 - مجمع الرشاد ؛ حاشية مختصرة على حاشية الشريف الجرجاني على « تحرير القواعد المنطقية في شرح الشمسية ».

رقم النسخة (3067) في المكتبة المرعشية.

31 - محصول اللباب ؛ حاشية متوسّطة على كتاب « تحرير القواعد المنطقية في شرح الشمسية ».

رقم النسخة (3067) في المكتبة المرعشية.

الأخلاق :

32 - مؤيّد العارفين ومغانم السالكين ؛ رسالة في الأخلاق الفاضلة والملكات الحسنة مستفادة من الآيات الشريفة وأحاديث أهل البيت علیهم السلام وتشتمل على دورة كاملة في

ص: 37

أصول الدين وفروعه والأصول الأخلاقية.

رقم النسخة (3848) في المكتبة المرعشية.

33 - تحفة العراق في علم الأخلاق ؛ مختصر في علم الأخلاق والفضائل والرذائل الأخلاقية ، مستفادة من أحاديث أهل البيت علیهم السلام .

رقم النسخة (3062) في المكتبة المرعشية.

علوم القرآن :

34 - تجويد القرآن الكريم ؛ - باللغة الفارسية - مختصر في أحكام التجويد ، وكيفيّة القراءة على الطريقة التي ارتضاها الشرع.

رقم النسخة (3849) في المكتبة المرعشية.

35 - قرائت شرعي ؛ - باللغة الفارسية - مختصر في القراءة الصحيحة شرعا.

رقم النسخة (3068) في المكتبة المرعشية.

36 - شرح درج المضامين ؛ شرح مختصر على منظومة « درج المضامين ».

رقم النسخة (3067) في المكتبة المرعشية.

الدراية والرجال :

37 - الوجيزة ؛ وتبحث في قواعد الدراية وكلّيات علم الرجال ، وضعها تسهيلا وتمهيدا لطلبة العلوم الإسلامية للدخول في هذه العلوم.

رقم النسخة (3066) في المكتبة المرعشية.

38 - لبّ اللباب ؛ وهي رسالة في قواعد الدراية وكلّيّات علم الرجال أيضا ، وقد صنّفها الأسترآبادي بناء على حاجة الطلبة إليها.

وقد قمت بتحقيق هذه الرسالة وتمّ طبعها في مجلّة « ميراث حديث شيعه » العدد الثاني.

الفلسفة :

39 - مرشد الطالبين ؛ حاشية مختصرة على شرح القاضي حسين الميبدي على « هداية الحكمة » لأثير الدين الأبهري.

رقم النسخة (3079) في المكتبة المرعشية.

ص: 38

التاريخ :

40 - ينبوع الدموع ؛ - باللغة الفارسية - في تاريخ وحياة وأحوال ومصائب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وآله المعصومين علیهم السلام .

رقم النسخة (3083) في المكتبة المرعشية.

التفسير :

41 - مظاهر الأسرار في وجوه إعجاز كلام الجبّار ؛ تفسير مزجيّ بشيء من التفصيل ، استند فيه إلى روايات المعصومين علیهم السلام وكلام مفسّري الشيعة.

رقم النسخة (3087) في المكتبة المرعشية.

الرياضيات :

42 - كشف الغطاء ؛ شرح مزجيّ على كتاب « خلاصة الحساب » للشيخ بهاء الدين العاملي.

رقم النسخة (3851) في المكتبة المرعشية.

علم النجوم :

43 - اختيارات النجوم في علم النجوم ؛ حيث بيّن نحوسة الأيّام وسعودها على ضوء روايات أهل البيت علیهم السلام .

رقم النسخة (3848) في المكتبة المرعشية.

44 - هداية النجوم في علم الرسوم ؛ وهي إشارات تفيد في معرفة الساعات النحسة ، ومرتّبة على ترتيب الحروف الأبجدية.

رقم النسخة (3067) في المكتبة المرعشية.

بين يديك - عزيزي القارئ - بعض ممّا سطّره يراع العالم الكبير الأسترآبادي ، وهو يكشف عن ذهن وقّاد وفكر جوّال ، فله في كلّ علم من علوم عصره باع ، فهو لم يترك علما من تلك العلوم إلاّ واطّلع عليه وكتب فيه وبيّن موقف الإسلام منه.

ومضافا إلى ما ذكرناه آنفا ، فقد صنّف الأسترآبادي رحمه اللّه في قواعد الأدب العربي والعرفان والرجال وتفسير الرؤيا والمنامات والزيارات وغيرها.

وقد أحصيت مصنّفاته في مكتبة آية اللّه العظمى النجفي المرعشي قدس سره لوحدها فوجدت

ص: 39

أنّها قد ناهزت السبعين مصنّفا ، ناهيك عن مصنّفاته الموجودة في المكتبات الأخرى.

ولله درّ من قال :

ولم أر أمثال الرجال تفاوتت *** إلى الفضل حتّى عدّ ألف بواحد

نسبة الكتاب إلى مؤلّفه

ذكره الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة تحت عنوان « البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة » ثمّ قال : « للمولى - أي هذا الكتاب - محمّد جعفر بن المولى سيف الدين الأسترآبادي نزيل طهران ، المعروف ب- « شريعتمدار » المتوفّى سنة 1263 ، كبير في ستّ مجلّدات ، مجلّده الأوّل في الأمور العامّة ... رأيت الجميع في كتب حفيده آقا محمود شريعتمدار المدرّس الذي له الوجاهة التامّة ب- « سبزوار » من موقوفات والده الشيخ محمّد حسن على أولاده الذكور » (1).

وهذا القدر كاف في صحّة نسبة الكتاب إلى شريعتمدار الأسترآبادي رحمه اللّه .

اسم الكتاب

ربّما وقع بعض الاشتباه في تسمية الكتاب في بعض كتب التراجم والفهارس ، إلاّ أنّ هذا الأمر لا يعنينا كثيرا ، فقد أراحنا المؤلّف رحمه اللّه عند ما ذكر اسم الكتاب في المقدّمة بقوله : « وأردت أن أسمّيه بعد أن أتمّمه بالبراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة » (2).

منهجيّة الكتاب

نظرا لأهمّية كتاب « التجريد » للمحقّق نصير الدين الطوسي وامتيازه عن بقيّة المصنّفات التي كتبت في هذا الفنّ ، فقد كثرت الشروح عليه ، وهي بين الإفراط والتفريط ، فقد ارتكب بعضهم الإطناب والتطويل في المبادي والإيجاز في بيان أحوال المبدأ والمعاد ، الذي هو المقصود الأصلي.

ص: 40


1- « الذريعة » 3 : 83 ، الرقم 250.
2- انظر : « البراهين القاطعة » 1 : 4.

وقد سلك الأسترآبادي رحمه اللّه مسلكا مغايرا لطريقتهم ، منتهجا نهج العلاّمة الحلّي في شرح المقدّمة مع بيان الفرق بين أصول الدين وأصول المذهب وما يترتّب عليهما من أحكام الدنيا والآخرة.

حاول أن يوضّح خمس مقدّمات قبل الولوج في الأبحاث الرئيسية :

المقدّمة الأولى : أوضح فيها الفرق بين علم الكلام وعلم التصوّف ؛ لأنّ كلا العلمين يبحث عن أحوال المبدأ والمعاد ، إلاّ أنّ البحث في علم التصوّف أو نحوه قد يكون على وجه فاسد - كما يرى الأسترآبادي - وإن كان اعتقاد الباحث فيه أنّه بحث على قانون العقل المطابق للنقل العرفي أو الذوقي.

ثمّ يخلص المؤلّف إلى أنّ علم الكلام « علم باحث عن أحوال المبدأ والمعاد على قانون العقل المطابق للنقل بطريق النظر والفكر ».

ولم يسلك مسلك غيره في إيراد التعاريف ثمّ مناقشتها بل ابتدأ بتعريف علم الكلام ، ثمّ أورد تعاريف الآخرين ونقضها وردّها.

بعد ذلك بيّن المصنّف - كما جرى على ذلك غيره - سبب تسمية علم الكلام بهذا الاسم ، ليعرج على معنى قولهم : « أحوال المبدأ والمعاد » فهو يرى أنّ أحوال المبدأ شاملة لأصول أربعة : التوحيد ، العدل ، النبوّة والإمامة ؛ ذلك لأنّ المبدأ بالاختيار لا بدّ أن يكون فعله لغرض عائد إلى العباد ، وهذا لا يتمّ إلاّ بالقابلية الحاصلة بالطاعة الموقوفة على المعرفة ، الموقوفة على النبوّة والإمامة ويرى أنّه يمكن إدراج أحوال النبوّة والإمامة في المعاد ؛ لأنّه عبارة عن رجوع الأرواح إلى الأجساد للحساب والثواب والعقاب ، ولا يكون ذلك إلاّ بالطاعة والمعصية الموقوفتين على التكليف ، الموقوف على النبيّ والإمام.

المقدّمة الثانية : في موضوع علم الكلام.

يرى الأسترآبادي رحمه اللّه أنّ علم الكلام هو المبدأ والمعاد ؛ لأنّ البحث فيه عن عوارضهما الذاتية ولو بحسب الاعتبار في الصفات الثبوتية الحقيقية.

أمّا ما ذهب إليه المتقدّمون من أنّ موضوعه الموجود بما هو موجود فقد تنظّر فيه الأسترآبادي ؛ وذلك لعدم انحصار الأمر في الموجود ، وعدم اقتصار النظر على صرف الوجود.

ص: 41

كما تنظّر فيما ذهب إليه القاضي الأرموي وصاحب الصحائف من أنّ موضوعه ذات اللّه تعالى. وسكت الأسترآبادي عمّا ذهب إليه أكثر المتأخّرين من أنّ موضوعه هو المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية.

المقدّمة الثالثة :

في فائدة علم الكلام ، وأنّه يسهم في رقيّ المسلم ورفعه من حضيض التقليد إلى ذروة اليقين ، واسترشاد المسترشدين - بإيضاح الحجج لهم - إلى عقائد الدين ، وإلزام المعاندين بإقامة الحجّة وحفظ قواعد الدين من أن تزلزلها شبه المغرضين.

المقدّمة الرابعة :

يمكن اعتبار علم الكلام قطبا تدور عليه كلّ العلوم الشرعية ؛ لأنّها تستند إليه استناد الفروع إلى الأصول ، فإنّ أدلّته يقينية يحكم صريح العقل بصحّة مقدّماتها ، ويؤيّدها النقل الذي هو في غاية الوثاقة ، فالعلوم تستمدّ منه وهو لا يستمدّ منها.

المقدّمة الخامسة : في التمييز بين أصول الدين وأصول المذهب.

وهي مسألة رأى الأسترآبادي رحمه اللّه أن يشبعها بحثا وتدقيقا ؛ نظرا للخلط الكثير بينهما ، ولترتّب أحكام كثيرة عليهما.

فالمشهور عندنا - نحن الشيعة - أنّ أصول الدين خمسة :

التوحيد الذي يعني كمال الواجب بالذات في الذات.

والعدل بمعنى كمال الواجب بالذات في الأفعال.

والنبوّة التي هي رئاسة إلهية - بالأصالة في الجملة - للبشر المعصوم الأكمل على المكلّفين فيما يتعلّق بأمور دينهم ودنياهم.

والإمامة التي هي أيضا رئاسة إلهية عامّة على وجه النيابة الخاصّة للبشر المعصوم المنصوص الأعلم بعد الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله على جميع المكلّفين فيما يتعلّق بأمور دينهم ودنياهم.

والمعاد الذي يعني رجوع الأرواح إلى الأجساد لنيل الجزاء ثوبا أو عقابا.

لقد حاول الأسترآبادي في هذه المقدّمة أن يضع خطّا فاصلا بين أن يكون العدل والإمامة من أصول المذهب أو من أصول الدين ؛ وذلك بإيضاح الفرق بين العدل المقابل

ص: 42

للجور والعدل المقابل للجبر ، فإنّ الأوّل من أصول الدين فيكفّر من قال بالجور ، والثاني من أصول المذهب ، فلا يكفّر من ذهب مذهب الجبريّة.

وكذا الحال في الإمامة فإنّ جواز وقوعها في الشريعة من أصول الدين ، والإمامة المقيّدة بسائر القيود - كسائر الاعتقادات - من أصول المذهب فيخرج منكرها من المذهب وحسب.

وزاد الأسترآبادي المسألة وضوحا بقوله : إنّ أصول الدين عبارة عن اعتقادات بنيت عليها الشريعة الإسلامية ، ولا يتحقّق معنى الدين إلاّ بها ، وهي سمة المسلم ، وعليها تترتّب الآثار ، من قبيل حقن الدماء وحفظ الأموال والأعراض.

أمّا أصول المذهب فهي عبارة عن اعتقادات بني عليها المذهب الشيعي الجعفري ، وتتوقّف عليها ترتّب أحكام الإيمان الخالص ، كجواز إعطاء الزكاة وقبول الشهادة وغيرها.

ثمّ بيّن رحمه اللّه أنّ لكلّ واحد من الأصول الخمسة قاسما مشتركا يقتضي دخوله في أصول الدين وأصول المذهب ، ذلك أنّ التوحيد بحسب الذات من أصول الدين وبحسب الصفات من أصول المذهب.

والعدل في مقابل الجور من أصول الدين وفي مقابل الجبر من أصول المذهب.

والنبوّة بمعنى إرسال الرسول صلی اللّه علیه و آله وكونه خاتم الأنبياء من أصول الدين ، وكونه بشرا معصوما رسولا - مثلا - من أصول المذهب.

وهكذا المعاد بمعنى عود الأرواح إلى الأجساد في الجملة من أصول الدين ، وإلى القالب المثالي في البرزخ والأصلي في المحشر مع خلود الكفّار وأمثالهم في النار من أصول المذهب.

تاريخ تصنيف هذا الكتاب

جاء في آخر نسخة « ب » - التي هي نسخة المصنّف رحمه اللّه وعليها خطّه - : « الحمد لله على التوفيق على إتمام شرح تجريد الكلام في يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر الخامس من العام الرابع من العشر السادس من المائة الثالثة من الألف الثاني من الهجرة النبوية على هاجرها ألف ألف تحيّة 1254 ».

ص: 43

فيكون تاريخ الانتهاء منها 19 / 5 / 1254 ه ، وذلك عند سفره للمرّة الثالثة إلى مشهد الإمام الرضا علیه السلام . أي قبل وفاته بتسع سنين.

بعض آراء المؤلّف رحمه اللّه

ينقل المؤلّف رأي المحقّق الطوسي في مبحث زيادة الوجود على الماهيّة ، ثمّ ينقل رأي العلاّمة الحلّي الذي قرّر جواب حجّة من قالوا بأنّ الوجود نفس الماهيّة بقوله : « الوجود قائم بالماهيّة من حيث هي ، لا باعتبار كونها موجودة ولا باعتبار كونها معدومة ، فالحصر ممنوع ». انتهى كلام العلاّمة.

والأسترآبادي يشكل على هذا الحصر إذا كان باعتبار الاشتراط بالوجود والعدم ، وأمّا إن كان باعتبار كون العروض حال الوجود أو العدم فلا إشكال.

ثمّ يضيف الأسترآبادي فيقول :

« فالأولى أن يقال بأنّ الحصر ممنوع من جهة أنّ الماهيّة موجودة بالوجود ، والوجود موجود بنفسه ، كما في النور والمنوّر وزمان وجودهما واحد ، فالمعروض هو الماهيّة لا بشرط الوجود ، بل في زمان الوجود الموجود بنفسه ، فلا يلزم وجود الماهيّة قبل وجودها ولا التناقض » (1).

وفي مسألة تقسيم الحكماء الوجود إلى ذهني وخارجي ، نرى الأسترآبادي يقسّمه إلى قسمين ، يصطلح على أحدهما الوجود الأصلي والآخر رابطي ، والوجود الأصلي يعرّفه بأنّه عبارة عن وجود نفس الشيء موضوعا كان أم محمولا ، كوجود زيد ، وهذا متعلّق السؤال ب- « هل » البسيطة.

والوجود الرابطي - الذي هو متعلّق السؤال ب- « هل » المركّبة - عبارة عن وجود الشيء للشيء الذي يحصل به الارتباط ، كوجود القيام لزيد.

ثمّ يخلص إلى نتيجة هي أنّ الوجود الأصلي الخارجي الذي تترتّب عليه الآثار لا خلاف فيه ، والنزاع وقع على الوجود الذهني الذي يسمّى ب- « الوجود الظلّي » وهو وجود

ص: 44


1- « البراهين القاطعة » 1 : 34.

غير أصيل ، وقد نفاه جماعة ، وأثبته المحقّقون وقسّموه إلى الذهني والخارجي قسمة معنويّة.

وفي مسألة أنّ الوجود قابل للزيادة والنقصان ، فقد ردّ الأسترآبادي هذا المذهب ؛ لأنّ التزايد عبارة عن حركة جوهريّة على نحو العرضيّة كالأينيّة ، والحركة تقتضي بقاء المتحرّك من مبدئها إلى منتهاها ، فلو كان الوجود قابلا للزيادة لزم كونه باقيا قبل حصولها وبعدها ، فتلك الزيادة إن كانت وجودا لزم اجتماع المثلين وإلاّ لزم اجتماع النقيضين.

وأمّا في نفي الاشتداد عن الوجود فهو يذهب مذهب المحقّق الطوسي والعلاّمة الحلّي ، فقد فسّر الطوسي الاشتداد بأنّه اعتبار المحلّ الواحد الثابت إلى حالّ فيه غير قارّ تتبدّل نوعيّته إذا ما قيس ما يوجد منها في آن ما إلى ما يوجد في آن آخر بحيث يكون ما يوجد في كلّ آن متوسّطا بين ما يوجد في آنين يحيطان بذلك الآن ، ويتجدّد جميعها على ذلك المحلّ المتقوّم دونها من حيث هو متوجّه بتلك المتجدّدات إلى غاية ما.

ومعنى الضعف - على رأي المحقّق نصير الدين - هو ذلك المعنى المتقدّم بعينه ، إلاّ أنّه يؤخذ من حيث هو منصرف بها عن تلك الغاية ، فالآخذ في الشدّة والضعف هو المحلّ ، لا الحالّ المتصرّم المتجدّد.

وخلاصة القول هي : أنّ من منع قبول الوجود للشدّة والضعف بنى دليله على أنّ الوجود معنى معقول بسيط لا تعقل فيه مراتب باعتبار كونه وجودا ، ولأنّه بعد الاشتداد إن لم يحدث شيء لم يكن اشتدادا ، بل هو باق كما كان ، وإن حدث لم يكن أيضا اشتدادا للموجود الواحد ، بل يكون حاصله أنّه حدث شيء آخر معه.

وهذا الدليل كاف في إبطال الاشتداد في جميع الأعراض.

ودليل المثبتين مبنيّ على أنّ معنى الاشتداد ثابت في الوجود ، فإنّه كما أنّ السواد يشتدّ باعتبار كونه كيفية يفرض العقل لها طرفين ، ووسائط تقرب بعضها من أحد الطرفين وبعضها من الآخر ، فأحد الطرفين هو السواد البالغ في السوادية ، الذي لا يوجد فوقه مرتبة زائدة عليه في السوادية ، والطرف الآخر البياض ، وأقرب المراتب إلى الطرف الأوّل شديد وأبعدها عنه ضعيف ، وتؤخذ مراتب غير متناهية بين الطرفين ، فكذا الوجود له طرفان : الوجوب والعدم ووسائط هي وجودات الممكنات ، فكلّ ما كان أقرب إلى الوجوب كان

ص: 45

أشدّ من الآخر ، فينتج أن الوجود يقبل الشدّة والضعف.

والأسترآبادي ينفي الاشتداد كما هو مذهب أكثر المحقّقين حسب ادّعائه رحمه اللّه (1).

ومن المسائل التي توقّف عندها الأسترآبادي مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهيّة ، وهي المسألة التي كانت محلّ بحث ونزاع بين العلماء.

إنّ فكرة أصالة الوجود كانت قد تبلورت وظهرت في عصر صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي ، وأمّا القول بأصالة الماهيّة فقد بلوره المير محمّد باقر الداماد ، واستمرّ الجدل بين القائلين بأصالة الوجود والقائلين بأصالة الماهيّة.

والأسترآبادي يفصّل هذه المسألة ويرى أنّ النزاع لفظيّ بين العلماء ويشترط لذلك عدم الحمل على أصالة الوجود ، بمعنى كون جميع الوجود وجود الواجب المتنزّل في الممكنات ، فهو يرى في ذلك الكفر والخروج عن الدين.

أمّا تفصيله لهذه المسألة فهو مبنيّ على المراد من الماهيّة ، هل هي بالمعنى الذي يطلق في جواب « ما هو » أو الذي يطلق على ما به الشيء هو هو بالفعل؟

فيقول : إنّ الموجود في الذهن هو الماهيّة بالمعنى الأوّل ، والذي يعبّر عنه ب- « الأشباح ». وأمّا بالمعنى الثاني فالماهيّة لا توجد إلاّ بالخارج ، فالقائل بأصالة الوجود : إن كان مراده أنّ الوجود له مصداق خارجي كما أنّ له مفهوما ، من غير أن ينفي أصالة الماهيّة وكونها - أيضا - موجودة في الخارج وذات مصداق خارجي باعتبار المعنى الثاني ، بمعنى أصالة الوجود والماهيّة معا ، بكونهما موجودين في الخارج بإيجاد واحد ، وكون الماهيّة موجودة بالوجود ، والوجود موجودا بنفسه ، دفعا للتسلسل من غير الحكم بكون الوجود أصلا من هذه الجهة والماهيّة حدّا له وسببا لتعيينه ، بل تكون الماهيّة أصلا وجهة التقوّم بنفسه والوجود أصلا من جهة التحصّل بنفسه ، فيكون كلّ ممكن زوجا تركيبيّا ، فهو حقّ.

وإن كان المراد اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الثاني فلا اعتبار به ، لبداهة حكم العقل بوجود الذات والماهيّة بالمعنى الثاني.

وإن كان المراد اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الأوّل وأصالة الوجود بالمعنى المذكور ، سيّما

ص: 46


1- لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 50 ؛ « كشف المراد » : 29 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 423 ، الفصل الرابع.

بمعنى منشأ الأثر ، فهو حقّ.

ولكنّ النزاع لفظيّ ؛ فإنّ القائل بأصالة الماهيّة يقول بأصالة الماهيّة بالمعنى الثاني لا الأوّل وعرضيّة الوجود ، لا عدم كونه ذا مصداق حقيقيّ خارجي ، والقائل بأصالة الوجود يقول بكونه ذا مصداق حقيقيّ لا عدم كونه عرضا في الممكن مع اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الأوّل لا الثاني ، فما يثبته أحد الفريقين لا ينفيه الآخر ، وما ينفيه الآخر لا يثبته الأوّل ، فمتعلّق النفي والإثبات مختلف ، وليس النزاع إلاّ بحسب اللفظ.

وقد نظم الأسترآبادي حول هذا المبحث شعرا فقال :

ينقسم الوجود بالوجدان *** للخارجي والكون في الأذهان

إذ الحقيقة قطعا صادقه *** والذهن فيه صورة مفارقه

هذه بعض الآراء التي اعتمدها الأسترآبادي رحمه اللّه في كتابه ، على أنّنا لم نستقرئ كلّ آرائه ، إذ ليس المقصود - هنا - دراسة أفكار الأسترآبادي ومناقشتها ، بل نحن بصدد كتابة مقدّمة موجزة لهذا الكتاب ، مع التطرّق فيها لبعض آراء الشارح.

ولنترك للقارىء الكريم استقصاء الآراء ومحاكمتها ، ومن اللّه التوفيق.

محمّد حسين مولوى

ص: 47

منهج التحقيق

اشارة

اتّبعنا في هذا الكتاب المراحل التالية :

1 - اخترنا أكثر النسخ وضوحا ، وهي نسخة « أ » وأجرينا عليها عملية تقطيع النصّ ، بوضع علامات الترقيم وتغيير الرسم الإملائي طبق الرسم الحديث ، لينتقل الأصل إلى مرحلة طباعته على الورق.

2 - مقابلة المطبوع مع نسختين : الأولى « ب » التي عليها خطّ المؤلّف رحمه اللّه ، والثانية « ج » لأجل تدارك وجود أيّ سقط أو تصحيف في النسخ.

3 - تخريج الأقوال والنصوص التي أوردها المصنّف في المتن ، سواء صرّح بأسماء قائليها أو غضّ النظر عنهم ، فهو تارة يصرّح بأسماء قائليها بلا واسطة ، كأن ينقل عن العلاّمة الحلّي في « كشف المراد » وتارة بواسطة كأن يأخذ عن التفتازاني أو القاضي الأرموي دون أن يشير إلى المأخذ الذي استمدّ منه ، وفي هذه الحالة راجعنا أمّهات الكتب الكلاميّة للتعرّف على القائلين ، فقد نقل عن القاضي الأرموي أنّ موضوع علم الكلام ذات اللّه تعالى ، ووجدنا أنّ مأخذ هذا النقل كتابي : « شرح المواقف » و « شرح المقاصد » وذكرنا في الهامش أنّ الجرجاني والتفتازاني نقلا هذا القول عن القاضي الأرموي.

أمّا إذا لم ينسب النصّ إلى قائله كأن يقول : « فعن المتكلّمين تحديد الوجود بالثابت العين وتحديد العدم بأنّه عبارة عن المنفيّ العين » فقد أحلنا القارئ إلى المصادر الكلامية التي بحثت في هذا الموضوع ، مثل « شرح المقاصد » و « شرح المواقف » و « نهاية المرام » للعلاّمة الحلّي و « شوارق الإلهام » وغيرها.

على أنّنا راعينا التسلسل التاريخي في ذكر المصادر ، فقدّمنا ذكر كتب الفخر الرازي على المحقّق الطوسي ، وهما على كتب الجرجاني والتفتازاني ، وهكذا الأمر مع بقيّة المآخذ.

ص: 48

4 - قمنا بمطابقة القول المنقول مع المأخذ الذي استمدّ منه المؤلّف ، وهو عمل أفادنا في تدارك ما سقط من المخطوطات.

مثلا : قال في مبحث زيادة الوجود على الماهيّة : « ... لأنّ جزء الجزء جزء أيضا موجود ، فيفتقر إلى فصل آخر ويتسلسل ».

ووجدنا في « كشف المراد » أنّه أخذ نفس العبارة وسقطت منها بعض الكلمات ، فقد جاء في كلام العلاّمة : « ... لأنّ جزء الجزء جزء أيضا فإن كان موجودا افتقر إلى فصل آخر ويتسلسل » (1).

وفي هذه الحالة أشرنا إلى عبارة العلاّمة في الهامش وذكرنا الاختلاف هناك.

ونسب في أحد المواضع القول بأنّ الوجود معنى قائم بالماهيّة يقتضي حصولها في الأعيان إلى قوم غير محقّقين ، وعند المراجعة وجدنا في « شوارق الإلهام » نسبة هذا الكلام إلى جماعة من أتباع المشّائين كما قال المحقّق اللاهيجي (2).

5 - انصبّ اهتمامنا على ضبط النصّ وسلامته من ناحية الإعراب ومراعاة القواعد الإملائيّة الحديثة ، كما قمنا بضبط الأسماء والألقاب والأماكن والمصطلحات الكلامية الواردة في المتن ، واستعنّا ببعض كتب التراجم للتعريف ببعض الأعلام ككتاب « الفهرست » لابن النديم وكتاب « طبقات المعتزلة » وغيرهما.

6 - تجنّبنا ذكر الفروق الكثيرة بين النسخ ، سيما التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، وأبقينا ما هو ضروري منها بحيث يحتمل التوجيه ، وهو عمل يتطلّب دقّة وإتقانا في وضع الكلمة الصحيحة في محلّها وإثبات ما قطعنا بصحّته في المتن ، وتركنا ما اعتاد عليه البعض من إثبات لفوارق النسخ في الهامش ، فإنّ ذلك مدعاة إلى إرهاق القارئ ، وليس فيه كثير نفع للعلم سوى حفظ الأصول وتشتيت ذهن القارئ في التنقّل بين المتن والهامش.

7 - صنع الفهارس الفنّية

قمنا بوضع فهارس للكتاب ، لتسهيل الأمر على القارئ للوصول إلى مبتغاه ، وتشتمل على عناوين الموضوعات في آخر الكتاب ، وفهارس تفصيلية في آخر الجزء الرابع ،

ص: 49


1- انظر نفس الكتاب ، 30 و « كشف المراد » : 25.
2- انظر نفس الكتاب ، ص 38.

احتوت على عناوين المسائل والمباحث الفرعية والنكات التي وردت في الكتاب.

هذا مضافا إلى فهارس الآيات والروايات والأعلام والمصطلحات الكلامية المذكورة في المتن.

8 - أضفنا - أحيانا - كلمة أو جملة وجدنا فيها خللا فاقتضى السياق إضافتها ، وهنا وضعنا الزيادة بين المعقوفين [ ] دون تعليق في الهامش. أمّا في حالة الإضافة من مصدر معيّن فنضعها بين المعقوفين مع التنويه في الهامش إلى المصدر الذي أخذنا عنه.

مواصفات النسخ الخطّية

حصلنا على نسختين كاملتين من مجموع النسخ الموجودة في مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي في مدينة قم ، وفي مكتبة « آستان قدس رضوي » في مدينة مشهد.

أمّا النسخ الموجودة في المكتبة المرعشية فهي كالتالي :

1. المخطوطة المرقّمة 4024 ، وعدد أوراقها 338 ، وتشتمل على المباحث التالية :

أ - مبحث الأمور العامّة : من ص 1 - 104.

ب - مبحث الإلهيّات : من ص 105 - 175.

ج - مبحث النبوّة : من ص 210 - 215 ، والمبحث ناقص.

د - مبحث الإمامة : من ص 215 - 308 ، وهو أيضا ناقص.

ه- - مبحث المعاد : من ص 308 - 338 وينتهي هذا المبحث بقوله : تكميل ذكره جميل.

ورمزنا إلى النسخة من ص 1 - 104 بالرمز « أ » ومن ص 104 إلى آخر النسخة بالرمز « ع » وذلك لاختلاف الخطّ بينهما ، الأمر الذي يشير إلى تعدّد النسّاخ.

2. المخطوطة المرقّمة 3070 ، وعدد أوراقها 389.

وتشتمل على المباحث التالية :

أ - مبحث الأمور العامّة : من ص 1 - 99.

ب - مبحث الإلهيّات : من ص 100 - 234.

ج - مبحث الإمامة : من ص 234 إلى ص 389.

وهذه النسخة اعتبرناها نسخة الأصل ؛ نظرا لوجود خطّ المصنّف عليها ، وعليها بعض

ص: 50

التعليقات التي كتبت في آخرها « منه رحمه اللّه ».

كما ورد في أول المخطوطة ما يلي : « هذه النسخة - التي هي نسخة الأصل وبخطّ الوالد العلاّمة أعلى اللّه مقامه - ممّا وقفت عليه من ثلثه حسب وصيّته ، وجعل التولية لأولاده إلى يوم القيامة مع تقديم الذكور وأولادهم الذكور على الإناث ، وذكور الإناث على الإناث من الذكور أو الإناث ، وتقديم المتولّي على غيره ولو مع احتياج ذلك الغير وتصرّفه. حرّره الأحقر محمّد حسن بن المصنّف ».

لكنّ هذه النسخة - وللأسف - سقط منها مبحث النبوّة.

كما أنّ عليها إنهاء المؤلّف رحمه اللّه وتاريخ الفراغ من تصنيف هذا الكتاب.

وقد رمزنا لها بالرمز « ب ».

3. المخطوطة المرقّمة 3886 ، وعدد أوراقها 159.

وتشتمل على مبحث الأمور العامّة والجواهر والأعراض ، وهي مشابهة لنسخة « أ » من ص 1 - 104 والتي تقدّم ذكرها.

وقد رمزنا لها بالرمز « ج ».

4. المخطوطة المرقّمة 3075 ، وعدد أوراقها 94.

وتشتمل على مبحث الإلهيّات فقط.

ورمزنا لها بالرمز « د ».

5. المخطوطة المرقّمة 3076 ، وعدد أوراقها 64.

وتشتمل على مبحث النبوّة فقط.

ورمزنا لها بالرمز « ه ».

6. المخطوطة المرقّمة 3890 ، وهي تشتمل على مبحث الإمامة فقط.

ورمزنا لها بالرمز « و ».

7. المخطوطة المرقّمة 3893 ، وعدد أوراقها 51. وهي تشتمل على مبحث العدل فقط.

ورمزنا لها بالرمز « ز ».

وأمّا النسخ الخطّية الموجودة في مكتبة « آستان قدس رضوي » في مدينة مشهد فهي عبارة عن نسختين :

ص: 51

1. المخطوطة المرقّمة 7467 ، وعدد أوراقها 280.

وتشتمل على المباحث التالية :

أ - مبحث الأمور العامّة ، من ص 1 - 125.

ب - مبحث الإلهيّات ، من ص 126 - 280.

2. المخطوطة المرقّمة 8989 ، وعدد أوراقها 295.

وتشتمل على ما يلي :

أ - مبحث الأمور العامّة ، من ص 1 - 146.

ب - مبحث الإلهيّات ، من ص 147 - 254.

ج - مبحث المعاد ، من ص 255 - 295.

وهناك نسخة خطّية برقم 4480 ذكرها في فهرس « كتابخانه مجلس ملّى » 2 : 161.

وهذه النسخة ضمن مجموعة ضمّت مضافا إلى « البراهين القاطعة » كتاب « مختصر موائد العوائد في بيان قواعد الفوائد » للأسترآبادي نفسه.

وهناك نسخة تحمل الرقم 298 في مكتبة جامعة طهران ( فهرس 3 : 545 ) ، ذكر فيها أنّ الناسخ هو موسى بن محمّد رضا التفرشي وتاريخ نسخها 1264 ، وجاء في مطلع المجلّد الثاني قول المصنّف : « بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هو الواجب الوجود بالذات ...

فهذا هو المجلّد الثاني من البراهين القاطعة ... ».

وقد أنهاها الناسخ بقوله : « قد تمّ المجلّد الثالث من كتاب البراهين تصنيف قدوة المجتهدين الحاج محمّد جعفر الأسترآبادي ».

قسم إحياء التراث الإسلامي

مركز الأبحاث والدراسات الإسلامي

ص: 52

الصورة

ص: 53

الصورة

ص: 54

الصورة

ص: 55

الصورة

ص: 56

الصورة

ص: 57

الصورة

ص: 58

الصورة

ص: 59

الصورة

ص: 60

البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة

المولی محمد جعفر بن المولی سيف الدين الأسترآبادي المعروف ب«شريعتمدار»

الجزء الأوّل

ص: 61

ص: 62

بسم اللّه الرّحمن الرحيم

الحمد لله الواجب الوجود بالذات ، الواحد من جميع الجهات ، الذي تكون صفاته الذاتيّة عين الذات ، الذي أنشأ بقدرته سلسلة الممكنات ، وخلق الهواء وأجرى الماء ورمى بالرياح زبده في الهواء لحصول سبع سماوات ، وخلق آدم وحوّاء واصطفى من ولدهما أنبياء وأوصياء مع المعجزات الباهرات ، ولا تغيب عنه ذاته ، فهو عالم بذاته بالذات ، وأحكم الأشياء ، فهو عالم بجميع الجزئيّات ، ويدلّ على إرادته تخصيص بعضها ببعض الأوقات ، وبعث الرسل لإتمام الغرض بالطاعات.

والصلاة والسلام على المبعوث لتقوية العقول وشفيع العرصات لنجاة أمّته عن النار ودخول الجنّات ، محمّد وآله الذين هم سادة السادات.

أمّا بعد ، فيقول خادم بساتين المذهب الجعفري من مذاهب الشرع المحمّدي ، محمّد جعفر الأسترآبادي : إنّ معرفة أصول الدين على وفق أصول المذهب الجعفري واجبة عينا على جميع المكلّفين بمقدار قدرتهم ولو بالدليل السكوتي ، كما يجب تحصيل البصيرة فيها بالدليل الإسكاتي كفاية على البعض ؛ لدفع شبه المبطلين وتشكيك المضلّين والضالّين وحيرتهم.

والعلم الباحث عنها - وهو علم الكلام - أشرف العلوم الدينيّة وأعظم المطالب الشرعيّة ، مع رشاقة مسائله ووثاقة دلائله وعظم منافعه ، سيّما إذا كان على وجه المطابقة التامّة للعقل والنقل.

ص: 63

وقد كان كتاب التجريد - من مصنّفات خاتم المحقّقين ، أفضل الحكماء والمتكلّمين ، سلطان العالمين في العالمين ، نصير الملّة والدين ، محمّد بن محمّد الطوسي أعلى اللّه مقامه في علّيّين - كتابا ممتازا من بين الكتب المؤلّفة في هذا الفنّ ؛ لاحتوائه على ما خلت عنه زبر السابقين ، واشتماله على ما لم تشتمل عليه صحائف الآخرين ، مع جودة ترتيب المسائل ، ووجازة الدلائل ، وغاية تجريد الفوائد ، ونهاية تهذيب الأصول والعقائد.

وقد ارتكب الشرّاح في شرحه التطويل والإطناب في المبادي ، والإيجاز في بيان أحوال المبدأ والمعاد مع أنّه المقصود الأصلي.

أردت أن أشرحه على عكس طريقتهم ، سالكا في شرح المقدّمة مسلك العلاّمة مع كونه في شرح ذي المقدّمة شرحا جامعا للأدلّة العقليّة والنقليّة مع التميّز بين أصول الدين وأصول المذهب وبيان ما يترتّب عليهما من أحكام الدنيا والآخرة.

وأردت أن أسمّيه بعد أن أتمّمه ب- « البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة » فإنّه الكلمة العليا الجامعة.

ص: 64

[ المقدمة ]

اشارة

ولا بدّ قبل الشروع في المقصود من تقديم مقدّمة نافعة مشتملة على أمور خمسة :

[ الأمر ] الأوّل : في تعريف علم الكلام.

اعلم أنّ العلم الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد إمّا أن يكون بحثه على قانون العقل من غير ملاحظة كونه مطابقا للنقل ، أو على قانون العقل المطابق للنقل.

وكلّ منهما إمّا أن يكون بطريق النظر والفكر ، أو بطريق الكشف والرياضة.

والأوّل هو حكمة المشّاء ، والثاني من الأوّل هو حكمة الإشراق ، والأوّل من الثاني هو علم الكلام ، والثاني من الثاني هو علم التصوّف.

وكون علم التصوّف أو نحوه باحثا عن أحوال المبدأ والمعاد لا يستلزم حقّيّته ؛ لأنّ البحث قد يكون على وجه فاسد وإن كان اعتقاد الباحث أنّه بحث على قانون العقل المطابق للنقل العرفي أو الذوقي. ولو سلّم فلا يلزم حقّيّة جميع المذاهب كمذاهب علماء الكلام.

وبالجملة ، فعلم الكلام علم باحث عن أحوال المبدأ والمعاد على قانون العقل المطابق للنقل بطريق النظر والفكر.

ويسمّى علم الكلام ؛ لكونه سببا للقدرة على الكلام في الأحوال المذكورة التي هي أهمّ المقاصد حتّى كأنّه لا كلام غيره ، أو لأنّ مباحثه كانت مصدّرة بقولهم :

ص: 65

« الكلام في كذا وكذا » ، أو لأنّ أشهر الاختلافات فيه كانت في مسألة كلام اللّه أنّه حادث أو قديم؟ أو لأنّه كثر الكلام فيه مع المخالفين والردّ عليهم ما لا يكثر في غيره.

وأحوال المبدأ شاملة لأصول أربعة : التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة ؛ لأنّ المبدأ بالاختيار - بعد ملاحظة وجوبه بالذات الموجب لكماله ذاتا وفعلا المراد من التوحيد والعدل - لا بدّ أن يكون فعله لغرض عائد إلى العباد ، وهو لا يتمّ إلاّ بالقابليّة الحاصلة بالطاعة الموقوفة على المعرفة الموقوفة غالبا على النبوّة والإمامة.

ويمكن اندراج أحوال النبوّة والإمامة في المعاد ؛ لأنّه عبارة عن عود الأرواح إلى الأجساد للحساب والثواب والعقاب ، ولا يكون ذلك إلاّ بالطاعة والمعصية الموقوفتين على التكليف الموقوف على النبيّ والإمام.

وحكي عن صاحب المواقف أنّه عرّف علم الكلام بأنّه « علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج ودفع الشبه » (1) بمعنى أنّه مسائل أو ملكة يحصل بها الاقتدار التامّ ، كما يفهم من صيغة الافتعال ، الذي يكون مصاحبا لهذا العلم على الدوام ، كما يفهم من إطلاق المعيّة المحترز بها عن السببيّة الحقيقيّة المستفادة من كلمة « الباء » ردّا على الأشعري ، ويكون متعلّقا بإثبات الأحكام الأصليّة الاعتقاديّة الصرفة المأخوذة من الشريعة كما يفهم من الإطلاق ، ويكون بإيراد الحجج ودفع الشبه ولو بزعم المستدلّ لغيره أو مطلقا ، فيخرج علم الميزان الذي يستنبط منه صورة الدليل ، وعلم الجدل الذي يتوصّل به إلى حفظ أيّ وضع يراد من غير اقتدار تامّ واختصاص بالعقائد.

وكذا يخرج علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة ، بل علم اللّه والملائكة ؛ لعدم كونه على الوجه المذكور.

ص: 66


1- « شرح المواقف » 1 : 34 - 35.

وكذا علم المقلّد إن كان علما ، وكذا علم الفقه المدوّن لحفظ الأحكام العمليّة التي يكون المقصود بالذات منها العمل وإن كان الاعتقاد بها أيضا مقصودا ، مع أنّه راجع إلى الاعتقاد بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله من جهة أنّها ممّا جاء به.

ودخل علم الصحابة وإن كان في ذلك الزمان غير مسمّى بالكلام ، كما لم يسمّ علمهم بالفرعيّات فقها.

وقد يعرّف ب- « أنّه العلم بالقواعد الشرعيّة الاعتقاديّة المكتسبة عن أدلّتها اليقينيّة » (1).

وقد يعرّف ب- « أنّه صناعة نظريّة يقتدر بها على إثبات العقائد الدينيّة » (2) و (3).

[ الأمر ] الثاني : في بيان موضوع علم الكلام.

اعلم أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة التي تعرض لذاته أو لجزئه أو لأمر يساويه ، كالتعجّب العارض للإنسان لذاته ، والحركة بالإرادة اللاحقة له بواسطة أنّه حيوان ، والضحك العارض له بواسطة التعجّب المساوي في الوجود.

وموضوع هذا العلم هو المبدأ والمعاد ؛ لكون البحث فيه عن عوارضهما الذاتيّة ولو بحسب الاعتبار في الصفات الثبوتيّة الحقيقيّة ، وكذا الوجود أو الصانع الواجب من حيث هو صانع لغرض عائد إلى العباد في المعاد.

وحكي عن المتقدّمين من علماء الكلام أنّهم جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود ؛ لرجوع مباحثه إليه ، لكون نظرهم في أعمّ الأشياء ، وهو الموجود المنقسم إلى القديم والمحدث المنقسم إلى الجوهر المنقسم إلى الحيوان والنبات والجماد ،

ص: 67


1- « شرح المقاصد » 1 : 165.
2- « شوارق الإلهام » المقدّمة ، في تعريف علم الكلام.
3- هناك عدّة تعاريف لعلم الكلام - مضافا إلى ما ذكره الشارح هنا - تطلب في « شرح المقاصد » 1 : 165 ، التعليقة الثانية.

وإلى العرض المنقسم إلى ما يشترط فيه الحياة كالعلم والقدرة ، وما لا يشترط فيه كالطعم واللون (1).

وفيه نظر ؛ لعدم انحصار الأمر في الموجود ، وعدم اقتصار النظر على صرف الوجود.

وعن القاضي الأرموي - من المتأخّرين - أنّ موضوع علم الكلام ذات اللّه تعالى ؛ لأنّه يبحث عن صفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وأفعاله المتعلّقة بأمر الدنيا : ككيفيّة صدور العالم عنه بالاختيار ، وحدوث العالم ، وخلق الأعمال ، وكيفيّة نظام العالم بالبحث عن النبوّة وما يتبعها ؛ أو بأمر الآخرة كبحث المعاد وسائر السمعيّات ، فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتيّة والسلبيّة وأفعاله المتعلّقة بأمر الدنيا والآخرة (2).

وتبعه صاحب الصحائف - على ما حكي عنه - إلاّ أنّه زاد فجعل الموضوع ذات اللّه من حيث هي ، وذوات الممكنات من حيث إنّها تحتاج إلى اللّه ، وجهة الوحدة هي الوجود ، فكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع وعن أحوال الممكنات من حيث احتياجها إلى اللّه تعالى على قانون الإسلام ، بناء على كون البحث عن الأمور العامّة ونحوها استطرادا موجبا لتكميل الصناعة ، أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف ، قصدا إلى تزييفه أو لتوقّف بعض المسائل (3).

وفيه أيضا نظر.

وعن أكثر المتأخّرين : أنّ موضوع علم الكلام هو المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينيّة ، كما أنّه يبحث عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والإرادة وغيرها ، وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب من الأجزاء

ص: 68


1- حكاه التفتازاني عن الغزالي في « شرح المقاصد » 1 : 176.
2- نقل عنه في « شرح المواقف » 1 : 42 - 43 و « شرح المقاصد » 1 : 180.
3- حكاه عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » 1 : 180.

وقبول الفناء ، ونحو ذلك ممّا هي عقيدة إسلاميّة أو وسيلة إليها.

وكلّ هذا بحث عن أحوال المعلوم ، يعني مفهومه لا مصداقه وإن كان محمولات المسائل أخصّ منه ، بناء على أنّ العرض الذاتي يجوز أن يكون أخصّ من معروضه (1).

[ الأمر ] الثالث :

أنّ فائدة علم الكلام الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة اليقين

وإرشاد المسترشدين - بإيضاح الحجج لهم - إلى عقائد الدين ، وإلزام المعاندين بإقامة البراهين ، وحفظ عقائد الدين عن الاختلال لشبه المبطلين ، وحصول مبنى فروع الدين بإثبات وجود صانع حكيم قادر عالم مرسل للمرسلين إلى المكلّفين ، وحصول الإخلاص في الأفعال ، الموجب للفوز باليقين.

[ الأمر ] الرابع :

أنّ علم الكلام أشرف العلوم موضوعا وغاية ودليلا ؛ لأنّ دلائله يقينيّة يحكم بصحّة مقدّماتها صريح العقل ، وقد تأيّدت بالنقل ، وهو الغاية في الوثاقة.

[ الأمر ] الخامس :

أنّه لا بدّ في مقام الاستدلال من التميّز بين أصول الدين وأصول المذهب ، ومعرفة ما يترتّب عليهما ، بأن يجعل الكلام في كلّ أصل من الأصول في خمسة فصول مع ذكر وصل بعد كلّ فصل مذكور في كلّ أصل.

فالأصل في بيان ما يتحقّق به الإسلام في الجملة ، والفصل في تفصيل ما يتحقّق به الإسلام وما يتحقّق به الإيمان ، والتميّز بين أصول الدين وأصول المذهب ، والوصل في بيان ما يترتّب على الاعتقادات وجودا وعدما من استحقاق الجنّة أو النار ، والرحمة والنعمة ، أو النقمة ، والكفر المقابل للإسلام ، الموجب للحكم

ص: 69


1- انظر : « شرح المقاصد » 1 : 173.

بالنجاسة ، ونحوها من أحكام الدنيا ، والخلود في النار ونحوه من أحكام الآخرة ، أو الكفر المقابل للإيمان الموجب للخلود ونحوه من أحكام الآخرة خاصّة ، أو مع بعض أحكام الدنيا - أيضا - كجواز الاقتداء وإعطاء الزكاة وقبول الشهادة ونحو ذلك وعدمها ، وغير ذلك من الثمرات العلميّة والعمليّة ؛ حذرا عن الخلط والغفلة.

بيان ذلك إجمالا : أنّ أصول الدين خمسة :

الأوّل : التوحيد الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات في الذات.

الثاني : العدل الذي هو كمال الواجب بالذات في الأفعال.

الثالث : النبوّة التي هي الرئاسة الإلهيّة بالأصالة في الجملة للبشر المعصوم الأعلم على المكلّفين في أمر الدنيا والدين.

الرابع : الإمامة التي هي الرئاسة الإلهيّة العامّة على وجه النيابة الخاصّة للبشر المعصوم المنصوب المنصوص الأعلم بعد الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين.

الخامس : المعاد الذي هو عبارة عن عود الأرواح إلى الأجساد للحساب والثواب والعقاب.

وتوهّم كون العدل والإمامة من أصول المذهب - دفعا للزوم كفر كثير من المسلمين كالمخالفين - صادر عن عدم الفرق بين العدل المقابل للجور والعدل المقابل للجبر ؛ فإنّ الأوّل من أصول الدين ، فيكفر من يقول بالجور ، والثاني من أصول المذهب.

وكذا الإمامة ، فإنّ جواز وقوع الرئاسة المذكورة في الشريعة ووقوعها من أصول الدين ، ولهذا يكفّر أمثال الخوارج ، والإمامة المقيّدة بسائر القيود كسائر الاعتقادات من أصول المذهب ، فيخرج منكرها عن المذهب.

وإيضاح ذلك : أنّ أصول الدين عبارة عن اعتقادات عليها بناء شريعة سيّد المرسلين صلی اللّه علیه و آله ، ولا يتحقّق الدين إلاّ بها ، ولا يدخل المكلّف فيه ولا يعدّ بدونها

ص: 70

من المسلمين ، ولا تترتّب بدونها آثاره ، كحقن الدم وحفظ المال والعرض.

وأصول المذهب عبارة عن اعتقادات عليها بناء المذهب الجعفري والإمامي ، ولا يدخل المكلّف في المذهب الاثني عشري إلاّ بها ، ويتوقّف عليها ترتّب أحكام الإيمان الخاصّ ، كجواز إعطاء الزكاة وقبول الشهادة والاقتداء.

ولكلّ واحد من الأصول الخمسة جهة تقتضي دخوله في أصول الدين ، وجهة أخرى تقتضي دخوله في أصول المذهب ؛ فإنّ التوحيد بحسب الذات - مثلا - بمعنى أنّه لا شريك له في الذات من أصول الدين ، والتوحيد بحسب الصفات بمعنى أنّ صفاته الذاتيّة عين ذاته من أصول المذهب. والعدل في مقابل الجور من أصول الدين ، والعدل في مقابل الجبر من أصول المذهب. والنبوّة بمعنى كون محمّد بن عبد اللّه رسولا خاتم النبيّين من أصول الدين ، وبمعنى كونه بشرا معصوما رسولا - مثلا - من أصول المذهب. والإمامة المطلقة من أصول الدين ، والمقيّدة من أصول المذهب. والمعاد بمعنى عود الأرواح إلى الأجساد في الجملة من أصول الدين ، وإلى القالب المثالي في البرزخ والأصلي في المحشر مع خلود الكفّار وأمثالهم في النار واختصاص الإماميّة بالجنّة وكونهم فرقة ناجية ومن عداهم هالكة ونحو ذلك من أصول المذهب ، فلا بدّ من التميّز ؛ حذرا عن الخلط والغفلة وترتّب المفسدة وفوت المصلحة.

ولنشرع في شرح الكتاب ، فنقول - بعون اللّه الملك الوهّاب - : قال المصنّف العلاّمة أعلى اللّه مقامه :

ص: 71

بسم اللّه الرحمن الرحيم

امتثالا للحديث المشهور : « كلّ أمر ذي بال لم يبدأ باسم اللّه تعالى فهو أبتر » (1) الدالّ على لزوم الابتداء العرفي بلفظ « اللّه » الذي هو اسم الذات ، واقتداء بكتاب اللّه ، بمعنى « أبتدئ في المقصود » أو « أقرأ - مثلا - متلبّسا باسم اللّه المحمود - أو - بعون اللّه المعبود » الذي هو الذات الواجب الوجود الجامع لصفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص وهو صاحب الجلال والذي تكون صفاته الذاتية عين الذات. وهو الكامل في الأفعال ، الذي يكون فعله حسنا خاليا عن الظلم والقبح في كلّ حال ، ومعلّلا بغرض عائد إلى العباد على الوجه الأصلح في المآل ، وله اللطف المقرّب إلى الطاعات ، المبعّد عن المعاصي والسيّئات.

الموصوف هنا برعاية الاستخدام ، أو من باب توصيف المتعلّق بوصف المتعلّق كما في ( الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) (2) ، أو بملاحظة عدم إهمال اللفظ ، وكون المراد اللفظ الدالّ على الذات ، وكون الملحوظ باعتبار اللسان اللفظ الموجب لامتثال الحديث ، وباعتبار الجنان الذات المصحّح للتوصيف ، كما في سائر العبادات اللفظيّة ، أو بحمل الاسم على مطلق ما يدلّ على الذات - بأنّه الرحمن المتفضّل بجميع أنواع الإحسان على جميع الخلق حتّى غير الإنسان ، بإخراجهم عن كتم الأعدام إلى الوجود ، وإعطاء الحياة والصحّة والعلم والقدرة والمساكن وبسط الرزق من نحو المآكل

ص: 72


1- « تفسير الإمام العسكري » : 25 ؛ « بحار الأنوار » 92 : 242 / 20 ؛ « سنن الدار قطني » 1 : 229.
2- يس (36) : 2.

والمشارب على وجه الجود ، من غير قطع موادّ الرزق وإن انقطعوا عن الطاعة ، فهو المحسن بهذه الصفة العامّة التي تكون خاصّة في الدنيا على المؤمنين والكافرين بل جميع المخلوقين بإعطاء ما به قوامهم ، كحفظ التركيب في الجمادات ، وذلك مع التنمية في النباتات ، وذلك مع الحسّ والحركة بالإرادة والأرزاق في الحيوانات ، وذلك مع إدراك المعقولات في الإنسان الذي هو أشرف الموجودات ، فإنّه أحسن كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.

والموصوف - كما زبر - بأنّه الرحيم المحسن في الآخرة بالصفة الخاصّة على المؤمنين بالغفران والنعيم الأبدي والجنان ، وإعطاء الحور والقصور والفواكه والمشارب والمآكل والطيور ، سيّما الرضوان.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى إشارة إلى الأصول الخمسة التي هي رأس العقائد الدينيّة لانفتاح باب التوحيد من كمال الذات المنافي للإمكان وفقد الصفات وزيادتها ووجود الشريك المستلزم للاحتياج أو العجز ونحو ذلك ، وباب العدل من التنزّه عن النقائص المتحقّقة في الظلم وخلق العباد مجبورين أو نحو ذلك ، بل يمكن استفادة سائر أصول الدين من ذلك.

مضافا إلى اقتضاء « الرحمن » و « الرحيم » من جهة كون النبوّة والإمامة والمعاد من فروع اللطف الذي هو أحد أجزاء العدل ، مع أنّ تخصيص المؤمنين بالرحمة الأخرويّة الدالّة على المعاد ليس إلاّ من جهة القابلية الحاصلة من الطاعة الموقوفة على المعرفة الموقوفة على النبيّ والوصيّ.

ثمّ شرع لمثل ما مرّ في الحمد الذي هو عبارة عن الثناء باللسان على الجميل الاختياري كما هو المشهور ، أو الثناء على الجميل الاختياري ولو بغير اللسان ، ليدخل حمد اللّه ، كما هو المنصور ، أو إظهار صفات الكمال بالقول أو الفعل ليكون حمده تعالى لذاته حمدا على سبيل الحقيقة ؛ لكونه من أفضل أفراده ؛ لأنّه تعالى كشف عن صفات كماله ببسط بساط الوجود وموائد الجود على ممكنات لا تحصى

ص: 73

وذرّات لا تتناهى ، كما اختاره صالح العلماء ، فقال :

( أمّا بعد حمد ) ذات تكون عين صفاتها التي لا يمكن تصوّرها إلاّ بها ، ومنها أنّه ( واجب الوجود ) الذي هو أخصّ صفاته ، وهو فرد منه ، وتوحيده تعالى عبارة عن توحيد فرد هذا المفهوم ، فكان ذكره بمنزلة ذكر الذات ، مع أنّ الحمد على الوصف مشعر بعلّيّة مبدأ الاشتقاق ، فكأنّه قال : أحمده على كونه واجب الوجود بالذات المتبادر عند الإطلاق و ( على نعمائه ) التي هي من الفواضل الواصلة إلينا التي لا تحصى ، فلا يمكن التعدّي إلى الفضائل التي لا تصل إلينا.

( والصلاة ) وطلب الرحمة ( على سيّد أنبيائه محمد صلی اللّه علیه و آله ) الذي هو خاتم النبيّين المستلزم للفضل عليهم ( وعلى أكرم أحبّائه ) وهو عليّ علیه السلام إن أريد من اسم التفضيل الزيادة على جميع من عداه ؛ للزوم المطابقة إفرادا وجمعا حينئذ ، ولكن لا بدّ من إرادة من لا أكرم منه إن قلنا بتساوي الأئمّة علیهم السلام أو الأكرم في وقته. وإن أريد الزيادة على من أضيف إليه ، فيمكن إرادة جميع أصحابه الموصوفين بزيادة الكرم على من عداهم من محبوبي النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو خصوص الأئمّة الاثني عشر ؛ لعدم اشتراط المطابقة حينئذ.

وقد يقال : يمكن قراءة « عليّ » بالاسم المجرور المعطوف على « سيّد أنبيائه ».

فتأمّل.

( فإنّي ) جواب « أمّا » فإنّها ك « مهما يكن من شيء » ولهذا تجب الفاء في الجواب ( مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام ) الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد على قانون العقل المطابق للنقل ( وتقريرها ) (1) على الوجه الخالي عن الإملال والإخلال ( على أبلغ ) ال ( نظام ) والترتيب ( مشيرا إلى غرر فرائد الاعتقاد ) يعني الحكم الشرعي غير المتعلّق بالعمل الذي هو كالفريدة الغرّاء ، يعني اللؤلؤ الكبير

ص: 74


1- في النسخ الخطّيّة ف « تقريره ». والظاهر ما أثبتناه. وبدلها في « تجريد الاعتقاد » : « وترتيبها ».

( و ) إلى معنى دقيق مثل ( نكت ) جمع نكتة ، وهي أرض منكوتة بقضيب ونحوه يعني ( مسائل الاجتهاد ) المتعلّقة بالاعتقاد ( ممّا قادني الدليل [ إليه ] (1) وقوي اعتمادي عليه ، واللّه أسأل العصمة ) من الزلّ ( والسداد ) عن الخلل ( وأن يجعله ذخرا ليوم المعاد ، وسمّيته بتجريد العقائد ، ورتّبته على ستّة مقاصد ) لبيان المقصود الأصلي وما يتوقّف عليه إثباته من أمور عامّة ونحوها.

ووجه الترتيب : أنّ ما يتوقّف عليه الكلّ مقدّم على الكلّ ، وهو باب الأمور العامّة. وما يتوقّف عليه خصوص التوحيد - بإثبات الصانع وصفاته وكمال أفعاله ، المتوقّف على حدوث المصنوع - هو أحوال الجوهر والعرض. والتوحيد الشامل للعدل موقوف عليه للنبوّة ، وهي للإمامة ، وهما معا للمعاد الجسماني ؛ لتوقّف تفاصيله على بيان من اللّه والنبيّ صلی اللّه علیه و آله والإمام علیه السلام .

فمجموع مقاصد علم الكلام منحصر في ستّة :

المقصد الأوّل : في الأمور العامّة.

والثاني : في الجواهر والأعراض.

والثالث : في إثبات الصانع وصفاته وأفعاله المتعلّقة بمباحث العدل.

والرابع : في النبوّة.

والخامس : في الإمامة.

والسادس : في المعاد الذي لا يستقلّ بإثبات تفاصيله العقل بل يحتاج إلى النقل من الكتاب والسنّة النبويّة والإماميّة.

ص: 75


1- أضفناه من « تجريد الاعتقاد ».

ص: 76

المقصد الأوّل: في الأمور العامّة

اشارة

[ وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في الوجود والعدم

الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها

الفصل الثالث : في العلّة والمعلول ]

ص: 77

ص: 78

( المقصد الأوّل في الأمور العامّة ) التي لا تختصّ بقسم من أقسام الموجود من الواجب والجوهر والعرض ، كالوجود والعلّيّة والوجوب والإمكان العامّ ، وما يتعلّق بذلك ، كبحث الامتناع والعدم ؛ لكونهما في مقابل الوجود والإمكان ، مع أنّ العدم هنا بمعنى رفع الوجود عدوليّا كان أو سلبيّا من أحوال الموجود ، ولهذا أفرد بابها وقدّم على باب باحث عن أحوال مختصّة ببعضها ممّا يتعلّق به غرض علميّ ويترتّب عليه مقصود أصليّ.

( وفيه فصول ) ثلاثة ؛ لانحصار الأمور العامّة التي يتعلّق بالبحث عنها غرض علميّ في الوجود والعدم وأحوالهما وفي الماهيّة وأحوالها وفي المركّب من الماهيّة والوجود أو العدم وأحواله ، وهو العلّة والمعلول.

ص: 79

ص: 80

( الفصل الأوّل : في الوجود والعدم )

اشارة

فيه مسائل :

المسألة الأولى : في ( تحديدهما ).

اعلم أنّ أرباب المعقول اختلفوا في المقام على أقوال :

الأوّل : أنّه نظريّ محتاج إلى الكسب.

الثاني : أنّه بديهيّ التصوّر ، فلا يجوز أن يعرّف إلاّ تعريفا لفظيّا ، وكذا الحكم ببداهته أيضا بديهيّ.

الثالث : أنّه بديهيّ ، والحكم ببداهته كسبيّ.

الرابع : أنّه لا يتصوّر لا بداهة ولا كسبا.

فعن المتكلّمين تحديد الوجود ( بالثابت العين ، و ) تحديد العدم بأنّه عبارة عن ( المنفيّ العين ) (1).

ويرد عليه : بأنّه تعريف للموجود والمعدوم ، فلا بدّ أن يعرّف الوجود بثبوت العين ، والعدم بنفي العين مع كون النفي بمعنى الانتفاء حتّى يكون التعريف للعدم لا الإعدام.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ « الثابت » أعمّ من أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود أو

ص: 81


1- انظر : « شرح المقاصد » 1 : 296 ؛ « شوارق الإلهام » المسألة الأولى من الفصل الأوّل.

بالوجود وهو الموجود ، وإن كان الظاهر من « الثابت » بحسب اللغة ما له الثبوت ، وهو معنى الموجود ، وأنّ زيادة لفظ « العين » لدفع توهّم أن يراد الثابت لشيء بالوجود الرابطي أو المنفيّ عن شيء ، فإنّ ذلك معنى المحمول.

أو يقال : إنّ المشتقّ محمول على مبدأ الاشتقاق في الثابت والمنفيّ ، أو العكس في الوجود والعدم بإرادة الموجود والمعدوم تسامحا ، إشعارا بأنّ احتياج الموجود والمعدوم إلى التعريف إنّما هو لاحتياج الوجود والعدم إليه ؛ لأنّ مفهوم صيغة المشتقّ معلوم لكلّ من يعرف اللغة ، أو لتساويهما في المعرفة والجهالة ، أو للإشارة إلى أصالة الوجود مع ملاحظة تبعيّة العدم.

أو يقال : إنّ الضمير راجع إلى الموجود والمعدوم ؛ لدلالة الوجود والعدم عليهما.

وعن الفارابي : أنّ الوجود إمكان الفعل والانفعال ، والموجود ما أمكنه الفعل والانفعال (1).

وعن بعض الحكماء تعريفه بمثل ذلك ، مثل قولهم : « الموجود هو الذي يكون فاعلا أو منفعلا » (2) أو : « الذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل » (3) أو : « ينقسم إلى الحادث والقديم ، والمعدوم ما ليس كذلك » (4) ( أو ) بغير ذلك ، كالتعريف بأنّهما عبارتان عن ( الذي يمكن أن يخبر عنه ، ونقيضه ) وهو الذي لا يمكن أن يخبر عنه بمثل ما مرّ (5).

وعن المحقّقين : أنّ تصوّر الوجود بديهيّ ، بل هذا الحكم أيضا بديهيّ يقطع به كلّ عاقل يلتفت إليه وإن لم يمارس طرق الاكتساب ، بل عن جمهور الحكماء أنّه

ص: 82


1- انظر : « شرح المقاصد » 1 : 297.
2- « المباحث المشرقية » 1 : 97.
3- « شرح المقاصد » 1 : 295.
4- « شرح المقاصد » 1 : 295 ؛ « شوارق الإلهام » المقصد الأوّل ، الفصل الأوّل ، في المسائل المتعلّقة بالوجود.
5- أي يرد عليه بمثل ما مرّ.

لا شيء أعرف من الوجود ، فلو عرّف بشيء ، كان تعريفا لفظيّا (1).

واختاره المصنّف ، فأفاد أنّ جميع ما ذكر في تعريفه ( يشتمل على دور ظاهر ) واضح أو مصرّح غير مضمر ؛ لاشتماله على ما يرادفه ، فيلزم توقّف الشيء على نفسه ؛ إذ لا يعقل معنى « الذي ثبت » و « الذي يمكن » ونحو ذلك إلاّ بعد تعقّل معنى الحصول في الأعيان أو الأذهان ، أو لأنّ الموصوف المقدّر هو الوجود كما قيل (2).

فلا يكون المراد تعريفا حقيقيّا موقوفا على تصوّر المعرّف المشتمل على المرادف ( بل المراد تعريف اللفظ ) بتبديل لفظ بلفظ أعرف عند السامع ( إذ لا شيء أعرف من الوجود ) حتّى يجعل معرّفا حقيقيّا له ، فيكون بديهيّا ؛ لبطلان الدور والتسلسل ومماثلة المعرّف ، بل الحكم بكونه بديهيّا أيضا بديهيّ ؛ لما مرّ.

وعن الإمام الرازي : أنّ الوجود متصوّر بالبديهة ، ولكنّ الحكم بكونه بديهيّا كسبيّ محتاج إلى الاستدلال (3).

( والاستدلال ) على بداهة تصوّر الوجود ( بتوقّف التصديق بالتنافي ) أي بالمنافاة بين الوجود والعدم ، بأن يقال : الوجود والعدم متنافيان لا يصدقان على أمر ( عليه ) أي على تصوّر الوجود والعدم ؛ لأنّ كلّ تصديق موقوف على تصوّر الموضوع والمحمول ونحوهما ، فيكون التصديق بالمنافاة بينهما - أيضا - متوقّفا عليه ؛ لأنّ التصديق المذكور مسبوق بتصوّر الوجود والعدم ، وحيث كان ذلك التصديق بديهيّا كان تصوّر الوجود والعدم أولى بالبداهة ؛ لأنّ بداهة الكلّ في نفس الأمر تتوقّف على بداهة أجزائه فيها وإن لم يتوقّف العلم ببداهته على العلم ببداهة أجزائه ، الذي هو تابع متفرّع على العلم الأوّل بملاحظة أنّ الوجود والعدم جزءان له ، كعدم توقّف العلم بكلّيّة الكبرى على العلم بالنتيجة مع كون العلم بالنتيجة تابعا

ص: 83


1- « شرح المقاصد » 1 : 295.
2- « شرح المقاصد » 1 : 296.
3- « المطالب العالية » 1 : 301 ، ونقل فيه اتّفاق الحكماء على ذلك ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 98 - 99.

للعلم بكلّيّة الكبرى.

( أو ) الاستدلال بأنّ الوجود متصوّر بالكنه ، وحصول العلم منحصر في الضرورة والاكتساب ، والاكتساب إمّا بالحدّ أو الرسم ، والحدّ لا يكون إلاّ للمركّب من الأجزاء ، والأجزاء إمّا وجودات فيحكم ( بتوقّف الشيء على نفسه ، أو ) غير وجودات لا يحصل من اجتماعها الوجود ، فيلزم كون الوجود محض ما ليس بوجود ، وهو محال.

وإن حصل أمر زائد هو الوجود يلزم ( عدم تركّب الوجود مع فرضه مركّبا ) لكون التركيب في معروضه ، ( و ) الرسم لا يفيد العلم إلاّ بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم ، وهذا متوقّف على العلم به ، وهو دور يقتضي ( إبطال الرسم ).

وكلّ واحد من الاستدلالين ( باطل ).

أمّا الأوّل : فلأنّه إن أريد أنّ الحكم المذكور بجميع متعلّقاته بديهيّ ، فهو ممنوع بل مصادرة. وإن أريد أنّ نفس الحكم بديهيّ ، فهو مسلّم ، لكنّه لا يثبت المدّعى.

وأمّا الثاني ؛ فبالنقض والحلّ :

أمّا النقض فبسائر الماهيّات ؛ لأنّ أجزاء البيت إمّا بيوت أو غير بيوت ، على نحو ما مرّ.

وأمّا الحلّ فباختيار أمر زائد على كلّ جزء ، وهو المجموع الذي هو نفس الوجود ، فلا يكون التركيب إلاّ فيه ، فالوجود محض المجموع الذي ليس شيء من أجزائه بوجود ، كما أنّ البيت محض الأجسام والهيئة التي ليس شيء منها ببيت.

وقال صدر الحكماء الإشراقيّين في الشواهد الربوبيّة : « الوجود لا يمكن تصوّره بالحدّ ولا بالرسم ولا بصورة مساوية له ؛ إذ تصوّر الشيء عبارة عن حصول معناه وانتقاله من حدّ العين إلى حدّ الذهن ، فهذا يجري في غير الوجود ، وأمّا في الوجود فلا يمكن ذلك إلاّ بصريح المشاهدة وعين العيان ، دون إشارة الحدّ والبرهان ، وتفهيم العبارة والبيان ، وإذ ليس له وجود ذهني فليس بكلّيّ ولا جزئيّ ولا عامّ ولا خاصّ

ص: 84

ولا مطلق ولا مقيّد ، بل تلزمه هذه الأشياء بحسب الدرجات وما يوجد به من الماهيّات وعوارضها ، وهو في ذاته أمر بسيط لا يكون له جنس ولا فصل ، ولا - أيضا - يحتاج إلى ضميمة قيد فصليّ أو عرضي ، مصنّف أو مشخّص » (1).

وقال بعض أفاضل من عاصرناه (2) ما حاصله : « أنّ الذي يعبّر عنه عند طلب معرفته بالوجود ثلاثة أقسام ؛ لأنّ الشيء إمّا صانع ، أو صنع ، أو مصنوع ؛ فالصانع هو الواجب ، والصنع فعله ، والمصنوع ما سواه :

[ القسم ] الأوّل : الوجود الحقّ المسمّى بالوجه ، وهو الواجب المقدّس عن كلّ ما سواه حتّى إطلاق العبارة ، فإذا أطلقت العبارة فإنّما تقع على العنوان ، أعني الدليل عليه ، وهو ما أوجده اللّه تعالى من وصفه لعباده.

وهذا الوجود لا يدرك بعموم ولا خصوص ، ولا إطلاق ولا تقييد ، ولا كلّ ولا جزء ، ولا كلّيّ ولا جزئيّ ، ولا بمعنى ولا لفظ ، ولا كمّ ولا كيف ، ولا رتبة ولا جهة ، ولا وضع ولا إضافة ، ولا نسبة ولا ارتباط ، ولا في وقت ولا في مكان ، ولا على شيء ولا في شيء ، ولا فيه شيء ولا من شيء ولا لشيء ولا كشيء ولا عن شيء ، ولا بلطف ولا بغلظ ، ولا باستدارة ولا امتداد ، ولا حركة ولا سكون ، ولا استضاءة ولا ظلمة ، ولا بانتقال ولا بمكث ، ولا تغيّر ولا زوال ، ولا يشبهه شيء ، ولا يخالفه شيء ، ولا يوافقه شيء ، ولا يعادله شيء ، ولا يبرز من شيء ولا يبرز منه شيء ، وكلّ صفة أو جهة أو صورة أو مثال أو غير ذلك - ممّا يمكن فرضه أو وجوده أو تمييزه أو إبهامه - فهو غيره ، ولا يدرك بشيء ممّا ذكر أو غيره ؛ لأنّها صفات الخلق ، ولا بضدّه ؛ إذ لا ضدّ له. ولا يعرف بما هو (3) في سرّ ولا علانية ، ولا طريق إلى

ص: 85


1- « الشواهد الربوبيّة » : 6 - 7 ، المشهد الأوّل.
2- وهو الشيخ أحمد الأحسائي في الفوائد وشرحه. ( منه رحمه اللّه ).
3- أي بالإشارة ولا التصريح ولا بوجه من الوجوه الموقوفة على الإطاعة بالمعروف. نعم ، وصف نفسه بما يوجب المعرفة ؛ لاقتضاء اللطف ... بما وصف به نفسه. ( منه رحمه اللّه ).

معرفته بوجه لا بنفي ولا إثبات ، إلاّ بما وصف به نفسه ، ولا يدرك أحد كنه صفته ، وإنّما يعرفه بما يعرّف له به ، ولم يتعرّف (1) لأحد بنحو ما عرفه من غيره ، وإلاّ لشابهه سبحانه ، فهو المعلوم والمجهول (2) والموجود والمفقود (3) ، فجهة (4) معلوميّته نفس مجهوليّته ، ونفس مشهوديّته عين مفقوديّته ، فهو لا يعرف بغيره ، وغيره يعرف به (5) ، فهو الواجب الحقّ والمجهول المطلق.

وهذا القسم يعبّر عنه بالذات البحت ، ومجهول النعت ، وشمس الأزل ، ومنقطع الإشارات ، والكنز المخفيّ ، والمنقطع الوجداني ، وكلّها عبارات مخلوقة تقع على مقاماته وعلاماته التي لا تعطيل لها في كلّ مكان.

القسم الثاني : الوجود المطلق بمعنى أنّه غير مقيّد بشرط يتوقّف عليه ، لا أنّه صادق على الواجب والممكن. وهذا هو المشيئة التي خلقها اللّه (6) بنفسها وأقامها بنفسها وأمسكها بظلّها ومادّتها ، كما أنّ أبانا آدم علیه السلام أبوه مادّته وأمّه صورته ، أو بالعكس ، كما عليه الحكماء ، فليس له أب ولا أمّ غير مادّته وصورته.

القسم الثالث : الوجود المقيّد المعبّر عنه بأنّه وجود بشرط لا وبشرط شيء ، وهو الفعل باعتبار تعلّقه بالمفعول ، وهو الجعل الذي يستعمل كثيرا ما في إيجاد اللوازم

ص: 86


1- أي لم يصف نفسه لأحد بمثل ما وصف غيره له ، فإنّه عرّف نفسه بأنّه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [ الشورى (42) : 11 ] وعرّف القرطاس - مثلا - بأنّه أبيض ... وصف نفسه بالبياض فشابه القرطاس في البياض ، فهو تعالى لم يصف نفسه بوصف ... من أوصاف الخلق ، كذا أفاده في الشرح. ( منه رحمه اللّه ).
2- أي مكتنهة ( منه رحمه اللّه ).
3- بذاته لمن طلب حقيقة ذاته. ( منه رحمه اللّه ).
4- لأنّك تعرفه بأنّه لا يوصف ولا يحاط به علما ، وليس كمثله شيء ، وهذه صفة توجب كونه تعالى مجهول الكنه ، وأنّك تشاهد آثاره ، ككلام من متكلّم خلف الجدار ، فمشاهدته بآثار صنعه حال غيبته ، فوجدانه عين فقدانه ، كذا أفاده في الشرح. ( منه رحمه اللّه ).
5- فإنّه يعرف بأنّه مصنوعه وأثر فعله. ( منه رحمه اللّه ).
6- لأنّها حركة إيجادية محدثة تتوقّف حداثتها على حركة إيجاديّة ، وهي حركة إيجاديّة ، فلا تحتاج لما بغير نفسها فهي شيء واحد. ( منه رحمه اللّه ).

لملزوماتها كالوجود والماهيّة ، وقد يستعمل للتصيير والقلب لشيء إلى شيء آخر كجعل الطين خزفا ، وهو واحد لا تعدّد فيه لذاته ؛ لأنّه حركة إيجاديّة ، فهي واحدة ، وإنّما تتكثّر باعتبار متعلّقها ، وتتعدّد وجوهها باعتبار تعدّد متعلّقاتها.

قال تعالى : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) (1) فجعل الوجود متعلّقا به خاصّة ، وجعل الماهيّة متعلّقا بها خاصّة ، فلا يصدران من جعل واحد ليصحّ فيه اعتبار التركيب.

نعم ، له رءوس بعدد المجعولات ، ولكلّ رأس وجوه بعدد أحواله.

وقال في بعض إفاداته : « الوجودات ثلاثة : وجود حقّ ، ووجود مطلق ، ووجود مقيّد. والوجود الحقّ ذات الواجب تعالى مع قطع النظر عن الصفات. والوجود المطلق فعل اللّه ومشيئته وإرادته. والوجود المقيّد المفعولات بأسرها - إلى أن قال - : والوجود المقيّد من الوجود المطلق مثل الوجود المطلق من الوجود الحقّ ، فمراتب الوجود متناسبة صعودا ونزولا » (2).

أقول : الوجود له معنيان : مصدريّ ، واسميّ.

والمصدريّ عبارة عن كون الشيء وثبوته وتحقّقه وتحصّله المعبّر عنه بالفارسيّة ب- « بودن » و « هستى داشتن » ويقابله العدم. وما يتّصف بهما يسمّى ماهيّة.

والا سمي عبارة عن منشأ الأثر.

والأوّل أمر بديهيّ يعرفه كل أحد ، ولكنّه قد يعرّف بالتعريف اللفظي ، ولهذا يقال : إنّ الوجود بديهيّ التصوّر ؛ لتحقّقه في كلّ موجود في الذهن ، فيكون تصوّر كلّ شيء موقوفا عليه ، فيتحقّق الكون في الذهن. والعلم عبارة عن حصول الشيء في الذهن وإن كان العلم بالعلم موقوفا على التفات النفس.

ص: 87


1- الذاريات (51) : 49.
2- « الفوائد وشرحه » الورقة 2 وما بعدها ، مخطوطة برقم 7537 والورقة 174 من المخطوطة المرقّمة 1697 في مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي.

وهذا المعنى متصوّر في جميع الموجودات وإن اختلف باختلاف الإضافات مع اختلاف الأشياء بالذات ، وهو إن كان أصليّا لا رابطيّا يكون موجودا في الخارج ، بمعنى أنّ الخارج ظرف لنفسه لا لوجوده كما في سائر الموجودات.

وهو بهذا المعنى مشترك معنويّ صادق على الكلّ ولو بنحو صدق العرض العامّ ، ولهذا يسمّى وجودا عامّا ، كما سيأتي.

وأمّا المعنى الثاني فهو وجود خاصّ يكون في الواجب عين ذاته ، وفي الممكن زائدا على ذاته ، وهو منشأ أثره. والأوّل منهما مجهول الكنه دون الثاني ، فالوجود ثلاثة :

الأوّل : الوجود العامّ.

والثاني : الوجود الخاصّ الواجبي.

[ و ] الثالث : الوجود الخاصّ الممكني.

وأمّا إطلاق الوجود على الموجود - كما هو ظاهر ما حكيناه عن بعض الأفاضل - فهو غير وجيه ، إلاّ على مذهب من يقول بأصالة الوجود ، أو وحدة الوجود ، وهو بما سيأتي مردود.

وكيف كان فالوجود العامّ بديهيّ التصوّر مع بداهة الحكم به أيضا ، كما لا يخفى.

والوجود الممكني مجهول يستعلم بالكسب بأنّه عرض قائم بذات الممكن ، وبه يكون الممكن منشأ للأثر.

والوجود الواجبي مجهول الكنه لا يمكن استعلام كنهه ولا يتصوّر أصلا.

نعم ، هو متصوّر بالوجه وبالآثار وبما يصدق عليه ، مثل أنّه صانع العالم ، أو الواجب بالذات أو نحو ذلك ، وإلاّ لا يمكن التصديق بوحدته ونحوها ، فلا يتحقّق الإيمان.

فالقول بعدم إمكان تصوّر الوجود أصلا - تمسّكا بنحو أنّه لو تصوّر لارتسمت في النفس صورة متساوية له ، مع أنّ للنفس وجودا فيجتمع مثلان - ضعيف ؛ لمنع

ص: 88

التماثل بين وجود النفس والصورة الكلّيّة الموجودة فيها ، مضافا إلى تعدّد المحلّ.

وكيف كان فقد نظمت هذا المطلب بقولي :

حدّ الوجود بثبوت العين *** أو نحوه دور بغير مين

فليقصد اللفظيّ من يعرّف *** إذ ليس شيء من وجود أعرف

ذكر الدليل في المقام باطل *** لأنّ علم العلم أيضا حاصل

المسألة الثانية :

في أنّ الوجود مشترك معنويّ أو لفظيّ ، بمعنى أنّ الوجود مفهوم واحد يصدق على الوجودات الخاصّة المتخالفة ، لا نفس تلك الوجودات.

وبعبارة أخرى : بمعنى أنّ المفهوم الذي يقال له : « الوجود » مفهوم كلّيّ.

وبعبارة أخرى : ماهيّة الوجود ماهيّة كلّيّة واقعيّة تتحقّق في ضمن الخصوصيّات ، فتكون الخصوصيات مشتركة في ذلك المفهوم ، ويكون ذلك المفهوم بحسب نفس الأمر مشتركا فيه من غير ملاحظة لفظ الوجود ووضعه ، فيكون الاشتراك في المعنى ، أو ذلك المفهوم عبارة عن نفس الخصوصيّات المتباينة المختلفة أو ما يختصّ بها ، فلا اشتراك إلاّ في اللفظ وإطلاقه.

فعلى هذا تكون المسألة عقليّة من مسائل العلم المعقول لا علم الأصول ؛ ولهذا لا بدّ أن يكون المدرك هنا هو العقل بنحو عدم صحّة السلب عند العقل والعقلاء.

وأمّا المسألة الأصوليّة فهي أنّ اللفظ موضوع للقدر المشترك ، فيكون الاشتراك فيه - ولو بملاحظة المعنى - معنويّا ، أو لنفس الخصوصيّات ، فيكون الاشتراك لفظيّا.

ومدرك هذه المسألة هو العرف بنحو عدم صحّة السلب عند العرف وأهل اللسان ، فتكون المسألة المذكورة متعلّقة بالمبدإ ، فتكون مسألة كلاميّة باحثة عن أحوال المبدأ بأنّ وجوده من أفراد مطلق الوجود ، كما هو كذلك بمقتضى الاشتراك المعنوي ، أو وجود مباين يطلق عليه لفظ الوجود ، كما هو مفاد القول بالاشتراك اللفظي ، وأنّ المجعول ماهيّة ووجود ، أو خصوص الوجودات.

ص: 89

اعلم أنّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة على قولين :

الأوّل : أنّ الوجود له مفهوم واحد مشترك بين الوجودات ، وهو مختار جمهور المحقّقين (1) ، كما حكي.

الثاني : أنّ وجود كلّ شيء عين ماهيّته ، ولا اشتراك إلاّ في لفظ الوجود ، وهو المحكيّ عن أبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري (2).

واختار المصنّف الأوّل ، واستدلّ له بقوله : ( وتردّد الذهن حال الجزم بمطلق الوجود ، واتّحاد مفهوم نقيضه ، وقبوله القسمة يعطي الشركة ) ففيه إشارة إلى وجوه ثلاثة :

[ الوجه ] الأوّل : أنّه لو كان الوجود مشتركا لفظيّا لا معنويّا ، لما أمكن وما وقع تردّد الذهن في خصوصيّات الوجود والماهيّات مع الجزم بالوجود المطلق ، ولكن أمكن ووقع تردّد الذهن فيها مع الجزم بالوجود المطلق ، فلا يكون مشتركا لفظيّا ، بل يكون معنويّا.

أمّا الملازمة : فلأنّ الوجود - على تقدير الاشتراك اللفظي وعدم الاشتراك المعنوي - إمّا أن يكون نفس الخصوصيّات أو من خواصّها الذاتيّة أو العرضيّة ؛ لعدم تصوّر غير ذلك.

وعلى الأوّل يكون التردّد في الخصوصيّات عين التردّد في الوجودات التي هي أعيان تلك الخصوصيّات ، ويكون الجزم بالوجود عين الجزم بها ، فبين التردّدين والجزمين تلازم يمتنع به التخلّف.

وكذا على الثاني ؛ لأنّ التردّد في شيء يستلزم التردّد فيما يختصّ به.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّا إذا رأينا حادثا ، جزمنا أنّ له مؤثّرا موجودا ، مع التردّد في كونه واجبا أو ممكنا ، جوهرا أو عرضا ، إلى غير ذلك من الخصوصيّات ، وذلك

ص: 90


1- « محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين » : 147 - 177 ؛ « شرح المواقف » 2 : 112 - 113.
2- انظر : « شرح المقاصد » 1 : 307 ؛ « شرح المواقف » 2 : 112.

يفيد اشتراك الوجود معنى.

ومثله ما يمكن أن يقال من أنّا إذا جزمنا بوجود معلول ، وجزمنا بأنّ له علّة موجودة ، وأنّها ذلك الشيء ، ثمّ زال الاعتقاد الأخير بأنّها شيء آخر ، بقي الاعتقاد بوجود العلّة مع زوال الاعتقاد بوجود شيء خاصّ ، فلولا أنّ الوجود مشترك معنى ، لم يتصوّر ذلك قطعا.

[ الوجه ] الثاني : أنّ مفهوم العدم واحد لا تعدّد فيه ولا امتياز ، فيكون مفهوم نقيضه - الذي هو الوجود - واحدا ، وإلاّ لم ينحصر التقسيم بين الموجود والمعدوم ؛ لاحتمال موجود آخر ، ولم يتحقّق التناقض ؛ لأنّه لا يكون إلاّ بين المفهومين.

[ الوجه ] الثالث : أنّ مفهوم الوجود قابل للتقسيم بين الماهيّات ، وكلّ ما هو كذلك فهو مشترك بينها ، فيكون الوجود مشتركا بينها.

أمّا المقدّمة الأولى ؛ فلأنّا نقسّم الوجود إلى وجود الواجب ووجود الممكن ، ووجود الممكن إلى وجود الجوهر ووجود العرض ، وإلى الذهني والخارجي ، والعقل يقبل هذه القسمة.

وأمّا المقدّمة الثانية ؛ فلأنّ القسمة عبارة عن ضمّ قيود متخالفة إلى مورد القسمة ليحصل بانضمام كلّ إليه قسم ، فالقسم عبارة عن مجموع مورد القسمة مع القيد الفصلي أو نحوه ، فلا يتحقّق بدون مورد القسمة ، الذي هو المشترك فيه ، فلا بدّ أن يكون مورد القسمة مشتركا فيه بين جميع أقسامه.

فإن قلت : اشتراك الوجود مستلزم لتركّب الواجب ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، وهو مناف لوجوب الوجود ، فلا بدّ من القول بوحدة الوجود ؛ حذرا عن نفي واجب الوجود.

قلت : هذا مبنيّ على كون اشتراك الوجود من قبيل اشتراك الجنس والذاتيّ ، وليس كذلك ؛ فإنّ صدق الوجود المطلق على الواجب والممكن صدق العرض العامّ على ما تحته ، بمعنى أنّه ينتزع من الآثار مفهوم كلّيّ صادق على الواجب الذي هو

ص: 91

المؤثّر والممكن الذي هو المتأثّر ، وهو مطلق الكون والتحقّق والثبوت - المعبّر عنه بالفارسيّة ب- « بودن » كما يعبّر عن الحالة الحاصلة بالمصدر ب- « هستى » - كالشيئيّة الصادقة عليهما معا باعتبار الأثر فعلا أو انفعالا ، فإذا كان ذلك الصدق في مقام الأثر والفعل لا مقام الذات ، لا يلزم كون الواجب محلّ العرض الذي يكون موجودا في الموضوع في الخارج.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّ الوجود مشترك معنويّ باعتبار ملاحظة الوجود المطلق الذي هو من الأمور العامّة التي هي محلّ الكلام والبحث.

وأمّا باعتبار ملاحظة الوجود الخاص الواجبي والوجود المقيّد الممكني فلا ؛ لأنّ وجود الواجب عين حقيقته.

ولا يصحّ سلب الوجود عنه على وجه الخصوصيّة من غير ملاحظة كونه مصداقا لمطلق الوجود أيضا ، مع استحالة كون الوجود المطلق العرضي المصدري عين ذات الواجب ، بل يستحيل كونه عين ذات الممكن فضلا عن الواجب ، بل الوجود بمعنى منشأ الأثر عين ذات الواجب ، كما مرّ.

وكذا الوجود الخاصّ الإمكاني ، فإنّه مع ملاحظة الخصوصيّة أيضا وجود ، فللوجود جهة اشتراك لفظيّ أيضا ، كالإمكان بالنسبة إلى مطلق الإمكان والإمكان الخاصّ.

وبمثل هذا يمكن دفع ما يرد على خصوص الدليل الأوّل ، بأنّ الأمر الباقي المقطوع به هو أنّه موجود بأحد الوجودات المتخالفة الذوات مطلقا ، فإنّ الوجدان يشهد على أنّ الباقي هو مفهوم الوجود المطلق ، لا مفهوم أحد الوجودات ، بل قد لا يتصوّر هذا المفهوم.

وعلى الثاني بأنّ معنى قولنا : « زيد إمّا موجود أو معدوم » أنّه موجود بأحد الوجودات المتخالفة.

ووجه الاندفاع ظاهر ممّا ذكرنا.

ص: 92

وقد يورد عليه بأنّ اتّحاد مفهوم العدم لا دخل له في الاستدلال ، بل على تقدير تعدّده كان بطلان الحصر أظهر ؛ إذ يزيد على هذا التقدير احتمال آخر ، مثلا : نقول في المثال المذكور : يجوز أن يكون زيد متّصفا بالعدم بمعنى آخر ، فالأولى أن يطرح من البين ويقال : لو لم يكن الوجود مشتركا ، لبطل الحصر العقلي ، ويساق الكلام إلى آخره.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد أنّ مفهوم العدم واحد ، فلو لم يكن مفهوم الوجود أيضا واحدا ، لكان العدم الواحد نقيضا لكلّ من الوجودات المتعدّدة ، وذلك باطل ؛ لأنّ التناقض لا يكون إلاّ بين المفهومين كما أشرنا.

وعلى الثالث أنّ تقسيم الوجود بتأويل المسمّى به ؛ لاندفاعه بشهادة الوجدان على صحّة التقسيم باعتبار نفس مفهوم الوجود من غير ملاحظة مفهوم المسمّى وصدق لفظ الوجود.

وبالجملة ، فمن لا يسلّم الاشتراك في مطلق الوجود كما لا يسلّم الاشتراك في مطلق السلب ، بل المشترك عنده هو لفظ الوجود والسلب - كما حكى الفاضل القوشجي (1) - ضعيف جدّا.

وقد نظمت هذا المطلب بقولي :

وللوجود شركة معنى فلم *** يصغ إلى النفي لوحدة العدم

وهكذا حالة الانقسام *** والجزم بالمطلق لا الأقسام

المسألة الثالثة : في أنّ الوجود زائد على الماهيّات.

قال : ( فيغاير الماهيّة ، وإلاّ اتّحدت الماهيّات ، أو لم تنحصر أجزاؤها ).

أقول : اختلفوا في أنّ الوجود نفس الماهيّة أو زائد عليها؟

والظاهر أنّ الكلام في الوجود بمعنى منشأ الأثر ، لا بمعنى الكون والتحقّق ، كما لا يخفى.

ص: 93


1- « شرح تجريد العقائد » : 7.

فعن أبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري وجماعة تبعوهما : أنّ وجود كلّ ماهيّة نفس تلك الماهيّة (1).

وقال جماعة من المتكلّمين والحكماء : إنّ وجود كلّ ماهيّة مغاير لها ، إلاّ واجب الوجود تعالى ؛ فإنّ أكثر الحكماء قالوا : إنّ وجوده نفس حقيقته. (2) وسيأتي تحقيق كلامهم فيه.

وقد استدلّ الحكماء على الزيادة بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ الوجود مشترك - على ما تقدّم - فإمّا أن يكون نفس الماهيّة أو جزءا خارجيّا منها أو خارجا عنها.

والأوّل باطل ، وإلاّ لزم اتّحاد الماهيّات في خصوصيّاتها ؛ لما تبيّن من اشتراكه ووحدته.

والثاني باطل ، وإلاّ لم تنحصر أجزاء الماهيّة ، بل تكون كلّ ماهيّة على الإطلاق مركّبة من أجزاء لا تتناهى ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الوجود إذا كان جزءا من كلّ ماهيّة ، فإنّه يكون جزءا مشتركا بينها ، ويكون كمال الجزء المشترك ، فيكون جنسا ، فتفتقر كلّ ماهيّة إلى فصل يفصلها عمّا يشاركها فيه ، لكن كلّ فصل فإنّه يكون موجودا ؛ لاستحالة انفصال الموجودات وتقوّمها بالأمور العدميّة ، فيفتقر الفصل - من جهة كونه موجودا وكون الوجود جزءا مشتركا لكلّ موجود - إلى فصل آخر هو جزء منه ويكون جزءا من الماهيّة ؛ لأنّ جزء الجزء جزء أيضا موجود ، فيفتقر (3) إلى فصل آخر ويتسلسل ، فتكون للماهيّات أجزاء لا تتناهى.

وأمّا استحالة اللازم ؛ فلوجوه :

ص: 94


1- « شرح المواقف » 2 : 127 ؛ « كشف المراد » : 25.
2- « تلخيص المحصّل » : 97 ؛ « شرح المواقف » 2 : 135 - 136 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 308 ؛ « كشف المراد » : 25.
3- في « كشف المراد » : 25 ، العبارة هكذا : « فإن كان موجودا افتقر » بدل « موجود فيفتقر ».

أحدها : أنّ وجود ما لا يتناهى محال على ما يأتي.

الثاني : أنّه يلزم منه تركّب واجب الوجود تعالى ؛ لأنّه موجود ، فيكون ممكنا ، هذا خلف.

الثالث : أنّه يلزم منه انتفاء الحقائق أصلا ؛ لأنّه يلزم منه تركّب الماهيّات البسيطة ، فلا يكون البسيط متحقّقا ، فلا يكون المركّب متحقّقا.

وهذا كلّه ظاهر البطلان.

قال : ( ولانفكاكهما تعقّلا ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدالّ على زيادة الوجود.

وتقريره : أنّا قد نعقل الماهيّة ونشكّ في وجودها الذهني والخارجي ، والمعقول مغاير للمشكوك. وكذلك قد نعقل وجودا مطلقا ونجهل خصوصيّته ، فيكون مغايرا لها. وقد نعقل الماهيّة ونغفل عن وجودها ، فيكون غيرها.

لا يقال : إنّا قد نتشكّك في ثبوت الوجود ، فيلزم أن يكون ثبوته زائدا عليه ويتسلسل.

لأنّا نقول : الشكّ ليس في ثبوت وجود الوجود ، بل في ثبوت الوجود نفسه للماهيّة ، وذلك هو المطلوب.

قال : ( ولتحقّق الإمكان ) (1).

أقول : هذا وجه ثالث على الزيادة.

وتقريره : أنّ ممكن الوجود متحقّق بالضرورة ، والإمكان إنّما يتحقّق على تقدير الزيادة ؛ لأنّ الوجود لو كان نفس الماهيّة أو جزءها ، لم تعقل منفكّة عنه ، فلا يجوز عليها العدم حينئذ ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال.

وانتفاء جواز العدم يستلزم الوجوب ، فينتفي الإمكان حينئذ ؛ للمنافاة بين الإمكان الخاصّ والوجوب الذاتي ، ولأنّ الإمكان عبارة عن تساوي نسبة الماهيّة

ص: 95


1- في « كشف المراد » : 26 و « تجريد الاعتقاد » : 106 أضيفت كلمة « الخاص » إلى « الإمكان ».

إلى الوجود والعدم ، والنسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

قال : ( وفائدة الحمل ).

أقول : هذا وجه رابع يدلّ على المغايرة بين الوجود والماهيّة.

وتقريره : أنّا نحمل الوجود على الماهيّة ، فنقول : الماهيّة موجودة ، فنستفيد منه فائدة معقولة لم تكن حاصلة لنا قبل الحمل.

وإنّما تتحقّق هذه الفائدة على تقدير المغايرة ؛ إذ لو كان الوجود نفس الماهيّة ، لكان قولنا : « ماهيّة موجودة » بمنزلة [ قولنا ] (1) : « ماهيّة ماهيّة » أو « الوجود وجود » والتالي باطل فكذا المقدّم.

قال : ( والحاجة إلى الاستدلال ).

أقول : هذا وجه خامس يدلّ على أنّ الوجود ليس هو نفس الماهيّة ولا جزءا منها.

وتقريره : أنّا نفتقر في نسبة الوجود إلى الماهيّة إلى الدليل في كثير من الماهيّات ، ولو كان الوجود نفس الماهيّة أو جزءها لم نحتج إلى الدليل ؛ لاقتضاء الافتقار إلى الدليل المغايرة بين الموضوع والمحمول ، والشكّ في النسبة الممتنع تحقّقه في الذاتي.

قال : ( وانتفاء التناقض ).

أقول : هذا وجه سادس يدلّ على الزيادة.

وتقريره : أنّا قد نسلب الوجود عن الماهيّة ، فنقول : « ماهيّة معدومة » ولو كان الوجود نفس الماهيّة لزم التناقض ؛ لكونه بمنزلة قولنا : « الموجود ليس بموجود » أو كان جزءا منها لزم التناقض أيضا ؛ لأنّ تحقّق الماهيّة يستدعي تحقّق أجزائها التي من جملتها الوجود ، فيستحيل سلبه عنها ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين ، فتحقّق انتفاء التناقض يدلّ على الزيادة.

ص: 96


1- الزيادة أضفناها من « كشف المراد » : 26.

قال : ( وتركّب الواجب ).

أقول : هذا وجه سابع ، وهو أنّ تركّب الواجب منتف ، وإنّما يتحقّق لو كان الوجود زائدا على الماهيّة ؛ لأنّه يستحيل أن يكون نفس الماهيّة ؛ لما تقدّم ، فلو كان جزءا من الماهيّة ، لزم أن يكون الواجب مركّبا وهو محال.

ويمكن جعل الأدلّة خمسة ، بجعل قوله : « وإلاّ لاتّحدت الماهيّات أو لم تنحصر أجزاؤها » إشارة إلى الدليل الأوّل ، كما مرّ. وقوله : « ولانفكاكهما تعقّلا » إشارة إلى الدليل الثاني ، كما تقدّم. وقوله : « ولتحقّق الإمكان » إشارة إلى الدليل الثالث ، كما سبق. وقوله : « وفائدة الحمل والحاجة إلى الاستدلال » إشارة إلى الدليل الرابع ، بجعل « فائدة الحمل » وجها لعدم العينيّة ، وقوله : « والحاجة إلى الاستدلال » وجها لعدم الجزئيّة ؛ لأنّ ذاتيّ الشيء بيّن الثبوت له. وجعل قوله : « وانتفاء التناقض وتركّب الواجب » إشارة إلى الدليل الخامس ، بجعل « انتفاء التناقض » وجها لعدم العينيّة ، كما مرّ ، وانتفاء تركّب الواجب وجها لعدم الجزئيّة ؛ إذ لو كان جزءا لكان مشتركا بين الواجب والممكن ، وكلّ ما له جزء فله جزء آخر بالضرورة ، فيلزم تركّب الواجب ، وهو محال.

قال : ( وقيامه بالماهيّة من حيث هي ).

أقول : هذا جواب عن استدلال الخصم على أنّ الوجود نفس الماهيّة.

وتقرير استدلالهم : أنّه لو كان زائدا على الماهيّة لكان صفة قائمة بها ؛ لاستحالة أن يكون جوهرا قائما بنفسه مستقلاّ عن الماهيّة ، واستحالة قيام الصفة بغير موصوفها ، وإذا كان كذلك فإمّا أن يقوم بالماهيّة حال وجودها أو حال عدمها ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الوجود الذي هو شرط في قيام هذا الوجود بالماهيّة ، إمّا أن يكون هو هذا الوجود ، فيلزم اشتراط الشيء بنفسه ، أو يكون مغايرا له ، فيلزم كون الماهيّة موجودة قبل وجودها وقيام الوجودات المتعدّدة المتسلسلة بالماهيّة الواحدة ؛

ص: 97

لأنّا ننقل البحث إلى الوجود الذي هو شرط.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه يلزم قيام الصفة الوجوديّة بالمحلّ المعدوم ، وهو باطل.

وإذا بطل القسمان بطلت الزيادة.

وتقرير الجواب أن نقول : الوجود قائم بالماهيّة من حيث هي ، لا باعتبار كونها موجودة ولا باعتبار كونها معدومة ، فالحصر ممنوع.

وفيه : أنّ الحصر باعتبار الاشتراط بالوجود والعدم ممنوع ، وأمّا باعتبار كون العروض حال الوجود أو العدم فلا.

فالأولى أن يقال بأنّ الحصر ممنوع ، من جهة أنّ الماهيّة موجودة بالوجود ، والوجود موجود بنفسه ، كما في النور والمنوّر وزمان وجودهما واحد ، فالمعروض هو الماهيّة لا بشرط الوجود ، بل في زمان الوجود الموجود بنفسه ، فلا يلزم وجود الماهيّة قبل وجودها ولا التناقض.

نعم ، يلزم تقدّم الماهيّة على الوجود بالذات ؛ ضرورة تقدّم المعروض على العارض ، ولا فساد فيه ، لا تقدّمها بالزمان ، بل الزمان الواحد زمان تقوّم الوجود بالماهيّة ، وتحصل الماهيّة بالوجود المتحصّل بنفسه من غير تعدّد واشتراط حتّى يلزم اشتراط الشيء بنفسه.

قال : ( فزيادته في التصوّر ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم ، وهو أنّ قيام الوجود بالماهيّة من حيث هي هي إنّما يعقل في الذهن والتصوّر ، لا في الوجود الخارجي ؛ لاستحالة تحقّق ماهيّة ما من الماهيّات في الأعيان منفردة عن الوجود ، فكيف تتحقّق الزيادة في الخارج والقيام بالماهيّة فيه ، بل وجود الماهيّة زائد عليها في نفس الأمر والتصوّر ، لا في الأعيان.

وليس قيام الوجود بالماهيّة كقيام السواد بالمحلّ ؛ لأنّ المحلّ له وجود ، والسواد كذلك مع تأخّره عن المحلّ.

وفيه نظر ؛ لجواز قيام الوجود بالماهيّة في الخارج من جهة كفاية مطلق ثبوت

ص: 98

المثبت له في ثبوت الشيء ولو كان بنفس الثابت. وتأخّر كلّ عرض عن المحلّ ممنوع.

ويؤيّد ما ذكرنا كون كلّ من الوجود وعروضه والاتّصاف به خارجيّا ، كما لا يخفى.

وقد نظمت هذا المطلب بقولي.

إنّ الوجود غير ذي الوجود *** في غير ذات واجب الوجود

لكثرة الذوات والإمكان *** كذا انفكاك الكلّ في الأذهان

والحمل والحاجة للدليل *** والسلب مع بساطة الجليل

قيامه بالذات حيث الذات *** فزيده في الذهن كالمرآة

المسألة الرابعة : في انقسام الوجود إلى الذهنيّ والخارجيّ.

قال : ( وهو ينقسم إلى الذهني والخارجي وإلاّ بطلت الحقيقة ).

أقول : الوجود على قسمين : أصليّ ورابطيّ.

والأصليّ عبارة عن وجود نفس الشيء موضوعا كان أو محمولا ، كوجود زيد أو القيام. وهذا متعلّق السؤال ب- « هل » البسيطة.

والرابطيّ عبارة عن وجود الشيء للشيء الذي يحصل به الارتباط ، كوجود القيام لزيد. وهذا متعلّق السؤال ب- « هل » المركّبة.

والوجود الأصليّ الخارجي الذي تترتّب عليه الآثار لا خلاف فيه.

وأمّا الذهنيّ الذي يسمّى وجودا ظلّيّا وغير أصيل فقد اختلف العلماء فيه.

فجماعة منهم نفوه وحصروا الوجود في الخارجي الذي تصدر به آثار الموجود ، كالإشراق والإحراق للنار ، ويسمّى وجودا أصيلا أيضا.

والمحقّقون منهم أثبتوه وقسّموا الوجود إليه وإلى الخارجي قسمة معنويّة.

واستدلّ المصنّف رحمه اللّه بأنّ القضيّة الحقيقيّة التي يحكم فيها على ما يصدق عليه

ص: 99

الموضوع في نفس الأمر - ولو لم يكن موجودا في الخارج - صادقة قطعا ؛ لأنّا نحكم بالأحكام الايجابيّة على موضوعات معدومة في الأعيان ، وتحقّق الصفة يستدعي تحقّق الموصوف ، وإذ ليس ثابتا في الأعيان ، فهو متحقّق في الذهن ، فتحقّق الحقيقيّة يدلّ على الثبوت الذهني ، كما قرّرناه.

مضافا إلى أنّا نعقل أمورا لا وجود لها في الخارج ، والتعقّل يستلزم التعلّق بين العاقل والمعقول ، والتعلّق بين العاقل والعدم غير معقول ، فلا بدّ من ثبوت للمعقول ، وإذ ليس في الخارج تعيّن كونه في الذهن ، بل يمكن دعوى الضرورة في تحقّق الوجود الذهني للصّور الذهنيّة.

قال : ( والموجود في الذهن إنّما هو الصورة المخالفة في كثير من اللوازم ).

أقول : هذا جواب عن استدلال من نفى الوجود الذهني.

وتقرير استدلالهم : أنّه لو حلّت الماهيّة في الأذهان لزم أن يكون الذهن حارّا باردا أسود أبيض ، فيلزم مع اتّصاف الذهن بهذه الأشياء المنفيّة عنه اجتماع الضدّين.

والجواب : أنّ الحاصل في الذهن ليس هو ماهيّة ما له الحرارة والسواد ونفسه ، بل صورتهما ومثالهما ، والمخالفة للماهيّة في لوازمها وأحكامها ، بمعنى أنّ الأشياء توجد في الذهن بأشباحها بالوجود الظلّي ، لا بأنفسها بالوجود الأصيل العيني ، والصور الذهنيّة كلّيّة كانت كصور المعقولات ، أو جزئيّة كصور المحسوسات ، مخالفة للخارجيّة في اللوازم الخارجيّة المسمّاة ب- « لوازم الوجود » ؛ وإن كانت مشاركة لها في لوازم الماهيّة من حيث هي هي ، فالحرارة الخارجيّة تستلزم السخونة ، وصورتها لا تستلزمها ، والتضادّ إنّما هو بين الماهيّات لا بين صورها وأمثالها.

وبعبارة أخرى : الماهيّة قد تطلق على ما يقال في جواب « ما هو؟ » وقد تطلق على ما به الشيء هو هو بالفعل ، والموجود في الذهن هو الماهيّة بالمعنى الأوّل الذي يعبّر عنه ب- « الأشباح » أيضا ، وأمّا الماهيّة بالمعنى الثاني فلا توجد إلاّ في

ص: 100

الخارج ، وما ذكر من لوازم الماهيّة بالمعنى الثاني لا الأوّل.

ومن قال بأصالة الوجود إن كان مراده أنّ الوجود له مصداق خارجيّ ، كما أنّ له مفهوما ومصداقا ذهنيّا من غير أن ينفي أصالة الماهيّة ، وكونها أيضا موجودة في الخارج وذات مصداق خارجيّ باعتبار المعنى الثاني ، بمعنى أصالة الوجود والماهيّة معا بكونهما موجودين في الخارج بإيجاد واحد ، وكون الماهيّة موجودة بالوجود ، والوجود موجودا بنفسه دفعا للتسلسل من غير الحكم بكون الوجود أصلا من هذه الجهة والماهيّة حدّا له وسببا لتعيّنه ، بل تكون الماهيّة أصلا وجهة التقوّم بنفسه ، والوجود أصلا من جهة التحصّل بنفسه ، ويكون كلّ ممكن زوجا تركيبيّا ، فهو حقّ لا ينافي ما ذكرنا.

وإن كان مراده اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الثاني ، فلا اعتبار به ؛ لبداهة حكم العقل بوجود الذات والماهيّة بالمعنى الثاني ، كما لا يخفى.

وإن كان مراده اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الأوّل ، وأصالة الوجود بالمعنى المذكور سيّما بمعنى منشأ الأثر ، فهو حقّ.

ولكنّ النزاع لفظيّ ؛ فإنّ القائل بأصالة الماهيّة يقول بأصالة الماهيّة بالمعنى الثاني لا الأوّل ، وعرضيّة الوجود ، لا عدم كونه ذا مصداق حقيقيّ خارجيّ ، والقائل بأصالة الوجود يقول بكونه ذا مصداق حقيقيّ ، لا عدم كونه عرضا في الممكن مع اعتباريّة الماهيّة بالمعنى الأوّل لا الثاني ، فما يثبته أحد الفريقين لا ينفيه الآخر ، وما ينفيه الآخر لا يثبته الأوّلون ، فمتعلّق النفي والإثبات مختلف ، وليس النزاع إلاّ بحسب اللفظ ، وليس هذا ممّا يليق بالعلماء.

والحمل على أصالة الوجود بمعنى كون جميع الوجود وجود الواجب المتنزّل في الممكنات - كما يقوله أهل التصوّف - موجب للكفر والخروج عن الدين.

وقد نظمت هذا المطلب بقولي :

ينقسم الوجود بالوجدان *** للخارجي والكون في الأذهان

ص: 101

إذ الحقيقيّة قطعا صادقه *** والذهن فيه صورة مفارقه

المسألة الخامسة : في أنّ الوجود ليس هو معنى زائدا على الحصول العيني.

قال : ( وليس الوجود معنى به تحصل الماهيّة في العين ، بل الحصول ).

أقول : قد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الوجود معنى قائم بالماهيّة يقتضي حصول الماهيّة في الأعيان (1).

والظاهر أنّ المراد كون قيامه كقيام سائر الأعراض بالجواهر ، لا من باب « ضيق فم الركيّة ».

وهذا مذهب سخيف يشهد العقل ببطلانه ؛ لأنّ قيام ذلك المعنى بالماهيّة في الأعيان يستدعي تحقّق الماهيّة في الخارج ؛ لأنّ ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له ، فلو كان حصولها في الخارج مستندا إلى ذلك المعنى لزم الدور المحال ، بل الوجود الأصلي هو نفس تحقّق الماهيّة وكونها في الأعيان ، لا ما به تكون الماهيّة في الأعيان.

المسألة السادسة : في أنّ الوجود لا تزايد فيه ولا اشتداد.

قال : ( ولا تزايد فيه ولا اشتداد ).

أقول : ذهب قوم إلى أنّ الوجود قابل للزيادة والنقصان (2).

وردّ : بأنّ التزايد عبارة عن حركة جوهريّة على نحو الحركة العرضيّة كالأينيّة ، والحركة تقتضي بقاء المتحرّك من مبدئها إلى منتهاها وتبدّل أحواله ، فلو كان الوجود قابلا للزيادة لزم كونه باقيا قبل حصولها وبعدها ، فتلك الزيادة إن كانت

ص: 102


1- هو ما ذهب إليه جماعة من أتباع المشّائين ، كما ذكر ذلك اللاهيجي في « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الخامسة.
2- انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 50 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 423 وما بعدها.

وجودا لزم اجتماع المثلين ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين.

وأمّا نفي الاشتداد فهو مذهب أكثر المحقّقين.

قال بعضهم : لأنّه إن لم يحدث بعد الاشتداد شيء آخر لم يكن الاشتداد اشتدادا بل هو باق كما كان. وإن حدث فالحادث إن كان غير الحاصل فليس اشتدادا للوجود الواحد ، بل يرجع إلى أنّه حدث شيء آخر معه ، وإلاّ فلا اشتداد. وكذا البحث في جانب النقصان (1).

وقد نظمت هذا المطلب أيضا بقولي :

لا يقبل الوجود الاشتدادا *** ولا تزايدا كما أفادا

المسألة السابعة : في أنّ الوجود خير ، والعدم شرّ.

قال : ( وهو خير محض ).

أقول : هذه قضيّة وجدانيّة لا برهانيّة ولا استقرائيّة.

والمراد أنّا إذا تأمّلنا في كلّ ما يقال له : « خير » وجدناه وجودا ، وإذا تأمّلنا في كلّ ما يقال له : « شرّ » وجدناه عدما ، ألا ترى إلى القتل فإنّ العقلاء يحكمون بكونه شرّا ، وإذا تأمّلنا وجدنا شرّيّته باعتبار ما يتضمّنه من العدم ؛ فإنّه ليس شرّا من حيث قدرة القادر عليه ؛ فإنّ القدرة كمال الإنسان ، ولا من حيث إنّ الآلة قاطعة (2) ؛ فإنّه أيضا كمال لها ، ولا من حيث حركة أعضاء القاتل ، ولا من حيث قبول العضو للتقطيع ، بل من حيث هو إزالة كمال الحياة ، فليس الشرّ إلاّ هذا العدم ، وباقي القيود الوجوديّة خيرات ، فنحكم بأنّ الوجود خير محض ، والعدم شرّ محض ، ولهذا كان واجب الوجود أبلغ في الخيريّة والكمال من كلّ موجود ؛ لبراءته عن القوّة والاستعداد. وتفاوت غيره من الموجودات فيه باعتبار القرب من العدم والبعد عنه.

ص: 103


1- انظر « كشف المراد » : 29 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 51 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 423 وما بعدها.
2- في جميع النسخ : « قطّاعة » وما أثبتناه موافق لما في « كشف المراد » و « شوارق الإلهام ».

وقد نظمت هذا المطلب أيضا بقولي :

وذاك خير في الحدوث والقدم *** فلا يكون الشرّ إلاّ في العدم

المسألة الثامنة : في أنّ الوجود لا ضدّ له.

قال : ( ولا ضدّ له ).

أقول : الضدّ ذات وجوديّة تقابل ذاتا أخرى في الوجود ، بمعنى أنّه موجود معاقب لموجود آخر في الموضوع وإن كان عرضا ، كالسواد والبياض ، ولمّا استحال أن يكون الوجود ذاتا وأن يكون له وجود آخر استحال أن يكون ضدّا لغيره ، ولأنّه عارض لجميع المعقولات ؛ لأنّ كلّ معقول إمّا خارجيّ فيعرض له الوجود الخارجيّ ، أو ذهنيّ فيعرض له الذهنيّ ، ولا شيء من أحد الضدّين بعارض لصاحبه.

ومقابلته للعدم ليست تقابل الضدّين على ما يأتي تحقيقه في نفي المعدوم ، بل تقابل السلب والإيجاب إن أخذا مطلقين ، وإلاّ تقابل العدم والملكة.

المسألة التاسعة : في أنّه لا مثل للوجود.

قال : ( ولا مثل له ).

أقول : المثلان ذاتان وجوديّتان يسدّ كلّ منهما مسدّ صاحبه ، ويكون المعقول منهما شيئا واحدا بحيث إذا سبق أحدهما إلى الذهن ثمّ لحقه الآخر ، لم يكتسب العقل من الحاصل ثانيا غير ما اكتسبه أوّلا ، والوجود ليس بذات ، فلا يماثل شيئا آخر.

وأيضا فليس هاهنا معقول يساويه في التعقّل على ما ذكرناه ، إذ كلّ معقول مغاير لمعقول الوجود.

لايقال : إنّ كلّيّته وجزئيّته متساويتان في التعقّل ، فكان له مثل.

لأنّا نقول : إنّهما ليستا متساويتين في المعقوليّة وإن كان أحد جزأي الجزئي هو الكلّيّ ، لكنّ الاتّحاد ليس تماثلا.

ص: 104

وأيضا فإنّه عارض لكلّ المعقولات على ما قرّرناه أوّلا ، ولا شيء من المثلين بعارض لصاحبه.

وقد نظمت هذين المطلبين (1) بقولي :

ليس له ضدّ كما لا مثل له *** إذ الوجود واحد في الأمثله

المسألة العاشرة : في أنّه مخالف لغيره من المعقولات ، وعدم منافاته لها.

قال : ( فتحقّقت مخالفته للمعقولات ).

أقول : لمّا حصروا النسبة بين الاثنين الوجوديّين في التضادّ والتماثل ولو على وجه التضايف والتخالف ، وثبت ممّا سبق أنّه انتفت نسبة التضادّ والتماثل بينه وبين غيره من المعقولات ، تعيّن المخالفة بينهما ؛ ولهذا جعله نتيجة لما سبق.

قال : ( ولا ينافيها ).

أقول : المتنافيان لا يمكن اجتماعهما ، وقد بيّنّا أنّ كلّ معقول على الإطلاق فإنّه يمكن عروض مطلق الوجود له واجتماعه معه وصدقه عليه ، فكيف ينافيه!؟

لايقال : العدم أمر معقول وقد قضى العقل بمنافاته له ، فكيف يصحّ قوله على الإطلاق : إنّه لا ينافيها!؟

لأنّا نقول : نمنع أوّلا كون العدم المطلق معقولا ، والعدم الخاصّ له حظّ من الوجود ، فلا ينافي الوجود ، ولهذا افتقر إلى موضوع خاصّ ، كافتقار الملكة إليه.

سلّمنا ، لكن نمنع استحالة عروض الوجود المطلق للعدم المعقول ؛ فإنّ العدم المعقول ثابت في الذهن ، فيكون داخلا تحت مطلق الثابت ، فيصدق عليه مطلق الثابت.

ومنافاته للموجود المطلق لا باعتبار صدق مطلق الثبوت عليه ، بل من حيث أخذه مقابلا له.

ص: 105


1- في « أ ، ج » : « هذا المطلب ».

ولا امتناع في عروض أحد المتقابلين للآخر اذا أخذا لا باعتبار التقابل ، كالكلّيّة والجزئيّة ؛ فإنّهما قد يصدق أحدهما على الآخر باعتبار مغاير لا باعتبار مقابلتهما.

وهذا فيه دقّة.

وقد نظمت هذه المطلب أيضا بقولي :

وهو مخالف لغيره بلا *** تقابل كما أفاد العقلاء

المسألة الحادية عشرة : في تلازم الشيئيّة والوجود.

قال : ( ويساوق الشيئيّة ، فلا تتحقّق بدونه ، فالمنازع مكابر مقتضى عقله ).

أقول : اختلف الناس في هذا المقام.

والمحقّقون كافّة - من الحكماء والمتكلّمين (1) - اتّفقوا على مساوقة الوجوديّة والشيئيّة وتلازمهما وتساويهما في الصدق وإن لم تتّحدا في المفهوم ، حتّى أنّ كلّ شيء على الإطلاق فهو موجود على الإطلاق ، وكلّ ما ليس بموجود فهو معدوم وليس بشيء.

وبالجملة ، لم يثبتوا للمعدوم ذاتا متحقّقة ، فالمعدوم الخارجي لا ذات له في الخارج ، والذهنيّ لا ذات له ذهنا.

وقال المعتزلة : إنّ للمعدوم الخارجي ذاتا ثابتة في الأعيان متحقّقة في نفسها ليست ذهنيّة ، بمعنى أنّ له ثبوتا في حدّ ذاته بحيث لا يترتّب عليه الأثر ؛ من جهة أنّا نحكم حكما إيجابيّا على المعدوم ، والحكم بثبوت أمر لأمر باعتبار نفس الأمر من غير خصوصيّة المدرك فرع ثبوت المثبت له ، فالثبوت أعمّ من الوجود الذي هو عبارة عن الثبوت الذي يترتّب عليه الأثر (2).

ويرد عليه : القول بثبوت اجتماع النقيضين ، والقول بثبوت شريك البارئ ؛ لأنّا

ص: 106


1- انظر : « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة التاسعة.
2- « المباحث المشرقيّة » 1 : 134 ؛ « المحصّل » : 149 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 53 ؛ « كشف المراد » : 32.

نحكم بأنّ الأوّل محال ، والثاني ممتنع ، وهو حكم صادق خبريّ يقتضي أن يكون لنسبته خارج يطابقه مع أنّ الوجود الذهنيّ كاف في الحكم.

مضافا إلى أنّ هؤلاء يكابرون في الضرورة ؛ فإنّ العقل قاض بأنّه لا واسطة بين المعدوم والموجود ؛ فإنّ الثبوت هو الوجود.

قال : ( وكيف تتحقّق ) الشيئيّة ( بدونه مع إثبات القدرة وانتفاء الاتّصاف!؟ ).

أقول : لمّا استبعد مقالة هؤلاء القوم ونسبهم إلى المكابرة شرع في الاستدلال على بطلان قولهم ، وأنّ هؤلاء يذهبون إلى أنّ القدرة لا تأثير لها في الذوات أنفسها ؛ لأنّها ثابتة في العدم ، مستغنية عن المؤثّر في جعلها ذوات ، بل غير مقدورة ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، ولا في الوجود ؛ لأنّه عندهم حال والحال غير مقدورة ، وقد ثبت في نفس الأمر أنّ اتّصاف الماهيّة بالصفة غير ثابت في الأعيان ، بل هو أمر اعتباريّ ، وإلاّ لزم التسلسل ؛ لأنّ ذلك الاتّصاف لو كان ثابتا ، لكان متّصفا بالثبوت ، واتّصافه بالثبوت أيضا يكون ثابتا وهكذا ، فيلزم التسلسل.

والحاصل أنّ الماهيّات لو كانت ثابتة في العدم لاستغنت الممكنات في وجودها عن المؤثّر ، فانتفت القدرة أصلا ورأسا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ القدرة حينئذ لا تأثير لها في الذوات ولا في الوجود على مذهبهم ، ولا في اتّصاف الماهيّة بالوجود على ما ثبت في نفس الأمر ، وذلك يستلزم نفي التأثير أصلا.

وأمّا بطلان التالي فبالاتّفاق ، والبرهان دلّ عليه ، على ما يأتي.

فلهذا استبعد المصنّف رحمه اللّه هذه المقالة مع إثبات القدرة والمؤثّريّة ، والقول بكون الاتّصاف أمرا ذهنيّا وأنّه منتف في الخارج.

قال : ( وانحصار الموجود مع عدم تعقّل الزائد ).

أقول : هذا برهان آخر دالّ على انتفاء الماهيّات في العدم.

وتقريره : أنّ مذهبهم أنّ كلّ ماهيّة نوعيّة فإنّه ثبت من أشخاصها في العدم

ص: 107

ما لا يتناهى ، كالسواد والبياض والجواهر وغيرها من الحقائق ، فألزمهم المصنّف المحال ، وهو القول بعدم انحصار الموجودات ؛ لأنّ تلك الماهيّات ثابتة ، وهي غير محصورة في عدد متناه ، والثبوت هو الوجود ؛ لانتفاء تعقّل أمر زائد على الكون في الأعيان ، فلزمهم القول بوجود ما لا يتناهى من الماهيّات ، وهو عندهم باطل ، فإن جعلوا الوجود أمرا مغايرا للكون في الأعيان ، كان نزاعا في العبارة وقولا بإثبات ما لا يعقل ، مع أنّ البراهين الدالّة على استحالة ما لا يتناهى كما تدلّ على استحالته في الوجود تدلّ على استحالته في الثبوت ؛ إذ دلالتها إنّما هي على انحصار الكائن في الأعيان.

وقول المصنّف رحمه اللّه : « وانحصار الموجود » عطف على « إثبات القدرة » أي وكيف تتحقّق الشيئيّة بدون الوجود مع إثبات القدرة وانتفاء الاتّصاف وانحصار الموجود مع عدم تعقّل الزائد هكذا ، ينبغي أن يفهم كلامه هنا.

قال : ( ولو اقتضى التميّز الثبوت عينا ، لزم منه محالات ).

أقول : لمّا أبطل مذهب القائلين بثبوت المعدوم شرع في إبطال حججهم.

ولهم حجّتان رديئتان ذكرهما المصنّف وأبطلهما :

أمّا الحجّة الأولى فتقريرها : أنّ كل معدوم متميّز ، وكلّ متميّز ثابت.

أمّا المقدّمة الأولى : فدلّ عليها أمور ثلاثة :

أحدها : أنّ المعدوم معلوم ، والمعلوم متميّز.

الثاني : أنّ المعدوم مراد ؛ فإنّا نريد اللذّات ونكره الآلام ، فلا بدّ أن يتميّز المراد من المكروه.

الثالث : أنّ المعدوم مقدور ، وكلّ مقدور متميّز ؛ فإنّا نميّز (1) بين الحركة يمنة ويسرة وبين الحركة إلى السماء ، ونحكم بقدرتنا على إحدى الحركتين دون الأخرى ،

ص: 108


1- في الأصل و « أ » : « تتميّز ».

فلولا نميّز كلّ واحدة منهما عن الأخرى لاستحال هذا الحكم.

وأما المقدّمة الثانية : فلأنّ التميّز صفة ثابتة للمتميّز ، وثبوت الصفة يستدعي الثبوت عينا.

فأجاب المصنّف بأنّ التميّز لا يقتضي الثبوت عينا ، وإلاّ لزم محالات :

أحدها : أنّ المعلوم قد يكون مستحيل الوجود لذاته ، كشريك البارئ ، واجتماع الضدّين وغيرهما ، ويتميّز أحدهما عن الآخر ، فلو اقتضى التميّز الثبوت العيني ، لزم ثبوت المستحيلات مع أنّهم وافقونا على انتفاء المستحيل.

الثاني : أنّ المعلوم قد يكون مركّبا خياليّا ، وليس ثابتا في العدم اتّفاقا.

الثالث : أنّ المقدوريّة لو استدعت الثبوت لانتفت ؛ إذ لا قدرة على الثابت ، وكذا المراديّة.

هذا على طريق النقض ، وأمّا الحلّ فبأن يقال : إن أريد التميّز الخارجي فالصغرى ممنوعة.

وإن أريد التميّز الذهني أو الأعمّ مع إرادة الثبوت الخارجي ، فالكبرى ممنوعة.

وإن أريد الذهنيّان ، فالنتيجة غير مثمرة.

قال : ( والإمكان اعتباريّ يعرض لما وافقونا على انتفائه ).

أقول : هذه إشارة إلى الحجّة الثانية لهم على ثبوت المعدوم ، وهي أنّهم قالوا : إنّ المعدوم ممكن ، وإمكانه ليس أمرا عدميّا ، وإلاّ لم يبق فرق بينه وبين الإمكان المنفيّ ، فيكون أمرا ثبوتيّا ، وليس جوهرا قائما بذاته ، فلا بدّ له من محلّ ثبوتيّ ، وهو الممكن ؛ لاستحالة قيام الصفة بغير موصوفها ، فيكون الممكن العدميّ ثابتا ، وهو المطلوب (1).

وأجاب المصنّف رحمه اللّه عنها : بأنّ الإمكان أمر اعتباريّ ليس شيئا خارجيّا ، وإلاّ لزم

ص: 109


1- انظر : « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة العشرون ، في اعتباريّة الموادّ الثلاث.

التسلسل ، وأن يكون الثبوتيّ حالاّ في محلّ عدميّ ، وهو باطل قطعا.

وأيضا فإنّ الإمكان يعرض للممكنات العدميّة ، كالمركّبات الخياليّة ، وهم وافقونا على انتفائها خارجا ، فيبطل قولهم : « كلّ ممكن ثابت ».

وقد نظمت هذا المطلب أيضا بقولي :

تساوق الوجود والشيئيّة *** بمقتضى القدرة والعلّيّة

كذا انحصار ما هو الموجود *** ودرك أمر زائد مفقود

لو اقتضى التمييز والإمكان في *** ماهيّة كونا لكان ما نفي

المسألة الثانية عشرة : في نفي الحال.

قال : ( وهو يرادف الثبوت ، والعدم النفي ، فلا واسطة ).

أقول : ذهب أبو هاشم وأتباعه من المعتزلة ، والقاضي والجويني من الأشاعرة - على ما حكي (1) - إلى ثبوت الواسطة بين الموجود والمعدوم في الصفات ، كالقول بثبوتها في الذوات في المسألة المتقدّمة ، وسمّوها الحال ، وحدّوها : بأنّها صفة لموجود لا توصف بالوجود والعدم وهي ثابتة ، فيكون الثابت أعمّ من الموجود ، والمعدوم أعمّ من المنفيّ.

وهذا المذهب باطل بالضرورة ؛ فإنّ العقل قاض بأنّه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، وأنّ الثبوت هو الموجود مرادفا له ، وأنّ العدم والنفي مترادفان ، ولا شيء أظهر عند العقل من هذه القضيّة ، فلا يجوز الاستدلال عليها.

قال : ( والوجود لا ترد عليه القسمة ، والكلّيّ ثابت ذهنا ، ويجوز قيام العرض بالعرض ).

أقول : لمّا أبطل مذهبهم أشار إلى بطلان ما احتجّوا به من الوجوه الثلاثة :

ص: 110


1- انظر : « محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين » : 163 ؛ « نهاية المرام » 1 : 80 ؛ « شوارق الإلهام » المسألة العاشرة من الفصل الأوّل.

[ الوجه ] الأوّل : أنّ الوجود زائد عن (1) الماهيّة ، فإمّا أن يكون موجودا أو معدوما أو لا موجودا ولا معدوما ، والأوّلان باطلان.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه يلزم التسلسل.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه يلزم اتّصاف الشيء بنقيضه ، فيبقى الثالث.

والجواب : أنّ الوجود غير قابل لهذه القسمة ؛ لاستحالة انقسام الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، أو إلى الموصوف به وبما ينافيه ، فكما لا يقال : السواد إمّا أن يكون سوادا أو بياضا ، كذلك لا يقال : الوجود إمّا أن يكون موجودا أو لا يكون. ولأنّ المنقسم إلى الشيئين أعمّ منهما ، ويستحيل أن يكون الشيء أعمّ من نفسه.

مضافا إلى ما يقال من أنّ الوجود معدوم ؛ لجواز اتّصاف الشيء بنقيضه اشتقاقا وإن لم يخبر ب- « هو هو » كأن يقال : الوجود عدم في القضايا المتعارفة.

[ الوجه ] الثاني : أنّ الكلّي الذي هو ذاتيّ لجزئيّاته المحقّقة في الخارج مثل الحيوان - مثلا - ليس بموجود ؛ إذ لا وجود في الخارج إلاّ للأشخاص (2) ، ولا معدوما ، وإلاّ لما كان جزءا لجزئيّاته الموجودة ، كزيد ؛ لامتناع تقوّم الموجود بالمعدوم.

والجواب : أنّ الكلّيّ جزء ذهنيّ لجزئيّاته ، وذلك يقتضي وجوده في الذهن ، وهو موجود فيه ، وليس جزءا خارجيّا حتّى يلزم تحقّقه في الخارج.

والحقّ أنّ الكلّيّ الطبيعيّ موجود في الخارج بوجود أشخاصه ، كما سيأتي إن شاء اللّه.

[ الوجه ] الثالث : أنّ اللونيّة أمر ثابت مشترك بين السواد والبياض ، فيكون كلّ واحد من السواد والبياض ممتازا عن الآخر بأمر زائد على ما به الاشتراك.

ثمّ الجزءان إن كانا موجودين ، لزم قيام العرض بالعرض. وإن كانا معدومين ، لزم أن يكون السواد أمرا عدميّا وكذلك البياض ، وهو باطل بالضرورة ، مع امتناع تقوّم

ص: 111


1- كذا في جميع النسخ ، وفي « كشف المراد » : 35 : « على ».
2- في « ج » : « الأشخاص ».

الموجود بالمعدوم ، فثبت الواسطة.

والجواب : أنّ العرض قد يقوم بالعرض على ما يأتي.

وأيضا فإنّ قيام الجنس بالفصل ليس هو قيام عرض بعرض.

قال : ( ونوقضوا بالحال (1) نفسها ).

أقول : اعلم أنّ نفاة الأحوال قالوا : وجدنا ملخّص (2) أدلّة مثبتي الحال يرجع إلى أنّ هاهنا حقائق تشترك في بعض ذاتيّاتها وتختلف في البعض الآخر ، وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز.

ثمّ قالوا : إنّ ذلك ليس بموجود ولا معدوم ، فوجب القول بالحال.

وهذا منتقض عليهم بالحال نفسها ، فإنّ الأحوال عندهم متعدّدة ومتكثّرة ، فلها جهة اشتراك هي مطلق الحاليّة ، وامتياز هي خصوصيّات تلك الأحوال ، وجهة الاشتراك مغايرة لجهة الامتياز ، فيلزم أن يكون للحال حال أخرى ويتسلسل.

قال : ( والعذر بعدم قبول التماثل والاختلاف ، والتزام التسلسل باطل ).

أقول : اعتذر المثبتون عن التزام النفاة بوجهين :

الأوّل : أنّ الحال لا يوصف بالتماثل والاختلاف.

الثاني : القول بالتزام التسلسل.

والعذران باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ معقول إذا نسب إلى معقول آخر. فإمّا أن يتّحدا في المعقوليّة ، ويكون المتصوّر من أحدهما هو المتصوّر من الآخر ، وإنّما يتعدّدان بعوارض لاحقة ، وهما المثلان ، أو لا يكون كذلك ، وهما المختلفان ، فلا يتصوّر نفيهما.

وأمّا الثاني : فإنّه يبطل الاستدلال بوجود الصانع تعالى. وبراهين إبطال التسلسل - سيّما برهان التطبيق - آتية هاهنا.

ص: 112


1- الحال - كما عليه المتكلّمون - : وسط بين الموجود والمعدوم ، وهو صفة غير موجودة بذاتها وغير معدومة.
2- في جميع النسخ : « مخلص » وهو غلط ، وما أثبتناه موافق ل- « كشف المراد » : 36.

وأجاب بعض المتأخّرين : بأنّ المختلفين إذا اشتركا في أمر ثبوتيّ ، لزم ثبوت أمرين بهما يقع الاختلاف والتماثل ، أمّا إذا اتّحدا في أمر سلبيّ فلا يلزم ذلك.

والأحوال وإن اشتركت في الحاليّة - كالسواديّة والبياضيّة - إلاّ أنّ ذلك المشترك أمر سلبيّ ، فلا يلزم التسلسل (1).

وهو غير مرضيّ عندهم ؛ لأنّ الأحوال عندهم ثابتة.

قال : ( فبطل ما فرّعوا عليهما من تحقّق الذوات غير المتناهية بأشخاصها في العدم ، وانتفاء تأثير المؤثّر فيها وتباينها ، واختلافهم في إثبات صفة الجنس وما يتبعها في الوجود ، ومغايرة التحيّز للجوهرية ، وإثبات صفة المعدوم بكونه معدوما وإمكان وصفه بالجسميّة ، ووقوع الشكّ في إثبات الصانع بعد اتّصافه بالقدرة والعلم والحياة ).

أقول : لمّا أبطل مذهب القائلين بثبوت المعدوم والحال ، أبطل ما فرّعوا عليهما.

وقد ذكر من فروع إثبات الذوات في العدم أحكاما اختلفوا في بعضها (2) :

[ الفرع ] الأوّل : أنّهم اتّفقوا على أنّ تلك الذوات غير متناهية في العدم ، فلكلّ نوع عدد غير متناه ، وأنّ تلك الأعداد متباينة بأشخاصها.

[ الفرع ] الثاني : أنّ الفاعل لا تأثير له في جعل الجوهر جوهرا والعرض عرضا ، وإنّما تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات موجودة ؛ لأنّ تلك الذوات ثابتة في العدم لم تزل ، والمؤثّر إنّما يؤثّر على طريقة الإحداث.

وقد صار إلى هذا الحكم جماعة من الحكماء ، قالوا : لأنّ كلّ ما بالفاعل ينتفي بانتفاء الفاعل ، فلو كان الجوهر جوهرا بالفاعل لانتفى بانتفائه ، لكن انتفاء الجوهر عن ذاته يستلزم التناقض.

[ الفرع ] الثالث : أنّهم اتّفقوا على انتفاء تباين الذوات ، بل جعلوا الذوات كلّها

ص: 113


1- « محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين » : 167 - 168.
2- انظر : حول هذا المبحث « شرح المقاصد » 1 : 374 وما بعدها.

متساوية في كونها ذوات ، وإنّما تختلف بصفات عارضة لها.

وهذا المذهب باطل ؛ لأنّ الصفات إن كانت لازمة كان اختلافها دليلا على اختلاف الملزومات ، وإلاّ جاز أن ينقلب السواد جوهرا وبالعكس ، وذلك باطل بالضرورة.

[ الفرع ] الرابع : أنّهم اختلفوا في صفات الأجناس هل هي ثابتة في العدم أم لا؟

- والمراد بصفات الأجناس ما يقع بها الاختلاف والتماثل ، كصفة الجوهريّة في الجوهر والسواديّة في السواد ، إلى غير ذلك من الصفات - فذهب ابن عيّاش (1) إلى أنّ تلك الماهيّات المعدومة عارية عن الصفات في العدم ، بل هي تحصل في حال الوجود (2).

وأمّا الجمهور فإنّهم قالوا : إنّها في حال العدم متّصفة بصفات الأجناس (3) ، وهي أربعة :

إحداها : الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم ، وهي الجوهريّة.

والثانية : الوجود ، وهي الصفة الحاصلة بالفاعل.

والثالثة : التحيّز وهي الصفة التابعة للحدوث ، الصادرة عن صفة الجوهريّة بشرط الوجود.

[ و ] الرابعة : الحصول في التحيّز ، وهي الصفة المعلّلة بالمعنى ، وليس له صفة زائدة على هذه الأربع ، فليس له بكونه أسود أو أبيض صفات.

وأمّا الأعراض فلا صفات لها عائدة إلى الجملة ، بل لها ثلاث صفات راجعة إلى الأفراد :

إحداها : الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم ، وهي صفة الجنس.

ص: 114


1- هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن عيّاش من كبار أئمّة المعتزلة ، له مؤلّفات كثيرة في علم المنطق والكلام ، منها : نقض كتاب ابن أبي بشر في إيضاح البرهان. انظر : « الفهرست » لابن النديم : 221.
2- « شرح المقاصد » 1 : 376.
3- « شرح المقاصد » 1 : 376.

الثانية : الصفة الصادرة عنها بشرط الوجود.

الثالثة : صفة الوجود.

[ الفرع ] الخامس : أنّهم اختلفوا في مغايرة التحيّز للجوهريّة :

فعن أبي عليّ الجبّائي وابنه أبي هاشم (1) وأبي الحسين الخيّاط (2) وأبي القاسم البلخي (3) والقاضي عبد الجبّار أنّ التحيّز مغاير للجوهريّة ، وهي علّة له بشرط الوجود.

وذهب أبو يعقوب الشحّام وأبو عبد اللّه البصري وأبو إسحاق بن عيّاش - على ما حكي - إلى أنّ الجوهريّة هي التحيّز.

ثمّ قال الشحّام والبصري : إنّ الذات موصوفة بالتحيّز كما توصف بالجوهريّة. ثمّ اختلفا :

فقال الشحّام : إنّ الجوهر حال عدمه حاصل في الحيّز.

وقال البصري : شرط الحصول في الحيّز الوجود ، فهو حال العدم موصوف بالتحيّز (4) ، لا الحصول في الحيّز.

وزعم ابن عيّاش أنّه حال العدم غير موصوف بأحدهما ولا بغيره من الصفات (5).

ص: 115


1- هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام ، من معتزلة البصرة ومن أئمّة الكلام ، أخذ عن أبي يعقوب الشحّام ، قصد بغداد وناظر المتكلّمين ثمّ عاد إلى العسكر وأوصى إلى ابنه أبي هاشم أن يدفنه في العسكر ، توفّي سنة 303. انظر : « الفهرست » لابن النديم : 217.
2- هو عبد الرحيم بن محمّد بن عثمان الخيّاط أستاذ أبي القاسم البلخي ، وله كتب كثيرة في الردّ على ابن الراوندي ، وكان فقيها صاحب حديث عارفا بمذاهب المتكلّمين ، من كتبه الانتصار في الردّ على ابن الراوندي. كذا في « طبقات المعتزلة » : 85.
3- هو أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد بن محمود البلخي ويعرف بالكعبي ، عالم متكلّم ، توفّي أوّل يوم من شعبان سنة تسع وثلاثمائة ، له مصنّفات كثيرة ، منها كتاب المقالات وكتاب الغرر والنوادر وكتاب التفسير الكبير للقرآن. انظر : « الفهرست » لابن النديم : 219.
4- أي كونه قابلا للحصول في الحيّز.
5- « المحصّل » : 161 - 162 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 376 - 377.

[ الفرع ] السادس : اتّفق المثبتون - إلاّ أبا عبد اللّه البصري - على أنّ المعدوم لا صفة له بكونه معدوما. والبصريّ أثبت له صفة بذلك (1).

[ الفرع ] السابع : اتّفقوا - إلاّ أبا الحسين الخيّاط - على أنّ الذوات المعدومة لا توصف بكونها أجساما. وجوّزه الخيّاط (2).

[ الفرع ] الثامن : اختلفوا في أنّ من علم للعالم صانعا قادرا حكيما مرسلا للرسل ، هل يشكّ في كونه موجودا ويحتاج في ذلك إلى دليل ؛ بناء منهم على جواز اتّصاف المعدوم بالصفات المتغايرة ، أم لا (3)؟

والعقلاء كافّة منعوا من ذلك ، وأوجبوا وجود الموصوف بالصفة الموجودة ؛ لأنّ ثبوت الشيء لغيره فرع على ثبوت ذلك الغير في نفسه.

قال : ( وقسمة الحال إلى المعلّل وغيره ، وتعليل الاختلاف بها ، وغير ذلك ممّا لا فائدة بذكره ).

أقول : لمّا ذكر تفريع القول بثبوت المعدوم شرع في تفاريع القول بثبوت الحال ، وذكر منها فرعين :

الأوّل : قسمة الحال إلى المعلّل وغيره.

قالوا : ثبوت الحال للشيء إمّا أن يكون معلّلا بموجود قائم بذلك الشيء ، كالعالميّة المعلّلة بالعلم ، أولا يكون كذلك ، كسواديّة السواد ، وقسّموا الحال إلى المعلّل وغيره.

الثاني : اتّفقوا على أنّ الذوات كلّها متساوية في الماهيّة ، وإنّما تختلف بأحوال تضاف إليها ، فالاختلاف معلول لها.

واتّفق أكثر العقلاء على بطلان هذا القول ؛ للزوم انتفاء المتخالفين في اللوازم

ص: 116


1- « المحصّل » : 162 ؛ « شرح المقاصد » : 377.
2- « المحصّل » : 162 ؛ « شرح المقاصد » : 377 - 378.
3- انظر : « المحصّل » : 162 - 163.

الذاتيّة ، فيجوز على القديم الانقلاب إلى الحدوث وبالعكس. ولأنّ التخصيص لا بدّ له من مرجّح ، وليس ذاتا ؛ لتساوي الذوات على هذا القول ، ولا صفة ذات وإلاّ تسلسلت الصفات ؛ لاحتياج ثبوت تلك الصفة لذات دون ذات إلى مرجّح آخر وهي الصفة الأخرى ، وهكذا.

وترك (1) سائر الفروع ؛ لعدم الفائدة في ذكرها.

والإنصاف أنّه لا فائدة في الاشتغال بأمثال ذلك بعد ظهور بطلان أصلها.

المسألة الثالثة عشرة : في الوجود المطلق والخاصّ.

قال : ( ثمّ الوجود قد يؤخذ على الإطلاق فيقابله عدم مثله ، وقد يجتمعان لا باعتبار التقابل ويعقلان معا ، وقد يؤخذ مقيّدا فيقابله عدم مثله ).

أقول : اعلم أنّ الوجود عبارة عن الكون في الأعيان ، ثمّ هذا الكون في الأعيان قد يؤخذ عارضا لماهيّة ما ، فيتخصّص الوجود حينئذ ، وقد يؤخذ مجرّدا عمّا عداه من غير التفات إلى ماهيّة معيّنة أو مبهمة ، فيكون وجودا مطلقا.

إذا عرفت هذا ، فالوجود العامّ يقابله عدم مطلق غير متخصّص بماهيّة خاصّة تقابل الإيجاب والسلب من جهة عدم اعتبار المحلّ القابل للوجودي فيه.

نعم ، التقابل بين الوجود المقيّد والعدم المقيّد تقابل العدم والملكة ؛ لأنّ جميع الماهيّات قابلة للوجود الأعمّ.

وهذا الوجود المطلق والعدم المطلق قد يجتمعان على الصدق ؛ فإنّ المعدوم في الخارج الموجود في الذهن يصدق عليه أنّه معدوم مطلق وأنّه موجود مطلق.

نعم ، إذا نظر إلى وحدة الاعتبار ، امتنع الاجتماع في الصدق على شيء واحد ، وإنّما يجتمعان إذا أخذا لا باعتبار التقابل ، ولهذا كان المعدوم المطلق متصوّرا ؛ للحكم عليه بالمقابلة للموجود المطلق ، وكلّ متصوّر ثابت في الذهن ، والثابت في

ص: 117


1- عطف على قوله : « وذكر » في ص 52.

الذهن أحد أقسام المطلق الثابت ، فيكون الثابت المطلق صادقا على المعدوم المطلق لا باعتبار التقابل.

وهذا الوجود المطلق والعدم المطلق أمران معقولان معا ، بمعنى أنّ العقل يفرض اتّصاف ذات واحدة بهما ، كما يتحقّق الاتّصاف بهما في الخارج باعتبار الوجود الخارجي والذهني ، لا باعتبار التقابل الموجب لامتناع اجتماع المتقابلين وإن كان قد نازع قوم في أنّ المعدوم المطلق يتصوّر (1).

وأمّا الوجود الخاصّ - وهو وجود الملكات المتخصّص باعتبار تخصيصها كالمقيّد بقيد الإنسان وغيره من الماهيّات - فإنّه يقابله عدم خاصّ مثله.

قال : ( ويفتقر إلى الموضوع كافتقار ملكته ).

أقول : عدم الملكة ليس عدما مطلقا ، بل له حظّ ما من الوجود من جهة اعتبار المحلّ القابل للوجودي فيه ، ويفتقر إلى الموضوع بذلك ، كالعمى ، فإنّه عدم البصر ، لا مطلقا ، بل عن شيء من شأنه أن يكون بصيرا ، فهو يفتقر إلى الموضوع الخاصّ المستعدّ للملكة ، كما تفتقر الملكة إليه ، ولهذا لمّا امتنع البصر على الحائط - لعدم استعداده - امتنع صدق العمى عليه.

قال : ( وقد يؤخذ (2) شخصيّا ونوعيّا وجنسيّا ).

أقول : لمّا فسّر عدم الملكة بأنّه عدم شيء عن موضوع من شأنه أن يكون ذلك الشيء له ، وجب عليه أن يبيّن الموضوع ؛ فقد اختلف الناس في ذلك.

فذهب قوم إلى أنّ ذلك الموضوع موضوع شخصيّ ، فعدم اللحية عن الأمرد عدم ملكة ، وعدمها عن الكوسج كالمرأة ليس عدم الملكة.

ص: 118


1- نسبة في « شوارق الإلهام » إلى « الشرح القديم » والحواشي الشريفة حيث قال : « قد يجتمع الوجود المطلق والعدم المطلق ؛ لأنّ العدم المطلق قد يتصوّر فيعرض له الكون المطلق ». انظر : « شوارق الإلهام » المسألة الثانية عشرة من الفصل الأوّل.
2- أي الموضوع.

وقوم جعلوه أعمّ من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع النوعي ، فعدم اللحية عن الكوسج أيضا عدم ملكة ؛ لكون نوع الإنسان قابلا لها ، وعدمها عن الحمار ليس عدم ملكة.

وقوم جعلوه أعمّ من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع الجنسي ، فعدم البصر عن العقرب أيضا عدم ملكة ؛ لكون جنس الحيوان قابلا له.

وبالجملة ، فإن اعتبر في الموضوع كونه قابلا للأمر الوجودي في وقت اتّصافه بالأمر العدمي ، يقال لهما : العدم والملكة المشهوران ، وإلاّ فالحقيقيّان.

ولا مشاحّة في ذلك ؛ لعدم فائدته.

المسألة الرابعة عشرة : في أنّ الوجود بسيط.

قال : ( والوجود لا جنس له ، بل هو بسيط ، فلا فصل له ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الوجود عارض لجميع المعقولات ، فلا معقول أعمّ منه ، فلا جنس له ولا فصل له ؛ لأنّ الفصل هو المميّز لبعض أفراد الجنس عن البعض ، فإذا انتفت الجنسيّة ، انتفت الفصليّة بل هو بسيط.

قال : ( ويتكثّر بتكثّر الموضوعات ، ويقال بالتشكيك على عوارضها ).

أقول : الوجود طبيعة معقولة كلّيّة واحدة غير متكثّرة ، فإذا اعتبر عروضه للماهيّات تكثّر بحسب تكثّرها ؛ لاستحالة عروض العرض الشخصي لماهيّات متعدّدة ، وتكون طبيعة متحقّقة في كلّ واحدة من تلك الماهيّات ، أعني أنّ طبيعة الوجود متحقّقة في وجود الإنسان ووجود الفرس وغيرهما من وجودات الحقائق ، ويصدق عليها صدق الكلّيّ على جزئيّاته ، وعلى تلك الماهيّات صدق العارض على معروضاته.

ويقال على تلك الوجودات العارضة للماهيّات بالتشكيك ؛ وذلك أنّ الكلّيّ إن كان صدقه على أفراده على السواء ، كان متواطئا ، وإن كان لا على السواء ، بل يكون

ص: 119

بعض تلك الأفراد أولى بالكلّيّ من الآخر أو أقدم منه أو يوجد الكلّيّ في ذلك البعض أشدّ منه في الآخر ، كان مشكّكا.

والوجود من حيث هو بالنسبة إلى كلّ وجود خاصّ كذلك ؛ لأنّ وجود العلّة أولى بطبيعة الوجود من المعلول ، والوجود في العلّة مقدّم على الوجود في المعلول ، وعند بعضهم أشدّ ، يعني باعتبار التأثير حتّى لا يلزم قبوله الاشتداد المنفيّ ، فيكون مشكّكا (1).

قال : ( فليس جزءا من غيره مطلقا ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم ؛ وذلك لأنّ المقول بالتشكيك لا يكون جزءا فيما يقال عليه ، ولا نفس حقيقته ؛ لامتناع التفاوت في الماهيّة وأجزائها على ما يأتي ، فيكون البتّة عارضا لغيره ، فلا يكون جزءا من غيره على الإطلاق.

أمّا بالنسبة إلى الماهيّات ؛ فلأنّه عارض لها ، على ما تقدّم من أنّه زائد على الحقائق.

وأمّا بالنسبة إلى وجوداتها ؛ فلأنّه مقول عليها بالتشكيك ، مع أنّ تكثّرها باعتبار الموضوعات ، وأصل الوجود طبيعة واحدة غير متكثّرة كما مرّ إليه الإشارة ، وهي بسيطة غير مركّبة فلا يتصوّر كونه جزءا ؛ فلهذا قال رحمه اللّه : « مطلقا ».

المسألة الخامسة عشرة : في الشيئيّة.

قال : ( والشيئيّة من المعقولات (2) الثانية ، وليست متأصّلة (3) في الوجود فلا شيء مطلقا ثابت ، بل هي تعرض لخصوصيّات الماهيّات ).

أقول : قال أبو عليّ بن سينا - على ما حكي - : « الوجود إمّا ذهنيّ وإمّا خارجيّ ،

ص: 120


1- نسبه العلاّمة قدس سره إلى الأوائل في « مناهج اليقين » : 9 - 10.
2- وهي ما لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر. ( منه رحمه اللّه ).
3- أي ليس لها وجود خارجيّ أصيل ؛ حذرا من التسلسل. ( منه رحمه اللّه ).

والمشترك بينهما هو الشيئيّة » (1).

فإن أراد حمل الشيئيّة على القدر المشترك وصدقها عليه ، فهو صواب ، وإلاّ فهو ممنوع.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الشيئيّة والذاتيّة والجزئيّة وأشباهها من المعقولات الثانية ، وهي ما لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر ، وليست متأصّلة في الوجود كتأصّل الحيوانيّة والإنسانيّة فيه ، بل هي تابعة لغيرها في الوجود من غير أن يكون لها وجود خارجيّ أصيل ، وإلاّ لكانت لها شيئيّة أخرى وتسلسلت الموجودات الخارجيّة ، وليست الشيئيّة المطلقة - التي لم تقيّد بما يعرضها - ثابتة في العقل ، بمعنى أنّها لا تعقل غير عارضة لأمر ، بل هي إنّما تعقل عارضة لخصوصيّات الماهيّات المعقولة ، كما هو شأن المعقولات الثانية ، فلا يكون شيء مطلق ثابتا ؛ لأنّ الشيئيّة تصدق على الوجود ، وليست نفسه حتّى يرد أنّه مناف لما سبق من أنّ الوجود قد يؤخذ على الإطلاق.

المسألة السادسة عشرة : في تمايز الأعدام وحكمها.

قال : ( وقد تتمايز الأعدام ؛ ولهذا استند عدم المعلول إلى عدم العلّة لا غير ، ونافى عدم الشرط وجود المشروط ، وصحّح عدم الضدّ وجود الآخر ، بخلاف باقي الأعدام ).

أقول : لا شكّ في أنّ الملكات متمايزة.

وأمّا العدمات (2) فقد منع قوم من تمايزها بناء على أنّ التميّز إنّما يكون للثابت خارجا (3).

ص: 121


1- نقله عنه في « كشف المراد » : 42.
2- كذا ، وصوابه : الأعدام.
3- « شرح المواقف » 2 : 184 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 1 : 382 وما بعدها ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة 16.

وهو خطأ ؛ فإنّها تتمايز بتمايز ملكاتها.

واستدلّ المصنّف رحمه اللّه بوجوه ثلاثة :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ عدم المعلول يستند إلى عدم العلّة ، ولا يستند إلى عدم غيرها ، فلو لا امتياز عدم العلّة عن عدم غيرها ، لم يكن عدم المعلول مستندا إليه دون غيره.

وأيضا فإنّا نحكم بأنّ عدم المعلول لعدم علّته ، ولا يجوز العكس ، فلو لا تمايزهما لما كان كذلك.

[ الوجه ] الثاني : أنّ عدم الشرط ينافي وجود المشروط ؛ لاستحالة الجمع بينهما ، لأنّ المشروط لا يوجد إلاّ مع شرطه ، وإلاّ لم يكن الشرط شرطا. وعدم غيره لا ينافيه ، فلو لا الامتياز لم يكن كذلك.

[ الوجه ] الثالث : أنّ عدم الضدّ عن المحلّ يصحّح وجود الضدّ الآخر فيه ؛ لانتفاء صحّة وجود الضدّ الطارئ مع وجود الضدّ الباقي. وعدم غيره لا يصحّح ذلك ، فلا بدّ من التمايز.

قال : ( ثمّ العدم قد يعرض لنفسه فتصدق النوعيّة والتقابل عليه باعتبارين ).

أقول : العدم قد يفرض عارضا لغيره ، وقد يلحظ لا باعتبار عروضه للغير ، فيكون أمرا معقولا قائما برأسه ، ويكون له تحقّق في الذهن.

ثمّ إنّ العقل يمكنه فرض عدمه ؛ لأنّ الذهن يمكنه إلحاق الوجود والعدم بجميع المعقولات حتّى بنفسه ، فإذا اعتبر العقل العدم ماهيّة معقولة وفرضه معدوما ، كان العدم عارضا لنفسه ، ويكون العدم العارض للعدم مقابلا لمطلق العدم باعتبار كونه رافعا له وعدما له ، ونوعا منه باعتبار أنّ العدم المعروض أخذ مطلقا على وجه يعمّ العارض له ولغيره ، فتصدق نوعيّة العدم العارض للمعروض ، والتقابل بينهما باعتبارين.

قال : ( وعدم المعلول ليس علّة لعدم العلّة في الخارج وإن جاز في الذهن ، على أنّه برهان إنّيّ وبالعكس لمّيّ ).

ص: 122

أقول : لمّا بيّن أنّ الأعدام متمايزة - بأنّ عدم المعلول يستند إلى عدم العلّة - ذكر ما يصلح جوابا لوهم من يعكس القول ، ويجعل عدم المعلول علّة لعدم العلّة ، فأزال هذا الوهم وقال : « إنّ عدم المعلول ليس علّة لعدم العلّة » كما في حركة اليد وحركة المفتاح ، بل الأمر بالعكس على ما يأتي.

ثمّ قيّد النفي بالخارج ؛ لأنّ عدم المعلول قد يكون علّة لعدم العلّة في الذهن كما في برهان الإنّ بأن يكون عدم المعلول أظهر عند العقل من عدم العلّة ، فيستدلّ العقل عليه ، ويكون علّة له باعتبار التعقّل ، لا باعتبار الخارج. ولا يفيد العلّيّة في نفس الأمر ، بل في الذهن ، ولهذا سمّي إنّيّا ؛ لأنّه لا يفيد إلاّ الوجود الذهني.

أمّا الاستدلال بعدم العلّة على عدم المعلول فهو برهان لمّيّ مطابق لنفس الأمر.

بيان ذلك : أنّ الحدّ الأوسط في البرهان لا بدّ أن يكون علّة لحصول التصديق بالحكم الذي هو المطلوب ، وإلاّ لم يكن برهانا على ذلك المطلوب ، فإن كان مع ذلك علّة لثبوت ذلك الحكم في الخارج أيضا ، فالبرهان لمّيّ ، وإلاّ فإنّيّ ، سواء كان الأوسط معلولا لثبوت الحكم في الخارج أم لا.

ووجه التسمية باللمّيّ : أنّ اللمّيّة هي العلّيّة من « لم » سؤالا عن علّة الحكم ، فالبرهان المنسوب إلى العلّة يسمّى لمّيّا. وبالإنّيّ : أنّ الإنّيّة هي الثبوت من « إنّ ، للتحقيق » فالبرهان الحاصل من ثبوت المعلول الدالّ على ثبوت العلّة يسمّى إنّيّا.

وكيف كان فعلّة الثبوت تسمّى سببا مقتضيا ، وعلّة الإثبات برهانا ، فإن كان علّة الإثبات عين علّة الثبوت يسمّى « برهانا لمّيّا » وإن كان أثرها يسمّى « برهانا إنّيّا » لما مرّ.

قال : ( والأشياء المترتّبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما ).

أقول : يعني أنّ كل أمرين بينهما عموم وخصوص مطلق بحسب اعتبار المعنى الوجودي يتعاكس في العموم والخصوص عند اعتبار عدمهما ؛ فإنّ عدم الأخصّ أعمّ من عدم الأعمّ ؛ فإنّ الحيوان يشمل الإنسان وغيره ، فغير الإنسان من أنواع

ص: 123

الحيوان لا يصدق عليه أنّه إنسان بل يصدق عليه عدمه ، ولا يصدق عليه عدم الحيوان ؛ فإنّه أحد أنواعه ، ويصدق أيضا عدم الإنسان على ما ليس بحيوان ، وهو ظاهر ، فعدم الحيوان لا يشمل أفراد عدم الإنسان ، وعدم الإنسان شامل لما ليس بحيوان وغيره ، فعدم الأخصّ أعمّ من عدم الأعمّ ، فإذا ترتّب شيئان في العموم والخصوص وجودا ترتّبا على العكس عدما بأن يصير الأخصّ أعمّ من طرف العدم.

المسألة السابعة عشرة : في قسمة الوجود والعدم إلى المحتاج والغنيّ.

قال : ( وقسمة كلّ منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقيّة ).

أقول : كلّ واحد من الوجود والعدم إمّا أن يكون محتاجا إلى الغير أو يكون مستغنيا.

والأوّل والثاني عبارتان عن وجود الممكن وبقائه وعدمه باعتبار الاستمرار المحتاج إلى عدم العلّة.

والثالث عبارة عن وجود واجب الوجود.

والرابع عبارة عن عدم الممتنع كشريك البارئ.

وهذه القسمة حقيقيّة تكون على سبيل المنفصلة الحقيقيّة الدائرة بين النفي والإثبات ، من غير تصوّر اجتماع القسمين ولا ارتفاعهما فيها ، أي بمنع الجمع والخلوّ :

أمّا منع الجمع ؛ فلاستحالة كون المستغني عن الغير محتاجا إليه وبالعكس.

وأمّا منع الخلوّ ؛ فلأنّه لا قسم ثالث لهما ، فقد ظهر أنّ هذه القسمة حقيقيّة.

المسألة الثامنة عشرة : في الوجوب والإمكان والامتناع.

قال : ( وإذا حمل الوجود أو جعل رابطة ، تثبت موادّ ثلاث في أنفسها ، وجهات في التعقّل دالّة على وثاقة الرابطة وضعفها ، وهي الوجوب ، والامتناع ، والإمكان ).

ص: 124

أقول : الوجود قد يكون خارجيّا أصيلا ، وقد يكون ذهنيّا ظلّيّا ، وكلّ منهما قد يكون أصليّا ، وقد يكون رابطيّا ، بمعنى أنّه قد يكون محمولا بنفسه ، كقولنا : « الإنسان موجود » ، وقد يكون رابطة بين الموضوع والمحمول ، كقولنا : « الإنسان يوجد حيوانا » ، ويسمّى التصديق الأوّل بسيطا ، ويسأل عنه ب- « هل » البسيطة ؛ لبساطة المسئول عنه. ويسمّى التصديق الثاني مركّبا ، ويسأل عنه ب- « هل » المركّبة.

وعلى كلا التقديرين يكون بين المحمول والموضوع نسبة ثبوتية.

ولا بدّ لهذه النسبة - أعني نسبة المحمول فيهما إلى الموضوع - من كيفيّة من الكيفيّات الثلاث ، التي هي الوجوب والإمكان والامتناع ، باعتبار استحالة الانفكاك أو الثبوت أو عدمهما.

وتلك الكيفيّة تسمّى مادّة وجهة باعتبارين : فإن أخذنا الكيفيّة في نفسها ، سمّيت مادّة. وإن أخذناها عند العقل وما تدلّ عليه العبارات ، سمّيت جهة.

وقد يتّحدان ، كقولنا : « الإنسان يجب أن يكون حيوانا » وقد يتغايران كقولنا : « الإنسان يمكن أن يكون حيوانا » ، فالمادّة ضروريّة ؛ لأنّ كيفيّة نسبة الحيوانيّة إلى الإنسانيّة هي الوجوب. وأمّا الجهة فهي الممكنة.

وهذه الكيفيّات تدلّ على وثاقة الربط وضعفه ؛ فإنّ الوجوب يدلّ على وثاقة الربط في طرف الثبوت ، والامتناع على وثاقته في طرف العدم ، والإمكان على ضعف الربط.

قال : ( وكذا العدم ).

أقول : إذا جعل العدم محمولا أو رابطة كقولنا : « الإنسان معدوم » أو « معدوم عنه الكتابة » حدثت الجهات الثلاث عند التعقّل ، والموادّ في نفس الأمر.

قال : ( والبحث في تعريفها كالوجود ).

أقول : إنّ جماعة من العلماء أخطئوا هاهنا ، حيث عرّفوا الواجب والممكن والممتنع ؛ لأنّ هذه الأشياء معلومة للعقلاء لا تحتاج إلى اكتساب.

ص: 125

نعم ، قد يذكر في تعريف ألفاظها ما يكون شارحا لها لا على أنّه حدّ حقيقيّ بل لفظيّ.

ومع ذلك فتعريفاتهم دوريّة ؛ لأنّهم عرّفوا الواجب بأنّه ما يستحيل عدمه ، أو الذي لا يمكن عدمه. ثمّ عرّفوا المستحيل بأنّه الذي لا يمكن وجوده ، أو الذي يجب عدمه.

ثمّ عرّفوا الممكن بأنّه الذي لا يجب وجوده ولا يجب عدمه ، أو الذي لا يستحيل وجوده ولا عدمه. فقد أخذوا كلّ واحد منها في تعريف الآخر ، وهو دور ظاهر (1).

قال : ( وقد تؤخذ ذاتيّة فتكون القسمة حقيقيّة ، ولا يمكن انقلابها ).

أقول : يعني إذا أخذنا الوجوب والامتناع والإمكان بحسب الذات لا بالنظر إلى الغير ، كانت المعقولات منقسمة إليها قسمة حقيقيّة أي بمنع الجمع والخلوّ ؛ وذلك لأنّ كلّ معقول على الإطلاق إمّا أن يكون واجب الوجود لذاته أو ممتنع الوجود لذاته أو ممكن الوجود لذاته ، لا يخلو عنها ، ولا يجتمع اثنان منها في واحد ؛ لاستحالة أن يكون شيء واحد واجبا لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته ، أو يكون ممتنعا لذاته وممكنا لذاته ، فقسمة كيفيّة نسبة المحمول إلى الموضوع حينئذ تكون على سبيل المنفصلة الحقيقيّة ذات الأجزاء الثلاثة ، لا يمكن الاجتماع بين الأقسام لا في الصدق ولا في الكذب ، بل يكون الصادق أمرا واحدا منها ؛ لأنّ ذات الموضوع إمّا أن تقتضي تلك النسبة أم لا ، وعلى الثاني إمّا أن تقتضي نقيض تلك النسبة أم لا ، والأوّل هو الوجوب. والثاني هو الامتناع. والثالث هو الإمكان.

واحتمال غيرها خلاف الضرورة العقليّة.

واعلم أنّ القسمة الحقيقيّة قد تكون للكلّيّ بفصول أو لوازم تميّزه وتفصّله إلى الأقسام المندرجة تحته ، وقد تكون بعوارض مفارقة.

والقسمة الأولى لا يمكن انقلابها ، ولا يصير أحد القسمين معروضا لمميّز الآخر

ص: 126


1- انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 87 - 88.

الذي به وقعت القسمة ، بمعنى أنّه لا يزول أحد المفهومات الثلاثة عن الذات بأن تتّصف الذات بالآخر ، كأن يصير الواجب بالذات ممكنا بالذات أو بالعكس ؛ لأنّ الذاتي لا يختلف ولا يتخلّف ، كقولنا : « الحيوان إمّا ناطق أو صامت » فإنّ الحيوان قد انقسم إلى طبيعتين ، ويستحيل انقلاب هذه القسمة ، بمعنى أنّ الحيوان الذي هو ناطق يستحيل زوال النطق عنه وعروض الصمت له ، وكذا الحيوان الذي هو صامت.

وأمّا الثانية فإنّه يمكن انقلابها ويصير (1) أحد القسمين معروضا لمميّز الآخر الذي به وقعت القسمة ، كقولنا : « الحيوان إمّا متحرّك أو ساكن » فإنّ كلّ واحد من المتحرّك والساكن قد يتّصف بعارض الآخر ، فينقلب المتحرّك ساكنا وبالعكس.

وقسمة المعقول بالوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والإمكان الذاتي من قبيل القسم الأوّل ؛ لاستحالة انقلاب الواجب لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته ، وكذا الباقيان.

قال : ( وقد يؤخذ الأوّلان (2) باعتبار الغير ، والقسمة مانعة الجمع بينهما يمكن انقلابها ، ومانعة الخلوّ بين الثلاثة في الممكنات ).

أقول : يعني إذا أخذنا الواجب والممتنع باعتبار الغير - لا بالنظر إلى الذات - انقسم المعقول إليهما على سبيل منع الجمع لا الخلوّ ؛ وذلك لأنّ المعقول حينئذ إمّا أن يكون واجبا لغيره أو ممتنعا لغيره على سبيل منع الجمع لا الخلوّ ؛ لامتناع الجمع بين الوجوب بالغير والامتناع بالغير ؛ لاستلزامه اجتماع الوجود والعدم ، وإمكان الخلوّ عنهما لا بالنظر إلى وجود العلّة ولا عدمها.

وهذه القسمة يمكن انقلابها ؛ لأنّ واجب الوجود بالغير قد يعرض عدم علّته ، فيكون ممتنع الوجود بالغير ، فينقلب أحدهما إلى الآخر.

ص: 127


1- عطف على « انقلابها » أي صيرورة أحد القسمين.
2- أي الوجوب والامتناع.

وإذا لاحظنا الإمكان الذاتي في هذه القسمة في الممكنات ، انقلبت القسمة مانعة الخلوّ ؛ لعدم خلوّ كلّ معقول ممكن عن الوجوب بالغير والامتناع بالغير والإمكان الذاتي ، فيجوز الجمع بينها ؛ فإنّ الممكن الذاتي واجب أو ممتنع ، فيتحقّق الجمع بين الإمكان الذّاتي وأحد الباقيين.

قال : ( ويشترك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة وإن اختلفا في السلب والإيجاب ).

أقول : الضرورة تطلق على الوجوب والامتناع وتشملهما ؛ فإنّ كلّ واحد من الوجوب والامتناع يقال له : ضروريّ ، لكنّهما يختلفان بالسلب والإيجاب ، فالوجوب ضرورة الوجود ، والامتناع ضرورة السلب ، واسم الضرورة شامل لهما.

قال : ( وكلّ منهما يصدق على الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه ).

أقول : كلّ واحد من الوجوب والامتناع يصدق على الآخر إذا أضيفا إلى المتقابلين - أعني الوجود والعدم - فإنّ وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ، وبالعكس ، وكذلك امتناع الوجود يصدق عليه وجوب العدم ، وبالعكس.

وإنّما اشترط تقابل المضاف إليه ؛ لأنّه يستحيل صدقهما على مضاف إليه واحد ؛ فإنّ وجوب الوجود لا يصدق عليه امتناع الوجود ، وبالعكس ، ولا وجوب العدم يصدق عليه امتناع العدم ، بل إنّما يصدق كلّ واحد منهما على صاحبه مع التقابل ، كما قلنا : وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ، فالوجوب أضيف إلى الوجود ، والامتناع إلى العدم ، والوجود والعدم متقابلان.

قال : ( وقد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين ، فيعمّ الأخرى والخاصّ ).

أقول : القسمة العقليّة ثلاثة ؛ لأنّ المعقول إمّا واجب أو ممتنع أو ممكن ليس بواجب ولا ممتنع ، هذا بحسب اصطلاح الخاصّة.

وقد يؤخذ الإمكان على معنى أعمّ من ذلك ، وهو سلب الضرورة عن أحد

ص: 128

الطرفين - أعني طرف الوجود أو العدم - لا عنهما ، بل عن الطرف المقابل للحكم حتّى يكون ممكن الوجود هو ما ليس بممتنع ، ونكون قد رفعنا فيه ضرورة العدم ، وممكن العدم هو ما ليس بواجب [ و ] نكون قد رفعنا فيه ضرورة الوجود.

وإذا أخذ بهذا المعنى كان أعمّ من الأوّل ومن الضرورة الأخرى التي لا تقابله ، وهي ضرورة الجانب الموافق ، فإنّ رفع إحدى الضرورتين يستلزم ثبوت الأخرى والإمكان الخاصّ ، فممكن الوجود بالإمكان العامّ أعمّ من الواجب والممكن بالإمكان الخاصّ ، وممكن العدم بالإمكان العامّ أعمّ من الممتنع والممكن بالإمكان الخاصّ.

قال : ( وقد يؤخذ بالنسبة إلى الاستقبال ).

أقول : قد يؤخذ الممكن لا بالنظر إلى ما في الحال بل بالنظر إلى الاستقبال حتّى يكون ممكن الوجود هو الذي يجوز وجوده في الاستقبال من غير التفات إلى ما في الحال. وهذا الإمكان أحقّ باسم الإمكان.

قال : ( ولا يشترط العدم في الحال ، وإلاّ اجتمع النقيضان ).

أقول : ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الممكن الاستقبالي شرطه العدم في الحال ، قالوا : لأنّه لو كان موجودا في الحال لكان واجبا ؛ إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا يكون ممكنا (1).

وهو خطأ ؛ لأنّ الوجود إن أخرجه إلى الوجوب أخرجه العدم إلى الامتناع.

وأيضا الممكن ما يمكن وجوده وعدمه ، فإذا اشترط في إمكان الوجود في المستقبل العدم في الحال ، اشترط في إمكان العدم الوجود في الحال ، فيلزم اشتراط وجوده وعدمه في الحال. وهذا خلف. وإليه أشار بقوله : « وإلاّ اجتمع النقيضان ».

وأيضا الوجوب الغيري لا ينافي إمكانه في المستقبل.

ص: 129


1- انظر : « شرح المقاصد » 1 : 462 - 463.

المسألة التاسعة عشرة : في أنّ الوجوب والإمكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان.

قال : ( والثلاثة اعتباريّة ؛ لصدقها على المعدوم واستحالة التسلسل ).

أقول : هذه الجهات الثلاث - أعني الوجوب والإمكان والامتناع (1) - أمور اعتباريّة يعتبرها العقل عند نسبة الوجود إلى الماهيّة وليس لها تحقّق في الأعيان ، لوجوه منها ما هو مشترك ، ومنها ما هو مختصّ بكلّ واحد. أمّا المشترك فأمران :

الأوّل : أنّ هذه الأمور تصدق على المعدوم ، فإنّ الممتنع يصدق عليه أنّه مستحيل الوجود وأنّه واجب العدم ، والممكن قبل وجوده يصدق عليه أنه ممكن الوجود وهو معدوم ، وإذا اتّصف المعدوم بها ، كانت عدميّة ؛ لاستحالة اتّصاف العدمي بالثبوت.

الثاني : أنّه لو كان هذه الأمور متحقّقة في الأعيان ، فاتّصاف ماهيّتها بوجوداتها لا يخلو عن أحد هذه الأمور الثلاثة ، فلو كانت هذه الأمور ثبوتيّة ، لزم اتّصافها بأحد الثلاثة ويتسلسل ، وهو محال.

قال : ( ولو كان الوجوب ثبوتيّا لزم إمكان الواجب ).

أقول : شرع في الدلالة على كلّ واحد من الثلاثة ، فبدأ بالوجوب الذي هو أقربها إلى الوجود ؛ إذ هو تأكّده ، فبيّن أنّه ليس ثبوتيّا.

والدليل عليه أنّه لو كان موجودا في الأعيان لكان ممكنا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه صفة للغير ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، فالوجوب مفتقر إلى ذات الواجب ، فيكون الوجوب ممكنا.

ص: 130


1- لمزيد الاطّلاع عن هذه المسألة راجع « الشفاء » الإلهيّات ، الفصل الخامس من المقالة الأولى ؛ « التحصيل » : 291 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 206 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 87 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 3 : 109 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 83 ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة العشرون.

وأمّا بطلان التالي ؛ فلأنّه لو كان الوجوب ممكنا لكان الواجب ممكنا ؛ لأنّ الواجب إنّما هو واجب بهذا الوجوب الممكن الذي يمكن زواله ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا ، فيكون ممكنا ، هذا محال.

ولا يخفى أنّ ما ذكره يتمّ في الوجوب الانتزاعي الاعتباري ، وأمّا الوجوب الواقعي ، الذي هو عين ذات الواجب الوجود بالذات عندنا ، ومقتضى الذات عند غيرنا ، فلا ، كما لا يخفى.

قال : ( ولو كان الامتناع ثبوتيّا لزم إمكان الممتنع ).

أقول : هذا حكم ضروريّ ، وهو أنّ الامتناع أمر عدميّ ، وقد نبّه هاهنا عليه على طريق التنبيه لا الاستدلال ، بأنّ الامتناع لو كان ثبوتيّا لزم إمكان الممتنع ؛ لأنّ ثبوت الامتناع يستدعي ثبوت موصوفه أعني الممتنع ، فيكون الممتنع ثابتا ، هذا خلف.

قال : ( ولو كان الإمكان ثبوتيّا لزم سبق وجود كلّ ممكن على إمكانه ).

أقول : اختلف الناس في أنّ الإمكان الخاصّ هل هو ثبوتيّ أم لا؟

وتحرير القول فيه : أنّ الإمكان قد يؤخذ بالنسبة إلى الماهيّة ، وهو الإمكان الراجع إلى الماهيّة ، وقد يؤخذ بالنسبة إلى الوجود من حيث القرب والبعد من طرف العدم ، وهو الإمكان الاستعدادي.

أمّا الأوّل فالمحقّقون كافّة على أنّه أمر اعتباريّ لا تحقّق له عينا.

وأمّا الثاني فالأوائل قالوا : إنّه من باب الكيف ، وهو قابل للشدّة والضعف. والحقّ يأباه. والدليل على عدمه في الخارج أنّه لو كان ثابتا - مع أنّه إضافة بين أمرين أو ذو إضافة - لزم ثبوت مضافيه اللذين هما الماهيّة والوجود ، فيلزم تأخّره عن الوجود في الرتبة. هذا خلف ؛ لأنّ وجود الممكن متأخّر عن إمكانه بمراتب ؛ لأنّه يقال أمكن فاحتاج إلى المؤثّر فأوجده فوجد (1).

ص: 131


1- راجع « المباحث المشرقية » 1 : 214 - 218 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 112 وما بعدها.

قال : ( والفرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفيّ لا يستلزم ثبوته ).

أقول : هذا جواب عن استدلال أبي عليّ بن سينا على ثبوت الإمكان ؛ فإنّه قال - على ما قيل - : لو كان الإمكان عدميّا لما بقي فرق بين الإمكان ونفيه ؛ لعدم التمايز في العدميّات (1).

والجواب : المنع من الملازمة ؛ فإنّ الفرق وقع بين نفي الإمكان وثبوت الإمكان الذي حكمنا بأنّه ليس ثبوتيّا في الأعيان ، ولا يستدعي الفرق الثبوت العيني ، كما في الامتناع.

نعم ، يستدعي الثبوت الذهني الانتزاعي ، وهو غير منفيّ ، فالمنفيّ هو الثبوت العيني ، والمثبت بالدليل هو الثبوت الذهني ، فلا يتمّ التقريب.

ولا يخفى أنّه من الشيخ الرئيس عجيب ، ولكنّ الجواد قد يكبو ، والصارم قد ينبو من غير امتناع.

والحاصل : أنّ الإمكان العقلي على أقسام :

منها الإمكان الذاتي بمعنى عدم ترتّب الاستحالة على الوجود.

ومنها الإمكان الاستعدادي ، وهو صلاحيّة الوجود.

ومنها الإمكان الوقوعي بمعنى عدم ترتّب القبح على الإيجاد. والكلّ اعتباريّ.

المسألة العشرون : في الوجوب والإمكان والامتناع المطلقة.

قال : ( والوجوب شامل للذاتي وغيره وكذا الامتناع ).

أقول : الوجوب قد يكون ذاتيّا ، وهو المستند إلى نفس الماهيّة من غير التفات إلى غيرها ، وقد يكون بالغير ، وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر إليه ؛ فإنّ المعلول لو لا النظر إلى علّته لم يكن واجبا ، فالوجوب المطلق قد انقسم إلى

ص: 132


1- ما نقله هنا هو نصّ كلام الفخر الرازي في توجيه كلام ابن سينا ، راجع « شرحي الإشارات » 1 : 226 ؛ « المحاكمات » المطبوعة في هامش « شرح الإشارات » 2 : 107 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 112.

ما بالذات وإلى ما بالغير ، وهو شامل لهما ، وكذا الامتناع شامل للامتناع الذاتي والعارض باعتبار الغير ، وليس عموم الوجوب عموم الجنسيّة ، وإلاّ تركّب الوجوب الذاتي بل عموم عارض ذهنيّ لمعروض ذهنيّ.

قال : ( ومعروض ما بالغير منهما ممكن ).

أقول : الذات التي يصدق عليها أنّها واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير فإنّها تكون ممكنة بالذات ؛ لأنّ الممكن الذاتي إذا وجد علّته عرض له الوجوب بالغير ، وإذا عدم علّته عرض له الامتناع بالغير ، فالممكن الذاتي معروض الوجوب الغيري والامتناع الغيري لا غيره ؛ إذ لا يمكن أن يكون الواجب بالغير واجبا بالذات ؛ للزوم توارد العلّتين - أعني الذات والغير - على شيء واحد شخصي ، ولا ممتنعا بالذات ، وإلاّ لكان موجودا ومعدوما. وكذا الممتنع بالغير ، فقد ظهر أنّ معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات لا غير.

قال : ( ولا ممكن بالغير ؛ لما تقدّم في القسمة الحقيقيّة ).

أقول : لا يمكن أن يكون هاهنا ممكن بالغير كما أمكن واجب أو ممتنع بالغير ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان المعروض للإمكان بالغير إمّا واجبا لذاته ، أو ممتنعا لذاته ، وكلّ ممكن بالغير ممكن بالذات ، فيكون ذلك المعروض تارة واجبا لذاته ، وتارة ممكنا لذاته ، فيلزم انقلاب القسمة الحقيقيّة التي فرضنا أنّها لا تقلب. هذا خلف.

المسألة الحادية والعشرون : في عروض الإمكان للماهيّة.

قال : ( وعروض الإمكان عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة وعلّتها ).

أقول : الإمكان إنّما يعرض للماهيّة من حيث هي هي ، لا باعتبار وجودها ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار عدم علّتها ، بل إنّما يعرض لها عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة نفسها ، وعند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى علّة

ص: 133

الممكن ؛ فإنّ الماهيّة إذا أخذت موجودة كانت واجبة ما دامت موجودة ، وكذا إذا أخذت معدومة تكون ممتنعة ما دامت معدومة ، وإذا أخذت باعتبار وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة ، وإذا أخذت باعتبار عدم علّتها كانت ممتنعة ما دامت العلّة معدومة.

قال : ( وعند اعتبار هما بالنظر إليهما يثبت ما بالغير ).

أقول : إذا اعتبرنا الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة أو إلى علّتها ، ثبت الوجوب بالغير والامتناع بالغير ؛ فإنّه إذا أخذت الماهيّة مع الوجود تكون نسبتها إليه بالوجوب لا بالإمكان ، ويسمّى ذلك وجوبا لاحقا ، وإذا أخذت مع العدم تكون نسبتها إلى الوجود بالامتناع اللاحق ، وكلاهما يسمّى ضرورة بشرط المحمول ، وإذا أخذت الماهيّة مع وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة ، ويسمّى ذلك وجوبا سابقا ، وإذا أخذت مع عدم علّتها كانت ممتنعة ما دامت العلّة غير موجودة ، ويسمّى ذلك امتناعا سابقا ، فكلّ موجود محفوف بوجوبين : سابق ولاحق ، وكلاهما وجوب بالغير ، وكلّ معدوم محفوف بامتناعين : سابق ولاحق ، وكلاهما امتناع بالغير.

قال : ( ولا منافاة بين الإمكان والغيري ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الممكن باعتبار وجوده أو وجود علّته يكون واجبا ، وباعتبار عدمه أو عدم علّته يكون ممتنعا ، لكنّ الوجوب والامتناع ليسا ذاتيّين بل باعتبار الغير ومعروضهما الممكن ، فلا منافاة بينهما وبين الإمكان.

قال : ( وكلّ ممكن العروض ذاتيّ ، ولا عكس ).

أقول : الممكن قد يكون ممكن الثبوت في نفسه ، وقد يكون ممكن الثبوت لشيء آخر ، وكلّ ممكن الثبوت لشيء آخر - أعني ممكن العروض - فهو ممكن ذاتيّ ، أي يكون في نفسه ممكن الثبوت ؛ لأنّ إمكان ثبوت الشيء لغيره فرع على إمكانه في نفسه ، ولا ينعكس. فقد يكون الشيء ممكن الثبوت في نفسه ، وممتنع الثبوت لغيره كالمفارقات ، فإنّها لا يمكن حلولها في غيرها حلول الأعراض في

ص: 134

موضوعاتها ؛ لأنّها جواهر ، ولا حلول الصور في هيولاتها ؛ لأنّها مجرّدة عن المادّة ؛ أو واجب الثبوت لغيره كالأعراض والصفات.

المسألة الثانية والعشرون : في علّة الاحتياج إلى المؤثّر.

قال : ( وإذا لحظ الذهن الممكن موجودا طلب العلّة وإن لم يتصوّر غيره ، وقد يتصوّر وجوب الحادث فلا يطالبها (1) ، ثمّ الحدوث كيفيّة الوجود ، فليس علّة لما يتقدّم عليه بمراتب ).

أقول : اختلف الناس في علّة احتياج الممكن إلى المؤثّر.

فقال جمهور العقلاء : إنّها الإمكان لا غير.

وقال آخرون : إنّها الحدوث لا غير.

وقال آخرون : هما معا بكون الحدوث شطرا.

وقيل : الإمكان بشرط الحدوث (2).

والحقّ الأوّل كما اختاره المصنّف رحمه اللّه لوجهين :

الأوّل : أنّ العقل إذا لحظ الماهيّة الممكنة وأراد حمل الوجود أو العدم عليها ، افتقر في ذلك إلى العلّة وإن لم ينظر شيئا آخر سوى الإمكان والتساوي ؛ إذ حكم العقل بالتساوي الذاتي كاف في الحكم بامتناع الرجحان الذاتي ، فاحتاج إلى العلّة من حيث هو ممكن وإن لم يلحظ غيره ، ولو فرضنا حادثا وجب وجوده وإن كان فرضا محالا ؛ فإنّ العقل يحكم بعدم احتياجه إلى المؤثّر ، فعلم أنّ علّة الحاجة إنّما هي الإمكان لا غير ، وأنّ العلم بإمكان الشيء وحده يستلزم العلم بافتقاره إلى المؤثّر ، فيعلم أنّه العلّة ، وأنّ الحدوث ليس معتبرا في العلّيّة لا استقلالا ولا جزءا ولا شرطا.

ص: 135


1- في « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » : « فلا يطلبها ».
2- انظر : « مناهج اليقين » : 5 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 20 ؛ « شرح المواقف » 3 : 135 ؛ « الأسفار الأربعة » 1 : 206 ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الثانية والعشرون.

الثاني : أنّ الحدوث كيفيّة للوجود ؛ لكونه عبارة عن مسبوقيّة الوجود بالعدم ، فتأخّر عنه تأخّرا ذاتيّا ، والوجود متأخّر عن الإيجاد ، والإيجاد متأخّر عن الاحتياج ، والاحتياج متأخّر عن علّة الاحتياج ، فلو كان الحدوث علّة الحاجة لزم تقديم الشيء على نفسه وعلى ما يتقدّم عليه بمراتب ، وهو محال.

والمعارضة بأنّ الإمكان صفة للممكن بالقياس إلى الوجود ، فيكون متأخّرا عن الوجود ، فلا يكون علّة للافتقار المتقدّم عليه بمراتب مردودة : بأنّ الإمكان متأخّر عن الماهيّة نفسها وعن مفهوم الوجود أيضا ؛ لكونه كيفيّة للنسبة بينهما ، لكنّه ليس متأخّرا عن كون الماهيّة موجودة ، ولهذا توصف الماهيّة ووجودها بالإمكان قبل اتّصافها بالوجود ، وأمّا الحدوث فلا توصف به الماهيّة ولا وجودها إلاّ حال كونها موجودة ، ولا شكّ في تأخّره عن الإيجاد ؛ ولهذا صحّ أن يقال : أوجد فحدث ، وبذلك يتمّ المطلوب ، سواء قلنا بتأخّره عن الوجود أيضا ، أم لا.

قال : ( والحكم باحتياج الممكن ضروريّ ).

أقول : اختلف الناس هنا.

فقال قوم : إنّ هذا الحكم ضروريّ ، أعني أنّ احتياج الممكن لا يحتاج إلى برهان ؛ فإنّ كلّ من تصوّر تساوي طرفي الممكن جزم بالضرورة أنّ أحدهما لا يترجّح من حيث هو مساو - أعني من حيث ذاته - بل من حيث إنّ المرجّح ثابت.

وهذا الحكم قطعيّ لا يقع فيه شكّ.

وقال آخرون : إنّه استدلاليّ (1).

وهو خطأ. وسبب غلطهم أنّهم لم يتصوّروا الممكن على ما هو هو.

المسألة الثالثة والعشرون : في عدم كفاية الأولويّة الذاتيّة في وجود الممكن.

قال : ( ولا تتصوّر الأولويّة لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ).

ص: 136


1- انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 129.

أقول : المراد أنّه لا يجوز أن يكون أحد طرفي الممكن راجحا على الطرف الآخر رجحانا ناشئا من ذات الممكن غير منته إلى حدّ الوجوب ، حتّى يجوز أن يوجد الممكن بذلك الرجحان من غير حاجة إلى غيره ، فينسدّ باب إثبات الصانع ؛ إذ قد بيّنّا أنّ الممكن من حيث هو هو لا باعتبار وجود علّته أو عدمها ، فإنّ وجوده وعدمه متساويان بالنسبة إليه ، وإنّما يحصل الترجيح من الفاعل الخارجي ، فإذن لا يمكن أن تتصوّر أولويّة لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته.

فإن قلت : مقتضى ما ذكر عدم اقتضاء ذات الممكن الوجود أو العدم ، لم لا يجوز أن يكون مقتضيا لأولويّة الوجود على العدم كما أنّ ذات الوجود أولى؟ فعند عدم سبب العدم يوجد الممكن من جهة تلك الأولويّة الذاتيّة من غير حاجة إلى مؤثّر موجود ، فيلزم انسداد باب إثبات الصانع.

قلت أوّلا : إنّ ذات الممكن قبل الوجود ليست شيئا حتّى تكون مقتضية للأولويّة.

والمراد بالتساوي بالنسبة إليها عدم اقتضاء شيء من الوجود والعدم ، لا اقتضاؤهما على وجه التساوي ، فلا يتصوّر أولويّة مستندة إلى ذات الممكن.

وأمّا أولويّة ذات الوجود على العدم فهي اعتباريّة عقليّة لا واقعيّة حتّى تكون مقتضية لوقوعه ، مع أنّ الوجود حصول الماهيّة ، فإن كان حاصلا ومقتضيا للأولويّة ، لا يتصوّر وجود بعده ؛ لامتناع حصول الحاصل بحصول آخر بديهة ، وإلاّ لا يتصوّر اقتضاؤه الأولويّة ضرورة ، فالأولويّة الذاتيّة منتفية بالضرورة ، فينفتح باب إثبات الصانع.

وثانيا : إنّا لو فرضنا اقتضاء الذات أولويّة أحد الطرفين كالوجود من غير الانتهاء إلى الوجوب ، نقول مع ذلك الرجحان : هل يجوز وقوع الطرف المقابل المرجوح أم لا؟

فعلى الثاني لم يكن ما فرضناه ممكنا ممكنا ولا الأولويّة أولويّة ، بل وجوبا ، وهو خلف.

ص: 137

وعلى الأوّل يلزم كون المرجوح الذاتي راجحا ذاتيّا ؛ إذ لا يتصوّر الوقوع بدون الرجحان ، فمع فرض عدم الغير يكون ذاتيّا ، مع أنّ المفروض أنّ مقتضى الذات رجحان الطرف الراجح ، فيلزم اجتماع النقيضين ، وهو محال ضرورة.

وثالثا : إنّه لو تحقّقت أولويّة ذاتيّة لأحد الطرفين ، فإن لم يمكن وقوع الطرف الآخر ، كان ذلك الطرف ممتنعا ، فيكون الطرف الراجح واجبا لذاته ، وقد فرضناه ممكنا.

وإن أمكن فإمّا لا بسبب ، فيلزم ترجيح المرجوح بلا مرجّح ، وهو أشدّ استحالة من ترجيح أحد المتساويين أو ترجّحه بلا مرجّح ، أو يكون بسبب ، فإن لم يصر ذلك الطرف أولى به لم يكن السبب سببا ، وإن صار يلزم مرجوحيّة الطرف الأولى لذاته ، فيزول ما بالذات بما بالغير ، وهو ممتنع ، مع أنّ وجود السبب المغاير في ذلك المقام غير معقول.

مضافا إلى أنّ القول بالأولويّة (1) الذاتيّة يستلزم تقدّم الشيء على نفسه ، كما لا يخفى ، فلا وجه لاعتبار الأولويّة الذاتيّة.

المسألة الرابعة والعشرون : في أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

قال : ( ولا تكفي الخارجيّة ؛ لأنّ فرضها لا يحيل المقابل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب ).

أقول : أولويّة أحد الطرفين بالنظر إلى وجود العلّة أو عدمها هي الأولويّة الخارجيّة ؛ لكونها منسوبة إلى ما هو الخارج عن الذات ، فإن كانت العلّة مستجمعة لجميع الشرائط منتفيا عنها جميع الموانع ، كانت الأولويّة وجوبا ، وإلاّ كانت أولويّة يجوز معها وقوع الطرف الآخر.

وهذه الأولويّة الخارجيّة لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه ؛ لأنّ فرضها

ص: 138


1- في « ج » : « القول بتأثير الأولويّة ... ».

لا يحيل المقابل.

بيان ذلك : أنّا إذا فرضنا هذه الأولويّة متحقّقة ثابتة ، فإمّا أن يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولويّة أو لا يمكن ، والثاني يقتضي أن تكون الأولويّة وجوبا ، والأوّل يلزم المحال ، وهو كون العلّة الناقصة علّة تامّة ؛ لأنّ وقوع أحد الطرفين - مع فرض عدم تماميّة العلّة في التأثير - محال بالضرورة ، ومع فرض التماميّة يلزم المحال المذكور.

نعم ، الإيقاع للأولويّة الذاتيّة أو الخارجيّة من الفاعل المختار ممكن وواقع ، وهو غير أولويّة الوقوع على اللاوقوع كما لا يخفى على المتأمّل الذكيّ.

وقد يقال : المحال عبارة عن ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجّح ؛ لأنّا إذا فرضنا الأولويّة ثابتة ، يمكن معها وجود الطرف الراجح والمرجوح ، فتخصيص أحد الوصفين بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجّح ، وهو محال.

وفيه نظر ؛ لأنّ الأولويّة مرجّحة ، فقد ظهر أنّ الأولويّة لا تكفي في الترجيح ، بل لا بدّ من الوجوب ، وأنّ كلّ ممكن على الإطلاق لا يمكن وجوده إلاّ إذا وجب ، فلا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب ؛ لئلاّ يلزم المحال ، فثبتت القاعدة الكلّيّة العقليّة ، وهي أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

قال : ( وهو سابق ويلحقه وجوب آخر لا تخلو عنه قضيّة فعليّة ).

أقول : كلّ ممكن موجود أو معدوم فإنّه محفوف بوجوبين :

أحدهما : الوجوب السابق سبقا ذاتيّا ، الذي استدللنا على تحقّقه.

والثاني : الوجوب اللاحق ، وهو المتأخّر عن تحقّق القضيّة ؛ فإنّ الحكم بوجود المشي للإنسان يقتضي أن يكون واجبا ما دام المشي موجودا له ، وهذه الضرورة تسمّى ضرورة بشرط المحمول ، ولا تخلو عنها قضيّة فعليّة.

المسألة الخامسة والعشرون : في أنّ الإمكان لازم للممكن ، ولا يتحقّق انقلاب الماهيّة بالوجوب الغيري.

المسألة الخامسة والعشرون : في أنّ الإمكان لازم للممكن ، ولا يتحقّق

ص: 139

انقلاب الماهيّة بالوجوب الغيري.

قال : ( والإمكان لازم ، وإلاّ تجب الماهيّة أو تمتنع ).

أقول : الإمكان للممكن واجب ؛ لأنّه لو لا ذلك لأمكن زواله ، وحينئذ تبقى الماهيّة واجبة أو ممتنعة ، فيلزم انقلاب الماهيّة بالانقلاب الكلّي ، وقد بيّنّا امتناعه فيما سلف.

قال : ( ووجوب الفعليّات يقارنه جواز العدم ، وليس بلازم ).

أقول : يريد أن يبيّن أنّ الوجوب اللاحق - وهو الذي ذكر أنّه لا تخلو عنه قضيّة فعليّة ، ولهذا سمّاه بوجوب الفعليّات - يقارن جواز العدم ؛ وذلك لأنّ الوجوب لا يخرجه عن الإمكان الذاتي ، بل هو باق على طبيعة الإمكان الذاتي ؛ لأنّ وجوبه بشرط المحمول لا مطلقا ، فلهذا حكم بجواز مقارنة وجوب الوجود لجواز العدم ، وهذا الوجوب ليس بلازم ، بل ينفكّ عن الماهيّة عند فرض عدم العلّة.

قال : ( ونسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص ).

أقول : الوجوب هو تأكّد الوجود وقوّته ، والإمكان ضعف فيه ، فنسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص ؛ لأنّ الوجوب تمام الوجود ، والإمكان نقص له.

المسألة السادسة والعشرون : في الإمكان الاستعدادي.

قال : ( والاستعداد قابل للشدّة والضعف ويعدم ويوجد للمركّبات ، وهو غير الإمكان الذاتي ).

أقول : الإمكان إمّا أن يلحظ باعتبار الماهيّة نفسها ، وهو الإمكان الذاتي ، وإمّا أن يلحظ باعتبار قربها من الوجود وبعدها عنه ، وهو الإمكان الاستعدادي ، الذي هو عبارة عن التهيّؤ للكمال بتحقّق بعض الأسباب والشرائط وارتفاع بعض الموانع ، وهذا الإمكان قابل للشدّة والضعف والزيادة والنقصان ، فإنّ استعداد النطفة للإنسانيّة أضعف وأبعد من استعداد العلقة لها ، وكذا استعداد النطفة للكتابة أبعد وأضعف من استعداد الطفل لها ، فهذا هو الاستعداد لكلّ ماهيّة سبق عدمها وجودها.

ص: 140

وهذا الإمكان الاستعدادي يعدم بعد الوجود ويوجد بعد عدمه للمركّبات ؛ فإنّ الماء بعد تسخّنه يستعدّ لصيرورته هواء بعد أن لم يكن ، فقد تجدّد هذا الاستعداد ، ثمّ إذا برد زال ذلك الاستعداد.

والإمكان الذاتي - الذي بيّنّا أنّه لا يمكن زواله عن الممكن - مغاير لهذا الإمكان الذي يمكن زواله من هذه الجهة.

مضافا إلى أنّ الإمكان الذاتي قائم بماهيّة الممكن ، والإمكان الاستعدادي قائم بمحلّه ؛ فإنّ إمكان الكتابة قائم بمادّة الجنين إلا بالكتابة ، بخلاف الإمكان الذاتي ، وكلاهما متعلّق بالقابل ، والإمكان الوقوعي متعلّق بعدم ترتّب القبح على الإيجاد ، والإيقاع متعلّق بالفاعل كالإمكان العادي الذي يكون بسبب كون الوجود مسبّبا عن سبب أرضيّ أو سماويّ أو مركّب جليّ أو خفيّ.

المسألة السابعة والعشرون : في القدم والحدوث.

قال : ( والموجود إن أخذ غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم ، وإلاّ فحادث ).

أقول : هذه قسمة للموجود إلى القديم والحادث ؛ وذلك لأنّ الموجود إمّا أن يسبقه الغير ، أو لا يسبقه الغير ، فالأوّل هو الحادث ، والثاني هو القديم.

وقد يقال : إنّ القديم هو الذي لا يسبقه العدم ، والحادث هو الذي يسبقه العدم.

وهذا أولى.

وينبغي أن يقسّم كلّ منهما إلى الحقيقيّ والإضافيّ ، ويعرف الكلّ بالتأمّل.

المسألة الثامنة والعشرون : في أقسام السبق.

قال : ( والسبق ومقابلاه (1) إمّا بالعلّيّة أو بالطبع أو بالزمان أو بالرتبة الحسّيّة أو العقليّة أو بالشرف أو بالذات ، والحصر استقرائيّ ).

ص: 141


1- أي التأخّر والمعيّة.

أقول : لمّا ذكر أنّ القديم هو الذي لا يسبقه الغير أو العدم - على اختلاف التفسيرين - والحادث هو الذي سبقه الغير أو العدم ، وجب عليه أن يبيّن أقسام التقدّم والسبق ومقابليه ، أعني التأخّر والمعيّة.

وقد ذكر الحكماء (1) أنّ أقسام التقدّم خمسة :

[ القسم ] الأوّل : التقدّم بالعلّيّة ، وهو سبق العلّة التامّة المستجمعة لشرائط التأثير مع ارتفاع موانعه على معلولها ، كتقدّم حركة الإصبع على حركة الخاتم ؛ فإنّه لو لا حركة اليد لم تحصل حركة الخاتم ، فهذا الترتيب العقلي هو التقدّم بالعلّيّة.

[ القسم ] الثاني : التقدّم بالطبع ، وهو أن يكون المتقدّم له حظّ في التأثير في المتأخّر ، ولا يكون هو كمال المؤثّر ، وهو كتقدّم الواحد على الاثنين.

والفرق بينه وبين الأوّل أنّ المتقدّم هناك كان كافيا في وجود المتأخّر ، والمتقدّم هنا لا يكفي في وجوده.

[ القسم ] الثالث : التقدّم بالزمان ، وهو أن يكون المتقدّم موجودا في زمان متقدّم على زمان المتأخّر كالأب والابن.

[ القسم ] الرابع : التقدّم بالرتبة ، وهي إمّا حسّيّة كتقدّم الإمام على المأموم ، أو عقليّة كتقدّم الجنس على النوع إن جعل المبدأ الأعمّ ؛ فإنّك إذا جعلت الجوهر مبدأ كان الجسم مقدّما على الحيوان ، وإن جعلت الإنسان مبدأ فبالعكس ، كما أنّك إذا ابتدأت من المحراب كان الإمام مقدّما ، وإن ابتدأت من الباب انعكس الأمر.

[ القسم ] الخامس : التقدّم بالشرف بأن يكون للسابق زيادة كمال ليس للمسبوق ، كتقدّم العالم على المتعلّم.

وكذا أصناف التأخّر والمعيّة.

ثمّ المتكلّمون زادوا قسما آخر وسمّوه التقدّم الذاتي ، وتمثّلوا فيه بتقدّم الأمس

ص: 142


1- منهم السهروردي في « المشارع والمطارحات » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 302 - 303. والسبزوارى في « شرح المنظومة » 2 : 306 وما بعدها.

على اليوم ونحوه من تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض ؛ فإنّه ليس تقدّما بالعليّة ولا بالطبع ، لتساوي أجزاء الزمان في الحقيقة ، ولا بالزمان ، وإلاّ لاحتاج الزمان إلى زمان آخر وتسلسل. وظاهر أنّه ليس بالرتبة ولا بالشرف ، فهو خارج عن هذه الأقسام (1).

وعدّه الحكماء من أقسام السبق الزماني بناء على أنّه عبارة عن كون السابق قبل المسبوق قبليّة لا يجامع القبل معها البعد ، وهو عارض لأجزاء الزمان أوّلا وبالذات ولغيرها ثانيا وبالعرض.

وردّ : بأنّ هذا التعريف صادق على سبق العلّة المعدّة على معلولها ، فهو قسم على حدة ، ولهذا يحكم بتقدّم عدم الزمان على وجوده ، من غير أن يكون مع عدم الزمان زمان حتّى يلزم قدم الزمان المستلزم لقدم الحركة والمتحرّك ، كما ادّعى الحكماء (2).

وهذا الحصر استقرائيّ لا برهانيّ ، إذ لم يقم برهان على انحصار التقدّم في هذه الأنواع.

والقسمة إنّما تنحصر إذا تردّدت بين النفي والإثبات كأن يقال : إنّ المتقدّم إن احتاج إليه المتأخّر فإن كان كافيا في وجوده ، كان تقدّمه بالعلّيّة وإلاّ فبالطبع. وإن لم يحتج إليه ، فإن لم يمكن اجتماعهما في الوجود ، كان بالزمان. وإن أمكن فإن اعتبر بينهما ترتيب ، كان بالرتبة ، وإلاّ فبالشرف.

ولا يخفى ما فيه.

المسألة التاسعة والعشرون : في أحكام السبق.

قال : ( ومقوليّته بالتشكيك ، وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه ).

أقول : اختلف الحكماء هنا.

ص: 143


1- انظر : « مناهج اليقين » : 20 ؛ « كشف المراد » : 58 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 21.
2- « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » 1 : 496.

فقال قوم : إنّ التقدّم مقول على أنواعه الخمسة بالاشتراك اللفظي.

وهو خطأ ؛ فإنّ كلّ واحد من التقدّم بالعلّيّة والطبع - مثلا - قد شارك الآخر في معنى التقدّم.

وقال الآخرون : إنّه مقول بالاشتراك المعنوي على سبيل التشكيك ، وهو الذي اختاره المصنّف رحمه اللّه .

وهو الحقّ ؛ لأنّ الأصناف تشترك في معنى السبق والتقدّم (1) ، وهذا المعنى المشترك يطلق على تلك الأقسام لا على سبيل التساوي ، بل يطلق على سبيل التشكيك ؛ فإنّ السبق بالعلّيّة أولى من السبق بالطبع ؛ لأنّ الاحتياج إلى العلّة التامّة أقوى من الاحتياج إلى الناقصة ، وهكذا سائر الأقسام ؛ لتحقّق التفاوت في الصدق لبعضها بالإضافة إلى بعض آخر.

وكذا يكون صدق التأخّر الذي هو مضايف للتقدّم على سبيل التشكيك ، فيكون التأخّر - الذي هو مضايف للسبق الأولى - أولى بالإضافة إلى التأخّر الذي هو مضايف للسبق الآخر.

وهكذا الحال في الأشدّيّة والأقدميّة.

فالإضافة بين السبقين إذا كانت بنوع من الأنواع الثلاثة للتشكيك ، كانت تلك الإضافة تتحفّظ بين تأخّريهما اللّذين هما متضايفان لهما.

وقال الفاضل اللاهيجي : إنّ قوله : « بين المتضايفين » متعلّق بقوله : « وتتحفّظ » وقوله : « في أنواعه » متعلّق ب- « الإضافة » أي الإضافة الحاصلة في أنواع السبق ، بمعنى أنّ النسبة بين النوعين من أنواع السبق محفوظة بين النوعين من أنواع التأخّر اللّذين هما متضايفان لهما ، فالضمير راجع إلى السبق (2).

وهذا أولى بلا تشكيك ؛ حذرا من التفكيك الركيك اللازم على تقدير إرجاع

ص: 144


1- انظر : « المشارع والمطارحات » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 303 وما بعدها.
2- « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة السادسة والعشرون.

الضمير في « أنواعه » إلى « التشكيك » كما في شرح الفاضل القوشجي (1).

قال : ( وحيث وجد التفاوت امتنعت جنسيّته ).

أقول : لمّا بيّن أنّ التقدّم مقول على ما تحته من أصناف التقدّمات بالتشكيك ظهر أنّه ليس جنسا لما تحته ، وأنّ مقوليّته على ما تحته قول العارض على معروضه ، لا قول الجنس على أنواعه ؛ لامتناع وقوع التفاوت في أجزاء الماهيّة.

وفيه : أن التفاوت مانع عن الجنسيّة إذا كان بالذات لا بالعرض ، كما يقال :

الجوهر الكامل والناقص مثلا ، مع أنّه لا يتصوّر لأنواع التقدّم جنس ، لا مطلق التقدّم.

قال : ( والتقدّم دائما لعارض زماني أو مكاني أو غيرهما ).

أقول : إذا نظر إلى الماهيّة من حيث هي هي لم تكن مقدّمة على غيرها ولا متأخّرة ، وإنّما يعرض لها التقدّم والتأخّر باعتبار أمر خارج عنها ، وهو إمّا زمان كما في التقدّم الزماني ، أو مكان كما في التقدّم المكاني ، أو مغاير كما في تقدّم العلّة على معلولها باعتبار التأثير والتأثّر ، وكما في تقدّم العالم على المتعلّم باعتبار الشرف وغير ذلك من أصناف التقدّمات.

المسألة الثلاثون : في حكم القدم والحدوث الحقيقيّين.

قال : ( والقدم والحدوث الحقيقيّان لا يعتبر فيهما الزمان ، وإلاّ تسلسل ).

أقول : القدم والحدوث قد يكونان حقيقيّين ، وقد لا يكونان حقيقيّين ، بل يقالان على ما يقالان عليه على سبيل المجاز ، فالقدم والحدوث الحقيقيّان - وهما على ما فسّرناهما به من أنّ القديم هو الذي لا يسبقه الغير ، والمحدث هو المسبوق بالغير - لا يفتقران إلى الزمان ؛ لأنّ الزمان إن كان قديما أو حادثا بهذا المعنى وافتقر إلى زمان آخر تسلسل. وأمّا القدم والحدوث بالمجاز فإنّهما لا يتحقّقان

ص: 145


1- « شرح تجريد العقائد » : 45.

بدون الزمان ؛ لأنّ القديم يقال بالمجاز على ما يستطال زمان وجوده في جانب الماضي ، والمحدث على ما لا يستطال زمانه.

قال : ( والحدوث الذاتيّ متحقّق ).

أقول : الحدوث الذاتي عبارة عن مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الذاتي ، وتأخّر وجوده عن عدمه بالذات ، ولا شكّ أنّ ذات الممكن لا تقتضي الوجود ولا العدم ، فله بحسب الذات وعدم وجود علّته العدم المستند إلى عدم العلّة من جهة ملاحظة ذاته ؛ لكفاية عدم العلّة في العدم دون الوجود ؛ إذ لا بدّ في وجوده من وجود علّته ، فبعد وجود علّته يوجد ، فيكون وجوده مسبوقا بالعدم الذاتي وبوجود علّته المتقدّم بالذات ، وهو معنى الحدوث الذاتي ، فهو متحقّق قطعا.

قال : ( والقدم والحدوث اعتباريّان عقليّان ينقطعان بانقطاع الاعتبار ).

أقول : ذهب المحقّقون إلى أنّ القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحقّقة في الأعيان (1).

وذهب عبد اللّه بن سعيد من الأشعريّة - على ما حكي - إلى أنّهما وصفان زائدان على الوجود (2).

والحقّ خلاف ذلك ، وأنّهما اعتباران عقليّان يعتبرهما الذهن عند مقايسة سبق الغير إلى الوجود وعدمه ؛ لأنّهما لو كان ثبوتيّين لزم التسلسل ؛ لأنّ الموجود من كلّ واحد منهما إمّا أن يكون قديما أو حادثا ، فيكون للقدم قدم أو حدوث ، وكذا الحدوث ، ثمّ ننقل الكلام إلى قدم القدم وحدوث الحادث - مثلا - حتّى يتسلسل ، فلا يكون القدم والحدوث من الأمور المتحقّقة ، بل هما عقليّان يعتبرهما العقل

ص: 146


1- انظر : « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 221 ؛ « مناهج اليقين » : 21.
2- « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 221 ؛ « مناهج اليقين » : 21 ، وقد نسب العلاّمة فيهما القول بزيادة القدم فقط إلى عبد اللّه بن سعيد. والقول بزيادة المحدث إلى الكرامية ، وهكذا في « المحصّل » : 214. نعم، حكی القولين عنه في «كشف المراد»: 214.

وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي.

وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي.

وهذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أن يقال : إذا كان القدم والحدوث أمرين ثبوتيّين في العقل ، أمكن عروض القدم والحدوث لهما ، ويعود المحذور من التسلسل.

وتقرير الجواب : أنّهما اعتباران عقليّان ينقطعان بانقطاع الاعتبار ، فلا يلزم التسلسل.

قال : ( وتصدق المنفصلة الحقيقيّة منهما ).

أقول : الموجود إمّا قديم أو حادث ؛ لامتناع خلوّه عن القدم والحدوث ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون مسبوقا بغيره أو لا ، والأوّل حادث ، والثاني قديم ، ولا يجتمعان في شيء واحد ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين ، فإذن لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فتركيب المنفصلة الحقيقيّة يحصل منهما.

قال : ( ومن الوجوب الذاتي والغيري ).

أقول : الشيء الواحد إذا كان واجبا لذاته استحال أن يكون واجبا لغيره.

إذا عرفت هذا ، فنقول : المنفصلة الحقيقيّة - التي يمنع فيها الجمع والخلوّ - صادقة على الموجود إذا لوحظ مع الوجوب بالذات والوجوب بالغير أيضا ، بأن يقال : الموجود إمّا واجب لذاته أو واجب لغيره ؛ لامتناع صدقهما على شيء واحد وكذبهما عليه ؛ وذلك لأنّ الموجود إمّا مستغن عن الغير أو محتاج إليه ، لا واسطة بينهما ، والأوّل واجب بالذات ، والثاني واجب بالغير.

وإنّما امتنع الجمع بينهما ؛ لأنّه لو كان شيء واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم المحال ؛ لأنّ الواجب بغيره يرتفع بارتفاع غيره ، والواجب بالذات لا يرتفع بارتفاع غيره ، فلو كان شيء واحد واجبا بذاته وبغيره لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال.

وإنّما امتنع الخلوّ عنهما ؛ لأنّ الموجود إن كان واجبا ، صدق أحد الجزءين ، وإن كان ممكنا استحال وجوده إلاّ بعد وجود الفاعل ، فيصدق الجزء الآخر.

ص: 147

المسألة الحادية والثلاثون : في خواصّ الواجب ولوازمه التي يستلزم انتفاء كلّ منها الإمكان وعدم الوجوب الذاتي.

قال : ( ويستحيل صدق الذاتي على المركّب ).

أقول : هذه خاصّيّة للواجب الذاتي ، وهي أنّه يستحيل أن يكون مركّبا ، فلا يجوز صدق الواجب الذاتي على المركّب ؛ لأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى أجزائه على ما يأتي ، وكلّ مفتقر ممكن ، فالواجب لذاته ممكن لذاته. هذا خلف.

قال بعض المتأخّرين : هذه المسألة تتوقّف على الوحدانيّة ؛ فإنّه لو قال قائل :

يجوز أن يكون كلّ واحد من أجزاء المركّب واجبا لذاته ويكون المجموع مستغنيا عن الغير ، أجبنا بأنّ الواجب لذاته يستحيل أن يكون متعدّدا (1).

والحقّ أنّه لا افتقار في هذه المسألة إلى الوحدانيّة ؛ لأنّ هذا المركّب يستحيل أن يكون واجبا لذاته ؛ لافتقاره إلى أجزائه الواجبة ، وكلّ مفتقر ممكن ، فيكون المركّب ممكنا ، فلا يكون واجبا ، وهذا لا يتوقّف على الوحدانيّة.

وقد يقال : إنّ الممكن ما يحتاج في وجوده الخارجي إلى غيره ، فلو فرض تركّب الواجب من أجزاء عقليّة ، لم يلزم احتياجه إلاّ في التحقّق الذهني إلى جزئه الذهني ، وهو لا يستلزم إمكانه.

وأيضا يجوز أن يكون له جنس منحصر في نوعه بحسب الخارج وإن كان له أنواع كثيرة بحسب العقل ، أو يكون مركّبا من أمرين متساويين (2).

وفيه نظر ؛ لأنّ تعدّد الجزء إمّا واجب بالذات أو ممكن بالذات أو ممتنع بالذات.

لا سبيل إلى الأوّل (3) ، وإلاّ يلزم عدم الجزء رأسا وانتفاء الكلّ وعدم كون الواجب

ص: 148


1- نسبه في « شرحي الإشارات » 1 : 209 إلى الفخر الرازي ، ولكن اللاهيجي نقله عن الفارابي كما في « شوارق الإلهام » المسألة السابعة والعشرون من الفصل الأوّل.
2- القائل هو الفاضل القوشجي. انظر : « شرح تجريد العقائد » :2. 48.
3- أي عند ما يكون تعدّد الجزء واجبا بالذات.

بالذات واجبا بالذات ؛ لأنّ كلّ جزء لا بدّ أن يكون بلا تعدّد ، فإذا كان التعدّد لازما لذات الواجب حيث لم يكن في مقام الذات إلاّ الذات ، يلزم من انتفائه انتفاء الملزوم ، وهو أصل الجزء ، فيلزم انتفاء الكلّ وعدمه ، فيلزم عدم كون الواجب واجبا.

وكذا لا سبيل إلى الثاني (1) ؛ لاستلزام إمكان الجزء إمكان الكلّ ، وعدم كون الواجب بالذات واجبا بالذات ، كما لا يخفى ، فتعيّن الثالث ، وهو كون التعدّد ممتنعا ، وهو المطلوب ؛ فإنّ المراد أنّ الواجب بالذات يستحيل أن يكون مركّبا من الأجزاء العقليّة والخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة - أعني المادّة والصورة - والخارجيّة العنصريّة من الرئيسيّة ، كالرأس والعنق والكبد ، وغيرها ، كاليد والرّجل ونحوهما ممّا لا ينتفي الكلّ بانتفائه.

وهذا مستفاد ممّا ذكرنا ، وهو خاصّة أولى ، مضافا إلى أنّ التركّب الحقيقي موجب للافتقار المنافي لوجوب الوجود بالبديهة ولو كان من الأجزاء العقليّة ، والاعتباري غير قادح ، كفرض شريك البارئ.

قال : ( ولا يكون الذاتي جزءا من غيره ).

أقول : هذه خاصّيّة ثانية للواجب ظاهرة ، وهي أنّ الواجب لذاته لا يتركّب عنه غيره ، وهو ظاهر ؛ لأنّ التركّب إمّا أن يكون حسّيّا ،

وهو إنّما يكون بانفعال كالمزاج ، أو يكون عقليّا بحيث يحصل من المركّب حقيقة واحدة ، كتركيب الشخص من المادّة والصورة ، وتركيب الماهيّة من الأجناس والفصول.

والكلّ ظاهر الاستحالة ؛ لاستلزام الأوّل التغيّر المستلزم للحدوث والإمكان ، والثاني الافتقار المنافي لوجوب الوجود ، كالأوّل.

قال : ( ولا يزيد وجوده عليه ، وإلاّ لكان ممكنا ).

أقول : هذه خاصّيّة ثالثة ، وهي أنّ وجود واجب الوجود لذاته نفس حقيقته.

ص: 149


1- أي عند ما يكون تعدّد الجزء ممكنا بالذات.

وتقريره أن نقول : لو كان وجود واجب الوجود لذاته زائدا على حقيقته لكان صفة لها مفتقرة إليها ، فيكون ممكنا ، فيفتقر إلى علّة ، فتلك العلّة إمّا أن تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته. والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ تلك الحقيقة إمّا أن تؤثّر فيه وهي موجودة ، أو تؤثّر فيه وهي معدومة.

فإن أثّرت فيه وهي موجودة ، فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال. وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ، ويلزم التسلسل ، مع لزوم وجود الماهيّة مرّتين ، والجميع باطل.

وإن أثّرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثّرا في الوجود ، وهو باطل بالضرورة.

وأمّا الثاني ؛ فيلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى غيره ، فيكون ممكنا ، وهو محال. وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب.

بيان ذلك : أنّ معنى واجب الوجود ثابت الكون على الوجه الكامل ، بمعنى أنّ الموصوف بالوجود في أيّ مرتبة لوحظ كان الكون ثابتا له ، فلا يمكن أن يكون معلولا لغيره ، وإلاّ لزم عدم ثبوت الكون له في مرتبة علّته ، ومن لوازم الكمال ضروريّة ذلك الكون وامتناع العدم.

ومعنى موجوديّة الأشياء محموليّة الموجود عليها باعتبار اتّصافها بمبدإ اشتقاقه ، وهو الوجود.

واتّصاف الشيء به إن كان بذاته لا بغيره ، بمعنى أنّ العقل إذا لاحظ ذاته يحكم - بمقتضى الدليل والبرهان - أنّ ذلك الشيء في الخارج متّصف بالكون بذاته لا من غيره ، فهو الواجب الوجود لذاته.

وإن كان اتّصاف الشيء بالوجود بالغير - لتساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى ذاته وعدم إمكان حصول أحدهما بلا سبب أو من ترجيح ذلك الشيء له ؛ لامتناع الترجّح

ص: 150

بلا مرجّح والترجيح بلا مرجّح - فإن كان له وجود يكون بسبب غيره ، فما لم يعتبره العقل مع ذلك الشيء لم يحكم بوجوده ، وهو ممكن الوجود.

والحاصل : أنّ حكم العقل بموجوديّة شيء وانتزاع الوجود منه محتاج إلى المنشأ.

وذلك المنشأ إن كان ذات ذلك الشيء يسمّى واجب الوجود. وإن كان غيره يسمّى ممكن الوجود. فلا بدّ في حكم العقل بوجود الممكن من ملاحظة العلّة المعيّنة كما في البرهان اللمّيّ ، أو غير المعيّنة كما في الإنّيّ. فمعنى كون الوجود في الواجب عين ذاته أنّ ذاته منشأ لانتزاع الوجود لا أمر زائد عليها ، وأنّها عينه وعين سائر الصفات الحقيقيّة لا نائبها ، بمعنى أنّه يصدر منها بنفسها ما يصدر من الموصوف بالصفات بواسطتها ؛ لأنّه معطيها كمالا ، ومعطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا له.

ومعنى عينيّتها أنّه يصدر عن ذاته ما يصدر عن صفات الممكن ، فكما أنّ علم الممكن منشأ لانكشاف الأشياء ، فكذا ذاته منشأ له ، وهكذا سائر الصفات.

ومعنى زيادة الوجود في الممكن أنّ ذاته ليس منشأ لانتزاعه ، بل هو أمر زائد عليه ، فالوجود العامّ - الذي هو مفهوم ذهني - زائد في جميع الأشياء حتّى الواجب ، ولكن قد يطلق الوجود على ما هو منشأ لانتزاعه ، وهو بهذا المعنى في الواجب عين ذاته ؛ لاستغنائه في انتزاع الوجود عمّا هو خارج عن ذاته ؛ مضافا إلى أنّ وجود الواجب لو كان غير حقيقته ، لكان جزءا منها أو خارجا عنها ، والأوّل يستلزم التركّب المنافي لوجوب الوجود ، والثاني يستلزم الاحتياج إلى المؤثّر المنافي له ؛ لامتناع تأثير المعدوم وتحصيل الحاصل ، فحقيقة الواجب هو الوجود المجهول بالكنه ، المعقول بالوجه من الآثار.

ومن هنا يظهر امتناع القوّة في الواجب ؛ لكونها عبارة عن العدم في الشيء القابل للوجود ، وقد بيّنّا أنّ الواجب عين الوجود ، وهو مناف للعدم.

ويظهر أيضا أنّه ليس محلاّ للحوادث ؛ لكونها مسبوقة بالعدم ، بل هو كامل من

ص: 151

جميع الجهات ؛ إذ النقص مستلزم للعدم.

قال : ( والوجود المعلوم هو المقول بالتشكيك ، أمّا الخاصّ به فلا ).

أقول : هذا جواب عن الاستدلال على زيادة الوجود في حقّ واجب الوجود.

وتقرير الدليل أن نقول : ماهيّة اللّه تعالى غير معلومة للبشر على ما يأتي ، والوجود معلوم ، فينتج من الشكل الثاني أنّ الماهيّة غير الوجود.

وتقرير الجواب عنه أن نقول : إنّا قد بيّنّا أنّ الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته ، والمقول على الأشياء بالتشكيك يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءا منها ، بل يكون دائما خارجا عنها لازما لها ، كالبياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج ، لا على السواء ، فهو ليس بماهيّة ولا جزء ماهيّة لهما بل هو لازم من خارج ؛ وذلك لأنّ بين طرفي التضادّ الواقع في الألوان أنواعا من الألوان لا نهاية لها بالقوّة ولا أسامي لها بالتفصيل يقع على كلّ جملة منها اسم واحد بمعنى واحد كالبياض أو الحمرة أو السواد بالتشكيك ، ويكون ذلك المعنى لازما لتلك الجملة غير مقوّم ، فكذلك الوجود في وقوعه على وجود الواجب وعلى وجود الممكنات المختلفة بالهويّات التي لا أسماء لها بالتفصيل ، فإنّه يقع عليها وقوع لازم خارجيّ غير مقوّم ، فالوجود يقع على ما تحته بمعنى واحد ، ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجود الممكنات في الحقيقة ؛ لأنّ مختلفات الحقيقة قد تشترك في لازم واحد ، كالشمس والنار والحركة في الحرارة ، فالحقيقة التي لا تدركها العقول هي الوجود الخاصّ المخالف لسائر الوجودات بالهويّة ، الذي هو المبدأ الأوّل ، والوجود المعقول هو الوجود العامّ اللازم لذلك الوجود ولسائر الوجودات ، وهو أوّليّ التصوّر. وإدراك اللازم لا يقتضي إدراك الملزوم بالحقيقة ، وإلاّ لوجب من إدراك الوجود إدراك جميع الوجودات الخاصّة. وكون حقيقته تعالى غير مدركة وكون الوجود مدركا يقتضي المغايرة بين حقيقته تعالى والوجود المطلق لا الوجود الخاصّ به تعالى.

ص: 152

وهذا التحقيق - على ما حكي (1) ممّا نبّه عليه بهمنيار في التحصيل (2) ، وقرّره المصنّف في شرح الإشارات (3).

قال : ( وليس طبيعة نوعيّة على ما سلف ، فجاز اختلاف جزئيّاته في العروض وعدمه ).

أقول : هذا جواب عن استدلال ثان استدلّ به الذاهبون إلى أنّ وجوده تعالى زائد على حقيقته.

وتقرير الدليل : أنّ الوجود طبيعة واحدة نوعيّة ؛ لما بيّنّا من اشتراكه ، والطبائع النوعيّة تتّفق في لوازمها.

وقد بنى الحكماء على هذه القاعدة مطالب كثيرة ، كامتناع الخلاء ووجود الهيولى للأفلاك وغير ذلك من مباحثهم.

فنقول : طبيعة الوجود إن اقتضت العروض وجب أن يكون وجود واجب الوجود عارضا لماهيّة مغايرة له ، وكون ذاته محلّ العرض. وإن اقتضت عدمه ، كانت وجودات الممكنات غير عارضة لماهيّاتها ، فإمّا أن لا تكون موجودة ، أو يكون وجودها نفس حقائقها ، والقسمان باطلان ، فإن لم يقتض واحدا منهما ، لم يتّصف بأحدهما إلاّ بأمر خارج عن طبيعة الوجود ، فيكون تجرّد واجب الوجود محتاجا إلى المؤثّر. هذا خلف.

وتقرير الجواب : أنّ الوجود ليس طبيعة نوعيّة على ما حقّقناه ، بل هو مقول بالتشكيك لا يتساوى اقتضاؤه ؛ فإنّ النور يقتضي بعض جزئيّاته - كنور الشمس - إبصار الأعشى ، بخلاف سائر الأنوار ، والحرارة كذلك فإنّ الحرارة الغريزية تقتضي استعداد الحياة ، بخلاف سائر الحرارات ، فكذلك الوجود.

ص: 153


1- الحاكي هو العلاّمة الحلّي قدس سره في « كشف المراد » : 63.
2- « التحصيل » : 281 وما بعدها.
3- انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 31 وما بعدها.

قال : ( وتأثير الماهيّة - من حيث هي - في الوجود غير معقول ).

أقول : لمّا أبطل استدلالاتهم شرع في إبطال الاعتراض الوارد على دليله ، وقد ذكر هنا أمرين :

أحدهما : أنّهم قالوا : لا نسلّم انحصار أحوال الماهيّة حالة التأثير في الوجود والعدم ، بل جاز أن تكون الماهيّة من حيث هي مؤثّرة في الوجود ، فلا يلزم التسلسل ولا تأثير المعدوم في الوجود.

والجواب : أنّ الماهيّة من حيث هي هي يجوز أن تقتضي صفات لها على سبيل العلّيّة والمعلوليّة إلاّ الوجود ؛ فإنّه يمتنع أنّ تؤثّر فيه من حيث هي هي ؛ لأنّ الوجود لا يكون معلولا لغير الموجود بالضرورة ، فتلزم المحاذير المذكورة ، والضرورة فرّقت بين الوجود وسائر الصفات.

قال : ( والنقض بالقابل ظاهر البطلان ).

أقول : هذا جواب عن السؤال الثاني.

وتقريره : أنّ ما ذكر في إثبات عينيّة وجود الواجب منقوض بقابل الوجود وهو الممكن ؛ فإنّ الممكن المعدوم لو لم يقبل الوجود إلاّ بشرط الوجود ، لزم تقدّم الشيء على نفسه أو تعدّد الوجودات للماهيّة الواحدة ، والكلّ محال ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يعقل مثله في العلّة الفاعليّة؟

والجواب : أنّ معطي الوجود ومفيده لا بدّ أن يكون موجودا ببديهة العقل ؛ إذ لا يعقل تأثير الماهيّة بدون وجودها لا في وجود نفسها ولا في وجود غيرها ، بخلاف قابل الوجود ؛ فإنّه مستفيد له ، وإنّما يتجرّد عن الوجود في العقل لا بمعنى أنّه يكون في العقل منفكّا عن الوجود ؛ لأنّ الحصول في العقل نوع من الوجود ، بل بمعنى أنّ العقل يلاحظه منفردا عن الوجود والعدم ؛ حذرا عن حصول الحاصل واجتماع المتنافيين.

والحاصل : أنّ الماهيّة إنّما تكون قابلة للوجود عند وجودها في العقل فقط ،

ص: 154

بمعنى أنّ الوجود العلمي كاف في قبول الوجود العيني ، ولا يمكن أن تكون فاعلة لصفة خارجيّة عند وجودها في العقل فقط.

قال : ( والوجود من المحمولات العقليّة ؛ لامتناع استغنائه عن المحلّ وحصوله فيه ).

أقول : المراد أنّ الوجود ليس من الأمور العينيّة ، بل هو من المحمولات العقليّة الصرف.

وتقريره : أنّه لو كان ثابتا في الأعيان ، لم يخل إمّا أن يكون نفس الماهيّات الصادق عليها ، أو مغايرا لها ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل : فلما تقدّم من أنّه زائد على الماهيّة ومشترك بين المختلفات ، فلا يكون نفسها.

وأمّا الثاني : فإمّا أن يكون جوهرا أو عرضا ، والأوّل باطل ، وإلاّ لم يكن صفة لغيره. والثاني باطل ؛ لأنّ كلّ عرض فهو حاصل في المحلّ ، وحصوله في المحلّ نوع من الوجود ، فيكون للوجود وجود ، هذا خلف. ويلزم تأخّره عن محلّه وتقدّمه عليه ، هذا خلف ، فبسبب امتناع استغنائه عن المحلّ يحكم أنّه من المحمولات ، وبسبب امتناع حصوله فيه حصولا خارجيّا - في أنّ الوجود والعدم من المعقولات الثانية لئلاّ يلزم كون الماهيّة موجودة قبل قيام الوجود بها - يحكم بأنّه من المحمولات العقليّة.

وفيه نظر ؛ لكفاية كون الوجود موجودا بنفسه - كما مرّ - في عروضه للماهيّة ؛ ولهذا يحكم كلّ عاقل بأنّ الماهيّة ذات وجود خارجي.

قال : ( وهو من المعقولات الثانية ).

أقول : المراد أنّ الوجود كالشيئيّة في أنّها من المعقولات الثانية ؛ إذ ليس الوجود ماهيّة خارجيّة على ما بيّنّاه ، بل هو أمر عقليّ يعرض للماهيّات ، وهو من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات الأولى ، وليس في الموجودات شيء هو

ص: 155

وجود ، بل الموجود إمّا إنسان أو حجر أو غيرهما ، فتأمّل (1).

قال : ( وكذلك العدم ).

أقول : يعني أنّ العدم أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ لما قلنا في الوجود ؛ إذ ليس في الأعيان ماهيّة هي عدم مطلق ، فهو دائما عارض لغيره.

قال : ( وجهاتهما ).

أقول : يعني به أنّ جهات الوجود والعدم - من الوجوب والإمكان والامتناع الذاتيّة والمشروطة - من المعقولات الثانية أيضا ؛ لما تقدّم من أنّها أمور اعتباريّة لا تحقّق لها في الخارج ، وقد سبق البحث فيه.

قال : ( والماهيّة ).

أقول : المراد أنّ الماهيّة أيضا من المعقولات الثانية ؛ فإنّ الماهيّة تصدق على الحقيقة باعتبار ذاتها لا من حيث إنّها موجودة أو معقولة وإن كان ما تصدق عليه الماهيّة من المعقولات الأولى ، وليس البحث فيه ، بل في الماهيّة ، أعني العارض ، فإنّ كون الإنسان ماهيّة أمر زائد على حقيقة الإنسانيّة.

قال : ( والكلّيّة والجزئيّة ).

أقول : المراد أنّ الكلّيّة والجزئيّة أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ فإنّ الماهيّة من حيث هي هي وإن كانت لا تخلو عنهما إلاّ أنّها مغايرة لهما ،

ص: 156


1- إشارة إلى أنّ المعقولات الثانية إمّا عبارة عمّا لا يفهم من اللفظ إلاّ تابعا لمفهوم آخر كالمفهوم بالنسبة إلى المنطوق. أو عبارة عمّا لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر ، كما هو مصطلح المتكلّمين. أو عبارة عمّا ليس له ما بإزاء وإن كان له منشأ انتزاع ، كما هي طريقة الحكماء. ولا ريب أنّه لا يصدق على الوجود كونه من المعقولات الثانية على التفسيرين الأوّلين ، وكذا على التفسير الثالث بناء على أصالة الوجود خاصّة أو مع الماهيّة ، فينحصر الأمر في القول بأصالة الماهيّة خاصّة أو مصاديقها ، وهو خلاف التحقيق. ( منه رحمه اللّه ).

وهما تصدقان عليها صدق العارض على معروضه ؛ فإنّ الإنسانيّة لو كانت لذاتها كلّيّة لم تصدق جزئيّة ، وبالعكس ، فالإنسانيّة ليست من حيث هي هي كلّيّة ولا جزئيّة ، بل إنّما تصدق عليها الكلّيّة عند اعتبار صدق الحقيقة على أفراد متوهّمة أو متحقّقة. والجزئيّة إنّما تصدق عليها عند اعتبار أمور أخر لتلك الحقيقة ببعض الأفراد ، فهما من المعقولات الثانية.

قال : ( والذاتيّة والعرضيّة ).

أقول : المراد أنّ الذاتيّة والعرضيّة أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ، فإنّه ليس في الأعيان ذاتيّة ولا عرضيّة وليس لهما تأصّل في الوجود ، وقد يكون الذاتيّ لشيء عرضيّا لغيره ، وهما اعتباران عقليّان عارضان لماهيّات متحقّقة في أنفسها ، فهما من المعقولات الثانية.

قال : ( والجنسيّة والفصليّة والنوعيّة ).

أقول : المراد أنّ هذه أيضا أمور اعتباريّة عقليّة صرفة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ فإنّ كون الإنسان نوعا أمر مغاير للحقيقة الإنسانيّة ، عارض لها ، وإلاّ لامتنع صدق الإنسانيّة على زيد ، وكذلك الجنسيّة للحيوان - مثلا - أمر عارض له ، مغاير لحقيقته ، وكذا الفصليّة للناطق ، وهذا كلّه ظاهر.

المسألة الثانية والثلاثون : في تصوّر العدم.

قال : ( وللعقل أن يعتبر النقيضين ، ويحكم بينهما بالتناقض ، ولا استحالة فيه ).

أقول : العقل يحكم بالمناقضة بين السلب والإيجاب ، فلا بدّ وأن يعتبر هما معا ؛ لأنّ التناقض من قبيل النسب والإضافات لا يمكن تصوّره إلاّ بعد تصوّر معروضه ، فيكون متصوّرا للسلب والإيجاب معا.

ولا استحالة في اجتماعهما في الذهن دفعة ؛ لأنّ التناقض ليس بالقياس إلى الذهن ، بل بالقياس إلى ما في نفس الأمر ، فيتصوّر صورة ما [ ويحكم عليها بأنّه

ص: 157

ليس لها في الخارج ما يطابقها ، ثمّ يتصوّر صورة أخرى ] (1) ويحكم عليها بأنّ لها في الخارج ما يطابقها ، ثمّ يحكم على إحداهما بمقابلة الأخرى لا من حيث إنّهما حاضرتان في العقل ، بل من حيث إنّ إحداهما استندت إلى الخارج دون الأخرى.

وقد يتصوّر الذهن صورة ما ويتصوّر سلبها ؛ لأنّها مميّزة على ما تقدّم ، ويحكم على الصورتين بالتناقض لا باعتبار حضورهما في الذهن ، بل بالاعتبار الذي ذكرناه.

قال : ( وأن يتصوّر عدم جميع الأشياء حتّى عدم نفسه وعدم العدم بأن يتمثّل في الذهن ويرفعه وهو ثابت باعتبار (2) ، قسيم باعتبار ، ويصحّ الحكم عليه من حيث هو ثابت ولا تناقض ).

أقول : الذهن يمكنه أن يتصوّر جميع المعقولات وجوديّة كانت أو عدميّة ، ويمكنه أن يلحظ عدم جميع الأشياء ؛ لأنّه يتصوّر العدم المطلق ، ويمكنه أن يقيسه إلى جميع الماهيّات ، فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه ، فيتصوّر الذهن عدم نفسه ، وكذلك يمكنه أن يلحظ نفس العدم ، بمعنى أنّ الذهن يمثّل للعدم صورة ما معقولة متميّزة عن صورة الوجود ويتصوّر رفعها ويكون ثابتا باعتبار تصوّره ؛ لأنّ رفع الثبوت - الشامل للثبوت الخارجي والذهني - تصوّر لما ليس بثابت ولا متصوّر أصلا ، وهو ثابت باعتبار تصوّره ، وقسيم لمطلق الثابت باعتبار أنّه سلبه ، ولا استبعاد في ذلك ؛ فإنّا نقول : الموجود إمّا ثابت في الذهن أو غير ثابت في الذهن ، فبالاعتبار الأخير قسيم للوجود ، ومن حيث إنّه له مفهوم قسم من الثابت.

والحكم على رفع الثبوت المطلق من حيث إنّه متصوّر لا من حيث إنّه ليس بثابت ، ولا يكون متناقضا ؛ لاختلاف الموضوعين ؛ فإنّ موضوع قولنا : « المعدوم المطلق يمتنع الحكم عليه » هو مفهوم « المعدوم المطلق » المتصوّر باعتبار أنّه ثابت

ص: 158


1- الزيادة أضفناها من « كشف المراد » : 67 لتستقيم العبارة ويتّضح المعنى.
2- أي : باعتبار فرض العقل وتصوّره. ( منه رحمه اللّه ).

في الذهن ، وما له امتناع الحكم هو مصداق ذلك المفهوم ، فترتفع الشبهة المشهورة باشتمال ما ذكر على التناقض حيث حكم على المعدوم المطلق بامتناع الحكم المطلق ، فاتّصف بالامتناع والصحّة.

وفي بعض النسخ « ولا يصحّ الحكم عليه من حيث هو ليس بثابت ، وإلاّ تناقض » يعني أنّ المعدوم متّصف بامتناع الحكم عليه وليس ذلك من حيث إنّه ليس بثابت ، بل من حيث هو ثابت ، وإلاّ لزم التناقض ؛ لاتّحاد الجهة ، فمؤدّى العبارتين واحد.

قال : ( ولهذا يقسّم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ، ويحكم بينهما بالتمايز ، وهو لا يستدعي الهويّة لكلّ من المتمايزين ، ولو فرض له هويّة ، لكان حكمها حكم الثابت ).

أقول : هذا استدلال على أنّ للذهن أن يتصوّر عدم جميع الأشياء.

وبيانه : أنّا نقسّم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ، ونحكم بامتياز أحدهما عن الآخر ومقابلته له ، والحكم على الشيء يستدعي تصوّره وثبوته في الذهن ، فيجب أن يكون ما ليس بثابت في الذهن ثابتا فيه ، فقد تصوّر الذهن سلب ما وجد فيه ، ولا محذور فيه ؛ فإنّ ما ليس بثابت في الذهن ثابت فيه من حيث إنّه متصوّر ، وغير ثابت فيه من حيث إنّه سلب لما في الذهن.

لايقال : امتياز أحد الشيئين عن الآخر يستدعي أن يكون لكلّ من المتمايزين هويّة مغايرة لهويّة الآخر حتّى يحكم بينهما بالامتياز ، فلو كان العدم ممتازا عن الوجود ، لكان له هويّة متميّزة عنه ، لكن ذلك محال ، لأنّ العقل يمكنه رفع كلّ هويّة فيكون رفع هويّة قسيما للعدم وقسما منه ، وهذا محال.

لأنّا نقول : لا نسلّم وجوب الهويّة لكلّ من المتمايزين ، وإنّا نحكم بامتياز الهويّة عن اللاّهويّة ، وليس للاّهويّة هويّة.

سلّمنا ثبوت الهويّة لكلّ [ من المتمايزين ] (1) ، لكن هويّة العدم داخلة باعتبار

ص: 159


1- في النسخ الخطّيّة : « متمايزين ». والظاهر ما أثبتناه.

الهويّة في قسم الهويّة ، وباعتبار فرض أنّها اللاّهويّة تكون مقابلة للهويّة وقسيما لها ، ولا امتناع في كون الشيء قسما من الشيء وقسيما له باعتبارين ، على ما تقدّم تحقيقه في باب الثبوت.

قال : ( وإذا حكم الذهن على الأمور الخارجيّة بمثلها ، وجب التطابق في صحيحه ، وإلاّ فلا ، ويكون صحيحه باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر ؛ لإمكان تصوّر الكواذب ).

أقول : الأحكام الذهنيّة قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج ، وقد تؤخذ لا بهذا الاعتبار ، فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجيّة بأشياء خارجيّة مثلها ، كقولنا :

« الإنسان حيوان في الخارج » وجب أن يكون مطابقا لما في الخارج حتّى يكون حكم الذهن صحيحا ، وألاّ يحكم بالموجودات الخارجيّة على مثلها كأن حكم على الأمور العقليّة بالأمور العقليّة ، فلا يجب في صحّة الحكم مطابقته للخارج لعدم اعتباره ، كما في النسبة السلبيّة ، فإنّها لا تتوقّف على وجود الطرفين ، بل لو تطابق فيها النسبة الحكميّة والخارجيّة كان الحكم صحيحا ، وإلاّ لكان باطلا. فإن حكم على أشياء خارجيّة بأمور معقولة ، كقولنا : « الإنسان ممكن » ، أو حكم على الأمور الذهنيّة بأحكام ذهنيّة ، كقولنا : « الإمكان مقابل للامتناع » لم تجب مطابقته لما في الخارج ؛ إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع متقابلان ولا في الخارج إنسان ممكن.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج ؛ لما تقدّم من أنّ الحكم ليس مأخوذا بالقياس إلى الخارج ، ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن ؛ لأنّ الذهن قد يتصوّر الكواذب ؛ فإنّا قد نتصوّر كون الإنسان واجبا مع أنّه ممكن ، فلو كان صدق الحكم باعتبار مطابقته لما في الذهن ، لكان الحكم بوجوب الإنسان صادقا ، لأنّ له صورة مطابقة لهذا الحكم ، بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر.

قال العلاّمة رحمه اللّه : « وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه رحمه اللّه جرت هذه النكتة

ص: 160

وسألته عن معنى قولهم : إنّ الصادق في الأحكام الذهنيّة هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر ، والمعقول من نفس الأمر إمّا الثبوت الذهني أو الخارجي ، وقد منع كلّ منهما هاهنا.

فقال رحمه اللّه : المراد بنفس الأمر هو العقل الفعّال ، فكلّ صورة أو حكم ثابت في الذهن مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعّال ، فهو صادق ، وإلاّ فهو كاذب.

فأوردت عليه أنّ الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعّال ؛ لأنّهم قالوا بالفرق بين السهو والنسيان ، فإنّ السهو هو زوال الصورة المعقولة عن الجوهر العاقل وارتسامها في الحافظ لها ، والنسيان هو زوالها عنهما معا ، وهذا يتأتّى في الصورة المحسوسة ، أمّا المعقولة فإنّ سبب النسيان هو زوال الاستعداد بزوال المفيد للعلم في باب التصوّرات والتصديقات ، وهاتان الحالتان قد تعرضان في الأحكام الكاذبة. فلم يأت فيه بمقنع.

وهذا البحث ليس من هذا المقام وإنّما انجرّ إليه الكلام ، وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب » (1).

أقول : الأولى أن يقال : إنّ « الأمر » عبارة عن المحكوم عليه ، فمعنى قولنا : « ذلك في نفس الأمر كذا » أنّه باعتبار نفسه وذاته مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر كذا ، أو عبارة عن علّته بناء على أنّ كلّ معلول له وجود إجماليّ في مقام اعتبار علّته ، فالمراد أنّ كلّ حكم طابقت فيه النسبة الحكميّة النسبة الخارجيّة كان صحيحا ، وغيره باطل.

المسألة الثالثة والثلاثون : في كيفيّة حمل الوجود والعدم على الماهيّات.

قال : ( ثمّ الوجود والعدم قد يحملان وقد تربط بهما المحمولات ).

أقول : الوجود والعدم - كما مرّ - على قسمين : وجود أصليّ ووجود رابطيّ ،

ص: 161


1- « كشف المراد » : 70 ، وصحّحنا النقل على المصدر.

فإنّهما قد يحملان على الماهيّات ، كما تقول : « الإنسان موجود » و « الإنسان معدوم » وقد يجعلان رابطة ، كقولنا : « الإنسان يوجد كاتبا » و « الإنسان تعدم عنه الكتابة » فجعلنا المحمول هو الكتابة. والوجود والعدم رابطتان ، إحداهما : رابطة الثبوت والوصل ، والأخرى : رابطة السلب والفصل.

قال : ( والحمل (1) يستدعي اتّحاد الطرفين من وجه وتغايرهما من آخر ، وجهة الاتّحاد قد تكون أحدهما وقد تكون ثالثا ).

أقول : لمّا ذكر أنّ الوجود والعدم قد يحملان وقد يكونان رابطة بين الموضوع والمحمول ، شرع في تحقيق معنى الحمل.

وتقريره : أنّا إذا حملنا وصفا على موصوف ، فلسنا نعني به أنّ ذات الموضوع هي ذات المحمول نفسها ، وإلاّ يلزم تحقّق حمل ووضع في الألفاظ المترادفة ، وهو باطل ؛ لأنّ قولنا : « الإنسان حيوان » حمل صادق ، وليس الإنسان والحيوان مترادفين ، ولا نعني به أنّ ذات الموضوع مباينة لذات المحمول ؛ فإنّ الشيئين

ص: 162


1- قوله : « والحمل ... » إلى آخره. اعلم أنّ الحمل على أقسام : منها : حمل الشيء على نفسه ، وهو ما إذا اتّحد الموضوع والمحمول لفظا ومفهوما ومصداقا وأحوالا ، كما إذا قيل : الإنسان إنسان. ومنها : الحمل الحقيقي ، وهو ما إذا تغايرا لفظا واتّحدا مفهوما ، وكان المحمول ذاتي للموضوع ، بل تمام حقيقته ، كما إذا قيل : الإنسان حيوان ناطق ، وهو قسم من حمل هو هو وحمل ذاتي. ومنها : الحمل المتعارفي ، وهو ما إذا تغايرا لفظا ومفهوما واتّحدا مصداقا ، بحمل الكلّي على الجزئي ، كما يقال : زيد إنسان. وهو أيضا قسم من حمل هو هو. ومنها : الحمل الاشتقاقي ، وهو ما إذا تغايرا لفظا ومفهوما ومصداقا ، ولكن كان مدلول المحمول حالا من أحوال حدّيته لمدلول الموضوع ك « زيد عدل » بمعنى عادل. ومنها : حمل تصوّر ك « زيد كيف » أي ذو كيف. ومنها : حمل المباين على المباين ؛ للتشبيه والحكم ، كقوله صلی اللّه عليه وآله : « الطواف بالبيت صلاة ». ومنها : حمل المباين للمبالغة ك « زيد حمار ». ومنها : حمل المباين لا كما ذكر. وما عدا الأوّل والأخير مقبول ... ( منه رحمه اللّه ).

المتباينين - كالإنسان والفرس - يمتنع حمل أحدهما على الآخر ، بل نعني به أنّ المحمول والموضوع بينهما اتّحاد من وجه وتغاير من وجه بالتغاير مفهوما والاتّحاد مصداقا ؛ فإنّا إذا قلنا : « الضاحك كاتب » عنينا به أنّ الشيء الذي يقال له : الضاحك هو الشيء الذي يقال له : الكاتب ، فجهة الاتّحاد هي الشيء ، وجهة التغاير هي الضحك والكتابة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ جهة الاتّحاد قد تكون أمرا مغايرا للمحمول والموضوع ، كما في هذا المثال ؛ فإنّ الشيء الذي يقال له : ضاحك وكاتب هو الإنسان ، وهو غير الموضوع والمحمول. وقد تكون أحدهما بكون مفهوم أحدهما تمام حقيقة مصداق الآخر وكون العنوان عين الذات ، كقولنا : « الإنسان ضاحك » و « الضاحك إنسان » لاتّحاد ذات الإنسان مع مفهوم الضاحك.

قال : ( والتغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر ولا اعتبار عدم القائم في القيام لو استدعاه ).

أقول : لمّا ذكر أنّ المحمول مغاير للموضوع من وجه ، صدق عليه مطلق التغاير ، فيتوجّه شكّ ، وهو أنّ أحد الطرفين حينئذ يجب أن يكون قائما بالآخر ، وإلاّ لم تكن بينهما مناسبة ، وإذا كان قائما فالطرف الآخر في نفسه ليس متّصفا بالطرف القائم به ، وإلاّ اجتمع المثلان عند قيامه ، وحينئذ يلزم قيام الشيء بما ليس متّصفا به ، وذلك جمع للنقيضين.

فأجاب بأنّ صدق التغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر قيام العرض بمحلّه ؛ فإنّا نقول : « الإنسان حيوان » وليست الحيوانيّة قائمة بالإنسانيّة ؛ لعدم تصوّر قيام بين الكلّ والجزء ، وكفاية الاتّحاد في الصدق في الحمل.

ثمّ لو فرضنا أنّ التغاير مع الحمل يقتضي قيام أحدهما بالآخر لكن لا يلزم من كون المحمول قائما بالموضوع كون الموضوع في نفسه مأخوذا باعتبار عدم القائم من باب اعتبار الشيء بشرط لا واعتبار العدم ، بل اللازم عدم اعتبار القيام ، وبين

ص: 163

عدم الاعتبار واعتبار العدم فرق ظاهر ؛ فلا يلزم اجتماع النقيضين.

قال : ( وإثبات الوجود للماهيّة لا يستدعي وجودها قبل وجودها ).

أقول : إنّ الحكماء أطبقوا على أنّ الموصوف بالصفة الثبوتيّة يجب أن يكون ثابتا. (1)

وقد أورد على هذا : أنّ الوجود ثابت للماهيّة ، فيجب أن تكون الماهيّة ثابتة أوّلا حتّى يتحقّق لها ثبوت آخر ويتسلسل ، مضافا إلى أنّه يلزم أن تكون الماهيّة موجودة بوجودين أو بوجود واحد مرّتين ، وذلك محال بالضرورة.

والجواب : ما تقدّم فيما حقّقناه أوّلا من أنّ الوجود ليس عروضه للماهيّات عروض السواد للمحلّ ، بل زيادته إنّما هي في التصوّر والتعقّل لا في الوجود الخارجي ، بمعنى أنّ الوجود ثابت للماهيّة من حيث هي ، لا للماهيّة المعدومة و [ لا ] للماهيّة الموجودة.

مضافا إلى كون الماهيّة ثابتة بالوجود الثابت بنفسه ، المحمول عليها ، كما في المنوّر بالنور ، كما مرّ.

قال : ( وسلبه عنها لا يقتضي تميّزها وثبوتها بل نفيها لا إثبات نفيها. وثبوتها في الذهن وإن كان لازما لكنّه ليس شرطا ).

أقول : هذا جواب شكّ يورد على سلب الوجود عن الماهيّة.

وتقريره : أنّ سلب الوجود عن الماهيّة لا يقتضي أن تكون الماهيّة متميّزة عن غيرها وثابتة في نفسها وفي الخارج ، بل يكفي ثبوتها وتميّزها في الذهن ، فسلبه عنها لا يقتضي إلاّ نفيها في الخارج ، لا إثبات نفيها بأن يكون هناك أمر متحقّق هو الماهيّة وقد ثبت لها الانتفاء.

وثبوتها في الذهن ليس شرطا لسلب الوجود بأن يسلب الوجود عن الماهيّة

ص: 164


1- لقاعدة أنّ ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له. ( منه رحمه اللّه ).

الموجودة في الذهن بشرط كونها موجودة فيه حتّى يلزم اجتماع النقيضين ، بل يلزم من كون الماهيّة من حيث هي محكوما عليها بالسلب وجودها في الذهن ، ولا محذور فيه ؛ فإنّ سلب الوجود عن الماهيّة في الجملة لا يناقض وجودها في زمان كونها محكوما عليها ، فلا يلزم اجتماع النقيضين.

قال : ( والحمل والوضع من المعقولات الثانية ، يقالان بالتشكيك ، وليست الموصوفيّة ثبوتيّه ، وإلاّ تسلسل ).

أقول : الحمل والوضع من الأمور المعقولة ، وليس في الخارج حمل ولا وضع ، بل الثابت في الخارج هو الإنسان والكتابة.

وأمّا صدق الكاتب على الإنسان فهو أمر عقليّ ، ولهذا حكمنا بأنّ الحمل والوضع من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى من حيث هي في العقل ، ويقالان على أفرادهما بالتشكيك ؛ فإنّ استحقاق بعض المعاني للحمل أولى من البعض الآخر ، وكذا الوضع. وإذا قلنا : « الجسم أسود » فقد حكمنا على الجسم بأنّه موصوف بالسواد ، والموصوفيّة أمر اعتباريّ ذهنيّ لا خارجيّ حقيقيّ ؛ لأنّ الموصوفيّة لو كانت وجوديّة لزم التسلسل.

وبيان الملازمة : أنّها لو كانت خارجيّة لكانت عرضا قائما بالمحلّ ، فاتّصاف محلّها بها يستدعي موصوفيّة أخرى ، فنقل الكلام إليها ويتسلسل.

المسألة الرابعة والثلاثون : في انقسام الموجود إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض.

قال : ( ثمّ الموجود قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض ).

أقول : الموجود إمّا أن يكون له حصول مستقلّ في الأعيان أو لا يكون.

والأوّل هو الموجود بالذات ، سواء كان جوهرا أو عرضا ؛ فإنّ العرض وإن كان لا يوجد إلاّ بمحلّه لكنّه موجود حقيقة ، فإنّ وجود العرض ليس هو بعينه وجود

ص: 165

المحلّ ؛ إذ قد يوجد المحلّ بدون العرض ثمّ يوجد بعد ذلك العرض فيه ، كالجسم إذا دخل فيه السواد بعد أن لم يكن.

والثاني هو الموجود بالعرض كأعدام الملكات ، فإنّ الأعمى موجود بالعرض ، بمعنى أنّ ما صدق عليه موجود. وكذا الأمور الاعتباريّة الذهنيّة التي لا تحقّق لها في الأعيان ويقال : إنّها موجودة في الأعيان بالعرض.

قال : ( وأمّا الوجود في الكتابة والعبارة فمجازيّ ).

أقول : للشيء وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ، وقد سبق البحث فيهما ، ووجود في العبارة ووجود في الكتابة.

والذهني يدلّ على ما في العين ، والعبارة تدلّ على الأمر الذهني ، والكتابة تدلّ على العبارة لكنّ الوجودين الأوّلين حقيقيّان ، والباقيين مجازيّان ؛ إذ لا يحكم العاقل بأنّ زيدا - مثلا - موجود في اللفظ والكتابة ؛ لأنّ العبارة صوت موضوع بإزائه ، والكتابة نقش موضوع بإزاء اللفظ الدالّ عليه ، ولكن لمّا دلاّ عليه ، حكم على سبيل المجاز أنّه موجود فيهما.

والسرّ في تسمية هذا الوجود مجازا ، وما تقدّم وجودا بالعرض ، أنّ جعل ذات الشيء موجودا باعتبار أنّ الدالّ عليها موجود في العبارة أو الكتابة أبعد من جعل المحمول على الموجود موجودا باعتبار كونه محمولا عليه ، فسمّي أحدهما موجودا بالعرض والآخر موجودا بالمجاز ؛ تنبيها على التفاوت بينهما.

المسألة الخامسة والثلاثون : في عدم جواز إعادة المعدوم.

قال : ( والمعدوم لا يعاد ؛ لامتناع الإشارة إليه ، فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود ).

أقول : ذهب جماعة من الحكماء والمتكلّمين إلى أنّ المعدوم بعينه وبجميع عوارضه المشخّصة لا يعاد.

ص: 166

وذهب آخرون منهم إلى أنّه يمكن أن يعاد (1).

والحقّ : الأوّل من غير منافاة للقول بالمعاد الجسماني ؛ لبقاء موادّ الأجسام وإن تفرّق أجزاؤها واضمحلّ صورها ، ففيه إعطاء الصور للموادّ وعود الأرواح إلى الأجساد من غير أنّ المعدوم الصرف يعاد.

والظاهر أنّ ذلك ضروريّ ، ولهذا قال الإمام الرازي - على ما حكي عنه - : « إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والعصبيّة ، شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنعة » (2).

ومثّل له بنقش حرف في لوح ومحوه ونقش ذلك الحرف بعينه في ذلك الموضع بعد ذلك ؛ فإنّ المنقوش ثانيا مثل الأوّل لا عينه (3).

واستدلّ المصنّف عليه بوجوه (4) :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ المعدوم لا تبقى له هويّة ولا يتميّز عن غيره ، فلا يصحّ أن يحكم عليه بحكم ما من الأحكام ، فلا يمكن الحكم عليه بصحّة العود.

وهذا مستلزم لامتناع الحكم عليه بامتناع العود ؛ فإنّه أيضا حكم ما. والإرجاع إلى الحكم السلبي الذي يصحّ على المعدوم مشترك.

والتحقيق هنا أنّ الحكم يستدعي الحضور الذهني لا الوجود الخارجي ، ولهذا يحكم على شريك البارئ بأنّه ممتنع.

قال : ( ولو أعيد تخلّل العدم بين الشيء ونفسه ).

ص: 167


1- « تلخيص المحصّل » : 390 ؛ « شرح المقاصد » 5 : 82.
2- هذا الكلام ليس للفخر الرازي ، بل الرازي نقله عنه الشيخ نقلا بالمعنى ، والمحقّق اللاهيجي نقل نقل الرازي في المباحث عن الشيخ. راجع آخر الفصل الخامس من المقالة الأولى من « إلهيّات الشفاء » : 41 ؛ و « المباحث المشرقية » 1 : 138 ؛ و « شوارق الإلهام » ، المسألة الثالثة والثلاثين من الفصل الأوّل.
3- « شوارق الإلهام » : 118.
4- لمزيد الاطّلاع عن هذه الأدلّة راجع « مناهج اليقين » : 333 وما بعدها ؛ « كشف المراد » : 73 - 74 ؛ « شرح المواقف » 8 : 292.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالّة على امتناع إعادة المعدوم.

وتقريره : أنّ الشيء بعد عدمه نفي محض وعدم صرف ، وإعادته إنّما تكون بوجود عينه الذي هو المبتدأ بعينه في الحقيقة ، فيلزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه ، وتخلّل النفي بين الشيء الواحد غير معقول.

وأجيب : بأنّ التخلّل لزمان العدم بين زماني وجود الشيء بعينه.

وفيه : أنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ الثاني مثل الأوّل لا عينه.

قال : ( ولم يبق فرق بينه وبين المبتدأ ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث.

وتقريره : أنّ المعدوم لو أعيد لم يبق فرق بينه وبين المبتدأ ؛ فإنّا إذا فرضنا سوادين - أحدهما معاد والآخر مبتدأ - وجدا معا ، لم يقع بينهما افتراق في الماهيّة ولا المحلّ ولا غير ذلك من المميّزات إلاّ كون أحدهما كان موجودا ثمّ عدم ، والآخر لم يسبق عدمه وجوده ، لكن هذا الفرق باطل ؛ لامتناع تحقّق الماهيّة في العدم ، فلا يمكن الحكم عليها بأنّها هي هي حالة العدم ، وإذا لم يبق فرق بينهما ، لم يكن أحدهما أولى من الآخر بالإعادة أو الابتداء.

قال : ( وصدق المتقابلان عليه دفعة ).

أقول : هذا وجه رابع ، وهو أنّه لو أعيد المعدوم لصدق المتقابلان على الشيء الواحد دفعة واحدة ؛ والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّه لو أعيد لأعيد مع جميع مشخّصاته ، ومن جملة المشخّصات الزمان ، فيلزم جواز الإعادة على الزمان ، فيكون مبتدأ معادا ، وهو محال ؛ لأنّهما متقابلان لا يمكن صدقهما على ذات واحدة.

قال : ( ويلزم التسلسل في الزمان ).

أقول : هذا دليل امتناع إعادة الزمان.

وتقريره : أنّه لو أعيد الزمان ، لكان وجوده ثانيا مغايرا لوجوده أوّلا ، والمغايرة

ص: 168

ليست بالماهيّة ولا بالوجود وصفات الوجود ، بل بالقبليّة والبعديّة لا غير ، فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه تارة ويعدم أخرى ، وذلك يستلزم التسلسل.

قال : ( والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة ).

أقول : هذا جواب عن استدلال من ذهب إلى إمكان إعادة المعدوم.

وتقرير الدليل : أنّ الشيء بعد العدم إن استحال وجوده لماهيّة أو لشيء من لوازمها ، وجب امتناع مثله الذي هو الوجود المبتدأ ، وإن كان لأمر غير لازم بل لعارض ، فعند زوال ذلك العارض يزول الامتناع.

وتقرير الجواب : أنّ الشيء بعد العدم ممتنع الوجود المقيّد ببعديّة العدم ، وذلك الامتناع من جهة ما هو لازم للماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ، وهو كونها قد طرأ عليها العدم ، وامتناع العود بسبب هذا اللازم لا يقتضي امتناع وجوده ابتداء ؛ لعدم تحقّق سبب الامتناع - أعني هذا اللازم - هناك.

نعم ، إيجاد مثل الموجود أوّلا ممكن ، وهو غير إعادة المعدوم ، كما هو معلوم.

المسألة السادسة والثلاثون : في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن ، وأنّ الممكن محتاج إلى المؤثّر ضرورة.

قال : ( وقسمة الموجود إلى الواجب والممكن ضروريّة وردت على الموجود من حيث هو قابل للتقييد وعدمه ).

أقول : العقل يحكم - حكما ضروريّا - أنّ الموجود إمّا أن يكون مستغنيا عن غيره أو محتاجا ، والأوّل واجب ، والثاني ممكن.

وهذه قسمة ضروريّة لا يفتقر فيها إلى برهان.

وليست القسمة واردة على مطلق الموجود من حيث هو موجود مطلق ؛ فإنّ الشيء من حيث هو ذلك الشيء يستحيل أن ينقسم إلى متنافيين هما غير ذلك الشيء ، وإذا اعتبرت قسمته فلا تؤخذ مع هذه الحيثيّة ، بل يؤخذ الشيء من غير

ص: 169

تقييد بشرط مع تجويز التقييد بالقيود المتقابلة ، ويقسم ، فينضاف إلى مفهومه مفهومات أخر ، ويصير مفهومه مع كلّ واحد من تلك المفهومات قسما.

قال : ( والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهيّة لا باعتبار العدم والوجود ).

أقول : هذا جواب شكّ يتوجّه في المقام ، وهو أنّ القسمة إلى الواجب والممكن فرع الحكم على الممكن بإمكان الوجود ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ كلّ ماهيّة إمّا موجودة فلا تقبل العدم ، وإمّا معدومة فلا تقبل الوجود ؛ وإلاّ اجتمع النقيضان.

وتقرير الجواب : أنّ المحكوم عليه هو الماهيّة من حيث هي ، لا باعتبار الوجود أو العدم حتّى يلزم اجتماع النقيضين ، كما مرّ مثله.

قال : ( ثمّ الإمكان قد يكون آلة في التعقّل ، وقد يكون معقولا باعتبار ذاته ).

أقول : هذا جواب شكّ آخر ، وهو أنّه لو اتّصف شيء بالإمكان لوجب اتّصافه به ، وإلاّ لأمكن زوال الإمكان عن ماهيّة الممكن ، وهو محال ؛ لأنّ الإمكان من لوازم ماهيّة الممكن ، ووجب اتّصافه بذلك الوجوب أيضا ، وكذا بوجوب الوجوب (1) وهكذا حتّى تتسلسل الوجوبات ؛ حذرا عن المحذور المذكور.

وتقرير الجواب : أنّ هذا التسلسل - كالتسلسل في كثير من المفهومات كاللزوم والحدوث والوحدة - تسلسل في الأمور الاعتباريّة ، وربّما تنقطع السلسلة بحسب انقطاع الاعتبار.

بيانه : أنّ كون الشيء معقولا ، ينظر فيه العقل ويعتبر فيه وجوده ولا وجوده ، غير كونه آلة للتعقّل ، ولا ينظر فيه من حيث ينظر فيما هو آلة لتعقّله ، بل إنّما ينظر إليه من حيث هو هو ، مثلا : العاقل يعقل السماء بصورة في عقله ويكون معقوله السماء ، ولا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ولا يحكم عليها بحكم ، بل يعقل أنّ المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر ، ثمّ إذا نظر في تلك الصورة وجعلها

ص: 170


1- في « ج » : « الوجود » بدل « الوجوب ».

معقولة منظورا إليها لا آلة في النظر إلى غيرها ، وجدها عرضا موجودا في محلّ هو عقله.

إذا ثبت هذا ، فنقول : الإمكان كآلة للعاقل ، بها يعرف حال الممكن في أنّ وجوده على أيّ أنحاء العروض يعرض للماهيّة ، ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو معدوما أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا ، فليس حينئذ إلاّ أمر واحد ، فلا يلزم تسلسل ، ثمّ إذا نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريّته أو عرضيّته ، لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشيء ، بل كان عرضا في محلّه ، وهو العقل ، وممكنا في ذاته.

والإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود ، وممكنا أو غير ممكن ، وإذا وصف بشيء من ذلك ، لا يكون حينئذ إمكانا ، بل يكون له إمكان آخر يعتبره العقل.

والإمكان أمر عقليّ ، فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهيّة ووجودا حصل فيه إمكان إمكان ، ولا يتسلسل ، بل ينقطع عند انقطاع الاعتبار ، وهكذا حكم جميع الاعتبارات العقليّة من الوجوب والسببيّة والحدوث وغيرها من ثواني المعقولات.

قال : ( وحكم الذهن على الممكن بالإمكان اعتبار عقليّ ، فيجب أن يعتبر مطابقته لما في العقل ).

أقول : هذا جواب عن استدلال من يقول بأنّ الإمكان موجود في الخارج.

[ و ] تقريره : أنّ حكم الذهن على الممكن بالإمكان إن لم يكن مطابقا للخارج كان جهلا ، وكان الذهن قد حكم بالإمكان على ما ليس بممكن ، وإن كان مطابقا للخارج كان الإمكان موجودا فيه.

وتقرير الجواب : أنّ الإمكان أمر عقليّ ، فإذا اعتبر فيه المطابقة فيجب أن يكون مطابقا لما في العقل ؛ لأنّه اعتبار عقليّ ، على ما تقدّم.

قال : ( والحكم بحاجة الممكن ضروريّ ، وخفاء التصديق لخفاء التصوّر غير قادح ).

ص: 171

أقول : أنكر جماعة كذيمقراطيس وأتباعه - على ما حكي (1) - وجود الواجب واحتياج الممكن إلى المؤثّر ، قائلين بأنّ وجود السماوات بطريق البخت والاتّفاق.

واختار المحقّقون احتياجه إليه (2) ، وذهب إليه المصنّف رحمه اللّه كما ذكرنا.

ومراده أنّ كلّ عاقل إذا تصوّر الممكن والاحتياج إلى المؤثّر ، حكم بنسبة أحدهما إلى الآخر حكما ضروريّا لا يحتاج معه إلى برهان.

وخفاء هذا التصديق عند بعض العقلاء لا يقدح في ضروريّته ؛ لأنّ الخفاء في الحكم يستند إلى خفاء التصوّر لا لخفائه في نفسه ، ولهذا إذا مثّل للمتشكّك في هذه القضيّة حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهيّة بحال كفّتي الميزان وأنّهما كما يستحيل ترجّح إحدى الكفّتين على الأخرى بغير مرجّح كذلك الممكن المتساوي الطرفين ، حكم بالحاجة إلى المؤثّر.

قال : ( والمؤثّريّة اعتبار عقليّ ).

أقول : هذا جواب عن استدلال أورده بعض المغالطين على احتياج الممكن إلى المؤثّر (3).

وتقرير السؤال : أنّ الممكن لو افتقر إلى المؤثّر لكانت مؤثّريّة المؤثّر في ذلك الأثر وصفا ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، فتتحقّق هناك مؤثّريّة أخرى ، وننقل الكلام إليها حتّى يتسلسل.

وتقرير الجواب : أنّ المؤثّريّة ليست موجودة في الخارج حتّى يلزم كونها وصفا ممكنا محتاجا إلى المؤثّر ، بل هو اعتبار عقليّ ينقطع بانقطاع الاعتبار.

نعم ، التأثير أمر موجود بنفسه ، كما أنّ الأثر موجود بالتأثير ، نظير الماهيّة والوجود.

ص: 172


1- حكاه الشيخ في « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 61.
2- انظر : « المباحث المشرقية » 1 : 218 ؛ « تلخيص المحصّل » : 111 وما بعدها ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 129 وما بعدها ؛ « مناهج اليقين » : 5 ؛ « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الخامسة والثلاثون.
3- الاستدلال المذكور أورده الفخر الرازي في « المحصّل » : 194 وما بعدها.

قال : ( والمؤثّر يؤثّر في الأثر لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم ).

أقول : هذا جواب عن سؤال آخر لهم (1).

وتقرير السؤال : أنّ المؤثّر إمّا أن يؤثّر في الأثر حال وجوده أو حال عدمه ، والقسمان باطلان فالتأثير باطل.

أمّا بطلان الأوّل : فلاستلزامه تحصيل الحاصل.

وأمّا بطلان الثاني : فلأنّ حال العدم لا أثر فلا تأثير ؛ لأنّ التأثير إن كان غير حصول الأثر عن المؤثّر فحيث لا أثر فلا تأثير ، وإن كان مغايرا فالكلام فيه كالكلام في الأوّل ، مضافا إلى لزوم الجمع بين النقيضين.

وتقرير الجواب أن نقول : إن أردت بحال وجود الأثر زمان وجوده ، فليس بمستحيل أن يؤثّر في الأثر في زمان وجود الأثر ؛ لأنّ العلّة مع المعلول تكون بهذه الصفة ؛ لأنّ ذلك تحصيل للحاصل بهذا التحصيل ، لا لما كان حاصلا قبل هذا التحصيل. وإن أردت به مقارنة المؤثّر للأثر ، الذاتيّة ، فذلك مستحيل.

والحاصل : أنّ المؤثّر إنّما يؤثّر فيه لا من حيث هو موجود حتّى يلزم تحصيل الحاصل ، ولا من حيث هو معدوم حتّى يلزم جمع النقيضين ، بل يؤثّر من حيث هو غير مقيّد بشيء من الوجود والعدم ، فلا يلزم محال.

قال : ( وتأثيره في الماهيّة ويلحقه وجوب لاحق ).

أقول : هذا جواب عن سؤال ثالث لهم (2).

وتقريره : أنّ المؤثّر إمّا أن يؤثّر في الماهيّة أو في الوجود أو في اتّصاف الماهيّة بالوجود ، والأقسام كلّها باطلة فالتأثير باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ ما بالغير يرتفع بارتفاعه ، لكن ذلك محال ؛ لأنّ صيرورة الماهيّة غير الماهيّة محال ؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه في غير المعدوم.

ص: 173


1- راجع « المحصّل » : 198.
2- راجع « المحصّل » : 198 - 201.

وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم ارتفاع الوجود عند ارتفاع المؤثّر ، ويلزم ما تقدّم من المحال.

وأمّا الثالث : فلأنّ الموصوفيّة ليست بثبوتية (1) ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلا تكون أثرا.

سلّمنا ، لكنّ المؤثّر يؤثّر في ماهيّتها أو في وجودها أو في اتّصاف ماهيّتها بوجودها ، ويعود المحال.

وتقرير الجواب : أنّ المؤثّر يؤثّر في الماهيّة بجعلها موجودة لا جعلها إيّاها ؛ لعدم تصوّر توسّط الجعل بين الشيء ونفسه كما حكي (2) عن أبي عليّ أنّه سئل عن هذه المسألة - وقد كان يأكل المشمش - فقال : الجاعل لم يجعل المشمش مشمشا بل جعل المشمش موجودا ، أو بالجعلين معا ، وبعد تعلّق الجعل بالماهيّة يجب تحقّقها وجوبا لاحقا مترتّبا عليه.

قال : ( وعدم الممكن يستدعي عدم علّته ، على ما مرّ ).

أقول : هذا جواب عن سؤال أخر (3).

وتقريره : أنّ الممكن لو افتقر في طرف الوجود إلى المؤثّر لافتقر في طرف العدم أيضا إليه ؛ لتساويهما بالنسبة إليه ، والتالي باطل ؛ لأنّ المؤثّر لا بدّ له من أثر ، والعدم نفي محض ، فيستحيل استناده إلى المؤثّر.

وتقرير الجواب : أنّ عدم الممكن المتساوي ليس نفيا محضا بل هو عدم ملكة. وتساوي طرفي وجوده وعدمه إنّما يكون في العقل. والمرجّح لطرف الوجود لا بدّ أن يكون موجودا في الخارج ، كما مرّ ، وأمّا في العدم فلا يكون إلاّ عقليّا ، وهو عدم العلّة ، وعدم العلّة ليس بنفي محض ، وهو يكفي في الترجيح العقلي ، ولامتيازه عن

ص: 174


1- في نسخة الأصل : « ثبوتيّة ».
2- حكاه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 69 واللاهيجي في « شوارق الإلهام » الفصل الأوّل ، المسألة الخامسة والثلاثون.
3- راجع « المحصّل » : 201.

عدم المعلول في العقل يجوز أن يعلّل هذا العدم بذلك العدم.

المسألة السابعة والثلاثون : في أنّ الممكن الباقي محتاج إلى المؤثّر.

قال : ( والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثّر لوجود علّته ).

أقول : اختلفوا في أنّ الممكن الباقي هل يفتقر إلى المؤثّر حال بقائه أم لا؟

فذهب جماعة - [ حيث ] قالوا : إنّ علّة الافتقار إلى المؤثّر هو الحدوث وحده أو مع الإمكان ، أو الإمكان بشرط الحدوث - إلى أنّ الممكن حال بقائه مستغن عن المؤثّر ؛ إذ لا حدوث حال البقاء كما في بقاء البناء بعد فناء البنّاء ؛ ولهذا قالوا : لو جاز على الصانع العدم لما ضرّ العالم (1).

وقال بعضهم : إنّ الجواهر محتاجة إلى الصانع من جهة الأعراض المتجدّدة أو الأكوان المتجدّدة المحتاجة إلى الصانع (2).

وذهب جمهور الحكماء والمتأخّرين من المتكلّمين إلى أنّ الممكن الباقي محتاج إلى المؤثّر (3).

وبالجملة : كلّ من قال بأنّ الإمكان علّة تامّة في احتياج الأثر إلى المؤثّر حكم بأنّ الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثّر.

والدليل عليه : أنّ علّة الحاجة إنّما هي الإمكان ، وهو لازم للماهيّة ضروريّ اللزوم ، فهي أبدا محتاجة إلى المؤثّر ؛ لأنّ وجود العلّة يستلزم وجود المعلول ، فهي محتاجة إلى المؤثّر في الوجود بعد الوجود ، كما أنّها محتاجة إليه في أصل الوجود.

وأمّا البنّاء فهو علّة معدّة لفيضان صورة البناء من واهب الصور ، وانعدام العلّة المعدّة لا يوجب انعدام المعلول ، كما في الأقدام.

ص: 175


1- راجع « الشفاء » الإلهيّات ، الفصل 1 و 2 من المقالة السادسة ؛ « التحصيل » : 524 وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 67 وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : 69 - 70.
2- راجع « الشفاء » الإلهيّات ، الفصل 1 و 2 من المقالة السادسة ؛ « التحصيل » : 524 وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 67 وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : 69 - 70.
3- « تلخيص المحصّل » : 121.

قال : ( والمؤثّر يفيد البقاء بعد الإحداث ).

أقول : لمّا حكم باحتياج الممكن الباقي إلى المؤثّر ، شرع في تحقيق الحال فيه ، وأنّ الصادر عن المؤثّر ما هو حال البقاء؟ وذلك لأنّ الشبهة دخلت على القائلين باستغناء الباقي عن المؤثّر بسبب أنّ المؤثّر لا تأثير له حال البقاء ؛ لأنّه إمّا أن يؤثّر في الوجود الذي كان حاصلا ، وهو محال ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال ، أو في أمر جديد ، فيكون المؤثّر مؤثّرا في الجديد لا في الباقي.

والتحقيق : أنّ قولهم : إنّ المؤثّر لا تأثير له حال البقاء غلط ؛ فإنّ المؤثّر يفيد البقاء بعد الإحداث ، وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد هو البقاء ؛ فإنّه غير الإحداث ؛ لأنّه عبارة عن الوجود بعد الوجود ، فهو مؤثّر في أمر جديد صار به باقيا لا في الذي كان باقيا. وأمّا البنّاء فهو علّة معدّة لا فاعليّة تامّة.

قال : ( ولهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثّر الموجب لو أمكن ، ولا يمكن استناده إلى المختار ).

أقول : المراد أنّ الممكن الباقي لمّا كان لإمكانه مفتقرا إلى المؤثّر في بقائه ، جاز أن يستند الممكن القديم إلى المؤثّر الموجب بالذات لو أمكن وجود ذلك المؤثّر ، كما يدّعيه الفلاسفة (1) ؛ لأنّ الإمكان علّة الافتقار كما مرّ.

نعم ، هذا الممكن لا يحتاج إليه إلاّ في البقاء ؛ لعدم الحدوث ، بخلاف الممكن الحادث ، فإنّه يحتاج إليه في الحدوث والبقاء.

وأمّا استناد الممكن القديم إلى المؤثّر المختار فغير ممكن ؛ لأنّ المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار ، والقصد إنّما يتوجّه في التحصيل إلى شيء معدوم ؛ لأنّ القصد إلى تحصيل الحاصل محال ، وكلّ معدوم تجدّد فهو حادث غير قديم ، والكلام في الممكن القديم.

وردّ : بأنّ تقدّم القصد على الإيجاد والوجود تقدّم بالذات لا بالزمان ، فلا يلزم

ص: 176


1- انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 60 وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 127 وما بعدها.

الحدوث المخلّ.

نعم ، الحدوث الذاتي واقع ، ولكنّه غير قادح.

ويمكن أيضا أن يقال : إنّ المختار الموجب - بكسر الجيم - كالموجب - بفتح الجيم - في جواز الاستناد إليه.

ومنع الإمام الرازي استناده إلى الموجب أيضا استنادا إلى أنّ التأثير في حال البقاء تحصيل للحاصل ، وفي حال العدم أو الحدوث يستلزم الحدوث وعدم القدم (1) مردود : بأنّ إفادة البقاء للباقي بهذا البقاء ليس تحصيلا لما كان حاصلا قبل ، بل هو تحصيل للحاصل بذلك التحصيل ، وهو غير محال.

المسألة الثامنة والثلاثون : في نفي قديم ثان.

قال : ( ولا قديم سوى اللّه ؛ لما يأتي ).

أقول : القديم بالذات لا يوصف به سوى ذات اللّه تعالى بلا خلاف. وأمّا القديم الزماني ففيه خلاف ؛ إذ قد خالف في هذا جماعة كثيرة :

أمّا الفلاسفة فظاهر ؛ لقولهم بقدم أصل العالم من العقول والنفوس السماويّة والأجسام الفلكية والعنصرية (2).

وأمّا المسلمون فالأشاعرة أثبتوا ذاته تعالى وصفاته في الأزل كالقدرة والعلم والحياة والوجود والبقاء وغير ذلك من الصفات على ما يأتي.

وأبو هاشم - على ما حكي - أثبت أحوالا خمسة ؛ فإنّه علّل القادريّة والعالميّة والحيّيّة والموجوديّة بحالة خامسة مميّزة للذات ، وهي الإلهيّة.

وأمّا الحرنانيّون (3) فقد أثبتوا - على ما حكي - خمسة من القدماء : اثنان حيّان

ص: 177


1- لم نعثر عليه فيما لدينا من مصنّفات الفخر الرازي ، نقله عنه القوشجي أيضا في « شرح تجريد العقائد » : 71.
2- « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 172 - 186 ؛ « شرح حكمة الإشراق » : 391 ، طبعة حجرية.
3- الحرنان : رجل من المجوس ادّعى النبوّة. ( منه رحمه اللّه ).

فاعلان هما البارئ تعالى والنفس ، وواحد منفعل غير حيّ هو الهيولى ، واثنان لا حيّان ولا فاعلان ولا منفعلان هما الدهر والخلاء (1).

فأمّا قدمه تعالى : فهو ظاهر.

وأمّا النفس والهيولى : فلاستحالة تركّبهما عن المادّة ، وكلّ حادث مركّب.

وأمّا الزمان : فلاستحالة التسلسل اللازم على تقدير عدمه.

وأمّا الخلاء فرفعه غير معقول.

واختار ابن زكريّا الرازي الطبيب هذا المذهب (2). واختار المصنّف المحقّق ما هو الحقّ الحقيق وبالقبول يليق ، من أنّه ليس في الوجود قديم لا بالذات ولا بالزمان سوى ذات اللّه تعالى ، وأنّ صفاته تعالى ليست بزائدة على ذاته ، كما ذهب إليه الحكماء والإماميّة والمعتزلة.

وبالجملة ، فما عدا هذا المذهب باطل ، بل قالوا : إثبات القدماء كفر ، والنصارى إنّما كفروا لمّا أثبتوا مع ذاته تعالى صفات ثلاثا قديمة سمّوها أقانيم هي : العلم والوجود والحياة ، فكيف لا يكون كذلك من أثبت مع ذاته صفات سبعا أو أكثر!؟

ودليل المختار أنّ كلّ ما سوى اللّه تعالى ممكن متغيّر ، وكلّ ممكن متغيّر حادث. وسيأتي تقريرها.

المسألة التاسعة والثلاثون : في عدم وجوب المادّة والمدّة للحادث.

قال : ( ولا يفتقر الحادث إلى المدّة والمادّة ، وإلاّ لزم التسلسل ).

أقول : ذهب الفلاسفة إلى أنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة ومدّة (3).

ص: 178


1- « نقد المحصّل » : 125 - 127 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 238 - 240.
2- اختاره في كتابه الموسوم ب- « القول في القدماء الخمسة » وهو ليس بأيدينا ، راجع في ذلك « نهاية المرام » 1 : 240.
3- « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 97 وما بعدها ؛ « المباحث المشرقية » 1 : 231 - 232 ؛ « نقد المحصّل » : 127 - 128.

والمراد بالمدّة الزمان ، وبالمادّة موضوع الحادث إن كان عرضا ، وهيولاه إن كان صورة ، ومتعلّقه إن كان نفسا. وقد تفسّر المادّة بالهيولى وحدها.

والبرهان على هذه الدعوى أنّ كلّ حادث ممكن ، فإمكانه سابق عليه ، وهو عرض لا بدّ له من محلّ ، وليس المعدوم ؛ لانتفائه ، فهو ثبوتي هو المادّة ؛ ولأنّ كلّ حادث يسبقه عدمه سبقا لا يجامعه المتأخّر ، فالسبق بالزمان ، وهو يستدعي ثبوته.

وهذان الدليلان باطلان ؛ لأنّهما يلزم منهما التسلسل ؛ لأنّ المادّة ممكنة حادثة ؛ إذ لا قديم سوى اللّه تعالى ، كما تقدّم ، فمحلّ إمكانها مغاير لها ، فتكون لها مادّة أخرى ، وننقل الكلام إليها حتّى يتسلسل.

على أنّا قد بيّنّا أنّ الإمكان عدميّ ؛ لأنّه لو كان ثبوتيّا لكان ممكنا ، فيكون له إمكان ، ويلزم التسلسل. والزمان تتقدّم أجزاؤه بعضها على بعض هذا النوع من التقدّم ، فيكون للزمان زمان فيتسلسل ، هذا خلف.

وأجابوا أيضا عن الأوّل : بأنّ الإمكان لفظ مشترك بين ما يقابل الامتناع - وهو صفة عقليّة يوصف بها كلّ ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات ، ولا يلزم من اتّصاف الماهيّة بها كونها مادّيّة - وبين الاستعداد ، وهو موجود معدود في نوع من جنس الكيف ، وإذا كان موجودا وعرضا وغير باق بعد الخروج إلى الفعل ، فيحتاج لا محالة قبل الخروج إلى محلّ ، وهو المادّة.

وعن الثاني : أنّ القبليّة والبعديّة تلحقان الزمان لذاته ، فلا يفتقر إلى زمان آخر (1).

وردّ الأوّل : بأنّ ذلك العرض حادث ، فيتوقّف على استعداد له ، ويعود البحث في التسلسل.

والثاني : بأنّ الأجزاء لو كانت متقدّمة بعضها على بعض لذاتها وتتأخّر كذلك ، كانت أجزاء الزمان مختلفة بالحقيقة ، فكان الزمان مركّبا من الآنات ، وهو عندكم

ص: 179


1- راجع « نقد المحصّل » : 127 - 128.

باطل (1) فتأمّل.

والتحقيق أنّ المستفاد من العقل والنقل أنّ أفعال اللّه تعالى على أقسام :

منها : ما لا يكون مسبوقا بمادّة ولا مدّة ، وهو الإنشاء والاختراع ، كإيجاد العقل الأوّل عند الحكماء ، وإيجاد النور الأحمدي عند أهل الشرع (2).

ومنها : ما يكون مسبوقا بمادّة دون المدّة وهو الإبداع ، كإيجاد الماء والأرض والسماء والعرش الكرسيّ عند المحقّقين من العلماء ؛ فإنّه مسبوق بمادّة - أعني الجوهر المخلوق من النور الأحمدي صلی اللّه علیه و آله - وغير مسبوق بمدّة ؛ فإنّها عبارة عن الزمان ، والزمان منتزع عن حركة الفلك الأعظم عند الحكماء ، وهو المسمّى بالعرش عند أهل الشرع (3).

ومنها : ما يكون مسبوقا بالمدة دون المادّة ، وهو المسمّى بالصنع ، كإيجاد النار والهواء.

ومنها : ما يكون مسبوقا بالمادّة والمدّة كلتيهما ، وهو المسمّى بالتكوين كإيجاد المواليد الثلاثة ، أعني الجمادات والنباتات والحيوانات.

ومنها : ما يكون مسبوقا بكمال المادّة ، وهو المسمّى بالتكليف المسبوق بكمال أمثال الإنسان بالعقل.

المسألة الأربعون : في أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وأنّ القديم لا يجوز عليه العدم.

قال : ( والقديم لا يجوز عليه العدم ؛ لوجوبه بالذات أو لاستناده إليه ).

أقول : المراد أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ لأنّه إمّا واجب لذاته ، فامتناع عدمه

ص: 180


1- راجع « كشف المراد » : 83.
2- « حكمة الإشراق » : 126 ؛ « مصباح الأنس » : 69 - 70 ؛ « شرح فصوص الحكم » للقيصري 2 : 455.
3- « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » 2 : 1171.

ظاهر ، وإمّا ممكن مستند إلى الواجب بالذات الموجب بالذات - بناء على ما مرّ من امتناع استناد القديم إلى الفاعل بالاختيار - وحينئذ تكون علّته التامّة موجودة بالدوام ، ودوام العلّة يقتضي دوام المعلول ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، كما سيأتي ، فيكون ممتنع العدم بالغير وإن كان ممكنا بالذات ، ولكن لمّا كان المختار أنّ الواجب فاعل مختار من غير إيجاب واضطرار ، لم يكن شيء من معلولاته قديما ممتنع العدم. وسيأتي لذلك زيادة كلام إنّ شاء اللّه تعالى.

ص: 181

ص: 182

الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها

اشارة

قال : ( الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها ، وهي مشتقّة (1) عن « ما هو » وهو ما به يجاب عن السؤال ب- « ما هو؟ » وتطلق غالبا على الأمر المعقول ، ويطلق « الذات » و « الحقيقة » عليها مع اعتبار الوجود ، والكلّ من ثواني المعقولات ).

أقول : في هذا الفصل مباحث شريفة جليلة نحن نذكرها في مسائل :

المسألة الأولى : في « الماهيّة » و « الحقيقة » و « الذات ».

أمّا الماهيّة : فهي لفظة مأخوذة عن « ما هو؟ » وهو ما به الشيء هو هو ، وما به يجاب عن السؤال ب- « ما هو؟ » ؛ فإنّك إذا قلت : « الإنسان ما هو؟ » فقد سألت عن حقيقته وماهيّته ، فإذا قلت : « حيوان ناطق » كان هذا الجواب هو ماهيّة الإنسان.

وهذه اللفظة - أعني الماهيّة - إنّما تطلق في الغالب من الاستعمال على الأمر المعقول الموجود في الذهن بلا اعتبار الوجود ، وإذا لوحظ مع ذلك الوجود المطلق أو خصوص الخارجي ، قيل له : « حقيقة » و « ذات » كما يطلق عليها « الطبيعة » أيضا باعتبار خصوص الوجود الخارجي.

وقد يراد بالذات ما صدقت الماهيّة عليه من الأفراد.

والحقيقة الجزئيّة تسمّى هويّة ، وقد يراد بالهويّة التشخّص ، وقد يراد بها الوجود الخارجي.

ص: 183


1- إشارة إلى أنّ الياء للنسبة ، فألغى المنسوبة إلى ما هو ؛ لوقوعها جوابا عنه. ( منه رحمه اللّه ).

والصورة الذهنيّة إن كانت مطابقة لها بذاتها بدون اعتبار أمر خارج ، تسمّى ماهيّة وكنها ، كصورة الحيوان الناطق للإنسان ، وإن كانت مطابقة لها لا بذاتها بل باعتبار أمر خارج ، تسمّى وجها ، وتصوّر الشيء بها يسمّى تصوّرا بالوجه ، كصورة مفهوم الضاحك للإنسان.

والماهيّة والحقيقة والذات من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ؛ فإنّ حقيقة الإنسان - أعني الحيوان الناطق - معروضة ؛ لكونها ماهيّة وذاتا وحقيقة ، وهذه عوارض لها.

قال : ( وحقيقة كلّ شيء مغايرة لما يعرض لها من الاعتبارات ، وإلاّ لم تصدق على ما ينافيها ).

أقول : كلّ شيء له حقيقة هو بها هو ، فالإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة ماهيّة ، وهي مغايرة لجميع ما يعرض لها من الاعتبارات ؛ فإنّ الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة لا يدخل في مفهومها الوجود والعدم ، ولا الوحدة والكثرة ، ولا الكلّيّة والجزئيّة ، ولا غير ذلك من الاعتبارات اللاحقة بها ؛ لأنّ الوحدة لو دخلت في مفهوم الإنسانيّة ، لم تصدق الإنسانيّة على ما ينافيها ، لكنّها تصدق عليه ؛ لصدقها على الكثرة. وكذلك القول في الكثرة ، وكذا الوجود والعدم والكلّيّة والجزئيّة وغيرها ، فهي إذن مغايرة لهذه الاعتبارات وقابلة لها قبول المادّة للصور المختلفة والأعراض المتضادّة ، ولكن عوارض الماهيّة ثلاثة أقسام :

قسم يلحق الماهيّة من حيث هي هي بأيّ وجود وجدت ، كالزوجيّة للأربعة.

وقسم يلحقها باعتبار وجودها الخارجي ، كالتناهي للجسم.

وقسم يلحقها باعتبار وجودها الذهني ، وهو الذي يسمّى معقولا ثانيا ، كالذاتيّة والعرضيّة ونحوهما.

قال : ( وتكون الماهيّة مع كلّ عارض مقابلة لها مع ضدّه ).

أقول : إذا أخذت الماهيّة مع قيد الوحدة - مثلا - صارت واحدة ، وإذا أخذت مع

ص: 184

قيد الكثرة صارت كثيرة ، فالواحديّة أمر مضموم إليها ، ومغايرة لها تصير بها الماهيّة واحدة ، وتقابل باعتبارها الماهيّة باعتبار القيد الآخر ؛ فإنّ الإنسان الواحد مقابل للإنسان الكثير باعتبار العارضين ، لا باعتبار الماهيّة نفسها.

قال : ( وهي من حيث هي ليست إلاّ هي. ولو سئل بطرفي النقيض فالجواب السلب لكلّ شيء قبل الحيثيّة لا بعدها ).

أقول : الإنسانيّة من حيث هي هي ليست إلاّ الإنسانيّة ، وجميع ما يعرض لها من الاعتبارات مغاير لها ، كالوحدة والكثرة على ما تقدّم.

إذا عرفت هذا ، فإذا سئلنا عن الإنسان بطرفي النقيض فقيل - مثلا - : هل الإنسان ألف أو ليس بألف؟ كان الجواب دائما بالنسبة إلى كلّ واحد من العوارض بالسلب ، على أن يكون حرف السلب قبل « من حيث » لا بعد « من حيث » فنقول : « الإنسان ليس من حيث هو إنسان ألفا » ولا نقول : « الإنسان من حيث هو إنسان ليس ألفا » لاحتمال الإيجاب العدولي.

وإنّما قال : « بطرفي النقيض » إذ هناك يستحقّ الجواب قطعا باختيار أحد شقّي الترديد.

وأمّا إذا سئل بالترديد بين الإيجاب المحصّل والمعدول ، كأن يقال : « هل الإنسان ألف أو لا ألف؟ » فلا يستحقّ الجواب ، وإن أجيب ، يجاب بسلب شقّي الترديد معا ، فيقال : « لا هذا ولا ذاك ».

ولو قيل : الإنسانيّة التي في « زيد » لا تغاير التي في « عمرو » من حيث هي إنسانيّة ، لم يلزم منه أن نقول : « فإذن تلك وهي واحدة بالعدد » لأنّ قولنا : « من حيث هي إنسانيّة » أسقط جميع الاعتبارات ، وقيد الوحدة زائد ، فيجب حذفه.

المسألة الثانية : في أقسام الكلّيّ.

قال : ( وقد تؤخذ الماهيّة محذوفا عنها ما عداها بحيث لو انضمّ إليها شيء لكان

ص: 185

زائدا ، ولا يكون مقولا على ذلك المجموع ، وهو الماهيّة بشرط لا شيء ، ولا توجد إلاّ في الأذهان ).

أقول : للماهيّة باعتبار العوارض أحوال ثلاث :

الأولى : أن تؤخذ غير مشروطة لا بالمقارنة ولا بعدمها ، وهي المطلقة والماهيّة لا بشرط شيء.

الثانية : أن تؤخذ بشرط مقارنتها بشيء ، وهي المخلوطة والماهيّة بشرط شيء.

الثالثة : أن تؤخذ بشرط أن لا يقارنها شيء من العوارض ، وحينئذ تسمّى المجرّدة والماهيّة بشرط لا شيء ، فمورد القسمة حال الماهيّة بالقياس إلى عوارضها ، لا نفسها حتّى يلزم كون الشيء قسما من نفسه.

والمخلوطة والمجرّدة متباينتان مندرجتان تحت المطلقة.

والمصنّف أشار إلى الحالة الثالثة ، فأفاد أنّ الماهيّة كالحيوان - مثلا - قد تؤخذ محذوفا عنها جميع ما عداها بحيث لو انضمّ إليها شيء لكان ذلك الشيء زائدا على تلك الماهيّة ، ولا تكون الماهيّة صادقة على ذلك المجموع ، وهو الماهيّة بشرط لا شيء ، وهذا لا يوجد إلاّ في الأذهان ؛ لأنّ ما في الخارج مشخّص ، وكلّ مشخّص فليس بمجرّد عن الاعتبارات.

قال : ( و [ قد ] (1) تؤخذ لا بشرط شيء ، وهو كلّ (2) طبيعيّ موجود في الخارج هو جزء من الأشخاص وصادق على المجموع الحاصل منه وممّا يضاف إليه ).

أقول : هذا اعتبار آخر للماهيّة معقول ، وهو أن تؤخذ الماهيّة من حيث هي هي لا باعتبار التجرّد ولا باعتبار عدمه ، كما نأخذ الحيوان من حيث هو هو لا باعتبار تجرّده عن الاعتبارات ، بل مع تجويز أن يقارنه غيره ممّا يدخل في حقيقته.

وهذا هو الحيوان لا بشرط شيء ، وهو الكلّيّ الطبيعي ؛ لأنّه نفس طبائع

ص: 186


1- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد ».
2- كذا في النسخ ، ولعلّ الصحيح : « كلّيّ » بدل « كلّ ».

الأشياء وحقائقها.

وهذا الكلّيّ موجود في الخارج ، فإنّه جزء من أجزاء الشخص الموجود في الخارج ، فأجزاؤه موجودة في الخارج ، فالحيوان من حيث هو هو - الذي هو جزء من هذا الحيوان - موجود.

وهذا الحيوان جزء من الأشخاص الموجودة ، وهو صادق على الموجود المركّب منه ومن قيد الخصوصيّة المضاف إليه ، فإنّا إذا رأينا زيدا - مثلا - حصل في أذهاننا مفهوم الحيوان مثلا ، وكان هناك أمور ثلاثة : زيد - وهو شخص موجود في الخارج لا يمكن أن يوصف بالكلّيّة - والصورة العقليّة لمفهوم الحيوان ، وهي أيضا لا تتّصف بالكلّيّة ؛ لأنّها صورة جزئيّة في نفس جزئيّة ، ومفهوم الحيوان وهو غير صورته العقليّة ، لأنّه معلوم لا علم ، وصورته العقليّة علم لا معلوم ، وهو الموصوف بالكلّيّة والاشتراك بين الكثيرين بمعنى حمله عليها إيجابا.

قال : ( والكلّيّة العارضة للماهيّة يقال لها : كلّيّ منطقي وللمركّب عقليّ ، وهما ذهنيّان ، فهذه اعتبارات ثلاثة ينبغي تحصيلها في كلّ ماهيّة معقولة ).

أقول : هذان اعتباران آخران للكلّي :

أحدهما : الكلّيّة العارضة له ، وهو الكلّيّ المنطقي ؛ لأنّ المنطقي يبحث عنه من غير أن يشير إلى طبيعة من الطبائع.

والثاني (1) : العقلي ، وهو المركّب من الماهيّة ومن الكلّيّة العارضة لها ، فإنّ هذا

ص: 187


1- اعلم أنّ المفهوم - الذي هو عبارة عمّا حصل في الفهم والذهن - إن لم يكن نفس تصوّره مانعا عن وقوع الشركة بين الكثيرين يسمّى كلّيّا. والكلّي باعتبار أنّه مقول على الكثيرين يسمّى كلّيا منطقيا ، وباعتبار أنّه صورة كلّية منتزعة بانتزاع العقل من ذوات الأشخاص لا من الأعراض المكتنهة بحسب استعدادات مختلفة واعتبارات متشتّتة أو صورة عقلية مطابقة لها يسمّى كلّيا طبيعيّا. فالكلّي الطبيعي عبارة عن الماهيّة لا بشرط شيء ، وهو معروض الكلّي المنطقي ، ومجموع العارض والمعروض الذي لا يوجد إلاّ في العقل يسمّى كلّيا عقليّا. والكلّي الطبيعي باعتبار الوجود الخارجي يسمّى طبيعة وحقيقة وذاتا. ( منه رحمه اللّه ).

اعتبار آخر مغاير للأوّلين.

وهذان الكلّيّان عقليّان ، ولا وجود لهما في الخارج.

أمّا المنطقي : فلأنّه لا يتحقّق إلاّ عارضا لغيره ؛ إذ الكلّيّة من ثواني المعقولات ليست متأصّلة في الوجود ؛ إذ ليس في الخارج شيء هو كلّيّ مجرّد.

فالكلّيّة إذن عارضة لغيرها ، وكلّ معروض للكلّيّ من حيث هو معروض له فهو ذهنيّ ؛ إذ كلّ موجود في الخارج شخصيّ ، وكلّ شخصيّ ليس بكلّي ، فالكلّيّ ذهنيّ ، وكذا الكلّيّ العقلي ؛ لهذا ، فهذه اعتبارات ثلاثة في كلّ معقول ينبغي تحصيلها :

أحدها : الكلّيّ الطبيعيّ ، وهو نفس الماهيّة.

الثاني : الكلّيّ المنطقيّ ، وهو العارض لها.

الثالث : الكلّيّ العقليّ وهو المركّب منهما.

فإذا عرفت مراد المصنّف رحمه اللّه ممّا ذكره ، فاعلم أنّ العلماء اختلفوا في وجود الكلّيّ الطبيعي حقيقة ، وعدمه - بمعنى أنّ الموجود هو أشخاصه - على قولين :

الأوّل : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ موجود في الخارج ، بمعنى كونه جزءا عقليّا للذات الموجودة في الخارج بتحليل العقل للذات إلى ذلك الكلّيّ والتشخّص نظير الجنس والفصل ، لا جزءا خارجيّا موجودا بوجود على حدة وراء موجود الشخص ليلزم وجود أفراد غير متناهية ، وهو المحكيّ (1) عن جمع منهم العلاّمة التفتازاني (2).

الثاني : أنّه غير موجود ، كما عن بعض ، كالسيّد الجرجاني (3).

ص: 188


1- حكاه اللاهيجي في « شوارق الإلهام » المسألة الثالثة من الفصل الثاني.
2- انظر : « شرح المقاصد » 1 : 408 - 409.
3- حكاه اللاهيجي - أيضا - في « شوارق الإلهام » المسألة الثالثة من الفصل الثاني ؛ وما في « شرح المواقف » و « حاشية الشمسية » خلافه. راجع « شرح المواقف » 3 : 30 ؛ « شروح الشمسية » 1 : 293.

حجّة الأوّل أوّلا : أنّ الكلّيّ الطبيعي ما يحلّل العقل إليه ذات الموجود في الخارج ، وكلّ ما هو كذلك فهو موجود بوجود تلك الذات.

وثانيا : أنّ الشخص - الذي هو عبارة عن الماهيّة بشرط شيء - إن كان موجودا ، كانت الماهيّة لا بشرط شيء أيضا موجودة ، لكنّ الشخص موجود.

وثالثا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ ماهيّة للشخص الموجود في الخارج ، وكلّ ما هو كذلك فهو موجود في الخارج.

أما الصغرى : فلأنّ الصورة المجرّدة المنتزعة عن التشخّص ظلّ لما هو ماهيّة للفرد ؛ فإنّ ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو.

وأمّا الكبرى : فلبداهة استلزام وجود الشيء وجود ما به هو هو.

ورابعا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لو لم يكن موجودا في الخارج ، لما وقع من ذوات الأشخاص المتّحدة نوعا صورة متّحدة ، وتكون مشاهدتها كمشاهدة أشخاص نوع آخر.

وخامسا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لو لم يكن موجودا لما كان الشخص موجودا ؛ لأنّ التشخّص عرض لا بدّ له من محلّ يتقوّم به.

وحجّة القول الثاني أوّلا : أنّ وجود الكلّي الطبيعيّ بعينه في الأفراد مستلزم للمحال ، وهو اتّصاف الشيء الواحد بالصفات المتضادّة ونحوه.

وفيه : أنّ وجود الماهيّة المجرّدة من حيث إنّها متّحدة الوجود مع التشخّص ، والصفات للأشخاص من جهة أنّها لازمة للوجود لا الماهيّة.

وثانيا : أنّ وجود الكلّيّ الطبيعي مستلزم لعدم الاحتياج إلى شيء ، مع أنّه ما لم يتشخّص لم يوجد.

وفيه ما فيه.

وثالثا : أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لو كان موجودا في الخارج لكان العمى - الذي هو جزء هذا الأعمى - موجودا فيه ، مع أنّه ليس بموجود فيه.

ص: 189

وفيه : أنّ العمى جزء لمفهوم هذا الأعمى الذي هو عرضيّ بالنسبة إلى ذات الأعمى ، وليس ماهيّة له.

فالحقّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ ؛ لما مرّ ، بل الظاهر أنّه بديهيّ ؛ لاستلزام عدمه جواز اعتبار صدق الحمار على أفراد الإنسان.

ويشهد عليه ظاهر الآيات والأخبار ؛ لقوله تعالى : ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) (1) لكون اسم الجنس المحلّى باللام حقيقة في تعريف الماهيّة ، مع أنّ الماهيّة - بمعنى ما به الشيء هو هو - إذا لم تكن موجودة يلزم عدم وجود ذلك الشيء ، فيلزم كون الموجود معدوما.

وأيضا : إنّا إذا رأينا زيدا ، حصل في أذهاننا صورة إنسانيّة معرّاة عن اللواحق الخارجيّة ، وهي بعينها حاصلة من رؤية عمرو وخالد وغيرهما ، بخلاف ما إذا رأينا فرسا وغيره.

وكونها باعتبار أنّها صورة كالظلّ في عدم التأصّل وماهيّة كلّيّة غير قادح في وجودها الخارجي باعتبار ضمّ الأعراض المشخّصة.

فتوهّم أنّ الماهيّة صورة كلّيّة ينتزعها العقل من ذوات الأشخاص أو أعراضها المكتنفة بها بحسب استعدادات مختلفة من غير أن تكون موجودة في الخارج حكم وهميّ عن حكم العقل خارج.

المسألة الثالثة : في انقسام الماهيّة إلى البسيطة والمركّبة ومجعوليّتهما.

قال : ( والماهيّة ، منها بسيطة ، وهي ما لا جزء له ، ومنها مركّبة ، وهي ما له جزء ، وهما موجودان ضرورة ).

أقول : الماهيّة إمّا أن يكون لها جزء تتقوّم منه ومن غيره ، وإمّا أن لا تكون كذلك.

والقسم الأوّل هو المركّب ، كالإنسان المتقوّم من الحيوان والنطق.

ص: 190


1- الرحمن (55) : 14 و 15.

والثاني هو البسيط ، كالجوهر الذي لا جزء له.

وهذان القسمان موجودان بالضرورة ؛ فإنّا نعلم قطعا وجود المركّبات ، كالجسم والإنسان والفرس وغيرها من الحقائق المركّبة ، ووجود المركّب يستلزم وجود أجزائه ، والبسائط موجودة بالضرورة.

قال : ( ووصفاهما اعتباريّان متنافيان ، وقد يتضايفان فيتعاكسان في العموم والخصوص مع اعتبارهما بما مضى ).

أقول : يعني أنّ وصف البساطة والتركيب اعتباريّان عقليّان عارضان لغيرهما من الماهيّات ؛ إذ لا موجود هو بسيط أو مركّب محض ، فالبساطة والتركيب لا يعقلان إلاّ عارضين ، فهما من ثواني المعقولات ، ولو كانا موجودين لزم التسلسل.

وهما متنافيان ؛ إذ لا يصدق على شيء أنّه بسيط ومركّب ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين فيه ، وهو محال.

وقد يتضايفان - أعني يؤخذ البسيط بسيطا بالنسبة إلى مركّب مخصوص - فتكون بساطته باعتبار كونه جزءا من ذلك المركّب ، ويكون المركّب - بمعنى كون الشيء كلاّ لشيء آخر - مركّبا بالقياس إليه ، فتتحقّق الإضافة بينهما ، وهذا كالحيوان ؛ فإنّه بسيط بالنسبة إلى الإنسان على أنّه جزء ، فيكون أبسط منه ، فإذا أخذا باعتبار التضايف تعاكسا - مع اعتبارهما الأوّل أعني الحقيقة - عموما وخصوصا ؛ وذلك لأنّهما بالمعنى الحقيقي متنافيان ؛ لأنّ البسيط لا يصدق عليه أنّه مركّب بذلك المعنى.

وإذا أخذا بالمعنى الإضافي جوّزنا أن يكون البسيط مركّبا ؛ لأنّ بساطته ليست باعتبار نفسه ، بل باعتبار كونه جزءا من غيره. وإذا جاز كون البسيط بهذا المعنى مركّبا كان أعمّ من البسيط بالمعنى الأوّل ، فيكون المركّب بهذا المعنى أخصّ منه بالمعنى الأوّل ، فقد تعاكسا - أعني البسيط والمركّب - في العموم والخصوص باختلاف الاعتبار ، بمعنى أنّ النسبة بين البسيطين على عكس النسبة بين المركّبين ؛

ص: 191

فإنّ البسيط الإضافي أعمّ مطلقا من البسيط الحقيقي ، كما مرّ ، والمركّب الإضافي أخصّ مطلقا من المركّب الحقيقي ؛ لأنّ كلّ مركّب إضافيّ مركّب حقيقي من غير عكس ؛ لجواز أن لا يعتبر إضافة المركّب الحقيقي إلى جزئه.

وأورد عليه : بأنّ البسيط الحقيقي قد لا يكون بسيطا إضافيّا بأن لا يعتبر جزءا من شيء أصلا ، وأنّ النسبة بين البسيطين عموم من وجه ؛ لتصادقهما في بسيط حقيقيّ هو جزء من مركّب ، كالوحدة للعدد ، وصدق الحقيقي بدون الإضافي في بسيط حقيقيّ لا يتركّب منه شيء ، كالواجب ، وبالعكس في مركّب وقع جزءا لمركّب آخر ، كالجسم للحيوان. وبين المركّبين مساواة إن لم يعتبر في الإضافي اعتبار الإضافة ؛ لأنّ كلّ مركّب حقيقيّ لا بدّ أن يكون له جزء ، فيكون هو مركّبا إضافيّا بالقياس إلى ذلك الجزء وبالعكس ، وعموم مطلق إن اشترط ذلك ؛ لأنّ كلّ مركّب بالقياس إلى جزئه فهو مركّب حقيقيّ ، ولا ينعكس ؛ لجواز أن لا يعتبر في الحقيقيّ الإضافة إلى جزئه ، فيكون أعمّ مطلقا من الإضافي (1) وهو جيّد.

قال : ( وكما تتحقّق الحاجة في المركّب فكذا في البسيط ).

أقول : اختلفوا في أنّ الماهيّات الممكنة هل هي مجعولة بجعل جاعل أم لا؟

على أقوال ثلاثة ، واختار المصنّف رحمه اللّه أنّ كلّها مجعولة من البسيط والمركّب (2) ، فإنّ كلّ واحد منهما ممكن ، وكلّ ممكن على الإطلاق فإنّه محتاج إلى السبب ، فالحاجة ثابتة في كلّ واحد منهما ، فيكون المجعول ذات الممكن بإعطاء الوجود.

وعن بعض : أنّ الماهيّة غير مجعولة مطلقا ، مركّبة كانت أو بسيطة ، وإلاّ يلزم سلب الإنسانيّة عن نفسها عند عدم جعل الجاعل ، وسلب الشيء عن نفسه محال (3).

ص: 192


1- أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 80.
2- نسبه التفتازاني إلى المتكلّمين في « شرح المقاصد » 1 : 428.
3- نسب إلى جمهور الفلاسفة والمعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » 1 : 428 ؛ « شوارق الإلهام » المسألة الرابعة من الفصل الثاني.

وردّ : بأنّ المحال هو الإيجاب المعدول ، وأمّا سلب جميع الأشياء حتّى سلب نفسها عند عدم الجعل فلا (1).

وعن بعض الناس : احتياج المركّبة خاصّة إلى المؤثّر ؛ لأنّ علّة الحاجة هي الإمكان ، وهو أمر نسبيّ يقتضي الاثنينيّة ، فما لم تتحقّق الاثنينيّة لم تتحقّق الحاجة ، ولا اثنينيّة في البسيط فلا احتياج له (2).

والجواب : أنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة والوجود ، لا بين أجزاء الماهيّة حتّى يقتضي الاثنينيّة (3).

وقد يقال : المجعوليّة بمعنى جعل الماهيّة تلك الماهيّة منتفية عن المركّبة والبسيطة ، وبمعنى جعل الماهيّة موجودة - بكون الماهيّات في كونها موجودة مجعولة - ثابتة لهما معا (4).

والتحقيق أنّ الماهيّة - التي تعلّق بها علم الجاعل - جعلها الجاعل ماهيّة خارجيّة ، كما جعل الوجود - الذي تعلّق به علمه - وجودا خارجيّا ؛ لعدم صحّة السلب الخارجي ، ويكفي في صحّة توسّط الجعل التغاير الاعتباري ، فيتعلّق الجعل بالماهيّة المركّبة والبسيطة وبوجودهما الخارجي من جهة الإمكان ، فتتحقّق باعتباره الحاجة لكلّ واحد منهما إلى المؤثّر ، فيكون الجعل مركّبا بمعنى توسّطه بين الماهيّة ونفسها باعتبار التغاير الاعتباري ، وكذا الوجود ، بل بمعنى تعلّقه بمجموع الماهيّة والوجود أيضا ؛ لما ذكرنا ، فالقول بأنّ الجعل بسيط خطأ.

قال : ( وهما قد يقومان بأنفسهما ، وقد يفتقران إلى المحلّ ).

أقول : كلّ واحد من البسيط والمركّب قد يكون قائما بنفسه ، كالجوهر ، أو

ص: 193


1- راجع « شرح المواقف » 3 : 41 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 431 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 81.
2- « شرح المقاصد » 1 : 428 ، وقد نسبه أيضا إلى البعض.
3- راجع « شرح تجريد العقائد » : 81.
4- القائل هو الشريف الجرجاني في « شرح المواقف » 3 : 53.

الواجب تعالى ، والحيوان ؛ وقد يكون مفتقرا إلى المحلّ ، كالنقطة والسواد ، وهما ظاهران.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ المركّب الأوّل لا بدّ أن يكون أحد أجزائه قائما بنفسه والآخر قائما به كالهيولى والصورة ؛ لئلاّ يصير كالحجر الموضوع بجنب الإنسان ، والمركّب الثاني لا بدّ وأن يكون جميع أجزائه محتاجا إلى المحلّ إمّا إلى ما حلّ فيه المركّب ، أو البعض إليه والباقي إلى ذلك البعض.

قال : ( والمركّب إنّما يتركّب عمّا يتقدّمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج ، وهو (1) علّة الغنى عن السبب ، فباعتبار الذهن بيّن ، وباعتبار الخارج غنيّ ، فتحصل خواصّ ثلاث ، واحدة متعاكسة ، واثنتان أعمّ ).

أقول : المركّب هو الذي تلتئم ماهيّته عن عدّة أمور ، فبالضرورة يكون تحقّقه متوقّفا على تحقّق تلك الأمور ، والتوقّف على الغير متأخّر عنه ، فالمركّب متأخّر عن تلك الأمور.

وكلّ واحد منها موصوف بالتقدّم في ظرف الوجود ، ثمّ إذا عدم أحدها لم يلتئم بكلّ الأمور ، فلا تحصل الماهيّة ، فيكون عدم أيّ جزء كان من تلك الأمور علّة لعدم المركّب ، والعلّة متقدّمة على المعلول ، فكلّ واحد من تلك الأمور موصوف بالتقدّم في طرف العدم أيضا.

فقد ظهر أنّ جزء الحقيقة متقدّم عليها في الوجود.

ثمّ إنّ الذهن مطابق للخارج فيجب أن يحكم بالتقدّم في الوجود الذهني فقد تحقّق أنّ المركّب إنّما يتركّب عمّا يتقدّمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج.

إذا عرفت هذا ، فنقول : هذا التقدّم - الذي هو من خواصّ الجزء - يستلزم استغناء

ص: 194


1- أي التقدّم.

الجزء عن تحقّق الكلّ عن السبب الجديد ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، فالتقدّم علّة الغنى عن السبب الجديد ، لا عن مطلق السبب ؛ فإنّ فاعل الجزء هو فاعل الكلّ ، فإذا اعتبر هذا التقدّم بالنسبة إلى الذهن ، يسمّى الجزء بيّن الثبوت ، وإذا اعتبر بالنسبة إلى الخارج فهو الغنيّ عن السبب ، وهذه الخاصّة أعمّ من الخاصّة الأولى ؛ لأنّ الأولى هي الحصول المخصوص المعبّر عنه بالتقدّم ، والثانية هي الحصول المطلق ؛ ولهذا قيل : لا يلزم من كون الوصف بيّن الثبوت للشيء وكونه غنيّا عن السبب الجديد كونه جزءا ، فقد حصل لكلّ ذاتيّ على الإطلاق خواصّ ثلاث :

الأولى : وجوب تقدّمه في الوجودين والعدمين. وهذه خاصّة مساوية للجزء ، متعاكسة عليه ؛ فإنّ كلّ جزء متقدّم على الكلّ ، وكلّ ما هو متقدّم على كلّه فهو جزء ، فتأمّل.

الثانية : استغناؤه عن الواسطة في التصديق الذي هو لازم التقدّم في الوجود الذهني ، بمعنى أنّ جزم العقل بثبوت الجزء للماهيّة لا يتوقّف على ملاحظة وسط واكتساب بالبرهان ، بل يجب إثباته لها ، ويمتنع سلبه عنها بمجرّد تصوّرهما.

الثالثة : الاستغناء عن السبب في الثبوت الخارجي وحصول الجزء للمركّب الذي هو لازم للتقدّم في الوجود الخارجي من جهة امتناع رفعه عمّا هو ذاتيّ له ، وهاتان الخاصّتان إضافيّتان أعمّ منه ؛ لمشاركته بعض اللوازم فيهما.

المسألة الرابعة : في أحكام الجزء.

قال : ( ثمّ التركيب قد يكون اعتباريّا ، وقد يكون حقيقيّا ، ولا بدّ من حاجة ما لبعض الأجزاء إلى البعض ، ولا يمكن شمولها باعتبار واحد ).

أقول : كلّ مركّب على الإطلاق فإنّه يتركّب عن جزءين فصاعدا. والتركيب قد يكون اعتباريّا بأن يكون هناك عدّة أمور يعتبرها العقل أمرا واحدا من غير أن تحقّق حقيقة واحدة ، كالعشرة من الآحاد ، والعسكر من الأفراد ، ولا يلزم فيه

ص: 195

احتياج لبعض الأجزاء إلى البعض إلاّ بمحض اعتبار العقل في احتياج الهيئة الاجتماعيّة إلى الأجزاء المادّيّة مع أنّه لا تحقّق لها في الخارج. وقد يكون حقيقيّا بأن يحصل من اجتماع موجودات متعدّدة حقيقة واحدة مختصّة باللوازم والآثار الخارجيّة ، وفي هذا المركّب لا بدّ أن يكون لأحد الأجزاء حاجة إلى جزء آخر مغاير له ؛ فإنّه لو استغنى كلّ جزء عن باقي الأجزاء لم يحصل منها حقيقة واحدة ، كما لا يحصل من الإنسان الموضوع فوق الحجر حقيقة متّحدة ، فلا بدّ في كلّ مركّب حقيقي على الإطلاق من حاجة ما لبعض أجزائه إلى بعض.

ثمّ المحتاج قد يكون هو الجزء الصوري لا غير ، كالهيئة الاجتماعيّة في العسكر ، والبلدة في البيوت ، والعشر في العدد ، والمعجون عن اجتماع الأدوية. وقد تشمل الحاجة الجزءين لا باعتبار واحد حتّى يلزم الدور ، بل باعتبارين ، كالمادّة المحتاجة في وجودها إلى الصورة ، والصورة في تشخّصها إلى المادّة.

قال : ( وهي قد تتميّز في الخارج وقد تتميّز في الذهن ).

أقول : أجزاء الماهيّة لا بدّ أن تكون متمايزة ، والتميّز قد يكون خارجيّا بأن يكون لكلّ منها وجود مستقلّ في الخارج ، كامتياز النفس والبدن اللذين هما جزء الإنسان. وقد يكون ذهنيّا ، كامتياز جنس السواد عن فصله ؛ فإنّه لو كان خارجيّا ، لم يخل إمّا أن يكون كلّ واحد منهما متقوّما أو لا.

والأوّل باطل ؛ لأنّه إن ماثل السواد استحال جعله متقوّما ؛ لعدم الأولويّة ، ولزوم كون الشيء مقوّما لنفسه. وإن خالفه فإذا انضاف الفصل إلى الجنس ، فإمّا أن لا تحدث هيئة أخرى ، فيكون المحسوس هو اللونيّة المطلقة ، فالسواديّة المحسوسة هي اللونيّة المطلقة ، هذا خلف. أو تحدث هيئة أخرى ، فلا يكون الإحساس بمحسوس واحد ، بل بمحسوسين ، هذا خلف.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّه إن لم تحصل عند الاجتماع هيئة أخرى ، كان السواد غير محسوس. وإذا حدث حادث هو السواد وهو معلول الجزءين وخارج عنهما ،

ص: 196

فيكون التركيب في قابل (1) السواد أو فاعله لا فيه ، هذا خلف.

قال : ( وإذا اعتبر عروض العموم ومضايفه [ وعدم عروضهما (2) ] ، فقد تتباين وقد تتداخل ).

أقول : المراد أنّه إذا اعتبر عروض العموم ومضايفه - أعني الخصوص - للأجزاء ، تحدث قسمة تلك الأجزاء إلى المتباينة - التي لا يكون بينها عموم وخصوص لا مطلقا ولا من وجه - وإلى المتداخلة التي بينها عموم وخصوص ؛ وذلك لأنّ أجزاء الماهيّة إمّا أن يكون بعضها أعمّ من البعض ، فتسمّى المتداخلة ، أو لا يكون ، فتسمّى المتباينة بناء على امتناع تركّب الماهيّة الحقيقيّة من أمرين متساويين ، وإلاّ يلزم إدراج المتساوية في المتباينة ، وفيه بعد ، ولهذا أدرجها بعض (3) في المتداخلة بجعلها عبارة عمّا يكون بينها تصادق بالمساواة والعموم مطلقا أو من وجه ، فتكون القسمة إلى المتصادقة والمتباينة ، ثمّ يقسّم المتصادقة إلى المتداخلة والمتساوية.

والمتداخلة قد يكون العامّ فيها عامّا مطلقا إمّا متقوّما بالخاصّ وموصوفا به كالجنس ومضايفه الفصل ، أو صفة له كالموجود المقول على المقولات العشر ، أو مقوّما للخاصّ كالنوع الأخير المقوّم لخواصّه المطلقة. وقد يكون مضافا ومن وجه كالحيوان والأبيض.

والمباينة ما تتركّب عن الشيء وإحدى علله أو معلولاته أو غيرهما إمّا بعضها عدميّ كالأوّل ، أو كلّها وجوديّة حقيقيّة متشابهة كالآحاد في العدد ، أو مختلفة إمّا معقولة كالمادّة والصورة والعفّة والحكمة في العدالة ، أو محسوسة كاللون والشكل في الخلقة والسواد والبياض في البلقة ، أو بعضها إضافيّ كالسرير المعتبر في تحقّقه نوع إضافة ، أو كلّها كذلك كالأقرب والأبعد ، فهذه أصناف المركّبات.

ص: 197


1- في الأصل : « مقابل » بدل « قابل » والصحيح ما أثبتناه.
2- لم ترد هذه العبارة في « تجريد الاعتقاد » المطبوع ولا في « كشف المراد ».
3- هو التفتازاني في « شرح المقاصد » 1 : 425.

قال : ( وقد تؤخذ موادّ وقد تؤخذ محمولة ).

أقول : أجزاء الماهيّة قد ينظر إليها باعتبار كونها موادّ ، فتكون أجزاء حقيقيّة ، ولا تحمل على المركّب حمل هو هو ؛ لاستحالة كون الكلّ هو الجزء ، وقد ينظر إليها باعتبار كونها محمولة صادقة على المركّب.

مثاله : الحيوان قد يؤخذ مع الناطق ليكون هو الإنسان نفسه ، وقد يؤخذ بشرط التجرّد والخلوّ عن الناطق وهو المادّة ، على ما تقدّم تحقيقه ، فيستحيل حمله على المجموع المركّب منه ومن غيره ، وإذا أخذ من حيث هو هو مع قطع النظر عن القيدين كان محمولا.

قال : ( فتعرض لها الجنسيّة والفصليّة ).

أقول : إذا اعتبرنا حمل الجزء على الماهيّة حصلت الجنسيّة والفصليّة ؛ لأنّ الجنس هو الجزء المشترك ، والفصل هو الجزء المميّز ، والجزء المحمول يكون أحدهما قطعا ، فإذا أخذ الجزء محمولا حصلت الجنسيّة - أعني مقوليّة ذلك الجزء على كثيرين - أو الفصليّة - أعني تمييز الجزء - فجزء الماهيّة إمّا جنس أو فصل ، والجنس هو الكلّيّ المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو؟

والفصل هو المقول على الشيء في جواب أيّ شيء هو في جوهره؟

قال : ( وجعلاهما واحد ).

أقول : يعني به جعل الجنس والفصل ، ولم يكونا مذكورين صريحا ، بل أعاد الضمير إليهما ؛ لكونهما في حكم المصرّح بهما.

وإنّما كان جعلاهما واحدا ؛ لأنّ الفاعل لم يفعل حيوانا مطلقا ، ثمّ غيّره بانضمام الفصل إليه ؛ فإنّ المطلق لا وجود له ، بل جعل الحيوان هو بعينه جعل الناطق.

واعتبر هذا في اللونيّة ؛ فإنّه لو كان لها وجود مستقلّ ، فهي هيئة إمّا في السواد ، فيوجد السواد ، لا بها ، وهذا خلف ، أو في محلّه ، فالسواد عرضان : لون وفصله ، لا واحد ، هذا أيضا خلف ، فجعله لونا هو بعينه جعله سوادا.

ص: 198

قال : ( والجنس منهما (1) كالمادّة وهو معلول ، والفصل كالصورة وهو علّة ).

أقول : الجنس إذا نسب مع فصله إلى المادّة والصورة ، وجد الجنس أشبه بالمادّة من الفصل في أنّ الشيء المركّب حاصل معها بالقوّة ، والفصل أشبه بالصورة منه في أنّ الشيء المركّب حاصل معها بالفعل.

وهذا الجنس هو المعلول ، والفصل هو العلّة ، بمعنى أنّ الطبيعة الجنسيّة إذا حصلت في العقل ، كانت أمرا مبهما متردّدا بين أشياء متكثّرة هو عين كلّ واحد منها بحسب الخارج ، وكانت غير منطبقة على تمام حقيقة واحدة منها ، فإذا انضمّ إليها الفصل تعيّنت وزال عنها الإبهام والتردّد ، وانطبقت على تمام حقيقة واحدة منها ، فالفصل علّة لصفات الجنس في الذهن ، وهي التعيّن وزوال الإبهام والتحصّل ، أعني الانطباق على تمام الماهيّة بديهة ، فيصدق عليه أنّه علّة للجنس من حيث هو موصوف بتلك الصفات ، لا أنّه علّة لوجوده في الذهن ، وإلاّ لم يعقل الجنس إلاّ مع الفصل أو لوجوده في الخارج ، وإلاّ لتغايرا في الوجود ، وامتنع الحمل بالمواطاة.

قال : ( وما لا جنس له لا فصل له ).

أقول : الفصل هو الجزء المميّز للشيء عمّا يشاركه في الجنس على ما تقدّم ، فإذا لم يكن للشيء جنس لم يكن له فصل ، هذا هو التحقيق في هذا المقام.

وقد ذهب غير المحقّقين (2) إلى أنّ الفصل هو المميّز في الوجود ، وجوّزوا تركيب الشيء من أمرين متساويين وشيء من الأمرين ليس جنسا ، فيكون فصلا يتميّز به المركّب عمّا يشاركه في الوجود.

وهذا خطأ ؛ لأنّ الأشياء المختلفة لا تفتقر في تمايزها عمّا يشاركها في الوجود

ص: 199


1- في « كشف المراد » : « هاهنا » بدل « منهما » ولعلّه هو الأصحّ.
2- ذهب إليه الفخر الرازي ومن سبقه كما في « شرح الإشارات » 1 : 86 ، والكاتبي في « الشمسيّة » كما في « شروح الشمسية » 1 : 266 - 270 ، ونسبه اللاهيجي إلى جمهور المتأخّرين في « شوارق الإلهام » المبحث الثالث بعد المسألة الخامسة من الفصل الثاني.

وغيره من العوارض إلى أمر مغاير لذواتها ، فإنّ كلّ واحد من الجزءين المتساويين كما يتمايز بنفسه عمّا يشاركه في الوجود ، كذلك المركّب منهما.

ولو افتقر كلّ مشارك في الوجود أو في غيره من الأعراض إلى فصل لزم التسلسل ، ولم يجعل كلّ منهما فصلا للمركّب ، ولم يكن المركّب فصلا لكلّ منهما ، لتساوي نسبته ونسبتهما إلى الموجد.

قال : ( وكلّ فصل تامّ فهو واحد ).

أقول : الفصل ، منه ما هو تامّ وهو كمال الجزء المميّز عن تمام المشاركات وهو الفصل القريب ، ومنه غير تامّ وهو الجزء الذاتي المميّز عن بعض المشاركات وهو الفصل البعيد. والأوّل لا يكون إلاّ واحدا ؛ لأنّه لو تعدّد لزم امتياز المركّب بكلّ واحد منهما ، فيستغني عن الآخر في التميّز ، فلا يكون فصلا ، ولأنّ الفصل علّة للحصّة فيلزم تعدّد العلل على المعلول الواحد ، وهو محال. أمّا الفصل الناقص - وهو جزء الفصل - فإنّه يكون متعدّدا ، كقابل الأبعاد والنامي.

قال : ( ولا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لماهيّة واحدة ).

أقول : الجنس للماهيّة قد يكون واحدا كالجسم الذي له جنس واحد هو الجوهر.

وقد يكون كثيرا كالحيوان الذي له أجناس كثيرة ، لكن هذه الكثرة لا يمكن أن تكون في مرتبة واحدة بأن لا يكون أحدهما جنسا للآخر ، وكان كلّ منهما جنسا عاليا مثلا ، بل يجب أن تكون مترتّبة في العموم والخصوص ، فلا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لنوع واحد ؛ لأنّ فصلهما إن كان واحدا كان جعل الجنسين جعلا واحدا ، وهو محال (1) ، وإن تغاير لم يكن النوع نوعا واحدا بل نوعين ، هذا خلف.

قال : ( فلا تركيب عقليّ إلاّ منهما ).

أقول : التركيب قد يكون عقليّا ، وقد يكون خارجيّا كتركيب العشرة من الآحاد.

ص: 200


1- لأنّ الجنس الذي يكون تمام المشترك مثلا إذا حصل بالفصل ، يستحيل حصول تمام مشترك آخر ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل. ( منه قدس سره ).

والتركيب العقليّ لا يكون إلاّ من الجنس والفصل ؛ لأنّ الجزء إمّا أن يكون مختصّا بالمركّب أو مشتركا.

والأوّل هو الفصل القريب.

والثاني إمّا أن يكون تمام المشترك أو جزءا منه ، والأوّل هو الجنس ، والثاني إمّا أن يكون مساويا أو أعمّ منه ، والأوّل يلزم منه كونه فصلا للجنس ، فيكون فصلا مطلقا ، والثاني إمّا أن يكون تمام المشترك بين تمام المشترك وما لا يصدق عليه تمام المشترك أو لا يكون ، والأوّل جنس ، والثاني فصل جنس ، وإلاّ لزم التسلسل وهو محال ، فقد ثبت أنّ كلّ جزء محمول إمّا أن يكون جنسا أو فصلا ، وهو المطلوب.

قال : ( فيجب تناهيهما ).

أقول : الجنس والفصل قد يترتّبان في العموم والخصوص ، كالحيوانيّة والجسميّة ، وقد لا يترتّبان ، والمترتّبة يجب تناهيهما في الطرفين ؛ لأنّه لو لا تتناهى الأجناس لم تتناه الفصول التي هي العلل ، فيلزم وجود علل ومعلولات لا نهاية لها ، وهو محال.

قال : ( وقد يكون منهما عقليّ وطبيعيّ ومنطقيّ كنجسهما ).

أقول : يعني أنّ من الأجناس ما هو عقليّ وهو الحيوانيّة مع قيد الجنسيّة ، ومنها ما هو طبيعيّ وهو الحيوانيّة من حيث هي هي لا باعتبار الجنسيّة ولا باعتبار عدمها ، ومنها ما هو منطقيّ وهي الجنسيّة العارضة للحيوان.

وهذه الثلاثة أيضا قد تحصل في الفصل ؛ وذلك كما أنّ جنسهما - يعني جنس الجنس وجنس الفصل وهو الكلّيّ من حيث هو كلّي - قد انقسم إلى هذه الثلاثة ، كذلك هذان - أعني الجنس والفصل - ينقسمان إليهما.

قال : ( ومنهما عوال وسوافل ومتوسّطات ، وفصل كلّ جنس يكون في مرتبته ).

أقول : الجنس قد يكون عاليا ، وهو الجنس الذي ليس فوقه جنس آخر كالجوهر ، فيسمّى جنس الأجناس وقد يكون سافلا ، وهو الجنس الأخير الذي

ص: 201

لاجنس تحته كالحيوان. وقد يكون متوسّطا ، وهو الذي فوقه جنس وتحته جنس كالجسم.

والفصل أيضا قد يكون عاليا ، وهو فصل الجنس العالي كقابل الأبعاد. وقد يكون سافلا ، وهو فصل النوع السّافل كالنّاطق. وقد يكون متوسّطا ، وهو فصل الجنس المتوسّط كالنامي. فظهر أنّ فصل كلّ جنس يكون في مرتبته بمعنى أنّ فصل الجنس العالي يسمّى فصلا عاليا ، وفصل الجنس السافل يسمّى فصلا سافلا ، وفصل الجنس المتوسّط يسمّى فصلا متوسّطا.

قال : ( ومن الجنس ما هو مفرد ، وهو الذي لا جنس له وليس تحته جنس ، وهما إضافيّان ، وقد يجتمعان مع التقابل ).

أقول : من أقسام الجنس الجنس المفرد ، وهو الذي لا جنس فوقه ولا تحته ، ونذكر في مثاله العقل بشرط أن لا يكون الجوهر جنسا له ، وأن يكون صدقه على أفراده صدق الجنس على أنواعه.

إذا عرفت هذا ، فالجنس والفصل إضافيّان ، وكذا باقي المقولات الخمس - أعني النوع والخاصّة والعرض العامّ - فإنّ الجنس ليس جنسا لكلّ شيء بل لنوعه ، وكذا الفصل وسائرها.

وقد يجتمع الجنس والفصل في شيء واحد مع تقابلهما ؛ لأنّ الجنس مشترك ، والفصل خاصّ ، وذلك كالإدراك الذي هو جنس السمع والبصر وباقي الحواسّ ، وفصل الحيوان ، بل قد تجتمع الخمسة في شيء واحد لا باعتبار واحد ؛ لتقابلهما ؛ فإنّ الجنس لشيء يستحيل أن يكون فصلا لذلك الشيء أو نوعا له أو خاصّة أو عرضا بالقياس إليه.

قال : ( ولا يمكن أخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل ).

أقول : لا يمكن أن يؤخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل ، فيكون الجنس جنسا له كما هو جنس للنوع ، وإلاّ لكان مقوّما للفصل ، فلا يكون الفصل محصّلا له.

ص: 202

قال : ( وإذا نسبا إلى ما يضافان إليه كان الجنس أعمّ والفصل مساويا ).

أقول : يعني إذا نسب الجنس إلى النوع كان الجنس أعمّ من المضاف إليه - أعني النوع - لوجوب الشركة بين الكثيرين المختلفين في الحقائق في الجنس دون النوع.

وأمّا الفصل فإنّه يكون مساويا للنوع الذي يضاف الفصل إليه بأنّه فصل له ، ولا يجوز أن يكون أعمّ من النوع ؛ لاستحالة استفادة التمييز من الأعمّ.

المسألة الخامسة : في التشخّص.

قال : ( والتشخّص من الأمور الاعتباريّة ، فإذا نظر إليه من حيث هو أمر عقلي وجد مشاركا لغيره من التشخّصات فيه ، ولا يتسلسل بل ينقطع بانقطاع الاعتبار ).

أقول : الماهيّة النوعيّة من حيث هي هي لا يمنع نفس تصوّرها من الشركة ، بل يمكن للعقل فرض اشتراكها بحملها على كثيرين.

وأمّا الشخص فنفس تصوّره مانع من الشركة بلا ريبة ، بمعنى أنّ مفهوم زيد ليس مفهوم الإنسان وحده ، وإلاّ لصدق على عمرو أنّه زيد ، كما يصدق عليه أنّه إنسان ، فإذن لا بدّ أن يتحقّق في الشخص أمر زائد على الماهيّة ، ويقال له : التشخّص ، وهو من ثواني المعقولات ومن الأمور الاعتباريّة لا من العينيّة ، وإلاّ لكان له تشخّص ، وننقل الكلام إليه ، وحينئذ لزم التسلسل.

ثمّ إذا نظر إليه من حيث هو أمر عقليّ كان مشاركا لغيره من التشخّصات ، ولا يتسلسل ذلك بل ينقطع بانقطاع الاعتبار.

وهذا كأنّه جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ التشخّص من الأمور العينيّة ولزم التسلسل ؛ لأنّ أفراد التشخّصات قد اشتركت في مطلق التشخّص ، فيحتاج إلى مخصّص آخر مغاير لما وقع به الاشتراك ، ولا يجوز أن يكون عدميّا ؛ لإفادة الامتياز ، ولأنّه يلزم أن تكون الماهيّة المتشخّصة عدميّة ؛ لعدم أحد جزأيها.

والجواب : أنّه أمر اعتباريّ عقليّ ينقطع بانقطاع الاعتبار ومثل ذلك ما يقال من

ص: 203

أنّ التشخّص جزء الشخص الموجود في الخارج ، وجزء الموجود في الخارج موجود فيه بالضرورة ، وأنّ الطبيعة النوعيّة لا تتكثّر بنفسها بل تكثّرها بالتشخّص ، فلا بدّ من وجوده ونحو ذلك ؛ وذلك لأنّ جزء الموجود في الخارج هو العوارض المشخّصة الموجبة لحصول التشخّص والتكثّر عند الاعتبار وهي موجودة ، والتشخّص اعتباريّ كالوحدة ، فلا حاجة إلى أن يقال : إنّ التشخّص بذاته لا بتشخّص زائد على ذاته حتّى يلزم التسلسل. واشتراكه مع سائر التشخّصات في مفهوم التشخّص اشتراك في أمر عرضيّ.

قال : ( وأمّا ما به التشخّص فقد يكون نفس الماهيّة فلا يتكثّر ، وقد يستند إلى المادّة المتشخّصة بالأعراض الخاصّة الحالّة فيها ).

أقول : لمّا حقّق أنّ التشخّص من الأمور الاعتباريّة لا العينيّة ، شرع في البحث عن سبب التشخّص.

واعلم أنّه قد يكون نفس الماهيّة المشخّصة ، وقد يكون غيرها.

أمّا الأوّل : فلا يمكن أن يتكثّر نوعه في الخارج فلا يوجد منه البتّة إلاّ شخص واحد ؛ لأنّ الماهيّة علّة لذلك التشخّص ، فلو وجدت مع غيره لزم تحصيل الحاصل وانفكّت العلّة عن المعلول ، هذا خلف. وقد مثّل بالواجب تعالى.

وأمّا الثاني : فلا يجوز أن يكون الغير المشخّص فيه أمرا منفصلا عن الشخص ؛ لأنّ نسبته إلى كلّ الأفراد والتشخّصات على السواء ، ولا حالاّ فيه ؛ لأنّ الحالّ في الشخص لافتقاره إليه يكون متأخّرا عنه ، فلو كان علّة لتشخّصه المتقدّم عليه ؛ لكونه مقوّما له وكون نسبته إلى الشخص نسبة الفصل إلى النوع كان متقدّما عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ، فتعيّن أن يكون محلاّ ، فلا بدّ له من مادّة قابلة له وللتكثّر ، وتلك المادّة تتشخّص بانضمام أعراض خاصّة إليها تحلّ فيها مثل الكمّ المعيّن ، والوضع المعيّن وباعتبار تشخّص تلك المادّة تتشخّص هذه الماهيّة الحالّة فيها.

ص: 204

قال : ( ولا يحصل التشخّص بانضمام كلّيّ عقليّ إلى مثله ).

أقول : إذا قيّد الكلّي العقليّ بالكلّي العقليّ لا تحصل الجزئيّة ، فإنّا إذا قلنا لزيد : إنّه إنسان ، ففيه شركة ذهنيّة وخارجيّة تبعيّة. فإذا قلنا : العالم الزاهد ابن فلان الذي يتكلّم يوم كذا في موضع كذا ، لم يزل احتمال الشركة الذهنيّة ؛ لاحتمال فرض الاشتراك ، فلا يكون جزئيّا.

نعم ، هو كلّيّ ينحصر في شخص خارجي ، فيكون كالخاصّة المركّبة ، كالماشي على الرّجلين المستقيم القامة ، والطائر الولود.

وإنّما قيّد بالعقلي ، لأنّه ليس في الخارج شركة ولا كلّيّة ، إذ الكلّيّ ما يحصل في العقل والذهن ، كما أنّ الجزئي ما يحصل في الحسّ والخارج.

قال : ( والتميّز يغاير التشخّص ، ويجوز امتياز كلّ من الشيئين بالآخر ).

أقول : التشخّص للشيء إنّما هو في نفسه ، وامتيازه إنّما هو بالقياس إلى ما يشاركه في معنى كلّي بحيث لو لم يشاركه غيره ، لما احتاج إلى مميّز زائد على حقيقته مع أنّه متشخّص ، فالتميّز والتشخّص متغايران.

ويجوز أن يمتاز كلّ واحد من الشيئين بصاحبه لا بامتيازه ، فلا دور. ولا يجوز أن يتشخّص كلّ من الشيئين بذات الآخر ، وإلاّ لزم إفادة تقييد الكلّيّ بالكلّي التشخّص ، وقد مرّ فساده.

قال : ( والتشخّص قد لا يعتبر مشاركته ، والكلّيّ قد يكون إضافيّا فيتميّز ، والمتشخّص المندرج تحت غيره متميّز ).

أقول : لمّا ذكر أنّ التشخّص والتميّز متغايران ، بيّن هنا عدم العموم المطلق بينهما ؛ وذلك لأنّ كلّ واحد منهما يصدق بدون الآخر ، ويصدقان معا على شيء ثالث ، وكلّ شيئين هذا شأنهما فبينهما عموم من وجه.

أمّا صدق التشخّص بدون التميّز ففي التشخّص الذي لا تعتبر مشاركته مع غيره في مفهوم من المفهومات ، وإن كان لا بدّ له من المشاركة في نفس الأمر ولو في

ص: 205

الأعراض العامّة.

وأمّا صدق التميّز بدون التشخّص ففي الكلّيّ إذا كان جزئيّا إضافيّا يندرج تحت كلّيّ آخر ، فإنّه يكون ممتازا عن غيره وليس بمشخّص.

وأمّا صدقهما على واحد ففي التشخّص المندرج تحت غيره إذا اعتبر اندراجه ، فإنّه متشخّص ومتميّز.

المسألة السادسة : في البحث عن الوحدة والكثرة.

قال : ( والتشخّص يغاير الوحدة التي هي عبارة عن عدم الانقسام ).

أقول : الوحدة عبارة عن كون المعقول غير قابل للقسمة من حيث هو واحد ، وهو مغاير للتشخّص ؛ لأنّ الوحدة قد تصدق على الكلّيّ الطبيعي غير المتشخّص وعلى الكثرة نفسها من دون صدق التشخّص عليهما ، فكلّ متشخّص يصدق عليه أنّه واحد من غير عكس كلّيّ.

قال : ( وهي مغايرة للوجود ؛ لصدقه على الكثير من حيث هو كثير ، بخلاف الوحدة ، وتساوقه ).

أقول : قد ظنّ قوم أنّ الوجود والوحدة عبارتان عن شيء واحد ؛ لصدقهما على جميع الأشياء (1).

وهو خطأ ؛ فإنّه لا يلزم من الملازمة الاتّحاد.

ثمّ الدليل على تغايرهما أنّ الكثير من حيث إنّه كثير يصدق عليه أنّه موجود وليس بواحد ، فالموجود غير الواحد من الشكل الثالث.

نعم ، الوحدة تساوق الوجود وتلازمه ، فكلّ موجود فهو واحد. والكثرة يصدق عليها الواحد لا من حيث هي كثرة ، على معنى أنّ الوحدة تصدق على العارض - أعني الكثرة - لا على ما عرضت له الكثرة ، وكذلك كلّ واحد فهو موجود إمّا في

ص: 206


1- نسبه في « شرح المواقف » 4 : 21 و « شرح المقاصد » 2 : 28 إلى البعض ، ونقله اللاهيجي عن الفارابي كما في « شوارق الإلهام » المسألة السابعة من الفصل الثاني.

الأعيان أو في الأذهان ، فهما متلازمان.

المسألة السابعة : في أنّ الوحدة غنيّة عن التعريف.

قال : ( ولا يمكن تعريفها إلاّ باعتبار اللفظ ).

أقول : الوحدة والكثرة من المتصوّرات البديهيّة فلا يحتاج في تصوّرها إلى اكتساب ، فلا يمكن تعريفها إلاّ باعتبار اللفظ ، بمعنى أنّ تبدّل لفظا بلفظ آخر أوضح منه ، لا أنّه تعريف معنوي.

قال : ( وهي والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كلّ منهما أعرف من صاحبه بالاقتسام ).

أقول : الوحدة والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كلّ منهما أعرف من صاحبه بالاقتسام ؛ فإنّ الوحدة أعرف عند العقل ، والكثرة أعرف عند الخيال ، لأنّ الخيال يدرك الكثرة أوّلا ، ثمّ العقل ينزع منها أمرا واحدا أعمّ. بمعنى أنّ الصور الكلّيّة المرتسمة في النفس منتزعة عن صور جزئيّاتها المرتسمة في الآلات ؛ فإنّ النفس تدرك أوّلا بآلاتها جزئيّات متكثّرة ترتسم صورها في تلك الآلات ، ثمّ ينتزع منها بحذف مشخّصاتها صورة واحدة كلّيّة فيها ، والعقل يدرك أعمّ الأمور أوّلا - وهو الواحد - ثمّ يأخذ بعد ذلك في التفصيل.

فقد ظهر أنّ الكثرة والوحدة متساويتان في كون كلّ واحدة منهما أعرف من صاحبتها لكن بالانقسام ؛ فإنّ الكثرة أعرف عند الخيال ، والوحدة أعرف عند العقل ، فقد اقتسم العقل والخيال وصف الأعرفيّة لهما ، فإذا حاولنا تعريف الوحدة عند الخيال عرّفناها بالكثرة. وإذا حاولنا تعريف الكثرة عند العقل عرّفناها بالوحدة.

المسألة الثامنة : في أنّ الوحدة ليست ثابتة في الأعيان.

قال : ( وليست الوحدة أمرا عينيّا ، بل هي من ثواني المعقولات ، وكذا الكثرة ).

ص: 207

أقول : الوحدة إن كانت سلبيّة لم تكن سلب أيّ شيء كان ، بل سلب مقابلها ، أعني الكثرة ، فالكثرة إن كانت عدما كانت الوحدة عدما للعدم فتكون ثبوتيّة ، وإن كانت وجوديّة كان مجموع العدمات أمرا وجوديّا وهو محال. وإن كانت ثبوتيّة فإن كانت ثابتة في الخارج لزم التسلسل ، وإن كانت ثابتة في الذهن فهو المطلوب.

فإذن الوحدة أمر عقليّ اعتباريّ يحصل في العقل عند فرض عدم انقسام الملحوق ، وهي من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى ، وكذا الكثرة ؛ لأنّه لا يمكن أن يتصوّر وحدة أو كثرة قائمة بنفسها ، بل إنّما تتصوّر عارضة لمعقول آخر.

المسألة التاسعة : في التقابل بين الوحدة والكثرة.

قال : ( وتقابلهما لإضافة العلّيّة والمعلوليّة والمكيليّة والمكياليّة ، لا لتقابل جوهريّ بينهما ).

أقول : إنّ الوحدة وإن كانت تعرض لجميع الأشياء حتّى الكثرة نفسها ، لكنّها لا تجامع الكثرة في موضوع واحد بالقياس إلى شيء واحد ؛ فإنّ موضوع الكثرة من حيث صدق الكثرة عليه لا يمكن صدق الوحدة عليه ، فبينهما تقابل قطعا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّك ستعلم أنّ أصناف التقابل أربعة : إمّا تقابل السلب والإيجاب ، أو العدم والملكة ، أو التضايف ، أو التضادّ. وليس بين الوحدة والكثرة تقابل جوهري - أي ذاتي - يستند إلى ذاتيهما بوجه من الوجوه الأربعة ؛ لأنّ الوحدة مقوّمة للكثرة ومبدأ لها وهما ثبوتيّتان ، فليستا بسلب وإيجاب ولا عدم وملكة ولا متضايفين ؛ لأنّ المقوّم متقدّم والمضايف مصاحب ، ولا متضادّين ؛ لامتناع تقوّم أحد الضدّين بالآخر ، فلم يبق بينهما إلاّ تقابل عرضي ، وهو باعتبار عروض العلّيّة والمعلوليّة والمكياليّة والمكيليّة العارضتين لهما ؛ فإنّ الوحدة علّة مقوّمة للكثرة ومكيال لها ؛ لأنّ الوحدة تفنيها إذا صدقت مرّة بعد أخرى وهو معنى الكيل ، والكثرة

ص: 208

معلولة ومكيلة ، فبينهما هذا النوع من التضايف ، فكان التقابل عرضيّا لا ذاتيّا.

المسألة العاشرة : في أقسام الوحدة.

قال : ( ثمّ معروضهما (1) قد يكون واحدا فله جهتان (2) بالضرورة ، فجهة الوحدة إن لم تقوّم (3) جهة الكثرة ولا تعرض لها فالوحدة عرضيّة ، وإن عرضت (4) كانت موضوعات أو محمولات عارضة لموضوع واحد (5) أو بالعكس. (6) وإن قوّمت فوحدة جنسيّة أو نوعيّة أو فصليّة. وقد تتغاير ، فموضوع مجرّد عدم الانقسام لا غير (7) وحدة (8) بقول مطلق ، وإلاّ نقطة إن كان له مفهوم زائد ذو وضع ، ومفارق إن لم يكن ذا وضع ، هذا إن لم يقبل القسمة ، وإلاّ فهو مقدار أو جسم بسيط أو مركّب ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الوحدة والكثرة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى.

إذا عرفت هذا ، فموضوعهما - أعني المعروض - إمّا أن يكون واحدا أو كثيرا ، فإن كان واحدا كانت جهة وحدته غير جهة كثرته بالضرورة ؛ لاستحالة كون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد واحدا وكثيرا. وإذا ثبت أنّه ذو جهتين ، فإمّا أن تكون جهة الوحدة مقوّمة لجهة الكثرة بكونها ذاتيّة لها ، أولا بأن لم تكن ذاتيّة لها. فإن لم تكن مقوّمة ، فإمّا أن تكون عارضة لها بكونها خارجة محمولة كما في وحدة الكاتب

ص: 209


1- أي الوحدة والكثرة. ( منه رحمه اللّه ).
2- كما في أفراد الإنسان فإنّها كثيرة من حيث ذاتها وواحدة من حيث إنّها إنسان. ( منه رحمه اللّه ).
3- لو لم تكن ذاتية لهما. ( منه رحمه اللّه ).
4- جهة الوحدة لجهة الكثرة كانت جهة الكثرة. ( منه رحمه اللّه ).
5- أي لم تكن عارضة محمولة عليهما. ( منه رحمه اللّه ).
6- أي موضوعات معروضة لمحمول واحد ، ففي الكلام لفّ ونشر مشوّس. ( منه رحمه اللّه ).
7- أي لا يكون له مفهوم سوى عدم الانقسام. ( منه رحمه اللّه ).
8- أي وحدة الوحدة من غير أن يقيّد بكونها وحدة النقطة مثلا. ( منه رحمه اللّه ).

والضاحك من حيث إنّهما إنسان ؛ فإنّ الإنسان - الذي هو جهة الوحدة - عارض وخارج محمول ، أو لا تكون عارضة بكونها خارجة غير محمولة. فإن لم تكن عارضة فهي الوحدة بالعرض ، كما تقول : نسبة الملك إلى المدينة كنسبة الرّبّان إلى السفينة من حيث التدبير ، وكذلك حال النفس إلى البدن كحال الملك إلى البلد ؛ فإنّه ليس هناك نسبة واحدة ولا حالة واحدة ، بل هما نسبتان وحالتان ، فالوحدة فيهما عرضيّة فإنّ المدبّر جهة الوحدة بين الشيئين ، فاتّصافهما بالوحدة من حيث التدبير إنّما هو بالعرض وبتبعيّة اتّصاف النفس والملك بالوحدة من حيث التدبير على طريق وصف الشيء بوصف ما هو متعلّق به.

وإن كانت جهة الوحدة عارضة للكثرة ، فأقسامه ثلاثة :

أحدها : أن يكون بعضها موضوعا وبعضها محمولا ، كما نقول : « الإنسان هو الكاتب » فإنّ جهة الوحدة هنا الإنسانيّة ، وهي موضوع.

الثاني : أن يكون محمولات عرضت لموضوع واحد ، كقولنا : « الكاتب هو الضاحك » فإنّ جهة الوحدة ما هو موضوع لهما ، أعني الإنسان.

الثالث : أن يكون موضوعات لمحمول واحد ، كقولنا : « القطن هو الثلج » فإنّ جهة الوحدة - وهو الأبيض - صفة لهما.

فأمّا إن كانت جهة الوحدة مقوّمة لجهة الكثرة بكونها ذاتيّة لها ، فهي جنسيّة إن كانت مقولة على أمور كثيرة مختلفة بالحقائق في جواب ما هو في جوهره كوحدة الإنسان والفرس من حيث إنّهما حيوان ، أو نوعيّة إن كانت جهة الوحدة نوعا لجهة الكثرة كوحدة زيد وعمرو من حيث إنّهما إنسان ، أو فصليّة إن كانت فصلا لها كوحدة زيد وعمرو من حيث إنّهما ناطق.

وإن كان موضوعهما كثيرا - أعني يكون موضوع الوحدة غير معروض للكثرة وإن لم يتصوّر عدم كون معروض الكثرة معروض الوحدة ، لأنّ كلّ كثير فهو واحد من جهة ما - فإمّا أن يكون ذلك الموضوع هو موضوع مجرّد عدم الانقسام لا غير ،

ص: 210

أعني أنّ ذلك الشخص شيء غير منقسم ، وليس مفهوم وراء ذلك ، وهو الوحدة نفسها ؛ فإنّ مفهوم الوحدة واحد من حيث الذات ، كثير من حيث الأفراد ، فهي وحدة مطلقة غير مقيّدة بكونها وحدة النقطة مثلا.

وفي بعض النسخ « وحدة شخصيّة » بمعنى أنّها هي شخص من أشخاص مفهوم الوحدة ، فقوله : « موضوع مجرّد عدم الانقسام » معناه موضوع هو مجرّد عدم الانقسام على سبيل الإضافة البيانيّة.

وأورد عليه : بأنّ مفهوم عدم الانقسام لا يكون هو الوحدة الشخصيّة بحال (1) ، فتأمّل.

أو يكون له مفهوم آخر ، فإن كان ذا وضع ، فهو النقطة ، وإلاّ فهو العقل والنفس المفارقان عن المادّة.

هذا إن لم يقبل القسمة ، وإن كان الموضوع للوحدة قابلا للقسمة ، فإمّا أن تكون أجزاؤه مساوية لكلّه أو لا ، والأوّل : هو المقدار - أعني العرض والطول والعمق - إن كان قبوله للانقسام لذاته ، وإلاّ فهو الجسم البسيط كالنار. والثاني : الأجسام المركّبة المنقسمة إلى أجسام مختلفة الحقائق ، كأشخاص الإنسان ونحوها من المواليد الثلاثة الحاصلة من الأمّهات الأربعة بتأثير الآباء السبعة على وجه.

وأورد عليه : بأنّ الكلام في معروض الوحدة الذي لا يكون معروضا للكثرة ، والجسم المركّب واحد من حيث الذات ، كثير من حيث الأجزاء (2) ، فتأمّل.

قال : ( وبعض هذه أولى من بعض بالوحدة ).

أقول : الوحدة من المعاني المقولة على ما تحتها بالتشكيك ؛ فإنّ بعض أفرادها أولى باسمها من بعض ؛ فإنّ الوحدة الحقيقيّة أولى بالوحدة من العرضية ، والواحد بالشخص أولى به من الواحد بالنوع ، وهي أولى به من الواحد من الجنس والواحدة

ص: 211


1- أورده الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 102.
2- أورده الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 102.

من أقسام الواحد أولى به من غيرها ، وهذا ظاهر.

قال : ( والهو هو على هذا النحو ).

أقول : الهو هو عبارة عن الحمل الإيجابي بالمواطأة.

والظاهر أنّ المراد أنّ الحمل الإيجابي بالمواطأة كالوحدة في كونها مقولة بالتشكيك ، فبعض أفراد الحمل أولى من البعض في الحمليّة ، أو في الانقسام إلى المقوّم (1) والعارض وغيرهما ممّا مرّ.

وكيف كان فلا فائدة مهمّة في بيان هذا النحو.

قال : ( والوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه ).

أقول : الوحدة في الوصف العرضي الكيفي تسمّى مشابهة ، والكمّيّ مساواة ، والوضعيّ موازاة ، والإضافي مناسبة ، وفي الأطراف مطابقة ، وفي الخاصّة مشاكلة ، وكذا سائر الأعراض.

والوحدة في الأمر الذاتي لها اسم آخر ؛ فإنّ الوحدة في النوع تسمّى مماثلة ، وفي الجنس تسمّى مجانسة ، وفي الصنف مشاركة ، وفي الوصف مشابهة ، فلأقسامها أسماء متغايرة بتغاير ما تنسب إليه.

وقد تنقسم الوحدة إلى الجنسية والنوعية والصنفية والوصفية والشخصية ، وكذا الكثرة على وجه. ومثل ذلك الانقسام إلى وحدة الموضوع والمحمول والمكان ونحوها.

قال : ( والاتّحاد محال ، فالهوهو يستدعي جهتي تغاير واتّحاد على ما سلف ).

أقول : اتّحاد الاثنين غير معقول ؛ لأنّهما بعد الاتّحاد إن بقيا فهما اثنان ، وإن عدما فلا اتّحاد ، وإن عدم أحدهما دون الآخر فلا اتّحاد ؛ لاستحالة اتّحاد المعدوم بالموجود.

ص: 212


1- في « ج » : « المفهوم ».

وليس قولنا : « هو هو » اتّحادا مطلقا ، بل معناه أنّ الشيئين يتّحدان من وجه ويتغايران من وجه ، بمعنى أنّ الشيء الذي يقال له أحدهما يقال له الآخر ، بمعنى أنّ هذا المصداق الذي يصدق عليه أحد المفهومين يصدق عليه المفهوم الآخر أيضا ، فالتغاير في المفهوم والاتّحاد في المصداق.

قال : ( والوحدة ليست بعدد ، بل هي مبدأ العدد المتقوّم بها لا غير ).

أقول : هاهنا بحثان :

الأوّل : أنّ الوحدة مبدأ العدد ؛ فإنّ العدد إنّما يحصل منها ومن فرض غيرها من نوعها ، فإنّك إذا عقلت وحدة مع وحدة عقلت اثنينيّة.

ونبّه بهذا أيضا على أنّها ليست عددا ؛ بناء على أنّ العدد نصف مجموع حاشيتيه ، فحيث لا حاشية للواحد في جانب النقيصة ، لم يصدق على وحدته تعريف العدد ، بخلاف الاثنين ؛ فإنّه نصف حاصل الجمع من واحد - وهو أحد حاشيتيه - ومن الثلاثة ، وهي الحاشية الأخرى وهكذا غيره من الأعداد.

الثاني : أنّ العدد إنّما يتقوّم بالوحدات لا غير ، فليس العشر متقوّما بخمسة وخمسة ، ولا ستّة وأربعة ، ولا سبعة وثلاثة ، ولا ثمانية واثنين ، بل بالواحد عشر مرّات ، وكذلك كلّ عدد ، فإنّ قوامه من الوحدات التي تبلغ جملتها ذلك النوع ، ويكون كلّ واحدة من تلك الوحدات جزءا من ماهيّته ، فإنّه ليس تركّب العشرة من الخمسين أولى من تركّبها من الستّة والأربعة وغيرها من أنواع الأعداد التي تحتها ، ولا يمكن أن يكون الكلّ مقوّما بحصول الاكتفاء بنوع واحد من التركيب.

قال : ( وإذا أضيف إليها مثلها حصلت الاثنينيّة ، وهي نوع من العدد ، ثمّ تحصل أنواع لا تتناهى بتزايد واحد واحد مختلفة (1) الحقائق هي أنواع العدد ).

أقول : إذا أضيفت إلى الوحدة وحدة أخرى حصلت الاثنينيّة ، وهي نوع من العدد.

وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الاثنين ليس من العدد ؛ لأنّه الزوج الأوّل ،

ص: 213


1- صفة « أنواع ».

فلا يكون نوعا من العدد كالواحد الذي هو الفرد الأوّل (1).

وهو خطأ ؛ لأنّ خواصّ العدد موجودة فيه كما ذكرنا ، وتمثيله بالواحد لا يفيد اليقين ولا الظنّ ، فإذا انضمّ إليهما واحد آخر ، حصلت الثلاثة ، وهي نوع آخر من العدد ، فإذا انضمّ إليها واحد آخر ، حصلت الأربعة ، وهي نوع آخر مخالف للأوّل ، وعلى هذا كلّما زاد واحد حصل نوع آخر من العدد.

وهذه الأعداد أنواع مختلفة في الحقيقة ؛ لاختلافها في لوازمها ، كالصمم والمنطقيّة وأشباههما ، فلمّا كان الزائد غير متناه بل كلّ من له العقل يمكنه أن يزيد عليها واحدا ، فيحصل عدد آخر مخالف لما تقدّمه بالنوع ، كانت أنواع العدد غير متناهية.

قال : ( وكلّ واحد منها أمر اعتباريّ يحكم به العقل على الحقائق إذا انضمّ بعضها إلى بعض في العقل انضماما بحسبه ).

أقول : كلّ واحد من أنواع العدد أمر اعتباريّ ليس بثابت في الأعيان ، بل في الأذهان يحكم به العقل على الحقائق ، كأفراد الإنسان أو الفرس أو الحجر أو غيرها إذا انضمّ بعض تلك الأفراد إلى البعض ، سواء اتّحدت في الماهيّة أو اختلفت ، بل يوجد مجرّد الانضمام في العقل انضماما بحسب ذلك النوع من العدد ، فإنّه إذا انضمّ واحد إلى واحد حصل اثنان ، ولو انضمّت حقيقة مع حقيقة مع ثالثة حصلت الثلاثة ، وهكذا.

وإنّما لم يكن العدد ثابتا في الخارج ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان عرضا قائما بالمحلّ ؛ لاستحالة جوهريّته واستقلاله في القيام بنفسه ؛ لأنّه لا يعقل إلاّ عارضا لغيره ، فذلك الغير إمّا أن تكون له وحدة باعتبارها يحلّ فيه [ العرض ] (2) الواحد أو لا تكون.

ص: 214


1- نسبه الشيخ الرئيس إلى البعض ، انظر : الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهيّات « الشفاء » : 122.
2- ساقطة من الأصل ، أضفناها من « كشف المراد » : 105.

فإن كان الأوّل ، فتلك الوحدة إن وجدت في الآحاد لزم قيام العرض بالمحال المتعدّدة ، وإن قام بكلّ واحد وحدة على حدته لم يكن لذلك المجموع وحدة باعتبارها يكون محلاّ للعدد ، وقد فرض خلافه.

وإن كان الثاني ، فالعدد إمّا أن يكون موجودا في كلّ واحد من الأجزاء ، أو في أحدها.

وعلى التقديرين يكون الواحد عددا ، هذا خلف.

قال : ( والوحدة قد تعرض لذاتها ومقابلها وتنقطع بانقطاع الاعتبار ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الوحدة والكثرة من ثواني المعقولات ، فالوحدة تعرض لكلّ شيء يفرض العقل فيه عدم الانقسام حتّى أنّها تعرض لنفس الوحدة ، فيقال : وحدة واحدة.

وتعرض الوحدة أيضا لمقابلتها ، فيقال : عشرة واحدة ، ولكن تنقطع بانقطاع الاعتبار.

قال : ( وقد تعرض لها شركة فتتخصّص بالمشهوري ، وكذا المقابل ).

أقول : الذي يفهم من هذا أنّ الوحدة قد تعرض لها الشركة مع غيرها من الوحدات في مفهوم عدم الانقسام ، أعني مفهوم مطلق الوحدة ؛ وذلك إذا أخذت الوحدات متخصّصة بموضوعاتها ؛ فإنّ وحدة زيد تشارك وحدة عمرو في مفهوم كونها وحدة ، وحينئذ تتخصّص كلّ وحدة عن الأخرى بما تضاف إليه ؛ فإنّ وحدة زيد تتخصّص عن وحدة عمرو بإضافتها إلى زيد. وزيد الذي هو معروض الإضافة هو المضاف المشهوري ؛ لأنّه واحد بالوحدة ، والوحدة مضاف حقيقي ؛ فإنّ الوحدة وحدة للواحد ، والواحد واحد بالوحدة ، وذات الواحد مضاف مشهوري ، أعني ذات زيد وعمرو وغيرهما.

فإذا أخذت الوحدة مضافة إلى زيد تخصّصت وامتازت عن وحدة عمرو ممّا أضيفت إليه الذي يسمّى بالمشهوري ؛ لكونه معروض الإضافة ، وكذلك مقابل

ص: 215

الوحدة - أعني الكثرة - فإنّ عشريّة الأناسي مساوية لعشرية الأفراس في مفهوم العشريّة والكثرة ، وإنّما تتمايزان بالمضاف إليه ، أعني الأناسي والأفراس ، وهما المضافان المشهوريّان.

وقد يمكن أن يفهم من هذا الكلام أنّ مجرّد الوحدة - أعني نفس عدم الانقسام - أمر مشترك بين كلّ ما يطلق عليه الواحد ، فليس واحدا حقيقيّا ، أمّا الذات - التي يصدق عليها أنّها واحدة ، أعني المشهوري - فإنّها ممتازة عن غيرها ، فهي أحقّ باسم الواحد ، فيتخصّص المشهوري بالواحد الحقيقي ، وكذا البحث في الكثرة.

والأوّل أنسب.

قال : ( وتضاف إلى موضوعها باعتبارين ، وإلى مقابلها بثالث ، وكذا المقابل ).

أقول : المراد أنّ الوحدة تعرض لها إضافات ثلاثة :

الأولى باعتبار أنّها وحدة لمعروضها.

الثانية باعتبار حلولها فيه.

الثالثة بالقياس إلى الكثرة ، وهي أنّها مقابلة للكثرة.

وكذا المقابل وهو الكثرة ؛ فإنّ مثل هذه النسب الثلاث تعرض لمقابل الوحدة ، أعني الكثرة.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن التقابل.

قال : ( ويعرض له ما يستحيل عروضه لها من التقابل ).

أقول : يعني به أنّ المقابل للوحدة - أعني الكثرة - يعرض له ما يستحيل عروضه للوحدة ، وهو التقابل ؛ فإنّ التقابل لا يمكن أن يعرض للواحد ، وإنّما يعرض للكثير من حيث هو كثير ؛ فإنّ مفهوم التقابل هو عدم الاجتماع في شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة.

قال : ( المتنوّع إلى الأنواع الأربعة ، أعني تقابل السلب والإيجاب وهو راجع إلى

ص: 216

القول والعقد ؛ والعدم والملكة وهو الأوّل مأخوذا باعتبار خصوصيّة ما ؛ وتقابل الضدّين وهما وجوديّان ، ويتعاكس هو وما قبله في التحقيق (1) والمشهوريّة ؛ وتقابل التضايف ).

أقول : ذكر الحكماء (2) أنّ أصناف التقابل أربعة :

الأوّل : تقابل العدم والملكة.

الثاني : تقابل الإيجاب والسلب.

الثالث : تقابل التضادّ.

الرابع : تقابل التضايف.

بيان ذلك : أنّ الاثنين إن اندرجا تحت نوع واحد وكانا متشاركين في تمام الماهيّة ، فهما متماثلان ، وإلاّ فهما متخالفان ، سواء اندرجا تحت جنس حتّى يكونا متجانسين أم لا ، كما في المتشابهين وغيرهما.

والمتخالفان إمّا متقابلان أو غير متقابلين.

والمتقابلان هما المتخالفان اللّذان يمتنع اجتماعهما حلولا في محلّ واحد في زمان واحد من جهة واحدة ، فخرج بقيد التخالف المثلان وإن امتنع اجتماعهما ، وبقيد امتناع الاجتماع مثل السواد والحلاوة ممّا يمكن اجتماعهما. وسائر القيود لبيان أجزاء الماهيّة وإدخال أفراد المحدود.

وقد يعتبر الموضوع بدل المحلّ ، فينحصر التضادّ مثلا في الأعراض.

والأوّل أولى ؛ لثبوت التضادّ بين الجواهر أيضا ، كالصور النوعيّة للعناصر ، كما في الماء والنار.

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ المتقابلين إمّا أن يكون أحدهما وجوديّا والآخر

ص: 217


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : « التحقّق » وهو المرافق لما في « تجريد الاعتقاد » : 129.
2- انظر : الفصل الأوّل من المقالة السابعة من الفن الثاني من منطق « الشفاء » 1 : 241 وما بعدها ، و « البصائر النصيريّة » : 36 ، و « المباحث المشرقيّة » 1 : 189.

عدميّا ، أو يكونا وجوديّين ، ولا يمكن أن يكونا عدميّين ؛ لعدم التقابل بين الأمور العدميّة ؛ إذ لا تمايز في الأعدام إلاّ بتمايز المضاف إليه وله حكم نفسه.

وعلى الأوّل فإمّا أن يعتبر في العدمي محلّ قابل للوجودي أم لا ، والثاني هو الأوّل ، والأوّل هو الثاني.

وعلى الثاني إمّا أن يتوقّف تعقّل كلّ منهما على تعقّل الآخر أم لا ، والأوّل هو الرابع ، والثاني هو الثالث.

وقد يشترط في الضدّين أن يكون بينهما غاية الخلاف والبعد ، كالسواد والبياض.

وبعبارة أخرى : المتقابلان إمّا أن يوجدا باعتبار القول والعقد ، أو بحسب الحقائق أنفسها.

فعلى الأوّل كان تقابل السلب والإيجاب ، كقولنا : « زيد كاتب » « زيد ليس بكاتب » لأنّ الإيجاب والسلب أمران عقليّان واردان على النسبة التي هي عقليّة ، فإذا حصلا في العقل كان كلّ منهما عقدا ، أي اعتقادا قلبيّا ، وإذا عبّر عنهما بعبارة كان كلّ من العبارتين قولا.

وعن الشفاء أنّ معنى الإيجاب وجود أيّ معنى كان ، سواء كان باعتبار وجوده لنفسه أو وجوده لغيره. ومعنى السلب لا وجود أيّ معنى كان ، سواء كان لا وجوده في نفسه أو لا وجوده لغيره (1).

وعلى هذا لا يرد أنّ مثل مفهومي البياض واللابياض إذا لم تعتبر معهما نسبة لا يتصوّر فيهما سلب ولا إيجاب ، فلم يكن فيهما تقابل الإيجاب والسلب مع ظهور عدم ما عداه من الأقسام ، فيلزم وجود قسم خامس ، فافهم.

وعلى الثاني إمّا أن يكون أحدهما عدميّا أو يكونا وجوديّين ، والأوّل هو تقابل العدم والملكة ، و [ والثاني ] هو تقابل السلب والإيجاب.

ص: 218


1- ورد نحوه في « الشفاء » المنطق 1 : 34 من قسم العبارة.

لكنّ الفرق بينهما أنّ السلب والإيجاب في الأوّل مأخوذ باعتبار مطلق ، والثاني مأخوذ باعتبار شيء زائد ، وهو النسبة إلى المحلّ القابل.

فإن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتّصافه بالأمر العدمي ، فهما العدم والملكة المشهوران ، كالكوسجيّة ؛ فإنّها عدم اللحية عمّن من شأنه أن يكون ملتحيا في ذلك الوقت ، فلا تصحّ في الصبيّ.

وإن كان أعمّ من أن يكون قبوله في ذلك الوقت أو مطلقا أو بحسب شخصه أو نوعه كالأعمى للأكمه ، أو جنسه القريب كالأعمى للعقرب ، أو البعيد كعدم الحركة الإرادية للجبل فإنّه للجسميّة ، فهما العدم والملكة الحقيقيّان ، فالعدم والملكة الحقيقيّان أعمّ من المشهوريّين.

وتقابل التضادّ على عكس ذلك ؛ فإنّ التضادّ المشهوري أعمّ ، والحقيقيّ أخصّ ، وهذا معنى قوله : « ويتعاكس هو وما قبله في التحقيق والمشهوريّة ».

قال : ( ويندرج تحته الجنس باعتبار عارض ).

أقول : لمّا بيّن انقسام التقابل إلى الأنواع الأربعة حتّى صار كالجنس لها ، وكان هنا مظنّة أن يقال : إنّ التضايف يصدق على التقابل وعلى غيره من المفهومات كالتجاور والتماسّ وغيرهما ، فكيف يكون قسما منه!؟ أشار إلى جوابه بأنّ التضايف قد يعرض له مفهوم التقابل ، فهو من حيث إنّه معروض لحصّة من التقابل أخصّ ، فيكون التقابل أعمّ وكالجنس باعتبار أنّه عارض ، ولكن مفهوم التضايف من حيث هو هو أعمّ من مفهوم التقابل ، فالتقابل - الذي هو كالجنس - باعتبار عارض يندرج تحت أحد أنواعه ، أعني التضايف المذكور أخيرا قبل هذا الكلام ؛ ولهذا يرجع الضمير إليه.

بيان ذلك أنّ المقابل لا يعقل إلاّ مقيسا إلى غيره ، ولكن باعتبار عروض التقابل ؛ فإنّ المقابل لا من هذه الحيثيّة قد لا يكون مضايفا ؛ فإنّ ذات السواد وذات البياض لا باعتبار التقابل ليسا من المتضايفين ، فإذا أخذ السواد مقابلا للبياض ، كان نوعا

ص: 219

من المضاف المشهوري.

فقد ظهر أنّ الجنس - أعني المقابل من حيث هو مقابل - يندرج تحت المضايف باعتبار عروض التقابل ، ولا استبعاد في أن يكون الشيء أخصّ أو مساويا من نوعه باعتبار عارض يعرض له.

قال : ( ومقوليّته عليها بالتشكيك وأشدّها فيه الثالث ).

أقول : التقابل لا يقال على أصنافه الأربعة بالسويّة بل بالتشكيك ؛ فإنّ تقابل الضدّين أشدّ في التقابل من تقابل السلب والإيجاب ؛ وذلك لأنّ ثبوت الضدّ يستلزم سلب الآخر ، وهو أخصّ منه ، دون العكس ، فهو أشدّ في العناد للآخر من سلبه.

وفي بعض النسخ : « السلب » مكان « الثالث » ولهذا قيل : إنّ تقابل السلب والإيجاب أشدّ من تقابل التضادّ ؛ لأنّ الخير له عقدان : الأوّل أنّه خير ، والثاني أنّه ليس بشرّ ، وعقد أنّه خير ذاتيّ وأنّه ليس بشرّ عرضيّ ، واعتقاد ضدّه بأنّه شرّ يرفع العرضيّ ، وسلبه بأنّه ليس بخير يرفع الذاتيّ ، فتكون منافاة السلب أشدّ (1).

وفيه : ما فيه.

وقيل : معنى كلام المصنّف أنّ أشدّ الأنواع في التشكيك هو التضادّ ؛ لظهور قبول القوّة والضعف فيه (2).

المسألة الثانية عشرة : في أحكام التناقض ونحوه.

قال : ( ويقال للأوّل : التناقض ، ويتحقّق في القضايا بشرائط ثمانية ).

أقول : تقابل السلب والإيجاب إن أخذ في المفردات ، كقولنا : « زيد » « لا زيد » فهو تقابل العدم والملكة.

وإن أخذ في القضايا ، سمّي تناقضا ، كقولنا : « زيد كاتب » « زيد ليس بكاتب ».

ص: 220


1- انظر : « شرح عقائد التجريد » : 109.
2- نسبه القوشجي في « شرح عقائد التجريد » : 109 إلى القيل أيضا.

وقد يقال : تقابل الإيجاب والسلب يسمّى بالتناقض ، سواء كان بين المفردات أو بين القضايا. ولكن لمّا لم يتعلّق غرض يعتدّ به بالتناقض بين المفردات ، خصّصوا نظرهم بالتناقض بين القضايا (1).

وتحقّق التناقض في المفردات لا يتوقّف على شرط ؛ فإنّ كلّ مفهوم دخل عليه حرف السلب يكون نقيضا للآخر من غير اشتراط بشرط ، بخلاف التناقض في القضايا ؛ فإنّه إنّما يتحقّق بثمانية شرائط :

الأوّل : وحدة الموضوع فيهما ، فلو قلنا : « زيد كاتب » « عمرو ليس بكاتب » لم يتناقضا وصدقا معا.

الثاني : وحدة المحمول ، فقولنا : « زيد كاتب » « زيد ليس بنجّار » لم يتناقضا ، وصدقا معا.

الثالث : وحدة الزمان ، فلو قلنا : « زيد موجود الآن » « زيد ليس بموجود أمس » أمكن صدقهما.

الرابع : وحدة المكان ، فلو قلنا : « زيد موجود في الدار » « زيد ليس بموجود في السوق » أمكن صدقهما.

الخامس : وحدة الإضافة ، فلو قلنا : « زيد أب لخالد » « زيد ليس بأب لعمرو » أمكن صدقهما.

السادس : وحدة الكلّ أو الجزء ، فلو قلنا : « الزنجي أسود » أي بعضه ، « الزنجي ليس بأسود » أي ليس كلّه ، كذلك أمكن صدقهما.

السابع : وحدة الشرط ، فلو قلنا : « الأسود قابض للبصر » أي بشرط السواد ، و « الأسود ليس بقابض للبصر » أي لا بشرط السواد ، أمكن صدقهما.

ص: 221


1- نسبه القوشجي في « شرح عقائد التجريد » إلى بعض المحقّقين ، والظاهر أنّه الشريف الجرجاني في حاشيته على الشمسية. انظر في ذلك « شروح الشمسية » 2 :1. 118.

الثامن : وحدة القوّة أو الفعل ، فلو قلنا : « الخمر مسكر بالقوّة » « الخمر ليس بمسكر بالفعل » لم يتناقضا ، وصدقا معا.

قال : ( هذا في القضايا الشخصيّة ، أمّا المحصورة فبشرط تاسع وهو الاختلاف فيه ؛ فإنّ الكلّيّة ضدّ ، والجزئيّتان صادقتان ).

أقول : اعلم أنّ القضيّة إمّا شخصيّة أو مسوّرة أو مهملة ؛ وذلك لأنّ الموضوع إن كان شخصيّا كزيد ، سمّيت القضيّة شخصيّة ، وإن كان كلّيّا صدق على كثيرين فإمّا أن يتعرّض للكلّيّة والجزئيّة فيه أو لا. والأوّل هو القضيّة المسوّرة ، كقولنا : « كلّ إنسان حيوان » و « بعض الحيوان إنسان » و « لا شيء من الإنسان بحجر » و « بعض الإنسان ليس بكاتب ». والثاني هو المهملة ، كقولنا : « الإنسان ضاحك » وهذه في قوّة الجزئيّة ، فالبحث عن الجزئية يغني عن البحث عنها.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الشرائط الثمانيّة كافية في القضيّة الشخصيّة. فأمّا المحصورة فلا بدّ فيها من شرط تاسع وهو الاختلاف بالكمّ ؛ فإنّ الكلّيّتين متضادّتان لا تصدقان ، ويمكن كذبهما ، كقولنا : « كلّ حيوان إنسان » و « لا شيء من الحيوان بإنسان ». والجزئيّتان قد تصدقان ، كقولنا : « بعض الحيوان إنسان » و « بعض الحيوان ليس بإنسان ».

أمّا الكلّيّة والجزئيّة فلا يمكن صدقهما البتّة ولا كذبهما ، كقولنا : « كلّ إنسان حيوان » و « بعض الإنسان ليس بحيوان » فهما المتناقضان.

قال : ( وفي الموجّهات عاشر ، وهو الاختلاف في الجهة أيضا بحيث لا يمكن اجتماعهما صدقا وكذبا ).

أقول : المراد أنّه لا بدّ في القضايا الموجّهة من الاختلاف بالجهة بحيث لا يمكن صدقهما معا ولا كذبهما.

والمراد بالجهة كيفيّة النسبة من الضرورة والدوام والإمكان والإطلاق ؛ فإنّهما لو لم يختلفا في الجهة ، أمكن صدقهما أو كذبهما كالممكنتين ؛ فإنّهما تصدقان مع

ص: 222

الشرائط التسعة ، كقولنا : « بعض الإنسان كاتب بالإمكان » و « لا شيء من الإنسان بكاتب بالإمكان » وكالضروريّتين ؛ فإنّهما تكذبان ، كقولنا : « بعض الإنسان كاتب بالضرورة » و « لا شيء من الإنسان بكاتب بالضرورة » وليس مطلق الاختلاف في الجهة كافيا في التناقض ما لم يكن اختلافا لا يمكن اجتماعهما معه ؛ فإنّ الممكنة والمطلقة المتخالفتين كمّا وكيفا لا تتناقضان.

وكذا المطلقة والدائمة في المادّة المذكورة.

ولكن لا يخفى أنّه إذا اعتبر في قضيّة جهة من الجهات كالضرورة والدوام والإمكان والإطلاق فلا بدّ أن يعتبر في نقيضها رفع تلك الجهة الشخصيّة ، فعلى هذا يتحقّق التناقض فيما ذكر إذا لوحظ في النفي الجهة الشخصيّة التي توجّه إليها الإثبات.

فالأولى أن يقال : إنّه يشترط في القضايا الموجّهة اتّحاد الجهة في حصول التناقض ، بمعنى أنّه إذا توجّه النفي - بعد تحقّق الوحدات الثمان - إلى ما توجّه إليه الإثبات ، لا يتحقّق التناقض إلاّ بوحدة الجهة الشخصيّة حقيقة أو حكما ، كما إذا كان الإثبات على وجه الضرورة المستلزمة للإمكان ، وكان النفي متوجّها إلى الإمكان ونحو ذلك.

ويشهد على ذلك أنّ العلماء يحكمون بانتفاء التناقض باختلاف الجهة التقييديّة الراجعة إلى اختلاف جهة النسبة في نحو الحكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة وعصيان المصلّي ، بواسطة أنّ الصلاة من جهة الماهيّة مطلوبة ومن جهة التشخّص غصب مبغوضة ؛ فإنّ ذلك راجع إلى القول بأنّ الصلاة مطلوبة بالضرورة بالذات ما دامت صلاة أو في وقت معيّن أو في وقت ما على سبيل الضروريّة المطلقة أو الضروريّة الوقتيّة أو الضروريّة المنتشرة ، وإلى القول بأنّ الصلاة مبغوضة ومحرّمة ما دامت مع التشخّص الغصبي بالضرورة أو بالدوام على سبيل المشروطة العامّة أو العرفيّة العامّة ، فبسبب اختلاف الجهة ارتفع التناقض.

ص: 223

فلا بدّ من اشتراط وحدة الجهة الشخصيّة في تحقّق التناقض مضافا إلى الوحدات الثمان حتّى تكون الشرائط تسع وحدات مع الاختلاف في الكمّ والكيف.

قال : ( وإذا قيّد العدم بالملكة في القضايا سمّيت معدولة ، وهي تقابل الوجوديّة صدقا لا كذبا ؛ لإمكان عدم الموضوع ، فيصدق مقابلاهما ).

أقول : لمّا ذكر حكما من أحكام التناقض ، شرع في بيان حكم من أحكام تقابل العدم والملكة ، وهو أنّ العدم إذا اعتبر في القضايا ، سمّيت القضيّة معدولة ، وهي ما تأخّر فيها حرف السلب عن الربط ، كقولنا : « زيد هو ليس بكاتب ». ومثله ما كان محمولها مفهوما عدميّا وعبّر عنه بلفظ محصّل ، كقولنا : « زيد أعمى » أو « جاهل ».

وهي تقابل الوجوديّة التي هي عبارة عن الموجبة المحصّلة صدقا كقولنا : « زيد كاتب » و « زيد لا كاتب » ؛ لامتناع صدق الكتابة وعدمها على موضوع واحد في وقت واحد من جهة واحدة ، لا كذبا ، فيجوز كذبهما معا عند عدم الموضوع ؛ إذ الموجبة إنّما تصدق عند وجود الموضوع ، وإذا كذبتا حينئذ صدق مقابل كلّ واحدة منها ، فيصدق مقابل الموجبة المعدولة ، وهي السالبة المعدولة ، كقولنا : « زيد ليس بلا كاتب » مقابل الموجبة ، وهي السالبة المحصّلة ، كقولنا : « زيد ليس بكاتب » ؛ لإمكان صدق السلب في الصورتين عن الموضوع المعدوم.

قال : ( وقد يستلزم الموضوع أحد الضدّين بعينه أو لا بعينه ، أو لا يستلزم شيئا منهما عند الخلوّ أو الاتّصاف بالوسط ).

أقول : هذه أحكام التضادّ ، وهي أربعة :

الأوّل : أنّ أحد الضدّين بعينه قد يكون لازما للموضوع كبياض الثلج ، وقد لا يكون لازما ، فإمّا أن يكون أحدهما لا بعينه لازما للموضوع كالصحّة والمرض للبدن ، أو لا يكون. وعلى الثاني فإمّا أن يخلو عنهما معا كالفلك الخالي من الحرارة والبرودة ، والشفّاف الخالي عن السواد والبياض ، أو يتّصف بالوسط كالفاتر المتوسّط بين الحارّ والبارد.

ص: 224

قال : ( ولا يعقل للواحد ضدّان ).

أقول : هذا حكم ثان للتضادّ ، وهو أنّه لا يعرض بالنسبة إلى شيء واحد إلاّ تضادّ الواحد ، فلا يضادّ الواحد الاثنين ؛ لأنّ الواحد إذا ضادّ اثنين فإمّا بجهة واحدة أو بجهتين ، فإن كان بجهة واحدة فهو المطلوب ، وهو أنّ ضدّ الواحد واحد ، وهو ذلك القدر المشترك بينهما. وإن كان بجهتين كان ذلك وجوها من التضادّ لا وجها واحدا وليس البحث فيه.

قال : ( وهو منفيّ عن الأجناس ).

أقول : هذا حكم ثالث للتضادّ ، وهو أنّه منفيّ عن الأجناس فلا تضادّ بينها ؛ للاستقراء المفيد لانحصار التضادّ بين الأنواع الأخيرة المندرجة تحت جنس واحد قريب كالسواد والبياض المندرجين تحت اللون الذي هو جنسهما القريب.

ولا ينتقض بالخير والشرّ ؛ لأنّهما ليسا جنسين لما تحتهما ؛ لأنّا قد نعقل ما يطلق عليه الخير والشرّ مع الذهول عن كونه خيرا وشرّا ، ولا ضدّين من حيث ذاتيهما ، بل تقابلهما من حيث الكماليّة والنقص.

قال : ( ومشروط في الأنواع باتّحاد الجنس ).

أقول : هذا حكم رابع للتضادّ العارض للأنواع ، وهو اندراج تلك الأنواع تحت جنس واحد أخير كالسواد والبياض المذكورين.

ولا ينتقض بالشجاعة والتهوّر ؛ لأنّ تقابلهما من حيث الفضيلة والرذيلة العارضتين ؛ لمثل ما مرّ.

قال : ( وجعل الجنس والفصل واحدا ).

أقول : الجنس والفصل في الخارج شيء واحد ؛ فإنّه لا يعقل حيوانيّة مطلقة موجودة بانفرادها انضمّت إليها الناطقيّة فصارت إنسانا ، بل الحيوانيّة في الخارج هي الناطقيّة ، فوجودهما واحد. وهذه قاعدة قد مضى تقريرها.

والذي يخطر لنا أنّ الغرض بذكرها هاهنا الجواب عن إشكال يورد على

ص: 225

اشتراط دخول الضدّين تحت جنس واحد.

وتقريره : أنّ كلّ واحد من الضدّين قد اشتمل على جنس وفصل ، والجنس لا يقع به تضادّ ، لأنّه واحد فيهما ، فإن وقع تضادّ فإنّما يقع بالفصول ، لكنّ الفصل لا يجب اندراجه تحت جنس واحد ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلا تضادّ حقيقيّ في النوعين ، بل في الفصلين اللّذين لا يجب دخولهما تحت جنس واحد ، فلا وجه لاشتراط اندراج الأنواع المتضادّة تحت جنس واحد.

وتقرير الجواب : أنّ الفصل والجنس واحد في الأعيان ، وإنّما يتميّزان في العقل ، فجعلهما واحدا هو جعل النوع ، فكان التضادّ عارضا في الحقيقة للأنواع لا للفصول الاعتباريّة ؛ لأنّ التضادّ إنّما هو في الوجود لا في الأمور الاعتباريّة.

فهذا ما فهمته من هذا الكلام. ولعلّ غيري يفهم منه غير ذلك.

والإيراد بأنّ التضادّ كثيرا ما يكون بين الأمور الاعتباريّة كمفهومي الجنسيّة والفصليّة ، فإنّهما متضادّان مع أنّهما من ثواني المعقولات. ولو سلّم أنّ التضادّ لا يكون إلاّ بين الأمور الموجودة في الأعيان ، فلا شكّ أنّ وجود النوع في الأعيان إنّما هو بمعنى أنّ في الأعيان أمرا يطابقه ، وكلّ من الجنس والفصل أيضا موجود بهذا المعنى في الأعيان (1) غير وارد بعد اعتبار الوجود في التضادّ ، كما مرّ.

ووجود النوع ليس بالمعنى المذكور ؛ لأنّ الحقّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ حقيقة بسبب وجود أشخاصه ؛ لما مرّ.

وأمّا الأجزاء العقليّة فهي اعتباريّة سيّما عند المصنّف ، كما سبق.

ص: 226


1- ذكره القوشجي في « شرح عقائد التجريد » : 112.

[ الفصل الثالث : في العلّة والمعلول ]

اشارة

قال : ( الفصل الثالث : في العلّة والمعلول. كلّ شيء يصدر عنه أمر إمّا بالاستقلال أو بالانضمام فإنّه علّة لذلك الأمر ، والأمر معلول له ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الماهيّة ، شرع في البحث عن العلّة والمعلول ؛ لأنّهما من لواحق الماهيّة وعوارضها ، وهما من الأمور العامّة أيضا ، والعلّيّة والمعلوليّة من المعقولات الثانية ومن أنواع المضاف.

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى :

في تعريف العلّة والمعلول ، وهما وإن كانا من المتصوّرات القطعيّة لكن قد يعرض اشتباه ما ، فنذكر على سبيل التنبيه والتميز ما يزيل ذلك الاشتباه ، فنقول : إذا فرضنا صدور شيء عن غيره ، كان الصادر معلولا ، وما يصدر عنه ذلك المصادر علّة ، سواء كان الصدور على سبيل الاستقلال كما في العلل التامّة ، أو على سبيل الانضمام كجزء العلّة ، فإنّ جزء العلّة شيء يصدر عنه أمر آخر لكن لا على سبيل الاستقلال ، وهو داخل في الحدّ. بل الصدور على سبيل الانضمام يمكن أن يكون أعمّ من الصدور المستند إلى جزء العلّة والصدور المستند إلى المادّة والصورة والغاية المتقدّمة في التصوّر التي لا يصدر الشيء عن الفاعل المختار إلاّ بسبب تصوّرها.

فلا يرد أنّ التعريف لا يصدق على غير العلّة الفاعليّة من العلل ، فلا يصحّ تقسيم

ص: 227

العلّة إلى الأقسام الأربعة (1).

المسألة الثانية : في أقسام العلّة.

قال : ( وهي فاعليّة ومادّيّة وصوريّة وغائيّة ).

أقول : العلّة ما يحتاج الشيء إليه في وجوده ، وهي إمّا أن تكون جزءا من المعلول أو خارجة عنه.

والأوّل إمّا أن يكون جزءا يحصل به الشيء بالفعل أو بالقوّة ، الأوّل الصورة ، والثاني المادّة.

وإن كانت خارجة ، فإمّا أن تكون مؤثّرة ؛ لكونها ما منه الشيء ، أو يقف التأثير عليها ؛ لكونها ما لأجله الشيء. والأوّل فاعل ، والثاني غاية.

والفاعل إن كان مع شعور وإرادة - بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك - يسمّى فاعلا مختارا ، وإلاّ فمضطرّا وموجبا.

وإفادته الوجود قد تتوقّف على وجود شيء أو عدم شيء أو عليهما ، والأوّل يسمّى شرطا ، والثاني رفعا للمانع ، والثالث معدّا.

والعلّة إن لم تحتج إلى غيرها - لكفاية ذاتها - تسمّى علّة مستقلّة ، وإن لم تحتج إلى أمر آخر - لحصول جميع ما يتوقّف المعلول عليه - تسمّى علّة تامّة ، وعند ذلك يكون وجود المعلول واجبا كما سيأتي ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح من اختيار الوقت الآخر على ذلك الوقت.

نعم ، الفاعل إن كان مختارا ولم تتعلّق الإرادة بمصلحة كما في إيجاد اللّه العالم لا بدّ من التأخّر ، كما لا يخفى.

ص: 228


1- الإيراد للمحقّق الشريف على ما نقل عنه اللاهيجي في « شوارق الإلهام » المسألة الأولى من الفصل الثالث ، وأورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 112.

المسألة الثالثة : في أحكام العلّة الفاعليّة.

قال : ( فالفاعل مبدأ التأثير ، وعند وجوده بجميع جهات التأثير يجب وجود المعلول ).

أقول : الفاعل هو المؤثّر ، والغاية ما لأجله الأثر ، والمادّة والصورة جزءاه. وإذا وجد المؤثّر بجميع جهات التأثير كان علّة تامّة ، ووجب وجود المعلول ؛ لأنّه لو لم يجب لجاز وجود الأثر عند وجود الجهات بأجمعها وعدمه ، فتخصيص وقت الوجود به مع وجود الإرادة في الزمانين إمّا أن يكون لأمر زائد لم يكن في الزمان الآخر موجودا أو لا يكون ، فإن كان الأوّل لم يكن المؤثّر المفروض أوّلا تامّا ، هذا خلف. وإن كان الثاني لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح ، وهو محال.

قال : ( ولا يجب مقارنة العدم ).

أقول : ذهب قوم إلى أنّ التأثير إنّما يكون لما سبق بالعدم.

وهو على الإطلاق غير سديد ، بل المؤثّر إن كان مختارا وجب فيه ذلك ؛ لأنّ المختار إنّما يفعل بواسطة القصد ، وهو إنّما يتوجّه إلى شيء معدوم. وإن كان موجبا لم يجب فيه ذلك ؛ لجواز استناد القديم إلى المؤثّر. فاستناد الحادث إلى القديم جائز ؛ لتوقّف التأثير على شرط حادث كتعلّق الإرادة ، فالتقدّم لذات الفاعل ، لا للفاعل المستجمع لجميع جهات التأثير ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، بل يجب تحقّق الإيجاد ووجود المعلول حينئذ في آن واحد.

قال : ( ولا يجوز بقاء المعلول بعده وإن جاز في المعدّ ).

أقول : ذهب قوم (1) غير محقّقين - كما حكي (2) - إلى أنّ احتياج الأثر إلى المؤثّر

ص: 229


1- نسبه في « الإشارات والتنبيهات » إلى الأوهام العاميّة ، وفي « شرح الإشارات والتنبيهات » إلى الجمهور ، وفي « المحاكمات » إلى قوم من المتكلّمين. انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 :1. 68.
2- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 115.

وإنّما هو آن حدوثه ، فإذا أوجد الفاعل الفعل استغنى الفعل عنه ، فجاز بقاؤه بعده ، وتمثّلوا في ذلك بالبناء الباقي بعد البنّاء وغيره من الآثار.

وهو خطأ ؛ لأنّ علّة الحاجة - وهي الإمكان - ثابتة بعد الإيجاد ، فثبتت الحاجة. والبنّاء ليس علّة مؤثّرة في وجود البناء الباقي ، وإنّما حركته علّة لحركة الأحجار ووضعها على نسبة معيّنة ، ثمّ بقاء الشكل معلول لأمر آخر. هذا في العلل الفاعليّة.

أمّا العلل المعدّة فإنّها تعدم وإن كان معلولاتها موجودة كالحركة المعدّة للوصول وللحرارة.

قال : ( ومع وحدته يتّحد المعلول ).

أقول : هذا إشارة إلى قاعدة مشهورة بين الحكماء ، وهي : « أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد » (1).

والمراد أنّ المؤثّر إن كان مختارا جاز أن يتكثّر أثره مع وحدته ، كتعدّد إرادته.

وإن كان موجبا فذهب الأكثر - خلافا لأكثر المتكلّمين (2) - إلى استحالة تكثّر معلوله باعتبار واحد.

وأقوى حججهم أنّ نسبة المؤثّر إلى أحد الأثرين ومصدريّته له مغايرة لنسبته إلى آخر ، فإن كان كلّ واحد منهما نفس الواحد الحقيقي كان لأمر واحد حقيقتان مختلفتان.

وإن كانت النسبتان جزئيّة كان مركّبا ، فلم يكن ما فرضناه واحدا واحدا. وإن خرجا أو خرج أحدهما ، كانت المصدريّة الخارجة مستندة إلى ذلك الواحد المؤثّر ، وإلاّ لم يكن هو مصدرا ومؤثّرا ، فننقل الكلام إلى مصدريّة المصدريّة ، فيلزم التسلسل.

وهي عندي ضعيفة ؛ لأنّ نسبة التأثير والصدور يستحيل أن تكون وجوديّة ،

ص: 230


1- انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 122 ؛ « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 125.
2- « شرح المقاصد » 2 : 87 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 4 : 123 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 117.

وإلاّ لزم التسلسل.

وإذا كانت من الأمور الاعتباريّة استحالت هذه القسمة عليها ، مضافا إلى النقض بصدور شيء واحد ؛ لأنّ مصدريّته لذلك الشيء أمر مغاير له ، لكونها نسبة بينه وبين غيره ، فهي إمّا داخلة أو خارجة ، فعلى الأوّل يلزم تركّبه ، وعلى الثاني يلزم التسلسل ، مع أنّ التعدّد المنفيّ لازم لو كانت المصدريّة وجوديّة.

قال : ( ثمّ تعرض الكثرة باعتبار كثرة الإضافات ).

أقول : لمّا بيّن أنّ العلّة الواحدة لا يصدر عنها إلاّ معلول واحد ، أشار إلى جواب استدلال المتكلّمين ، وهو أنّه لو لم يصدر عن الواحد إلاّ الواحد ، لما صدر عن المعلول الأوّل إلاّ واحد هو الثاني وعنه واحد هو الثالث وهلمّ جرّا ، فتكون الموجودات سلسلة واحدة ولم يوجد شيئان يستغني أحدهما عن الآخر في الوجود.

وتقرير الجواب : أنّ ذلك لازم لو لم يكن في المعلول مع وحدته كثرة الجهات والاعتبارات ، ولكن فيه كثرة الإضافات ؛ فإنّ له وجودا ووجوبا بالغير وإمكانا بالذات ونحو ذلك من الاعتبارات ، ولهذا يقال : إنّ العقل الأوّل باعتبار التجرّد أثّر في العقل الثاني وباعتبار الإمكان في الفلك الأعظم وهكذا غيره.

وأورد عليه : بأنّ هذه كلّها اعتبارات عقليّة لا تصلح أن تكون علّة للأعيان الخارجيّة ، وإلاّ فذات الواجب تعالى يصلح أن يجعل مبدأ للممكنات باعتبار كثرة السلوب والإضافات (1).

والحقّ أنّ الحقّ فاعل مختار يوجد الأشياء بالمشيّة المتعلّقة بإيجاد الممكنات.

قال : ( وهذا الحكم ينعكس على نفسه ).

أقول : يريد بذلك أنّه مع وحدة المعلول تتّحد العلّة ، وهو عكس الحكم الأوّل ، فلا يجتمع على الأثر الواحد مؤثّران مستقلاّن ، بمعنى عدم جواز توارد العلّتين

ص: 231


1- هذا الإيراد أورده الفخر الرازي في « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 48 وما بعدها ، ونقله عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » 2 : 102 والقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 119.

المستقلّتين في معلول واحد شخصي ، لأنّه بكلّ واحد منهما واجب مستغن عن الآخر ، فيكون حال حاجته إليهما من جهة العلّيّة مستغنيا عنهما ؛ لكون كلّ منهما مستقلاّ بالعلّيّة ، هذا خلف.

قال : ( وفي الوحدة النوعيّة لا عكس ).

أقول : إذا كانت العلّة واحدة بالنوع كان المعلول كذلك ، ولا يجب من كون المعلول واحدا بالنوع كون العلّة كذلك ؛ فإنّ الأشياء المختلفة تشترك في لازم واحد ، كاشتراك الحركة والشمس والنار في الحرارة ؛ لأنّ المعلول يحتاج إلى مطلق العلّة ، وتعيين العلّة [ جاء ] (1) من جانب العلّة لا المعلول.

قال : ( والنسبتان من ثواني المعقولات ، وبينهما مقابلة التضايف ).

أقول : يعني أنّ نسبة العلّيّة والمعلوليّة من المعقولات الثانية ؛ لاستحالة وجود شيء في الأعيان ، وهو مجرّد علّيّة أو معلوليّة وإن كان معروضهما موجودا وبينهما مقابلة التضايف ؛ فإنّ العلّة علّة للمعلول ، والمعلول معلول للعلّة.

وقد نبّه بقوله : « وبينهما مقابلة التضايف » على امتناع كون الشيء الواحد بالنسبة إلى شيء واحد علّة ومعلولا ، وهو الدور المحال ؛ لأنّ كونه علّة يقتضي الاستغناء والتقدّم ، وكونه معلولا يقتضي الحاجة والتأخّر ، فيكون الشيء الواحد مستغنيا عن الشيء الواحد متقدّما عليه ومحتاجا إليه ومتأخّرا عنه ، وهذا خلف.

قال : ( وقد يجتمعان في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين لا يتعاكسان فيهما ).

أقول : قد تجتمع نسبة العلّيّة والمعلوليّة في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين ، فيكون علّة لأحد الشيئين ومعلولا للآخر ، كالعلّة المتوسّطة فإنّها معلولة للعلّة الأولى وعلّة للمعلول الأخير ، لكن بشرط أن لا يكون ذانك الأمران يتعاكسان في النسبتين ، بأن تكون العلّة الأولى معلولة للمعلول الأخير والمعلول الأخير علّة لها ، وإلاّ عاد الدور المحال ؛ لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها بمرتبتين

ص: 232


1- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : 117.

أو بمراتب.

فإن قلت : نمنع بطلان الدور مطلقا ، لجواز الدور المعيّ في مثل قيام اللبنتين المعتمدة كلّ واحدة على قيام الأخرى.

قلت : علّة بطلان الدور التقدّمي - وهو توقّف الشيء على نفسه - موجودة في المعيّ ، وأمّا توقّف قيام كلّ من اللبنتين على قيام أخرى فهو صوريّ لا واقعي ؛ فإنّ كلّ واحد من القيامين معلول لعلّة ثالثة وهي اتّصال اللبنتين على الوجه المخصوص ، بمعنى علّيّة العرض لعرض آخر لا للجوهر.

وأمّا توقّف كلّ من المتضايفين كالأبوّة والبنوّة في الوجود الذهني على الآخر ففيه منع توقّف كلّ من العرضين على نفس العرض الآخر ، بل كلّ منهما متوقّف في التعقّل على محلّ الآخر ؛ فإنّ الأبوّة عبارة عن كون الشخص والدا لشخص آخر لا للابن ، فهي موقوفة على معرفة ذات الابن لا على الذات مع وصف البنوّة ، والبنوّة عبارة عن كون الشخص ابنا وولدا لشخص آخر لا للأب.

وبالجملة ، فبطلان الدور بأقسامه - من المصرّح الخارجي والذهني والمضمر كذلك ولو كان معيّا - ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه.

مضافا إلى أنّ الدور المعيّ لو سلّم عدم بطلانه فإنّما يصحّ فيما يتعلّق بآثار الوجود ، كقيام اللبنتين الموجودتين ، وأمّا ما يتعلّق بنفس الوجود فلا ؛ لامتناع تأثير المعدوم كما لا يخفى ، والدور في سلسلة الممكنات بالنسبة إلى وجودها من قبيل الأخير ، فيكون باطلا.

المسألة الرابعة : في إبطال التسلسل.

قال : ( ولا يترقّى معروضاهما في سلسلة واحدة إلى غير نهاية ؛ لأنّ كلّ واحد منهما ممتنع الحصول بدون علّة واجبة ، لكنّ الواجب بالغير ممتنع (1) أيضا ، فيجب

ص: 233


1- أي عند عدم علّته. ( منه رحمه اللّه ).

وجود علّة واجبة (1) لذاتها هي طرف السلسلة ).

أقول : لمّا أبطل الدور شرع في إبطال التسلسل ، وهو وجود علل ومعلولات في سلسلة واحدة غير متناهية.

ونبّه على الدعوى بقوله : « ولا يترقّى معروضاهما » بمعنى معروض العلّيّة والمعلوليّة في سلسلة واحدة إلى غير النهاية.

واحتجّ عليه بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ كلّ واحد من تلك الجملة ممكن ، وكلّ ممكن ممتنع حصوله بدون علّته الواجبة ، فكلّ واحد من تلك الآحاد يمتنع حصوله بدون علّته الواجبة.

ثمّ تلك العلّة الواجبة إن كانت واجبة لذاتها فهو المطلوب ؛ لانقطاع السلسلة حينئذ.

وإن كانت واجبة بغيرها كانت ممكنة لذاتها ، فكانت مشاركة لباقي الممكنات في امتناع الوجود بدون العلّة الواجبة ، فيجب وجود علّة واجبة لذاتها هي طرف السلسلة ، وتكون السلسلة به منقطعة.

وفي هذا الوجه عندي نظر ؛ فإنّ من جوّز ذهاب سلسلة الممكنات إلى غير النهاية يقول بكون كلّ واحد منها واجبا بالغير من غير أن ينتهي إلى واجب لذاته.

ودعوى أنّه لا بدّ من وجود علّة واجبة لذاتها مصادرة ، فلا بدّ من البرهان كالتطبيق.

قال : ( وللتطبيق بين جملة قد فصل منها آحاد متناهية وأخرى لم يفصل منها ).

ص: 234


1- قال في الشوارق : « هذا إشارة إلى طريقة مخترعة له مشهورة عنه ، وهي أنّ الممكن لا يجب لذاته ، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود لذاته ، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود ، فلا بدّ من واجب لذاته ، فقد ثبت واجب الوجود ». وهذه طريقة حسنة مستقيمة خفيفة المئونة مبنيّة على أنّ الشيء ما لم يجب ولم يمتنع جميع أنحاء عدمه لم يوجد ، فتأمّل. ( منه رحمه اللّه ). انظر : « شوارق الإلهام » المسألة الثالثة من الفصل الثالث ، وقد نقل العبارة بشيء من الاختصار.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالّة على امتناع التسلسل ، وهو المسمّى ب- « برهان التطبيق » وهو برهان مشهور.

وتقريره : أنّا إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا يتناهى ، ووضعناها جملة ، ثمّ قطعنا منها جملة متناهية ، ثمّ أطبقنا إحدى الجملتين بالأخرى بحيث يكون كلّ واحد من آحاد الجملة الناقصة بإزاء واحد من آحاد الجملة التامّة ولو بعد فرض وقوع الآحاد وترتّبها وملاحظتها إجمالا ، فإن استمرّتا إلى ما لا يتناهى ، كانت الجملة الزائدة مثل الناقصة ، فيلزم تساوي الزائد والناقص ، وهذا خلف.

وإن انقطعت الناقصة تناهت ، فيلزم تناهي الزائدة ؛ لأنّ ما زاد على المتناهي بمقدار متناه فهو متناه ، فيلزم تناهي ما لا يتناهى وهو محال ، فالتسلسل محال.

قال : ( ولأنّ التطبيق باعتبار النسبتين - حيث يتعدّد كلّ واحد منهما باعتبارهما - يوجب تناهيهما ؛ لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من حيث السبق ).

أقول : هذا برهان ثالث يسمّى ببرهان التضايف راجع إلى الثاني - وهو برهان التطبيق - لكن على نحو آخر استخرجه المصنّف رحمه اللّه ، مغاير للنحو الذي ذكره القدماء.

وتقريره : أنّ العلّيّة والمعلوليّة متضايفتان لا تتحقّق إحداهما بدون الأخرى ، فبعد قطع النظر عن المعلول المحض في المنتهى والعلّة المحضة في المبدأ إذا فرضنا العلل والمعلولات سلسلة واحدة غير متناهية تكون كلّ واحدة من تلك السلسلة علّة باعتبار ومعلولا باعتبار ، فتصدق عليه النسبتان باعتبارين ، ويحصل له التعدّد باعتبار النسبتين ، فإنّ الواحد من تلك السلسلة من حيث إنّه علّة مغاير له من حيث إنّه معلول. فإذا أطبقنا كلّ ما صدق عليه نسبة المعلوليّة على كلّ ما صدق عليه نسبة العلّيّة بأن اعتبرت هذه السلسلة من حيث إنّ كلّ واحد منها علّة تارة ومن حيث إنّ كلّ واحد منها معلول أخرى كانت العلل والمعلولات المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ، ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهّم تطبيق ، فتكون هناك علّة متقدّمة على

ص: 235

جميع المنطبقات لم ينطبق عليها شيء من أفراد المعلولات ، وإلاّ يلزم أن ينطبق معلول من تلك المعلولات على علّة ، فلا تكون متقدّمة عليه ، بل واقعة في مرتبته ، وهو باطل بالضرورة. فحينئذ يجب كون العلل أكثر من المعلولات من حيث إنّ العلل سابقة على المعلولات في طرف المبدأ بواحدة ، فإذن المعلولات قد انقطعت قبل انقطاع العلل ، والعلل الزائدة عليها إنّما زادت بمقدار متناه ، فتكون الجملتان متناهيتين.

قال : ( ولأنّ المؤثّر في المجموع إن كان بعض أجزائه كان الشيء مؤثّرا في نفسه وعلله ، ولأنّ المجموع له علّة تامّة ، وكلّ جزء ليس علّة تامّة ؛ إذ الجملة لا تجب به ، وكيف تجب الجملة بشيء وهو محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة!؟ ).

أقول : هذا برهان رابع على إبطال التسلسل.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جملة مترتّبة على علل ومعلولات إلى ما لا يتناهى ، فتلك الجملة - من حيث هي جملة - ممكنة موجودة ؛ لتركّبها من الآحاد الممكنة الموجودة ، وكلّ ممكن له مؤثّر ، فتلك الجملة لها مؤثّر. فإمّا أن يكون ذلك المؤثّر هو نفس تلك الجملة ، وهو محال ؛ لاستحالة كون الشيء مؤثّرا في نفسه. وإمّا أن يكون خارجا عنها ، والخارج عن جملة الممكنات واجب فينقطع التسلسل. وإمّا أن يكون جزءا من تلك الجملة وهذا محال ، وإلاّ لزم كون الشيء مؤثّرا في نفسه وفي علله التي لا تتناهى ، وذلك من أعظم المحالات.

وأيضا فإنّ المجموع لا بدّ له من علّة تامّة ، وكلّ جزء ليس علّة تامّة ؛ إذ الجملة لا تجب به ، وكيف تجب الجملة بجزء من أجزائها وذلك الجزء محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة!؟

المسألة الخامسة : في متابعة المعلول للعلّة في الوجود والعدم.

قال : ( وتتكافأ النسبتان في طرفي النقيض ).

ص: 236

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أنّ نسبة العلّيّة مكافئة لنسبة المعلوليّة في طرفي الوجود والعدم بالنسبة إلى معروضيهما ، على معنى أنّ نسبة العلّيّة إذا صدقت على معروض ثبوتي كانت نسبة المعلوليّة صادقة على معروض ثبوتي ، وبالعكس. وإذا صدقت نسبة العلّيّة على معروض عدميّ صدقت نسبة المعلولية على معروض عدميّ ، وبالعكس.

وهذا معنى تكافئهما في طرفي النقيض ، أي الوجود والعدم.

وذلك يتمّ بتقرير مقدّمة هي أنّ عدم المعلول إنّما يستند إلى عدم العلّة لا غير.

وبيانه : أنّ عدم المعلول لا يستند إلى ذاته ، وإلاّ لكان ممتنعا لذاته ، وهذا خلف ؛ بل لا بدّ له من علّة إمّا وجوديّة أو عدميّة ، والأوّل باطل بناء على أنّ تأثير الوجودي في العدمي لا يجوز ، وإلاّ لكان عدم الوجودي علّة فاعليّة لعدم العدمي الذي هو وجوديّ ، وهذا خلف.

والإيراد بأنّ الوجودي الذي هو علّة فاعليّة للعدمي يجوز أن يكون هو الواجب تعالى ، ولا يتصوّر له عدم حتّى يلزم أن يكون علّة للوجودي (1) يمكن دفعه بكفاية امتناع كون الوجودي الممكن علّة للعدمي لما مرّ ؛ لامتناع تأثير الواجب في العدم الأزلي الحاصل إلاّ باعتبار استمراره.

ولكن يرد عليه : أنّ الواجب تعالى قادر مختار ، قد فسّرت القدرة والاختيار بكون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك ؛ فإنّ الترك أسند إلى المشيئة الوجوديّة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مشيّئة الترك من جهة المفسدة الراجعة إلى العدم.

وقد يستدلّ على بطلان كون الوجودي علّة للعدمي بأنّه عند وجود تلك العلّة الوجوديّة إن لم يختلّ شيء من أجزاء تلك العلّة المقتضية لوجود المعلول ولا من شرائطها لزم وجود المعلول ؛ نظرا إلى تحقّق العلّة التامّة. وإن اختلّ شيء من ذلك

ص: 237


1- أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 126.

لزم عدم المعلول ، فيكون عدم المعلول مستندا إلى ذلك العدم لا غير (1).

وفيه نظر ظاهر.

وبالجملة ، فإذا تقرّرت هذه المقدّمة فنقول : العلّة الوجوديّة يجب أن يكون معلولها وجوديّا ، لأنّه لو كان عدميّا لكان مستندا إلى عدم علّته - على ما قلنا - لا إلى وجود هذه العلّة ، والمعلول الوجودي يستند إلى العلّة الوجوديّة لا إلى العدميّة ؛ لأنّ تأثير المعدوم في الوجود غير معقول.

المسألة السادسة : في أنّ القابل لا يكون فاعلا.

قال : ( والقبول والفعل متنافيان مع اتّحاد النسبة ؛ لتنافي لازميهما ).

أقول : قال الحكماء بأنّ البسيط الحقيقي الذي لا تعدّد فيه أصلا - كالواجب تعالى - لا يكون مصدرا لأثر وقابلا له (2) ، وبنوا على ذلك امتناع اتّصاف الواجب تعالى بصفات حقيقيّة زائدة على ذاته كما يقول الأشاعرة (3).

واستدلّوا على ذلك : بأنّ القبول والفعل متنافيان ، يعني لا يجتمعان بل يتنافيان ، لكن مع اتّحاد النسبة ، يعني أن يكون الفاعل الذي تقع نسبة الفعل إليه [ هو ] بعينه القابل الذي تقع نسبة القبول إليه ؛ لتنافي لازميهما ، وهما الإمكان والوجوب ؛ وذلك لأنّ نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ؛ لعدم وجوب وجود المقبول عند وجود القابل ، ونسبة الفاعل إلى المفعول نسبة الوجوب بوجوب وجود المفعول عند وجود الفاعل عند استقلاله ووجود شرائط التأثير وارتفاع موانعه ، فلو كان الشيء الواحد مقبولا لشيء ومعلولا له أيضا ، لزم أن تكون نسبة ذلك الشيء إلى فاعله بالوجوب

ص: 238


1- انظر : « كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد » : 120.
2- لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « المباحث المشرقيّة » 1 : 236 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 104 ؛ « شرح المواقف » 4 : 133 ؛ « الأسفار الأربعة » 2 : 176.
3- انظر : « شرح المقاصد » : 4 : 69 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 8 : 104 وما بعدها.

والإمكان ، وهذا خلف.

المسألة السابعة : في نسبة العلّة إلى المعلول.

قال : ( وتجب المخالفة بين العلّة والمعلول إن كان المعلول محتاجا لذاته إلى تلك العلّة ، وإلاّ فلا ).

أقول : العلّة إن كان معلولها محتاجا لماهيّته إليها وجب كونه مخالفا لها ؛ لاستحالة تأثير الشيء في نفسه ، وإن كانت علّة لشخصه كتعليل إحدى النارين بالأخرى ، فإنّ المعلول لا يجب أن يكون مخالفا للعلّة في الماهيّة ، ولا يكون أقوى منها ، ولا يساويها عند فوات شرط أو حضور مانع ، ويساويها لا مع ذلك ، بل قد يزيد عند ازدياد المعدّ ، كما لا يخفى.

بيان ذلك : أنّ المعلوليّة من بين الأقسام الثلاثة للمفهوم منحصرة في الممكن ؛ لاستناد الوجود في الواجب والعدم في الممتنع إلى الذات ، فلا يصحّ الاستناد إلى الغير لئلاّ يلزم تحصيل الحاصل ، بخلاف الممكن فإنّ ذاته من حيث هي لا تقتضي شيئا من الوجود والعدم ، فلا بدّ من الاستناد إلى الغير المستلزم للمعلوليّة ؛ لئلاّ يلزم الترجّح بلا مرجّح أو الترجيح بلا مرجّح ، الباطل بديهة ، ولا بدّ من خصوصيّة بين العلّة وذلك المعلول ؛ لئلاّ يلزم الترجيح بلا مرجّح بالنسبة إلى سائر الممكنات ؛ لتساوي نسبتها إلى الجميع ، وهو باطل حتّى في الواجب ؛ لعدم كفاية الإرادة ؛ لأنّ تعلّقها بأحد المتساويين بدون المرجّح باطل عندهم.

ومايقال : من أنّ المحال هو الترجيح بلا مرجّح ، بمعنى جعل أحد المتساويين راجحا من غير مرجّح أو الترجيح بدون المرجّح والدّاعي المطلق ، لا الترجيح بمعنى اختيار أحد المتساويين أو الترجيح بالمرجّح المساوي أو المرجوح ؛ لجواز اختيار الفاعل المختار أحد المرجّحين ولو كان مرجوحا ، فيفعل أحد الشيئين بسبب ذلك المرجّح ، كما في تأخير الصلاة عن أوّل الأوقات مع رجحانه بالاشتغال بالمباحات ،

ص: 239

وكذا ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات ، فالوقوع شرعا كاشف عن الجواز عقلا (1).

فمدفوع بأنّ المعيار في الرجحان هو نظر الفاعل لا نفس الأمر ، ومثل ما ذكر راجح عند الفاعل وإن كان مرجوحا في نفس الأمر.

وأيضا ففي الإنسان مبادئ الأفعال كالشهوة للشهويّة ، والغضب للغضبيّة ، والعقل للعقليّة ، والوهم للوهميّة إلى غير ذلك ، فهو من حيث هو عاقل فاعل ، ومن حيث هو متوهّم فاعل آخر وهكذا. فتأخير الصلاة - مثلا - وإن كان مرجوحا من حيث هو عاقل إلاّ أنّه راجح من حيث هو متوهّم ، وطالب اللذّة الوهميّة من حيث هو كذلك ، وهكذا غيره لذلك أو لغيره كطلب الشهوة والغضب.

ومن جوّز الترجيح بلا مرجّح - كالأشاعرة - تمسّك برغيفي الجائع ، وطريقي الهارب ، وقدحي العطشان.

وأجيب : بأنّ المعتبر في التساوي والرجحان ما يكون عند الفاعل من حيث هو فاعل حين الشروع في الفعل ، لا ما يكون عند غيره أو في نفس الأمر أو عنده في غير وقت الشروع.

والتساوي المذكور فيما ذكر ممنوع ، مع أنّ نحو الهارب مضطرّ لا مختار.

والإنصاف أنّ الترجيح بلا مرجّح - بمعنى اختيار أحد المتساويين بلا مرجّح - لم يثبت قبحه وامتناعه عقلا ونقلا.

المسألة الثامنة : في أنّ مصاحب العلّة ليس بعلّة ، وكذا مصاحب المعلول ليس معلولا.

قال : ( ولا يجب صدق إحدى النسبتين على المصاحب ).

أقول : يعني به أنّ نسبة العلّيّة لا يجب صدقها على ما يصاحب العلّة ويلازمها ؛

ص: 240


1- لم نعثر على قائل له بالخصوص ، وذكره التفتازاني في « شرح المقاصد » 1 : 482.

فإنّ مع العلّة شرائط كثيرة ولوازم لا مدخل لها في العلّيّة كحمرة النار ، فإنّها لا تأثير لها في الإحراق ، وكذا ما يصاحب المعلول ويلازمه ؛ فإنّه لا يجب صدق نسبة المعلوليّة عليه ، بل لا يجوز ذلك ؛ لامتناع أن يكون لشيء واحد فاعلان في مرتبة واحدة ، وامتناع تأثير العلّة في معلولين من جهة واحدة.

قيل : قال الشيخ أبو عليّ ابن سينا : إنّ الفلك الحاوي يصاحب علّة المحويّ ، ولا يجب أن يكون متقدّما بالعلّيّة على المحويّ لأجل مصاحبته لعلّة المحويّ (1).

فقد جعل ما مع القبل ليس قبلا.

ثمّ قال : عدم الخلاء ووجود المحويّ متقاربان ، فلو كان الحاوي علّة للمحويّ لكان متقدّما عليه ، فيكون متقدّما على ما يصاحبه أعني عدم الخلاء ، فيكون عدم الخلاء متأخّرا من حيث إنّه مصاحب للمتأخّر ، وهذا يدلّ على أنّ ما مع البعد يجب أن يكون بعدا (2).

فتوهّم بعضهم (3) أنّ الشيخ أوجب أن يكون ما مع القبل قبلا ، وهو مناف لما تقدّم.

وهذا فاسد ؛ لأنّه لا فرق بين ما مع القبل وما مع البعد من حيث البعديّة والمعيّة والقبليّة ، وإنّما الفرق في التقدّم بالعلّيّة.

والشيخ حكم في الصورة الخاصّة وكلّ ما يساويها بأنّ ما مع البعد يجب أن يكون بعدا ؛ لتحقّق الملازمة الطبيعيّة بين عدم الخلاء ووجود المحويّ ، بخلاف العقل والفلك المتباينين بالذات والاعتبار.

المسألة التاسعة : في أنّ أشخاص العناصر ليست عللا ذاتيّة بعضها لبعض.

قال : ( وليس الشخص من العنصريّات علّة ذاتيّة لشخص آخر منها ، وإلاّ لم تتناه

ص: 241


1- نقل عنه العلاّمة قدس سره في « كشف المراد » : 121 ؛ وراجع « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 126 وما بعدها و 3 : 221 وما بعدها.
2- نقل عنه العلاّمة قدس سره في « كشف المراد » : 121 ؛ وراجع « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 126 وما بعدها و 3 : 221 وما بعدها.
3- هو الفخر الرازي. راجع المصدرين السابقين.

الأشخاص ، ولاستغنائه عنه بغيره ).

أقول : المراد أنّ الشخص من العناصر كهذه النار - مثلا - ليس علّة ذاتية لشخص آخر منها ، أي يكون علّة لوجوده ، وإلاّ لوجدت أشخاص لا تتناهى دفعة واحدة ؛ لأنّ العلل الذاتيّة تصاحب المعلولات.

وأيضا فإنّ الشخص من العناصر يستغني عن الشخص الآخر بغيره ؛ إذ ليس شخص ما من أشخاص النار - مثلا - أولى بأن يكون علّة لشخص آخر من بقيّة أشخاص النّوع ، بل الشخص الذي هو معلول سبيله سبيل سائر الأشخاص في أنّ الشخص الذي هو العلّة ليس هو أولى بالعلّيّة من الشخص الذي هو معلوله ، وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علّة بالذات ، فهو إذن علّة بالعرض ، بمعنى أنّه معدّ.

وأورد عليه : بأنّ معنى العلّيّة الذاتيّة أن يكون الشخص علّة بماهيّته وحقيقته ، أي تكون العلّة هي الماهيّة بحيث لا يكون لخصوصيّة الأفراد مدخل في تلك العلّيّة (1).

وفيه : أنّ كون الشخص علّة ذاتيّة يقتضي مدخليّة الخصوصيّة.

قال : ( ولعدم تقدّمه ).

أقول : هذا وجه ثالث على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر.

وتقريره : أنّ العلّة متقدّمة على المعلول بالذات ، والشخصان إذا كانا من نوع واحد ، استحال تقدّم أحدهما على الآخر تقدّما ذاتيّا ؛ لإمكان فرض تأخّره.

قال : ( ولتكافئهما ).

أقول : هذا دليل رابع.

وتقريره : أنّ الماء والنار - مثلا - متكافئان في أنّه ليس النار أولى بأن تكون علّة للماء من العكس ، والمتكافئان لا يصلح أن يكون أحدهما علّة للآخر.

ص: 242


1- « شرح تجريد العقائد » : 127.

قال : ( ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه ).

أقول : هذا دليل خامس.

وتقريره : أنّ ما يفرض علّة من شخصيّات النار قد يعدم ، وما يفرض معلولا يكون باقيا بعده ، ويستحيل بقاء المعلول بعد علّته الذاتيّة ، وبالعكس قد يعدم ما يفرض معلولا وما يفرض علّة يكون باقيا بعده ، ويستحيل بقاء العلّة منفكّة عن المعلول.

المسألة العاشرة : في كيفيّة صدور الأفعال.

قال : ( والفاعل منّا يفتقر الى تصوّر جزئي ليتخصّص الفعل ، ثمّ شوق ثمّ إرادة ، ثمّ حركة من العضلات ؛ ليقع منّا الفعل ) (1).

أقول : المراد أنّ الأفعال الاختياريّة المنسوبة إلى النفس الحيوانيّة لها مبادئ أربعة مترتّبة.

الأوّل : الخطور والتصوّر الجزئي للشيء الملائم أو المنافر تصوّرا مطابقا أو غير مطابق.

الثاني : اعتقاد النفع الموجب للشوق والميل إلى الفعل أو الترك ولو بالعرض ، كما في الدواء البشع.

الثالث : العزم الحاصل من شدّة الاعتقاد الموجب للجزم والقصد المسمّى بالإرادة.

الرابع : الحركة من القوّة المنبثّة في العضلات المحرّكة للأعصاب ؛ فإنّ القوّة البشريّة إنّما تفعل أثرها مع شعور وإدراك على الوجه النافع علما أو ظنّا ، فافتقر الفعل الصادر عنها إلى مبادئ أربعة : تصوّر جزئيّ لذلك الفعل ؛ فإنّ التصوّر الكلّيّ

ص: 243


1- انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 411 ، وفيه شرح موسّع حول هذا المبحث.

لا يكون سببا لفعل جزئي ؛ لأنّ نسبة كلّ كلّيّ إلى جزئيّاته واحدة ، فإمّا أن تقع كلّها وهو محال ، أو لا يقع شيء منها وهو المطلوب ، فلا بدّ من تصوّر جزئيّ يتخصّص به الفعل فيصير جزئيّا ، فإذا حصل التصوّر بالنفع الحاصل من الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله ، فحصلت الإرادة الجازمة بعد التردّد فتحرّكت العضلات إلى الفعل فوجد.

وفي بعض النسخ : « الفعل » مكان « الفاعل » والمعنى واحد ، كما لا يخفى.

قال : ( والحركة إلى مكان تتبع الإرادة بحسبها ، وجزئيّات تلك الحركة تتبع تخيّلات وإرادات جزئيّة يكون السابق من هذه علّة للسابق من تلك العدّة لحصول أخرى ، فتتّصل الإرادات في النفس ، والحركات في المسافة إلى آخرها ).

أقول : هذا إشارة إلى جواب سؤال ربّما يورد (1).

وتقريره : أنّ الحركة على مسافة يكفي فيها إرادة متعلّقة بقطع جميعها من غير أن يتصوّرها بخصوصها ؛ فتكفي الإرادة الكلّيّة من غير حاجة إلى إرادة جزئيّة ، مع أنّ الإرادة الجزئيّة أمر حادث يحتاج إلى علّة حادثة فيلزم التسلسل.

وتقرير الجواب : أنّ صدور الحركة عن الإرادة الكلّيّة يتوقّف على وجود الإرادة الجزئيّة ؛ فإنّ المتحرّك على مسافة يتخيّلها أوّلا وتنبعث منه إرادة كلّيّة متعلّقة بقطع جميعها ، ثمّ إنّه يتخيّل حدّا جزئيّا من حدودها ، وتنبعث من تخيّله إرادة جزئيّة متعلّقة بقطع جزء من المسافة ، وبعد قطعه يتخيّل حدّا آخر وهكذا. فتلك الحركة إلى مكان مفروض تتبع إرادة بحسبها ، أعني بحسب تلك الحركة ، وجزئيّات تلك الحركة تابعة لتخيّلات جزئيّة موجبة لحصول إرادات جزئيّة متعلّقة بحدود تلك المسافة ، فتكون الحركة في كلّ مسافة من تلك المسافات جزءا من الحركة الأولى ، وكلّ جزء من تلك الأجزاء يتبع تخيّلا خاصّا وإرادة جزئيّة متعلّقة به ، فإذا تعلّقت الإرادة بإيجاد الجزء الأوّل من الحركة ثمّ وجد الجزء الأوّل ، فإنّ وصول الجسم إلى

ص: 244


1- انظر : « شرح تجريد العقائد » : 128.

ذلك الجزء مع الإرادة الكلّيّة المتعلّقة بكمال الحركة علّة لتجدّد إرادة أخرى جزئيّة تتعلّق بجزء آخر. فإذا وجدت تلك الإرادة تعلّقت بذلك الجزء ، فيتحرّك الجسم ، وعلى هذا تتّصل التخيّلات والإرادات في النفس والحركة في الخارج إلى آخر المسافة ، فيكون التخيّل السابق علّة مؤثّرة للإرادة الجزئيّة السابقة وعلّة معدّة للتخيّل اللاحق الذي هو علّة مؤثّرة للإرادة الجزئيّة اللاحقة وهكذا إلى آخر المسافة ، فتكون كلّ حركة جزئيّة سابقة علّة لإرادة خاصّة لاحقة ، وكلّ إرادة خاصّة علّة لحركة جزئيّة لا حقة من غير دور.

المسألة الحادية عشرة : في أنّ القوى الجسمانية إنّما تؤثّر بمشاركة الوضع.

قال : ( ويشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع ).

أقول : يشترط في صدق التأثير - أعني صدق كون الشيء علّة - على المقارن - أعني الصور المقارنة للمادّة والأعراض المقارنة لها - الوضع الخاصّ بينه وبين ما يؤثّر هو فيه ، أعني النسبة الواقعة بينهما.

وذلك لأنّ القوى الجسمانيّة - أعني الصور والأعراض المؤثّرة - إنّما تؤثّر بواسطة الوضع على معنى أنّها تؤثّر في محلّها أوّلا ، ثمّ فيما يجاور محلّها بواسطة تأثيرها في محلّها ، ثمّ فيما يجاور ذلك المجاور بواسطة المجاور وهكذا إنّما تؤثّر في البعيد بواسطة تأثيرها في القريب ، فإنّ النار لا تسخّن كلّ شيء بل مادّتها أوّلا ثمّ ما يجاورها وهذا الحكم بيّن لا يحتاج إلى برهان.

المسألة الثانية عشرة : في تناهي آثار القوى الجسمانيّة.

قال : ( والتناهي بحسب المدّة والعدّة والشدّة التي باعتبارها يصدق التناهي وعدمه الخاصّ على المؤثّر بالنظر إلى آثاره ).

أقول : قوله : « والتناهي » عطف على « الوضع » باعتبار الاستلزام اللازم للاشتراط ،

ص: 245

بمعنى أنّ التأثير مستلزم في المقارن - أعني الصور والأعراض - لتناهي آثاره ؛ لأنّه لا يمكن وجود قوّة جسمانيّة تقوى على ما لا يتناهى.

بيان ذلك : أنّ التناهي وعدمه الخاصّ به - أعني عدم الملكة وهو عدم التناهي عمّا من شأنه أن يكون متناهيا - إنّما يعرضان بالذات للكمّ (1) إمّا المتّصل القارّ كتناهي المقدار ولا تناهيه ، أو غير القارّ كتناهي الزمان ولا تناهيه ، أو المنفصل كتناهي العدد ولا تناهيه. ويعرضان لغيره بواسطته كالجسم ذي المقدار والعلل ذوات العدد ، فإذا وصف مؤثّر بالتناهي أو اللاتناهي ، كان بالنظر إلى آثاره ، ولا بدّ أن يعتبر عدد الآثار - وهو التناهي أو اللاتناهي بحسب العدّة - أو زمانها بحسب الزيادة - وهو التناهي بحسب المدّة - أو بحسب القوّة من جهة قلّة الزمان ، وهو التناهي بحسب الشدّة.

وبالجملة ، فأصناف القوى ثلاثة :

الأوّل : قوى يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة محدودة في أزمنة مختلفة ، ولا شكّ أنّ الذي زمانه أقلّ أشدّ قوّة من الذي زمانه أكثر ، فيكون التأثير على وجه الشدّة باعتبار قلّة الزمان ، ولكنّ اللاتناهي بحسب الشدّة - كما قيل (2) - ظاهر البطلان ؛ إذ لا بدّ فيه من كون الحركة الصادرة عنها - مثلا - في زمان لم يوجد مثلها في زمان أقلّ منه ، لكن كلّ زمان قابل للقسمة ، فالحركة الواقعة في نصف ذلك الزمان مع اتّحاد المسافة تكون أسرع ، فمصدرها يكون أشدّ ، فلا يكون المصدر الأوّل غير متناه في الشدّة والمقدّر خلافه ؛ ولهذا لم يشتغل بالاحتجاج عليه ، وأقام الحجّة على امتناع اللاتناهي بحسب المدّة والعدّة.

ص: 246


1- أي العرض الذي يقبل لذاته القسمة إلى أجزاء قارّة أو غير قارّة أو غير متلاقية ، والأولى كالسطح يسمّى كمّا متصلا قارّا ، والثاني كالزمان يسمّى كمّا متصلا غير قارّ ، والثالث كالعدد يسمّى كمّا منفصلا. ( منه رحمه اللّه ).
2- هذا القول للعلاّمة في « كشف المراد » : 125 ، وراجع « شرح تجريد العقائد » : 130.

الثاني : قوى يفرض صدور عمل ما منها على الاتّصال في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء ، وهاهنا تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقلّ ، فلو كان هنا عدم تناه لكان باعتبار الزمان ، وهذه قوّة بحسب المدّة.

الثالث : قوى يفرض صدور أعمال متوالية منها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم ، ولا محالة تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقلّ ، وهاهنا يكون عدم التناهي بحسب العدد ، وهذه قوّة بحسب العدّة.

فقد ظهر من هذا أنّ التناهي وعدمه الخاصّ به إنّما صدقا على المؤثّر بأحد الاعتبارات الثلاثة.

قال : ( لأنّ القسريّ يختلف باختلاف القابل ، ومع اتّحاد المبدأ يتفاوت مقابله ).

أقول : لمّا مهّد قاعدة كيفيّة عروض التناهي وعدمه في القوى شرع في الدليل على مطلوبه ، أعني وجوب تناهي تأثير القوى الجسمانيّة.

وتقريره : أنّ القوى الجسمانيّة إمّا أن تكون قسريّة أو طبيعيّة ، وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما.

أمّا الأولى : فلأنّ صدور ما لا يتناهى بحسب الشدّة بسببها من الحركات محال ؛ لما مرّ.

وأمّا بحسب العدّة والمدّة : فلأنّ التأثير القسريّ يختلف باختلاف القابل المقسور ، بمعنى أنّ كلّ ما كان أكبر كان تحريك القاسر له أضعف ؛ لكون معاوقته وممانعته أكثر وأقوى ، فحينئذ لو فرضنا جسما متناهيا يحرّك جسما آخر متناهيا من مبدأ مفروض حركات لا تتناهى بحسب المدّة والعدّة ، ثمّ حرّك بتلك القوّة جسما أصغر من ذلك الجسم من ذلك المبدأ ، فإنّ تحريكه للأصغر أكثر من تحريكه للأكبر ؛ لقلّة المعاوقة (1) هنا.

ص: 247


1- أي الممانعة بحسب الطبيعة. ( منه رحمه اللّه ).

ولمّا كان المبدأ واحدا كان التفاوت في الطرف الآخر الذي هو مقابل المبدأ ، فيلزم تناهي حركة الأكبر ، ويلزم منه تناهي حركة الأصغر ؛ لأنّها إنّما تزيد على حركة الأكبر بقدر زيادة مقداره على مقداره ، فيلزم تناهي ما فرض عدم تناهيه ، وهذا خلف.

قال العلاّمة رحمه اللّه : « وهاهنا سؤال صعب ، وهو أنّ التفاوت في التحريكين جاز أن يكون بحسب الشدّة (1).

وأجاب المصنّف قدس سره عن هذا السؤال في شرحه للإشارات : بأنّ المراد بالقوّة هنا هي التي لا نهاية لها بحسب المدّة والعدّة لا الشدّة (2).

وفيه نظر ؛ لأنّ أخذ القوّة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث ». (3)

قال : ( والطبيعي (4) يختلف باختلاف الفاعل ؛ لتساوي الصغير والكبير في القبول ، فإذا تحرّكا مع اتّحاد المبدأ ، عرض التناهي ).

أقول : هذا بيان استحالة القسم الثاني (5) ، وهو أن تكون القوّة المؤثّرة فيما لا يتناهى طبيعيّة.

وتقريره : أنّ التأثير الطبيعي يختلف باختلاف الفاعل ، بمعنى أنّه كلّما كان الجسم أعظم مقدارا كانت الطبيعة أقوى تأثيرا ؛ لأنّ القوى الجسمانيّة إنّما تختلف باختلاف محالّها بالصغر والكبر ؛ لكونها متجزّئة بتجزئتها.

وأمّا قبول الحركة فالصغير والكبير متساويان فيه ؛ لأنّ ذلك للجسميّة ، وهي

ص: 248


1- هذا الاعتراض أورده الفخر الرازي على ابن سينا كما في « شرح الإشارات والتنبيهات ».
2- « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 196.
3- « كشف المراد » : 126.
4- معطوف على قوله المتقدّم : « لأنّ القسريّ ».
5- انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 199 وما بعدها ، وقد قرّر المحقّق الطوسي هذا البرهان بعد بيان تمهيد ثلاث مقدّمات أتى بها ابن سينا.

فيهما على السويّة ، فإذا فرضنا حركة الصغير والكبير بالطبع من مبدأ معيّن لزم التفاوت في الجانب الآخر ؛ ضرورة أنّ الجزء لا يقوى على ما يقوى عليه الكلّ فتنقطع حركة الصغير ، فيلزم منه انتهاء حركة الكبير ؛ لأنّ نسبة الأثر إلى الآخر كنسبة المؤثّر إلى الآخر ، وهذه نسبة متناه إلى متناه فكذا الأولى ، فيعرض التناهي مع فرض عدم التناهي ، وهو باطل ؛ فعدم التناهي باطل ، وهو المطلوب.

ولا يخفى أنّ هذا البحث لا توجّه له عند من قال باستناد الممكنات إلى اللّه تعالى ، وأنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ اللّه ، خلافا للفلاسفة حيث يثبتون التأثير للقوى الجسمانيّة.

المسألة الثالثة عشرة : في العلّة المادّيّة.

قال : ( والمحلّ المتقوّم بالحالّ قابل له ومادّة للمركّب ).

أقول : المحلّ إمّا أن يتقوّم بالحالّ أو يقوّم الحالّ ، وإلاّ لزم استغناء أحدهما عن الآخر فلا حلول ، فالمحلّ المتقوّم بالحالّ هو الهيولى المتقوّمة بالصورة ، والمقوّم للحالّ هو الموضوع.

والهيولى باعتبار الحالّ تسمّى قابلة ، ولهذا يحكم بأنّه لا يكون فاعلا له ؛ لاستحالة كون الشيء فاعلا وقابلا. وباعتبار المركّب تسمّى مادّة.

قال : ( وقبوله ذاتي ).

أقول : كون المادّة قابلة أمر ذاتيّ لها لا غيريّ (1) يعرض بواسطة الغير ؛ لأنّه لو لا ذلك لكان عروض ذلك القبول في وقت حصوله يستدعي قبولا آخر ، ويلزم التسلسل وهو محال ، فهو إذن ذاتيّ يعرض للمادّة لذاتها.

قال : ( وقد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكسبها باعتبار الحالّ فيه ).

ص: 249


1- كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : 128 هكذا « لا غريب ... ».

أقول : لمّا ذكر أنّ قبول المادّة لما يحلّ فيها ذاتيّ ، استشعر أن يعترض عليه بما يظنّ أنّه مناقض له ، وهو أن يقال : إنّ المادّة قد تقبل شيئا ولا تقبل آخر ، ثمّ يعرض لها قبول الآخر ويزول عنها القبول الأوّل ، كالنطفة ؛ فإنّها لا تقبل الصورة الإنسانيّة ابتداء ، ثمّ إذا صارت جنينا قبلتها ، وهذا يعطي أنّ القبول من الأمور العارضة الحاصلة بسبب الغير ، لا من الأمور الذاتيّة اللازمة لها لذاتها.

فأجاب بأنّ القبول ثابت في كلا الحالين ، لكنّ القبول منه قريب ومنه بعيد ؛ فإنّ قبول النطفة للصورة الإنسانيّة بعيد ، وقبول الجنين قريب ، فإذا حصل القرب بالنظر إلى عرض من الأعراض نسب القبول إليه ونفي عن غيره. وفي الحقيقة إنّما حصل قرب القبول بعد بعده ، وسبب القرب والبعد هو الأعراض والصور الحالّة في المادّة ؛ فإنّ الحرارة إذا دخلت في المادّة واشتدّت ، أعدّت قرب قبول الصورة الناريّة وخلع غيرها.

المسألة الرابعة عشرة : في العلّة الصوريّة.

قال : ( وهذا الحالّ صورة للمركّب وجزء فاعل لمحلّه ).

أقول : هذا الحالّ - يعني به الحالّ في المادّة - وهو صورة للمركّب لا للمادّة ؛ لأنّه بالنظر إلى المادّة جزء فاعل ؛ لأنّ الفاعل في المادّة هو المبدأ الفيّاض بواسطة الصورة المطلقة بناء على أنّ كلّ متلازمين لا بدّ أن يكون أحدهما علّة للآخر ، وحيث ثبت عدم كون الهيولى علّة تعيّن كون الصورة علّة ، ولمّا استحال كونها علّة مستقلّة ؛ لأنّ الصورة والشكل يوجدان معا ، والهيولى متقدّمة على الشكل ؛ لأنّه من لوازم المادّة ، والمتقدّم على ما مع الشيء متقدّم على ذلك الشيء ، تعيّن كونها جزء علّة لها ، وهذا معنى قوله : « وجزء فاعل لمحلّه ».

وفيه : نظر.

قال : ( وهو واحد ).

ص: 250

أقول : ذكر الأوائل أنّ الصورة المقوّمة للمادّة لا تكون فوق واحدة ؛ لأنّ الواحدة إن استقلّت بالتقويم استغنت المادّة عن الأخرى. وإن لم تستقلّ كان المجموع هو الصورة ، وهو واحد فالصورة واحدة (1).

المسألة الخامسة عشرة : في العلّة الغائيّة.

قال : ( والغاية علّة بماهيّتها لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، معلولة في وجودها للمعلول ) (2).

أقول : العلّة الغائيّة هي المحرّكة للفاعل على الفعل والداعية إليه المترتّبة عليه غالبا ، وهي المسمّاة بالغرض. والفائدة ما يترتّب على الفعل وإن لم يكن محرّكا للفاعل. وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فعلى هذا الغاية لها اعتباران يحصل لها باعتبارهما التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى المعلول ؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا تصوّر الغاية فعل الفعل ، ثمّ حصلت الغاية بحصول الفعل ، فماهيّة الغاية علّة لعلّية الفاعل ؛ إذ لو لا تلك الماهيّة وحصولها في علم الفاعل لما أثّر ولا فعل الفعل ؛ فإنّ الفاعل للبيت يتصوّر الإسكان أوّلا فيتحرّك إلى إيجاد البيت ، ثمّ يوجد الإسكان بحصول البيت ، فماهيّة الإسكان علّة لعلّيّة الفاعل ، ووجوده معلول للبيت. ولا امتناع في أن يكون الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا باعتبارين ، بمعنى أنّ الغاية متقدّمة في التصوّر والوجود الذهني ؛ لكونها بهذا الوجود علّة فاعليّة لعلّيّة الفاعل ، ومتأخّرة بحسب الوجود الخارجي ، فلا دور ، ولهذا يقال : أوّل الفكر آخر العمل.

قال : ( وهي ثابتة لكلّ قاصد ).

أقول : كلّ فاعل بالقصد والإرادة فإنّه إنّما يفعل لغرض وغاية ما ، وإلاّ لكان عابثا ،

ص: 251


1- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 647.
2- هذا تعريف للعلّة قريب من كلام الشيخ الرئيس في « الإشارات والتنبيهات » حيث قال : « والعلّة الغائيّة التي لأجلها الشيء علّة بماهيّتها ومعناها ... » إلى آخره ، كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 15.

على أنّ العبث لا يخلو من غاية.

أمّا الحركات الأسطقسيّة فقد أثبت الأوائل (1) لها غايات ؛ لأنّ الحبّة من البرّ إذا رميت في الأرض الطيّبة وصادفها الماء وحرّ الشمس فإنّها تنبت سنبلة ، وهذه على سبيل الدوام أو الكثرة ، فيكون ذلك غاية طبيعيّة.

ومنع جماعة (2) من ذلك ؛ لعدم الشعور في الطبيعة ، فلا تعقل لها غاية.

وأجابوا بأنّ الشعور يفيد تعيين الغاية لا تحصيلها.

قال : ( أمّا القوّة الحيوانيّة المحرّكة فغايتها الوصول إلى المنتهى ، وهو قد يكون غاية (3) وقد لا يكون ، فإن لم يحصل فالحركة باطلة ، وإلاّ فهو إمّا خير أو عادة أو قصد ضروريّ أو عبث وجزاف ).

أقول : القوّة الحيوانيّة لها مبادئ على ما تقدّم :

أحدها : القوّة المحرّكة المنبثّة في العضلات.

وثانيها : القوّة الشوقيّة.

وثالثها : التخيّل والفكر.

وغاية القوّة المحرّكة إنّما هي الوصول إلى المنتهى ، وقد تكون هي بعينها غاية القوّة الشوقيّة ، كمن طلب مفارقة مكانه والحصول في الآخر لإزالة ضجره. وقد تكون غيرها كمن يطلب غريما في موضع معيّن ؛ فإنّ غاية الشوقيّة هنا لقاؤه غير الوصول إلى ذلك المكان.

وفي هذا القسم إن لم تحصل غاية القوّة الشوقيّة سمّيت الحركة باطلة بالنسبة إليها ، وإن حصلت الغايتان وكان المبدأ التخيّل لا غير فهو الجزاف والعبث ، وإن كان مع طبيعة كالتنفّس فهو القصد الضروري ، وإن كان مع خلق وملكة نفسانيّة كاللعب

ص: 252


1- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 653.
2- منهم الفخر الرازي في « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 17.
3- في « كشف المراد » : 130 هكذا : « غاية الشوقية ».

باللحية فهو العادة ، وإن كان المبدأ الفكر فهو الخير المعلوم أو المظنون.

قال : ( وأثبتوا للطبيعيّات غايات وكذا للاتّفاقيّات ).

أقول : قد تطلق الغاية عند الحكماء (1) على ما ينتهي إليه الفعل ويتأدّى إليه وإن لم يكن مقصودا ، إذا كان بحيث لو كان الفاعل مختارا لفعل ذلك الفعل لأجله ، والغاية بهذا المعنى أعمّ من العلّة الغائيّة المحرّكة للفاعل على الفعل.

وبهذا الاعتبار أثبتوا للقوى الطبيعيّة غايات مع أنّه لا شعور لها ولا قصد ، وكذا للأسباب الاتّفاقيّة وهي الأفعال المؤدّية إلى ثمرة تأدية مساوية لعدمها أو أقلّ ، فإنّ ما يؤدّي تأدية دائميّة أو أكثريّة يسمّى سببا ذاتيّا ، وتسمّى غايته غاية ذاتيّة ، كما مرّ.

أمّا إثبات الغايات للحركات الطبيعيّة فقد تقدّم البحث فيه.

وأمّا العلل الاتّفاقيّة فقد نفاها قوم (2) ؛ لأنّ السبب إن استجمع جهات المؤثّريّة لزم حصول مسبّبه قطعا ، وإلاّ لكان منفيّا ، فلا مدخل للاتّفاق.

والجواب : أنّ المؤثّر قد يتوقّف تأثيره على أمور خارجة عن ذاته غير دائمة الحصول معه ، فيقال لمثل ذلك السبب من دون الشرائط : إنّه اتّفاقي إذا كان انفكاكه مساويا أو راجحا ، ولو أخذناه مع تلك الشرائط ، كان سببا ذاتيّا.

المسألة السادسة عشرة : في أقسام العلّة بقسمة أخرى لا حقة.

قال : ( والعلّة مطلقا (3) قد تكون بسيطة وقد تكون مركّبة ).

أقول : يعني بالإطلاق ما يشمل العلل الأربع ، أعني المادّيّة والصوريّة والفاعليّة والغائيّة ؛ فإنّ كلّ واحدة من هذه الأربع تنقسم بهذه القسمة.

والعلّة الفاعليّة عند المحقّقين قد تكون بسيطة كتحريك الواحد منّا جسما ما

ص: 253


1- انظر : « الشفاء » الطبيعيات 1 : 67.
2- « الشفاء » الطبيعيات 1 : 60.
3- أي سواء كانت فاعليّة أو مادّيّة أو صوريّة أو غائيّة. ( منه رحمه اللّه ).

وطبائع البسائط العنصريّة. وقد تكون مركّبة كتحريك جماعة جسما أكبر ، ومنع العقل والصورة بالنسبة إلى الهيولى ، ومنع بعض من التركيب في العلل ، وإلاّ لزم نفيها ؛ لأنّ كلّ مركّب فإنّ عدم كلّ جزء من أجزائه علّة مستقلّة في عدمه ، فلو عدم جزء من العلّة المركّبة لزم عدم العلّة ، فإذا عدم جزء آخر لم يكن له تأثير البتّة ؛ لتحقّق العدم بالجزء الأوّل ، ولأنّ الموصوف بالعلّيّة إمّا كلّ واحد من أجزائه ، فيلزم تعدّد العلل وانتفاء التركيب وهو المطلوب ، أو بعضها وهو المطلوب أيضا مع انتفاء الأولويّة أو المجموع ، وهو باطل ؛ لأنّ كلّ جزء لم يكن علّة فعند الاجتماع إن لم يحصل أمر لم يكن المجموع علّة ، وإن حصل عاد الكلام في علّة حصوله.

وهذان ضعيفان ؛ لاقتضائهما انتفاء المركّبات سواء كانت عللا أو لا وهو باطل بالضرورة.

والمادّة البسيطة كهيولى العناصر ، والمركّبة كالعناصر الأربعة بالنسبة إلى صور المركّبات.

والصوريّة البسيطة كصور العناصر ، والمركّبة كالصورة الإنسانيّة المركّبة من صور أعضائها.

والغائيّة البسيطة كوصول كلّ عنصر إلى مكانه الطبيعي والمركّبة كشراء المتاع ولقاء الحبيب.

قال : ( وأيضا بالقوّة أو بالفعل ).

أقول : هذه المبادئ الأربعة قد تكون بالقوّة ، فإنّ الخمر فاعل للإسكار في البدن بالقوّة ، وقد تكون بالفعل كالخمر مع الشرب.

والمادّة قد تكون بالفعل كالجنين للإنسانيّة ، وقد تكون بالقوّة كالنطفة.

والصورة بالقوّة كالمائيّة الحالّة في الهواء بالقوّة ؛ وقد تكون بالفعل كالمائيّة الحالّة في مادّتها.

والغاية بالقوّة وهي التي يمكن جعلها كذلك ، كحصول القوّة من أكل القوت قبل

ص: 254

أكله ، وبالفعل وهي التي حصل فيها ذلك.

قال : ( وكلّيّة أو جزئيّة ).

أقول : هذه العلل قد تكون كلّيّة ، كالبنّاء المطلق للبيت في الفاعليّة ، والنطفة في المادّيّة وكذا الباقيتين ، وقد تكون جزئيّة كهذا البنّاء وهذه النطفة ونحوهما.

قال : ( وذاتيّة أو عرضيّة ).

أقول : العلّة قد تكون ذاتيّة ، وهي التي يستند المعلول إليها بالحقيقة وتكون علّة حقيقيّة بالقياس إلى ما هو معلول حقيقة كالناريّة في الإحراق. وقد تكون عرضيّة ، وهي أن تقتضي العلّة شيئا ويتبع ذلك الشيء شيء آخر ، كقوله : السقمونيا مبرّد ، فإنّه بالعرض كذلك ؛ لأنّه يقتضي بالذات إزالة الصفراء والسخونة ، ويتبعها حصول البرودة من جهة الطبيعة.

وكذلك البواقي ؛ فإنّ المادّة الذاتيّة هي محلّ الصورة ، والعرضيّة هي تلك مأخوذة مع عوارض خارجة ، والصورة الذاتيّة هي المقوّمة كالإنسانيّة والعرضيّة هي مع ما يلحقها من الأعراض اللازمة أو المفارقة ، والغاية الذاتيّة هي المطلوبة لذاتها ، والعرضيّة هي ما يتبعها.

وقد تطلق العلّة العرضيّة على ما مع العلّة.

قال : ( وعامّة أو خاصّة ).

أقول : العلّة العامّة هي التي تكون جنسا للعلّة الحقيقيّة كالصانع للبنّاء في البناء ، والخاصّة كالباني فيه ، وكذا الباقي ، ولكن لا يتحقّق العموم والخصوص في الصور.

قال : ( وقريبة أو بعيدة ).

أقول : العلّة القريبة هي التي لا واسطة بينها وبين المعلول ، كالميل في الحركة ؛ والبعيدة وهي علّة العلّة كالقوّة الشوقيّة وكذا البواقي.

قال : ( ومشتركة أو خاصّة ).

أقول : المشترك كالنجّار لأبواب متعدّدة ، والخاصّة كالنجّار لهذا الباب.

ص: 255

قال : ( والعدم للحادث من المبادئ العرضيّة ).

أقول : الحادث الزماني هو الموجود بعد أن لم يكن ، وهو إنّما يتحقّق بعد سبق عدم علّته ، فلمّا توقّف تحقّقه على العدم السابق ، أطلقوا على العدم اسم المبدأ بالعرض مع أنّه مقارن لما هو علّة ذاتيّة لوجود الحادث ؛ فإنّ المبدأ بالذات هو الفاعل لا غير.

قال : ( والفاعل في الطرفين واحد ).

أقول : الفاعل في الوجود هو بعينه الفاعل في العدم ، على ما بيّنّاه (1) أوّلا من أنّ علّة العدم هي عدم العلّة لا غير ، فالمؤثّر في طرفي المعلول هو العلّة لا غير ، لكن مع حصولها تقتضي الوجود ، ومع عدمها تقتضي العدم.

قال : ( والموضوع كالمادّة ).

أقول : الموضوع - وهو المحلّ المستغني عن الحالّ - أيضا من العلل التي يتوقّف عليها وجود الحادث ، ونسبته إلى الحالّ مثل نسبة المادّة - أعني المحلّ المتقوّم بالحالّ - إلى الصورة في أنّ كلّ واحد منهما علّة مادّيّة بالنسبة إلى ما يتركّب منه ومن الحالّ ، فهو من جملة العلل.

المسألة السابعة عشرة : في أنّ افتقار المعلول إنّما هو في الوجود أو العدم.

قال : ( وافتقار الأثر إنّما هو في أحد طرفيه ).

أقول : الأثر له وجود وعدم ، فافتقاره إلى المؤثّر إنّما هو في أن يجعله موجودا أو معدوما ؛ إذ التأثير إنّما يعقل في أحد الطرفين بناء على أنّ الماهيّة لا يعقل التأثير فيها بأن يجعلها تلك الماهيّة ، لعدم تصوّر جعل بين الشيء ونفسه كما مرّ ، فليس السواد سوادا بالفاعل ، بل وجوده وعدمه بالفاعل.

ص: 256


1- في الفصل الأوّل ، المسألة الثامنة عشرة والمسألة الثالثة والأربعون.

قال : ( وأسباب الماهيّة غير أسباب الوجود ).

أقول : أسباب الماهيّة باعتبار الوجود الذهني هي الجنس والفصل ، وباعتبار الخارج هي المادّة والصورة ، وأسباب الوجود هي الفاعل والغاية ، فهما متغايران.

قال : ( ولا بدّ للعدم من سبب وكذا في الحركة ).

أقول : قد بيّنّا أنّ نسبة طرفي الوجود والعدم إلى الممكن واحدة ، فلا يعقل اتّصافه بأحدهما إلاّ لسبب ، فلمّا افتقر الممكن في وجوده إلى السبب ، افتقر في عدمه إليه وإلاّ لكان ممتنع الوجود لذاته.

لايقال : الموجود منه ما هو قارّ ، ومنه ما هو غير قارّ ، كالحركات والأصوات.

والأوّل يفتقر عدمه إلى السبب. أمّا النوع الثاني فإنّه يعدم لذاته.

لأنّانقول : يستحيل أن يكون العدم ذاتيّا لشيء ، وإلاّ لم يوجد.

ولمّا توهّم بعض القاصرين أنّ العدم أولى بالأعراض السيّالة كالحركة من الوجود بدليل امتناع البقاء عليها فيكفي في وقوعها تلك الأولويّة فلا حاجة إلى سبب خصّها بالذكر بعد ذكر العامّ ، وأجاب بأنّ الحركة لها علّة في الوجود ، فإذا عدمت أو عدم أحد شرائطها عدمت ؛ لما سبق من عدم كفاية الأولويّة الذاتيّة مطلقا وكذا الأصوات ، فلا فرق بين الحركات وغيرها.

المسألة الثامنة عشرة : في بيان بعض أحكام العلّة المعدّة.

قال : ( ومن العلل المعدّة ما يؤدّي إلى مثل أو خلاف أو ضدّ ).

أقول : العلل تنقسم إلى المعدّ وإلى المؤثّر ، والمعدّ يعنى به ما يقرّب العلّة إلى معلولها بعد بعدها عنه ، وهو قريب من الشرائط.

والعلّة المعدّة إمّا أن تؤدّي إلى ما يماثلها ، كالحركة إلى المنتصف ؛ فإنّها معدّة للحركة إلى المنتهى وليست فاعلة لها ، بل الفاعل للحركة إمّا الطبيعة أو النفس ، لكن فعل كلّ واحد منهما في الحركة إلى المنتهى بعيد ، وعند حصول الحركة إلى

ص: 257

المنتصف يقرب تأثير أحدهما في المعلول الذي هو الحركة إلى المنتهى. وإمّا أن تؤدّي إلى خلافها ، كالحركة المعدّة للسخونة التي هي خلاف الحركة وغيرها من غير تضادّ. وإمّا أن تؤدّي إلى ضدّ ، كالحركة المعدّة للسكون عند الوصول إلى المنتهى.

قال : ( والإعداد قريب وبعيد ).

أقول : الإعداد منه ما هو قريب وذلك كالجنين المستعدّ لقبول الصورة الإنسانيّة ، ومنه ما هو بعيد كالنطفة لقبولها ، وكذلك العلّة المعدّة قد تكون قريبة وهي التي يحصل المعلول عقيبها ، وقد تكون بعيدة وهي التي لا تكون كذلك وتتفاوت العلل في القرب والبعد على حسب تفاوت الإعداد ، وهو قابل للشدّة والضعف.

قال : ( ومن العلل العرضيّة ما هو معدّ ).

أقول : قد بيّنّا أنّ العلّة العرضيّة تقال باعتبارين :

أحدهما : أن تؤثّر العلّة شيئا ، ويتبع ذلك الشيء شيء آخر ، كقولنا : « الحرارة تقتضي الجمع بين المتماثلات » فإنّها لذاتها تقتضي الخفّة ، فما هو أخفّ في المركّب يقبل السخونة أشدّ ، فينفصل عن صاحبه ويطلب الصعود فعرض له أن يجتمع [ مع ] (1) مماثله.

والثاني : أن يكون للعلّة (2) وصف ملازم ، فيقال له : علّة عرضيّة. والأوّل علّة معدّة ذاتيّة للخفّة مع كونها علّة عرضيّة للسخونة ، وكذا شرب السقمونيا علّة فاعليّة عرضيّة لحصول البرودة مع أنّه علّة معدّة ذاتيّة لحصول البرودة ، فظهر أنّ بعض ما يقال له : العلّة الفاعليّة العرضيّة يكون علّة معدّة ذاتيّة بالنسبة إلى ما هي علّة فاعليّة عرضيّة له ، لا جميع أقسامها.

فظهر أنّ العلل خمس : الفاعليّة ، والمادّيّة ، والصوريّة ، والغائيّة ، والمعدّة.

ص: 258


1- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : 135.
2- في جميع النسخ : « العلّة » وما أثبتناه موافق لما في « كشف المراد » : 135.

قال :

المقصد الثاني: في الجواهر والأعراض

اشارة

( المقصد الثاني

في الجواهر والأعراض

وفيه فصول :)

[ الفصل الأوّل : في الجواهر

الفصل الثاني : في الأجسام

الفصل الثالث : في بقية أحكام الأجسام

الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة ]

ص: 259

ص: 260

الفصل الأوّل : في الجواهر

اشارة

الممكن إمّا أن يكون موجودا في الموضوع وهو العرض ، أو لا وهو الجوهر ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الأمور الكلّيّة المعقولة ، شرع في البحث عن الموجودات الممكنة ، وهي الجواهر والأعراض ، وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في قسمة الممكنات بقول كلّيّ.

اعلم أنّ كلّ ممكن موجود إمّا أن يكون موجودا لا في موضوع وهو الجوهر ، وإمّا أن يكون موجودا في موضوع وهو العرض.

ونعني بالموضوع المحلّ المتقوّم بذاته المقوّم لما يحلّ فيه ؛ فإنّ المحلّ إمّا أن يتقوّم بالحالّ ؛ أو يقوّم الحالّ ؛ إذ لا بدّ من حاجة أحدهما إلى الآخر ، والأوّل يسمّى المادّة ، والثاني يسمّى الموضوع. والحالّ في الأوّل يسمّى صورة ، وفي الثاني يسمّى عرضا.

فالموضوع والمادّة يشتركان اشتراك أخصّين تحت أعمّ واحد ، وهو المحلّ ؛ والصورة والعرض يشتركان اشتراك أخصّين تحت أعمّ واحد هو الحالّ ، والموضوع أخصّ من المحلّ ، وعدم الخاصّ أعمّ من عدم العامّ ، فكلّ ما ليس في محلّ ليس في موضوع ، ولا ينعكس ؛ ولهذا جاز أن يكون بعض الجواهر حالاّ في غيره كالصورة النوعيّة الحالّة في الهيولى.

ولمّا كان تعريف العرض يشتمل على القيد الثبوتي ، قدّمه في القسمة على الجوهر.

ص: 261

ولا يخفى أنّ الواجب خارج عن تعريف الجوهر حيث جعل المقسم هو الممكن ، بل قيل (1) : وكذلك إذا جعل المقسم الموجود المطلق ، كما وقع في عبارة الإمام (2) ؛ لأنّ تعريف الجوهر حينئذ هو الموجود لا في موضوع ، ومعناه ماهيّة إذا وجدت كانت لا في موضوع ، وليس للواجب ماهيّة ووجود زائد عليها ؛ لأنّ وجوده عين ذاته.

وهكذا إذا جعلنا الجوهر عبارة عن محلّ العرض أو المتقوّم بنفسه ؛ لعدم كون الواجب محلّ العرض كما سيأتي ، وعدم كونه قابلا للقوام لاستلزامه الوجود بعد العدم ، وهو الحدوث المنافي لوجوب الوجود.

ولو تنزّلنا وسلّمنا عموميّة الجوهر ، فنقول : عدم الإطلاق للمنع الشرعي حذرا عن توهّم الإمكان من جهة الغلبة.

قال : ( وهو إمّا يفارق عن المادّة (3) في ذاته وفعله وهو العقل ، أو في ذاته وهو النفس ، أو مقارن ، فإمّا أن يكون محلاّ وهو المادّة ، أو حالاّ وهو الصورة ، أو ما يتركّب منهما وهو الجسم ).

أقول : هذه قسمة الجوهر إلى أنواع ؛ فإنّ الجوهر إمّا أن يكون مفارقا في ذاته وفعله للمادّة والمحلّ المتقوّم بالحالّ بمعنى عدم احتياجه إليهما فيهما ، وهو المسمّى بالعقل ، أو مفارقا في ذاته لا في فعله ، وهو النفس الناطقة ، فإنّها مفارقة للمادّة في ذاتها وجوهرها دون فعلها ؛ لاحتياجها إلى الآلة في التأثير ، ولا يمكن أن يكون مفارقا في فعله غير ذاته ؛ لأنّ الاستغناء في التأثير يستدعي الاستغناء في الذات ، وإمّا أن يكون غير مفارق عن المادّة ، فإمّا أن يكون محلاّ لجوهر آخر وهو الهيولى ، أو حالاّ في جوهر آخر وهو الصورة ، أو يتركّب من الجوهرين : الحالّ والمحلّ وهو الجسم ، فهذه أقسام الجوهر.

ص: 262


1- نسبه التفتازاني إلى القيل أيضا ، كما في « شرح المقاصد » 2 : 143.
2- « المباحث المشرقيّة » 1 : 235.
3- في « كشف المراد » : 139 العبارة هكذا : « وهو إمّا مفارق في ذاته ».

قال : ( والموضوع والمحلّ يتعاكسان وجودا وعدما في العموم والخصوص.

وكذا الحالّ والعرض ).

أقول : قد بيّنّا أنّ الموضوع أخصّ مطلقا من المحلّ ، فعدمه يكون أعمّ من عدم المحلّ ؛ لأنّ نقيض الأخصّ مطلقا أعمّ مطلقا من نقيض الأعمّ مطلقا ، فقولنا : « اللّه تعالى ليس محلاّ للحوادث » ينفي كونه موضوعا أيضا من غير عكس. فقد يتعاكس الموضوع والمحلّ في العموم والخصوص باعتبار الوجود والعدم ، وكذا الحالّ والعرض ؛ فإنّ العرض أخصّ من الحالّ ، فعدمه أعمّ.

قال : ( وبين الموضوع والعرض مباينة ).

أقول الموضوع هو المحلّ المتقوّم بذاته المقوّم لما يحلّ فيه ، والعرض لا يتقوّم بذاته ، فبينهما مباينة.

قال : ( ويصدق العرض على المحلّ والحالّ جزئيّا ).

أقول : المحلّ قد يكون جوهرا وهو ظاهر ، وقد يكون عرضا كالحركة للسرعة ، على خلاف بين الناس فيه ، فيصدق « بعض المحلّ عرض ».

والحالّ أيضا قد يكون جوهرا كالصورة الحالّة في المادّة ، وقد يكون عرضا وهو ظاهر ، فيصدق « بعض الحالّ عرض ».

فقد ظهر صدق العرض على المحلّ والحالّ جزئيّا لا كلّيّا ، وكذا الجوهر.

المسألة الثانية : في أنّ الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما.

قال : ( والجوهريّة والعرضيّة من ثواني المعقولات ؛ لتوقّف نسبة أحدهما إلى (1) الوسط ).

أقول : قال العلاّمة الحلّي رحمه اللّه : « اتّفق العقلاء على أنّ العرض من حيث هذا المفهوم

ص: 263


1- في « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » : « على » بدل « إلى ».

ليس جنسا لما تحته ، بل هو أمر عرضيّ ، واختلفوا في الجوهر هل هو جنس لما تحته أو عارض؟ فالذي اختاره المصنّف رحمه اللّه أنّه عارض ، وجعل الجوهريّة والعرضيّة من ثواني المعقولات ؛ فإنّ كون الذات مستغنية عن المحلّ أو محتاجة إليه أمر زائد على نفس الذات ومن الأمور الاعتباريّة وحكم من أحكامها الذهنيّة.

واستدلّ عليه بأنّ الذهن يتوقّف في نسبة أحدهما إلى الذات وحمله عليها على وسط وبرهان ، ولهذا احتجنا إلى الاستدلال على عرضيّة الكلّيّات (1) والكيفيّات وجوهريّة النفوس وأشباه ذلك ، وجنس الشيء لا يجوز أن يتوقّف ثبوته له على البرهان ؛ لأنّ ذاتيّ الشيء بيّن الثبوت لذلك الشيء » (2).

وأنا أقول : يمكن أن يردّ ذلك الاستدلال بأنّ ذاتيّ الشيء إنّما يكون بيّن الثبوت له إذا كان ذلك الشيء متصوّرا بالكنه لا بالوجه ، كتصوّر النفس بكونها مدبّرة للبدن وأيضا المعقولات الثانية عبارة عمّا لا يعقل إلاّ عارضا لمعقول آخر ولم يكن في الأعيان ما يطابقه ، أو عبارة عن العوارض المخصوصة بالوجود الذهني ولم يصدق شيء منهما على الجوهر ، كما لا يخفى.

نعم ، الجوهريّة - بالياء والتاء المصدريّتين - مفهوم اعتباريّ يصدق عليه أنّه معقول ثان لا الجوهر ، ولهذا يعدّ الجوهر جنس الأجناس ، ويعرّف الجسم الطبيعي بالجوهر القابل للأبعاد الثلاثة ، بمعنى إمكان تحقّق الخطوط الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم.

فإن قلت : لو كان الجوهر جنسا للجواهر لكان تمايزها بفصول ، على ما هو شأن الأنواع المندرجة تحت جنس ، فتلك الفصول إن كانت جواهر ، ننقل الكلام إلى ما به تمايزها فيلزم التسلسل وامتناع التعقّل ، وإن كانت أعراضا يلزم افتقار الجوهر

ص: 264


1- كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : « الكمّيّات ».
2- « كشف المراد » : 140 ، وقد نقل عنه بتصرّف.

إلى الموضوع.

قلت : - مضافا إلى النقض بغيره من الأجناس ، ولزوم كون النوع بلا جنس - : إنّ المراد أنّ الجوهر جنس لما تحته من الحقائق المحصّلة النوعيّة لا لكلّ ما يصدق عليه ، بل الجنس بالنسبة إلى الفصل الذي يحصّله عرض عامّ ، فلا يلزم التسلسل وامتناع التعقّل ، مع أنّ الذي ذكره رحمه اللّه يدلّ على الزيادة لا على كونه من المعقولات الثانية.

قال : ( واختلاف الأنواع في الأولويّة ).

أقول : هذا دليل ثان على كون الجوهر عرضا عامّا لجزئيّاته لا جنسا لها ؛ وذلك لأنّ بعض الجزئيّات أولى بالجوهريّة من بعض ولا تفاوت في الأجناس والذاتيّات ، وهو يدلّ على كون العرض أيضا عرضيّا ؛ لوقوع التفاوت فيه بين جزئيّاته فإنّ الأعراض القارّة أولى بالعرضيّة من غيرها.

وردّ بأنّا لا نسلّم اختلاف أنواعهما في حقيقة الجوهريّة والعرضيّة بالأولويّة وعدمها ، ولو سلّم فغايته عدم كونهما ذاتيّين لجميع ما تحتهما ، فجاز كونهما جنسين لبعض ما تحتهما من الأنواع.

قال : ( والمعقول اشتراكه عرضيّ ).

أقول : هذا دليل ثالث على عدم جنسيّتهما ، ومعناه أنّا نعقل بين الجسم والعقل والنفس والمادّة والصورة أمرا مشتركا ، أعني الاستغناء عن الموضوع ، ولا نعقل بينها اشتراكا في غيره ، وهذا القدر أمر عرضيّ مع أنّه أمر سلبيّ ؛ لأنّه عبارة عن عدم الحاجة إلى الموضوع ، والعدميّ لا يكون جنسا للأنواع المحصّلة ، فالجوهريّة إن جعلت عبارة عن هذا الاعتبار كانت عرضا عامّا ، وإن جعلت عبارة عن الماهيّة المقتضية لهذا الاعتبار ، فليس هاهنا ماهيّة للجسم وراء كونه جسما ، وكذلك البواقي ، وهذه الماهيّات تقتضي هذا الاعتبار وإن اختلفت مع اشتراكه.

وكذلك البحث في العرض ؛ فإنّا نعقل الاشتراك بين الكمّ والكيف وباقي

ص: 265

الأعراض في الحاجة إلى المحلّ والعرضيّة في الوجود ، وهذا المعنى أمر اعتباريّ ، فليست العرضيّة جنسا لما تحتها.

وفيه : أنّ الجوهر والعرض كسائر الأجناس ممّا ينتزع منه أو يقوم به ذلك المعنى المصدري الذي يعتبر في التعريف الذي هو رسم لا حدّ.

المسألة الثالثة : في نفي التضادّ عن الجواهر.

قال : ( ولا تضادّ بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها ).

أقول : لمّا فرغ من تعريف الجوهر والعرض وبيان أنّهما ليسا بجنسين ، شرع في باقي أحكامهما ، فبيّن انتفاء الضدّيّة عن الجواهر ، على معنى أنّه لا ضدّ للجواهر من الجواهر ولا من غيرها.

وبيانه : أنّ الضدّ هو الذات الوجوديّة المعاقبة لذات أخرى وجوديّة في الموضوع مع كونها في غاية البعد عنها ، وقد بيّنّا أنّ الجوهر لا موضوع له ، فلا يعقل فيه هذا المعنى لا بالنظر إلى جواهر أخر ولا بالنظر إلى غيره من الأعراض.

قال : ( والمعقول من الفناء العدم ).

أقول : لمّا بيّن انتفاء الضدّ من الجواهر ، أخذ يردّ على أبي هاشم وأتباعه - حيث جعلوا للجواهر أضدادا هي الفناء (1) ؛ فإنّه إذا خلق الفناء انتفت الأجسام بأسرها ، وهذا دليل التضادّ - فقال : « إنّ المعقول من الفناء العدم » وليس الفناء أمرا وجوديّا يضادّ الجواهر ؛ لأنّه إمّا جوهر أو عرض ، والقسمان باطلان ، فلا تحقّق له.

قال : ( وقد يطلق التضادّ على البعض باعتبار آخر ).

أقول : من اعتبر في التقابل امتناع الاجتماع في الموضوع ، حكم بأن لا تضادّ بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها ؛ إذ الجوهر لا موضوع له.

ص: 266


1- انظر : « شرح المقاصد » 3 : 87.

ومن اعتبر المحلّ محلّ الموضوع ، أثبت التضادّ بين الصور النوعيّة للعناصر ، فقال : إنّ بعض الجواهر قد يطلق عليه أنّه ضدّ للبعض الآخر ، لكن يوجد التضادّ باعتبار آخر ، وهو التنافي في المحلّ مطلقا ، وحينئذ يكون بعض الصور الجوهريّة يضادّ البعض الآخر.

المسألة الرابعة : في أنّ وحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ.

قال : ( ووحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ إلاّ مع التماثل ، بخلاف العكس ).

أقول : المحلّ الواحد قد يحلّ فيه أكثر من حالّ واحد مع الاختلاف ، كالجسم الذي يحلّ فيه أعراض متعدّدة : السواد والحركة والحرارة ، وكالمادّة التي يحلّ فيها جوهران : الصورة الجسميّة والنوعية.

هذا مع الاختلاف ، وإمّا مع التماثل فإنّه لا يجوز أن يحلّ المثلان في محلّ واحد ؛ لاستلزامه رفع الاثنينيّة ؛ لانتفاء الامتياز بالذاتيّات واللوازم ؛ لاتّفاقهما فيهما على ما هو مقتضى التماثل ، وبالعوارض ؛ لتساوي نسبتها إليهما.

فقد ظهر أنّ وحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ إلاّ مع التماثل. وأمّا العكس فإنّه يستلزم ؛ فإنّ وحدة الحالّ تستلزم وحدة المحلّ ؛ لاستحالة حلول عرض واحد أو صورة واحدة في محلّين وهو ضروريّ.

وكلام أبي هاشم من المعتزلة في التأليف (1) وبعض الأوائل من الفلاسفة (2) في الإضافات خطأ ؛ فإنّ التأليف عرض واحد قائم بمجموع شيئين متجاورين صارا بالاجتماع محلاّ واحدا له ، كالوحدة القائمة بالعشرة الواحدة والحياة القائمة ببنية

ص: 267


1- ذهب أبو هاشم إلى أنّ التأليف عرض واحد قائم بجوهرين فردين ، وأنّ هذا هو الموجب لصعوبة الانفكاك بين أجزاء الجسم. انظر « المحصّل » : 267 ؛ « نقد المحصّل » : 182 ؛ « شرح المقاصد » 2 :1. 152.
2- نسبه الرازي إلى جمع من قدماء الفلاسفة ، كما في « نقد المحصّل » : 267 ونسبه التفتازاني إلى بعض القدماء ، كما في « شرح المقاصد » 2 : 150.

متجزّئة إلى أجزاء ونحو ذلك ، والكلام في امتناع قيام عرض واحد قائم بمحلّ بعينه بمحلّ آخر.

وأمّا الإضافات كالقرب القائم بالمتقاربين والجوار بالمتجاورين والأخوّة بالأخوين فوحدتها نوعيّة لا شخصيّة ؛ لأنّ قرب كلّ غير قرب الآخر شخصا وإن كان مثله نوعا ، وكذلك الجوار والأخوّة ، والكلام في الوحدة الشخصيّة لا النوعيّة ، كما لا يخفى.

قال : ( وأمّا الانقسام فغير مستلزم في الطرفين ).

أقول : يعني أنّ طبيعة انقسام المحلّ لا تستلزم انقسام الحالّ ؛ فإنّ الوحدة والنقطة والإضافات كالأبوّة والبنوّة أعراض قائمة بمحالّ منقسمة وهي غير منقسمة ، أمّا الوحدة والنقطة فظاهر ، وكذا الإضافات ؛ فإنّه لا يعقل حلول نصف الأبوّة والبنوّة في نصف ذات الأب أو الابن.

وذهب قوم (1) إلى أنّ انقسام المحلّ يقتضي انقسام الحالّ ؛ لاستحالة قيامه مع وحدته بكلّ واحد من الأجزاء ؛ لما ظهر من امتناع حلول الواحد الشخصي في محالّ متعدّدة كاستحالة حلوله في واحد منها فقط وانتفاء حلوله فيها ، فتعيّن حلول بعضه في بعضها ، فيكون منقسما إلى أجزاء متباينة في الوضع كالمحلّ.

وأمّا الحالّ فإنّه لا يقتضي انقسامه طبيعة انقسام المحلّ ؛ فإنّ الحرارة والحركة إذا حلّتا محلاّ واحدا ، لم يقتض ذلك أن يكون بعض المحلّ حارّا غير متحرّك ، وبعضه متحرّكا غير حارّ.

واعلم أنّ الأعراض السارية الحالّة حلولا سريانيّا ، كالسواد الحالّ في الجسم إذا حلّت محلاّ منقسما ، انقسمت بانقسامه ، والأعراض المنقسمة بالمقدار لا بالحقائق إذا حلّت محلاّ انقسم المحلّ بانقسامها ؛ فإنّ انقسام السواد إلى الأجزاء المقداريّة

ص: 268


1- منهم الشيخ ابن سينا ، كما في « المباحثات » : 196 ، الرقم 589 - 590.

يوجب انقسام الجسم إلى أجزاء كذلك ؛ لكون كلّ جزء من الحالّ في كلّ من المحلّ ، فالانقسام الذي لا يستلزم انقساما آخر انقسام إلى أجزاء غير متباينة في الوضع والإشارة الحسّيّة ، سواء كانت خارجيّة كالهيولى والصورة ، أو عقليّة كالجنس والفصل.

المسألة الخامسة : في استحالة انتقال الأعراض.

قال : ( والموضوع من جملة المشخّصات ).

أقول : قال العلاّمة : « الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البيّن ، والدليل عليه أنّ العرض إن لم يتشخّص لم يوجد ، فتشخّصه ليس معلول ماهيّته ولا لوازمها وإلاّ لكان نوعه منحصرا في شخصه ، ولا ما يحلّ فيه وإلاّ لاكتفى بموجده ومشخّصه عن موضوعه ، فيقوم بنفسه وهو محال. فتعيّن أن يكون معلول محلّه ، بمعنى كون الموضوع علّة تامّة لتشخّص العرض ووجوده ، فيستحيل انتقاله عنه ، وإلاّ لم يكن ذلك الشخص ذلك الشخص ؛ لانتفاء التشخّص الأوّل بانتفاء المشخّص الذي هو الموضوع المعيّن ، فلا بدّ من حصول تشخّص آخر فيحصل شخص آخر » (1).

وفيه نظر ؛ لإمكان كون المشخّص موجد المحلّ المعدّ بعد حصول القابليّة به ، وكون المحالّ المتعدّدة عللا متعاقبة ، كما نشاهد في الألوان السارية والريح المتعدّية.

قال : ( وقد يفتقر الحالّ إلى محلّ متوسّط ).

أقول : الحالّ قد يحلّ في الموضوع من غير واسطة ، كالحركة القائمة في الجسم ، وقد يفتقر إلى محلّ متوسّط فيه ثمّ يحلّ ذلك المحلّ في الموضوع كالسرعة القائمة بالجسم ؛ فإنّها تفتقر إلى حلولها في الحركة ، ثمّ تحلّ الحركة في الجسم.

ص: 269


1- « كشف المراد » : 143 ، نقله بتصرّف.

المسألة السادسة : في نفي الجزء الذي لا يتجزّأ.

قال : ( ولا وجود لوضعيّ لا يتجزّأ بالاستقلال ).

أقول : هذه مسألة اختلف الناس فيها.

بيان ذلك : أنّهم عرّفوا الجسم الطبيعي ب- « الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة » (1) وهي الخطوط الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم ، المعبّر عنها بالعرض والطول والعمق ، وهي التي يطلق عليها الجسم التعليمي ؛ لكون أوّل التعليم في الأوائل متعلّقا بها.

والجسم الطبيعي إمّا مفرد لم يتألّف من أجسام أو مركّب متألّف من أجسام مختلفة ، كالحيوان ، أو غير مختلفة ، كالسرير.

والجسم المفرد قابل للانقسام ، فلا يخلو إمّا أن تكون جميع الانقسامات الممكنة حاصلة فيه بالفعل ، أو لا.

وعلى الأوّل تكون فيه (2) أجزاء بالفعل قطعا ، ولا يكون شيء من تلك الأجزاء قابلا للانقسام ، وإلاّ لم تكن جميع الانقسامات حاصلة بالفعل ، وكلّ جزء من تلك الأجزاء يقال له : الجزء الذي لا يتجزّأ ، وقد اختلفوا فيها :

فذهب جماعة من المتكلّمين والحكماء إلى أنّ الجسم مركّب من أجزاء لا تتجزّأ (3) ، ويقال لها : الجواهر المفردة ، بمعنى أنّ جميع الانقسامات الممكنة حاصلة فيه بالفعل. فذهب بعضهم إلى تناهيها ، كما عن جمهور المتكلّمين (4) ، وبعضهم إلى عدمه ، كما عن النظّام (5).

ص: 270


1- انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 5.
2- في « ج » : « في » بدل « فيه ».
3- انظر : « المحصّل » : 296 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 8 - 9 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 21 ؛ « شرح المواقف » 7 : 5.
4- انظر : « المحصّل » : 296 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 9.
5- انظر : « المحصّل » : 296 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 9 و 30 ؛ « شرح المواقف » 7 : 5.

وذهب الباقون إلى أنّ الجسم بسيط في نفسه متّصل كاتّصاله عند الحسّ ، بمعنى أنّه لا يكون شيء من الانقسامات حاصلا فيه بالفعل ، لكنّه يقبل الانقسام إلى ما يتناهى ، كما عن محمد الشهرستاني (1) صاحب « الملل والنحل » (2) أو إلى ما لا يتناهى ، كما عن جمهور الحكماء (3).

وقد نفى المصنّف الجزء الذي لا يتجزّأ بقوله : « لا وجود لوضعي لا يتجزّأ بالاستقلال » وذلك لأنّ ما لا يتجزّأ من ذوات الأوضاع - أعني الأشياء المشار إليها بالحسّ - قد يوجد لا بالاستقلال ، كوجود النقطة في طرف الخطّ أو مركز الدائرة ، ولكن لا يمكن وجوده بالاستقلال ؛ لأنّ المتحيّز بالذات لا بدّ أن يكون ما يحاذى منه بعض الجهات كالفوق غير ما يحاذي منه بعضا آخر كالتحت ، فلا بدّ أن يكون منقسما في الجهات الثلاث ، فيستحيل وجود الجزء الذي لا يتجزّأ والخطّ الجوهري ، وكذا السطح الجوهري ، فيستحيل تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ.

وقد يتمسّك في إبطاله بما يدلّ على امتناع تركّب الجسم منها.

والمصنّف رحمه اللّه قد استدلّ عليه بوجوه :

قال : ( لحجب المتوسّط ).

أقول : هذا أحد الأدلّة على نفي الجزء.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جوهرا متوسّطا بين جوهرين فإمّا أن يحجبهما عن التماسّ أو لا. والثاني باطل ، وإلاّ لزم التداخل وهو محال ، وإلاّ لم يفد التأليف زيادة في الحجم. والأوّل يوجب الانقسام ؛ لأنّ الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف الملاقي للآخر ، فيلزم خلاف المفروض.

ص: 271


1- هو أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أحمد ، الفيلسوف الأشعري ، له كتب كثيرة أشهرها « الملل والنحل » توفّي أواخر شعبان سنة 548. انظر : « الكنى والألقاب » 2 : 374.
2- انظر : « نقد المحصّل » : 183 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 9 نقلا عن كتابه « المناهج والبيانات » ؛ « شرح المقاصد » 3 : 21 ؛ « شرح المواقف » 7 : 5.
3- « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 9 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 21 ؛ « شرح المواقف » 7 : 6.

قال : ( ولحركة الموضوعين على طرفي المركّب من ثلاثة ).

أقول : هذا وجه ثان.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جسما مركّبا من ثلاثة جواهر أو نحوها من الأوتار ، ووضعنا على طرفيه جزءين ، تحرّك كلّ منهما متوجّها إلى الآخر حركة على السواء في السرعة والبطء والابتداء ، فلا بدّ أن يتلاقيا ، ولا يمكن أن يكون ذلك التلاقي بكون أحد الجزءين بأسره على الطرف ، والآخر بأسره على الوسط ؛ وإلاّ لم تتحقّق الحركتان فضلا عن تساويهما ، بل لا بدّ أن يكون شيء من الوسط مشغولا بأحدهما وشيء آخر منه مشغولا بالآخر ، فيلزم انقسامه قطعا ، وحيث كانت تلك الأجزاء غير متفاوتة في الحجم ، وجب أن يكون بعض من كلّ واحد من الجزءين على الوسط ، وبعض آخر منه على بعض من الطرف ، فيلزم انقسام تمام الخمسة مع فرضها غير منقسمة ، وهو محال لازم من وجود الجزء الذي لا يتجزّأ لا من غيره كفرض الاجتماع المذكور ، كما لا يخفى.

قال : ( أو من أربعة على التبادل ).

أقول : هذا وجه ثالث.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا جسما مركّبا من أربعة جواهر أو نحوها من الأشفاع ، ووضعنا على أحد طرفيه جزءا وتحت طرفه الآخر جزءا وتحرّكا على التبادل - بكون محلّ حركة كلّ منهما غير محلّ حركة الآخر وبدلا منه ، وبكون حركة كلّ منهما من أوّل الخطّ إلى آخره حركة على السواء في الابتداء والسرعة - فإنّهما لا يقطعان الخطّ إلاّ بعد المحاذاة ، فموضع المحاذاة إن كان هو الثاني أو الثالث كان أحدهما قد قطع الأكثر ، فلا بدّ وأن يكون بينهما ، وذلك يقتضي انقسام الجميع من الجزءين المتحرّكين والوسطين.

قال : ( ويلزمهم ما يشهد الحسّ بكذبه من التفكّك وسكون المتحرّك وانتفاء الدائرة ).

ص: 272

أقول : هذه وجوه أخر تدلّ على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ من مفاسد لازمة للقول به ، وأصحابه التزموها مع أنّ الحسّ يكذّبها :

أحدها : تفكيك أجزاء الرحى.

بيانه : أنّ الحسّ يشهد بأنّ المتحرّك على الاستدارة - كالرحى - باق على وضعه ونسبة أجزائه ، فإذا فرضنا خطّا خارجا من مركز الرحى إلى الطوق العظيم منها ، فذلك الخطّ يكون مركّبا من أجزاء لا تتجزّأ على هذا القول ، فإذا تحرّك الجزء الأبعد الواقع على الطوق جزءا واحدا من مسافته ، فالجزء الذي يلي المركز إمّا أن يتحرّك أقلّ من جزء أو جزءا أو يسكن.

وعلى الأوّل يلزم انقسام الجزء ، وهو خلاف الفرض.

وعلى الثاني يلزم تساوي حركة الجزء الذي على الطوق ومسافته مع الجزء الذي يلي المركز ، وهو محال بالضرورة.

وعلى الثالث يلزم انفصال الجزء الذي يلي المركز عن الجزء الذي على الطوق ، فيلزم تفكيك أجزاء الرحى ، وهو باطل بالضرورة.

الثاني : سكون المتحرّك.

بيانه أنّ السرعة والبطء كيفيّتان قائمتان بالحركة لا باعتبار تخلّل السكنات وعدمه ؛ لأنّه لو كان بسبب تخلّل السكنات ، لزم أن يكون فضل سكنات الفرس السائر من أوّل النهار إلى آخره خمسين فرسخا على حركاته ، بقدر فضل حركات الشمس من أوّل النهار إلى آخره على حركات الفرس ، لكن فضل حركات الشمس أضعاف أضعاف حركات الفرس ، فتكون سكنات الفرس أضعاف أضعاف حركاته ، لكنّ الحسّ يكذّب ذلك.

إذا ثبت هذا فنقول : إذا فرضنا أنّ فرسا - مثلا - سار من أوّل النهار إلى آخره خمسين فرسخا ، ولا شكّ أنّ الشّمس قد سارت في هذه المدّة نصف الدورة ، فعند حركة الشمس وقطعها مسافة مساوية لجزء واحد لا يخلو إمّا أن يتحرّك الفرس

ص: 273

جزءا أو أقلّ أو يسكن.

والأوّل يوجب أن تكون حركة الفرس مساوية لحركة الشمس مع أنّ المسافة التي قطعتها الشمس زائدة على خمسين فرسخا بآلاف ألوف.

والثاني يوجب انقسام الجزء.

والثالث يوجب سكون المتحرّك دائما ولا أقلّ من أن يرى تارة ساكنا وأخرى متحرّكا ، لكنّا لا نحسّ سكونه أصلا.

الثالث : انتفاء الدائرة مع أنّها موجودة بالحسّ.

بيانه : أنّا لو قلنا بكون الخطّ مركّبا من الأجزاء التي لا تتجزّأ يلزم انتفاء الدائرة ؛ فإنّه لو فرضنا حينئذ دائرة ، فإمّا أن تتلاقى ظواهر أجزائها كما تلاقت بواطنها ، أو لا.

ولا سبيل إلى الأوّل ؛ إذ يلزم أن تكون مساحة ظاهرها كمساحة باطنها على هذا القول ، وكذا ظواهر الدوائر المحيط بعضها ببعض إلى أن تبلغ دائرة تساوي منطقة الفلك الأعظم ، فيلزم تساوي الدائرة العظيمة والصغيرة ، وهذا باطل بالضرورة.

وعلى الثاني - وهو عدم تلاقي ظواهرها مع تلاقي بواطنها ، مع لزوم الانقسام والتجزّي المنافي للقول بالجزء الذي لا يتجزّأ - يلزم كون ما فرض دائرة شكلا مضرّسا لا دائرة حقيقيّة ، فيلزم انتفاء الدائرة مع أنّ الحسّ يكذّبه.

واحتمال عدم إحساس ما به التضرّس كالذرّات المبثوثة مدفوع بأنّه إن كان أصغر من الجزء لزم انقسامه ، وإلاّ لزم إحساسه.

قال : ( والنقطة عرض قائم بالمنقسم باعتبار التناهي ).

أقول : هذا جواب عن حجّة من أثبت الجزء.

وتقريرها : أنّ النقطة موجودة ؛ لأنّها نهاية الخطّ ، فإن كانت جوهرا فهو المطلوب ، وإن كانت عرضا فمحلّها إن انقسم انقسمت ؛ لأنّ الحالّ في أحد الجزءين مغاير للحالّ في الآخر ، وإن لم ينقسم فهو المطلوب.

والجواب : أنّها عرض قائم بالمنقسم ، ولا يلزم انقسامها لانقسام المحلّ ؛ لأنّ

ص: 274

الحالّ في المنقسم إذا كان حلوله من حيث ذاته المنقسمة يلزم من انقسام المحلّ انقسام الحالّ ، وإلاّ فلا. وهاهنا النقطة حلّت في المنقسم باعتبار عروض التناهي له.

قال : ( والحركة لا وجود لها في الحال ، ولا يلزم نفيها مطلقا ).

أقول : هذا جواب عن حجّة أخرى لهم ، وهي أنّ الحركة موجودة بالضرورة ، وهي من الموجودات غير القارّة ، فإمّا أن يكون وجودها في الحال أو في غيرها.

والثاني باطل ؛ لأنّ الماضي والمستقبل معدومان ، فلو لم تكن في الحال موجودة لزم نفيها مطلقا.

وإذا كانت موجودة في الحال ، فإن كانت منقسمة كان أحد طرفيها سابقا على الآخر ، فلا يكون الحاضر كلّه حاضرا ، وهذا خلف. وإن لم تكن منقسمة كانت المسافة غير منقسمة ؛ لأنّها لو انقسمت لانقسمت الحركة ؛ لأنّ الحركة في أحد الجزءين مغايرة للحركة في الجزء الآخر فتكون الحركة منقسمة ، مع أنّا فرضناها غير منقسمة.

والجواب : أنّ الحركة لا وجود لها في الحال ، ولا يلزم من نفيها في الحال نفيها مطلقا ؛ لأنّ الماضي والمستقبل وإن كانا معدومين في الحال لكن كلّ واحد منهما له وجود في حدّ نفسه ؛ فإنّ الماضي من الحركة موجود في الماضي من الزمان وإن لم يكن موجودا في الحال والاستقبال ، وكذا المستقبل من الحركة موجود في المستقبل من الزمان وإن لم يكن في الماضي والآن.

قال : ( والآن (1) لا تحقّق له خارجا ).

أقول : هذا جواب عن حجّة أخرى لهم ، وهي أنّ الآن موجود ؛ لانتفاء الماضي والمستقبل ، فإن كان الآن منفيّا كان الزمان منتفيا مطلقا ، ويستحيل انقسامه ، وإلاّ لزم

ص: 275


1- الآن - بالألف واللام - : الوقت الحاضر ، وعند الحكماء هو نهاية الماضي وبداية المستقبل ، به ينفصل أحدهما عن الآخر ، فهو فاصل بينهما بهذا الاعتبار وواصل باعتبار أنّه حدّ مشترك بين الماضي والمستقبل ، به يتّصل أحدهما بالآخر. انظر : « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » 1 : 74.

أن يكون الحاضر بعضه ، فلا يكون الآن كلّه آنا ، وهذا خلف. وإذا كان موجودا فالحركة الواقعة غير منقسمة ، وإلاّ لكان أحد طرفيها واقعا في زمان والآخر في زمان آخر ، فينقسم ما فرضناه غير منقسم ، وهذا خلف.

ويلزم من عدم انقسام الحركة عدم انقسام المسافة ، على ما مرّ تقريره.

وتقرير الجواب : أنّ الماضي والمستقبل موجودان في حدّ نفسهما لا في شيء من الأزمنة ليلزم أن يكون للزمان زمان ، ويكون الشيء ظرفا لنفسه ، كما أنّ المكان موجود في نفسه وإن لم يكن موجودا في شيء من الأمكنة.

نعم ، هما معدومان في الآن لا مطلقا ، والآن لا تحقّق له في الخارج ، بل هو شيء منتزع من آخر الماضي وأوّل المستقبل.

قال : ( ولو تركّبت الحركة ممّا لا يتجزّأ لم تكن موجودة ).

أقول : لمّا فرغ من النقض شرع في المعارضة ، فاستدلّ على أنّ الحركة لا تتركّب ممّا لا يتجزّأ ؛ لأنّها لو تركّبت ممّا لا يتجزّأ لم تكن موجودة ، والتالي باطل اتّفاقا فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة : أنّ الجزء إذا تحرّك من جزء إلى جزء فإمّا أن يوصف بالحركة حال كونه في الجزء الأوّل وهو باطل ؛ لأنّه حينئذ لم يأخذ في الحركة ، أو حال كونه في الجزء الثاني وهو باطل أيضا ؛ لأنّ الحركة حينئذ قد انتهت وانقطعت ، ولا واسطة بين الأوّل والثاني ليوصف بالحركة فيها ، فيلزم عدم وجود الحركة ، وهو محال ، وهذا المحال نشأ من إثبات الجوهر الفرد (1) ؛ لأنّه على تقدير عدمه تثبت الواسطة.

ويمكن أن يقرّر بيان الشرطية من وجه آخر ، وهو أنّ الحركة إمّا أن تكون عبارة عن المماسّة الأولى أو الثانية وهما محالان ؛ لما مرّ ، أو مجموعهما وهو باطل ؛ لانتفائه.

ص: 276


1- يطلق الجوهر عند الفلاسفة على عدّة معان ، فقد عرّفه ابن سينا في « النجاة » بأنّه كلّ ما وجود ذاته ليس في موضوع ، أي في محلّ قريب ، قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه. أمّا الجوهر عند المتكلّمين فهو الجوهر الفرد المتميّز الذي لا ينقسم ، أما المنقسم فيسمّونه جسما لا جوهرا ؛ ولذا لا يطلقون اسم الجوهر على المبدأ الأوّل.

قال : ( والقائل (1) بعدم تناهي الأجزاء يلزمه مع ما تقدّم (2) النقض بوجود المؤلّف (3) ممّا يتناهى ويفتقر في التعميم (4) إلى التناسب (5) ).

أقول : لمّا فرغ من إبطال مذهب القائلين بالجوهر الفرد ، شرع في إبطال مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا كالنظّام ، فإنّه ومن يحذو حذوه لمّا وقفوا على أدلّة نفاة الجزء - كلزوم تفكيك الرحى - ولم يقدروا على ردّها ، اضطرّوا إلى الحكم بأنّ كلّ جسم فهو قابل للانقسام لا إلى نهاية. ولمّا كان مذهبهم أنّ حصول الانقسام من لوازم قبول الانقسام ، ظنّوا أنّ جميع الانقسامات التي لا تتناهى حاصل في الجسم بالفعل ، فصرّحوا بأنّ في الجسم أجزاء غير متناهية موجودة بالفعل ، فلزمهم القول بالجزء الذي لا يتجزّأ ؛ لأنّه إذا كان كلّ انقسام ممكن حاصلا فيه بالفعل ، فالانقسام الذي ليس بحاصل غير ممكن ، فتكون أجزاؤه غير قابلة للانقسام ، فقد وقعوا فيما كانوا هاربين عنه من إثبات الجزء ومفاسده ، مضافا إلى النقض بالجسم الذي فرض أنّه مركّب من أجزاء متناهية كالثمانية ، فإنّه جسم مع تناهي أجزائه.

وهذا هو الوجه الأوّل الدالّ على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء.

وأمّا قوله : « ويفتقر في التعميم إلى التناسب » فمعناه أنّا إذا أردنا تعميم القضيّة بأن يحكم أنّه لا شيء من الأجسام بمؤلّف من أجزاء غير متناهية فطريقه أن ينسب هذا المؤلّف الذي ألّفناه من الأجزاء المتناهية إلى بقيّة الأجسام ، فنقول : كلّ جسم فإنّه متناه في المقدار فله إلى هذا المؤلّف نسبة ، وهي نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار نعلم أنّ المقدار يزيد بزيادة الأجزاء أو ينقص بنقصانها ، فنسبة المقدار إلى المقدار كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء ، لكن نسبة المقدار إلى المقدار نسبة متناه إلى

ص: 277


1- أي النظّام. ( منه رحمه اللّه ).
2- من مفاسد إثبات الجزء. ( منه رحمه اللّه ).
3- أي الجسم الذي فرض أنّه مركّب من أجزاء متناهية كالثمانية. ( منه رحمه اللّه ).
4- أي الحكم بكون كلّ جسم متناهي الأجزاء. ( منه رحمه اللّه ).
5- أي ملاحظة كون نسبة حجم إلى حجم آخر كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء في كونها نسبة المتناهي إلى المتناهي.

متناه ، فكذا نسبة الأجزاء إلى الأجزاء فيكون كلّ جسم مؤلّفا من أجزاء متناهية.

قال : ( ويلزم عدم لحوق السريع البطيء ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدالّ على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء.

وتقريره : أنّ الجسم لو تركّب من أجزاء غير متناهية لزم أن لا يلحق السريع البطيء ، والتالي باطل بالضرورة ، فكذا المقدّم.

بيان الشرطية : أنّ البطيء إذا قطع مسافة ثمّ ابتدأ السريع وتحرّك فإنّه إذا قطع ذلك الجزء من المسافة يكون البطيء قد قطع جزأ من آخر ؛ لعدم تخلّل السكون بشهادة الحسّ ، فإذا قطع السريع جزءا قطع البطيء جزءا آخر وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فلا يلحق السريع البطيء.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه جار فيما إذا كان الأجزاء متناهية أيضا.

والأولى أن يجعل وجها لإبطال الجزء الذي لا يتجزّأ ، كما لا يخفى.

قال : ( وأن لا يقطع المسافة المتناهية في زمان متناه ).

أقول : هذا وجه ثالث قريب من الوجه الثاني.

وتقريره : أنّا لو فرضنا الجسم يشتمل على ما لا يتناهى من الأجزاء ، لزم أن لا يقطع المتحرّك المسافة المتناهية في زمان متناه ؛ لأنّه لا يمكن قطعها إلاّ بعد قطع نصفها ، ولا يمكنه قطع نصفها إلاّ بعد قطع ربعها ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فتكون هناك أزمنة غير متناهية ، فامتنع قطعها إلاّ في زمان غير متناه ، فيلزم أن لا يلحق السريع البطيء إذا توسّط بينهما مسافة قليلة ؛ ولهذا جعل الوجهان وجها واحدا.

قال : ( والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ).

أقول : اعلم أنّ القائلين بعدم تناهي الأجزاء اعتذروا عن الأوّل بالتداخل ، فقالوا : لا يلزم من عدم تناهي الأجزاء عدم تناهي المقدار ؛ لأنّ الأجزاء تتداخل باندراج بعضها في بعض من غير زيادة في الحجم ، فيصير جزءان أو أزيد جزءا واحدا وفي قدره ، فلا يلزم بقاء النسبة وكون نسبة الحجم إلى الحجم كنسبة الأجزاء إلى الأجزاء

ص: 278

حتّى يلزم كون كلّ جسم مؤلّفا من أجزاء متناهية.

واعتذروا عن الوجهين الآخرين بالطفرة بأن يحاذي المتحرّك بعض أجزاء المسافة دون بعض ؛ فإنّ المتحرّك إذا قطع مسافة غير متناهية الأجزاء في زمان متناه فإنّه يطفر بعض الأجزاء فلا يحاذيه ويتحرّك عن البعض الآخر ، وكذلك السريع يطفر بعض الأجزاء فيلحق بالبطيء ، كما أنّ الشمس وقت طلوعها يبلغ ضوؤها إلى أقصى نصف كرة الأرض ونحو ذلك ، مع استحالة قطع هذه المسافة في الزمان اليسير.

ولا يخفى أنّ الضوء ليس جسما متحرّكا كما توهّموا ، بل الأجزاء الهوائيّة لكونها مستعدّة للاستضاءة تستضيء بتمام أجزائها بمجرّد المقابلة ، فيتوهّم حركة الضوء والشعاع.

وبالجملة ، فهذان العذران باطلان بالضرورة.

قال : ( والقسمة بأنواعها تحدث اثنينيّة تساوي طباع كلّ واحد منهما طباع المجموع ).

أقول : يريد أن يبطل مذهب ذيمقراطيس (1) في هذا الموضوع.

بيانه : أنّ القسمة إمّا أن توجب انفصالا في الخارج أو لا.

والأولى هي القسمة الانفكاكيّة المنقسمة إلى الكسريّة والقطعيّة بالاحتياج إلى الآلة المفصّلة بالنفوذ وعدمه.

والثانية هي القسمة الفرضيّة ، وربّما تسمّى وهميّة أيضا.

وقد يفرّق بينهما بأنّ الفرضيّة ما هو يفرض العقل كلّيّا ، والوهميّة ما هو بحسب المتوهّم جزئيّا.

والفرضيّة إمّا أن تكون بمجرّد الفرض من غير سبب حامل عليه أو تكون بسبب حامل عليه كاختلاف عرضين قارّين أو غير قارّين أو نحو ذلك.

ص: 279


1- انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 184 - 187 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 18 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 54.

وحيث لم تكن الأدلّة السابقة دالّة على أنّ كلّ جسم مفرد قابل للقسمة الانفكاكيّة ، بل إنّما تدلّ على أنّه قابل للقسمة الوهميّة ، أراد أن يبيّن أنّ كلّ جسم كما هو قابل للقسمة الوهميّة كذلك قابل للقسمة الانفكاكيّة ؛ فإنّ القسمة بأنواعها الثلاثة - أعني الانفكاكيّة والوهميّة والتي تكون من جهة اختلاف الأعراض الإضافيّة أو الحقيقيّة - تحدث في المقسوم اثنينيّة تكون طبيعة كلّ واحد من القسمين مساوية لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه الموافق له في الماهيّة.

وكلّ واحد من القسمين لمّا صحّ عليه الانفكاك عن صاحبه وكذا كلّ واحد من قسمي القسمين إلى ما لا يتناهى ، فجواز القسمة الوهميّة ملزوم لجواز القسمة الانفكاكيّة ، فبطل مذهب ذيمقراطيس وأتباعه ، وهو أنّ مبادئ الأجسام البسيطة أجسام صغار صلبة متجزّئة في الوهم لا الخارج ، فالجسم المتّصل بالحقيقة غير قابل للانفصال الفكّي وما يقبله كالماء واتّصاله بحسب الحسّ لا بالحقيقة (1) ووجه البطلان واضح.

قال : ( وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي ).

أقول : بعض الأجسام قد يمتنع عليه القسمة الانفكاكيّة لا بالنظر إلى ذاتها ، بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسميّة : إمّا صغر المقسوم بحيث لا يتناوله الآلة القاسمة ، أو صلابته ، أو حصول صورة تقتضي ذلك ، كما في الفلك عندهم ، ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي ، فلا يلزم عدم كونه غير قابل للقسمة الانفكاكيّة.

قال : ( فقد ثبت أنّ الجسم شيء واحد متّصل يقبل الانقسام إلى ما لا يتناهى ).

أقول : هذا نتيجة ما مضى ؛ لأنّه قد أبطل القول بتركّب الجسم من الجواهر المفردة ، سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، وثبت أنّه واحد في نفسه متّصل لا مفاصل له بالفعل ، ولا شكّ في أنّه يقبل الانقسام ، فإمّا أن يكون لما يتناهى من

ص: 280


1- انظر : نفس المصادر المتقدّمة.

الانقسام لا غير ، وهو باطل ؛ لما تقدّم في إبطال مذهب ذيمقراطيس ، أو لما لا يتناهى ، وهو المطلوب.

المسألة السابعة : في نفي الهيولى.

قال : ( ولا يقتضي ذلك ثبوت مادّة سوى الجسم ؛ لاستحالة التسلسل ووجود ما لا يتناهى ).

أقول : اختلف العلماء في ثبوت الهيولى وعدمه على قولين :

الأوّل : ثبوتها كما عن أرسطو (1) ومن تابعه (2) ، قالوا : إنّ الجوهر المتّصل في ذاته الذي كان بلا مفصل إذا طرأ عليه الانفصال انعدم وحدث هناك جوهران متّصلان في ذاتهما ، فلا بدّ هناك من شيء آخر مشترك بين المتّصل الأوّل وبين هذين المتّصلين ، ولا بدّ أن يكون ذلك الشيء باقيا بعينه في الحالتين ، وإلاّ لكان تفريق الجسم إلى قسمين إعداما للجسم بالكلّيّة وإيجادا لجسمين آخرين من كتم العدم.

والضرورة تقتضي بطلانه ، ويشهد على ذلك أنّ العذرة - مثلا - إذا صارت دودا ثمّ صار الدود ترابا ، تتعاقب الصور النوعيّة ، فلا بدّ من محلّ تتوارد عليه تلك الصور ، وإلاّ لزم إعدام شيء وإيجاد شيء آخر من كتم العدم ، وهو باطل بالضرورة.

الثاني : عدم ثبوت الهيولى كما عن أفلاطون (3) ومن تابعه (4) ، قالوا : الجوهر المتّصل قائم بذاته غير حالّ في شيء آخر ، وهو الجسم المطلق ، فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج ، وقابل لطريان الاتّصال والانفصال مع بقائه في

ص: 281


1- انظر : « ميتافيزك أرسطو » : 390.
2- منهم ابن سينا في « الشفاء » الإلهيّات : 61 - 71 و « النجاة » : 21 ، وتلميذه بهمنيار في « التحصيل » : 312 وما بعدها.
3- نقل عنه ذلك في « شرح المواقف » 7 : 6 و « شرح المقاصد » 3 : 61 و « المحاكمات » كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 36.
4- منهم السهروردي في « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 2 : 36.

الحالين بذاته ، فهو من حيث جوهره وذاته يسمّى جسما ، ومن حيث قبوله للصّور النوعيّة التي لأنواع الأجسام يسمّى هيولى.

واختار المصنّف هذا المذهب. وقد ذهب إلى ذلك المذهب جماعة من المتكلّمين (1) وأبو البركات البغدادي (2) كما حكي.

وقال أبو عليّ - على ما حكي - : « إنّ الجسم مركّب من الهيولى والصورة » (3).

واحتجّ عليه بأنّ الجسم متّصل في نفسه ، وقابل للانفصال ، ويستحيل أن يكون القابل هو الاتّصال نفسه ؛ لأنّ الشيء لا يقبل عدمه ، فلا بدّ للاتّصال من محلّ يقبل الانفصال والاتّصال ، وذلك هو الهيولى ، والاتّصال هو الصورة (4). فاستدرك المصنّف رحمه اللّه ذلك وقال : « إنّ ذلك - أي قبول الانقسام - لا يقتضي ثبوت مادّة » كما قرّرناه في كلام أبي عليّ ؛ لأنّ الجسم المتّصل له مادّة واحدة إذا قسمناه استحال أن تبقى تلك المادّة على وحدتها اتّفاقا ، بل يحصل لكلّ جزء مادّة.

فإن كانت مادّة كلّ جزء حادثة بعد القسمة لزم التسلسل ؛ لأنّ كلّ حادث عندهم لا بدّ له من مادّة ، وتكون تلك المادّة أيضا حادثة على هذا التقدير ، فيحتاج إلى مادّة ثالثة ، وهكذا ، فيلزم التسلسل.

وإن كانت موجودة قبل القسمة لزم وجود موادّ لا نهاية لها بحسب ما في الجسم من قبول الانقسامات التي لا تتناهى ؛ لاستحالة أن تكون مادّة هذا نفس مادّة ذاك بعينها ؛ حذرا عن كون الواحد بالشخص في آن واحد في مكان متعدّد.

وفيه : أنّ المادّة واحدة عند وحدة الاتّصال ، ومتعدّدة عند تعدّده ، كالجسم المطلق عندهم ، فلا يلزم وجود موادّ متعدّدة بالفعل ، بل المادّة شيء يعرضه الوحدة والتعدّد ؛

ص: 282


1- منهم الفخر الرازي في « المحصّل » : 274 ؛ و « المباحث المشرقيّة » 2 : 46 - 53 ؛ والعلاّمة الحلّي في « إيضاح المقاصد » : 127 ؛ ونهاية المرام في علم الكلام » 2 : 507 - 527.
2- « المعتبر في الحكمة » 2 : 10 - 15.
3- « الشفاء » الإلهيّات : 71.
4- « الشفاء » الإلهيّات : 66 - 67 ؛ « النجاة » : 201 - 202.

إذ هي مع المتّصل الواحد واحدة ، ومع المتعدّد متعدّدة ، وهي جوهر يسمّى ب- « الهيولى الأولى » ويحلّ فيه متّصل واحد حال الاتّصال ، ومتّصلان حال الانفصال ، ويسمّى ذلك الجوهر المتّصل ب- « الصورة الجسميّة » والجسم المطلق مركّب منهما ، وذلك يسمّى « جسما طبيعيّا » لكونه موجودا في الطبيعة والخارج ، والقابل للأبعاد الثلاثة - وهي الطول والعرض والعمق ، أعني الكمّيّة السارية في الجهات الثلاث - وهو « الجسم التعليمي » لتعلّق التعليم به أوّلا.

المسألة الثامنة : في إثبات المكان

المسألة الثامنة : في إثبات المكان (1).

قال : ( ولكلّ جسم مكان طبيعيّ يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق ).

أقول : كلّ جسم على الإطلاق - بسيطا كان أو مركّبا - فإنّه يفتقر إلى مكان يحلّ فيه ؛ لاستحالة وجود الجسم مجرّدا عن كلّ الأمكنة.

ولا بدّ وأن يكون ذلك المكان طبيعيّا له ؛ لأنّا إذا جرّدنا الجسم عن كلّ العوارض الخارجة فإمّا أن لا يحلّ في شيء من الأمكنة ، وهو محال بالضرورة ، أو يحلّ في الجميع ، وهو أيضا باطل بالضرورة ، أو يحلّ في البعض وليس مستندا إلى أمر خارج ؛ إذ المفروض خلوّه عنه ، ولا إلى الجسميّة المشتركة ؛ لأنّ نسبتها إلى الأمكنة كلّها على السويّة ، بل إلى أمر آخر داخل فيه مختصّ به ، وهو المراد بالطبيعة ، فيكون ذلك البعض طبيعيّا ؛ ولهذا إذا خرج من مكانه عاد إليه ، وإنّما يرجع إليه على أقرب الطرق ، وهو الاستقامة.

قال : ( فلو تعدّد انتفى ).

ص: 283


1- المكان : الموضع ، وهو المحلّ المحدّد الذي يشغله الجسم. وذهب المشّاءون ومتأخّر والحكماء - كابن سينا والفارابي - إلى أنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحوي. وأمّا الإشراقيّون فقد ذهبوا إلى أنّ المكان هو البعد المجرّد الموجود ، وهو ألطف من الجسمانيّات وأكثف من المجرّدات. وذهب المتكلّمون إلى أنّه بعد موهوم مفروض يشغله الجسم ، ويملأه على سبيل التوهّم ، وهو الخلاء.

أقول : يريد أن يبيّن أنّ المكان الطبيعي واحد ؛ لأنّه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيّان لكان إذا حصل في أحدهما تاركا للثاني بالطبع ، وكذا بالعكس ، فلا يكون واحد منهما طبيعيّا له ؛ فلهذا قال : « فلو تعدّد » يعني الطبيعي « انتفى » ولم يكن له مكان طبيعي.

قال : ( ومكان المركّب مكان الغالب أو ما اتّفق وجوده فيه ).

أقول : المركّب إن تركّب من جوهرين ، فإن تساويا وتمانعا وقف في الوسط بينهما ، وإن غلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب ، فإن تركّب من ثلاثة وغلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب ، وإلاّ كان في الوسط ، وإن تركّب من أربعة متساوية حصل في الوسط أو ما اتّفق وجوده فيه ، وإن غلب أحدهما كان في مكانه.

قال : ( وكذا الشكل (1) والطبيعي منه الكرة ).

أقول : قيل في تعريف الشكل : إنّه ما أحاط به حدّ واحد أو حدود (2).

وفي التحقيق أنّه من الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات ، وهي هيئة إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالجسم (3).

وهو طبيعيّ وقسريّ ؛ لأنّ كلّ جسم متناه على ما يأتي ، وكلّ متناه له شكل بالضرورة ، فإذا فرض عاريا عن جميع العوارض ، لم يكن له بدّ من شكل أيضا ، فعلّته طبيعة الجسم لا غيره ، فيكون طبيعيّا له.

ولمّا كانت الطبيعة واحدة والقابل واحدا - وما عدا شكل الكرة من الأشكال مشتملا على تعدّد الأفعال من الخطّ والنقطة وغيرهما ، وأثر الواحد واحد - كان الشكل الطبيعي هو المستدير ، والأشكال الباقية قسريّة.

ص: 284


1- الشكل هو الهيئة الحاصلة من إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالمقدار ، أي الجسم التعليمي أو السطح ، فالأوّل كشكل الكرة ، والثاني كشكل المثلّث.
2- انظر : « كتاب التعريفات » : 169 ، الرقم 837.
3- انظر : « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » 1 : 1039.

المسألة التاسعة : في تحقيق ماهيّة المكان.

قال : ( والمعقول من الأوّل البعد ؛ فإنّ الأمارات تساعد عليه ).

أقول : « المكان » لغة الموضع كما في « الصحاح » (1) و « القاموس » (2) ، وله إطلاقان :

الأوّل بحسب الاشتقاق ، وهو موضع كون الشيء وحدوثه.

والثاني الإطلاق الاسمي ، وهو ما يعتمد عليه المتمكّن عند القيام أو نحوه ممّا يحصل به الاستقرار. والظاهر عدم مدخليّة للهواء فيه.

وأرباب المعقول قد اختلفوا في حقيقة المكان.

فعند المشّائين - كما حكي عن أرسطو (3) وابن سينا (4) أيضا - أنّه عبارة عن السطح الباطن للجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحويّ.

وعند الإشراقيّين - كما حكي عن أفلاطون (5) أيضا - أنّه عبارة عن البعد الموجود المجرّد عن المادّة ، المنقسم في جميع الجهات ، المساوي للبعد الذي في الجسم بحيث ينطبق أحدهما على الآخر الساري فيه بكلّيّته.

وعند المتكلّمين عبارة عن البعد الموهوم الذي يشغله الجسم على سبيل التوهّم على وجه الانطباق المذكور (6).

ومثله الحيّز ؛ فإنّه الفراغ الموهوم المشغول بالمتحيّز الذي لو لم يشغله ، لكان

ص: 285


1- « الصحاح في اللغة » 4 : 2191 ، « كون ».
2- « القاموس المحيط » 4 : 266 ، « كون ».
3- نقل عنه في « جامع المقاصد » 2 : 199 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 157 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 300.
4- « الشفاء » الطبيعيات 1 : 137 ؛ « النجاة » : 124 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 185 ؛ « رسالة الحدود » : 33.
5- انظر : « جامع المقاصد » 2 : 199 - 200 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 301 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 300 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1635 ؛ « جامع العلوم في اصطلاحات الفنون » 3 : 307.
6- « نهاية المرام » 1 : 384 ؛ « التعريفات » : 292 ، الرقم 1466 ؛ « جامع العلوم في اصطلاحات الفنون » 3 : 317 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1635.

خلاء ، كداخل الكوز للماء (1).

وعند بعض هو ما يوجب الامتياز في الإشارة الحسّيّة (2) فهو أعمّ من المكان ، لتناوله الوضع الذي يمتاز به المحدّد عن غيره في الإشارة الحسّيّة ؛ إذ ليس وراءه جسم آخر.

نعم ، له وضع ومحاذاة بالنسبة إلى ما في جوفه.

والمصنّف اختار مذهب من قال بالبعد ؛ فإنّ « الأوّل » يعني به المكان ؛ لأنّه قد بيّن أنّ الجسم يقتضي بطبعه شيئين : المكان والشكل ، ولمّا كان الشكل ظاهرا وكان طبيعيّا ذكره بعد المكان ، ثمّ عاد إلى تحقيق ماهيّة المكان ، فالمراد أنّ المعقول من المكان البعد وإن كان فيه بعد.

والدليل على ما اختاره المصنّف أنّ المعقول من المكان إنّما هو البعد فإذا فرضنا الكوز خاليا من الماء ، تصوّرنا الأبعاد التي يحيط بها جرم الكوز بحيث إذا ملئ ماء شغلها الماء بجملتها والأمارات المشهورة في المكان - من قولهم : إنّه ما يتمكّن المتمكّن فيه ويستقرّ عليه ويساويه ، وما يوصف بالخلوّ والامتلاء - تساعد على أنّ المكان هو البعد المنقسم في جميع الجهات ، المساوي للبعد الذي في الجسم بحيث ينطبق أحدهما على الآخر الساري فيه بكلّيّته. وذلك البعد إمّا أن يكون أمرا موهوما يشغله الجسم ويملؤه على سبيل التوهّم كما عن المتكلّم (3) ، أو يكون بعدا موجودا مجرّدا ؛ لئلاّ يلزم تداخل الأجسام ، ويكون جوهرا ؛ لقيامه بذاته وتوارد الممكنات عليه مع بقاء تشخّصه ، فكأنّه جوهر متوسّط بين العالمين ، أعني الجواهر المجرّدة

ص: 286


1- « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » 1 : 725.
2- نسبه الجرجاني في « شرح المواقف » 5 : 131 إلى القيل. وفي « كشّاف اصطلاحات الفنون » 1 : 725 نسبه إلى التفتازاني.
3- انظر : « جامع المقاصد » 2 : 199 - 200 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 301 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 300 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 : 1635.

والأجسام المادّية ، كما عن أفلاطون ومن تابعه من الحكماء الإشراقيّين (1).

والإنصاف أنّ المعقول من المكان ما يعتمد عليه المتمكّن عند القيام ونحوه ، من غير مدخليّة تمام السطح سيّما الفوقاني ، ومن غير تصوّر البعد ، ولهذا يقال : إنّ الجسم هنا أو هناك من غير توقّف على أنّه هل يحيط به جسم أم لا؟ وكذا ملاحظة البعد إن لم نقل بفهم خلافه.

نعم ، يشكل الأمر في الفلك الأعظم المحيط بالعالم ؛ فإنّه جسم غير معتمد على شيء.

اللّهمّ إلاّ أن يلتزم وجود جسم بلا مكان ، كما يقال : إنّ القائلين بالسطح التزموه ، وهو ظاهر ما يقال : إنّه تعالى خلق السماوات بغير عماد.

قال : ( واعلم أنّ البعد ، منه ملاق للمادّة وهو الحالّ في الجسم ويمانع مساويه ، ومنه مفارق تحلّ فيه الأجسام ويلاقيها بجملتها ويداخلها بحيث ينطبق على بعد المتمكّن ويتّحد به ، ولا امتناع ؛ لخلوّه عن المادّة ).

أقول : لمّا فرغ من بيان ماهيّة المكان شرع في الجواب عن شبهة مقدّرة تورد على كون المكان بعدا ، وهي أنّ المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين ، والتالي محال ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ المتمكّن له بعد ، فإن كان المكان هو البعد وبقيا معا لزم الاجتماع والاتّحاد ؛ إذ لا يزيد البعد الحاوي عند حلول المحويّ. وإن عدم أحدهما كان المعدوم حالاّ في الموجود أو بالعكس ، وهما محالان.

وأمّا بيان استحالة التالي فضروريّ ؛ لما تقدّم من امتناع الاتّحاد ، ولأنّ المعقول من البعد الشخصي إنّما هو البعد الذي بين طرفي الحاوي ، فلو تشكّك العقل في تعدّده بأن يحتمله لزم السفسطة.

وأيضا تجويز نفوذ البعد المكاني في البعد القائم بالمتمكّن يؤدّي إلى تجويز

ص: 287


1- تقدّم في ص 286 ، التعليقة 3.

دخول أجسام العالم في حيّز خردلة ؛ فإنّه إذا أخذ خردلتان وفرض تداخل بعديهما القائمين بهما ، يلزم كونهما في حيّز خردل واحد ، وكذا إذا انضمّ واحد بعد واحد.

وتقرير الجواب - مضافا إلى منع تحقّق التداخل الممنوع في الجوهر والعرض ، أعني البعد المكاني والبعد الجسماني - أنّ البعد ينقسم إلى قسمين :

أحدهما بعد مقارن للمادّة وحالّ فيها ، وهو البعد المقارن للجسم القائم به.

والثاني مجرّد مفارق للمادّة ، وهو الحالّ بين الأجسام المباعدة للجسم.

والأوّل يمانع مساويه ، يعني البعد الآخر المقارن للمادّة أيضا فلا تجامعه ؛ لاستحالة التداخل بين بعدين مقارنين.

والثاني - وهو البعد المجرّد الذي لا يقوم بالمادّة - لا يستحيل عليه أن يداخله بعد مادّي ، بل يداخله ويطابقه ويتّحد به بحسب الإشارة الحسّيّة ، وهو محلّ الجسم المتداخل بعده. ولا امتناع في هذه المداخلة والاتّحاد ؛ لأنّ هذا البعد خال عن المادّة ، فيجوز التداخل فيه من غير أن يفضي إلى الاستحالة المذكورة.

قال : ( ولو كان المكان سطحا لتضادّت الأحكام ).

أقول : لمّا بيّن حقيقة المكان ، شرع في إبطال مذهب المخالفين القائلين بأنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي.

وتقرير البطلان : أنّ المكان لو كان هو السطح لتضادّت الأحكام العارضة للجسم الواحد ؛ فإنّ الحجر الواقف في الماء ، والطير الواقف في الهواء يفارقان سطحا بعد سطح مع كونهما ساكنين ، ولو كان المكان هو السطح لكانا متحرّكين ؛ لأنّ الحركة هي مفارقة الجسم لمكان إلى مكان آخر ، ولكانت الشمس المتحرّكة الملازمة لسطحها ساكنة ، فيلزم سكون المتحرّك وحركة الساكن ، وذلك تضادّ في الأحكام محال ، فتأمّل. (1)

ص: 288


1- إشارة إلى أنّ الحركة عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني كونا مستندا إلى المكين ولو كان تبعا ، كحركة الراكب ، لا ما كان مستندا إلى المكان ، وكذا السكون ، فلا يلزم تضادّ المحالّ. ( منه رحمه اللّه ).

قال : ( ولم يعمّ المكان ).

أقول : هذا وجه ثان دالّ على بطلان القول بالسطح.

وتقريره : أنّ الحكماء حكموا باحتياج كلّ جسم إلى مكان (1) ، ولو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي لزم إمّا عدم تناهي الأجسام حتى يكون كلّ جسم في مكان ، أو وجود جسم ليس له مكان بأن يكون محيطا بجميع الأجسام ؛ إذ لا يحويه جسم ليكون سطحه الباطن مكانا له ، فلا يعمّ المكان الأجسام مع أنّا نقطع بأنّ كل جسم له مكان - وقد تقدّم بطلان عدم تناهي الأجسام - والقسمان باطلان فالمقدّم مثله ، فتأمّل.

المسألة العاشرة : في امتناع الخلاء.

المسألة العاشرة : في امتناع الخلاء. (2)

قال : ( وهذا المكان لا يصحّ عليه الخلوّ من شاغل ، وإلاّ لساوت حركة ذي المعاوق حركة عديمه عند فرض معاوق أقلّ بنسبة زمانيهما ).

أقول : اختلف الناس في هذا المكان ، فذهب قوم إلى جواز الخلاء ، وهم بعض القائلين بالبعد المجرّد أو الموهوم ، المسمّون بأصحاب الخلاء (3) ، حيث جوّزوا أن يخلو المكان عمّا يشغله.

وذهب آخرون - وهم القائلون بالسطح مع بعض القائلين بالبعد على ما حكي - إلى امتناعه (4) ، وهو اختيار المصنّف رحمه اللّه .

ص: 289


1- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 308 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 66.
2- الخلاء - عند المتكلّمين - امتداد موهوم مفروض في الجسم ، أو في نفسه صالح لأن يشغله الجسم وينطبق عليه بعده الموهوم ، ويسمّى أيضا بالمكان والبعد الموهوم والفراغ الموهوم. وقد جوّزه المتكلّمون ومنعه الحكماء القائلون بأنّ المكان هو السطح ، وأمّا القائلون بأنّه البعد المجرّد الموجود فهم أيضا يمنعون الخلاء بمعنى البعد المفروض فيما بين الأجسام. انظر « كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم » 1 : 756.
3- « شرح تجريد العقائد » : 160 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 310 ، ولمزيد المعرفة راجع « الشفاء » الطبيعيات 1 : 114 - 136.
4- حكاه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 160 ، ولمزيد المعرفة راجع « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 116 - 136 و « شوارق الإلهام » 2 : 310.

واستدلّ عليه بأنّ الخلاء لو كان ثابتا لكانت الحركة مع العائق كالحركة مع عدم العائق ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّا نفرض متحرّكا يقطع مسافة ما خالية عمّا يشغلها في ساعة ، ثمّ نفرض تلك المسافة ممتلئة وحركة ذلك المتحرّك بتلك القوّة فيها ، فلا محالة تكون في زمان أطول ؛ لأنّ الملاء الموجود في المسافة معاوق للمتحرّك عن الحركة فلنفرضه يقطعها في ساعتين ، ثمّ نفرض ملاء آخر أرقّ من الأوّل على نسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمانها في الملاء وهو النصف ، فتكون معاوقته نصف المعاوقة الأولى فيتحرّكها المتحرّك في ساعة ، لكنّ الملاء الرقيق معاوق أيضا فتكون الحركة مع المعاوق كالحركة بدونه ، وهو باطل.

وفيه نظر ؛ لأنّ نفس الحركة تقتضي زمانا ، والمعاوق الغليظ يقتضي زمانا غير الزمان الأوّل ، والمعاوق الرقيق إذا كان بقدر نصف المعاوق الغليظ يقتضي نصف ذلك الزمان الزائد ، لا نصف مجموع الزمانين حتّى يلزم تساوي زمان حركة ذي المعاوق - وهي التي في الملاء الرقيق - زمان حركة عديم المعاوق ، وهي التي في الخلاء ، بل تكون الحركات الثلاث على أنحاء ثلاثة.

وقد يمنع إمكان قوام يكون على نسبة زمان الخلاء إلى زمان الملاء ؛ لجواز انتهاء القوام في مراتب الرقّة إلى ما لا قوام أرقّ منه ، فتأمّل.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الجهة.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الجهة. (1)

قال : ( والجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ).

ص: 290


1- الجهة - بالكسر - عند الحكماء تطلق على معنيين : أحدهما : أطراف الامتدادات ، وبهذا المعنى يقال : ذو الجهات الثلاث أو السبع ؛ إذ لا تنحصر الجهة بهذا المعنى في الستّ ، بل تكون أقلّ أو أكثر ، وتسمّى « مطلق الجهة ».

أقول : لمّا بحث عن المكان وكانت الجهة ملائمة له ؛ لكون كلّ واحد منهما مقصدا للمتحرّك الأيني حتّى ظنّ أنّهما واحد ، عقّبه بالبحث عنها ، وهي - على ما حكي (1) عن جماعة من الأوائل (2) - عبارة عن طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ؛ وذلك لأنّا نتوهّم امتدادا آخذا من المشير ومنتهيا إلى المشار إليه ، فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ، وذلك الطرف بالنسبة إلى الحركة والإشارة يسمّى جهة ، وهو مقصد للمتحرّك بنحو الوصول إليه ، وأمّا المكان فهو مقصد للمتحرّك بالحصول فيه.

قال : ( وليست منقسمة ).

أقول : لمّا كانت الجهة عبارة عن الطرف لم تكن منقسمة ؛ لأنّ الطرف لو كان منقسما لم يكن الطرف كلّه طرفا ، بل نهايته تكون طرفا ، وهذا خلف ؛ ولأنّ المتحرّك إذا وصل إلى المقصد لم يخل إمّا أن لا يكون متحرّكا عن الجهة فلا يكون ما خلّف من الجهة ، أو يكون متحرّكا إليها فلا يكون المتروك من الجهة.

قال : ( وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة ).

أقول : الجهة ليست أمرا مجرّدا عن الموادّ وعلائقها ، بل هي من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسّيّة وتقصد بالحركة وبالإشارة ، فتكون موجودة ؛ لأنّ المعدوم لا يكون منتهى الإشارة الحسّيّة ومقصد المتحرّك للحصول فيه ، مع أنّ الجهة يقصد بالحركة الحصول فيها بمعنى الوصول إليها والقرب منها ؛ لأنّه المتعارف في التعبير ، فلا يرد أنّ الصواب أن يقال : « للوصول إليها » أو « القرب منها » كما في شرح القوشجي (3).

ص: 291


1- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 154.
2- منهم ابن سينا في « الإشارات والتنبيهات » ، راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 167 ، وفي « شرح المواقف » 7 : 82 نسبه إلى الحكماء.
3- « شرح تجريد الاعتقاد » : 164.

وقوله : « للحصول فيها » إشارة إلى دفع دخل مقدّر ، وهو أنّ ما يقصد بالحركة قد يكون معدوما ، كالبياض الذي يتحرّك الجسم إليه من السواد ؛ فإنّه معدوم.

ووجه الدفع : أنّه مقصود لتحصيله ، لا للحصول فيه.

قال : ( والطبيعي منها فوق وسفل وما عداهما غير متناه ).

أقول : المراد أنّ الجهة على قسمين : طبيعي وغير طبيعي.

والطبيعي ما يكون بالطبع ويستحيل تغيّره وانتقاله عن هيئته وتبدّله.

وغير الطبيعي ما يمكن تغيّره ، فإنّ القدّام - مثلا - قد يصير خلفا ، وكذا اليمين واليسار يتبدّلان.

وأمّا الفوق والسفل فلا تغيّر فيهما بالفرض ؛ لأنّ القائم إذا صار منكوسا لم يصر ما يلي رأسه فوقا وما يلي رجله تحتا ، بل صار رأسه من تحت ورجله من فوق.

وهذه الجهات التي ليست طبيعيّة وتكون متبدّلة غير متناهية ؛ لأنّها أطراف الخطوط المفروضة وتلك الخطوط غير متناهية ؛ إذ يمكن أن يفرض في كلّ جسم امتدادات غير متناهية ويكون كلّ طرف منها جهة.

والحكم بأنّ الجهات ستّ مشهور لا أصل له ، وسبب الشهرة أنّ الإنسان يحيط به جنبان عليهما اليدان وظهر وبطن ورأس وقدم ، والجانب الأقوى يسمّى يمينا ، وما يقابله يسارا ، وما يحاذي وجهه قدّاما ، وخلافه خلفا ، وما يلي رأسه طبعا فوقا ، وما يقابله تحتا.

مضافا إلى أنّ كلّ جسم يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قوائم ، ولكلّ بعد طرفان ، فلكلّ جسم جهات ستّ. والتعيين بملاحظة ما ذكر.

ولا شكّ أنّ قيام بعض الامتدادات على بعض ممّا لا يجب في اعتبار الجهات ، فيمكن أن يفرض من في جسم واحد امتدادات غير متناهية ، فتكون الجهات التي ليست لطبيعة غير متناهية.

ص: 292

[ الفصل الثاني : في الأجسام ]

اشارة

قال : ( الفصل الثاني : في الأجسام وهي قسمان : فلكيّة وعنصريّة ، أمّا الفلكيّة فالكلّيّة منها تسعة : واحد غير مكوكب محيط بالجميع وتحته فلك الثوابت ، ثمّ أفلاك الكواكب السبعة السيّارة ، وتشتمل على أفلاك التداوير وخارجة المراكز ، والمجموع أربعة وعشرون ، وتشتمل على سبعة متحيّرة (1) وألف ونيّف وعشرين كوكبا ثوابت. والكلّ بسائط خالية من الكيفيّات الفعليّة والانفعاليّة ولوازمها ، شفّافة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن مطلق الجوهر شرع في البحث عن جزئيّاته ؛ ليتحقّق النظر في ملكوت السماوات والأرض ، وبدأ بالجسم ؛ لأنّه أقرب من الجنس.

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في البحث عن الأجسام الفلكيّة.

اعلم أنّ الأجسام تنقسم إلى قسمين :

الأوّل : البسيطة ، وهي ما لم يكن مركّبا من أجسام مختلفة الطبائع بحسب الحقيقة من الأفلاك والعناصر.

الثاني : المركّبة ، وهي ما كان مركّبا من أجسام مختلفة الطبائع ، وهي المواليد

ص: 293


1- في نسخة أخرى : « سيّارة » كما أشار المصنّف لذلك في نسخة الأصل.

الثلاثة ، أعني المعادن والنباتات والحيوانات.

والبسيطة على قسمين : فلكيّة وعنصريّة. والمراد من الفلكيّة الفلك وما فيه من الأجرام الأثيريّة والعوالم العلويّة.

والفلك جسم بسيط كرويّ مستدير محيط بالأجسام السفليّة قابل للحركة المستديرة الدائمة ، وبها يكون حافظا للزمان.

والحركة الفلكيّة تنقسم : تارة إلى البسيطة التي تسمّى متشابهة أيضا ، وإلى المختلفة.

والبسيطة حركة تحدث بها حول المركز في الأزمنة المتساوية زوايا متساوية باعتبار الخطوط الخارجة إلى المحيط بالنسبة إلى كلّ نقطة من نقاط الحركة.

وبعبارة أخرى : يحدث في المحيط بسببها قسيّ متساوية.

والمختلفة ما ليست كذلك.

وأخرى إلى المفردة والمركّبة. والمفردة ما يصدر من فلك واحد. والمركّبة ما يصدر من متعدّد. وكلّ مفردة بسيطة من غير عكس. وكلّ مختلفة مركّبة من غير عكس.

والفلك على قسمين : كلّيّ وجزئيّ. والكلّيّ ما كان مستقلاّ ولا يكون جزءا لفلك آخر ، والجزئيّ ما كان جزءا لفلك آخر.

والفلك الكلّيّ تسعة :

الأوّل : الفلك الأعظم ، وهو محيط بالجميع ؛ ولهذا يسمّى ب- « فلك الأفلاك » وهو غير مكوكب ليس فيه كوكب ؛ ولهذا يسمّى ب- « الفلك الأطلس » ؛ تشبيها له بالأطلس الخالي عن النقوش.

الثاني : فلك البروج ، ويسمّى « فلك الثوابت » لكون الكواكب الثوابت مركوزة فيه ، وهو تحت فلك الأفلاك.

الثالث : فلك الزحل.

ص: 294

الرابع : فلك المشتري.

الخامس : فلك المرّيخ.

السادس : فلك الشمس.

السابع : فلك الزهرة.

الثامن : فلك عطارد.

التاسع : فلك القمر.

والتعداد المشهور على العكس بالابتداء من فلك القمر ؛ لكونه أقرب ، ففلك الأفلاك على هذا يصير تاسعا. وهذه الأفلاك التسعة متوافقة المركز.

ووجه إثباتها - كما أفيد (1) - أنّهم وجدوا في بادئ الرأي جميع الكواكب متحرّكة بالحركة اليوميّة السريعة من المشرق إلى المغرب فأثبتوا لها فلكا ، ثمّ وجدوا بنظر أدقّ أنّ جميع الكواكب الثوابت متحرّكة بحركة واحدة بطيئة من المغرب إلى المشرق فأثبتوا لها فلكا آخر. وكذا وجدوا الكواكب السبعة السيّارة ذات حركات غريبة مختلفة غير متشابهة بقياس بعضها إلى بعض بحسب البطء والسرعة والرجوع والاستقامة ، فأثبتوا لكلّ منها فلكا آخر ، فصارت الأفلاك تسعة.

مضافا إلى إخبار الصانع بأنّ السماوات سبعة (2) ، وأنّه وسع كرسيّه السماوات والأرض (3) ، وأنّ الرحمن على العرش استوى (4) ، ولهذا لم يجوّز المشهور أن تكون أقلّ ، فتجويز كون الأقلّ ثمانية أو سبعة - كما عن المصنّف وغيره (5) - محلّ المناقشة.

ص: 295


1- أفاد ذلك القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 165.
2- كما في سور : البقرة (2) : 140 ؛ الإسراء (17) : 44 ؛ المؤمنون (23) : 86 ؛ فصّلت (41) : 12 ؛ الملك (67) : 3 ؛ نوح (71) : 15.
3- كما في سورة البقرة (2) : 255.
4- كما في سورة طه (20) : 5.
5- انظر : « شرح المقاصد » 3 : 139 - 140 ؛ « شرح المواقف » 7 : 80 - 81 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 318.

نعم ، في جانب الكثرة يمكن الزيادة ؛ لجواز أن يكون كلّ من الثوابت في فلك ، وأن تكون الأفلاك غير المكوكبة كثيرة.

وبالجملة ، فتلك الأفلاك الكلّيّة مشتملة على أفلاك أخرى جزئيّة تنفصل إليها تلك الأفلاك الكلّيّة ؛ بشهادة أحوال الكواكب من البطء والسرعة والرجعة والاستقامة والخسوف والكسوف والتشكّلات البدريّة والهلاليّة واختلاف أوضاعها المخصوصة ، كما أفاد بعض (1) علماء الهيئة حيث قال :

« إنّ الشمس لها فلكان متوازيا السطحين : أحدهما : الممثّل بفلك البروج ، مركزه مركز العالم ومنطقته على سطح منطقة البروج وهو فلكها الكلّيّ. وثانيهما : خارج المركز وهو في ثخن الممثّل مركزه غير مركز العالم ، ولكن منطقته أيضا على سطح منطقة البروج ، ويماسّ محدّباهما ومقعّراهما على نقطتين تسمّى النقطة المشتركة في المحدّب الأبعد عن الأرض أوجا ، والنقطة المشتركة في المقعّر الأقرب منها حضيضا. وإنّ هيئات أفلاك الكواكب العلويّة - أعني زحل والمشتري والمرّيخ وكذا فلك الزهرة من السفليّة مثل هيئة فلك الشمس من غير تفاوت إلاّ في أمرين :

أحدهما : أنّ لكلّ منها فلكا في ثخن خارج المركز ، كما أنّ الشمس في ثخن خارج المركز ، ويسمّى بفلك التدوير ، ويماسّ سطح الخارج المركز على نقطتين يسمّى الأبعد من الأرض ذروة والأقرب إليها حضيضا ، وكلّ من تلك الكواكب الأربعة مركوز في تدويره بحيث يماسّ على نقطة في سطحه.

وثانيهما : أنّ منطقة خارج مركز تلك الكواكب ليست على سطح منطقة البروج ، بل تقاطعها على نقطتين متقاطرتين بكونهما على طرفي قطر من أقطار فلك البروج ، ويسمّى خارج المركز في غير الشمس بالفلك الحامل وأنّ هيئة فلك عطارد تتفاوت عن هيئات أفلاك الكواكب الأربعة في أمرين :

ص: 296


1- لعلّه بطلميوس. راجع « شرح الإشارات » 3 : 213 وما بعدها ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 2 :1. 1291.

أحدهما : أنّه يسمّى الفلك الذي يكون الحامل في ثخنه مديرا ، ومركزه غير مركز العالم ، ومنطقته في غير سطح منطقة البروج ، وهو مع الحامل في سطح واحد.

وثانيهما : أنّ لعطارد فلكا آخر يكون المدير في ثخنه مثل كون الحامل في ثخن المدير في تماسّ المحدّبين على نقطة مشتركة ، وكذا المقعّران. ومركزه مركز العالم ، ومنطقته على سطح منطقة البروج ، ويسمّى هذا الفلك ممثّلا لعطارد. وأنّ هيئة فلك القمر كهيئة أفلاك الكواكب الأربعة من غير تفاوت إلاّ في أمرين أيضا :

أحدهما : أنّ للقمر فلكا يكون الحامل في ثخنه ، ليس منطقته على سطح منطقة البروج ، بل مائلة عنه ، ويكون مع الحامل في سطح واحد ؛ ولهذا يسمّى ذلك الفلك بالفلك المائل.

وثانيهما : أنّ للقمر فلكا آخر متوازي السطحين محيطا بفلك يكون الحامل في ثخنه ، ومركزه مركز العالم ، ومنطقته على سطح منطقة البروج ، ويسمّى جوزهرّا ».

والحاصل : أنّ الشمس لها فلكان : الممثّل ، وخارج المركز. والقمر له أربعة أفلاك : الجوزهرّ والمائل والحامل والتدوير. وزحل والمشتري والمرّيخ والزهرة لكلّ واحد منها ثلاثة أفلاك : الممثّل والحامل والتدوير. وعطارد له أربعة أفلاك : الممثّل والمدير والحامل والتدوير ، فالمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون فلكا.

فظهر أنّ الأفلاك الكلّيّة غير الفلكين العظيمين منفصلة إلى أفلاك جزئيّة بعضها التداوير ، وبعضها خارجة المراكز ، وبعضها غيرهما ، والمجموع أربعة وعشرون على ما ذكره المصنّف.

وأورد عليه الشارح القوشجي (1) : أوّلا : بأنّ كلامه صريح في أنّ الأفلاك الجزئيّة إنّما تكون تداوير وخارجة المركز ، وهذا خطأ ؛ فإنّ من الأفلاك الجزئيّة للقمر جوزهرّا ومائلا وهما فلكان موافقا المركز.

ص: 297


1- « شرح تجريد العقائد » : 167.

وثانيا : أنّ عدد الأفلاك - على ما هو المشهور - ترتقي إلى خمسة وعشرين ؛ لأنّ لكلّ من المتحيّرة مع القمر تدويرا واحدا فالتداوير ستّة ، ولكلّ من السيّارة فلكا خارج المركز سوى عطارد فإنّ له فلكين خارجي المركز فالأفلاك الخارجة المركز ثمانية ، وللقمر فلكان آخران موافقا المركز على ما مرّ ، فعدد الأفلاك الجزئيّة تصير ستّة عشر ، وهي مع الأفلاك الكلّيّة التسعة ترتقي إلى خمسة وعشرين.

نعم ، لو لم يجعلوا الكرة المحيطة بالمائل فلكا برأسه بل جعلوها مع المائل فلكا واحدا تعلّق به نفس تحرّكه بحركة الجوزهرّين ، كانت تلك الكرة جزءا من الفلك ، كالمتمّمات غير معدودة في عداد الأفلاك ، وكان عداد الأفلاك على ما ذكره أربعة وعشرين ، إلاّ أنّ أصحاب هذا الفنّ قاطبة صرّحوا بأنّ الفلك الأوّل من أفلاك القمر هو الفلك الممثّل ويسمّى بالجوزهرّ أيضا ، محدّبه مماسّ لمقعّر فلك عطارد ، ومقعّره لمحدّب الفلك الثاني من أفلاكه ، ويسمّى بالفلك المائل ، فتلك الكرة يجب أن تعدّ من أفلاك القمر وليست فلكا كلّيّا ، وإلاّ لكان المائل أيضا فلكا كلّيّا فيصير عدد الأفلاك الكلّيّة عشرة ، وهو خلاف ما ذهبوا إليه ، فهو من الأفلاك الجزئيّة ويلزم ما ذكرنا.

ومايقال : من أنّ إثبات الأفلاك على الوجه المخصوص مبنيّ على نفي القادر المختار وعدم تجويز الخرق والالتئام على الأفلاك ، وأنّها لا تشتدّ في حركاتها ولا تضعف ، ولا يكون لها رجوع ولا انعطاف ولا وقوف ولا اختلاف حال غيرها ، بل تكون أبدا متحرّكة حركة بسيطة في الجهة التي تتحرّك إليها إلى غير ذلك من المسائل الطبيعيّة التي بعضها مخالف للشرع ؛ إذ لولاها لأمكن أن يقال : إنّ القادر المختار بحسب إرادته يحرّك تلك الأفلاك على النظام المشاهد (1).

فمدفوع : أوّلا : بأنّ أكثر مسائل هذا الفنّ ودلائله مقدّمات حدسيّة يجزم العقل

ص: 298


1- انظر : « شرح المقاصد » 3 : 169 - 170.

بثبوتها ، مثلا : مشاهدة التشكّلات البدريّة والهلاليّة على الوجه المرصود توجب اليقين بأنّ نور القمر مستفاد من نور الشمس ، وأنّ الخسوف إنّما هو بسبب حيلولة الأرض بين الشمس والقمر ، وأنّ الكسوف إنّما هو بسبب حيلولة القمر بين الشمس والإبصار مع القول بثبوت القادر المختار ، بمعنى أنّ ما ذكر تحقّق بجعل الواجب تعالى وصنعه على وجه الاختيار.

وثانيا : أنّ المراد أنّه يمكن أن يكون الأمر على الوجه المذكور ، وما تنضبط به أحوال الكواكب على ما سطر في علم الهيئة وإن أمكن أن يكون على الوجه الآخر أيضا ، ولكن مقتضى الحدس أن يكون على الوجه المذكور.

ثمّ اعلم أنّ الأفلاك لها أحوال :

منها : أنّها تشتمل على كواكب غير محصورة ، ولكن أهل الرصد توهّموا ثماني وأربعين صورة لكواكب رصدوها وعيّنوا مواضعها طولا وعرضا ، وهي سبعة سيّارة ، منها خمسة متحيّرة ، أعني ما عدا الشمس والقمر من الكواكب السبعة السيّارة ؛ لكون حركتها تارة على الاستقامة وأخرى على الرجعة فكأنّها متحيّرة ، بخلاف الشمس والقمر فإنّ حركتهما دائما على التوالي وطريقة واحدة. وتلك الكواكب في أفلاك سبعة أو خمسة - على اختلاف النسخة - على وجه سبق إليه الإشارة ، وما عداها ثوابت عيّنوها في فلك البروج ، وهي ألف واثنان وعشرون - أو خمسة وعشرون - كوكبا كما ذكر وإن كان النيّف أعمّ ؛ لكونه عبارة عمّا بين الواحد والعشرة إجمالا.

ومنها : أنّ الأفلاك كلّها بسائط غير مركّبة من أجسام مختلفة الطبائع بحسب الحقيقة ، وإلاّ لكان أجزاؤها المختلفة الطبائع قابلة للانتقال إلى أحيازها الطبيعيّة بالحركة المستقيمة ، وما يقبل الحركة المستقيمة فإنّه متّجه الى جهة وتارك للأخرى ، وتقدّم الجزء على الكلّ يستلزم تقدّم الجهات على الفلك ، فيلزم أن تكون الجهات متحدّدة قبل الفلك مع أنّها متحدّدة بالفلك الأعظم.

ص: 299

و أورد عليه أوّلا : بجواز كون المواضع الطبيعيّة للبسائط متجاورة بحيث يكون الكلّ في أحيازها الطبيعيّة.

ولو سلّم أنّها خرجت حال التأليف عن أحيازها الطبيعيّة ، فلم لا يجوز أن تكون أحيازها الطبيعيّة مع أحيازها التي هي فيها حال التأليف متساوية البعد عن مركز العالم ، وينتقل إليها بالحركة المستديرة لا بالحركة المستقيمة حتّى يلزم تحدّد الجهات قبلها؟ (1)

وثانيا : بأنّه لو تمّ لدلّ على بساطة الفلك الأعظم المحدّد للجهات دون سائر الأفلاك ، كما هو المدّعى (2).

وقد يستدلّ بأنّ كلّ مركّب يتطرّق إليه الانحلال ، والفلك لا يتطرّق إليه الانحلال في هذه المدّة المتطاولة ، فيكون بسيطا (3).

وفيه نظر ظاهر.

ومنها : أنّ الأفلاك خالية من الكيفيّات الفعليّة وهي الحرارة والبرودة ، والانفعاليّة وهي الرطوبة واليبوسة ، ولوازمها كالخفّة والثقل والتخلخل والتكاثف ، وإلاّ لزم قبولها للحركة المستقيمة ؛ لأنّها من مقتضيات تلك الكيفيّات مع أنّها متحرّكة بالاستدارة بدلالة الأرصاد ، فيلزم وجود الميلين المتنافيين.

مضافا إلى أنّه يلزم تحدّد الجهات قبل الفلك ، وأنّ الأفلاك لو كانت حارّة لكانت في غاية الحرارة ؛ لبساطة المادّة وعدم العائق ، فيجب كون الهواء العالي في غاية السخونة مع أنّه أبرد من الهواء الملاصق لوجه الأرض بالضرورة ، وكذا لو اقتضت البرودة لبلغت الغاية وجمدت العناصر فما يتكوّن شيء من الحيوان.

وفي الكلّ نظر ظاهر ، وغفلة عن قدرة الجبّار القهّار القادر.

ص: 300


1- أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 167.
2- نسب القوشجي هذا الإيراد إلى القيل ، كما في « شرح تجريد العقائد » : 168.
3- انظر : « شرح المواقف » 7 : 87.

ومنها : أنّ الافلاك شفّافة ؛ لأنّها بسائط.

ونقض بالقمر ، ولأنّها غير حاجبة عمّا وراءها ؛ فإنّا نبصر الثوابت وهي في الفلك الثامن.

وردّ : بأنّه - مع أنّه لا يتمّ في الفلك الأعظم ، وينحصر في غيره - ظنّي لا يفيد اليقين ؛ لجواز صفائها ؛ فإنّ الصفيف غير حاجب كما في البلّور (1).

ومنها : أنّ الفلك محدّد للجهات ؛ لأنّ تحدّد الجهات ليس في خلاء لاستحالته ، ولا ملاء متشابه لا توجد فيه أمور متخالفة بالطبع وإلاّ لما كانت إحدى الجهتين مطلوبة والأخرى متروكة ، كما نشاهد في النار والهواء فإنّهما طالبان بالطبع للفوق وهاربان عن التحت ، وفي الأرض والماء فإنّهما بعكس النار والهواء. فإذن تحدّد الجهات في أطراف ونهايات خارجة عن الملاء المتشابه فيكون بجسم كرويّ ، وإلاّ لا تتحدّد به جهة السفل ؛ لأنّها عبارة عن غاية البعد عن جهة الفوق ، وغير الكرويّ لا تتحدّد به غاية البعد ، وإلاّ لتبدّلت جهة السفل بالنسبة إلى ما هو أبعد فصارت فوقا بالقياس إلى ذلك الأبعد ، فتأمّل.

ومنها : أنّ الفلك لا يقبل الكون والفساد والخرق والالتئام ، وإلاّ لزم كون حركته بالاستقامة ، والفلك لا يقبل الحركة المستقيمة ، مضافا إلى لزوم اختلاف الأجزاء في الحركة ، فبعضها إلى جهة وبعضها إلى أخرى ، ولا يتصوّر ذلك في البسيط الذي لا قاسر فيه.

وفيه أوّلا : أنّه لو تمّ لتمّ في الفلك الأعظم خاصّة.

وثانيا : أنّ مشيئة اللّه من جهة المعجزة قاسرة ، وهو على ذلك قادر على ما يشاء كما أنّه قادر على الإيجاد من كتم العدم ، فافهم.

ومنها : أنّ الفلك يتحرّك على الاستدارة دائما كما هو المشاهد بالعيان ومعلوم

ص: 301


1- انظر : « كشف المراد » : 158.

بالرصد بمعنى أنّ له الحركة الوضعيّة ، لا مثل حركة الجوّالة ؛ فإنّها تسمّى مستديرة عرفا لا اصطلاحا ، بل هي في الحقيقة حركة أينيّة للجوّالة يتوهّم منها الاستدارة.

واستدلّ على ذلك بأنّ الحركة المستقيمة إلى غير النهاية تقتضي وجود بعد غير متناه ، وهو محال ، وبالرجوع تقتضي السكون فتكون مستديرة ، وهي حافظة للزمان ، بمعنى أنّ الزمان مقدار لها ومنتزع منها كما سيأتي ، فتكون دائمة غير منقطعة لئلاّ يلزم انقطاع الزمان ، فتأمّل.

ومنها : أنّ الفلك يتحرّك بالإرادة. وتمسّكوا فيه بأنّ الحركة إمّا طبيعيّة أو قسريّة أو إراديّة. والحركة الطبيعيّة هرب عن حالة منافرة وطلب لحالة ملائمة ، وذلك في الحركة المستديرة محال ؛ لأنّ كلّ وضع يتحرّك عنه الجسم بتلك الحركة فحركته عنه توجّه إليه ، والهرب عن الشيء استحال أن يكون توجّها إليه ، مع أنّها تستلزم السكون بعد الوصول إلى المطلوب ، ولا يجوز أن تكون حركة الفلك قسريّة ؛ لأنّ القسر على خلاف ميل يقتضيه الطبع ، وحيث لا طبع ولا قسر فتعيّن كونها إراديّة.

وفيه نظر ؛ لجواز كونها بمشيئة اللّه تعالى للمصلحة من غير ميل الطبيعة والإرادة.

ثمّ اعلم أنّ صور دوائر كرة العالم والأفلاك الكلّيّة والجزئيّة مسطورة هنا لسهولة الأمر على الطلبة ، وهي هذه :

ص: 302

الصورة

ص: 303

الصورة

ص: 304

المسألة الثانية : في العنصريّات والبحث عن العناصر البسيطة.

قال : ( وأمّا العناصر البسيطة فأربعة : كرة النار ، والهواء ، والماء ، والأرض. واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيّات الفعليّة والانفعاليّة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الأجرام الفلكيّة ، شرع في البحث عن الأجسام العنصريّة.

اعلم أنّ العنصريّات على قسمين : بسيط ومركّب.

والبسيط أربعة : الأوّل : كرة النار التي هي أقربها إلى الفلك. الثاني : الهواء. الثالث : الماء. الرابع : الأرض.

ووجه عدم زيادة لفظ « الكرة » في الثلاثة الأخيرة : أنّ غير النار خرجت عمّا تقتضيه طبائعها من الكرويّة الحقيقيّة ، من جهة نحو التلال والجبال والأنهار في الأرض ، وإخراج ربع الأرض من الماء وارتفاع الأدخنة في الهواء ، فتكون الثلاثة معطوفة على « كرة النار » لا على « النار ».

ويمكن اعتبار الكرويّة الحسّيّة بناء على عدم قدح ما ذكرنا فيها ، فتكون معطوفة على « النار » ولهذا يقال : إنّ هذه الأربعة كرات ينطبق بعضها على بعض لبساطتها ، ولذا يكون خسوف القمر في وقت معيّن في بعض البلاد ولا يكون في بلد يخالفه في الطول في ذلك الوقت بعينه ، والسائر على خطّ من خطوط نصف النهار إلى الجانب الشمالي يزداد عليه القطب الشمالي وينخفض الجنوبي وبالعكس ، ونحو ذلك من الآثار الدالّة على الكرويّة.

وكيف كان فالعنصر في اللغة العربيّة بمعنى الأصل كالأسطقس في اللغة اليونانيّة.

وهذه الأربعة من حيث إنّها تتركّب منها المركّبات تسمّى أسطقسّات ، ومن حيث إنّها تنحلّ إليها المركّبات تسمّى العناصر ، ومن حيث إنّها ممّا يحصل بنضدها عالم الكون والفساد تسمّى أركانا ، ومن حيث إنّها ينقلب كلّ منها إلى الآخر تسمّى أصول

ص: 305

الكون والفساد.

ووجه انحصار عدد العناصر والبسائط في الأربعة : الاستقراء ؛ فإنّهم وجدوا العناصر بطريق التركيب والتحليل أنّها لا تخلو عن برودة وحرارة ورطوبة ويبوسة ، ولم يجدوا ما يشتمل على واحدة منها فقط ، ولم يمكن اجتماع الأربعة والثلاثة ؛ للتضادّ بين الحرارة والبرودة ، وبين الرطوبة واليبوسة ، فتعيّن اجتماع اثنتين من الكيفيّات الأربع في كلّ بسيط عنصريّ بازدواج كيفيّة من الكيفيّتين الفعليّتين ، أعني الحرارة والبرودة ، بمعنى اجتماعها مع كيفيّة أخرى من الكيفيّتين الانفعاليّتين ، أعني الرطوبة واليبوسة - كما سيأتي وجه التسمية في الأعراض - بمعنى أنّ العنصر إمّا حارّ أو بارد ، وعلى التقديرين إمّا رطب أو يابس ، فاليابس الحارّ هو النار ولهذا طلبت العلو والمحيط ، والرطب الحارّ هو الهواء ، والبارد الرطب هو الماء ، والبارد اليابس هو الأرض ولهذا طلبت المركز.

وعلى هذا فلا يرد أنّه يجوز أن يكون فيما غاب عنّا عنصر خال عن الكيفيّات الأربع أو مشتمل على واحدة منها فقط.

وكيف كان فلها أحوال مشتركة ومختصّة :

منها : أنّ كلّ واحد منها يخالف الآخر في الصورة النوعيّة ، وإلاّ لشغل حيّز الآخر بالطبع ، والتالي باطل ؛ إذ كلّ واحد منها يهرب بطبعه عن حيّز غيره بالعيان.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف حيث قال : ( وكلّ منها ينقلب إلى الملاصق وإلى الغير بواسطة أو بوسائط ).

أقول : المراد أنّ كلّ واحد من هذه العناصر الأربعة ينقلب إلى الآخر إمّا ابتداء وبلا واسطة أو بواسطة واحدة أو زائدة ، فالصور اثنتا عشرة حاصلة من مقايسة كلّ من الأربعة مع الثلاثة الباقية ، فستّة منها لا واسطة فيها ، وهي انقلاب الأرض ماء وبالعكس ، والماء هواء وبالعكس ؛ والهواء نارا وبالعكس.

وأمّا الستّة الباقية فبعضها يحصل بواسطة واحدة ، كانقلاب الأرض هواء

ص: 306

وبالعكس ، والماء نارا وبالعكس. وبعضها يحصل بواسطتين ، وهو انقلاب الأرض نارا وبالعكس.

وعن الشيخ (1) أنّ الصاعقة تتولّد من أجسام ناريّة فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة تنقلب النار إلى الأرض بلا واسطة أيضا ، كما يقال : إنّ النار القويّة تجعل الأجزاء الأرضيّة نارا.

نعم ، الغالب انقلاب العنصر إلى ملاصقه ابتداء وإلى البعيد بواسطته.

ويشهد على الانقلاب ما نشاهد من صيرورة النار هواء عند الانطفاء في المصباح ، فإنّ ما ينفصل من شعلته لو بقيت لرئيت ولأحرقت سقف الخيمة ؛ وصيرورة الهواء نارا عند إلحاح النفخ في كير الحدّادين إذا سدّت المنافذ التي يدخل فيها الهواء الجديد ؛ وصيرورة الهواء ماء لشدّة البرودة ، كما يرى في قلل الجبال من غير سحاب ، وفي الطاس المكبوب على الجمد ؛ فإنّه تركبه قطرات الماء ونحو ذلك ؛ والماء هواء بالحرّ ، كما في غليان القدر والثوب المبلول المطروح في الشمس ؛ وصيرورة الماء حجرا يقرب منه في الحجم ، كما يعاين في قرية من قرى « مراغة » من بلاد آذربايجان ؛ لانقلاب مائه حجرا مرمرا ؛ وصيرورة الحجر بالحيل الإكسيريّة ماء ، فقد يقال : إنّ أرباب الإكسير يتّخذون مياها حارّة ويحلّون فيها أجسادا صلبة حجريّة حتّى تصير مياها جارية.

قال : ( فالنار حارّة يابسة شفّافة متحرّكة بالتبعيّة ، لها طبقة واحدة وقوّة على إحالة المركّب إليها ).

أقول : هذا بيان للأحوال المختصّة بالنار ، وهي ستّ :

الأولى : أنّها حارّة بشهادة الحسّ في النار الموجودة عندنا ، فالنار الصرفة الخالية عن العائق بطريق أولى ؛ لوجود الطبيعة من غير مخالطة بما يتكيّف بالبرودة.

ص: 307


1- « الشفاء » الطبيعيّات : 70 - 71 ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من الفنّ الخامس.

الثانية : أنّها يابسة بشهادة الحسّ أيضا إن أريد باليبوسة ما لا يلتصق بغيره. وإن أريد ما يعسر به تشكّله بالأشكال الغريبة ، فالنار غير يابسة.

الثالثة : أنّها شفّافة ، وإلاّ لحجبت الأبصار عن إبصار الثوابت.

الرابعة : أنّها متحرّكة بتبعيّة حركة الفلك بدلالة حركة ذوات الأذناب حركة بطيئة فيما بين المشرق والشمال ، وبالحركة اليوميّة أيضا.

الخامسة : أنّها ذات طبقة واحدة ؛ لقوّتها على إحالة ما يمازجها لو فرض الممازجة ، فلا يوجد في مكانها غيرها.

السادسة : أنّ لها قوّة على إحالة المركّب إليها - ولو غالبا - كما هو المعلوم بالمشاهدة ، فعدم انفعال الحيوان المسمّى بسمندر بتأثير النار غير ضارّ.

قال : ( والهواء حارّ رطب شفّاف له أربع طبقات ).

أقول : هذا بيان للأحوال المختصّة بالهواء ، وهي أربع :

الأولى : أنّه حارّ ، له الكيفيّة الفعليّة ، كما عن الأكثر ؛ لأنّ الماء بالتسخين يصير هواء ، وإحساس البرودة من الهواء المجاور لأبداننا من جهة امتزاج الأبخرة المائيّة.

الثانية : أنّه رطب ، له الكيفية الانفعاليّة ، بمعنى سهولة قبول الأشكال ، لا بمعنى البلّة.

الثالثة : أنّه شفّاف ؛ إذ لا يمنع نفوذ الشعاع فيه ولا يحجب عمّا وراءه.

الرابعة : أنّه ذو طبقات أربع :

الأولى : طبقة ما يمتزج مع النار ، وهي التي تتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل وتتكوّن فيه الكواكب ذوات الأذناب وما يشبهها.

الثانية : طبقة الهواء الغالب ، وهي التي تحدث فيها الشهب.

الثالثة : طبقة الهواء البارد الممتزج بالأجزاء المائيّة ولا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض ، وتسمّى طبقة زمهريريّة ، وهي منشأ السحب والرعد والبرق والصاعقة.

ص: 308

الرابعة : طبقة الهواء الكثيف الذي يصل إليه أثر الشعاع ، ويستفيد كيفيّة البرد من مخالطة الأجزاء المائيّة ولا يبقى على صرافة برودتها المكتسبة منها ؛ لوصول أثر شعاع الشمس إليه بالانعكاس.

قال : ( والماء بارد رطب شفّاف محيط بثلاثة أرباع الأرض تقريبا ، له طبقة واحدة ).

أقول : هذا بيان لأحوال الماء ، وهي خمس :

الأولى : أنّه بارد بشهادة الحسّ عند زوال المسخّنات الخارجة ، ولا خلاف في ذلك ، ولكنّهم اختلفوا في أنّ الماء أبرد ؛ للحسّ من الأرض ، أو الأرض أبرد ؛ لأنّها أكثف وأبعد من المسخّنات والحركة الفلكيّة.

الثانية : أنّه رطب بمعنى البلّة وسهولة التشكّل معا.

وقيل : إنّه يقتضي الجمود ؛ لأنّه بارد بالطبع ، والبرد يقتضي الجمود ، وإنّما عرض السيلان له بسبب سخونة الأرض والهواء ، ولو خلّي وطبعه ، لاقتضى الجمود ، فتأمّل.

الثالثة : أنّه شفّاف ؛ لأنّه مع صرافته لا يحجب عمّا وراءه.

الرابعة : أنّه محيط بأكثر الأرض وهو ثلاثة أرباعها تقريبا بمقتضى تعادل العناصر وإحاطتها.

الخامسة : أنّه ذو طبقة واحدة ، وهو البحر المحيط.

قال : ( والأرض باردة يابسة ساكنة في الوسط شفّافة ، لها ثلاث طبقات ).

أقول : هذا بيان لأحكام الأرض ، وهي خمسة :

الأوّل : أنّها باردة ؛ لأنّها كثيفة ، ولأنّها لو خلّيت وطباعها ولم تسخّن بسبب غريب ، ظهر عنها برد محسوس.

الثاني : أنّها يابسة بشهادة الحسّ.

الثالث : أنّها ساكنة في الوسط خلافا لمن زعم أنّها متحرّكة إلى السفل ، ومن زعم أنّها متحرّكة إلى العلو ، ومن زعم أنّها متحرّكة بالاستدارة.

ص: 309

والحقّ خلاف ذلك كلّه ، وإلاّ لما وصل الحجر المرميّ إليها إن كانت هاوية ، ولما نزل الحجر المرميّ إلى فوق إن كانت صاعدة ، ولما سقط على الاستقامة إن كانت متحرّكة على الاستدارة.

وأشار بقوله : « في الوسط » إلى الردّ على من زعم أنّها ساكنة بسبب عدم تناهيها من جانب السفل. ووجه الردّ أنّ الأجسام متناهية.

الرابع : أنّها شفّافة ، وفاقا لجماعة ذهبوا إلى أنّها بسيطة.

وأورد (1) عليه بأنّ الحكم بأنّ الأرض شفّافة يوجب الحكم بأن لا يقع خسوف أصلا ؛ لاقتضائه نفوذ شعاع الشمس في الأرض ، فأيّ شيء يحجب نورها من القمر؟ والحمل على ما لا لون له ولا ضوء خلاف الاصطلاح.

الخامس : أنّ لها طبقات ثلاثا :

الأولى : الأرض المخالطة لغيرها التي تتولّد منها الجبال والمعادن وكثير من النباتات والحيوانات.

الثانية : الطبقة الطينيّة.

الثالثة : الطبقة الصرفة ، وهي الأرض المحضة المحيطة بالمركز. ويشهد عليه الاستقراء والتدبّر ، فتدبّر.

المسألة الثالثة : في البحث عن المركّبات.

قال : ( وأمّا المركّبات فهذه الأربعة أسطقسّاتها ).

أقول : المركّب على قسمين :

الأوّل : الناقص ، وهو الذي لم تكن له صورة نوعيّة تحفظ تركيبه.

الثاني : المركّب التامّ ، وهو الذي له صورة نوعيّة تحفظ تركيبه سواء كان غير ذي

ص: 310


1- الإيراد للقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 173.

نشوء ونموّ وهو المعادن والجمادات ، أو ذا نشوء من غير حسّ وحركة وهو النباتات ، أو ذا نشوء وحسّ وحركة وهو الحيوانات. وهي المواليد الثلاثة (1).

والمركّب غير التامّ على أقسام ذكرها مع سببها بعض (2) الحكماء العظام :

منها : السحاب والمطر ونحوه ، وسبب حدوثهما - على ما أفاد - أنّ الأجزاء الهوائيّة الممزوجة مع المائيّة الصغيريّة غير المحسوسة المسمّاة بالبخار إذا صعدت بالحرارة إلى الطبقة الزمهريريّة تبقى باردة فتصير متكاثفة ، فإن لم يكن البرد قويّا اجتمع ذلك البخار وتقاطر ، للثقل الحاصل من التكاثف والانجماد ، فالمجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر. وإن كان البرد قويّا ، فإن وصل قبل اجتماع أجزاء السحاب نزل ثلجا وإلاّ نزل بردا. وأمّا إذا لم يصل البخار إلى الطبقة الباردة الزمهريريّة ؛ لقلّة حرارته الموجبة للصعود ، فإن كان كثيرا فقد ينعقد سحابا ماطرا إذا أصابه برد ، وقد لا ينعقد ويسمّى ضبابا. وإن كان قليلا فإذا ضربه برد الليل ، فإن لم ينجمد فهو الطلّ ، وإن انجمد فهو الصقيع ، ونسبته إلى الطلّ كنسبة الثلج إلى المطر.

ومنها : الرعد والبرق ، وسببهما أنّ الدخان - الذي هو أجزاء ناريّة تخالطها أجزاء صغار أرضيّة تلطّفت بالحرارة - إذا ارتفع واحتبس فيما بين السحاب ، فما صعد إلى العلو لبقاء حرارته أو نزل إلى السفل لزوالها يمزّق السحاب تمزيقا عنيفا فيحصل صوت هائل هو الرعد ، وإن اشتعل الدخان لما فيه من الدهنيّة بالحركة العنيفة المقتضية للحرارة كان برقا إن كان لطيفا وينطفئ بسرعة ، وصاعقة إن كان غليظا ولا ينطفئ حتّى يصل إلى الأرض ، فربما يصير لطيفا ينفذ ولا يحرق ، وربّما كان كثيفا غليظا فيحرق كلّ شيء أصابه ويدكّ الجبل دكّا.

ومنها : الرياح ، فقد تكون بسبب تموّج الهواء الحاصل من اندفاع السحاب الثقيل

ص: 311


1- وعلى ذلك يكون المقصود من المواليد الثلاثة : المعدن والنبات والحيوان.
2- هو أثير الدين المفضّل بن عمر الأبهري في « الهداية الأثيرية » ، انظر : « شرح الهداية الأثيرية » للميبدي : 119 - 126 ، الفصل الثاني من الفنّ الثالث في العنصريّات.

الموجب لتحرّك الهواء. وقد تكون لاندفاع يعرض بسبب تراكم السحب وتزاحمها وانتقالها من جهة إلى أخرى. وقد تكون لانبساط الهواء بالتخلخل واندفاعه من جهة إلى أخرى ، وكذا تكاثف الهواء الموجب لذلك. وقد تكون بسبب برد الدخان المتصاعد إلى الطبقة الزمهريريّة ونزوله.

وأمّا السموم المتكيّف بكيفيّة سمّيّة فهو لاحتراقه في نفسه بالأشعّة ، أو باختلاطه ببقيّة مادّة الشهب ، أو لمروره بالأرض الحارّة جدّا كالكبريتيّة.

وقد تحدث رياح مختلفة الجهة فترفع الأجزاء الأرضيّة ، فتنضغط بينها كأنّها تلتوي على نفسها وهي الأعصار.

ومنها : قوس قزح (1) ، وسببها ارتسام ضوء الشمس في أجزاء رشّية صغيرة صيقليّة متقاربة غير متّصلة مستديرة ، موجبة لانعكاس الشعاع البصري عن كلّ منها إلى الشمس ، فيرى ضوؤها ولونها دون شكلها إذا كان وراء تلك الأجزاء جسم كثيف كالجبل ، واختلاف ألوانها بسبب اختلاط ضوء النيّر وألوان الغمام المختلفة.

ومنها : الهالة ، وسببها ارتسام ضوء النيّر في أجزاء صغيرة صيقليّة غير متقاربة غير متّصلة مستديرة حول النيّر ، على وجه ينعكس الشعاع البصري من كلّ منها إلى النيّر ويرى ضوؤه من كلّ من تلك الأجزاء دون شكله ، وتدلّ على المطر قريبا أو بعيدا.

ومنها : الشهب ، وسببها أنّ الدخان إذا بلغ حيّز النار وكان لطيفا غير متّصل بالأرض اشتعل فيه النار فانقلب إلى النار ، وتلهّبت من طرفه العالي بسرعة حتّى يرى كالمنطفئ من جهة استحالة الأجزاء الأرضيّة نارا صرفة.

ومنها : الزلزلة وانفجار العيون ، وسببها أنّ البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة ويتبرّد بها فينقلب مياها مختلطة بأجزاء أرضيّة فإذا كثر البخار بحيث لا تسعه

ص: 312


1- وينشأ في السماء أو على مقربة من مسقط الماء من الشلاّل ونحوه ، ويكون من ناحية الأفق المقابلة للشمس وترى فيه ألوان الطيف متتابعة ، وسببه انعكاس أشعّة الشمس من رذاذ الماء المتطاير من ماء المطر ، أو من مياه الشلاّلات وغيرها من مساقط الماء المرتفعة.

الأرض أوجب انشقاق الأرض وانفجار العيون. وإذا غلظ البخار بحيث لا ينفذ في مجاري الأرض - أو كانت الأرض كثيفة عديمة المسامّ ، - اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه النفوذ فزلزلت الأرض. ومقتضى ما ورد من الأخبار غير ذلك.

ولعلّ سبب عدم ذكر المصنّف لتلك الأقسام عدم الاعتماد بكونها من الأسباب المذكورة ، كما يستفاد من الأدلّة الشرعيّة فتأمّل.

وأمّا المركّب التامّ فهو يحصل من هذه العناصر الأربعة باعتبار الكيفيّات الأربع - أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة - بشهادة الاستقراء ، فكانت الأسطقسّات هذه العناصر الأربعة لا غير ، وهذه العناصر من حيث هي أجزاء العالم تسمّى أركانا ، ومن حيث إنّها تركّب عنها المركّبات من المعادن والنبات والحيوانات تسمّى أسطقسّات.

قال : ( وهي حادثة عند تفاعل بعضها في بعض ).

أقول : المركّبات عند محقّقي الأوائل (1) تحدث عند تفاعل هذه العناصر الأربعة بعضها في بعض بكيفيّاتها المختلفة ، فتحصل - ولو بالإفاضة من المبدأ - الكيفيّة المتوسّطة المتشابهة المسمّاة بالمزاج ، وذلك لا يتمّ إلاّ بالحركة المسبوقة بالزمان فتكون حادثة.

ومعنى تشابه الكيفيّة المزاجيّة أنّ الحاصل في كلّ جزء من أجزاء الممتزج يماثل الحاصل في الجزء الآخر ويساويه في الحقيقة النوعيّة من غير تفاوت إلاّ بالمحلّ ، حتّى أنّ الجزء الناريّ كالجزء المائيّ في الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة وكذا الهوائيّ والأرضيّ.

ومعنى توسّطها أن تكون أقرب إلى كلّ من الكيفيّتين المتقابلتين ممّا يقابلهما بسبب انكسار سورة الحرارة - مثلا - بسورة البرودة ، كما في صورة امتزاج الماء

ص: 313


1- منهم الشيخ الرئيس في « الإشارات والتنبيهات » ، راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 275 - 281.

الحارّ بالبارد ، بمعنى أنّه يتسخّن بالقياس إلى البارد ويستبرد بالقياس إلى الحارّ.

وحكي عن بعض الحكماء (1) مثل انكساغورس (2) وأتباعه [ ذهابهم ] إلى نفي ذلك وأنّهم قالوا : إنّ هاهنا أجزاء هي لحم وأجزاء هي عظام وغير ذلك من جميع المركّبات ، وهي مبثوثة في العالم غير متناهية ، فإذا اجتمعت أجزاء من طبيعة واحدة ظنّ أنّ تلك الطبيعة حدثت ، وليس كذلك بل تلك الطبيعة كانت موجودة والحادث التركيب لا غير.

والضرورة قاضية ببطلان هذه المقالة ؛ فإنّا نشاهد تبدّل ألوان وطعوم وروائح وغير ذلك من الصفات الحادثة.

قال : ( فتفعل الكيفيّة في المادّة فتكسر صرافة كيفيّتها وتحصل كيفيّة متشابهة في الكلّ متوسّطة هي المزاج ) (3).

أقول : لمّا ذكر أنّ المركّبات إنّما تحصل عند تفاعل هذه العناصر بعضها في بعض شرع في كيفيّة هذا التفاعل.

واعلم أنّ الحارّ والبارد أو الرطب واليابس إذا اجتمعا وفعل كلّ منهما في الآخر أثرا لم يخل إمّا أن يتقدّم فعل أحدهما على انفعاله أو يقترنا ، ويلزم من الأوّل صيرورة المغلوب غالبا وهو محال ، ومن الثاني كون الشيء الواحد غالبا مغلوبا دفعة واحدة وهو محال ، فلم يبق إلاّ أن يكون الفاعل في كلّ واحد منهما غير المنفعل. فقيل : الفاعل هو الصورة ، والمنفعل هو المادّة (4).

ص: 314


1- الحاكي هو الخواجة في « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 278 - 279.
2- فيلسوف يوناني ، كان أوّل من أدخل الفلسفة إلى مدينة أثينا ، كي تصبح من بعد المهد الأكبر للفلسفة اليونانيّة ، ابتدأ من فكرة الوجود وأنكر فكرة التغيّر المطلق. وقد فسّر الحركة بإرجاعها إلى علّة غير مادّية ، هي العقل. لمزيد المعرفة راجع « موسوعة الفلسفة » 1 :2. 237.
3- المزاج : كيفيّة متشابهة تحصل من تفاعل عناصر منافرة لأجزاء مماسّة ، بحيث تكسر سورة كلّ منهما سورة كيفيّة الآخر. كذا عرّفه الجرجاني في « التعريفات » : 3. الرقم 1342.
4- قال به الشيخ ابن سينا في « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 275 و 278.

وينتقض بالماء الحارّ إذا امتزج بالماء البارد واعتدلا ؛ فإنّ الفعل والانفعال بين الحارّ والبارد هناك موجود مع أنّه لا صورة تقتضي الحرارة في البارد.

وقيل : الفاعل هو الكيفيّة ، والمنفعل هو المادّة (1) ، مثلا : تفعل حرارة الماء الحارّ في مادّة الماء البارد فتكسر البرودة التي هي كيفيّة الماء البارد ، وتحصل كيفيّة متشابهة متوسّطة بين الحرارة والبرودة وهي المزاج. وهذا اختيار المصنّف رحمه اللّه .

وفيه نظر ؛ لأنّ المادّة إنّما تقبل (2) في الكيفيّة الفاعليّة لا في غيرها ، ويعود البحث من كون المغلوب يصير غالبا أو اجتماع الغالبيّة والمغلوبيّة للشيء الواحد في الوقت الواحد بالنسبة [ إلى شيء واحد ] (3) وهو باطل.

ولهذا ذهب جماعة - على ما حكي (4) - إلى أنّه لا فعل ولا انفعال بين العناصر المجتمعة ، بل اجتماعها على صرافة كيفيّاتها معدّ تامّ لزوال تلك الكيفيّات الصرفة ووجود كيفيّة أخرى متوسّطة بينها فائضة من المبدأ على تلك العناصر.

قال : ( مع حفظ صور البسائط ).

أقول : نقل عن الشيخ في هذا الموضع أنّه قال في كتاب « الشفاء » : إنّ هنا مذهبا غريبا ، وهو أنّ البسائط إذا اجتمعت وتفاعلت بطلت صورها النوعيّة المقوّمة لها ، وحدثت صورة أخرى نوعيّة مناسبة لمزاج ذلك المركّب.

واحتجّوا بأنّ العناصر لو بقيت على طبائعها حتّى اتّصف الجزء الناريّ - مثلا - بالصورة اللحميّة ، أمكن أن تعرض للنار بانفرادها أيضا ، فتصير النار البسيطة لحما.

ص: 315


1- قال به أثير الدين الأبهري ، وهو ما ذهب إليه بعض المحقّقين ، كما عن الميبدى في « شرح الهداية الأثيرية » : 119.
2- كذا في الأصل ، والصحيح : « تنفعل ».
3- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : 164. وهي موجودة في الأصل ، لكن شطب عليها.
4- الحاكي هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 175.

وأبطله الشيخ بأنّ هناك كونا وفسادا وامتزاجا والمزاج إنّما يكون عند بقاء الممتزجات ، وبأنّ الكاسر باق عند انكسار الكيفيّات.

ونقض ما ذكروه بوروده عليهم ؛ لأنّ مذهبهم أنّ الجزء الناريّ تبطل ناريّته عند امتزاجه ويتّصف بالصورة اللحميّة ، فيجوز عروض هذا العارض للنار البسيطة ، فإن شرطوا التركيب كان هو جوابنا ، فلا بدّ من كون صور البسائط محفوظة (1).

قال : ( ثمّ تختلف الأمزجة في الإعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال ).

أقول : العناصر المتعدّدة إذا امتزجت وتفاعلت بكيفيّاتها على الوجه المذكور واستقرّت على كيفيّة وحدانيّة ، صارت واحدة من هذه الجهة ، فيحصل - ولو بإفاضة المبدأ - ما يحفظ تركيبها ويقرّها على الاجتماع وعدم الافتراق سريعا ، كما هو مقتضى طباعها ، ومن هذا يطلق عليه الجبّار ، كما يظهر من بعض الأخبار.

وتلك الكيفيّة المسمّاة بالمزاج تختلف باختلاف الامتزاج ، ولهذا تكون للمركّبات أمزجة متعدّدة مختلفة متفاوتة بحسب القرب من الاعتدال والبعد عنه في الإعداد ، فتتفاوت محالّها في الاستعداد ، فهي المعدّة لقبول المركّب للصورة والقوى المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة ؛ إذ المركّبات كلّها اشتركت في الطبيعة الجسميّة ، ثمّ اختلفت في القوى ، فبعضها اتّصف بصورة حافظة لبسائطه عن التفرّق جامعة لمتضادّات مفرداته من غير أن تكون مبدأ لشيء آخر ، وهذه هي الصورة المعدنيّة. وبعضها اتّصف بصورة تفعل - مع ما تقدّم - التغذية والتنمية والتوليد لا غير ، وهي النفس النباتيّة. وبعضها اتّصف بصورة تفعل - مع ذلك - الحسّ والحركة الإراديّة ، وهي النفس الحيوانيّة. فلا بدّ وأن يكون هذا الاختلاف بسبب اختلاف القوابل المستندة إلى

ص: 316


1- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 133 - 139 ، وخلاصة كلام الشيخ هنا هو ما ذكره بهمنيار في « التحصيل » : 693 من أنّ الجواهر العنصريّة ثابتة في الممتزج بصورها متغيّرة في كيفيّاتها فقط ، وكيف لا تكون ثابتة فيه والمركّب إنّما هو مركّب عن أجزاء فيه مختلفة ، وإلاّ لكان بسيطا لا يقبل الأشدّ والأضعف. وأمّا كيفيّاتها ولواحقها فتكون قد توسّطت ونقصت عند حدّ الصرافة.

اختلاف الاستعداد المستفاد من اختلاف الأمزجة بسبب قربها وبعدها عن الاعتدال ، فكلّ ما كان مزاجه أقرب إلى الاعتدال قبل نفسا أكمل.

قال : ( مع عدم تناهيها بحسب الشخص وإن كان لكلّ نوع طرفا إفراط وتفريط ، وهي تسعة ).

أقول : الأمزجة تختلف باختلاف صغر أجزاء البسائط وكبرها ، وهذا الاختلاف بسبب الصغر والكبر غير متناه ، فكانت الأمزجة أيضا كذلك غير متناهية بحسب الشخص وإن كان لكلّ نوع طرفا إفراط وتفريط ؛ فإنّ نوع الإنسان - مثلا - له مزاج خاصّ معتدل بين طرفين هما إفراط وتفريط ، لكن ذلك المزاج الخاصّ (1) يشتمل على ما لا يتناهى من الأمزجة الشخصيّة ولا يخرج عن حدّ المزاج الإنساني ، وكذلك كلّ نوع من الأنواع المركّبة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأمزجة تسعة ؛ لأنّ البسائط إمّا أن تتساوى في المزاج وهو المعتدل ، أو يغلب أحدهما فإمّا الحارّ مع اعتدال الانفعاليّين ، أو البارد معه ، أو الحارّ مع غلبة الرطب ، أو اليابس ، أو البارد معهما ، أو يغلب الرطب مع اعتدال الفعليّين ، أو اليابس معه. وهي تسعة : واحد منها الاعتدال ، وأربعة منها الخروج عن الاعتدال في كيفيّة مفردة من الكيفيّات الأربع ، وأربعة أخرى الخروج عن الاعتدال في كيفيّتين غير متضادّتين ، أحدها في الحرارة واليبوسة ، وثانيها في الحرارة والرطوبة ، وثالثها في البرودة واليبوسة ، ورابعها في البرودة والرطوبة.

ص: 317


1- أي المزاج الخاصّ النوعي.

ص: 318

[ الفصل الثالث : في بقيّة أحكام الأجسام ]

اشارة

قال : ( الفصل الثالث : في بقيّة أحكام الأجسام ، وتشترك الأجسام في وجوب التناهي ؛ لوجوب اتّصاف ما فرض له ضدّه به عند مقايسته بمثله مع فرض نقصانه عنه ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن أقسام الأجسام وانجرّ البحث عنها إلى البحث عن بعض أحكامها ، شرع في البحث عن باقي أحكامها.

وهذا الفصل يشتمل على مسائل :

المسألة الأولى : في تناهي الأجسام وأنّ الأجسام كلّها متناهية الأبعاد.

اعلم أنّه اتّفق أكثر العقلاء على ذلك ، وإنّما خالف فيه حكماء الهند على ما حكي (1) عنهم.

واستدل المصنّف رحمه اللّه على ذلك بوجهين :

الأوّل : برهان التطبيق.

وتقريره : أنّ الأبعاد لو كانت غير متناهية يلزم أن تكون متناهية ، وكلّ ما يلزم من فرضه عدمه يكون محالا ، فوجود بعد غير متناه محال.

بيان ذلك أنّه يمكن أن نفرض خطّين غير متناهيين مبدؤهما واحد ، ثمّ نفصل من أحدهما قطعة أو مع كون فرض أحد الخطّين بعد الآخر بذراع مثلا ، ثمّ نطبّق أحد

ص: 319


1- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 167.

الخطّين على الآخر بأن يجعل مبدأ أحدهما مقابلا لأوّل الآخر ، وثاني الأوّل مقابلا لثاني الثاني ، والثالث للثالث وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فإن استمرّا كذلك كان الناقص مثل الزائد وهو محال ، وإن انقطع الناقص انقطع الزائد ؛ لأنّ الزائد إنّما زاد بمقدار متناه وهو القدر المقطوع مثلا ، والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهيا فالخطّان متناهيان ، فيلزم تناهيهما على تقدير لا تناهيهما ، فيكون لا تناهيهما محالا ، وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى ألفاظ الكتاب ، فقوله : « وتشترك الأجسام في وجوب التناهي » إشارة إلى الدعوى مع [ التنبيه ] (1) على كون هذا الحكم واجبا لكلّ جسم.

وقوله : « لوجوب اتّصاف ما فرض له ضدّه عند مقايسته بمثله » معناه لاتّصاف الخطّ الناقص - الذي فرض له ضدّ التناهي وفرض أنّه غير متناه - بالتناهي عند مقايسته بالخطّ الكامل المماثل له في عدم المتناهي. ومعنى المقايسة هنا مقابلة كلّ جزء من الناقص بجزء من الكامل.

وقوله : « مع فرض نقصانه عنه » يعني فرض قطع شيء من الخطّ الناقص حتّى صار ناقصا أو فرضه بعد الكامل ، كما أشرنا إليه.

قال : ( ولحفظ النسبة بين ضلعي الزاوية وما اشتملا عليه مع وجوب اتّصاف الثاني به ).

أقول : هذا هو الدليل (2) الثاني على تناهي الأبعاد.

وتقريره : أنّا إذا فرضنا زاوية خرج ضلعاها إلى ما لا يتناهى على الاستقامة ، فإنّ النسبة بين زيادة الضلعين وزيادة الأبعاد التي اشتمل عليها الضلعان محفوظة بحيث كلّما زاد الضلعان زادت الأبعاد على نسبة واحدة ، بمعنى أنّه إذا امتدّا عشرة أذرع - مثلا - وكان بعد ما بينهما حينئذ ذراعا مثلا ، لا بدّ أن يكون بعد ما بينهما - بعد

ص: 320


1- في الأصل : « البيّنة » وما أثبتناه موافق لما في « كشف المراد » : 168.
2- كذا في الأصل ، والصحيح : « الوجه الثاني ».

امتدادهما عشرين ذراعا - ذراعين.

وهكذا لو فرض خطّان منفرجان كما في المثلّث بحيث يكون البعد بينهما بقدر ذهابهما على سبيل البرهان السلّمي ، أو الترسي بفرضهما على الجسم المستدير كالترس على وجه التقاطع في مركز الدائرة مثلا.

وبالجملة ، فإذا استمرّت زيادة الضلعين إلى ما لا يتناهى استمرّت زيادة البعد بينهما إلى ما لا يتناهى مع وجوب اتّصاف الثاني - أعني البعد بينهما - بالتناهي ؛ لامتناع انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين ، فيلزم أن تكون نسبة المتناهي - أعني الامتداد الأوّل - إلى المتناهي - أعني البعد الأوّل - كنسبة غير المتناهي - أعني الامتداد الذاهب إلى غير النهاية - إلى المتناهي ، أعني البعد المتوسّط ، وهذا محال بالضرورة ؛ للزوم ارتفاع النسبة مع أنّها محفوظة.

المسألة الثانية : في أنّ الأجسام متماثلة ومتّحدة في الحقيقة وإن اختلفت بالعوارض.

قال : ( واتّحاد الحدّ وانتفاء القسمة فيه يدلّ على الوحدة ).

أقول : ذهب الجمهور من الحكماء والمتكلّمين إلى أنّ الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمية وإن اختلفت بصفات وعوارض (1) ، وعليه أكثر قواعد الإسلام كإثبات القادر المختار وكثير من أحوال (2) النبوّة والمعاد ؛ فإنّ اختصاص كلّ جسم بصفاته المعيّنة لا بدّ أن يكون لمرجّح مختار ؛ لتساوي نسبة الموجب إلى الكلّ. ولمّا جاز على كلّ جسم ما يجوز على الجسم الآخر كالبرد على النار والخرق على السماء ، ثبت جواز ما نقل من المعجزات وأحوال القيامة.

ص: 321


1- انظر : « المحصّل » : 303 - 305 ؛ « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » : 74 - 76 ؛ « رسالة في اعتقاد الحكماء » : 263 ؛ « أوائل المقالات » : 95 ؛ « المطالب العالية » 6 : 186 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 83.
2- في « ج » : « أصول » بدل « أحوال ».

وذهب النظّام (1) إلى أنّها مختلفة ؛ لاختلاف خواصّها (2).

وهو باطل ؛ لأنّ ذلك يدلّ على اختلاف الأنواع ، لا على اختلاف المفهوم من الجسم من حيث هو جسم ، بل المشهور هو المنصور كما اختاره المصنّف رحمه اللّه ، واستدلّ عليه بأنّ الجسم من حيث هو جسم يحدّ بحدّ واحد عند الجميع ، أمّا عند الأوائل فإنّ حدّه : الجوهر القابل للأبعاد (3). وأمّا المتكلّمون فإنّهم يحدّونه بأنّه الطويل العريض العميق (4).

وهذا الحدّ الواحد لا قسمة فيه ، فالمحدود واحد ؛ لاستحالة اجتماع المختلفات في حدّ واحد من غير قسمة ، بل متى جمعت المختلفات في حدّ واحد وقع فيه التقسيم ضرورة ، كقولنا : « الحيوان إمّا ناطق أو صاهل » ويراد بهما الإنسان والفرس.

المسألة الثالثة : في أنّ الأجسام باقية.

قال : ( والضرورة قضت ببقائها ).

أقول : المشهور عند العقلاء أنّ الأجسام باقية زمانين وأكثر بحكم الضرورة ، بمعنى أنّا نعلم بالضرورة أنّ كتبنا وثيابنا ودوابّنا هي بعينها التي كانت قبل الزمان الثاني وما بعده من غير تبدّل في الذات وإن اختلفت العوارض والهيئات ، فلا يتوجّه الإشكال باحتمال تجدّد الأمثال.

ونقل عن النظّام خلافه (5) ؛ بناء منه على امتناع إسناد العدم إلى الفاعل ، وأنّه لا ضدّ

ص: 322


1- هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظّام من أئمّة المعتزلة ، كان من المتبحّرين في الفلسفة ، وله آراء خاصّة تميّز بها ، تابعته فيها فرقة من المعتزلة سمّيت النظّامية نسبة إليه ، توفّي سنة 231. انظر: «تاريخ بغداد» 97:6 ؛ «أمالي مرتضی» 132:2.
2- نقله عنه الفخر الرازي في « المحصّل » : 305 ، والخواجة في « نقد المحصّل » : 210.
3- « رسالة الحدود » لابن سينا : 22 ؛ « التعريفات » للجرجاني : 103 ، الرقم 491 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 1 : 561.
4- « شرح المقاصد » 3 : 6 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 1 : 562 - 563.
5- « المحصّل » : 305 ؛ « شرح المواقف » 7 : 23 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 84 - 87.

للأجسام حتّى يقال : إنّها تنتفي بطريان الضدّ مع وجوب فنائها يوم القيامة ، فالتزم بعدم بقائها وأنّها تتجدّد حالا فحالا كالأعراض غير القارّة.

والمحقّقون على خلاف ذلك ، واعتمادهم على الضرورة فيه.

وقيل : إنّ النظّام ذهب إلى احتياج الجسم حال بقائه إلى المؤثّر ، فتوهّم الناقل أنّه كان يقول بعدم بقاء الأجسام (1) ؛ ولهذا قال المصنّف : إنّ هذا النقل من النظّام غير معتمد » (2). بل هو وهم النقلة على ما حكي (3).

المسألة الرابعة : في أنّ الأجسام يجوز خلوّها عن الطعوم والروائح والألوان.

قال : ( ويجوز خلوّها عن الكيفيّات المذوقة (4) والمرئية (5) والمشمومة (6) كالهواء ).

أقول : ذهب المعتزلة إلى جواز خلوّ الأجسام عن الطعوم والروائح والألوان. ومنعت الأشعريّة منه.

أمّا المعتزلة فاحتجّوا بمشاهدة بعض الأجسام كذلك كالهواء ؛ فإنّه خال عن الكيفيّات ، بشهادة عدم الإحساس من غير مانع.

واحتجّت الأشعرية بقياس اللون على الكون ؛ فإنّه كما امتنع خلوّ الجسم عن الكون كذلك امتنع خلوّه عن اللون ، وبقياس ما قبل الاتّصاف على ما بعده ، فإنّه كما امتنع خلوّ الجسم عن اللون بعد الاتّصاف عادة امتنع خلوّه عنه قبله (7).

ص: 323


1- نسبه الخواجة في « نقد المحصّل » : 211 إلى البعض.
2- « نقد المحصّل » : 211.
3- الحاكي هو العلاّمة في « كشف المراد » : 169.
4- أي الطعوم. ( منه رحمه اللّه ).
5- أي الألوان. ( منه رحمه اللّه ).
6- أي الروائح. ( منه رحمه اللّه ).
7- لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « المحصّل » : 275 ؛ « نقد المحصّل » : 169 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 182 - 183.

وهما ضعيفان ؛ لأنّ القياس الأوّل خال عن الجامع ، والقياس المشتمل على الجامع لا يفيد اليقين ، فكيف الخالي عنه!؟ مع قيام الفرق ؛ فإنّ الكون لا يقبل خلوّ متحيّز عنه بالضرورة ، بخلاف اللون فإنّه يمكن أن يتصوّر الجسم خاليا عنه.

وأمّا امتناع الخلوّ عنها بعد الاتّصاف فهو ممنوع. ولو سلّم لظهر الفرق أيضا ؛ لأنّ الخلوّ بعد الاتّصاف إنّما امتنع لافتقار الزوال بعد الاتّصاف إلى طريان الضدّ ، بخلاف ما قبل الاتّصاف ؛ لعدم الحاجة إليه.

المسألة الخامسة : في أنّ الأجسام تجوز رؤيتها.

قال : ( وتجوز رؤيتها بشرط الضوء واللون ، وهو ضروريّ ).

أقول : ذهب الحكماء إلى أنّ الأجسام مرئيّة ، لكنّه لا بالذات بل بالعرض ، فإنّها لو كانت مرئيّة بالذات لرئي الهواء ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وإنّما يمكن رؤيتها بتوسّط الضوء واللون ، بمعنى أنّ المرئيّ أوّلا وبالذات هو الألوان والأضواء القائمة بسطوح الأجسام ، ثمّ العقل بمعونة هذا الإحساس يحكم بأنّ ما بين تلك السطوح جواهر ممتدّة في الجهات - أعني الأجسام - فهي مرئيّة ثانيا وبالعرض.

وذهب المتكلّمون إلى أنّها مرئيّة بذواتها بشرط تكيّفها بالأضواء والألوان ، واختاره المصنّف فأفاد أنّ هذا حكم ضروريّ يشهد به الحسّ (1).

المسألة السادسة : في أنّ الأجسام حادثة.

قال : ( والأجسام كلّها حادثة ؛ لعدم انفكاكها من جزئيّات متناهية حادثة ؛ فإنّها لا تخلو عن الحركة والسكون ، وكلّ منهما حادث ، وهو ظاهر ).

ص: 324


1- راجع « المحصّل » : 307 - 308 ؛ « نقد المحصّل » : 213 - 214 ؛ « نهاية المرام » 2 : 593 - 596 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 183.

أقول : هذه المسألة من أجلّ المسائل وأشرفها ، وهي المعركة العظيمة بين الحكماء والمتكلّمين ، وقد اضطربت أنظار العقلاء فيها ، وعليها مبنى القواعد الإسلاميّة.

وقد اختلف الناس فيها.

فذهب أرباب الملل والنحل - وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس - إلى أنّ الأجسام محدثة.

وذهب جمهور الحكماء إلى أنّها قديمة (1). والمراد قدم أصول العالم كالأفلاك والعناصر ، ضرورة فساد دعوى قدم المواليد كالحوادث اليوميّة.

ودليل المتكلّمين على أنّ الأجسام حادثة : أنّها لا تخلو عن أمور متناهية حادثة ، وكلّ ما لم يخل عن أمور متناهية حادثة فهو حادث ، فالأجسام حادثة.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون ، وهما من الأمور الحادثة المتناهية.

أمّا بيان عدم انفكاك الجسم عنهما فضروريّ ؛ لأنّ الجسم لا يعقل موجودا في الخارج منفكّا عن المكان ، فإن كان لابثا فيه غير منتقل عنه فهو الساكن ، وإن كان منتقلا عنه فهو المتحرّك.

وأمّا بيان حدوثهما فظاهر ؛ لأنّ الحركة هي حصول الجسم في الحيّز بعد أن كان في حيّز آخر.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني ، والسكون هو حصول الجسم في الحيّز بعد أن كان في ذلك الحيّز.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل ، وكلّ منهما مسبوق بحصول الحال المنتقل إليها ، والمسبوقيّة تقتضي الحدوث ، فإذا كان اللازم حادثا

ص: 325


1- راجع « المحصّل » : 276 - 303 ؛ « نقد المحصّل » : 189 وما بعدها ؛ « نهاية المرام » 3 : 3 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 7 : 220 - 231 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 107 - 127 ؛ « الأسفار الأربعة » 5 : 205 وما بعدها.

كان الملزوم أيضا حادثا ، وإلاّ يلزم عدم كون الملزوم ملزوما وتخلّف اللازم عن الملزوم ، وذلك باطل بالضرورة ، فتثبت الكبرى أيضا فتلزم النتيجة.

ويرد عليه : أنّ مقتضى تعريف الحركة والسكون وجود حالة ثالثة في الآن الأوّل وخلوّ الجسم عنهما فيه ، فتكون الصغرى ممنوعة ، فلا يثبت المدّعى.

والجواب : أنّ الكون في الآن الأوّل من جهة عدم تصوّر عدم التناهي ، بل التكثّر والتعدّد فيه حادث بالبديهة ، فيكون للجسم أكوان حادثة ولا يخلو عنها فيكون حادثة ؛ لما أشرنا إليه. فلا بدّ من اعتبار ضميمة في الدليل بأن يقال : إنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وما في حكمهما ، فيتمّ الدليل.

وأمّا الاعتراض بأنّ مسبوقيّة ماهيّة الحركة بالغير ممنوعة ، ومسبوقيّة كلّ فرد مسلّمة غير نافعة ؛ لجواز كون ماهيّة الحركة قديمة محفوظة بتعاقب الأفراد.

ففيه : أنّ كون الشيء في الآن الثاني لا يتصوّر كونه قديما ، فحدوثه ضروريّ.

مضافا إلى كفاية حدوث كلّ جزئيّ للمستدلّ بعد إثبات تناهي الجزئيّات بما سيأتي. فلا حاجة إلى الجواب السخيف المذكور في شرح القوشجي (1).

وقد يستدلّ على حدوث الحركة والسكون بأنّ كلّ واحد منهما يجوز عليه العدم ، والقديم لا يجوز عليه العدم.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ كلّ متحرّك على الإطلاق فإنّ كلّ جزء من حركته يعدم ويوجد عقيبه جزء آخر منها ، وكلّ ساكن فإنّه إمّا بسيط أو مركّب. وكلّ بسيط ساكن تمكن عليه الحركة ؛ لتساوي الجانب الملاقي منه لغيره من الأجسام والجانب الذي لا يلاقيه في قبول الملاقاة ، فأمكن على غير الملاقي الملاقاة ، كما أمكنت على الملاقي ، وذلك إنّما يكون بواسطة الحركة ، فكانت الحركة جائزة عليه فيكون العدم أيضا جائزا عليه كما مرّ.

ص: 326


1- « شرح تجريد العقائد » : 183 - 184.

وأمّا المركّب فإنّه مركّب من البسائط ، ونسوق الدليل الذي ذكرناه في البسيط إلى كلّ جزء من أجزاء المركّب.

وأمّا الكبرى ؛ فلأنّ القديم إن كان واجب الوجود لذاته استحال عدمه. وإن كان جائز الوجود استند إلى علّة موجبة ؛ لاستحالة صدور القديم عن المختار ؛ لأنّ المختار إنّما يفعل بواسطة القصد والداعي ، والقصد إنّما يتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فكلّ أثر المختار حادث ، فلو كان القديم أثر المؤثّر ، لكان ذلك المؤثّر موجبا ، فإن كان واجبا لذاته استحال عدم معلوله. وإن كان ممكنا نقلنا الكلام إليه ، فإمّا أن يتسلسل وهو محال ، أو ينتهي إلى مؤثّر موجب يستحيل عدمه فيستحيل عدم معلوله.

فقد ظهر أنّ القديم يستحيل عليه العدم ، وقد بيّنّا جواز العدم على الحركة والسكون فيستحيل قدمهما ، فيكونان حادثين يجوز عليهما العدم. ويتوجّه عليه أيضا الإيراد المذكور ، فيحتاج إلى الجواب المذكور.

قال : ( وأمّا تناهي جزئيّاتها فلأنّ وجود ما لا يتناهى محال ؛ للتطبيق ، ولو صف كلّ حادث بالإضافتين (1) المتقابلتين ، ويجب زيادة المتّصف بإحداهما من حيث هو كذلك على المتّصف بالأخرى ، فينقطع الناقص والزائد (2) أيضا ).

أقول : لمّا بيّن حدوث الحركة والسكون ، شرع الآن في بيان تناهيهما ؛ لأنّ بيان حدوثهما غير كاف في الدلالة. وهذا المقام هو المعركة بين الحكماء والمتكلّمين ؛ فإنّ المتكلّمين يمنعون من اتّصاف الجسم بحركات لا تتناهى ، والحكماء جوّزوا ذلك (3).

ص: 327


1- أي السابقيّة والمسبوقيّة. ( منه رحمه اللّه ).
2- الناقص هو الذي اتّصف بالسبق - مثلا - وحده ، والزائد هو ما اتّصف بالسبق واللحوق معا.
3- حول هذا المبحث راجع « نقد المحصّل » : 208 - 209 ؛ « نهاية المرام » 3 : 15 - 81 ؛ « شرح المواقف » 7 : 223 - 227.

والمتكلّمون استدلّوا على قولهم بوجوه :

الأوّل : أنّ كل فرد حادث ، فالمجموع كذلك.

واستضعفه العلاّمة بأنّه لا يلزم من حدوث كلّ فرد حدوث المجموع (1).

وفيه نظر.

الثاني : أنّها قابلة للزيادة والنقصان ، فتكون متناهية.

وأورد عليه النقض بمعلومات اللّه تعالى ومقدوراته ، فإنّ الأولى أزيد من الثانية ؛ لأنّ ذاته تعالى وصفاته الذاتيّة معلومة لله تعالى وليست مقدورة مع أنّه لا يلزم تناهيهما.

الثالث : برهان التطبيق ، وهو أن تؤخذ جملة الحركات من الآن إلى الأزل جملة ، ومن زمان الطوفان إلى الأزل جملة أخرى ، ثمّ تطبّق إحدى الجملتين بالأخرى ، فإن استمرّ إلى ما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص ، وهذا خلف. وإن انقطع الناقص فيكون متناهيا فيتناهى الزائد أيضا ؛ لأنّه إنّما زاد بمقدار متناه ، والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا.

الرابع : برهان التضايف ، وهو أنّ كلّ حادث يوصف بإضافتين متقابلتين هما السابقيّة والمسبوقيّة ؛ لأنّ كلّ واحد من الحوادث غير المتناهية يكون سابقا على ما بعده ولاحقا لما قبله ، والسبق واللحوق إضافتان متقابلتان ، وإنّما صحّ اتّصافه بهما ؛ لأنّهما أخذتا بالنسبة إلى شيئين ، واختلاف الجهة كاف في عدم امتناع اجتماع المتقابلين في ذات واحدة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إذا اعتبرنا الحوادث المبتدأة من الآن تارة من حيث إنّ كلّ واحد منها سابق ، وتارة من حيث إنّه بعينه لاحق ، كانت السوابق واللّواحق المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ، ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهّم

ص: 328


1- « كشف المراد » : 172.

تطبيق ، ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع فيه النزاع بواحدة.

وإلى هذا أشار بقوله : « وتجب زيادة المتّصف بإحداهما - أعني بإحدى الإضافتين وهو إضافة السبق - على المتّصف بالأخرى » أعني إضافة اللحوق.

فإذن اللواحق منقطعة في الماضي قبل انقطاع السوابق فتكون متناهية ، والسوابق أيضا تكون متناهية ؛ لأنّها زادت بمقدار متناه ، فيلزم تناهي ما فرض أنّه غير متناه ، وهذا خلف.

وهذا البرهان لا يتوقّف على اجتماع الأجزاء في الوجود ، بخلاف برهان التطبيق.

قال : ( والضرورة قضت بحدوث ما لا ينفكّ عن حوادث متناهية ).

أقول : لمّا بيّن أنّ الأجسام لا تنفكّ عن الحركة والسكون وبيّن حدوثهما وتناهيهما ، وجب القول بحدوث الأجسام ؛ لأنّ الضرورة قضت بحدوث ما لا ينفكّ عن حوادث متناهية ؛ لأنّ تلك الحوادث المتناهية المتعاقبة لها أوّل قطعا ، والذي لا ينفكّ عن تلك الحوادث لا يوجد قبل ذلك الأوّل ، وإلاّ لكان منفكّا عنها ، وإذا لم يوجد قبله كان حادثا مثله.

قال : ( فالأجسام حادثة ، ولمّا استحال قيام الأعراض إلاّ بها ثبت حدوثها ).

أقول : هذا نتيجة ما ذكر من الدليل ، وهو القول بحدوث الأجسام.

وأمّا الأعراض فإنّه يستحيل قيامها بنفسها ، وتفتقر في الوجود إلى محلّ تحلّ فيه ، وهي إمّا جسمانيّة أو غير جسمانيّة والكلّ حادث.

أمّا الجسمانيّة : فلامتناع قيامها بغير الأجسام ، وإذا كان الشرط حادثا كان المشروط كذلك بالضرورة.

أمّا غير الجسمانيّة : فبالدليل الدالّ على حدوث كلّ ما سوى اللّه تعالى.

والمصنّف إنّما قصد الأعراض الجسمانيّة ؛ لقوله : « لمّا استحال قيام الأعراض

ص: 329

إلاّ بها ثبت حدوثها ».

قال : ( واختصّ الحدوث بوقته ؛ إذ لا وقت قبله ، والمختار يرجّح أحد مقدوريه لا لأمر مرجّح عند بعضهم ).

أقول : لمّا بيّن حدوث العالم شرع في الجواب عن شبه الفلاسفة (1) ، وأقوى شبههم ثلاثة أجاب المصنّف رحمه اللّه عنها في هذا الكتاب :

الشبهة الأولى - وهي أعظمها - أنّهم قالوا : إنّ المؤثّر التامّ في العالم إمّا أن يكون أزليّا أو حادثا.

فإن كان أزليّا لزم قدم العالم ؛ لأنّه عند وجود المؤثّر التامّ يجب وجود الأثر ؛ لأنّه لو تأخّر عنه ثمّ وجد ، لم يخل : إمّا أن يكون لتجدّد أمر أو لا ، والأوّل يستلزم كون ما فرضناه مؤثّرا تامّا ليس بتامّ ، وهذا خلف. والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا بمرجّح ؛ لأنّ اختصاص وجود الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده - مع حصول المؤثّر التامّ - يكون ترجيحا من غير مرجّح.

وإن كان المؤثّر في العالم حادثا نقلنا الكلام إلى علّة حدوثه ، ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى المؤثّر القديم ، وهو محال ؛ للزوم تخلّف الأثر عنه ، وهذا المحال إنّما نشأ من فرض حدوث العالم.

وقد أجاب المتكلّمون عن هذه الشبهة بوجوه :

أحدها : أنّ المؤثّر التامّ قديم ، لكنّ الحدوث اختصّ بوقت الإحداث ؛ لانتفاء وقت قبله ، والأوقات التي يطلب فيها الترجيح معدومة ولا تتمايز إلاّ في الوهم ، وأحكام الوهم في مثل ذلك غير مقبولة ، بل الزمان يبتدئ وجوده مع أوّل وجود العالم ، ولم يمكن وقوع ابتداء سائر الموجودات قبل ابتداء وجود الزمان أصلا.

ص: 330


1- لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « شرح الأصول الخمسة » : 115 - 118 ؛ « المطالب العالية » 4 : 239 - 245 ؛ « المحصّل » : 299 - 303 ؛ « نقد المحصّل » : 205 - 208 ؛ « نهاية المرام » 3 : 136 - 179 ؛ « شرح المواقف » 7 : 228 - 231 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 120 - 127.

الثاني : أنّ المؤثّر التامّ إنّما يجب وجود أثره معه لو كان موجبا ، أمّا إذا كان مختارا فلا ؛ لأنّ المختار يرجّح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجّح ، فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده ، لكنّ المؤثّر المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا لأمر يترجّح به الإيجاد على تركه حتّى لا يلزم كونه مستكملا بذلك الإيجاد المستلزم لحصول تلك الأولويّة ؛ لتجويز بعض المتكلّمين - وهم الأشاعرة (1) - ترجيح المختار لأحد مقدوريه بلا مرجّح يدعوه إليه ، كما في قدحي العطشان ورغيفي الجوعان وطريقي الهارب من السبع مع فرض المساواة من جميع الجهات بل المرجّح هو الإرادة.

الثالث : أنّه لم لا يجوز اختصاص بعض الأوقات بمصلحة تقتضي وجود العالم فيه دون ما قبل ذلك الوقت وبعده؟ فالمؤثّر التامّ وإن كان حاصلا في الأزل لكن لا يجب وجود العالم فيه تحصيلا لتلك المصلحة.

الرابع : أنّ اللّه تعالى علم بوجود العالم وقت وجوده ، وخلاف علمه محال ، فلم يمكن وجوده قبل وقت وجوده ، فتأمّل.

الخامس : أنّ اللّه تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده ، والإرادة مخصّصة لذاتها.

السادس : أنّ العالم محدث ؛ لما تقدّم ، فيستحيل وجوده في الأزل ؛ لأنّ المحدث هو ما يسبقه العدم ، والأزل ما لم يسبقه العدم ، فالجمع بينهما محال.

ثمّ عارضوهم بالحادث اليومي ؛ فإنّه معلول إمّا لقديم فيستلزم قدمه ، أو لحادث فيتسلسل.

قال : ( والمادّة منتفية ).

أقول : هذا جواب عن الشبهة الثانية.

ص: 331


1- « المحصّل » : 391 - 398 ؛ « المطالب العالية » 3 : 37 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 6 : 67 - 70 ، و 7 : 230 ، و 8 : 54 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 337 - 340.

تقريرها : أنّهم قالوا : كلّ حادث فهو مسبوق بإمكان وجوده ، وذلك الإمكان ليس أمرا عدميّا ، وإلاّ فلا فرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفيّ ، ولا قدرة القادر ؛ لأنّا نعلّلها به ، فهو مغاير. وليس جوهرا ؛ لأنّه نسبة وإضافة ، فمحلّه يكون سابقا عليه وهو المادّة ، فتلك المادّة إن كانت قديمة ويستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة فيلزم قدم الجسم ، وإن كانت حادثة تسلسل.

والجواب : أنّا قد بيّنّا أنّ المادة منتفية ، وقد سلف تحقيقه.

قال : ( والقبليّة لا تستدعي الزمان ، وقد سبق تحقيقه ).

أقول : هذا جواب عن الشبهة الثالثة.

وتقريرها : أنّهم قالوا : كلّ حادث فإنّ عدمه سابق على وجوده ، وأقسام السبق منفيّة هنا إلاّ الزمانيّ ، فكلّ حادث يستدعي سابقيّة الزمان عليه ، فالزمان إن كان حادثا لزم أن يكون زمانيّا ، وهو محال ، وإن كان قديما - وهو مقدار الحركة - لزم قدمها ، لكنّ الحركة صفة للجسم ، فيلزم قدمه.

والجواب : ما تقدّم في مبحث السبق من أنّ السبق لا يستدعي الزمان ، وإلاّ تسلسل.

ص: 332

[ الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة ]

اشارة

قال : ( الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة. أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الجواهر المقارنة للمادّة ، شرع في البحث عن الجواهر المجرّدة عنها ، ولبعدها عن الحسّ أخّرها عن المقارنات.

وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى : في العقول المجرّدة.

اعلم أنّ جماعة من المتكلّمين نفوا هذه الجواهر ، واحتجّوا بأنّه لو كان هاهنا موجود ليس بجسم ولا جسماني لكان مشاركا لواجب الوجود في هذا الوصف ، فيكون مشاركا له في ذاته (1).

وهذا كلام سخيف ؛ لأنّ الاشتراك في الصفات السلبيّة لا يقتضي الاشتراك في الذات ؛ فإنّ كلّ بسيطين يشتركان في سلب ما عداهما عنهما مع انتفاء الشركة بينهما في الذات. بل الاشتراك في الصفات الثبوتيّة لا يقتضي اشتراك الذوات ؛ لأنّ الأشياء المختلفة قد يلزمها لازم واحد كالشمس والنار والحركة بالنسبة إلى الحرارة ، فإذا

ص: 333


1- انظر : « المحصّل » : 230 - 231 ؛ « المطالب العالية » 7 : 25 - 28 ، وقد نسبه في الأوّل إلى جمهور المتكلّمين ، وفي الثاني إلى أكثر المتكلّمين. ولمزيد المعرفة راجع « شرح المواقف » 6 :1. 277 و 7 : 247 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 141 - 144 و 3 : 5 - 8.

ثبت ذلك لم يلزم من كون هذه الجواهر المجرّدة مشاركة للواجب تعالى في وصف التجرّد - وهو سلبيّ - مشاركتها له في الحقيقة ، فلهذا لم يجزم المصنّف بنفي هذه الجواهر المجرّدة.

قال : ( وأدلّة وجوده مدخولة كقولهم : « الواحد لا يصدر عنه أمران » ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده ، وإلاّ لما انتفت صلاحية التأثير عنه ؛ لأنّ المؤثّر هنا مختار ).

أقول : لمّا بيّن انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرّد الذي هو العقل ، شرع في بيان انتفاء الجزم بثبوته ، وذلك ببيان ضعف أدلّة المثبتين.

اعلم أنّ أكثر الفلاسفة (1) ذهبوا إلى أنّ المعلول الأوّل هو العقل الأوّل ، وهو موجود مجرّد عن الأجسام والموادّ في ذاته وتأثيره معا ، ثمّ إنّ ذلك العقل يصدر منه عقل وفلك ؛ لتكثّره باعتبار كثرة الجهات الحاصلة عن ذاته باعتبار التجرّد والإمكان الموجب إلى افتقاره إلى فاعله ، فباعتبار التجرّد يؤثّر في العقل الثاني ، وباعتبار الإمكان [ يؤثّر ] في الفلك الأعظم ، ثمّ يصدر عن العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير ، وهو المسمّى بالعقل الفعّال والعقل العاشر ، وإلى الفلك الأخير التاسع وهو فلك القمر ، فيكون تعيين العدد بملاحظة الأفلاك التي هي من الآثار.

واستدلّوا على إثبات الجواهر المجرّدة - التي هي العقول - بوجوه (2) :

الأوّل : أنّ اللّه تعالى واحد من جميع الجهات ذاتا وصفة ، فلا يكون علّة للمتكثّر ، فيكون الصادر عنه واحدا ، فلا يخلو إمّا أن يكون جسما أو مادّة أو صورة أو نفسا

ص: 334


1- انظر : « الشفاء » الإلهيات : 402 - 409 ؛ « النجاة » : 273 - 280 ؛ « المعتبر في الحكمة » 3 : 145 - 168 ؛ « المباحث المشرقية » 2 : 453 - 463 ، و 526 - 535 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 243 - 263 ؛ « شرح الهداية الأثيرية » للميبدي : 182 - 193.
2- انظر : المصادر السابقة في الهامش المتقدّم.

أو عرضا أو عقلا ، والأقسام كلّها باطلة سوى الأخير.

أمّا الأوّل : فلأنّ كل جسم مركّب من المادّة والصورة ، وقد بيّنّا أنّ المعلول الأوّل يكون واحدا.

وإلى هذا القسم أشار بقوله : « الواحد لا يصدر عنه أمران ».

وامّا الثاني : فلأنّ المادّة هي الجوهر القابل ، فلا تصلح للفاعليّة ؛ لأنّ نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعليّة نسبة الوجوب ، ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب. وإذا لم تصلح المادّة للفاعليّة لم تكن هي المعلول الأوّل والسابق على غيره ؛ لأنّ المعلول الأوّل يجب أن يكون علّة فاعليّة لما بعده.

وإلى هذا القسم أشار بقوله : « وإلاّ لما انتفت صلاحية التأثير عنه » أي لا يكون المعلول الأوّل هو المادّة التي لا تصلح أن تكون فاعلا ، وإلاّ لم تكن سابقة على غيرها ؛ لعدم صلاحية الفاعليّة ، فلم تكن هي المعلول الأوّل ؛ لما بيّنّا أنّ المعلول سابق على غيره من المعلولات.

وأمّا الثالث : فلأنّ الصورة مفتقرة في فاعليّتها وتأثيرها إلى المادّة ؛ لأنّها إنّما تؤثّر إذا كانت موجودة شخصيّة ، وإنّما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادّة ، فلو كانت الصورة هي المعلول الأوّل السابق على غيره ، لكانت مستغنية علّيّتها عن المادّة ، وهو محال.

فالحاصل : أنّ الصورة محتاجة في وجودها الشخصي إلى المادّة ، فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من الممكنات ؛ لاستحالة اشتراط السابق باللواحق.

وإلى هذا أشار بقوله : « ولا سبق لمشروط » أي الصورة المشروطة « باللاحق » أي بالمادّة « في وجوده ».

وأمّا الرابع : فلأنّ النفس إنّما تفعل بواسطة البدن ، فلو كانت هي المعلول الأوّل لكانت علّة لما بعدها من الأجسام فتكون مستغنية في فعلها عن البدن ، فلا تكون

ص: 335

نفسا بل عقلا ، وهو محال ؛ لأنّها مشروط تأثيرها بالأجسام ، فلو كانت سابقة عليها لكان السابق مشروطا باللاحق في تأثيره المستند إليه ، وهو محال ؛ لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه.

وإلى هذا أيضا أشار بقوله : « ولا سبق لمشروط » أي النفس المشروطة « باللاحق » أي الجسم « في تأثيره ».

وأمّا الخامس : فلأنّ العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو كان المعلول الأوّل عرضا لكان علّة للجواهر كلّها ، فيكون السابق مشروطا في وجوده باللاحق ، وهو باطل بالضرورة.

وإليه أشار بقوله : « ولا سبق لمشروط باللاحق في وجوده ».

فالحاصل : أنّ الصورة والعرض مشروطان بالمادّة والجوهر ، فلا يكونان سابقين عليهما. والنفس إنّما تؤثّر بواسطة الجسم ، فلا تكون متقدّمة عليه تقدّم العلّة على المعلول ، وإلاّ لاستغنت في تأثيرها عنه. فتعيّن أن يكون المعلول الأوّل هو العقل ، وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا الدليل ، فنقول - بعد تسليم أصوله - : إنّه إنّما يتمّ لو كان المؤثّر موجبا ، أمّا إذا كان مختارا فلا ؛ فإنّ المختار تتعدّد آثاره وأفعاله بتعدّد إرادته أو تعلّقاتها أو تعدّد متعلّقها كما ورد أنّه تعالى « خلق الأشياء بالمشيئة وخلق المشيئة بنفسها » (1). وسيأتي الدليل على أنّه مختار.

قال : ( وقولهم : استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبّه بالكامل ؛ إذ طلب الحاصل فعلا أو قوّة يوجب الانقطاع ، وغير الممكن محال ؛ لتوقّفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه ، وعلى حصر أقسام الطلب ، مع المنازعة في امتناع طلب المحال ).

ص: 336


1- « التوحيد » : 148 / 19 باب صفات الذات وصفات الأفعال ، و 339 / 8 باب المشيئة والإرادة.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلّوا بها على إثبات العقول المجرّدة مع الجواب عنه.

وتقرير الدليل : أن نقول : حركات السماوات إراديّة ؛ لأنّها مستديرة ، لأنّ الحركة إمّا طبيعيّة أو قسريّة ، والمستديرة لا تكون طبيعيّة ؛ لأنّ المطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع ، وكلّ جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإنّ تركه بعينه هو التوجّه إليه ، وإذا انتفت الطبيعيّة انتفت القسريّة ؛ لأنّ القسر على خلاف الطبع ، وحيث لا طبع فلا قسر ، فثبت أنّها إراديّة. وكلّ حركة إراديّة فإنّها تستدعي مطلوبا ؛ لأنّ العبث لا يدوم ، وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به ، وإلاّ لم يتوجّه بالطلب نحوه.

وذلك المطلوب إمّا محسوس أو معقول ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ طلب المحسوس إمّا أن يكون للجذب أو للدفع ، وجذب الملائم شهوة ودفع المنافر غضب ، وهما على الفلك محالان ؛ لأنّهما مختصّان بالجسم الذي ينفعل ويتغيّر من حالة ملائمة إلى غيرها وبالعكس ، والأجرام السماويّة لا تنخرق ولا تلتئم ولا تتغيّر من حالة إلى أخرى ، فتعيّن أن يكون ذلك المطلوب معقولا.

وذلك المعقول إمّا محال أو ممكن حاصل ، أو ممكن الحصول الذي لا ينال أصلا ، وهو المراد من الحاصل قوّة ، أو ينال مستقرّا أو متعاقبا مع الانتهاء أو بدون الانتهاء ، وطلب المحال محال ، وطلب ما ينال يوجب انقطاع الحركة ، وكذا ما لا ينال ؛ لحصول اليأس ، وكذا ما ينال مستقرّا أو متعاقبا مع الانتهاء ، كما سيأتي ، فتعيّن الأخير ، فإمّا أن يكون ذلك المطلوب كمالا في نفسه أو لا. والثاني محال ، وإلاّ لجاز انقطاع الحركة ؛ لأنّه لا بدّ وأن يظهر أنّ المطلوب ليس بكمال في ذاته فيترك الطلب ، وإذا كان المطلوب كمالا حقيقيّا فإمّا أن يحصل بالكلّيّة ، وهو محال ، وإلاّ لوقفت الحركة كما مرّ ، فيجب أن يحصل على التعاقب.

ولمّا كانت كمالات الفلك حاضرة بأسرها سوى الوضع ؛ لأنّه كامل في جوهره ،

ص: 337

وباقي مقولاته غير الوضع ؛ فإنّ أوضاعه الممكنة ليست حاضرة بأسرها ؛ إذ لا وضع يحصل له إلاّ وهناك أوضاع لا نهاية لها معدومة عنه ، ولا يمكن حصولها دفعة ، فهي إنّما تحصل على التعاقب.

ثمّ إنّ الفلك لمّا تصوّر كمال العقل وأنّه لم يبق فيه شيء بالقوّة إلاّ وقد خرج إلى الفعل ، اشتاق إلى التشبّه به في ذلك ؛ ليستخرج باقيه من القوّة إلى الفعل ، ولمّا تعذّر ذلك دفعة استخرج كماله في أوضاعه على التعاقب.

فقد ظهر من هذا وجود عقل يتشبّه به الفلك في حركته ، فإن كان واحدا لزم تشابه الحركات الفلكيّة في الجهات والسرعة والبطء ، وليس كذلك ، فيجب وجود عقول متكثّرة بحسب تكثّر الحركات في الجهة والسرعة والبطء.

لايقال : لم لا يتحرّك لأجل نفع السافل؟ أو لم لا تختلف السرعة والبطء والجهة كذلك؟

لأنّا نقول : الفلكيّات أشرف من هذا العالم ، ويستحيل أن يفعل العالي شيئا لأجل السافل ، وإلاّ لكان مستكملا به ، فالكامل مستكمل بالناقص ، وهذا خلف ، فلا يمكن أن تكون الحركة في أصلها ولا في هيئتها لأجل نفع السافل.

وبالجملة ، فهذا تقرير الدليل.

والجواب : أنّ هذا مبنيّ على دوام الحركة ، وقد بيّنّا حدوث العالم فيجب انقطاعها ، فبطل هذا الدليل من أصله.

وأيضا فهذا الدليل يتوقّف على حصر أقسام الطلب ، والأقسام التي ذكروها ليست حاصرة ؛ لاحتمال كون طلب المحسوس لمعرفته أو نحوها.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون الطلب لما يستحيل حصوله أو لما هو حاصل ولا شعور للطالب بذلك ، ويمنع وجوب الشعور بذلك؟

ثمّ نقول : لا نسلّم أنّ الحركة الفلكيّة دوريّة فلم لا يتحرّك على الاستقامة؟

سلّمنا أنّها دوريّة ، لكنّ الحركة ليست مقصودة بالذات بل إنّها تراد لغيرها ،

ص: 338

فلم حصرتم ذلك الغير في استخراج الأوضاع؟ ولم لا يجوز أن يكون للفلك كمالات غير الأوضاع معدومة كالتعقّلات المتجدّدة؟

وأيضا فلم أوجبتم الحركة في الوضع للتشبيه باستخراج أنواع الأوضاع ، ولم توجبوا استخراج باقي الأعراض من الكمّ والكيف؟ ولم أوجبتم وجود عقل يشبّه به الفلك ولم توجبوا وجود نور غيره؟ ولم لا يقال : إنّ خروج الأوضاع كمال مفقود ، فيتحرّك لطلبه من غير حاجة إلى متشبّه به؟

سلّمنا ، لكن لم أحلتم نفع السافل؟ وحديث الاستفادة - مع أنّه خطابيّ - غير لازم.

وبالجملة ، فهذا الوجه ضعيف جدّا.

إذا عرفت هذا ، فنرجع إلى تطبيق ألفاظ الكتاب :

فقوله : « وقولهم » يقرأ بالجرّ عطفا على قوله : « قولهم » في قوله : « كقولهم ».

وقوله : « استدارة الحركة توجب الإرادة » إشارة إلى ما نقلناه عنهم من أنّ الحركة المستديرة لا تكون إلاّ إذا أراد بها شيئا.

وقوله : « المستلزمة للتشبّه بالكامل » إشارة إلى أنّ الغاية من الحركة ليس كمالا لا يحصل دفعة ولا ممتنع الحصول ، بل هو التشبّه الحاصل على التعاقب.

وقوله : « إذ طلب الحاصل فعلا أو قوّة يوجب الانقطاع » إشارة إلى أنّ ذلك الكمال ليس حاصلا بالفعل وإلاّ لوقفت الحركة ، ولا بالقوّة التي يمكن حصولها دفعة أو نحو ذلك ؛ لذلك أيضا.

وقوله : « وغير الممكن محال » إشارة إلى أنّ الكمال إذا امتنع استحال طلبه.

وقوله : « لتوقّفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه » إشارة إلى بيان ضعف هذا الدليل ؛ فإنّه مبنيّ على دوام الحركة ، وقد بيّنّا وجوب انقطاعها حيث بيّنّا حدوثها.

وقوله : « على حصر أقسام الطلب » عطف على قوله : « على دوام » وإشارة إلى اعتراض ثان ، وهو أن نمنع حصر أقسام الطلب فيما ذكر.

وقوله : « مع المنازعة في امتناع طلب المحال » إشارة إلى اعتراض آخر ، وهو أنّا

ص: 339

نمنع استحالة طلب المحال بجواز الجهل على الطالب.

قال : ( وقولهم (1) : لا علّيّة بين المتضايفين ، وإلاّ لأمكن الممتنع وعلّل الأقوى بالأضعف ؛ لمنع الامتناع الذاتي ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدلّوا بها على إثبات العقول.

وتقريره أن يقال : إنّ الأفلاك ممكنة فلها علّة ، فهي إن كانت غير جسم ولا جسمانيّ ثبت المطلوب.

وإن كانت العلّة أمرا جسمانيّا لزم الدور ؛ لتوقّفه على الجسم المتوقّف على علّة الأفلاك.

وإن كانت جسما ، فإمّا أن يكون الحاوي علّة للمحويّ أو بالعكس ، والثاني محال ؛ لأنّ المحويّ أضعف من الحاوي ، فلو كان علّة لزم تعليل الأقوى - الذي هو الحاوي - بالأضعف الذي هو المحويّ ، وهو محال. والأوّل - وهو أن يكون الحاوي علّة في المحويّ - محال أيضا.

وبيانه يتوقّف على مقدّمات :

إحداها : أنّ الجسم لا يكون علّة إلاّ بعد صيرورته شخصا معيّنا ، وهو ظاهر ؛ لأنّه إنّما يؤثّر إذا صار موجودا بالفعل ولا وجود لغير الشخص.

الثانية : أنّ المعلول حال فرض العلّة ووجوبها (2).

الثالثة : أنّ الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لو كان الحاوي علّة للمحويّ لكان متقدّما بشخصه المعيّن على وجود المحويّ ، فيكون المحويّ حينئذ ممكنا ، فيكون انتفاء الخلاء ممكنا ؛ لأنّه

ص: 340


1- لفظة « وقولهم » ساقطة من بعض نسخ « التجريد » ، والظاهر أنّها من سهو النسّاخ ، ويؤيّد ذلك أنّ الشارح رحمه اللّه قد أسقطها عند تطبيق ألفاظ الكتاب ، كما سيأتي في الصفحة 341.
2- كذا في الأصل ، والعبارة - كما يبدو - ناقصة. وفي « كشف المراد » : 181 هكذا وردت : « الثانية : أنّ المعلول حال فرض وجود العلّة يكون ممكنا ، وإنّما يلحقه الوجوب بعد وجود العلّة ووجوبها ».

مصاحب لوجود المحويّ ، لكنّ الخلاء ممتنع لذاته.

والجواب - بعد تسليم امتناع الخلاء - : أنّا لا نسلّم كون الامتناع ذاتيّا.

إذا عرفت هذا ، فنرجع إلى تطبيق ألفاظ الكتاب ، فنقول :

قوله : « لا علّيّة بين المتضايفين » الذي يفهم من هذا الكلام أنّه لا علّيّة بين الحاوي والمحويّ ، وسمّاهما المتضايفين ؛ لأنّه أخذهما من حيث هما حاو ومحويّ ، وهذان الوصفان من باب المضاف.

وقوله : « وإلاّ لأمكن الممتنع » إشارة إلى ما مرّ من إمكان الخلاء الممتنع لذاته على تقدير كون الحاوي علّة.

وقوله : « أو علّل الأقوى بالأضعف » إشارة إلى ما بيّنّاه من كون الضعيف علّة في القويّ على تقدير كون المحويّ علّة للحاوي.

وقوله : « لمنع الامتناع الذاتي » إشارة إلى ما بيّنّاه في الجواب من المنع من كون الخلاء ممتنعا لذاته.

واعلم أنّ بعض (1) أهل الإشراق استدلّ بالبرهان الأشرف على ثبوت العقل ، وهو أنّ الواجب تعالى أشرف العلل ، فيجب أن يكون معلوله أشرف المعلولات بكونه مجرّدا عن المادّة ، وصاحب الكمالات الفعليّة من غير أن يكون فيه القوّة ، وعدم اشتماله على جهة النقص إلاّ نقص الإمكان والحدوث والحاجة ، فيكون بالفعل صاحب نحو العلم والقدرة من الكمالات الذاتيّة ، وهو المراد بالعقل كما ورد في النقل « أنّ أوّل ما خلق اللّه العقل » (2) ويطابقه العقل ؛ لأنّ المقتضي - وهو المبدأ الفيّاض - موجود ، والمانع مفقود.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عدم الإرادة مانع ، مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّ أوّل

ص: 341


1- هذا البعض هو صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي ، انظر كتابه « الأسفار الأربعة » 7 : 263.
2- « عوالي اللآلئ » 4 : 99 / 141 ؛ « مكارم الأخلاق » 2 : 332 / 2656.

ما خلق اللّه هو النور الأحمدي صلی اللّه علیه و آله ، لا العقل ، كما يستفاد من النقل ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « أوّل ما خلق اللّه نوري » (1) لإمكان الجمع بإرجاع العقل إلى النقل لتكاثره البالغ إلى حدّ القطع ظاهرا ، فلا بدّ من التخصيص الموضوعي ؛ حذرا عن الاجتهاد في مقابل النصّ فإنّ المراد من العقل هو النور المحمّدي صلی اللّه علیه و آله الاتّفاق وإلاّ فمجال المنع واسع.

المسألة الثانية : في النفس الناطقة.

قال : ( وأمّا النفس فهي كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة ).

أقول : هذا هو البحث عن أحد أنواع الجوهر ، وهو البحث عن النفس الناطقة.

وقبل البحث عن أحكامها شرع في تعريفها.

اعلم أنّ النفس - كما يستفاد من كلمات القوم - جوهر مجرّد مفارق عن المادّة في ذاته دون فعله ، ويدبّر في البدن تدبير الملك المقتدر بالقدرة التامّة في مملكته ، ولهذا ورد : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (2) فإنّ النفس إذا أرادت من العين الانفتاح تنفتح من غير حاجة إلى كلام ، وكذا سائر الأعضاء والجوارح في آثارها بحيث إذا أرادت أمرا يكون ، فإذا عرف تسلّط الرئيس الممكن على مرءوسه على هذا المنوال ، عرف ربّه الواجب ذا الجلال ، وإن احتمل الحديث غير ذلك المعنى أيضا كالتعليق بالمحال.

وقد يطلق لفظ النفس على المادّي كالنفس الجمادية التي هي مبدأ حفظ التركيب ، والنفس النباتيّة التي هي مبدأ التغذية والتنمية والتوليد ونحوها ، والنفس

ص: 342


1- « عوالي اللآلئ » 4 : 99 / 140 ؛ « بحار الأنوار » 15 : 24 / 44 ، و 25 : 22 / 38.
2- ورد في « المناقب » للخوارزمي ، الفصل 24 في جوامع كلامه : 375 / 395 ، و « نور الأبصار » : 166 عن عليّ علیه السلام ، وفي « عوالي اللآلئ » 4 : 103 / 149 ، و « بحار الأنوار » 2 : 32 / 22 و « مصابيح الأنوار » 1 : 204 / 30 عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

الحيوانيّة التي هي مبدأ الحسّ والحركة الإراديّة ويجعل النفس الأرضيّة اسما لهما.

وقد يطلق على النفس الحيوانيّة الروح البخاري ، وهو البخار الراكب للدم الحامل له ، ويقال له بالفارسيّة « جان » كما يقال للنفس الناطقة بالفارسيّة « روان » قال اللّه تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (1) ولها باعتبار الآثار قوّة عاقلة مسمّاة بالعقل النظري كالنفس ، وقوّة عاملة تحرّك بدن الإنسان إلى الأفعال الجزئيّة بالفكر والرويّة مسمّاة بالعقل العملي كالنفس.

وللقوّة العاقلة مراتب أربع :

الأولى : العقل الهيولاني المستعدّ للمعقولات.

الثانية : العقل بالملكة لحصول المعقولات البديهية بنحو الإحساس الموجب لحصول ملكة استعداد الانتقال إلى النظريّات.

الثالثة : العقل بالفعل بحصول المعقولات النظريّة وكونها مخزونة من غير استحضارها.

الرابع : العقل بالمستفاد باستحضار المعقولات المكتسبة. وللعاملة أيضا مراتب :

الأولى : مرتبة النفس الأمّارة من جهة غلبة الغضب والشهوة.

الثانية : اللوّامة.

الثالثة : القدسيّة بتوسّط القوّة الشهويّة بالعفّة ، والغضبيّة بالشجاعة ، والعقليّة بالفطانة.

الرابعة : المطمئنّة.

الخامسة : الراضية المرضيّة.

ص: 343


1- الشمس (91) : 7 - 10.

قال اللّه تعالى : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (1) و ( لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (2) و ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) (3).

وبالجملة ، فالظاهر أنّ النفس جوهر مجرّد أو مادّي تعلّق بالأجسام تعلّق التدبير والتصرّف ، وليس بعرض أو نحوه كما هو ظاهر جعله كمالا.

وقد عرّفها الحكماء أنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة (4).

والمراد بالكمال ما يكمل به النوع إمّا في ذاته ويسمّى كمالا أوّلا كصورة السيف للحديد ، أو في صفاته ويسمّى كمالا ثانيا كالقطع للسيف.

و « الجسم » يخرج المجرّدات ، و « الطبيعيّ » يخرج صور الجسم الصناعي كهيئة السرير والسيف ، و « الآلي » يخرج نحو المعدني ممّا يؤثّر بالخاصّيّة لا بالآلة.

والمراد ب- « ذي الحياة بالقوّة » المخرج للنفس الفلكيّة - على زعمهم - ما يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء ، لا ما تكون حياته بالقوّة ، كما هو المتبادر حتّى يخرج النفوس الحيوانيّة والإنسانيّة. وقد وافقهم المصنّف.

وعرّفوا النفس بالكمال دون الصورة ؛ لأنّ النفس الإنسانيّة غير حالّة في البدن ، فليست صورة له بل هي كمال له ، ولكنّ الكمال منه أوّل وهو الذي يتنوّع به الشيء كالفصول ، ومنه ثان وهو ما يعرض للنوع بعد كماله من صفاته اللازمة والعارضة ، فالنفس من القسم الأوّل ، وهي كمال لجسم طبيعيّ غير صناعيّ كالسرير وغيره ، وليست كمالا لكلّ طبيعي حتّى البسائط ، بل هي كمال لجسم طبيعيّ آليّ تصدر عنه الأفعال بواسطة الآلات ، ويصدر عنه ما يصدر عن ذي الحياة ، وهي التغذّي والتنمية والتوليد والإدراك والحركة الإراديّة والنطق.

ص: 344


1- يوسف (12) : 53.
2- القيامة (75) : 9.
3- الفجر (89) : 27 - 28.
4- انظر : « الشفاء » الطبيعيات 2 : 10 ، الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس ؛ « النجاة » 158 ؛ « رسالة الحدود » لابن سينا : 14 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 290 - 291 ؛ « المباحث المشرقية » 2 : 231 وما بعدها.

المسألة الثالثة : في أنّ النفس الناطقة ليست هي المزاج.

قال : ( وهي مغايرة لما هي شرط فيه ؛ لاستحالة الدور ).

أقول : لمّا كانت النفس الإنسانيّة مرقاة لمعرفة الصانع وصفاته ، أراد بيان أحوالها.

اعلم أنّه ذهب المحقّقون إلى أنّ النفس الناطقة مغايرة للمزاج (1) ، خلافا لما حكي عن بعض الناس (2) من أنّ النفس عين المزاج الذي ينتفي بتلاشي البدن.

واستدلّوا (3) عليه بثلاثة أوجه :

الأوّل : ما ذكره الأوائل ، وهو أنّ النفس الناطقة شرط في حصول المزاج ؛ لأنّ المزاج إنّما يحصل من حصول العناصر المتضادّة المتسارعة إلى الانفكاك المجبورة على الاجتماع ، فعلّة ذلك الاجتماع يجب أن تكون متقدّمة عليه ، وكذا شرط الاجتماع وهو النفس الناطقة ، فلا تكون هي المزاج المتأخّر عن الاجتماع ؛ لاستحالة تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عنها. مع أنّ المزاج إذا كان موقوفا على الاجتماع ، والاجتماع موقوفا على النفس التي هي شرط له ، يستلزم كون النفس عين المزاج الأوّل.

وفي هذا الوجه نظر ؛ لأنّهم علّلوا حدوث النفس بالاستعداد الحاصل من المزاج ، فكيف جعلوا الآن علّة حدوث الاجتماع النفس؟!

قال : ( وللممانعة في الاقتضاء ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني.

ص: 345


1- انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 298 وما بعدها ؛ « المباحث » : 67 / 92 ؛ « التحصيل » : 729 وما بعدها.
2- كما في « الشفاء » 2 : 15 ، الفصل الثاني من المقالة الأولى في النفس ؛ « شرح المواقف » 7 : 250 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 305.
3- لاستيفاء البحث حول النفس والمناقشة فيها راجع « الشفاء » 2 : 14 - 21 ، الفصل الثاني من المقالة الأولى في النفس ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 298 وما بعدها ؛ « التحصيل » : 729 - 739 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 303 - 316.

وتقريره : أنّ المزاج قد يمانع النفس في مقتضاها ؛ فإنّ النفس قد تقتضي الحركة إلى جانب ويقتضي المزاج [ الحركة ] إلى جانب آخر ، كالصعود والهبوط ، وتضادّ الآثار يستدعي تضادّ المؤثّر ، فها هنا الممانعة بين النفس والمزاج في جهة الحركة.

وكذلك قد تقع الممانعة بينهما في نفس الحركة ، بأن تكون الحركة نفسانيّة لا يقتضيها المزاج ، كما في حال حركة الإنسان على وجه الأرض ؛ فإنّ مزاجه يقتضي السكون عليها ، ونفسه تقتضي الحركة ، أو بأن تكون طبيعيّة تقتضيها ، كما في المتردّي من الهواء.

قال : ( ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث الدالّ على أنّ النفس مغايرة للمزاج.

وتقريره : أنّ الطفل له مزاج يبطل في سنّ الشباب ونحوه مع ثبوت النفس ، ولا شكّ أنّ الباقي غير الزائل.

وقد يقرّر بأنّ الإدراك إنّما يكون بواسطة الانفعال ، فاللامس إذا أدرك شيئا لا بدّ وأن ينفعل عن الملموس ، فلو كان اللامس المزاج لبطل عند انفعاله وحدثت كيفيّة مزاجيّة أخرى ، وليس المدرك هو الكيفيّة الأولى ؛ لبطلانها ووجوب بقاء المدرك عند الإدراك ، ولا الثانية ؛ لأنّ المدرك لا بدّ وأن ينفعل عن المدرك ، والشيء لا ينفعل عن نفسه.

المسألة الرابعة : في أنّ النفس ليست هي البدن.

قال : ( ولما تقع الغفلة عنه ).

أقول : ذهب من لا تحصيل له إلى أنّ النفس الناطقة هي البدن (1).

وقد أبطله المصنّف رحمه اللّه بوجوه ثلاثة :

ص: 346


1- نسب إلى جمهور المتكلّمين كما في « المحصّل » : 538 ؛ « المطالب العالية » 8 : 35 ؛ « شرح المواقف » 7 : 250.

الأوّل : أنّ الإنسان قد يغفل عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة ، وهو متصوّر لذاته ونفسه ، فيجب أن يغايرها ، فقوله : « لما يقع الغفلة » عطف على قوله : « لما هي شرط فيه » أي والنفس مغايرة لما يقع الغفلة عنه ، أعني البدن.

قال : ( والمشاركة به ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني الدالّ على أنّ النفس ليست هي البدن.

وتقريره : أنّ البدن جسم ، وكلّ جسم على الإطلاق فإنّه مشارك لغيره من الأجسام في الجسميّة ، فالإنسان يشارك غيره من الأجسام في الجسميّة ويخالفه في النفس الإنسانيّة ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فالنفس غير الجسم. فقوله : « والمشاركة به » عطف على قوله : « الغفلة عنه » والمعنى أنّ النفس مغايرة لما تقع المشاركة به.

قال : ( والتبدّل فيه ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث.

وتقريره : أنّ أعضاء البدن وأجزاءه تتبدّل كلّ وقت ويستبدل ما ذهب بغيره ؛ فإنّ الحرارة الغريزيّة تقتضي تحليل الرطوبات البدنيّة ، فالبدن دائما في التحلّل والاستخلاف ، والهويّة باقية من أوّل العمر إلى آخره ، والمبدّل مغاير للباقي ، فالنفس غير البدن. فقوله : « والتبدّل فيه » عطف على قوله : « والمشاركة به » أي النفس مغايرة لما يقع التبدّل فيه.

المسألة الخامسة : في تجرّد النفس.

قال : ( وهي جوهر مجرّد لتجرّد عارضها ).

أقول : اختلف الناس في ماهيّة النفس (1) ، وأنّها هل هي جوهر أم لا بكونها عرضا حالاّ في البدن غير الأعراض المشهورة؟

ص: 347


1- لمزيد الاطّلاع حول الأقوال في النفس انظر : « الشفاء » كتاب النفس 2 : 14 وما بعدها ؛ « المطالب العالية » 7 : 35 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 7 : 247 - 250 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 298 وما بعدها.

والقائلون بأنّها جوهر اختلفوا في أنّها هل هي جوهر مجرّد أم لا بكونها جسما مجاورا للبدن كالروح البخاري؟

والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلّمين من الإماميّة كالمفيد (1) منهم والغزالي (2) من الأشاعرة - على ما حكي - أنّها جوهر مجرّد ليس بجسم ولا جسمانيّ ، وهو الذي اختاره المصنّف ، واستدلّ على تجرّدها بوجوه :

الأوّل : تجرّد عارضها وهو العلم.

وتقرير هذا الوجه : أنّ هاهنا معلومات مجرّدة عن الموادّ كالواجب والكلّيّات ، فالعلم المتعلّق بها يكون لا محالة مطابقا لها ؛ فيكون مجرّدا لتجرّدها ، فمحلّه - وهو النفس - يجب أن يكون مجرّدا ، لاستحالة حلول المجرّد في المادّي.

أو يقال : إنّ الصورة المنطبعة في العقل مجرّدة ؛ لأنّها لا تقبل الإشارة الحسّيّة بالضرورة ، وهي خالية عن لواحق المادّة من الكمّ والكيف ونحوهما ، كما عن « الشفاء » (3) حتّى لا يتوجّه منع مساواة الصورة مع المعلوم في الماهيّة كما قيل ، فتكون النفس الناطقة التي هي محلّها مجرّدة ، وإلاّ يلزم كون الصورة العقليّة الحالّة فيها غير مجرّدة ؛ لأنّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين المعيّن والوضع المعيّن يوجب اختصاص الحالّ به.

واعترض عليه بجواز كون العلم بانكشاف الأشياء على النفس من دون ارتسام ، وعدم مساواة الصورة للمعلوم في تمام الماهيّة ، ومنع اقتضاء اتّصاف المحلّ بصفة اتّصاف الحالّ بها ، كما أنّ الجسم يتّصف بالبياض دون الحركة الحالّة فيه ، مع أنّ المادّيّة العرضيّة لا تنافي التجرّد الذاتي ، فتدبّر. (4)

ص: 348


1- نقل عنه ذلك في كلّ من « المطالب العالية » 7 : 38 ؛ « كشف المراد » : 184.
2- نقل ذلك عنه أيضا في « المطالب العالية » 7 : 38 ؛ « كشف المراد » : 184 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 104.
3- « الشفاء » كتاب النفس 2 : 212.
4- إشارة إلى أنّ ذلك غير مندفع بالقول بالوجود الذهني ، بناء على عدم كونه بارتسام الصور. ( منه رحمه اللّه ).

قال : ( وعدم انقسامه ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني ، وهو أنّ العارض للنفس - أعني العلم - غير منقسم ، فمحلّه - أعني المعروض - كذلك.

وتقرير هذا الدليل يتوقّف على مقدّمات :

إحداها : أنّ هاهنا معلومات غير منقسمة ، وهو ظاهر ؛ فإنّ واجب الوجود غير منقسم ، وكذا الحقائق البسيطة كالنقطة والوحدة.

الثانية : أنّ العلم بها غير منقسم ؛ لأنّه لو انقسم ، لكان كلّ واحد من جزأيه إمّا أن يكون علما أولا ، والثاني باطل ؛ لأنّه عند الاجتماع إمّا أن يحصل أمر زائد أولا ، فإن كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بعلم ، هذا خلف.

وإن كان الأوّل فذاك الزائد إمّا أن يكون منقسما فيعود البحث ، أو لا يكون فيكون العلم غير منقسم ، وهو المطلوب.

وإن كان كلّ جزء علما فإمّا أن يكون علما بكلّ ذلك المعلوم ، فيكون الجزء مساويا للكلّ ، وهذا خلف ، أو ببعضه فيكون ما فرضناه غير منقسم منقسما ، وهذا خلف.

الثالثة : أنّ محلّ العلم غير منقسم ؛ لأنّه لو انقسم لانقسم العلم ؛ لأنّه إن لم يحلّ في شيء من أجزائه لم يحلّ في ذلك المحلّ ، وإن حلّ فإمّا أن يكون في جزء غير منقسم ، وهو المطلوب ، أو في أكثر فإمّا أن يكون الحالّ في أحدها عين الحالّ في الآخر ، وهو محال بالضرورة ، أو غيره فيلزم الانقسام.

الرابعة : أنّ كلّ جسم وكلّ جسمانيّ فهو منقسم ؛ لأنّا قد بيّنّا أن لا وجود لوضعيّ غير منقسم.

وإذا ثبتت هذه المقدّمات ثبت تجرّد النفس.

وفيه نظر ؛ للمنع من كون العلم بطريق الارتسام ، ومن مساواة الصورة للمعلوم سيّما في الانقسام ، ومن استلزام انقسام المحلّ انقسام الحالّ إذا لم يكن الحلول

ص: 349

سريانيّا بأن كان طريانيّا ، ومن كون كلّ مادّيّ منقسما ، فإنّ النقطة مادّيّة غير منقسمة.

قال : ( وقوّتها على ما تعجز المقارنات عنه ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث.

وتقريره أنّ النفس البشريّة تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادّة فلا تكون مادّيّة ؛ لأنّها تقوى على ما لا يتناهى ؛ لأنّها تقوى على تعقّلات الأعداد غير المتناهية - وقد بيّنّا أنّ القوّة الجسمانيّة لا تقوى على ما لا يتناهى - فتكون مجرّدة.

وفيه نظر ؛ لأنّ التعقّل قبول وانفعال لا فعل ، وقبول ما لا يتناهى للجسمانيّات ممكن ، كما في الموادّ العنصريّة.

ولو سلّم أنّه فعل ، فالتعقّل لغير المتناهي بالقوّة مشترك فيه بين النفس والقوى الجسمانيّة ، والفعليّ ممنوع.

قال : ( ولحصول عارضها بالنسبة الى ما يعقل محلاّ منقطعا ).

أقول : هذا هو الوجه الرابع.

وتقريره : أنّ النفس لو حلّت في جسم من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقّل ، أو كانت لا تعقله أصلا ، والتالي باطل بقسميه ، فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة : أنّ القوّة العاقلة إذا حلّت في قلب أو دماغ ، لم يخل إمّا أن تكفي صورة ذلك المحلّ أو حضوره في التعقّل ، أو لا تكفي ، فإن كفت لزم حصول التعقّل دائما ؛ لدوام تلك الصورة للمحلّ ، وإن لم تكف لا تعقله أصلا ؛ لاستحالة أن يكون تعقّلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلّها فيها ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين.

وأمّا بطلان التالي فظاهر ؛ لأنّ النفس تعقل القلب والدماغ في وقت دون وقت.

والحاصل أنّه يحصل العلم - الذي هو عارض للنفس الناطقة بالنسبة إلى ما يفرض محلاّ لها - منقطعا في وقت دون وقت لا دائما ، فلا تكون حالّة فيه ؛ لاستلزام الحلول دوام التعقّل أو عدمه رأسا ، كما مرّ.

ص: 350

وأورد عليه : بإمكان توقّف التعقّل على أمر آخر كتوجّه النفس ونحو ذلك (1).

قال : ( ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض ).

أقول : هذا وجه خامس يدلّ على تجرّد النفس العاقلة.

وتقريره : أنّ النفس تستغني في عارضها - وهو التعقّل - عن المحلّ ، فتكون في ذاتها مستغنية ؛ لأنّ استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض ؛ لأنّ العارض محتاج إلى المعروض ، فلو كان المعروض محتاجا إلى شيء لكان العارض أولى بالاحتياج إليه ، فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض.

وبيان استغناء التعقّل عن المحلّ أنّ النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة ، وكذا تدرك آلتها وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها ، كلّ ذلك من غير آلة تتوسّط بينها وبين هذه المدركات. فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن الآلة ، فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا.

فقوله رحمه اللّه : « ولاستلزام استغناء العارض » عنى بالعارض هاهنا التعقّل.

وقوله : « استغناء المعروض » عنى به النفس التي يعرض لها التعقّل.

فاعترض عليه بأنّه عين الوجه الأوّل (2).

قال : ( ولانتفاء التبعيّة ).

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ هذا وجه آخر دالّ على تجرّد النفس.

وتقريره : أنّ القوّة المنطبعة في الجسم تابعة له في الضعف والكلال ، فإنّها تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها ، والنفس بالضدّ من ذلك فإنّها حال ضعف الجسم - كما في وقت الشيخوخة - تقوى وتكثر تعقّلا ، فلو كانت جسمانيّة لضعفت بضعف محلّها وليس كذلك ، فلمّا انتفت تبعيّة النفس للجسم في حال ضعفه دلّ ذلك على أنّها ليست جسمانيّة.

ص: 351


1- هذا الإيراد ذكره القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 199.
2- الاعتراض للقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 200.

والإيراد باقتضاء حصول الخرافة في أواخر سنّ الشيخوخة كون النفس جسمانيّة مدفوع بأنّ ذلك لاستغراق النفس في تدبير البدن المشرف تركيبه إلى الانحلال ، فإنّه مانع عن التعقّل المحتاج إلى الالتفات.

وقد يقال : يجوز أن تضعف القوّة العاقلة لضعف البدن ، وكان ما يرى من ازدياد التعقّل بسبب اجتماع علوم كثيرة والتمرّن والاعتياد ، وفي آخر سنّ الشيخوخة يستولي الضعف بحيث لا يبقى أثر للتمرّن والامتحان فتعرض الخرافة.

وأيضا يجوز أن يكون المزاج الحاصل في زمان الكهولة أوفق للقوّة العاقلة من سائر الأمزجة وبذلك تحصل القوّة (1).

قال : ( ولحصول الضدّ ).

أقول : هذا وجه سابع يدلّ على تجرّد النفس.

وتقريره : أنّ القوّة الجسمانيّة عند توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكلّ ؛ لأنّها تنفعل عنها ؛ فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا ، وكذا السامعة فإنّها بعد سماع الرعد الشديد لا تسمع الصوت الضعيف ، وهكذا حال الشامّة والذائقة واللامسة. والقوّة النفسانيّة بالضدّ من ذلك ؛ فإنّها تقوى عند كثرة التعقّلات ، فالحاصل لها عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانيّة عند كثرة الانفعال. فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمه اللّه : « ولحصول الضدّ ».

وأورد عليه بأنّه يجوز أن تكون العاقلة مخالفة بالنوع لسائر القوى مع كون الجميع جسمانيّة (2) مع أنّ القياس لا عبرة به في المسائل العلميّة وكذا الاستقراء الناقص.

وبالجملة ، فللتوقّف في المسألة مجال ، ولهذا ورد : « من عرف نفسه

ص: 352


1- القائل هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 200 - 201.
2- أورده القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 201.

فقد عرف ربّه » (1) بناء على حمله على أنّ عرفانها محال.

المسألة السادسة : في أنّ النفس البشريّة متّحد في النوع.

قال : ( ودخولها تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها ).

أقول : اختلف الناس في ذلك ، فذهب الأكثر إلى أنّ النفوس البشريّة متّحدة بالنوع متكثّرة بالشخص والصفات باختلاف الأمزجة ، وهو مذهب أرسطو طاليس (2).

وذهب جماعة من القدماء إلى أنّها مختلفة بالنوع ، بمعنى أنّها جنس تحته أنواع مختلفة ، تحت كلّ نوع أفراد متّحدة بالماهيّة (3) ، ولهذا ورد : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة » (4) وأنّ « الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » (5).

وهذا المذهب محكيّ عن الإمام الرازي (6) أيضا.

واختار المصنّف المذهب المشهور المنصور ، واحتجّ على وحدتها نوعا بأنّها يشملها حدّ واحد ، والأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حدّ واحد.

واعترض عليه : بأنّ التحديد ليس لجزئيّات النفس حتّى يلزم ما ذكره ، بل لمطلق النفس ، وهو المعنى الكلّيّ ، وذلك كما يحتمل أن يكون نوعا يحتمل أن يكون جنسا.

ص: 353


1- « غوالي اللآلئ » 4 : 102 / 149 ؛ « بحار الأنوار » 2 : 32 / 22 عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ وفي « المناقب » : 375 / 392 نقله الخوارزمي عن عليّ علیه السلام .
2- انظر : كتاب النفس من « الشفاء » 2 : 198 - 200 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 393 وما بعدها ؛ « المطالب العالية » 7 : 141 وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : 201 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 365.
3- راجع المصادر السابقة.
4- « مسند أحمد بن حنبل » 3 : 645 / 10956 ؛ « بحار الأنوار » 58 : 65 / 51.
5- « مسند أحمد بن حنبل » 3 : 159 / 7940 عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ « بحار الأنوار » 2 : 265 / 18 عن عليّ علیه السلام .
6- حكاه عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » 3 : 317 ، وبه قال الرازي في « المطالب العالية » 7 : 143 ، وتوقّف في « المباحث المشرقيّة » 2 : 398.

فإن قال : إنّ حدّ الكلّي حدّ لكلّ نفس نفس ؛ إذ لا يعقل من كلّ نفس سوى ما قلناه في التحديد ، منعنا ذلك ونقول : بل ربّما يحتاج حدّ كلّ نفس إلى ضمّ مميّز جوهريّ مضافا إلى إمكان كون ما يعقل من النفس عرضا عامّا لأنواع متخالفة الحقيقة ، مع أنّات ألزمناه الدور ، لأنّ الأشياء المتكثّرة إنّما يصحّ جمعها في حدّ واحد لو كانت متّحدة في الماهيّة ، فلو استفدنا وحدتها من الدخول في الحدّ الواحد لزم الدور ، فتأمّل.

قال : ( واختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها ).

أقول : هذا جواب عن شبهة من استدلّ على اختلافها (1).

وتقرير الدليل : أنّهم قالوا : وجدنا النفوس البشريّة تختلف في العفّة والفجور والذكاء والبلادة والبخل وسخاوة والجبن والشجاعة ، وليس ذلك من توابع المزاج ؛ لأنّ المزاج قد يكون واحدا والعوارض مختلفة ؛ فإنّ بارد المزاج قد يكون في غاية الذكاء ، وكذا حارّ المزاج قد يكون في غاية البلادة ، وقد يتبدّل والصفة النفسانيّة باقية ، ولا من الأسباب الخارجيّة كالتعلّم من المعلّم وتأثير مصاحبة الأبوين والأصحاب ونحو ذلك ؛ لأنّها قد تكون بحيث تقتضي خلقا والحاصل ضدّه ؛ إذ قد يكون الأبوان - مثلا - في غاية الخسّة والرذالة والولد في غاية الشرف والكرامة وبالعكس ، فعلمنا أنّها لوازم للماهيّة ، وعند اختلاف اللوازم يختلف الملزوم.

والجواب - مضافا إلى إمكان استنادها إلى أسباب مجهولة كالأوضاع الفلكيّة - أنّ الملزومات مختلفة وليست هي النفس وحدها ، بل النفس والعوارض المختلفة ، ومجموع النفس مع العوارض إذا كان مختلفا لا يلزم أن يكون كلّ جزء أيضا مختلفا ، فهذه الحجّة مغالطة ، مع أنّ هذه عوارض مفارقة غير لازمة ، فاختلافها لا يقتضي اختلاف موضوعها.

ص: 354


1- « المطالب العالية » 7 : 149 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 3 : 318.

المسألة السابعة : في أنّ النفوس البشريّة حادثة.

قال : ( وهي حادثة ، وهو ظاهر على قولنا ، وعلى قول الخصم لو كانت أزليّة لزم اجتماع الضدّين ، أو بطلا ما ثبت ، أو ثبوت ما يمنع ).

أقول : اختلف الناس في ذلك ، فالملّيّون على أنّها حادثة (1) ، وهو ظاهر على قولهم من أنّ الواجب تعالى فاعل بالاختيار ، وأثر المختار لا يكون قديما ، مضافا إلى ما ثبت من حدوث العالم وهي من جملة العالم ، ولأجل ذلك قال المصنّف رحمه اللّه : « وهو ظاهر على قولنا ».

وأمّا الحكماء فقد اختلفوا هنا ، فقال أرسطو - على ما حكي (2) - : إنّها حادثة.

وقال أفلاطون - على ما حكي أيضا (3) - : إنّها قديمة.

والمصنّف رحمه اللّه ذكر هنا حجّة أرسطو على الحدوث أيضا.

وتقرير هذه الحجّة : أنّ النفوس لو كانت أزليّة ، لكانت إمّا واحدة أو كثيرة ، والقسمان باطلان ، فالقول بقدمها باطل.

أمّا الملازمة فظاهرة.

وأمّا بطلان وحدتها : فلأنّها لو كانت واحدة أزلا ، فإمّا أن تتكثّر فيما لا يزال وعند التعلّق ، بالأبدان ، أو لا تتكثّر.

والثاني باطل ، وإلاّ لزم أن يكون ما يعلمه زيد بعلمه كلّ واحد ، وكذا سائر الصفات النفسانيّة ، والمشاهد خلاف ذلك ؛ فإنّه قد يعلم زيد شيئا وعمرو جاهل به.

وأيضا لو اتّحدت نفساهما لزم اتّصاف كلّ واحدة بالضدّين ، أعني العلم والجهل ، ومثله لزوم اتّصاف النفس بالجبن والتهوّر ، والبخل والإسراف.

ص: 355


1- « شرح المواقف » 7 : 250 - 251 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 319 - 320.
2- حكاه عنه الفخر الرازي في « المحصّل » : 544 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 400 ، « المطالب العاليّة » 7 : 189 ، وانظر : « شرح المواقف » 7 : 251 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 321.
3- حكاه عنه الفخر الرازي في « المحصّل » : 544.

وهذا مفاد قوله : « لزم اجتماع الضدّين ».

والأوّل باطل أيضا ؛ لأنّها لو تكثّرت : فإمّا أن تكون النفسان الموجودتان الآن حاصلتين قبل الانقسام ، فقد كانت الكثرة حاصلة قبل فرض حصولها ، وهذا خلف.

وإمّا أن يقال : حدثتا بعد الانقسام ، وهو محال وإلاّ لزم حدوث النفسين وبطلان النفس التي كانت موجودة.

وهذا مفاد قوله : « أو بطلان ما ثبت » مع أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وأمّا بطلان كثرتها أزلا ؛ فلأنّ التكثّر إمّا بالذاتيّات ، أو باللوازم ، أو بالعوارض ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ؛ فلما ثبت من وحدتها بالنوع.

وكذا الثاني ؛ لأنّ كثرة اللوازم تستلزم كثرة الملزومات.

وأمّا الثالث ؛ فلأنّ اختلاف العوارض للذوات المتساوية إنّما يكون عند تغاير الموادّ ؛ لأنّ نسبة العارض إلى المثلين واحدة ومادّة النفس البدن ؛ لاستحالة الانطباع عليها ، وقبل البدن لا مادّة وإلاّ لزم التناسخ الذي سنبيّن امتناعه ، وهو مفاد قوله : « أو ثبوت ما يمنع » فتأمّل.

المسألة الثامنة : في أنّ لكلّ نفس بدنا واحدا وبالعكس.

قال : ( وهي مع البدن على التساوي ).

أقول : هذا حكم ضروريّ أو قريب من الضروريّ فإنّ كلّ إنسان يجد ذاته ذاتا واحدة ، فلو كان لبدن نفسان لكانت تلك الذات ذاتين وهو محال ، فيستحيل تعلّق النفوس الكثيرة ببدن واحد ، وكذا العكس فإنّه لو تعلّقت نفس واحدة ببدنين على سبيل الاجتماع لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس ، وكذا باقي الصفات النفسانيّة ، وهو باطل بالضرورة ، فليتأمّل. (1)

ص: 356


1- إشارة إلى احتمال كون التعلّق بأحد البدنين شرطا وبالآخر مانعا مدفوع بأنّ الوجدان يكذبه. ( منه رحمه اللّه ).

وإن كان التعلّق على سبيل التعاقب لزم أن تتذكّر أحوال البدن السابق ولو أحيانا ، وهو أيضا باطل بالضرورة.

المسألة التاسعة : في أنّ النفس لا تفنى بفناء البدن.

قال : ( ولا تفنى بفنائه ).

أقول : اختلف الناس هاهنا ، فالقائلون بجواز إعادة المعدوم جوّزوا فناء النفس مع فناء البدن. والمانعون هناك منعوا هنا.

أمّا الأوائل فقد اختلفوا أيضا ، فالمشهور أنّها لا تفنى (1).

وأمّا أصحابنا فإنّهم استدلّوا على امتناع فنائها بأنّ الإعادة واجبة على اللّه تعالى (2) - على ما يأتي - ولو عدمت النفس لامتنعت إعادتها ؛ لما ثبت من امتناع إعادة المعدوم ، فيجب أن لا تفنى.

أمّا الأوائل فاستدلّوا بأنّها لو عدمت لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محلّ مغاير لها (3) ؛ لأنّ القابل يجب وجوده مع المقبول ، ولا يمكن وجود النفس مع العدم ، فذلك المحلّ هو المادّة ، فتكون النفس مادّيّة فتكون مركّبة ، وهذا خلف ، على أنّ تلك المادّة يستحيل عدمها ؛ لاستحالة التسلسل.

وهذه الحجّة ضعيفة ؛ لأنّها مبنيّة على ثبوت الإمكان واحتياجه إلى المحلّ الوجودي ، وهو ممنوع.

سلّمنا ، ولكنّه ينتقض بالجواهر البسيطة ، فإنّها ممكنة ، ومعنى إمكانها قبولها للعدم ، فتكون مادّيّة.

ص: 357


1- انظر : « الشفاء » كتاب النفس 2 : 202 ؛ « النجاة » : 185 - 186 ؛ « المطالب العالية » 7 : 221 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 3 : 331 - 332.
2- انظر : « كشف المراد » : 190.
3- انظر : « المطالب العالية » 7 : 211 وما بعدها ؛ « المحصّل » : 549 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 331 - 332.

سلّمنا ولكن لم [ لا ] يجوز القول بكون النفوس مركّبة من جوهرين مجرّدين أحدهما يجري مجرى المادة والآخر يجري مجرى الصورة؟ ونفي الجوهر المادّي لا يكفي في بقاء جوهر النفس.

ثمّ ينتقض ذلك بإمكان الحدوث ؛ فإنّه قد تحقّق هناك إمكان من دون مادّة قابلة فكذا إمكان الفساد.

المسألة العاشرة : في إبطال التناسخ.

قال : ( ولا تصير مبدأ صورة الآخر (1) ، وإلاّ لبطل ما أصّلناه من التعادل ).

أقول : قال بعض الحكماء المشّائين : « إنّ النفس الكاملة بتصوّر حقائق الأشياء وإدراك الاعتقادات البرهانيّة الجازمة المطابقة الثابتة إذا حصل لها التنزّه عن العلائق الجسمانيّة والهيئات الرديئة اتّصلت بعد مفارقة البدن بالعالم القدسي ، والنفس الناقصة بالتقصير إذا ظهر لها النقصان مع فوت سبب الكمال تكون في كلال ، والقاصرة كانت سالمة للبلاهة ؛ ولهذا قال صلی اللّه علیه و آله : « أكثر أهل الجنّة البله » (2) و (3).

قال شارح الهداية : « هذا هو المشهور بين الجمهور » (4).

وقال أهل التناسخ (5) : إنّما تبقى مجرّدة عن الأبدان النفوس الكاملة التي خرجت قوّتها إلى الفعل ولم يبق شيء من الكمالات الممكنة لها بالقوّة فصارت طاهرة عن جميع العلائق الجسمانيّة واتّصلت إلى عالم القدس. وأمّا النفوس الناقصة التي بقي

ص: 358


1- كذا في الأصل ، وفي النسخة المطبوعة من « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » هكذا : « ولا يصير مبدأ صورة لآخر ... ».
2- « بحار الأنوار » 5 : 128.
3- « الهداية الأثيرية » ضمن « شرح الهداية الأثيرية » : 200 - 201.
4- « شرح الهداية الأثيرية » : 202.
5- لمزيد الاطّلاع عن الأقوال في التناسخ انظر : « شرح حكمة الإشراق » : 476 - 496 ؛ « الأسفار الأربعة » 9 : 1 - 56.

شيء من كمالاتها الممكنة بالقوّة فإنّها تدور في الأبدان الإنسانيّة وتنقل من بدن إلى بدن آخر حتّى تبلغ النهاية فيما هو كمالها من علومها وأخلاقها ، وحينئذ تبقى مجرّدة ومطهّرة عن التعلّق بالأبدان ، ويسمّى هذا الانتقال نسخا.

وقيل : ربّما نزلت من بدن الإنسان إلى بدن حيوان يناسبه في الأوصاف كبدن الأسد للشجاع والأرنب للجبان ، ويسمّى مسخا.

وقيل : ربّما تنزّلت إلى الأجسام النباتيّة ، ويسمّى رسخا.

وقيل : إلى الجمادية ، كالمعادن والبسائط ، ويسمّى فسخا ، أو بالعكس في التسمية بالنسبة إلى الأخيرين.

وقد يقال : هي تتعلّق ببعض الأجرام السماويّة للاستكمال.

وبالجملة اختلف الناس هنا ، فذهب جماعة من العقلاء إلى جواز التناسخ في النفوس بأن تنتقل النفس التي كانت مبدأ صورة لزيد - مثلا - إلى بدن عمرو ، وتصير مبدأ صورة له ، ويكون بينهما من العلاقة كما كان بين البدن الأوّل وبينها.

وذهب أكثر العقلاء إلى بطلان هذا المذهب ، كما هو من قطعيّات المذهب. واختاره المصنّف أيضا ، واستدلّ عليه بأنّا قد بيّنّا أنّ النفوس حادثة ، وعلّة حدوثها قديمة ، فلا بدّ من حدوث استعداد وقت حدوثها ؛ ليتخصّص ذلك الوقت بالإيجاد فيه ، والاستعداد إنّما هو باعتبار القابل ، فإذا حدث وتمّ وجب حدوث النفس المتعلّقة به ، فإذا حدث بدن تعلّقت به نفس تحدث عن مبادئها ، فإذا انتقلت إليه نفس أخرى مستنسخة لزم اجتماع نفسين لبدن واحد ، وقد بيّنّا بطلانه ووجوب التعادل في الأبدان والنفوس حتّى لا توجد نفسان لبدن واحد وبالعكس.

المسألة الحادية عشرة : في كيفيّة تعقّل النفس وإدراكها.

قال : ( وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات للامتياز بين المختلفين وضعا من غير استناد ).

ص: 359

أقول : اعلم أنّ التعقّل هو إدراك الكلّيّات ، والإدراك هو الإحساس بالأمور الجزئيّة. وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أنّ النفس تعقل الأمور الكلّيّة بذاتها من غير احتياج إلى آلة ، وتدرك الأمور الجزئيّة بواسطة قوى جسمانيّة هي محالّ الإدراكات (1) ، خلافا لمن قال : إنّ مدرك الجزئيّات على وجه كونها جزئيّات هو الحواسّ (2).

والحكم الأوّل ظاهر ؛ فإنّا نعلم قطعا أنّا ندرك الأمور الكلّيّة مع اختلال كلّ عضو يتوهّم كونه آلة للتعقّل ، وقد سلف تحقيق ذلك.

وأمّا الحكم الثاني - وهو إدراك الجزئيّات مع افتقارها في الإدراك الجزئي إلى الآلات - فلأنّا نحكم بين الكلّيّ والجزئي ، والحاكم بين الشيئين لا بدّ أن يدركهما ، وأنّا نميّز بين الأمور المتّفقة بالماهيّة المختلفة بالوضع من غير استناد إلى خارج ، كما أنّا نفرّق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي نتخيّلها ونميّز بينهما مع اتّحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع ، فليس الامتياز بينهما بذاتيّ ولا بما يلزم الذات ؛ لغرض تساويهما ، بل لأمور عارضة.

ثمّ اختصاص كلّ واحدة منهما بعارضها ليس بالمحلّ الخارجي ؛ لأنّ المتخيّل قد لا يكون موجودا في الخارج ، فليس امتياز إحداهما بكونها يمنى والأخرى بكونها يسرى إلاّ بالمحلّ الإدراكي ، والمجرّد لا يصلح أن يكون محلاّ لذلك ، فتعيّنت الآلة الجسمانيّة.

ص: 360


1- منهم الشيخ في « الشفاء » 2 : 27 و 32 من كتاب النفس ، الفصل الرابع والخامس من المقالة الثانية ، و 2 : 50 ، الفصل الثاني من المقالة الثانية ، و 2 : 184 - 185 ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة ، وانظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 308 وما بعدها.
2- نسبه الفخر الرازي إلى أرسطو وابن سينا في « المحصّل » : 550 و « المطالب العالية » 7 : 247 ، ولكن الظاهر من كلمات الشيخ خلاف ذلك ، كما اعترف به في « المباحث المشرقية » 2 : 424. أما في « شرح المقاصد » 3 :2. 334 ، وفي هامش « شرح المنظومة من الحكمة » : 210 نقل المحقّق السبزواري هذا القول دون أن ينسبه إلى قائل.

وأمّا إدراك النفس ذاتها وهويّتها فلا يفتقر إلى توسّط الآلة ؛ لكونه حضوريّا لا حصوليّا وارتساميّا ، مضافا إلى ما يقال من أنّ إدراك الجزئيّات المادّيّة محتاج إلى الآلة دون الجزئيّات المجرّدة ، والنفس من الجزئيّات المجرّدة (1).

المسألة الثانية عشرة : في قوى النفس.

قال : ( وللنفس قوى تشارك بها غيرها ، هي الغاذية والنامية والمولّدة ).

أقول : لمّا كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه. ولمّا كان البدن مركّبا من العناصر المتضادّة ، وكان تأثير الجزء الناريّ فيه الإحالة ، احتيج في بقائه إلى إيراد بدل ما يتحلّل منه ، فاقتضت حكمة اللّه تعالى جعل النفس ذات قوّة يمكنها بها استخلاف ما ذهب بما يأتي ، وذلك إنّما يكون بالغذاء ، وهي الغاذية.

ثمّ لمّا كان البدن أوّل خلقته محتاجا إلى زيادة في مقداره على تناسب في أقطاره بأجسام تنضمّ إليه من خارج ، وجب في حكمته تعالى جعل النفس ذات قوّة يمكنها بها تحصيل جواهر قابلة للتشبّه بالبدن منضمّة إليه على تناسب في أقطاره ، وهي النامية.

ثمّ لمّا كان البدن ينقطع ويعدم ويعرض الموت ، واقتضت عناية اللّه تعالى الاستحفاظ لهذا النوع وجب في حكمة اللّه تعالى جعل النفس ذات قوّة تحيل بعض الجواهر المستعدّة لقبول الصورة الإنسانيّة الى تلك الصورة ، وهي القوّة المولّدة. فكانت النفس ذات قوى ثلاث : الغاذية ، والنامية ، والمولّدة.

وهذه القوى مشتركة بين الإنسان والحيوان العجم والنبات.

والغاذية هي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المتغذّي ليخلف بدل ما يتحلّل.

ص: 361


1- انظر : « شرح المقاصد » 3 : 336 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 205.

والنامية هي التي تزيد في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي ليبلغ إلى تمام النشوء ، ولا يحصل نحو الاستسقاء من البرص.

والمولّدة هي التي تفيد المنيّ بعد استحالته في الرحم الصورة والقوى والأعراض ، أو تعدّه لها ، بناء على أنّ استناد التصوير إلى هذه القوّة باطل ، كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل : أنّ النفس لها مراتب يطلق على كلّ مرتبة لفظ النفس :

الأولى : مرتبة النفس الجمادية ، وأثرها حفظ التركيب فقط.

الثانية : مرتبة النفس النباتيّة ، وأثرها - مضافا إلى ما ذكر - التغذية بالغاذية ، والتنمية بالنامية ، والتوليد - ولو بالإعداد المقتضي للاستعداد - بالمولّدة. وهذه القوى تسمّى بالنباتيّة والطبيعيّة.

الثالثة : مرتبة النفس الحيوانيّة ، وأثرها - مضافا إلى ما ذكر - الحركة بالإرادة والحسّ بالحواسّ الخمس الظاهرة والخمس الباطنة الموجبة للإدراكات الجزئيّة.

الرابعة : مرتبة النفس الناطقة الإنسانيّة التي يحصل بها إدراك الكلّيّات والجزئيّات المجرّدة بلا واسطة مضافا إلى ما ذكر.

الخامسة : مرتبة النفس الإلهيّة التي يحصل بها التخلّي عن الأخلاق الرذيلة ، والتحلّي بالأخلاق الحسنة ، ويسهل بها صدور الأفعال وتحمّل المشاقّ ، كالحلم والرياضة. فالقسم الأوّل عامّ العامّ ، والثاني هو العامّ ، والثالث هو الخاصّ ، والرابع خاصّ الخاصّ ، والخامس هو الأخصّ المخصوص بأمثال روح اللّه ونفس اللّه.

قال : ( وأخرى أخصّ بها يحصل الإدراك إمّا للجزئيّ أو للكلّيّ ).

أقول : للنفس أيضا قوى أخصّ من الأولى ، وأثرها الإدراك إمّا للجزئيّ وهو الإحساس ، وإمّا للكلّيّ وهو التعقّل ، فالإحساس مشترك بينه وبين الحيوان العجم خاصّة ، فهو أخصّ من القوى الأولى المشتركة بينها وبين النباتات ، والتعقّل أخصّ من الإحساس ؛ لأنّه لا يحصل للحيوان بل للإنسان.

ص: 362

قال : ( فللغاذية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة ).

أقول : القوّة الغاذية يتوقّف فعلها على أربع قوى ليتمّ الاغتذاء ، وهي الجاذبة للغذاء ، والماسكة له لتهضمه الهاضمة ، والهاضمة وهي التي تحيل الغذاء الذي جذبته الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى حال يستعدّ بها لأن تجعله الغاذية جزءا بالفعل من المتغذّي. وابتداء الهضم في الفم ؛ ولهذا كانت الحنطة الممضوغة - مثلا - تؤثّر في نضج الدماميل ، ثمّ في المعدة بصيرورته كيلوسا وجوهرا شبيها بماء الكشك الثخين ولو بمخالطة الرطوبة الداخلة ، كما في الحيوان الآكل للحجر ، ثمّ في الماساريق والكبد بصيرورته كيموسا مستحيلا إلى الأخلاط ، ثمّ في العروق ، ثمّ في الأعضاء. وحيث يفضل من الغذاء ما يوجب ثقل البدن وفساده - بل بعضه لا يقبل الاستحالة إلى ما يناسب المتخلّل - احتيج إلى الدافعة للفضلات.

قال : ( وقد تتضاعف هذه لبعض الأعضاء ).

أقول : قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة ؛ فإنّ فيها التي تجذب غذاء كلّية البدن ، والتي تمسكه هناك ، والتي تغيّره إلى ما يصلح لأن يصير دما ، والتي تدفعه إلى الكبد. وفيها أيضا قوّة جاذبة لما تغتذي به المعدة خاصّة وقوّة ماسكة وقوّة هاضمة وقوّة دافعة ، فتلك القوى في المعدة مضاعفة ؛ فإنّها قد تكون لنفسها ، وقد تكون لغيرها ، فتأمّل.

قال : ( والنموّ مغاير للسمن ).

أقول : النموّ هو زيادة في الجسم بسبب اتّصال جسم آخر به من نوعه ، وتكون [ الزيادة ] (1) تداخله في أجزاء المزيد عليه ، وهو مغاير للسمن ؛ لتحقّق النموّ بدون السمن في الصبيّ المهزول. وعكسه في بعض الشيوخ ؛ فإنّ الأجزاء الأصليّة قد جفّت وصلبت ، فلا يقوى الغذاء على تفريقها ، فلا يتحقّق النموّ. وكذلك الذبول مغاير للهزال.

ص: 363


1- الإضافة أثبتناها من « كشف المراد » : 194.

قال : ( والمصوّرة عندي باطلة ؛ لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركّبة عن قوّة بسيطة ليس لها شعور أصلا ).

أقول : أثبت الحكماء للنفس قوّة يصدر عنها التصوير والتشكيل بشكل نوع ذي القوّة (1).

والحقّ ما ذهب إليه المصنّف رحمه اللّه من أنّ ذلك محال ؛ لأنّ هذه الأشكال والصور أمور محكمة متقنة عجيبة عجزت عن إدراك حكمها العقول والأفهام.

وقد يقال : « إنّ المنافع المدوّنة في علم التشريح خمسة آلاف وما لم يعلم أكثر ممّا علم ، فلا تصدر عن طبيعة غير شاعرة لما يصدر عنها ، بل يجب إسنادها إلى مدبّر حكيم قدير » (2).

وأيضا فإنّ هذه التشكيلات أمور مركّبة ، والقوّة البسيطة لا يصدر عنها أشياء كثيرة ، فتأمّل.

المسألة الثالثة عشرة : في أنواع الإحساس.

قال : ( وأمّا قوّة الإدراك للجزئي فمنه اللمس ، وهي قوّة منبثّة في البدن كلّه ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الأمر العامّ - أعني القوّة النباتيّة - شرع الآن في البحث عمّا هو أخصّ منه - وهو القوّة الحيوانيّة - أعني الإحساس المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات العجم - وبدأ باللمس ؛ لأنّ اللمس كيفية قائمة بالبدن كلّه منبثّة في ظاهره أجمع ، ويدرك بها المنافي والملائم. مضافا إلى ما يقال من أنّه أوّل الحواسّ الذي يصير به الحيوان حيوانا ، ويجوز أن يفقد سائر القوى دونه (3).

قال : ( وفي تعدّده نظر ).

ص: 364


1- انظر : « الشفاء » كتاب النفس 2 : 151 ؛ « التحصيل » : 785.
2- انظر : « شرح تجريد العقائد » : 207.
3- القائل هو الشيخ في « الشفاء » 4 : 58 ، كتاب النفس ، الفصل الثالث من المقالة الثانية.

أقول : اختلف الناس في اللمس هل هي قوّة واحدة أو قوى كثيرة؟ فالجمهور (1) على أنّه قوى أربع :

الأولى : الحاكمة بين الحارّ والبارد.

الثانية : الحاكمة بين الرطب واليابس.

والثالثة : الحاكمة بين الصلب واللين.

الرابعة : الحاكمة بين الخشن والأملس ، لأنّ القوّة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من أمر واحد.

ومنهم من زاد الحاكمة بين الثقل والخفّة (2).

وفيه نظر ؛ لإمكان تعدّد الجهة ، فلا تتوجّه قاعدة « الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد » مضافا إلى منع أصلها ، وإمكان القول بحصول الاستعداد للنفس بها فتدرك كلّها.

قال : ( ومنه الذوق ، ويفتقر إلى توسّط الرطوبة اللعابية الخالية عن المثل والضدّ ).

أقول : الذوق قوّة قائمة في سطح اللسان أو العصب المفروش على جرم اللسان ، وهو ثاني اللمس في المنفعة ؛ إذ يتمكّن به على جذب الملائم ودفع المنافر من المطعومات ، كما أنّ اللمس يتمكّن به على مثل ذلك في الملموسات ، ويوافقه في الاحتياج إلى الملامسة ، ولكن لا يكفي فيه الملامسة بل لا بدّ من توسّط الرطوبة اللعابيّة الخالية عن الطعوم المماثلة أو المضادّة ؛ لأنّها إن كانت ذات طعم مماثل للمدرك لم يتحقّق الإدراك ؛ لأنّ الإدراك إنّما يكون بالانفعال ، والشيء لا ينفعل عن

ص: 365


1- منهم الشيخ في « الشفاء » 2 : 34 كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الأولى و 2 : 62 ، الفصل الثالث من المقالة الثانية ؛ « النجاة » 159 - 160 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 270 - 271 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 209 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 373.
2- لم ينسب إلى قائل معيّن ، كما في « المباحث المشرقيّة » 2 : 292 ؛ « شرح المواقف » 7 : 201 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 209 ، إلاّ أنّ بهمنيار في « التحصيل » : 747 عدّهما بدل الخشن والأملس.

$$$$$$$$$$$$$

مماثله. وإن كانت ذات طعم مضادّ لم تؤدّ الكيفيّة على صرافتها [ في الصحّة ] (1) كما في المرض ؛ فإنّ الممرور يجد طعم العسل مرّا وكذا غير ذلك.

قال : ( ومنه الشمّ ، ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل من (2) ذي الرائحة إلى الخيشوم ).

أقول : الشمّ قوّة في الدماغ تحملها زائدتان نابتتان من مقدّم الدماغ في الخيشوم شبيهتان بحلمتي الثدي ، ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل من ذي الرائحة إلى الخيشوم (3) ، أو وصول أجزاء من ذي الرائحة إليه ؛ لأنّه إنّما يدرك بالملاقاة.

وقد ذهب قوم إلى أنّ الشمّ إنّما يكون بتحلّل أجزاء الجسم ذي الرائحة وانتقاله مع الهواء المتوسّط إلى الحاسّة (4).

وقال الآخرون : إنّ الهواء المتوسّط يتكيّف بتلك الكيفيّة لا غير ، وإلاّ لنقص وزن الجسم ذي الرائحة باستشمامها (5).

المصنّف رحمه اللّه نبّه بكلامه على تجويز الأمرين ؛ لأنّ الشمّ يحصل بكلّ واحد منهما.

قال : ( ومنه السمع ، ويتوقّف على وصول الهواء المنضغط إلى الصماخ ).

أقول : السمع قوّة مودعة في العصب المفروش في مقعّر الصماخ.

وقد ذهب قوم (6) إلى أنّ السمع يحصل عند تأدّي الهواء - المنضغط بين القالع

ص: 366


1- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : 195.
2- في « تجريد الاعتقاد » و « كشف المراد » المطبوعين : « أو » بدل « من ».
3- هو قول الجمهور على ما في « شرح المقاصد » 3 : 274 و « شرح تجريد العقائد » : 210 ، وبه قال الشيخ في « الشفاء » 2 : 67 و « النجاة » : 159.
4- انظر : « الشفاء » 2 : 62 ، كتاب النفس ، الفصل الرابع من المقالة الثانية ؛ « شرح المواقف » 7 : 199 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 274.
5- منهم الإيجي في « المواقف ». انظر : « شرح المواقف » 7 : 5. وقال الفخر الرازي بعد نقل القولين : « والحقّ أن كلا المذهبين صحيح » كما في « المباحث المشرقيّة » 2 : 295.
6- لمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « الشفاء » 2 : 70 - 76 ؛ « التحصيل » : 753 - 757 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 419 وما بعدها و 2 : 292 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 2 :273 - 278 و 5 : 256 - 268 ؛ « نهاية المرام » 1 : 560 - 574.

والمقلوع ، أو القارع بالإمساس العنيف والمقروع المتكيّف بكيفيّة الصوت عند مقاومة المقلوع للقالع والمقروع للقارع - إلى الصماخ ؛ ولهذا يدرك الجهة ويسمع صوت المؤذّن من كان في جهة تهبّ الريح إليها وإن كان بعيدا ، ولا يسمعه غيره وإن كان قريبا.

ويتأخّر السماع عن الإبصار ؛ لتوقّف الأوّل على حركة الهواء دون الثاني.

ويشهد على ذلك أنّا إذا رأينا من البعيد إنسانا يضرب الفأس على الخشب رأينا الضرب قبل سماع الصوت.

والمصنّف رحمه اللّه مال إلى هذا هاهنا.

وأورد عليه : بأنّ الصوت قد يسمع من وراء الجدار المحيط بالسامع من جميع الجوانب ، والهواء لا يحمل الكلمة المخصوصة ما لم يتشكّل بشكل مخصوص في الخارج ، مع امتناع بقاء الشكل على حاله لو أمكن نفوذ الهواء.

وأجيب عنه : أنّ شرط السماع بقاء الهواء على كيفيّته التي هي الصوت المتفرّع على التموّج ، ولا يبعد أن ينفذ الهواء في المنافذ الضيّقة متكيّفا بالكيفيّة التي هي الصوت المخصوص (1).

والمراد بالشكل تلك الكيفيّة على سبيل التجوّز لا الشكل الحقيقي ، حتّى لا يتصوّر النفوذ به.

قال : ( ومنه البصر ، ويتعلّق بالذات بالضوء واللون ).

أقول : البصر - كما أفيد (2) - قوّة مودعة في ملتقى العصبتين المجوّفتين اللتين

ص: 367


1- لمزيد الاطّلاع حول الإيراد والجواب عنه راجع « المحصّل » : 261 - 262 ؛ « شرح المواقف » 5 : 261 - 271 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 276 - 278 ؛ « نهاية المرام » 1 : 564 - 571 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 211.
2- انظر : « شرح المقاصد » 3 : 278 ؛ « شرح تجريد العقائد » 211 - 212 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 377.

هما نابتتان من مقدّم الدماغ حتّى تتلاقيا وتتقاطعا تقاطعا جليّا ، ويصير تجويفهما واحدا ، ثمّ تتباعدان إلى العينين ، فذلك التجويف هو محلّ القوّة الباصرة ومجمع النور.

والمبصرات إمّا أن يتعلّق الإبصار بها أوّلا وبالذات وبلا واسطة شيء ، أو ثانيا وبالعرض.

والأوّل هو الضوء واللون لا غير ؛ فإنّ اللون أيضا تتعلّق به الرؤية بلا واسطة شيء وإن كان تعلّقها به مشروطا بالضوء.

والثاني ما عداهما ، كالشكل والحجم والمقدار والحركة والوضع والحسن والقبح وغير ذلك من أصناف المرئيّات.

قال : ( وهو راجع فينا إلى تأثّر الحدقة ).

أقول : الإدراك عند جماعة المعتزلة والفلاسفة - على ما حكي (1) - راجع إلى تأثّر الحاسّة ، فالإبصار بالعين معناه تأثّر الحدقة وانفعالها عن الشيء المرئيّ ، هذا في حقّنا ؛ ولهذا قيّده المصنّف رحمه اللّه بقوله : « فينا » لأنّ الإدراك ثابت في حقّه تعالى ولا يتصوّر فيه التأثّر.

وذهبت الأشاعرة إلى ثبوت الرؤية في حقّه تعالى من غير تأثّر الحدقة ؛ إذ لا جارحة هناك. (2)

قال : ( ويجب حصوله مع شرائطه ).

أقول : شرائط الإدراك - كما أفيد (3) - سبعة :

ص: 368


1- حكاه عنهم العلاّمة رحمه اللّه في « كشف المراد » : 196.
2- انظر : « المطالب العالية » 2 : 81 - 87 ؛ « شرح المواقف » 8 : 115 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 4 : 179 وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : 212 و 327 وما بعدها.
3- انظر : « المطالب العالية » 2 : 83 ؛ « شرح المواقف » 8 : 135 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 285 و 4 : 199 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 212 - 213.

الأوّل : عدم البعد المفرط.

الثاني : عدم القرب المفرط ، ولهذا لا يبصر ما يلتصق بالعين.

الثالث : عدم الحجاب.

الرابع : عدم الصغر المفرط.

الخامس : أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل.

السادس : وقوع الضوء على المرئيّ إمّا من ذاته أو من غيره.

السابع : أن يكون المرئيّ كثيفا حاجبا عن رؤية ما وراءه بمعنى وجود اللون والضوء له.

إذا عرفت هذا ، فنقول : عند المعتزلة والأوائل (1) أنّه عند حصول هذه الشرائط يجب الإدراك بالضرورة ؛ فإنّ سليم الحاسّة يشاهد الشمس إذا كانت على خطّ نصف النهار بالضرورة. ولو شكّك العقل في ذلك وجوّز عدم الإبصار معها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ورياض رائقة وكنّا لا ندركها. وذلك سفسطة.

وأمّا الأشاعرة (2) فلم يوجبوا ذلك وجوّزوا مع حصول جميع الشرائط انتفاء الإدراك.

واحتجّوا بأنّا نرى الكبير صغيرا ، والسبب فيه رؤية بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الجميع في الشرائط.

وهو خطأ ؛ لوقوع التفاوت بالقرب والبعد ، فلهذا أدركنا بعض الأجزاء ، وهي القريبة دون الباقي.

قال : ( بخروج الشعاع ).

أقول : اختلف الناس في كيفيّة الإبصار على مذاهب عديدة ، والمشهور ثلاثة :

الأوّل : مذهب الرياضيّين ، وهو أنّ الإبصار بخروج الشعاع من العينين على هيئة

ص: 369


1- راجع المصادر المذكورة في الهامش المتقدّم.
2- راجع المصادر المذكورة في الهامش المتقدّم.

مخروط رأسه عند مركز البصر وقاعدته عند سطح المبصر ، ولكن اختلفوا في كون ذلك المخروط مصمتا أو مركّبا من خطوط شعاعيّة مستقيمة أطرافها التي تلي البصر مجتمعة عند مركزه ، ثمّ تمتدّ متفرّقة إلى المبصر ، فما ينطبق عليه من المبصر أطراف تلك الخطوط أدركه البصر ، وما وقع بين أطراف تلك الخطوط لم يدركه ؛ ولذا يخفى على المبصر المسامات التي في غاية الدقّة في سطوح المبصرات (1).

وعن جماعة أنّ الخارج من العين خطّ واحد مستقيم إذا انتهى إلى المبصر تحرّك على سطحه في جهتي طوله وعرضه في غاية السرعة فيتخيّل هيئة مخروطة (2).

وبالجملة ، فاختار المصنّف رحمه اللّه مذهب الرياضيّين.

الثاني : مذهب الطبيعيّين وهو أنّ الإبصار إنّما يكون بانطباع صورة المرئيّ في الجليديّة ، وهو المحكيّ عن أرسطو وأتباعه كالشيخ الرئيس وغيره (3) ، قالوا : إنّ مقابلة المبصر للباصرة توجب استعداد يفيض به صورته على الجليديّة ، ولا يكفي في الإبصار الانطباع في الجليديّة ، وإلاّ لرأى الواحد اثنين ؛ لانطباع صورته على جليدتي العينين ، بل لا بدّ من تأدّي الصورة إلى ملتقى العصبتين المجوّفتين ، ومنه إلى الحسّ المشترك ، لا بالانتقال بل بإفاضة صورة مماثلة.

الثالث : مذهب طائفة من الحكماء ، وهو أنّ الإبصار ليس بخروج الشعاع والانطباع ، بل الهواء المشفّ الذي بين البصر والمرئيّ يتكيّف بكيفيّة الشعاع الذي في البصر ، ويصير بذلك آلة للإبصار (4).

ص: 370


1- انظر : « الشفاء » 2 : 102 كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 299 ؛ « شرح المواقف » 7 : 194 - 195 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 279 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 213.
2- انظر : « شرح المواقف » 7 : 194 - 195 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 279 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 213.
3- « الشفاء » 2 : 102 و 105 ؛ « التحصيل » : 760 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 299 ؛ « شرح المواقف » 7 : 192 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 279 - 280 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 213.
4- انظر : « الشفاء » 2 : 102 كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقية » 2 : 299 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 279 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 213.

والحقّ أنّ المذهب الأوسط أوسط ، كما لا يخفى.

وحيث كان انطباع الصورة غير انطباع العين في العين ، لا يرد أنّه يستحيل انطباع العظيم في الصغير (1).

قال : ( فإن انعكس إلى المدرك أبصر وجهه ).

أقول : الشعاع إذا خرج من العين واتّصل بالمرئيّ وكان صقيلا كالمرآة انعكس عنه إلى كلّ ما نسبته إلى المرئيّ كنسبة العين إليه ؛ ولهذا وجب تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس ، ووجب أن يشاهد بالمرآة كلّ ما وضع إليها كوضع المرئيّ ، فإن انعكس الشعاع إلى الرائي نفسه أدرك وجهه ، فإذا انتفت الصقالة لم يحصل الانعكاس كالأشياء الخشنة ؛ فإنّه لا ينعكس عنها إلى غيرها ، هذا مذهب أصحاب الشعاع في رؤية الإنسان وجهه بالمرآة (2).

وأمّا القائلون بالانطباع ، فقالوا : إنّه تنطبع في المرآة صورة الرائي ، ثمّ تنطبع في العين من تلك الصورة صورة أخرى ؛ ولهذا تكون الصورة على قدر المرآة لا المرئيّ وينتقش في الصيقلي المقابل للمنقّش نقشه مع عدم شعاع هناك (3).

قال : ( وإن عرض تفرّق السهمين تعدّد المرئيّ ).

أقول : هذا إشارة إلى علّة الحول عند القائلين بالشعاع ، والسبب في الحول عندهم أنّ النور الممتدّ من العين على شكل المخروط قوّته في سهم المخروط ، فإذا خرج من العينين مخروطان والتقى سهماهما عند البصر واتّحدا أدرك المدرك [ الشيء ] (4) كما هو ، وإن لم يلتق السهمان عند شيء واحد رأى الرائي الشيء

ص: 371


1- أورده الفخر الرازي في « المحصّل » : 260 ، وذكره العلاّمة في « كشف المراد » : 197.
2- انظر : « الشفاء » 2 : 104 - 105 كتاب النفس ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة ؛ « التحصيل » : 766 - 781 ؛ « شرح المواقف » 7 : 195 و 197 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 215.
3- « شرح تجريد العقائد » : 216.
4- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : 198.

الواحد شيئين (1).

وأمّا القائلون بالانطباع (2) فإنّهم قالوا : الصورة تنطبع أوّلا في الجليديّة ، وليس الإدراك عندها وإلاّ لأدركنا الشيء الواحد شيئين ، كما إذا لمسنا باليدين كان لمسين ، ولكنّ الصورة التي في الجليديّة تتأدّى بواسطة الروح المصبوب في العصبتين إلى ملتقاهما وعند الملتقى روح مدرك ، وحينئذ ترتسم عند الروح من الصورتين صورة واحدة ، فيرى بها ذلك الشيء واحدا ، وإن عرض عارض اقتضى أن لا تتأدّى الصورتان من الجليدتين دفعة واحدة رأى متعدّدا.

المسألة الرابعة عشرة : في أنواع القوى الباطنة المتعلّقة بإدراك الجزئيّات.

قال : ( ومن هذه القوى المدركة للجزئيّات بنطاسيا ، الحاكمة بين المحسوسات ).

أقول : أثبت الأوائل (3) للنفس قوى جزئيّة ، خمس باطنية : الحسّ المشترك ، والخيال ، والوهم ، والحافظة ، والمتصرّفة ، فنقول :

الأولى : ما يسمّى باليونانيّة بنطاسيا ، أي لوح النفس ، وهي الحسّ المشترك المدرك للصور الجزئيّة التي تجتمع عنده من المحسوسات ، وهو - كما أفيد (4) - قوّة مرتّبة في مقدّم التجويف الأوّل من التجاويف الثلاثة التي في الدماغ تقبل جميع الصور المنطبعة في الحواسّ الظاهرة ، فهؤلاء كجواسيس لها ؛ ولذا تسمّى حسّا مشتركا.

ص: 372


1- انظر : « الشفاء » : 2 : 132 كتاب النفس ، الفصل الثامن من المقالة الثالثة ؛ « التحصيل » : 763 - 764 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 326.
2- انظر : « الشفاء » 2 : 133 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 327 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 216.
3- انظر : « الشفاء » 2 : 145 وما بعدها ؛ « النجاة » 162 - 163 ؛ « التحصيل » : 782 وما بعدها.
4- « النجاة » : 163 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 335 ؛ « شرح المواقف » 7 : 204 - 208 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 286 - 287.

الثانية : خزانته ، وهي الخيال ، وهو - كما أفيد (1) - قوّة مرتّبة في مؤخّر التجويف الأوّل تحفظ جميع الصور المحسوسة ؛ ولهذا يحصل التذكّر بعد الذهول.

الثالثة : الوهم ، وهو قوّة مرتّبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات ، كالصداقة الجزئيّة والعداوة الجزئيّة.

الرابعة : خزانته ، وهي الحافظة المرتّبة في أوّل التجويف الآخر من الدماغ تحفظ ما يدرك الوهم.

الخامسة : القوّة التي يكون سلطانها في أوّل التجويف الثاني من الدماغ ، وهي القوّة المتصرّفة في الصور الجزئيّة والمعاني الجزئيّة بالتركيب والتحليل ، فتركّب صورة إنسان يطير وجبل ياقوت.

وهذه القوّة تسمّى مخيّلة إن استعملتها القوّة الوهميّة ، ومفكّرة إن استعملها العقل والقوّة الناطقة.

إذا عرفت هذا فنقول : الدليل على ثبوت الحسّ المشترك وجوه :

أحدها : أنّا نحكم على صاحب لون معيّن بطعم معيّن ، فلا بدّ من حضور هذين المعنيين عند الحاكم وهو النفس ، وهي تدرك الجزئيّات بواسطة الآلات على ما تقدّم ، فيجب حصولهما معا في آلة واحدة ، وليس شيء من الحواسّ الظاهرة قابلا لذلك ، فلا بدّ من إثبات قوّة باطنة هي الحسّ المشترك.

وإلى هذا الدليل أشار بقوله : « الحاكمة بين المحسوسات ».

قال : ( لرؤية القطرة خطّا والشعلة دائرة ).

أقول : هذا دليل ثان على إثبات الحسّ المشترك.

وتقريره : أنّا نرى القطرة النازلة بسرعة خطّا مستقيما ، والشعلة الجوّالة بسرعة دائرة مع أنّه ليس في الخارج كذلك ، ولا في القوّة الباصرة ؛ لأنّ البصر إنّما يدرك

ص: 373


1- « النجاة » : 163 ؛ « شرح المواقف » 7 : 208 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 294.

الشيء على ما هو عليه ، ولا النفس ؛ لأنّها لا تدرك الجزئيّات. فلا بدّ من قوّة أخرى يحصل بها إدراك القطرة حال حصولها في المكان الأوّل ، ثمّ إدراكها حال حصولها في الثاني برسم الحصول الثاني قبل انمحاء الصورة الأولى عن القوّة الشاعرة ، فتتّصل الصورتان في الحسّ المشترك ، فيرى النقطة كالخطّ ، والشعلة كالدائرة.

واعترض (1) عليه بأنّه يجوز أن يكون اتّصال الارتسام في الباصرة بأن يرتسم المقابل الثاني قبل أن يزول المرتسم الأوّل ؛ لقوّة ارتسام الأوّل وسرعة تعقّب الثاني ، فيكونان معا ، فتأمّل.

قال : ( والمبرسم ما لا تحقّق له ).

أقول : هذا دليل ثالث على إثبات هذه القوّة.

وتقريره : أنّ صاحب البرسام - من جهة تعطّل حواسّه الظاهرة واشتغال نفسه بالمرض واستيلاء المتخيّلة - يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج ، وإلاّ يشاهدها كلّ ذي حسّ سليم.

فلا بدّ من قوّة ترتسم فيها هذه الصورة حال المشاهدة ، وكذا النائم يشاهد صورا لا تحقّق لها في الخارج. والسبب فيه ما ذكرناه ، وقد بيّنّا أنّ تلك القوّة لا يجوز أن تكون هي النفس ، فلا بدّ من قوّة جسمانيّة ترتسم فيها هذه الصور.

قال : ( والخيال لوجوب المغايرة بين الحافظ والقابل ).

أقول : هذه هي القوّة الثانية المسمّاة بالخيال ، وهي خزانة الحسّ المشترك الحافظ لما يزول عنه بعد غيبوبة الصورة التي باعتبارها تحكم النفس بأنّ ما شوهد ثانيا هو الذي شوهد أوّلا.

ومن هنا يفرق بين السهو والنسيان بأنّ السهو هو المحو عن الحسّ المشترك دون الخيال ؛ ولهذا لا يحتاج إلى الكسب الجديد بل يكفي التذكّر بعد التأمّل ، وأمّا النسيان

ص: 374


1- المعترض هو الفخر الرازي ، كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 334 ؛ « شرح المواقف » 7 : 206 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 287.

فهو المحو عن الحسّ المشترك والخيال معا بحيث يحتاج إلى الكسب الجديد.

نعم ، السهو والنسيان كالجارّ والمجرور إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، كما يقال : إنّ الفقير والمسكين كالجارّ والمجرور.

واستدلّوا على مغايرتها للحسّ المشترك بأنّ هذه القوّة حافظة والحسّ المشترك قابل ، والحافظ يغاير القابل ؛ لامتناع صدور أثرين عن علّة واحدة ، ولأنّ الماء فيه قوّة القبول وليس فيه قوّة الحفظ ، فدلّ على المغايرة.

وهذا كلام ضعيف ؛ لجواز كون القوّة الواحدة قابلة وحافظة باختلاف الجهة ، كما أنّ الأرض تقبل الشكل للمادّة وتحفظه للصورة ، فالأولى التمسّك بوجدان حالتي السهو والنسيان ؛ لأنّهما تقتضيان أن توجد القوّتان ، كما أشرنا إليه.

قال : ( والوهم المدرك للمعاني الجزئيّة ).

أقول : هذه هي القوّة الثالثة المدركة للمعاني الجزئيّة وتسمّى الوهم ، وهي مغايرة للنفس الناطقة ، لما تقدّم من أنّ النفس لا تدرك الجزئيّات لذاتها. وأشار إليه بقوله : « الجزئيّة » وللحسّ المشترك ؛ لأنّ هذه القوّة تدرك المعاني ، والحسّ يدرك الصورة المحسوسة. وأشار إليه بقوله : « للمعاني » وللخيال ؛ لأنّ الخيال شأنه الحفظ ، والوهم شأنه الإدراك فيتغايران كما قلنا في الحسّ والخيال. وأشار إليه بقوله : « المدرك ».

قال : ( والقوّة الحافظة ).

أقول : هذه هي القوّة الرابعة المسمّاة بالحافظة ، وهي خزانة الوهم.

والدليل على إثباتها كما قلناه في الخيال سواء ، من جهة أنّ القبول غير الحفظ ، والحافظ للمعاني غير الحافظ للصور ، وهذه تسمّى المتذكّرة باعتبار قوّتها على استعادة الغائبات.

ولهم خلاف في أنّ المتذكّرة هي الحافظة كما حكي (1).

ص: 375


1- انظر : « الشفاء » 2 : 148 - 149 ؛ « النجاة » 163 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 347 ؛ « التحصيل » : 787 ؛ « المباحث المشرقيّة » 2 : 343 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 293.

قال : ( والمتخيّلة المركّبة للصور والمعاني بعضها مع بعض ).

أقول : هذه هي القوّة الخامسة المسمّاة بالمتخيّلة باعتبار استعمال الحسّ لها والمتفكّرة باعتبار استعمال العقل لها ، وهي تركّب بعض الصور مع بعض ، كما تركّب صور جذع عليه رأس إنسان ، وتركّب بعض الصور مع بعض المعاني ، وتفصل بعض الصور عن بعض ، وكذا المعاني.

ويدلّ على مغايرتها لما تقدّم صدور هذا الفعل عنها دون غيرها من القوى ؛ لامتناع صدور أكثر من واحد عن قوّة واحدة ، فتأمّل.

اعلم أنّ الحيوان كما أنّ له القوّة المدركة كذلك له القوّة المحرّكة ؛ ولهذا يجعل فصله الحسّ والحركة بالإرادة. والقوّة المحرّكة باعثة وفاعلة ، والباعثة تسمى شوقيّة تحمل الفاعلة على تحريك الأعضاء إلى المطلوب بزعمها وإن كان ضارّا في نفس الأمر ، وحينئذ تسمّى قوّة شهويّة. وإن حملت على التحريك لدفع المبغوض كذلك تسمّى غضبيّة.

وأمّا الفاعلة فهي التي تعدّ العضلات بقبضها وبسطها ونحو ذلك على التحريك.

ص: 376

[ الفصل الخامس : في الأعراض ]

اشارة

قال : ( الفصل الخامس : في الأعراض ، وتنحصر في تسعة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الجواهر ، انتقل إلى البحث عن الأعراض. وفي هذا الفصل مسائل :

[ الاول الكم ]

المسألة الأولى : في أنّ الأعراض منحصرة في تسعة.

المسألة الأولى : في أنّ الأعراض منحصرة في تسعة. وهذا رأي أكثر الأوائل (1) ؛ فإنّهم قسّموا الموجود إلى واجب وممكن ، والواجب هو اللّه تعالى لا غير ، والممكن إمّا غنيّ عن الموضوع - وهو الجوهر - أو محتاج إليه وهو العرض.

وأقسامه تسعة : الكمّ ، والكيف ، والأين ، والوضع ، والملك ، والإضافة ، والفعل ، والانفعال ، والمتى.

والمتكلّمون - على ما حكي (2) - حصروه في أحد وعشرين : الكون ، واللون ، والطعوم ، والروائح ، والحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، والتأليف ، والاعتماد ،

ص: 377


1- انظر : « الشفاء » المنطق 1 : 82 - 88 ، الفصل الخامس من المقالة الثانية ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 267 - 268 ؛ « البصائر النصيرية » : 23 وما بعدها ؛ « شرح المواقف » 5 : 13 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 141 ؛ « نهاية المرام » 1 : 313 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 313.
2- حكاه عنهم المحقّق الطوسي في « قواعد العقائد » المطبوع ضمن « نقد المحصّل » : 439 ، والعلاّمة الحلّي في « كشف المراد » : 202 ، وإلى ذلك أشير في « شرح المواقف » 5 : 11 وما بعدها و « شرح المقاصد » 2 : 141 وما بعدها.

والظنّ ، والنظر ، والإرادة ، والكراهة ، والشهوة ، والنفرة ، والألم ، واللذّة ، والحياة ، والقدرة ، والاعتقاد.

وأثبت بعضهم أعراضا أخر (1) يأتي البحث عنها.

وهذه الأعراض مندرجة تحت تلك ، لأنّ الكون هو الأين أو ما يقاربه ، وباقي الأعراض التي ذكرناها مندرجة تحت الكيف ؛ ولأجل هذا بحث المصنّف رحمه اللّه عن الأعراض التسعة ؛ لدخول هذه تحتها. ومع ذلك فالأوائل يوجد لهم دليل على حصر الأعراض في التسعة (2).

وبعضهم جعل أجناس الممكنات منحصرة في أربعة : الجوهر ، والكمّ ، والكيف ، والنسبة (3).

وبالجملة ، فالحصر لم يقم عليه برهان.

المسألة الثانية : في قسمة الكمّ.

قال : ( الأوّل الكمّ ، فمتّصله القارّ جسم وسطح وخطّ ، وغيره الزمان ، ومنفصله العدد ).

أقول : الكمّ عرض يقبل لذاته القسمة بإمكان فرض الأجزاء ، وهو إمّا متّصل أو منفصل ، ونعني بالمتّصل ما يوجد فيه جزء مشترك يكون نهاية أحد القسمين وبداءة الآخر ، كالجسم إذا نصّف ؛ فإنّ موضع النصف حدّ مشترك بين النصفين ونهاية لأحدهما وبداءة للآخر ، والمنفصل ما لا يكون كذلك ، كالأربعة المنقسمة إلى اثنين

ص: 378


1- انظر : « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 11 ؛ « قواعد العقائد » المطبوع ضمن « نقد المحصّل » : 439 ؛ « مناهج اليقين » : 130 - 136 ؛ « شرح المواقف » 5 : 26 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 146.
2- « الشفاء » المنطق 1 : 83 - 86 ، الفصل الخامس من المقالة الثانية ؛ « شرح المواقف » 5 : 13 وما بعدها.
3- نسبه في « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 278 إلى عمر بن سهلان الساوي ، ونسب إلى البعض في كلّ من « المباحث المشرقيّة » 1 : 270 ؛ « مناهج اليقين » 147 ؛ « شرح المواقف » 5 : 26 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 146.

واثنين ؛ فإنّه ليس بينهما حدّ مشترك ، وكذلك الثلاثة.

ولا يتوهّم أنّ الوسط نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر ؛ لأنّه إن عدّ منهما صارت الثلاثة أربعة ، وإن سقط منهما ، صارت اثنين ، ولا أولويّة لأحدهما دون الآخر.

فإذا عرفت هذا ، فنقول : المتّصل إمّا قارّ الذات وهو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالجسم ، أو غير قارّ الذات وهو الذي لا يكون كذلك كالزمان ؛ فإنّه لا يمكن أن يكون أحد الزمانين مجامعا لآخر.

والقارّ الذات إمّا أن ينقسم في جهة واحدة وهو الخطّ ، أو في جهتين وهو السطح ، أو في ثلاث وهو الجسم التعليمي ، أعني البعد الذي هو العرض والطول والعمق.

وغير قارّ الذات هو الزمان لا غير.

والمنفصل هو العدد خاصّة ؛ لأنّ تقوّمه من الوحدات التي إذا جرّدت عن معروضاتها كانت أجزاء العدد.

المسألة الثالثة : في خواصّه.

قال : ( ويشملها قبول المساواة وعدمها ، والقسمة ، وإمكان وجود العادّ فيه ).

أقول : ذكر للكمّ ثلاث خواصّ :

الأولى : قبول المساواة وعدمها ؛ فإنّ أحد الشيئين إنّما يساوي غيره أو يفاوته باعتبار مقداره لا باعتبار ذاته ؛ فإنّ كلّ الجسم وبعضه متساويان في الطبيعة ومتفاوتان في المقدار.

الثانية : قبول القسمة لذاته ، وذلك أنّ الماهيّة إنّما يعرض لها الانقسام والاثنينيّة بواسطة المقدار.

وهذا الانقسام قد يكون وهميّا ويعنى به كون الشيء بحيث يوجد فيه شيء

ص: 379

غير شيء ، وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته.

وقد يكون فعليّا ويراد منه قبول الاقتران بأن ينفصل وينقطع بالفعل وتحدث له هويّتان بعد أن كانت له هويّة واحدة ، وهو من توابع المادّة عندهم على ما سلف البحث فيه ، ومرادهم هنا الأوّل.

الثالثة : إمكان وجود العادّ فيه ، بمعنى اشتماله على أمر يفنيه بالإسقاط عنه مرارا إمّا بالفعل كما في الكمّ المنفصل ؛ فإنّ الواحد الموجود في الأعداد يفنيها بإسقاطه مرارا. وإمّا بالقوّة كما في الكمّ المتّصل.

بيان ذلك : أنّ المنقسم إنّما ينقسم إلى آحاد هي أجزاؤه ، فتلك الآحاد عادّة له.

ولمّا كان الانقسام قد يكون بالفعل كما في الكمّ المنفصل ، وقد يكون بالقوّة كما في الكمّ المتّصل ، كان اللازم المطلق للكمّ هو إمكان وجود واحد عادّ لا الوجود بالفعل.

قال : ( وهو ذاتيّ وعرضيّ ).

أقول : الكمّ منه ما هو بالذات ، كالأقسام التي عددناها له ، ومنه ما هو بالعرض ، وهو محلّ للكمّ بالذات كالجسم الطبيعي ، أو حالّ فيه كالشكل ، أو حالّ في محلّه كالسواد الحالّ في الجسم ؛ فإنّه مقدّر بقدره فكمّيّته عرضيّة لا ذاتيّة أو ما يتعلّق بما يعرض له تعلّقا مصحّحا لإجراء أوصافه عليه ، كقولنا : هذه القوّة قوّة متناهية أو غير متناهية بسبب تناهي أثرها في العدّة أو المدّة أو الشدّة ، وعدم تناهيه.

المسألة الرابعة : في أحكامه.

قال : ( ويعرض ثاني القسمين فيهما لأوّلهما ).

أقول : قد ذكر أنّ الكمّ إمّا متّصل وإمّا منفصل. وأيضا إمّا ذاتيّ أو عرضيّ ، فهناك تقسيمان.

وضمير قوله : « فيهما » راجع إلى التقسيمين ، وضمير قوله : « أوّلهما » إلى القسمين.

والمراد أنّه يعرض الكمّ المنفصل - الذي هو ثاني القسمين في التقسيم إلى

ص: 380

المتّصل والمنفصل - لأوّلهما الذي هو الكمّ المتّصل. ويعرض الكمّ العرضي - الذي هو ثاني القسمين في التقسيم الثاني - لأوّلهما الذي هو الكمّ الذاتي ؛ فإنّ الجسم التعليمي قد يعرض له الانقسام ، فيعرض له التّعدد ، فيصير معدودا قد عرض له النوع الثاني من الكمّ وهو المنفصل ، وكذا الزمان يقسّم إلى الساعات والشهور والأيّام والأعوام فيحصل له العدد.

وأيضا الزمان متّصل بذاته ويعرض له التقدير بالمسافة أيضا ، كما يقال : زمان حركة فرسخ.

وقد يعرض الكمّ المنفصل للكمّ المنفصل ، كما في قولنا : خمس عشرات ، فيصير المنفصل بالذات منفصلا بالعرض ، ولا استحالة في ذلك ؛ للتغاير بين العارض والمعروض ولو بالشخص.

فظهر معنى قوله : « ويعرض ثاني القسمين فيهما لأوّلهما ».

قال : ( وفي حصول المنافي وعدم الشرط دلالة على انتفاء الضدّيّة ).

أقول : يريد أنّ الكمّ لا تضادّ فيه. والدليل عليه وجهان :

أحدهما : أنّ المنافي للضدّيّة حاصل للكمّ ، فلا تكون الضدّيّة موجودة فيه.

بيانه : أنّ أنواع الكمّ المنفصل متقوّم بعضها ببعض ، فأحد النوعين إمّا مقوّم لصاحبه أو متقوّم به ، ويستحيل تقوّم أحد الضدّين بالآخر.

وأمّا المتّصل فلأنّ أحد النوعين إمّا قابل للآخر كالسطح للخطّ أو الجسم للسطح ، أو مقبول له ، كالعكس ، والضدّ لا يكون قابلا لضدّه ولا مقبولا له ، فحصول التقويم والقابليّة المنافيين للضدّيّة يقتضي انتفاء الضدّيّة.

الثاني : أنّ الشرط في التضادّ مفقود في الكمّ فلا تضادّ فيه.

بيانه : أنّ للتضادّ شرطين : أحدهما اتّحاد الموضوع. الثاني : أن يكون بينهما غاية التباعد. وهما منتفيان هنا.

أمّا عدم اتّحاد الموضوع في العدد فإنّه ليس لشيء من العددين موضوع قريب

ص: 381

مشترك ، وكذا المتّصل ؛ فإنّ الجسم الطبيعي معروض للتعليمي وللسطح بواسطة التعليمي ، وكذا الخطّ بواسطة السطح.

وأمّا عدم كونهما في غاية التباعد فلأنّه لا مقدار يوجد إلاّ ويمكن أن يفرض ما هو أكبر منه أو أصغر أو أكثر أو أقلّ ، فلا غاية في التباعد.

قال : ( ويوصف بالزيادة والكثرة ومقابليهما ، دون الشدّة ومقابلها ).

أقول : الكمّ بأنواعه يوصف بأنّ بعضا منه زائد على بعض آخر ؛ فإنّ الستّة أزيد من الثلاثة ، وكذا الخطّ الذي طوله عشرة أزيد من الذي طوله خمسة ، فصدق عليه وصف الزيادة ومقابلها - أعني النقصان - لأنّ الزائد إنّما يعقل بالقياس إلى الناقص.

وكذا الوصف بالكثرة والقلّة ، فيقال : عدد كثير أو قليل ، مثلا ، ويمنع اتّصافه بالشدّة والضعف.

وبيانه ظاهر ؛ فإنّه لا يعقل أنّ خطّا أشدّ من خطّ آخر في الخطّيّة ، ولا ثلاثة أشدّ من ثلاثة أخرى في الثلاثيّة.

والفرق بين الكثرة والشدّة ظاهر ، وكذا بين الزيادة والشدّة ؛ فإنّ الكثرة والزيادة إنّما تتحقّقان بالنسبة إلى أصل موجود لا يتغيّر فصله بسبب الزيادة ولا حقيقته ، بخلاف الشدّة.

قال : ( وأنواع متّصلة قد تكون تعليميّة ).

أقول : الأنواع الثلاثة للكمّ المتّصل القارّ الذات - وهي الخطّ والسطح والجسم التعليمي - قد تؤخذ باعتبار ما فتسمّى تعليميّة ، وقد تؤخذ باعتبار آخر فلا تسمّى تعليميّة.

مثلا : إذا أخذ المقدار باعتبار ذاته لا من حيث اقترانه بالموادّ وأعراضها من الألوان وغيرها كان ذلك مقدار تعليميّا ، كالسطح التعليمي ، والخطّ التعليمي ، وكذا النقطة.

وإنّما سميّت هذه الأنواع تعليميّة ؛ لأنّ علم التعاليم إنّما يبحث عنها مجرّدة عن

ص: 382

الموادّ وتوابعها.

قال : ( وإن كانت تختلف بنوع ما من الاعتبار ).

أقول : الظاهر من هذا الكلام أنّ كون الجسم تعليميّا يفارق كون الخطّ والسطح كذلك.

وبيانه : أنّ الجسم يمكن أن يؤخذ لا بشرط غيره ، وبشرط لا غيره. وأمّا السطح والخطّ فلا يمكن أخذهما إلاّ بالاعتبار الأوّل ؛ فإنّه يمكن أن يتخيّل بعد ممتدّ في الجهات مجرّدا عمّا عداه ، ولا يمكن أن يتخيّل بعد ممتدّ في جهتين - الطول والعرض - مجرّدا عن الامتداد العمقي بالمرّة ، وكذا لا يمكن أن يتخيّل بعد ممتدّ في جهة واحدة فقط مجرّدا عن الامتداد العمقي والعرضي.

نعم ، يمكن تصوّرهما على وجه كلّي كالجسم التعليمي ؛ فلهذا اختلفت الأنواع بنوع ما من الاعتبار.

قال : ( وتخلّف الجوهريّة عمّا يقال في جواب ما هو؟ في كلّ واحد يعطي عرضيّته ).

أقول : يريد أن يبيّن أنّ هذه الأنواع بأسرها أعراض.

واستدلّ بطريقين : أحدهما عامّ في الجميع ، والثاني مختصّ بكلّ واحد.

أمّا العامّ فتقريره أنّ معنى الجوهرية في حدّ كلّ واحد من الخطّ والسطح والجسم التعليمي والزمان والعدد غير داخل فيما يقال في جواب ما هو؟ إذا سئل عن حقيقته ، فيكون خارجا عن الحقيقة ، فيكون كلّ واحد من هذه عرضا ؛ لأنّه لو كان جوهرا لما تخلّف معنى الجوهريّة عمّا يقال في جواب ما هو؟ عند السؤال.

قال : ( والتبدّل مع بقاء الحقيقة ، وافتقار التناهي إلى البرهان ، وثبوت الكرة الحقيقيّة ، والافتقار إلى عرض ، والتقوّم به يعطي عرضيّة الجسم التعليمي والسطح والخطّ والزمان والعدد ).

أقول : هذا هو الوجه الدالّ على عرضيّة كلّ واحد بخصوصيّته.

ص: 383

أمّا الجسم التعليمي فإنّه يتبدّل مع بقاء حقيقته الجسميّة المشخّصة ؛ فإنّ الشمعة تقبل الأشكال المختلفة مع بقاء حقيقتها ، فزوال كلّ واحد من الأبعاد وبقاء الجسميّة يدلّ على عرضيّة الأبعاد ، أعني الجسم التعليميّ.

وأمّا السطح فإنّه عرض ؛ لأنّ ثبوته إنّما هو بواسطة التناهي الذي ليس من مقوّمات الجسم ، بل هو العارض للجسم ؛ لافتقاره إلى برهان يدلّ عليه ، مع أنّ أجزاء الحقيقة لا تثبت بالبرهان ، وإذا كان التناهي عارضا ، كان ما ثبت بواسطته أولى بالعرضيّة.

وأمّا الخطّ فإنّه عرض ؛ لأنّه غير واجب الثبوت للجسم ، وما كان كذلك كان عرضا.

وبيان عدم وجوبه أنّه إنّما ثبت للسطح بواسطة تناهيه ، والسطح قد لا يعرض فيه النهاية كما في الكرة الحقيقيّة الساكنة ؛ فإنّه لا خطّ فيها بالفعل.

وأمّا الزمان فإنّه يفتقر إلى الحركة ؛ لأنّه مقدارها ، والمقدار مفتقر إلى التقدّر (1) ، والحركة عرض ، والمفتقر إلى العرض أولى بالعرضيّة ، فالزمان عرض.

وأمّا العدد فلأنّه متقوّم بالآحاد على ما تقدّم ، والآحاد عرض ، فالعدد كذلك.

قال : ( وليست الأطراف أعداما وإن اتّصفت بها مع نوع من الإضافة ).

أقول : ذهب جماعة (2) من المتكلّمين - على ما حكي - إلى أنّ السطح الذي هو طرف الجسم ، والخطّ الذي هو طرف السطح ، والنقطة التي هي طرف الخطّ ، أعدام صرفة لا تحقّق لها في الخارج ، وإلاّ لانقسمت لانقسام محلّها ، ولأنّ الطرف عبارة عن نهاية الشيء ، التي هي عبارة عن فنائه وعدمه ، ولأنّ السطحين إذا التقيا عند تلاقي الأجسام إن كان بالأسر لزم التداخل ، وإلاّ فالانقسام ، وكذا الخطّ والنقطة.

ص: 384


1- كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : 207 : « المتقدّر ».
2- « المباحث المشرقيّة » 1 : 322 ؛ « المحصّل » : 224 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 177 - 178 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 225 - 226.

وهذه الوجوه مدخولة :

أمّا الأوّل : فلأنّ الانقسام إنّما يلزم في الأعراض السارية ، أمّا غيرها فلا.

وأمّا الثاني : فلأنّ النهاية ليست عدما محضا ولا نفيا صرفا ؛ لأنّ العدم لا يشار إليه ، والأطراف يشار إليها ، بل هاهنا أمور ثلاثة :

أحدها : السطح ، وهو مقدار ذو طول وعرض ، قابل للإشارة ، موجود.

والثاني : فناء الجسم ، بمعنى انقطاعه في جهة معيّنة من جهات الامتداد ، وليس بعدم صرف بل عدم أحد أبعاد الجسم ، وهو تحته.

والثالث : إضافة تعرض تارة للسطح فيقال : سطح مضاف إلى ذي السطح ، وتارة للفناء فيقال : نهاية لجسم ذي نهاية. والإضافة عارضة لهما متأخّرة عنهما.

وقد يؤخذ السطح عاريا عن هذه الإضافة فيكون موضوعا لعلم الهندسة.

وكذا البحث في الخطّ والنقطة.

وأمّا الثالث ففيه : أنّ الجسمين إذا التقيا عدم السطحان وصارا جسما واحدا إن اتّصلا ، وإن تماسّا فالسطحان باقيان.

قال : ( والجنس معروض التناهي وعدمه ).

أقول : يريد بالجنس الكمّ من حيث هو هو ؛ فإنّه جنس لنوعي المتّصل والمنفصل ، وهو الذي يلحقه لذاته التناهي وعدم التناهي على سبيل عدم الملكة لا العدم المطلق ؛ فإنّ العدم المطلق قد يصدق على الشيء الذي سلب عنه ما باعتباره يصدق أنّه متناه كالمجرّدات ، وإنّما يلحقان - أعني التناهي وعدمه - العدم الخاصّ ما عدا الكمّ بواسطة الكمّ ، فيقال للجسم : إنّه متناه أو غير متناه باعتبار مقداره. ويقال للقوّة ذلك باعتبار الآثار وامتداد زمانها وقصره ، ويقال للبعد والزمان والعدد : إنّها متناهية أو غير متناهية لا باعتبار لحوق طبيعة بها بل لذاتها.

قال : ( وهما اعتباريّان ).

أقول : يريد به أنّ التناهي وعدمه من الأمور الاعتباريّة لا العينيّة ؛ فإنّه ليس في

ص: 385

الخارج ماهيّة يقال لها : إنّها تناه أو عدم تناه ، بل إنّما يعقلان عارضين لغيرهما في الذهن ، فيكونان من المعقولات الثانية.

[ الثاني : الكيف ]

قال : ( الثاني : الكيف ، ويرسم بقيود عدميّة تخصّه جملتها بالاجتماع ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكمّ شرع في البحث عن الكيف ، وهو الثاني من الأعراض التسعة. وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في رسمه.

اعلم أنّ الأجناس العالية لا يمكن تحديدها لبساطتها ، بل ترسم برسوم أعرف منها عند العقل. والرسم إنّما يتألّف من خواصّ الشيء وعوارضه.

ولمّا كانت العوارض قد تكون عامّة وقد تكون خاصّة ، والعامّ لا يفيد التميّز الذي هو أقلّ مراتب التعريف ، لم تصلح العوارض العامّة للتعريف إلاّ إذا اختصّت بالاجتماع بالماهيّة المرسومة ، وهي الخاصّة المركّبة ، كما يقال في تعريف الخفّاش : إنّه الطائر الولود.

ولمّا لم يوجد لهذا الجنس خاصّة عند تصوّره توصّلوا إلى تعريفه بعوارض عدميّة ، كلّ واحد منها أعمّ منه لكنّها باجتماعها خاصّة ، فقالوا في تعريفه : إنّه هيئة قارّة لا يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها ، ولا تقتضي القسمة واللاقسمة في محلّها اقتضاء أوّليّا (1).

فقولنا : « هيئة » يشمل جميع الأعراض التسعة ، ويخرج عنها الجوهر.

وقولنا : « قارّة » يخرج عنه الحركة وما ليس بقارّ من الأعراض. وقولنا :

ص: 386


1- « الشفاء » المنطق 1 : 171 ، الفصل الأوّل من المقالة الخامسة ؛ « البصائر النصيرية » : 31 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 372 - 379 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 230.

« لا يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها » يخرج عنه الأعراض النسبيّة. وقولنا : « اقتضاء أوّليّا » ليدخل في المحدود العلم بالأشياء البسيطة التي لا تنقسم ؛ فإنّه يقتضي اللاقسمة - مع أنّه من الكيف - إلاّ أنّ اقتضاءه لذلك ليس أوّليّا بل لوحدة المعلوم.

وقد يعرّف الكيف بأنّه عرض لا يقتضي لذاته قسمة ولا نسبة (1) ، فخرجت الجواهر والكمّ والأعراض النسبيّة.

ومن جعل النقطة والوحدة من الأعراض دون الكيف زاد قيد عدم اقتضائه اللاقسمة ؛ احترازا عنهما (2).

ولا حاجة إلى زيادة قيد « أوّليّا » لإدخال العلم بالبسيط ؛ لكفاية قولهم : « لذاته » فهذا التعريف أولى ؛ لأنّه أخصر.

المسألة الثانية : في أقسامه.

قال : ( وأقسامه أربعة ).

أقول : الكيف ، له أنواع أربعة بالاستقراء :

أحدها : الكيفيّات المحسوسة بإحدى الحواسّ الظاهرة : راسخة كانت كالسواد والحرارة والحلاوة والملوحة ، أو غير راسخة كحمرة الخجل وصفرة الوجل.

الثاني : الكيفيّات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس ، كالعلوم والإرادات والظنون ، وهي إن كانت راسخة كانت ملكات ، وإلاّ كانت حالات.

الثالث : الكيفيّات الاستعداديّة التي من جنس الاستعداد والقوّة كالصلابة واللين.

والرابع : الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات المتّصلة أو المنفصلة كالزوجية للعدد ،

ص: 387


1- « شرح المواقف » 5 : 15 - 16 و 162 - 163 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 219 - 220 ؛ « التعريفات » : 241 ، الرقم 1201.
2- راجع في ذلك « المباحث المشرقيّة » 1 : 372 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 65 ؛ « شرح المواقف » 5 : 162 - 163.

والاستقامة للخطّ - مثلا - وغيرهما. (1)

المسألة الثالثة : في البحث عن المحسوسات.

قال : ( فالمحسوسات إمّا انفعاليّات أو انفعالات ).

أقول : الكيفيّات المحسوسة إن كانت راسخة عسرة الزوال - كحلاوة العسل - سمّيت انفعاليّات ؛ لانفعال الحواسّ عنها ، ولكونها تابعة للمزاج الحاصل من انفعال العناصر. وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال - كحمرة الخجل - سمّيت انفعالات ، وهي وإن لم تكن في أنفسها انفعالات لكنّها لقصر مدّتها وسرعة زوالها كأنّها تنفعل ، فسمّيت بها تمييزا لها عن الكيفيّات الراسخة.

المسألة الرابعة : في مغايرة الكيفيّات للأشكال والأمزجة.

قال : ( وهي مغايرة للأشكال ؛ لاختلافها في الحمل ).

أقول : ذهب قوم (2) من القدماء إلى أنّ هذه الكيفيّات نفس الأشكال ؛ قالوا : الأجسام تنتهي في التحليل إلى أجزاء صغار تقبل القسمة الوهميّة لا الانفكاكيّة الفعليّة.

وتلك الأجزاء مختلفة في الأشكال ، فالتي يحيط بها أربعة مثلّثات تكون مفرّقة لاتّصال العضو ، فيحسّ منها بالحرارة ، والتي يحيط بها ستّة مربّعات تكون غليظة غير نافذة ، فيحسّ منها بالبرودة.

والذي يقطع العضو إلى أجزاء صغار ويكون شديد النفوذ فيه هو المحرق الحرّيف (3) ، والجزء الملاقي لذلك التقطيع هو الحلو ، والجزء الذي ينفصل منه شعاع مفرّق للبصر هو الأبيض ، والذي ينفصل منه شعاع جامع وقابض للبصر هو الأسود ،

ص: 388


1- كالمثلّثيّة والمربّعيّة للسطح ، والفرديّة للعدد. ( منه رحمه اللّه ).
2- كما حكي عن أصحاب ذيمقراطيس. ( منه رحمه اللّه ).
3- الحرّيف : كلّ طعام يحرق فم آكله بحرارة مذاقه. كذا في « لسان العرب » 3 :3. 131 ، « حرف ».

ويحصل من اختلاطهما باقي أنواع الألوان (1).

والمحقّقون أبطلوا هذه المقالة بأنّ الأشكال والألوان مختلفة في المحمولات ، فيحمل على أحدهما بالإيجاب ما يحمل على الآخر بالسلب ، فيلزم تغايرهما بالضرورة (2).

وبيانه : أنّ الأشكال ملموسة وغير متضادّة ، والألوان متضادّة غير ملموسة.

وأيضا الأشكال مبصرة والحرارة والبرودة ليستا كذلك.

قال : ( والمزاج لعمومها ).

أقول : ذهب آخرون من الأوائل إلى أنّ الكيفيّات هي الأمزجة (3).

وهو خطأ ؛ لأنّ المزاج كيفيّة متوسّطة بين الحارّ والبارد يحصل من تفاعلهما ، والحرارة والبرودة من الكيفيّات الملموسة ، فيكون المزاج منها ، فالمزاج لا يحصل بدون الكيفيّة المحسوسة ، والكيفيّة المحسوسة قد تحصل بدون المزاج كما في البسائط ، فتكون أعمّ والعامّ يغاير الخاصّ.

وأيضا المزاج تابع ، والتابع مغاير للمتبوع.

المسألة الخامسة : في البحث عن الملموسات.

قال : ( فمنها أوائل الملموسات ، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والبواقي منتسبة إليها ).

أقول : لمّا كانت الكيفيّات الملموسة أظهر عند الطبيعة ؛ لعمومها بالنسبة إلى كلّ

ص: 389


1- انظر : « الشفاء » 2 : 53 - 54 ، كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 377 وما بعدها ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 471 - 472 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 227.
2- « الشفاء » 2 : 54 - 55 ، كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 379 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 472 - 473 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 227 - 228.
3- انظر : « الشفاء » 2 : 253 - 254 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 380 ؛ « نهاية المرام » في علم الكلام » 1 : 473 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 328.

حيوان وعدم خلوّ حيوان عن القوّة اللامسة بخلاف سائر الحواسّ ، كما يقال في الخراطين (1) : إنّها فاقدة للمشاعر الأربعة دون اللامسة ، لدفع المفسدة باقتضاء الحكمة ، فكأنّها أوّل ما يدرك وأوّل ما يحتاج إليه من الكيفيّات المحسوسة - قدّم البحث عنها.

واعلم أنّ الكيفيّات الملموسة إمّا فعليّة أو انفعاليّة أو ما ينسب إليهما ، فالفعليّة كيفيّتان هما الحرارة والبرودة ، والمنفعلة اثنتان هما الرطوبة واليبوسة.

ونعني بالفعليّة ما تفعل الصورة بواسطتها في المادة أثرا من الآثار ، وبالمنفعلة ما تنفعل المادّة باعتبارها.

وإنّما كانت الأوليان فعليّتين والأخيرتان منفعلتين - وإن كانت المادّة تنفعل باعتبارهما - لأنّ الأوليين تفعلان في الأخيرتين ، دون العكس.

أمّا باقي الكيفيّات الملموسة - كاللطافة والكثافة واللزوجة والهشاشة والجفاف والبلّة والثقل والخفّة - فإنّها تابعة لهذه الأربعة.

فكانت هذه الكيفيّات الأربع أوائل الملموسات ؛ لأنّها مدركة أوّلا وبالذات ، وما عداها يدرك بتوسّطها ؛ ولهذا ينسب إليها.

قال : ( فالحرارة جامعة للمتشاكلات ومفرّقة للمختلفات ، والبرودة بالعكس ).

أقول : الحرارة من شأنها إحداث الخفّة والميل الصاعد ، ويحصل بسبب ذلك الحركة فإذا وردت الحرارة على المركّب وسخّنته ، طلب الألطف الصعود قبل غيره ؛ لسرعة انفعاله ، فاقتضى ذلك تفريق أجزاء المركّب. فإذا صعد الألطف جامع بالطبع [ إلى ] (2) ما يجانسه ؛ لأنّ طبيعته تقتضي الحركة إلى مكانه الطبيعي والانضمام إلى الأصل الكلّيّ ؛ فإنّ الجنسيّة علّة الضمّ ، فالحرارة معدّة للاجتماع ، ويلزم من ذلك

ص: 390


1- مفردة خرطون : « دود من رتبة الحلقيات ، دائم الحركة تحت الأرض حيث يأخذ غذاءه ، كثير المنفعة للزراعة ».
2- كذا في الأصل ، والظاهر أنّها زائدة.

تفرّق الأجسام المختلفة الطبائع التي منها يتركّب المركّب.

ولهذا يقال في بيان خاصّيّة الحرارة الغنيّة عن التعريف : إنّها تقتضي جمع المتشاكلات وتفريق المختلفات.

وأمّا البرودة فإنّها بالعكس من ذلك.

قال : ( وهما متضادّتان ).

أقول : الحرارة والبرودة كيفيّتان وجوديّتان بينهما غاية التباعد ؛ فهما متضادّتان.

ولم يخالف في هذا الحكم أحد من المحقّقين.

وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ البرودة عدم الحرارة عمّا من شأنه أن يكون حارّا ، فيكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة (1).

وهو خطأ ؛ لأنّا ندرك من الجسم البارد كيفيّة زائدة على الكيفيّة المطلقة ، والعدم غير مدرك ؛ فالبرودة صفة وجوديّة مضادّة للحرارة.

قال : ( وتطلق الحرارة على معان أخر مغايرة مخالفة للكيفيّة في الحقيقة ).

أقول : لفظة « الحرارة » تطلق على معان :

أحدها : الكيفيّة المحسوسة من جرم النار.

والثاني : الحرارة الموجودة في بدن الحيوان ، المناسبة للحياة وهي شرط فيها ، وتسمّى بالحرارة الغريزيّة.

وعن أفلاطون تسميتها بالنار الإلهية (2).

وعن جالينوس أنّها الحرارة الناريّة العنصريّة الأسطقسيّة المستفاد من المزاج (3).

وعن أرسطو أنّها الحرارة السماويّة لا الأسطقسيّة المتقدّمة (4) ، وهي مخالفة لتلك

ص: 391


1- انظر : « المحصّل » 234 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 385 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 479 - 481 ؛ « شرح المواقف » 5 : 181 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 230 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 239.
2- انظر : « شرح تجريد العقائد » : 329.
3- انظر : « شرح المواقف » 5 : 179 ، الهامش ؛ « شرح تجريد العقائد » : 229.
4- راجع « الشفاء » 3 : 403 - 404 ، كتاب الحيوان ، الفصل الأوّل من المقالة السادسة عشرة.

في الحقيقة ؛ لأنّ تلك مضادّة للحياة ، والثاني شرط [ فيها ].

والثالث : الحرارة الحاصلة من تأثير الكواكب النّيرة كالشمس ، وهي مخالفة لما تقدّم.

والرابع : الحرارة التي توجبها الحركة ، وهي مخالفة لما تقدّم ؛ لمثل ما تقدّم.

قال : ( والرطوبة كيفيّة تقتضي سهولة التشكّل ، واليبوسة بالعكس ).

أقول : الرطوبة فسّرها الشيخ - على ما حكي (1) - بأنّها كيفيّة تقتضي سهولة حصول الأشكال والاتّصال والتفرّق.

والإيراد بلزوم كون النار أرطب من الماء وكذا الهواء (2) مدفوع بأنّ سهولة التشكّل في النار - التي تلينا بسبب مخالطة الهواء والنار الصرفة - ليست كذلك.

وأمّا الهواء فإنّه لمّا كان جرمه أرقّ كان تشكّله أسهل ، ولكنّ الكيفيّة المقتضية في الماء أزيد وإن كان القابل أنقص.

والجمهور يطلقون الرطوبة على البلّة لا غير ، فالهواء ليس برطب عندهم (3).

وعند الشيخ أنّه رطب ، وجعل البلّة هي الرطوبة الغريبة [ الجارية على ظاهر الجسم ، كما أنّ الانتفاع هو الرطوبة الغريبة ] (4) النافذة إلى باطنه ، والجفاف عدم البلّة عمّا من شأنه أن يبتلّ ، واليبوسة مقابلة للرطوبة (5).

قال : ( وهما مغايرتان للّين والصلابة ).

أقول : اللين والصلابة من الكيفيّات الاستعداديّة.

ص: 392


1- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 212 ، وانظر : « الشفاء » لطبيعيات 2 : 154.
2- راجع « المباحث المشرقيّة » 1 : 389 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 490 - 492 ؛ « شرح المواقف » 5 : 184 - 185 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 234 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 231.
3- « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 346 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 492.
4- الزيادة أثبتناها من « كشف المراد » : 212.
5- « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 151 - 152 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 246 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 493.

فاللين كيفيّة يكون الجسم بها مستعدّا للانغماز ، ويكون للشيء بها قوام غير سيّال ، فينتقل عن وضعه لقبول الغمز الى الباطن ، ولا يمتدّ كثيرا ولا يتفرّق بسهولة. ويكون الغمز من الرطوبة وتماسكه من اليبوسة.

والصلابة كيفيّة تقتضي مقابل ذلك ، فهما من باب قوّة الانفعال والاستعداد نحو الانفعال ، فتكونان مغايرتين للرطوبة واليبوسة.

وكذا الخشونة والملاسة ؛ فإنّ الخشونة عبارة عن اختلاف أجزاء ظاهر الجسم بالارتفاع والانحطاط ، والملاسة عبارة عن استوائها ، فهما من باب الوضع.

قال : ( والثقل كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم إن كان مطلقا ، والخفّة بالعكس ، ويقالان بالإضافة بالاعتبارين ).

أقول : المراد أنّ من الكيفيّات الملموسة الثقل والخفّة ، وكلّ منهما مطلق وإضافيّ.

والثقل المطلق كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم إذا لم يعقه عائق.

والخفّة المطلقة بالعكس ، وهي كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى فوق بحيث يعلو على العناصر ، وينطبق سطحه على سطح الفلك إذا لم يعقه عائق.

أمّا الإضافي فإنّه يقال لمعنيين :

أحدهما : الذي في طباعه أن يتحرّك في أكثر المسافة الممتدّة بين المركز والمحيط حركة إلى المركز كالماء ، أو المحيط كالهواء ، وقد يعرض له أن يتحرّك عن المحيط.

والثاني : ما يقتضي حركة الجسم إلى المحيط والمركز في الجملة بالإضافة ، كالهواء ؛ فإنّه إذا قيس إلى النار نفسها كانت النار سابقة له إلى المحيط ، وإذا قيس إلى الماء كان سابقا ، فهو ثقيل بالإضافة إلى النار ، وخفيف بالإضافة إلى الماء.

قال : ( والميل طبيعيّ وقسريّ ونفسانيّ ).

أقول : لمّا كان الثقل والخفّة ممّا له تعلّق بالميل ، فإنّه ما يكون به الجسم مدافعا لما يمنعه ، عقّبهما بمباحث الميل ، وهو الذي يسمّيه المتكلّمون اعتمادا.

ص: 393

وينقسم بانقسام معلوله - أعني الحركة - إلى الأصلي والعرضي ؛ لقيامه بما وصف به أو بما يجاوره ويتعلّق به.

والأصلي إلى طبيعيّ كميل الحجر المسكن في الهواء والورق في الماء ، وإلى قسريّ كميل الحجر إلى الفوق عند قسره على الصعود ، وإلى نفسانيّ وإراديّ كميل الحيوان إلى الحركة بالإرادة.

قال : ( وهو العلّة القريبة للحركة ، وباعتباره يصدر عن الثابت متغيّر ).

أقول : الميل هو العلّة القريبة للحركة ؛ إذ باعتبار تحقّقه يصدر عن الثابت شيء متغيّر ؛ وذلك لأنّ الطبيعة أمر ثابت وكذا القوّة القسريّة والنفسانيّة ، فيستحيل صدور الحركة المتغيّرة المتفاوتة بالشدّة والضعف عنها ، فلا بدّ من أمر يشتدّ ويضعف ؛ ليتعيّن بكلّ مرتبة من مراتبه مرتبة من الحركة ، وذلك الأمر هو الميل الذي يصدر عن الطبيعة - مثلا - ويقتضي الحركة ، فيحصل باشتداده سرعة الحركة وشدّتها وبضعفه ضدّ ذلك.

قال : ( ومختلفه متضادّ ).

أقول : المراد أنّ الميلين الذاتيّين المختلفين متضادّان لا يمكن أن يجتمعا في جسم واحد ؛ وذلك لأنّ الميل يقتضي الحركة إلى جهة والصرف عن أخرى ؛ فلو اجتمع في الجسم ميلان ، لاقتضى حركته وتوجّهه إلى جهتين مختلفتين ، وذلك غير معقول.

نعم ، كما يجوز أن تجتمع في جسم واحد حركتان مختلفتان إحداهما بالذات والأخرى بالعرض ، كذلك يجوز اجتماع ميل ذاتيّ وعرضيّ ، كحجر يحمله إنسان إلى الفوق ؛ فإنّ ميله الذاتي إلى التحت ، والعرضيّ إلى الفوق ، وهكذا غير ذلك.

قال : ( ولو لا ثبوته لتساوى ذو العائق وعادمه ).

أقول : هذا إشارة إلى الدليل على وجود الميل الطبيعي في كلّ جسم قابل للحركة القسريّة.

وتقريره : أنّ المتحرّك إذا كان خاليا عن المعاوق ، وقطع بميله القسري مسافة ، فلا شكّ أنّه يقطعها في زمان ، فإذا فرضنا جسما آخر فيه ميل ومعاوقة ما يقطعها في

ص: 394

زمان أطول بالبديهة ، وإذا فرضنا جسما ثالثا فيه ميل أضعف من الميل المفروض أوّلا بقدر نسبة زمان عديم الميل إلى زمان ذي الميل المفروض أوّلا ، يلزم أن يتحرّك بالقسر في مثل زمان عديم المعاوق مثل مسافته ، وذلك محال قطعا ؛ لامتناع تساوي زماني عديم المعاوقة وواجدها ، فتأمّل.

قال : ( وعند آخرين هو جنس بحسب تعدّد (1) الجهات ، ويتماثل ويختلف باعتبارها ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الميل وأحكامه على رأي الأوائل - أعني الحكماء المتقدّمين - شرع في البحث على رأي المتكلّمين المتأخّرين ، وهو أنّ الميل والاعتماد جنس - على رأيهم - تحته ستّة أنواع بحسب عدد الجهات الستّ (2).

ثمّ قالوا : إنّ منه ما هو متماثل باعتبار الجهات ، وهو كلّ ما اختصّ بجهة واحدة ؛ لأنّ تساوي المعلول يستلزم تساوي العلّة ، ومنه ما هو مختلف باعتبارها ، وهو ما تعدّدت جهاته (3).

واختلف أبو عليّ وأبو هاشم في مختلفه.

فقال أبو هاشم : إنّه غير متضادّ ؛ لاجتماع الميلين في الحجر الصاعد قسرا أو في الحلقة التي يتجاذبها إنسانان (4).

وقال أبو عليّ : إنّه متضادّ. كذا حكي (5).

والحقّ مع الشيخ ؛ فإنّ الاجتماع ليس من جهة واحدة.

قال : ( ومنه الثقل ، وآخرون جعلوه مغايرا ).

أقول : من أجناس الاعتماد عند أبي هاشم الثقل ، وهو الاعتماد اللازم الموجب

ص: 395


1- في نسخة أخرى : « عدد » كما أشار المصنّف لذلك في الحاشية.
2- انظر : « مناهج اليقين » : 70 ؛ « شرح المواقف » 5 : 193 و 215 - 216 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 238.
3- « مناهج اليقين » : 70 ؛ « شرح المواقف » 5 : 199 - 200 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 240 - 241.
4- « مناهج اليقين » : 70 - 71 ؛ « شرح المواقف » 5 : 215 - 218 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 241.
5- « مناهج اليقين » : 70 - 71 ؛ « شرح المواقف » 5 : 215 - 218 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 241.

للحركة سفلا (1).

وقال أبو عليّ : إنّ الثقل راجع إلى تزايد أجزاء الجسم ، فجعله مغايرا لجنس الاعتماد (2).

وهو خطأ ؛ لأنّ تزايد الأجزاء الحقيقيّة حاصل في الخفيف ولا ثقل له.

قال : ( ومنه لازم ومفارق ).

أقول : ذهب المتكلّمون إلى أنّ الاعتماد منه ما هو لازم - وهو اعتماد الخفيف نحو الفرق والثقيل نحو السفل - ومنه ما هو مفارق ، وهو ميل الخفيف إلى السفل والثقيل إلى العلو (3).

قال : ( ويفتقر إلى محلّ لا غير ).

أقول : لمّا كان الاعتماد عرضا وكان كلّ عرض مفتقرا إلى محلّ ، كان الاعتماد مفتقرا إلى المحلّ ، ولمّا امتنع حلول عرض في محلّين كان الاعتماد كذلك ، فلأجل هذا قال : « إنّه يفتقر إلى محلّ لا غير » بمعنى أنّه يفتقر إلى محلّ واحد لا أزيد ؛ لأنّه متقوّم بالغير ، وبعد التقوّم يمتنع تحصيل الحاصل ، فيندفع ما حكي (4) عن بعض المتكلّمين من أنّه طعن في كلّيّة الحكمين (5).

قال : ( وهو مقدور لنا ).

أقول : ذهب المتكلّمون إلى أن الاعتماد مقدور لنا (6).

والظاهر أنّ المراد الميل النفساني الإرادي ؛ لأنّه يقع بحسب دواعينا وينتفي بحسب صوارفنا ، فيكون صادرا عنّا.

ص: 396


1- « مناهج اليقين » : 71.
2- « مناهج اليقين » : 71.
3- « شرح المواقف » 5 : 216 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 242.
4- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 216.
5- انظر : « نقد المحصّل » : 227 ؛ « مناهج اليقين » : 72 ؛ « نهاية المرام » 1 : 295 ؛ « شرح المواقف » 5 : 53 - 55 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 150 - 152.
6- نسبه في « شوارق الإلهام » 2 : 401 إلى المعتزلة.

قال : ( وتتولّد عنه أشياء بعضها لذاته من غير شرط ، وبعضها بشرط ، وبعضها لا لذاته ).

أقول : قسّم المتكلّمون الاعتماد بالنسبة إلى ما يتولّد عنه إلى أقسام ثلاثة (1) :

أحدها : ما يتولّد عنه لذاته من غير حاجة إلى شرط - وإن كان قد يحتاج إليه أحيانا - وهو الأكوان ، يعني الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ؛ فإنّها متولّدة عن الميل بلا واسطة ولا بشرط ؛ لأنّ تحرّك الجسم مختصّ بجهة دون أخرى حال حركته ، فلا بدّ من مخصّص لتلك الجهة ، وهو الاعتماد.

وثانيها : ما يتولّد عنه بشرط ولا يصحّ بدونه وهو الأصوات ، فإنّها تتولّد عنه بشرط المصاكّة ؛ لأنّ الصدى موجود في غير محلّ القدرة ، وما يتعدّى محلّ القدرة لا يولّده الاعتماد ، وإن كان ما يتعدّى محلّ القدرة يتولّد عن الاعتماد فيما يحلّ محلّها.

وثالثها : ما يتولّد عنه لا بنفسه بل بتوسّط غيره وهو الألم ؛ فإنّ الاعتماد يولّد التفريق ، والتفريق يولّد الألم.

المسألة السادسة : في البحث عن المبصرات.

قال : ( ومنها أوائل المبصرات وهي اللون والضوء ).

أقول : من الكيفيّات المحسوسة المبصرات.

وقد نبّه بقوله : « أوائل المبصرات » على أنّ من المبصرات ما يتناوله الحسّ البصري أوّلا وبالذات ، وهو ما ذكره هنا من اللون والضوء ، فلا بدّ من جعل إفراد الضمير وتذكيره باعتبار « البعض » المستفاد من كلمة « من » أو « ما يدرك أوّلا ».

ومنها : ما يتناوله بواسطته كغيرهما من المرئيّات ؛ فإنّ البصر إنّما يدركها بواسطة هذين. وهذا كما قال سابقا : « ومنها : أوائل الملموسات » فإنّ فيه تنبيها على أنّ هناك

ص: 397


1- ذكر العلاّمة الحلّي هذه الأقسام الثلاثة في « مناهج اليقين » : 71 - 72 ، وأمّا في « شرح المواقف » 5 : 225 - 228 و « شرح المقاصد » 2 : 242 - 244 فالمذكور هو القسم الأوّل فقط.

كيفيّات تدرك باللمس بواسطة غيرها.

قال : ( ولكلّ منهما طرفان ).

أقول : لكلّ واحد من اللون والضوء طرفان ، ففي اللون السواد والبياض ، وفي الضوء النور الخارق والظلمة ، وما عدا هذه فإنّها متوسّطة ، كالحمرة والخضرة والصفرة والغبرة وغيرها من الألوان ، وكالظلّ وشبهه من الأضواء.

قال : ( وللأوّل حقيقة ).

أقول : ذهب بعض القاصرين إلى أن الألوان لا حقيقة لها (1) ؛ فإنّ البياض إنّما يتخيّل عن مخالطة الهواء المضيء للأجسام الشفّافة المنقسمة إلى الأجزاء الصغار كما في زبد الماء والثلج ، والسواد إنّما يتخيّل لعدم غور الهواء والضوء في عمق الجسم ، وباقي الألوان يتخيّل بسبب اختلاف الشفيف وتفاوت مخالطة الهواء.

ويستفاد ممّا حكي (2) عن الشيخ أنّ البياض قد يكون ظاهرا باختلاط الهواء ، وقد يحدث من غير هذا الوجه ، كما في الجصّ فإنّه يبيضّ بالطبخ بالنار ، ولا يبيضّ بالسحق مع أنّ تفرّق الأجزاء ومداخلة الهواء فيه أظهر (3).

والحقّ أنّه كيفيّة حقيقيّة قائمة بالجسم في الخارج ؛ لأنّه محسوس ، كما في بياض البيض المسلوق ، فإنّه ليس لنفوذ الهواء فيه ؛ لزيادة ثقله بعد الطبخ الدالّة على خروج الهواء.

وبالجملة ، فالأمور المحسوسة غنيّة عن البرهان.

قال : ( وطرفاه السواد والبياض المتضادّان ).

أقول : يعني طرفا اللون السواد والبياض ، وقيّدهما بالمتضادّين ؛ لأنّ الضدّين

ص: 398


1- راجع « الشفاء » 2 : 95 ، الفصل الرابع من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 406 - 407 ؛ « نهاية المرام في علم الكلام » 1 : 532 - 533 ؛ « شرح المواقف » 5 : 234 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 2 : 256 - 259.
2- حكاه عنه الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » 1 : 407 والعلاّمة في « نهاية المرام » 1 : 523.
3- انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 256 ، الفصل الأوّل من المقالة الثانية و 2 : 100 ، الفصل الرابع من المقالة الثالثة.

هما اللّذان بينهما غاية التباعد ، ولا يحصل كون اللون طرفا إلاّ بها ، فلأجل ذلك ذكر هذا القيد في بيان الطرفين.

وهذا تنبيه على أنّ ما عداهما متوسّط بينهما وليس نوعا قائما بانفراده ، كما ذهب إليه بعض من أنّ الألوان الحقيقيّة خمسة : السواد ، والبياض ، والحمرة ، والصفرة ، والخضرة (1).

ونبّه بقوله : « المتضادّان » على امتناع اجتماعهما ، خلافا لبعض الناس ؛ حيث ذهب إلى أنّهما يجتمعان ، كما في الغبرة (2).

وهو خطأ ؛ لاقتضاء الاجتماع البقاء المستلزم لرؤية الجسم في غاية البياض مثلا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بحدوث لون آخر متوسّط من التركيب (3).

وفيه : أنّ الوجدان شاهد على وجود الجسم ابتداء مع لون الغبرة من غير وجود بياض وسواد حتّى يتصوّر الاجتماع.

قال : ( ويتوقّف على الثاني في الإدراك لا الوجود ).

أقول : ذهب أبو عليّ بن سينا - على ما حكي (4) - إلى أنّ الضوء شرط وجود اللون (5) ، فالأجسام الملوّنة حال الظلمة تعدم عنها ألوانها ؛ لأنّا لا نراها في الظلمة ، فإمّا أن يكون لعدمها - وهو المراد - أو لحصول المانع ، وهو ما يقال : إنّ الظلمة كيفيّة قائمة بالمظلم مانعة عن الإبصار - وهو باطل ، وإلاّ لمنع من هو بعيد عن النار عن

ص: 399


1- انظر : « المحصّل » : 232 وقد نسبه إلى المعتزلة ؛ « نهاية المرام » 1 : 539 ؛ « شرح المواقف » 5 : 242 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 260.
2- هو الكعبي كما في « نهاية المرام » 1 : 539 ، ولمزيد الاطّلاع راجع « شرح تجريد العقائد » : 238 - 239.
3- قال به الكعبي أيضا على ما في « نهاية المرام » 1 : 539.
4- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 218 ؛ « نهاية المرام » 1 : 541.
5- انظر : « الشفاء » 2 : 80 - 82 و 88 - 89 ، الفصل الأوّل من المقالة الثالثة ، وبه قال بهمنيار في « التحصيل » : 690 و 758 وكذا ابن الهيثم على ما في « شرح المواقف » 5 : 243.

مشاهدة القريب منها ليلا ، وليس كذلك.

وهو خطأ ؛ لأنّا نقول : إنّما لم تحصل الرؤية ؛ لعدم الشرط وهو الضوء ، لا لانتفاء المرئيّ في نفسه ، فالحصر ممنوع ؛ فإنّ عدم الرؤية قد يكون لعدم الشرط.

مضافا إلى أنّ الظلمة القائمة بالمرئيّ مانعة لا بالرائي ، كما في المثال الذي ذكره.

وأيضا لو كان الأمر كما ذكره لزم وجود اللون وعدمه في زمان واحد إذا تحقّق ضوء ضعيف يدرك به حديد البصر دون ضعيف البصر.

ونبّه المصنّف رحمه اللّه على ذلك بقوله : « وهو » أي اللون « يتوقّف على الثاني » أي الضوء « في الإدراك لا الوجود ».

قال : ( وهما متغايران حسّا ).

أقول : يريد أنّ اللون والضوء متغايران ، خلافا لقوم غير محقّقين ؛ فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الضوء هو اللون ، قالوا : لأنّ الظهور المطلق هو الضوء ، والخفاء المطلق هو الظلمة ، والمتوسّط بينهما هو الظلّ (1).

والحسّ يدلّ على المغايرة ؛ فإنّ الضوء قائم بالهواء المحيط ، واللون قائم بالمحاط.

وعدم ظهور الضوء الضعيف كضوء القمر في الضوء القويّ كضوء الشمس - مع أنّه لاستهلاكه بالاختلاط - لا يقتضي اتّحاد الضوء واللون ، كما لا يخفى على من له نار أو نور.

قال : ( قابلان للشدّة والضعف ، المتباينان (2) نوعا ).

أقول : كلّ واحد من هذين - أعني اللون والضوء - قابل للشدّة والضعف ، وهو

ص: 400


1- انظر : « الشفاء » الطبيعيات 2 : 83 ، الفصل الثاني والثالث من المقالة الثالثة ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 411 - 414 ؛ « نهاية المرام » 1 : 544 - 548 ؛ « شرح المواقف » 5 : 250 - 253 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 268 - 269 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 239 - 240.
2- كذا في الأصل ، والصحيح : « المتباينين » أو أن تكون لفظة « المتباينان » خبرا لمبتدإ محذوف تقديره « هما ».

ظاهر محسوس ، فإنّ البياض في الثلج أشدّ من البياض في العاج ، وضوء الشمس أشدّ من ضوء القمر.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الشديد في كلّ نوع مخالف للضعيف منه ومباين بالنوع ؛ لكون كلّ منهما موجودا مستقلاّ لا مترتّبا ومتفرّعا على الآخر ، والمميّز جوهريّ لا عرضيّ ، فيكونان نوعين متباينين وإن احتمل كونهما صنفين متباينين أيضا.

وذهب قوم إلى أنّ سبب الشدّة والضعف ليس الاختلاف بالحقيقة ، بل باختلاط بعض أجزاء الشديد بأجزاء الضدّ فيحصل الضعف ، وإن لم يختلط حصلت الشدّة (1).

وقد بيّنّا خطأهم فيما تقدّم.

قال : ( ولو كان الثاني جسما لحصل ضدّ المحسوس ).

أقول : ذهب بعض القاصرين إلى أنّ الضوء جسم صغير ينفصل من المضيء ويتّصل بالمستضيء (2).

وهو غلط ، وسبب غلطه ما يتوهّم من كونه متحرّكا بحركة المضيء.

وإنّما كان ذلك باطلا ؛ لأنّ الحسّ يحكم بافتقاره إلى موضوع يحلّ فيه ، ولا يمكنه تجريده عن محلّ يقوم به ، فلو كان جسما لحصل ضدّ هذا الحكم المحسوس ، وهو قيامه بنفسه واستغناؤه عن موضوع يحلّ فيه مع أنّ الضوء يتحرّك بتبعيّة المضيء لا بالذات ، أو يحدث في المستضيء بمقابلة المضيء.

ويحتمل أن يكون معنى قوله : « لحصل ضدّ المحسوس » أنّ الضوء إذا أشرق على الجسم ، ظهر ، وكلّما ازداد إشراقه زاد ظهوره في الحسّ ، فلو كان جسما لكان ساترا لما يشرق عليه ، فكان يحصل الاستتار الذي هو ضدّ المحسوس ، أعني

ص: 401


1- انظر : « نهاية المرام » 1 : 540 - 541 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 251 - 255 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 240 - 241 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 407 - 408.
2- راجع النفس من « الشفاء » الفصل الثاني من المقالة الثالثة 2 : 83 ؛ « المباحث المشرقيّة 1 : 409 - 411 ؛ « نهاية المرام » : 548 - 551 ؛ « شرح المواقف » 5 : 247 - 250 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 266 - 267.

الانكشاف ، ويكون كلّما ازداد إشراقه ازداد ستره ، ولكنّ الحسّ يشهد بضدّ ذلك.

أو نقول : إنّ الحسّ يشهد بسرعة ظهور ما يشرق عليه الضوء ؛ فإنّ الشمس إذا طلعت على وجه الأرض أشرقت دفعة ، ولو كان الضوء جسما ، افتقر إلى زمان يقطع هذه المسافة الطويلة ، وكان يحصل ضدّ السرعة المحسوسة ، فهذه الاحتمالات كلّها صالحة لتفسير قوله : « لحصل ضدّ المحسوس ».

قال : ( بل هو عرض قائم بالمحلّ معدّ لحصول مثله في المقابل ).

أقول : لمّا أبطل كونه جسما ثبت كونه عرضا قائما بالمحلّ ؛ لأنّ العرض لا يقوم بنفسه ، وإذا قام بالمحلّ حصل منه استعداد للجسم المقابل ؛ لتكيّفه بمثل كيفيّته ، كما في الأجسام النّيرة الحاصل منها النور في المقابل.

قال : ( وهو ذاتيّ وعرضيّ ، أوّل وثان ).

أقول : الضوء ، منه ذاتيّ وهو القائم بالمضيء لذاته كما للشمس ، ويسمّى ضياء ، وقد يخصّ اسم الضوء به. ومنه عرضيّ وهو القائم بالمضيء بالغير كما للقمر ، ويسمّى نورا.

والعرضيّ قسمان : ضوء أوّل حاصل من مقابلة المضيء لذاته كضوء القمر ، وضوء ثان حاصل من مقابلة المضيء بالغير كالأرض قبل طلوع الشمس.

قال : ( والظلمة عدم ملكة ).

أقول : الظلمة عدم الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئا (1) ، ومثل هذا العدم المقيّد بموضوع خاصّ يسمّى عدم ملكة.

وليست الظلمة كيفيّة وجوديّة قائمة بالمظلم ، كما ذهب إليه من لا تحقيق له (2) ؛

ص: 402


1- انظر : « الشفاء » 2 : 81 كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 417 ؛ « نهاية المرام » 1 : 556 - 559 ؛ « شرح المواقف » 5 : 244 - 246 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 261 - 263.
2- نسبه في « نهاية المرام » 1 : 556 إلى جماعة من الأشاعرة ، وفي « شرح المقاصد » 2 : 263 و « شرح تجريد العقائد » 242 و « شوارق الإلهام » 409 إلى البعض.

لأنّ المبصر لا يجد فرقا بين حالتيه عند فتح العين في الظلمة وبين تغميضها في عدم الإدراك ، فلو كانت كيفيّة وجوديّة لحصل الفرق.

وفي هذا نظر ؛ فإنّه يدلّ على انتفاء كونها كيفيّة وجوديّة مدركة ، لا على أنّها وجوديّة مطلقة ، كما هو ظاهر قوله تعالى : ( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) (1) و ( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً ) (2) ونحو ذلك ؛ فإنّ المجعول لا يكون إلاّ موجودا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العدم الصرف غير مجعول ، والعدم الخاصّ مجعول ، كما هو ظاهر قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) (3) فالوجدان والقرآن شاهدان مقبولان.

المسألة السابعة : في البحث عن المسموعات.

قال : ( ومنها المسموعات ، وهي الأصوات الحاصلة من التموّج المعلول للقرع والقلع ).

أقول : من الكيفيّات المحسوسة الأصوات ، وهي المدركة بالسمع.

واعلم أنّ الصوت عرض قائم بالمحلّ.

وقد ذهب قوم غير محقّقين - على ما حكي (4) - إلى أنّ الصوت جوهر ينقطع بالحركة.

وهو خطأ ؛ لأنّ الجوهر يدرك باللمس والبصر ، والصوت ليس كذلك ، مع أنّ استلزام ما ذكر النقص بل الاضمحلال في محلّ الصوت بالانقطاع الجوهري ، وليس كذلك.

ص: 403


1- الأنعام (6) : 1.
2- الفرقان (25) : 47.
3- يس (36) : 37.
4- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » 221 ونسبه في « نهاية المرام » 1 : 560 إلى إبراهيم النظّام.

وذهب آخرون إلى أنّه عبارة عن التموّج الحاصل في الهواء من القلع والقرع (1).

وآخرون قالوا : إنّه القرع والقلع (2).

وهذان المذهبان أيضا باطلان ، وسبب غلطهم أخذ سبب الشيء مكانه ؛ فإنّ الصوت معلول للتموّج المعلول للقلع أو القرع ، فليس هو أحدهما ؛ لأنّا ندركه بحسّ البصر لا بالسمع ، فهما خلاف الصوت.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ القلع أو القرع إذا حصل حدث صراخ بين القارع والمقروع في الهواء ، وهي كيفيّة تحدث في الهواء فتموّج ذلك الهواء وانتقل ذلك التموّج إلى سطح الصماخ فأدرك الصوت.

ولا نعني بذلك أنّ تموّجا واحدا انتقل بعينه إلى الصماخ ، بل يحصل تموّج بعد تموّج عن صدم بعد آخر ، كما في تموّج الماء إلى أن يصل إلى الحسّ.

قال : ( بشرط المقاومة ).

أقول : القرع إنّما يحصل معه الصوت إذا حصلت المقاومة بين القارع والمقروع ؛ فإنّك إذا ضربت خشبة على وجه الماء بحيث تحصل المقاومة ، فإنّه يحدث الصوت ، ولو وضعتها عليه بسهولة لم يحصل الشرط.

ولا تشترط الصلابة ؛ لحصول الصوت من الماء والهواء ولا صلابة هناك.

وكذا حكم القلع ؛ لحصول الصوت في قلع الكرباس دون القطن.

ويشهد على ذلك الاستقراء الناقص المفيد للقطع بضميمة الحدس وإن لم يكن بالذات إلاّ كونه مفيدا للظنّ ، كما في مشاهدة خروج البول والغائط من الأسفل في بعض الحيوان والإنسان ، فإنّها بضميمة الحدس تفيد القطع بأنّ المخرج الطبيعي هو الأسفل.

قال : ( في الخارج ).

ص: 404


1- « المباحث المشرقيّة » 1 : 420 ؛ « نهاية المرام » 1 : 560 - 561 ؛ « شرح المواقف » 3 : 273 ، ولمزيد معرفة الأقوال في هذه المسألة انظر : « الشفاء » 2 : 70 - 76 ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من كتاب النفس.
2- « المباحث المشرقيّة » 1 : 420 ؛ « نهاية المرام » 1 : 560 - 561 ؛ « شرح المواقف » 3 : 273 ، ولمزيد معرفة الأقوال في هذه المسألة انظر : « الشفاء » 2 : 70 - 76 ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من كتاب النفس.

أقول : ذهب قوم (1) إلى أنّ الصوت ليس بحاصل في الخارج ، بل إنّما يحصل عند الصماخ ، وهو ما إذا تموّج الهواء وانتهى التموّج إلى أن قرع سطح الصماخ فيحصل الصوت.

وهو خطأ ، بل هو حاصل في الخارج ، وإلاّ لم يدرك الجهة ولا البعد كما في اللمس حيث كان إدراكه بالملاقاة.

ولا يمكن أن يقال (2) : إنّ إدراك الجهة إنّما كان لأنّ القرع توجّه من تلك الجهة ، وإدراك البعد لأنّ ضعف الصوت أو قوّته يدلّ على القرب أو البعد.

لأنّا لو سددنا الأذن اليسرى لأدركنا باليمنى جهة الصوت الحاصل من جهة اليسرى ، والضعف لو كان للبعد لم يفرق بين القويّ البعيد والضعيف القريب.

قال : ( ويستحيل بقاؤه لوجوب إدراك الهيئة الصوريّة ).

أقول : الصوت غير قارّ الأجزاء ، ويستحيل عليه البقاء ، بل توجد أجزاؤه على سبيل التجدّد والتقضّي ، كما في الحركة والزمان ، خلافا للكراميّة (3).

والدليل عليه أنّا إذا سمعنا لفظة « زيد » أدركنا الهيئة الصوريّة ، أعني ترتيب الحروف وتقدّم بعضها على بعض.

ولو كانت أجزاء الحروف باقية لم يكن إدراك هذا الترتيب أولى من باقي الترتيبات الخمسة [ التي ] يقال لها التقليبات.

واعترض (4) عليه بأنّ حدوث حروف « زيد » - مثلا - ابتداء على هذه الهيئة المخصوصة دون غيرها يرجّح بقاءها وإدراكها ، فهي أولى.

ص: 405


1- انظر : « الشفاء » 2 : 72 وما بعدها ؛ « نهاية المرام » 1 : 570 - 572 ؛ « شرح المواقف » 5 : 263 - 267 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 273 - 274.
2- أورد الإشكال وجوابه الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » 1 : 421. وانظر : « نهاية المرام » 1 :2. 571 ؛ « شرح المواقف » 5 : 266 - 267 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 274 - 275.
3- انظر : « نهاية المرام » 1 : 569 ؛ « كشف المراد » : 222 ؛ « شوارق الإلهام » : 412.
4- راجع « نهاية المرام » 1 : 569 - 570 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 245.

فالأولى التمسّك بالبداهة ، لبداهة عدم البقاء في الخارج والحسّ. والترتّب في السماع بالنسبة إلى البعيد والقريب من جهة احتياج حدوث صوت آخر للبعيد إلى تموّج زائد موجب لحدوث مثل مسموع القريب لا عينه بشخصه.

قال : ( ويحصل منه آخر ).

أقول : الصوت - كما مرّ - إنّما يحصل باعتبار التموّج في الهواء الواصل إلى سطح الصماخ ، وقد بيّنّا وجوده في الخارج ، فإذا تأدّى التموّج إلى جسم كثيف مقاوم لذلك التموّج كالجبل والجدار ردّه فيحصل منه تموّج آخر ، وحصل من ذلك التموّج الآخر صوت آخر ، وهو الصدى.

قال : ( وتعرض له كيفيّة مميّزة يسمّى باعتبارها حرفا ).

أقول : قد تعرض للصوت كيفيّة يتميّز بها عن صوت آخر مثله تميّزا في المسموع ، ويسمّى الصوت باعتبار تلك الكيفيّة - أو مجموع العارض والمعروض ، لا نفس الكيفيّة كما عن الشيخ (1) - حرفا ، وهي حروف التهجّي الحاصلة عند خروج الصوت من مقطع الفم ؛ ولهذا زدنا كلمة « قد ».

وحصرها غير معلوم بالبرهان.

قال : ( إمّا مصوّت أو صامت ، متماثل أو مختلف بالذات أو بالعرض ).

أقول : ينقسم الحرف إلى قسمين : مصوّت وصامت.

فالمصوّت هو حرف المدّ - أعني الواو والألف والياء - إذا كانت ساكنة ، وكانت حركة ما قبلها من جنسها واتّصلت بالهمزة أو السكون ؛ فإنّها لامتدادها كأنّها مصوّتة مولّدة للصوت. وإمّا صامت وهو ما عداها.

والصامت إمّا متماثل لا اختلاف بينهما لا بالذات ولا بالعوارض المسمّاة بالحركة والسكون ، كالباءين الساكنتين أو المتحرّكتين بنوع واحد من الحركات ،

ص: 406


1- راجع « نهاية المرام » 1 : 575 ؛ « شرح المواقف » 5 : 268 - 269 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 279 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 245 ؛ « شوارق الإلهام : 413.

أو مختلف. والمختلف إمّا بالذات كالجيم والخاء ، أو بالعرض كالجيمين إذا كان أحد الجيمين - مثلا - ساكنا والآخر متحرّكا ، أو يكون أحدهما متحرّكا بحركة والآخر بضدّها.

والظاهر جريان القسمة الأخيرة في مطلق الحروف من غير اختصاص بالصامت وإن كان ظاهر العبارة.

قال : ( وينتظم منها الكلام بأقسامه ).

أقول : هذه الحروف المسموعة إذا تألّفت تأليفا مخصوصا - أي بحسب الوضع - كانت كلاما. فحدّ الكلام - على هذا - هو ما انتظم من الحروف المسموعة ، ويدخل فيه المفرد وهو الكلمة الواحدة ، والمؤلّف التامّ. وهو المحتمل للصدق والكذب وغير المحتمل لهما من الأمر والنهي والاستفهام والتعجّب والنداء ، وغير التامّ التقييديّ وغيره.

وإلى هذا أشار بقوله : « بأقسامه ».

قال : ( ولا يعقل غيره ).

أقول : يريد أنّ الكلام إنّما هو المنتظم من الحروف المسموعة ، ولا يعقل غيره ، وهو ما أطلق عليه الأشاعرة (1) وأثبتوا معنى آخر سمّوه الكلام النفسانيّ غير المؤلّف من الحروف والأصوات ، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يدلّ هذا الكلام عليه. وهو مغاير للإرادة ؛ لأنّ الإنسان قد يأمر بما لا يريد ؛ إظهارا لتمرّد العبد عن السلطان ، فيحصل عذر في ضربه. ومغاير لتخيّل الحروف ؛ لأنّ تخيّلها تابع لها ويختلف باختلافها ، وهذا المعنى لا يختلف ، وظاهر أنّه مغاير للحياة والقدرة وغيرهما من الأعراض.

والمعتزلة بالغوا في إنكار هذا المعنى (2) ، وادّعوا الضرورة في نفيه ، وقالوا : إذا صدر

ص: 407


1- راجع « المحصّل » 403 - 408 ؛ « شرح المواقف » 8 : 94 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 4 : 144 وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : 245 - 246.
2- انظر : « المغني » 7 : 14 للقاضي عبد الجبّار.

من المتكلّم خبر ، فهناك ثلاثة أشياء : العبارة الصادرة عنه ، وعلمه بثبوت النسبة أو انتفائها ، ونفس ثبوت تلك النسبة وانتفائها في الواقع ؛ والأخيران ليسا كلاما حقيقيّا اتّفاقا ، فتعيّن الأوّل. وإذا صدر عنه أمر أو نهي فهناك شيئان : أحدهما : لفظ صادر عنه. والثاني : إرادة أو كراهة قائمة بنفسه متعلّقة بالمأمور به أو المنهيّ عنه ، وليست الإرادة والكراهة أيضا كلاما حقيقيّا اتّفاقا ، فتعيّن اللفظ. وقس على ذلك سائر أقسام الكلام.

ومدلول الكلام اللفظي الذي يسمّيه الأشاعرة كلاما نفسيّا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر ، والكراهة في النهي ، وهي غير الكلام بالضرورة.

ولا فرق في ذلك بين كلامنا وكلام اللّه عندنا وعند المعتزلة (1) ، خلافا للأشاعرة.

بيان ذلك : أنّ الأشاعرة (2) قالوا : إنّ الكلام على قسمين :

لفظيّ مؤلّف من هذه الحروف.

ونفسي وهو المعنى القائم بالنفس الذي هو مدلول الكلام اللفظي ، كما قال الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقالوا : إنّ كلام اللّه صفة له ، فليس من جنس الأصوات والحروف ، بل هو معنى قائم بذاته تعالى يسمّى الكلام النفسيّ ، وهو مدلول الكلام اللفظي ، وهو قديم.

وردّ (3) : بأنّه خلاف الضرورة الحاكمة بأنّ المنتظم من الحروف المسموعة ، المفتتح

ص: 408


1- راجع « النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر » : 16 - 18 ؛ « مفتاح الباب الحادي عشر » : 121 - 128 ؛ « إحقاق الحقّ » 1 : 302 وما بعدها ؛ « دلائل الصدق » 1 : 255 ؛ « المغني » 7 : 84 ؛ « شرح الأصول الخمسة » 528 ؛ « المحصّل » : 403 - 404 ؛ « شرح المواقف » 8 : 9 وما بعدها ؛ « شرح تجريد العقائد » : 316.
2- « المحصّل » : 403 - 408 ؛ « شرح المواقف » 8 : 91 - 97 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 143 و 147 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 316 ؛ « إحقاق الحقّ » 1 : 204 - 206.
3- هذا الردّ هو أحد الوجوه الذي تمسّك به المعتزلة في المقام ، انظر : « شرح المقاصد » 6 : 151 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 316.

بالتحميد ، المختتم بالاستعاذة قرآن ، ولهذا قال صاحب المواقف - على ما حكي (1) عنه - : إنّ لفظ « المعنى » يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على الأمر القائم بالغير ، فالشيخ الأشعري لمّا قال : الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده ، وهو القديم عنده ، وأمّا العبارات فإنّما تسمّى كلاما مجازا ؛ لدلالتها على ما هو كلام حقيقة ، ولزم مفاسد كثيرة : كعدم كون القرآن معجزة ، فوجب حمل كلامه على ما يعمّ اللفظ والمعنى ، وهو الأمر القائم بذات اللّه تعالى لفظا كان أو معنى ، وأنّ ترتّب الحروف في التلفّظ حادث والملفوظ قديم (2).

وردّ (3) : بأنّه أمر خارج عن طور العقل ؛ ولهذا قال المصنّف رحمه اللّه : « لا يعقل غيره ».

والإنصاف أنّ النزاع ناشئ عن عدم الفرق بين معاني الكلام ؛ فإنّ الكلام بمعنى القدرة على إيجاد ما يدلّ على المراد صفة له تعالى قديم بل عين ذاته ، وبمعنى إيجاد ما يدلّ على المراد صفة له تعالى في مقام الفعل ، وهو حادث بعد المشيئة. وبمعنى المتكلّم به ، معلول له تعالى ، ومجعول بجعله ومخلوق كسائر خلقه ، وهو أيضا حادث اسمه القرآن مثلا ، وبه وقع التحدّي والمعارضة ، وهو من المعجزات الباقية ، والموصوف بكونه ذكرا (4) عربيّا (5) مقروءا (6) محفوظا (7) ونحو ذلك من الصفات الثابتة للقرآن بالضرورة. وحينئذ يصير النزاع هاهنا لفظيّا.

ص: 409


1- حكاه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 319.
2- نقله الجرجاني عن صاحب المواقف من مقالته المفردة في تحقيق كلام اللّه تعالى. انظر : « شرح المواقف » 8 :2. 104.
3- الرادّ هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 319.
4- كقوله تعالى في سورة آل عمران ، الآية 58 : ( ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) .
5- كقوله تعالى في سورة يوسف ، الآية 2 : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
6- كقوله تعالى في سورة المزمّل ، الآية 20 : ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .
7- كقوله تعالى في سورة الحجر ، الآية 9 : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

المسألة الثامنة : في البحث عن المطعومات.

قال : ( ومنها المطعومات التسعة الحادثة من تفاعل الثلاثة (1) في مثلها (2) ).

أقول : المشهور عند الأوائل (3) أنّ الجسم إن كان عديم الطعم فهو التفه. وتعدّ التفاهة من الطعوم التسعة ، وإن كان ذا طعم لم ينفكّ عن أحد الطعوم الثمانية ، وهي : الحلاوة والحموضة والملوحة والحرافة والمرارة والعفوصة والقبض والدسومة.

وهذه الطعوم التسعة تحصل من تفاعل ثلاث كيفيّات - وهي : الحرارة والبرودة والكيفيّة المعتدلة - في مثلها في العدد - أعني ثلاث كيفيّات - لا مثلها في الحقيقة ، وهي الكثافة واللطافة والكيفيّة المعتدلة. فإنّ الحارّ إن فعل في الكثيف حدثت المرارة ، وفي اللطيف الحرافة ، وفي المعتدل الملوحة. والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة ، وفي اللطيف الحموضة ، وفي المعتدل القبض. والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدسومة ، وفي الكثيف الحلاوة ، وفي المعتدل التفاهة.

وهي على قسمين : أحدهما : أن لا يكون له طعم أصلا بحسب الواقع ، والتفه بهذا المعنى يسمّى مسخا.

والثاني : أن يكون له طعم غير مدرك بالحسّ ؛ لشدّة الالتحام بين أجزائه بحيث لا يتحلّل منه شيء يخالط اللسان ، فلا يحسّ بطعمه إلاّ إذا احتيل في تحليل أجزائه وتلطيفها كالنحاس والحديد ، وهذا هو المعدود في الطعوم دون الأوّل.

المسألة التاسعة : في البحث عن المشمومات.

قال : ( ومنها المشمومات ، ولا أسماء لأنواعها إلاّ من حيث المخالفة والموافقة ).

ص: 410


1- أي الحرارة والبرودة والكيفيّة المتوسّطة بينهما. ( منه رحمه اللّه ).
2- أي الكثيف واللطيف والمعتدل. ( منه رحمه اللّه ).
3- انظر : « الشفاء » 2 : 65 كتاب النفس ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 424 ؛ « نهاية المرام » 1 : 588 ؛ « شرح المواقف » 5 : 282 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 287.

أقول : من أنواع الكيفيّات المحسوسة الروائح المدركة بحاسّة الشمّ ، ولم يوضع لأنواعها أسماء مختصّة بها كما وضعوا لغيرها من الأعراض ، بل ميّزوا بينها من حيث إضافتها إلى الطبائع أو إلى المحلّ كرائحة المسك والجيفة ، فيقال : رائحة طيّبة ، ورائحة منتنة ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، أو يقال : رائحة الورد والجيفة أو نحو ذلك.

المسألة العاشرة : في البحث عن الكيفيّات الاستعداديّة.

قال : ( والاستعدادات المتوسّطة بين طرفي النقيض ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكيفيّات المحسوسة ، شرع في القسم الثاني من أقسام الكيف ، الأربعة ، وهي الكيفيّات الاستعدادية ، وهي ما يترجّح به القابل في أحد جانبي قبوله ، وهي متوسّطة بين طرفي النقيض : الوجود والعدم ؛ وذلك لأنّ الرجحان لا يزال يتزايد في أحد طرفي الوجود والعدم إلى أن ينتهي إليهما ، فذلك الرجحان القابل للشدّة والضعف المتوسّط بين طرفي الوجود والعدم هو الكيف الاستعدادي ، وطرفاه الوجود والعدم.

وهذا الرجحان إن كان نحو الفعل فهو القوّة. وإن كان نحو الانفعال فهو اللاقوّة.

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الكيفيّات النفسانيّة.

قال : ( الكيفيّات النفسانيّة حال أو ملكة ).

أقول : هذا هو القسم الثالث من أقسام الكيف ، وهو الكيفيات النفسانيّة.

ونعني بها المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة بالنسبة إلى النبات والجماد ، فلا ينافي وجوده في الواجب تعالى مثلا.

وهي إمّا أن تكون سريعة الزوال ، وتسمّى حالا لسرعة زوالها ، أو بطيئة الزوال ، وتسمّى ملكة.

ص: 411

وقد يقال : إنّ الكيفيّة النفسانيّة إن كانت راسخة سمّيت ملكة ، وإن كانت غير راسخة سمّيت حالا.

وهو الأنسب بلفظ الملكة ؛ فإنّه من الملك الذي يناسبه تعذّر الزوال أو تعسّره.

والفرق بينهما ليس بفصول مميّزة ، بل بعوارض خارجيّة ، وربّما كان الشيء حالا ثمّ صار بعينه ملكة.

المسألة الثانية عشرة : في البحث عن العلم بقول مطلق.

قال : ( منها العلم ، وهو إمّا تصوّر أو تصديق جازم مطابق ثابت ).

أقول : من الكيفيّات النفسانيّة العلم ، ولفظ « العلم » يطلق على معان.

منها : الإدراك مطلقا ، تصوّرا كان أو تصديقا.

وبعبارة أخرى : حصول صورة الشيء في الذهن أو قبوله.

ومنها : الصورة الحاصلة في الذهن.

ومنها : التصديق بالمسائل.

ومنها : نفس المسائل.

ومنها : الملكة الحاصلة من تكرّر الإدراكات.

ومنها : منشأ انكشاف الأشياء وسبب ظهور المعلوم للعالم.

وقد يقال : العلم صفة توجب لمحلّها تميّزا لا يحتمل متعلّق ذلك التميّز نقيض ذلك التميز (1).

وبالجملة ، فالعلم بالمعنى الأوّل بل الثاني والأخير أيضا ينقسم إلى التصوّر ، وهو عبارة عن حصول صورة الشيء في الذهن ، وإلى التصديق الجازم المطابق الثابت ، وهو الحكم اليقيني بنسبة أحد المتصوّرين إلى الآخر إيجابا أو سلبا.

ص: 412


1- نسبه الفخر الرازي إلى أكثر المتكلّمين في « المطالب العالية » 3 : 104 ، والجرجاني إلى جماعة من الأشاعرة في « شرح المواقف » 6 : 2.

وإنّما شرط في التصديق الجزم ؛ لأنّ الخالي منه ليس بعلم بهذا المعنى وإن كان يطلق عليه اسم العلم بالمجاز ، وإنّما هو الظن.

وشرطه عند المصنّف رحمه اللّه المطابقة ؛ لأنّ الخالي منها هو الجهل المركّب.

وشرطه الآخر الثبات ؛ لأنّ الخالي منه هو التقليد.

أمّا الجامع لهذه الصفات فهو العلم ، فتأمّل.

قال : ( ولا يحدّ ).

أقول : اختلف العقلاء في العلم.

فقال قوم (1) : إنّه لا يحدّ ؛ لظهوره ؛ فإنّ الكيفيّات الوجدانيّة لظهورها لا يمكن تحديدها ؛ لعدم انفكاكه عن تحديد الشيء بالأخفى ، والعلم منها ، ولأنّ غير العلم إنّما يعلم بالعلم ، ولو علم بغيره لزم الدور.

واعترض (2) عليه : بأنّ معلومية غير العلم إنّما تكون بحصول علم جزئيّ متعلّق بذلك الغير ، لا بمعلوميّته ولا بمعلوميّة حقيقة العلم ، والموقوف على معلوميّة الغير هو معلوميّة حقيقة العلم ، لا حصول العلم الجزئيّ ، فلا يلزم الدور.

وقال آخرون : يحدّ (3).

وقال بعضهم (4) : إنّه اعتقاد أنّ الشيء كذا ، أو لا يكون إلاّ كذا.

وقال آخرون (5) : إنّه اعتقاد يقتضي سكون النفس.

وكلاهما غير مانع.

قال : ( ويقتسمان الضرورة والاكتساب ).

ص: 413


1- انظر : « المحصّل » : 243 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 450 - 453 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 314 ؛ « نهاية المرام » 2 : 6.
2- المعترض هو المحقّق الطوسي في « نقد المحصّل » : 155.
3- راجع « أصول الدين » : 5 - 6 ؛ « شرح المواقف » 6 : 2 ؛ « التعريفات » : 199 / 988.
4- نسبه في « أصول الدين » : 5 إلى الكعبي وأبي عليّ الجبائي ، وفي « مناهج اليقين » : 86 إلى الآخرين.
5- نسبه في « أصول الدين » إلى أبي هاشم ، وفي « مناهج اليقين » إلى الآخرين.

أقول : يريد أنّ كلّ واحد من التصوّر والتصديق ينقسم إلى الضروريّ والمكتسب.

ويريد بالضروريّ من التصوّر ما لا يتوقّف على طلب وكسب ونظر ، ومن التصديق ما يكفي تصوّر طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو سلبا.

وأمّا المكتسب فهو ضدّ ذلك فيهما ؛ فإنّه يتوقّف على النظر ، وهو ترتيب أمور معلومة لتحصيل المجهول.

المسألة الثالثة عشرة : في أنّ العلم يتوقّف على الانطباع.

قال : ( ولا بدّ فيه من الانطباع ).

أقول : اختلف العلماء في ذلك ، فذهب جمهور الأوائل (1) إلى أنّ العلم يستدعي انطباع المعلوم وانتقاش مثاله وشبحه في العالم ، فبشهادة الوجدان بعدم الفرق بين العلم بالموجود والمعدوم يحكم بأنّ العلم مطلقا يجب فيه الانطباع إذا لم يكن المعلوم أو علّته حاضرا عند العالم ولو على وجه المغايرة الاعتباريّة ، ولا يحصل العلم الأقوى من غير انطباع ؛ لأنّ انكشاف الشيء للعالم لأجل حضوره بنفسه أو بعلّته أقوى من حضوره بصورته ، فلا يرد الإشكال في علم الواجب تعالى حتّى بالمعدومات بل الممتنعات (2) ، كما سيأتي إن شاء اللّه.

وأنكره آخرون (3).

احتجّ الأوّلون (4) بأنّا ندرك أشياء لا تحقّق لها في الخارج ، فلو لم تكن منطبعة في الذهن ، كانت عدما صرفا ونفيا محضا ، فيستحيل الإضافة إليها.

ص: 414


1- انظر : « الشفاء » 2 : 50 - 57 ؛ « المباحثات » : 184 / 546 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 308 ؛ « نقد المحصّل » : 156 - 157 ، ونسبه في « شرح المواقف » 6 : 3 إلى الحكماء.
2- أورد القوشجي هذا الاستدلال والجواب عليه في « شرح تجريد العقائد » : 250 - 251.
3- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 442 - 443 ؛ « نهاية المرام » 12 - 33 ؛ « شرح المواقف » 6 : 7.
4- « شرح المواقف » 6 : 3 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 300 ؛ « المحاكمات » في هامش « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 300.

واحتجّ الآخرون (1) بوجهين :

الأوّل : أنّ التعقّل لو كان حصول صورة المعقول في العاقل ، لزم أن يكون الجدار المتّصف بالسواد متعقّلا له ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

الثاني : أنّ الذهن قد يتصوّر أشياء متقدّرة ، فيلزم حلول المقدار فيه فيكون متقدّرا.

والجواب عنه ما سيأتي.

قال : ( في المحلّ المجرّد القابل ).

أقول : هذا إشارة إلى الجواب عن الإشكالين.

وتقريره : أنّ المحلّ الذي جعلنا عاقلا مجرّد عن الموادّ كلّها ؛ لأنّه النفس ، وهي مجرّدة كما مرّ ، والمجرّد لا يتّصف بالمقدار باعتبار حلول صور فيه ؛ فإنّ صورة المقدار لا يلزم أن تكون مقدارا.

وأيضا هذه الصور القائمة بالعاقل حالّة في محلّ قابل لتعقّلها ؛ ولهذا كان عاقلا لها.

أمّا الجسم فليس محلاّ قابلا لتعقّل السواد ، فلا يلزم أن يكون متعقّلا له ، مع أنّ الحصول في الذهن غير الحصول في الشيء.

قال : ( وحلول المثال مغاير ).

أقول : هذا إشارة إلى كيفيّة حصول الصورة في العاقل.

وتقريره : أنّ الحالّ في العاقل إنّما هو مثال المعقول وصورته ، لا ذاته ونفسه ؛ ولهذا جوّزنا حصول صور الأضداد في النفس ، ولم نجوّز حصول الأضداد في محلّ واحد في الخارج.

ص: 415


1- ما ذكره المصنّف هنا من الوجهين هو كلام العلاّمة في « كشف المراد » : 226 ، ولم نعثر على الوجهين بهذا البيان في كتب القوم. انظر : « المحصّل » : 244 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 442 ؛ « نهاية المرام » 2 : 120 ؛ « شرح المواقف » 6 : 7.

واعلم أنّ حلول مثال الشيء وصورته مغاير لحلول ذلك الشيء. ولمّا كان هذا الكلام ممّا يستعان به على حلّ ما تقدّم من الشكوك ذكره عقيبه.

قال : ( ولا يمكن الاتّحاد ).

أقول : ذهب قوم (1) من أوائل الحكماء إلى أنّ التعقّل إنّما يكون باتّحاد صورة المعقول والعاقل.

وهو خطأ فاحش ؛ فإنّ الاتّحاد محال بالبديهة.

ويلزم أيضا المحال من وجه آخر ، وهو اتّحاد الذوات المعقولة.

فلذلك ذهب آخرون (2) إلى أنّ التعقّل يستدعي اتّحاد العاقل بالعقل الفعّال.

وهو خطأ أيضا ؛ لما تقدّم ، ولاستلزامه تعقّل كلّ شيء ثابت فيه عند تعقّل شيء واحد.

قال : ( ويختلف باختلاف المعقول ).

أقول : اختلف الناس هنا ، فذهب قوم (3) إلى جواز تعلّق علم واحد بمعلومين.

ومنعه آخرون (4). وهو الحقّ ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ التعقّل هو حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، وصور الأشياء المختلفة تختلف باختلافها ، فلا يمكن أن تكون صورة واحدة لمختلفتين ، فلا يتعلّق علم واحد باثنين. وإنّما جوّز ذلك من جعل

ص: 416


1- نسبه الشيخ في « الإشارات والتنبيهات » إلى قوم من المشّائين ، منهم فورفوريوس ، انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 292 - 295 ، ولمزيد التوضيح راجع « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 212 - 220 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 446 - 449 ؛ « نهاية المرام » 2 : 36 - 46.
2- منهم الشيخ في كتابه « المبدأ والمعاد » 7 - 10 على ما نسبه إليه الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » 1 : 448 والعلاّمة في « نهاية المرام » 2 : 37 ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ؛ لأنّ الشيخ صنّفه تقريرا لمذهبهم في المبدأ والمعاد. انظر : « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 293 ؛ « شوارق الإلهام » : 417.
3- منهم الجبائي ، انظر : « نقد المحصّل » : 158 ، ونسبه إلى بعض أصحاب الأشاعرة في « شرح المواقف » 6 : 17 و « شرح المقاصد » 2 : 325.
4- منهم أبو الحسن الأشعري وكثير من المعتزلة ، انظر : « أصول الدين » 30 - 31 ؛ « شرح المواقف » 6 : 17 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 325 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 251.

العلم أمرا وراء الصورة.

قال : ( كالحال والاستقبال ).

أقول : هذا إشارة إلى إبطال مذهب جماعة من المعتزلة (1) ، حيث ذهبوا إلى أنّ العلم بالاستقبال علم بالحال عند حصول الاستقبال ، فقالوا : إنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد.

وإنّما دعاهم إلى ذلك ما ثبت من أنّ اللّه تعالى عالم بكلّ معلوم ، فإذا علم أنّ زيدا سيوجد ثمّ وجد ، فإن زال العلم الأوّل وتجدّد علم آخر لزم كونه تعالى محلاّ للحوادث ، وإن لم يزل كان هو المطلوب (2).

وهذا خطأ ؛ فإنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد علم بالعدم الحالي والوجود في ثاني الحال ، والعلم بأنّ الشيء موجود غير مشروط بالعدم الحالي ، بل هو مناف له ، فيستحيل اتّحادهما.

والوجه في حلّ الشبهة المذكورة أنّ علمه تعالى بالمعدومات إنّما يكون في مقام علمه تعالى بذاته علما تامّا ؛ لأنّ ذاته تعالى علّة تامّة للأشياء ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم التامّ بالمعلول ، فالتغيّر يكون في المعلوم لا العلم المتعالي عن الزمان والمكان.

مضافا إلى ما التزمه أبو الحسين هنا من أنّ الزوائل هي التعلّقات - الحاصلة بين العلم والمعلوم - لا العلم نفسه (3).

وسيأتي زيادة تحقيق في هذا الموضع إن شاء اللّه تعالى.

قال : ( ولا يعقل إلاّ مضافا ، فيقوى الإشكال مع الاتّحاد ).

ص: 417


1- نسبه إلى جمهور المشايخ في « مناهج اليقين » : 94 والى أبي هاشم وجماعة في « نهاية المرام » 1 : 237 ، وإلى مشايخ المعتزلة وكثير من الأشاعرة في المواقف وشرحه 8 : 75 وإلى كثير من المعتزلة وأهل السنّة في « شرح المقاصد » 4 : 124.
2- راجع « نهاية المرام » 1 : 235 - 237 ؛ « شرح المواقف » 8 : 74 - 75 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 122 و 124.
3- المنقول عنه خلاف ذلك ، كما في « نهاية المرام » 1 : 237 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 125.

أقول : اعلم أنّ العلم وإن كان من الكيفيّات الحقيقيّة القائمة بالنفس ، إلاّ أنّه لا يعقل إلاّ مضافا إلى الغير ؛ فإنّ العلم علم بالشيء ، ولا يعقل تجرّده عن الإضافة حتّى توهّم بعضهم (1) أنّه نفس الإضافة الحاصلة بين العلم والمعلوم ، ولم يثبت كونه أمرا حقيقيّا مغايرا للإضافة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الإشكال يقوى على الاتّحاد كما قاله المصنّف رحمه اللّه ؛ فإنّ العاقل والمعقول إذا كانا شيئا واحدا - كما إذا عقل الشخص نفسه - يرد الإشكال (2) عليه بأن يقال : أنتم قد جعلتم العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم ، وهذا لا يتصوّر هاهنا ؛ لاستحالة اجتماع الأمثال.

ويقوى الإشكال (3) باعتبار الإضافة ؛ إذ الإضافة لا تعقل إلاّ بين الشيئين ، لا بين الشيء الواحد ونفسه ، فلا يتحقّق علم الشيء بذاته.

والجواب عن الأوّل (4) : أنّ العلم إنّما يستدعي الصورة لو كان العالم عالما بغيره ، أمّا إذا كان عالما بذاته فإنّ ذاته تكفي في علمه من غير احتياج إلى صورة أخرى ؛ لأنّ علمه حينئذ علم حضوري ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم ، لا حضوره عنده حقيقة ، وليس علمه حصوليّا حتّى يحتاج إلى صورة أخرى.

وعن الثاني (5) : أنّ العاقل من حيث إنّه عاقل مغاير له من حيث إنّه معقول ، فأمكن

ص: 418


1- هو الفخر الرازي ، كما في « المحصّل » : 245 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 450 ؛ « شرحي الإشارات » 1 : 133 - 134 ، واختاره في « المطالب العالية » 3 : 104 بعد نسبته إلى جمع عظيم من الحكماء والمتكلّمين.
2- راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 320 - 321 ؛ « نهاية المرام » 2 : 12 - 13 ؛ « كشف المراد » : 228 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 55 ؛ « شرح المواقف » : 15 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 301 - 302 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 252.
3- « مناهج اليقين » : 87 - 88 ؛ « كشف المراد » : 228 ؛ « شرح المواقف » 6 : 16 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 302 ؛ « شرح تجريد العقائد » 252.
4- « كشف المراد » : 228 ، ويعتبر هذا أحد الأجوبة ، وللمزيد انظر : « شرح المواقف » 6 : 15 - 16 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 55 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 302 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 252.
5- « المباحث المشرقيّة » 1 : 450 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 321 ؛ « كشف المراد » : 228 - 229 ؛ « نهاية المرام » 2 : 13 ؛ « مناهج اليقين » :87- 88 ؛ « شرح المواقف » 6 : 16 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 302 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 252.

تحقّق الإضافة ؛ لكفاية التغاير الاعتباري فيها ؛ ولأنّ العالم هو الشخص والمعلوم هو الماهيّة الكلّيّة. كذا أجيب.

واعترض (1) على الجوابين عن الثاني بأنّهما دوريّان.

أمّا الأوّل : فلأنّ المغايرة بين العاقل من حيث إنّه عاقل والمعقول من حيث إنّه معقول متوقّفة على التعقّل ، فلو جعلنا التعقّل متوقّفا على هذا من حيث التغاير دار.

وفيه : أنّ العلم سبب الإضافة لا نفسها ، فلا يلزم الدور.

وأمّا الثاني : فلأنّ العالم هاهنا يكون عالما بجزئه ، وليس البحث فيه ، فتأمّل.

قال : ( وهو عرض لوجود حدّه فيه ).

أقول : ذهب المحقّقون (2) إلى أنّ العلم عرض. وأكثر الناس كذلك في العلم بالعرض. واختلفوا في العلم بالجوهر.

فالذين قالوا : إنّ العلم إضافة بين العالم والمعلوم قالوا : إنّه عرض أيضا (3).

والذين قالوا : إنّ العلم صورة اختلفوا ، فقال بعضهم (4) : إنّه جوهر ؛ لأنّ حدّه صادق عليه ؛ إذ الصورة الذهنيّة ماهيّة إذا وجدت في الأعيان كانت لا في الموضوع ، وهذا معنى الجوهر.

والمحقّقون (5) قالوا : إنّه عرض أيضا ؛ لوجود حدّ العرض فيه ، فإنّه موجود حالّ في النفس ، لا كجزء منها ، بل كقيام باقي الكيفيّات النفسانيّة ، وهذا معنى العرض.

واستدلال القائلين (6) بأنّه جوهر خطأ ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة يمتنع وجودها في

ص: 419


1- المعترض هو العلاّمة على ما في « كشف المراد » : 229 و « مناهج اليقين » : 88.
2- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 458 ؛ « مناهج اليقين » : 89 ؛ « نهاية المرام » 2 : 157 - 158 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 252.
3- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 458 ؛ « مناهج اليقين » : 89 ؛ « نهاية المرام » 2 : 157 - 158 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 252.
4- نسبه في « مناهج اليقين » : 89 إلى قوم من الأوائل.
5- منهم العلاّمة في « مناهج اليقين » : 89.
6- انظر : « مناهج اليقين » : 89 ؛ « نهاية المرام » 2 : 159.

الخارج ، وإنّما الموجود ما هي مثال له.

المسألة الرابعة عشرة : في أقسام العلم.

قال : ( وهو فعليّ وانفعالي وغيرهما ).

أقول : العلم منه ما هو فعليّ ، وهو المحصّل للأشياء الخارجيّة ، الذي يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج ، كعلم واجب الوجود تعالى بمخلوقاته ، وكما إذا تصوّرنا شيئا لم نستفد صورته من الخارج ثمّ أوجدنا في الخارج ما يطابقه.

ومنه انفعاليّ ، وهو المستفاد من الأعيان الخارجيّة ، كعلمنا بالسماء والأرض.

ومنه ما ليس كذلك بأحدهما ، كعلم واجب الوجود تعالى بذاته ، وكما إذا تصوّرنا الأمور المستقبلة التي ليست فعلا لنا.

قال : ( وضروريّ - له أقسام ستّة - ومكتسب ).

أقول : قد تقدّم أنّ العلم إمّا ضروريّ وإمّا كسبيّ ، ومضى تعريفهما.

وأقسام الضروريّ ستّة :

[ الأوّل ] : البديهيّات ، وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته لا بسبب خارجي هو تصوّر طرفيها ، كالحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء وغيره من البديهيّات.

الثاني : المشاهدات ، وهي إمّا مستفادة من الحواسّ الظاهرة كالحكم بحرارة النار ، أو من الحواسّ الباطنة وهي القضايا الاعتباريّة بمشاهدة قوى غير الحسّ الظاهر ، أو بالوجدان من النفس لا باعتبار الآلات مثل شعورنا بذواتنا وبأفعالنا.

الثالث : المجرّبات ، وهي قضايا تحكم بها النفس باعتبار تكرار المشاهدات ، كالحكم بأنّ الضرب بالخشب مؤلم. وتفتقر إلى أمرين : المشاهدة المتكرّرة ، والقياس الخفيّ ، وهو أنّه لو كان الوقوع على سبيل الاتّفاق ، لم يكن دائما ولا أكثريّا.

والفارق بين هذه وبين الاستقراء هذا القياس.

الرابع : الحدسيّات ، وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قويّ يزول معه الشكّ ،

ص: 420

كالحكم باستفادة نور القمر من الشمس. وتفتقر إلى المشاهدة المتكرّرة والقياس الخفيّ.

إلاّ أنّ الفارق بين هذه وبين المجرّبات أنّ السبب في المجرّبات معلوم السببيّة غير معلوم الماهيّة ، وفي الحدسيّات معلوم بالاعتبارين.

الخامس : المتواترات ، وهي قضايا تحكم بها النفس ؛ لتوارد أخبار المخبرين ، والتواطؤ المانع عن احتمال الكذب والخطأ.

السادس : الفطريّات ، وهي قضايا قياساتها معها ، بمعنى أنّه تحكم بها النفس باعتبار وسط لا ينفكّ الذهن عنه.

قال : ( وواجب وممكن ).

أقول : العلم ينقسم إلى واجب وهو علم واجب الوجود بذاته ، وإلى ممكن هو ما عداه.

وإنّما كان الأوّل واجبا ؛ لأنّه نفس ذاته الواجبة.

قال : ( وهو تابع ، بمعنى أصالة موازيه في التطابق ).

أقول : اعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا على كون أفعال العباد اضطراريّة على وجه الجبر : بأنّ اللّه تعالى عالم في الأزل بصدورها عنهم ، فيستحيل انفكاكهم عنها ، وإلاّ يلزم كون علمه تعالى جهلا ، فهي لازمة لهم ، وهم مجبورون عليها كالمنشار للنّجار (1).

وأجاب عنه المعتزلة (2) والإماميّة (3) بأنّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يكون علّة له.

فأورد الأشاعرة (4) بأنّه كيف يجوز أن يكون علمه تعالى تابعا لما هو متأخّر عنه ،

ص: 421


1- هذا أحد الوجوه التي استدلّوا بها في المقام ، انظر : « المطالب العالية » 9 : 46 - 48 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 122 ؛ « إرشاد الطالبين » : 264 - 265 ؛ « شرح المواقف » 8 : 155 ؛ « شرح المقاصد » 4 : 232 - 233 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 254 و 341 - 366.
2- « شرح تجريد العقائد » : 254.
3- « نقد المحصّل » : 328 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 123 ؛ « إرشاد الطالبين » : 267.
4- نقله القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 254.

فإنّه يستلزم الدور؟

فأجاب المعتزلة (1) والإماميّة (2) بأن لا نعني بالتابعيّة التأخّر حتّى يلزم الدور ؛ فإنّ التابع يطلق على ما يكون متأخّرا عن المتبوع ، وعلى ما يكون مستفادا منه ، وهما غير مرادين في قولنا : « العلم تابع للمعلوم » فإنّ العلم قد يتقدّم المعلوم زمانا ، وقد يفيد وجوده كالعلم الفعلي. وإنّما المراد هنا كون العلم والمعلوم متطابقين ، بحيث إذا تصوّرهما العقل حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق ؛ فإنّ العلم تابع له وحكاية له ، فنسبته إليه كنسبة الصورة المنقوشة على الجدار إلى ذات الفرس ، فكما أنّ الفرس أصل للصورة فكذا المعلوم أصل للعلم. ولذا يصحّ أن يقال : إنّما علمت زيدا شرّيرا ؛ لأنّه كان في نفسه شرّيرا ، ولا يصحّ أن يقال : كان زيد في نفسه شرّيرا ؛ لأنّي علمته شريرا. وكذا علمه تعالى في الأزل ؛ لأنّهم كانوا فيما لا يزال كذلك ، لا أنّ الأمر بالعكس.

مضافا إلى أنّه تعالى كما كان عالما بأنّهم يفعلون كذلك ، كان عالما بأنّهم يفعلون بالاختيار ، ولا أقلّ من الاحتمال المنافي للاستدلال ، فلو لم يكونوا مختارين لزم كون علمه تعالى جهلا.

قال : ( فزال الدور ).

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أمران :

أحدهما : أن يقال : قد قسّمتم العلم إلى أقسام من جملتها : الفعلي الذي هو العلّة في وجود المعلول ، وهاهنا جعلتم جنس العلم تابعا فلزمكم الدور ؛ إذ تبعيّة الجنس تستلزم تبعيّة أنواعه.

وتقرير الجواب عن هذا : أن نقول : نعني بتبعيّة العلم ما قرّرناه من كون العلم والمعلوم متطابقين على وجه إذا تصوّرهما العقل ، حكم بأنّ الأصل في هيئة التطابق

ص: 422


1- نقله القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 254.
2- « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 123 - 124 ؛ « مناهج اليقين » : 90 - 91.

هو المعلوم ، وأنّ العلم فرع.

ووجه الخلاص من الدور بهذا التحقيق أنّ العلم الفعلي محصّل للمعلوم في الخارج لا مطلقا.

الثاني : أن يقال : المتبوع يجب أن يتقدّم على التابع بأحد أنواع التقدّم الخمسة ، وهاهنا لا تقدّم لا بالشرف ولا بالوضع ؛ لأنّهما غير معقولين ، فبقي أن يكون التقدّم هنا بالذات أو بالعلّيّة أو بالزمان.

وعلى هذه التقادير الثلاثة يمتنع الحكم بتأخّر المتبوع عن التابع في الزمان ، ولا شكّ أنّ علم اللّه تعالى الأزليّ والعلوم السابقة على الصور الموجودة في الخارج متقدّمة بالزمان ، والمتأخّر عن غيره بالزمان يمتنع أن يكون متقدّما عليه بنوع ما من أنواع التقدّمات بالاعتبار الذي كان به متأخّرا عنه.

والجواب عنه ما تقدّم أيضا من ملاحظة الوجود الخارجي والظلّيّ.

المسألة الخامسة عشرة : في تقديم العلم على الاستعداد.

المسألة الخامسة عشرة : في تقديم (1) العلم على الاستعداد.

قال : ( ولا بدّ فيه من الاستعداد ، أمّا الضروري فبالحواسّ ، وأمّا الكسبي فبالأوّل ).

أقول : قد بيّنّا أنّ العلم إمّا ضروريّ وإمّا كسبي ، وكلاهما حصل بعد عدمه ؛ إذ الفطرة البشريّة خلقت أوّلا عارية من العلوم ، ثمّ يحصل لها العلم بقسميه ، ولا بدّ من استعداد سابق مغاير للنفس وسبب موجد فاعل للعلم ، فالضروري فاعله هو اللّه تعالى ؛ إذ القابل لا يخرج القبول من القوّة إلى الفعل بذاته ، وإلاّ لم ينفكّ عنه.

وللمقبول درجات مختلفة في القرب والبعد ، وإنّما تستعدّ النفس للقبول على التدريج ، وتنتقل من أقصى مراتب البعد إلى أدناها قليلا قليلا لأجل المعدّات ، التي

ص: 423


1- كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » المطبوع : « توقّف » بدل « تقديم ».

هي الإحساس بالحواسّ الظاهرة والباطنة على اختلافها ، والتمرّن عليها وتكرارها مرّة بعد أخرى ، فيتمّ الاستعداد لإفاضة العلوم البديهيّة الكلّيّة من التصوّرات والتصديقات بين كلّيّات تلك المحسوسات.

وأمّا النظريّة فإنّها مستفادة من النفس أو من اللّه تعالى - على اختلاف الآراء - لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهيّة.

أمّا في التصوّرات فبالحدّ والرسم.

وأمّا في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدّمات الضروريّة.

المسألة السادسة عشرة : في المناسبة بين العلم والإدراك.

قال : ( وباصطلاح يفارق الإدراك مفارقة الجنس النوع ، وباصطلاح آخر مفارقة النوعين ).

أقول : اعلم أنّ العلم يطلق على الإدراك للأمور الكلّيّة ، كاللون والطعم مطلقا.

ويطلق الإدراك على الحضور عند المدرك مطلقا ، فيكون شاملا للعلم والإدراك الجزئي ، أعني إدراك المدرك بالحسّ ، كهذا اللون وهذا الطعم ، ولا يطلق العلم على هذا النوع من الإدراك. ولذلك لا يصفون الحيوانات العجم بالعلم وإن وصفوها بالإدراك ، فيكون الفرق بين العلم والإدراك مطلقا - على هذا الاصطلاح - فرق ما بين النوع والجنس ، فإنّ العلم هو النوع ، والإدراك هو الجنس الشامل للأقسام الأربعة :

الإحساس الذي هو إدراك الشيء الموجود في المادّة الحاضرة عند المدرك مكفوفة بهيئات مخصوصة من الأين والكمّ والكيف وغيرها.

والتخيّل الذي هو إدراك ذلك الشيء مع تلك الهيئات في حال غيبته بعد حضوره.

والتوهّم الذي هو إدراك معان جزئيّة مخصوصة متعلّقة بالمحسوسات.

ص: 424

والتعقّل الذي هو إدراك المجرّد عنها ، سواء كان جزئيّا أو كلّيّا ، وهذا القسم هو المسمّى بالعلم ، فيكون العلم أخصّ مطلقا من الإدراك المطلق بهذا الاصطلاح.

وقد يطلق الإدراك باصطلاح آخر على الإحساس لا غير ، فيكون الفرق بينه وبين العلم هو الفرق ما بين النوعين الداخلين تحت الجنس ، وهو الإدراك ، وهو المعنى الأوّل.

المسألة السابعة عشرة : في أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

قال : ( وتعلّقه على التمام بالعلّة يستلزم تعلّقه كذلك بالمعلول ، ولا عكس ) (1).

أقول : العلم بالعلّة يقع باعتبارات ثلاثة :

الأوّل : العلم بماهيّة العلّة من حيث هي ذات وحقيقة لا باعتبار آخر ، وهذا لا يستلزم العلم بالمعلول لا على التمام ولا على النقصان إلاّ إذا كان لازما بيّنا للماهيّة.

الثاني : العلم بها من حيث إنّها مستلزمة لذات أخرى ، وهو علم ناقص بالعلّة ، فيستلزم علما ناقصا بالمعلول من حيث إنّه لازم للعلّة من جهة كون العلّيّة والمعلوليّة من المتضايفات التي يكون (2) تعقّل أحدهما مستلزما لتعقّل الآخر ، لا من حيث ماهيّته.

الثالث : العلم بذاتها وماهيّتها ولوازمها وملزوماتها وعوارضها ومعروضاتها وما لها في ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير ، وهذا هو العلم التامّ بالعلّة ، وهو يستلزم العلم التامّ بالمعلول ؛ فإنّ ماهيّة المعلول وحقيقته لازمة لماهيّة العلّة ، وقد فرض تعلّق العلم بها من حيث ذاتها ولوازمها.

هذا في العلم التامّ بالعلّة.

ص: 425


1- كلمة : « ولا عكس » غير موجودة في « كشف المراد » و « تجريد الاعتقاد » المطبوعين.
2- في الأصل : « يستلزم » بدل « يكون » وما أثبتناه هو الأنسب لسياق العبارة.

وأمّا العلم التامّ بالمعلول فهو لا يستلزم العلم بالعلّة على ما حكي (1) عن المشهور ؛ لأنّ معروضات العلّة ليست بملزومة للمعلول.

وقيل بالاستلزام (2) ؛ لأنّ العلّة وملزوماتها من ملزومات المعلول.

ولا يخلو من قوّة كما لا يخفى.

وقد يقال (3) : العلم بالعلّة يستلزم العلم بماهيّة المعلول وإنّيّته ، والعلم بالمعلول يستلزم العلم بإنّيّة العلّة.

وبالجملة ، فالواجب بالذات لمّا كان عالما بالعلم التامّ بذاته - التي هي العلّة التامّة للممكنات الخارجيّة والذهنيّة ، كلّ بحسبه ولو بواسطة معلوله - كان عالما في مقام العلم بالذات بجميع الممكنات حتّى المعدومات ، بل الممتنعات التي هي من الممكنات الذهنيّة ، ولذا يقال : إنّه عالم ولا معلوم والعلم ذاته.

المسألة الثامنة عشرة : في مراتب العلم.

قال : ( ومراتبه ثلاث ).

أقول : ذكر الشيخ أبو عليّ (4) - على ما حكي (5) - أنّ للتعقّل ثلاث مراتب :

الأولى : أن يكون بالقوّة المحضة ، وهو عدم التعقّل عمّا من شأنه ذلك ، كما في العقل الهيولاني.

الثانية : أن يكون بالفعل التامّ ، كما إذا علم الشيء علما تفصيليّا.

الثالثة : العلم بالشيء إجمالا ، كمن علم مسألة ثمّ غفل عنها ، ثمّ سئل عنها ، فإنّه

ص: 426


1- الحاكي هو القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 255 ، ونسبه اللاهيجي إلى المشهور في « شوارق الإلهام » : 423.
2- نسبه القوشجي إلى القيل في « شرح تجريد العقائد » : 255.
3- القائل هو المحقّق الطوسي في « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 301.
4- « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 213 وما بعدها.
5- الحاكي هو العلاّمة في « كشف المراد » : 233.

يحضر الجواب عنها في ذهنه ، وليس ذلك بالقوّة المحضة ؛ فإنّه في الوقت عالم باقتداره على الجواب ، وهو يستلزم علمه بذلك الجواب ، وليس علما به على جهة التفصيل بمعنى أنّ صور التفاصيل حاصلة في الذهن مجتمعة معا من غير التفات العقل إلاّ إلى الجملة ، وعند إرادة البيان يلاحظ كلّ واحد تفصيلا ، فيتحقّق الاستحضار التفصيلي ، وهو ظاهر.

المسألة التاسعة عشرة : في كيفيّة العلم بذي السبب.

قال : ( وذو السبب إنّما يعلم به كلّيّا ).

أقول : اعلم أنّ الشيء إذا كان ذا سبب فإنّه إنّما يعلم بسببه ؛ لأنّه بدون السبب ممكن ، وإنّما يجب بسببه ، فإذا نظر إليه من حيث هو هو لم يحكم العقل بوقوعه ولا بعدمه ، وإنّما يحكم بأحدهما إذا عقل وجود السبب أو عدمه ، فذو السبب إنّما يحكم بوجوده أو عدمه بالنظر إلى سببه.

إذا ثبت هذا فإنّ ذا السبب إنّما يعلم كلّيّا ؛ لأنّ كونه صادرا عن الشيء تقييد له بأمر كلّيّ أيضا ، وتقييد الكلّيّ بالكلّيّ لا يقتضي الجزئيّة.

وتحقيق هذا أنّك إذا عقلت كسوفا شخصيّا من جهة سببه وصفاته الكلّيّة - التي يكون كلّ واحد منها نوعا مجموعا في شخصه - كان العلم به كلّيّا ، والكسوف وإن كان شخصيّا فإنّه عند ذلك يصير كلّيّا ، ويكون نوعا مجموعا في شخص ، والنوع المجموع في شخص له معقول كلّيّ لا يتغيّر ، وما يستند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل فلا يتغيّر ؛ لأنّه كلّما حصلت علل الشخصي وأسبابه ، وجب حصول ذلك الجزئي ، فيقال : إنّ هذا الشخصيّ أسبابه كذا ، وكلّما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصي أو مثله ، فيكون كلّيّا بعلله.

والحاصل أنّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه ، وأنّ ما يعلم بسببه يعلم كلّيّا.

ص: 427

واعترض (1) على ذلك بإمكان العلم بذي السبب بالحسّ أو الحدس أو إخبار مخبر صادق أو نحوها مع عدم العلم بالسبب ، وأنّ العلم بالسبب الجزئي يستلزم العلم بالمسبّب الجزئي.

اللّهمّ إلاّ أن يخصّص بالكلّيّ النظريّ ، فتأمّل.

المسألة العشرون : في تفسير العقل.

قال : ( والعقل غريزة يلزمها العلم بالضروريّات عند سلامة الآلات ).

أقول : اتّفق أصحاب الشرائع والملل على أنّ مناط التكاليف الشرعيّة هو العقل ، واختلفوا في تعريفه.

فالمصنّف رحمه اللّه - وفاقا لجماعة (2) - عرّفه بأنّه غريزة يلزمها العلم بالضروريّات عند سلامة الآلات.

والغريزة هي الطبيعة التي جبل عليها الإنسان.

والآلات هي الحواسّ الظاهرة والباطنة.

وسلامتها عبارة عن عدم زوالها أو تعطّلها بنحو السكر والنوم.

فالحاصل أنّه حالة من أحوال النفس الناطقة بها يدرك الضروريّات ، كحسن بعض الأشياء وقبح بعض آخر. وهو الحقّ.

وفي الحديث المعتبر أنّ « العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان » (3).

ص: 428


1- المعترض هو الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » 1 : 482 - 483 ؛ ولمزيد الاطّلاع حول هذه المسألة راجع « نهاية المرام » 2 : 191 - 194 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 257 - 258 ؛ « شوارق الإلهام » : 257 - 258.
2- منهم الفخر الرازي في « المحصّل » : 251 والمصنّف في « نقد المحصّل » : 163 ، والعلاّمة في « مناهج اليقين » : 101 و « نهاية المرام » 2 : 229 و « كشف المراد » : 234 ، والتفتازاني في « شرح المقاصد » 2 : 333 ، والفاضل المقداد في « اللوامع الإلهيّة » : 56.
3- « الكافي » ج 1 ، ص 11 من كتاب العقل والجهل ، ح 3 ؛ « معاني الأخبار » : 236 ، ح 1 من باب معنى العقل.

وعن جماعة أنّه ما يعرف به حسن المستحسنات وقبح المستقبحات (1).

وحكي تفسيره عن قوم (2) بأنّه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ؛ لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر.

وهو ضعيف ؛ لعدم الملازمة بين التلازم والاتّحاد.

قال : ( ويطلق على غيره بالاشتراك ).

أقول : لفظ « العقل » مشترك بين قوى النفس الإنسانيّة وبين الموجود المجرّد في ذاته وفعله معا عن المادّة ، ويندرج تحته عند الأوائل (3) عقول عشرة سبق البحث فيها.

وأمّا القوى النفسانيّة ، فيقال : عقل علميّ ، وعقل عمليّ.

أمّا العلميّ : فأوّل مراتبه : الهيولاني ، وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروريّ أو كسبيّ.

وثانيها : العقل بالملكة ، وهو الذي استعدّ بحصول العلم الضروريّ لإدراك النظريّات ، فصار له بتلك الأوّليّات ملكة الانتقال إلى النظريّات.

وأعلى درجات هذه المرتبة ما يسمّى بالفطانة والذكاوة المستندة إلى القوّة القدسيّة ، وأدناها البلادة التي هي مرتبة البليد الذي ينسى (4) أفكاره دون حصولها.

وبين هاتين الدرجتين درجات متفاوتة في القرب والبعد بحسب شدّة الاستعداد وضعفه.

وثالثها : العقل بالفعل ، وهو أن تكون النفس بحيث متى شاءت استحضرت

ص: 429


1- هم المعتزلة على ما في « نهاية المرام » 2 : 226 ؛ « شرح المواقف » 6 : 47 ؛ « شوارق الإلهام » : 425.
2- حكاه العلاّمة في « كشف المراد » : 234 ، وفي « المحصّل » : 250 و « نهاية المرام » 2 : 225 نسباه إلى المشهور.
3- انظر : « الشفاء » الإلهيّات : 402 - 409 ؛ « النجاة » : 273 - 280 ؛ « المعتبر في الحكمة » 3 : 148 وما بعدها ؛ « المطالب العالية » 4 : 380 - 389 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 243 - 263 ؛ « شرح الهداية الأثيرية » للميبدي : 188 - 193.
4- كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : 235 وردت هكذا : « تثبت » بدل « ينسى ».

العلوم النظريّة من العلوم الضروريّة ، لا على أنّها بالفعل موجودة.

ورابعها : العقل المستفاد ، وهو حصول تلك النظريّات بالفعل ، وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوّة.

وأمّا العمليّ : فيطلق على القوّة التي باعتبارها يحصل التميز بين الأمور الحسنة والقبيحة ، وعلى فعل الأمور الحسنة وترك القبيحة ، وقد أشرنا إلى بيان ذلك سابقا.

المسألة الحادية والعشرون : في الاعتقاد والظنّ وغيرهما.

قال : ( والاعتقاد يقال لأحد قسميه ).

أقول : المراد أنّ الاعتقاد يطلق على التصديق الذي هو أحد قسمي العلم ؛ وذلك لأنّا قد بيّنّا أنّ العلم يقال على التصوّر وعلى التصديق ؛ لأنّه جنس لهما ، والاعتقاد هو التصديق ، وهو قسم من قسمي العلم.

ولكن لا يخفى أنّ التصديق - الذي جعله المصنّف أحد قسمي العلم - كان مقيّدا بكونه جازما مطابقا ثابتا - أعني اليقين ، والاعتقاد يطلق على مطلق التصديق جازما كان أم لا ، مطابقا كان أم لا ، ثابتا كان أم لا.

نعم ، الإطلاق على المطلق يستلزم الإطلاق على المقيّد ؛ لوجود المطلق فيه ، بل قد يطلق الاعتقاد على خصوص اليقين كما قيل (1) ، ففيه اصطلاحات وله إطلاقات.

قال : ( فيتعاكسان في العموم والخصوص ).

أقول : هذا نتيجة ما مضى.

والذي نفهمه منه أنّ الاعتقاد قد ظهر أنّه يطلق على أحد قسمي العلم ، فهو أخصّ بهذا المعنى ؛ لأنّ العلم شامل للتصوّر والتصديق الذي هو الاعتقاد.

والاعتقاد - باعتبار آخر واصطلاح آخر - أعمّ من العلم ؛ لأنّه شامل للظنّ

ص: 430


1- نسبه في « المطوّل » : 39 إلى المشهور ، ونسبه القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 259 إلى القيل ، واللاهيجي في « شوارق الإلهام » : 426 إلى غير المشهور.

والجهل المركّب واعتقاد المقلّد.

فهذا ما ظهر لنا من قوله : « فيتعاكسان » أي الاعتقاد والعلم « في العموم والخصوص » فباعتبار الاصطلاحين أو ما يؤدّي معناهما يتحقّق التعاكس.

وفيه : أنّ الاعتقاد باصطلاح آخر أيضا ليس أعمّ مطلقا من العلم الشامل للتصوّر والتصديق بل أعمّ من وجه ، وهو خلاف ظاهر التعاكس ؛ لكون العلم بأحد الاصطلاحين أعمّ مطلقا من الاعتقاد من غير أن يكون الاعتقاد أعمّ مطلقا باصطلاح آخر.

اللّهمّ إلاّ أن يحمل العلم حينئذ على اليقين ، أو يكتفى بالعموم من وجه في التعاكس ، فتأمّل.

قال : ( ويقع فيه التضادّ بخلاف العلم ).

أقول : المراد أنّ الاعتقاد قد يقع فيه التضادّ بأن يتعلّق أحد الاعتقادين بإيجاب نسبة ، والآخر بسلبها بعينها ، فيكون التضادّ لتعلّقه بالإيجاب والسلب لا غير.

وأمّا العلم فلا يقع فيه تضادّ ؛ لوجوب المطابقة فيه ، والمطابق للواقع لا يكون إلاّ أحدهما ، فلا يتصوّر علمان تعلّق أحدهما بإيجاب نسبة والآخر بسلبها ؛ فإنّ غير المطابق لا يكون علما وإن أطلق عليه العلم قبل ظهور المخالفة لاعتقاد المطابقة ؛ وذلك لصحّة السلب بعد ظهور المخالفة ، فيقال : ما كان علما بل اعتقادا مخالفا.

قال : ( والسهو عدم ملكة العلم ، وقد يفرق بينه وبين النسيان ).

أقول : قد أفيد (1) أنّ هذا هو المشهور عند الأوائل والمتكلّمين.

وذهب الجبّائيان (2) إلى أنّ السهو معنى يضادّ العلم.

ص: 431


1- المفيد هو العلاّمة في « كشف المراد » : 236.
2- نقله عنهما العلاّمة في « كشف المراد » : 236 و « مناهج اليقين » : 96 ، وفي « شرح المواقف » 6 : 27 نقله عن الآمدي.

وقد فرّق الأوائل (1) بينه وبين النسيان ، فقالوا : إنّ السهو زوال الصورة عن المدركة خاصّة ، دون الحافظة التي هي الخزانة ، والنسيان زوالها عنهما معا.

وعلى هذا فالسهو حالة متوسّطة بين التذكّر والنسيان ؛ إذ فيه زوال الصورة من وجه وبقاؤها من وجه ؛ ولهذا لا يحتاج إلى تجشّم كسب جديد بخلاف النسيان.

هذا بحسب الاصطلاح الخاصّ ، وإلاّ فظاهر العرف الترادف أو التساوي عموما أو خصوصا.

وكيف كان فالظاهر أنّ النسيان كالسهو عبارة عن المحو بعد حصول العلم ، لا مطلق عدم ملكة العلم ؛ ولهذا فيكون التقابل على وجه التضادّ.

قال : ( والشكّ تردّد الذهن بين الطرفين ).

أقول : الشكّ هو عدم الاعتقاد وتردّد الذهن بين طرفي النقيض على التساوي ، وليس معنى قائما بالنفس عند الأوائل وأبي هاشم (2).

وقال أبو عليّ (3) : إنّه معنى يضادّ العلم. واختاره البلخي (4) ؛ لتجدّده بعد أن لم يكن.

وهو الأصحّ ؛ لظهور كونه حالة وجوديّة مضادّة للعلم.

قال : ( وقد يصحّ تعلّق كلّ من العلم والاعتقاد بنفسه وبالآخر ، فيتغاير الاعتبار لا التصوّر ).

أقول : اعلم أنّ العلم والاعتقاد من قبيل الإضافات يصحّ تعلّقهما بجميع الأشياء حتّى بأنفسهما ، فيصحّ تعلّق الاعتقاد بالاعتقاد وبالعلم ، وكذا العلم يتعلّق بنفسه وبالاعتقاد.

ص: 432


1- نقله العلاّمة عن الأوائل في « كشف المراد » : 236 ، وذكره في « شرح المواقف » 6 : 26 دون أن ينسبه لأحد ، وفي « كشّاف اصطلاحات الفنون » 1 : 987 نسبه إلى البعض.
2- نقله عنهما العلاّمة في « كشف المراد » : 237.
3- ذكره في « كشف المراد » : 237 ونقل خلافه في « مناهج اليقين » : 97.
4- انظر : « كشف المراد » : 237.

إذا عرفت هذا ، فإذا تعلّق العلم بنفسه وجب تعدّد الاعتبار ؛ إذ العلم كان آلة ينظر به ، وباعتبار تعلّق العلم به يصير شيئا منظورا ، فيكون الشيء معلوما مغايرا لاعتبار كونه علما ، فلا بدّ من تغاير الاعتبار.

أمّا التصوّر بالاحتياج إلى صورة أخرى فلا ، وإلاّ لزم وجود صور لا تتناهى بالنسبة إلى معلوم واحد ؛ لأنّ العلم بالشيء لا ينفكّ عن العلم بالعلم بذلك الشيء عند اعتبار المعتبرين.

واعلم أنّ العلم بالعلم علم بكيفيّة وهيئة للعالم تقتضي النسبة إلى معلوم ذلك العلم ، وليس علما بالمعلوم.

قال : ( والجهل بمعنى يقابلهما ، وبآخر قسم لأحدهما ).

أقول : اعلم أنّ الجهل يطلق على معنيين : بسيط ومركّب.

فالبسيط هو عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون عالما ، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة.

والمركّب هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه ، وهو قسم من الاعتقاد ؛ إذ الاعتقاد جنس للجهل وغيره.

وسمّي الأوّل بسيطا ؛ نظرا إلى عدم تركّبه ، والثاني مركّبا ؛ لتركّبه من اعتقاد وعدم مطابقة الواقع ، فيكون مركّبا من العلم الظاهري والجهل الواقعي ، أو من الجهلين : الجهل بالشيء ، والجهل بأنّه جاهل باعتقاده أنّه عالم ، فهو لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري ، وهو أقبح من الجهل البسيط وأضرّ ؛ فإنّ صاحبه لا يطلب العلم الذي هو خير.

قال : ( والظنّ ترجيح أحد الطرفين ، وهو غير اعتقاد الرجحان ).

أقول : الظنّ ترجيح أحد الطرفين - أعني طرف الوجود وطرف العدم - ترجيحا غير مانع من النقيض ، ولا بدّ من هذا القيد لإخراج الاعتقاد الجازم ، فكأنّ المصنّف اكتفى بالظهور من الخارج أو ممّا سبق ، وإلاّ فالتعريف غير مانع.

ص: 433

واعلم أنّ رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان ؛ لأنّ الأوّل ظنّ لا غير ، والثاني قد يكون علما.

قال : ( ويقبل الشدّة والضعف وطرفاه علم وجهل ).

أقول : لمّا كان الظنّ عبارة عن ترجيح الاعتقاد من غير منع للنقيض ، وكان للترجيح مراتب داخلة بين طرفي شدّة في الغاية وضعف في الغاية ، كان قابلا للشدّة والضعف. وطرفاه العلم - الذي لا مرتبة بعده للرجحان - والجهل البسيط الذي لا ترجيح معه البتّة ، أعني الشكّ المحض.

المسألة الثانية والعشرون : في النظر وأحكامه.

قال : ( وكسبيّ العلم يحصل بالنظر مع سلامة جزأيه ضرورة ).

أقول : قد بيّنّا أنّ العلم ضربان : ضروريّ لا يفتقر إلى طلب وكسب. ونظري يفتقر إليه.

فالثاني هو المكتسب بالنظر ، وهو « ترتيب أمور ذهنيّة للتوصّل بها إلى أمر مجهول ».

فالترتيب جنس بعيد ؛ لأنّه كما يقع في الأمور الذهنيّة كذلك يقع في الأشياء الخارجيّة ، فالتقييد بالأمور الذهنيّة يخرج الآخر عنه.

ثمّ الترتيب الخاصّ قد يكون لاستحصال ما ليس بحاصل ، وقد لا يكون كذلك ، فالثاني ليس نظرا.

وهذا الحدّ قد اشتمل على العلل الأربعة للنظر ، أعني المادّة ، والصورة ، والغاية ، وفيه إشارة إلى الفاعل.

وهذه الأمور قد تكون تصوّرات هي إمّا حدود أو رسوم يستفاد منها علم بمفرد ، وقد تكون تصديقات يكتسب بها تصديق مجهول.

واعلم أنّ النظر لمّا كان متعلّقا بما يكون مركّبا ، اشتمل بالضرورة على جزء مادّي

ص: 434

وجزء صوري ، فالجزء المادّي هو المقدّمات والمبادئ ، والصوري هو الترتيب بينها. فإذا سلم هذان الجزءان - بأن كان الحمل والوضع والوسط والجهة على ما ينبغي - وكان الترتيب على ما ينبغي ، حصل العلم بالمطلوب بالضرورة ، وهو الغاية.

والمرتّب الذي هو النفس الناطقة بمنزلة العلّة الفاعليّة ، بل يمكن استفادة العلّة المعدّة ، وهي العلّة الخامسة ، أعني ما يوجب استعداد النفس الناطقة لترتيب أمور معلومة.

هذا في التصديقات ، وكذا في التصوّرات ؛ فإنّه اذا كان الحدّ مشتملا على جنس قريب وفصل أخير ، وقدّم الجنس على الفصل ، حصل تصوّر المحدود قطعا.

وإليه أشار المصنّف رحمه اللّه بقوله : « مع سلامة جزأيه » يعني الجزء المادّي والجزء الصوري.

واعلم أيضا أنّ الناس اختلفوا هنا ، فقال من (1) لا مزيد تحصيل له : إنّ النظر لا يفيد العلم ؛ فإنّ إفادته العلم إن كان ضروريّا ، لزم اشتراك العقلاء فيه ، وإن كان نظريّا ، تسلسل. ولأنّ النظر لو استلزم العلم لم يختلف الناس في آرائهم ؛ لاشتراكهم في العلوم الضروريّة التي هي مبادئ للنظر.

وذهب المحقّقون (2) إلى أنّه يفيد العلم بالضرورة ؛ فإنّا إذا اعتقدنا أنّ العالم ممكن ، وكلّ ممكن محدث ، حصل لنا العلم بالضرورة بأنّ العالم محدث.

فخرج الجواب عن الشبهة الأولى بقوله : « ضرورة » ولا يجب اشتراك العقلاء في الضروريّات ؛ فإنّ كثيرا من الضروريّات يتشكّك فيها بعض الناس إمّا للخفاء في التصوّر أو لغير ذلك.

وخرج الجواب عن الشبهة الثانية بقوله : « مع سلامة جزأيه » وذلك لأنّ اختلاف

ص: 435


1- نسبه إلى السمنيّة في « المحصّل » : 122 و « مناهج اليقين » : 103 و « شرح المواقف » 1 : 218 وما بعدها.
2- انظر : « المحصّل » : 122 وما بعدها ؛ « مناهج اليقين » : 103 وما بعدها ؛ « نقد المحصّل » : 49 ؛ « شرح المواقف » : 207 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 1 : 235 وما بعدها ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 427 - 428.

الناس في الاعتقاد إنّما كان بسبب تركهم الترتيب الصحيح ، وغفلتهم عن شرائط الحمل ، وغير ذلك من أسباب الغلط إمّا في الجزء المادّي أو الصوري ، فإذا سلما حصل المطلوب لكلّ من حصل له سلامة الجزءين.

ثمّ اعلم أنّ النظر قد يحصل العلم به من غير كسب بواسطة الوحي أو الإلهام أو نحو ذلك ، وهذا هو العلم الموهبي واللدنّي ، والمراد غير ذلك ، كما لا يخفى.

قال : ( ومع فساد أحدهما قد يحصل ضدّه ).

أقول : النظر إذا فسد - إمّا من جهة المادّة أو من جهة الصورة لم يحصل العلم ، وقد يحصل ضدّه ، أعني الجهل.

والضابط في ذلك أن نقول : إن كان الفساد من جهة الصورة لم يستلزم النتيجة الباطلة ، وإن كان من جهة المادّة لا غير كان القياس منتجا ، فإن كانت الصغرى في الشكل الأوّل صادقة والكبرى كاذبة ، كانت النتيجة كاذبة قطعا ، وإلاّ جاز أن تكون صادقة وأن تكون كاذبة.

وبهذا التحقيق ظهر بطلان ما يقال من أنّ النظر الفاسد لا يستلزم الجهل ، وإلاّ لكان المحقّ إذا نظر في شبهة المبطل أفاده الجهل ، وليس كذلك ؛ وذلك لأنّه معارض بالنظر الصحيح ، وفاقد لشرط الإفادة ؛ فإنّ شرط اعتقاد حقّيّة المقدّمات في الصحيح شرط في الفاسد أيضا.

قال : ( وحصول العلم عن الصحيح واجب ).

أقول : اختلف الناس هنا ، فالمعتزلة على أنّ النظر مولّد العلم وسبب له (1).

والأشاعرة (2) قالوا : إنّ اللّه تعالى أجرى عادته بخلق العلم عقيب النظر ، وليس النظر موجبا ولا سبب للعلم.

ص: 436


1- « المغني » 12 : 69 - 99 ؛ « مناهج اليقين » : 105 ؛ « شرح المواقف » : 1 : 243 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 237.
2- « المحصّل » : 163 ؛ « شرح المواقف » 1 : 241 - 243 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 237 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 261 - 262.

واستدلّوا (1) على ذلك بأنّ العلم الحادث أمر ممكن ، واللّه تعالى قادر على كلّ الممكنات وفاعل لها - على ما يأتي في خلق الأعمال - فيكون العلم من فعله.

والمعتزلة (2) لمّا أبطلوا القول باستناد الأفعال الحيوانيّة إلى اللّه تعالى ، بطل عندهم هذا الاستدلال. ولمّا رأوا العلم يحصل عقيب النظر بحسبه وينتفي عند انتفائه ، حكموا بأنّه سبب له كما في سائر الأسباب.

والحقّ أنّ النظر الصحيح يجب عنده حصول العلم ، ولا يمكن تخلّفه ؛ فإنّا نعلم قطعا أنّه متى حصل لنا اعتقاد المتقدّمتين فإنّه يجب حصول النتيجة.

وقالت الأشاعرة (3) : التذكّر لا يولّد العلم وكذا النظر إلى القياس (4).

والجواب : أنّ الفرق بينهما ظاهر.

قال : ( ولا حاجة إلى المعلّم ).

أقول : ذهب الملاحدة (5) إلى أنّ النظر غير كاف في حصول المعارف (6) ، بل لا بدّ من معونة المعلّم للعقل ؛ لتعذّر العلم بأظهر الأشياء وأقربها - يعني معرفة اللّه - من دون مرشد.

وأطبق العقلاء (7) على خلافه ؛ لأنّا متى حصلت المقدّمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل لنا الجزم بالنتيجة ، سواء كان هناك معلّم أو لا.

ص: 437


1- « المحصّل » : 136 - 137 ؛ « شرح المواقف » 1 : 241 - 242 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 237 ؛ « شرح تجريد العقائد » 261 - 262.
2- انظر : « المغني » 8 : 3 وما بعدها و 177 وما بعدها.
3- « شرح المواقف » 1 : 243 - 245 ، ونسب إلى بعض الأشاعرة في « شرح المقاصد » 1 : 237 و « شرح تجريد العقائد » : 261.
4- في « كشف المراد » : « بالقياس عليه » بدل « إلى القياس ».
5- منهم الإسماعيلية. من حاشية نسخة الأصل.
6- « المحصّل » : 126 - 127 ؛ « شرح المواقف » 1 : 238 ؛ « شرح المقاصد » : 1 : 259 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 262.
7- انظر المصادر المتقدّمة.

وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر الأشياء - وهو اللّه - ممنوعة ؛ ولهذا قال اللّه تعالى : ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1) ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (2)ونحو ذلك ، وورد « أنّ العقل ما عبد به الرحمن » (3) وغير ذلك.

ولو سلّمت فهي لا تدلّ على امتناعها مطلقا من دون المعلّم ؛ لحصول المعارف الإلهيّة لمن كان له قلب بالنظر ، ولغيره إذا ألقى السمع وهو شهيد.

وقد ألزمهم المعتزلة والأشاعرة (4) الدور والتسلسل ؛ لتوقّف العلم بتصديق اللّه تعالى إيّاه بواسطة المعجزة على معرفة اللّه ، فلو توقّفت معرفة اللّه تعالى عليه دار ؛ ولأنّ احتياج كلّ عارف إلى معلّم يستلزم حاجة المعلّم إلى آخر ويتسلسل.

وهذان الإلزامان ضعيفان ؛ لأنّ الدور لازم على تقدير استقلال المعلّم بتحصيل المعارف ، وليس كذلك ، بل هو مرشد إلى استنباط الأحكام من الأدلّة التي من جملتها ما يدلّ على صدقه من المقدّمات ، بمعنى أنّه يحصل العلم بصدق المعلّم بوضع المعلّم مقدّمات منبّهة للعقل ، فيكون موقوفا عليهما ، ومعرفة اللّه موقوفة على إخباره والعلم بصدقه ، فلا دور.

والتسلسل يلزم لو وجب مساواة عقل المعلّم لعقولنا ، أمّا على تقدير الزيادة فلا ، فإنّ كمال عقله بتأييد اللّه يقتضي استقلاله وعدم احتياجه إلى غيره ، مضافا إلى احتمال الانتهاء إلى النبيّ العالم بالوحي ونحوه.

قال : ( نعم ، لا بدّ من الجزء الصوري ).

أقول : يشير بذلك إلى ترتيب المقدّمات ، فإنّه لا بدّ - بعد حضور المقدّمتين في الذهن - من ترتيب حاصل بينهما ، ليحصل العلم بالنتيجة ، وهو الجزء الصوري

ص: 438


1- الأنبياء (21) : 67 ؛ المؤمنون (23) : 80.
2- لقمان (31) : 25 ؛ الزمر (39) : 38.
3- « الكافي » 1 : 11 من كتاب العقل والجهل ، ح 3 ؛ « معاني الأخبار » : 239.
4- « المحصّل » : 127 ؛ « شرح المواقف » 1 : 238 - 239 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 259 - 260.

للنظر ؛ إذ لو لا اشتراط الترتيب - بأن كان العلم بالمقدّمات مطلقا كافيا - لحصلت العلوم الكسبيّة لجميع العقلاء ولم يقع خلل لأحد في اعتقاده ، وليس كذلك ؛ فإنّ كثيرا من العقلاء يعلمون مقدّمات كثيرة ولا شعور لهم بالنتيجة ؛ لفقدان الترتيب.

وقيل (1) : لا حاجة إليه ، وإلاّ لزم التسلسل أو اشتراط الشيء بنفسه.

وهو خطأ ؛ فإنّ التسلسل يلزم لو قلنا بافتقار كلّ زائد إلى ترتيب ، وليس كذلك ، بل المفتقر إلى الترتيب إنّما هو الأجزاء المادّية خاصّة.

قال : ( وشرطه عدم الغاية وضدّها ، وحضورها ).

أقول : الظاهر أنّ المراد أنّ شرط النظر عدم العلم بالمطلوب الذي هو غاية النظر ، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل.

وأمّا ما يصدر من العقلاء من إيراد أدلّة متعدّدة فهو في الظنّيّات ، لحصول زيادة قوّة ظنّ الظانّ ، وفي العلميّات لزيادة الاطمئنان.

ويشترط أيضا عدم ضدّها ، أعني الجهل المركّب ؛ لأنّه اعتقاده حصول العلم له لا يطلبه ، فلا يتحقّق النظر.

ويشترط أيضا حضورها والشعور بها ، بمعنى حضور المطلوب الذي هو الغاية ؛ إذ الغافل عن الشيء لا يطلبه ؛ لامتناع طلب المجهول مطلقا ، والنظر فرع الطلب.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف إنّما يتمّ بحسب الغالب ، وإلاّ فقد يرتّب الجاهل مقدّمات منتجة لما هو الحقّ المخالف لمعتقده أو ما لم يكن ملتفتا إليه.

قال : ( ولوجوب ما يتوقّف عليه العقليّان ، أو انتفاء ضدّ المطلوب على تقدير ثبوته كان التكليف به عقليّا ).

أقول : اختلف الناس في أنّ وجوب النظر في معرفة اللّه ، والتكليف به ، هل هو عقليّ أو سمعيّ؟

ص: 439


1- القائل هو الفخر الرازي في « المحصّل » : 138 - 139 ، ولمزيد التوضيح انظر : « نقد المحصّل » : 63 ؛ « مناهج اليقين » : 113 ؛ « شرح المواقف » 1 : 285 - 288 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 240 وما بعدها.

فذهب المعتزلة (1) إلى الأوّل ، وهو مختار المصنّف ، وهو الحقّ. والأشاعرة (2) إلى الثاني.

أمّا المصنّف والمعتزلة فاستدلّوا على وجوب النظر عقلا بوجهين (3) :

الأوّل : أنّ معرفة اللّه تعالى - التي يتوقّف عليها شكره ودفع الضرر الواجبان عقلا - واجبة مطلقا ، ولا تتمّ إلاّ بالنظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به واجب ، فالنظر واجب ، فها هنا ثلاث مقدّمات :

إحداها : أنّ معرفة اللّه تعالى واجبة مطلقا والدليل على ذلك :

أوّلا : أنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ، ودفع الخوف والضرر عن النفس واجب عقلا.

وثانيا : أنّ شكر اللّه تعالى واجب عقلا ؛ لأنّ نعمه على العبد كثيرة فإنّ كلّ عاقل إذا راجع نفسه يرى أنّ عليه نعما ظاهرة وباطنة ، أصليّة وفرعيّة ، دقيقة وجليلة ، روحانيّة وجسمانيّة من الوجود والحياة والإدراك والمآكل والمشارب والملابس والمساكن ونحوها ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها ) (4) ولا شكّ أنّها ليست منه ، فهي من غيره ، فإن لم يلتفت إلى منعمه ولم يعترف له بكونه منعما ذمّه العقلاء ، وإلاّ مدحوه ، وهذا معنى الوجوب العقلي ، فيكون الشكر واجبا عقلا.

مضافا إلى أنّ عدم الشكر موجب لاستحقاق سلب النعم ، وهو ضرر على النفس ، ودفع الضرر واجب عقلا ، فالمقدّمتان ضروريّتان ، والشكر لا يتمّ إلاّ

ص: 440


1- انظر : « المغني » 12 : 236 وما بعدها ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 66 - 69 ؛ ونقل عنهم في « المحصّل » : 134 و « شرح المواقف » 1 : 251 و « شرح المقاصد » 1 : 262.
2- انظر : « المحصل » : 134 - 136 ؛ « شرح المواقف » 1 : 251 - 275 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 262 - 270 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 264 - 268.
3- راجع المصادر المتقدّمة و « مناهج اليقين » : 109 - 111 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » 109 - 111 ؛ « اللوامع الإلهيّة » : 9 - 11.
4- إبراهيم (14) : 34 ؛ النحل (116) : 18.

بالمعرفة ضرورة.

الثانية : أنّ معرفة اللّه لا تتمّ إلاّ بالنظر ، وذلك قريب من الضرورة ؛ إذ المعرفة ليست ضروريّة قطعا ، فهي كسبية ولا كاسب سوى النظر ؛ إذ التقليد يستند إليه.

الثالثة : أنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب ، وإلاّ لخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا أو لزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه ، فحينئذ إمّا أن يجب على المكلّف المشروط أو لا ، والثاني يلزم منه خروجه عن كونه واجبا مطلقا. والأوّل يلزم منه التكليف بما لا يطاق ؛ إذ وجوب المشروط حال عدم الشرط إيجاب لغير المقدور ، وهو محال.

فإن قلت : مقتضى ما ذكر كون النظر واجبا توصّليّا من باب المقدّمة ، لا تأصّليّا وأصليّا من قبيل ذي المقدّمة.

قلت : مقدّمات الواجبات العقليّة واجبات عقليّة تأصّليّة ؛ لانتفاء التبعيّة.

نعم ، مقدّمات الواجبات النقليّة واجبات عقليّة توصّليّة ، لا تأصّليّة وأصليّة.

فثبت أنّ وجوب النظر عقليّ ، ولا يجب سمعا خاصّة.

الثاني (1) : أنّ النظر واجب بالاتّفاق ، فوجوبه إمّا عقلي أو نقلي. ولا سبيل إلى الثاني ؛ فإنّه لو كان واجبا شرعيا لما كان واجبا ، فيلزم من وجوبه عدمه ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ النظر إذا لم يجب إلاّ بالسمع لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا جاء إلى المكلّف وأمره باتّباعه ، لم يجب على المكلّف الامتثال حتّى يعلم صدقه ، ولا يعلم صدقه إلاّ بالنظر ، فإذا امتنع المكلّف من النظر حتّى يعرف وجوبه عليه ، لم يجب استناد الوجوب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لعدم العلم بصدقه حينئذ ، ولا وجوب عقلي ، فينتفي الوجوب على تقدير القول بالوجوب السمعي.

ص: 441


1- أي الوجه الثاني الذي استدلّ به المعتزلة على وجوب النظر عقلا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : قوله : « لوجوب ما يتوقّف عليه العقليّان » أشار بلفظة « ما » إلى المعرفة.

و « العقليان » أشار به إلى وجوب الشكر ووجوب دفع الخوف عن النفس.

وقوله : « وانتفاء ضدّ المطلوب على تقدير ثبوته » يشير به إلى انتفاء الوجوب السمعي ، الذي هو ضدّ المطلوب ؛ لأنّ المطلوب هو الوجوب العقلي ، وضدّه الوجوب السمعي.

وقوله : « على تقدير ثبوته » يعني لو فرض كون الوجوب سمعيّا ، لم يكن واجبا.

وأمّا الأشاعرة (1) فقد احتجّوا بوجهين :

الأوّل : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (2) فإنّه نفى التعذيب الدنيوي والأخروي بدون البعثة ، فلا يكون النظر واجبا قبلها ، وإلاّ لزم استحقاق العذاب بتركه قبلها.

الثاني : أنّه لو وجب النظر فلا يكون لا لفائدة ؛ للزوم العبث ، ولا لفائدة عائدة إلى اللّه تعالى ؛ لتعاليه عنها ، فيكون لفائدة عائدة إلى العبد : فإمّا لفائدة عاجلة والواقع يقابلها ؛ لحصول المشقّة ، أو آجلة وحصولها ممكن بدون النظر مع عدم استقلال العقل فيها ، مضافا إلى أنّ شكر العبد - المتوقّف على النظر - بالنظر إلى نعم اللّه كالاستهزاء ، فتوسّط النظر عبث ، كما إذا لم يكن لفائدة.

ثمّ قالوا : ما ألزمتمونا من إفحام الأنبياء على تقدير الوجوب السمعي لازم لكم على تقدير الوجوب العقلي ؛ لأنّ وجوب النظر وإن كان عقليّا إلاّ أنّه كسبيّ ، فالمكلّف إذا جاءه النبيّ صلی اللّه علیه و آله وآله وأمره باتّباعه ، كان له أن يمتنع حتّى يعرف صدقه ، ولا يعرفه إلاّ بالنظر ؛ إذ لا يجب عليه بالضرورة ، بل بالنظر ، فقبل النظر لا يعرف

ص: 442


1- انظر : « المحصّل » : 134 ؛ « شرح المواقف » 1 : 251 - 275 ؛ « شرح المقاصد » 1 : 262 - 270 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 264 - 268.
2- الإسراء (17) : 15.

وجوبه ، فله أن يقول : لا أنظر حتّى أعرف وجوب النظر ، وذلك يستلزم الإفحام أيضا.

والجواب عن الأوّل : أنّ خلق العباد لمّا كان لغرض عائد إليهم - وهو إيصال النعيم الأبدي الأخروي كما سيأتي ، ولا يصحّ ذلك إلاّ بالقابليّة الموقوفة على الطاعة ، الموقوفة على التكليف ، الموقوف على بعث الرسل ؛ لعدم استعداد الكلّ للتلقّي من اللّه تعالى بلا واسطة - كان التكليف لازما لإيجاد الخلق ، فيكون بعث الرسول أيضا لازما ، فبدونه لا يكون تكليف شرعي متفرّع عليه التعذيب الأخروي بسبب الترك ؛ لعدم كفاية مجرّد معرفة اللّه الواجبة عقلا لذمّ تاركها.

والحاصل : أنّ التعذيب من لوازم الوجوب النقلي لا العقلي ، فنفيه ينفي الوجوب النقلي لا العقلي.

وكون العقل والنقل متطابقين إنّما هو بعد ثبوت المعرفة وتحقّق النقل لا قبلها ، فيبقى وجوب النظر عقلا - بمعنى مدح فاعله وذمّ تاركه - على حاله.

ويمكن الجواب أيضا بالتخصيص ، وهو حمل نفي التعذيب المتوقّف على الرسالة على نفي التعذيب الذي يكون من جهة ترك التكليف السمعي ، أو تعميم الرسول ليعمّ الرسالة بالعقل ؛ جمعا بين الأدلّة.

وعن الثاني : أنّ الفائدة عاجلة وهي زوال الخوف ، أو آجلة هي نيل الثواب بالمعرفة التي لا يمكن الابتداء به في الحكمة.

وعن الثالث : أنّ وجوب النظر وإن كان نظريّا إلاّ أنّه فطري القياس ، فكان اللازم - وهو الإفحام - لازما على الأشاعرة دون الإمامية والمعتزلة.

قال : ( وملزوم العلم دليل ، والظنّ أمارة ).

أقول : لمّا كان النظر متعلّقا بما يستلزم العلم من الاعتقادات أو الظنّ ، وجب البحث عن المتعلّق ، فالمستلزم للعلم يسمّى دليلا ، والمستلزم للظنّ يسمّى أمارة ، فالمعنى أنّ النظر الذي هو ملزوم العلم ويكون العلم لازمه وحاصله يسمّى دليلا ،

ص: 443

والنظر الذي هو ملزوم الظنّ ويكون الظنّ حاصله يسمّى أمارة.

وقد يقال الدليل على الأعمّ.

وقد يقال على معنى أخصّ من المذكور ، وهو الاستدلال بالمعلول على العلّة.

قال : ( وبسائطه عقليّة ومركّبة ؛ لاستحالة الدور ).

أقول : المراد أنّ بسائط النظر وما يتألّف منه ملزوم العلم ، والظنّ يعني مقدّماته ؛ فإنّ الدليل لمّا كان مركّبا من مقدّمتين ، كانت كلّ واحدة من تينك المقدّمتين جزءا بسيطا بالنسبة إلى الدليل وإن كانت مركّبة في نفس الأمر.

وبالجملة ، فالمقدّمتان قد تكونان من الأمور التي هي عقليّة محضة ، كقولنا : « العالم ممكن ، وكلّ ممكن له مؤثّر ». وقد تكونان من الأمور التي هي مركّبة من العقلي والسمعي ، كقولنا : « الوضوء عمل ، كلّ عمل مشروط بالنيّة » لقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا عمل إلاّ بالنيّة » (1) ولا يكون التركّب من السمعيّات المحضة وإلاّ لزم الدور ؛ لأنّ السمعي المحض ليس بحجّة إلاّ بعد معرفة صدق الرسول.

وهذه المقدّمة لو استفيدت بالسمع دار ، بل هي عقليّة محضة ، فإذن إحدى مقدّمات النقليّات كلّها عقليّة.

والضابط في ذلك أنّ كلّ ما يتوقّف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنقل ، وكلّ ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز إثباته بالعقل ، وما عدا هذين يجوز إثباته بهما.

قال : ( وقد يفيد اللفظي القطع ).

أقول : المحكيّ عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة (2) أنّ الأدلّة اللفظيّة لا تفيد العلم

ص: 444


1- « الكافي » 2 : 84 / 61 من باب النيّة ؛ « الأمالي » للشيخ الطوسي : 590 / 1223 ؛ « الخصال » 1 : 18 / 62 ؛ « عوالي اللآلئ » 2 : 190 / 80 ؛ « وسائل الشيعة » 1 : 46 / 9 الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات.
2- حكى ذلك عنهم الشريف الجرجاني في « شرح المواقف » 2 : 51 والقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 269. ونسب إلى القيل في « كشف المراد » : 243 و « مناهج اليقين » : 112 و « المواقف » المطبوع ضمن « شرح المواقف » 2 : 51، ونسب إلى الأكثر في « شوارق الإلهام » 2 : 35. ولمزيد الاطلاع حول هذه المسألة راجع «المحصل»: 140 - 143 ؛ «شرح المقاصد» 282:1 - 285.

واليقين ؛ لتوقّفها على أمور كلّها ظنّيّة : اللغة والنحو والتصريف ، وعدم الاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والنسخ والتقديم والتأخير والعارض العقلي.

والحقّ خلاف هذا بالقطع واليقين ؛ فإنّ كثيرا من الأدلّة اللفظيّة يعلم دلالتها على معانيها وما أريد منها قطعا ، وانتفاء هذه المفاسد عنها جزما ، كما في المتواتر والمتظافر.

قال : ( ويجب تأويله عند التعارض ).

أقول : إذا تعارض دليلان نقليّان أو دليل عقليّ ونقليّ ، وجب تأويل النقلي.

أمّا مع تعارض النقلين فظاهر ؛ لامتناع تناقض الأدلّة ، لكون حكم اللّه واحدا ، وكون المخبر معصوما يمتنع عليه الخطأ والافتراء ، فلا بدّ من تأويل أحدهما كما يؤوّل قوله علیه السلام : « الماء يطهّر ولا يطهّر » (1) بأنّ الماء لا يطهّر من غير نوعه أو مع بقائه على حاله كسائر ما يقبل التطهير ؛ لتعارضه مع ما يدلّ على أنّ الماء الطاهر يطهّر كلّ شيء حتّى الماء النجس.

وأمّا مع تعارض العقلي والنقلي فكذلك ، كما في قوله : ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (2) و ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (3) لدلالة الأوّل على كونه تعالى ذا جارحة مخصوصة. والثاني على كونه تعالى جالسا وجسما ، وقد عارضهما الدليل العقلي الدالّ على استحالة التركّب والتجسّم ونحو ذلك في حقّه تعالى ، فتؤوّل اليد على القدرة ، والكون على العرش على الاستيلاء والسلطنة.

وإنّما خصّصنا النقلي بالتأويل ؛ لامتناع العمل بهما وإلغائهما ، والعمل بالنقلي

ص: 445


1- « الكافي » 1 : 1 / 1 من كتاب الطهارة ؛ « تهذيب الأحكام » 1 : 215 / 618 ؛ « الفقيه » 1 : 5 / 2.
2- الفتح (48) : 10.
3- طه (20) : 5.

وإبطال العقلي ؛ لأنّ العقل أصل للنقل ؛ لتوقّف صدقه عليه ، فلو أبطلنا الأصل لزم إبطال الفرع أيضا ؛ فوجب تأويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه.

قال : ( وهو قياس وقسيماه ).

أقول : الضمير في « وهو » عائد إلى ملزوم العلم والظنّ الذي هو الدليل مطلقا.

اعلم أنّ الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قياس ، واستقراء ، وتمثيل. وإلى الأخيرين أشار بقوله : « وقسيماه ».

وذلك ؛ لأنّ الاستدلال إمّا أن يكون بالعامّ على الخاصّ ، وحال الكلّيّ على حال الجزئي ، أو بالعكس ، أو بأحد المتساويين المندرجين تحت عامّ شامل لهما.

والأوّل هو أحد الأدلّة وأشرفها ؛ لإفادته اليقين ، وهو المسمّى بالقياس ؛ أخذا من المحاذاة كأنّ القائس يطلب محاذاة النتيجة للمقدّمتين في العلم.

والثاني : الاستقراء ؛ أخذا من قصد القرى قرية فقرية ، فكان المستدلّ كأنّه بتتبّع الجزئيّات مستقرئ.

والثالث : التمثيل ؛ لتشبيه أحد الجزءين بالآخر.

قال : ( والقياس اقترانيّ واستثنائيّ ).

أقول : القياس لا بدّ أن يكون المطلوب أو نقيضه مذكورا فيه بالفعل أو بالقوّة ، والأوّل يسمّى الاستثنائيّ ، والثاني الاقترانيّ.

مثال الأوّل : « إن كان هذا إنسانا ، فهو حيوان ، لكنّه إنسان » ينتج أنّه حيوان ، فالنتيجة مذكورة بالفعل. أو نقول : « لكنّه ليس بحيوان » ينتج أنّه ليس بإنسان ، فالنقيض مذكور في القياس بالفعل.

ومثال الثاني : « كلّ إنسان حيوان ، وكلّ حيوان جسم » ينتج كلّ إنسان جسم ، وهو مذكور في القياس بالقوّة.

قال : ( والأوّل باعتبار الصورة القريبة أربعة والبعيدة اثنان ).

أقول : المراد أنّ القياس الاقترانيّ له اعتباران :

ص: 446

أحدهما : بحسب مادّته ، أعني مقدّماته.

والثاني : بحسب صورته ، أعني الهيئة والترتيب اللاحقين به العارضين لمجموع المقدّمات ، وهو ما يسمّى باعتباره شكلا.

وهو بهذا الاعتبار على أربعة أقسام كلّ قسم سمّوه شكلا ؛ لأنّ الأوسط إذا كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى ، فهو الشكل الأوّل ، كقولنا : « كلّ ج ب وكلّ ب أ ».

وإن كان محمولا فيهما ، فهو الثاني ، كقولنا : « كلّ ج ب ولا شيء من أ ب ».

وإن كان موضوعا فيهما ، فهو الثالث ، كقولنا « كلّ ج ب وكلّ ج أ ».

وإن كان موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى ، فهو الرابع ، كقولنا : « كلّ ج ب وكلّ أ ج ».

وهذه القسمة باعتبار الصورة القريبة ، وأمّا بالنظر إلى الصورة البعيدة فهو ينقسم إلى قسمين : حمليّ وشرطيّ.

والحمليّ : ما كان مركّبا من الحمليّات الصرفة.

والاقترانيّ الشرطيّ : ما كان مركّبا من الحمليّ والشرطيّ أو من الشرطيّات الصرفة.

فالحمليّ كما قلنا.

والشرطي كقولنا : « كلّما كان أ ب ف ج د ، وكلّما كان ج د ف ه ر » ينتج « كلّما كان أ ب ف ه ر ». أو نقول : « كلّما كان أ ب ف ج د ، وليس البتّة إذا كان ه ز ف ج د » أو نقول :

« كلّما كان أ ب ف ج د ، وكلّما كان أ ب ف ه ز » أو نقول : « كلّما كان أ ب ف ج د ، وكلّما كان ه ز ف أ ب ».

قال : ( وباعتبار المادّة القريبة خمسة والبعيدة أربعة ).

أقول : مقدّمات القياس هي المادّة البعيدة له باعتبار مقدّمة مقدّمة ، ومجموعها - لا باعتبار صورة خاصّة وشكل معيّن - هي المادّة القريبة.

ومقدّمات القياس أربعة : مسلّمات ، ومظنونات ، ومشبّهات ، ومخيّلات.

ص: 447

هذا باعتبار المادّة البعيدة ، وأمّا باعتبار المادّة القريبة فأقسام القياس خمسة :

البرهان ، والجدل ، والخطابة ، والسفسطة ، والشعر.

بيان ذلك : أنّ مقدّمات القياس إمّا أن تفيد تصديقا أو تخييلا يجري مجراه. والثاني هو الشعري ، والأوّل إمّا أن يفيد جزما أو ظنّا. والثاني هو الخطابة ، والأوّل إمّا أن يفيد يقينا فهو البرهان ، وإلاّ فإن اعتبر فيه عموم الاعتراف والتسليم فهو الجدل ، وإلاّ فمغالطة.

ومادّة الشعر هي المخيّلات ، ومادّة الخطابة هي المظنونات ، ومادّة المغالطة هي المشبّهات ، ومادّة البرهان والجدل هي المسلّمات ؛ فالصناعات خمس حاصلة من أربع كما أشرنا.

والأولى جعل الموادّ البعيدة أيضا خمسا بجعل مادّة البرهانيّات اليقينيّات ، وجعل مادّة الجدل المسلّمات وما بقي كما ذكر.

وكيف كان فيرد ما في شرح الفاضل القوشجي من أنّه لا اختصاص لهذا التقسيم بالاقتراني ، كما هو ظاهر المتن ، بل الاستثنائي أيضا ينقسم إلى هذه الأقسام (1).

قال : ( والثاني متّصل وناتجه أمران ، وكذا غير الحقيقي من المنفصل ومنه ضعفه ).

أقول : الثاني هو القياس الاستثنائي ، وهو ضربان :

الأوّل : أن تكون مقدّمته الشرطيّة متّصلة ، وينتج منها قسمان :

أحدهما : استثناء عين المقدّم ، فالنتيجة بعين التالي.

والثاني : استثناء نقيض التالي المنتج لنقيض المقدّم.

والثاني : أن تكون منفصلة ، وهو قسمان أيضا :

أحدهما : أن تكون غير حقيقيّة.

والثاني : أن تكون حقيقيّة.

ص: 448


1- راجع « شرح تجريد العقائد » : 270.

فغير الحقيقيّة ضربان :

مانعة الجمع ، وينتج قسمان منها : استثناء عين المقدّم لنقيض التالي ، واستثناء عين التالي لنقيض المقدّم.

ومانعة الخلوّ ، وينتج قسمان منها أيضا : استثناء نقيض المقدّم لعين التالي ، واستثناء نقيض التالي لعين المقدّم.

وأمّا الحقيقيّة فإنّها تنتج أربع نتائج من استثناء عين المقدّم لنقيض التالي وبالعكس ، ومن استثناء عين التالي لنقيض المقدّم ، وبالعكس.

فالمعنى أنّ القياس الاستثنائي المتّصل ينتج من أقسامه قسمان ، والقياس الاستثنائي المنفصل بالانفصال غير الحقيقي بقسميه ينتج من أقسامه أيضا قسمان.

وأمّا القياس الاستثنائي من المنفصل الحقيقي فينتج أربع نتائج ، فتدبّر.

قال : ( والأخيران يفيدان الظنّ ، وتفاصيل هذه الأشياء مذكورة في غير هذا الفنّ ).

أقول : يريد ب- « الأخيران » الاستقراء والتمثيل ، وهما يفيدان الظنّ لا العلم ؛ فإنّ الاستقراء إن كان تامّا بتصفّح جزئيّات الكلّيّ بتمامها ، كان راجعا إلى القياس الاقتراني المسمّى بالقياس المقسّم ، كما يقال : « كلّ عدد إمّا زوج أو فرد ، وكلّ زوج هو يعدّه الواحد وكذا كلّ فرد » فينتج أنّ العدد يعدّه الواحد ، فيفيد اليقين.

فلا يقدح كونه مفيدا للعلم فيما ذكره المصنّف وإن كان ناقصا ، كما هو المتبادر عند الإطلاق ، فلا يفيد إلاّ الظنّ.

نعم ، إذا انضمّ إليه الحدس الصائب أفاد القطع وهو ليس بنفسه.

وأمّا التمثيل فهو إلحاق جزئيّ بجزئيّ في حكمه ؛ لاشتراكهما في جامع مستنبط بالسبر والتقسيم أو الدوران.

وهذا لا يفيد إلاّ الظنّ ؛ إذ يحتمل عدم كون الجامع علّة أو تكون خصوصيّة الأصل شرطا ، أو خصوصيّة الفرع مانعة أو نحو ذلك.

واعلم أنّ تفاصيل هذه الأشياء وبيان شرائطها مذكورة في علم المنطق ، وإنّما

ص: 449

ساق الكلام إليه هاهنا ، فلا وجه لإيراد أزيد ممّا ذكر هاهنا.

قال : ( والتعقّل والتجرّد متلازمان ؛ لاستلزام انقسام المحلّ انقسام الحالّ فإن تشابهت عرض الوضع للمجرّد ، وإلاّ تركّب ممّا لا يتناهى ).

أقول : هذه المسألة وما بعدها من تتمّة مباحث التعقّل ، وقد ادّعى هاهنا أنّ التعقّل والتجرّد متلازمان ، يعني أنّ كلّ عاقل مجرّد وكلّ مجرّد عاقل.

أمّا الأوّل فاستدلّ عليه - مضافا إلى ما تقدّم - بأنّ التعقّل عبارة عن إدراك شيء لم تعرضه العوارض الجزئيّة التي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجي من الكمّ والكيف ونحوهما ، وهو إنّما يكون بارتسام صورة المعقول في العاقل من حيث ذاته ، فهي مجرّدة ، وكلّ ما هو محلّ للصورة المعقولة فهو مجرّد ؛ لأنّه لو كان مادّيّا لكان منقسما ، وانقسام المحلّ يستدعي انقسام الحالّ ، إذ الحالّ إمّا أن يحلّ بتمامه في جزأي المحلّ أو في أحد جزأيه ، أو لا يحلّ في شيء منه :

والأوّل يلزم منه الانقسام ؛ إذ الحالّ في أحد الجزءين غير الحالّ في الآخر.

والثاني يفيد المطلوب مع أنّه خلاف الفرض.

والثالث خلاف الفرض.

فالصورة على هذا التقدير تكون منقسمة ، فانقسامها إمّا إلى أجزاء متشابهة في الحقيقة ، وحينئذ يلزم عروض الوضع والمقدار للصورة المعقولة التي فرضناها مجرّدة عن اللواحق المادّيّة من الوضع وغيره ، وهو محال ، أو إلى أجزاء متخالفة فيلزم تركيب الصورة من أجزاء غير متناهية بالفعل ؛ لأنّ المحلّ لكونه مادّيّا يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فالحالّ يكون كذلك ، والفرض أنّ الأجزاء متخالفة في الحقيقة ، فلا بدّ أن تكون حاصلة بالفعل ، وهذا محال كما سبق.

ويرد عليه ما سبق في مبحث تجرّد النفس.

قال : ( ولاستلزام التجرّد صحّة المعقوليّة ، المستلزمة لإمكان المصاحبة ).

أقول : هذا دليل الحكم الثاني ، وهو أنّ كلّ مجرّد عاقل.

ص: 450

وتقريره : أنّ كلّ مجرّد فإنّه يصحّ أن يكون معقولا بالضرورة ؛ إذ العائق عن التعقّل إنّما هو المادّة لا غير ، والمجرّد لا يحتاج إلى عمل يعمل به حتّى يعقل ، فإن لم يعقل ، كان ذلك من جهة العاقل ، وكلّ ما يصحّ أن يكون معقولا وحده صحّ أن يكون معقولا مع غيره ، وهو قطعيّ ، فإذن كلّ مجرّد فإنّه يصحّ أن يقارنه غيره ، وكلّ ما يصحّ أن يكون مقارنا لغيره فإذا وجد في الخارج ، تصحّ مقارنته لذلك الغير ؛ لتقدّم صحّة المقارنة المطلقة على المقارنة في العقل ؛ لتقدّم استعداد الكلّيّ على الجزئيّ. وصحّة المقارنة المطلقة غير متوقّفة على المقارنة في العقل ، وإلاّ يلزم الدور ، فإذا وجد مجرّد قائم بذاته ، تكون صحّة مقارنته بأن يحصل الغير فيه حصول الحالّ في المحلّ ؛ لامتناع حلوله فيه مع فرض كونه قائما بذاته ، وكذا حلولهما في ثالث ، والحصول على وجه الحلول معنى التعقّل ، فكلّ مجرّد يصحّ له التعقّل ، وصحّة تعقّله تستلزم صحّة تعقّل أنّه يعقل الغير ، وذلك يستلزم تعقّل ذاته ؛ لأنّ تعقّل الحكم والنسبة الحكميّة تستلزم تعقّل المحكوم عليه ، فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته فيجب ذلك ؛ لأنّ تعقّله لذاته إمّا بحصول نفسه أو بحصول مثاله ، والثاني باطل ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين ، فتعيّن كونه بحصول نفسه ، ونفسه حاصلة دائما غير غائبة عنه ، فيكون التعقّل دائما ؛ لوجود المقتضي وفقد المانع ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

واعترض (1) عليه - مضافا إلى إمكان قصر المسافة بإمكان تعقّله لذاته بالضرورة ، المستلزم لتعقّله بالفعل كما مرّ - بإمكان كون خصوصيّة ذات المجرّد مانعة ، كما يقال في كنه ذات الواجب تعالى. وبأنّ تقدّم المقارنة المطلقة - بإطلاق القيد - لا يستلزم

ص: 451


1- المعترض هو الفخر الرازي ، كما في « شرحي الإشارات » 1 : 170 - 173 ، ولمزيد الاطّلاع حول هذه المسألة انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 491 - 494 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 385 - 391 ؛ « نهاية المرام » 2 : 200 - 215 ؛ « شرح المواقف » 7 : 257 - 260 ؛ « شرح المقاصد » 3 : 360 - 362 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 271 - 273 ؛ « شوارق الإلهام » : 439.

تقدّم المقارنة المطلقة - بقيد الإطلاق - حتّى يصحّ تقدّم المقارنة الخارجيّة ، مع منع كون هذا الكلّيّ ذاتيّا ، ومنع استلزام إمكان التعقّل إمكان أن يعقل أنّه يعقل.

المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام القدرة.

قال : ( ومنها القدرة ، وتفارق الطبيعة والمزاج بمقارنة الشعور والمغايرة في التابع ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن العلم شرع في البحث عن القدرة.

وأشار بقوله : « ومنها » إلى كونها من الكيفيّات النفسانيّة ؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس.

واعلم أنّ الجسم - من حيث هو - غير مؤثّر ، وإلاّ لتساوت الأجسام في ذلك ، وإنّما يؤثّر باعتبار صفة قائمة به ، فالصفة المؤثّرة إمّا أن تؤثّر مع الشعور أو بدونه ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يتشابه التأثير أو يختلف ، فالأقسام أربعة :

أحدها : الصفة المقترنة بالشعور المتّفقة في التأثير ، وهي القوّة الفلكيّة.

الثانية : المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير ، وهي القوّة الحيوانيّة ، أعني القدرة التي يأتي البحث عن أحكامها.

الثالثة : الصفة المؤثّرة غير المقترنة بالقصد والشعور المتّحدة في التأثير ، وهي الطبيعة.

الرابعة : الصفة المؤثّرة غير المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير ، وتسمّى النفس النباتيّة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : القدرة صفة مؤثّرة على وفق الإرادة في الأفعال المتعدّدة ، وهي مغايرة للطبيعة والمزاج.

أمّا الأوّل : فلوجوب اقترانها بالشعور ، بخلاف الطبيعة.

وأمّا الثاني : فلأنّ المزاج كيفيّة متوسّطة بين الحرارة والبرودة ، فتكون من

ص: 452

جنسهما فتكون تابعة ، أعني تأثيره من جنس تأثيرهما.

وأمّا القدرة فإنّ تأثيرها مضادّ لتأثيرهما.

وإلى هذا أشار بقوله : « والمغايرة في التابع » ففي الكلام لفّ ونشر مرتّب مع احتياج قوله : « في التابع » إلى التكلّف ، كما لا يخفى.

قال : ( مصحّحة للفعل بالنسبة ).

أقول : القدرة صفة تقتضي صحّة الفعل من الفاعل لا إيجابه ؛ فإنّ القادر هو الذي يصحّ منه الفعل والترك معا فلو اقتضت الإيجاب لزم المحال ، وهو اجتماع الضدّين في الوجود.

ومعنى قوله : « بالنسبة » أي باعتبار نسبة الفعل إلى الفاعل ، وذلك لأنّ الفعل صحيح في نفسه لا يجوز أن يكون للقدرة مدخل في صحّته الذاتيّة ؛ لأنّ الإمكان للممكن واجب ، أمّا نسبته إلى الفاعل فجاز أن تكون معلّلة بالقدرة.

هذا هو الذي فهمناه من قوله : « بالنسبة ».

قال : ( وتعلّقها بالطرفين على السواء ).

أقول : المشهور (1) من مذهب الحكماء والمعتزلة والإماميّة أنّ القدرة متعلّقة بالضدّين.

وقالت الأشاعرة (2) : إنّما تتعلّق بطرف واحد ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل لا قبله ، فلا تتعلّق بالضدّين ، وإلاّ يلزم اجتماعهما ؛ لوجوب مقارنتهما لتلك القدرة المتعلّقة بهما.

ص: 453


1- انظر : « نقد المحصّل » : 167 ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 397 وما بعدها وفيه نسب هذا القول إلى الثانية من فرقتي الأشاعرة ، ونقله في « شرح المواقف » 6 : 102 و « شرح المقاصد » عن أكثر المعتزلة ؛ « نهاية المرام » 2 : 261 - 267 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 131 ؛ « إرشاد الطالبين » : 96.
2- « المحصّل » : 254 - 255 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 506 - 507 ؛ « شرح المواقف » 6 : 102 - 106 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 357 - 360 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 273 - 274.

وفيه نظر ؛ لأنّ القدرة هي مبدأ الأفعال المختلفة بحيث متى انضمّت إليها إرادة أحد الضدّين حصل ذلك الضدّ ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين على السواء ، وإلاّ لم يكن بين القادر والموجب فرق.

قال : ( وتتقدّم الفعل ؛ لتكليف الكافر ، وللتنافي ، وللزوم أحد المحالين لولاه ).

أقول : المراد أنّ القدرة قبل الفعل ، كما عن الحكماء والمعتزلة (1).

وقالت الأشاعرة (2) : إنّها مقارنة للفعل.

والضرورة قاضية ببطلان هذا المذهب ؛ فإنّ القاعد يمكنه القيام قطعا.

والأشاعرة بنوا مقالتهم على أصل لهم - سيأتي بطلانه - وهو أنّ العرض لا يبقى.

ثمّ إنّ المعتزلة استدلّوا على مقالتهم بوجوه ثلاثة (3) :

الأوّل : أنّ القدرة لو لم تتقدّم الفعل قبح تكليف الكافر ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح ، فلو لم يكن الكافر متمكّنا من الإيمان حال كفره ، لزم التكليف بما لا يطاق وهو غير واقع ؛ لقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (4).

الثاني : أنّه لو لم تكن القدرة قبل الفعل لزم التنافي.

ص: 454


1- « الشفاء » الإلهيّات : 176 وما بعدها ؛ « شرح الأصول الخمسة » : 396 وما بعدها ، والإماميّة قالت : إنّ القدرة متقدّمة على الفعل ، كما في « نهاية المرام » 2 : 248 ؛ « مناهج اليقين » : 79 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 1290 ؛ « إرشاد الطالبين » : 95.
2- « المباحث المشرقيّة » 1 : 505 - 506 ؛ « المحصّل » : 353 ؛ « شرح المواقف » 6 : 88 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 2 : 354 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 374.
3- لمزيد الاطّلاع حول أدلّة المعتزلة انظر : « شرح الأصول الخمسة » : 396 ؛ « المحصّل » : 253 - 254 ؛ « نهاية المرام » 2 : 250 - 255 ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : 129 - 130 ؛ « شرح المواقف » 6 : 93 - 98 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 355 - 357 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 274 - 275.
4- البقرة (2) : 286.

وبيان الملازمة : أنّ القدرة محتاج إليها لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، وكونها مع الفعل لا قبله يلزمه أن يستغنى عنها ؛ لأنّه حال وجود الفعل صار الفعل موجودا فلا حاجة إليها ، مع أنّ الفعل إنّما يخرج بالقدرة.

وإلى هذا أشار بقوله : « وللتنافي ».

الثالث : أنّه لو لم تكن القدرة متقدّمة لزم إمّا حدوث قدرة اللّه تعالى ، أو قدم الفعل والعالم ؛ ضرورة عدم انفكاك أحدهما عن الآخر.

والقسمان محالان ؛ لأنّ قدرة اللّه عين ذاته تعالى ، وحدوثها يستلزم حدوث الواجب ، وهو محال بالبديهة. وعلى تقدير الزيادة يلزم نقيض الواجب ، وهو أيضا محال مناف لوجوب الوجود ، وكذا قدم العالم ؛ لما مرّ وسيأتي ، فالمقدّم باطل.

وإلى هذا أشار بقوله : « وللزوم أحد المحالين لولاه » أي لو لا التقدّم.

قال : ( ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدّد القادر ).

أقول : المراد أنّه لا يمكن وقوع المقدور الواحد بقادرين مستقلّين ؛ لما مرّ من امتناع اجتماع علّتين مستقلّتين في معلول واحد شخصيّ.

والدليل عليه أنّه لو وقع بهما لزم استغناؤه بكلّ واحد منهما حال حاجته إليه ، وهو باطل بالضرورة.

ويمكن تعلّق القادرين بمقدور واحد بأن يكون ذلك الشيء مقدورا لكلّ واحد منهما وإن لم يقع إلاّ بأحدهما ؛ ولهذا قال : « ولا يتّحد وقوع المقدور » ولم يقل : ولا يتّحد المقدور.

ومن زعم أنّ القدرة قد تكون كاسبة لا مؤثّرة (1) ، فقد جوّز اجتماع قدرتين : كاسبة ومؤثّرة على مقدور واحد بكون الكاسبة متعلّقة من غير تأثير.

وهو باطل ؛ لما سبق.

ص: 455


1- زعمه الأشعري وأصحابه ، على ما في « شرح المواقف » 6 : 84 - 86 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 358 - 360 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 275.

قال : ( ولا استبعاد في تماثلها ).

أقول : ذهب قوم من المعتزلة (1) إلى أنّ أفراد القدرة مختلفة. وهو مبنيّ على أصل لهم ، وهو : أنّه لا تجتمع قدرتان لقادر واحد على مقدور واحد ، وإلاّ لأمكن اتّصاف ذاتين بهما ، فيجتمع على المقدور الواحد قادران ، وهو محال ؛ لما مرّ.

وإذا ثبت امتناع اجتماع قدرتين على مقدور [ واحد ] (2) ثبت اختلاف القدرة ، بمعنى أنّ قدرة شخص على مقدور يمتنع أن تكون متماثلة لقدرة الآخر ؛ لأنّ التماثل في المتعلّق يستلزم اتّحاد المتعلّق ؛ لاتّحاد الاقتضاء.

ونحن لمّا جوّزنا تعلّق القادرين بمقدور واحد اندفع هذا الدليل ، وحينئذ يجوز وقوع التماثل فيها كغيرها من الأعراض ؛ لأنّ حال القدرتين كحال القادرين ، فيجوز تعلّقهما بمقدور واحد شخصيّ تبادلا لا تناولا ، فإذا وقع بإحداهما امتنع أن يقع بالأخرى ؛ لما سبق.

قال : ( وتقابل العجز تقابل الملكة والعدم ).

أقول : هذا إشارة إلى بيان ما هو الحقّ فيما اختلفوا فيه من أنّ التقابل بين القدرة والعجز تقابل التضادّ أو تقابل العدم والملكة ؛ إذ العجز عند الأوائل وبعض المعتزلة (3) - على ما حكي - عدم القدرة عمّا من شأنه أن يكون قادرا ، فهو عدم ملكة القدرة.

وذهب الأشعريّة وجمهور المعتزلة (4) - على ما حكي - إلى أنّه معنى يضادّ القدرة ؛

ص: 456


1- انظر : « مناهج اليقين » 82 - 83 ؛ « شرح المواقف » 6 : 119 - 120 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 276 ؛ « شوارق الإلهام » : 446.
2- الزيادة أضفناها من « كشف المراد ».
3- نقل عن أبي هاشم والأصمّ في « شرح المواقف » 6 : 106 ، وعن أبي هاشم في « شرح المقاصد » 2 : 361 و « شرح تجريد العقائد » : 276.
4- نقل عن الأشاعرة فقط في « المحصّل » : 255 ، وعنهم وعن جمهور المعتزلة في « شرح المواقف » 6 : 106 ، وعن بعض المعتزلة في « شرح الأصول الخمسة » : 430 ، وعن الأشاعرة وأبي عليّ وأبي هاشم في أحد أقواله في « مناهج اليقين » : 85.

لأنّه ليس جعل العجز عدما للقدرة أولى من العكس.

وهو خطأ ؛ لأنّه لا يلزم من عدم الأولويّة عندهم عدمها في نفس الأمر ، ولا من عدمها في نفس الأمر ثبوت معنى وجوديّ للعجز ، بل الحقّ - كما اختاره المصنّف رحمه اللّه - أنّه عرض عدميّ مقابل القدرة.

أمّا كونه عرضا : فللتفرقة الضروريّة بين الزمن والممنوع من القيام.

وأمّا كونه عدميّا فلأنّ المعقول من القدرة هو التمكّن أو ما هو علّة له ، ومن العجز عدمه.

قال : ( وتغاير الخلق لتضادّ أحكامهما ، والفعل ).

أقول : الخلق ملكة نفسانيّة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير سابقة فكر ورويّة ، فهو مغاير للقدرة ؛ لتضادّ أحكامها ؛ لأنّ القدرة تساوي نسبتها إلى الضدّين ، والخلق ليس كذلك ؛ لتعلّقه بالوجود خاصّة ، وتضادّ الحكم يقتضي تضادّ منشئه. وكذا الخلق يغاير الفعل ؛ لأنّ الفعل متعلّقه ، مع أنّه قد يصدر على وجه التكلّف من دون سهولة ، وقد يكون على خلاف مقتضى الخلق ، كالغضب من الحليم الخليق في غير موضعه.

ولا يخفى أنّ هذه العبارة لا تخلو من إيراد ؛ فإنّ قوله : « والفعل » عطف على قوله : « الخلق » نظرا إلى الظاهر ، فيصير المعنى أنّ القدرة تغاير الفعل ، لا أنّ الخلق يغايره.

وفي بعض النسخ هكذا « ويضادّ الخلق القدرة لتضادّ أحكامهما ، والفعل » وعلى هذا لا يرد ما ذكر ، ولكن يرد أنّ تضادّ العرضين مستلزم لتغاير محلّيهما.

والظاهر جواز اجتماعهما في محلّ واحد بالقياس إلى فعل واحد.

اللّهمّ إلاّ أن يكتفى في التضادّ بمجرّد امتناع الاجتماع في الصدق ، أو كون ذلك هو المراد ، فافهم.

ص: 457

المسألة الرابعة والعشرون : في الألم واللذّة.

قال : ( ومنها : الألم واللذّة ، وهما نوعان من الإدراك تخصّصا بإضافة تختلف بالقياس ).

أقول : من الكيفيّات النفسانيّة الألم واللذّة ، ومرجعهما إلى الإدراك ، وهما نوعان منه تخصّصا بإضافة تختلف بالقياس ؛ لأنّ اللذّة عبارة عن إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر ، فهما نوعان من الإدراك يخصّص كلّ واحد منهما بإضافته إلى الملاءمة والمنافرة ، وهما أمران يختلفان بالقياس إلى الأشخاص ؛ إذ قد يكون الشيء ملائما لشخص ومنافرا للآخر.

وعن الإمام الرازي (1) أنّه لم يثبت أنّ اللذّة نفس إدراك الملائم أو غيره ، وبتقدير المغايرة هل هي معلولة أم لا؟ وبتقدير المعلوليّة هل يمكن حصولها بطريق آخر أم لا؟ وأنّ الألم ليس هو نفس إدراك المنافر ولا هو كاف في حصوله ، كما في سوء المزاج بغلبة الرطوبة ، فتدبّر.

قال : ( وليست اللذّة خروجا عن الحالة الطبيعيّة لا غير ).

أقول : نقل عن محمّد بن زكريّا الطبيب أنّ اللذّة ليست إلاّ العود إلى الحالة الطبيعيّة بعد الخروج عنها (2) ، وهو معنى الخلاص عن الألم ، كالأكل للجوع والجماع لدغدغة شهوة المنيّ.

وفيه : أنّه من أسباب اللذّة ؛ إذ بالعود إلى الحالة الملائمة يحصل إدراكها ؛ فإنّا نجد من أنفسنا حالة نسمّيها باللذّة.

ص: 458


1- « المباحث المشرقيّة » 1 : 516.
2- انظر : « شرح المواقف » 6 : 137 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 366 ؛ « شوارق الإلهام » : 444. ونسب العلاّمة في « نهاية المرام » 2 : 277 هذا الكلام إلى القيل. ولمزيد الاطلاع حول تفسير ذلك راجع «المحصل»: 257؛ «المباحث المشرقية» 512:1 - 513 ؛ «نقد المحصل»: 171؛ «نهاية المرام» 276:2 - 277؛ «كشف المراد»: 351؛ «مناهج اليقين»:121.

وأيضا قد تحصل اللذّة من غير سابقة ألم أو حالة غير طبيعيّة ، كما في مطالعة جمال أو مصادفة مال من غير طلب ولو على الإجمال.

فيرد عليه :

أوّلا : منع أنّ اللّذة دفع الألم.

وثانيا : منع الانحصار فيه.

ولكن في عبارة الكتاب إشكال وخروج عن الصواب ؛ فإنّ الصحيح أن يقول : « إلى » مكان « عن » أو نحو ذلك.

اللّهمّ إلاّ أن تكون « عن » بمعناها ، كما تكون بمعنى « بعد » في قوله تعالى : ( طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) (1) ونحوه.

قال : ( وقد يستند الألم إلى التفرّق ).

أقول : للألم - كما عن الشيخ (2) وغيره (3) - سببان : أحدهما : تفرّق الاتّصال ، فإنّ مقطوع اليد يحسّ بالألم بسبب تفرّق اتّصالها عن البدن.

وقد نازع في ذلك بعض المتأخّرين (4) - على ما حكي - بأنّ التفرّق أمر عدميّ ، فلا يكون علّة للوجوديّ.

ص: 459


1- الانشقاق (84) : 19.
2- « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 60 - 61 ؛ « المباحثات » : 69 ، الرقم 97.
3- لغير الشيخ في المقام أقوال : منها : أنّ السبب الذاتي هو تفرّق الاتصال ، نقلا عن جالينوس وأكثر الأطبّاء أو جميعهم والأوائل والمعتزلة أو بعضهم مثل القاضي عبد الجبار. ومنها أنّ السبب الذاتي هو المزاج ، وإليه مال الفخر الرازي وجمع من المتأخّرين. ومنها : أنّ كلاّ منهما يصلح سببا بالذات. انظر : « المغني » ٩ : ١٣٧ و ١٦٠ ؛ ١٣ : ٢٧٢ ؛ « المباحث المشرقيّة » ١ : ٥١٨ ؛ « المحصّل » : ٢٥٨ ؛ « نقد المحصّل » : ١٧١ _ ١٧٢ ؛ « مناهج اليقين » : ١٢١ _ ١٢٢ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٢٨٧ _ ٢٩٢ ؛ « شرح المواقف » ٦ : ١٣٨ _ ١٤٤ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٣٠ _ ١٣٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٧٨ _ ٢٧٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤٤٤ _ ٤٤٥.
4- هو الفخر الرازي في « المحصّل » : 258.

وفيه نظر ؛ لأنّ التفرّق ليس عدما ، بل المراد الإعدام وإزالة الاتّصال ، وإن كان في العبارة مسامحة.

ولو سلّم فليس عدما محضا ، فجاز التعليل به.

على أنّ التفرّق إنّما كان علّة بالعرض ، فإنّ العلّة بالذات هي سوء المزاج.

الثاني : سوء المزاج المختلف ؛ لأنّ سوء المزاج المتّفق لا يقتضي التألّم.

بيان ذلك : أنّ سوء المزاج قسمان : متّفق ؛ ومختلف.

فالمتّفق مزاج غير طبيعي يرد عليه ولا يبطله ، بل يزيده ويتمكّن فيه بحيث يصير كأنّه المزاج الطبيعي.

والمختلف مزاج غير طبيعيّ يرد عليه ويبطله ولكن يخرجه عن الاعتدال ، وهو المؤلم دون الأوّل ؛ ولهذا يجد صاحب الغبّ (1) التهابا منافرا لا يجده المدقوق.

وممّا ذكرنا يظهر اندفاع ما حكي عن الإمام الرازي (2) من إنكار كون الألم بسبب تفرّق الاتّصال تمسّكا بأنّ من قطع يده بسكّين حديد في غاية الغاية لم يحسّ الألم إلاّ بعد زمان ، وأنّ الغذاء إذا صار جزءا من المغتذي يفرّق اتّصال أجزائه.

قال : ( وكلّ واحد منهما : حسّيّ ، وعقليّ وهو أقوى ).

أقول : يريد قسمة اللذّة والألم بالنسبة إلى الحسّ والعقل ، وذلك أنّ جماعة (3) أنكروا العقليّ منهما.

والحقّ خلافه ؛ لأنّا نلتذّ بالمعارف ، وهي لذّات عقليّة لا تعلّق للحسّ بها ، ونتألّم بفقدانها ، بل هذه اللذّة أقوى من اللذّة الحسّيّة ؛ ولهذا يترك اللذّة الحسّيّة لأجل اللذّة الوهميّة ، فكيف العقليّة.

ص: 460


1- أي صاحب الحمّى التي تجيء يوما وتذهب يوما.
2- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 515 - 516.
3- نسبه في « الإشارات والتنبيهات » إلى الأوهام العامّيّة ، كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 334 ، ونسبه في « شوارق الإلهام » : 445 إلى من هو من أهل الظاهر.

وأيضا فإنّ الحسّ إنّما يدرك ظواهر الأجسام ولا تعلّق له بالأمور الكلّيّة ، والعقل يدرك باطن الشيء ويميّز الذاتيّات والعوارض ، ويفرّق بين الجنس والفصل ، ويكون إدراكه أتمّ فتكون اللذّة فيه أقوى ؛ ولهذا يترك الطلاّب المستلذّات الحسّية الجسميّة بالمطالعة ، ويقول من أدرك مسألة عالية غامضة جليلة : « أين أبناء الملوك تلذّ هذه اللذّة » (1).

المسألة الخامسة والعشرون : في الإرادة والكراهة.

قال : ( ومنها : الإرادة والكراهة ، وهما نوعان من العلم ).

أقول : من الكيفيّات النفسانيّة الإرادة والكراهة ، وهما - عند جماعة ، كالمصنّف وكثير من المعتزلة (2) - نوعان من العلم بالمعنى الأعمّ ، وهو الاعتقاد الراجح ؛ وذلك لأنّ الإرادة عبارة عن اعتقاد النفع بسبب قطعه أو ظنّه بما في الفعل من المصلحة ، والكراهة اعتقاد الضرر بسبب اعتقاد ما فيه من المفسدة.

وقال آخرون (3) : إنّ الإرادة والكراهة زائدتان على هذا العلم مرتّبتان عليه ؛ إذ الإرادة ميل يتعقّب اعتقاد النفع ، والكراهة انقباض يتعقّب اعتقاد الضرر ؛ لأنّا كثيرا ما نعتقد نفعا في شيء ولا نريده.

وعن الأشاعرة (4) أنّ الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع أو ميل يتبعه ، كما في

ص: 461


1- نقله في « آداب المتعلّمين » ضمن « جامع المقدّمات » 2 : 56 عن محمّد بن الحسن الطوسي.
2- نقله عنهم في « مناهج اليقين » : 171 ؛ « شرح المواقف » 6 : 64 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 279 ؛ « شوارق الإلهام » : 446.
3- أي من المعتزلة ، الذين منهم عبد الجبّار في « المغني » 6 : 8 - 30 و « شرح الأصول الخمسة » ، ونقل عن غيره من المعتزلة في « مناهج اليقين » : 171 ؛ « شرح المواقف » 6 : 64 - 65 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 328 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 277 ؛ « شوارق الإلهام » : 277 ، ونقل الفخر ذلك عن الفلاسفة في « المطالب العالية » 3 : 175.
4- « المطالب العالية » 3 : 175 - 178 ؛ « شرح المواقف » 6 : 67 - 70 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 337 - 338 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 279 ؛ « شوارق الإلهام » : 446.

إرادة الهارب عن السبع سلوك أحد الطريقين المتساويين من دون خطور نفع حتّى يتبعه ميل.

والحقّ أنّ الإرادة قد تطلق ويراد منها العلم بالمصلحة المقتضية لمشيئة الفعل كالكراهة للعلم بالمفسدة المقتضية لمشيئة الترك ؛ ولهذا يقال : إنّ الإرادة عين ذات اللّه تعالى.

وقد تطلق على نفس المشيئة ، ولهذا المعنى يقال : إنّها زائدة ، وهي بهذا المعنى غير العلم بالنفع أو الضرر أو المصلحة أو المفسدة ؛ لأنّا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشيء أو عنه مرتّبا على هذا العلم.

وهو يفارق الشهوة ؛ فإنّ المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه.

قال : ( وأحدهما لازم مع التقابل ).

أقول : المحكيّ عن الشيخ الأشعري وأتباعه (1) أنّ إرادة الشيء نفس كراهة ضدّه ؛ لعدم كونهما مثلين أو ضدّين وإلاّ لامتنع اجتماعهما ، ولا متخالفين وإلاّ لجاز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ، كالسواد المخالف للحلاوة.

وأجيب (2) بجواز كون المتخالفين متلازمين ، فيمتنع اجتماع الملزوم مع ضدّ اللازم ، وبجواز كون الضدّين ضدّين لأمر واحد ، كالنوم للعلم والقدرة ، فيمتنع اجتماع كلّ مع ضدّ الآخر.

وعن جماعة القول بالتغاير وإن اختلفوا في الاستلزام وعدمه - بمعنى أنّ إرادة الشيء تستلزم كراهة ضدّه المشعور به أم لا - على قولين (3).

والمصنّف اختار القول بالتغاير والاستلزام ، فأفاد أنّ كلاّ من الإرادة والكراهة

ص: 462


1- حكاه عنهم في « شرح المواقف » 6 : 73 - 75 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 341 - 342 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 280.
2- « شرح المواقف » 6 : 75 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 341 - 342 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 280.
3- نسب القول الأوّل إلى القاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي ، والثاني قال به جماعة منهم صاحب المواقف.

لازم للآخر مع تقابل المتعلّقين ؛ فإنّ إرادة أحد المتقابلين لازمة لكراهة المتقابل الآخر لا نفسها ، وبالعكس بشرط الشعور بالمقابل.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك يتمّ بالنسبة إلى الترك الذي هو المقابل على وجه الإيجاب والسلب ، لا مطلق الضدّ ، لجواز أن لا يتعلّق بالضدّ كراهة ولا إرادة.

ومن هذا يتفرّع ما في علم الأصول من أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن الضدّ ، أو مستلزم له أو لعدم الأمر بالضدّ ، أو ليس عينه ولا ملزومه كما هو الحقّ ، لجواز الميل إلى الشيء وإرادته والأمر به مع الغفلة عن مقابله.

قيل : ويجوز أن يكون معنى قوله : « وأحدهما لازم مع التقابل » أنّ أحدهما لازم للعلم قطعا ؛ إذ المعلوم إمّا أن يشتمل فعله على نوع من المصلحة أو على نوع من المفسدة ، فأحد الأمرين لازم ، لكن لا يلزمه أحدهما بعينه ؛ للتقابل بينهما ، بل اللازم واحد لا بعينه (1) ، فتأمّل.

قال : ( ويتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل وغيره ).

أقول : الذي يظهر لنا من هذا الكلام أنّ الإرادة والكراهة يتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل بالإرادة وغيره ؛ وذلك لأنّ الإرادة إن كانت لنفس فعل الفاعل بأن تعلّقت بفعل من أفعال نفسه ، فهي عبارة عن صفة تقتضي تخصيصه بالإيجاد دون غيره من الأفعال في وقت خاصّ دون غيره من الأوقات. وإن كانت لفعل الغير فإنّها لا تؤخذ بهذا المعنى ، بل بمعنى طلب إيجاده وكذا الكراهة.

والذي فسّره به الشارح القوشجي (2) أنّ الإرادة بالنسبة إلى الفاعل الحقيقي - وهو اللّه تعالى - بالقياس إلى فعله تعالى موجبة للمراد بالاتّفاق ، وبالقياس إلى فعل غيره على الاختلاف. وإرادة غيره بالنسبة إلى غيره غير موجبة بالاتّفاق وبالقياس إلى فعل نفسه على نفسه على الاختلاف ، فالأشاعرة وجماعة من المعتزلة (3) قالوا

ص: 463


1- وهو الاحتمال الذي ذكره العلاّمة في « كشف المراد » : 252.
2- « شرح تجريد العقائد » : 282.
3- « المغني » 6 : 84 - 88 ؛ « شرح المواقف » 6 : 66 - 67 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 281 ؛ « شوارق الإلهام » : 447.

بالمقارنة ، وطائفة من قدماء المعتزلة (1) قالوا بكونها موجبة ، بمعنى أنّ المراد إذا خطر بالبال واعتقد نفعه حصل الميل ، ثمّ إذا اشتدّ هذا الاعتقاد حصل العزم. ثمّ اذا اشتدّ حصل الجزم ، فإذا زال التردّد حصل القصد المقارن للفعل.

وعلى هذا القياس حال الكراهة بالنسبة إلى ترك الفعل ، فتأمّل.

قال : ( وقد تتعلّقان بذاتيهما بخلاف الشهوة والنفرة ).

أقول : المراد أنّ الإرادة قد تراد والكراهة قد تكره ، وهذا حكم ظاهر ، لكنّ الإرادة المتعلّقة بالإرادة ليست هي الإرادة المتعلّقة بالفعل ؛ لأنّ اختلاف المتعلّقات يقتضي اختلاف المتعلّقات. أمّا الشهوة والنفرة فلا يصحّ تعلّقهما بذاتيهما ؛ فالشهوة لا تشتهى والنفرة لا ينفر عنها ؛ لأنّ الشهوة والنفرة إنّما تتعلّقان بالمدرك لا بمعنى أنّه يجب أن يكون موجودا ، فقد تتعلّق الشهوة والنفرة بالمعدوم ، وهما غير مدركين ، وكلام المريض : « أشتهي أن أشتهي » مجاز معناه أريد أن أشتهي.

وعن صاحب المواقف (2) أنّ الإرادة إذا فسّرت باعتقاد النفع أو الميل التابع له جاز تعلّقها بنفسها ، وأمّا إذا فسّرت بالصفة المخصّصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع فلا يجوز تعلّقها بنفسها ؛ للزوم التسلسل.

والظاهر عدم صدور إرادة الإرادة من العقلاء وغيرهم ؛ فأنّ المراد فيما يقال : « أراد » أن يريد الميل إلى الإرادة من أصلها ، بل بإرادة المراد يوجد المراد والإرادة ، فالإرادة تصدر من الفاعل المختار بالاختيار بنفسها لا بإرادة أخرى.

ويشهد على هذا ما ورد من قوله علیه السلام : « خلق اللّه الأشياء بالمشيئة ، وخلق المشيئة بنفسها » (3).

ص: 464


1- « شرح المواقف » 6 : 66 - 67 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 281 ؛ « شوارق الإلهام » : 447.
2- « شرح المواقف » 6 : 71 - 72.
3- « الكافي » 1 : 110 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل ... ح 4 وفيه : « خلق اللّه المشيئة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة ». وفي « التوحيد » : 3. الباب 11 ، ح 2019 « خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة ».

والأولى أن يتمسّك في المغايرة بأنّ الإنسان قد يريد شرب دواء كريه في غاية الكراهة فيشربه ولا يشتهيه بل ينفر عنه ، وقد يشتهي طعاما لذيذا ولا يريده إذا كان فيه هلاكه ، فقد وجد كلّ منهما بدون الأخرى. وكذا الحال بين الكراهة والنفرة.

قال : ( فهذه الكيفيّات تفتقر إلى الحياة ، وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة مشروطة باعتدال المزاج عندنا ).

أقول : هذه الكيفيّات النفسانيّة التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه مشروطة بالحياة وهو ظاهر.

ثمّ فسّر الحياة بأنّها صفة تقتضي الحسّ والحركة ، وزادها إيضاحا بقوله : « مشروطة باعتدال المزاج » ثمّ قيّد ذلك بقوله : « عندنا » ليخرج عنه حياة واجب الوجود ؛ فإنّها غير مشروطة باعتدال المزاج ولا

تقتضي الحسّ والحركة ، فيكون المعنى أنّ الحياة صفة تقتضي الحسّ والحركة اقتضاء مشروطا باعتدال المزاج اعتدالا نوعيّا بالنسبة إلينا ، لا بالنسبة إلى الواجب.

وقيل : هي قوّة تكون مبدأ لقوّة الحسّ والحركة (1).

وقيل : قوّة تتبع اعتدال النوع وتفيض عنها سائر القوى الحيوانيّة أي المدركة. والمحرّكة (2).

ومعنى اعتدال النوع أنّ لكلّ نوع من المركّبات العنصريّة مزاجا خاصّا هو أصلح الأمزجة بالنسبة إليه ، بحيث إذا خرج عن ذلك المزاج ، لم يكن ذلك النوع ، فإذا حصل في المركّب اعتدال يليق بنوع من أنواع الحيوان ، فاضت عليه قوّة الحياة ، وانبعثت عنها بإذن اللّه تعالى الحواسّ الظاهرة والباطنة والقوى المحرّكة نحو جلب

ص: 465


1- هذا هو القول بالمغايرة بين الحياة وبين قوّتي الحسّ والحركة الذي قال به الشيخ.
2- اختاره الإيجي ، كما في « شرح المواقف » 5 : 288.

المنافع ودفع المضارّ ، فتكون الحياة مشروطة باعتدال المزاج ، وهي غير الحسّ والحركة وقوّة التغذية والتنمية ؛ لوجودها في العضو المفلوج والذابل من غير حسّ وحركة وتغذية وتنمية.

قال : ( فلا بدّ من البنية ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم من اشتراط الحياة باعتدال المزاج ؛ فإنّ ذلك إنّما يتحقّق بالبنية ، وهي البدن المؤلّف من العناصر ؛ لأنّ المزاج لا يتصوّر إلاّ بتأليفها ، وهو ظاهر.

والأشاعرة (1) أنكروا ذلك وجوّزوا وجود حياة في محلّ غير منقسم بانفراده كما حكي. وهو ظاهر البطلان.

قال : ( وتفتقر إلى الروح ).

أقول : المراد أنّ الحياة تفتقر إلى الروح الحيواني ، وهي أجسام لطيفة متكوّنة من بخار الأخلاط السارية في العروق ، ينبعث من القلب من التجويف الأيسر ويسري إلى البدن في عروق نابتة من القلب تسمّى بالشرايين. وحاجة الحياة إليها ظاهرة.

قال : ( وتقابل الموت تقابل العدم والملكة ).

أقول : الموت هو عدم الحياة عن محلّ وجدت فيه ، فهو مقابل للحياة مقابلة العدم والملكة ، كالعمى بعد البصر ، لا كمطلق العمى ، فلا يكون عدم حياة الجنين موتا وإن أطلق عليه مجازا.

وذهب أبو عليّ الجبّائي - على ما حكي (2) - إلى أنّه معنى وجوديّ يضادّ الحياة ؛ لقوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ) (3) فإنّ الخلق يستدعي الإيجاد المستلزم

ص: 466


1- انظر : « المحصّل » : 242 ؛ « شرح المواقف » 5 : 293 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 294 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 283.
2- نقله في « المحصّل » : 240 من دون نسبته لأحد ، وفي « مناهج اليقين » : 75 نقله عن أبي عليّ وأبي القاسم البلخي ، ونسبه إلى القيل في « شرح المواقف » 5 : 295 و « شرح المقاصد » 2 : 296 و « شرح تجريد العقائد » : 283 و « شوارق الإلهام » : 448.
3- الملك (67) : 2.

لكونه موجودا ووجوديّا ؛ ولهذا يقال : إنّ الموت فعل من أفعال اللّه تعالى أو من الملائكة يقتضي زوال حياة الجسم من غير جرح.

واحترز بالقيد الأخير عن القتل ، ولا بدّ من إرادة ما يعمّ جميع أسباب القتل من الجرح وغيره.

وهو ضعيف ؛ لأنّ الخلق هو التقدير ، وذلك لا يستدعي كون المقدور وجوديّا مع أنّ الأمور العدميّة قد تحدث بعد أن لم تكن ، كالعمى الطارئ ، فيكون المراد إحداث أسباب الموت على حذف المضاف ، ولا أقلّ من الاحتمال المبطل للاستدلال.

المسألة السادسة والعشرون : في باقي الكيفيّات النفسانيّة.

قال : ( ومن الكيفيّات النفسانيّة : الصحّة والمرض ).

أقول : الصحّة والمرض من الكيفيّات النفسانيّة عند الشيخ.

أمّا الصحّة فقد حدّها في « الشفاء » (1) بأنّها ملكة في الجسم الحيواني تصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعيّة وغيرها (2) على المجرى الطبيعي غير مئوفة (3).

والمرض حال أو ملكة مقابلة لتلك ، كذا حكي.

وعن القانون « أنّ الصحّة ملكة أو حالة تصدر عنها - أي لأجلها - الأفعال من الموضوع لها سليمة » (4) بمعنى أنّ الصحّة هي الكيفيّة النفسانيّة ولو كانت غير راسخة.

وإنّما قدّم الملكة مع أنّها متأخّرة في الوجود ؛ لأنّها أشرف من الحال وأغلب في الصحّة.

ص: 467


1- « الشفاء » المنطق 1 : 253.
2- كالإرادة. من حاشية نسخة المصنّف.
3- من الآفة ، يقال : طعام مئوف ، أي أصابته آفة. انظر : « لسان العرب » 1 : 3. « أوف ».
4- « القانون » 1 : 14 نقلا عن « نهاية المرام » 2 : 302 - 303.

وهاهنا إشكال محكيّ عن الإمام (1) ؛ فإنّ المتضادّين يدخلان تحت جنس واحد ، فالصحّة دخلت في الحال والملكة ، وكذا المرض ، لكن أجناس المرض المفرد ثلاثة : سوء المزاج ، وسوء التركيب ، وتفرّق الاتّصال.

فسوء المزاج إن كان هو الحرارة الزائدة - مثلا - فمن الكيفيّات الفعليّة أو المحسوسة ، لا من الكيفيّات النفسانيّة المنقسمة إلى الحال والملكة. وإن كان هو اتّصاف البدن بها ، فمن مقولة « أن ينفعل ».

وسوء التركيب عبارة عن مقدار أو عدد أو وضع أو شكل أو انسداد مجرى يخلّ بالأفعال ، ولا شيء منها بحال ولا ملكة ؛ لأنّ المقدار والعدد من الكمّيّات ، والوضع مقولة برأسها ، والشكل من الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات ، والانسداد من الانفعال.

وتفرّق الاتّصال عدميّ لا يدخل تحت مقولة ، وإذا لم يدخل المرض تحت الحال والملكة ، لم تدخل الصحّة تحتهما ، لكونها ضدّا له.

وأجيب (2) بأنّا لو سلّمنا كون التضادّ حقيقيا فإنّ [ في ] تقسيم المرض إلى ما ذكر تسامحا ، والمقصود أنّه كيفيّة نفسانيّة تحصل عند هذه الأمور وتنقسم باعتبارها.

والصحّة كيفيّة حاصلة عند اعتدال المزاج ، فتأمّل.

قال : ( والفرح والغمّ ).

أقول : الفرح أحد الكيفيّات النفسانيّة وكذا الغمّ.

والسبب المعدّ في الفرح كون الروح على أفضل أحواله في الكمّ والكيف وتخيّل النفس الكمال. وأضداد هذه أسباب الغمّ.

قال : ( والغضب والحزن والهمّ والخجل والحقد ).

أقول : هذه أيضا من الأعراض النفسانيّة التي تستلزم حركة الروح إمّا إلى داخل

ص: 468


1- « المباحث المشرقيّة » 1 : 525 - 526.
2- انظر : « شرح المواقف » 6 : 147 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 379 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 284 - 285 ؛ « شوارق الإلهام » : 450.

أو إلى خارج.

والأوّل إن كانت كثيرة فكما في الفرح ، أو قليلة فكما في الحزن.

والثاني إمّا أن يكون دفعة فكما في الغضب ، أو يسيرا يسيرا فكما في اللذّة.

وقد يتّفق أن يتحرّك إلى جهتين دفعة واحدة إذا كان العارض يلزمه عارضان ، كالهمّ ؛ فإنّه يوجد معه غضب وحزن ، فتختلف الحركتان ، وكالخجل الذي ينقبض الروح معه أوّلا إلى الباطن ثمّ يخطر بالبال انتفاء الضرر فينبسط ثانيا.

ويعتبر في الحقد غضب ثابت وعدم سهولة الانتفاء وعدم صعوبته.

المسألة السابعة والعشرون : في الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات.

قال : ( والمختصّة بالكمّيّات المتّصلة كالاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة ، أو المنفصلة كالزوجيّة والفرديّة ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكيفيّات النفسانيّة ، شرع في الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات ، ونعني بها الكيفيّة التي تعرض للكمّيّة أوّلا وبالذات ، وللجسم ثانيا وبالعرض.

واعلم أنّ الكمّ على قسمين : متّصل ومنفصل :

أمّا المتّصل فقد يعرض له الكيف مثل الاستقامة والاستدارة للخطّ ، والانحناء للخطّ والسطح ، والتقعير والتقبيب للسطح ، والشكل والخلقة للسطح والجسم التّعليمي.

[ و ] أمّا المنفصل فقد يعرض له أنواع أخر من الكيف ، كالزوجيّة والفرديّة وغيرهما للعدد.

قال : ( فالمستقيم أقصر الخطوط الواصلة بين النقطتين ، وكما أنّه موجود فكذا الدائرة ).

ص: 469

أقول : رسم الخطّ المستقيم بأنّه أقصر خطّ يصل بين نقطتين ؛ لأنّ كلّ نقطتين يمكن أن يوصل بينهما بخطوط غير مستقيمة مختلفة في الطول والقصر ، وبخطّ واحد مستقيم هو أقصرها (1).

إذا عرفت هذا ، فنقول : الخطّ المستقيم موجود بالضرورة. أمّا الدائرة - وهي سطح مستو يحيط به خطّ واحد في داخله نقطة كلّ (2) الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية - فقد اختلف الناس في وجودها ، فالذين أثبتوا ما لا ينقسم من ذوات الأوضاع نفوها (3) ، والباقون أثبتوها (4) ، واختاره المصنّف ؛ لأنّ الدائرة المحسوسة موجودة ، ويمكن وجودها بإثبات أحد طرفي الخطّ المستقيم المتناهي الطرفين ، وحركة طرفه الآخر منه إلى أن عاد إلى وضعه الأوّل ، والمراد أنّ الحركة الدوريّة موجودة بلا شبهة ، فالدائرة موجودة بلا شبهة.

قال : ( والتضادّ منتف عن المستقيم والمستدير ، وكذا عن عارضيهما ).

أقول : ربّما توهّم بعض الناس أنّ الخطّ المستقيم يضادّ الخطّ المستدير ؛ للتنافي بينهما ، وكذا حال عارضيهما ، أعني الاستقامة والاستدارة (5).

والتحقيق عند المصنّف خلاف ذلك ؛ فإنّ الضدّين يجب اتّحاد موضوعهما وتواردهما عليه ، والموضوع هنا ليس بواحد ؛ إذ المستقيم يستحيل أن ينقلب إلى المستدير وبالعكس ؛ لأنّ موضوع الخطّ المستقيم سطح مستو ، وموضوع الخطّ المستدير سطح مستدير ، وإذا انتفى التضادّ عنهما فكذا عن عارضيهما ، بمعنى أنّ

ص: 470


1- نقلها عن أرخميدس في « المباحث المشرقيّة » 1 : 529 و « نهاية المرام » 1 : 606.
2- في الأصل : « كان » بدل « كلّ » والصحيح ما أثبتناه.
3- « الشفاء » الإلهيات : 146 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 542 ؛ « نهاية المرام » 1 : 608 ؛ « شرح المواقف » 6 : 157 ؛ « الأسفار الأربعة » 4 : 166.
4- « الشفاء » الإلهيّات : 146 ؛ « النجاة » : 216 - 218 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 203 - 208 ؛ « التحصيل » : 404 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 540 - 541 ؛ « نهاية المرام » 1 : 608 ؛ « الأسفار الأربعة » 4 : 166.
5- انظر : « كشف المراد » : 256 ، وقال : مال إلى هذا الرأي الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 286 - 287.

التضادّ منتف عن الاستقامة والاستدارة العارضتين للخطّ المستقيم والمستدير ، أو بمعنى أنّ التضادّ منتف عن الحركتين الواقعتين على الخطّين : المستقيم والمستدير.

وأورد (1) على ذلك : بأنّ الدائرة سطح مستو ، وهو موضوع لمحيطه الذي هو خطّ مستدير. وبأنّ الخطّ المستقيم قد يوجد في السطح غير المستوي ، كما في محيط الأسطوانة والمخروط. وبأنّ عدم تضادّ المعروضين لا يستلزم عدم تضادّ العارضين ؛ فإنّ الأسود والأبيض لا يتضادّان ؛ لصدق الجوهر عليهما مع تحقّق التضادّ بين السواد والبياض ، ولهذا قيل (2) : لعلّ مراد المصنّف أنّ المستقيم لا يضادّ المستدير ، بل الاستقامة لا تضادّ الاستدارة ؛ لأنّ كلّ خطّ مستقيم يمكن أن يكون وترا لقسيّ غير متناهية ، فلو كان المستقيم ضدّا للمستدير ، لكان للمستقيم الواحد بالشخص أضداد غير متناهية هي المستديرات المذكورة ، وذلك باطل ؛ إذ ضدّ الواحد واحد ، وليس بعضها أولى من غيره ، فليس ضدّا لشيء منها ، فتأمّل.

قال : ( والشكل هيئة إحاطة الحدّ أو الحدود بالجسم ، ومع انضمام اللون تحصل الخلقة ).

أقول : ذكر القدماء أنّ الشكل ما أحاط به حدّ واحد كما في الكرة ، أو حدود كما في غيرها (3).

والتحقيق أنّه من باب الكيف ، وأنّه يعرض للجسم بسبب إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود به ، كالكرويّة والتربيع.

وأورد على التخصيص بالجسم : بأنّ الدائرة إحاطة الحدّ بالسطح لا بالجسم (4).

ص: 471


1- « شرح تجريد العقائد » : 286 - 287 ، ونسب الإيراد الأوّل إلى القيل.
2- القائل هو الفاضل القوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 287.
3- « الشفاء » المنطق 1 : 205 وما بعدها ؛ « النجاة » : 135 ؛ « التحصيل » : 386 - 397 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 545 - 546 ؛ « نهاية المرام » 1 : 613 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 2 : 385 - 386 ؛ « شرح الهداية الأثيرية » : 39 و 68 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 1 : 1039.
4- انظر : « شرح المقاصد » 2 : 386 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 287 ؛ « شوارق الإلهام » : 452.

وكيف كان فالشكل مغاير للوضع بمعنى المقولة ، وإذا اعتبر الشكل واللون معا حصلت الخلقة ، فهي كيفيّة حاصلة من اجتماعهما.

قال : ( الثالث : المضاف ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الكيف وأقسامه ، شرع في البحث عن الإضافة ، وهي النسبة المتكرّرة ، أي النسبة التي لا تعقل إلاّ بالنسبة إلى نسبة أخرى معقولة بالقياس إلى الأولى ، وهذه تسمّى مضافا حقيقيّا ؛ ولهذا عبّر عنها بقوله : « المضاف » وهو المقولة الثالثة من المقولات.

وهذه المقولة وما بعدها من المقولات كلّها نسبيّة ، وهو قسم مقابل لما تقدّم من المقولات.

وفي هذا القسم مسائل :

المسألة الأولى : في أقسامه.

قال : ( وهو حقيقيّ أو مشهوريّ ).

أقول : المضاف يقال لنفس الإضافة ، أعني النسبة العارضة للشيء باعتبار قياسه إلى غيره كالأبوّة والبنوّة ، ويقال له : المضاف الحقيقي ؛ فإنّه لذاته يقتضي الإضافة ، وغيره إنّما يقتضي الإضافة بواسطته.

ويقال للذات التي عرضت لها الإضافة بالفعل ، أعني المجموع المركّب من العارض والمعروض كالأب والابن ، ويسمّى المضاف المشهوريّ.

وقد يقال للذات نفسها : مضاف مشهوريّ ، باعتبار كونها معروضة للإضافة.

المسألة الثانية : في خواصّه.

قال : ( ويجب فيه الانعكاس والتكافؤ بالفعل أو القوّة ).

ص: 472

أقول : هاتان خاصّتان مطلقتان للمضاف لا يشاركه فيهما غيره :

إحداهما : وجوب الانعكاس ، بمعنى أنّه إذا نسب أحد المضافين المشهوريّين إلى الآخر من حيث إنّه مضاف ، وجب أن تنعكس تلك النسبة ، فينسب إلى الآخر أيضا ، فإنّه كما يقال : إنّ الأب أب للابن ، كذا يقال : إنّ الابن ابن للأب. فالمراد بالانعكاس الحكم بإضافة كلّ واحد منهما ونسبته إلى صاحبه من حيث كان مضافا إليه كما مثّلنا. فإن لم تراع هذه الحيثيّة لم يجب الانعكاس ، كما تقول : الأب أب للإنسان ، ولا تقول : الإنسان إنسان الأب ، وكذا المضاف الحقيقي ؛ إذ لا انعكاس فيه ، فلا يقال : الأبوّة أبوّة البنوّة وبالعكس.

وكيف كان فالانعكاس قد لا يفتقر إلى حرف النسبة كالعظيم والصغير ، وقد يفتقر مع تساوي الحرف في الجانبين ، كقولنا : « العبد عبد للمولى والمولى مولى للعبد » أو مع اختلافه ، كقولنا : « العالم عالم بالمعلوم والمعلوم معلوم للعالم ».

الثانية : التكافؤ في الوجود بالفعل أو القوّة بمعنى أنّه إذا كان أحدهما موجودا بالفعل فلا بدّ أن يكون الآخر أيضا موجودا بالفعل ، وإذا كان أحدهما موجودا بالقوّة فلا بدّ أن يكون الآخر أيضا موجودا بالقوّة ، فالأب إذا كان أبا بالفعل كان الابن أيضا ابنا بالفعل ، وإن كان الأب بالقوّة كان الابن أيضا بالقوّة ، فالمتقدّم مصاحب للمتأخّر هنا.

قال : ( ويعرض للموجودات أجمع ).

أقول : المضاف الحقيقي يعرض لجميع الموجودات ، كما يقال للواجب تعالى : أوّل قادر عالم خالق رازق. ويقال لنوع من الجواهر : إنّه أب وابن وغيرهما. ويقال للخطّ : طويل وقصير ، وللعدد : قليل وكثير ، وللكيف : أسخن وأبرد ، وللمضاف : كالأقرب والأبعد ، وللأين : أعلى وأسفل ، وللمتى : أقدم وأحدث ، وللوضع : أشدّ انتصابا وانحناء ، وللملك : أعرى وأكسى ، وللفعل : أقطع وأصرم ، وللانفعال : أشدّ تسخّنا وتقطّعا.

ص: 473

المسألة الثالثة : في أنّ الإضافة لا تحقّق لها في الخارج ، وليست ثابتة في الأعيان.

قال : ( وثبوته ذهنيّ ، وإلاّ لتسلسل ولا ينفع تعلّق الإضافة بذاتها ).

أقول : اختلف العقلاء هاهنا ، فذهب قوم إلى أنّ الإضافة ثابتة في الأعيان ، لأنّ فوقيّة السماء ليست عدما محضا ولا أمرا ذهنيّا غير مطابق.

وقال آخرون : إنّها عدميّة في الأعيان ، ثابتة في الأذهان (1) ، وهو اختيار المصنّف رحمه اللّه وأكثر المحقّقين.

والدليل عليه وجوه ذكرها المصنّف رحمه اللّه :

أحدها : أنّ الإضافة لو كانت ثابتة في الأعيان لزم التسلسل ؛ لأنّ حلولها في المحلّ إضافة أخرى ، وحلول ذلك الحلول ثابت يستدعي محلاّ وحلولا ، وذلك يوجب التسلسل.

وأجاب الشيخ أبو عليّ بن سينا عن هذا - على ما حكي - بأن قال : يجب أن يرجع في حلّ هذه الشبهة إلى حدّ المضاف المطلق ، فنقول : المضاف هو الذي ماهيّته معقولة بالقياس إلى غيره ، وكلّ شيء في الأعيان يكون بحيث ماهيّته إنّما تعقل بالقياس إلى غيره ، فذلك الشيء من المضاف ، ولكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة ، فالمضاف في الأعيان موجود.

ثمّ إن كان في المضاف ماهيّة أخرى ، فينبغي أن يجرّد ماله من المعنى المعقول بالقياس إلى غيره ، فذلك المعنى هو بالحقيقة المعنى المعقول بالقياس إلى غيره ، وغيره إنّما هو معقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى ، وهذا المعنى ليس معقولا بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه ، بل هو مضاف لذاته لا بإضافة أخرى ،

ص: 474


1- نسب القول الأوّل إلى المتكلّمين وجماعة من الأوائل ، والقول الثاني إلى طائفة من الحكماء.

فتنتهي من هذه الطريق الإضافات.

وأمّا كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضوع فله وجود آخر ، مثلا : وجود الأبوّة في الأب أمر زائد على ذات الأب ، وذلك الموجود أمر مضاف أيضا ، فليكن هذا عارضا من المضاف لذي المضاف وكلّ واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى ، فالكون محمولا مضاف لذاته ، والكون أبوّة مضاف لذاته (1).

وهذا الكلام على طوله غير مفيد للمطلوب ؛ لأنّ التسلسل الذي ألزمناه ليس من حيث إنّ المضاف الذي هو المقولة يكون مضافا بإضافة أخرى حتّى تقسم الأشياء إلى ما هو مضاف لذاته وإلى ما هو مضاف بغيره ، بل من حيث إنّ المضاف الحقيقي كالأبوّة يفتقر إلى محلّ يقوم به ، وحلولها في ذلك المحلّ إضافة إلى ذلك المحلّ يستدعي محلاّ وحلولا ويتسلسل.

وإلى هذا أشار المصنّف رحمه اللّه بقوله : « ولا ينفع تعلّق الإضافة بذاتها » أي تعلّق الإضافة بالمضاف إليه لذاتها ، لا لإضافة أخرى.

قال : ( ولتقدّم وجودها عليه ).

أقول : هذا وجه ثان دالّ على أنّ الإضافة ليست ثابتة في الأعيان.

وتقريره : أنّها لو كانت ثبوتيّة لشاركت الموجودات في الوجود وامتازت عنها بخصوصيّة ، فاتّصاف وجودها بتلك الخصوصيّة إضافة سابقة على وجود الإضافة ، فيلزم تقدّم وجود الإضافة على وجودها وهو محال ، فالضمير في « عليه » يرجع إلى « وجودها ».

ويحتمل عوده إلى المحلّ ، ويكون معنى الكلام أنّ الإضافة لو كانت موجودة لزم تقدّمها على محلّها ؛ لأنّ وجود محلّها صفة له ، فاتّصافه به نوع إضافة سابق على وجود الإضافة ، وأعاد الضمير إليه من غير ذكر لفظي ؛ لظهوره.

ص: 475


1- « الشفاء » الإلهيّات : 157 ، الفصل العاشر من المقالة الثالثة. وقد صحّحنا النقل على المصدر.

قال : ( وللزم عدم التناهي في كلّ مرتبة من مراتب الأعداد ).

أقول : هذا وجه ثالث.

وتقريره : أنّ الإضافات لو كانت موجودة في الأعيان لزم أن تكون كلّ مرتبة من مراتب الأعداد تجتمع فيه إضافات وجوديّة لا تتناهى ؛ لأنّ الاثنين نصف الأربعة ويحصل له بذلك الاعتبار إضافة النصفيّة ، وثلث الستّة ويعرض له بهذا الاعتبار إضافة أخرى ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهو محال.

أمّا أوّلا : فلما بيّنّا من امتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تلك الإضافات موجودة دفعة ومرتّبة في الوجود باعتبار تقدّم بعض المضاف إليه على بعض ، فيلزم اجتماع ما لا يتناهى دفعة مرتّبة ، وهو محال اتّفاقا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ وجود الإضافات يستلزم وجود المضاف إليه ، فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأعداد دفعة مع ترتّبها ، وكلّ ذلك ممّا برهن على استحالته.

قال : ( وتكثّر صفاته تعالى ).

أقول : هذا وجه رابع.

وتقريره : أنّ الإضافات لو كانت وجوديّة لزم وجود صفات اللّه تعالى متكثّرة لا تتناهى ، لأنّ له إضافات لا تتناهى ، وهو محال.

وقد يستدلّ (1) بأنّه لو وجدت الإضافة لزم اتّصاف ذات البارئ تعالى بالحوادث ؛ لأنّ له مع كلّ حادث إضافة ، ولا شكّ أنّها إنّما تحدث بعد حدوث الحادث.

وأجيب عن الوجوه المذكورة : بأنّ (2) القائل بوجود الإضافة لا يقول بوجود

ص: 476


1- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 562 ؛ « نهاية المرام » 2 : 349 - 350 ؛ « شرح المواقف » 6 : 160 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 289 ؛ « شوارق الإلهام » : 456.
2- هذا الجواب هو الاعتراض على الوجه الثاني من المسألة كما ذكرهما العلاّمة في « نهاية المرام » 1 : 348 ، لكن الموجود في غير « نهاية المرام » هو أنّ هذا جواب عن كلّ الوجوه من قبل الحكماء ، كما في « شرح المواقف » 6 : 161 - 162 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 289 ؛ « شوارق الإلهام » : 456.

أفرادها كلّها ، بل بوجودها في الجملة ، فجاز أن يكون بعضها موجودا دون بعض.

المسألة الرابعة : في بقايا مباحث الإضافة.

قال : ( ويخصّ (1) كلّ مضاف مشهوريّ مضاف حقيقيّ ، فيعرض له الاختلاف والاتّفاق إمّا باعتبار زائد أولا ).

أقول : المضاف المشهوريّ كالأب يعرض له مضاف حقيقيّ كالأبوّة وكذا الابن تعرض له البنوّة ، فكلّ مضاف مشهوريّ يعرض له مضاف حقيقي ، ولا يمكن أن يكون مضاف حقيقيّ واحد عارضا لمضافين مشهوريّين ؛ لامتناع قيام عرض واحد بمحلّين ، وإذا كان كلّ مضاف مشهوريّ يعرض له مضاف حقيقيّ ، عرض حينئذ الاختلاف في المضاف الحقيقيّ كالأبوّة والبنوّة ، والاتّفاق ، كالأخوّة والجوار.

ثمّ إنّ هذا المضاف الحقيقيّ يعرض للمضاف المشهوريّ إمّا باعتبار زائد يحصل فيهما كالعاشق والمعشوق ؛ فإنّ في العاشق جهة إدراكه جمال المعشوق ، وفي المعشوق جمال يتعلّق به الإدراك ، فتحصل حينئذ إضافة العشق باعتبار هذا الزائد. وقد يكون الزائد في أحدهما كالعالم المضاف إلى المعلوم باعتبار قيام صفة العلم به. وقد لا يكون باعتبار زائد كالميامن والمياسر ؛ فإنّهما متضايفان ، ولا يكون الاتّصاف بالتيامن والتياسر لأجل صفة زائدة على الاضافة.

هذا خلاصة ما فهمناه من هذا الكلام.

المسألة الخامسة : في مقولة الأين.

قال : ( الرابع : الأين وهي النسبة إلى المكان ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن المضاف شرع في البحث عن الأين ، وهي نسبة

ص: 477


1- في نسخة الأصل : و « يختصّ » ، وفي « أ » : « وتخصيص » ، وما أثبتناه من « تجريد الاعتقاد » : 179. فيكون قوله : « مضاف حقيقيّ » فاعلا لقوله : « ويخصّ ».

الشيء إلى مكانه بالحصول فيه.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الحيّز ؛ ولهذا قد يعبّر عن الأين بالكون ، ويقسم إلى الأكوان الأربعة.

وبالجملة ، فالأين على قسمين :

الأوّل : الأين الحقيقي ، وهو نسبة الشيء إلى مكان خاصّ ، وكون الشيء في مكان لا يزيد عنه.

الثاني : غير الحقيقي ، وهو نسبة الشيء إلى مكان عامّ ، كقولنا : « زيد في الدار » وهذه النسبة مغايرة للوجود لكلّ واحد من الجسم والمكان ، ولا تقبل الشدّة والضعف ، كما لا يخفى.

قال : ( وأنواعه أربعة عند قوم هي : الحركة ، والسكون ، والاجتماع ، والافتراق ).

أقول : المراد أنّ أنواع الأين - الذي يقال له : الكون عند المتكلّمين (1) - أربعة : الحركة ، والسكون ، وهما حالتا الجسم بانفراده باعتبار المكان. والاجتماع والافتراق ، وهما حالتاه باعتبار انضمامه إلى العين (2) من الأجسام ؛ لأنّ حصول الجوهر في الحيّز إمّا أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون بحيث يمكن أن يتوسّط بينهما ثالث فهو الافتراق ، أو لا وهو الاقتران. وعلى الثاني إن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيّز ، فهو السكون ، وإن كان مسبوقا بحصوله في حيّز آخر فهو الحركة.

ولا يخفى أنّ الكون الأوّل قسم خامس من الأقسام ؛ ولهذا ذهب بعض المتكلّمين (3)

ص: 478


1- انظر : « المحصّل » : 217 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 578 ؛ « نهاية المرام » 2 : 378 ؛ « الأربعين في أصول الدين » : 21 ؛ « شرح المواقف » 6 : 162 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 395 - 396 ؛ « إرشاد الطالبين » : 70 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 289 ؛ « شوارق الإلهام » : 458.
2- كذا في الأصل ، وفي « كشف المراد » : 261 : « الغير » بدل « العين ».
3- هما أبو الهذيل وأبو عليّ في أحد قوليه. انظر : « التوحيد » : 75 و 131 ؛ « نهاية المرام » 3 : 32 ؛ « شرح المواقف » 6 : 169.

- على ما حكي - إلى أنّ الأكوان لا تنحصر في الأربعة ؛ إذ الكون في أوّل زمان الحدوث ليس بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق ، فالأكوان خمسة.

قال : ( فالحركة كمال أوّل لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة ، أو حصول الجسم في مكان بعد آخر ).

أقول : هذان تعريفان للحركة : الأوّل منهما مختار الحكماء (1) ، والثاني للمتكلّمين (2).

أمّا التعريف الأوّل فهو أنّ الحركة كمال أوّل لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة.

بيان ذلك أنّ حال حصول الجسم في المكان المنتقل عنه معدومة عنه ممكنة له ، فهي كمال الجسم ، ثمّ إنّ حصوله في المكان الثاني معدوم عنه ممكن له فهو كمال أيضا ، والجسم في تلك الحال بالقوّة في المكان الثاني ، لكنّ الحركة أسبق الكمالين ، فالحركة كمال أوّل لما هو بالقوّة ، أعني الجسم الذي هو بالقوّة في المكان الثاني.

وإنّما قيّدناه بقولنا : « من حيث هو بالقوّة » لأنّ الحركة تفارق سائر الكمالات بأنّ جميع الكمالات إذا حصلت ، خرج ذو الكمال من القوّة إلى الفعل ، وهذا الكمال من حيث إنّه كمال يستلزم كون ذي الكمال بالقوّة.

وأمّا الثاني فإنّ المتكلّمين قالوا : ليست الحركة هي الحصول في المكان الأوّل ؛ لأنّ الجسم لم يتحرّك بعد ، ولا واسطة بين الأوّل والثاني وإلاّ لم يكن ما فرضناه ثانيا ثانيا ، فهي الحصول في المكان الثاني لا غير.

ولهذا يقال : إنّ الحركة عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني ، كما أنّ السكون عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل.

ولكنّ الإنصاف أنّ الكون في المكان الثاني معلول الحركة لا نفسها ، بل الحركة

ص: 479


1- وهو تعريف أرسطو وأتباعه ، كما في « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 82 - 83 ؛ « النجاة » : 105 ؛ « الحدود » : 29 ؛ « التحصيل » : 420 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 409 - 411 ؛ « مناهج اليقين » : 57 ؛ « نهاية المرام » 3 : 327 - 329 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 409 - 411 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 290.
2- « التوحيد » : 131 ؛ « المطالب العالية » 4 : 245 - 246 ؛ « المحصّل » : 237 ؛ « نقد المحصّل » : 149 « التعريفات » : 114 / 560.

عبارة عن الانتقال عن مكان إلى مكان أو حال إلى حال أو نحو ذلك.

وقد تفسّر الحركة بأنّها صفة يكون الجسم بها أبدا متوسّطا بين المبدأ والمنتهى ، ويكون في كلّ آن في حيّز من غير أن يكون في حيّز آنين ، وتسمّى الحركة بمعنى التوسّط ، وهي كون الشيء بحيث أيّ حدّ من حدود المسافة يفرض لا يكون هو قبل آن الوصول إليه ولا بعده حاصلا فيه.

وقد تفسّر بكون الجسم فيما بين المبدأ والمنتهى بحيث أيّ آن يفرض يكون حاله في ذلك الآن مخالفة في آنين يحيطان به (1).

وأفاد صدر الحكماء في « الشواهد الربوبيّة » أنّ الحركة عبارة عن الخروج من القوّة إلى الفعل ، وأثبت الحركة في الجوهر الصوري ، مع أنّه لا بدّ في كلّ حركة من بقاء الموضوع بشخصه ؛ بناء على أنّ الجوهر - الذي وقعت فيه الحركة الاشتداديّة - نوعه باق في وسط الاشتداد وإن تبدّلت صورته الخارجيّة بتبدّل طور من الوجود بطور آخر أشدّ أو أضعف ، فتبدّل الوجود في الحركة الجوهريّة تبدّل في أمر خارج عن الجوهر.

ولا يخفى أنّ ذلك مبنيّ على القول بأصالة الوجود ، وأنّ وجود كلّ شيء تمام حقيقته ، ولا يصحّ ذلك إلاّ بالقول بوحدة الوجود ، وهو باطل ، بل كفر أشدّ من كفر النصارى واليهود ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قال : ( ووجودها ضروريّ ).

أقول : اتّفق أكثر العقلاء على أنّ الحركة موجودة ، وادّعوا الضرورة في ذلك.

وخالفهم جماعة من القدماء (2) ، وقالوا : إنّها ليست موجودة.

ص: 480


1- للتوسعة حول هذين التفسيرين راجع « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 81 وما بعدها ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 672 - 676 ؛ « نهاية المرام » 3 : 333 - 337 ؛ « مناهج اليقين » : 57 ؛ « شرح المواقف » 6 : 197 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 2 : 411 - 413.
2- منهم زينون الحكيم وبامنيدس. ولمزيد الاطّلاع حول هذا المبحث راجع « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 79 وما بعدها ؛ « التحصيل » : 420 ؛ « المحصّل » : 270 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 :673 - 676 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 30 ؛ « نهاية المرام » 3 : 338 - 341 ؛ « مناهج اليقين » : 57 ؛ « شرح المواقف » 6 : 198 - 203 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 411 - 413 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 291 - 293 ؛ « شوارق الإلهام » : 462 - 464.

واستدلّوا على ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ الحركة لو كانت موجودة لكانت إمّا منقسمة فيكون الماضي غير المستقبل ، أو غير منقسمة فيلزم تركيبها من الأجزاء التي لا تتجزّأ ، واللازمان باطلان.

الثاني : أنّ الحركة ليست هي الحصول في المكان الأوّل ؛ إذ الجسم لم يتحرّك بعد ، ولا في المكان الثاني ؛ إذ الحركة انتهت وانقطعت ، ولا المجموع ؛ لامتناع تحقّق جزأيه معا في الوجود.

الثالث : أنّ الحركة ليست واحدة ، فلا تكون موجودة. وهذه الاستدلالات في مقابلة الحكم الضروري ممنوعة.

قال : ( ويتوقّف على المتقابلين والعلّتين والمنسوب إليه والمقدار ).

أقول : وجود الحركة يتوقّف على أمور ستّة :

أحدها : ما منه الحركة.

والثاني : ما إليه الحركة ، أعني مبدأ الحركة ومنتهاها.

[ و ] الظاهر أنّ مراده بالمتقابلين هذان ؛ لأنّ المبدأ والمنتهى متقابلان لا يجتمعان في شيء واحد باعتبار واحد.

والثالث : ما به الحركة ، وهو السبب ، وهو العلّة الفاعليّة لوجودها.

والرابع : ما له الحركة ، أعني الجسم المتحرّك ، وهو العلّة القابليّة.

وهذان هما المرادان بقوله : « والعلّتين ».

والخامس : ما فيه الحركة ، أعني المقولة التي ينتقل الجسم فيها من نوع إلى آخر.

والظاهر أنّه المراد بقوله : « والمنسوب إليه » ؛ اذ المقولة تنسب الحركة إليها بالقسمة.

ص: 481

والسادس : الزمان الذي تقع فيه الحركة. وهو المراد بقوله : « والمقدار » فإنّ الزمان مقدار الحركة.

قال : ( فما منه وما إليه قد يتّحدان محلاّ ، وقد يتضادّان ذاتا وعرضا »

أقول : المراد أنّ مبدأ الحركة ومنتهاها قد يتّحدان محلاّ ، بكون محلّهما واحدا لكن لا باعتبار واحد كالنقطة في الحركة المستديرة ؛ فإنّها بعينها مبدأ للحركة المستديرة ومنتهى لها ، لكن باعتبارين.

وقد يتغاير محلّهما كما في الحركة المستقيمة.

وقد يتضادّ المحلّ في المتكثّر إمّا ذاتا كالحركة من السواد إلى البياض ، أو عرضا كالحركة من اليمين إلى الشمال.

قال : ( ولهما اعتباران متقابلان أحدهما بالنظر إلى ما يقالان له ).

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ لكلّ واحد من المبدأ والمنتهى اعتبارين :

أحدهما على سبيل التضايف ، وهو اعتبار كلّ منهما بالقياس إلى ما يقال له ، أعني ذا المبدأ وذا المنتهى.

الثاني ما يكون على سبيل التضادّ ؛ وذلك لأنّ المبدأ لا يضايف المنتهى ؛ لانفكاكهما تصوّرا ، بل يضايف ذا المبدأ ؛ فإنّ المبدأ مبدأ لذي المبدأ ، وكذا المنتهى.

وأمّا اعتبار المبدأ إلى المنتهى فإنّه مضادّ له ؛ إذ ليس مضايفا ولا سلبا ولا إيجابا ولا عدما وملكة ، فلم يبق إلاّ التضادّ. وهذان الاعتباران - أعني التضايف والتضادّ - متقابلان.

واعلم أنّ هاهنا إشكالا (1) ، وهو أن يقال : الضدّان لا يعرضان لموضوع واحد مجتمعين فيه ، والمبدأ والمنتهى قد يعرضان لجسم واحد.

والجواب : أنّ الضدّين قد يجتمعان في جسم واحد إذا لم يكن الجسم موضوعا

ص: 482


1- حول هذا الإشكال وجوابه انظر : « المباحث المشرقيّة » : 683 ؛ « نهاية المرام » 3 : 361 ؛ « شرح المواقف » 6 : 244.

قريبا لهما ، وحال المبدأ والمنتهى هنا كذلك ؛ لأنّ موضوعهما الأطراف في الحركة المستقيمة ، وتلك مغايرة.

بقي أن يقال (1) : إنّ هذا لا يتأتّى في الحركات المستديرة إلاّ بسبب الاعتبارين المتضادّين.

وقد نبّه المصنّف رحمه اللّه على ذلك بقوله : « قد يتّحدان محلاّ » فيكون وجه الخلاص عدم اجتماع الوصفين ؛ إذ حالة وصفه بكونه منتهى ينتفي عنه كونه مبدأ.

قال : ( ولو اتّحدت العلّتان انتفى المعلول ).

أقول : قد بيّنّا أنّه يريد بالعلّتين هنا الفاعليّة ، أعني المحرّك ، والقابليّة ، أعني المتحرّك. وادّعي تغايرهما ، على معنى أنّه لا يجوز أن يكون الشيء محرّكا لنفسه ، بل إنّما يتحرّك بقوّة موجودة إمّا فيه كالطبيعة أو خارجة عنه ؛ لأنّه لو تحرّك لذاته لانتفت الحركة ؛ إذ بقاء العلّة يستلزم بقاء المعلول ، فإذا فرضنا أنّ الجسم لذاته علّة للحركة كان علّة لأجزائها ، فيكون كلّ جزء منها باقيا ببقاء الجسم ، لكن بقاء الجزء الأوّل منها يقتضي أن لا يوجد الثاني ؛ لامتناع اجتماع أجزائها في الوجود ، فلا توجد الحركة وقد فرضناها موجودة ، هذا خلف.

وإلى نفي الحركة أشار بقوله : « انتفى المعلول ».

قال : ( وعمّ ).

أقول : هذه حجّة ثانية على أنّ الفاعل للحركة ليس هو القابل المعروض لها ، أعني نفس الصورة الجسميّة بالنسبة إلى الحركة الأينيّة والوضعيّة ، والهيولى بالنسبة إلى الحركة الكمّيّة والكيفيّة.

وتقريره : أن نقول : الأجسام متساوية في الماهيّة ، فلو اقتضت لذاتها الحركة لزم عمومها لكلّ جسم ، فكان كلّ جسم متحرّكا ، هذا خلف.

ص: 483


1- انظر : « نهاية المرام » 3 : 362 ؛ « شرح المواقف » 6 : 244.

ثمّ إنّ الصورة الجسميّة إن اقتضت الحركة إلى جهة معيّنة لزم حركة كلّ الأجسام إليها ، وهو باطل بالضرورة. وإن كان إلى غير جهة معيّنة انتفت الحركة ؛ لعدم المرجّح.

وأشار إلى هذا الدليل بقوله : « وعمّ » أي وعمّ ما فرضناه معلولا - وهو الحركة - إمّا مطلقا أو إلى جهة معيّنة كما ذكرنا.

قال : ( بخلاف الطبيعة المختلفة المستلزمة في حال ما ).

أقول : هذا جواب عن إشكال (1) يرد على هذين الدليلين.

وتقريره أن نقول : الطبيعة قد تقتضي الحركة ، ولا يلزم دوامها بدوام الطبيعة ولا عمومها بعمومها.

وتقرير الجواب أن نقول : الطبائع مختلفة ، فجاز اقتضاء بعضها الحركة إلى جهة معيّنة ، بخلاف غيرها.

وإلى هذا أشار بقوله : « المختلفة ».

وأيضا : الطبيعة لم نقل إنّها مطلقا علّة للحركة ، وإلاّ لزم المحال ، بل إنّما تقتضيه في حال ما ، وهو حال خروج الجسم عن مكانه الطبيعي ، وأمّا حال بقاء الجسم في مكانه الطبيعي ، فلا يقتضي الحركة.

وإليه أشار بقوله : « في حال ما ».

قال : ( والمنسوب إليه أربع ؛ فإنّ بسائط الجواهر توجد دفعة ومركّباتها تعدم بعدم أجزائها ).

أقول : يريد بالمنسوب إليه ما توجد فيه الحركة على ما تقدّم تفسيره.

والمراد : أنّ الحركة تقع في أربع مقولات لا غير هي : الكمّ ، والكيف ، والأين ،

ص: 484


1- أقاموا - هاهنا - أدلّة سبعة ، وللفخر الرازي إشكال على كلّ واحد منها. انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 :1. 681 ؛ « نهاية المرام » 3 : 350 - 357 ؛ « شرح المواقف » 6 : 224 - 229 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 430 - 431 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 294 - 295 ؛ « شوارق الإلهام » : 466.

والوضع ، ولا تقع في سوى ذلك.

أمّا الجوهر فقسمان : بسيط ومركّب.

فالبسيط يوجد دفعة ، فلا تتحقّق فيه حركة.

والمركّب يعدم بعدم أحد أجزائه ، وانعدام كلّ جزء منها دفعي ، فانعدام المركّب أيضا دفعي ، فنقول : إنّ المتحرّك باق حال الحركة ، والمركّب ليس بباق حال الحركة ؛ فلا تقع فيه حركة أيضا.

وبالجملة ، فالحركة الجوهريّة غير معقولة ؛ لأنّ الحركة تقتضي انعدام شيء ينتقل عنه وحدوث شيء ينتقل إليه ، وذلك يستلزم في الجوهر انتفاء الموضوع ولو بانتفاء جزئه وحدوث موضوع آخر ، فلا يكون المتحرّك باقيا في الحركة العرضيّة. وأمّا صيرورة العذرة دودا أو نحو ذلك كما في النطفة فهي استحالة لا حركة.

وظنّي أنّ ما يحكى من بعض (1) أهل الحكمة من القول بالحركة الجوهريّة لا يتمّ إلاّ بالقول بأصالة الوجود ووحدة الوجود (2) وتنزّلاته وترقّياته من شأن إلى شأن ، كلّ يوم هو في شأن ، وذلك يستلزم الكفر والزندقة كما لا يخفى على من له فطانة.

قال : ( والمضاف تابع ).

أقول : المضاف لا تقع فيه حركة بالذات ؛ لأنّه تابع لغيره ، فإن كان متبوعه ومعروضه قابلا للحركة من جهة الشدّة والضعف قبلهما هو أيضا ، كانتقال الماء - الذي هو أشدّ سخونة من ماء آخر - من الأشدّيّة إلى الأضعفيّة مثلا ، وإلاّ فلا.

قال : ( وكذا متى ).

أقول : ذكر أنّه قال الشيخ في النجاة : « إنّ متى توجد للجسم بتوسّط الحركة ،

ص: 485


1- هذا البعض هو صدر المتألّهين محمد بن إبراهيم الشيرازي الذي أثبت الحركة الجوهريّة في كتاب « الأسفار الأربعة » 2 : 176 و 3 : 78 و 85 و 4 : 271 و 5 : 272 و 6 : 47 و 8 : 258 و 9 : 116.
2- تطلق عبارة « وحدة الوجود » على أيّة نظريّة تحاول تفسير الوجود بإرجاعه كلّه إلى مبدأ واحد ، وقد نشأت عدّة مدارس ومذاهب فكريّة في تاريخ الفلسفة فسّرت الوجود بتفسيرات مختلفة. راجع « الموسوعة الفلسفيّة العربيّة » 2 : 1517.

فكيف يكون فيه حركة!؟ فإنّ كلّ حركة في متى ، فلو كان فيه حركة كان لمتى متى آخر » (1).

وقال في الشفاء : « إنّ حال متى كحال الإضافة في أنّ الانتقال لا يكون فيه ، بل يكون في كمّ أو كيف » (2).

قال : ( والجدة توجد دفعة ).

أقول : مقولة الملك لا تتحقّق فيها حركة ؛ لأنّها عبارة عن نسبة التملّك ، فإن حصل وقع دفعة ، وإلاّ فلا حصول له ، فلا تعقل فيه حركة.

قال : ( ولا تعقل حركة في مقولتي الفعل والانفعال ).

أقول : هاتان مقولتان لا توجد الحركة فيهما ؛ لأنّ الانتقال من التبرّد إلى التسخّن إن كان بعد كمال التبرّد وانتهائه ، لم يكن الانتقال من التبرّد بل من البرودة ؛ إذ التبرّد قد انقطع وعدم. وإن كان قبل كماله كان الجسم في حال واحد - أعني حال الحركة - متوجّها إلى كيفيّتين متضادّتين ، وهذا خلف.

قال : ( ففي الكمّ باعتبارين : لدخول الماء القارورة المكبوبة عليه ، وتصدّع الآنية عند الغليان ).

أقول : لمّا بيّن أنّ الحركة تقع في أربع مقولات وأبطل وقوعها في الزائد ، فشرع [ في ] تفصيل وقوع الحركة في مقولة مقولة وابتدأ بالكمّ ، وذكر أنّ الحركة تقع فيه باعتبارين :

أحدهما : التخلخل والتكاثف.

والثاني : النموّ والذبول.

أمّا الأوّل فالمراد به زيادة مقدار الجسم ونقصانه من غير ورود أجزاء جسمانيّة عليه أو نقصان أجزاء منه ؛ بناء على أنّ المقدار أمر زائد على الجسم ، وأنّ الجسم

ص: 486


1- « النجاة » : 106.
2- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 103.

قابل للانتقال من نوع منه إلى نوع آخر على التدريج.

واستدلّ على وقوع الحركة بهذا الاعتبار بوجهين :

الأوّل : أنّ القارورة إذا كبّت على الماء فإن كان بعد المصّ القويّ دخلها الماء ، وإلاّ فلا ، مع أنّ الخلاء محال على رأيهم ، فليس ذلك إلاّ لأنّ الهواء الذي في داخل القارورة له مقدار طبيعي ، وبسبب المصّ يخرج شيء من الهواء ، فيكتسب الباقي - لضرورة امتناع الخلاء - مقدارا أكثر غير طبيعي بالتخلخل ، فإذا كبّت القارورة على الماء أوجد البرد الذي في الماء تكاثفا في ذلك الهواء ، فصغر حجمه إلى مقداره الطبيعي ، فدخلها الماء بالمصّ.

الثاني : أنّ الآنية إذا ملئت ماء وشدّ رأسها شدّا محكما ، وغليت بالنار فإنّها تنشقّ ، وليس ذلك لمداخلة أجزاء النار ؛ لعدم الثقب في الآنية ، فبقي أن يكون ذلك لزيادة مقدار ما فيها من الماء بالتخلخل وازدياد الحجم بحيث لا تسعه الآنية فتنصدع.

وفيه : أنّه يجوز كون الانصداع من جهة ميل الأبخرة إلى الصعود ، فتدبّر.

قال : ( وحركة أجزاء المغتذي في جميع الأقطار على التناسب ).

أقول : هذا هو الاعتبار الثاني ، وهو الحركة في الكمّ باعتبار النموّ.

واعلم أنّ النامي يزداد جسمه بسبب اتّصال جسم آخر به ، وتلك الزيادة ليست مطلقا موجبة للنموّ ، بل إذا كانت المداخلة في جميع الأقطار بنسبة طبيعيّة فيخرج السمن ؛ لعدم كونه في جميع الأقطار ، وكذا الورم ؛ لعدم كونه على نسبة طبيعيّة.

وأمّا الذبول فهو انتقاص حجم الأجزاء الأصليّة للجسم بسبب ما ينفصل عنه في جميع الأقطار على نسبة طبيعيّة.

ويشهد على ما ذكرنا أنّ الواقف في النموّ قد يسمن ، كما أنّ المتزايد في النموّ قد يهزل ؛ وذلك لأنّ الزيادة إذا حدثت في المنافذ ودخلت فيها وشبهت بطبيعة الأصل واندفعت أجزاء الأصل إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة في نوعه فذاك هو النموّ. والشيخ قد يسمن ؛ لأنّ أجزاءه الأصليّة قد جفّت وصلبت ، فلا يقوى

ص: 487

المفيد (1) على تفريقها والنفوذ فيها ، فلا تتحرّك أجزاؤه الأصليّة إلى الزيادة ، فلا يكون ناميا وإن تحرّك لحمه إلى الزيادة ، فيكون في الحقيقة نموّا في اللحم ، لكنّ المسمّى باسم النموّ إنّما هو حركة الأعضاء الأصليّة.

قال : ( وفي الكيف للاستحالة المحسوسة مع الجزم ببطلان الكمون والورود ، لتكذيب الحسّ لهما ).

أقول : لمّا فرغ من البحث عن الحركة في الكمّ شرع في الحركة في الكيف ، أعني الاستحالة.

واستدلّ على ذلك بالحسّ ؛ فإنّا نشاهد أنّه يصير الماء البارد حارّا على التدريج وبالعكس ، وكذا في الألوان وغيرها من الكيفيّات المحسوسة.

واعلم أنّ الآراء لم تتّفق على هذا ؛ فإنّ جماعة من القدماء (2) - كما حكي - أنكروا الاستحالة ، وافترقوا في الاعتذار عن الحرارة المحسوسة في الماء إلى قسمين :

أحدهما : من (3) ذهب إلى أنّ في الماء أجزاء ناريّة كامنة ، فإذا ورد عليه نار من خارج برزت تلك الأجزاء وظهرت.

والثاني : من ذهب إلى أنّ الأجزاء الناريّة ترد عليه من خارج وتداخله فيحسّ منه بالحرارة.

والقولان باطلان ؛ فإنّ الحسّ يكذّبهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ الأجزاء الكامنة يجب الإحساس بها عند مداخلة اليد لجميع

ص: 488


1- كذا في الأصل ، والصحيح : « المغتذي ».
2- للتعرّف على الأقوال في هذه المسألة راجع « الشفاء » الطبيعيّات 2 : 77 - 85 ؛ « النجاة » : 145 - 148 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 695 - 700 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 278 - 279 ؛ « نهاية المرام » 3 : 380 - 394 ؛ « شرح المواقف » 6 : 209 - 211 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 420 - 423.
3- عرفوا بأصحاب الخليط وأصحاب الكمون والبروز ، وهم انكساغورس وأصحابه كما في « شرح الإشارات والتنبيهات » 2 : 278 ، وعند الإسلاميّين عرف بذلك إبراهيم النظّام وأصحابه كما في « الفرق بين الفرق » : 142 ؛ « الملل والنحل » 1 : 56.

أجزاء الماء وتفريقها قبل ورود الحرارة عليه ، ولمّا لم يكن كذلك دلّ على بطلان الكمون.

وأمّا الثاني : فلأنّا نشاهد جبلا من كبريت تقرب منه نار صغيرة فيحترق ، مع أنّا نعلم أنّه لم يكن في تلك النار الصغيرة من الأجزاء الناريّة ما يلاقي الجبل ويغلب عليه حسّا.

قال : ( وفي الأين والوضع ظاهر ).

أقول : وقوع الحركة في هاتين المقولتين - أعني الأين والوضع - ظاهر ؛ فإنّا نشاهد المتحرّك من مكان إلى آخر ، ونرى أنّ الفلك يتحرّك من وضع إلى آخر من غير خروجه عن مكانه.

واعلم أنّ الحركة في الوضع وإن استلزمت حركة الأجزاء في الأين ، لكن ذلك باعتبار آخر مغاير لاعتبار حركة الجميع في الأين.

قال : ( وتعرض لها وحدة باعتبار وحدة المقدار والمحلّ والقابل ).

أقول : الحركة منها واحدة بالعدد ، ومنها كثيرة.

أمّا الواحدة فهي الحركة المتّصلة من مبدأ المسافة إلى نهايتها - وقد بيّنّا تعلّق الحركة بأمور ستّة - والمقتضي لوحدتها إنّما هو ثلاثة منها لا غير.

الأوّل : وحدة الموضوع ، وهو أمر ضروريّ في وحدة كلّ عرض ؛ لاستحالة قيام عرض بمحلّين.

وإليه أشار بقوله : « والمحلّ ».

الثاني : وحدة الزمان ، وهو كذلك أيضا ؛ لاستحالة إعادة المعدوم بعينه.

وإليه أشار بقوله : « المقدار ».

الثالث : وحدة المقولة التي فيها الحركة ؛ فإنّ الجسم الواحد قد يتحرّك في الزمان الواحد حركتين كحركتي كيف وأين.

وإليه أشار بقوله : « والقابل ».

ص: 489

ويحتمل أن يكون القابل هو الموضوع والمحلّ هو المقولة.

ووحدة المحرّك غير شرط ؛ فإنّ المتحرّك بقوّة ما مسافة إذا تحرّك بأخرى قبل انقطاع فعل الأولى ، اتّحدت الحركة ، وإذا اتّحدت الأشياء الثلاثة ، اتّحد ما منه وما إليه ، لكن كلّ واحد منهما غير كاف ؛ فإنّ المتحرّك من مبدأ قد ينتهي إلى شيئين ، والمنتهي إلى شيء واحد قد يتحرّك من مبدأين.

قال : ( واختلاف المتقابلين والمنسوب إليه يقتضي الاختلاف ).

أقول : إذا اختلف أحد هذه الأمور الثلاثة - أعني ما منه الحركة ، وما إليه الحركة ، وما فيه الحركة - اختلفت الحركة بالنوع ؛ فإنّ الحركة في الكيف تغاير الحركة في الأين ، وهذا ظاهر. وأيضا الصاعدة ضدّ الهابطة.

وأراد ب- « المتقابلين » ما منه الحركة ، وما إليه الحركة ، وما فيه الحركة.

ولا يشترط اختلاف الموضوع ؛ فإنّ الحجر والنار قد يتحرّكان حركة واحدة بالنوع ، ولا الفاعل ؛ لأنّ الطبيعة والنفس قد يصدر عنهما حركة واحدة به ، ولا الزمان ؛ لجواز الانتقال في زمان معيّن من أين إلى أين ومن وضع إلى وضع ومن مقدار إلى مقدار ومن كيفيّة إلى كيفيّة.

قال : ( وتضادّ الأوّلين التضادّ ).

أقول : من الحركات ما هو متضادّ ، وهي الداخلة تحت جنس آخر كالصاعدة والهابطة ، فعلّة تضادّها ليس تضادّ المتحرّك ؛ لإمكان صعود الحجر والنار ، ولا تضادّ المحرّك ؛ لصدور الصعود عن الطبع والقسر ، ولا الزمان ؛ لعدم تصوّر التضادّ فيه ؛ إذ لا يتصوّر فيه التوارد على موضوع واحد ؛ لأنّه إمّا على سبيل التعاقب أو على سبيل الاجتماع ، وكلّ منهما يقتضي الزمان ، ولا يتصوّر للزمان زمان ولا ما فيه (1) ؛ لاتّحاد المسافة فيهما فلم يبق إلاّ ما منه وما إليه.

ص: 490


1- أي : ولا تضادّ ما فيه الحركة.

وإليه أشار بقوله : « وتضادّ الأوّلين التضادّ » أي : وتضادّ المبدأ والمنتهى يقتضي التضادّ.

ولا يمكن التضادّ بالاستدارة والاستقامة ؛ لأنّهما غير متضادّين ؛ لعدم تصوّر غاية الخلاف بين المستقيم والمستدير ، وكذا بين المستديرتين كما أفادوا (1).

قال : ( ولا مدخل للمتقابلين والفاعل في الانقسام ).

أقول : الحركة تنقسم بانقسام الزمان ؛ فإنّ الحركة في نصف الزمان نصف الحركة في جميعه مع التساوي في السرعة والبطء. وبانقسام المتحرّك ؛ فإنّها عرض حالّ فيه ، والحالّ في المنقسم يكون منقسما. وبانقسام ما فيه ، أعنى المسافة ؛ فإنّ الحركة إلى منتصفها نصف الحركة إلى منتهاها.

ولا مدخل للمتقابلين - أعني المبدأ والمنتهى - في الانقسام ، ولا الفاعل ، أعني المحرّك [ وذلك ] كلّه ظاهر.

قال : ( وتعرض لها كيفيّة تشتدّ ، فتكون الحركة سريعة ، وتضعف فتكون بطيئة ، ولا تختلف بهما الماهيّة ).

أقول : تعرض الحركة كيفيّة واحدة تشتدّ تارة وتضعف أخرى ، فتكون الحركة باعتبار شدّتها سريعة وباعتبار ضعفها بطيئة.

ويعبّر عن السرعة بأنّها كيفيّة تقطع بها الحركة المسافة المساوية في الزمان الأقلّ ، أو المسافة الأطول في الزمان المساوي أو الأطول. وعن البطء بأنّه كيفيّة تقطع بها الحركة المسافة المساوية في الزمان الأطول ، أو المسافة الأقصر في الزمان المساوي أو الأطول.

ولا تختلف ماهيّة الحركة بسبب اختلاف السرعة والبطء ؛ لأنّ السرعة والبطء

ص: 491


1- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 285 - 289 ؛ « النجاة » : 112 - 114 ؛ « التحصيل » : 441 - 443 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 728 - 729 ؛ « مناهج اليقين » : 58 - 60 ؛ « نهاية المرام » 3 : 453 - 456 ؛ « شرح المواقف » 6 : 244 - 247 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 442 - 443.

يقبلان الشدّة والضعف ، ولا شيء من الفصول بقابل لهما ؛ وذلك لأنّ سرعة بعض الحركات تختلف بالقياس إلى غيرها ، فما هو سريع بالنسبة إلى شيء قد يكون بطيئا بالنسبة إلى غيره.

قال : ( وسبب البطء الممانعة الداخليّة أو الخارجيّة ، لا تخلّل السكنات ، وإلاّ لما أحسّ بما اتّصف بالمقابل )

أقول : اعلم أنّ المتكلّمين - كما حكي (1) - ذهبوا إلى أنّ تخلّل السكنات بين أجزاء الحركة سبب للإحساس بالبطء.

والفلاسفة نفوا ذلك (2).

واختار المصنّف مذهب الفلاسفة ، فمنعوا استناد البطء إلى تخلّل السكنات ، بل أسندوه إلى الموانع الخارجيّة كغلظ قوام ما يتحرّك فيه في الحركات الطبيعيّة ، وإلى الداخليّة كالميول الطبيعيّة بالنسبة إلى الحركات القسريّة ؛ لأنّه لو كان تخلّل السكنات سببا لبطء الحركة ، لما أحسّ بما اتّصف بالمقابل ، يعني أنّه يلزم عدم الإحساس بالحركات المتّصفة بالسرعة التي هي مقابلة للبطء ؛ لأنّ حركة الفرس في يوم واحد خمسين فرسخا - مثلا - أقلّ من حركة الفلك الأعظم في ذلك اليوم في الغاية ، فتكون حركة الفرس في غاية البطء بالنسبة إلى حركة الفلك ، بل تزيد حركة الفلك على حركة الفرس بألف ألف مرّة ، فلو كان البطء لتخلّل السكنات المتخلّلة بين حركات الفرس في ذلك الوقت أزيد من حركاته ألف ألف مرّة ، فيلزم أن لا تكون حركات الفرس محسوسة ؛ لكونها قليلة مغمورة في سكنات تزيد عليها

ص: 492


1- حكاه عنهم العلاّمة في « كشف المراد » : 270 و « نهاية المرام » 3 : 437 والقوشجي في « شرح تجريد العقائد » : 304 واللاهيجي في « شوارق الإلهام » : 483. وانظر : « شرح المواقف » 6 :1. 254 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 446 - 447.
2- انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 155 و 194 ؛ « النجاة » : 110 - 111 ؛ « التحصيل » : 433 - 434 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 720 - 721 ؛ « شرح حكمة العين » : 446 ؛ « نهاية المرام » 3 : 437 - 440 ؛ « شرح المواقف » 6 : 254 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 447 - 449.

بألف ألف مرّة ، وليس كذلك ؛ لأنّا نشاهد حركته سريعة في الغاية ، ولا نرى شيئا من السكنات المفروضة كما تقدّم في مسألة الجزء الذي لا يتجزّأ.

قال : ( ولا اتّصال لذوات الزوايا ، والانعطاف لوجود زمان بين آني الميلين ).

أقول : كلّ حركة يكون لها رجوع عن الصوب الذي كانت له إن كان رجوعها إلى الصوب الأوّل بعينه تسمّى حركة ذات انعطاف ، وإن كان إلى صوب آخر تسمّى ذات زاوية.

وقد اختلفوا [ في ] أنّ المتحرّك بين الحركتين متّصف بالحركة كما عن أفلاطون وأكثر المتكلّمين (1) ، أو بالسكون كما عن أرسطو وأتباعه (2) ، واختاره المصنّف ، فأفاد أنّ كلّ حركتين مستقيمتين مختلفتين فإنّ بينهما زمان سكون ، كما بين الصاعدة والهابطة ؛ لأنّ لكلّ حركة علّة تقتضي إيصال الجسم إلى المطلوب ، والوصول موجود فعلّته كذلك ، وعلّته هي الميل ، فيكون للحركة الأولى ميل يقتضي الوصول ، وللحركة الثانية ميل يقتضي زوال الوصول ، فهنا ميلان ، وكلّ منهما في آن ، والآن الذي يوجد فيه الميل المقتضي للوصول ليس هو الآن الذي يوجد فيه ميل يقتضي المفارقة ؛ للقطع باستحالة اجتماع الميلين المتخالفين في آن واحد ، ولا يتّصل الآنان ، فلا بدّ من فاصل ، وهو زمان عدم الميل بين آني الميلين ، فيكون الجسم ساكنا فيه ، وهو المطلوب.

ويرد عليه منع عدم اتّصال الآنين ؛ لإمكان زوال الميل الأوّل بمجرّد الوصول وحدوث الميل الثاني بعده بلا فصل بالآن فضلا عن الزمان مع إمكان وحدة الميل المقتضي للحركة ذات الزاوية أو الانعطاف.

مضافا إلى أنّه لو فرض صعود الخفيف وهبوط الحجر الثقيل وتلاقيهما في

ص: 493


1- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 292 - 299 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 177 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 94 - 102 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 732 ؛ « مناهج اليقين » : 58 - 60 ؛ « نهاية المرام » 3 : 457 - 465 ؛ « شرح حكمة العين » : 451 ؛ « شرح المواقف » 6 : 255 - 261 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 450 - 455 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 304 - 305 ؛ « شوارق الإلهام » : 484 - 487.
2- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 292 - 299 ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 177 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 94 - 102 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 732 ؛ « مناهج اليقين » : 58 - 60 ؛ « نهاية المرام » 3 : 457 - 465 ؛ « شرح حكمة العين » : 451 ؛ « شرح المواقف » 6 : 255 - 261 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 450 - 455 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 304 - 305 ؛ « شوارق الإلهام » : 484 - 487.

الوسط الموجب لعود الخفيف وهبوطه وانعطافه ، يلزم سكون الحجر آن انعطاف ذلك الخفيف لو قلنا بتخلّل السكون بين الحركتين ، وهو باطل بالضرورة ، فالحقّ مع أفلاطون والأكثر.

قال : ( والسكون حفظ النسب ، فهو ضدّ ).

أقول : اختلف الناس في تحقيق ماهيّة السكون ، وأنّها هل هي وجوديّة أو عدميّة؟

والمتكلّمون (1) على الأوّل ، فجعلوه عبارة عن حصول الجسم في حيّز واحد أكثر من زمان واحد.

وبعبارة أخرى : كون الشيء في الآن الثاني في المكان الأوّل بعد الاستقرار زمانا يمكن فيه الحركة.

والحكماء (2) على الثاني ، فقالوا : إنّه عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرّك.

والمصنّف رحمه اللّه اختار قول المتكلّمين ، وهو أنّه وجوديّ ، وأنّ مقابلته للحركة تقابل الضدّية ، لا تقابل العدم والملكة ، وجعله عبارة عن حفظ النسب بين الأجسام الثابتة على حالها.

قال : ( يقابل الحركتين ).

أقول : قال العلاّمة رحمه اللّه :

يمكن أن يفهم من هذا الكلام معنيان :

أحدهما : أنّه إشارة إلى الصحيح من الخلاف الواقع بين الأوائل أنّ المقابل للحركة هو السكون في مبدأ الحركة لا نهايتها ، أو أنّ السكون مقابل للحركة من مكان السكون.

ص: 494


1- « الفرق بين الفرق » : 138 ؛ « أصول الدين » : 40 - 46 ؛ « التوحيد » : 76 ؛ « الفصل في الملل والأهواء والنحل » 5 : 175 - 179 ؛ « المطالب العالية » 4 : 283 - 292 ؛ « المحصّل » : 237 - 239 ؛ « تلخيص المحصّل » : 149 - 150 ؛ « مناهج اليقين » : 60 ؛ « نهاية المرام » 3 : 342 - 347 ؛ « شرح المواقف » 6 : 172 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 457 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 305.
2- « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 108 - 111 ؛ « النجاة » : 107 ؛ « التحصيل » : 429 - 431 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 30 و 40 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 712 - 713 ؛ « نهاية المرام » 3 : 345 - 346 ؛ « مناهج اليقين » : 60.

والحقّ هو الأخير ؛ لأنّ السكون ليس عدم الحركة خاصّة ، وإلاّ لكان المتحرّك إلى جهة ، ساكنا في غير تلك الجهة ، بل هو عدم كلّ حركة ممكنة في ذلك المكان.

واحتجّ الأوّلون بأنّ السكون في النهاية كمال للحركة ، وكمال الشيء لا يقابله.

والجواب : أنّ السكون ليس كمالا للحركة ، بل للمتحرّك.

الثاني : أنّ السكون ضدّ يقابل الحركة المستقيمة والمستديرة معا ؛ وذلك لأنّه لمّا بيّن أنّ السكون عبارة عن حفظ النسب ، وكان حفظ النسب إنّما يتمّ ببقاء الجسم في مكانه على وصفه (1) ، وجب أن يكون السكون مقابلا للحركة المستقيمة والمستديرة معا ؛ لانتفاء حفظ النسب فيهما (2).

ولا يخفى أنّ الظاهر هو الأخير ، وإلاّ كان الصحيح أن يقول : « كلّ حركة » لا « الحركتين ».

ويمكن أن يكون المراد الحركة الأينيّة وغيرها.

قال : ( وفي غير الأين حفظ النوع ).

أقول : لمّا بيّن أنّ السكون عبارة عن حفظ النسب ، وكان ذلك إنّما يتحقّق في السكون في المكان والأين لا كلّ سكون ، فوجب عليه أن يفسّر السكون في غير الأين من المقولات الأربع ، فجعله عبارة عن حفظ النوع في المقولة التي تقع عنها الحركة ، وذلك بأن تقف في الكمّ من غير نموّ وذبول وتخلخل وتكاثف ، وفي الكيف من غير اشتداد وضعف ، وفي الوضع من غير تبدّل إلى وضع آخر.

وينبغي حمل النوع على مطلق الكلّي ؛ لئلاّ يرد أنّ الحركة قد تكون من صنف إلى صنف أو من فرد إلى فرد ، فيكون النوع محفوظا ولا سكون.

قال : ( ويتضادّ لتضادّ ما فيه ).

أقول : قد يعرض السكون التضادّ كما تعرض الحركة ؛ فإنّ السكون في المكان الأعلى

ص: 495


1- في المصدر : « وضعه » بدل « وصفه ».
2- « كشف المراد » : 271.

يضادّ السكون في المكان الأسفل ، فعلّة تضادّه ليست تضادّ الساكن ولا المسكن ولا الزمان ؛ لما تقدّم في الحركة ، ولا تعلّق له بالمبدإ والمنتهى ، فوجب أن تكون علّة تضادّه هو تضادّ ما فيه من المقولة التي يقع فيها السكون ؛ فإنّ سكون الجسم في الحرارة يضادّ سكونه في البرودة ؛ لتضادّ الحرارة والبرودة اللتين يقع فيهما السكون.

قال : ( ومن الكون طبيعيّ وقسريّ وإراديّ ).

أقول : الكون يريد به هنا الجنس الشامل للحركة والسكون - كما اصطلح عليه المتكلّمون (1) - وهو ينقسم إلى أقسام ثلاثة ؛ وذلك لأنّه عبارة عن حصول الجسم في الحيّز ، وذلك الحصول قد بيّنّا أنّه لا يجوز استناده إلى ذات الجسم ، فلا بدّ من قوّة استند إليها ، وتلك القوّة إمّا أن تكون مستفادة من الخارج وهي القسريّة ، أو لا وهي الطبيعيّة إن لم تقارن الشعور ، والإراديّة إن قارنته.

قال : ( فطبيعيّ الحركة إنّما يحصل عند مقارنة أمر غير طبيعيّ ).

أقول : الطبيعة أمر ثابت والحركة غير ثابتة ، فلا تستند إليها لذاتها ، بل لا بدّ من اقتران الطبيعة بأمر غير طبيعي ، ويفتقر في الردّ إليه إلى الانتقال ، فيكون ذلك الانتقال طبيعيّا ، أمّا في الأين فكالحجر المرميّ إلى فوق ، وتتبعها الحركة في الوضع ، وأمّا في الكيف فكالماء المسخّن ، وأمّا في الكمّ فكالذابل بالمرض.

قال : ( لردّ الجسم إليه فيقف ).

أقول : غاية الحركة الطبيعيّة إنّما هي حصول الحالة الملائمة للطبيعة التي فرضنا زوالها حتّى اقتضت الطبيعة الحركة وردّ الجسم إليها بعد عدمها عنه ، لا الهرب عن الحالة غير الطبيعيّة.

نعم ، كلّ طريق غير طبيعي مهروب عنه.

ص: 496


1- « شرح الأصول الخمسة » : 96 ؛ « أصول الدين » : 40 ؛ « الأربعين في أصول الدين » : 21 ؛ « نهاية المرام » 3 : 319 - 322 ؛ « مناهج اليقين » : 53 ؛ « شرح المواقف » 6 : 165 وما بعدها ؛ « شرح المقاصد » 2 : 392 وما بعدها ؛ « إرشاد الطالبين » : 72 - 74 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 306 و 389 ؛ « شوارق الإلهام » : 458.

وعلى كلّ تقدير فإذا حصلت الحالة الطبيعيّة وقف الجسم وعدمت الحركة الطبيعيّة ؛ لزوال الشرط ، وهو مقارنة الحالة غير الطبيعيّة.

قال : ( فلا تكون دوريّة ).

أقول : هذا نتيجة ما تقدّم ؛ فإنّ الحركة الطبيعيّة يطلب بها استرداد الحالة الطبيعيّة بعد زوالها بالهرب عن حالة غير طبيعيّة وطلب حالة طبيعيّة ، والحركة الدوريّة يطلب بها ما يهرب عنه فلا تكون طبيعيّة ، وهو ظاهر ؛ لأنّ كلّ نقطة يفرض كونها مطلوبة بالحركة ، فهي مهروب عنها بتلك الحركة ، ومن المحال أن يكون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع.

قال : ( وقسريّتها تستند إلى قوّة مستفادة قابلة للضعف ).

أقول : الحركة القسريّة إمّا أن تكون في ملازم المتحرّك أو مع مقارنه ، والأوّل لا إشكال فيه ، والبحث في الثاني.

والمشهور أنّ المحرّك كما يفيد المقسور حركة كذلك يفيد قوّة فاعلة لتلك الحركة قابلة للضعف بسبب الأمور الخارجيّة والطبيعيّة المقاومة ، وكلّما ضعفت القوّة القسريّة بسبب المصادمات ، قويت الطبيعة إلى أن تفنى تلك القوّة بالكلّية ، فتفيد الطبيعة الحركة الطبيعيّة.

والمراد من ضعف القوّة ضعف أثرها بالمصادمة ، فلا يرد أنّ القوّة المستفادة من القاسر باقية لا تشتدّ ولا تضعف ، مع إمكان القول بقبول الضعف ، فتبطل القوّة القسريّة بالكلّيّة.

قال : ( وطبيعيّ السكون يستند إلى الطبيعة مطلقا ).

أقول : السكون ، منه طبيعيّ ، كاستقرار الأرض في المركز ، ومنه قسريّ ، كالحجر الواقف في الهواء قسرا ، ومنه إراديّ ، كسكون الحيوان بإرادته في مكان ما.

والطبيعيّ من السكون ما يستند إلى الطبيعة مطلقا ، بخلاف الحركة الطبيعيّة ؛ فإنّها المستندة إلى الطبيعة لا مطلقا ، بل عند مقارنة أمر غير ملائم ، كما مرّ.

ص: 497

قال : ( وتعرض البساطة ومقابلها للحركة خاصّة ).

أقول : من الحركات ما هو بسيط ، كحركة الحجر إلى أسفل ، ومنها ما هو مركّب ، كحركة النملة على الرحى إذا اختلفا في المقصد ؛ فإنّ حركة كلّ واحدة من النملة والرحى وإن كانت بسيطة لكن إذا نظر إلى حركة النملة الذاتيّة وحركتها بالعرض باعتبار حصولها في محلّ متحرّك ، حصل لها تركيب.

ثمّ إن كانت إحدى الحركتين مساوية للأخرى حدث للنملة حالة كالسكون بالنسبة إلى الأمور الثابتة. وإن فضلت إحداهما على الأخرى حصل لها حركة بقدر فضل إحداهما على الأخرى.

قال : ( ولا يعلّل الجنس ولا أنواعه بما يقتضي الدور ).

أقول : الظاهر أنّ المراد هو الردّ على أبي هاشم (1) وأتباعه حيث قال - كما حكي - : إنّ جنس الأنواع الأربعة - وهو الحصول في الحيّز - معلّل بمعنى فسّرته طائفة بالكائنيّة ، فالمعنى لا يعلّل الجنس - أي الحصول في الحيّز - ولا أنواعه - أي الحركة والسكون - بالكائنيّة ؛ لأنّ الكائنيّة معلّلة بالكون الذي هو حصول الجوهر في الحيّز ، فلو علّل الحصول بها لزم الدور.

المسألة السادسة : في المتى.

قال : ( الخامس : المتى وهو النسبة إلى الزمان أو طرفه ).

أقول ، لمّا فرغ من البحث عن مقولة الأين شرع في البحث عن المتى (2).

ص: 498


1- نقله عنه في « التوحيد » : 76 ؛ « نقد المحصّل » : 148 ؛ « مناهج اليقين » : 53 - 57 ؛ « نهاية المرام » 3 : 262 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 307 ؛ « شوارق الإلهام » : 490. وذكر الفخر الرازي هذا القول من دون نسبته إلى قائل ونقضه ، كما في « المباحث المشرقيّة » 1 : 1. ونسبه إلى جمهور المتأخّرين في « الأربعين في أصول الدين » : 21 ، ونسبه الإيجي إلى قوم من المعتزلة ، على ما في « شرح المواقف » 6 : 162.
2- حول تعريف المتى راجع « المنطق عند الفارابي » 1 : 108 ؛ « المنطقيّات » 1 : 60 ؛ « الشفاء » المنطقيّات 1 : 231 ؛ « التحصيل » : 414 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 581 ؛ « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » 1 : 374 ؛ « نهاية المرام » 2 : 383 ؛ « التعريفات » : 257، الرقم 1274 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 307.

والمراد بها نسبة الشيء إلى الزمان أو طرفه بالحصول فيه أو في طرفه كالحروف الآنيّة الحاصلة دفعة.

وهو إمّا حقيقيّ ، وهو كون الشيء في زمان لا يفضل عليه كالصيام في النهار ، والكسوف في ساعة معيّنة. وإمّا غير حقيقيّ كالصلاة فيه أو الكسوف في يوم كذا.

والفرق بين المتى الحقيقيّ والأين الحقيقيّ في النسبة أنّ المتى الواحد قد يشترك فيه كثيرون ، بخلاف الأين الحقيقيّ.

قال : ( والزمان مقدار الحركة من حيث التقدّم والتأخّر العارضين لها باعتبار آخر ).

أقول : الحركة يعرض لها التقدّم والتأخّر وتتقدّر باعتبارهما ؛ فإنّ الحركة لا بدّ لها من المسافة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها ، ولا بدّ لها من زمان ، ويعرض لأجزائها تقدّم وتأخّر باعتبار تقدّم بعض أجزاء المسافة على بعض ؛ فإنّ الجزء من الحركة الحاصل في الجزء المتقدّم من المسافة متقدّم على الحاصل في المتأخّر ، وكذلك الحاصل في المتقدّم من الزمان متقدّم على الحاصل في متأخّره.

لكنّ الفرق بين تقدّم المسافة وتقدّم الحركة أنّ المتقدّم من المسافة يجامع المتأخّر ، بخلاف أجزاء الحركة ، ويحصل للحركة عدد باعتبارين ، فالزمان هو مقدار الحركة وعددها من حيث التقدّم والتأخّر العارضين لها باعتبار المسافة لا باعتبار الزمان ، وإلاّ لزم الدور.

وإلى هذا أشار بقوله : « باعتبار آخر » مغاير لاعتبار الزمان.

وأمّا ما أفاد الشارح القوشجي (1) - من أنّ معناه أنّ هذا التقدّم والتأخّر العارضين لأجزاء الزمان ليس باعتبار الزمان على ما ذهب إليه الحكماء ، بل باعتبار آخر ؛ لأنّ

ص: 499


1- « شرح تجريد العقائد » : 307.

تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض ذاتيّ لا زمانيّ.

فغير وجيه. ويشهد على ذلك قوله : « لها » لا « له ».

وبالجملة ، فالزمان أمر ممتدّ غير المسافة تتقدّر به الحركة.

وقد يقال : إنّ الزمان كالحركة له معنيان (1) :

أحدهما : أمر موجود في الخارج غير منقسم ، وهو مطابق للحركة بمعنى التوسّط ، ويسمّى بالآن السيّال (2) أيضا.

والثاني : أمر متوهّم لا وجود له في الخارج ، فيكون أمرا ممتدّا وهميّا للحركة بمعنى القطع.

قال : ( وإنّما تعرض المقولة بالذات للمتغيّرات وبالعرض لمعروضها ).

أقول : هذه المقولة التي هي المتى إنّما تعرض بالذات للمتغيّرات كالحركة ، وإنّما تعرض لغيرها بالعرض وبواسطتها ؛ فإنّ ما لا يتغيّر لا تعرض له هذه النسبة إلاّ باعتبار عروض صفات متغيّرة له ، كالأجسام التي تعرض لها الحركات ونحوها من الصفات المتغيّرة ، فتلحقها هذه النسبة.

قال : ( ولا يفتقر وجود معروضها وعدمه إليه ).

أقول : الذي فهمناه من هذا أمران :

أحدهما : أنّ وجود معروض المتغيّرات وعدمه لا يفتقر إلى الزمان ؛ لأنّه مقدار التغيّرات ، وهي متأخّرة عن المتغيّرات التي هي معروضها ؛ ضرورة تقدّم المعروض على عارضه ، والتغيّرات متقدّمة على الزمان ؛ لأنّ الشيء متقدّم على مقداره القائم به ، فتكون المتغيّرات أيضا متقدّمة على الزمان ؛ لأنّ المتقدّم على المتقدّم متقدّم ،

ص: 500


1- انظر : « الشفاء » الطبيعيّات 1 : 160 - 165 ؛ « النجاة » : 115 - 118 ؛ « التحصيل » : 453 - 464 ؛ « المعتبر في الحكمة » 2 : 77 - 80 ؛ « المباحث المشرقيّة » 1 : 783 - 787 ؛ « المطالب العالية » 5 : 83 - 88 ؛ « نهاية المرام » 3 : 529 - 534.
2- انظر : « المباحث المشرقيّة » 1 : 786 - 787 ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » 1 : 72 - 75.

فلو افتقر وجود المعروض أو عدمه إليه لزم الدور.

الثاني : أنّ هذه النسبة - التي هي المقولة - عارضة للنسبتين اللّتين إحداهما الزمان ، فالزمان معروض لهذه النسبة ، ووجود هذا المعروض وعدمه لا يفتقر إلى الزمان ، وإلاّ لزم التسلسل.

قال : ( والطرف كالنقطة وعدمه في الزمان لا على التدريج ).

أقول : الطرف عبارة عن الآن ؛ فإنّه طرف للزمان ، والمعنى أنّ وجوده فرضي كوجود النقطة في الجسم ، على ما تقدّم في نفي الجوهر الفرد ؛ لأنّه حدّ مشترك بين الماضي والمستقبل ، والحدود المشتركة بين الكمّيّات المتّصلة ليست أجزاءها ، وإلاّ لما أمكن تقسيمها إلى ما أريد تقسيمها إليه ؛ لأنّ التنصيف يكون تثليثا والتثليث تخميسا وهكذا.

وقد وقع هناك معارضة بأنّ الآن جزء من الزمان ؛ لأنّ عدم الآن إمّا تدريجيّ أو دفعيّ ، والأوّل باطل ، وإلاّ لكان الآن زمانا منقسما لا آنا ، والثاني يقتضي أن يكون آن عدمه متّصلا بآن وجوده ، وإلاّ لزم أن لا يكون في الآن المتوسّط لا موجودا ولا معدوما ، وهو محال ، وتتالي الآنات يستلزم الزمان ، فالآن جزء من الزمان.

والمصنّف أجاب عن تلك المعارضة بقوله : « وعدمه في الزمان [ لا ] على التدريج » والمراد أنّ الشيء الدفعي قد يكون آنيّا لا زمانيّا ، ككون المتحرّك في حدّ معيّن من المسافة فيما بين المبدأ والمنتهى ، فإنّه يوجد في آن لا في زمان قطعا ، وقد يكون زمانيّا لا بمعنى الانطباق عليه ، بل على وجه يوجد في كلّ آن يفرض في ذلك الزمان ، ككون الشيء متحرّكا ، فإنّه زمانيّ يصدق على الجسم في كلّ آن يفرض من آنات زمان حركته ، فعدم الآن دفعيّ لا تدريجيّ ، وهو في الزمان الذي بعده ، لا بمعنى الانطباق عليه ليلزم انقسام الآن وكونه زمانا ، بل بمعنى أن لا يوجد في ذلك الزمان آن إلاّ ويكون عدمه فيه ، فالآن طرف لذلك الزمان وعدمه في جميع ذلك الزمان ، مع أنّ وجود الآن ليس في آن حتّى يتّصل آن عدمه بآن وجوده ، وإلاّ

ص: 501

لزم التسلسل ، فلا تتوجّه المعارضة.

قال : ( وحدوث العالم يستلزم حدوثه ).

أقول : قد بيّنّا فيما تقدّم أن العالم حادث والزمان من جملته ، فيكون حادثا بالضرورة.

والأوائل نازعوا في ذلك ، وقد تقدّم كلامهم والجواب عنهم.

المسألة السابعة : في الوضع.

قال : ( السادس : الوضع وهو هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبتين ).

أقول : الوضع من جملة الأعراض النسبيّة.

واعلم أنّ لفظ « الوضع » يقال على معان بالاشتراك :

منها : كون الشيء بحيث يشار إليه إشارة حسّيّة بأنّه هنا أو هناك ، فالنقطة ذات وضع بهذا الاعتبار ، دون الوحدة.

ومنها : هيئة تعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض وبسبب نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجة عنه ، فهنا نسبتان تقتضيان حصول هيئة للجسم ويقال لها : الوضع ، وهذا هو المقولة المذكورة هنا كالقيام ؛ فإنّه يفتقر إلى حصول نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض ونسبة لها إلى الأمور الخارجة ، مثل كون رأس القائم من فوق ورجلاه من أسفل ، ولو لا هذه النسبة لكان الانتكاس قياما.

وإلى هذا أشار بقوله : « باعتبار نسبتين » أي باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وباعتبار نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجة.

قال : ( وفيه تضادّ وشدّة وضعف ).

أقول : المراد أنّه قد يقع في الوضع تضادّ كالقيام والانتكاس ؛ فإنّهما هيئتان وجوديّتان بينهما غاية الخلاف ، متعاقبتان على موضوع واحد فتكونان متضادّين.

وقد يقع فيه أيضا شدّة وضعف ؛ فإنّ الانتصاب والانتكاس قد يقبلان الشدّة

ص: 502

والضعف ؛ فإنّ الشيء قد يكون أشدّ انتصابا من غيره وكذا في غيره.

المسألة الثامنة : في الملك قال :

( السابع : الملك ، وهو نسبة التملّك ).

أقول : قد يطلق على الملك الجدة وهي حالة تحصل للشيء بسبب ما يحيط به ، وينتقل بانتقاله سواء كان خلقيّا أم لا ، وسواء أحاط بكلّه أو ببعضه ، ككون الإنسان معمّما أو متقمّصا ، فيخرج الأين ؛ لعدم انتقال المكان بانتقال المتمكّن.

وبالجملة ، فالملك على قسمين : ذاتيّ كحال الهرّة بالنسبة إلى إهابها ، وعرضيّ كبدن الإنسان بالنسبة إلى قميصه.

المسألة التاسعة والعاشرة : في مقولتي الفعل والانفعال.

قال : ( الثامن والتاسع : أن يفعل وأن ينفعل ).

أقول : هاتان مقولتان من المقولات التسع :

الأولى : الفعل ، وهو حالة تحصل للشيء بسبب تأثيره في غيره ، كالقاطع ما دام يقطع.

الثانية : الانفعال ، وهو حالة تحصل للشيء بسبب تأثّره عن غيره ، كالمتسخّن ما دام يتسخّن.

وقد يقال : الظاهر أنّ الفعل والانفعال نفس التأثير والتأثّر ، لا هيئة أخرى تعرض للشيء بسبب التأثير والتأثّر.

وقد اختلفوا في ثبوت هاتين المقولتين عينا أو ذهنا على قولين :

فقد حكي (1) أنّه ذهب الأوائل إلى أنّهما ثابتتان عينا ، لكون تأثير الشيء في غيره

ص: 503


1- حكاه العلاّمة رحمه اللّه في « كشف المراد » : 278 ، وانظر أيضا : « المعتبر في الحكمة » 3 : 19.

وتأثّره عنه ما دام التأثير والتأثّر موجودين ، فإذا انقطعا ، قيل لهما : فعل وانفعال ، ولهذا أوثر لفظ « أن يفعل » و « أن ينفعل » على « الفعل » و « الانفعال » حيث إنّهما قد يقالان للحاصل بعد انقطاع الحركة مع عدم كونه من المقولة.

قال : ( والحقّ ثبوتهما ذهنا ، وإلاّ لزم التسلسل ).

أقول : المصنّف رحمه اللّه ذهب هنا إلى ما ذهب إليه المتكلّمون (1) ، وخالف الأوائل في ذلك ، وجعل هاتين المقولتين أمرين ذهنيّين لا ثبوت لهما عينا ، وإلاّ لزم التسلسل.

ووجه اللزوم : أنّ ثبوتهما يستدعي ثبوت علّة مؤثّرة فيهما ؛ فتلك العلّة لها نسبة التأثير إليهما ، ولهما نسبة التأثّر عنها ، فهناك تأثير وتأثّر آخران ، وذلك يستدعي ثبوت نسبتين أخريين وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فيلزم التسلسل.

وفيه : أنّ الفعل والانفعال لو كانا ذهنيّين خاصّة ، لما ترتّب عليهما الآثار الخارجيّة ، وهو خلاف الضرورة ، والتسلسل ينتفي بالإيجاد الإبداعي والحصول الدفعي والانتهاء إلى النسبة الذاتيّة بمعنى أنّ المنفعل له نسبة إلى الفاعل بسبب الفعل ، والفعل له نسبة إليه بسبب ذاته ، وكذا الانفعال بالنسبة إلى المنفعل ، فالحقّ ثبوتهما عينا.

هذا آخر الكلام في المقدّمات ، ولنصرف عنان البيان إلى المقاصد الأصليّة التي أعلاها الإلهيّات مع صدق النيّات.

والحمد لله على إعطاء الأمور العامّة الكلّيّة والجواهر اللاهوتيّة والأعراض الناسوتيّة. والصلاة والسلام على رسوله وآله خير البريّة.

وكان الفراغ في سنة 1248 ه.

ص: 504


1- ذهب إليه جماعة منهم الفخر الرازي في « المباحث المشرقيّة » 1 : 583 - 585 ؛ « المحصّل » : 219 - 220 ؛ « نهاية المرام » 2 : 406 - 408 ؛ « شرح المقاصد » 2 : 472 - 475 ؛ « شرح تجريد العقائد » : 309 ؛ « شوارق الإلهام » : 394.

فهرس الموضوعات

دليل الكتاب... 5

تصدير... 7

كلمة شكر وثناء :... 7

مقدّمة التحقيق

التمهيد... 11

المبحث الأوّل : حول الطوسي ومتن التجريد... 13

ميلاده... 13

والده... 13

قالوا عنه :... 13

دراسته... 14

الطوسي والإسماعيليّين... 14

الطوسي والمغول... 15

الطوسي والعلم والعلماء... 16

الطوسي في الميزان... 17

آثاره... 18

حول التجريد وشروحه... 18

وقفة مع متن التجريد :... 21

ص: 505

المبحث الثاني : حول الأسترآبادي و « البراهين القاطعة »... 23

نبذة عن عصر المؤلّف... 23

بعض الملامح عن شخصيّته... 27

نسبه... 28

مولده... 28

وفاته ومدفنه... 28

أساتذته... 28

أولاد الأسترآبادي ؛... 29

أسترآباد... 30

علماء أسترآباد... 31

رحلاته ونشاطاته... 32

مصنّفات الأسترآبادي... 34

نسبة الكتاب إلى مؤلّفه... 40

اسم الكتاب... 40

منهجيّة الكتاب... 40

تاريخ تصنيف هذا الكتاب... 43

بعض آراء المؤلّف ؛... 44

منهج التحقيق... 48

مواصفات النسخ الخطّية... 50

المقدّمة... 65

في بيان أمور خمسة... 65

1. في تعريف علم الكلام... 65

2. في بيان موضوع علم الكلام... 67

3. في فائدة علم الكلام... 69

ص: 506

4. في أنّ علم الكلام أشرف العلوم... 69

5. في الفرق بين أصول الدين وأصول المذهب... 69

بيان أصول الدين إجمالا... 70

معنى أصول المذهب... 71

الشروع بالشرح... 71

توضيح معنى « بسم اللّه الرحمن الرحيم »... 72

بيان منهجيّة الكتاب... 75

المقصد الأوّل

في الأمور العامّة ، وفيه فصول

الفصل الأوّل : في الوجود والعدم ، وفيه مسائل

المسألة الأولى : في تحديد الوجود والعدم... 81

اختلاف الأقوال في تحديدهما... 81

رأي الحكماء... 82

رأي المحقّق الطوسي والفخر الرازي... 83

في الاستدلال على بداهة تصوّر الوجود... 83

الاستدلال الأوّل... 83

الاستدلال الثاني... 84

في بطلان الاستدلالين... 84

نقل قول صدر الدين الشيرازي... 84

نقل قول الشيخ أحمد الأحسائي في معنى الوجود... 85

إنّ الوجود له معنيين : مصدري واسمي... 87

المسألة الثانية : هل الوجود مشترك معنوي أو لفظي؟

مدرك هذه المسألة... 89

اختلاف العلماء في هذه المسألة... 90

ص: 507

رأي المحقق الطوسي... 90

الوجوه المستفادة من رأي الطوسي... 90

الوجه الأوّل في أنّ الوجود مشترك معنوي... 90

الوجه الثاني في أنّ مفهوم العدم واحد... 91

الوجه الثالث في أنّ مفهوم الوجود قابل للتقسيم... 91

بيان ثلاث مقدّمات للوجه الثالث... 91

الردّ على الوجوه الثلاث... 92 و 93

المسألة الثالثة : في زيادة الوجود على الماهيّة

هل الوجود نفس الماهيّة أو زائد عليها... 93

القائلون بأنّ الوجود نفس الماهيّة... 94

أدلّة القائلين بزيادة الوجود على الماهيّة... 94

في أنّه يمكن جعل الوجوه خمسة... 97

في جواب من استدلّ على أنّ الوجود نفس الماهيّة... 97

رأي الأسترآبادي في المسألة... 98

إنّ قيام الوجود بالماهيّة إنّما يعقل في الذهن... 98

المسألة الرابعة : في انقسام الوجود إلى الذهني والخارجي

تقسيم الوجود إلى أصلي ورابطي... 99

في جواب استدلال من نفى الوجود الذهني... 100

علام تطلق الماهيّة... 100

حول أصالة الوجود وأصالة الماهيّة... 101

المسألة الخامسة : الوجود ليس له معنى زائدا على الحصول العيني

المسألة السادسة : الوجود لا تزايد فيه ولا اشتداد

الردّ على القول بالتزايد... 102

المسألة السابعة : في أنّ الوجود خير والعدم شرّ

المسألة الثامنة : في أنّ الوجود لا ضدّ له

ص: 508

المسألة التاسعة : في أنّه لا مثل للوجود

المسألة العاشرة : في أنّ الوجود مخالف لغيره من المعقولات

إشكال وجواب... 105

المسألة الحادية عشرة : في تلازم الوجود والشيئيّة

قول المحقّقين والحكماء في المسألة... 106

قول المعتزلة والردّ عليهم... 106

استدلال الماتن على بطلان القول بثبوت المعدوم... 107

البرهان على انتفاء الماهيّات في العدم... 107

إبطال حجج القائلين بثبوت المعدوم... 108

في دليلهم الثاني على ثبوت المعدوم... 109

جواب الماتن على الدليل الثاني... 109

المسألة الثانية عشرة : في نفي الحال

مذاهب العلماء في هذه المسألة... 110

الإشارة إلى ما احتجّوا به في ثبوت الواسطة بين الموجود والمعدوم... 110

رأي نفاة الحال... 112

اعتذار مثبتي الحال عن التزام النفاة بوجهين... 112

جواب الفخر الرازي عن الوجه الثاني... 113

بطلان ما فرّعوه على ثبوت المعدوم... 113

أحكام إثبات الذوات في العدم... 113

1. في اتّفاقهم أنّ تلك الذوات غير متناهية في العدم... 113

2. إنّ الفاعل لا تأثير له في جعل الجوهر جوهرا... 113

3. اتّفاقهم على انتفاء تباين الذوات... 113

الردّ على المذهب المتقدّم... 114

4. اختلافهم في صفات الأجناس ، وهل هي ثابتة في العدم أم لا؟... 114

مذهب ابن عيّاش المعتزلي في هذه المسألة... 114

ص: 509

رأي الجمهور : أنّها متّصفة بصفات الأجناس في حال العدم... 114

1. الصفة الحاصلة في حالتي الوجود والعدم هي الجوهريّة... 114

2. التحيّز التابع للحدوث... 114

3. الوجود الحاصل بالفاعل... 114

4. الحصول في التحيّز ، وهي الصفة المعلّلة بالمعنى... 114

5. اختلافهم في أنّه هل التحيّز مغاير للجوهريّة؟... 115

مذهب أبي عليّ الجبّائي وابنه وغيرهما... 115

مذهب الشحّام وأبي عليّ البصري وابن عيّاش... 115

6. اتّفاق المثبتين على أنّ المعدوم لا صفة له بكونه معدوما... 116

7. اتّفاقهم على أنّ الذوات المعدومة لا توصف بكونها أجساما... 116

تفاريع القول بثبوت الحال... 116

قسمة الحال إلى المعلّل وغيره... 116

إنّ الذوات كلّها متساوية في الماهيّة... 116

المسألة الثالثة عشرة : في الوجود المطلق والخاصّ

في معنى الوجود... 117

في تقابل الوجود العام والعدم المطلق... 117

في معنى الوجود الخاصّ... 118

إنّ عدم الملكة ليس عدما مطلقا... 118

في أنّه قد يؤخذ الموضوع شخصيّا ونوعيّا وجنسيّا... 118

المسألة الرابعة عشرة : في بساطة الوجود

إنّ الوجود لا جنس له ولا فصل... 119

إنّ الوجود يتكثّر بتكثّر الموضوعات ويقال بالتشكيك على عوارضها... 119

المسألة الخامسة عشرة : في الشيئيّة

الشيئيّة من المعقولات الثانية وليست متأصّلة في الوجود... 120

قول أبي عليّ بن سينا في الشيئيّة... 120

ص: 510

المسألة السادسة عشرة : في تمايز الأعدام وحكمها

المنع من تمايز الأعدام... 121

استدلال الطوسي بثلاثة وجوه... 122

إنّ العدم قد يعرض لنفسه... 122

في جواب من قال : إنّ عدم المعلول علّة لعدم العلّة... 122

في أنّ عدم المعلول ليس علّة لعدم العلّة في الخارج... 123

الاستدلال بعدم العلّة على عدم المعلول برهان لمّيّ... 123

الأشياء المترتّبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما... 123

المسألة السابعة عشرة : في قسمة الوجود إلى المحتاج والغنيّ

المسألة الثامنة عشرة : في الوجوب والإمكان والامتناع

في أنّ الوجود قد يكون خارجيّا أصليّا وقد يكون ذهنيّا ظلّيّا... 125

في اصطلاح « المادّة » و « الجهة » ووجه تسميتهما... 125

البحث في تعريفاتهم للوجوب والإمكان والامتناع... 125

الإشكال بأنّ تعريفاتهم دوريّة... 126

إنّها قد تؤخذ ذاتيّة فتكون القسمة حقيقيّة... 126

إنّ القسمة الحقيقيّة قد تكون للكلّيّ بفصول أو لوازم... 126

قد يؤخذ الوجوب والامتناع باعتبار الغير... 127

اشتراك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة... 128

إنّ كلّ واحد منهما يصدق على الآخر... 128

قد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين... 128

قد يؤخذ الإمكان بالنسبة للاستقبال... 129

لا يشترط العدم في الحال وإلاّ اجتمع النقيضان... 129

في مذهب من قال : إنّ الممكن الاستقبالي شرطه العدم في الحال... 129

المسألة التاسعة عشرة : أنّ الوجوب والإمكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان

في أنّ هذه الجهات الثلاث اعتبارية... 130

ص: 511

الوجوه الدالّة على أنّه ليس لها تحقّق في الأعيان... 130

لو كان الوجوب ثبوتيّا لزم إمكان الواجب... 130

لو كان الامتناع ثبوتيّا لزم إمكان الممتنع... 131

ولو كان الإمكان ثبوتيّا لزم سبق وجود كلّ ممكن على إمكانه... 131

الإمكان قد يرجع إلى الماهيّة فهو لا تحقّق له في الأعيان... 131

الإمكان قد ينسب إلى الوجود من حيث القرب والبعد... 131

في الفرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفيّ... 132

في ردّ العلاّمة على جواب الطوسي على استدلال ابن سينا... 132

في أن الإمكان العقلي على أقسام : ذاتي واستعدادي ووقوعي... 132

المسألة العشرون : في الوجوب والإمكان والامتناع المطلقة

الوجوب قد يكون ذاتيّا وقد يكون بالغير... 132

إنّ معروض ما بالغير منهما ممكن... 133

في أنّه لا ممكن بالغير... 133

المسألة الحادية والعشرون : في عروض الإمكان للماهيّة

عند اعتبار الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهيّة يثبت الوجوب بالغير... 134

في أنّه لا منافاة بين الإمكان والغيريّ... 134

إنّ كلّ ممكن العروض ذاتيّ ولا عكس... 134

المسألة الثانية والعشرون : في علّة الاحتياج إلى المؤثّر

إنّ الإمكان هو علّة الاحتياج لا غير... 135

إنّه الحدوث لا غير... 135

إنّه الإمكان والحدوث معا بكون الحدوث شرطا... 135

وقيل : علّة الاحتياج هو الإمكان بشرط الحدوث... 135

ترجيح الأسترآبادي لمذهب الطوسي في أنّ الإمكان هو العلّة لا غير... 135

الوجوه الدالّة على أنّ الإمكان هو العلّة... 135

الإشكال على الوجه الثاني... 136

ص: 512

إنّ الحكم باحتياج الممكن ضروري... 136

اختلاف الناس في ضروريّة احتياج الممكن... 136

المسألة الثالثة والعشرون : عدم كفاية الأولويّة الذاتيّة

في عدم تصوّر الأولويّة لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته... 136

اعتراض وردّه... 137

المسألة الرابعة والعشرون : في أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد

الأولويّة الخارجية لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه... 138

اعتراض وردّ المصنّف عليه... 139

في أنّ كلّ ممكن موجود أو معدوم فإنّه محفوف بوجوبين... 139

المسألة الخامسة والعشرون : في أنّ الإمكان لازم للممكن

إنّ وجوب الفعليّات يقارنه جواز العدم... 140

إنّ الوجوب هو تأكّد الوجود وقوّته... 140

المسألة السادسة والعشرون : في الإمكان الاستعدادي

في قبول الاستعداد للشدّة والضعف... 140

في الفرق بين الإمكان الذاتي والاستعدادي... 141

المسألة السابعة والعشرون : في القدم والحدوث

في معنى القديم والحادث... 141

المسألة الثامنة والعشرون : في أقسام السبق

في أنّ أقسام التقدّم خمسة... 142

في معنى التقدّم بالعلّيّة... 142

في معنى التقدّم بالطبع... 142

الفرق بين التقدّم بالعلّيّة والتقدّم بالطبع... 142

في معنى التقدّم بالزمان... 142

في معنى التقدّم بالرتبة ، وأنّها إمّا حسّيّة أو عقليّة... 142

في معنى التقدّم بالشرف... 142

ص: 513

في زيادتهم قسما آخر سمّوه التقدّم الذاتي... 142

الإشكال على التقدّم الذاتي... 143

المسألة التاسعة والعشرون : في أحكام السبق

في مناقشة قولهم : إنّ التقدّم مقول على أنواعه الخمسة بالاشتراك اللفظي... 144

مختار الطوسي أنّه مقول بالاشتراك المعنوي على سبيل التشكيك... 144

التحقيق في المسألة... 144

نقل قول الفاضل اللاهيجي... 144

إنّ التقدّم ليس جنسا لما تحته... 145

في أنّ التفاوت مانع عن الجنسيّة إذا كان بالذات لا بالعرض... 145

المسألة الثلاثون : في حكم القدم والحدوث الحقيقيّين

في أنّ القدم والحدوث قد يكونا حقيقيّين وقد لا يكونان... 145

بيان معنى الحدوث الذاتي... 145

في مذهب من قال : إنّ القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحقّقة في الأعيان... 146

في مذهب من قال : إنّهما وصفان زائدان على الوجود... 146

في صدق المنفصلة الحقيقيّة منهما... 147

في صدق المنفصلة الحقيقيّة من الوجوب الذاتي والغيري... 147

المسألة الحادية والثلاثون : في خواصّ الواجب

في استحالة صدق الذاتي على المركّب... 148

رأي بعض المتأخّرين في المسألة... 148

تحقيق الأسترآبادي في المسألة... 148

اعتراض : الممكن ما يحتاج في وجوده إلى غيره... 148

جواب الاعتراض... 148

من خواصّ الواجب أنّه لا يكون جزءا من غيره... 149

إنّ وجود الواجب الوجود لذاته نفس حقيقته... 149

التحقيق في هذه المسألة ورأي الأسترآبادي... 149

إنّ الوجود المعلوم هو المقول بالتشكيك ، أمّا الخاصّ به فلا... 152

ص: 514

تقرير الدليل على ما تقدّم... 152

تقرير الجواب على الدليل المتقدّم... 152

رأي بهمنيار في كتاب التحصيل... 153

في الردّ على من ذهب إلى أنّ وجود اللّه زائد على حقيقته... 153

تقرير الدليل وجوابه... 153

إنّ تأثير الماهيّة - من حيث هي - في الوجود غير معقول... 154

إنّ ما ذكر في إثبات عينيّة وجود الواجب منقوض بالقابل... 154

جواب ما تقدّم... 154

إنّ الوجود من المحمولات العقليّة... 155

إنّ الوجود من المعقولات الثانية... 155

العدم من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى... 156

إنّ جهات الوجود والعدم من المعقولات الثانية أيضا... 156

إنّ الماهيّة من المعقولات الثانية أيضا... 156

الكلّيّة والجزئيّة والذاتيّة والعرضيّة والجنسيّة والفصليّة والنوعيّة كلّها أمور اعتباريّة عقليّة صرفة 157

المسألة الثانية والثلاثون : في تصوّر العدم

إنّ العقل يحكم بالتناقض بين السلب والإيجاب... 157

عدم استحالة اجتماع النقيضين في الذهن دفعة... 157

في أنّ الذهن يمكن أن يتصوّر جميع المعقولات وجوديّة كانت أو عدميّة... 158

في الحكم على رفع الثبوت المطلق من حيث إنّه متصوّر... 158

في الاستدلال على أنّ الذهن يتصوّر عدم جميع الأشياء... 159

الأحكام الذهنيّة قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج وقد لا تؤخذ... 160

مناقشة العلاّمة الحلّي لأستاذه الطوسي... 161

تعقيب الأسترآبادي على كلام العلاّمة... 161

المسألة الثالثة والثلاثون : في كيفيّة حمل الوجود والعدم على الماهيّات

في تقسيم الوجود إلى : وجود أصلي ووجود رابطي... 161

ص: 515

في تحقيق معنى « حمل الوجود والعدم ... »... 162

إنّ جهة الاتّحاد قد تكون أمرا مغايرا للمحمول والموضوع... 163

التغاير لا يستدعي قيام الموضوع بالمحمول أو العكس... 163

في قول الحكماء : إنّ الموصوف بالصفة الثبوتيّة يجب أن يكون ثابتا... 164

الإيراد على قول الحكماء... 164

جواب الإيراد من قبل الأسترآبادي... 164

في الجواب عن الشكّ الوارد على سلب الوجود عن الماهيّة... 164

إنّ الحمل والوضع من المعقولات الثانية... 165

المسألة الرابعة والثلاثون : انقسام الموجود إلى ما بالذات وما بالعرض

إنّ للشيء وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان... 166

المسألة الخامسة والثلاثون : في عدم جواز إعادة المعدوم

الآراء في هذه المسألة... 166

الوجوه التي ذكرها الطوسي على عدم جواز إعادة المعدوم... 167

الوجه الأوّل في أنّ المعدوم لا تبقى له هويّة... 167

تحقيق الأسترآبادي في هذا الوجه... 167

الوجه الثاني : فيما لو أعيد تخلّل العدم بين الشيء ونفسه... 167

مناقشة هذا الوجه... 168

الوجه الثالث : عدم وجود فرق بينه وبين المبتدأ... 168

الوجه الرابع : لو أعيد المعدوم صدق المتقابلان عليه دفعة... 168

في دليل امتناع إعادة الزمان... 168

الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة... 169

المسألة السادسة والثلاثون : في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن

حكم العقل أنّ الموجود إمّا يكون مستغنيا عن غيره أو محتاجا... 169

الشكّ في أنّ القسمة إلى الواجب والممكن فرع الحكم على الممكن بإمكان الوجود 170

جواب الشكّ من قبل الشارح... 170

شكّ آخر : أنّ الإمكان لو اتّصف به شيء لوجب اتّصافه به... 170

ص: 516

تقرير الجواب عن الشكّ ثمّ بيانه... 170

في جواب من استدلّ على أنّ الإمكان موجود في الخارج... 171

إنكار جماعة لوجود الواجب واحتياج الممكن إلى المؤثّر... 172

رأي المحقّقين في المسألة... 172

فيما ذكروه من أنّ الممكن لو افتقر إلى المؤثّر لكانت مؤثّرية المؤثّر في ذلك الأثر وصفا ممكنا 172

في جواب ما ذكروه آنفا... 172

فيما ذكروه من أنّ المؤثّر إمّا أن يؤثّر حال وجوده أو حال عدمه... 173

في جواب ما تقدّم... 173

في الجواب عن سؤال ثالث... 173

في أنّ عدم الممكن يستدعي عدم علّته... 174

المسألة السابعة والثلاثون : في أنّ الممكن الباقي محتاج إلى المؤثّر

في مذهب من قال : إنّ علّة الافتقار إلى المؤثّر هو الحدوث... 175

قول بعضهم : إنّ الجواهر محتاجة إلى الصانع من جهة الأعراض... 175

مذهب جمهور الحكماء ومتأخّري المتكلّمين... 175

في دليل من قال : إنّ الإمكان علّة تامّة في احتياج الأثر إلى المؤثّر... 175

تحقيق قولهم : المؤثّر لا تأثير له حال البقاء... 176

في جواز استناد القديم الممكن إلى المؤثّر الموجب لو أمكن... 176

في ردّ حجّتهم عن عدم إمكان استناد القديم إلى المؤثّر المختار... 176

منع الفخر الرازي استناد القديم إلى الموجب... 176

المسألة الثامنة والثلاثون : في نفي قديم ثان

اتّفاقهم على أنّ القديم بالذات لا يوصف به سوى ذات اللّه تعالى... 177

اختلافهم في وصف القديم الزماني... 177

رأي الفلاسفة والأشاعرة... 177

إثبات الحرنانيّون خمسة من القدماء... 177

في مذهب ابن زكريّا الرازي الطبيب... 178

ص: 517

المسألة التاسعة والثلاثون : في عدم وجوب المادّة والمدّة للحادث

ذهاب الفلاسفة إلى أنّ كل حادث مسبوق بمادّة ومدّة... 178

المراد من المادّة والمدّة... 179

الأدلّة التي أقامها الفلاسفة على مدّعاهم ومناقشتها... 179

في أنّ أفعال اللّه تعالى على أقسام... 180

من أفعاله تعالى الإنشاء والاختراع... 180

ومنها الإبداع وهو ما يكون مسبوقا بمادّة دون مدّة... 180

ومنها التكوين وهو ما يكون مسبوقا بالمادّة والمدّة... 180

ومنها التكليف المسبوق بكمال المادّة... 180

المسألة الأربعون : أنّ القديم لا يجوز عليه العدم

إنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه... 180

الفصل الثاني : في الماهيّة ولواحقها ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في « الماهيّة » و « الحقيقة » و « الذات »

في معنى الماهيّة لغة واصطلاحا... 183

في معنى الهويّة... 183

إنّ الماهيّة والحقيقة والذات من المعقولات الثانية... 184

إنّ حقيقة كلّ شيء مغايرة لما يعرض لها من الاعتبارات... 184

الماهيّة تكون مع كلّ عارض مقابلة لها مع ضدّه... 184

إنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي... 185

في معنى قوله : ولو سئل بطرفي النقيض فالجواب السلب... 185

المسألة الثانية : في أقسام الكلّيّ

قد تؤخذ الماهيّة محذوفا عنها ما عداها... 185

وقد تؤخذ لا بشرط شيء... 186

إنّ هناك اعتباران آخران للكلّيّ... 187

في الكلّيّ الطبيعي والمنطقي والعقلي... 188

ص: 518

اختلاف العلماء في وجوب الكلّيّ الطبيعي حقيقة وعدمه... 188

القول الأوّل : إنّ الكلّيّ الطبيعي موجود في الخارج... 188

القول الثاني : إنّ الكلّيّ الطبيعي غير موجود... 188

في حجج القول الأوّل ومناقشتها... 189

في حجج القول الثاني ومناقشتها... 189

اختيار الأسترآبادي للقول الأوّل والاستدلال له... 190

المسألة الثالثة : في انقسام الماهيّة إلى البسيطة والمركّبة

إنّ وصف البساطة والتركيب اعتباريّان عقليّان عارضان... 191

إنّ وصف البساطة والتركيب قد يتضايفان... 191

في جواز أن يكون البسيط مركّبا إذا أخذ الوصفان بالمعنى الاعتباري... 191

في النسبة بين البسيط الإضافي والبسيط الحقيقي... 192

فيما نقله الأسترآبادي من الإيرادات على ما تقدّم... 192

اختلافهم في أنّ الماهيّات الممكنة هل هي مجعولة أم لا؟... 192

مختار الطوسي أنّها مجعولة من البسيط والمركّب... 192

بعض العلماء اختار أنّ الماهيّة غير مجعولة مطلقا... 192

وبعض آخر قال باحتياج المركّبة فقط إلى المؤثّر... 193

إيراد : المجعوليّة - بمعنى جعل الماهيّة تلك الماهيّة - منتفية... 193

تحقيق الأسترآبادي في المسألة... 193

إنّ البسيط والمركّب قد يقومان بأنفسهما وقد يفتقران إلى المحلّ... 193

إنّ المركّب يتركّب عمّا يتقدّمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج... 194

التقدّم يستلزم استغناء الجزء عند تحقّق الكلّ عن السبب... 195

الخواصّ الثلاث لكلّ ذاتي على الإطلاق... 195

وجوب تقدّم الذاتي في الوجودين والعدمين... 195

استغناء الذاتي عن الواسطة في التصديق... 195

الاستغناء عن السبب في الثبوت الخارجي... 195

المسألة الرابعة : في أحكام الجزء

التركيب قد يكون اعتباريّا وقد يكون حقيقيّا... 195

ص: 519

قد تتميّز أجزاء الماهيّة في الخارج وقد تتميّز في الذهن... 196

إذا اعتبر عروض العموم ومضايفة للأجزاء تحدث قسمة... 197

إنّ أجزاء الماهيّة قد تكون متداخلة أو متباينة... 197

إنّ المتداخلة قد يكون العامّ فيها مطلقا أو متقوّما بالخاصّ... 197

إنّ المتباينة ما تركّبت من الشيء وإحدى علله أو معلولاته أو... 197

قد تؤخذ أجزاء الماهيّة باعتبارها موادّ أو تؤخذ باعتبارها مجعولة... 198

إذا اعتبرنا حمل الجزء على الماهيّة حصلت الجنسيّة والفصليّة... 198

إنّ جعل الجنس والفصل جعل واحد... 198

الجنس كالمادّة وهو معلول والفصل كالصورة وهو علّة... 199

إنّ ما لا جنس له لا فصل له... 199

الفصل منه ما هو تامّ ومنه غير تامّ... 200

التركيب العقلي لا يكون إلاّ من الجنس والفصل... 201

الجنس والفصل المترتّبان في العموم والخصوص يجب تناهيهما... 201

قد يكون منهما ما هو عقليّ وطبيعيّ ومنطقيّ... 201

وقد يكون منهما ما هو عوال وسوافل ومتوسّطات... 201

إنّ من أقسام الجنس ما هو مفرد... 202

قد يجتمع الجنس والفصل في شيء واحد مع تقابلهما... 202

لا يمكن أخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل... 202

المسألة الخامسة : في التشخّص

إنّ التشخّص من الأمور الاعتباريّة... 203

الماهيّة النوعيّة من حيث هي هي لا يمنع نفس تصوّرها من الشركة... 203

في الجواب عن سؤال مقدّر... 203

إنّ سبب التشخّص قد يكون نفس الماهيّة المشخّصة وقد يكون غيرها... 204

إنّه لا يحصل التشخّص بانضمام كلّيّ عقلي إلى مثله... 205

التمايز يغاير التشخّص... 205

إنّه لا يوجد عموم مطلق بين التشخّص والتميّز... 205

ص: 520

المسألة السادسة : في البحث عن الوحدة والكثرة

التشخّص يغاير الوحدة التي هي عبارة عن عدم الانقسام... 206

الوحدة مغايرة للوجود... 206

في الردّ على من ظنّ أنّ الوجود والوحدة عبارتان عن شيء واحد... 206

المسألة السابعة : في أنّ الوحدة غنيّة عن التعريف

لا يمكن تعريف الوحدة إلاّ باعتبار اللفظ... 207

الوحدة والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كلّ منهما أعرف من صاحبه بالاقتسام 207

المسألة الثامنة : في أنّ الوحدة ليست ثابتة في الأعيان

ليست الوحدة أمرا عينيّا ، بل هي من ثواني المعقولات... 207

المسألة التاسعة : في التقابل بين الوحدة والكثرة

إنّ تقابلهما لإضافة العلّيّة والمعلوليّة ... لا لتقابل جوهري بينهما... 208

من أصناف التقابل... 208

المسألة العاشرة : في أقسام الوحدة

إنّ معروض الوحدة والكثرة قد يكون واحدا... 209

إذا كانت جهة الوحدة عارضة للكثرة فأقسامه ثلاثة... 210

فيما لو كانت جهة الوحدة مقوّمة لجهة الكثرة... 210

فيما لو كان الموضوع للوحدة لا يقبل الانقسام... 210

لو كان الموضوع للوحدة قابلا للانقسام... 211

في نقل إيراد ذكره القوشجي في شرحه... 211

الوحدة من المعاني المقولة على ما تحتها بالتشكيك... 211

الهوهو عبارة عن الحمل الإيجابي بالمواطأة... 212

الوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه... 212

الوحدة في الوصف العرضي الكيفي تسمّى مشابهة وفي الكمّيّ تسمّى مساواة

... 212

الوحدة في الوصف الذاتي لها اسم آخر ، ففي النوع تسمّى مماثلة وفي... 212

الوحدة ليست بعدد ، بل هي مبدأ العدد المتقوّم بها لا غير... 213

ص: 521

إنّ الوحدة مبدأ العدد وهو يحصل منها... 213

اتّحاد الاثنين غير معقول ؛ لأنّهما بعد الاتّحاد... 213

ليس قولنا : هو هو اتّحادا مطلقا... 213

إنّ العدد إنّما يتقوّم بالوحدات لا غير... 213

الوحدة إذا أضيفت إليها وحدة أخرى حصلت الاثنينيّة... 213

ذهاب قوم غير محقّقين إلى أنّ الاثنين ليس من العدد... 213

في تخطئة ما ذهب إليه القوم... 214

إنّ كلّ واحد من أنواع العدد أمر اعتباري ليس بثابت في الأعيان... 214

الوحدة قد تعرض لذاتها ومقابلها وتنقطع بانقطاع الاعتبار... 215

الوحدة قد تعرض لها شركة فتتخصّص بالمشهوري... 215

تضاف الوحدة إلى موضوعها باعتبارين وإلى مقابلها بثالث... 216

الوحدة تعرض لها إضافات ثلاثة... 216

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن التقابل

المقابل للوحدة يعرض له ما يستحيل عروضه للوحدة... 216

إنّ أصناف التقابل أربعة... 217

في معنى المتخالفين والمتقابلين والمتماثلين... 217

المتقابلان قد يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا أو أن يكونا وجوديّين ولا يمكن أن يكونا عدميّين 218

المتقابلان إمّا أن يوجدا باعتبار القول والعقد أو بحسب الحقائق أنفسها... 218

قول ابن سينا في الشفاء عن معنى الإيجاب... 218

إنّ التضايف قد يعرض له مفهوم التقابل... 219

التقابل لا يقال على أصنافه الأربعة بالسويّة بل بالتشكيك... 220

ما قيل : إنّ تقابل السلب والإيجاب أشدّ من تقابل التضادّ... 220

المسألة الثانية عشرة : في أحكام التناقض ونحوه

في معنى التناقض... 220

تحقّق التناقض في المفردات لا يتوقّف على شرط... 221

ص: 522

شروط التناقض وحدة الموضوع ووحدة المحمول والزمان والمكان والإضافة والكلّ أو الجزء والشرط والقوّة أو الفعل 221

شروط التناقض ثمانية في القضايا الشخصيّة أمّا المحصورة فبشرط تاسع... 222

القضيّة إمّا مسوّرة أو شخصيّة أو مهملة... 222

الشرط التاسع في القضيّة المحصورة هو الاختلاف بالكمّ... 222

لا بدّ من الاختلاف في الجهة في القضايا الموجّهة... 222

في بيان المراد من « الجهة »... 222

اشتراط اتّحاد الجهة في حصول التناقض في القضايا الموجّهة... 223

العلماء يحكمون بانتفاء التناقض عند اختلاف الجهة التقييديّة... 223

إذا قيّد العدم بالملكة في القضايا سمّيت معدولة... 224

قد يستلزم الموضوع أحد الضدّين بعينه أو لا بعينه وقد لا يستلزم... 224

في أنّه لا يعقل للواحد ضدّان... 225

إنّ التضادّ منفيّ عن الأجناس... 225

التضادّ في الأنواع مشروط باتّحاد الجنس... 225

إنّ الجنس والفصل في الخارج شيء واحد... 225

إشكال يورد على اشتراط دخول الضدّين تحت جنس واحد... 226

جواب الإشكال المتقدّم... 226

إيراد بأنّ التضادّ كثيرا ما يكون بين الأمور الاعتباريّة... 226

الفصل الثالث : في العلّة والمعلول

المسألة الأولى : في تعريف العلّة والمعلول

المسألة الثانية : في أقسام العلّة

العلّة إمّا فاعليّة أو مادّيّة أو صوريّة أو غائيّة... 228

في معنى الصورة والمادّة... 228

في معنى الفاعل المختار والمضطرّ والموجب... 228

متى تسمّى العلّة تامّة أو مستقلّة... 228

ص: 523

في أحكام العلّة الفاعليّة... 229

إنّ الفاعل مبدأ التأثير وعند وجوده يجب وجود المعلول... 229

في الردّ على من ذهب إلى أنّ التأثير إنّما يكون لما سبق بالعدم... 229

ذهاب قوم إلى أنّ احتياج الأثر إلى المؤثّر هو آن حدوثه... 229

في القاعدة المشهورة « أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد »... 230

إنّ العلّة الواحدة لا يصدر عنها إلاّ معلول واحد... 231

في جواب استدلال المتكلّمين وهو أنّه لو لم يصدر عن الواحد... 231

في أنّه مع وحدة المعلول تتّخذ العلّة... 231

إذا كانت العلّة واحدة بالنوع كان المعلول كذلك... 232

إنّ نسبة العلّيّة والمعلوليّة من المعقولات الثانية... 232

قد تجتمع نسبة العلّيّة والمعلوليّة في الشيء الواحد... 232

المسألة الرابعة : في بطلان التسلسل

في عدم ترقّي معروض العلّيّة والمعلوليّة في سلسلة واحدة إلى غير النهاية... 233

الاحتجاج على ما تقدّم بوجوه... 234

في بيان الوجه الأوّل ومناقشة الأسترآبادي له... 234

الوجه الثاني الدال على امتناع التسلسل هو « برهان التطبيق »... 235

الوجه الثالث هو « برهان التضايف » والذي يرجع إلى برهان التطبيق... 235

في بيان برهان التضايف... 235

الوجه الرابع على امتناع التسلسل... 236

تقرير الوجه الرابع... 236

المسألة الخامسة : في متابعة المعلول للعلّة في الوجود والعدم

إنّ نسبة العلّيّة مكافئة لنسبة المعلوليّة في طرفي الوجود والعدم... 237

في بيان أنّ عدم المعلول لا يستند إلى ذاته... 237

في دفع الإيراد القائل بأنّ الوجودي يجوز أن يكون هو الواجب تعالى... 237

في الاستدلال على بطلان كون الوجودي علّة للعدمي... 237

رأي الأسترآبادي في المسألة... 238

ص: 524

المسألة السادسة : في أنّ القابل لا يكون فاعلا

في استدلال الحكماء على أنّ البسيط الحقيقي الذي لا تعدّد فيه أصلا لا يكون مصدرا لأثر وقابلا له 238

المسألة السابعة : في نسبة العلّة إلى المعلول

في أنّ العلّة إن كان معلولها محتاجا لماهيّته إليها وجب كونه مخالفا لها... 239

في دفع إيراد... 240

في الردّ على الأشاعرة الذين جوّزوا الترجيح بلا مرجّح... 240

المسألة الثامنة : في أنّ مصاحب العلّة ليس بعلّة

إنّ نسبة العلّيّة لا يجب صدقها على ما يصاحب العلّة... 240

نقل كلام الشيخ أبي عليّ بن سينا... 241

المسألة التاسعة : في أنّ أشخاص العناصر ليست عللا ذاتيّة

إنّ الشخص من العناصر ليس علّة ذاتيّة لشخص آخر منها... 242

إنّ الشخص من العناصر يستغني عن الشخص الآخر بغيره... 242

دفع إيراد على ما تقدّم... 242

في ذكر وجه ثالث على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر... 242

الوجه الرابع على الامتناع... 242

في بيان وجه خامس على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر... 243

المسألة العاشرة : في كيفيّة صدور الأفعال

إنّ الأفعال الاختياريّة المنسوبة إلى النفس الحيوانيّة لها مبادئ أربعة... 243

الأوّل : الخطور والتصوّر الجزئي للشيء الملائم... 243

الثاني : اعتقاد النفع الموجب للشوق... 243

الثالث : العزم الحاصل من شدّة الاعتقاد... 243

الرابع : الحركة من القوّة المنبثّة في العضلات... 243

الحركة إلى مكان تتبع الإرادة بحسبها ، وجزئيّات تلك الحركة... 244

جواب عن سؤال مقدّر... 244

المسألة الحادية عشرة : القوى الجسمانيّة إنّما تؤثّر بمشاركة الوضع

يشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع الخاص بينه... 245

ص: 525

المسألة الثانية عشرة : في تناهي آثار القوى الجسمانيّة

التناهي بحسب المدّة والعدّة والشدّة التي باعتبارها يصدق التناهي... 245

إنّ أصناف القوى ثلاثة... 246

الأوّل : قوى يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة... 246

الثاني : قوى يفرض صدور عمل ما منها على الاتّصال في أزمنة مختلفة... 247

الثالث : قوى يفرض صدور أعمال متوالية منها مختلفة بالعدد... 247

إنّ القوى الجسمانيّة إمّا قسريّة أو طبيعيّة ، وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما 247

نقل كلام العلاّمة الحلّي في كشف المراد... 248

في استحالة أن تكون القوّة المؤثّرة فيما لا يتناهى طبيعيّة... 248

في تقرير الاستحالة... 248

المسألة الثالثة عشرة : في العلّة الماديّة

إنّ المحلّ المتقوّم بالحالّ هو الهيولى المتقوّمة بالصورة والمقوّم للحالّ هو الموضوع

... 249

إنّ الهيولى باعتبار الحالّ تسمّى قابلة وباعتبار المركّب تسمّى مادّة... 249

قد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكتسبها باعتبار الحالّ فيه... 249

الجواب عن سؤال مقدّر... 250

المسألة الرابعة عشرة : في العلّة الصوريّة

إنّ الحالّ صورة للمركّب وجزء فاعل لمحلّه... 250

فيما ذكره الأوائل من أنّ الصورة المقوّمة للمادّة لا تكون فوق واحدة... 251

المسألة الخامسة عشرة : في العلّة الغائيّة

إنّ العلّة الغائيّة هي المسمّاة ب- « الغرض »... 251

إنّ كلّ فاعل بالقصد والإرادة إنّما يفعل لغرض وغاية ما... 251

إثبات الأوائل غايات للحركات الأسطقسيّة... 252

في نفي بعض لما أثبته الأوائل... 252

مبادئ القوّة الحيوانيّة... 252

في معنى الجزاف والعبث والقصد والعادة... 252

الغاية - عند الحكماء - قد تطلق على ما ينتهي إليه الفعل... 253

ص: 526

في إثباتهم الغايات للقوى الطبيعيّة مع أنّه لا شعور لها... 253

إنّ ما يؤدّي تأدية دائميّة أو أكثريّة يسمّى سببا ذاتيّا... 253

في نفي قوم للعلل الاتّفاقيّة... 253

في جواب ما ذكروه من النفي... 253

المسألة السادسة عشرة : في أقسام العلّة بقسمة أخرى

إنّ العلّة - مطلقا - قد تكون بسيطة وقد تكون مركّبة... 253

فيما منع منه البعض من التركيب في العلل... 254

المبادئ الأربعة قد تكون بالقوّة وقد تكون بالفعل... 254

إنّ العلل قد تكون كلّيّة وقد تكون جزئيّة... 255

قد تكون العلل ذاتيّة وقد تكون عرضيّة... 255

قد تطلق العلّة العرضيّة على ما مع العلّة... 255

في معنى العلّة العامّة والعلّة الخاصّة... 255

في معنى العلّة القريبة والعلّة البعيدة... 255

قد تكون العلّة مشتركة وقد تكون خاصّة... 255

في معنى الحادث الزماني... 256

في سبب إطلاقهم على العدم اسم المبدأ بالعرض... 256

إنّ الفاعل في الوجود هو بعينه الفاعل في العدم... 256

الموضوع من العلل التي يتوقّف عليها وجود الحادث... 256

المسألة السابعة عشرة : افتقار المعلول إنّما هو في أحد طرفيه

إنّ أسباب الماهيّة غير أسباب الوجود... 257

أسباب الماهيّة باعتبار الوجود الذهني هي الجنس والفصل... 257

في أنّه لا بدّ للعدم من سبب... 257

في جواب سؤال... 257

في جواب ما توهّمه بعض القاصرين أنّ العدم أولى بالأعراض السيّالة... 257

المسألة الثامنة عشرة : في بيان بعض أحكام العلّة المعدّة

من العلل المعدّة ما يؤدّي إلى مثل أو خلاف أو ضدّ... 257

ص: 527

الإعداد منه ما هو قريب ومنه ما هو بعيد... 258

إنّ العلل العرضيّة تقال باعتبارين... 258

الأوّل : تأثيرها في شيء ثمّ يتبع ذلك الشيء شيء آخر... 258

الثاني : أن يكون للعلّة وصف ملازم... 258

المقصد الثاني

في الجواهر والأعراض ، وفيه فصول

الفصل الأوّل : في الجواهر ، وفيه مسائل

المسألة الأولى : في قسمة الممكنات بقول كلّيّ

إنّ الممكن إمّا أن يكون موجودا في الموضوع وهو العرض أو لا وهو الجوهر... 261

الموضوع هو المحلّ المتقوّم بذاته المقوّم لما يحلّ فيه... 261

الموضوع والمادّة يشتركان اشتراك أخصّين تحت أعمّ واحد وهو المحلّ... 261

الصورة والعرض يشتركان اشتراك أخصّين تحت أعمّ واحد هو الحالّ... 261

إنّ تقديم العرض على الجوهر في القسمة لأجل اشتماله على القيد الثبوتي... 261

الواجب خارج عن تعريف الجوهر - هنا - لأنّ المصنّف جعل المقسم هو الممكن 262

فيما إذا جعل المقسم الوجود المطلق... 262

فيما إذا جعلنا الجوهر عبارة عن محلّ العرض أو المتقوّم بنفسه... 262

فيما لو تنزّلنا وسلّمنا عموميّة الجوهر... 262

في قسمة الجوهر إلى أنواع... 262

الجوهر إمّا أن يكون مفارقا في ذاته ... وهو العقل أو مفارقا في ذاته لا في فعله وهو النفس الناطقة 262

وإمّا أن يكون الجوهر غير مفارق... 262

الموضوع والمحلّ يتعاكسان وجودا في العموم والخصوص... 263

إنّ بين الموضوع والعرض مباينة... 263

العرض قد يصدق على المحلّ والحالّ جزئيّا لا كلّيّا ، وكذا الجوهر... 263

المسألة الثانية : في أنّ الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما

الجوهريّة والعرضيّة من ثواني المعقولات... 23

ص: 528

نقل كلام العلاّمة الحلّي في المسألة... 263

في مناقشة الأسترآبادي لاستدلال العلاّمة... 264

استدراك الأسترآبادي بأنّ الجوهريّة مفهوم اعتباري يصدق عليه أنّه معقول ثان لا الجوهر 264

سؤال وجوابه... 264

دليل ثان على كون الجوهر عرضا عامّا لجزئيّاته لا جنسا لها... 265

اختلاف الأنواع إنّما يكون في الأولويّة... 265

ردّ ما استدلّ به في الدليل الثاني... 265

المعقول اشتراكه عرضيّ ، وهذا هو الدليل الثالث... 265

في بيان حجّة هذا الدليل... 266

المسألة الثالثة : في نفي التضادّ عن الجواهر

الردّ على أبي هاشم وأتباعه الذين جعلوا للجوهر أضدادا هي الفناء... 266

في إطلاق التضادّ على البعض باعتبار آخر... 266

المسألة الرابعة : وحدة المحلّ لا تستلزم وحدة الحالّ

المحلّ الواحد قد يحلّ فيه أكثر من حالّ واحد مع الاختلاف... 267

إنّه لا يجوز أن يحلّ المثلان في محلّ واحد... 267

في تخطئة كلام أبي هاشم وغيره في التأليف... 267

في أنّ كلام بعض الأوائل من الفلاسفة في الإضافات خطأ... 267

إنّ طبيعة انقسام المحلّ لا تستلزم انقسام الحالّ... 268

في ذهاب قوم إلى أنّ انقسام المحلّ يقتضي انقسام الحالّ... 268

الأعراض السارية الحالّة حلولا سريانيّا إذا حلّت محلاّ منقسما انقسمت... 268

المسألة الخامسة : في استحالة انتقال الأعراض

إنّ الموضوع من جملة المشخّصات... 269

قول العلاّمة بأنّ الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البيّن... 269

مناقشة الأسترآبادي لكلام العلاّمة... 269

في أنّه قد يفتقر الحالّ إلى محلّ متوسّط... 269

في أنّ الحالّ قد يحلّ في الموضوع من غير واسطة... 269

ص: 529

المسألة السادسة : في نفي الجزء الذي لا يتجزّأ

إنّ هذه المسألة هي محلّ نزاع... 270

في تعريف الجسم الطبيعي... 270

في معنى الجسم التعليمي... 270

الجسم الطبيعي إمّا مفرد أو مركّب... 270

إنّ الجسم المفرد قابل للانقسام ، والانقسام إمّا ممكن حاصل فيه بالفعل أو لا... 270

ذهاب جماعة إلى أنّ الجسم مركّب من الجواهر المفردة... 270

ذهاب بعض إلى أنّ الجسم بسيط في نفسه... 271

رأي الشهرستاني صاحب « الملل والنحل »... 271

رأي جمهور الحكماء في المسألة... 271

نفي المحقّق الطوسي للجزء الذي لا يتجزّأ... 271

الدليل الأوّل على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ... 271

الدليل الثاني على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ... 271

الدليل الثالث على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ... 271

ومن الأدلّة التي التزموها على نفيه تفكيك أجزاء الرحى... 273

ومن الأدلّة أيضا سكون المتحرّك... 273

ومن الأدلّة انتفاء الدائرة مع أنّها موجودة بالحسّ... 274

في الجواب عن حجّة من أثبت الجزء... 274

في جواب حجّة أخرى... 275

في جواب الحجّة الثالثة... 275

في الاستدلال على أنّ الحركة لا تتركّب ممّا لا يتجزّأ... 276

في إبطال مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا... 277

الوجه الثاني في إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء... 278

إشكال الأسترآبادي على الاستدلال للوجه الثاني... 278

الوجه الثالث في إبطال عدم تناهي الأجزاء... 278

اعتذار المثبتين عن الوجه الأوّل بالتداخل... 278

ص: 530

اعتذارهم عن الوجهين الآخرين بالطفرة... 279

في إبطال مذهب ذيمقراطيس... 279

إنّ القسمة إمّا أن توجب انفصالا في الخارج أو لا... 279

في معنى القسمة الانفكاكيّة... 279

في معنى القسمة الفرضيّة... 279

إنّ جواز القسمة الوهميّة ملزوم لجواز القسمة الانفكاكيّة... 280

في امتناع القسمة الانفكاكيّة على بعض الأجسام... 280

المسألة السابعة : في نفي الهيولى

اختلاف العلماء في ثبوت الهيولى وعدمه على قولين... 281

ذهاب أرسطو ومن تبعه إلى ثبوت الهيولى... 281

ذهاب أفلاطون ومن تبعه إلى عدم ثبوتها... 281

اختيار المحقّق الطوسي مذهب أفلاطون... 282

رأي أبي البركات البغدادي وجماعة من المتكلّمين... 282

نقل كلام ابن سينا من أنّ الجسم مركّب من هيولى وصورة... 282

استدراك المحقّق الطوسي على كلام الشيخ ابن سينا... 282

في معنى « الهيولى الأولى »... 283

في معنى « الجسم الطبيعي »... 283

في معنى « الجسم التعليمي »... 283

المسألة الثامنة : في إثبات المكان

لكلّ جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق... 283

إنّما يرجع الجسم إلى المكان الطبيعي على أقرب الطرق وهو الاستقامة... 283

إنّ المكان الطبيعي واحد ، فلو تعدّد لانتفى... 283

إنّ مكان المركّب مكان الغالب أو ما اتّفق وجوده فيه... 284

في تعريف الشكل... 284

الشكل قد يكون طبيعيّا وقد يكون قسريّا... 284

في سبب كون الشكل الطبيعي مستديرا والأشكال الباقية قسريّة... 284

ص: 531

المسألة التاسعة : في تحقيق ماهيّة المكان

في معنى المكان لغة... 285

إنّ للمكان إطلاقين... 285

اختلاف أرباب العقول في حقيقة المكان... 285

عند المشّائين أنّ المكان هو السطح الباطن للجسم الحاوي... 285

وعند الإشراقيين هو البعد الموجود المجرّد عن المادة... 285

وعند المتكلّمين هو البعد الموهوم الذي يشغله الجسم... 285

الحيّز هو الفراغ الموهوم المشغول بالمتحيّز... 285

الحيّز - عند بعض - هو ما يوجب الامتياز في الإشارة الحسّيّة... 286

المحقّق الطوسي اختار مذهب من قال بالبعد... 286

في بيان الدليل على مختار الطوسي... 286

رأي الأسترآبادي في المسألة... 287

إنّ البعد منه ملاق للمادّة ومنه مفارق... 287

شبهة أنّ المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين... 287

في بيان هذه القضيّة الشرطيّة... 287

في بيان مذهب المخالفين القائلين بأنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي 288

الوجه الأوّل أنّه لو كان المكان سطحا لتضادّت الأحكام... 288

الوجه الثاني على بطلان القول بالسطح... 289

المسألة العاشرة : في امتناع الخلاء

اختلاف الناس في جواز الخلاء وعدمه... 289

ذهاب قوم إلى جواز الخلاء وهم القائلون بالبعد المجرّد... 289

الطوسي اختار امتناع الخلاء... 289

في بيان دليل المحقّق الطوسي... 290

الإشكال على ما استدلّ به الطوسي... 290

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الجهة

إنّ الجهة هي طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة... 290

ص: 532

إنّ الجهة لا تكون منقسمة ؛ لأنّها عبارة عن الطرف... 291

الجهة من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسّيّة... 291

في تخطئة ما ذهب إليه الشارح القوشجي... 291

في دفع دخل مقدّر... 292

إنّ الجهة على قسمين : طبيعي وغير طبيعي... 292

في تعريف الطبيعي وغير الطبيعي... 292

الفصل الثاني : في الأجسام

الأجسام تنقسم إلى قسمين : فلكيّة وعنصريّة... 293

هذا الفصل يشتمل على مسائل... 293

المسألة الأولى : في البحث عن الأجسام الفلكيّة

الأجسام تنقسم - أيضا - إلى بسيطة ومركّبة... 293

الأجسام البسيطة على قسمين : فلكيّة وعنصريّة... 294

في بيان المراد من الفلك والأجسام الفلكيّة... 294

الحركة الفلكيّة تنقسم إلى المتشابهة وإلى المختلفة تارة... 294

في بيان معنى الحركة الفلكيّة البسيطة... 294

وقد تنقسم الحركة الفلكيّة إلى المفردة والمركّبة... 294

في معنى الحركة الفلكيّة المفردة والمركّبة... 294

الفلك على قسمين : كلّيّ وجزئي... 294

في معنى الفلك الكلّيّ والجزئي... 294

الفلك الكلّيّ تسعة... 294

في وجه إثبات هذه الأفلاك التسعة... 295

عدم تجويز المشهور كون الأفلاك أقلّ من سبعة أو ثمانية... 295

الأفلاك الكلّيّة تشتمل على أفلاك أخرى جزئيّة... 296

فيما أفاده بعض علماء الهيئة... 296

إنّ هيئات أفلاك الكواكب العلويّة مثل هيئة فلك الشمس إلاّ في أمرين... 296

ص: 533

هيئة فلك عطارد تتفاوت عن هيئات أفلاك الكواكب الأربعة في أمرين... 296

إنّ هيئة فلك القمر كهيئة أفلاك الكواكب الأربعة إلاّ في أمرين... 297

إنّ الشمس لها فلكان : الممثّل وخارج المركز... 297

الأفلاك الكلّيّة - غير الفلكين العظيمين - منفصلة إلى أفلاك جزئيّة... 297

إيراد الشارح القوشجي على ما تقدّم... 297

دفع ما قيل من أنّ إثبات الأفلاك على الوجه المخصوص مبنيّ على نفي القادر... 298

في بيان أحوال الأفلاك... 299

من أحوالها : أنّها تشتمل على كواكب غير محصورة... 299

ومن أحوالها : أنّها بسائط غير مركّبة من أجسام مختلفة الطبائع... 299

ومن أحوالها : أنّها خالية من الكيفيّات الفعليّة... 300

تنظّر الأسترآبادي في أدلّة القوم... 300

ومنها : أنّ الأفلاك شفّافة ؛ لأنّها بسائط... 301

ومنها : أنّ الفلك محدّد للجهات... 301

ومنها : أنّ الفلك لا يقبل الكون والفساد والخرق والالتئام... 301

إشكال الأسترآبادي في المسألة... 301

ومنها : أنّ الفلك يتحرّك على الاستدارة دائما... 301

ومنها : أنّ الفلك يتحرّك بالإرادة... 302

في بيان صور دوائر كرة العالم والأفلاك الكلّيّة والجزئيّة... 303

المسألة الثانية : في العنصريّات والبحث عن العناصر البسيطة

العناصر البسيطة أربعة : كرة النار والهواء والماء والأرض... 305

العنصريّات على قسمين : بسيط ومركّب... 305

في سبب إضافة لفظ « كرة » إلى « النار »... 305

إنّ العنصر في اللغة العربيّة بمعنى الأصل كالأسطقس في اليونانيّة... 305

وجه انحصار عدد العناصر في الأربعة هو الاستقراء... 306

إنّ للعناصر أحوالا مشتركة ومختصّة... 306

من أحوالها أنّ كلّ واحد منها يخالف الآخر في الصورة النوعيّة... 306

ص: 534

ومنها : أنّ كلّ واحد منها ينقلب إلى الآخر... 306

ما نقل عن ابن سينا أنّ الصاعقة تتولّد من أجسام ناريّة... 307

الدليل على انقلاب العنصر إلى ملاصقه ابتداء وإلى البعيد بواسطته... 307

في بيان الأحوال المختصّة بالنار... 307

الأولى : أنّها حارّة بشهادة الحسّ... 307

الثانية : أنّها يابسة بشهادة الحسّ أيضا... 308

الثالثة : أنّها شفّافة وإلاّ لحجبت الأبصار عن إبصار الثوابت... 308

الرابعة : أنّها متحرّكة بتبعيّة الفلك... 308

الخامسة : أنّها ذات طبقة واحدة... 308

السادسة : أنّ لها قوّة على إحالة المركّب إليها... 308

في بيان الأحوال المختصّة بالهواء... 308

الأولى : أنّه حارّ ، له الكيفيّة الفعليّة... 308

الثانية : أنّه رطب ، له الكيفيّة الانفعاليّة... 308

الثالثة : أنّه شفّاف... 308

الرابعة : أنّه ذو طبقات أربع :... 308

طبقة ما يمتزج مع النار وطبقة الهواء الغالب وطبقة الهواء... 308

في بيان الأحوال المختصّة بالماء... 309

الأولى : أنّه بارد بشهادة الحسّ... 309

الثانية : أنّه رطب بمعنى البلّة وسهولة التشكّل معا... 309

الثالثة : أنّه شفّاف... 309

الرابعة : أنّه محيط بأكثر الأرض... 309

الخامسة : أنّه ذو طبقة واحدة... 309

في بيان أحكام الأرض... 309

الأوّل : أنّها باردة... 309

الثاني : أنّها يابسة... 309

الثالث : أنّها ساكنة في الوسط... 309

تحقيق الأسترآبادي في الحكم الثالث... 310

ص: 535

الرابع : أنّها شفّافة... 310

المناقشة في الحكم الرابع... 310

الخامس : أنّ لها طبقات ثلاثا... 310

المسألة الثالثة : في البحث عن المركّبات

المركّب على قسمين : ناقص ومركّب... 310

المركّب الناقص هو الذي لم تكن له صورة نوعيّة تحفظ تركيبه... 310

المركّب التام هو الذي له صورة نوعيّة تحفظ تركيبه... 310

المركّب غير التامّ على أقسام... 311

منها : السحاب والمطر ونحوه... 311

ومنها : الرعد والبرق... 311

ومنها : الرياح التي قد تكون بسبب تموّج الهواء... 311

ومنها : قوس قزح ، وسببها ارتسام ضوء الشمس... 312

ومنها : الهالة ، وسببها ارتسام ضوء النيّر... 312

ومنها : الشهب ، وسببها أنّ الدخان إذا بلغ... 312

ومنها : الزلزلة وانفجار العيون وسببها أنّ البخار... 312

المركّب التام يحصل من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة... 313

المركّبات تحدث عند تفاعل هذه العناصر الأربعة... 313

في كيفيّة حصول المزاج... 313

في معنى تشابه الكيفيّة المزاجيّة... 313

فيما ذهب إليه انكساغورس وأتباعه... 314

ردّ ما ذهب إليه انكساغورس وأتباعه... 314

بيان كيفيّة تفاعل العناصر بعضها مع بعض... 314

قيل : الفاعل هو الكيفيّة والمنفعل هو المادّة... 315

في ردّ ما قيل آنفا... 315

نقل ما قاله الشيخ الرئيس في الشفاء... 315

في مذهب من قال : إنّ البسائط إذا اجتمعت وتفاعلت بطلت صورتها... 315

في بيان حجّة هذا المذهب... 315

ص: 536

في إبطال الشيخ الرئيس لما ذكروه... 316

اختلاف الأمزجة في الإعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال... 316

إنّ الأمزجة تختلف باختلاف صغر أجزاء البسائط وكبرها... 317

في أنّ الأمزجة تسعة... 317

الفصل الثالث : في بقيّة أحكام الأجسام

المسألة الأولى : في تناهي الأجسام

مخالفة حكماء الهند في تناهي الأجسام... 319

استدلال الطوسي على تناهي الأجسام بوجهين... 319

الوجه الأوّل : برهان التطبيق... 319

في تقرير برهان التطبيق وبيانه... 319

في تقرير الدليل [ الوجه ] الثاني... 320

المسألة الثانية : في أنّ الأجسام متماثلة ومتّحدة في الحقيقة

رأي جمهور الحكماء والمتكلّمين في المسألة... 321

النظّام قال : إنّ الأجسام مختلفة لاختلاف خواصّها... 322

ردّ ما ذهب إليه النظّام... 322

المسألة الثالثة : في أنّ الأجسام باقية

المشهور أنّ الأجسام باقية زمانين أو أكثر بحكم الضرورة... 322

ما نقل عن النظّام خلاف ذلك... 322

في توجيه ما قاله النظّام... 323

المسألة الرابعة : في جواز خلوّ الأجسام من الطعم والرائحة واللون

في احتجاج المعتزلة على جواز خلوّ الأجسام من الطعم والرائحة واللون... 323

في احتجاج الأشاعرة على امتناع خلوّها من الطعم والرائحة واللون... 323

في ردّ حجّة الأشاعرة... 324

المسألة الخامسة : في أنّ الأجسام تجوز رؤيتها

مذهب الحكماء هو أنّ الأجسام مرئيّة بالعرض لا بالذات... 324

مذهب المتكلّمين أنّها مرئيّة بالذات بشرط تكيّفها بالضوء واللون... 324

ص: 537

اختيار الطوسي لرأي المتكلّمين واستدلاله على ذلك بشهادة الحسّ... 324

المسألة السادسة : في أنّ الأجسام حادثة

اختلاف الناس في هذه المسألة التي هي من أجلّ المسائل وأشرفها... 325

أصحاب الملل والنحل قالوا : إنّ الأجسام حادثة... 325

ذهاب جمهور الحكماء إلى أنّها قديمة... 325

بيان دليل المتكلّمين صغرويّا وكبرويّا... 325

زيادة إيضاح عن دليل المتكلّمين... 325

في بيان إيراد وجوابه... 326

في منع مسبوقية ماهيّة الحركة بالغير... 326

في الاستدلال على حدوث الحركة والسكون... 326

وقد يستدلّ على حدوث الحركة والسكون بجواز العدم على كلّ واحد منهما... 326

مناقشة الاستدلال صغرويّا... 326

أمّا المركّب فهو مركّب من بسائط... 327

مناقشة الاستدلال كبرويّا... 327

استنتاجات الأسترآبادي حول المسألة... 327

في بيان تناهي الحركة والسكون... 327

الحكماء جوّزوا اتّصاف الجسم بحركات لا تتناهى... 327

المتكلّمون منعوا اتّصاف الجسم بحركات لا تتناهى... 327

استدلّ المتكلّمون على قولهم بوجوه... 328

الأوّل : أنّ كلّ فرد حادث فالمجموع كذلك... 328

رأي العلاّمة الحلّي في هذا الوجه... 328

الثاني : أنّها قابلة للزيادة والنقصان ، فتكون متناهية... 328

النقض على ذلك بمعلومات اللّه تعالى ومقدوراته... 328

الثالث : برهان التطبيق... 328

الرابع : برهان التضايف... 328

برهان التضايف لا يتوقّف على اجتماع الأجزاء في الوجود... 329

في أنّ الضرورة تقضي بحدوث ما لا ينفكّ عن حوادث متناهية... 329

ص: 538

الأجسام حادثة لاستحالة قيام الأعراض إلاّ بها... 329

في بيان شبه الفلاسفة والأجوبة عليها... 330

الشبهة الأولى : أنّ المؤثّر التامّ في العالم إمّا أن يكون أزليّا أو حادثا... 330

جواب المتكلّمين عن هذه الشبهة... 330

الشبهة الثانية : أنّ كلّ حادث مسبوق بإمكان وجوده... 332

في جواب هذه الشبهة... 332

الشبهة الثالثة : كلّ حادث فإنّ عدمه سابق على وجوده ، وأقسام السبق منتفية هنا إلاّ الزماني 332

الفصل الرابع : في الجواهر المجرّدة

المسألة الأولى : في العقول المجرّدة

إنّ جماعة من المتكلّمين نفوا هذه الجواهر... 333

الردّ على مزاعم المتكلّمين... 333

انتفاء الجزم بثبوت الجوهر المجرّد الذي هو العقل... 334

ذهاب أكثر الفلاسفة إلى أنّ المعلول الأوّل هو العقل الأوّل... 334

الوجوه على إثبات الجواهر المجرّدة... 334

الوجه الأوّل : أنّ اللّه تعالى واحد من جميع الجهات فلا يكون علّة للمتكثّر... 334

مناقشة الدليل الأوّل بصورة تفصيليّة... 334

قاعدة الواحد لا يصدر عنه أمران... 335

إنّ الوجه الأوّل إنّما يتمّ لو كان المؤثّر موجبا... 336

الوجه الثاني : استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبّه بالكامل... 336

تقرير دليل الوجه الثاني... 337

وجود عقل يتشبّه به الفلك في حركته... 338

الجواب على الوجه الثاني : أنّ هذا الكلام مبنيّ على دوام الحركة... 338

إن هذا الوجه يتوقّف على حصر أقسام الطلب... 338

نقل جملة من الاعتراضات والجواب عليها... 338

تطبيق لألفاظ عبارات المتن... 339

ص: 539

الوجه الثالث : الأفلاك ممكنة فلها علة ، فهي إن كانت غير جسم ثبت المطلوب 340

تقرير الوجه الثالث... 340

بيان الوجه الثالث يتوقّف على مقدّمات... 340

إحداها : أنّ الجسم لا يكون علّة إلاّ بعد صيرورته شخصا معيّنا... 340

الثانية : أنّ المعلول حال فرض وجود العلّة يكون ممكنا... 340

الثالثة : أنّ الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان... 340

لو كان الحاوي علّة للمحوي لكان متقدّما بشخصه المعيّن على وجود المحوي... 340

الجواب بعدم التسليم بكون الامتناع ذاتيّا... 341

تطبيق ألفاظ متن التجريد... 341

استدلال بعض أهل الإشراق بالبرهان الأشرف على ثبوت العقل... 341

المسألة الثانية : في النفس الناطقة

إنّ النفس هي كمال أوّل لجسم طبيعي آليّ ذي حياة بالقوّة... 342

هذا البحث هو بحث عن أحد أنواع الجواهر... 342

النفس جوهر مجرّد مفارق عن المادّة في ذاته دون فعله... 342

في معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه »... 342

قد يطلق لفظ النفس على المادّي كالنفس الجماديّة... 342

وقد يطلق على النفس الحيوانيّة الروح البخاريّة... 343

للقوّة العاقلة مراتب أربع... 343

الأولى : العقل الهيولاني المستعدّ للمعقولات... 343

الثانية : العقل بالملكة لحصول المعقولات البديهيّة... 343

الثالثة : العقل بالفعل لحصول المعقولات النظريّة... 343

الرابعة : العقل بالمستفاد باستحضار المعقولات المكتسبة... 343

للقوّة العاملة أيضا مراتب... 343

الأولى : مرتبة النفس الأمّارة... 343

الثانية : مرتبة النفس اللوّامة... 343

الثالثة : مرتبة النفس القدسيّة... 343

الرابعة : مرتبة النفس المطمئنّة... 343

ص: 540

الخامسة : مرتبة النفس الراضية المرضيّة... 343

في شرح قولهم : « النفس كمال أوّل لجسم طبيعي آليّ ذي حياة بالقوّة... 344

المسألة الثالثة : أنّ النفس الناطقة ليست هي المزاج

ذهاب المحقّقين إلى أنّ النفس الناطقة مغايرة للمزاج... 345

ذهاب البعض إلى أنّ النفس الناطقة عين المزاج الذي ينتفي بتلاشي البدن... 345

الاستدلال على مذهب المحقّقين بثلاثة أوجه... 345

الأوّل : أنّ النفس الناطقة شرط في حصول المزاج... 345

مناقشة هذا الوجه... 345

الثاني : أنّ المزاج قد يمانع النفس في مقتضاها... 346

الثالث : هو بطلان أحدهما مع ثبوت الآخر... 346

المسألة الرابعة : في أنّ النفس ليست هي البدن

إبطال قول من ذهب إلى أنّ النفس الناطقة هي البدن بوجوه ثلاثة... 346

الأوّل : غلفة الإنسان عن بدنه وأعضائه وهو متصوّر لذاته ونفسه... 347

الثاني : أنّ البدن جسم ، وكلّ جسم مشارك لغيره من الأجسام... 347

الثالث : أنّ أعضاء البدن وأجزاءه تتبدّل كلّ وقت... 347

المسألة الخامسة : في تجرّد النفس

اختلاف الناس في ماهيّة النفس هل هي جوهر أم عرض... 347

اختلافهم في أنّها هل هي جوهر مجرّد أم لا... 348

المشهور أنّها جوهر مجرّد ، واستدلّ لذلك بوجوه... 348

الأوّل : تجرّد عارضها وهو العلم... 348

تقرير دليل الوجه الأوّل... 348

الاعتراض الوارد على هذا الوجه... 348

الثاني : أنّ العارض للنفس غير منقسم... 349

تقرير الوجه الثاني يتوقّف على مقدّمات... 349

إحداها : أنّ هاهنا معلومات غير منقسمة... 349

الثانية : أنّ العلم بها غير منقسم... 349

الثالثة : أنّ محلّ العلم غير منقسم... 349

ص: 541

الرابعة : أنّ كلّ جسم وكلّ جسماني فهو منقسم... 349

في مناقشة هذه المقدّمات... 349

الثالث : أنّ النفس البشريّة تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادّة... 350

في مناقشة هذا الوجه... 350

الرابع : أنّ النفس لو حلّت في جسم لكانت دائمة التعقّل... 350

في تقرير الوجه الرابع... 350

الخامس : أنّ النفس تستغني في عارضها عن المحلّ فتكون في ذاتها مستغنية... 351

في بيان وجه آخر دالّ على تجرّد النفس... 351

في بيان وجه سابع يدلّ على تجرّد النفس... 352

الإيراد على الوجه السابع... 352

المسألة السادسة : في أنّ النفس البشريّة متّحدة في النوع

اختلاف الناس في هذه المسألة... 353

ذهاب الأكثر إلى أنّ النفوس البشريّة متّحدة بالنوع متكثّرة بالشخص... 353

ذهاب بعض القدماء إلى أنّها مختلفة بالنوع... 353

فيما نسب إلى الفخر الرازي من أنّها مختلفة بالنوع... 353

اختيار المحقّق الطوسي لمذهب المشهور... 353

الاعتراض على استدلال الطوسي حول وحدتها نوعا... 353

في الجواب عن شبهة من استدلّ على اختلافها... 354

المسألة السابعة : في أنّ النفوس البشريّة حادثة

الملّيّون ذهبوا إلى أنّ النفوس البشريّة حادثة... 355

اختلاف الحكماء في حدوث النفس أو عدمه... 355

ذهاب أفلاطون إلى أنّها قديمة... 355

نقل المحقّق نصير الدين لحجّة أرسطو على الحدوث... 355

فى تقرير حجّة أرسطو ومناقشتها... 355

المسألة الثامنة : في أنّ لكلّ نفس بدنا واحدا وبالعكس

إنّ قولهم : « لكلّ نفس بدنا واحدا » حكم ضروري أو قريب منه... 356

في بيان تفريعات هذه المسألة... 356

ص: 542

المسألة التاسعة : في أنّ النفس لا تفنى بفناء البدن

القائلون بجواز إعادة المعدوم جوّزوا فناء النفس مع فناء البدن... 357

القائلون بامتناع إعادة المعدوم منعوا فناءها مع فناء البدن... 357

المشهور عن الأوائل أنّها لا تفنى... 357

استدلال أصحابنا على امتناع فنائها... 357

الأوائل استدلّوا بأنّها لو عدمت لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محلّ مغاير... 357

في مناقشة استدلال الأوائل... 357

المسألة العاشرة : في إبطال التناسخ

في أنّه لا تصير مبدأ صورة لآخر... 358

نقل كلام بعض حكماء المشّائين حول النفس الكاملة... 358

في قول أهل التناسخ : النفوس الكاملة تبقى مجرّدة عن الأبدان... 358

فيما قيل عن تنزّلها من بدن الإنسان إلى بدن حيوان يناسبه في الأوصاف... 359

إنّ الرسخ يعني تنزّلها إلى الأجسام النباتيّة... 359

والفسخ يعني تنزّلها إلى الأجسام الجماديّة... 359

ذهاب بعض من العقلاء إلى جواز التناسخ في النفوس... 359

ذهاب أكثر العقلاء إلى بطلان التناسخ ، وهو مختار المحقّق الطوسي... 359

المسألة الحادية عشرة : في كيفيّة تعقّل النفس وإدراكها

إنّ التعقّل هو إدراك الكلّيّات... 360

الإدراك هو الإحساس بالأمور الجزئيّة... 360

ذهاب القدماء إلى أنّ النفس تعقل الأمور الكلّيّة بذاتها من غير احتياج إلى آلة... 360

هناك من قال : إن مدرك الجزئيّات على وجه كونها جزئيّات هو الحواس... 360

المسألة الثانية عشرة : في قوى النفس

للنفس قوى تشارك بها غيرها... 361

إنّ هذه القوى مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات... 361

في معنى القوّة الغاذية والنامية والمولّدة... 361

إنّ للنفس مراتب يطلق على كلّ مرتبة لفظ « النفس »... 362

الأولى : مرتبة النفس الجماديّة ، وأثرها حفظ التركيب فقط... 362

ص: 543

الثانية : مرتبة النفس النباتيّة ، وأثرها التغذية بالغاذية... 362

الثالثة : مرتبة النفس الحيوانيّة ، وأثرها الحركة بالإرادة... 362

الرابعة : مرتبة النفس الناطقة الإنسانيّة... 362

الخامسة : مرتبة النفس الإلهيّة التي يحصل بها التخلّي... 362

إنّ للنفس قوى أخصّ من الأولى وأثرها الإدراك... 362

القوّة الغاذية يتوقّف فعلها على القوّة الجاذبة والماسكة والهاضمة... 363

قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة... 363

في مغايرة النموّ للسمن... 363

إثبات الحكماء للنفس قوّة يصدر عنها التصوير للشكل... 364

المسألة الثالثة عشرة : في أنواع الإحساس

البحث في القوّة الحيوانيّة وهي الإحساس المشترك بين الإنسان وغيره... 364

الاختلاف في اللمس وهل هو قوّة واحدة أو متعدّدة؟... 365

الجمهور قال : إنّه قوى أربع... 365

هناك من زاد قوّة خامسة هي الحاكمة بين الثقل والخفّة... 365

الذوق هو القوّة الثانية بعد اللمس... 365

في بيان معنى الذوق ووظيفته... 365

في تعريف الشمّ وكيفيّته... 366

في بيان معنى السمع وكيفيّته... 366

فيما ذهب إليه قوم من أنّ السمع يحصل عند تأدّي الهواء إلى الصماخ... 366

الإيراد على استدلال القوم والجواب عنه... 367

في بيان معنى البصر وكيفيّته... 367

المبصرات إمّا أن يتعلّق الإبصار بها أوّلا وبالذات أو ثانيا بالعرض... 368

إنّ الإدراك - عند جماعة من الفلاسفة والمعتزلة - راجع إلى تأثّر الحدقة وانفعالها عن الشيء المرئي 368

إنّ شروط الإدراك سبعة... 368

عند حصول هذه الشروط السبعة يجب الإدراك كما هو عند المعتزلة والأوائل... 369

الأشاعرة جوّزوا انتفاء الإدراك مع حصول جميع الشروط... 369

ص: 544

في بيان حجّة الأشاعرة والردّ عليهم... 369

اختلاف الناس في كيفيّة الإبصار على مذاهب... 369

مذهب الرياضيّين على أنّ الإبصار بخروج الشعاع من العينين... 369

مذهب الطبيعيّين على أنّه يكون بانطباع صورة المرئي في الجليدية... 370

مذهب طائفة من الحكماء على أنّه بالهواء المشفّ الذي بين البصر والمرئي... 370

الأسترآبادي يختار مذهب الطبيعيّين... 371

في بيان علّة الحول عند القائلين بالشعاع... 371

في بيان علّة الحول عند القائلين بالانطباع... 372

المسألة الرابعة عشرة : في أنواع القوى الباطنة

الأوائل أثبتوا للنفس قوى جزئيّة... 372

إنّ قوى النفس الجزئيّة خمس... 372

القوّة الأولى وتسمّى بنطاسيا ، وهي عبارة عن الحسّ المشترك... 372

الثانية : خزانته ، وهي الخيال... 373

الثالثة : الوهم ، وهي قوّة مرتّبة في آخر التجويف الأوسط... 373

الرابعة : خزانة الوهم... 373

الخامسة : القوّة المخيّلة إن استعملتها الوهميّة والمفكّرة إن استعملها العقل... 373

الأدلّة على ثبوت الحسّ المشترك... 373

الأوّل : أنّه عند الحكم لا بدّ من حضور معنيين عند الحاكم ، وهو النفس... 373

الثاني : أنّا نرى القطرة النازلة بسرعة خطّا مستقيما... 373

الثالث : أنّ صاحب البرسام يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج... 374

البحث في الخيال ، الذي هو خزانة الحسّ المشترك... 374

في المائز بين السهو والنسيان... 374

دليلهم على مغايرة الخيال للحسّ المشترك... 375

نقض الدليل السابق وإبرام دليل آخر... 375

الكلام في الوهم المدرك للمعاني الجزئيّة... 375

في مغايرة الوهم للنفس الناطقة... 375

الكلام في القوّة الحافظة ، وهي خزانة الوهم... 375

ص: 545

المتخيّلة هي القوّة الخامسة باعتبار استعمال الحسّ لها... 376

وتسمّى القوّة الخامسة بالمتفكّرة باعتبار استعمال العقل لها... 376

الفصل الخامس : في الأعراض

المسألة الأولى : في أنّ الأعراض تنحصر في تسعة

إنّ حصر الأعراض في تسعة هو رأي الأكثر... 377

المتكلّمون حصروا الأعراض في أحد وعشرين... 377

في أنّ البعض ذكر أعراضا أخر... 378

إنّ البعض جعل أجناس الممكنات منحصرة في أربعة... 378

المسألة الثانية : في قسمة الكمّ

الكمّ عرض يقبل لذاته القسمة بإمكان فرض الأجزاء... 378

الكمّ المتّصل هو ما يوجد فيه جزء مشترك يكون نهاية أحد القسمين... 378

في ردّ توهّم أنّ الوسط نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر... 379

المتّصل إمّا قارّ الذات أو غير قارّ الذي هو الزمان لا غير... 379

القارّ الذات هو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالجسم... 379

غير قارّ الذات هو الذي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود كالزمان... 379

الكمّ المنفصل هو العدد خاصّة... 379

المسألة الثالثة : في خواصّ الكمّ

ذكروا للكمّ ثلاث خواص... 379

الأولى : قبول الكمّ للمساواة وعدمها... 379

الثانية : قبول القسمة لذاته... 379

هذا الانقسام قد يكون وهميّا وقد يكون فعليّا... 379

الثالثة : إمكان وجود العادّ فيه... 380

الكمّ منه ما هو بالذات ومنه ما هو بالعرض... 380

المسألة الرابعة : في أحكام الكم

إنّ الجسم التعليمي قد يعرض له الانقسام... 381

الزمان متّصل بذاته ويعرض له التقدير بالمسافة... 381

ص: 546

قد يعرض الكمّ المنفصل للكمّ المنفصل فيكون المنفصل بالذات منفصلا بالعرض... 381

إنّ الكمّ لا تضادّ فيه ، ودليله وجهان :... 381

أحدهما : أنّ المنافي للضدّيّة حاصل للكمّ ، ولا تكون الضدّيّة فيه... 381

في بيان وتوضيح الوجه الأوّل... 381

الثاني : أنّ الشرط في التضادّ مفقود في الكمّ فلا تضادّ فيه... 381

في بيان الوجه الثاني وتوضيحه... 381

الكمّ بأنواعه يوصف بأنّ بعضا منه زائد على بعض... 382

ويوصف الكمّ بالكثرة والقلّة ولا يوصف بالشدّة والضعف... 382

الأنواع الثلاثة للكمّ المتّصل القارّ الذات قد تؤخذ باعتبارها فتسمّى تعليميّة ، وقد تؤخذ باعتبار آخر فلا تسمّى تعليميّة 382

إنّ كون الجسم تعليميّا يفارق كون الخطّ والسطح كذلك... 383

مزيد من التوضيح لما تقدّم آنفا... 383

في بيان أنّ هذه الأنواع بأسرها أعراض... 383

في أنّه استدلّ لذلك بطريقين... 383

الأوّل : عامّ في الجميع... 383

في بيان تقرير الطريق الأوّل العامّ... 383

الثاني : مختصّ بكلّ واحد... 383

في بيان الوجه الدالّ على عرضيّة كلّ واحد من الأبعاد... 384

ذهاب بعض المتكلّمين إلى أنّ السطح والخطّ والنقطة أعدام صرفة... 384

ما ذكره هذا البعض من استدلالات... 384

الإشكال على استدلالات المتكلّمين ومناقشتها... 385

في أنّ الجنس معروض التناهي وعدمه... 385

المراد بالجنس - هنا - الكمّ من حيث هو هو... 385

إنّ التناهي وعدمه من الأمور الاعتباريّة... 385

البحث في الكيف ، وفيه مسائل :... 386

المسألة الأولى : في رسم الكيف

الأجناس العالية لا يمكن تحديدها لبساطتها... 386

ص: 547

تعريفهم للجنس بالعوارض العدميّة... 386

قالوا : الجنس هيئة قارّة لا يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها... 386

الكيف قد يعرّف بأنّه عرض لا يقتضي لذاته قسمة ولا نسبة... 387

المسألة الثانية : في أقسام الكيف

إنّ أقسام الكيف أربعة... 387

أحدها : الكيفيّات المحسوسة بإحدى الحواسّ الخمسة... 387

الثاني : الكيفيّات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس... 387

الثالث : الكيفيّات الاستعداديّة التي من جنس الاستعداد... 387

الرابع : الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات المتّصلة أو المنفصلة... 387

المسألة الثالثة : في البحث عن المحسوسات

المحسوسات إمّا انفعاليّات أو انفعالات... 388

المسألة الرابعة : في مغايرة الكيفيّات للأشكال والأمزجة

ذهاب بعض القدماء إلى أنّ الكيفيّات نفس الأشكال... 388

في توضيح حجّة القدماء... 388

المحقّقون أبطلوا مقالة القدماء... 389

ذهاب بعض الأوائل إلى أنّ الكيفيّات هي الأمزجة... 389

تخطئة مذهب الأوائل... 389

المسألة الخامسة : في البحث عن الملموسات

الملموسات منها أوائل والبواقي منتسبة إليها... 389

الكيفيّات الملموسة أظهر عند الطبيعة... 389

الكيفيّات الملموسة إمّا فعليّة أو انفعاليّة... 390

في معنى الفعليّة والانفعاليّة... 390

الكيفيّتان الفعليّتان هما الحرارة والبرودة... 390

الانفعاليّتان هما الرطوبة واليبوسة... 390

إنّ باقي الكيفيّات الملموسة تابعة لتلك الأربعة... 390

الحرارة جامعة للمتشاكلات ومفرّقة للمختلفات والبرودة بالعكس... 390

في أنّ الحرارة والبرودة كيفيّتان متضادّتان... 391

ص: 548

في مذهب من قال : إنّ البرودة عدم الحرارة عمّا من شأنه أن يكون حارّا... 391

في أنّ لفظة « الحرارة » تطلق على معان... 391

أحدها : الكيفيّة المحسوسة من جرم النار... 391

الثاني : الحرارة الموجودة في بدن الحيوان... 391

كلام أفلاطون وأرسطو حول المعنى الثاني للحرارة... 391

الثالث : الحرارة الحاصلة من تأثير الكواكب النّيرة كالشمس... 392

الرابع : الحرارة التي توجبها الحركة... 392

الرطوبة كيفيّة تقتضي سهولة التشكّل والاتّصال والتفرّق... 392

نقل إيراد ودفعه... 392

الجمهور يطلق الرطوبة على البلّة لا غير... 392

الهواء عند الشيخ الرئيس رطب على عكس الجمهور... 392

في أنّ الرطوبة واليبوسة مغايرتان للّين والصلابة... 392

اللّين والصلابة من الكيفيّات الاستعداديّة... 392

في تعريف اللّين والصلابة... 393

الثقل كيفيّة تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم... 393

في أنّ الخفّة تكون عكس الثقل... 393

في أنّ الثقل والخفّة من الكيفيّات الملموسة... 393

في انقسام كلّ من الثقل والخفّة إلى مطلق وإضافي... 393

الثقل الإضافي يقال لمعنيين... 393

أحدهما : الذي في طباعه أن يتحرّك أكثر المسافة الممتدّة... 393

الثاني : ما يقتضي حركة الجسم إلى المحيط والمركز في الجملة بالإضافة... 393

البحث في الميل الطبيعي الذي يسمّيه المتكلّمون ب- « الاعتماد »... 393

انقسام الميل بانقسام معلوله إلى أصلي وعرضي... 394

ينقسم الأصلي إلى طبيعي وقسري وإرادي... 394

الميل هو العلّة القريبة للحركة... 394

إنّ الميلين الذاتيّين المختلفين متضادّان... 394

في جواز اجتماع حركتين مختلفتين أحدهما بالذات والأخرى بالعرض... 394

ص: 549

الدليل على وجود الميل الطبيعي في كلّ جسم قابل للحركة القسريّة... 394

الميل والاعتماد جنس - على رأي المتكلّمين - تحته ستّة أنواع... 395

من الميل ما هو متماثل باعتبار الجهات ومنه ما هو مختلف... 395

اختلاف أبي هاشم وأبي عليّ في القسم المختلف من الميل... 395

من أجناس الاعتماد عند أبي هاشم الثقل... 395

أبو عليّ قال : إنّ الثقل راجع إلى تزايد أجزاء الجسم... 396

الاعتماد يفتقر إلى المحلّ ؛ لأنّه عرض... 396

ذهاب المتكلّمين إلى أنّ الاعتماد مقدور لنا... 396

المراد بالاعتماد - عند المتكلّمين - هو الميل النفساني الإرادي... 396

تقسيم المتكلّمين للاعتماد بالنسبة إلى ما يتولّد عنه إلى أقسام ثلاثة... 397

أحدها : ما يتولّد لذاته من غير حاجة إلى شرط... 397

ثانيها : ما يتولّد عنه بشرط ولا يصحّ بدونه... 397

ثالثها : ما يتولّد عنه لا بنفسه بل بتوسّط غيره... 397

المسألة السادسة : في البحث عن المبصرات

اللون والضوء من أوائل المبصرات... 397

لكلّ واحد من اللون والضوء طرفان... 398

ذهاب البعض إلى أنّ اللون لا حقيقة له... 398

ما حكي عن الشيخ أنّ البياض قد يكون ظاهرا باختلاط الهواء... 398

الحقّ أنّ اللون كيفيّة حقيقيّة قائمة بالجسم في الخارج... 398

إنّ طرفي اللون السواد والبياض المتضادّان... 398

إنّ ما عدا البياض والسواد متوسّط بينهما وليس قائما بانفراده... 399

ذهاب بعض إلى أنّ الألوان خمسة... 399

ذهاب ابن سينا إلى أنّ الضوء شرط وجود اللون... 399

في ردّ ومناقشة مذهب ابن سينا... 400

في أنّ اللون والضوء متغايران... 400

في أنّ اللون والضوء قابلان للشدّة والضعف... 400

إنّ الشديد في كلّ نوع مخالف للضعيف منه ومباين بالنوع... 401

ص: 550

ذهاب قوم إلى أنّ سبب الشدّة والضعف ليس الاختلاف بالحقيقة... 401

ذهاب بعض إلى أنّ الضوء جسم صغير ينفصل من المضيء... 401

في مناقشة من قال : إنّه جسم صغير... 401

في معنى قول الطوسي : « لحصل ضدّ المحسوس »... 401

في أنّ الضوء منه ذاتي ومنه عرضي... 402

في أنّ العرضي من الضوء قسمان... 402

الظلمة هي عدم الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئا... 402

في ردّ مذهب من قال : إنّ الظلمة كيفيّة وجودية قائمة بالمظلم... 402

المسألة السابعة : البحث في المسموعات

الأصوات من الكيفيّات المحسوسة التي تدرك بالسمع... 403

في ردّ مذهب من قال : إنّ الصوت جوهر ينقطع بالحركة... 403

في مذهب من قال : إنّه عبارة عن التموّج الحاصل في الهواء من القلع والقرع... 404

هناك من قال : إنّ الصوت هو القرع والقلع... 404

في إبطال المذهبين السابقين... 404

بيان الرأي السديد في المسألة... 404

حصول الصوت مع القرع مشروط بحصول المقاومة بين القارع والمقروع... 404

في أنّه لا تشترط الصلابة... 404

في تأييد هذا الرأي بالاستقراء الناقص المفيد للقطع... 404

في ذهاب قوم إلى أنّ الصوت ليس بحاصل في الخارج... 405

في تخطئة القول المتقدّم... 405

إنّ الصوت غير قارّ الأجزاء ويستحيل عليه البقاء... 405

الاعتراض على أنّ الصوت غير قارّ الأجزاء... 405

رأي الأسترآبادي في المسألة... 406

حصول صوت آخر من التموّج الثاني... 406

في عروض كيفيّة أخرى - للصوت - يتميّز بها عن صوت آخر... 406

في انقسام الحرف إلى قسمين : مصوّت وصامت... 406

في معنى الحرف المصوّت والصامت... 406

ص: 551

الحرف الصامت إمّا متماثل وإمّا مختلف... 406

الحرف الصامت إمّا بالذات أو بالعرض... 407

الكلام هو ما انتظم من الحروف المسموعة ولا يعقل غيره... 407

الأشاعرة أثبتوا معنى آخر أسموه الكلام النفساني... 407

الكلام النفساني هو غير المؤلّف من الحروف والأصوات... 407

المعتزلة بالغوا في إنكار ذلك المعنى... 407

في مناقشة حجّة الأشاعرة في الكلام النفساني... 408

الأشاعرة قسّموا الكلام إلى قسمين... 408

القسم الأوّل : لفظي مؤلّف من الحروف... 408

القسم الثاني : نفسي وهو المعنى القائم بالنفس... 408

الأشاعرة قالوا : إنّ كلام اللّه هو معنى قائم بذاته تعالى ، وهو قديم... 408

في مناقشة وردّ حجّة الأشاعرة... 408

في تحرير محلّ النزاع... 409

في أنّ النزاع ناشئ من عدم الفرق بين معاني الكلام... 409

المسألة الثامنة : في البحث عن المطعومات

منها المطعومات التسع الحادثة من تفاعل الثلاثة في مثلها... 410

ما هو المشهور عند الأوائل... 410

المسألة التاسعة : في البحث عن المشمومات

في أنّه لا أسماء لأنواع المشمومات إلاّ من حيث المخالفة والموافقة... 410

المسألة العاشرة : في البحث عن الكيفيّات الاستعداديّة

الكيفيّات الاستعداديّة هي ما يترجّح به القابل في أحد جانبي قبوله... 411

المسألة الحادية عشرة : في البحث عن الكيفيّات النفسانيّة

الكيفيّات النفسانيّة تختصّ بذوات الأنفس الحيوانيّة... 411

إنّها إمّا أن تكون حالا أو ملكة... 411

قد يقال : إنّها إن كان راسخة كانت ملكة أو غير راسخة فهي الحال... 412

المسألة الثانية عشرة : في البحث عن العلم بقول مطلق

المعاني الواردة في تعريف العلم... 412

ص: 552

العلم ينقسم إلى تصوّر وتصديق جازم مطابق ثابت... 412

قد يقال : العلم صفة توجب لمحلّها تميّزا... 412

العلم عبارة عن حصول صورة الشيء في الذهن... 412

التصديق الجازم هو الحكم اليقيني بنسبة أحد المتصوّرين إلى الآخر... 412

في شروط التصديق التي شرطها المحقّق نصير الدين... 413

اختلاف العقلاء في أنّ العلم هل يحدّ أم لا... 413

حجّة من قال : إنّ العلم يحدّ... 413

الاعتراض على الحجّة المتقدّمة... 413

في قول بعض : إنّ العلم اعتقاد أنّ الشيء كذا أو لا يكون إلاّ كذا... 413

في قول الآخرين : إنّ العلم اعتقاد يقتضي سكون النفس... 413

عدم مانعية التعريفين السابقين... 413

في انقسام كلّ من التصور والتصديق إلى ضروري ومكتسب... 414

في معنى الضروري والمكتسب... 414

المسألة الثالثة عشرة : في أنّ العلم يتوقّف على الانطباع

جمهور الأوائل على أنّ العلم يستدعي انطباع المعلوم ... في العالم... 414

آخرون أنكروا استدعاء العلم انطباع المعلوم... 414

في بيان حجّة جمهور الأوائل... 415

في احتجاج الآخرين بوجهين... 415

الوجه الأوّل : أنّ التعقّل لو كان حصول صورة المعقول في العاقل لزم... 415

الوجه الثاني : أنّ الذهن قد يتصوّر أشياء متقدّرة ، فيلزم حلول... 415

في الجواب عن الوجهين المتقدّمين... 415

في بيان كيفيّة حصول الصورة في العاقل... 415

أوائل الحكماء ذهبوا إلى أنّ التعقّل إنّما يكون باتّحاد صورة المعقول والعاقل... 416

تخطئة ما ذهب إليه أوائل الحكماء... 416

ذهاب آخرين إلى أنّ التعقّل يستدعي اتحاد العاقل بالعقل الفعّال... 416

في تخطئة ما ذهب إليه الآخرون... 416

ذهاب قوم إلى جواز تعلّق علم واحد بمعلومين... 416

ص: 553

منع قوم من تعلّق علم واحد بمعلومين ، وهو مختار الأسترآبادي... 416

ذهاب جماعة من المعتزلة إلى أنّ العلم بالاستقبال علم بالحال... 417

في إبطال حجّة هذه الجماعة من المعتزلة... 417

في سبب اختيار المعتزلة للمذهب السالف الذكر... 417

في بيان الوجه في حلّ الشبهة المذكورة... 417

في أنّ العلم لا يعقل إلاّ مضافا إلى الغير... 418

في توهّم البعض أنّ العلم نفس الإضافة الحاصلة بين العلم والمعلوم... 418

إنّ الإشكال يقوى على الاتّحاد ويلزم منه اجتماع الأمثال... 418

الجواب عن هذا الإشكال... 418

إنّ الإشكال يقوى باعتبار الإضافة ، إذ الإضافة لا تعقل بين الشيء الواحد ونفسه

... 418

الجواب عن هذا الإشكال... 418

في الاعتراض على الجوابين السابقين... 419

ذهاب المحقّقين إلى أنّ العلم عرض... 419

الذين قالوا : إنّ العلم إضافة بين العلم والمعلوم قالوا : إنّه عرض أيضا... 419

الذين قالوا : إنّ العلم صورة اختلفوا هل هو جوهر أم عرض... 419

المسألة الرابعة عشرة : في أقسام العلم

العلم منه ما هو فعلي ومنه ما هو انفعالي ومنه ما ليس كذلك... 420

العلم الفعلي هو المحصّل للأشياء الخارجيّة كعلم واجب الوجود... 420

والانفعالي هو المستفاد من الأعيان الخارجيّة... 420

انقسام العلم إلى ضروري وكسبي ، وأقسام الضروري ستّة... 420

القسم الأوّل : البديهيّات ، وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته... 420

القسم الثاني : المشاهدات ، وهي إمّا مستفادة من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة... 420

القسم الثالث : المجرّبات ، وهي التي تحكم بها النفس باعتبار تكرار المشاهدات... 420

القسم الرابع : الحدسيّات ، وهي التي مبدأ الحكم بها حدس قويّ يزول معه الشكّ

... 420

القسم الخامس : المتواترات ، وهي التي تحكم بها النفس لتوارد أخبار المخبرين... 421

القسم السادس : الفطريّات ، وهي قضايا قياساتها معها... 421

انقسام العلم إلى واجب وهو علم واجب الوجود بذاته ، وإلى ممكن... 421

ص: 554

استدلال الأشاعرة على كون أفعال العباد اضطرارية على وجه الجبر... 421

جواب المعتزلة والإماميّة على استدلال الأشاعرة... 421

إيراد آخر للأشاعرة ، وجواب المعتزلة والإماميّة عنه... 421

في حلّ إشكال الدور... 422

المسألة الخامسة عشرة : في تقديم العلم على الاستعداد

لا بدّ من سبب موجد فاعل للعلم... 423

إنّ للمقبول درجات مختلفة في القرب والبعد... 423

المسألة السادسة عشرة : في المناسبة بين العلم والإدراك

إطلاق العلم على الإدراك للأمور الكلّيّة... 424

يطلق الإدراك على الحضور عند المدرك مطلقا... 424

الفرق بين العلم والإدراك كالفرق بين النوع والجنس ، على بعض الآراء... 424

الإحساس هو إدراك الشيء الموجود في المادّة الحاضرة عند المدرك... 424

التخيّل هو إدراك الشيء مع الهيئات المخصوصة في حال غيبته بعد حضوره... 424

التوهّم هو إدراك معان جزئيّة مخصوصة متعلّقة بالمحسوسات... 424

التعقّل هو إدراك المجرّد عنها ، سواء كان جزئيّا أو كلّيّا... 425

المسألة السابعة عشرة : في أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول

العلم بالعلّة يقع باعتبارات ثلاثة... 425

الأوّل : العلم بماهيّة العلّة من حيث هي ذات... 425

الثاني : العلم بها من حيث إنّها مستلزمة لذات أخرى... 425

الثالث : العلم بذاتها وماهيّتها ولوازمها وملزوماتها... 425

المشهور على أنّ العلم التامّ بالمعلول لا يستلزم العلم بالعلّة... 426

فيما قيل من أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بماهيّة المعلول... 426

خلاصة المسألة على تقرير الأسترآبادي... 426

المسألة الثامنة عشرة : في مراتب العلم

فيما حكي عن الشيخ ابن سينا أنّه ذكر أنّ للتعقّل ثلاث مراتب... 426

المرتبة الأولى : أن يكون التعقّل بالقوّة المحضة... 426

المرتبة الثانية : أن يكون بالفعل التامّ... 426

ص: 555

المرتبة الثالثة : العلم بالشيء إجمالا... 426

المسألة التاسعة عشرة : في كيفيّة العلم بذي السبب

إنّ ذا السبب يعلم بنحو كلّيّ... 427

التحقيق في هذه المسألة... 427

الحاصل : أنّ العلم بذي السبب لا يحصل إلاّ من العلم بسببه... 427

في بيان اعتراض حول هذه المسألة... 428

المسألة العشرون : في تفسير العقل

اتّفاق الجميع على أنّ مناط التكاليف الشرعيّة هو العقل ، واختلفوا في تعريفه... 428

عرّفوا العقل بأنّه غريزة يلزمها العلم بالضروريّات عند سلامة الآلات... 428

وعرّفه جماعة بأنّه ما يعرف به حسن المستحسنات وقبح المستقبحات... 429

حكي عن آخرين بأنّه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات... 429

في إطلاق لفظ « العقل » على غيره بالاشتراك... 429

لفظ « العقل » مشترك بين قوى النفس الإنسانيّة وبين الموجود المجرّد... 429

العقل في القوى النفسانيّة ينقسم إلى عقل علمي وعملي... 429

العقل العلمي أوّل مراتبه الهيولاني... 429

العقل بالملكة ثاني مراتبه ، وأعلى درجات هذه المرتبة هي الفطانة... 429

العقل بالفعل ثالث مراتبه... 429

العقل المستفاد رابع مراتبه ، وهو آخر درجات كمال النفس... 430

العقل العملي يطلق على القوّة التي باعتبارها يحصل التمييز بين الحسن والقبيح... 430

المسألة الحادية والعشرون : في الاعتقاد والظنّ وغيرهما

الاعتقاد يطلق على التصديق الذي هو أحد قسمي العلم... 430

إشكال على تعريف نصير الدين الطوسي للتصديق... 430

عند ما يطلق الاعتقاد على أحد قسمي العلم فهو أخصّ... 430

الاعتقاد - باعتبار آخر - أعمّ من العلم... 430

الاعتقاد قد يقع فيه التضادّ... 431

العلم لا يقع فيه التضادّ ؛ لوجوب مطابقته للواقع... 431

المشهور على أنّ السهو عدم ملكة العلم... 431

ص: 556

الجبّائيان ذهبا إلى أنّ السهو معنى يضادّ العلم... 431

الأوائل فرّقوا بين السهو والنسيان... 432

ظاهر العرف الترادف أو التساوي عموما أو خصوصا بين السهو والنسيان... 432

في معنى السهو والنسيان... 432

الشكّ هو تردّد الذهن بين طرفي النقيض على التساوي... 432

نقل قول أبي عليّ في أنّ الشكّ معنى يضادّ العلم... 432

قد يصحّ تعلّق كلّ من العلم والاعتقاد بنفسه وبالآخر... 432

العلم والاعتقاد من قبيل الإضافات يصحّ تعلّقهما بجميع الأشياء... 432

تعلّق العلم بنفسه يوجب تعدّد الاعتبار... 433

إنّ العلم بالعلم علم بكيفيّة وهيئة للعالم تقتضي النسبة إلى معلوم... 433

الجهل يطلق على معنيين : بسيط ومركّب... 433

البسيط هو عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون عالما... 433

المركّب هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه... 433

في سبب التسمية ب- « البسيط » و « المركّب »... 433

الظنّ هو ترجيح أحد الطرفين ترجيحا غير مانع من النقيض... 433

إنّ رجحان الاعتقاد يغاير اعتقاد الرجحان... 434

إنّ الظنّ يقبل الشدّة والضعف... 434

المسألة الثانية والعشرون : في النظر وأحكامه

العلم الكسبي عبارة عن ترتيب أمور ذهنيّة يتوصّل بها إلى أمر مجهول... 434

في اشتمال النظر على جزء مادّي وجزء صوري... 434

اختلافهم في أنّ النظر هل يفيد العلم أم لا... 435

ذهاب المحقّقين إلى أنّ النظر يفيد العلم بالضرورة... 435

قد يحصل العلم بالنظر من غير كسب بواسطة الوحي أو الإلهام أو نحوهما... 436

إذا فسد النظر لم يحصل العلم ، وقد يحصل ضدّه وهو الجهل... 436

إبطال ما يقال من أنّ النظر الفاسد لا يستلزم الجهل... 436

المعتزلة ذهبوا إلى أنّ النظر مولّد للعلم وسبب له... 436

الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ النظر لا يكون موجبا ولا سببا للعلم... 436

ص: 557

تحقيق القول الفصل في هذه المسألة... 437

ذهاب الملاحدة إلى أنّ النظر غير كاف في حصول المعارف... 437

إطباق العقلاء على خلاف مذهب الملاحدة... 437

في ردّ المعتزلة والأشاعرة على الملاحدة بلزوم الدور والتسلسل... 438

في مناقشة الأسترآبادي للإلزامين : الدور والتسلسل... 438

لترتيب المقدّمات لا بدّ من ترتيب حاصل بين المقدّمتين... 438

شرط النظر عدم العلم بالمطلوب الذي هو غاية النظر... 439

في بيان بقية الشروط... 439

اختلافهم في أنّ وجوب النظر في معرفة اللّه تعالى هل هو سمعي أم عقليّ... 439

المعتزلة قالوا : إنّه عقليّ ، واستدلّوا بوجهين... 440

الأوّل : إنّ معرفته تعالى واجبة مطلقا ، ولا تتمّ إلاّ بالنظر... 440

مناقشة مقدّمات الوجه الأوّل... 440

الثاني : النظر واجب بالاتّفاق ، ووجوبه إمّا عقلي أو نقلي... 441

في بيان الوجه الثاني... 441

الأشاعرة احتجّوا بوجهين... 442

الأوّل : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ... 442

الثاني : لو وجب النظر فلا يكون لا لفائدة... 442

في مناقشة الوجه الأوّل والجواب عنه... 443

في مناقشة الوجه الثاني من استدلال الأشاعرة... 443

المستلزم للعلم يسمّى دليلا والمستلزم للظنّ يسمّى أمارة... 443

إنّ بسائط النظر عقليّة ومركّبة ؛ لاستحالة الدور... 444

المحكيّ عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة أنّ الأدلّة اللفظيّة لا تفيد العلم... 444

إنّ الحقّ خلاف مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة... 445

إذا تعارض دليلان نقليان أو دليل عقلي ونقلي وجب تأويل النقلي... 445

انقسام الدليل إلى ثلاثة أقسام : قياس واستقراء وتمثيل... 446

القياس هو أحد الأدلّة وأشرفها ؛ لإفادته اليقين... 446

الاستقراء هو تتبّع الجزئيّات... 446

ص: 558

التمثيل هو تشبيه أحد الجزءين بالآخر... 446

ما هو القياس الاستثنائي والاقتراني... 446

القياس الاقتراني له اعتباران : بحسب المادة ، وبحسب الصورة... 446

القياس بالاعتبار المتقدّم على أربعة أقسام ، كلّ قسم يسمّى شكلا... 447

القياس باعتبار الصورة البعيدة ينقسم إلى حمليّ وشرطيّ... 447

في معنى الاقتراني الحملي والشرطي... 447

القياس باعتبار المادة القريبة خمسة وباعتبار البعيدة أربعة... 447

مقدّمات القياس أربعة : مسلّمات ومظنونات ومشبّهات ومخيّلات... 447

مقدّماته باعتبار المادة القريبة هي البرهان والجدل والسفسطة والخطابة والشعر... 448

مزيد من البيان حول القياس... 448

ما أورده الفاضل القوشجي في شرح التجريد... 448

القياس الاستثنائي ضربان... 448

الضرب الأوّل : ما كانت مقدّمته الشرطيّة متصلة... 448

الضرب الثاني : ما كانت مقدّمته الشرطيّة منفصلة... 448

المنفصلة على ضربين : حقيقيّة وغير حقيقيّة... 448

غير الحقيقيّة على ضربين : مانعة الجمع ومانعة الخلوّ... 449

الحقيقيّة تنتج أربع نتائج... 449

إنّ الاستقراء والتمثيل يفيدان الظنّ لا العلم... 449

الاستقراء يفيد القطع إذا انضمّ إليه الحدس الصائب... 449

في أنّ كلّ عاقل مجرّد وكلّ مجرّد عاقل... 450

في الاستدلال على أنّ كلّ عاقل مجرّد... 450

الإيراد على الاستدلال المتقدّم... 450

في الاستدلال على أنّ كلّ مجرّد عاقل... 450

في تقرير الاستدلال السابق... 451

في الاعتراض على الاستدلال... 451

المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام القدرة

القدرة من الكيفيّات النفسانيّة... 452

ص: 559

إنّ الجسم من حيث هو غير مؤثّر... 452

الجسم إنّما يؤثّر باعتبار الصفة القائمة به ، والأقسام أربعة... 452

القدرة صفة مؤثّرة على وفق الإرادة في الأفعال المتعددة... 452

القدرة صفة تقتضي صحّة الفعل من الفاعل لا إيجابه... 453

المشهور أنّ القدرة متعلّقة بالضدّين... 453

الأشاعرة قالوا : إنّما تتعلّق القدرة بطرف واحد... 453

مناقشة قول الأشاعرة... 454

الحكماء والمعتزلة ذهبوا إلى أنّ القدرة قبل الفعل... 454

الأشاعرة قالوا : إنّها مقارنة للفعل... 454

مناقشة حجّة الأشاعرة... 454

المعتزلة استدلّوا على مقالتهم بوجوه ثلاثة... 454

الأوّل : أنّ القدرة لو لم تتقدّم الفعل قبح تكليف الكافر... 454

الثاني : لو لم تكن القدرة قبل الفعل لزم التنافي... 454

الثالث : لو لم تكن متقدّمة لزم إمّا حدوث قدرة اللّه أو قدم الفعل والفاعل... 455

في أنّه لا يمكن وقوع المقدور الواحد بقادرين مستقلّين... 455

في إمكان تعلّق القادرين بمقدور واحد... 455

ردّ زعم من قال : إنّ القدرة قد تكون كاسبة لا مؤثّرة... 455

ذهاب قوم من المعتزلة إلى أنّ أفراد القدرة مختلفة... 456

التقابل بين القدرة والعجز تقابل التضادّ أو العدم والملكة؟... 456

الأشعرية وجمهور المعتزلة ذهبوا إلى أنّه معنى يضادّ القدرة... 456

مختار المحقّق الطوسي أنّه عرض عدمي مقابل القدرة... 457

في مغايرة القدرة للخلق... 457

المسألة الرابعة والعشرون : في الألم واللذّة

الألم واللّذّة من الكيفيّات النفسانيّة... 458

اللذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر... 458

عن الفخر الرازي أنّه لم يثبت أنّ اللذّة نفس إدراك الملائم أو غيره... 458

عن محمد بن زكريا الطبيب أنّ اللذّة ليست إلاّ العود إلى الحالة الطبيعيّة... 458

ص: 560

مناقشة قول محمد بن زكريا... 458

للألم - كما عن الشيخ وغيره - سببان... 459

السبب الأوّل : تفرّق الاتّصال... 459

مناقشة دليل السبب الأوّل... 459

السبب الثاني : سوء المزاج المختلف... 460

في دفع ما حكي عن الفخر الرازي من إنكار كون الألم بسبب تفرّق الاتّصال... 460

في قسمة اللذّة والألم بالنسبة إلى الحسّ والعقل... 460

مناقشة قسمة اللذّة والألم... 460

المسألة الخامسة والعشرون : في الإرادة والكراهة

الإرادة والكراهة من الكيفيّات النفسانيّة... 461

هما - عند الطوسي وأغلب المعتزلة - نوعان من العلم بالمعنى الأعمّ... 461

هما - عند آخرين - زائدتان على العلم مرتّبتان عليه... 461

عن الأشاعرة أنّ الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع أو ميل يتبعه... 461

في بيان القول الحقّ في المسألة... 462

قد تطلق الإرادة على نفس المشيئة... 462

المحكيّ عن الأشعري أنّ إرادة شيء نفس كراهة ضدّه... 462

في جواب ما حكي عن الأشعري... 462

عن جماعة القول بالتغاير مع اختلافهم بالاستلزام... 462

الإرادة والكراهة يتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل بالإرادة وغيره... 463

ما ذكره الشارح القوشجي حول الإرادة بالنسبة إلى الفاعل الحقيقي... 463

قد تتعلّقان بذاتيهما بخلاف الشهوة والنفرة... 464

عن صاحب المواقف أنّ الإرادة إن فسّرت باعتقاد النفع ... جاز تعلّقها بنفسها... 464

في بيان المراد من قوله : « أراد »... 464

في أنّ الكيفيّات المذكورة سابقا مشروطة بالحياة... 465

الحياة صفة تقتضي الحسّ والحركة مشروطة باعتدال المزاج... 465

قيل : هي قوّة تكون مبدأ لقوّة الحسّ والحركة... 465

وقيل : هي قوّة تتبع اعتدال النوع وتفيض عنها سائر القوى الحيوانيّة... 465

ص: 561

لا بدّ من البدن والمؤلّف من العناصر ؛ ذلك لاشتراط الحياة باعتدال المزاج... 466

الأشاعرة جوّزوا وجود حياة في محلّ غير منقسم بانفراده... 466

افتقار الحياة إلى الروح الحيواني... 466

الموت هو عدم الحياة عن محلّ وجدت فيه... 466

مذهب أبي عليّ الجبّائي إلى أنّه معنى وجودي يضادّ الحياة... 466

في الردّ على مذهب الجبّائي... 467

المسألة السادسة والعشرون : في باقي الكيفيّات النفسانيّة

الصحة والمرض من الكيفيّات النفسانيّة عند الشيخ ابن سينا... 467

في معنى الصحة والمرض كما في الشفاء... 467

في تعريف الصحّة كما في القانون للشيخ... 467

في نقل إشكال محكيّ عن الفخر الرازي... 468

في جواب الإشكال... 468

الفرح والغمّ من الكيفيّات النفسانيّة... 468

السبب المعدّ في الفرح كون الروح على أفضل أحواله في الكمّ والكيف... 468

الغضب والحزن والهمّ والخجل والحقد من الأعراض النفسانيّة... 468

المسألة السابعة والعشرون : في الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات

المقصود بالكيفيّة هي التي تعرض للكمّيّة أولا وبالذات وللجسم ثانيا... 469

الكمّ على قسمين : متّصل ومنفصل... 469

المتّصل قد يعرض له الكيف مثل الاستقامة للخطّ... 469

المنفصل قد تعرض له أنواع أخرى من الكيف كالزوجيّة للعدد... 469

الخطّ المستقيم هو أقصر خطّ يصل بين نقطتين... 470

الدائرة هي سطح مستو يحيط به خطّ واحد في داخله نقطة... 470

اختلاف الناس في وجود الدائرة... 470

إثبات المحقّق الطوسي للدائرة ودليله على ذلك... 470

نفي التضادّ بين الخطّ المستقيم والمستدير... 470

تحقيق المسألة على رأي المحقّق نصير الدين... 470

الإيراد على رأي الطوسي... 471

ص: 562

الشكل - كما ذكره القدماء - ما أحاط به حدّ واحد كما في الكرة أو حدود 471

التحقيق أنّ الشكل من باب الكيف... 471

نقل إيراد على تخصيص الشكل بالجسم... 471

الشكل مغاير للوضع بمعنى المقولة... 472

الإضافة هي النسبة التي لا تعقل إلاّ بالنسبة إلى نسبة أخرى معقولة... 472

المضاف هو المقولة الثالثة من المقولات ، وهنا مسائل... 472

المسألة الأولى : في أقسامه

المضاف ينقسم إلى حقيقي ومشهوريّ... 472

المضاف الحقيقي يقال للنسبة العارضة للشيء باعتبار قياسه إلى غيره كالأبوّة... 472

المضاف المشهوريّ يقال للذات التي عرضت لها الإضافة بالفعل... 472

المسألة الثانية : في خواصّ المضاف

في المضاف خاصّتان مطلقتان لا يشاركه فيهما غيره... 473

إحداهما وجوب الانعكاس ، أي انعكاس النسبة... 473

الثانية : التكافؤ في الوجود بالفعل أو القوّة... 473

إنّ المضاف الحقيقي يعرض لجميع الموجودات... 473

المسألة الثالثة : الإضافة لا تحقّق لها في الخارج

ذهاب قوم إلى أنّ الإضافة ثابتة في الأعيان... 474

ذهاب آخرين إلى أنّها عدميّة في الأعيان ثابتة في الأذهان... 474

الوجوه التي ذكرها الطوسي في إثبات عدميّتها في الأعيان... 474

أحدها : أنّ الإفاضة لو كانت ثابتة في الأعيان لزم التسلسل... 474

جواب ابن سينا في أنّه يجب الرجوع في هذه الشبهة إلى حدّ المضاف المطلق... 474

فيما إذا كان في المضاف ماهيّة أخرى... 474

في مناقشة المسألة... 475

الثاني : لو كانت ثبوتيّة لشاركت الموجودات في الوجود... 475

الثالث : لو كانت موجودة في الأعيان لزم أن تكون لكلّ مرتبة من مراتب الأعداد إضافات وجوديّة 476

الرابع : لو كانت وجوديّة لزم وجود صفات اللّه تعالى متكثّرة لا تتناهى... 476

ص: 563

قد يستدلّ بأنّه لو وجدت الإضافة لزم اتّصاف ذات اللّه تعالى بالحوادث... 476

في جواب الوجوه المذكورة أعلاه... 476

المسألة الرابعة : في بقايا مباحث الإضافة

المضاف المشهوري يعرض له المضاف الحقيقي كالأب تعرض له الأبوّة... 477

بيان الأسترآبادي هذا المطلب... 477

المسألة الخامسة : مقولة الأين

الأين هو نسبة الشيء إلى مكانه بالحصول فيه... 477

الأين على قسمين : حقيقي وغير حقيقي... 478

الأين الحقيقي هو نسبة الشيء إلى مكان خاصّ... 478

الأين غير الحقيقي هو نسبة الشيء إلى مكان عامّ... 478

الأين عند المتكلّمين أنواعه أربعة : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق... 478

ذهاب بعض المتكلّمين إلى أنّ الأكوان لا تنحصر في الأربعة... 479

الحركة هي كمال أوّل لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة أو حصول الجسم... 479

في بيان هذا التعريف... 479

المتكلّمون قالوا : ليست الحركة هي الحصول في المكان الأوّل... 479

قد يقال : إنّ الحركة عبارة عن كون الشيء في الآن الثاني في المكان الثاني... 479

قد تفسّر الحركة بأنّها صفة يكون الجسم بها أبدا متوسّطا بين المبدأ والمنتهى... 480

وقد تفسّر بكون الجسم فيما بين المبدأ والمنتهى... 480

فيما أفاده صدر الحكماء في الشواهد الربوبيّة حول الحركة... 480

اتّفاق العقلاء على وجود الحركة... 480

مخالفة جماعة من القدماء الذين نفوا وجود الحركة... 480

استدلال المخالفين بوجوه... 481

الوجه الأوّل : لو كانت الحركة موجودة لكانت إمّا منقسمة أو غير منقسمة... 481

الوجه الثاني : أنّ الحركة ليست هي الحصول في المكان الأوّل... 481

الوجه الثالث : الحركة ليست واحدة ، فلا تكون موجودة... 481

توقّف الحركة على أمور ستّة... 481

إنّ مبدأ الحركة ومنتهاها قد يتّحدان محلاّ... 482

ص: 564

إنّ لكلّ واحد من المبدأ والمنتهى اعتبارين... 482

الاعتبار الأوّل : على سبيل التضايف... 482

الاعتبار الثاني : ما يكون على سبيل التضادّ... 482

إشكال وجوابه... 482

لو اتّحدت العلّتان انتفى المعلول... 483

المقصود بالعلّتين : الفاعليّة والقابليّة... 483

الفاعل للحركة ليس هو القابل المعروض لها... 483

فيما لو اقتضت الصورة الجسميّة الحركة إلى جهة معيّنة... 484

إشكال في أنّ الطبيعة قد تقتضي الحركة ولا يلزم دوامها بدوام الطبيعة... 484

في تقرير الجواب على الإشكال... 484

إنّ الحركة تقع في أربع مقولات هي الكمّ والكيف والأين والوضع... 484

الجوهر قسمان : بسيط ومركّب... 485

عدم قبول الأسترآبادي للحركة الجوهريّة... 485

ردّ الأسترآبادي للقول بأصالة الوجود ووحدته... 485

المضاف لا تقع فيه حركة بالذات... 485

نقل قول الشيخ في الشفاء والنجاة حول ال « متى »... 485

في أنّ الجدة توجد دفعة... 486

في عدم وجود الحركة في مقولتي الفعل والانفعال... 486

في إبطال وقوع الحركة فيما زاد على المقولات الأربع... 486

إنّ الحركة تقع باعتبارين : أحدهما التخلخل والتكاثف ، والثاني النموّ والذبول... 486

في الاستدلال على وقع الحركة بوجهين... 487

في بيان الاعتبار الثاني وهو الحركة في الكمّ باعتبار النموّ... 487

البحث حول الحركة في الكيف والاستدلال على ذلك... 488

إنكار جماعة من القدماء للاستحالة... 488

في اعتذارهم عن الحرارة المحسوسة في الماء... 488

ذهاب بعض إلى أنّ في الماء أجزاء ناريّة كامنة... 488

ذهاب آخرين إلى أنّ الأجزاء الناريّة ترد عليه من خارج... 488

ص: 565

في إبطال كلا القولين السابقين... 488

في أنّ وقوع الحركة في مقولتي الأين والوضع ظاهر... 489

في أنّ الحركة منها واحدة بالعدد ومنها كثيرة... 489

الحركة الواحدة هي المتصلة من مبدأ المسافة إلى نهايتها... 489

المقتضي لوحدة الحركة أمور ثلاث لا غير... 489

الأوّل هو وحدة الموضوع... 489

الثاني هو وحدة الزمان... 489

الثالث هو وحدة المقولة التي فيها الحركة... 489

إنّ وحدة المحرّك ليست بشرط... 490

إذا اختلف أحد الأمور الثلاثة اختلفت الحركة بالنوع... 490

من الحركات ما هو متضادّ ، وهي الداخلة تحت جنس آخر... 490

لا يمكن التضادّ بالاستدارة والاستقامة ؛ لأنّهما غير متضادّين... 491

انقسام الحركة بانقسام الزمان... 491

لا مدخل للمبدإ والمنتهى في الانقسام ولا للمحرّك... 491

في أنّه تعرض الحركة كيفيّة واحدة تشتدّ تارة وتضعف أخرى... 491

السرعة هي كيفيّة تقطع بها الحركة المسافة المساوية في الزمان الأقلّ... 491

عدم اختلاف ماهيّة الحركة بسبب اختلاف السرعة والبطء... 491

ذهاب المتكلّمين إلى أنّ تخلّل السكنات بين أجزاء الحركة سبب للإحساس بالبطء 492

الفلاسفة منعوا استناد البطء إلى تخلّل السكنات... 492

مزيد من التوضيح حول رأي الفلاسفة... 492

في أنّ الحركة قد تسمّى حركة ذات انعطاف وقد تسمّى زاوية... 493

اختلاف في أنّ المتحرك بين الحركتين هل هو متّصف بالحركة أو بالسكون... 493

أرسطو وأتباعه قالوا بالسكون ، وهو اختيار المحقّق الطوسي... 493

ما ذكره المحقّق الطوسي من برهان على ما تقدّم... 493

مناقشة الأسترآبادي لرأي الطوسي... 493

في بيان ماهيّة السكون ، هل هي وجوديّة أو عدميّة؟... 494

المتكلّمون قالوا : إنّها وجوديّة... 494

ص: 566

الحكماء قالوا بالعدميّة... 494

الطوسي اختار قول المتكلّمين... 494

ما ذكره العلاّمة الحلّي من شرح لهذه المسألة... 494

السكون في غير الأين عبارة عن حفظ النوع... 495

في وجوب حمل النوع على مطلق الكلّيّ... 495

الكون عبارة عن حصول الجسم في الحيّز... 496

في أنّ طبيعي الحركة إنّما يحصل عند مقارنة أمر غير طبيعي... 496

غاية الحركة الطبيعيّة إنّما هي حصول الحالة الملائمة للطبيعة... 496

الحركة الطبيعيّة يطلب بها استرداد الحالة الطبيعيّة بعد زوالها... 497

الحركة القسريّة إمّا أن تكون في ملازم المتحرّك أو مع مقارنه... 497

المحرّك يفيد قوّة فاعلة للحركة قابلة للضعف... 497

السكون منه طبيعي ومنه قسري ومنه إرادي... 498

من الحركات ما هو بسيط ومنها ما هو مركّب... 498

ذهاب أبي هاشم وأتباعه إلى أنّ جنس الأنواع الأربعة معلّل بالكائنيّة... 498

في الردّ على مذهب أبي هاشم وأتباعه... 498

المسألة السادسة : في المتى

المتى هي نسبة الشيء إلى الزمان أو طرفه بالحصول فيه أو في طرفه... 499

المتى ينقسم إلى حقيقي وغير حقيقي... 499

في الفرق بين المتى الحقيقي والأين الحقيقي... 499

الزمان مقدار الحركة من حيث التقدّم والتأخّر العارضين لها... 499

في بيان الفرق بين تقدّم المسافة وتقدّم الحركة... 499

إنّ للزمان معنيين... 500

الأوّل : أمر موجود في الخارج غير منقسم... 500

الثاني : أمر متوهّم لا وجود له في الخارج... 500

المتى إنّما تعرض بالذات للمتغيّرات وتعرض لغيرها بالعرض... 500

إنّ وجود معروض المتغيّرات وعدمه لا يفتقر إلى الزمان... 500

إنّ هذه النسبة عارضة للنسبتين... 501

ص: 567

الطرف عبارة عن الآن الذي هو طرف الزمان... 501

وجود الطرف فرضي كوجود النقطة في الجسم... 501

في وقوع المعارضة في المسألة وجواب المحقّق الطوسي عنها... 501

إنّ الزمان حادث ؛ لأنّه من جملة العالم الذي هو حادث... 502

المسألة السابعة : في الوضع

إنّ الوضع من جملة الأعراض النسبيّة... 502

إنّ لفظ الوضع يقال على معان بالاشتراك... 502

منها : كون الشيء بحيث يشار إليه إشارة حسّيّة... 502

ومنها : هيئة تعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه... 502

قد يقع التضادّ في الوضع... 502

وقد يقع فيه شدّة وضعف... 502

المسألة الثامنة : في الملك

قد يطلق على الملك الجدة... 503

في تعريف الملك وأقسامه... 503

المسألة التاسعة والعاشرة : في مقولتي الفعل والانفعال

الفعل هو حالة تحصل للشيء بسبب تأثيره في غيره... 503

الانفعال هو حالة تحصل للشيء بسبب تأثّره عن غيره... 503

اختلافهم في ثبوت هاتين المقولتين عينا وذهنا... 503

ذهاب الأوائل إلى ثبوتهما عينا... 503

في بيان أنّ المذهب الحقّ هو ثبوتهما ذهنا... 504

في توضيح حجّة المحقّق الطوسي والإشكال عليها... 504

خاتمة هذا الجزء... 504

ص: 568

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.