القواعد الفقهيّة المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء السادس

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 6

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين

إنا لله وإنا إليه راجعون

لقد فاجأنا عند طبع هذا المجلد - المجلد السادس - من كتاب « القواعد الفقهية » القضاء الحاتم بمصيبة الدنيا والدين ، والكارثة الملمة بجامعة المسلمين ، وفات فقيد الأمة الإسلامية المؤلف قدس سره ونسأل اللّه تعالى ان يعوض الأمة الإسلامية عن هذه الخسارة الكبرى بأفضل العوض. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، لا راد لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، رضى برضاه ، وتسليما لأمره وقضائه.

أبيات في تاريخ وفات الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد البجنوردي قدس سره تفضل بها من النجف الأشرف سماحة الحجة السيد موسى آل بحر العلوم دامت بركاته :

قواعد الفقه بقت قائمة *** آثارها على مرور الزمن

لم يبلها الدهر لأنها على *** أساس منتهى الأصول تبتنى

قد أصبحت بعد أبي مهديها *** موارد العقول ورد الألسن

فقلت لما أن قضى مؤرخا *** راح وتبقى حسنات الحسن

1395 ه - ق

ص: 5

فهرس الإجمالى

56 - قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضاً ... 9

57 - قاعدة الزعيم غارم ... 97

58 - قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء ... 177

59 - قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم ... 221

ص: 6

56 - قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا

اشارة

ص: 7

ص: 8

قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « لا رهن إلاّ مقبوضا ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (2).

الثاني : رواية محمّد بن قيس عن ابي جعفر علیه السلام قال : « لا رهن إلاّ مقبوضا ». (3)

وما رواه العيّاشي في تفسيره ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « لا رهن إلاّ مقبوضا » (4).

ص: 9


1- (*) « ترجمه وتحقيق قاعدة فقهي لا رهن إلاّ مقبوضا » ، بررسى راشدي فرد ، ( ماجستير ) ، كلّية الهيات ، جامعة طهران ، 1373.
2- البقرة (2) : آية 283.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 176 ، ح 779 ، باب الرهن ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 123 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 1.
4- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 156 ، ح 525 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 124 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 2.

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

اشارة

ظاهر هذه الجملة في الرواية نفي حقيقة الرهن بدون القبض ، كما هو شأن لا النافية للجنس ، فبناء على ذلك يكون القبض من مقوّمات حقيقة الرهن ، وبدونه لا يتحقّق الرهن.

ولا بدّ في توضيح المرام من بيان أمور :

الأوّل : بيان حقيقة الرهن عرفا وشرعا.

فنقول : قد عرّفه بعض بأنّه وثيقة لدين المرتهن (1). وهذا التعريف له مأخوذ من المعنى اللغوي ، إذ هو في اللغة عبارة عن وضع شي ء عند شخص ليكون نائبا عمّا أخذ منه ، وهذا عبارة أخرى عمّا ذكر في القاموس في معنى الرهن ، قال فيه : الرهن ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك (2).

وأنت خبير بأنّ مرجع هذا إلى التعريف المذكور ، وينطبق على أخذ المرتهن الوثيقة من المديون لدينه.

وأيضا يقول في القاموس : وكلّ ما احتبس به شي ء فرهينة. (3) وهذا أيضا يرجع إلى ذلك التعريف.

والى ما ذكرنا يرجع ما ذكروه من الحبس ، والدوام ، والثبات في سائر كتب اللغة (4).

ص: 10


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 75 ، « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 94. ونسبه في « مجمع البحرين » ج 6 ، ص 258 إلى عرف الفقهاء
2- « القاموس المحيط » ج 4 ، ص 327 ( رهن )
3- المصدر
4- انظر : « المصباح المنير » ص 242 ، « الصحاح » ج 5 ، ص 2129 ( رهن ).

وهذا المعنى اللغوي الذي ذكرناه هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة أيضا ، فمن موارد اتّفاق العرف واللغة بل الشرع أيضا.

وخلاصة الكلام : أنّ الرهن شرعا وعرفا ولغة عبارة عمّا يستوثق به المرتهن الدائن من ماله ، وقد ورد هذا المعنى في باب جواز الارتهان والاستيثاق من ماله في عدة روايات :

منها : رواية عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن السلم في الحيوان والطعام ويرتهن الرجل بماله رهنا ، قال : « نعم استوثق من مالك » (1).

ومثله رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (2).

ومنها : رواية سماعة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن الرهن يرهنه الرجل في سلم إذا أسلم في طعام أو متاع أو حيوان : فقال علیه السلام : « لا بأس بأن تستوثق من مالك » (3). وروايات أخر بهذا المضمون (4).

فمنها : ما عن دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يكون الرهن إلاّ مقبوضا » (5).

وقال علیه السلام أيضا في رواية أخرى : « ولا بأس برهن الحلي والطعام والأموال كلّها

ص: 11


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 259 ، باب السلف في الطعام والحيوان وغيرهما ، ح 3936 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 1.
2- لم نعثر على رواية من داود بن سرحان بهذا المعنى ، ولعلّ سها قلمه الشريف حيث جاء في الوسائل بعد نقل رواية محمد بن مسلم : « وبإسناده عن داود بن سرحان. مثله ». أنظر : « وسائل الشيعة » ج 13. ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ذيل ج 2.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 261 ، باب السلف في الطعام والحيوان وغيرهما ، ح 3942 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 42 ، ح 179 ، باب بيع المضمون ، ح 67 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 4.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1.
5- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 82 ، ح 244 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 419 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 1.

إذا قبضت وإن لم تقبض فليس برهن » (1).

وعرّفه بعض بأنّه عبارة عن دفع العين للاستيثاق على الدين (2). وقيل بأنّه عقد شرع للاستيثاق على الدين.

وكلّ هذه التعاريف يرجع إلى معنى واحد ، وهو أنّه بالمعنى الاسم المصدري هو المعنى الأوّل ، وسائر التعاريف إمّا لبيان المعنى المصدري ، أو لبيان ما ينشئ به هذا المعنى. ولا يهمّنا بيانها وشرحها والنقض والإبرام فيها بعد وضوح المقصود منها.

وأمّا « القبض » وأنّه ما المراد منه؟ وإن بسطوا الكلام فيه في الكتب المفصّلة ، ولكنّ الظاهر أنّه لا يحتاج إلى هذا التطويل.

لأنّ الظاهر من هذه الكلمة التي جعلها الشارع موضوعا لأحكام - من قبيل كون تلف المبيع قبل تحقّقه للمشتري من مال بائعه ، أو قالوا بشرطيته في صحّة السلم والسلف ، أو بشرطيّته في صحّة الهبة وأمثال ذلك - هو كون المقبوض تحت سيطرة القابض ، بحيث أن يكون له منع كلّ أحد من التصرّف فيه.

فمعنى قوله علیه السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » عدم تحقّق الرهن شرعا قبل أن يكون مقبوضا للمرتهن ، أي لا يترتّب عليه آثار الرهن الصحيح وأحكامه إلاّ بعد أن يقبض المرتهن العين المرهونة عن الراهن ، ويخرج عن تحت سلطنة الراهن ويدخل تحت سيطرة المرتهن.

ثمَّ إنّه وقع الكلام في أنّ القبض على تقدير اشتراط الرهن به هل دخيل في ماهيّته وحقيقته ، أو شرط شرعي لصحّته من دون دخله في تحقّق حقيقته وماهيّته ، أو شرط للزومه؟

ص: 12


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 82 ، ح 245 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 419 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 3 ، ح 2.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 11.

فبناء على الأوّل لا يتحقّق مسمّى الرهن لغة وعرفا إلاّ بعد حصول القبض من طرف المرتهن.

وبناء على الثاني يحصل المسمّى بدونه ، ولكن شرعا لا يترتّب آثار الشرعيّة عليه إلاّ بعد حصول القبض.

وبناء على الثالث - هو عدم اشتراط الرهن بالقبض أصلا لا مسمّاه ولا صحّته بل لزومه فقط - فالرهن قبل القبض صحيح وتترتب عليه آثاره إلاّ أنّه جائز لكلّ واحد من الراهن والمرتهن ولا يحصل اللزوم إلاّ بالقبض.

وهناك قول آخر وهو عدم دخل القبض لا في صحّته ولا في لزومه ، وهو المحكي عن جماعة من أعاظم الفقهاء منهم الشيخ قدس سره في أحد قوليه (1) ، والعلاّمة (2) ، وولده (3) ، وابن إدريس (4) ، والمحقّق (5) والشهيد (6) الثانيان ، وجماعة أخرى (7) ، بل نسبه في السرائر إلى أكثر المحصّلين (8) ، وفي كنز العرفان إلى المحقّقين (9).

أمّا القول الأوّل أي كون القبض داخلا في ماهية الرهن وحقيقته ومسمّاه ، فيوجّه بأنّ حقيقة الرهن هو كون الشي ء وثيقة عنده لحفظ ماله ، بحيث لو لم يؤدّ المديون يستوفي دينه منه ، فلا يذهب ماله من البين.

وأنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يتحقّق إلاّ بالقبض الخارجي لا باستحقاق القبض

ص: 13


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 223 ، المسألة : 5.
2- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 417.
3- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 25.
4- « السرائر » ج 2 ، ص 417.
5- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 94.
6- « المسالك » ج 1 ، ص 225.
7- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 99.
8- « السرائر » ج 12 ، ص 417.
9- كنز العرفان ، ج 2 ، ص 60.

لانّه ليس بأزيد من استحقاق الدين على المديون.

وبعبارة أخرى : كونه وثيقة عنده مناف مع عدم كونه مقبوضا له وكونه خارجا عن تحت يده وسلطانه.

وفيه : أنّ الرهن من العقود العهديّة ، وهو عبارة عن التعاهد بينهما أي الدائن والمديون أن يكون الشي ء الفلاني وثيقة دينه ، والقبض من طرف المرتهن وإقباض الراهن خارجا من آثار ذلك العقد والتعاهد ، وأحكامه كسائر العقود والمعاملات.

مثلا البيع عبارة عن التعاهد بين مالك المبيع والمشتري بأن تكون العين الفلاني ملكا للمشتري بإزاء ما يعطى للبائع من الثمن ، وأمّا قبض المشتري للمبيع أو قبض البائع للثمن فمن آثار تلك المعاملة ، بمعنى أنّه يجب على كلّ واحد من المتعاملين إقباض ما ملكه للآخر له ، لا أنّ القبض والإقباض جزء حقيقة البيع.

وهكذا الأمر في سائر العقود المملكة وغيرها كالنكاح مثلا ، فإنّ تمكين الزوجة للبضع ليس داخلا في حقيقة النكاح بل هو من آثاره وأحكامه ، فحقيقة الرهن وماهيته تحصل بنفس العقد الجامع لشرائطه التي نذكرها عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا القول الأخير ، أي عدم اشتراط صحّة الرهن بالقبض بل بعد وقوع العقد صحيحا ومن أحكامه وجوب اقباض الراهن العين المرهونة للمرتهن من دون توقّف صحّته على القبض.

فيردّه الأخبار المتقدّمة ، وعمدتها قوله علیه السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » في رواية محمّد بن قيس (1).

وقوله علیه السلام فيما رواه في دعائم الإسلام : « وإن لم يقبض فليس برهن » (2).

ص: 14


1- تقدّم في ص 9 ، رقم (2).
2- تقدّم في ص 12 ، رقم (1).

ويمكن أيضا الاستدلال بظاهر قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1).

لأنّه إن لم يكن القبض دخيلا في صحّة الرهن يلزم ان يكون القيد مستدركا ، وكون القيد للإرشاد إلى أنّ كمال التوثّق لا تحصل بدونه خلاف ظاهر التقييد ، بل ظاهره أنّ الرهن المشروع هو أن تكون العين المرهونة مقبوضا.

وأيضا يدلّ على اشتراط صحّة الرهن بالقبض ما رواه العيّاشي في تفسيره عن محمّد بن عيسى ، وقد تقدّم.

ويؤيّد ما ذكرنا حكاية الجواهر عن الطبرسي الإجماع على الاشتراط (2).

فبناء على ما ذكرنا يكون أصحّ الأقوال هو القول الثاني ، أي كونه شرطا لصحة الرهن.

فيتفرع على هذا فروع.

منها : أنّه لو قبضه من غير إذن الراهن لا يصحّ الرهن ، لكونه بدون إذنه يكون قبضا غير مشروع ، ويكون وجوده كالعدم.

وذلك من جهة أنّ القبض بناء على هذا يكون كالقبض في الصرف من متمّمات العقد ، وبه يكون العقد صحيحا ومؤثّرا ، وقبله لا أثر له ولا استحقاق للمرتهن ، فيكون قبضه وأخذه قبل ذلك تصرّفا في مال الغير بدون إذنه وطيب نفسه ، فيكون حراما ، فلا يترتّب عليه الأثر.

وكذلك لو أذن في قبضه لكن رجع عن إذنه قبل أن يقبض المرتهن ، أي قبض المرتهن بعد رجوع الراهن عن إذنه يكون كالعدم ، لأنّه بعد رجوعه ينعدم الإذن

ص: 15


1- البقرة (2) : 283.
2- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 99.

فيكون من قبيل القبض بدون الإذن.

نعم لو كان الرجوع عن إذنه بعد قبض المرتهن فلا أثر لرجوعه ، لأنّ رجوعه يكون بعد تماميّة العقد وصيرورة المرتهن ذا حقّ ، لوقوع العقد صحيحا بعد الإذن ووجود آثاره التي منها صيرورة المرتهن ذا حقّ على العين المرهونة ، ورجوعه بعد ذلك ليس من أسباب سقوط حقّه.

ومنها : أنّه لو مات الراهن ، أو جنّ ، أو أغمي عليه قبل القبض وبعد وقوع العقد ، فلو قلنا بأنّ القبض شرط صحّة العقد - كما اخترناه - فلا يصحّ العقد ، بل يبطل ولا يكون له أثر.

أمّا بناء على أن يكون شرط اللزوم لا الصحّة ، فهل يبطل بوقوع أحد هذه الأمور ، لأنّه بناء على هذا يكون من قبيل العقود الجائزة التي تبطل بخروج أحد المتعاقدين عن صلاحيّة كونه طرفا للمعاملة بأحد هذه الأمور أو بغيرها.

والسرّ في ذلك : أنّ العقود الجائزة متقوّمة بالإذن ، ولذلك قد يعبّر عنها بالعقود الإذنيّة ، فإذا خرج عن صلاحيّة الإذن بموت أو جنون أو إغماء أو غير ذلك ، فلا يبقى إذن فيكون باطلا قهرا ، أو لا يبطل ويرجع أمره إلى وليّه أو وارثه ، فإن أقبض أو أذن في القبض يكون صحيحا ، وإلاّ يكون باطلا؟

والظاهر هو الثاني ، لأنّ المفروض أنّ عقد الرهن وقع صحيحا وترتّب عليه آثاره ، أي صارت عين المرهونة وثيقة عند المرتهن ، ولا تخرج عن كونها وثيقة إلاّ بفسخ الراهن ، أو من يقوم مقامه عن وليّه أو وارثه ، فالبطلان لا وجه له.

وقياسه على العقود الجائزة بالذات ، كالوكالة والعارية والوديعة لا وجه له ، لما ذكرنا من أنّها متقوّمة بالإذن وإذا خرج عن صلاحيّة الإذن فبقاء يبقى بلا إذن ، ولا يمكن بقاؤه بدون الإذن.

وما نحن فيه ليس كذلك ، بل بناء على أن يكون القبض شرط اللزوم لا الصحّة

ص: 16

فالرهن صحيح ولكن ليس بلازم ، فيكون كالمعاملة اللازمة التي فيها الخيار ، فيجوز للوارث أو الولي فسخه ، وهذا غير بطلانه بنفسه من دون الفسخ.

وأمّا التفصيل بين موت الراهن والمرتهن ببطلانه في الأوّل ، وانتقال حقّ القبض إلى الورثة في الثاني ، بأن يقال : إنّ العين المرهونة وثيقة الدين ، والدين باق ، فلورثة المرتهن حقّ استيفاء الرهن للاستيثاق من مالهم فهذا حقّ ينتقل إليهم. وأمّا الراهن إذا مات فينتقل المال إلى ورثته وليس للمرتهن حقّ عليهم ، والمفروض أنّ الرهن غير لازم ، لأنّ القبض شرط اللزوم ولم يحصل فقهرا يبطل الرهن.

ففيه : أنّ هذا المال ، أي العين المرهونة وقع متعلّقا لحقّ المرتهن لصحّة الرهن على الفرض ، فله حقّ الإبقاء ما لم يفسخ ورثة الراهن ، ولا يبطل من عند نفسه. وجواز فسخهم لأجل أنّ المفروض أنّ القبض شرط اللزوم وهو لم يحصل ، وإلاّ مقتضى كون الرهينة متعلّقة لحقّ المرتهن عدم جواز استرجاعهم لها ، لأنّه تصرف ينافي حقّ الغير وإتلاف له ، فلا فرق بين موت الراهن والمرتهن.

فرع : لو قبض المرتهن الرهن ثمَّ أخذه الراهن بإذن من المرتهن أو بدون إذنه ، أو صار في يد غيرهما بإذن منهما أو بدون الإذن ، لا يبطل الرهن وإن قلنا بأنّ القبض شرط في صحّة الرهن.

وذلك لأنّ الشرط حصول القبض لا استدامته وقد حصل. وكذلك لو قلنا بأنّه شرط للزومه لا لصحّته ، فاللزوم يحصل أيضا بتحقّق القبض ولا يعتبر دوامه.

وادّعى في الجواهر عدم وجدانه الخلاف في هذا الحكم ، وقال بعد ذلك : بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعلّ المحكي منهما مستفيض أو متواتر (1). نعم للمرتهن استحقاق مطالبته ممّن كان بيده ، لأنّه متعلّق حقّه ولا يسقط حقّه بصيرورته في يد

ص: 17


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 108.

غيره ، سواء كان بإذنه أو بدون إذنه.

وعلى كلّ حال ليس استدامة القبض شرطا للصحّة ، وإن قلنا بأنّ أصل القبض شرطا لها ، للأدلّة المقدّمة من الآية والروايات والإجماعات.

وذلك لما ذكرنا من تحقّق الإجماع على عدم شرطيّة الاستدامة ، بل يكفي في تحقّق الصحّة أصل وجود القبض ، فلو عاد الرهن إلى الراهن أو تصرّف فيه تصرّفا لا ينافي كونه رهنا لم يخرج عن حقّ الرهانة ، لعدم ما هو مسقط لهذا الحقّ بمثل هذه الأمور.

فرع : ولو رهن ما هو في يد المرتهن وتحت استيلائه ، ولو كانت يده واستيلاؤه غصبا لزم الرهن ، سواء قلنا بأنّ القبض شرط للصحّة أو شرط للزوم ، وذلك لحصول الشرط أي القبض ، فأخذه من المرتهن وإقباضه له ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

ولا ينافي ذلك ما تقدّم مت عدم صحّة الرهن لو كان القبض بدون إذن الراهن ، لأن القبض بدون الإذن بمنزلة العدم ، خصوصا على تقدير كونه في يد المرتهن غصبا ، أي غصبه بعد عقد الرهن لا ما غصبه قبل الرهن ، لأنّه في الأخير إذا ورد الرهن على ما هو المغصوب يخرج عن كونه غصبا للزومه مع الرضا بالبقاء ، وذلك لملازمة إرهان ما في يد المرتهن سواء كان غصبا أو وديعة أو عارية مع الإذن والرضا بكونه في يده بقاء أي من حين وقوع الرهن ، فلا يحتاج إلى الأخذ وإقباضه من جديد ، لما ذكرنا من كونه من قبيل تحصيل الحاصل.

وإلاّ لو لم يكن كما ذكرنا ، وكان الرضا والإذن بقاء أيضا بمنزلة العدم ، فلا يفيد في تصحيح الرهن ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره من عدم تناول دليل شرطية القبض لمثل المقام (1).

ص: 18


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 109.

لأنّه بعد أن فرضنا أنّ مثل هذا القبض بمنزلة العدم في نظر الشارع مع أنّ القبض شرط شرعي لصحّة الرهن ، فكيف يمكن القول بعدم تناول دليل الشرطيّة لمثل المقام ، وهل هذا إلاّ التناقض؟!

فرع : لو رهن مالا غائبا عن مجلس الرهن ، وقال مثلا أرهنتك المال الفلاني الموجود في بلد آخر غير البلد الذي هما فيه ، فلا يتحقّق الرهن شرعا إلاّ بإقباض نفسه ذلك المال للمرتهن ، أو بإقباض وكيله إن قلنا بأنّ القبض شرط الصحّة ، ولا يصير لازما إلاّ بإقباضه كذلك هو ، أو وكيله إن قلنا بأنّه شرط اللزوم.

وذلك من جهة أنّ القبض الذي قلنا أنّه شرط الصحّة أو اللزوم عبارة عن استيلاء القابض ووقوعه تحت يده وسيطرته ، فما دام الرهن يكون غائبا كيف يستولي عليه كي يحصل القبض.

نعم لو كان للمرتهن وكيل في بلد المال ويأمره قبض المال هناك خصوصا إذا كان للراهن أيضا وكيل يقبضه إيّاه ، فلا شكّ في حصول القبض. ولكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام.

وأيضا لو كان هذا المال قبل إيقاع عقد الرهن في قبض المرتهن فأوقعا الرهن فلا يحتاج إلى قبض جديد ، وإن كان فعلا حال وقوع الرهن غائبا. ولكن هذا أيضا خارج عن محلّ الكلام.

وذلك لما تقدّم أنّ هذا من قبيل استدامة قبض الحاصل ، فيكون تجديده من قبيل تحصيل الحاصل ، فحيث أنّه مع غياب الرهن عن مجلس عقد الرهن لا يمكن تحقّق القبض المعتبر في صحّته أو لزومه ، إلاّ في الموارد التي ذكرنا خروجها عن محلّ البحث ، فلا يصحّ أو لا يكون لازما على القولين في اعتباره فيه.

ص: 19

فرع : لو كان ما جعله رهنا مشاعا فلا يجوز تسليمه إلى المرتهن إلاّ برضاء شريكه ، لأنّه تصرّف في مال الغير فلا يجوز بدون رضاه ، نعم لو كان المرتهن هو نفس الشريك فلا يأتي هذا ، وهو واضح.

ثمَّ إنّ الراهن لو سلّمه إلى المرتهن ، فهل يحصل القبض بذلك وإن أثم بتسليم حصّة الغير بدون إذنه ورضاه ، أم لا؟ لا يبعد كفاية ذلك في حصول القبض المعتبر في الصحّة أو اللزوم ، للصدق العرفي وحصول الاستيثاق ، غاية الأمر لا يجوز للمرتهن التصرّف فيه بدون إذن شريك الراهن ، كما أنّه كان لا يجوز له التصرّف فيه بدون إذن الراهن أيضا وإن كان له وحدة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون مال المشاع المذكور منقولا أو غير منقول ، وأمّا كون التسليم ممنوعا شرعا والمانع الشرعي كالمانع العقلي فكأنّه لم يسلم.

ففيه : أنّ الممنوع شرعا هو تسليم حصّة الشريك ، وهذا منهي عنه وحرام ، فمتعلّق الحرمة والجواز في الحقيقة شيئان وإن كانا يوجدان بفعل واحد ، ولذلك لو باع هذا المال المشاع يصحّ في حصّة نفسه ، ويكون فضوليّا بالنسبة إلى حصّة الآخر ، فلا مانع من وقوع القبض الصحيح وإن صدر منه حرام أيضا. نعم لو كان الإقباض عبادة لما يقع لانضمامه مع المحرّم ، فلا يمكن فيه قصد القربة مع الالتفات إلى انضمامه على ما هو محرّم ، لأنّه من قبيل باب اجتماع الأمر والنهي بناء على كون التركيب بين متعلّقيهما انضماميّا.

وما ذكرنا بناء على دلالة النهي في المعاملات على الفساد ، وأمّا بناء على العدم فالقبض وإن كان منهيّا عنه لكنّه صحيح ، فيترتّب عليه أثره وهو اللزوم أو الصحة بناء على القولين في المسألة.

هذا كلّه لو كان القابض هو نفس المرتهن الذي هو غير الشريك ، أمّا لو وكّل الشريك في القبض ، أو كان المرتهن هو نفس الشريك فلا مانع ويحل القبض الصحيح

ص: 20

قطعا ، والسرّ فيه واضح لا يحتاج إلى البيان والإيضاح.

فرع : لا إشكال في صحّة رهن الأعيان المملوكة التي يصحّ بيعها ويمكن قبضها ، سواء كانت مشاعة أو منفردة.

أمّا لو رهن دينا فهل ينعقد ، أم لا؟

فيه خلاف ، والمشهور قائلون بعدم الصحّة ، بل ادّعى عليه الإجماع في السرائر (1) ، والغنية (2).

وعمدة ما ذكروا في وجه عدم صحة جعل الدين رهنا بعد الإجماع انصراف أدلّة اعتبار القبض في صحة الرهن أو لزومه عن مثل التديّن قبل قبضه ، فقوله علیه السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » وكذلك قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) لا يشمل رهن الدين قبل قبضه.

وأمّا بناء على عدم اعتبار القبض لا في الصحّة ولا في اللزوم ، فالعمدة فيه أنّ الرهن بعد ما كان الغرض من تشريعه الاستيثاق من ماله ودينه - كما هو وارد في أدلّة تشريعه من الروايات المتعدّدة أنّه علیه السلام يقول : « لا بأس به استوثق من مالك » (3) - فلا بدّ وأن يكون فيما يمكن قبضه قبضا حسّيا ، وإن لم يكن القبض فعلا شرطا في صحّته أو لزومه ، ولذلك ترى أنّ القائلين بعدم اعتبار القبض لا في صحّته ولا في لزومه يقولون مع ذلك باشتراط كونه عينا ، وهم كثيرون.

وإذا كان الأمر كذلك وانصرف عقد الرهن إلى ما يمكن قبضه قبضا حسّيا - إذ لا شكّ في أنّ الغرض من الرهن الذي هو الاستيثاق من دين المرتهن يحصل من العين

ص: 21


1- « السرائر » ج 2 ، ص 417.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 592.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 1 و 4 و 9.

لا من الدين إلاّ قليلا - فدليل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) لا يشمل غير مورد ما يمكن قبضه قبضا حسّيا.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا وجوها للزوم كون المرهون عينا خارجيّا ، كلّها غير خال عن الخلل ولذلك تركنا ذكرها.

فرع : لا يجوز رهن ما لا يملك كالخمر والخنزير لعدم حصول الغرض عن الرهن به ، إذ الغرض من الرهن استيفاء المرتهن دينه من العين المرهونة عند عدم إمكان الوصول إلى الراهن ، وهذا لا يمكن فيما لا يملك. وكذلك فيما لا يملكه الراهن بدون اجازة مالكه ، لعين ما ذكرنا من عدم استيفاء دينه منه بدون إجازة مالكه. وكذا لا يجوز رهن الحرّ لعين الدليل ، أي لعدم جواز بيعه. وكذا لا يجوز رهن الوقف لعدم جواز بيعه. وكذا لا يجوز رهن الأراضي الخراجيّة لعدم جواز بيعها.

نعم لو كانت فيها آثار من الأبنية والأشجار ، وقلنا بجواز بيعها تبعا للآثار ، فلا مانع من الإرهان بها أو جعل نفس الآثار الموجودة فيها رهنا دون الأراضي المشغولة بها ، فلا مانع.

وخلاصة الكلام : أنّ الغرض من تشريع الرهن هو أنّه لو امتنع الاستيفاء من الراهن لفلس أو لغيره يستوفي المرتهن دينه من العين المرهونة ، فلا بدّ وأن يكون قابلا للبيع كي يستوفي منه ، فكلّ ما لا يصحّ بيعه لأحد الأسباب المذكورة أو لغيرها فلا يصحّ رهنه.

فرع : ولو رهن ما هو المشاع بينه وبين غيره في عقد واحد نفذ في حصّته ، ويقف في حصّة الغير على إجازته ، ويكون حال ما لو رهن مال لمنفرد مع مال آخر لآخر في عقد واحد.

ص: 22


1- المائدة (5) : 1.

والإشكال عليه - بأنّ العقد واحد ، فلا يمكن أن يكون بالنسبة إلى بعض العين المرهونة أو بالنسبة إلى إحدى العينين صحيحا ، وبالنسبة إلى البعض الآخر أو العين الأخرى باطلا أو موقوفا على إجازة المالك - ليس إلاّ الإشكال المعروف في تبعّض الصفقة في البيع ، والجواب في كلا المقامين واحد ، وهو انحلال العقد بالنسبة إلى كلّ من المبيع والمرهون.

فرع : الظاهر عدم جواز رهن المصحف أو العبد المسلم عند الكافر. لقوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1) في رهن العبد.

وأمّا المصحف فإنّه وإن لم يرد فيه نصّ في المقام ولا في باب البيع إلاّ أنّ الأصحاب تمسّكوا لعدم جواز بيعه من الكافر وكذلك رهنه بالأولويّة القطعيّة.

والإنصاف أنّه كذلك ، لأنّ تسلّط الكافر على القرآن أعظم وهنا للإسلام من تسلّطه على العبد المسلم ، بل يمكن أن يقال بعدم جواز بيع كتب الأحاديث المرويّة عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو عن أحد الأئمّة المعصومين ، وكتب الأدعية والزيارات ككتاب الصحيفة السجادية وأمثالها.

وأمّا ما ذكره بعض أعاظم الفقهاء والأساطين كالشيخ (2) ، والمحقّق (3) ، والعلاّمة (4) ، والشهيدين (5) من أنّه يصحّ رهن ما ذكر ، ويوضع على يد مسلم فرارا من تسلّط الكافر عليه ، لأنّ استيفاء الكافر دينه ببيع المسلم أي المالك أو من يأمره المالك بذلك ، ومثل هذا لا يعدّ من تسلّط الكافر على المذكورات ، وليس سبيلا منه عليها.

ص: 23


1- النساء (4) : 141.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 232.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 77.
4- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 158.
5- الشهيد الأوّل في « الدروس » ج 3 ، ص 390 ، والشهيد الثاني في « المسالك » ج 1 ، ص 227.

فيه : أنّه لا شبهة في أنّ الرهن يوجب ثبوت حقّ للمرتهن على المرهون المسمّى بحقّ الرهانة ، وهو الذي يكون سببا لمنع المالك عن التصرّفات في العين المرهونة. ويمكن أن يقال ثبوت مثل هذا الحقّ للكافر على العبد المسلم سبيل عليه ، كما أنّ ثبوته على المصحف يكون أيضا كذلك ، سواء كانت العين المرهونة في يد مسلم ، أو كانت في يد نفس الكافر.

فرع : لو رهن ما يسرع إليه الفساد - أي قبل حلول الدين - فتارة يمكن منع تطرّق الفساد إليه ، وأخرى لا يمكن. أمّا في الصورة الأولى فالرهن صحيح ، غاية الأمر يجب على الراهن إصلاحه والمنع عن تطرّق الفساد إليه ، وذلك لأنّ مئونة حفظ ماله عليه. وأمّا في الصورة الثانية فإن اشترط على الراهن جواز بيعه عند ما أحسّ بأنّه لو بقي يتطرّق إليه الفساد ويستوفي دينه عن الثمن ، أو يجعل ثمنه رهنا عنده ، فلا مانع أيضا لحصول الاستيثاق بذلك ، كما أنّه لو شرط الراهن عدم بيعه فباطل.

وأمّا لو لم يكن شرط في البين من الطرفين ، لا من المرتهن على البيع ، ولا من الراهن على عدم البيع ، فالظاهر هي الصحة وذلك لإمكان أن يقال بأن يجبره الحاكم على البيع إن لم يكن هو نفسه مقدّما على البيع ، جمعا بين الحقين ، أي حقّ الراهن والمرتهن.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الحال معلوما قبل الرهن ، أو طرأ بعد الرهن ما يقتضي فساد العين المرهونة ، لأنّه على جميع التقادير يجب بيع الراهن وجعل ثمنه رهنا ، جمعا وحفظا للحقّين ، سواء كان سبب طروّ الفساد قبل حلول أجل الدين معلوما ، أو حصل السبب بعد الرهن.

نعم في صورة شرط عدم البيع في الصورة الأولى - أي فيما إذا كان سبب إسراع الفساد معلوما من أوّل الأمر - فالأظهر هو البطلان ، لأنّ ذلك الشرط خلاف ما هو

ص: 24

المقصود والغرض من الرهن ، وهو استيثاق المرتهن من ماله ، فيكون الرهن باطلا من أوّل الأمر.

وأمّا في الصورة الثانية - أي فيما حصل سبب إسراع الفساد إلى العين المرهونة بعد الرهن - فلم يكن الشرط خلاف مقتضى عقد الرهن ووقع صحيحا ، والاستيثاق بقاء يحصل بإجبار الراهن على البيع وجعل بدله رهنا.

كلّ ذلك فيما إذا كان الإسراع إلى الفساد معلوما ، إمّا وجدانا أو ثبت بأمارة شرعيّة وظنّ معتبر. وأمّا الظنّ غير المعتبر فهو في حكم الشكّ ، بل هو هو إلاّ أن يكون بمرتبة ينافي الاستيثاق ، فللمرتهن رفع أمره إلى الحاكم وإجباره على البيع وجعل ثمنه رهنا ، أو المرتهن يأخذه ويبدله برهن آخر.

نعم لو شرط عدم البيع في هذه الصورة الثانية حتّى على تقدير الفساد فأيضا يكون الرهن باطلا ، لأنّ هذا الشرط خلاف مقتضى عقد الرهن يقينا ، فالشرط فاسد قطعا. وأمّا فساد العقد مبنى على كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد أم لا. ولا بدّ من القول بفساد العقد في مثل هذا المقام ، لأنّ هذا الشرط مناف مع ما هو مضمون العقد ، فمرجع هذا الشرط إلى عدم قصد مضمون العقد.

فرع : يجوز أن لا يكون الرهن ملكا للراهن ، بل له أن يرهن مال الغير بإجازة مالكه ، فيبيعه المرتهن بعد حلول أجل الدين إن لم يؤدّه الراهن المديون عصيانا أو لعدم تمكّنه من الأداء.

ثمَّ إنّه هل لمالكه الرجوع عن إذنه بعد وقوع الرهن بإذنه قبل حلول الأجل ، أو بعده ، أم لا؟ وجهان ، بل قولان (1).

ص: 25


1- انظر : « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 125 - 126.

وجه الأوّل : هو أنّ المالك مسلّط على ماله ، وليس ما يوجب قصر سلطنته وعدم تمكّن رجوعه كما في موارد العارية ، له أن يستردّ ماله متى شاء ، وليس ملزما ببقائه وإبقائه بملزم شرعي أو عقلي.

ووجه الثاني : هو أنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه ، فإذنه في كونه رهنا ملازم عرفا مع التزامه بكونه عند المرتهن وثيقة لدينه الى حلول الأجل ، فإذا لم يؤدّ المديون دينه - عصيانا أو لعدم تمكّنه وتعذّر الأداء لفلس أو لغيره - فله أن يبيع الرهن ويستوفي دينه منه ، فمثل هذا الالتزام من لوازم الإذن في رهن ماله عرفا. ولا بدّ في حصول الغرض من الرهن من القول بلزوم هذا الالتزام وعدم جواز الرجوع عنه ، وإلاّ يكون الإذن وجعله رهنا لغوا وبلا فائدة ، وبناء العرف والعقلاء على لزوم هذا الالتزام الضمني.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الوجه الثاني.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه كلّها وجوه استحسانيّة لا يمكن رفع اليد بها عن سلطنة المالك ، وإجباره على عدم التصرّف في ماله ببيع أو هبة أو ردّه إلى ما كان من محلّ استعمالاته في حوائجه. نعم لو لم يرجع عن إذنه إلى أن باعه المرتهن لاستيفاء دينه ، فله الرجوع إلى الراهن المديون مخيّرا بين أخذ قيمته التي باعه المرتهن بتلك القيمة ، وبين أخذ قيمته الواقعيّة.

فلو كان الثمن الذي به باع الرهن أقلّ من قيمته الواقعيّة ، فله الرجوع إلى الراهن بقيمته الواقعيّة ، كما أنّه لو كان الثمن أزيد من قيمته الواقعيّة له أخذ الثمن ، والوجه في جميع الصور معلوم.

فرع : لو رهن عصيرا فصار خمرا عند المرتهن فلا شكّ في زوال ملكيّة الراهن ، لأنّ الشارع أسقط ماليّة الخمر وملكيّته ولكن حقّ الاختصاص باق ، فله تخليله

ص: 26

ومنع غيره عنه ، فإن كان لهذا الحقّ اعتبار عند العقلاء بحيث يمكن أن يكون وثيقة لدين المرتهن فلا يبطل الرهن ويبقى وثيقة عنده ، وأمّا إذا لم يكن قابلا للاستيثاق به فبقاؤه هنا لا معنى له ويكون لغوا ، فهل للمرتهن مطالبة عوضه كي يكون رهنا عنده أم لا؟

الظاهر أنّه ليس له مطالبة ذلك ، لأنّ الذي وقع عليه الرهن صار تالفا أو بمنزلة التالف ، ولم يشترط المرتهن أن يعوّضه شيئا آخر يكون رهنا عند تلف الأوّل بدلا له ، فليس في البين شي ء آخر يلزم الراهن بذلك.

نعم لو انقلب إلى الخلّ بعد ما صار خمرا فهل يبقى على كونه رهنا ، أو يعود رهنا بعد ما خرج ، أو كونه رهنا يحتاج إلى عقد جديد لبطلان العقد الأوّل لعدم بقاء موضوعه وهو ملكيّة العين المرهونة والزائل لا يعود؟ وجهان.

وجه بقائه رهنا هو أن الملكيّة وإن زالت لإسقاط الشارع ماليّة الخمر ، ولكن حقّ الأولويّة باق ، ولذا لو أخذه بدون رضاء المالك يكون غصبا ، فإن رجع إلى كونه مالا يرجع إلى كونه ملكا لمن زال ملكيّته ، فكذلك بالنسبة إلى كونه رهنا أنّها تعود إلى حالتها الأولى ، وكونها رهنا بعد زوال تلك الحالة بواسطة إسقاط الشارع ماليّتها.

وبعبارة أخرى نقول : فكما أنّ الأولويّة باعتبار الملك باقية وإن خرجت عن الملك ، فيعود إلى كونها ملكا له بعد عودها إلى الملكيّة بواسطة صيرورتها مالا ، فكذلك باقية باعتبار كونها وثيقة ورهنا وإن خرجت عن كونها وثيقة ورهنا بواسطة سقوطها عن الملكيّة ، فتعود بعودها إلى الملكيّة.

وفيه : أنّ هذا قياس مع الفارق ، والفرق هو أنّ الملكيّة ، لا تزول بجميع مراتبها ، بل تبقى مرتبة ضعيفة منها تسمّى بالأولويّة ، ولذلك لو أخذه غيره منه بدون إذنه أو رضائه يكون غصبا ، ولذلك لو عاد ماليّته يصير ما كان مملوكا له بالمرتبة الضعيفة ملكا تامّا قابلا لجميع التصرّفات الجائزة تكوينا وتشريعا ، بخلاف الوثاقة والرهانة

ص: 27

فإنّها تزول بجميع مراتبها ولا يبقى منها شي ء ، فلا بدّ لرجوعها من سبب جديد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التوثّق أيضا لا يزول بجميع مراتبه ، بل تبقى مرتبة ضعيفة منه وهي إمكان تحصيل ماله ودينه منها ولو بتخليلها ، وهذا عند العرف والعقلاء مرتبة من الاستيثاق من ماله ، فإذا رجع إلى كونه ملكا يرجع إلى كونه رهنا ووثيقة تامّة. هذا وجه بقائه.

وأمّا وجه عدم بقائه هو زوال الملكيّة ، فقهرا يزول كونها رهنا ووثيقة. وممّا ذكرنا يظهر لك ما هو الحقّ في المقام ، وهو بقاء مرتبة من الاستيثاق بعد أن صار العصير المرهون خمرا ، بل المعروف هو أنّ كلّ عصير أرادوا أن يجعلوه خلاّ صار أوّلا خمرا ثمَّ يصير خلاّ ، فلو قلنا إنّ الرهانة تزول بصيرورة العصير خمرا ولا تعود بصيرورته خلاّ ، يلزم منه عدم صحة جعل العصير - الذي بناؤهم على جعله خلاّ - رهنا من أوّل الأمر ، لكونه لغوا لأنّه تزول ولا تعود ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

فرع : لو رهن على دينه مالا ، ثمَّ استدان من ذلك المرتهن دينا آخر ، جاز جعل ذلك الرهن رهنا على الدين الثاني أيضا ، فيكون رهنا على الاثنين. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين الثاني مساويا مع الدين الأوّل في القدر والجنس ، أو مخالفا معه في الاثنين ، أو في أحدهما.

وذلك من جهة أنّه كان له من أوّل الأمر أن يجعله رهنا على دينين في ذمّته لشخص ، فكذلك لا مانع من جعله رهنا عليهما بالتقديم والتأخير بأن يجعله على أحدهما ثمَّ يجعله على الآخر فيما بعد. ولا فرق أيضا بين أن يكون الدينان كلاهما موجودين في زمان الرهن الأوّل ، أو وجد الثاني بعد الرهن الأوّل كما هو المفروض والمذكور في المقام ، وجميع ذلك لعدم التنافي بين كونه رهنا أوّلا ، وبين جعله رهنا ثانيا على الدين الثاني.

ص: 28

إن قلت : إذا امتنع الراهن من أداء دينه الأوّل مثلا ، أو أفلس ، فحيث يجوز بيع الرهن لاستيفاء حقه فلو لم يزد قيمة الرهن على الدين الأوّل فلا يبقى محلّ للاستيثاق من الدين الثاني.

قلنا : أوّلا أنّه ينقض عليه بأنّه لو تلف الرهن قبل حلول الأجل أيضا لا يبقى محلّ للاستيثاق ، ولا شكّ في صحّة الرهن وإن تلف فيما بعد ، ولا يشترط في صحّة بقاء العين المرهونة إلى زمان حلول الأجل وإمكان استيفاء الدين ببيعها.

وثانيا : بأنّه يجوز جعلها رهنا على الاثنين من أوّل الأمر بعقد واحد يقينا وبلا خلاف ، مع أنّه لا فرق في ورود هذا الإشكال بينهما ، لأنّه فيما إذا كان الرهن لدينين بعقد واحد إذا حلّ أجل أحد الدينين قبل الآخر ولم يؤدّ الراهن لفلس أو غيره ، فللمرتهن بيعه واستيفاء دينه منه ، فلا يبقى موضوع للاستيثاق من دينه الآخر.

وثالثا : حيث أنّ المفروض أنّ الدين الأوّل والثاني من شخص واحد ، فإذا كانت العين المرهونة قيمتها وافية بكلا الدينين فيستوفي الاثنين ، وإن كانت أقلّ فيكون حاله حال الرهن الذي يكون قيمته أقلّ من الدين ، ولا إشكال في صحّته إجماعا ، لأنّه يستوثق بذلك الرهن شطرا من ماله.

فرع : الرهن لازم من طرف الراهن وجائز من طرف المرتهن ، وادّعى في التذكرة الإجماع على ذلك (1) وقال في الجواهر : بلا خلاف أجده فيه (2).

والدليل على ذلك - مضافا إلى الإجماع - أصالة اللزوم في جميع العقود العهديّة التي منها الرهن. وحيث التزم الراهن يكون ماله رهنا عند الدائن ووثيقة لماله ، فالتزامه بذلك يكون برعاية حفظ مال الدائن فيكون له حقّا على المديون ، فيجب

ص: 29


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 12.
2- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 221.

على المديون الوفاء بهذا الإلزام والوقوف عند ما التزم به ، فليس له التصرّف في العين المرهونة إلاّ بإذن المرتهن ولا إتلافها ولا نقلها بالنواقل الشرعيّة المنافية لحقّ المرتهن ، كلّ ذلك لأجل أنّ للمرتهن حقّ الاستيثاق من ماله بعد وقوع هذا العقد. وهذا معنى اللزوم من طرف الراهن.

وأمّا الجواز من طرف المرتهن من جهة أنّ لكلّ ذي حقّ إسقاط حقّه فللمرتهن أن يسقط حقّه - أي حقّ استيفاء دينه من الرهن - وله أن يبرئه فيسقط ما في ذمّته من الدين ، فلا يبقى محلّ وموضوع للرهن.

والحاصل : أنّ الراهن حيث التزم للمرتهن بإعطاء الوثيقة لدينه ، فأخذه من المرتهن أو التصرّفات المنافية لكونه وثيقة - من إتلافه أو نقله إلى الغير - لا يجوز بدون إذن المرتهن ، وإذنه في بعض الأحيان في مثل تلك التصرّفات المذكورة يكون كاشفا عن إسقاط حقّه ، أو إبرائه.

ثمَّ إنّه لو أبرأه عن بعض الدين الذي وقع الرهن عليه ، فهل يبطل الرهن بتمامه ، أو يبقى بتمامه ، أو يقسط بالنسبة إلى المقدار الباقي من الدين فيبقى ، والمقدار الساقط بالإبراء فيسقط؟ وجوه ، بل أقوال.

وكذلك تأتي هذه الاحتمالات أو الوجوه فيما لو أدّى بعض الورثة نصيبه من دين مورّثه ، فعلى التقسيط يلزم القول بفكّ نصيبه من العين المرهونة ، وعلى القول بعدم التقسيط وبقائه رهنا على الباقي من الدين لا ينفكّ شي ء من الرهن.

وأمّا احتمال فكّ الرهن بتمامه بأداء بعض الدين أو إبراء البعض ، فبعيد إلى الغاية ، لأنّ الغاية من الرهن هو الاستيثاق من جميع ماله ، لا من بعض دينه.

أقول : الظاهر هو التقسيط فيبطل الرهن بالنسبة إلى المقدار الذي أدّى من الدين ، أو أبرأه الدائن من ذلك المقدار ، وذلك من جهة أنّ ظاهر عقد الرهانة أنّ كلّ جزء من أجزاء هذه العين المرهونة مقابل لما يماثله من أجزاء الدين المشاعة ، فنصفه مقابل

ص: 30

الثلث وهكذا ، بمعنى أنّ المرتهن له أن يستوفي تمام دينه من تمام هذه العين المرهونة ، ونصفه من نصفه وهكذا ، فإذا استوفى نصفه أو ابرأ المديون عن نصف دينه ، فقهرا يبطل الرهن بالنسبة إلى ذلك المقدار ، لأنّ المفروض أنّه لم يبق لذلك المقدار موضوع كي يستوفي المرتهن حقّه من الرهن فينفكّ من العين المرهونة ما هو مقابل ذلك المقدار.

وأمّا احتمال كون مجموع الرهن مقابلا لكلّ جزء من أجزاء الدين ، بأن يكون كلّ جزء من أجزاء الرهن متعلّقا للدين ، فهذا احتمال غير مفهوم.

لأنّه إن أريد منه تعلّق تمام الدين بكلّ جزء من أجزاء العين المرهونة فهذا غير معقول ، لعدم إمكان استيفاء تمام الدين من كلّ جزء من أجزاء الرهن. وإن أريد منه أنّ تمام الدين تعلّق بالرهن بنحو الانبساط فهذا يرجع إلى ما قلنا من أنّ كلّ جزء مشاع من الدين مقابل لمثله من الأجزاء المشاعة للعين المرهونة ، وهذا هو عين التقسيط. وما ذكرنا فيما إذا كان كلّ واحد من الراهن والمرتهن واحدا.

وأمّا فيما إذا تعدّدا ، فتارة يكون الراهن متعدّدا دون المرتهن ، وأخرى بالعكس ، وتارة كلاهما متعدّدان. والأوّل قد يكون التعدّد من أوّل الأمر ، وتارة يحصل بعد وقوع عقد الرهن وتماميّته.

أمّا الأوّل : أي فيما إذا كان الراهن متعدّدا من أوّل الأمر ، كما إذا كان شريكان رهنا مالا لهما في دين عليهما ، فالظاهر أنّ إطلاق الراهن ينصرف إلى كون نصيب كلّ واحد منهما رهنا لدين نفسه ، فلو كان ذلك المال الذي رهناه بينهما بالسوية مثلا ، أي لكلّ واحد منهما نصفه ، فلو أدّى أحدهما ما عليه من الدين يفتكّ نصف ذلك الرهن. ولا ينافي ذلك كون الرهن مشاعا بينهما ، لأنّ الذي يفتكّ أيضا نصفه المشاع الذي كان يملكه وجعله رهنا على دينه ، فإذا أدّى دينه يخرج عن كونه رهنا قهرا.

وأمّا إذا حصل التعدّد بعد وقوع الرهن ، كما إذا رهن المورّث ماله على دينه ثمَّ مات وانتقل الرهن إلى ورثته ، فالمال يبقى رهنا ما لم يؤدّ الورثة دين الميّت ، فيصير

ص: 31

الراهن متعدّدا حسب تعدّد الورثة.

فلو أدّى بعض الورثة نصيبه من الدين فهل يفتكّ نصيبه من المال ، أم لا؟

يمكن أن يقال بعدم فكّ شي ء من الرهن في هذا الفرض ، وذلك لأنّ المورّث جعل مجموع المال رهنا لمجموع الدين ، فما دام شي ء من الدين باقيا ولو كان جزء يسيرا لا يفتكّ شي ء من الرهن ، لتعلّق حقّ الدائن بمجموع العين المرهونة ، وله أن يستوفي جميع دينه من هذه العين ، فما لم يؤدّ الدين تماما وكان باقيا شيئا منه - وإن كان مقدارا قليلا - لا يسقط حقّه المتعلّق بالمجموع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حقّ الدائن وإن تعلّق بالمجموع ولكن بمعنى أنّ كلّ جزء من الرهن بإزاء ما يساويه من الدين ، فيكون كلّ جزء من الرهن مقابل مثله من الدين من الكسور ، فنصف الرهن مقابل نصف الدين وهكذا ، كما تقدّم في بيان تقسيط الدين على الرهن أو بالعكس.

وأمّا لو كان المرتهن متعدّدا دون الراهن ، كما إذا رهن عند شخص فمات المرتهن وانتقل الدين إلى ورثته ، فلكلّ واحد من الورثة حقّ استيفاء حصّته من الدين من مجموع الرهن كما كان لمورّثهم ، فما دام لم يؤدّ الراهن حقّ جميع الورثة لا يفتكّ شي ء من الرهن ، إلاّ على القول بالتقسيط من أوّل الأمر ، أي بالنسبة إلى نفس المورّث.

فبناء على القول بالتقسيط لو أدّى حقّ بعض الورثة يفتكّ من الرهن بتلك النسبة. هذا إذا كان التعدّد حاصلا بعد وقوع الرهن كما في المثل المذكور.

وأمّا إذا كان تعدّد المرتهن من الأوّل ، كما إذا استدان من اثنين فجعل مالا رهنا على كلا الدينين ، فلا شبهة في تعلّق حقّ كلّ واحد من الدائنين - أي المرتهنين - بذلك المال بنسبة دينه إلى مجموع الدينين ، فإن كان الدينان متساويين في المقدار من جنس واحد أو القيمة وإن كان من جنسين ، فلكلّ واحد من المرتهنين حقّ استيفاء دينه من نصف الرهن. وإن كانا مختلفين بحسب القيمة فيستحقّ كلّ واحد منهما من الرهن

ص: 32

بنسبة قيمة ماله إلى مجموع القيمتين ، فلو كان دين أحدهما عشرة مثلا والآخر عشرين ، فصاحب العشرة يستحقّ ثلث الرهن. وهكذا في جميع صور الاختلاف ، والوجه واضح.

فرع : الرهن أمانة مالكيّة عند المرتهن ، فيد المرتهن عليه يد أمانة لا يد ضمان ، فلو تلف الرهن في يد المرتهن وبدون تعدّ ولا تفريط لا يضمن ، لأنّ سبب الضمان في المفروض هي يد غير المأذونة. وفي المقام ليس كذلك إذ هو أمانة مالكيّة ، أي يكون عند المرتهن بإذن المالك ، فيكون من قبيل العين المستأجرة التي سلمها المالك إلى المستأجر لاستيفاء المنفعة منها ، والمفروض أنّه ليس تعدّ ولا تفريط في البين كي يقال بخروج اليد عن كونها أمانة وصيرورتها عادية.

فلا تكون يد المرتهن على الرهن مشمولة لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤديها » ، لأنّ المراد باليد في تلك القاعدة هي اليد غير المأذونة ، أو إذا كانت مأذونة ولكن صدر من ذي اليد تعدّ أو تفريط ، والمفروض في المقام أنّ اليد مأذونة وليس تعدّ ولا تفريط في البين ، وليس من موجبات الضمان ما هاهنا سبب وموجب آخر من إتلاف ، أو تعدّ ، أو تفريط ، أو عقد ، أو غير ذلك.

وقد حكى الإجماع من جماعة على عدم ضمان المرتهن فيما إذا تلف الرهن عنده.

قال في الجواهر - في شرح عبارة الشرائع « [ الرهن ] أمانة في يده لا يضمنه لو تلف منه بغير تفريط » - ، بلا خلاف أجده فيه بيننا (1).

ولكن أنت خبير بأنّ عدم الخلاف - وإن تحقّق وحصل - لا يكون من الإجماع المصطلح الأصولي الذي أثبتنا حجيّته مع وجود هذه المدارك ، أي كون عدم ضمانه مفاد القاعدة الأوّليّة ، وهو عدم وجود سبب للضمان في البين ، ووجود أخبار صحيحة

ص: 33


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 174.

صريحة دالّة على عدم الضمان. وبعض الأخبار التي تدلّ على الضمان ليست قابلة لأن تعارض الطائفة الأولى ، لخروجها مخرج التقيّة لموافقتها للعامّة.

الطائفة الأولى ، أي الأخبار الدالّة على عدم ضمان المرتهن لو تلف الرهن عنده بدون تعدّ ولا تفريط :

منها : ما رواه جميل بن درّاج ، عن الصادق علیه السلام قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام في رجل رهن عند رجل رهنا فضاع الرهن ، قال : « هو من مال الراهن ، ويرجع المرتهن عليه بماله » (1).

ومنها : ما رواه أبان بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال في الرهن : « إذا ضاع من عند المرتهن من غير أن يستهلكه رجع بحقه على الراهن فأخذه وان استهلكه ترادّا الفضل بينهما » (2).

وروى هذه الرواية بطرق آخر ، كما هو مذكور في الوسائل (3).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الرجل يرهن عند الرجل الرهن فيصيبه توى أو ضياع قال : « يرجع بماله عليه » (4).

ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار ، عن أبي إبراهيم علیه السلام قال : قلت : الرجل يرتهن العبد فيصيبه عور ، أو ينقص من جسده شي ء على من يكون نقصان ذلك؟ قال : « على مولاه ». قلت : إنّ الناس يقولون : إن رهنت العبد فمرض أو انفقأت عينه فأصابه

ص: 34


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 305 ، باب الرهن ، ح 4094 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4102 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 172 ، ح 765 ، باب في الرهون ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 120 ، ح 427 ، باب الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 2.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5. ذيل ح 2.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 310 ، باب الرهن ، ح 4110 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 3.

نقصان من جسده ينقص من مال الرجل بقدر ما ينقص من العبد ، قال : « أرأيت لو أنّ العبد قتل قتيلا على من يكون جنايته؟ » قال : جنايته في عنقه (1).

ومنها : ما رواه الحلبي أيضا ، في الرجل يرهن عند الرجل رهنا فيصيبه شي ء أو ضاع قال : « يرجع بماله عليه » (2).

ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار أيضا ، قال : قلت لأبي إبراهيم علیه السلام الرجل يرهن الغلام أو الدار فتصيبه الآفة ، على من يكون؟ قال : « على مولاه - ثمَّ قال : - أرأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟ » قلت : هو في عنق العبد قال : « ألا ترى فلم يذهب مال هذا - ثمَّ قال : - أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟ » قلت : لمولاه قال : « كذلك يكون عليه ما يكون له » (3).

وأخبار آخر ذكرها في الوسائل (4) تدلّ أو تؤيّد ما ذكرنا ، من عدم ضمان المرتهن لو تلف الرهن عنده من دون تعدّ منه ولا تفريط ومن غير أن يستهلكه.

الطائفة الثانية : ما ادّعى أنّ ظاهرها ضمان المرتهن وان لم يكن تعدّ أو تفريط :

فمنها : ما رواه أبي حمزة ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول على علیه السلام « يترادّان الفضل » فقال علیه السلام « كان على علیه السلام يقول ذلك » قلت : كيف يترادّان؟ فقال : « إن كان الرهن أفضل ممّا رهن به ثمَّ عطب ردّ المرتهن الفضل على صاحبه ، وإن كان لا يسوى

ص: 35


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 306 ، باب الرهن ، ح 4096 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ج 11 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 170 ، ح 757 ، باب في الرهون ، ح 14 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 118 ، ح 421 ، باب الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 234 ، باب الرهن ، ح 10 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 172 ، ح 764 ، باب في الرهون ، ح 21 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 121 ، ح 430 ، باب في الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 126 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5 ، ح 6.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 125 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 5.

ردّ الراهن ما نقص من حقّ المرتهن قال : وكذلك كان قول على علیه السلام في الحيوان وغير ذلك » (1).

ومنها : ما رواه ابن بكير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام في الرهن؟ فقال : « إن كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدّى الفضل إلى صاحب الرهن ، وإن كان أقلّ من ماله فهلك الرهن أدّى إليه صاحبه فضل ماله ، وإن كان الرهن سواء فليس عليه شي ء » (2).

ومنها : ما رواه محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك ، أن يؤدّى الفضل إلى صاحب الرهن. وإن كان الرهن أقل من ماله فهلك الرهن ، أدّى إلى صاحبه فضل ماله. وإن كان الرهن يسوى ما رهنه ، فليس عليه شي ء (3).

ومنها : ما رواه عبد اللّه بن حكم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل رهن عند رجل رهنا على ألف درهم والرهن يساوي ألفين وضاع ، قال : « يرجع عليه بفضل ما رهنه ، وإن كان أنقص ممّا رهنه عليه رجع على الراهن بالفضل ، وإن كان الرهن يسوى ما رهنه عليه فالرهن بما فيه » (4).

ولا شكّ في أنّ لهذه الطائفة ظهور إطلاقي في ضمان المرتهن وإن لم يكن من طرفه استهلاك أو تعدّ أو تفريط ، ولكن يقيّد هذا الإطلاق بالطائفة الأولى بحمل الثانية على

ص: 36


1- « الكافي » ج 5 ، ص 234 ، باب الرهن ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 171 ، ح 761 ، باب في الرهون ، ح 18 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 119 ، ح 426 ، باب في الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 129 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 234 ، باب الرهن ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 171 ، ح 760 ، باب في الرهون ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 119 ، ح 425 ، باب في الرهن يهلك عند المرتهن ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 129 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 3.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 4115 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 129 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 4.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4101 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 130 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 7 ، ح 5.

مورد التفريط ، كما حملها الصدوق (1) والشيخ (2) وغيرهما على ذلك ، فلا تعارض في البين. وهذا جمع عرفي يرفع التعارض.

مضافا إلى إعراض الأصحاب جميعا عن هذه الطائفة الثانية فتسقط عن الحجيّة كما هو المقرّر في الأصول ، وأنّ إعراض الأصحاب كاسر كما أنّ عملهم برواية جابر لضعف سندها.

مضافا إلى أنّها موافقة للعامّة وهذا أيضا موجب لسقوط حجّيتها ، مع وجود المعارض المخالف فلا ينبغي أن يشكّ في هذا الحكم ، أى عدم ضمان المرتهن لو تلف الرهن عنده من غير تعدّ ولا تفريط.

فرع : يجوز للمرتهن اشتراء الرهن من الراهن بما رهن عليه ، أو بغيره بلا إشكال. ولا كلام سواء كان البائع هو نفس الراهن أو من يقوم مقامه ، كما إذا كان وكيله أو وليّه.

نعم ربما يقال بعدم جواز ابتياعه من نفسه لو كان هو الوكيل عن قبل المالك الراهن ، وذلك لأحد وجهين :

الأوّل : اتّحاد البائع والمشتري. وهو واضح البطلان ، لأنّهما مختلفان باعتبار الأصالة والوكالة.

الثاني : انصراف الوكالة إلى البيع من غيره لا من نفسه. وهذا دعوى بلا برهان ، فإنّ الإطلاق يشمله كما يشمل غيره ، وعدم خصوصيّته فيه تكون مانعة من شمول الإطلاق له ، خصوصا فيما إذا كان الفرض من توكيل الراهن إيّاه بيعه بثمنه من أيّ مشتر كان ، كما هو المراد غالبا في أمثال هذه الموارد.

ص: 37


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4101.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 171 ، ذيل ح 761 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 119.

فإذا أعطى متاعه للدلاّل لأن يبيعه ليس نظره إلى أن يبيعه من شخص خاصّ بل من أيّ مشتر كان ، بل المراد أخذ ثمنه ، ولذلك لو اشتراه الدلاّل لنفسه بقيمته الواقعيّة من دون غبن ولا خسارة يكون البيع صحيحا ، ولا وجه للإشكال فيه.

ودعوى الانصراف إلى البيع من غيره لا أساس لها. نعم لو صرّح بذلك وقيّد الوكالة بأن يكون وكيلا في بيعه من غير نفسه فله ذلك ، وحينئذ لا يجوز بيعه من نفسه. وهذه مسألة لا اختصاص لها بباب الرهن ووكالة المرتهن من قبل الراهن ، بل تأتي في مطلق الوكلاء في مطلق المعاملات ، في البيوع والإجارات وغيرهما ، بل تأتي في كونه وكيلا في إيصال الحقوق إلى مستحقّيها ، كالزكوات ، والأخماس ، والصدقات الواجبة غير الزكاة ، وردّ المظالم ، والصدقات المستحبّة وغير ذلك.

فرع : لو تصرّف المرتهن في الرهن بدون إذن الراهن خرجت يده عن كونها يد أمانة وصارت يد ضمان ، وذلك من جهة صيرورتها يد تعدّ وغير مأذونه ، فتكون مشمولة لعموم « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤديها » (1).

فلو كان تصرّفه فيه باستيفاء منفعة منه ، كركوب الدابّة أو سكنى الدار مثلا ، فعليه أجرة المثل ، ولو كان بأكل الثمرة وكلّ نماء منفصل فيكون ضامنا لتلك المنفعة المنفصلة.

وذلك النماء المنفصل - كثمرة الشجرة وطيب الماشية وصوف الأغنام وأمثال ذلك - فإن كان مثليّا فضمانه بالمثل ، وإن كان قيميّا فبالقيمة على قواعد باب الغصب.

وأمّا بالنسبة إلى نفس العين المرهونة فتكون مضمونة عنده ، فلو بقيت سالمة عنده بدون أيّ نقص فيها فيردّها ، وإن تلفت أو تلف شي ء من صفاتها أو بعضها

ص: 38


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 224 ، ح 106 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 88 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 4 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، باب العارية ، ح 2400 ، « تفسير أبو الفتوح الرازي » ج 5 ، ص 407.

يكون ضامنا للتالف على قواعد باب الغصب ، من كونه ضامنا لمثله في المثليّات ، ولقيمته في القيميّات من قيمة يوم التلف ، أو وقت التعدّي ، أو وقت المطالبة ، أو وقت الأداء على اختلاف الأقوال في ضمان المغصوب القيمي ، فكلّ على مبناه.

وخلاصة الكلام : أنّ العين المرهونة بعد ما كانت أمانة في يد المرتهن إذا كانت في يده بإذن الراهن ، لو تصرّف المرتهن فيها بدون إذن الراهن تخرج عن كونها أمانة ويجرى عليها أحكام الغصب.

وما ذكرنا كان مقتضى القواعد الأوّلية في باب الغصب والأمانات ، وقد وردت أيضا مطابقا لما ذكرنا من كون منافع العين المرهونة للمالك الراهن روايات :

منها : ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في كلّ رهن له غلّته أنّ غلّته تحسب لصاحب الأرض مما عليه » (1).

ومنها : ما رواه محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : في الأرض البور يرتهنها الرجل ليس فيها ثمرة فزرعها وأنفق عليها ماله أنّه يحتسب له نفقته وعمله خالصا ، ثمَّ ينظر نصيب الأرض فيحسبه من ماله الذي ارتهن به الأرض حتّى يستوفي ماله ، فإذا استوفى ماله فليدفع الأرض إلى صاحبها » (2).

وروايات أخر ذكرها صاحب الوسائل في الباب العاشر من أبواب أحكام الرهن (3).

فرع : لا يجوز للمرتهن التصرّف في الرهن بدون إذن الراهن كما تقدّم في الفرع

ص: 39


1- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ح 13 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 169 ، ح 750 ، باب في الرهون ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 132 ، أبواب الرهن ، باب 10 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ح 14 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 169 ، ح 751 ، باب في الرهون ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 132 ، أبواب الرهن ، باب 10 ، ح 2.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 131 ، أبواب الرهن ، باب 10.

السابق ، ولكن قد يقال بأنّه لو كان للرهن مئونة فأنفق المرتهن عليه ، مثل أن كان الرهن دابّة مثلا فعلفها فله أن يركبها ، أو كان شاة فله أن يشرب حليبها ، أو بستانا ونخيلا فسقاها فله أن يأكل من ثمرها.

وبعبارة أخرى : له أن ينتفع بالرهن عوض النفقة التي يبذلها له.

والكلام في هذا المقام تارة باعتبار القواعد الأوليّة فيما إذا كان مال الغير تحت يده بإذن صاحبه أو لحقّ له في ذلك ، وأخرى باعتبار النصوص الواردة في هذه المسألة.

فنقول : أمّا بالاعتبار الأوّل : فلا شكّ في أنّ نفقة المال على صاحبه ، وتسمّى بنفقة الملك ، فإن تصدّى غيره إمّا بإذن منه ، أو لوجوبه عليه من جهة لزوم حفظ حيوان المحترم فيما لم يكن هناك من ينفق عليه ولم يقصد كونه مجانا ، فيكون ما أنفق في ذمة المالك. فحينئذ لو استوفى منفعة ذلك المال الذي جعل رهنا ، سواء كانت من النماءات المنفصلة أو المتّصلة أو لم يكن شي ء منهما بل كان صرف انتفاع له مالية عند العقلاء والشرع ، فإن كانت تلك المنفعة مساوية مع ما بذله يتهاتران قهرا ، وعند العدم يردّ الزائد على الراهن فيما إذا كانت المنفعة زائدة ، ويأخذ منه إن كانت النفقة أزيد ، وهذا أمر مسلّم.

وأمّا بالاعتبار الثاني : أي النصوص الواردة في المقام ، فظاهرها جواز الانتفاع بالرهن لو أنفق عليه ، سواء كان الإنفاق مساويا مع الانتفاع بحسب القيمة ، أو كانا متفاضلين.

فمنها : رواية أبي ولاّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يأخذ الدابّة والبعير رهنا بماله له أن يركبه؟ قال : فقال علیه السلام : « إن كان يعلفه فله أن يركبه ، وإن كان الذي رهنه عنده يعلفه فليس له أن يركبه » (1).

ص: 40


1- « الكافي » ج 5 ، ص 236 ، باب الرهن ، ح 16 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 307 ، باب الرهن ، ح 4098 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 176 ، ح 778 ، باب في الرهون ، ح 35 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 134 ، أبواب الرهن ، باب 12 ، ح 1.

ومنها : رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن على علیهم السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الظهر يركب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركبه نفقته ، والدّر يشرب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يشرب نفقته » (1).

والروايتان مطلقتان تشملان صورة تساوى النفقة مع المنفعة المستوفاة وعدم تساويهما ، وأيضا مطلقتان بالنسبة إلى صورة إذن الراهن في التصرّف وعدمه.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا يمكن الأخذ بهذين الإطلاقين ، مع إعراض جلّ الأصحاب عنهما ، ومخالفتهما للقواعد المقرّرة في باب استيفاء منافع مال الغير بدون إذنه ، أو مع إذنه ولكن لم يقصد المالك كونه مجانا.

فالأحسن حمل الروايتين على صورة تساوى النفقة مع المنفعة المستوفاة وكون المرتهن مأذونا عن قبل الراهن ، بقرينة أنّه رهنه ولم ينفق عليه ، حيث أنّ بناء العرف والعادة أنّهم إذا رهنوا حيوانا ولم ينفقوا عليه على أنّ للمرتهن التصرّف والانتفاع به عوض إنفاقه عليه.

فرع : يجوز للمرتهن استيفاء دينه ممّا في يده من الرهن إن مات الراهن وخاف جحود الورثة للدين أو الرهانة ، لو اعترف بأنّ ما في يده رهن من قبل الميّت على دين في ذمّته ، وليست له بيّنة مقبولة بحيث يكون قادرا على إثبات دينه وأنّ ما في يده رهن عليه ، وذلك لحفظ ماله وعدم تضييعه. وقد تقدّم أنّ أصل تشريع الرهن لأجل هذه الجهة.

وأما الإشكال على هذا - بأنّ الرهن بعد موت الراهن انتقل إلى الورثة ، وليس

ص: 41


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 306 ، باب الرهن ، ح 4095 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 134 ، أبواب الرهن ، باب 12 ، ح 2.

للمرتهن استيفاء دينه من مال غير المديون ، لأنّ المديون هو الميّت لا الورثة - فليس بشي ء لأنّ الرهن ينتقل إلى الورثة بما هو متعلّق لحقّ الغير ، فإنّ ملكيّة الوارث ليس بأشدّ من ملكيّة المورث لأنّه فرعه ، وما كان له ينتقل إلى وارثه لا ما ليس له.

فكما أنّه لو كان حيّا وكان استيفاء الدين منه متعذّرا لفلس ، أو كان متعسّرا لمطل كان للمرتهن استيفاء دينه من ذلك الرهن ولو كان بدون رضاء المالك الراهن وإذنه ، فكذلك الأمر بعد انتقاله إلى الورثة.

هذا ، مضافا إلى ادّعاء الإجمال على هذا الحكم (1) نعم لو أقرّ واعترف بأنّ ما عنده مال الميّت وهو رهن عنده على دين له في ذمّة الميّت ، فيؤخذ بإقراره وللورثة انتزاع ما في يده ، وعليه إثبات أنّه رهن على دين له في ذمّة الميّت على قواعد باب القضاء.

وقد وردت رواية أيضا في كلا الأمرين. فالأوّل أي جواز استيفاء دينه ممّا في يده إن لم تكن له بيّنة ، أي : ليس قادرا على الإثبات. والأمر الثاني أي لو اعترف وأقرّ بأنّ ما في يده للميّت يؤخذ منه ويكلّف بالبيّنة على قواعد باب القضاء.

وهي مكاتبة سليمان بن حفص المروزي ، أو عبيد بن سليمان كتب إلى أبي الحسن علیه السلام في رجل مات وله ورثة ، فجاء رجل فادّعى عليه مالا وأنّ عنده رهنا ، فكتب علیه السلام : « إن كان له على الميّت مال ولا بيّنة عليه ، فليأخذ ماله بما في يده ، وليردّ الباقي على ورثته. ومتى أقرّ بما عنده أخذ به وطولب بالبينة على دعواه وأوفى حقّه بعد اليمين ، ومتى لم يقم البيّنة والورثة ينكرون ، فله عليهم يمين علم يحلفون باللّه ما يعلمون أنّ له على ميّتهم حقّا » (2).

ص: 42


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 182.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 310 ، باب الرهن ، ح 4111 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 178 ، ح 784 ، باب في الرهون ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 140 ، أبواب الرهن ، باب 20 ، ح 1.

وظاهر هذه الرواية جواز استيفاء المرتهن دينه من الرهن من غير تقييده بالعلم أو الظنّ بجحود الورثة أو خوف الجحود ، بل جعل موضوع جواز الاستيفاء فيها هو أن يكون له على الميّت مال ولم تكن له بيّنة على أنّ الميّت مديون له وهذا الذي عنده رهن على دينه.

ولكن تعليق الحكم على أن يكون له مال في ذمّة الميّت مع عدم البيّنة ، له ظهور عرفي في أن يكون ماله بواسطة عدم البيّنة في معرض الإتلاف ، وهذا هو المراد من خوف جحود الورثة ، فلا يحتاج إلى العلم بجحودهم ، بل بصرف الاحتمال العقلائي بحيث يكون موجبا لسلب الاطمئنان يجوز بيعه واستيفاء دينه منه. وعلى هذا أيضا ادّعى الإجماع في مجمع البرهان (1) وشرح الإرشاد (2) والقول بأنّ الرواية مطلقة من ناحية الخوف لا أساس له.

فرع : لو مات المرتهن ولم يعلم بوجود الرهن في تركته ولم يعلم تلفه في يده بتفريط منه ، فلا يحكم بكونه في ذمّته ، وذلك لعدم الدليل على ضمانه لأصالة برأيه ذمّته. وبصرف أنّه كان عنده لا يثبت ضمانه ، لاحتمال تلفه من دون تعدّ وتفريط من قبله ، فيكون تمام تركته لوارثه إذا لم يعلم أنّ فيها من الرهن شي ء.

وخلاصة الكلام : أنّ يد المرتهن حيث أنّها أمانيّة مالكيّة فلا تشمله قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤديها ». وقاعدة الإتلاف لا تأتي ، للشكّ في موضوعها وأنّ المرتهن أتلفه ، فلا موجب للضمان.

نعم لو ثبت وجدانا أو تعبّدا وجوده في التركة ، يجب على الورثة ردّه إلى الراهن أو ورثته مع تميّزه أو يكون شريكا مع الورثة مع المزج أو الخلط الذي لا يمكن فصله

ص: 43


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 9 ، ص 161.
2- حكاه عن شرح الإرشاد في « الرياض » ج 1 ، ص 558 ، و « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 183.

عنها ويكون الفصل متعذّرا بل وإن كان ممكنا ولكن كان متعسرا.

ولذلك قال بعض أساتيذنا في هذا المقام : نعم لو علم أنّه قد كان موجودا في أمواله الباقية إلى بعد موته ، ولم يعلم أنّه بعد باق فيها أم لا ، كما إذا كان سابقا في صندوقه داخلا في الأموال التي كانت فيه وبقيت إلى زمان موته ، ولم يعلم أنّه قد أخرجه وأوصله إلى مالكه أو باعه واستوفى ثمنه أو تلف بغير تفريط منه أم لا ، لم يبعد أن يحكم ببقائه فيها ، فيكون بحكم معلوم البقاء.

وحاصل هذا الكلام : أنّه بواسطة جريان استصحاب البقاء في التركة الموجودة يحكم بوجوب إخراجه إلى الراهن ، وكونه شريكا مع الورثة فيما إذا لم يتميّز ولم نقل بإخراجه بالقرعة.

ولا يتوهّم أنّه دائما يكون الأمر من هذا القبيل ، لأنّه دائما بعد أخذ الرهن وقبضه من طرف المرتهن يدخل في جملة أمواله التي تكون تحت يده ، غاية الأمر تكون يده على الرهن أمانيّة ، وعلى أمواله مالكيّة. وهذا لا يوجب فرقا في المقام ، لأنّه لا شغل لنا بكون اليد من أيّ القسمين ، بل المقصود هو وجود الرهن في التركة وبقاؤه إلى ما بعد وفاته ، وهذا المعنى يثبت بالاستصحاب في جميع الموارد.

وذلك من جهة أنّ الاستصحاب في غير الصورة المفروضة يكون مثبتا ، لأنّ بقاءه في التركة في غير هذه الصورة المذكورة من لوازم بقاء العين المرهونة عقلا ، وإلاّ فبقاؤه في التركة الموجودة ليس عين بقائه ولا من لوازمه الشرعيّة ، وذلك لإمكان أن يكون باقيا ولم يتلف ، ولكن أودعه عند شخص أمين ، أو أخفاه ، أو دفنه في مكان لحفظه ، وكتب اسم ذلك الشخص أو ذلك المكان ولكن ضاع الكتاب بعد موته ، ولم يطلع الورثة على ذلك الكتاب كي لا يقال أنّه صار ضامنا لتفريطه بواسطة عدم الكتابة.

وعلى كلّ حال بصرف وصوله إلى يد المرتهن لا يمكن إثبات أنّه في التركة

ص: 44

الموجودة باستصحاب بقائه وعدم تلفه ، وأيضا لا يمكن إثبات كونه في ذمّة المرتهن لكي يؤدّي من تركته ، لأصالة عدم تلفه أو عدم تفريطه وإن تلف.

ولا شكّ في أنّ مع وجوده وعدم تلفه ، أو عدم تفريطه وإن تلف ، لا يكون المرتهن ضامنا ، لكون يده يد أماني لا ضماني فيها ، إلاّ مع التعدّي والتفريط ، وهما منفيّان بالأصل ، فيكون جميع التركة للورثة ظاهرا حسب الأصول الجارية في المسألة ، وإن كان في الواقع بعضها للراهن ، كما هو الحال في جميع صور خطاء الأصول والأمارات ، بناء على ما هو الحقّ عندنا من عدم صحّة جعل المؤدّي في الأصول والأمارات وبطلان القول بالتصويب.

وقد ذكر في الجواهر لهذا الفرع ستة صور :

الأولى : هي العلم بوجود العين المرهونة في التركة.

وحكمها واضح ، وهو أنّه لو عرف متميّزا عن غيره من دون اشتباه مع غيره ومن دون خلط ولا مزج ، فيجب على الورثة ردّه إلى الراهن المالك له. وأمّا مع الخلط المتعسّر فصله أو المزج ، فيكون شريكا مع صاحب الآخر المخلوط أو الممزوج ، ومع الاشتباه فالقرعة أو التصالح.

الثانية : أن يعلم أنّه كان عند الميّت ولم يعلم كونه في التركة أو تلف بغير تفريط أو لا.

وحكمها أصالة براءة ذمّة الميّت ، لاحتمال تلفه بغير تفريط ، فلا ضمان. وأيضا لاحتمال كونه في التركة مع عدم تقصير الميّت في الوصية به والإشهاد عليه ، كي لا يكون ضامنا من هذه ، إذ ترك الوصيّة والإشهاد بمنزلة الإتلاف يوجب الضمان.

وأمّا التركة فحيث ليس أمارة أو أصل يثبت كونه فيها ، لاحتمال تلفه بغير تفريط فيحكم بظاهر الحال أنّ جميعها للورثة ، وأصالة عدم تلفه وبقائه مثبت بالنسبة إلى

ص: 45

كونه في التركة ، فمقتضى عمومات الإرث كون جميع ما صدق عليه عنوان « ما تركه الميّت » لورثته.

ولا يتوهّم أنّ كون جميع المال من مصاديق « ما ترك » مشكوك ، فلا يمكن التمسّك بمثل هذا العموم ، لأنّها من الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ.

وذلك لأنّ يد الميّت عليها أمارة الملكيّة ، فيصدق عنوان « ما ترك » على الجميع. نعم لو علمنا أنّه كان فيما ترك إلى زمان الموت ، ولكن احتملنا تلفه بغير تفريط بعد ذلك وصدق ما ترك على الجميع مشكوك ذلك العلم.

الثالثة : أن يعلم كونه عنده كذلك ، ولكن ليس في التركة قطعا.

وحكمها عدم ضمان الميّت ، لاحتمال أن يكون تلف بغير تفريط ، فالضمان مشكوك ومورد جريان البراءة. وأمّا التركة فالمفروض أنّه ليس فيها قطعا ، وأيضا من المحتمل أنّه قبل موته رده إلى صاحبه ، أو باعه واستوفى دينه منه.

الرابعة : أن يعلم تلفه في يده ، ولكن لم يعلم أنّه بتفريط أو لا.

فحكمها أيضا عدم الضمان ، لأنّ الضمان في هذه الصورة متوقّف على التفريط ، والأصل عدمه.

الخامسة : أن يعلم أنّه كان عنده إلى أن مات وأنّه لم يتلف منه ، إلاّ أنّه لم يوجد في التركة.

وحكمها مع عدم تقصير من قبل الميّت بترك الوصية والإشهاد براءة ذمّة الميّت وكون جميع التركة للورثة. نعم لو ادّعى الراهن على الورثة أو على غيرهم كونه في يدهم أو أنّهم أتلفوا ، فيرجع المسألة إلى باب القضاء ، ويجرى فيها أحكام القضاء من كون المدّعى عليه البيّنة ، والمنكر عليه اليمين.

السادسة : مثل الصورة الخامسة عينا إلاّ أنّه يحتمل التلف بعد الموت.

ص: 46

وحكمها مثل الصورة السابقة عينا إلاّ أن يدّعى الراهن تقصير الميّت في الوصيّة أو في ترك الإشهاد ، فيرجع المسألة إلى القضاء ، ويجرى فيها موازينها. أو يدّعى إتلاف الورثة أو غيرهم ، فأيضا يرجع إلى باب القضاء ، ويجرى فيها موازينها.

هذا كلّه فيما إذا علم بأصل الرهن وأنّ لهذا الدين كان رهنا (1).

وأمّا إذا شكّ في أنّه هل كان لهذا الدين رهن أم لا ، فلا شكّ في أماريّة اليد وأنّ جميع المال للميّت وانتقل منه إلى الورثة ، والأصل عدم تحقّق رهن في البين.

فرع : لو صار مفلسا وحجر عليه ، أو مات وما يملكه في الأولى لا يفي بديونه كما هو المفروض ، وفي الصورة الثانية تركته لا تفي بديونه - وقد لا يكون له مال أو تركة غير ما رهن عند بعض الديان - فهل المرتهن مقدّم على سائر الديّان في استيفاء دينه من العين المرهونة عنده؟ فإن فضل شي ء فالفاضل لسائر الغرماء ، أو كلّهم شركاء فيها تتوزّع بينهم بنسبة حصص ديونهم ، أو يفصّل بين أن يكون الراهن حيّا وقد حجر عليه لفلس أو غيره فالأوّل ، وبين أن يكون ميّتا فالثاني؟

أقول : أمّا فيما إذا كان الراهن حيّا ، فالظاهر عدم الخلاف في أنّ المرتهن أحقّ من سائر الغرماء باستيفاء دينه منها ومقدّم عليهم ، مضافا إلى أنّ هذا هو علّة تشريع الرهن ، لقولهم علیهم السلام في أكثر أخبار الباب : « لا بأس به استوثق من مالك » (2) ومعلوم أنّ الاستيثاق لا يحصل إلاّ بتقديمه على سائر الغرماء ، بل لفظ « الرهن » يفيد هذا المعنى.

وأمّا فيما إذا كان ميّتا ، فالمشهور قائلون أيضا بتقديم المرتهن على سائر الغرماء ، ولكن هناك روايتان ظاهرتان في عدم تقديم المرتهن على سائر الغرماء ، بل كلّهم شركاء في العين المرهونة بنسبة ديونهم :

ص: 47


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 171 - 172.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 1 ، 4 ، 6 و 9.

إحديها : رواية عبد اللّه بن الحكم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أفلس وعليه دين لقوم ، وعند بعضهم رهون وليس عند بعضهم ، فمات ولا يحيط ماله بما عليه من الدين ، قال علیه السلام : « يقسّم جميع ما خلف من الرهون وغيرها على أرباب الدين بالحصص » (1).

الثانية : رواية سليمان بن حفص المروزي قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام في رجل مات وعليه دين ولم يخلف شيئا إلاّ رهنا في يد بعضهم ، فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال المرتهن ، أيأخذ بماله أو هو وسائر الديّان فيه شركاء؟ فكتب علیه السلام : « جميع الديّان في ذلك سواء ، يتوزّعونه بينهم بالحصص » (2).

ولا شكّ في ظهور هاتين الروايتين في عدم أحقّية المرتهن في استيفاء دينه من العين المرهونة وتقديمه على سائر الغرماء ، ولكنّهما حيث أعرض المشهور عن العمل بهما - مع أنّهما مخالفان لحقيقة الرهن والغرض منه وعلّة تشريعه ، للأخبار الكثيرة الواردة في أنّ تشريعه لاستيثاق الدائن من مال (3). هذا ، مضافا إلى ضعف سند مكاتبة سليمان بن حفص المروزي - فلا مجال للعمل بهما والأخذ بمضمونهما ، فلا بدّ إمّا من حملهما على ما لا ينافي تقديم المرتهن على سائر الغرماء وإن كان الراهن ميّتا ، أو طرحهما.

نعم لو أعوز الرهن ولم يكن وافيا وقصر عن الدين وزاد الدين ، فيكون المرتهن شريكا مع سائر الغرماء بالنسبة إلى الزائد.

ص: 48


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 307 ، باب الرهن ، ح 4100 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 177 ، ح 783 ، باب في الرهون ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 139 ، أبواب الرهن ، باب 19 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 310 ، باب الرهن ، ح 4111 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 178 ، ح 784 ، باب في الرهن ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 139 ، أبواب الرهن ، باب 19 ، ح 2.
3- « الوسائل » ج 13 ، ص 121 ، كتاب الرهن ، باب 1 ، باب جواز الارتهان على الحق الثابت.

فرع : لو أذن المرتهن بيع العين المرهونة فباعها المالك ، فهل يكون عوضه رهنا وإن لم يشترط ذلك ، أم لا؟

أقول : لا إشكال في أنّ حقّ الرهانة متعلّق بنفس العين المرهونة ومتقوّم به ، ولذلك لو تلف لا يبقى محلّ لذلك الحقّ ، فلو باع وصار ملكا لشخص فإن كان مع ذلك متعلّقا لحقّ المرتهن ، فلم ينتقل إلى المشتري ملكا طلقا ، وهو خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّه بعد إذن المرتهن يرتفع المانع من صحة البيع ، وينتقل الرهن إلى المشتري ملكا تامّا لا علاقة للمرتهن به أصلا.

وأمّا كون عوضه متعلّقا لحقّ المرتهن فيحتاج إلى سبب جديد ، لأنّ الحقّ الأوّل انعدم بانضمام متعلّقه عقلا ، ولا يعقل بقاؤه بدون المتعلّق ، والعوض موضوع آخر ، فكونه متعلّقا لحقّ الرهانة حقّ جديد ، ويحتاج إلى جعل وسبب جديد.

ولذلك لو أذن وشرط في ضمن عقد لازم كون عوضه رهنا ، يكون رهنا بسبب الشرط ، ولا مجال لجريان استصحاب بقاء الحقّ بالنسبة إلى عوض الرهن بعد بيع نفسه ، لأنّ الحقّ كان متعلّقا بعين الرهن ، وبنقله إلى الغير انعدم ذلك الحقّ ، وحدوث الحقّ بالنسبة إلى عوضه فردا آخر من الحقّ مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه ، على فرض تسليم الشكّ في حدوثه.

وأمّا استصحاب الجامع بين الفردين ، فهو من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي لا نقول بصحّته ، والمسألة محرزة في الأصول ، وقد نقّحناه في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

نعم ربما يكون الشرط شرطا ضمنيّا حسب متفاهم العرف من الكلام ، أو يكون الإذن في البيع مبنيّا عليه حسب ما بينهما من القرائن المحتفّة بالكلام.

وعلى كلّ حال سقوط حقّه بوقوع البيع لا بالإذن فيه ، لأنّه لم يسقط حقّه ، وإنّما

ص: 49


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 448.

نقول بسقوطه من جهة انعدام متعلّقه وعدم معقوليّة بقائه ، ولا ينعدم إلاّ بنفس البيع خارجا لا بالإذن فيه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ للمرتهن الرجوع عن إذنه قبل البيع ، لأنّه قبله حقّه باق لم يسقط ، فله أن يرجع عن إذنه إذ الإذن ليس من العقود اللازمة كي يجب الوفاء به والبقاء عنده. نعم لو قيل بسقوط حقّه بصرف الإذن فيصير أجنبيا عن الرهن ، ويصير كما لم يكن رهن من أوّل الأمر ، فلا وجه يبقى للرجوع.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا فيما لو كان إذن المرتهن قبل حلول الأجل ، وأمّا لو كان بعد حلول الأجل فحيث أنّ المرتهن كان له أن يستوفي دينه من ثمنه بأن يبيعه هو بنفسه ، أو يوكل غيره في بيعه ، أو يبيعه المالك بإذنه ، فإذنه بالبيع لا ينافي حقّ الاستيفاء من ثمنه ، فبإذنه لا يسقط مثل هذا الحقّ. وهذا ليس من حقّ الرهانة كي يقال بعدم معقوليّة بقائه بعد البيع ، بل من آثار حقّ الرهانة الذي كان له قبل البيع ، وهذا واضح جدّا.

فرع : لو أذن الراهن للمرتهن في بيع الرهن ، فتارة يكون بيعه قبل حلول الأجل ، وأخرى بعده.

أمّا الأوّل : فليس للمرتهن التصرّف في الثمن بدون إذن الراهن ، لدخوله بعد البيع في ملك الراهن بمقتضى المعاوضة ، والمفروض أنّه قبل حلول الأجل فلا يستحقّ فعلا على الراهن شيئا من قبل دينه ، فيكون حال ثمن الراهن حال سائر أحوال الراهن ، ليس للمرتهن إليها سبيل.

وأما بقاؤه رهنا عند المرتهن مثل معوّضه ، فقد تقدّم في الفرع السابق أنّه يحتاج إلى جعل وإرهان جديد ، لعدم معقوليّة بقاء الحقّ المتعلّق بمعوّضة بعد نقله ملكا طلقا إلى المشتري ، والمفروض أنّه ليس هناك سببا وجعلا جديدا في البين.

نعم لو اشترط شرطا جديدا على الراهن - بأن يكون العوض بعد البيع رهنا

ص: 50

عنده وقلنا بلزوم الوفاء بالشرط مطلقا أو كان الشرط على الراهن في ضمن عقد لازم ، فيجب على الراهن جعله رهنا مثل معوّضة ، أو كان بنحو شرط النتيجة بأن يكون العوض رهنا ، وبنينا على تأثير الشرط في حصول مثل هذه النتيجة - يكون رهنا بمحض هذا الشرط ، ولا يحتاج إلى جعل جديد من قبل الراهن.

وأمّا الثاني : أي إذا كان البيع بعد حلول الأجل ولم يكن شرط في البين ، فإن كان الراهن ممتنعا عن أداء دينه بمال آخر أو بهذا الثمن ، فللمرتهن بيعه واستيفاء دينه من هذا الثمن ، فإن زاد عن دينه يسلم الفاضل إلى الراهن المالك ، وإن نقص يطالبه بالنقيصة.

ولكن هذا مع فقد الحاكم أو عدم اقتداره وان كان لعدم بسط يده ، وأمّا إن كان وكان مبسوط اليد فيجب الرجوع إلى الحاكم لإلزامه بالبيع والإذن فيه للمرتهن أو لغيره ، لقوله علیه السلام : « مجاري الأمور بيد العلماء » ولأدلّة أخرى تدلّ على أنّ الحاكم هو ولي الممتنع ، ولأنّ من عدم مراجعة الحاكم وبيعه بنفسه - من دون إذن المالك أو الحاكم الذي له الولاية على الجهات العامّة - ربما يلزم منه الهرج والمرج.

وأمّا إذا لم يكن الراهن ممتنعا عن أداء دينه وأراد إعطاء ذلك من مال آخر ، فليس للمرتهن إلزامه باستيفاء دينه من خصوص ثمن الرهن ، وهو واضح.

فرع : لو شرط المرتهن على الراهن في عقد الرهن أن يكون الرهن مبيعا بالدين الذي وقع عليه الرهن إن لم يؤدّ الدين إلى وقت كذا ، فهل هذا الشرط صحيح ويؤثّر في صيرورته مبيعا وملكا للمرتهن عوض دينه الذي يطلب من الراهن ، أو فاسد لا أثر له؟ وعلى الأخير وكون هذا الشرط فاسدا هل يوجب فساد عقد الرهن الذي وقع هذا الشرط في ضمنه أم لا؟ أقوال :

أمّا الأوّل - أي كون هذا الشرط فاسدا - فالظاهر أنّه إجماعيّ. وقال في الجواهر

ص: 51

لم يصحّ قولا واحدا (1).

وجه الفساد والبطلان هو كون الرهن علّق على عدم أداء الدين في وقت كذا ، والتعليق موجب لبطلان البيع إجماعا ، فيكون هذا الشرط فاسدا لا اثر له شرعا.

مضافا إلى أنّ هذا من قبيل شرط النتيجة ، أي كون الرهن مبيعا ، ولم يثبت أنّ هذا الشرط يكون من أسباب وقوع الرهن مبيعا ، بل الظاهر أنّ للبيع أسبابا خاصّة لا يصحّ إلاّ بها ، فوقوعه بالشرط ولو لم يكن معلّقا لا يخلو من الإشكال.

وأمّا الثاني - أي فساد عقد الرهن - وجهه أنّه لو قلنا بأنّ فساد الشرط موجب لفساد العقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه - وبعبارة أخرى إنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد الذي وقع في ضمنه - فواضح ، لأنّ المفروض أنّ هذا الشرط ، أي صيرورة الرهن مبيعا فاسد ، فالرهن الذي وقع هذا الشرط في ضمنه فاسد.

وأمّا لو لم نقل بأنّ فساد الشرط يسري إلى العقد ، والشرط الفاسد ليس بمفسد كما هو المختار عندنا ، فيكون فساد الرهن لكونه موقّتا ، أي يكون انتهاء زمانه تعذر الأداء أو عدمه. وإن لم يكن متعذّرا بل كان ميسورا ولكن الراهن يماطل في الأداء والتوقيت في الرهن بغير الأداء مبطل إجماعا ، ولأنّ التوقيت بغير الأداء والوفاء مناف للاستيثاق الذي هو علّة تشريع الرهن ، وذلك لأنّه لو خرج الرهن عن ملك الراهن حال تعذّر الأداء أو حال عدمه وإن لم يكن متعذّرا أو متعسّرا عليه ، فلا يمكن استيفاء الدين به ويخرج عن كونه رهنا.

ولكن الإنصاف أنّه لو لم يكن الشرط الفاسد مفسدا للعقد - كما هو الصحيح عندنا - ولم يكن إجماع في المسألة لكان هذا التعليل لا يخلو عن المناقشة ، لأنّ الرهن مع مثل هذا الشرط يكون موجبا للاستيثاق قطعا ، لأنّ الراهن إمّا يؤدّي أو يكون هذا الرهن ملكا للمرتهن عوض دينه ، وعلى كلا التقديرين يكون ماله محفوظا إمّا

ص: 52


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 226.

بالأداء وإمّا بعوضه وهو نفس الرهن.

ثمَّ إنّه لو تلف مثل هذا الرهن في يد المرتهن ، فإن كان التلف قبل صيرورته بيعا فاسدا فلا ضمان ، لأنّ « ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده ». ومعلوم أنّ الرهن إذا تلف في يد المرتهن في العقد الصحيح لا ضمان له لأنّه أمانة مالكيّة ، ففي الفاسد كذلك.

وأمّا لو تلف بعد تعذّر الأداء وصيرورته بيعا فاسدا ، فيكون المرتهن ضامنا ، لقاعدة « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » ومعلوم أنّ البيع يضمن بصحيحه بضمان المسمّى فيضمن بفاسده.

والدليل على صحّة هاتين القاعدتين وتماميّتهما ذكرنا في بعض مجلّدات هذا الكتاب. وأمّا تطبيقهما على هذا المورد ففي غاية الوضوح ، ولا يحتاج إلى أزيد ممّا بيّنّا.

فرع : منافع العين المرهونة وكلّ ما يحصل منها من الفوائد تكون لمالك الرهن ، سواء كانت تلك المنافع والفوائد متّصلة أو منفصلة ، وسواء كانت بالاكتساب أو بغيره. وما كانت بالاكتساب كحيازة العبد المرهون ، أو غزل الجارية المرهونة مثلا ، وهذا واضح ، لأنّ كون منافع الملك للمالك ينبغي أن يعدّ من الضروريّات ، وليس محلاّ للإشكال والخلاف.

وإنّما الكلام وقع في أمر آخر ، وهو أنّ المنافع التي للعين المرهونة مطلقا من أيّ قسم كانت - أي متّصلة كانت أو منفصلة كانت ، موجودة حال وقوع عقد الرهن عليها أو تجدّدت وحصلت بعد الرهن ، شرط المرتهن أو لم يشترط - كلّها داخلة في الرهن ، أو لا يدخل كلّها مطلقا إلاّ إذا اشترط أو يفصّل بينهما والتفصيل أيضا أقسام؟

أقول : لا ينبغي أن يشكّ في دخول المنافع المتّصلة التي ليس لها وجود مستقلّ في قبال ذوات المنفعة ، بل تعدّ من أوصافها وأعراضها في الرهن. والعمدة في دليل ذلك هو شمول اللفظ لها ، فإذا قال الراهن : رهنتك هذا الغنم على الدين الفلاني. فسمنه أو

ص: 53

كمّيته الموجودة فعلا ، أو ما يتجدّد بعد العقد من وزنه وطوله وعرضه كلّها مشمولة لهذه اللفظة ، ويدلّ عليها بالدلالة التضّمنيّة فوقع العقد عليها.

وأمّا ما عدا ذلك فلا بدّ أن ينظر أنّ اللفظ يدلّ عليها في متفاهم العرف بحيث وقع إنشاء الرهن بتوسيط تلك اللفظة عليهما فداخل ، وإلاّ فخارج. وهذا هو الضابط الكلّي الذي يجب رعايته ولا يجوز التعدّي عنه إلاّ لأحد أمرين : إمّا الإجماع على دخول شي ء في الرهن وإن لم يكن مشمولا للفظ أو على خروج شي ء يكون مشمولا له ، وإمّا الاشتراط من الطرفين الراهن والمرتهن بدخوله أو خروجه.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما ذكره في الشرائع من دخول الحمل المتجدّد بعد الارتهان في رهن الأمّ (1) ليس كما ينبغي ، إلاّ أن يشترط أو يكون إجماع عليه ، وكذلك الثمر في النخل والشجر.

فلو رهن بستانا ، العين المرهونة هي الأرض مع ما فيها من النخيل والأشجار ، وأمّا أثمار تلك النخيل والأشجار فهي خارجة عن الرهن ، وكلّ ذلك لأجل خروجها عن مفهوم اللفظ عرفا ، فلم يقع إنشاء الرهن عليها ، فلا بدّ من دخولها في الرهن إمّا الاشتراط أو الإجماع.

وكذلك اللبن في الضرع خارج عن رهن الشاة أو البقرة مثلا ، لخروجه عن مفهوم الشاة عرفا ، مضافا إلى أنّ كون الحليب رهنا - خصوصا فيما إذا كان أجل الدين طويلا - لا يخلو عن إشكال.

نعم مثل الصوف والوبر والشعر المتّصلة بالحيوان المرهون والأوراق والأغصان حتّى اليابسة منها والسعف في النخيل ، الظاهر دخولها فيه ، لأنّها تعدّ عرفا من أجزاء العين المرهونة.

فإذا أنشأ الراهن المالك رهانة حيوان أو رهانة نخل أو شجر فالإنشاء يقع على

ص: 54


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 83.

مجموع ذلك الحيوان أو ذلك الشجر ، فجميع أجزاء ذلك الحيوان أو ذلك الشجر يدخل تحت إنشاء الرهن.

وأمّا الشي ء الخارج عن المرهون فلا يقع تحت الإنشاء ولا يكون رهنا ، إلاّ بالاشتراط أو الإجماع كما تقدّم ، فما يكتسب العبد المرهون بالحيازة أو بغيرها حيث يكون خارجا عن مسمّى العبد فلا يقع تحت إنشاء الرهن.

وقوله علیه السلام في رواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سأله عن رجل ارتهن دارا لها غلّة لمن الغلّة؟ قال : « لصاحب الدار » (1) أجنبي عن المقام ، وروايات أخر بهذا المضمون أيضا (2) ولكن كلّها في مقام رفع توهّم أنّ المرتهن يستحقّ منافع العين المرهونة ، فلا ربط لها بالمقام وهو دخولها في الرهن أو عدم دخولها فيه.

قال في الشرائع : من أنّه لو حملت الشجرة أو الدابّة أو المملوكة بعد الارتهان كان الحمل رهنا كالأصل على الأظهر (3) لا أظهريّة فيه ، وإن كان هو الأشهر بين المتقدّمين. وأمّا رأس الجدار ومغرس الأشجار إن أريد بالأوّل موضع الجدار من الأرض الذي بنى الجدار عليه ، وأريد بالثاني موضع غرس الشجر من الأرض ، فالظاهر خروجها عن رهن الجدار والشجر.

وخلاصة الكلام موارد الشكّ كثيرة ، ولا بدّ من مراعاة ذلك الضابط الذي ذكرنا ، فإذا بقي الشكّ ولم يحصل اليقين بانطباق ذلك الضابط في مورد فمقتضى الأصل عدم دخوله في الرهن ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

ص: 55


1- « الكافي » ج 5 ، ص 235 ، باب الرهن ، ح 12 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 4117 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 173 ، ح 767 ، باب في الرهون ، ح 24 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 132 ، أبواب الرهن ، باب 10 ، ح 3.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 131 ، أبواب الرهن ، باب 10.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 83.

فرع : لو رهن لقطة ممّا يلقط كالخيار والباذنجان وما يشبههما من المخضّرات والفواكه التي لها لقطات وقد يمتزج بعضها ببعض ، فإن كان حلول الدين والحقّ قبل تجدّد اللقطة التالية فلا إشكال في صحته ، لاجتماع شرائط الصحّة ، لأنّها عين خارجيّة متموّلة يمكن بيعها عند حلول الدين واستيفاء الحقّ منها إن لم يؤدّ الراهن الدين من جهة تعذّره أو تعسّره أو من جهة مماطلته ، فالمقتضي للصحّة موجود والمانع مفقود.

وأمّا إن كان بعد تجدّد التالية فربما يختلط الأولى التي صارت رهنا بالثانية ، فإن كانتا متميّزتين فأيضا لا إشكال في صحّته ، لعين ما ذكرنا من وجود المقتضي وفقد المانع في الصورة السابقة.

وأمّا إن لم تكونا متميّزتين بحيث صار الاختلاط سببا للاشتباه بين كونها من اللقطة التي جعلت رهنا أو من التي لم تجعل ، فربما يتوهّم بل قيل بالبطلان. ونسب إلى الشيخ قدس سره (1) لتعذّر الاستيفاء لعدم جواز بيعه عند حلول الأجل لكونه مجهولا. ولكن الأصحّ الصحّة وفاقا لجمع من أساطين الفقه كالعلاّمة (2) والشهيدين (3) وجامع المقاصد (4) وغيرهم (5) وذلك لأنّ استيفاء الحقّ ليس طريقه منحصرا بالبيع ، بل يمكن بالصلح ولو قهرا بعد القسمة تعيّنه أي ما هو المرهون ، فيجوز بيعه لارتفاع الجهل حكما ، بل يمكن من أوّل الأمر أن يصالح المرتهن مع شريكه صاحب اللقطة التالية بمال ، وهذا المقدار من الجهل لا يضرّ بصحّة الصلح.

هذا ، مضافا إلى أنّ اعتبار وجود هذه الشرائط واجتماعها يكون في حال إيقاع الرهن بمعنى حال إنشاء عقد الرهن يجب أن تكون العين المرهونة معيّنة معلومة قابلة

ص: 56


1- حكاه عن الشيخ في « المسالك » ج 1 ، ص 234. وهو في « المبسوط » ج 2. ص 242.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 165.
3- الشهيد الأوّل في « الدروس » ج 3 ، ص 396 ، والشهيد الثاني في « المسالك » ج 1 ، ص 234.
4- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 134.
5- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 38.

لأن تباع.

وأمّا الجهل العارض المتجدّد لا يضرّ بصحّة الرهن ، مثلا لو رهن عينا معلومة متموّلة على دين ثمَّ اختلطت تلك العين أو امتزجت بمال آخر متجانس أو غير متجانس بحيث لا يمكن تميّزهما وانفصالهما ، لا يكون ذلك موجبا لبطلان الرهن ، بل يجري على الرهن حكم الشركة ، فيقتسمان المرتهن أو الراهن أو كليهما مع صاحب المال الآخر ، ويتصالحان في اختصاص كلّ واحد من الشريكين بأحد القسمين ، فيبيع المرتهن بإذن الراهن حصّته عن المال المختلط أو الممتزج ، ويستوفي حقّه منه ، ولا يبقى إشكال في البين.

فرع : إذا كان الرهن من مستثنيات الدين كدار سكناه ودابّة ركوبه جاز بيعه واستيفاء دينه منه ، وأدلّة الاستثناء ناظرة إلى عدم جواز أخذها بعنوان أنّه مطلوب ومديون ، وأمّا إذا هو أخرجه من تحت يده وسلطانه بعنوان أن يكون وثيقة عند الدائن فلا تشمل مثل هذا المقام.

وبعبارة أخرى : استثناء المستثنيات في الدين لأجل الإرفاق على المديون وعدم التضييق عليه ، وقال اللّه تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) وأمّا إذا هو بنفسه ضيق على نفسه وباع داره السكنى وظلّ رأسه لأجل أداء دينه فلا مانع منه ، بل ربما يعدّ من كرائم الأخلاق وعلوّ الهمّة وكمال الورع.

وما رواه إبراهيم بن هاشم - أنّ محمد بن أبي عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر ، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم ، فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم وحمل المال إلى بابه فخرج إليه محمد بن أبي عمير فقال : ما هذا؟ فقال : هذا مالك الذي لك علىّ. قال : ورثته؟ قال : لا ، قال : وهب لك؟ قال : لا ، فقال : هو من ثمن ضيعة بعتها؟ فقال : لا ، فقال : ما هو؟ فقال : بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني. فقال

ص: 57

محمد بن أبي عمير حدثني ذريح المحاربي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين » ارفعها فلا حاجة لي فيها ، واللّه وإنّي لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم واحد (1) - لا يدلّ على أنّ المديون لو باع داره السكنى لوفاء دينه لا يجوز ، أو يكون بيعه باطلا.

وإنّما ظاهر كلام الصادق علیه السلام أنّه لا يلزم المديون ببيع داره لأجل وفاء دينه ، لأنّه نهى عن إخراجه بالدين ، ولا تعرّض في الرواية لما إذا باع المديون داره السكنى من عند نفسه عن غير إلزام الدائن إيّاه ، وأمّا عدم قبول ابن أبي عمير ثمن الدار فهو من علوّ نفسه ، وشدّة ورعه وتقواه ، ومواساته مع إخوانه المؤمنين.

فرع : لو وفى بيع بعض الرهن بالدين فلا يجوز بيع الزائد ، بل يقتصر على بيع المقدار الذي يفي بالدين ، وذلك من جهة أنّ الغرض من الرهن هو استيفاء المرتهن دينه منه ، فإذا حصل هذا الغرض ببيع البعض فتصرّف المرتهن في البعض الآخر وإجبار المالك على بيعه وسلب سلطنته على ماله منه يكون بلا وجه وبلا دليل ، فيقدر المالك على منعه من ذلك.

نعم لو لم يمكن التبعيض ، كما إذا كان درّة لا يرغب أحد في شراء بعضها ، أو يكون ضررا على المالك ، فيباع الكلّ ويعطى الفاضل للمالك.

فرع : لا تبطل الرهانة بموت الراهن ولا بموت المرتهن ، بل ينتقل الرهن إلى ورثة الراهن ولكن مشغولا بحقّ المرتهن ، وذلك من جهة أنّ ما تركه الميّت ينتقل إلى

ص: 58


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 190 ، باب الدين والقرض ، ح 3715 ، « علل الشرائع » ص 529 ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 198 ، ح 441 ، باب في الديون وأحكامها ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 95 ، أبواب الدين باب 11 ، ح 5.

ورثته ، فإن كان ما تركه ملكا طلقا ليس متعلّقا لحقّ أحد كذلك ينتقل إلى الورثة طلقا ، وإن كان متعلّقا لحقّ الغير أيضا كذلك ينتقل ، وكذلك ينتقل ما تركه المرتهن من حقّ أو مال إلى ورثته.

وفي المقام ما تركه الميّت هو حقّ الرهانة ، فنسبة ورثة الراهن إلى الرهن نسبة نفس الراهن أي المالكيّة ، ونسبة ورثة المرتهن أيضا كذلك نسبة نفس المرتهن ، أي يكون لهم حقّ الرهانة.

نعم يمكن هاهنا أن لا يشاء منهم الراهن على كون الرهن بيدهم ، فله أخذه من يدهم وإعطائه لأمين إن اتّفق الورثة عليه ، وإلاّ يرجع الأمر إلى الحاكم ويكون الأمر بيده ، فيسلّمه إلى من يرتضيه ويكون من صلاح الطرفين. وإن فقد الحاكم تصل النوبة إلى عدول المؤمنين.

فرع : إذا ظهر للمرتهن أمارات الموت ، يجب عليه الوصيّة بالرهن وتعيين الراهن والعين المرهونة والإشهاد كسائر الودائع ، لأنّ الرهن أمانة مالكيّة عند المرتهن ، فيجب عليه حفظها وإن أفرط يضمن ، كما هو الحال في سائر الأمانات.

وواضح أنّ ترك الوصيّة بل الإشهاد وعدم تعيين الراهن والمرهون كثيرا ما يوجب تلف الرهن وضياعه وعدم الوصول الى مالكه وهو الراهن ، فمن مقدّمات حفظه وعدم ضياعه في الفرض الإشهاد وتعيين الرهن والراهن ، فلو ترك المذكورات يكون مفرطا وضامنا.

فرع : لو استدان من شخص دينارا برهن ، وأيضا استدان من ذلك الشخص دينارا آخر بلا رهن ، فأعطى لذلك الشخص دينارا واحدا ، فقال الدافع الراهن : إنّ الدفع كان لأجل ذي الرهن. وقال القابض : كان وفاء للآخر الفاقد الرهن.

ص: 59

فتارة : يدّعي الدافع تعيين نيّة أحدهما المعيّن عن ذي الرهن أو فاقده ، فلا شكّ في قبول قوله ، لأنّه أبصر بما نوى. ولا يعلم نيّته إلاّ من قبله ، وقد حقّقنا في أبواب الدعاوي أنّ دعوى المدّعي الذي لا يعلم دعواه إلاّ من قبله يسمع ، ولا يكلّف بالبيّنة بل يوجّه إليه اليمين.

وأخرى : يدّعي بأنّي نويت وفاء ديني فقط ، من دون النظر إلى خصوص كلّ واحدة من الخصوصيّتين ، أي كون الدينار ذي الرهن أو فاقده ، فهاهنا وجوه واحتمالات :

الأوّل : التوزيع بمعنى أنّ الدينار يوزّع على الدينارين ، فيكون أداء نصف كلّ واحد منهما ، فلو أعطى نصف دينار بقصد ذي الرهن يفتكّ الرهن ، لأنّه بإعطائه النصف بقصد ذي الرهن أدّى ذي الرهن تماما.

وقد اختار هذا الوجه في جامع المقاصد (1) ، ووجّهه بأنّ عدم برء الذمّة من شي ء منهما محال ، لأنّه قبض هذا المقدار من دينه قبضا صحيحا قطعا ، وتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ وأن نقول بالتوزيع.

والثاني : بقاء التخيير الذي كان له من الأوّل ، لأنّه لم يعيّن فله أن يصرفه الآن بعد الأداء إلى ما شاء منهما بنيّة جديدة.

والثالث : القرعة لتعيين أنّ الأداء كان لأيّ واحد منهما. والقول بالقرعة مضافا إلى أنّ جريانها موقوف في كلّ مورد على عمل الأصحاب بها في ذلك المورد ، من المحتمل القريب أن يكون مورد جريانها فيما إذا كان له واقع غير معلوم وصار مشتبها ، فلا يشمل مثل المقام الذي في عالم الثبوت مجهول أنّه أداء لأيّ واحد من الدينارين ، هل لذي الرهن أو لفاقده ، وقد حقّقنا هذا المطلب في قاعدة القرعة (2).

ص: 60


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 157.
2- « القواعد الفقهية » ج ، ص.

وأمّا القول الثاني ، أي بقاء التخيير الذي كان له قبل الإعطاء إلى ما بعد الإعطاء ، فله أن يصرفه إلى ما شاء منهما. فاختاره فخر المحقّقين في الإيضاح قائلا إنّه تصرّف اختياري له من غير توقّف على اختيار أحد له ، وهو غير موقوف على غير الاختيار والدفع فيفعله متى شاء (1).

وهو غريب ، لأنّه وإن كان غير موقوف على غير الاختيار والدفع أي على شي ء آخر غير هذين ، وهو موقوف على هذين فقط.

ولكن أنت خبير بأنّ توقّفه على الاختيار ليس على مطلق الاختيار في أيّ وقت كان ، بل يكون موقوفا على الاختيار حال الدفع ، وإلاّ بعد ما دفع يقع الدفع على ما هو عليه ، ولا يتغيّر الشي ء بعد وقوعه عمّا هو عليه وقع.

والأصحّ هو الوجه الأوّل أي التوزيع ، لأنّه مديون لذلك الشخص بدينارين ، وكون أحدهما ذي رهن والآخر فاقده لا دخل له بعالم المديونيّة. فإذا أعطاه في المفروض دينارا فقد أدّى نصف ما عليه من دون ملاحظة خصوصية أخرى ، فقد برئت ذمّته من نصف ما عليه.

وحيث أنّ ذمّته كانت مشغولة بدينار ودينار المتميزان بعنوان آخر غير عنوان الدينيّة ، فبرئت ذمّته من نصف كلّ واحد منهما ، لأنّ كلّ واحد منهما ممّا عليه ، والمفروض أنّ ذمّته برئت من نصف ما عليه ، وهذا عين التوزيع.

وقد ذكر العلاّمة قدس سره في القواعد موارد كلّها من هذا القبيل (2) ، أي يكون من قبيل التوزيع ، أو بعد الوقوع يصرفه إلى ما شاء.

مثلا من جملة ما ذكره في القواعد : لو كان لزيد عليه مائة ولعمرو مثلها ووكّلا شخصا يقبض لهما ودفع المديون لزيد أو لعمر وفذاك ، وإلاّ فالوجهان : أي لو أعطى

ص: 61


1- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 44.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 166 - 167.

المديون مائة بقصد أداء دين زيد ، أو بقصد أداء دين عمرو فهو ، أي يتعيّن بالقصد ، وإلاّ أي لم يقصد أحدهما فيأتي الوجهان ، أي التوزيع أو يصرفه بعد الأداء إلى ما شاء منهما.

وأيضا من جملة ما ذكره من نظائر المقام قوله : لو تبايع المشركان درهما بدرهمين وسلم مشتري الدرهم درهما ، ثمَّ أسلما فإن قصد المشتري الذي أدّى درهما أداء الأصل فلا شي ء عليه ، لأنّه أدّى ما عليه والدرهم الزائد رباء ، وبعد أن أسلما لا يجوز للبائع أخذه ولا للمشتري ، لحرمة الربا أخذا وعطاء في الإسلام. وأمّا لو قصد المشتري أداء الفضل ولا الأصل ، فالأصل ليس رباء يجب عليه أدائه ، وما أعطى بعنوان الفضل حيث كان في زمان كفرهما وشركهما نافذ لا مانع. وإن لم يقصد شيئا منهما لا الأصل ولا الفضل ، فيأتي الوجهان أي التوزيع أو صرفه إلى واحد منهما شاء ، والنتائج معلومة.

وقد ذكر نظيرا آخر في المقام ، وكذلك صاحب الجواهر ذكر بعض نظائر المقام (1) ، ولكن الفقيه المتدبّر يفهم الفرق بين بعض ما ذكراه ومورد البحث ، فلا نطول الكلام.

فرع : لا إشكال في تحقّق الرهن بالعقد والمعاطاة. أمّا وقوعه بالعقد فربما يكون من القطعيّات ، بل من ضروريّات الفقه.

وإذا كان بالعقد فيحتاج إلى الإيجاب والقبول اللفظيين ، والإيجاب من الراهن ، وهو كلّ لفظ أفاد هذا المعنى أي جعل عين متموّل وثيقة لدينه ، بحيث لو تعذّر أو تعسّر أداء دينه ، أو ماطل من دون تعذّر أو تعسّر يستوفي الدائن حقّه من تلك العين التي عنده وثيقة ماله.

ص: 62


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 275.

فلو قال : رهنتك ، أو قال : أرهنتك - من باب الإفعال بناء على أنّها لغة مستعملة ، لا شاذّة مهجورة بلغ شذوذها حدّ المنع من استعمالها في مقام إنشاء المعاملات - أو قال : هذا رهن عندك ، أو قال : هذا وثيقة عندك على الدين الفلاني أو على مالك الذي في ذمّتي ، أو غيرها ممّا يفيد هذا المضمون يكفي في تحقّق الإيجاب.

ولا يعتبر فيه العربيّة بل يصحّ إنشاؤه بكلّ لغة ، لشمول العمومات له ، ولم يدّع أحد الإجماع على لزوم كونه بالعربيّة كما ادّعى في عقد النكاح كي يكون مخصّصا للعمومات ومقيّدا للإطلاقات.

وأمّا القبول : فهو عبارة عن كلّ لفظ دالّ على مطاوعة المرتهن ذلك الإيجاب الصادر من الراهن.

وأمّا وقوعه بالمعاطاة ، فلما ذكرنا في وجه عدم اعتبار العربيّة من شمول الإطلاقات لها ، وليس إجماع مخصّص أو مقيّد للإطلاقات. هذا ، مضافا إلى وجود السيرة العمليّة بين المسلمين في رهونهم بالمعاطاة ، كما أنّه جار في الأسواق ومعاملاتهم.

فرع : لو اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين ، فقال الراهن : إنّ هذه العين رهن على المائة مثلا ، وقال المرتهن : إنّها رهن على الألف مثلا ، فالقول قول الراهن حسب قواعد باب القضاء ، لأنّ المرتهن يدّعي الزيادة ، والأصل عدم اشتغال ذمّة الراهن بأزيد ممّا يقرّ ويعترف بوقوع الرهن عليه ، فيكون قول الراهن مطابقا للحجّة الفعليّة ، فهو المنكر والمرتهن هو المدّعي ، فالبيّنة عليه ، وعلى الراهن اليمين.

وحكى عن الإسكافي تقديم قول المرتهن ما لم تزد دعواه عن قيمة الرهن (1). ولكن المشهور على الأوّل ، وهو الأقوى لوجوه :

ص: 63


1- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 420.

الأوّل : ما ذكرنا أنّه مقتضى قواعد باب القضاء وقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (1).

الثاني : دعوى ابن زهرة (2) وابن إدريس (3) الإجماع على تقديم قول الراهن :

الثالث : دلالة روايات معتبرة عليه ، وقد عقد في الوسائل بابا في تقديم قول الراهن عند الاختلاف فيما على الرهن (4).

منها : صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام في رجل يرهن عند صاحبه رهنا لا بيّنة بينهما فيه ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فقال صاحب الرهن : أنّه بمائة ، قال علیه السلام : « البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بألف ، وإن لم يكن له بيّنة فعلى الراهن اليمين » (5).

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنته بألف ، وقال الآخر : بمائة درهم ، فقال : يسأل صاحب الألف البيّنة ، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب المائة (6).

ص: 64


1- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، مع تفاوت ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، ج 3 ، ص 523 ، ح 22 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ح 4.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 593.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 421.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 17 : انّهما إذا اختلفا فيما على الرهن ولا بيّنه فالقول قول الراهن مع يمينه.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 237 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 769 ، باب في الرهون ، ح 26 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 121 ، ح 432 ، باب أنّه إذا اختلف الرهن والمرتهن. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 1.
6- « الكافي » ج 5 ، ص 237 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 4116 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 771 ، باب في الرهون ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ح 434 ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 2.

ومنها : رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بيّنة بينهما ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، وقال صاحب الرهن : هو بمائة ، فقال علیه السلام : « البينة على الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين أنّه بمائة » (1).

وأنت خبير بأنّ هذه الروايات ظاهرة بل صريحة في أنّ القول هو قول الراهن الذي يقول بأنّ الدين أقلّ ، وأمّا المرتهن الذي يقول بأنّ الدين أزيد وهو الألف مثلا هو المدّعي ، وعليه البيّنة.

نعم هنا رواية أخرى ، وهي ما رواه السكوني عن جعفر علیه السلام عن أبيه علیه السلام عن عليّ علیه السلام في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن ، فقال الراهن : هو بكذا وكذا ، وقال المرتهن : هو بأكثر ، قال على علیه السلام : « يصدق المرتهن حتّى يحيط بالثمن ، لأنّه أمينه » (2).

وظاهر هذه الرواية مخالف لما يقوله المشهور ، ومطابق لفتوى الإسكافي ، وذلك لأنّ ظاهر الرواية وجوب تصديق المرتهن ما لم تزد دعواه على ثمن الرهن - كما هو تعبير جامع المقاصد (3) - أو ما لم يستغرق ما يدّعيه ثمن الرهن كما هو عبارة الشرائع (4).

والفرق بين العبارتين أنّه بناء على التعبير الأوّل إذا كان دعوى المرتهن بمقدار ثمن الرهن لا أقلّ ولا أكثر تقبل ، لأنّها لم تزد على ثمن الرهن. وبناء على التعبير الثاني لا تقبل ، لأنّها تستغرق ثمن الرهن ، وظهور الرواية بل صريحه الثاني ، لقوله علیه السلام :

ص: 65


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 770 ، باب في الرهون ، ح 27 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 121 ، ح 433 ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 138 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 308 ، باب الرهن ، ح 4102 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 175 ، ح 774 ، باب في الرهون ، ح 31 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ح 435 ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 138 ، أبواب الرهن ، باب 17 ، ح 4.
3- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 159.
4- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 85.

« يصدّق المرتهن حتّى يحيط بالثمن » فبناء على خروج الغاية عن المغيّى حكما - كما هو الظاهر - فإذا أحاطت بالثمن ، لا تقبل وإن لم تزد عليه فعبارة الشرائع أوفق مع الرواية.

وعلى كلّ الظاهر أنّ مستند الإسكافي في فتواه هذه الرواية.

ولكن هذه الرواية لا يمكن الاستناد والاعتماد عليها لوجوه :

الأوّل : ضعف سندها كما هو معلوم.

الثاني : معارضتها بما هو أقوى سندا وأصرح دلالة.

الثالث : موافقتها لفتوى المخالفين.

الرابع : إعراض المشهور عنها.

ولذلك حملها الشيخ قدس سره على أن الأولى للراهن أن يصدّق المرتهن (1). لكنّه عجيب ، لأنّ الراهن حيث يدري بكذب دعوى المرتهن كيف يكون الأولى أن يصدّق المرتهن ، بل ربما يقع من تصديقه في ضيق شديد ، وذلك فيما إذا كان ما يدّعيه من الزيادة كثيرا بحيث يكون أداؤه على الراهن في غاية الصعوبة.

فالأولى الإعراض عنها وعدم الاعتناء بها ، كما صنع المشهور ، ويكون مقتضى القواعد المقرّرة في الأصول في باب تعارض الروايات.

فرع : قال في الشرائع : لو اختلفا في متاع فقال أحدهما - أي المالك - : هو وديعة ، وقال القابض : هو رهن ، أنّ القول قول المالك ، وقيل : قول الممسك ، والأوّل أشبه (2) ، انتهى. لأنّه مطابق مع الأصل ، أي : أصالة عدم كونه رهنا ، وذلك لأنّه يحتاج إلى جعل وإنشاء من قبل المالك وقبول من قبل المرتهن ، أي وقوع عقد الرهانة. وهذا

ص: 66


1- « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ذيل ح 435.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 85.

أمر غير معلوم الصدور منهما ، فيستصحب عدمه ، فقول المالك الذي ينكر الرهانة ويقول وديعة مطابق للحجّة الفعليّة ، فهو المنكر ، إذ هذا هو الميزان في تشخيص المدّعي والمنكر.

لا يقال : كما أنّ الأصل عدم كونه رهنا كذلك مقتضى الأصل عدم كونه وديعة فيتعارضان.

لأنّ عدم الوديعة في المقام لا أثر له ، لأنّ الطرفين - أي المالك والقابض - معترفان بأنّه ملك لزيد مثلا الذي يدّعي أنّه وديعة ، وأيضا الطرفان معترفان بعدم ضمان اليد لو وقع التلف عليه.

فاستصحاب عدم كونه وديعة لا يثبت شيئا ، بخلاف أصالة عدم كونه رهنا - بعد الفراغ عن كونه مال مدّعي كونه وديعة - يثبت طلقيّته عن قيد الرهانة ، ويأخذه عن مدّعي الرهينة متى شاء.

هذا ، مضافا إلى صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام في رجل رهن عند صاحبه رهنا ، فقال الذي عنده الرهن : أرهنته عندي بكذا وكذا ، وقال الآخر : إنّما هو عندك وديعة ، فقال : « البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا ، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين » (1).

ودلالة هذا الصحيح على مقالة المشهور ، أي قبول قول من ينكر الرهن الذي هو المالك واضحة. وبعبارة أخرى : يدلّ على أنّ القابض الممسك للمتاع مدّع وعليه البيّنة ، والمالك المدّعي أنّه وديعة منكر للرهن فعليه اليمين أنّه ليس برهن إن لم تكن بيّنة للقابض على أنّه رهن.

ص: 67


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 729 ، باب في الرهون ، ح 26 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 123 ، ح 438 ، باب في أنّه إذا اختلف نفسان في متاع. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 136 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ح 1.

ولكن في الوسائل بعد ما ذكر الصحيح قال : وحمله الشيخ على أنّ عليه البيّنة في مقدار ما على الرهن ، لا على أنّه رهن ، لما يأتي (1).

ومقصوده ممّا يأتي رواية ابن أبي يعفور ، ورواية عبّاد بن صهيب اللتان سنذكر هما إن شاء اللّه تعالى.

وبناء على ما حمل عليه الشيخ تكون الصحيحة أجنبيّة عن فتوى المشهور ، ولا تكون معارضة لرواية عبّاد بن صهيب ، ولا لرواية ابن أبي يعفور.

أمّا الأوّل ، أي رواية عبّاد بن صهيب ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام من متاع في يد رجلين أحدهما يقول : استودعتكه ، والآخر يقول : هو رهن ، قال : فقال علیه السلام : « القول قول الذي يقول هو أنّه رهن إلاّ أن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود » (2).

وأمّا الثاني ، أي رواية ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « فإن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر أو اختلفا فقال أحدهما : هو رهن وقال الآخر : هو وديعة قال : على صاحب الوديعة البيّنة ، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب الرهن » (3).

وهاتان الروايتان ظاهرتان في تقديم قول مدّعي الرهن وأنّ عليه اليمين إن لم يأت المالك بالبيّنة على أنّه وديعة ، فلو قلنا بمقالة الشيخ في صحيحة محمّد بن مسلم فلا تعارض بينهما وبين الصحيحة ، فيجب الأخذ بهما والقول بخلاف القول المشهور ، أي تقديم قول القابض على المالك ، كما هو مفاد هاتين الروايتين.

ص: 68


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 136 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ذيل ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 238 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 306 ، باب الرهن ، ح 4097 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 176 ، ح 776 ، باب في الرهون ، ح 33 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 122 ، ح 436 ، باب في أنّه إذا اختلف نفسان. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 137 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ح 3.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 238 ، باب الاختلاف في الرهن ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 312 ، باب الرهن ، ح 411 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 174 ، ح 771 ، باب في الرهون ، ح 28 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 136 ، أبواب الرهن ، باب 16 ، ح 2.

ولكن حيث أنّ حمل الشيخ خلاف ظاهر الصحيحة ، فيقع التعارض بين الصحيحة وبينهما ، ويجب تقديم الصحيحة وترك العمل بهما ، لإعراض المشهور عن العمل بهما.

بل ربما يدّعي الإجماع على ترك العمل بهما ، فيوجب خروجهما عن الحجيّة بل ربما يقال بموافقتهما للتقيّة. وهذا على تقدير صحته وجه آخر وجيه ، لعدم حجيّتهما ولزوم طرحهما.

فما ذهب إليه الشيخ في الاستبصار (1) ، والصدوق في المقنع (2) على ما حكى عنها مستندا إلى هاتين الروايتين من تقديم قول القابض - أي من يدّعي الرهن - بأنّ الحلف وظيفته ، وعلى من يدّعي أنّه وديعة - أي المالك - البيّنة في غاية الضعف.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ التفصيل الّذي حكى عن أبي حمزة من أنّ المالك الراهن إن اعترف للقابض بالدين فالقول قول القابض ، وأمّا إن أنكر أصل الدين وقال : إنّي وضعت متاعي عنده أمانة فالقول قول المالك الراهن (3) ، لأنّ إنكاره لأصل الدين على فرض تسليم أنّه موجب للظنّ بأنّه ليس برهن ، وكذلك إقراره بأصل الدين على فرض أن يكون موجبا للظنّ بأنّه رهن لا وديعة لا يوجب عدم جريان الأصول الشرعيّة كأصالة عدم كونه رهنا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إقراره بالدين أمارة شرعا على أنّ ما بيد الدائن من مال المديون رهنا. ولكن هذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، مضافا إلى أنّ ظهور الصحيحة يردّ هذا الاحتمال.

وكذلك التفضيل الذي نسب إلى ابن الجنيد الإسكافي (4) من الفرق بين صورتي

ص: 69


1- « الاستبصار » ج 3 ، ص 123 ، ذيل ح 3.
2- « المقنع » ص 129.
3- « الوسيلة » ص 266.
4- حكى في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 421.

اعتراف القابض للمالك بكونه أمانة في يده ثمَّ صارت رهنا ، وصورة ادّعائه أنّه من أوّل الأمر أعطاه بعنوان الرهن.

ففي الصورة الأولى : القول قول المالك. وفي الثانية : القول قول القابض ، وذلك من جهة جريان أصالة عدم كونه رهنا حتّى في الصورة الثانية ، مضافا إلى إطلاق الصحيحة وشمولها لكلتا الصورتين لو فرضنا عدم صحّة حمل الشيخ ، كما هو المفروض.

فرع : لو أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ورجع واختلفا ، فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : رجعت بعد البيع ، فالمشهور على أنّ القول قول المرتهن.

ووجّه في الشرائع قول المشهور وفتواهم بقوله : إذ الدعويان متكافئان (1) ، أي دعوى عدم تقديم الرجوع على البيع من طرف الراهن ، مع دعوى عدم تقدّم البيع على الرجوع من طرف المرتهن متكافئان ، أي استصحاب عدم وجود الرجوع إلى زمان وجود البيع الذي مفاده ثبوت موضوع الصحّة مع استصحاب عدم وجود البيع إلى زمان الرجوع الذي مفاده فساد البيع متكافئان متعارضان ، فيتساقطان ويجري استصحاب بقاء الرهانة.

وهذه المسألة من حيث الشكّ في تقدّم الرجوع على البيع أو تقدّم البيع على الرجوع من صغريات المسألة المعروفة : أصالة تأخّر الحادث فيما إذا علم بوجود حادثين وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، ولها صور كثيرة.

لأنّ الحادثان إمّا متضادّان لا يمكن اجتماعهما كالحدث والطهارة ، فلا بدّ وأن يكونا متعاقبين. وإمّا يمكن اجتماعهما ، أي يكون وجود كلّ واحد منهما في زمان وجود الآخر

ص: 70


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 85.

كموت متوارثين. ومورد بحثنا حيث يمكن أن يكون زمان رجوع المرتهن متّحدا مع زمان وقوع البيع.

وعلى كلّ واحد من الفرضين إمّا أن يكون كلاهما مجهولي التاريخ أو لا ، بل يكون أحدهما معلوم التاريخ. أمّا كون كلاهما معلوم التاريخ فخارج عن الفرض ، لأنّه لو كان كذلك لا يبقى شكّ في البين.

ونحن حقّقنا هذه المسألة بشقوقها في كتابنا « منتهى الأصول » في تنبيهات الاستصحاب (1) ، وقد رجّحنا جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ في كليهما ، فيتساقطان بالتعارض.

وفيما نحن فيه إذا فرضنا أنّ الرجوع والبيع كلاهما مجهولا التاريخ فالاستصحابان يتعارضان ، فإذا تساقطا تصل النوبة إلى الأصول الآخر ، كأصالة الصحّة في البيع ، أو أصالة بقاء الرهانة في طرف من يدّعي فساد البيع بالرجوع وهو المرتهن ، فيقع التعارض بين هذين الأصلين ، فإذا تساقطا لعدم ترجيح أحدهما على الآخر يكون المرجع هو عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » لأنّ كونه مال الراهن معلوم ولا شكّ في كونه ملكا له.

ولكن ربما يقال بتقديم أصالة بقاء الرهانة على أصالة صحّة البيع الواقع في الخارج ، وذلك من جهة أنّ صحّة البيع الواقع في الخارج مشروط شرعا بسبق الإذن من المرتهن ، لأنّ تصرّف الراهن في الرهن ممنوع شرعا وإن كان ملكه إلاّ بإذن المرتهن فنفوذ ، تصرّفاته بالبيع أو بغيره مشروط بهذا الشرط - أي سبقه بالإذن - والأصل عدمه ، بخلاف أصالة بقاء الرهانة فإنّ هذا الأصل غير مشروط بشي ء إلاّ اليقين بحصول الرهن والشكّ ، وهذا اليقين والشكّ حاصل بالوجدان ، فموضوع هذا الاستصحاب حاصل ، وليس مشروطا بشرط آخر ، فلا يجري في عوض استصحاب

ص: 71


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 495.

بقاء حقّ الرهانة أصالة صحّة البيع كي يتعارضان.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ جريان أصل العدم في سبق الإذن مبني على تقدّم الرجوع على البيع ، كي يرتفع الإذن الصادر من المرتهن ، وإلاّ لو كان الرجوع متأخّرا عن البيع لا يبقى محلّ لجريان أصالة عدم سبق الإذن. والمفروض أنّ أصالة عدم تقدّم الرجوع على البيع يجري ، ولكن يسقط بالمعارضة مع أصالة عدم تقدّم البيع على الرجوع.

ففي الحقيقة أصالة عدم سبق الإذن يسقط بمعارضتها مع أصالة عدم تقدّم الرجوع على البيع ، إذ مفاد أصالة عدم سبق الإذن على البيع هو تقدّم الرجوع عليه ، فيتعارضان ويتساقطان ، فلا تجري أصالة عدم سبق الإذن كي تكون مانعة عن جريان أصالة الصحّة.

وأفاد في المسالك (1) - في وجه ترجيح أصالة بقاء الرهانة على أصالة الصحّة في جانب البيع الصادر يقينا - بأنّ الرهانة سابقا قبل وجود البيع كانت معلوم الوجود ، لوقوعها سابقا جامعة لجميع الشرائط ، وإنّما حصل الشكّ في طروّ المبطل ، وأمّا صحّة البيع الواقع في الخارج فمشكوكة من أوّل وجوبه ، ولم يكن البيع معلوم الصحّة في زمان ، فتكون أصالة بقاء الرهانة أقوى من هذه الجهة من أصالة الصحّة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الفرق كان فارقا وصحيحا لو كان مدرك أصالة الصحّة هو استصحاب الصحّة ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بوجود شي ء سابقا والشكّ في بقائه ، وهذا المعنى في حقّ الرهانة في مورد البحث موجود ، وليس في صحّة البيع موجودا.

وأمّا لو لم يكن مدرك أصالة الصحّة وموضوعها هو القطع بوجود شي ء والشكّ في بقائه ، بل كان المدرك لها هو بناء العقلاء على أنّ العمل المركّب الذي صدر عن

ص: 72


1- « المسالك » ج 1 ، ص 236.

المكلّف - وشكّ في أنّه هل وجد صحيحا وجامعا للأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع أم لا بل فيه اختلال - على أنّه وجد صحيحا وتامّا ليس فيه اختلال.

فهذا الفرق الذي ذكره في المسالك لا أثر له ولا يثمر فائدة في المقام ، بل لو شكّ في صحّة العقد والبيع الموجود في الخارج من جهة اختلال فيه ، لاحتمال فقد جزء أو شرط أو وجود مانع ، فالعقلاء لا يعتنون بهذه الاحتمالات ويبنون على الصحّة ، فهذا الكلام من المسالك لا يخلو عن غرابة.

نعم يمكن أن يقال : إنّه في هذا المورد وجد أمران يقينا فنشكّ في بقائهما ، أحدهما : الرهن فإنّه وجد جامع للشرائط يقينا ، وبعد وجود البيع نشكّ في بقائه ، لأنّه إن كان البيع الواقع عن إذن المرتهن ووقع صحيحا فزال الرهن قطعا ، وإلاّ إن لم يقع صحيحا فباق قطعا.

وذلك من جهة أنّ مزيل الرهن هو البيع الصحيح ، لا الإذن بالبيع ، وحيث نشكّ في وقوع البيع صحيحا فنشكّ في بقاء الرهن ، فيكون موردا للاستصحاب.

ثانيهما : الإذن ، فإنّه وجد وصدر عن المرتهن يقينا ، ونشكّ في بقائه إلى آخر زمان وقوع البيع ، لاحتمال كون الرجوع المعلوم الوقوع قبل البيع ، فنشكّ في بقاء الإذن إلى آخر زمان البيع ، فيكون موردا للاستصحاب. وهذان الاستصحابان متعارضان لا يجتمعان فيتساقطان ، فيبقى المجال لجريان أصالة عدم سبق العقد بالإذن ، ومع جريان هذا الأصل لا يبقى مجال لجريان أصالة الصحّة ، لاشتراط الصحّة بسبق الإذن ، وفرضنا أنّ الأصل عدمه.

نعم لو لم يجر هذا الأصل فلا مانع من جريان أصالة الصحّة ، لأنّ احتمال كون البيع عن غير إذن المرتهن وبدونه لا يضرّ بجريان أصالة الصحّة ، بل يكون مورد جريانها هو فيما إذا احتمل فقد جزء أو شرط أو وجود مانع.

نعم يمكن أن يقال : إنّ جريان أصالة الصحّة في البيع لا ينافي بقاء الرهانة وعدم

ص: 73

تأثير البيع في النقل والانتقال ، لعدم حصول شرطه وهو إذن المالك ، فالصحّة هاهنا عبارة عن أنّ العقد وقع تامّ الأجزاء والشرائط ، ولكن تأثيره في النقل موقوف على إذن المالك ، مثل الصحّة التي قالوا بها في باب الفضولي ، ومثل هذه الصحّة لا ينافي استصحاب بقاء الرهانة ولا تعارض بينهما ، خصوصا مع ملاحظة جريان أصالة عدم وقوع البيع في حال الإذن.

وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان كلاهما - أي الإذن والرجوع - مجهولي التاريخ.

وأمّا إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، فإن قلنا بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، لأنّه لا شكّ هناك ، لأنّه قبل زمان حدوثه الذي هو زمان معيّن معلوم ومقطوع العدم ، وبعد زمان حدوثه معلوم الوجود ، فلا يبقى مورد للاستصحاب ، فيكون استصحاب مجهول التاريخ بلا معارض ، ويجري ويترتّب عليه آثاره.

وإن قلنا بجريانه بالنسبة إلى زمان مجهول التاريخ لتماميّة أركانه ، فيكون حاله حال الصورة الأولى. والمسألة مفصّلة ومشروحة مذكورة في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

فرع : الظاهر أنّه ليس للمرتهن إلزام الراهن بالوفاء بعين الرهن ، وذلك لأنّ ذمّته مشغولة بالدين وهو كلّي له أن يطبّق على أيّ فرد من تلك الطبيعة التي في ذمّته.

فلو كان مثلا دينه الذي في ذمّته عشرة دنانير ، فأرهن عنده ورقة ماليّة هي من الأوراق التي تسمّى ورقة عشرة دنانير ، فليس للمرتهن أن يلزم الراهن بإعطاء هذه الورقة التي عنده ، إذ الذي يطلبه المرتهن هي عشرة دنانير الكلّي الذي له مصاديق متعدّدة ، منها عشرة أوراق كلّ واحدة منها دينار واحد ، ومنها ورقتين كلّ واحدة منها خمسة دنانير ، ومنها ورقة واحدة هي عشرة ، وخصوصيات هذه الأوراق ملك

ص: 74


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 494.

للراهن ، فله أن يطبق الكلّي على ما أراد من تلك المصاديق.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الرهن من الجنس الموافق للدين كما في المثال الذي ذكرناه ، أو من الجنس المخالف له ، وذلك كلّه من جهة أنّ الدين كلّي ، فلا بدّ في مقام الأداء أن يرفع المديون اليد عن الخصوصيّة التي يملكها ، كي يكون قابلا للدفع والأداء.

وحيث أنّ جميع الخصوصيّات ملكا للمديون فهو مخيّر عقلا في رفع اليد عن أيّة واحدة من تلك الخصوصيّات وتطبيق الكلّي على ذلك الفرد ، كما أنّه للمرتهن الدائن عدم القبول إذا كان الرهن من جنس الدين ، بل ليس له عدم القبول إذا كان ما يعطيه الراهن في مقام الأداء من جنس الدين ، ومصداقا حقيقيا للدين وإن كان غير الرهن ، لأنّه إذا كان من جنس الدين فهو مصداق حقيقي ويصدق عليه أنّه هو فكيف لا يقبل ، فليس حينئذ له إلزام الراهن بالبيع وإعطاء ثمنه له وفاء لدينه.

وأمّا إذا كان الرهن من غير جنس الدين واتّفقا - أي الراهن والمرتهن - في بيعه بما هو من جنس الحقّ أو من غير جنس الحق ، أو دفعه بنفسه عنه ، فبعد الاتّفاق لا إشكال في جميع ذلك ، وذلك لأنّ الأمر بينهما ، فإذا رضيا فلا بأس.

وأمّا بناء على اتّفاقهما على البيع إذا اختلفا فيما يباع به بعد البناء منهما على البيع بالنقد ، ولكن الاختلاف من جهة أنّ كلّ واحد منهما يريد نقدا غير ما يريد الآخر ، مثلا أحدهما أراد بيعه بالدرهم والآخر أراد بالدينار ، أو أحدهما يريد بيعه بالدنانير من الذهب والآخر يريد بالدنانير من الأوراق ، ففي مثل هذا الاختلاف وقع الخلاف في أنّه هل يقدّم قول الراهن المالك أو قول المرتهن ، أو لا هذا ولا ذاك بل لا بدّ وأن يباع بالنقد الغالب بالبلد والظاهر من البلد بلد البيع؟

وجه الأوّل : هو أنّ الرهن مال الراهن ، فهو الذي يكون يعيّن بدل ماله ، والمعاوضة والمبادلة يقع بينه وبين المشتري بتبديل ماليهما ، وإنّما المرتهن له حقّ

ص: 75

استيفاء دينه من هذا المال الذي هو المسمّى بالرهن ، نعم لا بدّ وأن يكون البيع بشي ء لا يتضرّر المرتهن به.

وجه الثاني : أنّ البيع يكون من جهة مراعاة حقّ المرتهن وصلاحه واستيفاء حقّه ، فإذا اختار شيئا ورأى صلاحه في بيع الرهن به يجب مراعاته.

وجه الثالث ولعلّه القول المشهور : هو أنّ إطلاق قوله علیه السلام : « يبيعه » في رواية إسحاق بن عمّار (1) ينصرف إلى نقد الغالب في البلد وذلك من جهة أنّ العرف بينهم من قول الشخص لعبده أو لوكيله بع الشي ء الفلاني أنّه يجب عليه ان يبدله بالنقد الغالب في البلد.

نعم هنا كلام وهو أنّه هل يجوز أن يبيعه الراهن أو المرتهن بدون المراجعة إلى الحاكم ، أو يجب رجوعهما إليه فهو يباشر بيعه ، أو يوكّل شخصا آخر ، أو يأذن أحدهما في بيعه؟

الظاهر أنّهما في صورة اختلافهما يجب أن يراجعا إلى الحاكم ، لأنّ بيده الأمر عند التشاحّ وهو وليّ الممتنع ، فيجبرهما على البيع بالنقد الغالب في البلد ، لأنّه المنصرف من لفظ « يبيعه ».

وقال في الدروس : ولو اختلفا فيما يباع به بيع بنقد البلد بثمن المثل حالاّ سواء كان موافقا للدين أو اختيار أحدهما أم لا ، ولو كان فيه نقد أن بيع بأغلبهما ، فإن تساويا فبمناسب الحقّ فإن بايناه عيّن الحاكم إن امتنعا عن التعيين ، ولو كان أحد المتباينين أسهل صرفا إلى الحقّ تعيّن (2).

وقوله : « فإن بايناه » أي باين النقدان الحقّ ولا يناسبه كلّ واحد من النقدين ، مثلا

ص: 76


1- « الكافي » ج 5 ، ص 233 ، باب الرهن ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 309 ، باب الرهن ، ح 4105 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 168 ، ح 747 ، باب في الرهون ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 124 ، أبواب الرهن ، باب 4 ، ح 2.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 400.

أحد النقدين هو الدرهم والنقد الآخر هو الدينار والحقّ هو الريال مثلا ، وكلّ واحد من النقدين لا يناسب الحقّ أي الدين ، فإذا امتنع كلّ واحد من الراهن والمرتهن من التعيين عيّن الحاكم أحد النقدين المتساويين في البلد من حيث الرواج في معاملاتهم.

وقال في القواعد أيضا مثل ما قال الشهيد في الدروس : ولو عيّنا ثمنا لم يجز له التعدّي ، فإن اختلفا لم يلتفت إليهما ، إذ للراهن ملكيّة الثمن وللمرتهن حقّ الوثيقة ، فيبيعه بأمر الحاكم بنقد البلد ، وافق الحقّ قول أحدهما أو لا ، وإن تعدّد فبالأغلب ، فإن تساويا فبمساوي الحقّ ، وإن باينهما عيّن له الحاكم (1).

وقال في التذكرة : لو اختلف المتراهنان فقال أحدهما : بع بدنانير ، وقال الآخر : بع بدراهم ، لم يبع بواحد منهما ، لاختلافهما في الإذن ولكلّ منهما حقّ في بيعه ، فللمرتهن حقّ الوثيقة في الثمن واستيفاء حقّه منه ، وللبائع الراهن ملك الثمن ، فإذا اختلفا رفعا ذلك إلى الحاكم فيأذن له أن يبيعه بنقد البلد ، سواء كان من جنس حقّ المرتهن أو لم يكن ، وسواء وافق ذلك قول أحدهما أو خالفه ، لأنّ الحظّ في البيع يكون بنقد البلد. ولو كان النقدان جميعا نقد البلد باعه بأعلاهما ، وإن كانا متساويين في ذلك فباع بأوفرهما حظّا ، فإن استويا في ذلك باع بما هو من جنس الحقّ منهما ، فإن كان الحقّ من غير جنسهما باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الحقّ وأقرب إليه ، فإن استويا في ذلك عيّن الحاكم أحدهما فباع به وصرف نقد البلد إليه (2).

وهذه العبارات متّفقة في لزوم الرجوع إلى الحاكم في مورد الاختلاف وتقديم نقد البلد على سائر الأثمان ، وإن كان في بعض شقوق المسألة وصورها اختلاف يسير.

ولكن الأوجه في المقام أن يقال : إن وكّل الراهن المرتهن في ضمن عقد لازم في بيع الرهن بحيث لا يجوز له عزله إذا حلّ الدين ولم يعطه الراهن لإعساره أو لمماطلته

ص: 77


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 163.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 36.

أو بسبب آخر ، فالأمر بيد المرتهن ولا يلزم الرجوع إلى الحاكم ، نعم يلزم على المرتهن مراعاة مصلحة الراهن أيضا من حيث اختيار ما كان من الثمن أنفع بحاله وأعود عليه مضافا إلى مصلحة نفسه ، كما هو الحال في كلّ وكيل حيث يجب أن يكون فعله ذا مصلحة لوكيله.

نعم له أن يستوفي دينه أيضا بحيث لا يتضرّر ولا يكون في استيفائه نقصان. فلا مجال للكلام في أنّهما إذا اختلفا في تعيين الثمن وما يباع به بل أمر بيد الوكيل.

وأمّا إذا لم تكن وكالة في البين فإن أدّى الراهن دينه فهو ويفتكّ الرهن ، وإن لم يؤدّ لإعسار أو لجهة أخرى فيراجعه المرتهن بالوفاء ولو ببيع الرهن أو يوكله في بيعه ، فإن لم يفعل ذلك - أي لم يبع ولم يوكله أيضا - يرفع المرتهن أمره إلى الحاكم ليلزمه بالوفاء أو البيع ، فإن فقد الحاكم أو لم يكن مقتدرا على إلزامه على ما ذكر لعدم بسط يده ، فللمرتهن أن يبيعه بإذن الحاكم ويستوفي حقّه من ثمنه أو أيّ مقدار ممكن منه.

نعم يلزم في هذا الفرض أن يراعى المرتهن البائع مصلحة الراهن المالك أيضا كما يراعي مصلحة نفسه في استيفاء دينه منه.

وهذا الذي ذكرناه هو مقتضى القواعد الأوّلية إذا لم يكن إجماع أو نصّ في البين.

فرع : إذا ادّعى المرتهن رهانة شي ء معيّن وأنكرها الراهن وادّعى أنّ الرهن هو الشي ء المعيّن الفلاني ، وليس هناك بيّنة لا على ما يدّعي المرتهن رهانته ولا على ما يدّعي الراهن رهانته ، وكلّ واحد منهما ينكر ما يدّعيه الآخر فكلّ واحد من الراهن والمرتهن مدّع بالنسبة إلى شي ء ومنكر بالنسبة إلى شي ء آخر ، فهل يكون من باب التداعي فإذا لم تكن بيّنة في البين من الطرفين فيتحالفان كما هو المقرّر في باب التداعي ، أو الحلف وظيفة الراهن فقط وأمّا المرتهن فإنكاره لما يدّعي الراهن رهنه كاف لبطلان رهانته؟

ص: 78

أقول : الظاهر أنّه ليس من باب التداعي والتحالف ، لأنّه لا حلف على المرتهن في إنكاره ما يدّعيه الراهن ، إذ عقد الرهن جائز من طرف المرتهن ولازم من طرف الراهن - كما تقدّم في بعض الفروع المتقدّمة - فإنكار المرتهن رهنيّته بمنزلة الفسخ ، فاحتياجه إلى الحلف في نفي آثار الرهن عمّا يدعيه الراهن لا وجه له ، مع حصول هذا الأمر بنفس رفع اليد عن التزامه وتعهّده بكونه رهنا.

وإن شئت قلت : إنّ إنكاره معناه عدم الرضا بكونه رهنا وعدم التزامه بذلك ، فعلى تقدير كونه رهنا واقعا يرجع إنكاره إلى إعدام التزامه وتعهّده بقاء ، وهذا هو عين الفسخ ، والمفروض أنّ العقد جائز من طرفه وله أن يفسخ في أيّ وقت شاء.

وأمّا ما ربما يتوهّم من أعمّية الإنكار من الفسخ ، وبوجود الأعمّ لا يثبت الأخص.

ففيه : أنّه وإن كان الأمر كذلك وثبوت الأعمّ لا يستلزم ثبوت الأخصّ ، ولكن فيما نحن فيه يمكن ادّعاء ملازمة عرفيّة بينهما ، كما إذا أنكر الموكّل وكالة شخص في أمر ، فالعرف يفهم من هذا الإنكار أنّه على تقدير إن كان وكيلا فبالنسبة إلى الزمان الآتي ليس بوكيل ، وهذا الإنكار فسخه من حينه.

هذا ، مضافا إلى الاتّفاق والإجماع من الأصحاب أنّ بإنكار المرتهن رهانة شي ء تبطل رهانته. هذا بالنسبة إلى المرتهن.

وأمّا الراهن حيث أنّ العقد لازم بالنسبة إليه فيكون منكرا لما يدّعيه المرتهن ، لأنّ قوله مطابق مع أصالة عدم رهانة ما يدّعي المرتهن رهانته ، فيكون عليه الحلف ، فظهر أنّه ليس من باب التداعي والتحالف.

والذي ذكرنا من أنّ هذا الفرع ليس من باب التداعي والتحالف فيما إذا لم يكن الرهن المتنازع فيه مشروطا ، أمّا لو كان كذلك أي كان الرهن المتنازع فيه شرطا في بيع - مثلا لو باع بستانه بألف دينار نسيئة إلى سنة ، وشرط على المشتري أن يرهنه

ص: 79

الشي ء الفلاني المعيّن ، وبعد وقوع البيع تنازعوا فقال البائع المرتهن : إنّ الشرط كان رهن دارك ، وقال المشتري الراهن : إنّ الشرط كان رهن دكّاني الفلاني ، وأنكر البائع ذلك - فكلّ واحد منهما يدّعي رهانة شي ء معيّن وينكر ما يدّعيه الآخر.

ولكنّ في المفروض ليس إنكار المرتهن لرهنيّة ذلك الدكّان إبطالا لرهنيّته ، لأنّ الرهن من طرفه عقد جائز ويكون إنكار رهانته فسخا كما ذكرنا ، وذلك الشرط في الحقيقة يرجع إلى كيفيّة الثمن وعن مكمّلاته ، وبه تحصل زيادة أو نقيصة في الثمن ، فكأنّه جزء للثمن ، فيكون حال اختلاف الشرط حال اختلاف نفس الثمن.

فكما أنّه لو قال البائع في المثل المذكور : بعتك بستاني بدارك ، وأنكره المشتري وادّعى أنّه بعت البستان بدكّاني ، فيكون هذه الدعوى من باب التداعي ، وكلّ واحد منهما مدّع بالنسبة إلى ثمن ، ومنكر بالنسبة إلى الثمن الذي يدّعيه الآخر ، فإذا لم تكن لكلّ واحد منهما بيّنة لما يدّعيه ، فعليه الحلف للآخر لنفي دعواه فيتحالفان.

فكذلك في المقام ، لأنّه في الحقيقة من باب الاختلاف في الثمن ، لأنّ الثمن المشروط بشرط كذا غير نفس ذلك الثمن إذا كان مشروطا بشرط آخر ، فإنكار المرتهن لا يمكن أن يكون فسخا ، لأنّه على تقدير أن يكون المتنازع فيه هو الشرط فيجب على المرتهن الوفاء به وقبوله رهنا ، لأنّه هو ألزم على نفسه ذلك.

فقول الراهن ، إنّه هو الشرط إلزام له بقبوله رهنا ، ويكون دعوى عليه ، فإذا لم تكن بيّنة على ما يدّعيه تصل النّوبة إلى حلف المنكر ، كما هو الشأن في باب الدعاوي. فإذا حلف المرتهن على عدم كونه شرطا ، وذلك الآخر - أي الراهن - أيضا حيث ينكر كون ما يدّعيه المرتهن شرطا ، وإذا لم تكن للمرتهن بيّنة على ما يدّعيه ، يتوجّه الحلف إلى الراهن ، لأنّه منكر لأصالة عدم كونه رهنا وشرطا ، وإذا حلفا فالبيع ينفسخ بفسخ كلّ واحد منهما بخيار تخلّف الشرط.

وأمّا جريان أصالة عدم كون كلّ واحد منهما رهنا أو شرطا مع العلم إجمالا

ص: 80

بشرطيّة أحدهما فلا مانع فيها من هذه ، لأنّ كلّ واحد من الأصلين يجري في حقّ أحدهما ، ولا يجري كلاهما في حقّ شخص واحد كي يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريانهما ، وذلك واضح.

وقال في القواعد : أمّا لو ادّعى البائع اشتراط رهن العبد على الثمن ، فقال المشتري :

بل الجارية ، احتمل تقديم قول الراهن - وهو الأقوى - والتحالف ، وفسخ البيع (1).

ففي مورد كون رهن المتنازع فيه شرطا في البيع الذي قلنا بالتحالف ذكر وجهين : أحدهما التحالف كما بيّنّا ، ولعلّه هو المشهور في نظائره ممّا كان الثمن متنازعا فيه ، فيما إذا ادّعى كلّ واحد من البائع والمشتري ثمنا غير ما يدّعيه الآخر. والثاني : تقديم قول الراهن ، وقوّاه.

وقد ذكر في الإيضاح في وجه كلام والده - أي في وجه تقديم قول الراهن - بقوله : وجه القوّة خروج الجارية بإنكار المرتهن وبقاء التداعي في العبد ، والقول قول منكر الرهن ، إلى آخر ما قال (2) وذكر في وجه التحالف أنّ الثمن يختلف باختلاف الشرط ، فكان كالاختلاف فيه. ثمَّ قال : والأصح الأوّل ، أي تقديم قول الراهن ، أي كون الحلف على الراهن فقط.

ولكن أنت خبير بأنّ قوله في وجه قوة الأوّل وكونه أصحّ بنظره : « خروج الجارية بإنكار المرتهن » صحيح لو لم يكن شرطا في البيع ، لما ذكرنا أنّ إنكاره فسخ ، لأنّ عقد الرهن من طرفه جائز ، فعلى تقدير صحّة قول الراهن وأنّ الرهن هي الجارية واقعا حيث أنّ عقد الرهن جائز ، فتخرج الجارية عن كونها رهنا بإنكاره وإن كانت.

وأمّا على تقدير كون رهنها شرطا في ضمن البيع ، فيجب الوفاء بالشرط وإن

ص: 81


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 166.
2- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 43.

يعمل على وفق التزامه ، فلا يخرج بصرف إنكاره عن الرهنيّة بل يحتاج إلى الحلف ردا لدعوى الطرف. ولا شكّ في أنّ الشرط الواقع في ضمن العقد اللازم يجب الوفاء به ، وبإنكار المشروط عليه لا يرتفع ، فإذا ادّعى أحد مثل هذا الشرط على شخص يكون مثل سائر الدعاوي المتعلّقة بالحقوق أو الأموال ، فإذا لم تكن للمدّعي بيّنة وأنكر المدّعى عليه يكون عليه الحلف ، وبصرف الإنكار لا يخلّى سبيله.

نعم أيّد هذا الاحتمال - أي تقديم قول الراهن - تبعا للعلاّمة صاحب الجواهر (1) قدس سره وقوّاه ، وأفاد في وجهه : أنّ قول الراهن « إنّ الرهن هي الجارية » وإن أنكره المرتهن موافق للحجّة الفعليّة وهي أصالة اللزوم ، بخلاف قول المرتهن فإنّه مخالف لأصالة لزوم العقد ، لأنّ نتيجة إنكاره هو جواز الفسخ وعدم اللزوم ، وأيضا جواز الفسخ في صورة ثبوت عدم الوفاء بالشرط عن المشروط عليه كي يأتي خيار تخلّف الشرط.

وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون الشرط هو ما يدّعيه الراهن ، فالمرتهن بإنكاره هو الذي يفوّت الشرط على نفسه ، والخيار يأتي فيما إذا لم يف المشروط عليه بالشرط ، لا فيما إذا فات بواسطة عدم قبول المشروط له ، فإذا لم يكن للمرتهن الفسخ لما ذكرنا فلا يمين عليه ، لعدم أثر له ، فيكون اليمين مختصّا بالراهن فلا تحالف في البين ، ونتيجة حلف الراهن على عدم كون الرهن هو العبد - في المثال الذي ذكره في القواعد (2) وهو أنّه لو ادّعى البائع اشتراط رهن العبد على الثمن ، فقال المشتري : بل الجارية. المراد من البائع في المثال هو المرتهن ، والمراد من المشتري هو الراهن مع إنكار المرتهن رهن الجارية - هو بقاء البيع بلا شرط ، مع العلم الإجمالي بوجود أحد الشرطين المذكورين في المثال ، وهما شرطيّة رهن العبد أو الجارية.

ويجيب صاحب الجواهر عن هذا الإشكال بأنّه لا غرابة فيه بعد الجريان

ص: 82


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 273.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 166.

على الضوابط (1).

وفيه : أنّه بعد العلم بشرطيّة أحدهما وارتفاع أحدهما بإنكار المرتهن والآخر بحلف الراهن وعدم العمل بكليهما ، علمنا تفصيلا بتخلّف الشرط ، غاية الأمر الترديد في سبب التخلّف وأنّه هل عدم العمل بما يدّعيه المرتهن ، أو بما يدّعيه الراهن ، لا في أصل التخلّف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال - كما أشرنا إليه - : إنّ هذا التخلّف القطعي من المحتمل أن يكون من ناحية تفويت المشروط له ، وهو لا يوجب الخيار ، وما يوجبه هو التخلّف والتفويت من ناحية المشروط عليه ، وهو غير معلوم بل محتمل ومشكوك.

فرع : لو اختلفا في ردّ الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه ، لأنّ قوله مطابق مع أصالة عدم الردّ ، فقول المرتهن مخالف للأصل وقول الراهن موافق للأصل ، وقلنا في باب تشخيص المدّعي والمنكر إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من كان قوله موافقا للحجّة الفعليّة.

فإذا كان الراهن منكرا فوظيفته اليمين إن لم يكن للمدّعي - أي المرتهن - بيّنة على الردّ.

وأمّا مسألة أنّ المرتهن أمين والأمين لا يغرم.

ففيه : أنّه وإن كان أمينا بالأمانة المالكيّة ولكن الأمانة المالكيّة على قسمين : فتارة يكون المال تحت يده من قبل المالك وبإذنه ، ولكن لمصلحة نفسه لا لمصلحة المالك. وأخرى لمصلحة المالك ويكون محسنا كالوديعة.

وفي القسم الأخير لا يحلف ، لأنّه محسن ولا سبيل عليه.

ص: 83


1- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 274.

أمّا القسم الأوّل فحيث أنّ المال تحت يده لمصلحة نفسه وإن كان بإذن المالك لا يعدّ محسنا ، فقاعدة ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1) لا تشمله ، فتجري فيه قواعد باب القضاء.

ففي المستأجر والمستعير والمقارض والوكيل بجعل وأمثال ذلك ممّا يكون تحت يده بإذن المالك لمصلحة نفسه إذا ادّعى الردّ لا تقبل قوله إلاّ بالبيّنة ، وتجري قواعد باب القضاء من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

فرع : إذا رهن مالا مشاعا كنصف دار أو دكّان مثلا ، وأذن للمرتهن في قبضه وكونه في يده ، ووقع النزاع بين المرتهن وشريك الراهن في إمساكه ، فادعى كلّ واحد منهما أن يكون ذلك المال في يده ولم يرض الآخر بذلك ، فرفعا الأمر إلى الحاكم ، ينتزعه الحاكم ويقبضه لهما بنفسه ، أو ينصب عدلا بأن يكون في يده لهما.

ولا فرق في صحّة فعل الحاكم من قبض نفسه لهما أو نصب عدل بأن يقبض لهما بين أن يكون القبض لأجل أنّه شرط لصحّة الرهن ، أو يكون للاستئمان. فإذا انتزعه الحاكم وقبضه بنفسه لهما أو قبض العدل لهما ، يحصل القبض الذي هو شرط الصحّة ، من جهة أنّه بعد ما كان قبض كلّ واحد منهما غير ممكن لوجود التشاحّ والتنازع ، فيكون قبض الحاكم أو قبض من نصبه لذلك بمنزلة قبضهما ، لأنّ الشارع جعل له مثل هذه الولاية بقوله علیه السلام : « فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » (2).

فالحاكم منصوب لأجل قطع المنازعة والخصومة ، وحيث أنّ قطع الخصومة والمنازعة في المقام لا يمكن إلاّ بأحد أمرين : إمّا مباشرته بنفسه في قبضه لأجل صحّة

ص: 84


1- التوبة (9) : 91.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 413 ، باب كراهيّة الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 514 ، باب من إليه الحكم. ، ح 6. وص 301 ، ح 845 ، باب في الزيادات في القضاء والأحكام ، ح 25 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 98 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

الرهن أو لأجل الاستئمان عليه إلى أن يحلّ الأجل ، أو نصب عدل لأجل أحد هذين الأمرين. فبأحدهما يقطع النزاع ، فله - أي للحاكم - ذلك ، لأنّه المرجع في هذه الأمور ، وإلاّ يلزم أن يكون جعله حاكما لغوا لا أثر له.

ثمَّ إن كان ذلك المال ذا أجرة آجره الحاكم بنفسه أو من نصبه مدّة لا تزيد على أجل الدين لأنّه بعد حلول الأجل إمّا أن يأخذ المرتهن دينه فيجب عليه ردّ الرهن إلى صاحبه وليس له حقّ بعد ذلك فيه ، فإذا كان الأمر بيد الحاكم أو من نصبه فهو أو من نصبه يردّ عليه وأمّا لا يؤدّي لفلس أو لغيره فيباع لاستيفاء دينه ، فعلى كلّ حال لا يبقى مجال لأن يوجره الحاكم بعد حلول الدين.

فلو آجره أزيد من أجل الدين يكون باطلا ، إلاّ أن يمضي الراهن والشركاء بالنسبة إلى تلك المدّة ، وإلاّ كان تصرّف من غير ذي الحقّ.

وأمّا الأجرة في الزمان الذي تصح الإجارة فيقسّم على الملاّك بالنسبة إلى حصصهم ، إلاّ أن يقال بأنّ النماء المتجدّد - وإن كان من قبيل المنافع الخارجة عن ذات العين المرهونة - أيضا يدخل في الرهن ، فتكون حصّة الراهن من المنافع - أي : الأجرة في المفروض - داخلة في الرهن ، وتبقى مثل نفس الرهن محفوظة في يد الحاكم أو في يد من نصبه إلى حلول أجل الدين ، فيكون حالها حال نفس الرهن ، أي إمّا أن يستوفي منها الدين أو يرد إلى صاحبه.

ثمَّ إنّ الإجارة لا بدّ وأن تكون بإذن الراهن ، لأنّ الرهن لا يقتضي أزيد من أن يكون نفس المال محفوظا كي يستوفي الدين منه عند حلول الأجل إن لم يؤدّ المديون. نعم لو وقع النزاع بين الشركاء فغير الراهن منهم أراد وأن يؤجروا وامتنع الراهن فأيضا يكون المرجع هو الحاكم ، لأنّه وليّ الممتنع فيؤجر ويصنع بالإجارة ، كما تقدّم.

ثمَّ إنّه لو وقع عقد الإجارة على أزيد من زمان أجل الدين - وقد عرفت أنّها باطلة بالنسبة إلى الزائد على الأجل - فلو كان المستأجر جاهلا بهذا الأمر يكون له

ص: 85

الخيار في قبول الإجارة بمقدار مدّة أجل الدين وفسخها ، لأنّه يكون من قبيل تبعّض الصفقة بالنسبة إلى مدّة الإجارة.

فرع : لو أرهن بيضة على دين فأحضنها المرتهن فصارت فرخا ، أو أرهن حبّا فزرعه فصار شجرا ، قال في الشرائع : يكون الملك والرهن باقيين (1).

وقال في الجواهر في مقام شرح العبارة : بلا إشكال في كل منهما أمّا في مسألة بقاء الملك فلأنّ هذه الأشياء نتيجة ماله ومادّتها له ، فلم تخرج عن ملكه بالتغيّر. والاستحالات المتجدّدة صفات حاصلة في البيضة والحب بسبب استعدادهما لتكوّنات متعاقبة خلق اللّه تعالى فيها ووهبها لهما ، والأرض والماء والإحضان ونحوها من المعدّات التي لا تخرج المادّة عن ملك صاحبها (2) ، انتهى ما أفاده قدس سره .

وهذه العبارات التي ذكرها أخذها من المسالك بعين ألفاظها ، وإن شئت فراجعها.

وذكر في المسالك (3) خلاف الشيخ وجماعة من العامّة أنّها تصير ملكا للقابض - أي : للمرتهن - فأجروا عليها حكم التلف.

وحاصل كلامه قدس سره : أنّ التغيّرات التي تقع في الجسم المملوك لشخص إذا كانت من قبل اللّه تعالى ومن مواهبه تعالى بواسطة استعداده ووجود معدّات لتلك الإفاضات من المبدء الفيّاض ، لا توجب زوال الملكيّة. وهذا ينبغي أن يعدّ من البديهيّات ، إذ لا شكّ في أنّ النباتات مثل الأشجار وغيرها والحيوانات كلّها في سيرها الكمالي تتغيّر من الصغر إلى الكبر ، وكذلك بحسب سائر الصفات والحالات ، فمن غرس أشجارا ليس لها ثمرة بل لا قابليّة لها فعلا لأن يكون ذا ثمرة ، ولكن صار بعد

ص: 86


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 84.
2- « جواهر الكلام » ج 25 ، ص 255.
3- « المسالك » ج 1 ، ص 235.

ذلك أشجارا مثمرة ، وصار بستانا فيه من أنواع الفواكه والأثمار ، فهل يمكن أن يتجرّء أحد ويقول بأنّه بواسطة هذه التغيّرات خرج عن ملك مالكه؟! أو من كانت له سخال فكبر وصارت أغنام تخرج عن ملكه بصيرورتها شياه وأغنام؟! هذا ما ذكره قدس سره .

ولكن من المعلوم أنّ محلّ الكلام ليس من هذا القبيل ، بل الكلام في الموارد التي زال عنها الصورة النوعيّة وتلبّست بصورة أخرى ، كالحيوان الذي مات ووقع في المملحة وصار ملحا ، فهل يبقى هذا على ملك مالكه ، أو يقال بأنّه صار تالفا؟

وفي باب المطهّرات ذكروا أنّ أحدها الاستحالة ، وهي زوال الصورة النوعيّة وتبدّلها إلى صورة أخرى ، مع أنّ معروض النجاسة وموضوعها هناك أيضا مثل المقام هو الجسم المتصوّر بصورة كذا ، ويقولون هناك بذهاب النجاسة بزوال صورة الجسم النجس واستحالته إلى نوع آخر ، فهل الملكيّة أيضا من قبيل النجاسة تزول بزوال الصورة النوعيّة من الجسم المملوك؟

والفرق بين المقامين هو أنّ أدلة النجاسات ظاهرة في أنّ لصورها النوعيّة مدخليّة في نجاسة الجسم المتصوّر بتلك الصور وإن كان المعروض هو نفس الجسم ، بخلاف أدلّة الملكيّة فإنّها ظاهرة في أنّ الموادّ مملوك في عرض صورها النوعيّة ، فكما أنّ صور النوعيّة للذات المصنوعة من الحديد كالسيف وسائر ما يصنع منها مملوك لصاحبها ، كذلك الحديد الذي صنع هذه الأدوات منها مملوك له في عرض تلك الصور ، فهناك مملوكان كلّ واحد منهما في عرض الآخر. فلو زال أحدهما وانعدم فموضوع الآخر موجود ولم يزل ، فحكمه أيضا موجود.

أمّا في باب النجاسات : فالشارع وإن حكم بنجاسة موادّ النجاسات ولكن الموادّ التوأمة مع صورها ، فإذا زالت تلك الصور فلا يبقى موضوع النجاسة في البين - أي المادّة التوأمة مع صورتها النوعيّة - فقهرا تزول النجاسة وتذهب بذهاب موضوعها.

وأمّا بقاء رهانتها فلأنّه جعل هذا المال الخارجي رهنا لأجل استيثاق المرتهن

ص: 87

من دينه ، وأنّه يستوفي دينه منه إن لم يؤدّ الراهن المديون لفلس أو لغيره ، فما دام يكون هو موجودا ولم يسقط عن الماليّة ويمكن استيفاء دينه منه فلا وجه لسقوط رهانته لما تقدّم وقلنا إنّ الرهن من طرف الراهن عقد لازم.

وأمّا ما ربما يتوهّم : من أنّ شيئيّة الشي ء بصورته لا بمادّته ، فإذا انعدمت الصورة ينعدم الشي ء بانعدامها ، فليس ذلك الشي ء باقيا كي تكون رهانته باقية.

ففيه : أنّ هذا الكلام وإن كان حقّا في محلّه ولكن لا ربط له بمقامنا ، لأنّه لا ندّعي بقاء تلك المهيّة لزوالها بزوال صورتها النوعيّة قطعا ، بل نقول موضوع الملكيّة نفس المادّة ، كانت مع الصورة النوعيّة أو لم تكن.

مثلا لو فرضنا أنّ الخشب صورته النوعيّة غير صورة الفحم ، ويكون سلب الخشبيّة من الفحم صحيحا لأنّه مهيّة أخرى غير مهيّة الخشب ، لكن معروض الملكيّة لمن يملك خشبا ليس مهيّة الخشب بصورتها النوعيّة ، بل المعروض مادّة الخشب ، فلو فرضنا أنّه احترق ذلك الخشب وصار فحما لا يخرج عن ملكه ، بل انقلب ملكه عن عنوان إلى عنوان آخر ، لأنّ المادّة الباقية في الحالين ملك في عرض الصور النوعيّة.

وحيث أنّ الرهن تعلّق بما هو ملك الراهن لأجل فرض استيثاق المرتهن ، فما هو الملك حيث كان باقية فرهانته أيضا باقية ، فالبيضة والحبّ حيث أنّ مادّتهما ملك وهي باقية بعد زوال صورتها وتبدّلها إلى صورة أخرى فرهانتهما أيضا باقية.

فظهر أنّ الملك والرهن كلاهما باقيين وإن تبدّلت صورتاهما. وتفصيل هذه المسألة مذكورة في كتاب الغصب في ضمان اليد.

فرع : لو رهن المستعير ما استعاره بدون إذن مالكه ، فحيث أنّ هذا التصرّف لا يجوز له فتخرج يد المستعير عن كونها يد أمانة ، فيضمن لو تلف وإن كان تلفه بدون تعدّ وتفريط بل ولو تلف سماوي ، لأنّ ضمان اليد غير مقيّد بكون التلف بتفريط ذي

ص: 88

اليد ، لأنّ اليد غير المأذونة مكلّف بردّ ما أخذت ، ولا يفرّغ ذمّته إلاّ بأداء ما وقعت تحت يده.

وأمّا لو كان رهن المستعير بإذن مالكه ، فالظاهر أنّ الراهن أيضا يضمن الرهن للمالك بقيمته إن كان قيميّا وبمثله إن كان مثليا يوم تلفه ، لأنّه قبل ذلك لا ضمان له حيث أنّ رهنه بإذن مالكه ، فليس لا يد الراهن ولا يد المرتهن يد ضمان ما دامت عين المستعارة موجودة.

نعم لو تلفت في يد المرتهن فالراهن ضامن بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا إذا لم يكن التلف عن تفريط المرتهن ، وإلاّ يكون المرتهن ضامنا ، لأنّ يده بالتفريط خرجت عن كونها أمانة.

وأمّا ضمان الراهن دون المرتهن فيما إذا لم يفرط المرتهن لاحترام مال المعير فإنّه لم يهبه للمستعير بل يكون إذنه في جعله رهنا بمعنى أنّه يصحّ بيعه واستيفاء المرتهن دينه منه ، ولكن بعوضه على ذمّة الراهن لا مجانا ، لأنّه يقع بدلا عمّا في ذمّة الراهن ، فيفرغ ذمّته عن الدين ، ولكن تشتغل بمثله إن كان مثليا وبقيمته إن كان قيميّا.

ومن هذه الجهة يشبه الضمان ، حيث أنّه بقوله « أنا ضامن » يفرغ ذمّة المضمون له عن دينه ، ولكن يشتغل ذمّته للضامن.

وأمّا المرتهن فلا شي ء عليه ، لأنّه استوفى دينه منه بإذن مالكه ، ولم يفرط كي تكون يده يد ضمان ، فلا وجه لضمانه أصلا. نعم لو فرط يكون ضامنا ، لخروج يده عن الأمانة.

ثمَّ إنّه لا يجوز للمعير أن يرجع عن إذنه ، لأنّ الرهن لازم من طرف الراهن ، فبإذنه كأنّه أخرج ماله عن تحت اختياره ، كما لو أذن في بيعه بإسقاط الخيار ، فباع وأسقط جميع الخيارات ، أو لم يكن له خيار بعد انقضاء خيار المجلس ، فليس للمالك إذن الرجوع عن إذنه. وهذا واضح جدّا ، ولا إشكال فيه.

ص: 89

وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الفرع - مضافا إلى أنّ كلّها مقتضى القواعد العامّة في أبواب الضمانات - إجماعيّ لم يخالف فيها أحد من أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.

هذا كلّه قبل حلول أجل الدين ، وأمّا بعد حلول الأجل فله مطالبة مال ، فإن ردّه الراهن تامّا وبلا نقصان فلا شي ء عليه ، وأمّا لو طرء عليه نقصان أو تلف فالراهن ضامن ، ولا يضمن المرتهن إلاّ مع التفريط ، وإن تعذّر ردّه بدون تلف أو نقصان فعلى الراهن بدل الحيلولة إلى حصول الردّ.

ثمَّ إنّ للمعير الرجوع عن إذنه قبل تحقّق عقد الرهن ، بل وبعده قبل القبض إن قلنا بأنّ القبض شرط صحّة الرهن. بل يمكن أن يقال بجواز الرجوع وإن كان شرطا في اللزوم لا الصحّة ، لأنّ قبله عقد جائز فالرجوع بمنزلة الفسخ.

ثمَّ إنّ إجازة المالك تارة صريحة في أن يرهن المال المستعار كيف شاء ، وأخرى مقيّدة بقيد خاصّ ، وثالثة مطلقة.

في الصورة الأولى يجوز له أن يرهن عن أيّ شخص كان ، وعلى أيّ مقدار كان ، وبأيّ مدّة كانت.

وأمّا في الصورة الثانية فلا يجوز له التعدّي عمّا عيّن.

وإنّما الكلام في الثالث وأنّه هل يجوز له العمل والأخذ بالإطلاق كي يكون مثل الصورة الأولى فيرهن ممّن يشاء ، وعلى أيّ مقدار يشاء ، وبأيّ مدّة يشاء ، أم لا بل لا بدّ له أن يأخذ بالقدر المتيقّن أو المتعارف ممّا هو الظاهر؟ ويراد من الكلام غالبا عند العرف لا يبعد الثاني ، لأنّ الأخذ بالإطلاق غالبا يوجب الضرر وخسارة الآذن ، ومن حيث كثرة الاختلاف في آجال الديون واختلاف المرتهنين في حفظ الرهن وسلامته ربما يوجب إضرارا للمعير المجيز.

ص: 90

فالأولى هو التعيين حين إذنه من حيث أجل الرهن وأنّه على أيّ مقدار من الدين ، وأنّ المرتهن من أيّ قسم وسنخ من الأشخاص ، إذ لا شكّ في تفاوت وصول الرهن وحصوله سالما بيد مالكه - أي المعير - باختلاف الحالات بالنسبة إلى المذكورات.

فإذا عيّن على حسب ما ذكرنا من مقدار الدين والأجل وحالات المرتهن ، فرهن على خلاف ما عيّن ، يكون رهنه فضوليّا يحتاج إلى إجازة المالك ، وإلاّ يكون باطلا إن ردّ ولم يجز.

ثمَّ إنّه بناء على ما قلنا « إنّ بيعه جائز للمرتهن » إن لم يؤدّ الراهن دينه عصيانا أو لعذر من فلس أو لجهة أخرى ، بأن كان وكيلا من قبل المالك عند عدم أداء الراهن دينه ، أو بإجازة جديدة من طرف المالك ، أو برجوعه إلى الحاكم وهو أمره بالبيع ، فباع بأكثر من ثمن المثل ، فمجموع الثمن الذي وقع عوض الرهن في بيعه للمعير المالك.

ووجهه واضح ، لأنّه ثمن ماله فيكون له ، ولا يخرج الرهن عن ملك مالكه بحكم الشرع بجواز البيع ، بل يخرج بوقوعه خارجا كما هو الشأن في جميع الأملاك التي تباع ، فالبيع يقع في ملك مالك الرهن ، فيكون تمام ما هو الثمن في بيعه لمالك الرهن. وهذا واضح ما كان ينبغي أن يذكره الأساطين.

ولكنّهم أرادوا بذكره دفع ما ربما يتوهّم ، وهو أنّ العارية وإن لم تكن مضمونة إلاّ إذا اشترط الضمان أو كانت ذهبا أو فضة - كما هو مذكور في محلّه مفصّلا - ولكن هذه العارية التي سمّوها استعارة للرهن مضمونة بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا اتّفاقا وإجماعا ، فكأنّه أخرج عن ملك مالكه مقدّرا بهذا المقدار من الماليّة ، غاية الأمر تقدير الشارع ماليّته بهذا المقدار على تقدير تلفه وعدم إمكان وصول نفسه إليه.

فالمتوهّم ربما يتوهّم أنّ البيع لأجل استيفاء الدين أيضا مثل التلف ، بل هو تلف تشريعي ، فيكون الراهن ضامنا لثمن مثله لا الزائد عليه ، فإذا وجد راغب اشتراه

ص: 91

بأزيد من ثمن المثل فالزائد ليس للمالك بل للراهن ، لأنّ الشارع قدّر ماليّته بثمن المثل.

ولكن رفع هذا التوهّم بما ذكرنا : أنّ البيع وقع في ملك مالك الرهن - أي المعير في المفروض - ومجموع الثمن عوض ملكه ، فمجموعه يكون ملك مالك المعير ، ويكون له حقّ المطالبة بالزائد ، كما له حقّ المطالبة بمقدار ثمن المثل.

فرع : إذا انفكّ الرهن بواسطة أداء الدين ، أو إبراء المرتهن ذمّة الراهن أو غير ذلك ، فهل يجب على المرتهن إيصال الرهن إلى مالكه ، أم يبقى أمانة مالكيّة عند المرتهن فإن طالبه المالك به يجب ردّه إليه وأمّا ابتداء وبدون مطالبة فلا؟ وهو - أي الردّ ابتداء - يجب في الأمانة الشرعيّة أو إعلامه بأنّ مالك عندي بصورة خاصّة ، كما إذا علم أنّ هذه اللقطة التي وجدها والتقطها لزيد مثلا ، فيعلم زيدا أنّ مالك الفلاني عندي ، أو بصورة عامّة كما إذا التقط شيئا ولا يعرف صاحبه فيعرّف بصورة عامّة ويقول : من ضاع عنه الشي ء الفلاني يأتي ويأخذه منّي.

والسرّ في ذلك : أنّ الأمانة الشرعيّة يجب إيصالها إلى صاحبها ، دون الأمانة المالكية بل يجب إعطاؤها إن طالبها لا مطلقا ، هو أنّ الأمانة المالكيّة بإذن المالك ، فإن رجع المالك عن إذنه لا بدّ وأن يعلمه ، والمطالبة يدلّ على عدم إذنه في البقاء عنده ورجوعه عن إذنه حين المطالبة. وأمّا الأمانة الشرعيّة فليست في يده بإذن المالك ، بل ربما لا اطّلاع للمالك أنّه عنده والشارع أذن له أن يكون عنده إلى أن يوصل إلى صاحبه.

ومعلوم أنّ كون مال الغير تحت يده لا بدّ وأن يكون بإذن مالكه ، وإذن الشارع وإن كان كافيا لأنّ اللّه ورسوله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، إلاّ أنّ إذن الشارع ليس مطلقا ، بل يكون لضبطه وحفظه إلى أن يوصل إلى صاحبه في أوّل أزمنة إمكانه ، فلا يجوز انتظاره إلى أن يطالبه ، بل غالبا في اللقطة وأمثالها من الأمانات الشرعية

ص: 92

لا اطّلاع للمالك كي يطالبه.

وفي ما نحن فيه حيث أنّ الرهن أمانة مالكيّة لا يجب على المرتهن ردّه إلاّ بعد مطالبة المالك. وبناء على هذا فكما أنّ المرتهن لا يضمن الرهن ما لم يفرّط قبل أداء الراهن الدين لأنّ يده يد أمانة ، كذلك لا يضمن بعين ذلك الدليل بعد أداء الدين ما لم يطالب ، بل وما دام لم ينقض زمان يمكن أدائه عرفا وإيصاله إلى صاحبه.

فرع : وهو أنّه هل يقع الرهن بالمعاطاة ، أم لا بد من إنشائها باللفظ؟ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لشمول الإطلاقات له ، فقوله علیه السلام في رواية سماعة ، في جواب السؤال عن صحّة الرهن ، قال : « لا بأس بأن تستوثق من مالك » (1) يشمل ما إذا استوثق بالمعاطاة بأن يعطى مالا للدائن لأن يكون رهنا ووثيقة عنده ليستوثق من ماله ، فهو علیه السلام أمضى صحّة مثل هذه المعاملة ، مضافا إلى السيرة بقوله : لا بأس يستوثق من ماله.

وبقوله علیه السلام في رواية يعقوب بن شعيب قال : سألته عن الرجل يكون له على الرجل تمر أو حنطة أو رمّان وله أرض فيها شي ء من ذلك ، فيرتهنها حتّى يستوفي الذي له ، قال علیه السلام : « يستوثق من ماله » (2).

وفي رواية عبد اللّه بن سنان ، قال علیه السلام : « نعم استوثق من مالك » (3) وأمثال هذه

ص: 93


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 261 ، باب السلف في الطعام والحيوان ، ح 3942 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 42 ، ح 179 ، باب بيع المضمون ، ح 67 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 175 ، ح 772 ، باب في الرهون ، ح 29 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 122 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 6.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 259 ، باب السلف في الطعام والحيوان ، ح 3936 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1 ، ح 1.

المطلقات كثيرة (1) ، وليس إجماع على عدم وقوعه بالمعاطاة.

الحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 94


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب الرهن ، باب 1.

57 - قاعدة الزعيم غارم

اشارة

ص: 95

ص: 96

قاعدة الزعيم غارم (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « الزّعيم غارم ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (2) ولا شكّ في أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ الزعيم والمتعهّد بمال ، عليه أن يعطى ذلك المال للذي تعهّد له.

وأيضا قوله تعالى ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (3) فإنّ ظاهر الآية هو الخطاب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالسؤال عنهم أنّ أيّهم زعيم بإثبات ما يدّعون من تساوي حال المشركين مع المسلمين في الدنيا والآخرة ، فإنّهم كانوا يدّعون أنّه على فرض صحّة ما يدّعي محمّد صلی اللّه علیه و آله من أنّا نبعث ، لم يكن حالنا وحالهم إلاّ مثل ما هي في الدنيا ، أي أنّا أعزّاء وهم أذلاّء ، فردّهم اللّه تعالى بقوله مخاطبا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) أي كفيل بإثبات صحّة ذلك ، أي ادّعائهم ادّعاء باطل لا يقدر أحد منهم إثبات

ص: 97


1- (*) « الحق المبين » ص 85. « خزائن الاحكام » ش 17 ، « قواعد فقه » ( شهابى ) ص 93 ، « القواعد » ص 137 ، « قواعد فقه » ( محقق داماد ) ج 2 ، ص 155 ، « قواعد فقهي » ص 67.
2- يوسف (12) : 72.
3- القلم (68) : 40.

ذلك ، فتدلّ الآية بالالتزام على أنّ الزعيم والكفيل أن يخرج من عهدة ما تعهّد به ويفي به ، فتأمّل.

الثاني : قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » في خطبته يوم فتح مكّة حيث قال : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم » (1).

ولا ينافي ذلك ما رواه حسين بن خالد عن أبي الحسن موسى علیه السلام قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام جعلت فداك قول الناس : الضامن غارم ، قال فقال علیه السلام : « ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال » (2).

وذلك لأنّ المراد منه أنّ الخسارة الواقعيّة بالأخرة على من أكل المال والضمان ينتهي إليه ، لأنّ الضامن وإن كان ذمّته تشتغل بالمال للمضمون له ، ولكن ليس اشتغال ذمّته بلا عوض ومجّانا ، بل يكون بعوض اشتغال ذمّة المضمون عنه له بذلك المقدار ، فالغرم والخسارة الواقعيّة يكون على المضمون عنه ومن هو المديون واقعا وعبّر عنه علیه السلام بمن أكل المال.

الثالث : الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت علیهم السلام ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه فضيل وعبيد عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لمّا حضر محمّد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم ، فقال لهم : قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعليّ دين فأحبّ أن تقضوه عنّى. فقال على بن الحسين علیه السلام : ثلث دينك عليّ. ثمَّ سكت وسكتوا ، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : عليّ دينك كلّه. ثمَّ قال على بن الحسين علیه السلام : « أمّا

ص: 98


1- « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 368 ، باب 39 ، ح 1285 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 297 ، باب تضمين العارية ، ح 3565 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، باب العارية ، ح 2398 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 435 ، أبواب الضمان ، باب 1 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 140 ، باب اللقطة والضالّة ، ح 5 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 96 ، باب الكفالة ، ح 3402 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 209 ، ح 485 ، باب الكفالات والضمانات ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 149 ، أبواب الضمان ، باب 1 ، ح 1.

أنّه لم يمنعني أن أضمنه أوّلا إلاّ كراهة أن يقولوا : سبقنا » (1) إلى غير ذلك من الأخبار التي سنذكر بعضها في القسم الأوّل من أقسام الضمان بالمعنى الأعمّ ، وهو الضمان بالمعنى الأخصّ إن شاء اللّه تعالى.

الرابع : الإجماع على أنّ من تعهّد بمال أو بنفس يجب عليه الوفاء بما تعهّد ، وقد تكرّر في هذا الكتاب ذكر الإجماع والإشكال عليه ، فلا نعيد.

الخامس : ما ذكرنا في قاعدة وجوب الوفاء بما التزم به ، وأنّ بناء العقلاء على لؤم من يخالف التزامه وتوبيخ من لم يعمل بما تعهّد ، والشارع أيضا ألزم في عالم التشريع لزوم العمل ووجوب الوفاء بالتزاماته ، وقد أقمنا على ذلك البرهان من الأدلّة الشرعيّة.

ولا شكّ في أنّ الزعامة والكفالة لا تحصل إلاّ بالتعهّد والالتزام بمال أو نفس ، فإذا حصل مثل هذا التعهّد والالتزام يكون مشمولا لأدلّة وجوب الوفاء ، فالشرع والعقل يحكمان بلزوم العمل على طبق تعهّده والتزامه ، غاية الأمر مع مراعاة ما اعتبره الشارع في كلّ مورد في صحّة ما التزم به وتعهّد عليه ، وأن لا يكون من الالتزامات الباطلة ، كالالتزام بفعل حرام أو ترك واجب. وقد تقدّم كلّ ذلك في بعض القواعد.

الجهة الثانية : في شرح مفادها وبيان المراد منها

اشارة

أقول : ظاهر هذه الجملة - أي جملة « الزعيم غارم » التي في الحديث الشريف - هو أنّه يجب على الزعيم - أي الكفيل والمتعهّد ، سواء كان متعهّدا بالمال ، أو كان متعهّدا بالنفس والبدن - أداء ما تعهّد به فإن كان مالا يؤدّيه وإن كان نفسا يسلمه ، أو

ص: 99


1- « الكافي » ج 8 ، ص 332 ، ح 514 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 151 ، أبواب الضمان ، باب 3 ، ح 1.

يغرم ما عليه من مال أو حقّ ، على تفصيل سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

وذلك من جهة أنّ الجملة وإن كانت بظاهرها جملة خبريّة ، ولكن حيث انّه صلی اللّه علیه و آله في مقام إنشاء الحكم فاستعمل الجملة الخبريّ في الإنشاء. وقد بيّنّا في الأصول أنّ الجملة الخبريّة التي استعملت في مقام الإنشاء إن كانت موجبة تكون آكد في الوجوب من الجملة الطلبية الإنشائية ، وإن كانت نافية تكون آكد في التحريم.

فقوله صلی اللّه علیه و آله في الجمل الأربع التي في الحديث الشريف وهي : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي » وهذه الجملة ، أي جملة « الزعيم غارم » وإن كان كلّ واحد منها بصورة الجملة الخبريّة ، ولكن حيث أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام الحكم فكلّها دالّة على الوجوب.

فالحديث يدلّ على وجوب أداء الزعيم ما تعهّد به ، وذلك من جهة أنّ الزعيم بمعنى الكفيل والغارم هو الضامن ، كما ذكره في نهاية ابن أثير (1).

والضمان بالمعنى الأعمّ كون ذمّة الشخص مشغولة لآخر بمال أو نفس ، وهو ثلاثة أقسام :

الأوّل : الضمان بالمعنى الأخصّ. وهو عند الفقهاء عبارة عن التعهّد بمال ممّن ليست ذمّته مشغولة لذلك الضامن بمثله.

الثاني : الحوالة. وهي عبارة عن التعهّد بمال ممّن ذمّته مشغولة له بمثل ما يتعهّد. وهذا بناء على عدم صحّة الحوالة على البري ء ، وإلاّ يكون هذا التعريف أخصّ منها كما هو واضح.

الثالث : الكفالة. وهي عبارة عن التعهّد بنفس للآخر.

فالبحث في هذه القاعدة يكون في ثلاث مقامات :

ص: 100


1- « النهاية » ج 3 ، ص 363 ( غرم ).

المقام الأوّل : في الضمان بالمعنى الأخصّ

وهو التعهّد بمال في ذمّة الغير من ذلك الغير من دون أن يكون له في ذمّته مثله ، وإلاّ لو كان في ذمّة المضمون عنه للضامن مثل ما ضمنه يكون حوالة لا ضمانا في مصطلح الفقهاء ، فيسمّى المتعهّد لذلك المال الذي في ذمّة غيره ضامنا ، وذلك الغير الذي على ذمّته مال - أي المديون - مضمونا عنه ، كما أنّه يسمّى الدائن مضمونا له.

وقد أثبتنا شرعيّته بالأدلّة المتقدّمة التي كانت تشمل هذا الضمان بالمعنى الأخصّ وقسميه أي الحوالة والكفالة ، فلا يحتاج إلى الإعادة.

والضمان بهذا المعنى عندنا ناقل ، أي ينقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فيبرأ المضمون عنه ويسقط ما في ذمّته وتشغل ذمّة الضامن بالدين.

وأمّا مخالفونا فيقولون بأنّه لا تبرأ ذمّة المضمون عنه بل تكون ذمّته وذمّة الضامن كلاهما مشغولتان ، فيكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّ واحد منهما ، لاشتغال ذمّة كليهما له ، ولذلك قالوا باشتقاق الضمان من الضمّ.

ويردّهم - مضافا إلى صعوبة تصوير ضمانين لمال واحد بأن يكون كلّ واحد من الضامنين ضامنا لذلك المال في عرض ضمان الآخر ، ولا يتوهّم انتقاض ذلك بالقول بتعدّد الضمان في باب تعاقب الأيادي ، فإنّه ضمان طولي لا عرضي ، ولذلك قرار الضمان على من بيده التلف. والتفصيل ذكرناه في بعض القواعد المتقدّمة من هذا الكتاب - ضمان أمير المؤمنين علیه السلام وأبي قتادة عن الميّت الذي كان مديونا بدرهمين ، فلم يصلّ عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : « صلّوا على صاحبكم » فقال علىّ علیه السلام « هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن » فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فصلّى عليه ، ثمَّ أقبل صلی اللّه علیه و آله على علىّ علیه السلام ،

ص: 101

فقال صلی اللّه علیه و آله : « جزاك اللّه عن الإسلام خيرا وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك » (1).

وأمّا ضمان أبي قتادة : فعن جابر بن عبد اللّه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان لا يصلّي على رجل عليه دين ، فأتي بجنازة فقال صلی اللّه علیه و آله : « هل على صاحبكم دين؟ » فقالوا : نعم ديناران. فقال صلی اللّه علیه و آله : « صلّوا على صاحبكم » فقال أبو قتادة : هما عليّ يا رسول اللّه ، قال : فصلّى عليه (2).

فقوله صلی اللّه علیه و آله لأمير المؤمنين بعد أن ضمن عن الميّت بدينه « فكّ رهانك كما فككت رهان أخيك » دليل قاطع على أنّ الضمان يوجب براءة ذمّة المضمون عنه وسقوط الدين عن ذمّته ، وكذا صلاته صلی اللّه علیه و آله بعد ضمان أبي قتادة يدلّ على براءة ذمّة ذلك الميّت ، وإلاّ فأيّ فرق بين قبل ضمانه فيمتنع صلی اللّه علیه و آله عن الصلاة عليه ، وبين بعد ضمانه فيصلّى عليه مع اشتغال ذمّة الميّت في كلتا الحالتين.

وأمّا حديث كون الضمان اشتقاقه من الضمّ - بتشديد الميم - فكلام شعري لا يليق بالذكر والإشكال عليه.

فالحقّ هو أنّ ذمّة المضمون عنه تبرأ بواسطة الضمان ، وينتقل الدين إلى ذمّة الضامن ، وهذا معنى كون الضمان ناقلا فالقول بأنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة بحيث يكون الدائن مخيّرا بين الرجوع إلى الضامن وبين الرجوع إلى المديون لا أساس له.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الضمان بهذا المعنى لا بدّ وأن يكون بإنشاء الضامن تعهّده ، ولذلك عرّفوه كما في الشرائع (3) والقواعد (4) وغيرهما بأنّه عقد شرّع للتعهّد بمال ، إلى آخره.

فالمراد بهذا التعريف أنّ الضمان الذي هو عبارة عن التعهّد المذكور يحصل بهذا

ص: 102


1- « الخلاف » ج 2 ، ص 79 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 151 ، أبواب الضمان ، باب 3 ، ح 2.
2- « الخلاف » ج 2 ، ص 80 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 151 ، أبواب الضمان ، باب 3 ، ح 3.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 107.
4- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 77.

ومسبّب عنه ، لا أنّه نفس العقد أي الإيجاب والقبول ، كما هو الحال في سائر عناوين المعاملات حيث أنّها عبارة عن المسبّبات بتلك الأسباب.

فالبيع مثلا عبارة عن النقل والانتقال الحاصل من قول البائع « بعت » وعن قول المشترى « اشتريت » أو قوله « قبلت ». وعلى كلّ حال يحتاج إلى صيغة ينشأ بها ذلك التعهّد ، ويلزم أن يكون اللفظ صريحا في إفادته ذلك التعهّد. وهكذا الأمر في سائر العقود بالنسبة إلى سائر العناوين ، مثل « أنا ضامن » أو « ضمنت لك » أو « مالك فلان عليّ ما في ذمّته ».

وقد ذكر في التذكرة ألفاظا كثيرة لإنشاء الضمان ، مثل « تكفّلت » أو « تحمّلت » أو « تقلّدت ما على فلان » أو « التزمت بما على فلان » وأمثال ذلك (1).

ولا يقع بألفاظ غير الصريحة كما هو الحال في سائر العقود ، كما إذا قيل للدائن « أنا أعطي أو أؤدّي ما على فلان » فهذا بالوعد أشبه ، وليس صريحا في إنشاء تعهّده بكونه - أي المال - في ذمّته ، وأيضا لا يكفي في حصول الضمان الكتابة لعدم صراحته في ذلك ، وكذلك الإشارة من القادر على النطق.

وخلاصة الكلام : أنّه ليس للضمان خصوصيّة من هذه الجهة ، بل حاله حال سائر العقود وقال في التذكرة : لو قيل له : « ضمنت عن فلان أو تحمّلت عنه دينه »؟ فقال : « نعم » كفى في الإيجاب ، لأنّ « نعم » في تقدير إعادة المسؤول عنه (2) وهو حسن.

إذا عرفت أنّ الضمان بالمعنى الأخصّ عقد يحتاج إلى صيغة كما شرحناه فهاهنا أبحاث.

[ البحث ] الأوّل : في الضامن. ويشترط فيه أن يكون مكلّفا ، أي بالغا ، عاقلا ،

ص: 103


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 85.
2- المصدر.

رشيدا ، جائز التصرّف ، مختارا.

أمّا الأوّلان لأنّه لا يجوز أمر الصبي حتّى يحتلم ، وأمر المجنون حتّى يفيق.

وأمّا الثالث فلأنّ السفيه ممنوع عن التصرّفات الماليّة ومحجور عليه.

وأمّا الرابع فلأنّه لو لم يكن جائزا التصرّف لفلس أو غير ذلك لم تنفذ معاملاته شرعا.

وأمّا الخامس فلأنّ من شروط صحّة المعاملات أن يكون مختارا ولا يكون مكرها.

وممّا ذكر ظهر أنّه لا يصحّ ضمان العبد إلاّ بإذن مولاه ، وذلك من جهة أنّه ممنوع عن مثل هذه التصرّفات بدون إذن مولاه ، لقوله تعالى ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (1).

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا عدم صحّة ضمان كلّ من ليس أهلا للتبرّع ، كالساهي والغافل والسكران إن كان سكره غالبا على عقله ، وكذلك الهاذل الذي لا يمكن تشخيص مراده من ظهور كلامه.

وهذه الأمور التي ذكرناها كلّها يرجع إلى أحد أمور ثلاثة : إمّا إلى عدم حجّية ظهور كلامه في تشخيص مراده ، وإمّا إلى ممنوعيّته عن التصرّف شرعا ، أو إلى عدم نفوذ تصرّفاته كالمكره.

ويشترط في الضامن الملاءة بالمال الذي ضمنه وقت الضمان ، وإلاّ لو كان معسرا ذلك الوقت ولم يعلم المضمون له بذلك فله الخيار ، لنفي الضرر لأنّ الالتزام بمثل هذه المعاملة ضرريّ.

نعم لو كان عالما بإعساره حال الضمان ورضي مع ذلك بضمانه ، فليس له الخيار

ص: 104


1- النحل (16) : 75.

ولزمه الضمان ، لأنّ شرط الإيسار حال الضمان لرعاية حال المضمون له كي لا يقع في الضرر ولا يتلف ماله ، فإذا رضي هو بضمانه حتّى مع الإعسار حال الضمان فلا مانع من صحّته ، لأنّه هو بنفسه أقدم على الإتلاف المحتمل أو المظنون ، كما أنّه لو كان عالما حين الضمان بأنّه مماطل كان الأمر أيضا كذلك ، لأنّ رضاءه بضمانه مع علمه بأنّه مماطل أيضا إقدام منه على الإتلاف المحتمل أو المظنون لماله ، فليس له الخيار ويلزمه الضمان في الصورتين.

ولو تجدّد على الضامن الإعسار بعد ما كان موسرا حال الضمان ، فكذلك أيضا ليس للمضمون له أن يفسخ ، وذلك من جهة أنّ الضمان عقد لازم وقع عن رضائه بل وعن قبوله ، فرضاء المضمون له وقبوله وان كان شرطا في صحّة العقد وتماميّته إلاّ أنّهما حصلا على الفرض ، فوقع العقد صحيحا ، ولا دليل على أنّ تجدّد الإعسار من موجبات الفسخ.

وإطلاقات أدلّة اللزوم كافية في إثبات اللزوم فيما نحن فيه ، وعلى فرض وصول النوبة إلى الأصول العمليّة فاستصحاب اللزوم يجري ولا مانع منه.

ولو كان حال الضمان معسرا ولم يعلم المضمون له بذلك فثبت له الخيار - كما تقدّم شرحه - ثمَّ أيسر بعد ذلك لا يرتفع الخيار ، لعدم الدليل على أنّ تجدّد الإيسار بعد ما كان معسرا حال الضمان من موجبات سقوط الخيار وأسبابه.

مضافا إلى عدم مانع من جريان استصحاب بقاء الخيار لو وصل النوبة إليه.

ثمَّ إنّه يجوز اشتراط الخيار في عقد الضمان لكلّ واحد من الطرفين ، أي الضامن والمضمون له ، وذلك لأنّ لزوم الضمان ليس حكميّا مثل النكاح كي لا يجوز اشتراط الخيار ، فيشمله قوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ شرط جائز إلاّ ما خالف كتاب اللّه » (1) فيشمله عموم

ص: 105


1- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 6.

« المؤمنون عند شروطهم » (1) فيجب الوفاء به.

فرع : هل يجوز ضمان الزوجة بدون إذن زوجها أم لا؟ ربما يقال بعدم الجواز ، لمزاحمته مع حقّ الزوج في بعض الأحيان ، كما لو أفضى ضمانها إلى حبسها لمطل أو جهة أخرى.

ولكن لو قلنا بأنّ أمثال هذه الاحتمالات يكون مانعا عن ضمانها فتمنع عن جميع المعاوضات ، لتطرّق هذه الاحتمالات ووجود هذا المحذور في جميعها ، ولا يمكن القول به.

ثمَّ لا يخفى أنّ المنع في العبد وفي الزوجة - لو قيل به - يرتفع بإذن السيّد والزوج ، بخلاف الصبي والمجنون فلا يرتفع المنع فيهما بإذن الولي. والفرق بين هذين وذين في كمال الوضوح ، فإنّ المنع في العبد والزوجة من جهة حقّ الغير ، وإلاّ فهما قابلان لذلك التعهّد الذي نسمّيه بالضمان ، بخلاف الطفل والمجنون فإنّ المحلّ فيهما غير قابل ، لأنّهما مسلوبا العبارة بحكم الشرع ، وعلى كلّ حال صحّة ضمان الزوجة وإن كان بدون إذن الزوج إجماعيّ عندنا.

ثمَّ إنّ هاهنا فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في ضمان العبد بدون إذن سيّده أو مع إذنه ، وصور وشقوق تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، بل عدم وجود موضوع لها في هذه الأزمان.

البحث الثاني : في شرائط صحّة الضمان :

فمنها : التنجيز وعدم تعليقه على أمر. فإن قال : أنا ضامن لما على فلان إن لم يؤدّه هو ، أو إن رضي بذلك ، أو إن فعل كذا وأمثال ذلك ، كما أنّ المتعارف عند الناس الآن -

ص: 106


1- « الكافي » ج 5 ، ص 404 ، باب الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز منه ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور و. ، ح 66. « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من عقد على امرأة وشرط لها. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 4.

أعطه نسيئة وأنا ضامن إن لم يف هو إلى زمان كذا ، أو إن لم يف أصلا من غير تقييده بزمان - فجميع هذه الصور باطلة ، وليس الضامن فيها ملزما بأداء الدين.

وذلك للإجماع على بطلان التعليق في العقود ، مضافا إلى أنّ الضمان موجب لنقل الدين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن إجماعا عندنا ، بل هو حقيقة الضمان. وهذا المعنى لا يمكن حصوله مع التعليق ، ولأنّه من الممكن عدم حصول المعلّق عليه أصلا فلا يحصل ذلك النقل أصلا ، وهذا مناف لحقيقة الضمان.

وبهذا الوجه نقول بعدم جواز التعليق في الإبراء أيضا.

ومنها : أن يكون الدين الذي يضمنه ثابتا في ذمّة المضمون عنه ، سواء كان مستقرّا أو متزلزلا ، لأنّه في كلتا الصورتين ثابت على ذمّة المضمون عنه شي ء قابل لأن ينتقل بالضمان إلى ذمّة الضامن. وأمّا لو لم يكن حال الضمان شي ء ثابت على ذمّة المضمون عنه فالضمان غير معقول. وهذا هو المراد من قولهم : ضمان ما لم يجب - أي ضمان ما لم يثبت - على ذمّة المضمون عنه باطل ، لأنّه غير معقول ، ويكون من نقل المعدوم الذي هو محال.

ومنها : تميّز الدين ، والمضمون له ، والمضمون عنه. فلو كان لشخص دينان فقال أنا ضامن لأحد دينيك لا يصحّ ، أو كان لشخصين لكلّ واحد منهما دين فقال أنا ضامن لدين أحدكما لا يصحّ أيضا ، وكذلك لو كان المديون مردّدا بين الشخصين فيقول أنا ضامن لدين المديون منكما ، كلّ ذلك من جهة عدم تحقّق حقيقة الضمان مع الإبهام والترديد في نفس الدين ، أو المضمون له ، أو المضمون عنه.

نعم لو كان الدين معيّنا في الواقع ولم يعلم الضامن جنسه وأنّه من النقود أو من العروض مثلا ، أو لم يعلم مقداره وأنّه دينار أو ديناران مثلا ويضمن أنّه على ما لزيد على عمرو مثلا ، فهذا الضمان صحيح من جهة أنّه ينقل في عالم الاعتبار ما على ذمّة عمرو لزيد إلى ذمّته والمفروض أنّ له واقع معلوم عند زيد وعمرو أو عند أحدهما أو

ص: 107

مكتوب في الدفتر ، فلا بأس بمثل هذا الضمان ، لتماميّة أركانه وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم له ». هذا بالنسبة إلى نفس الدين.

وأمّا تميّز المضمون له فمن جهة كونه طرف العقد بناء على أنّ الضمان من العقود ، ويحتاج بعد وقوع الإيجاب من طرف الضامن إلى القبول من طرف المضمون له كما تقدّم ، ومع الترديد والإبهام لا يمكن ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان المضمون له معيّنا في الواقع ، وحاضرا في المجلس وإن كان لا يعرفه الضامن ، فيقول الضامن : دين هذا الرجل سواء كان حيّا أو ميّتا عليّ ، فيقول المضمون له : قبلت ، كان هذا الضمان صحيحا ولا إشكال فيه ، من جهة تماميّة أركانه ، وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم له ».

فرع : وهو أنّ الضمان المؤجّل للدين الحالّ جائز إجماعا وبلا خلاف ، كما ادّعاه صاحب الجواهر (1) ، وحكى الإجماع على ذلك عن المسالك (2) ، ومحكي التنقيح (3) ، وإيضاح النافع (4) وغيرها. وقال في جامع المقاصد في هذا الفرع أي ضمان المؤجّل للدين الحالّ : ظاهرهم أنّ صحّة هذا بالإجماع (5).

وصور هذه المسألة :

إحديها : هذه المذكورة ، أي ضمان الدين الحالّ مؤجّلا ، وهو أن يقول الضامن : أنا ضامن لما في ذمّة زيد الذي حلّ أجله بشرط أن أعطيه بعد شهر مثلا.

الثانية : عكس هذا ، وهو أن يضمن الدين المؤجّل حالاّ بأن يقول للمضمون له :

ص: 108


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 129.
2- « المسالك » ج 1 ، ص 253.
3- « تنقيح الرائع » ج 2 ، ص 188.
4- حكى عنه في « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 129.
5- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 310.

أنا ضامن لمالك في ذمّة زيد أن يعطى بعد شهر بأن أعطيك الآن وحالاّ.

الثالثة : أن يضمن الدين المؤجّل مؤجّلا بأزيد من أجله أو بأنقص من أجله. أمّا ضمان دين المؤجّل مؤجّلا بأجل ، أو ضمان الدين الحالّ حالاّ فصحّتهما واضحة وليس محلّ الكلام كي يبحث عنها.

نعم ادّعى بعض بأنّه لا بدّ في الضمان من الأجل ، سواء كان الدين حالاّ أو مؤجّلا ، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك.

ولكن هذا قول بلا دليل.

أمّا الصورة الأولى من الصور الثلاث التي يمكن البحث عنها ، فمضافا إلى أنّ صحّتها إجماعيّ ، يدلّ عليها عموم أدلّة الضمان كقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » إذ لا شكّ في صدق الزعيم على مثل هذا الشخص الذي يضمن الدين الحالّ مؤجّلا.

ولا يتوهّم أنّه تعليق في الضمان ، لأنّ الضمان فعليّ وبتيّ بدون قيد وشرط ، وإنّما المقيّد أداء المضمون بأجل.

وأمّا الصورة الثانية : أي ضمان الدين المؤجّل حالاّ ، فأيضا يشملها إطلاقات أدلّة الضمان كقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم ».

ولا إشكال فيه إلاّ ما تخيّل بعض من اشتراط الضمان بكونه مؤجّلا وأنّ الضمان الحالّ لا معنى له ، وادّعى بعضهم الإجماع على لزوم كون الضمان مؤجّلا بأجل معلوم وإن كان الأجل قليلا.

ولكن عرفت أنّه قول بلا دليل.

وأمّا الصورة الثالثة : أي ضمان الدين المؤجّل مؤجّلا بأجله أو أنقص ، أو أزيد من أجله ، فلا وجه لعدم جوازه. وادّعى في الجواهر عدم الإشكال والخلاف فيه (1).

ص: 109


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 133.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ حقيقة الضمان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن بجميع خصوصيّاته ومن دون تغيير فيه ، فلو كان في ذمّة المضمون حالاّ يأتي إلى ذمّة الضامن حالاّ ، وإن كان مؤجّلا يأتي مؤجّلا كما هو ، من دون زيادة أو نقيصة في أجله.

ففيه : أنّ حقيقة الضمان هو التعهّد بالمال الذي على عهدة المضمون عنه ، وأمّا تقييد أدائه بكونه حالاّ أو مؤجّلا بنفس أجل الدين الذي كان على عهدة المديون أي المضمون عنه أو بالأزيد أو بالأنقص منه ، فهذا خارج عن حقيقة الضمان. وهذه القيود تابعة للشروط الواقعة في عقد الضمان برضائه الطرفين ، والمؤمنون عند شروطهم.

وليس هذه الشروط تعليق في الضمان كي يكون باطلا ، كما تقدّم بيانه.

وفي جميع هذه الصور تبرأ ذمّة المضمون عنه ، وليس للدائن المطالبة عنه ، لفراغ ذمّته بعد تحقّق الضمان صحيحا تامّ الأركان واجدا للشرائط ، وينتقل المال إلى ذمّة الضامن ، ويكون عليه الأداء ولو كان الضامن ضمنه مؤجّلا ، سواء كان الدين حالاّ أم مؤجّلا ليس للمضمون له مطالبة الضامن قبل حلول الأجل الذي رضيا به.

نعم لو مات الضامن حيث أنّ الدين المؤجّل يحلّ بموت المديون وإن كان موته قبل حلول أجل الدين ويتعلّق بتركته ، يؤخذ من تركة الضامن ، ويرجع ورثة الضامن على المضمون عنه بما أخذ من تركة مورّثهم.

فرع : يجوز رجوع الضامن على المضمون عنه فيما أدّاه إذا كان الضمان بإذنه أو بطلبه ، وأمّا إذا لم يكن بإذنه أو بطلبه ، بل تبرّع بالضمان من غير طلبه أو إذنه فلا رجوع.

إن قلت : قاعدة « احترام مال المسلم كاحترام دمه » تدلّ على أنّ الضامن يستحقّ على المضمون عنه مثل استحقاق المضمون له عليه.

ص: 110

قلنا : هو الذي أتلف ماله إمّا لغرض دنيوي أو عوض أخروي بإقدامه ، وقاعدة الإقدام حاكمة على قاعدة الاحترام ، وإلاّ ينسدّ باب الهبات والعطايا والإباحات.

والمناط في جواز الرجوع وعدمه هو كون الضمان بإذنه أو بطلبه ، وأمّا الأداء فلا تأثير له في الرجوع ، سواء كان بإذنه أو لم يكن بإذنه. فإذا كان بإذنه الضمان فيستحقّ الضامن على المضمون عنه ، وإن لم يكن الأداء بإذنه بل وإن منع عن الأداء ، لأنّه بالضمان بإذنه اشتغلت ذمّة الضامن فيجب عليه تفريغ ذمّته ، فلا تأثير لمنع المضمون عنه عن الأداء.

وأمّا إن لم يكن الضمان بإذنه فلا موجب لاشتغال ذمّته وإن قال المديون أدّ ديني ، إلاّ أن يصرّح المضمون عنه بأنّه أدّ ديني عنّي وارجع به علىّ ، لجريان قاعدة الاحترام من دون وجود حاكم عليه ، لأنّه يقدم على الأداء بقصد الرجوع وأمر الطرف بالرجوع عليه.

هذا ، مضافا إلى عدم خلاف من الأصحاب فيما ذكرنا ، بل دعوى الإجماع من صاحب الجواهر قدس سره بقسميه في الصورتين (1) ، أي الرجوع مع الإذن في الضمان وإن كان أداؤه بغير إذن المضمون عنه بل ومع منعه عن الأداء ، وعدم جواز الرجوع وإن كان الأداء بإذنه ، إلاّ فيما استثناه من الأمر بالأداء مع التصريح بالرجوع من طرف المضمون عنه.

ثمَّ إن ما قلنا من جواز رجوع الضامن على المضمون عنه هو فيما إذا حلّ أجل دينه ، وإلاّ لو استعجل الضامن وأدّى الدين قبل حلول أجله لا يستحقّ على المضمون عنه قبل حلول أجل دينه ، إلاّ بتصريح من قبل المضمون عنه بأن يقول : أدّ ديني حالاّ قبل حلول الأجل وارجع به عليّ ، فهذا كأنّه قرار ومواضعة جديدة بين الضامن والمضمون عنه.

ص: 111


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 133 - 134.

هذا فيما إذا كان الدين مؤجّلا والضامن ضمنه حالاّ ، أو أسرع في الأداء قبل حلول أجل الدين.

وأمّا لو كان الدين حالاّ وضمنه مؤجّلا ، فادّى الضامن قبل حلول أجل الذي ضمنه ، فله الرجوع على المضمون عنه ، لأنّ هذا التأجيل جاء من قبل الضمان ، وإلاّ فالمضمون له كان يستحقّ على المضمون عنه من وقت الضمان على الفرض. والتأجيل في الضمان لا يحدث حقّا للمضمون عنه ، ولا يسقط حقّ المضمون عنه ، ولا يسقط حقّ المضمون له ، وهو كون دينه حالاّ غاية الأمر بالنسبة إلى الضمان وقع تأجيل ، لا أنّ الدين تغيّر عن كونه حالاّ وصار مؤجّلا.

وإن شئت قلت : إنّ التأجيل ليس للدين وإنّما الأجل للضمان ، وإلاّ فالدين باق على ما كان ، فالمديون - أي المضمون عنه - يلزمه أداء الدين من أوّل وقت وقوع الضمان ، فلو أدّى الضامن قبل حلول أجل ضمانه وكان الضمان بإذن المضمون عنه يستحقّ الضامن عليه من حين الأداء ، لأنّه يكون بمنزلة المضمون له ، فيجوز له مطالبة المضمون عنه من ذلك الحين.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدين المؤجّل لو ضمنه بأكثر من أجله ، فلو أدّى الضامن بعد حلول أجل الدين ولكن قبل الوصول إلى آخر الأجل الذي ضمنه بذلك ، فله المطالبة عن المضمون عنه بعين البيان المتقدّم ، فإنّ هذا الأجل الزائد عن أجل الدين لا يغيّر الدين عمّا هو عليه ، بل إنّما هو أجل الضمان لا أجل الدين.

وكذلك الأمر لو مات الضامن من قبل انقضاء الأجل وحلّ الدين وأدّاه ورثة الضامن من تركته ، فلهم الرجوع على المضمون عنه ، لأنّ المفروض أنّ الدين كان حالاّ وإنّما التأجيل جاء من قبل الضمان ، حيث أنّ الضامن ضمن الدين الحالّ مؤجّلا ، وإلاّ فالدين في نفسه ليس مؤجّلا ، فإذا مات الضامن وصار الدين بالنسبة إليه حالاّ وأخذ من تركته فالورثة لم يذهب ما لهم مجّانا ، بل يستحقّون العوض في نفس ذلك

ص: 112

الوقت ، فلهم الرجوع على المضمون عنه.

وأمّا لو كان الدين مؤجّلا وضمن بإذن المضمون له ذلك الدين المؤجّل مؤجّلا ومات قبل انقضاء أجل الدين وحلّ ما عليه وأخذ المضمون له من تركته ، ليس لورثة الضامن الرجوع إلى المضمون عنه إلاّ بعد حلول أجل الدين الذي كان عليه قبل الضمان.

والسرّ في ذلك : أنّ الدين الذي كان على المضمون عنه كان مؤجّلا ، وبموت الضامن لا يحلّ الدين بالنسبة إلى المضمون عنه ، وإنّما يحلّ بالنسبة إلى الضامن. وهذا بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ أصل الدين كان حالاّ وإنّما التأجيل جاء من قبل الضامن وذهب بموته ، ولذلك لورثته الرجوع على المضمون عنه.

فرع : يجوز ضمان مال الجعالة المسمّى بالجعل قبل فعل ما جعل عليه الجعل ، وكذا ضمان مال السبق والرماية وهو المسمّى بالسبق - بفتح السين والباء - قبل حصول الغلبة على من يسابقه أو يراميه.

وقد يقال : إنّ هذا من قبيل ضمان ما لم يجب ، لأنّه قبل العمل في كلا البابين لا يثبت في ذمّة المضمون عنه شي ء كي ينقله إلى ذمّة نفسه ، فلا وجه لصحّة ضمانه بناء على أنّ الضمان عبارة عن التعهّد بما في ذمّة الغير ونقله إلى ذمّة نفسه.

ولكن يمكن أنّ يقال : إن الجاعل جعل الجعل في ذمّته لعنوان من يردّ ضالّته عليه ، فيثبت في ذمّة الجاعل ذلك الجعل بنفس العقد وان لم يعمل بالشرط بعد. وكذلك الأمر في باب السبق والرماية بنفس العقد يثبت في ذمّة الشارط السبق - بفتحتين - قبل العمل وحصول السبق.

غاية الأمر قبل العمل له أن يفسخ العقد فيكون كالبيع الخياري بعد قبض المبيع ، فإنّه يثبت الثمن في ذمّة المشتري بعد قبض المبيع وأنّ له الفسخ. ومعلوم أنّه بالفسخ

ص: 113

يرجع المبيع إلى البائع وتبرأ ذمّة المشتري ، ومع ذلك قبل الفسخ يصحّ الضمان عن المشتري بلا شكّ وارتياب.

وأيضا يمكن أنّ يقال : إنّ العمل في البابين شرط كاشف عن ثبوت المال في ذمّة الجاعل بنفس العقد ، وردّ الضالة خارجا يكون على حدّ الإجازة من طرف المالك في بيع الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، فبوجود العمل خارجا يستكشف ثبوت المال في ذمّة الجاعل من حين العقد ، كما أنّ بعدمه يستكشف عدمه.

ولكن كلا الوجهين لا يصحّ الركون إليهما والموافقة عليهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ الجاعل وإن جعل في ذمّته الجعل لذلك العنوان ، ولكن نتيجة مثل هذا الجعل أنّه بعد وجود مصداق هذا العنوان في الخارج تشتغل ذمّة الجاعل بذلك الجعل له ، وإلاّ قبل وجوده ليس من يملك في ذمّته. فلو قلنا باشتغال ذمّته يلزم أن يكون الملك بلا مالك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك العنوان الكلّي يملك قبل أن يوجد في الخارج ، وهذا غريب.

وأمّا الثاني : فلأنّ الملكيّة مجعولة لمن كان مصداقا لهذا العنوان بالحمل الشائع ، فلا يمكن أن يكون العمل شرطا كاشفا عن ثبوتها بنفس العقد قبل العمل.

وذلك من جهة جعل الجاعل الجعل لعنوان من ردّ الضالّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فكلّ من كان مصداقا لذلك العنوان يملكه ، فحيث أنّه قبل العمل لا مصداق لذلك العنوان ، فلا مالك في البين ، فلا معنى لاشتغال ذمّته بناء على أن يكون حقيقة الضمان عبارة عن التعهّد بمال ثابت في ذمّة شخص غيره. ونتيجته نقل ما ثبت في ذمّة الغير الى ذمّته.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : يصحّ تمليك العناوين العامّة قبل أن يوجد لها مصداق ، كالوقف على الأولاد والذريّة قبل وجودهم.

ص: 114

وأمّا الإشكال على ثبوت المال في ذمّة الجاعل قبل العمل بأنّ العقد جزء السبب ، والجزء الآخر هو العمل ، ولا يمكن وجود المسبّب عند وجود أحد جزئي السبب دون الجزء الآخر كما هو المفروض في المقام.

ففيه : أنّ ما نحن فيه ليس من باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة ، بل من باب الحكم والموضوع فيمكن جعل الحكم على الموضوع الكلّي قبل أن يوجد له مصداق في الخارج ، كما قلنا في الوقف على الأولاد قبل وجودهم بناء على أنّ الوقف تمليك ، غاية الأمر ليست الملكيّة طلقا بل مقيّدة بأن لا تباع ولا تورث.

وما قلنا بناء على أن يكون جعل الجعل في الجعالة أو السبق في السبق والرماية على نحو القضية الحقيقيّة ، وأمّا لو كان على نحو القضايا الخارجيّة فلا سبيل إلى ثبوت الملكيّة قبل العمل ، وحيث أنّ الظاهر أنّ الجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة وعلى هذا الأساس بنينا جريان الاستصحاب فيما إذا شكّ بعد الفسخ في لزومها ، فلا مانع من ضمان مال الجعل حتّى قبل الشروع في العمل ، فضلا عن صحّته بعد الشروع قبل إتمام العمل.

ولا يتوهم أنّ ما أشكلنا - من أنّه لو كان الجعل بنحو القضيّة الحقيقيّة فمفادها أنّه إذا وجد في الخارج فرد وكان مصداقا لذلك الكلّي يكون محكوما بحكم ذلك الكلّي - يأتي هاهنا ، وفي الوقف على الأولاد والذريّة الأمر كذلك ، فما لم يوجد مصداق للأولاد والذريّة لا يتّصف بالمالكيّة ، فهاهنا أيضا ما لم يوجد شخص يردّ الضالّة لا تشتغل ذمّة الجاعل بشي ء.

وذلك من جهة أنّ عنوان رادّ الضالّة ، أو عنوان من يردّ الضالّ صار مالكا ، ولكن أفراد هذا العنوان لا يثبت لهم الملكيّة إلاّ بعد وجودهم وصيرورتهم مصداقا خارجيّا لذلك العنوان ، وهذا لا ينافي اشتغال ذمّة الجاعل للعنوان ، فيصحّ أن ينقل الضامن عن الجاعل ما على ذمّة الجاعل إلى ذمّته.

ص: 115

غاية الأمر إنّ العنوان الكلّي ما لم ينطبق على الخارج لا يمكن أن يطالب الضامن ، بل إذا وجد فردّ ومصداق بالحمل الشائع يأتي ويطالب الضامن ، كما أنّه لو لم يكن ضامن في البين يطالب الجاعل.

ففي المقام يثبت بنفس عقد الجعالة حقّ للعنوان في ذمّة الجاعل الذي هو المضمون عنه ، فالضامن ينقل ما يثبت في ذمّة الجاعل إلى ذمّة نفسه ، فتبرأ ذمّة المضمون عنه الذي هو الجاعل ، وتشتغل ذمّة الضامن للعنوان الذي هو المضمون له.

فهذا هو المقام الأوّل الذي يشتغل ذمّة الضامن وتبرأ ذمّة المضمون عنه الذي هو الجاعل.

والمقام الثاني هو مقام أداء حقّ المضمون له الذي هو العنوان. وفي هذا المقام تكون القضيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، أي يجب على الضامن أن يؤدّي ما على ذمّته إلى مصاديق ذلك العنوان. وهذا يستقيم فيما إذا كان جعل الضمان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وإلاّ فإن كان بنحو القضيّة الخارجيّة من أوّل الأمر يكون المضمون له هم الأفراد. فتأمّل فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

فرع : يجوز ضمان نفقة الزوجة عن الزوج في المورد الذي ثبت في ذمّته. وذلك بالنسبة إلى النفقة الماضية واضح ، لأنّها كسائر ديون الزوج ، لأنّ الزوجة إذا لم تكن ناشزة وكانت ممكّنة زوجها من نفسها متى شاء ، فهي تستحقّ على زوجها نفقتها ، فإن لم يعطها تبقى دينا في ذمّته ، فلا مانع من أن يضمن عنه شخص آخر.

وهذا في النفقة الماضية لا إشكال فيه ، كما أنّه لا إشكال في عدم صحّته بالنسبة إلى النفقة المستقبلة ، لعدم ثبوت شي ء في ذمّة الزوج كي يضمن عنه شخص آخر ، فيكون الضمان بالنسبة إلى النفقة المستقبلة من قبيل ضمان ما لم يجب ، الذي قلنا إنّه باطل بل غير معقول.

ص: 116

وإنّما الكلام في ضمان نفقة الحاضرة ، كنفقة ذلك اليوم الذي يقع فيه الضمان.

والحقّ فيه جواز الضمان كالنفقة الماضية.

بيان ذلك : أنّه بعد البناء على أنّ الزوجة تملك في صبيحة كلّ يوم نفقة ذلك اليوم على ذمّة الزوج إذا لم تكن ناشزة ، ففي نفس ذلك اليوم يصحّ ضمان نفقة ذلك اليوم المسمّاة بالنفقة الحاضرة.

وأمّا الإشكال على هذا - بأنّها يمكن أن تصير ناشزة في أثناء النهار ، فتسقط نفقتها - لا يردّ ، لأنّ السقوط بعد الثبوت لا ينافي مع صحّة الضمان قبل السقوط.

فرع : هل يصحّ ضمان الأعيان المضمونة أم لا ، كالأعيان المغصوبة ، أو المقبوضة بالعقد الفاسد ، أو العارية المضمونة ، أو الأمانة مع التعدّي؟

فقال العلاّمة في التذكرة : وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كلّ من الضامن والمضمون عنه (1).

وقال المحقّق في الشرائع : ففي ضمان الأعيان المضمونة كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد تردّد ، والأشبه الجواز (2).

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ حقيقة الضمان إن كان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن وبراءة ذمّة المضمون عنه ، فلا يجوز الضمان في هذه المذكورات ، لعدم براءة المضمون عنه بالضمان إجماعا ، بل يجوز للمضمون له مطالبته بلا خلاف.

ولذلك قال العلاّمة في عبارته المتقدّمة : « إشكال أقربه عندي جواز مطالبة كلّ

ص: 117


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 92.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 109.

من الضامن والمضمون عنه ». وما ذكره أمر ممكن في حدّ نفسه ، ولكنّه مخالف لما عليه إجماع الطائفة ، على أنّ الضمان نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، وبراءة ذمّة المضمون عنه بمحض وقوع الضمان الصحيح.

وأمّا القول بأنّ الضمان هاهنا عبارة عن التعهّد بردّ العين المضمونة أو قيمتها أو مثلها.

ففيه : أنّه خروج عمّا هو حقيقة الضمان عندنا والالتزام بمعنى آخر ، والمعنى العرفي للضمان هو الذي ذكرنا أي التعهّد بمال ثابت في ذمّة غيره ، بمعنى انتقاله إلى ذمّة الضامن وبرأه ذمّة المضمون عنه التي كانت مشغولة بذلك المال قبل الضمان.

وبناء على أن يكون هذا معنى الضمان عرفا فلا تشمل العمومات حتّى مثل « الزعيم غارم » لمثل هذا المعنى ، أي الالتزام بردّ الأعيان المضمونة أو قيمتها أو ردّ مثلها ، فلا دليل على شرعيّة مثل هذا الضمان بهذا المعنى.

وأمّا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) فالظاهر منه هو وجوب الوفاء بمضمون كلّ عقد ، ومضمون عقد الضمان - بقوله : أنا ضامن لما على فلان - عبارة عن نقل ما في ذمّته إلى ذمّة نفسه ، وليس الالتزام بردّ ما هو مضمون عنده ، أو أداء قيمته ، أو ردّ مثله مضمون عقد الضمان كي يكون مشمولا لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) . بل لو كان هذا المعنى ضمانا صحيحا شرعيّا فيكون مفاده أنّه يجب على الضامن والمضمون عنه كلاهما ردّ العين ما دام باقية ، وأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة. وهذا مرجعه إلى كون حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وهذا المعنى ممّا انعقد الإجماع على خلافه.

فالضمان بمعناه العرفي - أي التعهّد بمال ثابت في ذمة المضمون عنه - لا يصحّ في الأعيان المضمونة ، وإن قال بصحّته وجوازه أساطين الفقه ، كالشيخ في المبسوط (2) ،

ص: 118


1- المائدة (5) : 1.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 326.

والمحقّق في الشرائع (1) ، والعلاّمة في التذكرة (2) والقواعد (3).

وأمّا ما وجّهه العلاّمة - أي ضمان الأعيان المضمونة - في التذكرة بوجهين : أحدهما : أنّ المراد من ضمانها الالتزام بردّ نفس أعيانها. الثاني : أن يضمن قيمتها على تقدير التلف (4).

ففيه بطلان كلا الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فقد عرفت الحال فيه مفصّلا ، وأنّه خروج عن الضمان المصطلح عندنا ، وأنّ مرجعه إلى كونه عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة الذي لا نقول به ، والإجماع على خلافه.

وأمّا الوجه الثاني : فمرجعه إلى التعليق في الضمان ، وأيضا يكون ضمان ما لم يجب.

وهذا أيضا ممّا انعقد الإجماع على خلافه. هذا ما ذكروه.

والتحقيق في هذا المقام : هو أنّه يمكن تصوير كون الأعيان المضمونة في الذمّة بوجودها الاعتباري ، لا الوجود الحقيقي الخارجي ، فإنّه غير معقول البتة. وقد حقّقنا ذلك في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » مفصّلا (5) ، وإجماله : أنّ معنى ضمان العين هو أنّ العين الخارجيّة تعتبر في الذمّة بوجودها الاعتباري ، إذ الذم ظرف الاعتبار وليست ظرفا للموجودات الخارجيّة. وقد يعبرون عن الذمّة بالعهدة أو الرقبة ، وكلّها بمعنى واحد.

وقلنا هناك : إنّ معنى الحديث الشريف « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أنّ كلّ مال - سواء كان عينا أو منفعة - تسلّط عليه الشخص ولم يكن تسلّطه من حيث أنّه

ص: 119


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 109.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 90.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 178.
4- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 90.
5- « القواعد الفقهيّة » ج ، ص.

ملكه أو بإذن المالك أو بإذن اللّه تعالى - ويعبّر عن هذين الأخيرين بالأمانة ، وأوّلها أمانة مالكيّة ، وثانيهما أمانة شرعيّة - فيعتبر ذلك المال في ذمّته ، ولا يفرغ ذمّته بل تكون مشغولة به إلى أن يؤدّيه ، ففراغ ذمّته يكون بأداء ما اعتبر في ذمّته.

فبناء على هذا ، ضمان العين عبارة عن اعتبار تلك العين في ذمّة الضامن وعدته ، وأسباب ضمان العين مثل أسباب ضمان المال متعدّدة ، ومن جملتها عقد الضمان بأن يقول أنا ضامن للعين الفلانيّة ، فيعتبر تلك العين في عهدته وذمّته ، ولا يرتفع ولا تبرأ ذمّته إلاّ بأداء ما في ذمّته بردّها إن كانت تلك العين موجودة ، وبأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة ، فضمان العين لا إشكال فيه في حدّ نفسه.

ولكنّ الإشكال هاهنا في شي ء آخر ، وهو أنّ الأعيان المضمونة - سواء كانت من جهة غصبها ، أو من جهة كونها مقبوضة بالعقد الفاسد - لا تبرأ ذمّة الضامن إلاّ بأداء عينها أو مثلها أو قيمتها ، كلّ واحد في محلّها.

فلو ضمنها شخص فإن كان ضمانة لها بعد أداء الضامن الأوّل لها بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة فضمانها غير معقول ، لأنّه لم يبق في ذمّته شي ء كي يضمنه أحد.

وإن كان قبل أدائها فبالضمان لا تبرأ ذمّته ، بل الفراغ يكون مغيّى في الحديث الشريف بالأداء بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة ، فيجب الأداء على كلّ واحد منهما ، مثل مورد تعاقب الأيادي ، ويصحّ لصاحب العين المطالبة من كلّ واحد منهما.

وهذا خلاف إجماع الطائفة في معنى الضمان ، ويكون موافقا لأصول غيرنا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ضمان الأعيان المضمونة - سواء كانت مقبوضة بالعقد الفاسد أو مغصوبة بالمعنى المصطلح في الضمان - غير ممكن ولا يصحّ.

فرع : يجوز الترامي في الضمان ، وهو أن يضمن شخص عمّا في ذمّة الآخر فيأتي شخص آخر ويضمن عمّا في ذمّة الضامن الأوّل ، وهكذا أي يأتي ثالث ويضمن عمّا في

ص: 120

ذمّة الضامن الثاني ، وهكذا يأتي رابع ويضمن عمّا في ذمّة الضامن الثالث ، إلى أيّ عدد بلغ.

والسرّ في ذلك : أنّ الضامن المتقدّم تشتغل ذمّته بما كان في ذمّة المضمون عنه وتبرأ ذمّة المضمون عنه ، فيكون حاله بالنسبة إلى الضامن الذي يتلوه بدون انفصال حال المضمون عنه بالنسبة إليه ، ويتمّ أركان الضمان وتشمله الإطلاقات بلغ ما بلغ عدد الضامنين.

فإذا كان ضمان كلّ لاحق بإذن المضمون عنه السابق عليه الذي يضمن عنه ، فإذا أدّى الأخير ما ضمنه للمضمون له فلكلّ لاحق الرجوع إلى سابقة ، إلى أن يصل إلى المضمون عنه الأوّل الذي كان هو المديون الأوّل.

وأمّا إن لم يكن إذن من أحدهم بالنسبة إلى ضمان من يضمن عنه ، فلا رجوع لكلّ واحد منهم ، وذلك من جهة أنّ ضمان المضمون عنه للضامن مشروط بأن يكون الضمان بإذنه ، لأنّ اشتغال ذمّته للضامن بدون إذنه أو طلبه الضمان عنه يكون بلا سبب وموجب.

وأمّا إن أذن بعضهم دون بعض فالضامن الذي كان مأذونا من قبل من يضمن عنه يرجع إليه ، وأمّا المضمون عنه الذي لم يأذن فلا رجوع إليه. وهذا ضابط كلّي في باب الضمان ، سواء كان الضامن واحدا أو كان متعدّدا عن الأشخاص المتعدّدة. وهذا الأخير هو المسمّى بترامي الضمان.

فرع : لو ضمن اثنان أو أكثر ما في ذمّة زيد مثلا ، فإن صرّح كلّ واحد بالمقدار الذي من ذلك الدين ، فيكون ذلك المقدار في ذمّته ، وتترتّب عليه آثار ضمان ذلك المقدار ، ويكون كالضامن المنفرد بالنسبة إلى ذلك المقدار.

وأمّا إن أطلقا ولم يصرّحا بالمقدار وقالا أو قالوا : نحن ضامنون لهذا المال الذي

ص: 121

في عهدة فلان ، فالظاهر أنّه يقسّط بينهم على حسب عددهم ، فإن كانا اثنين ينتقل إلى ذمّة كلّ واحد منهما نصف الدين ، وإن كانوا ثلاثة فالثلث وهكذا ، لبناء العقلاء على هذا في موارد الاشتراك ، مع عدم دليل على تعيين حصّة كلّ واحد منهم.

وأمّا لو استقلّ كلّ واحد بالضمان لتمام ذلك المال عن المديون وقبل المضمون له ، فربما يقال بصحّة مثل هذا الضمان ، وتخيير المضمون له بعد قبوله بين مطالبته من أيّهما شاء بتمام المال ، أو يطالب بالبعض من أحدهما والبعض الآخر من الآخر ، ولا فرق بين أن يكون البعضان متساويين في المقدار أو مختلفين.

ولكن الظاهر بطلان مثل هذا الضمان ، وذلك من جهة أنّ هذين الضمانين لو كانا طوليّين بحسب الزمان فالضمان الأوّل لا يبقى محلاّ للضمان الثاني ، لأنّ الضمان الأوّل فرغ ذمّة المديون ولم يبق شي ء في ذمّته كي يضمنه الضامن الثاني.

وإن كانا في عرض واحد فبناء على ما هو الحقّ عندنا من أنّ الضمان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فلا يمكن نقل تمام ما في ذمّة المديون إلى ذمّة كلّ واحد منهما ، لأنّ كلّ واحد من النقلين يرفع موضوع النقل الآخر.

وقياس المقام بباب تعاقب الأيادي واضح البطلان ، فإنّ الضمان هناك طولي وهاهنا عرضي. ولا يبعد أن تكون العبارة - وقولهم بعد محاليّة هذا القسم - ظاهرة في الاشتراك ، وهذا الحمل لكلامهم من جهة الصون عن اللغوية وإلاّ فمقتضى القاعدة بطلان مثل هذا الضمان.

فرع : إذا كان على الدين الذي في ذمّته رهن ، فكما أنّه لو أدّاه ينفكّ ذلك الرهن ، فهل ينفكّ بالضمان أم لا؟ وجهان ، بل قولان :

من أنّ الرهن لأجل حفظ الدين وعدم ذهابه من البين لو صار المديون معسرا بل معدما ، فإذا أدّاه لا يبقى شي ء في ذمّته كي يحفظ بالرهن ، ولذلك بمحض الأداء

ص: 122

يفتكّ الرهن ، فيقال إنّ الضامن بعد أن ضمن ما في ذمّة المديون لا يبقى في ذمّة المديون شي ء كي يحفظ بواسطة الرهن ، فيرجع الرهن أمره إلى المديون.

ومن أنّ الدائن بعد وقوع عقد الرهن يحصل له أمران : أحدهما نفس المال وهو الذي في ذمّة المديون. والثاني : ما يوجب الوثوق بعدم تلف ماله أي ما في ذمّة المديون. فالأوّل يسقط عن ذمّة المديون بالضمان ، وأمّا الثاني بعد أن استحقّه بعقد الرهن لا وجه لسقوطه بنقل ما في ذمّة المديون. نعم لو اشترط الضامن مع المضمون له انفكاكه ينفكّ ، لأنّه شرط غير مخالف للكتاب والسنّة ، وكلّ شرط جائز إلاّ ما خالف كتاب اللّه.

والأظهر هو الثاني ، أي عدم انفكاك الرهن بالضمان.

فرع : لو قال لمن يدّعي مالا في ذمّة شخص آخر : عليّ ما عليه - بنحو البتّ لا بأن يعلّق على كونه مديونا بأن يقول للمدّعي : إن كان لك في ذمّته مال فهو عليّ - فهذا الضمان صحيح ، فيسقط الدعوى عن المضمون عنه ، لأنّه تبرأ ذمّته على كلّ حال ، سواء لم يكن مديونا في الواقع أو كان.

إذ بناء على الأوّل لم تكن ذمّته مشغولة من أوّل الأمر على الفرض ، وبناء على الثاني انتقل إلى ذمّة الضامن وبرئت ذمّته ، فمع القطع بفراغ ذمّته لا يبقى مجال لكونه طرف الدعوى. نعم يصير الضامن طرف الدعوى فإن ثبت كون المضمون عنه مديونا قبل وقوع هذا الضمان ببيّنة أو إقرار يلزم الضامن ويؤخذ منه.

المقام الثاني : في الحوالة

وهي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة شخص آخر. فلا بدّ في الحوالة من

ص: 123

وجود ثلاثة أشخاص : المحتال وهو ربّ الدين ، والمحيل وهو المديون ، والمحال عليه وهو الذي ينتقل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّته بعد قبوله بناء على اعتبار قبوله.

وهي عقد يقع بين المحيل والمحتال بإيجاب من المحيل ، وقبول من المحتال. وأمّا المحال عليه فهو أجنبيّ عن كونه طرف العقد وإن قلنا باعتبار قبوله في صحّة الحوالة.

فهذا العقد كسائر العقود العهديّة اللازمة من حيث الشرائط والأركان ، لإطلاق أدلّتها بالنسبة إلى جميعها ، فيعتبر فيها التنجيز وأن لا يكون معلّقا على أمر كسائر العقود العهديّة ، وبلوغ المتعاقدين ، واختيارهما ، ورشدهما ، وعقلهما.

ويحتاج إلى إيجاب من المحيل وقبول من المحتال ، كما هو الشأن في كلّ عقد. ويكفي في تحقّقه وإنشائه كلّ لفظ يدلّ دلالة صريحة على أنشأ مضمون هذا العقد من الطرفين ، أي الموجب والقابل.

والدليل على كلّ ذلك هو الدليل على اعتبار هذه الأمور في جميع العقود ، فلو قال المحيل : أحلتك أو حوّلتك بمالك في ذمّتي على زيد مثلا ، وقال المحتال : قبلت أو رضيت أو نحو ذلك تتحقّق الحوالة ويتمّ عقدها.

فرع : يعتبر في صحّة الحوالة أن يكون المال الذي يحيله المحيل على المحال عليه ثابتا في ذمّة المحيل ، إذ لو لم تكن ذمّته مشغولة للمحتال فلا يعقل تحقّق حقيقة الحوالة التي هي عبارة عن نقل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره.

فعلى هذا لا يصحّ حوالة دين الذي يأتي في ذمّته بواسطة هذه المعاملة التي سيعاملها فيما بعد ، قبل تماميّة تلك المعاملة ، لعدم اشتغال ذمّته بذلك الدين قبل ذلك.

بل وإن كان وجد سبب ذلك الدين ولكن معلّقا على أمر لم يحصل بعد ، كما في باب الجعالة فلا تصحّ حوالة الجعل قبل عمل العامل ، وإن كان سبب اشتغال ذمّة الجاعل بالجعل وجد بواسطة عقد الجعالة ، ولكن حيث أنّ العامل لا يستحقّ الجعل

ص: 124

بعد العمل فذمّة الجاعل ليست مشغولة قبل عمله ، فلا يمكن تحقّق الحوالة بالمعنى المذكور.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأجرة قبل عملهم بناء على عدم استحقاق الأجير على المستأجر قبل اتجار عمله وإتمامه.

والسرّ في ذلك كلّه أنّ تحويل المعدوم غير معقول ، وهذا واضح جدّا.

فرع : يعتبر في صحّة الحوالة رضى المحال عليه أيضا وإن كان خارجا عن طرفي العقد ، لأنّ العقد واقع بين المحيل والمحتال ، ولكن اشتغال ذمّته لشخص آخر غير الدائن رغما على أنفه وبدون رضاه لا وجه له ولازم اشتغال ذمّته للدائن وجوب تفريغه عند طلبه لا اشتغال ذمّته لشخص آخر ، خصوصا فيما إذا كان اشتغال ذمّته لشخص آخر والتبديل به موجبا لضيق عليه.

وهذا فيما إذا كانت ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما يحال عليه ، وإلاّ ففي الحوالة على البري ء على تقدير صحّته - كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى - فالأمر واضح ، إذ من الواضح البيّن عدم صحّة اشتغال ذمّته لشخص بلا سبب وبدون رضاه.

فرع : هل الحوالة على البري ء صحيحة ، أو يشترط في صحّتها أن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما يحال عليه ولو من حيث القيمة؟

الأقوى عدم الاشتراط ، وذلك لأنّ حقيقة الحوالة عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة الغير ، وهذا المعنى يمكن حصوله بقبول المحال عليه وإن لم تكن ذمّته مشغولة بمثله للمحيل ، فكأنّ المحال عليه صار ضامنا للمحيل بما كان في ذمّته فانتقل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم ».

ص: 125

وبناء على هذا لا يبقى فرق بين الضمان وهذا القسم من الحوالة إلاّ أنّ الضمان يمكن أن يتحقّق من غير تحويل المديون بل ولا بالتماسه أو إذنه وفي هذا القسم من الحوالة أيضا كسائر الحوالات يحتاج إلى تحويل من طرف المديون ، وإلاّ يكون ضمانا لا حوالة ، فيحتاج على عقد الضمان بأن يقول مثلا : أنا ضامن.

فرع : هل الحوالة بيع بمعنى أن المحتال يبيع ما يملكه في ذمّة المحيل بما يملكه المحيل في ذمّة المحال عليه ، أم لا بل صرف استيفاء لما في ذمّة المحيل؟ والاستيفاء قد يكون بأخذ ما يطلب منه من نفسه ، وقد يكون بأخذه من المحال عليه بعد قبوله ورضاه.

الظاهر هو الثاني ، وذلك من جهة أنّ الدائن بصدد استيفاء دينه ، سواء كان المديون يعطيه بنفسه أو يحوّله على غيره. وهذا ما هو المتعارف بين الناس في الأسواق وفي معاملاتهم لا أنّ الدائن بصدد معاملة جديدة.

وتظهر الثمرة بين القولين في أنّه بناء على الأوّل لا تصحّ الحوالة إلاّ فيما إذا كانت ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما في ذمّته للمحتال ، وإلاّ يكون البيع بلا عوض. وأمّا بناء على الثاني فيحصل الاستيفاء بضمان المحال عليه ورضائه وقبوله ، وهو واضح.

فرع : لا فرق في صحّة الحوالة بين أن يكون المال الذي في ذمّة المحيل عينا سواء كانت مثليّا كالحنطة والشعير ، أو قيميّا كالحيوانات والأثواب بعد تعيينها بذكر أوصافها التي تخرجها عن الجهالة ، أو منفعة كسكناه في دار موصوفة بصفات ترفع بها الجهالة ، أو كان عملا لم يشترط فيه مباشرته بنفسه ، ففي جميع ذلك تصحّ الحوالة ، لتماميّة أركانها.

وذلك لأنّه بناء على ما اخترناه من أنّ الحوالة استيفاء لا أنّها بيع ، فالمحتال

ص: 126

يستوفي ماله من المحال عليه ، سواء كان عينا أو منفعة أو مالا ، فكما يصحّ أن يحول من في ذمّته شعيرا أو حنطة أو غنما أو فرسا أو درهما أو دينارا على غيره سواء كان له على ذمّة ذلك الغير مثل ذلك أو كان بريئا ، كذلك يجوز ويصحّ أن يحيل - من في ذمّته خياطة ثوب مثلا أو بناء حائط أو قضاء صلاة أو صوم أو حجّ أو غيرها من العبادات أو من غير العبادات التي صار أجيرا ليأتي بها - شخصا آخرا ، بشرط أن لا يشترط عليه المباشرة.

وكذلك الأمر لو كانت في ذمّته منفعة ، كسكنى دار مثلا ، أو تمر نخلة ، أو فاكهة شجرة أو حليب شاة ، أو صوفها في ذكر أوصاف المذكورات لكي يرتفع الجهالة ، فيصحّ في جميع المذكورات وما يشبهها إحالته على شخص آخر ، وذلك من جهة قابليّة هذه الأمور لنقلها أو تحويلها من ذمّة إلى ذمّة أخرى مع قبول المحال عليه ورضائه.

كل ذلك لإطلاق قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » وقد بيّنّا أنّه لا فرق فيما ذكر وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » بين أن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ذلك أو لا يكون.

فرع : إذا تحقّقت الحوالة تامّة الأركان فهل تبرأ ذمّة المحيل عن الدين بمحض وجود الحوالة ، أو يكون موقوفا على أخذ المحتال عن المحال عليه واستيفائه منه؟

لا ينبغي أن يشكّ في أنّ مقتضى تعريف الحوالة بأنّها عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره هو الأوّل ، لأنّه بعد التحويل وقبول المحتال ورضاء المحال عليه وإمضاء الشارع الأقدس هذا التحويل بقوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » لا يبقى شي ء في ذمّته قهرا ، وهذا عين براءة ذمّته.

نعم يبقى الكلام في حال المحال عليه مع المحيل.

أقول : إن كان المحال عليه مديونا للمحيل بمثل ما أحال عليه ، فبعد الحوالة عليه

ص: 127

وقبوله تبرأ ذمّته بالنسبة إلى المحيل بنفس الحوالة وقبولها ، لأنّ الدائن استوفى دينه بنفس الحوالة مع قبول المديون ، وتشتغل ذمّة المديون للمحتال إلى أن يؤدّى دينه له.

وأمّا لو لم يكن المحال عليه مديونا للمحيل أصلا ، أي لم تكن ذمّته مشغولة بشي ء فتشتغل ذمّة المحيل له بمثل ما أحال إن لم يكن تحويله عليه بشرط أن يعطى للمحتال مجّانا وبلا عوض ، وإلاّ فلا تشتغل ذمّته له بشي ء.

وأمّا لو كان مديونا للمحيل بغير جنس ما أحال عليه ، مثلا أحال عليه بدينار وكان مديونا له بدرهم ، فهل تبرأ ذمّته عن دينه له بمقدار قيمة ما أحال ، أم لا تبرأ عمّا في ذمّته شي ء ويبقى على ما كان ، نعم تشتغل ذمّة المحيل له أيضا بمقدار ما أحال عليه من نفس جنس ما أحال أو من قيمته ، فذمّة كلّ واحد منهما مشغولة للآخر؟ وجهان.

والحقّ في المقام هو التفصيل بين أنحاء الحوالة ، بأنّ المحيل إذا أحال عليه بغير جنس ما يطلب منه ، كما قلنا إنّه يطلب من المحال عليه من جنس الدراهم ويحول عليه بجنس الدينار وأراد تبديل ما في ذمّته من الدراهم بالدينار أوّلا ثمَّ يعطى الدينار للمحتال وهو قبل هذا المعنى ، ورضى به فيسقط عن ذمّته من الدراهم بمقدار ما أحال عليه من الدنانير. وفي الحقيقة في المفروض معاملتان :

أحدهما : تبديل الدرهم بالدينار ، أي اشتغال ذمّة المحال عليه بالدينار عوض الدراهم التي كانت في ذمّته.

وثانيهما : اشتغال ذمّته للمحتال بالدراهم التي حوّلها عليه.

ولا يخفى أنّ المعاملة الأولى - أي التبديل في ضمن الثانية - ليست معاملة مستقلّة.

وأمّا إن لم يرد التبديل ، فتكون الحوالة كالحوالة على البري ء ، بل هو هو ، لأنّ المحال عليه بالنسبة إلى ما حوّل عليه وإن كان مديونا بشي ء آخر فيبقى دينه للمحيل على ما كان ، وتشتغل ذمّة المحيل له بمثل ما أحال ، فكلّ واحد من المحيل والمحال عليه مديون للآخر.

ص: 128

فرع : لو كان المحتال جاهلا بإعسار المحال عليه ، ثمَّ ظهر له أنّه كان معسرا حال الحوالة ، كان الفسخ والرجوع إلى المحيل ، لما رواه منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه؟ قال علیه السلام : « لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (1).

ولما رواه الصدوق بإسناده عن أبي أيّوب أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه؟ قال : « لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (2).

ولقاعدة الضرر ، وللإجماع وعدم الخلاف.

قال صاحب الجواهر : بلا خلاف أجد فيه (3) ، كما عن الغنية الاعتراف (4) به بل في محكي التذكرة نسبته إلى علمائنا (5) ، والسرائر إلى أصحابنا (6) ، بل عن الخلاف الإجماع عليه (7).

وأمّا لو كان موسرا حال الحوالة ثمَّ بعد ذلك تجدّد الفقر والإعسار عليه بعد قبوله حال يساره ، فليس له الرجوع على المحيل ، لبراءة ذمّة المحيل عن دينه بعد ما أحال بحوالة صحيحة تامّة الأركان ، وعود الاشتغال يحتاج إلى سبب مفقود في المقام.

ص: 129


1- « الكافي » ج 5 ، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 212 ، ح 498 ، باب في الحوالات ، ح 3 ، وص 232 ، ح 569 ، باب في كيفية الحكم ، ح 20 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 158 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 28 ، باب الحجر والإفلاس ، ح 3259 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 158 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 1.
3- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 167.
4- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 595.
5- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 105.
6- « السرائر » ج 2 ، ص 79.
7- « الخلاف » ج 3 ، ص 307 ، المسألة : 6.

ولرواية عقبة بن جعفر عن أبي الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل يحيل الرجل بالمال على الصيرفي ثمَّ يتغيّر حال الصيرفي ، أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضى؟ قال علیه السلام : « لا » (1).

وأمّا عكس هذا ، أي لو كان المحال عليه معسرا حال الحوالة مع جهل المحتاج بالحال ، فتجدّد له اليسار فهل للمحتال الخيار أم لا؟

الظاهر بقاء الخيار الثابت له قبل تجدّد اليسار ، إذ لا شكّ في ثبوت الخيار له بواسطة إعساره حال الحوالة وإن كان لا يعلم بهذا الثبوت.

وذلك لأنّ ثبوت الخيار تابع لموضوعه الواقعي ، ولا تأثير للعلم به في ثبوته ، فالحكم بعدم هذا الخيار وسقوطه لا بدّ وأن يكون مستندا إلى سبب للسقوط ، وليس ما يحتمل أن يكون سببا إلاّ تجدّد اليسار ، وهو لا يمكن أن يكون ، لأنّ موضوع هذا الخيار هو الإعسار حال العقد لا الإعسار الدائم ، وتجدّد اليسار لا يرفع الإعسار حال العقد ، فالموضوع باق فكذلك حكمه ، مع أنّه على فرض حصول الشكّ في بقائه يكون مجرى للاستصحاب.

وأمّا القول بأنّ ملاك حكم الشارع بالخيار هو عدم تضرّر المحتال بلزوم العقد بواسطة عدم إمكان استيفاء المحتال لحقّه ، فإذا ارتفع بواسطة تجدّد اليسار فلا خيار ، فاستحسان لا يجوز استكشاف حكم الشرعي به.

ثمَّ إنّ المراد بالإعسار هو أن لا يكون عنده ما يوفى به دينه زائدا على مستثنيات الدين.

فرع : البري ء المحال عليه هل يجوز له أن يرجع إلى المحيل بالمال الذي أحاله

ص: 130


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 212 ، ح 510 ، باب في الحوالات ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 159 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 4.

عليه بصرف القبول ولو كان قبل أدائه إلى المحتال ، أم لا يجوز إلاّ بعد أدائه له؟

مقتضى القواعد جواز رجوعه إليه ولو قبل أدائه ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ مقتضى صحّة الحوالة على البري ء هو انتقال المال الذي كان في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، ولكن بعوض مثله في ذمّة المحيل. ونتيجة مثل هذه الحوالة اشتغال ذمّة المحال عليه للمحتال واشتغال ذمّة المحيل للمحال عليه ، وهذا الاشتغالان يحصلان بمحض قبول المحال عليه البري ء ولو لم يؤدّ المحال عليه بعد ، ولازم ذلك صحّة رجوعه إلى المحيل قبل الأداء ، لأنّ المحيل مديون له بعد قبوله.

ولذلك ليس للمحتال الرجوع إلى المحيل بعد أن أحاله على شخص برضاه وقبول ذلك الشخص ، إلاّ أن يظهر كونه معسرا حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك. وقد تقدّم في الفرع السابق الأمر لو كان كذلك - أي كان معسرا حال الحوالة - فللمحتال فسخ العقد ، فلو فسخ بعد علمه بإعسار المحال عليه لا يبقى في ذمّة المحيل شي ء كي يرجع المحال عليه إليه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اشتغال ذمّة المحيل للمحال عليه بعد أدائه لا بعد قبوله للحوالة.

ولكن أنت خبير بأنّ لازم هذا الكلام أحد أمرين ، كلاهما باطلان :

أحدهما : عدم اشتغال ذمّة المحال عليه بصرف قبوله وتماميّة أركان عقد الحوالة.

وهذا خلاف مقتضى عقد الحوالة.

أو يقال بأنّ اشتغال ذمّة المحال عليه يكون بلا عوض. وهذا أيضا مناف لما هو المفروض والمتسالم عليه في باب عقد الحوالة ، من أنّ انتقال الحقّ من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ليس مجّانا وبلا عوض.

فلا بدّ وأن يقال بأنّ ذمّة المحيل تبرأ عن حقّ المحتال بالحوالة بعد قبول المحال عليه فيما إذا كانت الحوالة برضاء المحتال الذي هو طرف عقد الحوالة وهو القابل بعد

ص: 131

إيجاب المحيل ، وتشتغل للمحال عليه بصرف قبوله وإن لم يؤدّ بعد.

فرع : تقدّم أنّ الحوالة عقد لازم ، فلا يجوز للمحتال ولا للمحيل ولا للمحال عليه فسخها وحلّها إلاّ في صورة إعسار المحال عليه حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك ، فإذا علم بذلك فله حلّ ذلك العقد وإن تجدّد للمحال عليه اليسار بعد وقوع الحوالة. وقد تقدّم بيان هذا الحكم وذكرنا دليله.

فرع : حال المحيل بعد أن أحال دينه على شخص وكانت الحوالة صحيحة واجدة للشرائط وكانت تامّ الأركان حال الأجنبي بالنسبة إلى ذلك الدين ، ووجهه واضح من جهة أنّ ذمّته برئت بنفس الحوالة الصحيحة ، فانتقل ما في ذمّته إلى ذمّة المحال عليه ، فإن أعطى الدين قبل أن يؤدّي المحال عليه فتبرأ ذمّة المحال عليه على كلّ حال ، لعدم بقاء موضوع لاشتغال ذمّته بعد أداء المحيل لذلك الدين.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل للمحيل الرجوع إلى المحال عليه أم لا؟

والصحيح في هذا المقام هو أنّه لو كان أداء المحيل بقصد التبرّع فلا رجوع ، وأمّا لو كان بمسألة المحال عليه فله أن يرجع إليه فيما لم تكن الحوالة على البري ء ، وأمّا إذا كانت على البري ء فحيث أنّ ذمّته اشتغلت له بمثل ما أحال عليه فيسقط ما في ذمّته ، ولا يبقى موضوع للرجوع.

فرع : لا يجب على المحتال قبول الحوالة وان كانت على ملي ء وفي غير مماطل ، لعدم دليل على الوجوب ، وما هو الواجب على الدائن هو قبول دينه الحالّ إذا أراد المديون أن يوفيه ، وأمّا كونه مجبورا في قبول انتقاله إلى ذمّة شخص آخر فلا ، والأصل هي البراءة.

ص: 132

فرع : تبرأ ذمّة المحيل عن حقّ المحتال بمحض وقوع الحوالة الصحيحة تامّ الأركان ، وليست موقوفة على أن يبرأه المحتال.

وذلك من جهة أنّ مقتضى صحة الحوالة بناء على تقدّم انتقال الدين عن ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، فإذا انتقل لا يحتاج إلى تبرئة المحتال بل يكون محالا بمعناها الحقيقي ، لأنّها من تحصيل الحاصل.

والتمسّك لاحتياجها إلى التبرية بقوله علیه السلام في رواية زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل آخر ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، فقال علیه السلام : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله » (1) لا أساس له ، لأنّه مخالف للقواعد المأخوذة عن الآيات والروايات ، بل الإجماع على أنّ الحوالة الصحيحة موجبة لنقل المال من ذمّة المديون المحيل إلى ذمّة المحال عليه ، فإبراء المحتال له من قبيل تحصيل الحاصل.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات تدلّ على انقطاع المحتال عن المحيل ، وعدم جواز رجوعه إليه بعد تماميّة الحوالة. وهذا من لوازم فراغ ذمّته بعد تماميّة الحوالة ، من دون حاجة إلى إبراء المحتال.

وقد تقدّم رواية منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه؟ قال : « لا يرجع إليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك » (2).

وقد تقدّم رواية أبي أيّوب عن أبي عبد اللّه علیه السلام بهذا المضمون التي رواها

ص: 133


1- « الكافي » ج 5 ، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 211 ، ح 496 ، باب في الحوالات ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 158 ، أبواب الضمان ، باب 11 ، ح 2.
2- تقدّم في ص 129 ، رقم (1).

الصدوق قدّس سره عنه (1).

فلا بدّ إمّا طرح هذه الرواية ، لعدم عمل الأصحاب بها وإعراض المشهور عنها. أو توجيهها وتنزيلها على ما إذا ظهر إعساره حال الحوالة الذي كان مورد استثناء في رواية منصور بن حازم ورواية أبي أيّوب ، وحملها بعض على أنّ المراد من الإبراء فيها قبول الحوالة ، ومن عدمه عدمه.

وخلاصة الكلام : أنّ ذمّة المحيل بعد الحوالة تبرأ من دون توقّفه على إبراء المحتال ، إلاّ أنّه لو ظهر فيما بعد أنّ المحال عليه كان معسرا حال الحوالة فللمحتال الخيار وحقّ حلّ العقد وفسخه.

فرع : يجوز ترامى الحوالات ، وهو عبارة عن إحالة المحال عليه المال الذي اشتغلت ذمّته به بواسطة الحوالة إلى رجل آخر ، وهكذا الحال في المحال عليه الثاني يجوز أن يحيل ما في ذمّته بواسطة الحوالة الثانية إلى ثالث ، وهكذا غير واقف إلى حدّ بحيث أن يقال لا يجوز إحالة المحال عليه على غيره.

ووجه ذلك : أنّ المحال عليه يصير مديونا للمحتال ، ولكلّ مديون أن يحيل دينه إلى شخص آخر ، خصوصا فيما إذا كان ذلك الآخر مديونا له بمثل دينه جنسا وقدرا ، فتشمله إطلاقات أدلّة تشريع الحوالة ، فلا معنى لوقوفه عند حدّ.

ثمَّ إنّ ترامى الحوالات قد يكون مع وحدة المحال عليه وتعدّد المحتال ، وقد يكون بالعكس.

فالأوّل : كما إذا أحال المديون لعمرو دينه على زيد مثلا ، فيصير زيدا مديونا لعمرو ، فلو كان عمرو مديونا لشخص بمثل ماله على زيد ، فيجوز أن يحيل ذلك الرجل

ص: 134


1- تقدّم في ص 129 ، رقم (2).

على زيد ، وذلك الرجل أيضا لو كان مديونا لشخص بمثل ماله على زيد يجوز أن يحيل ذلك الشخص على زيد ، وهكذا إلى ألف ، بل لا يقف عند حدّ.

والثاني : أي تعدّد المحال عليه مع وحدة المحتال ، ففي المثل المذكور عمرو هو المحتال وزيد هو المحال عليه ، فعمرو المحتال لو كان عليه دين يحيله على زيد البري ء بعوض اشتغال ذمّته لزيد بمثل ما أحال عليه ، فيكون مديونا لزيد فيحيله على بكر البري ء ، فكذلك تشتغل ذمّته لبكر بمثل ما أحال عليه فيحيله على خالد ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

وفي الفرض الثاني ، أي وحدة المحتال مع تعدّد المحال عليه يمكن أن يمثّل بإحالة المديون زيدا مثلا على عمرو ، فيكون المحتال زيدا والمحال عليه عمروا ، ويصير عمروا مديونا لزيد بواسطة هذه الحوالة ، فيحيله عمر على بكر ، وبكر يحيله على خالد ، وهكذا.

هذا ترامى الحوالات بكلي قسميه ، أي وحدة كلّ واحد من المحال عليه والمحتال وتعدّد الآخر.

وكما يمكن تراميها يمكن دورها ، وذلك في المثال المذكور أخيرا بأن يحيل خالد زيدا على المديون الأوّل وهو المحيل الأوّل إن كان مديونا لخالد بمثل ما يحيل عليه ، أو قلنا بجواز الحوالة على البري ء.

والدليل على صحّة هذه الحوالات هو عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وإطلاقات أدلّة الحوالة ، وإطلاق « الزعيم غارم ».

فرع : لو أحال البائع من له عليه دين على المشتري بالثمن وقبل المشتري. فانفسخ البيع بخيار أو ظهر فساد البيع لفقد شرط أو وجود مانع ، فذهب المشهور إلى بطلان الحوالة في الثاني ، وعدمه في الأوّل.

ص: 135

ووجهه إمّا البطلان في الثاني ، لأنّ المحيل أحال بالثمن على من له دين عليه ، ولا ثمن في البين لفساد البيع ، فلا موضوع لهذه الحوالة.

وأمّا الصحّة في الأوّل فمن جهة أنّ البيع وقع صحيحا وصار الثمن ملكا للبائع إمّا دينا في ذمّة المشتري وإمّا عينا في يده. وعلى كلّ حال تقع الحوالة وهي تامّ الأركان ، خصوصا بناء على ما هو الحقّ من أنّ الفسخ حلّ العقد من حين وقوعه لا من الأوّل ، وبعد انحلال العقد بالفسخ بأحد الخيارات وإن كان يرجع الثمن إلى ملك المشتري وكذلك المثمن إلى ملك البائع ولكن رجوع العينين إليهما منوط بعدم تعلّق حقّ الغير بهما. وأمّا إذا كان تعلّق حقّ الغير بهما أو بأحدهما فلا بدّ من الرجوع إلى بدلهما من مثل أو قيمة ، لأنّ رجوع العين غير ممكن شرعا ، فيكون كالتالف فيرجع إلى بدله.

ففي المفروض الانحلال الطاري بواسطة الفسخ أو الإقالة يوجب رجوع المشتري إلى بدل الثمن ، لتعلّق حقّ المحتال بنفس الثمن. وكذلك الأمر في طرف المشتري لو أحال البائع بالثمن على شخص في الصورتين ، أي تبطل الحوالة إذا ظهر فساد البيع وتكون صحيحة وباقية لو انحلّ البيع بالفسخ أو الإقالة.

فرع : لو أحال من له عليه دين على وكيله بمثل ما عليه ، وكان ما عند وكيله عينا خارجيّة وقبل الوكيل ، فيجب على ذلك الوكيل أن يدفعها إلى المحتال ، وإن لم يدفع يرجع إلى المحيل ويأخذ دينه ، مثلا لو كان دينه لزيد وزنة من الحنطة أو كان دينارين أو غيرهما من سائر الأجناس ، وكان مثل المذكورات له عند عمرو فأحال الدائن على عمرو بمثل ما له عليه ، يجب على عمرو أن يدفعه إلى زيد الدائن ، وإن لم يدفع عصيانا أو لجهة أخرى فيرجع الدائن إلى المحيل ويستوفي الدين منه.

وذلك من جهة الفرق بين المفروض وبين ما إذا كان المحال عليه مديونا أو بريئا ، ففي الأخيرين ينتقل ما في ذمّة المحيل للمحتال إلى ذمّة المحال عليه ، فذمّة المحيل تفرغ

ص: 136

ولا يبقى فيها شي ء كي يرجع إليه الدائن بعد مماطلة المحال عليه واليأس عن الأخذ عنه.

وأمّا في المفروض فليس انتقال ذمّة في البين وإنّما هو مجرّد الأمر لوكيله بإعطاء مثل ما عليه من ماله المعيّن الخارجي ، فإذا لم يعط وإن كان بعد قبوله يرجع الدائن إلى المحيل المديون ، لبقاء اشتغال ذمّته وعدم تغيّرها عمّا كانت عليه.

والفرق بين أمره لوكيله بإعطاء العين الخارجي وبين إحالة ما في ذمّته إلى غيره بأن ينتقل ما في ذمته إلى ذمّة ذلك الغير في كمال الوضوح ، بل تسمية الأوّل بالحوالة لا يخلو عن نظر وإشكال.

فرع : وهو أنّه قال الشيخ في المبسوط : لا تصحّ الحوالة إلاّ بشرطين : اتّفاق الحقّين في الجنس والنوع والصفة ، وكون الحقّ ممّا يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه (1).

وحاصل ما ذكره اشتراط صحّة الحوالة بشرطين آخرين غير ما ذكرنا وتقدّم.

أحدهما : أن يكون الحقّان - أي حقّ المحتال على المحيل مع حقّ المحيل على المحال عليه - من جنس ونوع واحد ، وكذلك في الصفات. مثلا لو كان دين زيد على عمرو من الأرز العنبر المتّصف بصفة كذا فيحيله زيد على خالد لحقّ له عليه ، لا بدّ أن يكون حقّه على خالد أيضا كذلك من حيث الجنس ، أي يكون أرزا مثلا لا حنطة ، ومن حيث النوع أي يكون ما له على خالد من الأرز العنبر لا من قسم آخر من أقسام الأرز ، وأن يكون صفاته أيضا مثل صفاته. هذا هو الشرط الأوّل.

وما ذكر في وجه هذا الشرط هو أنّه لو لم نراع اتّفاق الحقّين أدّى إلى أن يلزم المحال عليه أداء الحقّ من غير الجنس الذي عليه ، ومن غير نوعه ، وعلى غير صفته ،

ص: 137


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 313.

وذلك لا يجوز.

والمقصود من هذه العبارة أنّ المحال عليه بعد قبوله وانتقال ما في ذمة المحيل إلى ذمّته يلزم بأداء ما في ذمّة المحيل من أي جنس ونوع كان ، وبأيّ صفة كان. والمفروض أنّ ما في ذمّة المحال عليه للمحيل لم يكن من هذا الجنس ، ولا من هذا النوع ، ولا بهذه الصفة فبأيّ وجه يكون ملزما بأداء ما ليس عليه.

وفيه : أنّ هذا وجه عجيب ، إذ إلزامه بأدائه من جنس ما للمحتال على المحيل ومن نوعه وبصفته ليس من ناحية دينه للمحيل - كي نقول لا يجوز ، إذ لا يجوز إلزام المديون بأداء غير ما عليه جنسا أو نوعا أو صفة ، إذ الدين تمليك الشي ء بعوضه الواقعي ، فإن كان مثليّا فبمثله في الجنس والنوع والصفة وإن كان قيميّا فبقيمته الواقعية - بل من ناحية قبوله.

إذ بعد ما أحال المحيل ما في ذمّته عليه من جنس كذا ، أو من نوع كذا ، أو بصفة كذا وقبل هو ، ينتقل إلى ذمّته عين ما في ذمّة المحيل ذي الجهات المذكورة ، من الجنس والنوع والصفة.

وحيث أنّ قبوله ليس مجّانا بل بعوض ما في ذمّته للمحيل ، فقهرا تقع معاوضة بين ما في ذمّته وما في ذمّة المحيل ، ولا إشكال فيه إذا كان بتراضى الطرفين وإن كان العوضين من جنسين ونوعين وبصفتين ، بل غالب أبواب المعاوضات كذلك ، أي من جنسين ومن نوعين وبصفتين.

ثانيهما : أنّه يشترط في صحّة الحوالة كون الحقّ مما يصحّ فيه أخذ البدل قبل قبضه ، فالحوالة على المسل م إليه بالمسلم فيه لا يجوز ، وذلك لعدم جواز أخذ البدل عن المسلم فيه قبل قبضه ، إذ الحوالة في الحقيقة ضرب عن المعاوضة ، أي تقع المعاوضة بين دين المحتال في ذمّة المحيل وبين ذمّة المحيل في ذمة المحال عليه. وحيث أنّ ما في ذمّة المحال عليه في المورد المفروض هو المسلّم فيه وقد ثبت في محلّه أنّه لا تجوز المعاوضة

ص: 138

على المسلم فيه خصوصا إذا كان من المكيل أو الموزون ، فلا تصحّ الحوالة بالمسلم فيه قبل قبضه على المسلم إليه ، ولا بدّ في الحوالة على المسلم إليه بالمسلم فيه أن يكون قبل القبض ، إذ بعد القبض لا يبقى حقّ على المسلم إليه كي يمكن الحوالة عليه.

هذا حاصل ما يستفاد ممّا أفاده الشيخ في المبسوط (1) وجها للشرط الثاني.

ولكن أنت خبير بضعف هذا الوجه ، إذا الحوالة استيفاء الدين من المحتال ومن المحيل أيضا ، فالمحتال يستوفي دينه من المحيل بتوسّط الحوالة على المحال عليه ، والمحيل أيضا يستوفي دينه من المحال عليه ، واستيفاء الدين بغير جنسه جائز إذا كان مع التراضي ، فلا معاوضة في البين ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المعاوضة على المسلّم فيه قبل القبض لو كان فيه إشكالا يكون مختصّا بما إذا كان من المكيل أو الموزون.

وثالثا : المشهور قائلون بكراهة بيع المسلّم فيه لا الحرمة ، وإن قال به بعض القدماء مثل ابن البراج (2) وابن حمزة (3).

ورابعا : القائلون بالحرمة يقولون في خصوص البيع لا مطلق المعاوضة.

فقد ظهر ممّا ذكرنا هاهنا وفيما تقدّم عدم اشتراط صحّة الحوالة بهذين الشرطين اللذين ذكرها شيخ الطائفة قدس سره .

ثمَّ قال الشيخ قدس سره : ويقوّى في نفسي أنّ الحوالة ليست بيعا ، بل هي عقد منفرد ويجوز جميع ذلك إلاّ زيادة أحد النقدين على صاحبه ، لأنّه رباء (4).

ص: 139


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 313.
2- حكي عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 495.
3- « الوسيلة » ص 282.
4- « المبسوط » ج 2 ، ص 317.

فرع : هل يجوز الحوالة بما لا مثل له أم لا؟

والمراد بما لا مثل له هو القيمي.

الظاهر هو الأوّل ، أي جواز الحوالة بما لا مثل له ، وذلك من جهة أنّ المراد من الحوالة استيفاء المحتال ، دينه من المحيل وكذلك استيفاء المحيل دينه من المحال عليه إذا لم تكن الحوالة على البري ء وقد تقدّم أنّ استيفاء الدين كما يمكن بنفس ما في ذمّته كذلك يمكن بمثله أو قيمته.

فلو أحال عليه ثوبا أو حيوانا كان في ذمّته ، يمكن أن يستوفي المحتال دينه الذي كان على المحيل بقيمته والحوالة صحيحة وإن لم يكن له مثل ، ويحصل الغرض من الحوالة الذي هو عبارة عن استيفاء دينه.

خلافا للشيخ (1) وابن حمزة ، (2) فقد نسب في الجواهر إلى الشيخ في أحد قوليه وإلى ابن حمزة أنّهما منعا عن الحوالة بالقيميّات للجهالة فيها. (3) وفيه أنّ رفع الجهالة فيها ممكن بالتوصيف ولذلك بنائهم على صحة بيع المسلم فيها باعتبار انضباطها بالتوصيف.

ولا شكّ في أنّ اعتبار المعلوميّة في المال المحال به ليس أشدّ وآكد من اعتبار المعلوميّة في المسلم فيه فلا يبقى وجه لإشكالها في صحّة الحوالة بالقيميّات ، مثل الأثواب والحيوانات ممّا تتعلّق بالعهدة بحسب أحد أسباب الضمان.

فالعمدة في المال المحال به هو أن يكون ثابتا حال الحوالة في ذمّة المحال عليه ، ولا فرق بين أن يكون من المثليّات أو من القيميّات. نعم لا بأس بالحوالة على البري ء وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ص: 140


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 312.
2- « الوسيلة » ص 282.
3- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 169.

فرع : قال في الشرائع : إذا قال أحلتك عليه فقبض ، فقال المحيل : قصدت الوكالة ، وقال المحتال : إنّما أحلتني بما عليك ، فالقول قول المحيل ، لأنّه أعرف بلفظه وفيه تردّد (1).

في المسألة صور :

إحديها : ما حكيناها عن الشرائع. وحاصل هذه الصورة هو أنّه لو كان لرجل دين على رجل ، فقال لدائنه : أحلتك عليه ، فقبض الدائن من ذلك الرجل ، فوقع النزاع بين المحيل وذلك الدائن ، وادّعى المحيل أنّي قصدت الوكالة من قولي : أحلتك عليه ، وادّعى الدائن الحوالة كما هو ظاهر اللفظ.

وثمرة هذا النزاع هو أنّه لو كان ادّعاء المالك المحيل صحيحا فالمال المأخوذ من ذلك الرجل ليس ملكا للدائن ، بل ملك للمحيل ، فلو كان له نماء أو ارتفاع قيمة فكلّها للمحيل. وأمّا لو كان قول المحتال صحيحا فيكون المال المأخوذ ملكا له والنماء له.

وهناك ثمرات أخر لا تخفى على الفقيه.

فقد يقال - كما في الشرائع في العبارة السابقة - القول قول المحيل ، وإن أظهر التردّد فيه بعد هذه العبارة. وكما في القواعد حيث قال : والأقرب تقديم قول المحيل. (2)

وما ذكراه في وجه تقديم قول المحيل وجهان :

الأوّل : أنّ المحيل أعرف بلفظه وقصده ، والمراد من كونه أعرف بلفظه ، أي بأنّه استعمل لفظ « أحلت » استعمالا حقيقيّا أو أراد منه الوكالة مجازا ، وكذلك أعرف بما قصده من هذا اللفظ وأنّه هل أراد المعنى الحقيقي من لفظ « أحلت » أو قصد الوكالة ، بل

ص: 141


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 181.

لا يعرف ما أراد إلاّ من قبله ، فيسمع قوله إذا قال : أردت من لفظ أحلت الوكالة مجازا.

ثمَّ إنّ المراد من سماع قوله أنّ في مقام تشخيص المدّعي والمنكر بناء على ما هو الحقّ وأنّ المنكر هو الذي يكون قوله موافقا للحجّة الفعليّة ، فيكون المنكر هو المحيل ، بناء على أن يكون كونه أعرف بلفظه وقصده حجّة في مقام الإثبات ، فيكلّف المحتال بالبيّنة ، فإن لم يأت يتوجّه الحلف إلى المحيل. وهذا هو المراد من أنّ القول قوله. وأيضا الفرض في هذه الصورة هو كون النزاع بعد قبض المحتال المحال به.

والوجه الثاني : هو استصحاب بقاء حقّ المحتال على المحيل ، وبقاء حقّ المحيل على المحال عليه.

وفي كلا الوجهين نظر واضح :

أمّا الأوّل : أي كون المحيل أعرف بلفظه وقصده ، فهذا إن كان له فهو فيما إذا كان اللفظ مجملا ولم يكن له ظهور ، وأمّا اللفظ الظاهر في معنى يؤخذ بظاهره في كشف مراده ، والظهور حجّة في كشف مراد المتكلم حتّى فيما عليه ، ولذلك يؤخذ بأقاريره ، وإقراره حجّة عليه يلزم به ، وليس له أن يقول : ما أردت هذا المعنى بل أردت المعنى الفلاني من باب المجاز ، واستعمال اللفظ في غير ما وضع له أو بحذف أو إضمار أو تقدير أو غير ذلك ، كذلك في سائر أبواب المعاملات.

فإذا أوقع معاملة من المعاملات ثمَّ أنكر قصد تلك المعاملة التي يكون اللفظ ظاهرا فيها لا يسمع منه. والسرّ في ذلك أنّ بناء العقلاء على حجّية الظهورات وأنّها كاشفة عن مراد المتكلّم ، والشارع أمضى هذه الطريقة ومشى عليها ، وأصالة الحقيقة أصل عقلائي.

فإذا شككنا في وجود قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو على إرادة المعنى المجازي الفلاني ، فأصالة عدم القرينة هي المرجع ، وإن شئت قلت : أصالة الحقيقة. وفيما

ص: 142

نحن فيه الكلام في صورة عدم وجود قرينة أو الشكّ فيها ، ولو تنازعا في صورة الشكّ في وجود القرينة فالأصل عدمها.

وبناء على ما ذكرنا لا يبقى وجه للوجه الثاني ، لحكومة الأمارات على الأصول العمليّة وإن كانت تنزيليّة ، كالاستصحاب المدّعى في المقام.

ثمَّ إنّه لا يقال : إنّ استصحاب بقاء حقّ المحيل على المحال عليه لا يجري على كلا التقديرين ، سواء كان المراد من لفظ « أحلت » الذي قاله للمحتال هي الحوالة أو الوكالة. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّه وكيلا في قبض حقّ المحيل ، والمفروض أنّه قبضه فلا يبقى شكّ في بقاء حقّ المحيل على المحال عليه كي يستصحب ، لأنّه على تقدير الوكالة ليس وكيلا في قبض حقّ المحيل ، بل وكيل في قبض مقدار من المال ، فيمكن بقاء الحقّ في عهدته ، ويكون ما يأخذه الوكيل دينا في ذمّة الموكّل.

نعم إذا كان حقّ المحيل الموكّل على المحال عليه مع دينه منه بتوسط الوكيل مساويا في الجنس والنوع والصفة والمقدار ، فيتهاتران قهرا.

الصورة الثانية : أن يكون هذا النزاع بينهما قبل القبض.

وفي هذه الصورة لم يتردّد في الشرائع مثل الصورة الأولى بل قال : أمّا لو لم يقبض واختلفا فالقول قول المحيل قطعا (1).

ولعلّ وجه الفرق بين الصورتين هو أنّه في الأولى على تقدير كونه حوالة يكون ما أخذه المحتال ملكا له ، فيكون دعوى المحيل على ذي اليد الذي يدّعي ملكيّة ما في يده واليد أمارة الملكيّة ، فيكون المحيل مدّعيا والمحتال منكرا ، للضابط الذي ذكرناه لتشخيص المدّعي والمنكر. وقد ذكرنا أنّ كون القول قوله هو أن يكون منكرا.

فيمكن أن يدّعى أحد أنّه إن كان النزاع بعد القبض ، فليس القول قول المحيل لما

ص: 143


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.

ذكرنا ، بل هو مدّع ، لأنّ الحجّة الفعليّة مع المحتال وهي اليد ، وأمّا لو كان قبل القبض فلا يد للمحتال على المال ، فيرجع النزاع إلى مفاد قوله « أحلت » ، وقد سبق أنّه أعرف بمفاد لفظه وقصده ، فيكون القول قول المحيل قطعا.

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّ ظهور قوله « أحلت » في الحوالة حجّة وأمارة على أنّ المنشأ حوالة ، فمدّعى الحوالة هو الذي قوله موافق للحجة الفعليّة ولا فرق في ذلك بين أن يكون دعواه قبل القبض أو بعده ، فلا تصل النوبة إلى أنّه مالك من جهة يده عليه ، واليد أمارة الملكيّة ، فتكون قول المحيل من قبيل دعوى الأجنبي على المالك ذي اليد الذي هو المحتال هاهنا ، فيكون القول قول المحتال.

وثانيا : محطّ الدعوى ومصبّها هو أنّ المنشأ حوالة أم وكالة ، والقبض وعدمه أجنبي عن هذا المقام ، وفيه لا بدّ من إتيان الدليل على أنّ أيّ واحد منهما هو المنشأ ، ومعلوم أنّ ظهور لفظ يعيّن أنّ المنشأ هي الحوالة لا الوكالة.

الصورة الثالثة : عكس هذا الفرض ، وهو أن يدّعى المحيل الحوالة ويدّعى المحتال الوكالة.

وقال في الشرائع : القول قول المحتال (1).

ولكن يرد عليه : أنّه بناء على ما اختاره في الفرض الأوّل أنّه أعرف بلفظه وقصده وقال : إنّ القول قول المحيل ، مع أنّ المحيل هناك ادّعى إرادة الوكالة عن لفظ الحوالة وهاهنا يدّعى إرادة الحوالة من لفظ الحوالة ، فإذا صدق هناك لأنّه أعرف بما أراد فهاهنا لا بدّ أن يصدق بطريق أولى ، لأنّه هناك يدّعى إرادة خلاف الظاهر وهاهنا يدّعى إرادة ما هو ظاهر اللفظ ، ودعواه هاهنا على طريقة العرف والعقلاء وهناك على خلاف طريقتهم.

ص: 144


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.

ولكن مع ذلك كلّه يمكن توجيه ما ذكره في الشرائع بأنّ لفظ « أحلت » يحتمل فيه أن يكون بمعنى الحوالة التي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره ، ويحتمل أن يكون المراد منه تحويل حقّ المطالبة عمّن هو مديون له إلى آخر ، فيكون نائبا عنه في المطالبة فقط ، لا أنّ ذمّة المديون تشتغل للمحتال ، فإذا كان اللفظ متحمّلا لمعنيين ، فتعيّن أحدهما يحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام ، فيكون مجملا ، فالمرجع هي الأصول العمليّة ، ومقتضاها هو سماع قول المحتال ، لأصالة بقاء الحقّين ، أي حقّ المحيل على المحال عليه ، وحقّ المحتال على المحيل.

ويمكن أيضا أن يقال : بأنّ الحوالة الشرعيّة متضمّنة لمعنى الوكالة ، أي أذن المالك المحيل في القبض والأخذ عن المحال عليه ، غاية الأمر لها خصوصيّة زائدة وهي أنّ ماله أخذه عن المحال عليه عبارة عن استيفاء حقّه الذي انتقل من ذمّة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فالقدر المتيقّن الذي لا نزاع فيه إنشاء المعنى الأوّل ، أي تحويل حقّ المطالبة. وأمّا الخصوصيّة الزائدة ، أي انتقال ما في ذمّة المحيل إلى المحال عليه فغير معلوم ، وتكون مجرى أصالة العدم.

ولكنّك خبير بأنّ أمثال هذه التوجيهات خلاف ظاهر لفظ « أحلت » ، وهذه اللفظة ظاهرة عرفا وشرعا في الحوالة الشرعيّة التي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره وقد ذكرنا أنّ الظاهر حجّة وأمارة ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

نعم لو لم يكن لفظ « أحلت » في البين ، وكان النزاع بينهما بأن يقول الدائن للذي هو مديون له : وكّلتني في أخذ مبلغ كذا من زيد الذي هو مديون لك وينكر كون ما ذكره المحيل حوالة ، والمحيل المديون لهذا المحتال يدّعي أنّي حوّلتك بمالك عليّ على زيد بمالي عليه ، فحينئذ لا بأس بأن يقال في مقام تشخيص المدّعي والمنكر إنّ القول قول المحتال ، لموافقته للحجّة الفعليّة التي هي المناط في كونه منكرا ، وفي سماع قوله ، إذ

ص: 145

قوله موافق لأصالة بقاء الحقّين ، أي حقّ المحيل والمحتال ، وقد تقدّم بيانه.

ولا يجوز للمحتال الذي ينكر الحوالة ويدّعي الوكالة مع إنكار المحيل الوكالة أخذ ما يدّعي الوكالة فيه ، لأنّ إنكار المحيل المديون لوكالة المحتال بمنزلة عزله ، لأنّ الوكالة من العقود الجائزة في أيّ وقت شاء له أن يعزله ، فإذا قال : أنت لست بوكيلي لا يخلو من أحد أمرين : إمّا ليس بوكيل واقعا فليس له أن يقبض ما يدّعي الوكالة فيه ، وإمّا وكيل واقعا والمحتال صادق في دعواه فينعزل بهذه العبارة ، فلا يجوز له القبض على كلّ حال.

فرع : إذا كان له على اثنين ألف درهم مثلا بالسويّة ، أي كان على كلّ واحد خمسمائة مثلا ، وكان كلّ واحد منهما كفيلا أي ضامنا لصاحبه ، وكان لرجل آخر عليه ألف درهم فأحاله عليهما ، صحّ هذا الحوالة ، لتماميّة أركانها ، وشمول قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » وسائر الإطلاقات لها.

قال في الشرائع : وإن حصل الرفق في المطالبة (1).

ولعلّ مراده أنّه بناء على أنّ مقتضى هذه الحوالة هو جواز مراجعة المحتال إلى كلّ واحد من المحال عليهما ومطالبته بالألف ، وذلك من جهة أنّ كلّ واحد منهما عليه خمسمائة من ناحية الدين وخمسمائة من ناحية ضمانه لصاحبه.

فقوله في الشرائع « وإن حصل الرفق » دفع توهّم ، وهو أنّ الحوالة لا تقتضي أزيد من اشتغال ذمّة المحال عليه بنفس ما هو في ذمّة المحيل بلا زيادة ولا نقيصة ، وهاهنا توجب الحوالة زيادة وهو الارتفاق ، وذلك لأنّ المحتال قبل هذه الحوالة كان يستحقّ استيفاء دينه من شخص واحد وهو المحيل ، وبعد الحوالة له أن يستوفي من كلّ واحد

ص: 146


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 114.

منهما ، وهذا نحو إرفاق حصل من ناحية الحوالة.

وجوابه ، أنّ حصول مثل هذه الإرفاقات لا تضرّ بصحّة الحوالة إذا كانت واجدة لشرائط الصحّة التي تقدّم ذكرها ، لشمول أدلّة تشريعها لها.

ألا ترى أنّه يجوز الإحالة على من هو إملاء وأوفى من المحيل ، وإذا كان المحيل صعب الوصول إليه فيحيل دائنه إلى طرف له محلّ شغل في السوق والوصول إليه في كمال السهولة ، وتحصيل الدين أسهل منه بكثير عن المحيل.

نعم لو كانت الزيادة في نفس ما أحال به وهو الذي كان في ذمّة المحيل ، فهو محلّ الإشكال ، لما بيّنّا أنّ حقيقة الحوالة عندنا تحويل ما في الذمّة إلى ذمّة شخص آخر بالشرائط المتقدّمة بلا زيادة. وأمّا اختلاف الأحوال في ناحية المحيل والمحتال والمحال عليه فلا بأس به إن كانت واجدة لشرائط الصحّة.

نعم هاهنا إشكال آخر أورده في المختلف (1) على ما قاله الشيخ قدس سره في المبسوط ، فإنّه أوّل من ذكر هذا الفرع بهذه الصورة في المبسوط على حسب اطّلاعنا.

وخلاصته : أنّ رجوع المحتال إلى كلّ واحد منهما بتمام الألف في المثل المفروض إنّما يستقيم على مذهب من يقول بأنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وأمّا بناء على ما هو المختار عند الطائفة من أنّه عبارة عن نقل ما هو في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فليس له مطالبة كلّ واحد منهما بتمام الألف ، وذلك من جهة أنّ بضمان كلّ واحد منهما لصاحبه ينتقل ما في ذمّة صاحبه من الدين الأصلي إلى ذمّة ذلك الضامن ، وهو في المثال المفروض خمسمائة درهم.

فالنتيجة أنّ ما في ذمّة كلّ واحد منهما يتبدّل بما في ذمّة الآخر وهو خمسمائة درهم في المثال المذكور ، فبعد الضمان أيضا ليس في ذمّة كلّ واحد منهما إلاّ خمسمائة

ص: 147


1- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 497.

مثل قبل الضمان.

إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ قبل الضمان كانت الخمسمائة التي في ذمّة كلّ واحد منهما هي التي كانت من ناحية الدين الأصلي ، والتي بعد الضمان هي التي كانت في ذمّة صاحبه بالدين الأصلي وانتقل إلى ذمّته بواسطة الضمان ، وإلاّ على كلّ حال ليس في ذمّة كلّ واحد منهما إلاّ نفس ذلك المقدار الأوّل ، فليس له من كلّ واحد منهما مطالبة الألف على كلّ حال ، إلاّ على القول بأنّ حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة أخرى.

لأنّه لو كان كذلك فالدين الأصلي لكلّ واحد منهما لم ينتقل عن مكانه ، وذمّة كلّ واحد منهما مشغولة به كما كانت ، وبواسطة الضمان وضمّ ذمّته إلى صاحبه المديون أيضا بخمسمائة يستحقّ المحتال مطالبته به أيضا ، فيستحقّ مطالبة الألف من كلّ واحد منهما ، خمسمائة بواسطة الدين الأصلي ، وخمسمائة بواسطة ضمانه الذي يقتضي ضمّ ذمّته إلى ذمّة المديون.

والشيخ قدس سره في المبسوط يصرّح بهذا أم لا يمكن يستند إليه مثل هذا القول الذي قد صرح بأنّه خلاف ما عليه الطائفة وهو قول مخالفينا.

ولذلك وجّه كلامه في الجواهر بأنّ مراده من قوله : « وكلّ واحد منهما ضامن لصاحبه » أي : كفيل (1) ومن المعلوم أنّ الكفالة - وهو الالتزام بإحضار من عليه الحقّ - لا يوجب انتقال ما في ذمّة من عليه الحقّ إلى ذمّة الكفيل ، فلا يبقى مجال لإشكال المختلف.

ولكن الإنصاف أنّ عبارة المبسوط لا تلائم مع هذا التوجيه ، لأنّه صرّح في المفروض والمثل المذكور بعد قوله « إذا كان له على رجلين ألف درهم على كلّ واحد خمسمائة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه » بقوله : فإنّ للمضمون له أن يطالب أيّهما

ص: 148


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 181.

شاء بالألف (1).

وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تلائم مع الكفالة التي في قبال الضمان وقسم آخر من كونه زعيما وهو الالتزام بإحضار الغريم مؤجّلا أو معجّلا ، بل لو كان كفيلا بذلك المعنى ، له أن يطالب في المثل المذكور بخمسمائة التي هي دينه وإحضار الغريم الآخر ، لا أن يطالب بالألف.

نعم لو هو أعطى الألف من عند نفسه أو باستدعاء صاحبه الغريم الآخر تبرأ ذمّتهما بلا كلام ، إذ لا يبقى بعد ذلك حقّ للدائن كي تكون ذمّة الرجلين الغريمين أو أحدهما مشغولة بشي ء له.

ولهذا الفرع شقوق وصور باعتبار احالة الدائن إلى كليهما أو إلى جميعهم إذا كانوا أكثر من اثنين ، أو إلى بعضهم ، وباعتبار إبراء الدائن جميعهم أو بعضهم ، وباعتبار أداء بعضهم أو جميعهم بعض ما عليهم أو جميعه. ذكر أغلبها الشيخ في المبسوط (2) وإن شئت فراجع إليه ، وتركنا ذكر هذه الصور لوضوح حكمها بعد معرفة المباني من أنّ حقيقة الحوالة تحويل ما في الذمّة إلى ذمّة الغير وأنّ إبراء الأصل أي الدين الأوّل يوجب إبراء الضمانات المتعاقبة والمترتّبة على الدين الأوّل ، وأنّ الوكالة يمكن أن تقع بلفظ الحوالة أو لا يمكن ، فلا يحتاج إلى ذكرها والنقص والإبرام فيها.

فرع : هل يجوز شرط الأجل في الحوالة أم لا ، بمعنى أنّه يحيل دينه من زيد على عمرو ويشترط عليه أن لا يقبض ذلك الدين من عمرو إلاّ بعد مضيّ مدّة معيّنة ، كانت تلك المدّة طويلة أم قصيرة؟

الظاهر أنّه لا بأس بهذا الاشتراط ، وأنّه لا ينافي مقتضى عقد الحوالة ، لأنّ عقد

ص: 149


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 329.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 317.

الحوالة يقتضي انتقال ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه وأن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحتال بدل ذمّة المحيل ، وأمّا جواز المطالبة فورا فليس من مقتضيات عقد الحوالة ، وإنّما هو من آثار نفس الدين لو لم يكن مؤجّلا أو مشروطا بعدم المطالبة والقبض إلاّ بعد مضيّ مدّة.

فلو شرط المحيل على المحتال عدم القبض إلاّ بعد مضيّ مدّة فلا مانع من نفوذ هذا الشرط ، لأنّه شرط جائز لأنّه لا يحتمل عدم جوازه إلاّ من ناحية كونه مخالفا لمقتضى العقد ، وقد عرفت عدم كونه مخالفا لمقتضى عقد الحوالة ، فيشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم ».

وهذا أمر متعارف في الأسواق عند التّجار ، خصوصا إذا كان مبلغ المحال به كثيرا والمحيل في بلد والمحال عليه في بلد آخر ، فيجعلون في ورقة الحوالة مدّة كي لا يقع المحال عليه في ضيق وحرج من ناحية تلك الحوالة ، ويتمكّن من تهيئة المبلغ في تلك المدّة ، فكانوا يكتبون في الورقة : سلّم إلى فلان - أي المحتال - مبلغ كذا بعد مضيّ ثلاثة أيّام من رؤية هذه الورقة.

المقام الثالث : في الكفالة

وهي في اصطلاح الفقهاء عبارة عن التعهّد والالتزام لشخص بإحضار من له حقّ عليه مؤجّلا أو معجّلا ، أو بإحضار شي ء آخر كالأعيان المضمونة.

وقال في القواعد : وهي عقد شرّع للتعهّد بالنفس (1).

ص: 150


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 182.

وكذلك قال في الجواهر : والمعروف في تعريفها أنّها عقد شرّع للتعهّد بالنفس (1).

والظاهر أنّ الكفالة عبارة عن نفس التعهّد والالتزام بإحضار شخص أو عين ، كما ذكرنا.

والعقد الذي ذكروه في مقام التعريف إن كان المراد به ألفاظ الإيجاب والقبول ، فهو سبب وآلة لإنشاء الكفالة لا أنّها عين الكفالة ، والحال في الإيجاب والقبول فيها كحالهما في سائر عناوين المعاملات من البيع والصلح والرهن والإجارة وغيرها ، من أنّهما أسباب لها لا أنّها عين المسبّبات وتلك العناوين.

وعلى كلّ فالأمر فيها سهل بعد وضوح المقصود ، وما هو المهمّ في المقام ، أي معنى الكفالة التي هي موضوعة للأحكام.

فرع : يشترط في صحّة الكفالة أمور :

منها : رضا الكفيل والمكفول له ، ووجهه واضح ، إذ الكفالة عقد واقع بين الكفيل والمكفول له ، وصحّة كلّ عقد منوطة برضاء المتعاقدين بما هو مضمون العقد ، إذ لا تتحقّق إنشاء المعاملة حقيقة من المتعاقدين إلاّ باستعمالهما لفظ الإيجاب والقبول في معناهما بإرادة جدّية ، وهذا ملازم مع رضا كلّ واحد منهما بما هو مضمون ، فلو لم يكونا راضيين أو أحدهما لم يتحقّق الإنشاء الحقيقي ، فلا عقد ولا عهد بينهما كي يكون موضوعا للصحّة ، وهذا واضح جدّا.

ولكن المراد من الرضاء الرضا المعاملي لا طيب النفس ، وقد حقق المسألة في شرائط عقد البيع. وقد تكلّم شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في مكاسبه مفصّلا في اعتبار الرضا في عقد البيع (2).

ص: 151


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 185.
2- « المكاسب » ص 118.

مضافا إلى ادّعاء الإجماع من صاحب الجواهر قدس سره بقسميه ، وقال : لا إشكال بل ولا خلاف في أنّه يعتبر رضاهما أي الكفيل والمكفول له ، بل الإجماع بقسميه (1).

هذا بالنسبة إلى الكفيل والمكفول له.

وأمّا بالنسبة إلى المكفول فهل يعتبر رضاه أم لا؟

المشهور بل في التذكرة قال : عند علمائنا عدم الاعتبار (2) ، وقال الشيخ في المبسوط باعتبار رضاه ، وقال ابن إدريس أيضا : الكفالة صحيحة إذا كان بإذن من تكفّل عنه (3) ، ونسب في الجواهر إلى القاضي وابن حمزة أيضا اعتباره ، وقد حكى عن العلاّمة أنّه قال : وفيه أي في اعتبار الرضا في المكفول قوّة (4).

وقال في الجواهر : لا استبعاد في تركيب عقد الكفالة من إيجاب من الكفيل وقبولين : أحدهما من المكفول له ، والآخر من المكفول (5).

وإلى هذا مال سيّدنا الأستاذ فقيه عصره السيّد الأصفهاني قدس سره في وسيلته وقال : والأحوط اعتباره ، بل الأحوط كونه طرفا للعقد ، بأن يكون عقدها مركّبا من إيجاب وقبولين من المكفول له والمكفول (6).

ولا شكّ في أنّه لو كان الأمر كذلك لكان اعتباره من الواضحات ، لما ذكرنا من أنّ إنشاء الإيجاب لا بدّ وأن يكون عن إرادة جدّية بمضمونهما ، فبناء على كون المكفول أحد القابلين لا مناص عن القول باعتبار الرضا في المكفول أيضا مثل المكفول له.

ولكنّ الشأن في صحّة هذا الأمر وأنّه من أركان عقد الكفالة كما توهّم أم لا

ص: 152


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 186.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 100.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 77.
4- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 187.
5- المصدر.
6- « وسيلة النجاة » ج 2 ، ص 214.

والعقد واقع بين الكفيل والمكفول له والمكفول أجنبي عن هذا الأمر ، وذلك من جهة أنّ المقصود من عقد الكفالة هو وثوق المكفول له واطمينانه بعدم ذهاب حقّه ، وهذا أمر راجع إلى الكفيل والمكفول له والمكفول ، لا شأن له في هذا المقام ، ويكون حاله في باب الكفالة مثل حال المضمون عنه في باب الضمان. فكما أنّ المضمون عنه خارج عن أطراف العقد - والعقد واقع بين الضامن والمضمون له - فكذلك المكفول.

وبناء على صحّة كفالة الأعيان المضمونة حال المكفول إذا كان إنسانا حال المكفول إذا كان من الأعيان المضمونة فكما لا يمكن ادّعاء اعتبار الرضا فيها ولا يعقل ، فكذلك إذا كان إنسانا.

وبعبارة أخرى : التعاقد والتعاهد بين الكفيل والمكفول له ، لأنّ الكفيل يتعهّد للمكفول له بإحضار ذلك مؤجّلا بأجل معيّن أو معجّلا ، وهذا العقد والتعاهد لا ربط له بالمكفول أصلا. وحال المكفول إذا كان من ذوي العقول حاله إذا كان من غير ذوي العقول ، مثل أن يكون حيوانا أو متاعا.

وأمّا ما ذكروا في وجه اعتبار رضاه أنّ وجهه إمكان إحضاره فإنّه متى لم يرض لم يلزمه الحضور معه ، فعجيب ، لأنّ طريق إحضاره ليس منحصرا بكونه راضيا بهذه الكفالة ، بل وإن لم يكن راضيا ولا يرى نفسه ملزما بالحضور ولكن الكفيل قادر على إحضاره بالطرق العادية ، وهذا المقدار يكفي في تحقّق الكفالة وشمول الإطلاقات له.

ومنها : تعيين المكفول. قال في القواعد : فلو قال : كفلت أحدهما ، أو قال : كفلت زيدا فإن لم آت به فبعمرو ، أو بزيد أو عمرو بطلت (1). وذلك لما قلنا من أنّ حقيقة الكفالة هو التعهّد بإحضار شخص ، ومع الترديد أو كونه مجهولا كيف يتعهّد بإحضاره.

ولكن الإنصاف أنّه لو قال : كفلت أحد هذين ، أي أتعهّد بإحضار أحد هذين تتحقّق الكفالة عرفا وتشمله الإطلاقات ، إلاّ أن يرد دليل خاصّ على بطلان مثل هذا

ص: 153


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 182.

التعهّد ، وعدم تحقّق الكفالة شرعا من إجماع أو غيره.

ومنها : التنجيز وعدم تعليقه على أمر ، سواء كان مشكوك الوقوع أو معلوم. والعمدة في دليل بطلان التعليق في جميع العقود التي منها الكفالة هو الإجماع ، وإلاّ فلا مانع عقلا.

نعم تعليق الإنشاء عقلا لا يمكن ، وذلك لأنّ الإنشاء في التشريعيّات مثل الإيجاد في التكوينيّات ، وكما أنّ الثاني لا يمكن التعليق فيه بل أمره دائر بين الوجود والعدم كذلك الحال في الأوّل ، لأنّ الإنشاء أيضا إيجاد في عالم التشريع.

وأمّا القضايا الشرطيّة في لسان الشرع ، فالإنشاء منجّز على الموضوع المقيّد ، فقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) ليس الإنشاء معلقّا ، بل المعلّق هو المنشأ. وبعبارة أخرى : موضوع الحكم مقيّد ، فكأنّه تعالى قال : المستطيع يجب عليه ، فإنشاء الحكم منجّزا على هذا الموضوع المقيّد. وكذا قوله تعالى في باب الجعالة ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (2).

قال العلاّمة قدس سره في القواعد : لو قال : إن جئت فأنا كفيل به ، لم يصحّ على إشكال (3).

ولعلّ غرضه من الإشكال هو ورود رواية على الصحّة ، وهي رواية أبي العبّاس البقباق قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل كفل لرجل بنفس رجل وقال : إن جئت به وإلاّ فعليّ خمسمائة درهم ، قال : « عليه نفسه ولا شي ء عليه من الدراهم ». فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، قال : « تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه » (4).

ص: 154


1- آل عمران (3) : 97.
2- يوسف (12) : 72.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 182.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 210 ، ح 493 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 157 ، أبواب الضمان ، باب 10 ، ح 1.

قال فخر المحقّقين قدس سره في الإيضاح (1) في تقريب دلالة الرواية على صحّة الكفالة مع التعليق بأنّ ظاهرها هو أنّ لزوم دفع الخمسمائة درهم معلّق على عدم الإتيان به ، وهذا ملازم مع كون لزوم الإتيان به وإحضاره معلّقا على عدم الدفع ، فيكون وجوب إحضاره الذي هو عبارة أخرى عن الكفالة معلّقا على عدم الدفع ، وقد حكم الإمام علیه السلام بصحّة مثل هذه الكفالة وأفاد أنّ حكم الإمام علیه السلام في جواب سؤال الراوي بنحو قضيّة المانعة الخلوّ ، أي لا يخلو وظيفته وما يجب عليه من أحد أمرين : إمّا دفع الخمسمائة ، وإمّا الإتيان بذلك الرجل الذي كفل بإحضاره والإتيان به.

وهذا كلام عجيب ، لأنّ الرواية ظاهرة في أنّ لزوم الدفع معلّق على عدم الإتيان به ، وأمّا لزوم الإتيان فليس معلّقا على عدم الدفع ، بل هو لازم على كلّ حال ، دفع أو لم يدفع. نعم هو التزم بالدفع معلّقا على عدم الإتيان به ، وهذا تعليق في التزامه وليس تعليقا لا في الكفالة ولا في الضمان المصطلح ، بل تعليق في ما التزم به ، فالرواية أجنبيّة عن المقام. ولو كانت دالّة على تعليق الكفالة يجب طرحها ، للإجماع على خلافها.

وقد ذكروا هاهنا لبطلان التعليق وجوها تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها مضافا إلى عدم صحّتها في نفسها.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ الشرائط العامّة التي ذكروها لصحّة العقود تأتي كلّها في عقد الكفالة أيضا ، من البلوغ والعقل والرشد والاختيار بالنسبة إلى المتعاقدين ، أي الكفيل والمكفول له إن كان قابلا لأن يقع طرفا في العقد ، وإلاّ ففي وليّه.

وبعبارة أخرى : هذه الشروط لمطلق المتعاقدين ، ولا اختصاص لها بعقد خاصّ ، فلا يجب ذكرها وتكرارها في كلّ عقد بعد أن كان دأب الفقهاء وديدنهم ذكرها في أوّل أبواب المعاملات أعني البيع. وإنّما ذكروا خصوص التنجيز لأجل الرواية التي ذكرناها واستظهار بعضهم عدم اعتبار التنجيز فيها. وقد عرفت الحال فيها وأنّه لا دلالة لها

ص: 155


1- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 98.

على ذلك.

فرع : تصحّ الكفالة حالّة ومؤجّلة ، وذلك من جهة أنّ الكفالة كما تقدّم عبارة عن التزام لشخص بإحضار شخص آخر لحق للأوّل - أي المكفول له - على الثاني المسمّى بالمكفول لاستيفاء حقّه منه.

وللملتزم أن يلتزم بإحضاره مطلقا من قيد التعجيل والتأجيل ، أو يقيّد الملتزم به - أي الإحضار - بالتعجيل أي حالاّ ، أو يقيّد بالتأجيل فيسمّى بالكفالة المؤجّلة.

والكفيل مختار في جعل التزامه على كلّ واحد من هذه الأوجه الثلاث ، والإنسان مختار في معاهداته والتزاماته ، إلاّ أن يكون ما التزم به حراما.

وأمّا دليل نفوذ هذه الالتزامات على الأوجه الثلاث ، فهي إطلاقات باب الكفالة.

أمّا صحّتها مؤجّلة ، فقد ادّعى في الروضة أنّه موضع وفاق ، وادّعى في الجواهر عدم الخلاف فيها (1).

وأمّا صحّتها حالّة ومعجّلة ، فقد حكى الخلاف فيها عن المفيد في المقنعة (2) ، وعن الشيخ في النهاية (3) ، وعن ابن حمزة (4) ، وسلاّر (5) ، والقاضي في أحد قوليه (6) ، ولم يأتوا بدليل يركن إليه في تقييد الإطلاقات.

وأمّا ما ذكر في وجه عدم صحّتها من لغويّتها لو كانت حالّة لأنّ المكفول له أن

ص: 156


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 188.
2- « المقنعة » ص 815.
3- « النهاية » ص 315.
4- « الوسيلة » ص 281.
5- « المراسم » ص 200.
6- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 499.

يطالبه في نفس وقت إيقاع الكفالة ومع حضور المديون ، وهذا يكون عبثا.

ففيه : أنّ مورد تعجيل الكفالة وكونها حالّة ليس منحصرا بهذا المورد المذكور كي يكون لغوا وعبثا ، بل يمكن أن يكون المكفول في نفس الوقت غائبا عن مجلس الكفالة بل غائبا عن البلد ، ولكن الكفيل متمكّن من إحضاره فورا ولو بتوسّط البرقية أو التلفون.

هذا ، مضافا إلى أنّ المراد من كونها حالّة ليس بمعناه الدقي ، بل بمعناه العرفي ولو بأن يكون زمان حضوره تميد إلى ساعات لا ينافي صدق كونها معجّلة وحالّة.

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن صحّة كونها مؤجّلة لا بدّ من تعيين مدّتها ، وذلك للإجماع أوّلا ، ولبطلان المعاملة الغرريّة بناء على صحّة رواية « نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن الغرر » (1) أو للإجماع على بطلان المعاملة الغرريّة.

والحاصل : أنّ الإجماع انعقد على أنّ العقد اللازم يجب أن لا يكون غرريّا وأنّه موجب لبطلانها.

هذا ، مضافا إلى أنّ العقلاء في العقود اللازمة يبنون على عدم صحّة المعاملة الغررية ، وهذا لا ينافي مسامحتهم في بعض مراتب الغرر ، وكأنّه لا يرونه غررا.

فرع : لا شبهة في أنّ للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضار المكفول عاجلا في صورتين من الصور الثلاث المتقدّمة ، وهما إذا كانت الكفالة حالّة أو مطلقة. وأمّا إن كانت مؤجّلة فلا يستحقّ المطالبة إلاّ بعد حلول أجلها.

ص: 157


1- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 2 ، ص 45 ، ح 168 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 283 ، أبواب آداب التجارة ، باب 33 ، ح 1 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، في بيع الغرر ، ح 3376 ، « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 349 ، باب 17 ، ح 1248 ، « كنز العمّال » ج 4 ، ص 74 ، الفرع السابع في بيع الغرر ، ح 9585 - 9586.

ووجه ما ذكرنا هو التزام الكفيل بذلك ، فالمكفول له حسب التزام الكفيل يصير مستحقّا على الكفيل ما التزام به ، فما التزمه عاجلا يستحقّ عليه عاجلا ، ولو كانت مطلقة أيضا كذلك ، لأنّ الإطلاق يقتضي وجود أثر العقد بمحض وجوده من دون حالة منتظرة ، كما أنّه في باب البيع أو الإجارة مثلا تتحقّق ملكيّة العين في الأوّل ، والمنفعة في الثاني بمحض وجود عقديهما تامّين جامعين للأجزاء والشرائط مع فقد موانعهما ، فكذلك هاهنا بمحض وجود عقد الكفالة يوجد حقّ المطالبة بالإحضار للمكفول له الذي هو أثر هذا العقد.

وأمّا لو كان ما التزم به إحضاره بعد مضيّ زمان ومدّة معيّنة ، فلا يستحقّ إلاّ بعد مضيّ ذلك الزمان وحلول الأجل ، فإن أحضره حسب ما التزم به في الصور المذكورة حسب التزامه فهو ، وإلاّ يحبس حتّى يأتي به أو يؤدّى حقّ المكفول له على المكفول.

أمّا حبسه فمن جهة أنّ كلّ ممتنع عن أداء حقّ الغير ، للحاكم حبسه إلى أن يؤدّيه إن كان متمكّنا من الأداء وأمّا لو أدّى حقّ المكفول له فلا يحبس إن كان الأداء قبلا ويطلق لو كان الأداء في أثناء الحبس ، لأنّ بعد الأداء لا يبقى له حقّ كي يحبس الكفيل لأجله.

وهاهنا أخبار ذكرها في الكافي والفقيه والتهذيب تدلّ على حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول.

منها : ما نقل عن الكافي ، عن عمّار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « أتي أمير المؤمنين برجل قد تكفّل بنفس رجل ، فحبسه وقال : اطلب صاحبك » (1).

ومنها : رواية أصبغ بن نباتة قال : قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل تكفّل بنفس

ص: 158


1- « الكافي » ج 5 ، ص 105 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 156 ، أبواب الضمان ، باب 9 ، ح 1.

رجل أن يحبس وقال له : « اطلب صاحبك » (1).

ومنها : رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أنّ عليّا علیه السلام أتي برجل كفل برجل بعينه ، فأخذ بالكفيل فقال : « احبسوه حتّى يأتي بصاحبه » (2).

ومنها : رواية عامر بن مروان ، عن جعفر ، عن أبيه علیهماالسلام عن على علیه السلام : « أنّه أتي برجل قد كفل بنفس رجل ، فحبسه فقال : اطلب صاحبك » (3).

ولكن مفاد هذه الأخبار هو حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول ، وليس فيها التخيير بين أن يحضر المكفول أو يؤدّى حقّ المكفول له ، فلا بد من التماس دليل آخر لهذا التخيير. وقد عرفت أنّه مع أداء الحقّ لا يبقى شي ء يوجب الحبس أو الإحضار.

ويمكن أن يقال : إنّ ظاهر هذه الروايات وإن كان كما ذكر ، ولكن يمكن أن يكون الحكم بالحبس - إلى أن يحضر المكفول - في مورد امتناع الكفيل عن أداء حقّ المكفول له ، وإلاّ فالإحضار ليس له موضوعيّة وإنّما هو مقدّمة لاستيفاء الحقّ منه.

وما ذكره في الجواهر في وجه إلزامه بالإحضار وعدم قبول الأداء من قوله : إذ ربما يكون غرض المكفول له يتعلّق بالأداء من الغريم لا من غيره (4).

فيه أوّلا : أنّ هذه الفروض النادرة لا يمكن أن تكون منشأ لجعل حكم كلّي وهو عدم قبول الأداء من الكفيل وإلزامه بإحضار المكفول مطلقا.

وثانيا : ليس للمكفول له حقّ إلاّ استيفاء حقّه وعدم ضياع ماله ، وهو يحصل

ص: 159


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 95 ، باب الكفالة ، ح 3400 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 156 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 209 ، ح 486 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 156 ، أبواب الضمان ، باب 9 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 209 ، ح 487 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 165 ، أبواب الضمان باب 9 ، ح 4.
4- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 190.

بأداء الكفيل ، ووجوب الإحضار على الكفيل وجوب مقدّمي لاستيفاء الحقّ ، فإذا كان يصل حقّه إليه من دون الإحضار فلا معنى لوجوب الإحضار وجوبا تعيينيّا.

وبناء العقلاء في باب الكفالة هو هذا أيضا من الأوّل ، أي على أنّ الكفيل يلزم بأحد أمرين : إمّا إحضار المكفول ، وإمّا أداء حقّ المكفول له ، ولذلك لو امتنع إحضاره بجهة من الجهات يجب على الكفيل الغرامة.

ولعلّ إلى هذا يشير قوله علیه السلام - في وجه مرجوحيّة الكفالة ، وكراهة ارتكابها وحسن اجتنابها - : « الكفالة خسارة غرامة ندامة » (1). وخبر داود الرقي قال : « مكتوب في التوراة : كفالة ندامة غرامة » (2) وغيرهما من الأخبار الأخر.

فرع : من أطلق غريما عن يد صاحب الحقّ قهرا وإجبارا ، ضمن إحضاره أو أداء ما عليه. وكذلك لو أطلق قاتلا عمدا عن يد وليّ الدم قهرا وإجبارا يلزم عليه إحضاره ، وإن تعذّر عليه إحضاره لموت القاتل أو لجهة أخرى يجب عليه دفع دية المقتول.

أمّا الأوّل : أي إطلاق الغريم عن يد صاحب الحقّ يوجب أحد الأمرين ، فقد ذكروا له وجوها.

منها : الاتّفاق وعدم الخلاف كما عن الرياض (3) ، والإجماع كما حكى في الجواهر عن الصيمري (4).

ص: 160


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 97 ، باب الكفالة ، ح 3405 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 154 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 210 ، ح 492 ، باب في الكفالات والضمانات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 155 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 5.
3- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 599.
4- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 198.

ومنها : التمسّك بقاعدة « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

وفي الإجماع ما عرفت مرارا في هذا الكتاب أنّه ليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، لأنّه من المحتمل القريب اعتماد المجمعين - على فرض تسليم وجوده - على هذه الوجوه المذكورة ، وهو كما ترى.

وأمّا في التمسّك بقاعدة لا ضرر فلما بيّنّا في محلّه أنّ مفاد القاعدة هو رفع الحكم الضرري ، لا إثبات حكم يرتفع به الضرر.

ومنها : فحوى ما سنبيّنه في القاتل من حكمه علیه السلام بحبس من أطلق القاتل العمدي عن يد أولياء المقتول حتّى يأتي بالقاتل. ولعلّ مراد من تمسّك بهذا الوجه هو أنّ المطلق في إطلاق القاتل لم يتلف مال أولياء المقتول ، وإنّما صار سببا لضياع حقّهم وعدم إمكان استيفائهم ، فإذا كان ذلك موجبا لجواز حبسه حتّى يأتي بالقاتل ، ففي مورد إتلاف مال الغير أولى.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لا فحوى ولا أولويّة في البين ، من جهة أنّه لا شكّ في اهتمام الشارع بأمر الدماء أزيد من الأموال ، فيمكن أن يحكم بحبس الذي يطلق القاتل العمدي حتّى يأتي به ويقتصّ الولي منه كي لا يتجرّأ الأشقياء على قتل الناس برجاء أنّ أقرباءهم أو أصدقاءهم يخلصونهم عن أيدي الأولياء ، فلا يكون محذور لهم ولا لأقربائهم أو أصدقائهم.

وأمّا عدم إمكان استيفاء ماله وتأخيره ، فليس بهذه المثابة والأهمّية.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأولويّة الظنيّة لا يخرج ما ذكر عن كونه قياسا. وأمّا ادّعاء القطع بأنّ مناط الحكم بالحبس هو تفويت الحقّ ، فأمر غير مبيّن ولا دليل عليه.

ومنها : أنّ إطلاق الغريم إتلاف لمال الغير عرفا ، ومن أتلف مال الغير فهو له ضامن. وتدارك هذه الخسارة التي أوردها على الدائن بأحد أمرين : إمّا إحضار الغريم ، وإمّا أداء ذلك المال الذي كان على عهدة الغريم. وقد ذكرنا عدّة فروع من هذا القبيل

ص: 161

في قاعدة الإتلاف ، وإن شئت فراجعها.

ومنها : أنّ المطلق غصب يد المستولية المستحقّة من صاحبها ، فكان عليه إعادتها بإحضار الغريم وجعله تحت يده ، أو أداء الحقّ الذي بسببه تثبت اليد عليه. وهذا ما قاله جامع المقاصد (1).

وفيه : أنّه لم يفهم معنى لغصب اليد ، وأمّا غصب المال الذي في عهدة الغريم فلا بدّ وأن يكون إمّا باليد الغاصبة ، ولا يد للمطلق عليه ، فلا تشمله قاعدة « وعلى اليد ». وإمّا بالإتلاف ، وهو ما تقدّم ذكره من أنّه هل يصدق الإتلاف عرفا في المقام أم لا؟

وخلاصة الكلام : إن أغمضنا عن الإشكال الذي ذكرنا في الإجماع أو قلنا بالقطع بأنّ المناط في حكمه علیه السلام - بحبس المطلق للقاتل عمدا من أيدي أولياء الدم حتّى يحضر القاتل - هو تفويت حقّ أولياء الدم ، أو قلنا بصدق إتلاف مال الدائن فهو ، وإلاّ فالحكم بحبس المطلق للغريم لا يخلو من إشكال.

وأمّا الثاني : أي إطلاق القاتل عمدا عن يد أولياء الدم ، فيأتي فيه بعض الوجوه المتقدّمة في الأوّل ، خصوصا الإجماع المذكور عن الصيمري ، فإنّه ادّعى الإجماع في هذا المورد أيضا على ما حكى عنه صاحب الجواهر (2) قدس سره وهو نفسه أيضا ادّعى عدم وجدان الخلاف في هذا الحكم ، أي لزوم إحضار المطلق للقاتل عمدا إيّاه أو دفعه الدية.

ولكنّ العمدة فيه صحيح حريز ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : سألته عن رجل قتل رجلا عمدا ، فرفع إلى الوالي ، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه ، فوثب عليهم قوم فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء ، قال : « أرى أن يحبس الذين خلّصوا القاتل من أيدي الأولياء حتّى يأتوا بالقاتل ». قيل : فإن مات القاتل وهم في السجن؟ قال علیه السلام :

ص: 162


1- « جامع المقاصد » ج 5 ، ص 394.
2- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 199.

« وإن مات فعليهم الدية ، يؤدّونها جميعها إلى أولياء المقتول » (1).

والإنصاف أنّ الصحيحة صريحة الدلالة على المقصود ، وصحيح السند ، ومعمول بها حتّى ادّعى على مفادها الإجماع ، فهي حجّة في المقام وكفى.

ولكن أنت خبير بأنّه ليس التخيير من أوّل الأمر بين الأمرين إحضار القاتل ، أو أداء دية المقتول ، بل أداء الدية بعد موته وهم في السجن وعدم إمكان إحضاره للاقتصاص منه لموته ، فلو كان مستند هذا الحكم هو هذه الصحيحة لا بدّ وأن يكون مرادهم هذا ، أي يجب عليه الإحضار وإن تعذّر لموت القاتل فعليه أو عليهم دفع دية المقتول ، كما ذكرنا نحن كذلك.

وذكروا هاهنا بعض فروع في هذه المسألة تركنا ذكرها لكونها أجنبية عن باب الكفالة التي محلّ كلامنا ، كما أنّ أصل هذه المسألة أيضا ليست من باب الكفالة ، ولكنّ الفقهاء نزّلوها منزلة الكفالة من جهة وحدة الأثر ، أي لزوم الإحضار أو الغرامة.

وعنوان الباب الذي ذكر هذه في الوسائل في ذلك الباب هو : باب أنّ من أطلق القاتل من يد الولي قهرا صار كفيلا يلزمه إحضاره ، يحبس حتّى يردّه أو يؤدّي الدية (2).

فرع : لا كفالة في الحدّ ، لأنّه مضافا إلى أنّ الحدّ إجراءه واجب فوري بعد إثباته - وهذا ينافي الكفالة ، فإنّها توجب التأخير الكفالة فيه توجب تعطيل الحدّ وعدم إمكان إجرائه في كثير من الموارد ، وهي في مثل الرجم والحرق والقطع ، ففي هذه الموارد إذا أطلق المحارب ، أو الزاني المحصن ، أو اللائط ، أو السارق يخفى نفسه

ص: 163


1- « الكافي » ج 7 ، ص 286 ، باب الرجل يخلص من يجب عليه القود ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 160 ، أبواب الضمان ، باب 15 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 160 ، أبواب الضمان ، باب 15.

ويهرب ويختفى إلى الأبد ، لأنّ كلّ شخص ونفس يهرب من الموت ، فيلزم تعطيل الحدود - ورد روايات في عدم جواز الكفالة في الحدّ.

منها : ما رواه السكوني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا كفالة في حدّ » (1).

ومنها : ما رواه الصدوق بإسناده قال : قضى أمير المؤمنين علیه السلام أنّه لا كفالة في حدّ (2).

ومنها : ما رواه في الفقيه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ادرؤا الحدود بالشبهات ، ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حدّ » (3).

فرع : عقد الكفالة لازم ، فلا يجوز فسخه إلاّ بالإقالة ، أو باشتراط الخيار للكفيل ، أو المكفول له. أمّا كونه لازما ، فلأنّه مقتضى أصالة اللزوم في كلّ عقد إلاّ في العقود الإذنيّة ، أو خرج عن تحت أصالة اللزوم بوجود الدليل على الجواز.

هذا ، مضافا إلى أنّ الغرض من الكفالة هو الاستيثاق من عدم ضياع ماله والتمكّن عن تحصيل الغريم ، وبالكفالة يحصل كلا الأمرين ، لأنّ الكفيل يجب عليه إمّا إحضار الغريم المكفول ، وإمّا أداء المال ، وهذا الغرض لا يحصل إلاّ بلزوم عقد الكفالة ، وإلاّ لو كان جائزا ، فبعد ما سافر الغريم أو أخفى نفسه وفسخ الكفيل عقد الكفالة ، فلا يحصل الغرض المذكور.

ص: 164


1- « الكافي » ج 7 ، ص 255 ، باب أنّه لا كفالة في حدّ ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 161 ، أبواب الضمان ، باب 16 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 95 ، باب الكفالة ، ح 3400 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 161 ، أبواب الضمان ، باب 16 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 74 ، باب نوادر الحدود ، ح 5146 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 336 ، أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامّة ، باب 24 ، ح 4.

والحاصل : أنّ بناء العقلاء في عقد الكفالة على اللزوم ، والشارع أمضى ما هو عندهم وبناءهم عليه.

وأمّا فسخه بالإقالة أو باشتراط الخيار ، فالإقالة من جهة أنّها على القاعدة في العقود اللازمة ، إلاّ أن يأتي دليل تعبّدي على عدم تطرّق الإقالة فيه كما في باب النكاح ، وذلك لما ذكرنا في محلّه أنّ التزام كلّ واحد من المتعاقدين بالوفاء بالعقد ملك للطرف الآخر وبرعايته ، فإذا رفع اليد فلا يبقى التزام في البين.

وأمّا جواز اشتراط الخيار لكلّ واحد من الكفيل والمكفول له ، فمن أنّه شرط جائز ليس له مانع عقلي ولا شرعي ، فيشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم ».

فرع : إذا أحضر الكفيل الغريم قبل الأجل ، هل يجب على المكفول له تسلّمه ، أو لا؟ قيل : يجب.

وكذلك الكلام بالنسبة إلى المكان الذي عيّنا إحضاره في ذلك المكان لو أحضره في غير ذلك المكان هل يجب قبوله ، أو لا يجب وإن لم يكن ضرر عليه تسلّمه في ذلك المكان أو في ذلك الزمان؟

الظاهر عدم وجوب تسلّمه في غير المكان أو الزمان الذي عيّنا إحضاره في ذلك الزمان أو في ذلك المكان ، أمّا مع الضرر فمعلوم ، وأمّا مع عدمه فأيضا لا دليل على لزوم تسلّمه ، لأنّ المفروض أنّه خلاف ما التزما به في عقد الكفالة ، والأغراض تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة وإن لم يكن ضرر في البين ولا ملزم له على تسلّمه وقبوله.

نعم لو لم يعيّنا زمانا أو مكانا ، لعلّه كان واجبا إذا لم يكن ضرر عليه ، إلاّ أن يكون الإحضار في زمان أو مكان منصرفا عنه الإطلاق.

ص: 165

فرع : قال في الشرائع : ولو سلّمه وكان المكفول له ممنوعا من تسلّمه بيد قاهرة لم يبرأ الكفيل (1).

والمقصود من هذه العبارة أنّ الكفيل وإن أحضر المكفول - أي الغريم - وسلّمه إلى المكفول له ، لكن مثل هذا التسليم - الذي هو لا يقدر على تسلّمه لوجود يد قاهرة مانعة عن السلم وأخذ الحقّ منه - في حكم العدم ، لعدم ترتّب الغرض عليه وهو استيفاء الدين عن الغريم ، ولعلّ إطلاق الأدلّة منصرفة عن مثل هذا التسليم.

أمّا لو كان الغريم المكفول محبوسا ، فإمّا أن يكون محبوسا في حبس الحاكم الشرعي ، فلا مانع من تسلّمه واستيفاء الحقّ منه. وأمّا لو كان في حبس الظالم وليس مانعا عن تسلّمه عن الكفيل واستيفاء الحقّ منه لأنّه ربما يقدر الكفيل على ذلك ، فلا وجه لإطلاق القول بعدم إمكانه ، بل لا بدّ وأن يقيّد الحكم بقدرة الكفيل على تسليمه وإمكان استيفاء الدين منه ، والحكم بالعدم بعدم قدرته على ذلك.

فرع : إذا كان المكفول غائبا ، فإمّا أن يعلم مكانه وليست أخباره منقطعة عن الكفيل ، وكانت الكفالة حالّة ، أو حال أجلها وإن كانت مؤجّلة ، فطلب المكفول له إحضار المكفول وهو قادر على إحضاره ، يجب عليه إحضاره ، لأنّ هذا مقتضى عقد الكفالة ووجوب الوفاء به. ويجب أن يمهل بمقدار ذهابه وجلبه والإتيان به بنحو المتعارف ، فإذا أتى به وسلّمه تسليما تامّا تبرأ ذمّته ، وإن تماطل يجوز للمكفول له حبسه بأمر الحاكم حتّى يأتي به أو يؤدّي ما عليه ، كما تقدّم.

وأمّا إن كان مكانه مجهولا وأخباره منقطعة ، فلا يكلّف الكفيل بإحضاره ، لعدم قدرته على ذلك. ولكن هل يلزم الكفيل بأداء ما عليه أم لا؟

ربما يقال بعدم جواز إلزامه بذلك ، لأنّه تكفل إحضار نفسه وهو أمر غير مقدور ،

ص: 166


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 116.

والتكليف بأمر غير مقدور قبيح ، ولم يضمن المال فلا وجه لإلزامه بالمال.

ولكن الأولى أن يفصّل بين ما كان عدم التمكّن من إحضاره بتفريط من الكفيل ، بأن طالبه المكفول له وكان الكفيل متمكّنا من إحضاره في ذلك الوقت ولكنّه مستأهل حتّى هرب إلى مكان مجهول أو أخفى نفسه فيغرم ، وبين ما لم تكن كذلك إمّا بأن لم يطالبه المكفول له إلى هذا الوقت ، أو كان طلبه في وقت لم يكن متمكّنا من إحضاره فلا غرم. والوجه في كلتا الصورتين واضح.

فرع : قد يقال إن لم يعيّنا - أى الكفيل والمكفول له - مكان التسليم ، فينصرف إلى بلد العقد.

وفيه أنّه ليس كذلك مطلقا ، لأنّه لو وقع العقد بينهما في بلد غربة يفارقانه بسرعة وربما لا يمرّان به بعد ذلك أصلا ، فلا انصراف في مثل هذا المورد إلى بلد العقد قطعا ، بل يكون منصرفا عنه يقينا.

والظاهر أنّه ينصرف إلى البلد الذي استقرار المكفول له فيه ، ويكون محلّ عمله وكسبه وتجارته ، ويكون استيفاء دينه كسائر إشغاله من مصلحته في ذلك البلد. هذا إذا أطلقا التسليم.

وأمّا إذا عيّنا بلدا معيّنا أو مكانا كذلك ، يجب التسليم في ذلك البلد أو في ذلك المكان ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » وقد تقدّم الكلام في مثل ذلك إذا عيّنا زمانا معيّنا. وبناء على ما ذكرنا لو سلّمه إلى المكفول له في غير ذلك المكان لم تبرأ ذمّته ، لعدم التسليم التامّ حسب التزامه.

فرع : لو اتّفق الكفيل والمكفول له على وقوع الكفالة ، ولكن قال الكفيل للمكفول له : لا حقّ لك الآن لأداء المكفول ، أو لإبرائك إيّاه مثلا ، فالقول قول المكفول

ص: 167

له ، وذلك لموافقة قوله مع الحجّة الفعليّة التي هي المناط في باب تشخيص المدّعي والمنكر ، وهو عبارة عن أصالة عدم الأداء والإبراء ، أو أصالة بقائه بعد ثبوته يقينا.

نعم على المكفول له اليمين ، فإن حلف يؤخذ الحقّ من الكفيل إن لم يحضر المكفول فيما إذا كان إحضاره واجبا عليه ، وإن ردّ على الكفيل ولم يحلف ونكل فأيضا يؤخذ الحقّ منه على التفصيل المتقدّم ، بمعنى أنّه يحبس حتّى يأتي به أو يؤدّي الحقّ. وأمّا إن حلف الكفيل فيبرأ عن الكفالة ، ولكن لم يبرأ المكفول من المال إلاّ إذا ادّعى أيضا الأداء أو الإبراء ولم يحلف المكفول له وردّ على المكفول فحلف على الأداء أو الإبراء.

ولو ادّعى الكفيل عدم الحقّ حال الكفالة وأنّ الكفالة كانت باطلة وأنكر المكفول له ، فيكون القول أيضا قوله بيمينه ، فإن حلف يؤخذ الحقّ عن المكفول ، وإن ردّ ونكل المكفول ولم يحلف فأيضا يؤخذ الحقّ منه ، وإن حلف تبرأ ذمّته عن الحقّ وقهرا تبرأ ذمّة الكفيل أيضا عن الكفالة ، لأنّها تابعة لوجود الحقّ وثبوته ، فإذا سقط شرعا بواسطة حلف المكفول فتسقط الكفالة أيضا قهرا.

فرع : إذا تكفّل رجلان برجل واحد ثمَّ سلّمه أحدهما ثمَّ هرب المكفول ، فهل تبرأ ذمّة الآخر بتسليم الأوّل ، أم للمكفول له الرجوع إلى الكفيل الآخر وطلب إحضاره منه؟

حكى عن الشيخ (1) ، والقاضي (2) ، وابن حمزة (3) قدس سره عدم براءة الآخر ، وأنّه للمكفول له الرجوع إليه وطلب إحضاره منه.

ص: 168


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 339.
2- « جواهر الفقه » ص 71 - 72 ، المسألة 269.
3- « الوسيلة » ص 281.

ولكن قال في الشرائع : ولو قيل بالبراءة كان حسنا (1).

ووجه حسنه أنّ المقصود من الكفالة هو تسلّمه من الكفيل والتمكّن والقدرة على استيفاء دينه منه ، وهذا المعنى قد حصل. ولذلك تقدّم أنّه لو سلّم نفسه تبرأ ذمّة الكفيل كما أنّه أيضا تبرأ ذمّته بتسليم الأجنبي ، وليس تسليم أحد الكفيلين المكفول للمكفول له أقلّ فائدة في حصول الغرض من تسليم الأجنبي ، فالأظهر ما قاله المحقّق من أنّ القول بالبراءة حسن.

فرع : ولو تكفّل لرجلين برجل فسلّمه إلى أحدهما لم يبرأ عن الآخر ، وهذا واضح جدّا. نعم لو كان دين الرجلين على المكفول مشاعا بينهما ، وصار كفيلا لكلّ واحد منهما بذلك الرجل المديون ، فسلّمه إلى أحدهما وهما شريكان في ذلك الدين وكان الدين لهما بالإشاعة ، فإذا استوفى أحدهما تمام الدين المشاع بينهما فلا يبقى مجال لبقاء الكفالة بالنسبة إلى الآخر ، لأنّ بقاء الكفالة تابع لبقاء الحقّ في ذمّة المكفول ، فتسقط الكفالة باستيفاء تمام الحقّ عن الآخر أيضا.

ولكن ظاهر الفرض أن يكون كفيلا لكلّ واحد من الرجلين برجل واحد في دين مستقلّ لكلّ واحد منهما ، وفي الفرض لا تبرأ ذمّة الكفيل عن الكفالة للآخر بتسليم المكفول إلى أحدهما يقينا.

فرع : إذا مات المكفول برئ الكفيل عن الكفالة ، وكذلك الأمر لو مات الكفيل.

أمّا الأوّل : فمن جهة أنّ الغرض من الكفالة إحضار الكفيل المكفول لأنّ يستوفي المكفول له حقّه منه ، فإذا مات لا يمكن إحضاره ولا استيفاء الحقّ منه ، بل حقيقة

ص: 169


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 117.

الكفالة هو الالتزام بإحضار المديون ، والعمل بهذا الالتزام متعذّر للكفيل ، فالعقد من أوّل الأمر لا يشمل مثل هذه الصورة ، لأنّه التزام بفعل لا يقدر عليه. ونحن بيّنّا في هذا الكتاب أنّ كلّ عقد لا يقدر المتعاقدان أو أحدهما العمل بمضمونه يكون مثل هذا العقد والتعهّد والالتزام باطلا ، فإذا بلغ إلى هذا الحدّ يخرج عن كونه كفيلا وتبرأ ذمّته.

هذا ، مضافا إلى ادّعاء صاحب الرياض قدس سره نفي الخلاف في هذا الحكم ، أي براءة ذمّة الكفيل بموت المكفول (1) وفي التذكرة قال : إذا مات المكفول به بطلت الكفالة ، ولم يلزم الكفيل شي ء عند علمائنا (2) وأنت ترى أنّ هذه العبارة مساوقة لادّعاء الإجماع ، فلا ينبغي التشكيك في براءة ذمّة الكفيل بموت المكفول.

وأمّا الثاني : أي موت الكفيل ، فبطلان الكفالة بموته وعدم قيام الوارث مقامه فمن جهة كون ذمّة الميّت مشغولة بإحضار المكفول به غير ممكن ، لعدم إمكان الإحضار في حقّه ، فاعتبارها في حقّه لغو في نظر الشرع والعقلاء ، وليس مالا كي ينتقل إلى ورثته. وأمّا كون حقّا فإن كان كذلك ، لكنّه حقّ المكفول له عليه ، لا حقّه على غيره كي يرثه الوارثون ، فقهرا بموت الكفيل ينتفي الكفالة ، لعدم بقاء موضوعها وهو شخص الكفيل.

نعم بموت المكفول له لا تبطل الكفالة ولا تبرأ ذمّة الكفيل ، لأنّ الكفالة كانت حقّا للمكفول له على ذمّة الكفيل ، فيرثه الوارثون بموت مورّثهم ويقومون مقامه. فكما أنّ الدين باق في ذمّة المديون ، الكفالة أيضا باقية في ذمّة الكفيل ، وكلاهما ينتقلان إلى الورثة ، فللورثة طلب إحضار الغريم من الكفيل ، فإن أحضر يستوفون دينهم الذي انتقل إليهم من مورثّهم منه ، وإلاّ يحبس حتّى يحضره أو يؤدّي الدين هو على التفصيل الذي تقدّم ، ويكون حالهم مع الكفيل حال مورّثهم معه.

ص: 170


1- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 599.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 102.

فرع : لو انتقل الحقّ بأحد النواقل الشرعيّة غير الإرث ، كما في بيع أو صلح أو هبة أو مهر أو عوض خلع أو غير ذلك ، فهل يبرأ الكفيل أم لا؟

الظاهر أنّه يبرأ من جهة أنّه كفل لهذا المالك كي يتمكّن من استيفاء دينه من المكفول ، فإذا انتقل دينه إلى غيره فلا معنى لكونه كفيلا له. وأمّا كونه كفيلا للمالك الجديد الذي انتقل إليه الحقّ فشي ء لم يلتزم به ولم يقع عقد ومعاهدة عليه ، فيبرأ ذمّته قهرا.

واحتمال انتقال حقّ الكفالة إلى المالك الجديد لا وجه له ، لأنّ المالك الجديد ليس وارثا للمكفول له ، ولذلك قيّدنا عنوان المسألة بأن لا يكون الانتقال بالإرث وقد تقدّم في الفرع السابق أنّ الكفالة لا تبطل بموت المكفول له ، بل ينتقل حقّ الكفالة والمال كلاهما إلى ورثته.

فرع : يصحّ ترامي الكفالات ، كما قلنا بصحّته في الضمان وفي الحوالة. وهو عبارة عن تكفّل شخص بإحضار رجل عليه دين لدائنه ، ثمَّ يكفّل ثان بإحضار ذلك الكفيل الأوّل ، ثمَّ يكفّل ثالث بإحضار الكفيل الثاني ، وهكذا إلى ما لا يقف على عدد والوجه في صحّته ولزومه.

أمّا صحّته فلشمول إطلاقات أدلّة صحّة الكفالة مثل هذا المورد ، أي مورد ترامي الكفالات. ومن تلك الأدلّة قوله صلی اللّه علیه و آله : « الزعيم غارم » لأنّ كلّ واحد من أفراد هذه السلسلة يصدق عليه أنّه زعيم ، أى متعهّد بإحضار من تعهّد إحضاره ، فعليه إحضاره أو أداء الحقّ ، بالتفصيل المتقدّم.

وأمّا لزومه : فلقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ولسائر أدلّة التي ذكرناها في قاعدة أصالة اللزوم في العقود العهديّة.

ص: 171

ثمَّ إنّه من آثار وأحكام هذا القسم من الكفالة أنّه لو أحضر أحدهم من عليه الحقّ يبرأ هو ويبرأ الآخرون أيضا. والوجه واضح ، لأنّ الغرض من الكفالة ولو كانوا ألفا هو إحضار من عليه الحقّ ، فإذا حصل هذا المعنى من أحدهم فقهرا يبرأ ذمّة الباقين.

أمّا لو أحضر أحد الكفلاء من تعهّد بإحضاره - أي الشخص الذي كفل به - فإن كان هو الكفيل الأوّل فبرئ ذمّة الجميع ، لأنّ من كفل به الكفيل الأوّل هو نفس من عليه الحقّ ، وبيّنّا آنفا أنّ بإحضاره تبرأ ذمّته الجميع. وأمّا إن كان هو الكفيل الثاني فتبرأ ذمّته وجميع من تأخّر عنه في السلسلة ، وأمّا ذمّة الكفيل الأوّل فلا تبرأ ، لأنّه متعهّد بإحضار من عليه الحقّ ولم يحضره.

وخلاصة الكلام : أنّ كلّ كفيل في هذه السلسلة - عددها أيّ مقدار كان - إذا أحضر من تكفّل ، لا تبرأ إلاّ ذمّة نفسه وذمّة من تأخّر عنه من الكفلاء ، وأمّا ذمّة من تقدّم عليه فلا. وأمّا لو كان المحضر هو الكفيل الأوّل حيث أنّ جميع الكفلاء متأخّرون وليس كفيل متقدّم عليه فتبرأ ذمّة الجميع بإحضاره من تكفّل عنه ، وهو من عليه الحقّ.

فرع : يكره التعرّض للكفالات ، لروايات تدلّ على الكراهة :

منها : ما عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري قال : أبطأت عن الحجّ فقال لي أبو عبد اللّه علیه السلام : « ما أبطأ بك عن الحجّ؟ » فقلت : جعلت فداك تكفّلت برجل فخفر بي فقال : « مالك والكفالات ، أما علمت أنّها أهلكت القرون الأولى. ثمَّ قال : إنّ قوما أذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوفا شديدا ، فجاء آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا فأنزل اللّه عزّ وجلّ عليهم العذاب ، ثمَّ قال اللّه تبارك وتعالى خافوني

ص: 172

واجترأتم عليّ » (1).

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : « الكفالة خسارة غرامة ندامة » (2).

ومنها : ما عن داود الرقي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « مكتوب في التوراة كفالة ندامة غرامة » (3).

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 173


1- « الكافي » ج 5 ، ص 103 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 154 ، أبواب الضمان ، باب 7 ، ح 1.
2- تقدّم تخريجه في ص 161 ، رقم (1).
3- تقدّم تخريجه في ص 161 ، رقم (2).

ص: 174

58 - قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء

اشارة

ص: 175

ص: 176

قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « الشفعة جائزة في كل شي ء من حيوان أو أرض أو متاع ». وفيها جهات من البحث.

الجهة الأولى : في شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها

فنقول : الشفعة لغة جاءت بمعنيين :

أحدهما : الزيادة. قال في القاموس (1) : ومنه قوله تعالى ( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً ) (2) أي من يزد عملا إلى عمله.

والثاني : هي الزوجية مقابل الفرديّة والوتر. وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد.

وعند الفقهاء حقّ تملّك أحد الشريكين حصّة الآخر بعد أن باع ذلك الآخر بنفس الثمن الذي وقع عليه عقد البيع قهرا على المشتري. والشفيع هو الذي له هذا الحقّ.

قال ابن الأثير في النهاية : يقال له الشفيع لأنّه يضمّ المبيع إلى ملكه ، فيشفعه به

ص: 177


1- « القاموس المحيط » ج 3 ، ص 65 ( شفع ).
2- النساء (4) : 85.

كأنّه كان واحدا وترا فصار زوجا شفعا أي من حصّة نفسه وحصّة شريكه الذي أخذها بذلك الحقّ الذي جعله الشارع له (1).

وأمّا كونها جائزة ، أي : نافذة تترتّب آثار الملكيّة على ما أخذه الشفيع بالشفعة. وأمّا باقي ألفاظ القاعدة فمعلومة لا يحتاج إلى الشرح والإيضاح.

وقال في تعريفها في الشرائع : وهي استحقاق أحد الشريكين حصّة شريكه بسبب انتقالها بالبيع (2).

وقال في القواعد : وهي استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه المنتقلة عنه بالبيع (3).

وقال في الدروس : حقّ ملك قهري يثبت بالبيع لشريكه (4).

وأنت خبير أنّ هذه التعاريف كلّها مئالها ومرجعها إلى معنى واحد ، وليس الاختلاف إلاّ في التعابير ، والمراد والمقصود من الجميع واحد.

الجهة الثانية : في مدركها وبيان الدليل عليها

فنقول :

الأوّل : الإجماع. قال المرتضى قدس سره : وممّا انفردت الإماميّة إثباتهم حقّ الشفعة في كلّ شي ء من المبيعات من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان كلّ ذلك ممّا يحتمل القسمة أو لا يحتملها. ثمَّ قال قدس سره : دليلنا على صحّة مذهبنا إجماع الإماميّة على

ص: 178


1- « النهاية » ج 2 ، ص 485.
2- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 253.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 208.
4- « الدروس » ج 3 ، ص 355.

ذلك ، فإنّهم لا يختلفون فيه (1).

ومن تتبّع كلمات فقهاء الطائفة وأقوالهم لا يبقى له ريب في حصول مثل هذا الإجماع ، وإن كان بينهم خلاف في بعض فروع المسألة وبعض قيودها وشروطها.

الثاني : السنة. فأمّا من طريق الجمهور فما رووه عنه صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة في كل شي ء » (2).

وأيضا قال صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة فيما لم يقسم » (3).

وأمّا عن طريق أهل البيت علیهم السلام ما رواه يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « الشفعة جائزة في كلّ شي ء ، من حيوان أو أرض أو متاع » (4).

وما رواه عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا أرّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة » (5).

الثالث : عموم التعليل في قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار ». فهذا التعليل لقضائه بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن عامّ يأتي في جميع أو أكثر الأشياء المشتركة بين الشخصين ، سواء كانت من الأراضي أو المساكن أو كانت من الحيوان أو الأمتعة أو غيرها. وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى في الموارد التي وقع البحث في الاستثناء

ص: 179


1- « الانتصار » ص 215.
2- « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 835 ، كتاب الشفعة ، ح 2497 و 2499 ، « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 475 ، ح 2 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 98 ، أبواب كتاب الشفعة ، باب 3 ، ح 7.
3- « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 413 ، ح 1383.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 8 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 79 ، باب الشفعة ، ح 3377 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 319 ، أبواب الشفعة ، باب 5 ، ح 3.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 727 ، باب الشفعة ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 319 ، أبواب الشفعة ، باب 5 ، ح 1.

عن هذه القاعدة الكليّة.

الجهة الثالثة : في شروط هذه القاعدة ، والموارد التي وقع البحث في ثبوت حقّ الشفعة فيها

فممّا وقع البحث في شرطيّته كون المال المشترك قابلا للقسمة ، فما لا تقبل القسمة لا يأتي فيه حقّ الشفعة.

وما لا يمكن تقسيمه إمّا من جهة تلفه بالمرّة ، كالعبد والأمّة ، وكلّ حيوان ليس بعد موته له ماليّة من ناحية لحمه وجلده وسائر أجزائه - وإن كان قابلا للتذكية وذكّي كالهرّة مثلا بناء على كونها ملكا - وكالأدوات والأمتعة التي بعد كسرها وتقطيعها للتقسيم لا تبقى لها ماليّة أصلا ، كالأواني المصوغة من الخزف أو البلور أو الشيشة أو الفرفوري وأمثال ذلك.

أو لا يمكن تقسيمها لنقص في ماليّتها ، كالأحجار الكريمة مثل ألماس والياقوت أو الفيروزج وأمثالها ممّا يصغر بالتقسيم ، فتنقص ماليّتها إلى حدّ كبير. مثلا كان المشاع حجرا كريما كالياقوت أو ألماس ربما يكون قيمته قبل التقسيم آلاف من الدنانير ، ولكن بعد التقسيم تنزل إلى العشرات ، وهكذا في سائر الموارد ، إذ المراد من التقسيم أن يكون قابلا للتقسيم الخارجي بحيث تكون حصّة كلّ واحد مفصلة من الآخر.

وعلى كلّ حال يقال للمذكورات وأمثالها إنّها ليست قابلة للقسمة ، فلا تأتي فيها الشفعة إن قلنا باعتبار هذا الشرط.

والكلام في اعتبار هذا الشرط والدليل عليه :

فقد يقال بأنّ الشفعة خلاف الأصل ، لأنّها عبارة عن ثبوت حقّ في مال الغير

ص: 180

ينقله إلى نفسه ، والأصل عدمه ، فإذا شكّ في أنّه هل للشفيع مثل هذا الحقّ في المال المشترك الذي ليس قابلا للقسمة ، فمقتضى الأصل عدمه.

وفيه : أنّه لا مجال لجريان هذا الأصل مع إطلاقات أدلّة الشفعة - كما تقدّم - في ما رواه يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « الشفعة جائزة في كلّ شي ء ، من حيوان أو أرض أو متاع » الحديث. وإطلاقات آخر قريب بهذا المضمون من طرق العامّة والخاصّة. وقد تقدم بعضها في بيان مدرك هذه القاعدة من قوله صلی اللّه علیه و آله فيما رواه الجمهور عنه صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة في كلّ شي ء ».

وخلاصة الكلام : أنّه مع وجود هذه العمومات والإطلاقات ، لا يبقى مجال للاستدلال بأصالة عدم ثبوت هذا الحقّ.

وأمّا التمسّك لهذا الشرط برواية السكوني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا شفعة في سفينة ، ولا في نهر ، ولا في طريق - وزاد الصدوق : - ولا في رحى ، ولا في حمام » (1). وببعض الروايات الأخر في نفي الشفعة (2).

ففيه : مضافا إلى معارضتها في الحيوان - بوجود رواية بثبوتها فيه وفي النهر والطريق ، أيضا لم يأخذ بها جمع كثير وقالوا بثبوتها فيهما ، خصوصا فيما إذا كانا قابلين للقسمة. ومع إمكان التقسيم في بعض المذكورات - أنّه لا يصحّ إثبات شرطيّة قابليّة المال المشترك للتقسيم لثبوت الشفعة بنفي الشفعة في بعض مصاديق ما ليس بقابل للتقسيم ، لأنّه يكون من إثبات حكم كلّى ، لعنوان عامّ بثبوته في بعض مصاديقه ، وهذا من أردء أقسام الاستدلال بالاستقراء ، لأنّه ثبت في محلّه عدم حجيّة استقراء التامّ فضلا عن مثل هذا الاستقراء الناقص.

ص: 181


1- « الكافي » ج 5 ، ص 282 ، باب الشفعة ، ح 11 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3374 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 738 ، باب الشفعة ، ح 15 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 118 ، ح 420 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 8 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 8.

وما ذكره في جامع المقاصد (1) من عدم القول بالفصل لا يفيد في تخصيص العمومات وتقييد المطلقات ، كما هو ظاهر.

وأمّا ما ذكره بعض من التعدّي من نفيها في هذه المذكورات إلى نفيها عن جميع ما هو ليس بقابل للقسمة.

ففيه : أنّه لا بدّ وأن يكون هذا التعدّي لوحدة المناط والملاك في الجميع ، وأنّى للمدّعي بإثبات ذلك. فهذا التعدّي عن المذكورات في الرواية إلى غيرها ممّا يماثلها في عدم قابليّتها للقسمة تعدّ عن الحقّ.

فظهر أنّه لا دليل على هذا الشرط.

ثمَّ إنّه قلنا إنّ في الحيوان روايتان متعارضتان ، جواز الشفعة في إحديهما وعدمها في الأخرى ، فيتساقطان ولا يمكن تخصيص العمومات والإطلاقات به. وكذلك في سائر ما ورد الجواز والنفي فيه كما أنّه ورد في الطريق ذلك النفي والإثبات (2).

هذا ، مضافا إلى ما ورد (3) من جواز الشفعة في العبد المملوك إذا بيع الذي هو مساو من هذه الجهة مع سائر الحيوانات ، أي عدم كونه قابلا للقسمة ، مضافا إلى أنّه مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين - في الحيوان المثبت والنافي فيه - حمل النافي على الكراهة في إعمال هذا الحقّ فيه ، فيرتفع التعارض من البين. وبعد هذا الحمل لا يبقى مجال لتخصيص العمومات به.

وممّا قيل باشتراطه في ثبوت الشفعة أن لا يكون المال المشاع من المنقولات وإن كان قابلا للقسمة ، كما لو كان مثلا صندوقا من الشاي مشتركا بين اثنين ، فباع

ص: 182


1- « جامع المقاصد » ج 6 ، ص 344.
2- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 8.
3- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 320 ، أبواب الشفعة ، باب 7.

أحدهما حصّته من شخص آخر غير شريكه ، فلا شفعة لشريكه على المشتري ، لأنّه من المنقول وإن كان قابلا للقسمة.

ولو كان هذا الشرط صحيحا يضيّق دائرة الشفعة في كثير من الأمتعة وأثاث البيت ، فإنّ كثيرا منها من المنقول.

وعلى كلّ قال جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة (1) ، والنهاية (2) ، والصدوقين (3) ، والمرتضى (4) ، بعدم الاشتراط وثبوت الشفعة في المنقول وغير المنقول.

ومستندهم في ذلك العمومات والإطلاقات الواردة في المقام أنّها جائزة في كلّ شي ء من أرض أو حيوان أو متاع ، ولا دليل يخصّص هذه العمومات أو يقيّد هذه الإطلاقات.

ولا نسمع دعوى ضعف السند في العمومات وأنّه ليس هناك رواية تدلّ على أنّها في كلّ شي ء إلاّ رواية يونس ، وهي مرسلة ولا يصحّ بها إثبات حكم مخالف للأصول ، لأنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت حقّ الغير على مال المالك والانتزاع منه قهرا ، لأنّ الشفعة في الحقيقة غصب جائز من قبل الشارع ، فهي خلاف الأصل. وقد قال صاحب الجواهر في أوّل كتاب الشفعة أنّ المصنف وسائر الفقهاء ذكروا الشفعة متّصلا بكتاب الغصب تنبيها على أنّها كالمستثنى من حرمة أخذ مال الغير قهرا للسنّة المتواترة (5) وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّها خلاف الأصل.

والجواب عن جميع ما ذكر : هو أنّه أوّلا ليست العمومات والإطلاقات منحصرة برواية يونس المرسلة ، بل رواها الجمهور أيضا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وثانيا يونس

ص: 183


1- « المقنعة » ص 618.
2- « النهاية » ص 423.
3- « المقنع » ص 135 ، « الفقهية » وحكاه عن والد الصدوق في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 348.
4- « الانتصار » ص 215.
5- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 237.

وثّقوه ، ومثل هذا الشخص لا ينقل ولا يروي إلاّ عن الثقات ، خصوصا إذا كانت الواسطة بينه وبين الإمام علیه السلام بعض رجاله بإضافة الرجال إلى نفسه.

وعلى كلّ حال عمل القدماء وشيوخ الطائفة كالشيخين والصدوقين والمرتضى - قدّس اللّه أسرارهم - ممّا يوجب الوثوق بل الاطمئنان بصحّة الرواية.

وأمّا قضيّة أنّ الشفعة خلاف الأصل وإن كانت صحيحة ، لكنّها محكومة بالعمومات والإطلاقات ، فلا يبقى مجال لجريانه معها.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا فروعا كثيرة ، وبحثوا فيها عن ثبوت حقّ الشفعة فيها أم لا ، كالدولاب والناعورة إذا بيعت مع الأرض التي هي فيها. وأمّا لو بيعت منفردة فلا كلام عندهم في عدم ثبوت الشفعة فيها ، لأنّها من المنقولات.

قال في الشرائع : أمّا الشجر والنخل والأبنية فتثبت فيه الشفعة تبعا للأرض. ولو أفرد بالبيع نزل على القولين (1) ، أي جواز البيع في المنقول وعدم جوازه.

ولكن قد عرفت أنّ هذه الأبحاث لا وجه لها بعد ما بيّنّا من ثبوت الشفعة في المنقول وغير المنقول ، وما يقبل القسمة وما لا يقبل.

وممّا وقع البحث والكلام فيه اشتراط ثبوت حقّ الشفعة لأحد الشريكين بأن يكون انتقال حصّة الآخر إلى غيره بالبيع ، فلو وهب الشريك حصّته لشخص ، أو صالحها مع شخص ، أو جعلها مهرا أو عوض الخلع ، أو بغير ذلك من النواقل الشرعيّة غير البيع ، فلا شفعة لشريكه.

والدليل على هذا الشرط هو الإجماع أوّلا. ولا ينافيه مخالفة ابن الجنيد (2). وقال في المبسوط (3) في وجه اشتراط ثبوت الشفعة بهذا الشرط : إنّ عليه إجماع الطائفة

ص: 184


1- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 253.
2- حكاه عنه في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 359.
3- « المبسوط » ج 3 ، ص 111.

وأخبارهم. وقال بعدم ثبوته في الصداق لأجل ذلك.

وذكر في الجواهر (1) قول الصادق علیه السلام : « الشفعة في البيوع » (2) فتدلّ هذه الرواية على انحصار ثبوت الشفعة في البيوع ، بناء على صحّة قاعدتهم المقررة من أنّ المبتدأ المعرّف بالألف واللام محصور في الخبر ، كقولهم : الكرم في العرب ، والحكمة في اليونان. فمفهوم الحصر في هذه الرواية يدلّ على عدم ثبوت الشفعة في غير البيع.

وكذلك تدلّ صحيحة أبي بصير ، عن الصادق علیه السلام أيضا في خصوص الصداق سألته عن رجل تزوّج امرأة على بيت في دار ، وله في تلك الدار شركاء؟ قال : « جائز له ولها ، ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها » (3).

ولكن يمكن أن يكون نفي الشفعة هاهنا من جهة تعدّد الشركاء ، لا من جهة عدم كونها في البيع بل الانتقال في الصداق.

وكذلك يمكن التمسّك لاشتراط كون الانتقال من الشريك بالبيع لا بالنواقل الآخر بما قاله علیه السلام في رواية يونس المتقدّمة « فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحقّ به من غيره » فرتّب علیه السلام أحقّية الشريك على بيع شريكه ، فيدلّ على أنّ أحقّية الشريك في صورة كون الانتقال بالبيع ، لا بناقل آخر.

ولكن أنت خبير بأنّ ذكر البيع من باب أحد النواقل ، واختصاص الذكر به لأنّه هو الغالب في النواقل عند أهل العرف. واحتمال هذا المعنى يكفي في عدم ظهوره في اختصاص كون الناقل هو البيع في ثبوت هذا الحقّ.

فالعمدة في إثبات هذا الشرط هو الإجماع وقوله علیه السلام : « الشفعة في البيوع ».

ص: 185


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 226.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 728 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 2 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 83 ، باب الشفعة ، ح 3380 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 742 ، باب الشفعة ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 325 ، أبواب الشفعة ، باب 11 ، ح 2.

ومن شرائط ثبوت هذا الحقّ للشريك : أن يكون المبيع مشاعا مع الشفيع حال البيع.

والوجه في هذا الشرط واضح للروايات المتقدّمة في أنّه « لا شفعة إلاّ للشريكين ما لم يتقاسما » (1).

وفي رواية أخرى : « لا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم » (2).

وفي رواية أخرى : « الشفعة لكلّ شريك لم يقاسم » (3).

وفي رواية أخرى وهي رواية أبي العبّاس ورواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، جميعا قالا : سمعنا أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « الشفعة لا تكون إلاّ لشريك لم يقاسم » (4). فهذه الروايات تدل دلالة واضحة على أنّ ثبوت حقّ الشفعة مشروط بأن يكون المبيع مشاعا مع الشفيع حال البيع.

نعم وردت روايات في ثبوت هذا الحقّ وإن لم يكن المبيع مشاعا مع الشفيع ، وكان بعد القسمة إذا بقيت الشركة في الطريق إلى المبيع وبيع معه فكانت الشركة والإشاعة باقية في بعض المبيع وهو الطريق إليه.

منها : رواية منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار ، فباع بعضهم منزله من رجل ، هل لشركائه في الطريق

ص: 186


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 729 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3372 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 737 ، باب الشفعة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 1 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 317 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 282 ، باب الشفعة ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 317 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 6.

أن يأخذوا بالشفعة؟ فقال علیه السلام : « إن كان باع الدار وحول بابها إلى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم ، وإن باع الطريق مع الدار فلهم الشفعة » (1).

منها : أيضا ما رواه منصور بن حازم قال : قلنا لأبي عبد اللّه علیه السلام : دار بين قوم اقتسموها ، فأخذ كلّ واحد منهم قطعة وبناها ، وتركوا بينهم ساحة فيها ممرّهم ، فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم إله ذلك؟ قال : « نعم ولكن يسدّ بابه ويفتح بابا إلى الطريق أو ينزل من فوق البيت ويسدّ بابه فإن أراد صاحب الطريق بيعه فإنّهم أحقّ به ، وإلاّ فهو طريقه يجي ء حتّى يجلس ذلك الباب » (2).

ولكن ظاهر هاتين الروايتين ثبوت حقّ الشفعة مع تعدّد الشركاء ، وسيأتي أنّه لا يثبت إلاّ مع وحدة الشريك ، ولذا حمله الشيخ (3) في رواية الكاهلي التي هي مثل رواية منصور بن حازم - إلاّ أنّه قال : « أو ينزل من فوق البيت ، فإن أراد شريكهم أن يبيع منقل قدميه فهم أحقّ به ، وإن أراد يجي ء حتّى يقعد على الباب المسدود الذي باعه لم يكن لهم يمنعوه » (4) - على التقيّة ، لأنّهم يقولون بثبوت حقّ الشفعة حتّى مع تعدّد الشركاء وهو حمل حسن.

ثمَّ إنّ مورد هذه الروايات هي الشركة في خصوص طريق الدار ، ولكنّ الأصحاب - قدّس اللّه أسرارهم - أسرّوا لحكم من الاشتراك في الطريق إلى الاشتراك في النهر أو الساقية ، ومن الدار إلى البستان والأراضي ، مع أنّ هذا الحقّ مخالف - كما تقدّم

ص: 187


1- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 165 ، ح 731 ، باب الشفعة ، ح 8 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ح 417 ، باب العدد الذين تثبت بينهم. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 318 ، أبواب الشفعة ، باب 4 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 165 ، ح 732 ، باب الشفعة ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ح 418 ، باب العدد الذين تثبت بينهم. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 318 ، أبواب الشفعة ، باب 4 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 743 ، باب الشفعة ، ح 20 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ح 418 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 319 ، أبواب الشفعة ، باب 4 ، ح 3.
4- « الاستبصار » ج 3 ، ص 117 ، ذيل ح 418.

- للأصول ، فيحتاج ثبوته في كلّ مورد إلى الدليل خصوصا ، أو شمول العمومات والإطلاقات له.

ففيما نحن فيه إن كان إجماع بثبوته حتّى مع الاشتراك في النهر أو الساقية وحتّى في البساتين والأراضي فهو ، وإلاّ تسرية الحكم من الطريق إلى النهر والساقية ، ومن الدور إلى البساتين والأراضي ، يكون من القياس الباطل.

ومن شرائط ثبوت هذا الحقّ وحدة الشريك ، بمعنى أن لا يكون الشركاء أزيد من الاثنين ، فإذا باع أحدهما فللآخر أن يأخذ المبيع بنفس الثمن الذي بيع به بحقّ الشفعة.

والظاهر أنّ هذا الشرط ممّا انفردت به الإماميّة الاثنى عشريّة ، وأمّا باقي الفقهاء خالفوا في ذلك وقالوا بثبوته حتّى مع تعدّد الشركاء.

قال السيّد المرتضى قدس سره في الانتصار : وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ الشفعة تجب إذا كانت الشركة بين اثنين ، وإذا زاد العدد على الاثنين فلا شفعة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوجبوا الشفعة بين الشركاء قلّ أو كثر عددهم (1).

فالدليل على هذا الشرط ومدركه هي الأخبار الكثيرة المستفيضة التي تدلّ على اشتراط ثبوت هذا الحقّ بأن تكون الشركة بين اثنين :

منها : رواية عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا تكون الشفعة إلاّ لشريكين ما لم يقاسما ، فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة » (2).

ومنها : رواية يونس عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن

ص: 188


1- « الانتصار » ، ص 216.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 729 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 116 ، ح 412 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 320 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 1.

الشفعة لمن هي ، وفي أيّ شي ء هي ، ولمن تصلح ، وهل تكون في الحيوان شفعة وكيف هي؟ فقال علیه السلام : « الشفعة جائزة في كلّ شي ء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشي ء بين شريكين لا غيرهما ، فباع أحدهما نصيبه ، فشريكه أحقّ به من غيره. وإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحد منهم » (1).

ومنها : رواية الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في المملوك يكون بين شركاء ، فيبيع أحدهم نصيبه فيقول صاحبه : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحدا » قيل له : في الحيوان شفعة؟ قال : « لا » (2).

ومنها : رواية صفوان ، عن عبد اللّه بن سنان قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : « المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه ، فقال أحدهم : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحدا » (3).

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان أنّه سأله عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه ، قال : « يبيعه ». قلت : فإنّهما كانا اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه ، فلمّا أقدم على البيع قال له شريكه : أعطني؟ قال : « هو أحقّ به ». ثمَّ قال علیه السلام : « لا شفعة في الحيوان إلاّ أن يكون الشريك فيه رقبة واحدة » (4).

وهذه الأخبار صريحة في عدم ثبوت حقّ الشفعة للشركاء إذا كانوا أزيد

ص: 189


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 8 ، « الفقهية » ج 3 ، ص 79 ، باب الشفعة ، ح 3377 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 730 ، باب الشفعة ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 116 ، ح 413 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 321 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 210 ، باب الشراء الرقيق ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 735 ، باب الشفعة ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 116 ، ح 415 ، باب العدد الذين تثبت بينهم الشفعة. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 321 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 165 ، ح 734 ، باب الشفعة ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 321 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 4.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 80 ، باب الشفعة ، ح 3378 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 322 ، أبواب الشفعة ، باب 7 ، ح 7.

من الاثنين.

واستدلّ بعضهم على اشتراط ثبوت هذا الحقّ بأن لا يكون الشركاء أزيد من الاثنين بالإجماع.

وأنت خبير بأنّه مع وجود هذه الأخبار الصحيحة الصريحة ، لا يبقى مجال للتمسّك بالإجماع ، ولا حجّية لمثل هذا الإجماع.

ومن شروط ثبوت هذا الحقّ مطالبة الشفيع به فورا ، لما روى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « الشفعة لمن واثبها ». (1) أي : طفر وانقضّ عليها ، ولا شكّ في أنّ الوثوب إلى الشي ء يستفاد منه التعجيل أكثر من الإسراع إليه ، فهذه عبارة أخرى عن الطلب والأخذ به فورا. ومفهوم هذا الكلام عدمها لمن لا يثبت إليها.

ولأنّ الشفعة خلاف الأصل ، لأنّها عبارة عن السلطنة على مال الغير ، والقدر المتيقّن ممّا دلّ الدليل على ثبوته هي المطالبة على الفور. وأمّا إذا تأخّر الأخذ والطلب فثبوته خلاف الأصل ، فيحتاج إلى دليل يدلّ على التراخي مفقود في المقام.

بل يستفاد من رواية عليّ بن مهزيار قال : سألت أبا جعفر الثاني علیه السلام عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها ، أيبيعها أو ينتظر مجي ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال ، وإلاّ فليبع وبطلت شفعته في الأرض. وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر ، فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه وإلاّ فلا شفعة له » (2).

ص: 190


1- « نيل الأوطار » ج 6 ، ص 87 ، فائدة من الأحاديث الواردة في الشفعة.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 739 ، باب الشفعة ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 324 ، أبواب الشفعة ، باب 10 ، ح 1.

فإنّه علیه السلام حكم ببطلان الشفعة بعد مضيّ ثلاثة أيّام أخّرها للعذر ، فلو كان حقّ الشفعة لا على الفور لما كان يبطل بالتأخير أزيد من مقدار الفور عذرا.

وقد روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أيضا : « الشفعة كحلّ العقال » (1). وإن صحّ الخبر دلّ على جواز التراخي بكناية لطيفة ، وهي أنّه كما أنّ حلّ العقال ملزوم وسبب عادي للحركة بعد ما لم يكن قادرا عليها ، كذلك الشفيع لو لم تكن الشفعة لم يكن قادرا في عالم التشريع على التصرّف في حصّة شريكه ، والشفعة صارت سببا لقدرته على ذلك فورا عرفيا ، فيستظهر منه عدم جواز تأخير إعمال هذا الحقّ ، بل يجب الأخذ به من غير تراخ زائدا على المتعارف في المشي إلى حاجاته المتعارفة.

نعم لا يجب عليه رفع اليد عن جميع حوائجه والاشتغال بأخذ المشاع من المشتري والتصرّف فيه ، كلّ ذلك لأجل حجّية ظواهر الكلام والفهم العرفي منه ، الذي هو المناط عند العقلاء في تشخيص مراد المتكلّم من كلامه.

فبعض التفاصيل في الكتب الفقهيّة المفصّلة من عدم لزوم الفوريّة الدقيّة لا يحتاج إليه ، بل يحال إلى العرف. كما أنّ الأمر كذلك في جميع موارد اعتبار الفوريّة ، مثلا إن قلنا بأنّ خيار الغبن فوريّ ، ففوريّة إعماله يكون بنظر العرف وما يفهمون منه ، لا بالدقّة العقليّة.

ثمَّ إنّه بناء على الفوريّة ، فهل يعتبر في صدق الأخذ حضور الشفيع عند المشتري ومواجهته وإخباره عن تملّكه ما اشتراه من شريكه ، بل ومضافا إلى هذا إعطاء الثمن له ، أم يكفي إنشاء التملك عند نفسه ، غاية الأمر للإثبات يشهد عدلين على أنّه تملّك ، وإلاّ لو صدّقه المشتري في أنّه تملّك عند نفسه لا يحتاج إلى أيّ شي ء؟

ص: 191


1- « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 108 ، كتاب الشفعة ، باب رواية ألفاظ منكرة... ، « سنن ابن ماجه » ج 1. ص 835 ، باب طلب الشفعة ، ح 2500 ، « كنز العمال » ج 7 ، ص 4 ، كتاب الشفعة ، ح 6 1768.

الظاهر أنّ الأخذ في عالم الثبوت عبارة عن نفس إنشاء التملّك قولا أو فعلا ، نعم لا بد وأن يكون بنحو لا يوجب ضررا على المشتري ، فيجب إخباره فورا كي لا يحدث في المشاع الذي اشتراه ما يوجب ضرره لو أخذ بالشفعة ، من بناء أو زرع أو غرس أو غير ذلك.

ومن جملة شرائط ثبوت الشفعة أن يكون الشفيع قادرا على أداء الثمن الذي أعطاه المشترى لصاحب الشقص المبيع. والوجه فيه واضح ، لأنّه مضافا إلى الإجماع لو لم يكن قادرا على أداء الثمن يلزم تضرّر المشتري والشفعة شرّعت لدفع الضرر عن الشفيع ، فكيف يمكن أن يكون سببا لضرر شخص آخر ، وهل هذا إلاّ من الكرّ إلى ما فرّ منه.

ثمَّ إنّ المراد من القدرة وعدم العجز عن أداء الثمن عند الأخذ بالشفعة ليس هي القدرة الفعليّة وبدون تأخير في البين أصلا ، بحيث يكون الشفيع في نفس زمان الأخذ كان الثمن حاضرا عنده في المجلس ، لأنّه لو كان المراد هذا يلزم بطلان هذا الحقّ في كثير من الموارد لعدم قدرة أغلب من يأخذ بحقّ الشفعة بمثل ذلك ، ويكون الثمن حاضرا أو في كيسه موجودا.

هذا ، مضافا إلى رواية عليّ بن مهزيار المتقدّمة (1) التي كان فيها إمهال ثلاثة أيّام إن كان في المصر الذي يكون المشتري فيه ، وإمهال مدّة المسافرة ذهابا وإيابا لو ادّعى وجوده في بلد آخر ، وإمهال ثلاثة أيّام فوق مدّة المسافرة أيضا.

فالظاهر من هذه الرواية أنّ المعتبر هي القدرة العرفيّة التي لا تنافي العجز الفعلي ، فالتي تكون شرطا هي القدرة في الجملة وعدم العجز المطلق ، لا عدم العجز مطلقا.

وقد يقال : إنّ من جملة شرائط ثبوت هذا الحقّ أن لا يكون الشفيع ما بيده

ص: 192


1- تقدّمت في ص 190 ، رقم (2).

وحصّته وقفا ، فلو باع صاحب الشقص المطلق ليس بصاحب الوقف المالك له - أي الموقوف عليه - الأخذ بالشفعة ، وذلك لانصراف أدلّة الشفعة عن مثل هذا الملك وإن قلنا بملكيّة الوقف للموقوف عليه فإنّ ظاهرها كون ملك الشفيعين على نهج واحد ، لا أن يكون أحدهما ملكا طلقا يجوز لمالكه جميع التصرّفات الناقلة وغيرها ، والآخر ممنوع عن تلك التصرّفات.

وادّعى الشيخ قدس سره (1) نفي الخلاف عن عدم جواز الأخذ بالشفعة لمالك الوقف. وعلّل في الشرائع (2) عدم الجواز بأنّه ليس مالكا له على الخصوص وإن كان واحدا حال البيع ، ضرورة قصد الواقف تمليك الموقوف عليهم في سائر الطبقات أيضا ، ولذا يتلقّون جميع الطبقات عن الواقف ، لا أنّ اللاحقة تتلقّى من السابقة.

والشفيع الذي له حقّ الأخذ بالشفعة في أدلّة جواز الأخذ منصرف عن هذا القسم من المالك ، وظاهر في كونه مالكا غير محدود ملكيّته بحال حياته ، ولذا لا يجوز له الانتفاع بأزيد من حال حياته ، فمنافع الوقف في الأزمنة المتأخّرة عن حياة الموقوف عليه لا يكون ملكا له. بل وكذلك لو باع - مالك الحصّة التي هي وقف - بأحد مجوّزات بيع الوقف لا شفعة لصاحب الطلق الذي شريك مع الوقف ، لأنّ ظاهر أدلّة الشفعة أنّ هذا الحقّ مجعول للشفيع الذي ملكه طلق إذا باع الآخر الذي أيضا ملكه طلق ، وحيث أنّ الشفعة خلاف الأصل - كما تقدّم - فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن ، إذ ليس في الأدلّة إطلاق من هذه الجهة كي نأخذ به ويرفع به الشكّ.

فما ذكره بعض من التفصيل بين الصورتين - بعدم هذا الحقّ لو كان الموقوف عليه هو الشفيع ، وثبوته له لو كان الشفيع هو صاحب الملك المطلق - لا أساس له ، لاتّحاد الدليل في كلتاهما ، وهو انصراف أدلّة الشفعة.

ص: 193


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 145.
2- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 254.

وأمّا دعوى الإجماع على ثبوت مطلقا ، أو في ما إذا كان الشفيع هو المالك المطلق ، فلا وجه له مع مخالفة كثير من الأعاظم 5.

ومن شرائط ثبوت هذا الحقّ أن لا يكون الشفيع الأخذ بالحقّ ذمّيا إذا كان المشتري ومن عليه الحقّ مسلما ، لأنّه سبيل للذمّي على المشتري المسلم ، ولن يجعل اللّه للكافرين على المسلمين سبيلا.

والمناقشات في هذا الأمر وإن كانت كثيرة ، ولكن الإنصاف أنّها ليست بشي ء.

نعم لو كان المشتري هو الذمّي والآخذ بالشفعة كان مسلما أو ذمّيا ، فالحقّ ثابت بلا إشكال. نعم على المسلم الأخذ بتمام حصّة الذمّي بتمام الثمن الذي اشترى به ، فليس له الأخذ ببعض ما اشترى ببعض الثمن بدون رضاء ذلك الذمّي ، لكونه ضررا ، وعموم لا ضرر أو إطلاقه ينفيه.

وقد تقدّم أنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت هذا الحقّ إلاّ بالقدر الذي جاء الدليل على ثبوته ، وما هو مفاد الأدلّة أنّ الشفيع أحقّ بما بيع من المشتري الأجنبي ، وأمّا التبعيض في الأخذ بهذا الحقّ فهو شي ء آخر يحتاج إلى دليل آخر ولا إطلاق لتلك الأدلّة يشمل صورة التبعيض في الأخذ ، لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

وأمّا القول بأنّ حقّ التبعيض من آثار نفس السلطنة على الأخذ.

ففيه : أنّه أيضا من آثار إطلاق هذه السلطنة كي يشمل جميع الأخذ تماما أو بعضا بتمام الثمن ، أو بعضه ببعضه ، وليست الأدلّة في مقام البيان من هذه الجهة.

مضافا إلى أنّ حقّ الشفعة عند العرف عبارة عن أنّ الشفيع أحقّ من المشتري الأجنبي بهذه المعاملة الواقعة في الخارج ، ومعلوم أنّ المعاملة الواقعة انتقال تمام المال المشترك إلى المشتري بتمام الثمن ، فالتبعيض أمر زائد ثبوته يحتاج إلى دليل ، وليس هاهنا دليل آخر في البين. فظهر ممّا ذكرنا أنّ الشفيع مطلقا ، مسلما كان أو كافرا ، ليس

ص: 194

له حقّ التبعيض في الأخذ إلاّ برضا المشتري.

فرع : بعد ما كان الشفيع واجدا لشرائط ثبوت هذا الحقّ وثبت له ، لو ادّعى غيبة الثمن أجّل ثلاثة أيام إن كان المال في مصره.

وذلك لما في رواية عليّ بن مهزيار قال : سألت أبا جعفر الثاني علیه السلام عن رجل طلب شفعة أرض فذهب عنّي أن يحضر المال فلم ينص ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها ، أيبيعها أو ينتظر مجي ء ، شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال وإلاّ فليبع وبطلت شفعة في الأرض. وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر ، فينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف ، وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه وإلاّ فلا شفعة له » (1).

وظاهر هذه الرواية أنّ المهلة في إحضار الثمن للمشتري ثلاثة أيّام ، وكأنّه هذا المقدار من التأخير في الأخذ بالشفعة يسامح فيه ، ولا ينافي لزوم فوريّة الأخذ بإعطاء الثمن للمشتري وتمليك المبيع من المشتري ، ولذلك قال علیه السلام فيما إذا كان المال في بلد آخر : « فينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ».

فهذه الثلاثة أيّام هي الإمهال في باب إعطاء الشفيع الثمن للمشتري ، وأمّا مقدار المسافرة إلى بلد المال وجلب المال إلى بلد الذي محلّ المشتري ليس إلاّ لتحصيل المال لا الإمهال. وبناء على هذا لو كان المال حاضرا عنده ومع ذلك أخّر الإعطاء ثلاثة أيّام يكون له ذلك ، فلا بدّ وأن يكون حكما تعبّديا من الشرع.

ومن الممكن أن تكون ثلاثة أيّام في المصر لأجل التحصيل أيضا ، ويكون

ص: 195


1- تقدّم تخريجه في ص 190 ، رقم (2).

التحصيل إذا كان المال في بلد آخر فوق ثلاثة أيّام ممّا يحتاج إلى المسافرة والذهاب والإياب ، وعليه فلو كان المال حاضرا عنده لا يجوز التأخير أصلا ولا إمهال في البين ، وهذا مقتضى مراعاة الحقّين : حقّ الشفيع ، وحقّ المشتري بالمطالبة بماله.

ولكن فيه : أنّ ظاهر الرواية جواز تأخيره الإعطاء بعد ما قدم ثلاثة أيّام ، فلا يمكن أن يكون إمهالا للتحصيل.

إلاّ أن يقال : إنّ هذه الثلاثة أيّام بعد القدوم من السفر أيضا لأجل تنظيم أموره ، فإنّ المسافر ربما تختلّ بعض أموره ، فلذلك أوجب عليه الوفاء بعد ثلاثة أيّام ، وإلاّ فلا إمهال في البين إن كان المال حاضرا عنده ولا يحتاج إلى التحصيل وإلى المسافرة ، ويجب الموافاة فورا.

نعم المراد من الفور هي الفوريّة العرفيّة بدون مماطلة.

ثمَّ إنّ شمول إطلاق المسافرة لما إذا طالت لبعد ذلك البلد أو لجهة أخرى ، بحيث يتضرّر المشتري بهذا التأخير ، مشكل جدّا ، بل الظاهر سقوط حقّه. وادّعى في الغنية إجماع الطائفة على سقوط هذا الحقّ في تلك الصورة.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم من أنّ ثبوت هذا الحقّ مخالف للأصل وعمومات سلطنة المالك على ماله ، مع عدم كون عمومات الشفعة في مقام البيان من هذه الجهات ، فليس لها إطلاق يرفع الشك.

فرع : ويثبت هذا الحقّ للغائب كما يثبت للحاضر في بلد البيع. وادّعى الإجماع على ذلك في الخلاف (1) والتذكرة (2). ويظهر من الغنية أيضا نفي الخلاف من

ص: 196


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 431 ، المسألة : 5.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 595.

ثبوته للمسافر إذا قدم من غيبته (1).

ويدلّ عليه مضافا إلى عمومات الشفعة ، ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام : وصيّ اليتيم بمنزلة أبيه ، يأخذ له الشفعة إذا كان له رغبة ، وقال : للغائب شفعة » (2).

وضعف سند الرواية منجبر بهذه الإجماعات التي حكيناها.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه ينافي الفوريّة التي اعتبرناها في مطالبة هذا الحقّ وإلاّ يسقط.

ففيه : أنّ اشتراط الفوريّة في مطالبة هذا الحقّ فيما إذا لم يكن له عذر في التأخير ، وأمّا فيما إذا كان معذورا لغياب أو حبس أو لجهة أخرى فلا إشكال في التأخير.

والنبويّان المتقدّمان - أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة لمن واثبها ». وقوله صلی اللّه علیه و آله : « الشفعة كحل العقال » - لا إطلاق لهما بحيث يشملان حال الغياب وعدم الاطّلاع ، بل منصرفان عن مثل حال السفر والحبس وغير ذلك من حالات العجز عن الأخذ بهذا الحقّ.

وأمّا الإشكال عليه بلزوم الضرر على المشتري ، خصوصا إذا طال الغياب ، كالمسجون لمدّة طويلة ، أو المسافر الذي يطول سفره كذلك ، أو غيرهما.

ففيه : أنّ المال في هذه المدّة الطويلة المفروضة قبل الأخذ ماله وتحت تصرّفه ويقلّبه كيف ما يشاء ، فأيّ ضرر يتوجّه عليه.

نعم لو قلنا بأنّ الغائب في حال غيابه لو اطّلع على بيع شريكه حصّته من

ص: 197


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 591.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3375 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 737 ، باب الشفعة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 320 ، أبواب الشفعة ، باب 6 ، ح 2.

شخص ، يجوز له الأخذ بالشفعة بإنشائه تملّك حصّة شريكه من دون حضور نفسه ، ومع ذلك طال غيابه فلم يعط في هذه المدّة الطويلة الثمن لذلك المشتري ، فالمشتري يده فارغة عن كليهما جميعا ، أي عمّا اشتراه وعن ثمنه ، فيتضرّر لأنّه ربما يترتّب على خلوّ يده عن الاثنين إضرار ، كما هو واضح.

لكن هذا المعنى غير صحيح ، لعدم جواز الأخذ ما لم يحضر بصرف إنشاء تملّكه للمبيع. وقد تقدّم أنّ الأخذ فوريّ ، وإلاّ فيسقط هذا الحقّ بالتأخير إلاّ بالمقدار الذي أذن الشارع أي ثلاثة أيّام إن كان الثمن في نفس المصر الذي يأخذ الشفيع بحقّ الشفعة ، وإن كان في بلد آخر فبالمقدار الذي يسافر إليه وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ هذا الحقّ يثبت للغائب مثل الحاضر ، غاية الأمر حيث أنّ الأخذ به فوريّ وإلاّ فيسقط ، فإن لم يأخذ الغائب بحقّه زائدا على المقدار الذي أذن له في التأخير يسقط ذلك الحقّ ، لا أنّه ليس له الحقّ أصلا ، بل لو كان قادرا على الأخذ بنفسه أو بتوسّط وكيله وأخّر ولم يأخذ يسقط حقّه.

وأمّا إذا لم يكن قادرا إمّا من جهة غيبته وعدم علمه ، وإمّا من جهة عدم الوسيلة لإبلاغ المشتري بأخذه الشفعة ، أو غير ذلك من الجهات ، فهل يسقط حقّه بالتأخير أم لا؟ الظاهر عدم سقوطه في هذه الصورة ، لأنّه جعله اللّه له ولا يقدر على إعماله ، ومثل هذا لا يوجب سقوط الحقّ.

وأمّا القول بأنّ ثبوت هذا الحقّ على مال الغير مدّة طويلة ضرر عليه ، فقد أجبنا عنه ، فلا يبقى وجه للسقوط.

وقال في الغنية : فيستحقّ الشفعة من علم بالبيع بعد السنين المتطاولة بلا خلاف وإن كان حاضرا في البلد ، وكذلك حكم المسافر إذا قدم من غيبته. (1)

ويظهر من عبارته دعوى الإجماع على ثبوت الشفعة للغائب ولو علم بالبيع بعد

ص: 198


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 591.

السنين المتطاولة.

فرع : الشفيع يأخذ المال المشاع بعد تحقّق البيع بنفس الثمن الذي وقع عليه العقد ، فإن كان مثليّا فبمثله ، وإن كان قيميّا فيجب عليه الوفاء بقيمته ، وليس له المطالبة بأقل من قيمته أوّلا ، لرواية الغنوي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الشفعة في الدور أشي ء واجب للشريك ويعرض على الجار فهو أحقّ بها من غيره؟ فقال علیه السلام : « الشفعة في البيوع إذا كان شريكا فهو أحقّ بها بالثمن » (1).

وظاهر الرواية أنّ أحقّيته من غيره فيما إذا كان أخذه بالثمن ، وظاهر هذا الكلام هو أنّ أخذه يكون بإعطاء مصداق من طبيعة الثمن ، وذلك من جهة أنّ الغالب في أبواب البيوع بل وفي غيرها كون العوض كلّيّا ، غاية الأمر في البيع يسمّى ثمنا ، وفي الإجارة أجرة ، وفي الجعالة جعلا ، وهكذا.

فإن كان الثمن مثليّا فلا إشكال ، لأنّه يأخذ بمثل ما جعل المشتري بإعطاء مصداق من الكلّي بل بنفس الكلّي ، لأنّه في الخارج في مقام الأداء والوفاء لا بدّ أن يتشخّص ، وإلاّ فهو هو.

وأمّا إذا كان الثمن من القيميّات فأخذه بنفس الثمن لا يمكن ، فلا بدّ وأن يكون بقيمته. ولعلّه لذلك منع جماعة ثبوت الشفعة إذا كان الثمن من القيميّات ، لأنّه لا يمكن أخذها بالثمن.

وربما يؤيّد هذا القول ما رواه على بن رئاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل اشترى دارا برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال علیه السلام : « ليس لأحد فيها شفعة » (2).

ص: 199


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 728 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 2 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 80 ، باب الشفعة ، ح 3379 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 740 ، باب الشفعة ، ح 17 ، « قرب الاسناد » ص 77 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 324 ، أبواب الشفعة ، باب 11 ، ح 1.

وما رواه أبو بصير ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجل تزوّج امرأة على بيت في دار له ، وله في تلك الدار شركاء ، قال علیه السلام : « جائز له ولها ، ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها » (1).

فرواية على بن رئاب ظاهرة في أنّ الثمن إذا كان ممّا ذكر وهي من القيميّات فلا شفعة ، فتدلّ على عدم الشفعة في القيميّات ولكن مع إلقاء الخصوصيّات في المذكورات وحملها على المثال. ولا يخلو من تأمّل.

وأمّا رواية أبو بصير فدلالتها على عدم الشفعة في القيميّات غير ظاهرة ، لأنّه من المحتمل القريب أن يكون نفي الشفعة فيها من جهة تعدّد الشركاء وكونهم أكثر من اثنين ، بل ظاهرها بل صريحها أنّ له في تلك الدار شركاء ، فمع نفسه لا بدّ وأن يكونوا أكثر من اثنين ، وقدم تقدّم اشتراط ثبوت الشفعة بأن لا يكون الشركاء أزيد من الاثنين.

فالإنصاف شمول عمومات الشفعة لما إذا كان الثمن من القيميّات أيضا ، غاية الأمر إذا كان من القيميّات يجب عليه دفع قيمته للمشتري.

وأمّا تعيين القيمة فالأمر كما هو في سائر القيميّات من تعيين أهل الخبرة ، فلا إشكال في البين.

وأمّا كون الثمن من باب المعاملات - خصوصا في البيوع الذي هو الآن محلّ الكلام - غالبا بالنقدين وهما من المثليّات ، فلا بدّ من القول بأنّ حقّ الشفعة لا يثبت إلاّ في المثليّات.

ففيه : أنّ كون الثمن غالبا من المثليّات لا يخرج اللفظ عن الظهور في معناه الحقيقي الذي هو أوسع من المثليّات ، لأنّ لفظ « الثمن » ظاهر في باب البيع فيما يجعل عوضا عن

ص: 200


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 83 ، باب الشفعة ، ح 3380 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 742 ، باب الشفعة ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 325 ، أبواب الشفعة ، باب 11 ، ح 2.

المبيع ، سواء كان من المثليّات أو كان من القيميّات ، فالإنصاف ثبوت الشفعة مطلقا فيما اجتمع شرائطها ، سواء كان الثمن من المثليّات أو القيميّات.

فرع : ومن الواضح أنّ مورد حقّ الشفعة هو الأخذ به من المشتري بعد وقوع البيع وصحّته وانتقال حصّة البائع إلى المشتري ، فالشفيع يتلقّى المال من المشتري ، ولذلك ينتقل الثمن من الشفيع إلى المشتري لا إلى البائع.

وإن شئت قلت : إنّ البيع الأوّل ثمَّ وصار المال المشاع ملكا للمشتري ، ومنه ينتقل بجعل إلهي إلى الشفيع ، ولكن لا مجّانا بل بإزاء مثل الثمن الذي أعطاه للبائع ، أو قيمته إن كان الثمن الذي أعطاه قيميّا ، فيكون دركه على المشتري ، لأنّ النقل والانتقال وقع بين المشتري والبائع ، وليس الأخذ بالشفعة من قبيل فسخ العقد الواقع بين البائع والمشتري كي يرجع المال المشاع إلى صاحبه الأوّل الذي كان شريكا مع البائع ، فيكون إعمال حقّ الشفعة بمنزلة وقوع بيع جديد بين الشفيع والبائع الذي كان شريكا معه قبل البيع الأوّل.

نعم الأخذ بالشفعة ليس بيعا جديدا بين الشفيع والمشتري ، ولذلك قلنا إنّه بمنزلة بيع جديد في حصول النقل والانتقال بينهما ، ولذلك لا يترتّب عليه أحكام البيع الجديد ، فلو تلف قبل قبض الشفيع وبعد الأخذ بالشفعة كانهدام الدار بسيل جارف أو موت الحيوان بآفة سماويّة أو غير ذلك ، فليس تلفه من مال المشتري من باب قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه » فلا يضمن المشتري شيئا منه.

أمّا عدم جريان القاعدة في حقّ المشتري فلأنّه ليس بائعا على الفرض. وأمّا ضمان اليد فلا يأتي ، لأنّ يده ليست يد ضمان بل أمانة ، إلاّ أن يطالبه الشفيع وهو لا يعطيه فتكون يده يد ضمان أو يكون بإتلافه وتفريطه ، فتخرج بذلك عن كونها أمانيّة فيضمن.

ص: 201

نعم لو بقيت عند المشتري بتفريطه منه ، كان ضامنا لنقصها بقواعد باب الضمان وقاعدة الإتلاف ، لأنّ المال بعد الأخذ بالشفعة يكون ملكا للشفيع ، والمشتري أورد عليه النقص فيكون ضامنا لذلك النقص ، فللشفيع الأرش. ولو كان بيعا وكان البائع هو المشتري لكان تلفا قبل القبض وكان مجرى قاعدة التلف قبل القبض ، وكان الشفيع مستحقّا لتمام الثمن على تقدير انفساخ البيع أو بعضه إن كان الانفساخ في مقدار التلف ، وعلى كلا التقديرين لم يكن أرش في البين.

وأمّا لو ظهر أنّ المال مستحقّ للغير فيرجع الشفيع إلى المشتري بأخذ الثمن منه ، لأنّه أخذ ما لا يستحقّ. فلو ظهر بعد الأخذ بالشفعة أنّ المالك الذي كان شريكا للشفيع وهب هذا المال لشخص بالهبة اللازمة ، ثمَّ باعها من شخص آخر عمدا أو جهلا والشفيع أخذ بالشفعة وأعطى الثمن لهذا المشتري ثمَّ ظهر أنّ البيع باطل والمال للموهوب له ، فمن الواضح المعلوم أنّ الشفيع يرجع إلى المشتري ويستردّ ما أعطاه.

فمعنى درك المال على المشتري ، أي كلّ نقص أو تلف بتفريط حصل في المال يكون ضمانه على المشتري لا على البائع. وإن شئت قلت : إنّ معنى درك هذا الشي ء على فلان ، أي تدارك ما نقص منه عليه ، وعليه أن يغرم.

فرع : لو تلف بعض المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة فهل يسقط حقّ الشفيع بالمرّة ، أم له الأخذ بالباقي بتمام الثمن أو ببعضه بنسبة الباقي إلى تمام المبيع فلو كان الباقي نصف المبيع مثلا فبنصف الثمن وهكذا؟ وجوه وأقوال.

والأقوى هو الأخير بحسب القواعد ، لتعلّق الحقّ بالمال المشاع المبيع بتمام الثمن ، فكلّ جزء من المبيع بإزاء جزء ما يقابله من الثمن ، فكما أنّ في باب تبعّض الصفقة ينحلّ العقد إلى عقود متعدّدة باعتبار كلّ جزء من المبيع بما يقابله من الثمن ، فيقال بصحّة المعاملة بالنسبة إلى المقدار الذي يملكه من المبيع أو المقدار الذي قابل للملكيّة

ص: 202

والبطلان فيما عداه ، فكذلك هاهنا يقال للشفيع الأخذ بالمقدار الباقي من المبيع بما يقابله من الثمن.

فلا وجه لأن يقال له الأخذ بتمام الثمن ، لأنّ تمام الثمن كان عوض تمام المال المبيع ، لا عوض بعضه. ولا شكّ في أنّ الأخذ بالشفعة وإن لم يكن بيعا عرفا وشرعا ولكن هو بمنزلة البيع ومن المعاوضات ، والمعاوضة فيه تقع بين تمام المال وتمام الثمن وهي متضمّنة لوقوع كلّ جزء من المبيع بإزاء جزء من الثمن إن لم يكن بين الأجزاء امتياز ، وإلاّ يقسّط الثمن على الأجزاء بنسبة قيمة كلّ جزء إلى قيمة المجموع ، لا بنسبة مقداره إلى المقدار المجموع.

فلو بقي الحقّ بعد تلف بعض المبيع كما هو المفروض مع أنّه من المعاوضات ، فلا مناص إلاّ أن يقال بأنّ له حقّ الأخذ بالباقي بما يقابله من الثمن لا بتمام الثمن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون تلف بعض المبيع بفعل المشتري أو بآفة سماويّة.

نعم لو كان التلف بفعل المشتري وكان بعد المطالبة التي هي الأخذ ، فيجب على الشفيع إعطاء جميع الثمن لأنّه بنفس الأخذ صار ملكا للشفيع بإزاء تمام الثمن ، ويستحقّ الشفيع على المشتري بدل التالف من مثله أو قيمته على قواعد باب الضمان ، ولكن هذه الصورة خارجة عن الفروض ومحلّ الكلام.

وأمّا القول بسقوط الحقّ بالمرّة ، فغاية ما يمكن أن يقال في وجهه أنّ الحقّ تعلّق بمجموع المبيع الشخصي ، والمفروض أنّه لم يبق لتلف بعضه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام ظاهري ، إذ الحقّ وإن تعلّق بمجموع هذا المال الشخصي ولكن كلّ جزء منه صار متعلّقا لهذا الحقّ في ضمن صيرورة تمامه متعلّقا له ، فإذا تلف بعض أجزائه يبقى الباقي تحت تعلّقه ، لعدم الدليل على سقوطه في سائر الأجزاء.

وهذا الأمر الاعتباري الذي نسمّيه بالحقّ نظير الأعراض الخارجيّة ، فإنّه إذا

ص: 203

كان هناك ثوب أبيض فتلفت قطعة منه ، فبانعدام تلك القطعة قهرا ينعدم البياض الذي كان حالاّ فيها لعدم بقاء معروضه ، وأمّا بياض سائر القطعات الباقية فلا وجه لانعدامه لعدم فناء موضوعه ، ومع الشكّ في سقوط هذا الحقّ عن الباقي كان الحكم هو البقاء بمقتضى الاستصحاب. وقد فصّلنا صحّة جريان هذا الاستصحاب في نظائر المقام في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

ولكن ذهب المشهور إلى تخييره بين أخذ الباقي بتمام الثمن أو تركه فيما إذا كان التلف بآفة سماويّة ، أو كان قبل المطالبة بالشفعة وإن كان بفعل المشتري ، بل ادّعى في الغنية الإجماع على ذلك. (2) وما ذكرنا كان ما تقتضيه القواعد.

ولكن عقد في الوسائل (3) بابا لتلف بعض المبيع قبل أن يأخذ بالشفعة ، ولم يذكر فيه إلاّ ما رواه عليّ بن محبوب عن رجل قال : كتبت إلى الفقيه علیه السلام في رجل اشترى من رجل نصف دار مشاع غير مقسوم ، وكان شريكه الذي له النصف الآخر غائبا ، فلمّا قبضها وتحوّل عنها تهدّمت الدار وجاء سيل جارف فهدمها وذهب بها ، فجاء شريكه الغائب فطلب الشفعة من هذا فأعطاه الشفعة على أن يعطيه ماله كملا الذي نقد في ثمنها ، فقال له : ضع عنّي قيمة البناء فإنّ البناء قد تهدّم وذهب به السيل ، ما الذي يجب في ذلك؟ فوقّع علیه السلام : « ليس له إلاّ الشراء والبيع الأوّل إن شاء اللّه » (4).

وظاهر هذه الرواية سقوط حقّ الشفعة في مورد تلف بعض المبيع بآفة سماويّة لقوله علیه السلام « ليس له إلاّ الشراء » أي ليس للشفيع إلاّ الشراء كسائر الأجانب ، لا الأخذ بالشفعة ، والبيع هو الأوّل أي بيع المالك للنصف المشاع لذلك المشتري الأجنبي ، أي

ص: 204


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 452.
2- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 591.
3- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 323 ، أبواب الشفعة ، باب 9.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 192 ، ح 850 ، باب في الشركة والمضاربة ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 323 ، أبواب الشفعة ، باب 9 ، ح 1.

يجب ترتيب آثار البيع على ذلك البيع الأوّل ، ومعنى هذا سقوط حقّ الشفيع وعدم جواز أخذه بالشفعة.

فرع : لو باع الشفيع الذي له الأخذ بالشفعة سهمه بعد البيع ، أي بعد تحقّق موضوع هذا الحقّ إذ موضوعه بيع أحد الشريكين سهمه المشاع في مال لشخص ثالث أجنبي من هذا المال بثمن ، فشريك البائع أحقّ بالمبيع بنفس ذلك الثمن من ذلك المشتري الأجنبي عن هذا المال ، فله الأخذ بالشفعة.

فالكلام في هذا الفرع هو أنّ هذا الشريك لو باع حصّته بعد أن باع صاحبه سهمه وتحقّق موضوع الأخذ بالشفعة له ، فلم يأخذ وباع سهمه ، فهل بيعه هذا موجب لسقوط حقّه مطلقا سواء كان عالما بالبيع وأنّ له حقّ الأخذ أو لم يكن ، أم لا يكون موجبا للسقوط مطلقا ، أو التفصيل بين العلم والجهل بالقول بالسقوط في الأوّل - لأنّ إقدامه بالبيع مع علمه بأنّ له هذا الحقّ كاشف عن عدم اعتنائه بهذا الحقّ وإعراضه وإسقاطه - والثبوت في الثاني لأنّ هذا حقّ جعل الشارع له ، ولمّا كان ذو الحقّ جاهلا به لم يعلمه فلا وجه لسقوطه ، فهو باق إلى ما بعد بيعه ، فله الأخذ. وإن شكّ في بقائه يحكم ببقائه ، للاستصحاب؟

والإنصاف أنّ الحقّ عدم سقوط مطلقا ، لأنّ سقوط الحقّ بعد ثبوته يحتاج إلى مسقط في مقام الثبوت ودليل عليه في مقام الإثبات ، وأقصى ما يمكن أن يقال هو ما ذكرنا في مقام الدليل على التفصيل أنّ العالم بوجود هذا الحقّ لو باع سهمه يكون دليلا على إعراضه عن هذا الحقّ وإسقاطه وعدم اعتنائه بهذا المال.

ولكن أنت خبير بعدم تماميّة هذا الوجه ، إذ أغراض العقلاء تختلف لوجوه عندهم ، مثلا ربما يكون بيعه من ذلك الشخص لحبّه أن يكون شريكا معه لأغراض عقلائيّة ، فيبيع حصّته منه ويأخذ النصف الآخر مثلا بالشفعة فيكون شريكا معه ،

ص: 205

فليس بيعه لإعراضه عن هذا المال وعدم اعتنائه به كي يكون ظاهرا في إسقاط حقّه كما توهّم.

واستدلّ لسقوطه مطلقا بأمرين :

أحدهما : أنّ هذا الحقّ جعل لأجل رفع الضرر عن الشريك ، وفي المقام لا مورد له ، لأنّ المفروض أنّه باع حصّته فلا شركة حال الأخذ بالشفعة كي يكون الأخذ دافعا للضرر.

وفيه : أنّ ما ذكر من كون جعلها لأجل دفع الضرر ليس من قبيل العلّة كي يكون الحكم دائرا مداره ، بل على تقدير تسليمه يكون من قبيل الحكمة غير المطّردة.

الثاني : ظهور قوله علیه السلام : « لا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم » (1) في كونه شريكا غير مقاسم حال الأخذ ، وفي المقام ليس شريكا حال الأخذ ، وكونه شريكا حال البيع الصادر من شريكه لذلك المشتري الأجنبي لا يكفي.

وفيه : أنّ الظاهر من أدلّة الشفعة كفاية كونه شريكا حال المبيع الأوّل الصادر من شريكه ، ولا يلزم بقاء شركته إلى زمان الأخذ بالشفعة ، وذلك لأنّ أدلّة الشفعة في مقام بيان ثبوت هذا الحقّ ، أي حقّ الأخذ لا الأخذ خارجا ، ولا شكّ في أنّ في المقام في حال ثبوت حقّ الأخذ كان الشفيع شريكا والبيع وقع بعد ذلك.

فرع : وقع الخلاف في أنّ حقّ الشفعة هل يورث أم لا؟

فقال المفيد والمرتضى أنّها تورث (2). ووافقهما جميع كثير من الأساطين ، منهم

ص: 206


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3372 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 166 ، ح 737 ، باب الشفعة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 3 ، ح 2.
2- « المقنعة » ص 619 ، « الانتصار » ص 217.

العلاّمة (1) ، وجامع المقاصد (2) ، والشهيدان ، وابن إدريس (3) قدس سره بل ادّعى الإجماع على ذلك بعض الأعاظم. وقال الشيخ قدس سره في النهاية (4) وتبعه جمع : أنّها لا تورث.

والمختار هو الأوّل ، لعموم المرسلة المرويّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما تركه الميّت من حقّ فهو لوارثه » ، ولا شكّ في أنّ الشفعة من الحقوق ، فتشملها عمومات أدلّة الإرث.

وما ذكره الشيخ من أنّها لا تورث مستند إلى ما رواه طلحة بن زيد ، عن جعفر ، عن أبيه علیهماالسلام ، عن عليّ علیه السلام قال : « لا شفعة لشريك غير مقاسم ». وقال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا يشفع في الحدود ». وقال صلی اللّه علیه و آله : « لا تورث الشفعة » (5).

لكن هذه الرواية حيث أنّ راويها طلحة بن زيد وهو عاميّ لا يعتمد عليه ، فليس مثل هذه الرواية قابلة لتخصيص عمومات الإرث بعد ما ثبت كونها من الحقوق لأنّها قابلة للإسقاط وقبول الإسقاط من أظهر خواصّ الحقّ ، فإذا ثبت أنّ الشفعة حقّ ، وثبت أنّ كلّ حقّ مثل المال فهو لوارث الميّت ويشملها عمومات الإرث ، فالإنصاف أنّ تخصيص تلك العمومات بمثل هذه الرواية الضعيفة خارج عن الجمع العرفي.

نعم الذي ينبغي أن يقال : إنّ طلحة بن زيد وإن كان عاميّا - كما ذكره أصحاب الرجال في كتبهم (6) - إلاّ أنّهم وثّقوه ، فلا مانع من تخصيص عمومات الإرث بها. ولكن العمدة في وجه عدم صلاحيّتها لتخصيص العمومات بها إعراض الأصحاب عنها وعدم العمل بها ، فعلى تقدير حجّيتها في نفسها تسقط حجّيتها بواسطة إعراض

ص: 207


1- « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 367.
2- « جامع المقاصد » ج 6 ، ص 447.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 392.
4- « النهاية » ص 425.
5- « الفقيه » ج 3 ، ص 78 ، باب الشفعة ، ح 3373 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 167 ، ح 741 ، باب الشفعة ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 325 ، أبواب الشفعة ، باب 12 ، ح 1.
6- « النجاشي » ص 207 ، رقم 550 ، « الفهرست » ص 86 ، رقم 362.

الأصحاب عنها وعدم العمل بها.

هذا إذا قلنا بأنّ راويها ثقة كما اعترف بذلك جمع من أرباب الكتب الرجالية (1) وأمّا إن قلنا بضعف الرواية في حدّ نفسها فالأمر أوضح ، لعدم جبر ضعفها بعمل الأصحاب ، لأنّ الأكثر أعرضوا عنها ولم يعملوا بها ، حتّى أنّ الشيخ نفسه الذي عمل بها في النهاية عدل عنها في الخلاف (2) وعلى كلّ حال لا تصلح لتخصيص العمومات بها.

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن أنّها تورث تكون كالأموال ، تقسّط على الورثة بنسبة نصيب كلّ واحد منهم لا على الرؤوس ، فللذكر مثل حظّ الاثنين ، وللزوجة الثمن أو الربع ، ولأبويه لكلّ واحد منهما السدس ، على التفصيل المذكور في باب المواريث.

ثمَّ إنّ البحث الذي يأتي في باب إرث الخيار - من أنّ لكلّ واحد من الورثة خيار مستقل ، أو خيار واحد قائم بالمجموع ، أو يقسّط عليهم الخيار بنسبة نصيبهم من العوضين - يأتي هاهنا لأنّهما من واد واحد وهو أنّه هل الحقّ الواحد قائم بالمجموع ، أم لكلّ وأحد من الورثة حقّ تمام مستقلّ ، لأنّ الحقّ بسيط لا يتبعّض ، أم يتبعّض بينهم بنسبة نصيب كلّ واحد منهم من الإرث. وحيث أنّ المسألة مفصّلة ذكرناها في باب الإرث تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (3) فنترك هاهنا ، ومن أراد فليراجع إلى هناك.

فرع : لا تبطل الشفعة بتقايل المتبايعين ، لأنّه بمحض تحقّق البيع يثبت هذا الحقّ ، فسقوطه يحتاج إلى مسقط ، وليست الإقالة من مسقطات هذا الحقّ.

ص: 208


1- « جامع الرواة » ج 1 ، ص 421.
2- « الخلاف » ج 3 ، ص 436 ، المسألة : 12.
3- « المكاسب » ص 290.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ معنى الشفعة أنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري ، أي ينقل الملك من المشتري إلى الشفيع بالأخذ ، وهاهنا بعد الإقالة يرجع المال إلى البائع ، فلا بدّ بناء على عدم البطلان من تلقّي الملك من البائع.

وفيه : أنّه بناء على عدم سقوط حقّ الشفعة بتقايل المتبايعين كما ذكرنا ، فللشفيع فسخ الإقالة وردّها ، كما أنّ المشتري لو باع المال أو وقفه أو وهبه لذي الرحم أو جعله مسجدا فللشفيع إزالة جميع ذلك ، لتعلّق حقّه بالمال بمحض بيع شريكه ، فتصرّفات المشتري تكون في ملكه المتعلّق لحقّ الغير وهو شفيع البائع ، فإن رضي الشفيع بهذه التصرّفات تكون نافذة ويسقط الحقّ ، وإلاّ له فسخ التصرّفات التي منها الإقالة ، فلا يبقى إشكال في البين.

فرع : إذا كان المال المشاع الذي تعلّقت به الشفعة عينا واحدة ، فليس للشفيع التبعيض في الأخذ بأن يأخذ مثلا نصفه بالشفعة أو كسرا آخر من كسورة ، لعدم إطلاق أدلّة الشفعة تشمل هذا النحو من الأخذ ، ومقتضى الأصل عدم ثبوت هذا القسم من الأخذ والتسلّط على مال الغير. والقدر المسلّم الخارج عن هذا الأصل بدليل الشفعة هو أخذ تمام المبيع من المشتري بتمام الثمن ، فقوله علیه السلام : « فهو أحقّ بها بالثمن » (1) ظاهر في الأخذ بتمامها بالثمن الذي أعطاه أو أنشأ البيع به ، وليس في مقام بيان أنحاء الأخذ كي يتمسّك بإطلاقه.

نعم لو كان المال المشاع المبيع عينان أو أزيد ولو في صفقة واحدة ، فيجوز له أخذ البعض والعفو عن البعض ، لتعلّق حقّه بكلّ واحد منها ، فله إعماله في البعض دون البعض.

ولو ظهر الثمن مستحقّا للغير ، فإن كان ذلك الثمن عينا بطل البيع ، فلا بيع فلا

ص: 209


1- تقدّم ذكره في رواية الغنوي ، ص 199 ، رقم (2).

شفعة. وأمّا لو كان كليّا فالبيع صحيح والحقّ ثابت ، غاية الأمر ذمّة المشتري مشغولة بالثمن فيجب عليه الأداء.

وأمّا إن كان الثمن الذي أعطاه الشفيع للمشتري مستحقّا للغير ، فأخذه يكون كالعدم ، لأنّه ليس له الأخذ إلاّ بالثمن الذي له ، لا أن يكون للغير لكن حقّه لا يبطل وهو باق ، فله أن يعطى ثمنا مملوكا له فيكون أخذه صحيحا شرعا ويملك المأخوذ ، إلاّ أن يطول إعطاؤه للثمن المملوك ، فينافي فوريّة الأخذ فيسقط حقّه.

ولو ظهر في المبيع عيب بعد أخذه فلا يستحقّ الشفيع إلاّ أخذه بنفس الثمن الذي اشتراه بذلك الثمن ، وأمّا أرش العيب فلا حتّى أنّ الأرش الذي أخذه المشتري من البائع لا يستحقّه الشفيع ما تقدّم من أنّ الأخذ بالشفعة ليس ببيع أخذ الأرش من أحكام المبيع إذا كان معيبا. وظاهر أدلّة الشفعة أنّ له أخذ المبيع بالثمن الذي وقع العقد عليه سواء كان المبيع صحيحا أو معيبا ، نعم لو كان جاهلا بالعيب فله الخيار من باب لا ضرر ، وليس له شي ء آخر.

ولو كانت الأرض التي صارت متعلّقة لحقّ الشفعة مشغولة بزرع بوجه شرعي ، وكان لصاحب الزرع استحقاق بقاء زرعه إلى مدّة مثلا إلى وقت حصاده ، فالظاهر أنّ الشفيع مخيّر بين الأخذ في الحال غاية الأمر مشغولة بذلك الزرع إلى أمده مجّانا وبلا عوض ، وبين أن يصبر إلى وقت حصاده وبعد الحصاد يأخذ.

والإشكال بأنّه ينافي الفوريّة المعتبرة في الأخذ بالشفعة ، فلا يصحّ الصبر والتأخير.

فيه : أنّ تأخير الأخذ إن كان لعذر فلا ينافي الفوريّة ، والظاهر أنّ مشغوليّة الأرض بزرع الغير عذر موجّه ، مضافا إلى أنّ الأصل عدم سقوط هذا الحقّ بمثل هذا التأخير.

ص: 210

فرع : لو اشترى المال المشاع بثمن مؤجّلا فأراد الشفيع الأخذ بالشفعة ، فهل عليه أن يأخذه بذلك الثمن معجّلا ، أم به مؤجّلا مثل المشتري غاية الأمر إذا خاف عدم تمكّنه عن الإيفاء حين الأجل يلزم بكفيل ، أم مخيّر بين أخذه كذلك في الحال وبين التأخير بأخذه إلى وقت الأجل؟ وجوه وأقوال.

والظاهر أنّ الشفيع له أن يأخذ بالثمن معجّلا ، لأنّه في كلّ دين مؤجّل للمديون أن يعجّل في أدائه ، ويصدق عليه في المقام أنّه - أي الشفيع - أحقّ به بالثمن ، لأنّ كونه معجّلا أو مؤجّلا لا يغيّران حقيقة الثمن ، ولكن ليس ملزما بذلك ، فهو مخيّر بين أن يأخذه كذلك أو يصبر إلى الأجل فيعطي الثمن ويأخذ إن لم ينافي التأخير فوريّة الأخذ المعتبرة في الأخذ بالشفعة بواسطة كونه معذورا من جهة استنكافه عن الكفيل لمنافاته لشرفه واعتباره. وأمّا لو كان منافيا مع الفوريّة المعتبرة في الأخذ بالشفعة ، فلا بدّ له من أحد أمرين : إمّا أن يعطى الثمن معجّلا أو يأخذ بالثمن المؤجّل ، ولكن مع الكفيل إن لم يكن مليا وخاف المشتري ذهاب ثمن الذي أعطاه للبائع.

فرع : لو باع الشريك سهمه المشاع الذي لم يقاسم في مرض موته محاباة - أي بأقلّ من قيمته - عمدا مع العلم بأنّه يساوي أكثر ، خصوصا إذا كان الفرق كثيرا كأن باع ما يساوي ألف دينار بمائة درهم ، فبناء على نفوذ تصرّفات المريض في ذلك المرض من الأصل إذا كان من المنجزات فلا إشكال. وأمّا بناء على عدم نفوذها في الأزيد من الثلث وإن كان من المنجّزات ، فإذا لم يكن أزيد من الثلث فأيضا لا إشكال ، وأمّا إن كان أزيد فالبيع في الزائد ليس صحيحا ، فلا شفعة ، لأنّ هذا الحقّ متفرّع على صحّته.

فرع : ربما يقال باعتبار علم الشفيع بمقدار الثمن قبل الأخذ بالشفعة ، لأجل

ص: 211

لزوم رفع الغرر في المعاملات والمعاوضات وبطلان المعاملة الغررية لأنّه صلی اللّه علیه و آله نهى عن الغرر.

وفيه : أنّ المسلّم هو نهيه صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر (1) ، وأمّا النهي عن مطلق الغرر سواء كان في البيع أو في غيره من المعاملات والمعاوضات فلم يثبت ، ومعلوم أنّ الشفعة عنوان آخر وحقّ من الحقوق وليست ببيع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : قد تقدّم أنّ الشفعة خلاف الأصل ، وليس في أدلّتها إطلاق يثبت ثبوت هذا الحقّ في موارد الشكّ في ثبوته ، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهات ، فالأصل عدم ثبوته عند الشكّ ، والقدر المتيقّن ثبوته في صورة علم الشفيع بمقدار الثمن ، ففي صورة الجهل تجري أصالة عدم الثبوت.

وأمّا الاستدلال بلزوم علم الشفيع بمقدار الثمن حين الأخذ بقوله علیه السلام : « فإنّه - أي الشفيع - أحقّ به بالثمن » فلا وجه له ، لأنّه من الممكن أنّه يحصل العلم بالثمن بعد الأخذ في وقت أداء الثمن ، ولا يلزم من هذه العبارة اشتراط صحّة الأخذ بالعلم بمقدار الثمن كما هو المدّعي في المقام ، فالعمدة في المقام هو وجود إطلاق ينفي اعتبار العلم بالثمن ، أو إجماع على ذلك ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم ثبوت هذا الحقّ إلاّ فيما إذا علم الشفيع بالثمن مقدارا.

فرع : لو تصرّف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة ، وتصرّف المشتري تارة يكون بنقله إلى الغير بالنواقل الشرعيّة من بيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك ، وأخرى بإحداث حدث فيه بغرس أو عمارة أو غير ذلك.

ص: 212


1- « عيون اخبار الرضا علیه السلام » ج 2 ، ص 45 ، ح 168 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 283 ، أبواب آداب التجارة ، باب 33 ، ح 1 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، باب في بيع الغرر ، ح 3376 ، « سنن الترمذي » ج 2 ، ص 349 ، باب 17 ، ح 1248 ، « كنز العمّال » ج 4 ، ص 74 ، ح 9585 و 9586.

أمّا الأوّل : فإن كان النقل بالبيع ، فللشفيع الأخذ عن أيّ واحد منهما ، أو أيّ واحد منهم إذا تعاقبت البيوع عليه ، وله أيضا فسخ البيع الثاني كي يرجع المال إلى البائع الأوّل فيأخذ بحقّه منه.

والوجه في ذلك هو أنّ حقّه أسبق من البيع الثاني والثالث وهكذا ، ومتأخّر عن الأوّل فقط ، لأنّه موضوعه ومتوقّف عليه ، فهذه البيوع كلّها وقع فيما له حقّ الأخذ ، فلزومها وعدم إمكان الأخذ من أيّ واحد منهم أو عدم جواز فسخه وحلّه ينافي حقّ الشفيع ، فهو مخيّر بين فسخها إلى أن يرجع إلى البائع الأوّل فيأخذ منه ، وبين أن يأخذ من أيّ واحد منهم ويستوفي حقّه من هذا المال مع إعطائه الثمن لمن يأخذ منه ، كما هو المنصوص.

وأمّا لو كان النقل بغير البيع ، فليس له الأخذ من المنقول إليه ، لما تقدّم أنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري لا الموهوب له أو المصالح له أو من أعطى له جعلا أو أجرة دار أو عمله أو غير ذلك ، فإذا أراد الأخذ تعيّن عليه فسخ هذه النواقل كي يرجع المال إلى المشتري الأوّل فيأخذ منه. وأمّا قدرته على فسخ هذه المعاملات ، فلأنّ كلّها صدر عمّن ليس له التصرّف بنحو لا يكون قابلا للفسخ من طرف الشفيع لتنافيها مع الحقّ الموجود للشفيع.

وببيان آخر : للمشتري الأوّل - المالك ملكا طلقا - إيجاد هذه العناوين ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، غاية الأمر للشفيع حقّ الفسخ لعدم ضياع حقّه. وهذا مقتضى الجمع بين الحقوق وحفظ الجميع.

وبعبارة أخرى : مقتضى لا ضرر هو أن يكون للشفيع حقّ الفسخ. وأمّا الأخذ بالشفعة من نفس الموهوب له وسائر هؤلاء فمخالف لما عليه الأصحاب والأدلّة من أنّ الشفيع يتلقّى الملك من نفس المشتري ، لا من البائع أو غيره.

نعم لا فرق في المشتري بين أن يكون هو المشتري الأوّل أو الثاني أو الثالث

ص: 213

وهكذا بصدق المشتري - لما تعلّق به هذا الحقّ - في الجميع ، وشمول قوله علیه السلام : « فإنّه أحقّ به بالثمن » (1) ، للجميع ، فلو ترامى على هذا المال المشاع العقود يكون الشفيع أحقّ به من كلّ مشتر في كلّ واحد من هذه العقود ، ولذلك يجوز له الأخذ من كلّ واحد منهم كما تقدّم.

هذا كلّه فيما إذا كان التصرّف فيه بالنقل ، وأمّا إذا كان التصرّف بإحداث شي ء فيه من غرس أو زرع أو عمارة أو غير ذلك ، وعلى كلّ واحد من التقادير حيث كان تصرّف المشتري في ملكه فكان تصرّفه بحقّ ولم يكن غاصبا وظالما ، فلما أحدث فيه - من عمارة أو غرس أو زرع - احترام لأنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

فيمكن أن يقال : بأنّ هذا من باب تزاحم الحقوق ، لأنّ الشفيع بعد الأخذ بالشفعة وصيرورة الأرض ملكا له حقّ تفريغ أرضه ، وصاحب الغرس مثلا أو الزرع والعمارة له حقّ حفظ ماله عن التلف أو عن ورود نقص وضرر عليه ، فيتزاحم حقّ كلّ واحد من صاحب الأرض وصاحب الغرس مع الآخر. ومقتضى الجمع بين الحقّين هو إمّا بقاء إشغال الأرض بإجارة لا مجّانا ، أو إزالة هذه الأمور لكن مع تدارك ضرر صاحبها من طرف مالك الأرض ، أو اشتراء الأرض من مالكها من طرف صاحب هذه الأمور ، أو اشتراء هذه الأمور من طرف مالك الأرض بالأخذ بالشفعة.

وليس إحداث هذه الأمور من طرف مالك الأرض قبل الأخذ بالشفعة الذي هو المشتري من قبيل الغصب كي يشمله قوله علیه السلام : « ليس لعرق ظالم حقّ » (2) بل هو تصرّف المالك في ملكه بحقّ ، فلا يسقط احترامه بالأخذ بالشفعة في الأرض. نعم ليس لصاحب هذه الأمور إبقائها مجّانا وبلا عوض ، لأنّه إشغال مال الغير ولا يجوز إلاّ برضاه وطيب نفسه ، فيدور الأمر بين أحد ما ذكرناه.

ص: 214


1- تقدّم ذكره في رواية الغنوي ص 199 ، رقم (2).
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 294 ، ح 819 ، باب في الزيادات في القضايا ، ح 26 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 311 ، أبواب الغصب ، باب 3 ، ح 1.

فرع : في التنازع :

[ الفرع ] الأوّل : لو اختلفا في قدر الثمن فقال المشتري : اشتريته بألف ، وقال الشفيع : بخمسمائة مثلا. نسب إلى المشهور أنّ القول قول المشتري ، لأنّ الأصل عدم استحقاق الشفيع للمبيع بأقلّ ممّا يعيّن المشتري من كميّة الثمن.

وذلك من جهة أنّ استحقاق الشفيع للمبيع بنفس الثمن الواقعي ، لقوله علیه السلام « هو - أي الشفيع - أحقّ بالثمن » (1) فإذا شككنا في أنّ الثمن الواقعي ، أي الذي اشتراه المشتري به أيّ مقدار ، فهذا الشكّ يصير سببا للشكّ في استحقاق الشفيع وانتقال المال إليه بأقلّ ممّا يعترف به المشتري ، فالأصل عدم الانتقال وعدم الاستحقاق إلاّ بما يعترف به المشتري.

نعم على المشتري اليمين على نفى الأقلّ من ذلك المقدار على قواعد باب القضاء ، وقد تقدّم في الجزء الثالث من هذا الكتاب قاعدة « كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين » (2).

وبعبارة أخرى : إنّ المشتري ينكر دعوى الشفيع انتقال المال إليه بأقلّ ممّا يعيّن المشتري من الثمن ، وقوله مطابق مع الأصل ، وهذا هو الميزان في باب تشخيص المدّعي والمنكر.

مضافا إلى انطباق الموازين الآخر المذكورة أيضا للمدّعي والمنكر على كون المدّعي في المقام هو الشفيع ، والمنكر هو المشتري. وقد ذكر كلّها في الجواهر (3) في شرح قول المحقّق : « لأنّه الذي ينتزع الشي ء من يده » وشرح هذه الموازين ينجرّ إلى

ص: 215


1- « الكافي » ج 5 ، ص 281 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 164 ، ح 728 ، باب الشفعة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 316 ، أبواب الشفعة ، باب 2 ، ح 1.
2- « القواعد الفقهيّة » ج 3 ، ص 111.
3- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 444.

بحث طويل محلّها كتاب القضاء.

الفرع الثاني : لو كانت لكلّ واحد منهما - أي الشفيع والمشتري - بيّنة على ما يدّعيه من المقدار ، قال الشيخ : يتعارض البيّنتان ويتساقطان ، فيكون المرجع القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشتبه (1).

وفيه : بعد ما عرفت ما ذكرنا من أنّ الأصل يقتضي أن يكون الشفيع مدّعيا والمشتري منكرا ، وبعبارة أخرى : بعد تشخيص المدّعي والمنكر وقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (2) لا يبقى محلّ للتعارض ، لأنّ وظيفة كلّ واحد منهما غير وظيفة الآخر ، فالبيّنة في المقام وظيفة الشفيع ، ووظيفة المشتري ليس إلاّ اليمين ، لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، فبيّنة المشتري لا أثر لها لأنّ بيّنته بيّنة الداخل فلا تعارض في البين ، بل إذا كان للشفيع بيّنة على ما يدّعيه من مقدار الثمن يكون القول قوله ولا يمين عليه.

الفرع الثالث : لو ادّعى كلّ واحد من الشريكين الشفعة على الآخر ، بمعنى أنّه يدّعي سبق شرائه على الآخر بعد فرض أنّه ليس غيرهما شريك آخر في هذا المال ، فبناء على هذا يكون للمشتري السابق حقّ الأخذ بالشفعة على اللاحق وأخذ شقصه منه ، فيكون مالكا للتمام.

فقال المحقّق (3) في هذا المقام : الحكم هو التحالف ، لأنّ كلّ واحد منهما مدّع لسبق شرائه ، ومنكر لما يدّعيه الآخر من سبق شرائه ، فيكون الحكم حلف كلّ واحد منهما على نفي ما يدّعيه الآخر إن لم تكن بيّنة لذلك الآخر ، وأمّا إن كانت له بيّنة فيثبت

ص: 216


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 129.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، وج 3 ، ص 523 ، ح 22 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ص 4. وفي « وسائل الشيعة » ج 2. ص 170 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 مع تفاوت يسير.
3- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 268.

دعواه بالبيّنة ، وحينئذ إذا كان للآخر أيضا بيّنة فيكون من تعارض البيّنتين ، ويتساقطان إن لم يكن مرجّح في البين ، فتصل النوبة إلى التحالف وسقوط الدعويين بعد أن حلفا.

الفرع الرابع : لو ادّعى الشفيع على شريكه بانتقال حصّته إليه بالبيع عن شريكه السابق بعد كون الشفيع مالكا للشقص الآخر كي يكون له الأخذ بالشفعة ، وأنكر الشريك ذلك وادّعى انتقاله إليه بسبب آخر غير البيع من إرث أو بعقد آخر غير البيع ، كي لا يكون للشفيع حقّ الشفعة بناء على ما تقدّم من اختصاص حقّ الأخذ بالشفعة بالبيع ، فالقول قول الشريك المنكر انتقاله إليه بالبيع ، لأنّ الأثر مترتب على نفس عدم انتقاله بالبيع ولا يحتاج إلى إثبات انتقاله بالإرث أو بعقد الفلاني الذي هو غير البيع كي يقع التعارض بين الأصول النافية ، فيكون الشفيع مدّعيا والشريك منكرا ، ووظيفة كلّ واحد منهما معلومة على قواعد باب القضاء.

الفرع الخامس : لو صالح الشفيع مع المشتري على سقوط حقّه بعوض كذا ، فلا شكّ في صحّة هذا الصلح وسقوط هذا الحقّ.

ففي مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه. والصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا » (1).

وقوله تعالى في كتابه الكريم ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) ولا شكّ في أنّ الصلح على سقوط حقّ الشفعة ليس ممّا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، ولا شكّ في أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، ولم يجعل الشارع لإسقاط حقّ الشفعة أسبابا خاصّة ، فإذا صالح على إسقاطه يسقط.

الفرع السادس : من حيل ترك الشفيع لهذا الحقّ وعدم أخذه ، هو إيقاع البيع

ص: 217


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 32 ، باب الصلح ، ح 3267 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 171 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، باب 3 ، ح 5.
2- النساء (4) : 127.

بأزيد من قيمة مال المشاع الذي للبائع بكثير ، وشرط في متن عقد البيع أن يبذل البائع شيئا من مال للمشتري مجّانا وبدون أن يكون بإزائه شي ء ، وحيث أنّه على الشفيع إعطاء تمام الثمن في مقام الأخذ فيصرفه كثرة الثمن عن الأخذ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 218

59 - قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

اشارة

ص: 219

ص: 220

قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « الوصيّة حقّ على كلّ مسلم ». وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدرك هذه القاعدة

الأوّل : قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (1). إلى آخر الآيات.

الثاني : الأخبار الواردة فيها ، فنقول :

منها : ما رواه محمّد بن مسلم قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « الوصيّة حقّ ، وقد أوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فينبغي للمسلم أن يوصى » (2).

ومنها : ما رواه أبو الصباح الكناني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الوصية؟ فقال : « هي حقّ على كلّ مسلم » (3).

ومنها : أيضا عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما علیهماالسلام أنّه قال : « الوصيّة حقّ على

ص: 221


1- البقرة (2) : 177.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 3 ، باب الوصيّة وما أمر بها ، ح 5 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 181 ، باب في الوصيّة أنّها حقّ على كلّ مسلم ، ح 5412 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 351 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 3 ، باب الوصية وما أمر بها ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 181 ، باب في الوصيّة أنّها حقّ على كل مسلم ، ح 5411 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 172 ، ح 702 ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 351 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 2.

كلّ مسلم » (1).

ومنها : عن زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الوصيّة؟ فقال : « هي حقّ على كلّ مسلم » (2).

ومنها : عن المفيد قدس سره في المقنعة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الوصيّة حقّ على كلّ مسلم » (3) قال : وقال علیه السلام : « من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة » (4) قال : وقال علیه السلام : « ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة إلاّ ووصيّته تحت رأسه » (5).

قال في الوسائل : والأحاديث الواردة في أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوصى ، وأنّ الأئمّة علیهم السلام أوصوا كثيرة متواترة من طرف العامّة والخاصّة (6).

الجهة الثانية : في شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها

اشارة

فنقول : الوصية اسم من الإيصاء ، وربما يطلق على الموصى به كما في الكتاب العزيز ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (7) فيقال : هذه وصيّته ، أي ما أوصى به كعتق عبد أو بناء مسجد أو قنطرة أو رباط أو غير ذلك من الخيرات والمبرّات ، وأنواع العبادات من الواجبات والمستحبّات.

ص: 222


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 172 ، ح 701 ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 172 ، ح 703 ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 4.
3- « المقنعة » ص 666 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 6.
4- « المقنعة » ص 666 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 8.
5- « المقنعة » ص 666 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 7.
6- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 352 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 1 ، ح 8.
7- النساء (4) : 11.

وعرّفها في الشرائع (1) بأنّها تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة. وقريب من هذا التعريف ما ذكره غير واحد من أصحابنا رضوان اللّه تعالى عليهم.

وقال في تعريفه في القواعد : الوصيّة تمليك عين أو منفعة بعد الموت (2). وهكذا غيرهما ، ولكن الوصيّة قسمان : تمليكيّة وعهديّة.

وهذا التعريف ينبغي أن يكون للتمليكيّة ، فأمّا الوصيّة العهديّة فهي عبارة عن أن يعهد إلى شخص أو أشخاص بفعل أمر يجوز له فعله مباشرة أو تسبيبا ، سواء كان ذلك الفعل راجحا أو مباحا بلا رجحان عليهما ، أي على الموصي والوصي ، ويسمّى ذلك الشخص أو الأشخاص بالوصيّ أو الأوصياء.

وإن كانت أركان الوصيّة التمليكيّة أربعة : الوصيّة ، والموصي ، والموصى به ، والموصى له ، وأمّا الوصيّة العهديّة فأركانها ثلاثة : الموصي ، والموصى به ، والوصيّ.

فهاهنا أمور :

الأمر الأوّل : في الوصيّة التمليكيّة

وقد عرفت أنّ أركانها أربعة :

الأوّل : الوصيّة. وقد ذكرنا أنّها اسم من الإيصاء ، وأيضا ذكرنا تعريفه. ويفتقر إلى إيجاب وقبول ، أي هو عقد وكلّ عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، وإن كان قبولا فعليّا لا قوليّا.

والحاصل : أنّ عقد الوصيّة حالها حال سائر العقود العهديّة من حيث الاحتياج

ص: 223


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 290.

إلى الإيجاب والقبول ، ولا فرق بينه وبين عقد الهبة إلاّ أنّ الهبة تمليك مال أو حقّ لشخص في حال حياته ، وعقد الوصيّة تمليك مال أو حقّ لشخص بعد الموت. هذا ما قاله أكثر الأساطين.

ولكن التحقيق : أنّ الوصيّة العهديّة لا تحتاج إلى القبول ، لأنّه فيها تعهّد إلى إيجاد فعل متعلّق ببدنه كان يدفن في موضع كذا مثلا ، أو بماله مثل أن يحجّ عنه بماله أو يقضى عنه صلواته وصومه الفائتة أو يوقف داره الفلانيّة أو ضيعته أو يبنى مسجدا بماله وأمثال ذلك من الأعمال الراجحة.

نعم لو عيّن شخصا لتنفيذ ما عهد إليه الذي يسمّى بالوصي أو الموصى إليه يمكن أن يقال بالاحتياج إلى قبول ذلك الشخص إن اطّلع على الوصيّة في حال حياة الموصي كي يلزم عليه العمل بما أوصى إليه ، ولكن هذا لو قلنا به يكون من قبول الوصاية لا الوصيّة.

مضافا إلى أنّ الأظهر عدم لزوم قبول الوصي في حال حياة الموصي ، بل يكفي في لزوم عمله وتنفيذه الوصيّة عدم ردّه في حال حياة الموصي وإن لم يقبل ، فبالردّ تبطل لا أنّ القبول شرط.

وأمّا الوصيّة التمليكيّة : فإن كانت تمليكا للنوع ، كالوصيّة للأقارب أو العلماء والسادات والفقراء ، فهي أيضا لا يعتبر فيها القبول كالعهديّة ، والقول بلزوم قبول الحاكم عن قبلهم لا دليل عليه. وأمّا إن كانت تمليكا لشخص أو أشخاص معيّنين ، فالظاهر أنّ حصول الملكيّة لهم موقوف على قبولهم ، لوجوه :

الأوّل : الإجماع والاتّفاق من غير خلاف على أنّه من العقود ، ولا شكّ في أنّ كلّ عقد مركّب من الإيجاب والقبول ، لأنّ المعاقدة والمعاهدة بين شخصين ، فأحدهما يعاهد مع الآخر بتمليك ماله ، غاية الأمر إنّ هذا التمليك والتملّك إذا لم يكن بعوض يدخل في باب العطايا والهبات ، وقد نبّهنا أنّ الوصيّة مثل الهبة ، والفرق بينهما هو أنّ

ص: 224

الهبة تمليك في حال الحياة والوصيّة تمليك بعد الوفاة. وإن كان بعوض يدخل في باب المعاوضات كالبيع والإجارة وغيرهما ، فكما لا ينكر أحد كون تلك المعاوضات والهبات من العقود فليكن الأمر في الوصيّة أيضا كذلك.

الثاني : أصالة عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له مع احتمال أن يكون للقبول دخل فيه ، وأمّا ادّعاء القطع بعدم الدخل فمكابرة مع ذهاب المشهور إلى شرطيّته.

الثالث : أنّ حصول الملك القهري خلاف الأصل ، وأسبابه تعبّدا كالإرث مثلا محصورة ليس منها إيقاع الوصيّة من دون قبول الموصى له.

وأمّا ادّعاء أنّ إطلاقات الوصيّة تكفي لذلك.

ففيه : أنّ إطلاقات الوصيّة ليست بأعظم من إطلاقات سائر المعاملات ، فكما أنّ تلك الإطلاقات لا تمنع عن الاحتياج إلى القبول في تحقّق عناوين تلك المعاملات ، فكذلك الأمر في الوصيّة.

والحاصل : أنّ ادّعاء شمول إطلاقات الوصيّة - لإنشاء الوصيّة من قبل الموصى بدون صدور القبول من طرف الموصى له فحصول الملكية للموصى له لا يتوقّف على قبوله - لا أساس له ، بل هو عقد مركّب من الإيجاب والقبول لا تحصل الوصيّة بالمعنى الاسم المصدري إلاّ بعد وجود كلا ركنية ، كما أنّ البيع بالمعنى الاسم المصدري لا يوجد إلاّ بعد وجود الإيجاب والقبول جميعا.

فبناء على هذا ردّ الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل لو قلنا أنّه يبطل الوصيّة - كما هو الأظهر بل المتّفق عليه - ليس من قبيل الفسخ بحيث يكون حلاّ للعقد من حينه كما هو التحقيق في باب الفسخ ، بل يكون مانعا عن تحقّقه لفقدان أحد ركنية ، أي القبول.

فرع : وهو أنّه بعد الفراغ من أنّه عقد ويفتقر إلى الإيجاب والقبول ، فالإيجاب

ص: 225

يصحّ بكلّ لفظ من أيّ لغة دلّ دلالة صريحة واضحة على إنشاء ذلك المعنى عن قصد وإرادة ، أي تمليك مال عينا كان أو منفعة بعد الوفاة لشخص أو أشخاص ، أو لعنوان من العناوين كالعلماء والسادات والفقراء والطلاّب.

وذلك من جهة أنّ الإنشاء بدون القصد ، أو القصد بدون الإنشاء لا أثر له ، فلو قال : أعطوا فلانا بعد وفاتي كذا مقدار من مالي ، أو قال : لفلان كذا مقدار من مالي بعد وفاتي فلا إشكال في صحّة مثل هذه الوصيّة في صورة وجود الشرائط المقرّرة عند الشرع للموصي من البلوغ والعقل ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا لو قال : أوصيت لفلان بكذا ، بدون ذكر « بعد وفاتي » فهل يكون صريحة في الوصيّة باعتبار ظهور لفظ الوصيّة في هذا المعنى أم لا ، بل يحتاج إلى ذلك التقييد في إفادة التمليك بعد الوفاة الذي هو حقيقة الوصيّة؟

الظاهر عدم احتياجه إلى ذلك التقييد ، من جهة أنّ المناط في باب الإفادة والاستفادة وإلقاء المرادات في المحاورات هو الظهور العرفي ، لا كون المستعمل فيه معنى حقيقيّا أو مجازيّا. وهذه أمور تقرّر في الأصول في باب حجّية الظهورات.

ولا شكّ في أنّ لفظ « الوصيّة » في اللغة وإن كان بمعنى مطلق الإيصاء ، سواء كان إيصاءه بإعطاء مال أو شي ء آخر ، لشخص أو أشخاص آخرين أو لعنوان من العناوين ، في حال حياته أو بعد وفاته ، من ماله أو من مال من أوصى إليه أو غيرهما.

ولكن عند العرف - خصوصا في هذه الأزمان التي مرّ عليها مئات من السنين عن زمان تشريعها في الكتاب العزيز بقوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (1) - لها ظهور في هذا المعنى المذكور الذي عرّفوها به ، أي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة ، فإذا كان كذلك فلا ينبغي المناقشة في صحّة الإيجاب ووقوعه بلفظ « أوصيت لفلان

ص: 226


1- البقرة (2) : 177.

بكذا » بدون قيد « بعد وفاتي » هذا بالنسبة إلى الإيجاب.

وأمّا القبول : فالظاهر - بناء على اعتباره كما رجّحناه - وقوعه بكلّ لفظ دالّ على الرضا بما أنشأ وأوجب ، بل بكلّ فعل دلّ على هذا المعنى مثل أن يتصرّف فيه نحو تصرّف الملاّك في أملاكهم.

ثمَّ إنّه تقدّم أنّ الوصيّة التمليكيّة ، تارة تتعلّق بشخص معيّن أو أشخاص معيّنين ، وأخرى تتعلّق بعنوان من العناوين. وعرفت أنّ القسم الثاني منها لا يشترط صحّتها وترتيب الأثر عليها بالقبول ، ولكن لا من جهة انعقاد الإجماع على عدم اشتراطها بالقبول ، ولا من جهة تعذّر قبول جميعهم وأنّ لزوم قبول البعض دون آخرين ترجيح بلا مرجّح ، بل من جهة أنّه لو قلنا بلزوم القبول يلزم أن يكون القبول من طرف الحاكم ولاية عليهم ، ولا دليل يلزمنا بذلك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقد لا يتم بدون القبول ، وفي المورد حيث أنّ القبول من الجميع لا يمكن ومن البعض ترجيح بلا مرجّح ، فإن أرادوا تتميم العقد فلا بدّ من أحد أمرين :

إمّا أن يقبل أحدهم بعنوان أنّه مصداق للطبيعة ، لا بعنوان شخصه كي يلزم الترجيح بلا مرجّح ، بل أيّ فرد من الطبيعة قبل يكفي ولكن بعنوان أنّه مصداق الطبيعة.

وإمّا الحاكم بعنوان الولاية يقبل عن قبلهم ، وإلاّ لا يقع العقد فيكون الإيجاب لغوا وبلا ثمر ، فإذا أراد أن لا يكون الإيجاب لغوا لا بدّ من مداخلة الحاكم وقبوله من طرف الطبيعة الموصى لها.

وقد شرحنا هذه المسألة في قاعدة « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (1) في مورد الوقف على العناوين العامّة بناء على احتياج الوقف إلى قبول الموقوف عليه.

ص: 227


1- « القواعد الفقهية » ج 4 ، ص 229.

فرع : لا شكّ في أنّ انتقال الموصى به إلى الموصى له بعد صدور الإيجاب عن الموصي وبعد موته ، وذلك لأنّ موضوع ملكيّة الموصى له كونه مصداقا لما أنشأ ، ولا يكون مصداقا إلاّ بهذين الأمرين ، أي صدور الإيجاب عن الموصي وموته ، لأنّه لو لم يصدر الإيجاب منه فلا وصيّة في البين ، ولو لم يمت فلا موضوع في البين ، لأنّ الموصى له حسب إنشاء الموصي مالك بعد وفاته ، فتوقّف ملكيّة الموصى له على هذين الأمرين ينبغي أن يعدّ من البديهيّات.

إنّما الكلام في أنّه يملك بعد قبوله أو يملك بصرف الموت وإن لم يقبل بعد؟

قال في الشرائع : وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له ، ولا ينتقل بالموت منفردا عن القبول على الأظهر (1).

وما ذكره هو الصحيح بناء على ما ذكرنا من أنّ عقد الوصيّة التمليكيّة فيما إذا كان المنشأ هو التمليك للأفراد الخاصّة والأشخاص المعيّنة يحتاج إلى القبول ، وبدون القبول لا يتمّ العقد ، ولا شكّ في أنّ سبب التمليك والتملّك هو العقد التامّ ، فإذا فرضنا أنّ القبول جزء لما هو السبب فبدونه لا يتمّ السبب فلا يوجد المسبب ، أي ملكيّة الموصى له ، فيتوقّف على القبول لأنّه جزء السبب.

وأمّا توهّم كون القبول جزء السبب بنحو الشرط المتأخّر ، بمعنى أنّ حصول الملكيّة للموصى له حين موت الموصي مشروط بالقبول وإن كان متأخّرا عن الموت بزمان.

ففيه : ما حقّقنا في الأصول (2) من عدم صحّة الشرط المتأخّر وأنّه محال ، للزوم تأخّر الموضوع عن حكمه. وهو محاليّته أوضح من محاليّة تأخّر العلّة عن معلولها ،

ص: 228


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 285.

وذلك من جهة رجوع شروط الحكم إلى قيود موضوعه ، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطا بالاستطاعة ، أو كان نجاسة العصير مشروطا بالغليان معناه أنّ موضوع وجوب الحجّ هو المكلّف المستطيع ، وموضوع النجاسة هو العصير المغلي.

وفيما نحن فيه موضوع ملكيّة الموصى له هو إنشاء الموصي المالك الجائز التصرّف له الملكيّة مع قبوله ، فقبوله من أجزاء موضوع الملكيّة ، فلا يعقل وجودها قبل وجود موضوعه بتمامه ، فلو لم يوجد جزءا وشرطا يسيرا منه محال أن يوجد حكمه ، وإلاّ يلزم الخلف.

وأمّا ما يقال : من أنّ ظاهر أدلّة الواردة في باب الوصيّة هو صيرورة الموصى به ملكا للموصى له بعد الموت بلا فصل ومن دون انتظار قبول الموصى له. والثمرة تظهر فيما إذا كانت للموصى به منفعة بعد الموت وقبل القبول فبناء على عدم دخل القبول تكون تلك المنفعة ملكا للموصى له ، وبناء على دخله لا بدّ وأن تكون في حكم مال الميّت بناء على عدم إمكان كون المال بلا مالك.

ففيه : أوّلا : أنّه لم تجد في الأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام في باب الوصايا ما يدلّ على انتقال الموصى به إلى الموصى له قبل قبوله وبمحض الموت ، وعلى فرض إن كان لا بدّ بالتزام أحد أمرين : إمّا تأويله وصرفه عن ظاهره ، وإمّا القول بعدم احتياج عقد الوصيّة إلى القبول مطلقا ، سواء كانت الملكيّة المنشأة متعلّقة بالعناوين العامّة ، أو كانت متعلّقة بالأفراد والأشخاص المعيّنة.

أو نقول بأنّ شرطيّة القبول من قبيل الشرط المتأخّر ، فيكون ملكيّة الموصى له للموصى به بمحض الموت ولكن مراعى بوجود القبول فيما بعد.

وما عدا الأوّل محلّ تأمّل بل نظر وإشكال.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم من أنّ حصول الملك القهري خلاف الأصل ، وله أسباب خاصّة ليس صرف إنشاء الموصي مع موته من أسبابها ، ولم يرد دليل على ذلك من

ص: 229

ناحية الشرع وربما ادّعى الإجماع في مسألتنا على العدم.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كلام صاحب الجواهر قدس سره في هذا المقام بقوله : « لكن الإنصاف أنّه لو لا دعوى الإجماع على خلافه لكان لا يخلو من قوّة » (1) ليس كما ينبغي وخال عن القوّة ، إذ عمدة مستندة في قوة هذا القول ، أي الانتقال إلى الموصى له بمحض الموت من دون الاحتياج إلى القبول ظهور أدلّة الوصيّة في ملك الموصى به للموصى له بمجرّد موت الموصي من دون الاحتياج إلى قبول الموصى له. وقد عرفت أنّه ليس هناك دليل يكون ظاهرا في هذا المعنى ، وعلى تقدير إن كان لا بدّ من تأويله ، أو الالتزام بما لا يجوز الالتزام به.

وأمّا توهّم أن يكون القبول هاهنا مثل الإجازة في باب الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، حيث أنّ الإجازة المتأخّرة ولو كانت بعد سنة تكشف عن الملكيّة السابقة حين العقد ، فالقبول المتأخّر عن الموت ولو كان بعد سنة يكشف عن الملكيّة السابقة أي بعد الموت بلا فصل.

ففيه : أوّلا : أنّ ما ذكر في باب الإجازة من الكشف الحقيقي هو باطل ومحال ، وقد حقّقنا المسألة في محلّها.

وثانيا : فرق واضح بين ما نحن فيه وما ذكروا هناك ، ففي هذا المقام بعد الفراغ عن لزوم القبول في عقد الوصيّة ، وأنّه بدونه غير تامّ ، وأنّه من أركان العقد مثل الإيجاب فلا يحصل الأثر قبل تماميّة الأثر ، وقع الكلام في أنّه هل تحصل ملكيّة الموصى به للموصى له بصرف الموت ، أو لا تحصل بمحض الموت منفردا بل لا بدّ من صدور القبول من الموصى له؟ وإلاّ لو قلنا بأنّ عقد الوصيّة يتمّ بصرف الإيجاب ولا يحتاج إلى القبول ، أو قلنا إنّها من الإيقاعات وليست من العقود ، فلا يبقى نزاع في البين بل تحصل بمجرّد الموت.

ص: 230


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 250.

وأمّا في مسألة الفضولي ، فالكلام في أنّه بعد وجود العقد بجميع أركانه من الإيجاب والقبول وكونه واجدا لجميع شرائط العقد ، غاية الأمر إنّ هذا العقد صادر عن غير من هو أهل لذلك ، أي لا مالك ولا وكيل من قبله ولا ولي عليه ، فلا يشمل المالك خطاب ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) من جهة عدم انتساب العقد إليه وعدم اتصافه به ، فإذا أجاز يحصل هذا الانتساب والالتصاق ، فيتوهّم المتوهّم أنّ العقد الواقع سابقا الذي كان سببا تامّا للنقل والانتقال ولم يكن فيه نقص إلاّ الانتساب ، فإذا حصل الانتساب بواسطة الإجازة المتأخّرة يؤثّر العقد من زمان وجوده.

وهذا الكلام وإن كان باطلا ولكن في بادئ النظر يمكن أن ينخدع السامع أو الناظر ويقول بإمكانه بخلاف المقام ، فإنّ كلام من يقول بحصول الملكيّة بمجرّد الموت صريح في جواز وجود المسبّب قبل وجود السبب بتمام أجزاءه ، وهذا ممّا ينكره العقل السليم ، فالقياس ليس في محلّه وإن كان المدّعى في المقيس عليه أيضا باطل.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على تركّب عقد الوصيّة من الإيجاب والقبول لا يبقى مجال للقول بحصول الملكيّة بمحض موت الموصي قبل أن يقبل الموصى له.

ثمَّ إنّه بناء على ما ذكرنا من عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له قبل الفوت بصرف موت الموصي ، فيأتي سؤال وهو أنّ ما أوصى به لمن يكون في الزمان الفاصل بين الموت والقبول؟ وأنّه هل يبقى بلا مالك أم يبقى في حكم مال الميّت هو ومنافعه؟ أم ينتقل إلى الوارث موقّتا متزلزلا ومراعى إلى أن يقبل أو يردّ ، فإن قبل ينتقل إليه ، وإن ردّ يستقرّ الملك للورثة ويخرج عن كونه وصيّة؟

ولكلّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاث وجه.

أمّا وجه الأوّل : فلعدم صحّة الاحتمالات الآخر ، فلا يبقى إلاّ احتمال الأوّل. أمّا عدم صحّة بقائه في حكم مال الميّت لأجل عدم قابليّة الميّت لأن يكون مالكا. وأمّا

ص: 231

عدم صحّة انتقاله إلى الورثة لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).

وأمّا وجه الثاني : أي بقاء المال في حكم مال الميّت هو عدم إمكان بقاء المال بلا مالك لما سيجي ء ، وعدم انتقاله إلى الورثة لما ذكرنا من الآية الشريفة ، فقهرا يبقى في حكم مال الميّت.

وأمّا وجه الثالث : - أي الانتقال إلى الورثة موقّتا متزلزلا ومراعى إلى أن يقبل فينتقل إلى الموصى له ، أو يردّ فيستقرّ في ملك الورثة - هو عدم صحّة الوجه الأوّل والثاني كما عرفت.

والأظهر من هذه الاحتمالات - بناء على كون قبول الموصى له جزءا للعقد والسبب - هو أن يبقى على حكم مال الميّت ، فإن قبل الموصى له فيما بعد ينتقل إليه حسب الوصيّة ، وإن ردّ ينتقل إلى الورثة.

وذلك من جهة أنّ انتقاله إلى الورثة وإن كان مراعى وموقّتا إلى أن يقبل خلاف أدلّة الوصيّة وخلاف الآية الشريفة ، أي قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وكونه بلا مالك معناه أن يكون لكلّ أحد التصرّف فيه ، لأنّ المفروض عدم مالك في البين كي يكون التصرّف بدون إذنه وطيب نفسه ممنوعا ، ويكون كالمباحات الأصليّة ، فلا بدّ من القول ببقائه على حكم مال الميّت.

وله نظائر : منها : شبكة الصيد الذي ينصبه الميّت في حال حياته ، فيقع فيه الصيد بعد موته.

ومنها : الدية في الجنايات التي تردّ على الميّت.

ومنها : مئونة تجهيزه ، ومنها ما يقضي به دينه من التركة.

ص: 232


1- النساء (4) : 105.

فرع : وقع الكلام في أنّه لا بدّ وأن يكون القبول بعد الوفاة ، أو يصحّ أن يكون في حال حياة الموصي ويتمّ به العقد؟ بعد الفراغ عن لزوم القبول في عقد الوصيّة - وأنّه أحد ركني العقد إلاّ فيما إذا كانت الوصيّة تمليك عنوان عامّ كالعلماء والسادات أو كانت في مصلحة المسجد أو قنطرة أو رباط ينزل فيه المسافرين والحجاج والزوّار - وقع الكلام في أنّه لا بدّ وأن يكون القبول بعد الوفاة ، أو يصحّ أن يكون في حال حياة الموصي ويتمّ به العقد؟

قال في الشرائع : ولو قبل قبل الوفاة وبعد الوفاة آكد وإن تأخّر القبول عن الوفاة ما لم يرد (1).

وقال في القواعد ، بعد قوله : ويفتقر إلى إيجاب وقبول بعد الموت ولا أثر له لو تقدّم (2).

وقال في جامع المقاصد في توجيه كلام العلاّمة قدس سره لأنّ الإيجاب في الوصيّة إنّما تعلّق بما بعد الوفاة لأنّها تمليك بعد الموت ، فلو قبل قبل الموت لم يطابق القبول الإيجاب (3).

ولكن أنت خبير بضعف هذا التوجيه ، لأنّ القابل يقبل ما أنشأه الموجب ، فيقبل في المفروض ملكيّته بعد الموت التي أنشأها الموصي ، فزمان إنشاء القبول وإن كان في زمان حياة الموصي ولكن المنشأ بهذا القبول هو التملّك بعد الموت ، والمناط في مطابقة القبول والإيجاب هو أن يكون القبول هو قبول نفس ما أنشأه الموجب من غير زيادة ولا نقيصة.

مثلا لو أنشأ الموجب تمليك الغنم الأبيض والقابل أنشأ قبول الغنم الأسود ، فلا تطابق بين القبول والإيجاب ، لأنّه أنشأ شيئا والقابل قبل شيئا آخر ، واتّحاد زماني الإيجاب والقبول ليس شرطا في العقود ، بل دائما يكون القبول متأخّرا عن الإيجاب ،

ص: 233


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 290.
3- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 10.

بل لا يصدق المطاوعة والقبول إلاّ بعد تحقّق الإيجاب.

ثمَّ قاس المقام بأن يبيع ما سيملكه في عدم جوازه.

أنت خبير بأنّ المقام ليس من ذلك القبيل.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقيس عليه يمكن أن يكون باطلا من جهة النهي عن بيع ما ليس عنده ، ولا شكّ في أنّ الذي سيملكه مضافا إلى أنّه يمكن أن لا يملكه لحادث من الحوادث حال البيع لا يملكه فيصدق عليه أنّه من بيع ما ليس عنده ، بخلاف المقام فإنّه يملكه وله السلطنة على ماله ، فيملّكه بحيث ينتقل إلى الموصى له بعد وفاته ، وهذا ليس مانع شرعي ولا عقلي.

وثانيا : ليس له السلطنة على مال الغير كي يبيعه ، لأنّه لا مالك حال البيع ، ولا وكيل من قبل المالك ، ولا ولي عليه فهو أجنبي عن هذا المال.

وثالثا : حقيقة البيع هو تبديل ماله بمال الغير ، وهذا هو معنى المعاوضة عند العرف ، والذي سيملكه ليس له مال فعلا قبل أن يملكه كي يبدّل بمال الغير ، فهذا القياس ليس في محلّه.

وأمّا ما قاله من أنّ القبول إمّا كاشف أو ناقل وجزء السبب ، وكلاهما منتفيان هنا.

أمّا أنّه ليس بكاشف ، لأنّ معنى الكاشف هو تحقّق الملكيّة في مقام الثبوت قبل القبول كي يكون القبول كاشفا عنها ، وفي المقام لا يمكن ذلك من جهة أنّ الملكيّة التي أنشأها الموصي هي بعد الموت ، ففي حال الحياة لا يمكن وجودها وثبوتها ، فلا يمكن أن يكون القبول كاشفا.

وأمّا أنّه ليس بناقل ، لأنّ معنى الناقل هو أن يكون بوجوده ينتقل الملك إلى الموصى له ، وهاهنا لا يمكن انتقال المال إلى الموصى له في زمان القبول الذي هو في حال الحياة ، لأنّ الملكيّة المنشأة بعد الوفاة لا يمكن أن توجد قبلها.

ص: 234

ففيه : أنّ القبول جزء السبب ، والسبب عبارة عن الإيجاب والقبول ، ولكن تأثير هذا السبب مشروط بشرط وهو الموت ، بل مفاد هذا السبب هي الملكيّة بعد الموت ، فتأخّر وجود المسبّب عن السبب ليس لتخلّفه عنه ، بل مفاد السبب هي الملكيّة المتأخّرة.

وذلك كما أنّ الإجارة يصحّ أن يكون فيها زمان ملكيّة المنفعة متأخّرا عن زمان عقدها إجماعا - أي من زمان إيجابها وقبولها - فليكن في الوصيّة أيضا كذلك ، فظهر أنّه لا مانع من تأثير القبول حال الحياة في تماميّة العقد وصحّته ، وإن كان المنشأ بالعقد لا يوجد إلاّ بعد الوفاة.

ثمَّ إنّه استشكل جامع المقاصد (1) أيضا على تأثير القبول حال حياة الموصي بأنّه لو كان القبول قبل الوفاة مؤثّرا لكان ردّه أيضا مؤثّرا ، والمشهور ذهبوا إلى عدم تأثير الردّ في حال الحياة.

وفيه : أنّ تأثير القبول في حال الحياة من جهة وقوعه بعد الإيجاب وهما ركنا العقد ، فإذا وجد الركن الأوّل في محلّه وصحيحا فتصل النوبة إلى الركن الثاني أي القبول ، ويقع في محله من جهة أنّه مطاوعة ذاك الإيجاب.

وأمّا عدم تأثير الردّ من جهة أنّ الوصيّة تمليك مال أو منفعة بعد الوفاة ، فالمناط في ردّه هو الردّ في ظرف وقوع التمليك ، فإذا لم يكن تمليك في البين فلا أثر للرّد مع قبوله في ظرف التمليك.

نعم لو ردّ في حال الحياة وبقي رادّا مستمرّا إلى ما بعد الوفاة يؤثّر الردّ. والحاصل : أنّه لا ملازمة بين تأثير القبول وتأثير الردّ.

وأمّا ما أورد على تأثير القبول في حال حياة الموصي بأنّه لو كان كذلك لما كان يعتبر قبول الوارث ولا ردّه لو مات الموصى له قبل موت الموصي وقد قبل أي الموصى

ص: 235


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 10.

له وذلك لأنّه لو كان الموصى له قبل الوصيّة في حال حياة الموصي وكان قبوله مؤثّرا فتصير الوصيّة ملكا للموصى له بمحض موت الموصي ، لحصول أركان العقد من الإيجاب والقبول ، والشرط - أي موت الموصي - أيضا حصل على الفرض ، فلا يحتاج الى قبول الوارث ويلزم أن لا يؤثر ردّه ، لأنّ سبب ملكيّة الوصيّة مع الشرط حصل ، فلا يحتاج إلى شي ء آخر.

وفيه : أنّ هذا كلام عجيب ، لأنّ الشرط حصل في وقت ليس الموصى له قابلا لأن يملك الموصى به ، لأنّ المفروض أنّه ميّت حال حصول الشرط وليس قابلا لأن يملك فينتقل إلى ورثته ، فلا يحتاج إلى قبولهم.

ومقتضى القواعد الأوّليّة هو أنّه لو قلنا بأنّ الميّت يملك ، فلو مات الموصى له في حال حياة الموصي وقد قبل فيملك الموصى به وينتقل إلى ورثته ، ولا يحتاج إلى قبولهم. وإن قلنا بأنّه لا يملك فيرجع المال بعد موت الموصي إلى ورثته لا إلى ورثة الموصي له ، سواء قبلوا أو لم يقبلوا.

لكن وردت روايات أنّ الموصى له لو مات في حياة الموصي يعطى المال ورثة الموصي بدون اشتراط قبول من طرفهم في البين ، وقد عقد بابا في الوسائل بعنوان أنّ الموصى له إذا مات قبل الموصي ولم يرجع في الوصيّة فهي لوارث الموصى له ، وفيه روايات :

منها : رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفّي الموصى له الذي أوصى له قبل الموصي ، قال علیه السلام : الوصيّة لوارث الذي أوصى له. قال : ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا فتوفّي الموصى له قبل الموصي فالوصيّة لوارث الذي أوصى له إلاّ أن يرجع في وصيّته قبل موته » (1)

ص: 236


1- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح 1. « الفقيه » ج 4 ، ص 210 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح 5489. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 230 ، ح 903 ، باب الموصى له بشي ء يموت قبل الموصي ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 137 ، ح 515 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 409 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 30 ، ح 1.

ومنها : رواية عبّاس بن عامر قال : سألته عن رجل أوصى له بوصيّة ، فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقبا ، قال : « اطلب له وارثا أو مولى فادفعها إليه » قلت : فإن لم أعلم له وليّا؟ قال : « اجهد على أن تقدر له على وليّ ، فإن لم تجد وعلم اللّه منك الجدّ فتصدق بها » (1).

ومنها : رواية محمّد بن عمر الباهلي الساباطي قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجل أوصى إليّ وأمرني أن أعطى عمّاله في كلّ سنة شيئا فمات العمّ ، فكتب : « أعط ورثته » (2).

وهذه الروايات لها إطلاق من ناحية قبول الموصى له في حياة الموصي وعدم قبوله ، بل ربما يستظهر من رواية محمّد بن قيس عدم قبول الموصى له في حال حياة الموصي لفرض المسألة فيما إذا أوصى لرجل وهو - أي الموصى له - غائب ، ففي مثل هذا المورد قضى علیه السلام بأنّ الوصيّة لوارث الموصى له إن مات هو في حياة الموصي ، وذيل الرواية مطلق من ناحية قبول الموصى له وعدم قبوله. وعلى أيّ حال مقتضى القاعدة ما ذكرنا.

ص: 237


1- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 211 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح 5490. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 231 ، ح 905 ، باب الموصى له بشي ء يموت قبل الموصي ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 138 ، ح 517 ، باب الموصى له يموت قبل الموصى ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 409 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 30 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 210 ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح 5488. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 231 ، ح 904 ، باب الموصى له بشي ء يموت قبل الموصي ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 138 ، ح 516 ، باب الموصى له يموت قبل الموصى ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 410 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 30 ، ح 3.

فرع : لو مات الموصى له قبل أن يقبل ، فتارة يكون موته في حياة الموصي ، وأخرى بعد موته. فإن كان بعد موته ، فلا شكّ في أنّ وارثه يقوم مقامه في أنّ له القبول والردّ ، لأنّ هذا حقّ له ، وما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه ، فيكون للوارث حقّ القبول والردّ. وإنكار كون قبول الوصيّة وردّها حقّا للموصى له مكابرة ، إذ الحقّ عبارة عمّا هو مجعول شرعا رعاية لذي الحقّ ، بحيث يكون له إسقاطه أو أعماله أو عدم إعماله.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القابلية للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ بحيث عرّف به فيقال : الحقّ هو ما كان قابلا للإسقاط ، وهاهنا كون القبول للموصى له ليس قابلا للإسقاط ، فلو قال الموصى له : أسقط حقّ هذا ، لا يسقط. فليس مالا ولا حقّا كي يرثه الوارث. فإذا مات الموصى له يكون حال الوارث بالنسبة إلى هذه الوصيّة حال الأجانب ، وبناء على هذا يكون القبول وعدمه من الأفعال التكوينيّة التي مباح للموصى له ، وقد يعرض عليه سائر الأحكام الخمسة التكليفيّة. هذا ممّا يمكن أن يقال.

ولكن فيه نظر واضح ، لأنّ كون القبول حقّا شرعيّا أمر واضح ، فإن لم يكن قابلا للإسقاط فليست الخاصّة شاملة بحيث تشمل جميع أفراد الحقّ ، وعلى كلّ حال يقوم الوارث مقام مورّثه في إعمال هذا الحقّ فتكون الوصيّة له.

وأمّا إن كان موت الموصى له في حال حياة الموصي ، فإن قلنا إنّ حقّ القبول والردّ ثابت للموصى له حتّى في حال حياة الموصي ، فيكون الحكم مثل الصورة السابقة ، لأنّه ينقل هذا الحقّ بعد موت الموصى له إلى وارثه. وأمّا إن قلنا بأنّ قبول الموصى له في حال حياة الموصي وكذلك ردّه لا أثر له ، فيكون لغوا ، أي لا حقّ له ، فليس للإرث موضوع فيكون الوارث أجنبيا ، ولا مجال للقول بأنّه يقوم مقامه في القبول والردّ.

ص: 238

نعم مقتضى إطلاق رواية محمّد بن قيس المتقدّمة في الفرع السابق وروايات أخر أنّ الوصيّة للوارث ، سواء قبل الموصى له في حياته أو لم يقبل.

ثمَّ إنّ مقتضى إطلاق تلك الروايات أنّ الوصيّة تعطي للوارث من دون الاحتياج إلى قبوله ، اللّهم إلاّ أن يدّعى الإجماع على لزوم القبول من الوارث ، كما يظهر من بعض عباراتهم. وحكى في الجواهر (1) عن كشف الرموز (2) ما يقرب من ذلك.

فرع : لو ردّ الموصى له في حياة الموصي فهل تبطل الوصيّة كما لو ردّها بعد موت الموصي ، أم لا فيجوز له القبول بعد الردّ كما هو المشهور؟

والعمدة في دليلهم هو أنّ محلّ القبول والردّ بعد وفاة الموصي ، لأنّ الوصيّة عبارة عن إنشاء ملكيّة مال أو منفعة للموصى له بعد وفاته ، فالإنشاء في حال حياة الموصي ولكن ظرف تحقّق المنشأ على حسب الإيجاب هو بعد وفاة الموصي ، وأمّا في حال حياته فلم يجعل له شي ء فلا موضوع لا للردّ ولا للقبول ، فلو ردّ في حال حياة الموصي لا يؤثّر في شي ء بل القبول هو الذي يقع في ظرف هو ظرف الردّ والقبول.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد المحقّق قدس سره حيث قال في الشرائع : فإن ردّ في حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته ، إذ لا حكم لذلك الرّد (3). هذا إذا كان الردّ في حال حياة الموصي ، وأمّا إن كان ردّه بعد موت الموصي وكان ردّه هذا قبل أن يقبل ، فتبطل الوصيّة ولا يبقى موضوع للقبول فيما بعد. وهذا الحكم إجماعي لا خلاف فيه من أحد.

والسرّ في عدم تأثير القبول بعد الردّ هو أنّ العقد والمعاهدة بين شخصين لا يمكن إلاّ بتعهّد الموجب والتزامه بما أوجب في قبال تعهّد الآخر بشي ء أو أمر ، وإلاّ لا يقع

ص: 239


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 259.
2- « كشف الرموز » ج 2 ، ص 77.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 243.

العقد. وهذا إذا لم يكن ردّ ولا قبول ، وأمّا إذا ردّ فلا يحتمل إبقاء العقد والعهد بينهما إلاّ إذا وقع إنشاء وإيجاب جديد كي يكون القبول قبول ذلك الإيجاب الجديد.

وأمّا إن كان ردّه بعد وفاة الموصي وبعد أن قبل بعد الوفاة الموصي وبعد قبض الوصيّة أيضا ، فمثل هذا الردّ لا أثر له ، لأنّه بالقبول والقبض بعد موت الموصي يستقرّ الملك للموصى له ، ولا يخرج إلاّ بالأسباب المخرجة شرعا كبيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك من المخرجات.

نعم وقع الكلام فيما إذ ردّ بعد القبول بعد موت الموصي ولكن كان ردّه قبل أن يقبض الوصيّة ، بمعنى أنّ الموصى له بعد موت الموصي قبل ، ثمَّ ردّ قبل أن يقبض ، فقيل : تبطل الوصيّة ، وقيل : لا تبطل ، وهو الأظهر ، لوجوه :

أوّلا : لكونه مشهورا بين الطائفة ، بل قيل كاد أن يكون إجماعا.

وثانيا : إنّ العقد بكلا ركنية وجد وتمَّ ، ولم يكن شرط في البين غير موجود ، فالنتيجة وهو استقرار الملك للموصى له حصلت ، فلا وجه للبطلان.

وثالثا : لم يدلّ دليل من آية أو رواية أو إجماع على أنّ القبض شرط في صحّة الوصيّة.

فرع : لو ردّ الموصى له بعضا وقبل بعضا ممّا أوصى له صحّ فيما قبله وتبطل فيما ردّه ، خصوصا فيما إذا كان كلّ واحد ممّا يقبل ويردّ له وجود مستقلّ غير مربوط بالآخر ، مثلا لو أوصى بداره وبستانه لشخص ، فبعد وفاته واطّلاع الموصى له قبل الدار وردّ البستان أو بالعكس ، صحّ فيما قبل وبطل فيما يردّ إعطاء لكلّ واحد منهما حقّه.

وقال في جامع المقاصد : وليست الوصيّة كالبيع ونحوه يجب فيها مطابقة القبول

ص: 240

للإيجاب ، لأنّها تبرّع محض ، فلا يتفاوت الحال فيها بين قبول الكلّ والبعض (1).

وحاصل كلامه : أنّها ليست من المعاوضات - كي يقال بأنّه قصد تبديل الكلّ بعوض كذا ، وأمّا تبديل مقدار منه جزءا أو كسرا مشاعا مثل نصفه أو ثلثه بمقدار من العوض فليس بمقصود أصلا - بل قصد تمليكه لهذا المجموع بلا عوض ، وحيث أنّ التملك قهرا وبدون قبوله ورضاه لا يمكن إلاّ بأسباب خاصّة وفي موارد مخصوصة كالإرث وغيره ، فيحتاج إلى القبول ، فأيّ مقدار منها قبل يصير ملكه ، وأيّ مقدار لم يقبل يبقى على ملك الموصي ، سواء كان ذلك المقدار الذي يقبله موجودا مستقلا غير مربوط بالآخر الذي لم يقبله ، أو كان جزءا للوصيّة أو كسرا مشاعا لها.

فلو قال : كتبي لزيد مثلا بعد وفاتي ، فقبل بعضا معيّنا منها أو كسرا مشاعا مثل النصف أو الثلث أو الربع منها ، صحّ في الكل. هذا ما ذكروه.

حتّى أنّه ذكر في جامع المقاصد في هذا المقام بعد قوله « بأنّ الوصيّة صحّ فيما قبل وبطل فيما ردّ » : ولم ينظر إلى التضرّر بالشركة لو كان الموصى به شيئا واحدا (2) فحكمهم بالصحّة فيما قبل والبطلان فيما يردّ مطلق شامل لجميع الأفراد ، سواء كان الموصى به متعدّدا أو كان شيئا واحدا ، كان قابلا للقسمة أو لم يكن كفصّ من عقيق أو من ياقوت أو من غيرهما.

ولكن الإنصاف أنّه لو كان الموصى به مركّبا من أجزاء أو من جزئين ، بحيث يكون بعض أجزائه أو أحد جزئية لو انفصل لم يبق قيمة معتدّ للباقي منها أو منهما ، مثل ما لو أوصى بساعة فقبل الموصى له بعض أجزائها التي من أركانها وردّ الباقي في الفرض الأوّل ، أو أوصى حذاء لشخص فقبل النعل الذي للرجل الأيمن مثلا وردّ الآخر في الفرض الثاني ، فالقول بصحّتها فيما قبل وبطلانها فيما ردّ لا يخلو من تأمّل بل

ص: 241


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 257.
2- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 14.

من إشكال.

فرع : لا تصحّ الوصيّة في معصية بأن يصرف المال الموصى به في الملاهي أو شرب الخمر مثلا ، أو يصرفه الوصي في سائر المحرّمات مثل تأييد ظالم ومساعدته في ظلمة وكتابة كتب الضلال طبعها ونشرها ، مثل ما يسمّى الآن توراة وإنجيل ، لأنّهما حرّفا وغيرا وفيهما أشياء توجب الضلال ، وكتب البابيّة والبهائيّة ، وبعض كتب العرفاء والصوفيّة المشتملة على العقائد الفاسدة والمطالب الباطلة ، مثل ادّعاء الحلول أو الاتّحاد مع اللّه تعالى جلّ جلاله ، تعالى اللّه عمّا يدّعون ويصفون.

وخلاصة الكلام : أنّه لا تصحّ الوصيّة بفعل محرّم أو صرف ماله في أمر محرّم لوجوه :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : أنّ تنفيذ مثل هذه الوصيّة غير مقدور ، لأنّ الممتنع شرعا مثل الممتنع عقلا ، لنهي الشارع عن العمل بمثل هذه الوصيّة.

الثالث : أنّها إعانة على الإثم ، بل هي بنفسها إثم. أمّا إنّها إعانة على الإثم لأنّ الإعانة على الإثم عبارة ، عن إيجاد مقدّمة من مقدّمات الحرام الصادر عن الغير بقصد ترتّب ذلك الحرام عليها ، ولا شكّ في أنّ هذه الوصيّة من مصاديق هذا العنوان ، إذ مقصوده منها وجود ذلك الحرام. أمّا كونها بنفسها إثما فلأنّه لا شكّ في أنّ بذل المال في الحرام حرام وإثم وإن لم يكن بمباشرته.

الرابع : قوله تعالى ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) ودلالة الآية على المراد في المقام مبنى على أن يكون

ص: 242


1- البقرة (2) : 181.

المقصود من قوله تعالى ( أَوْ إِثْماً ) الوصيّة بالمعصية ، ويكون استثناء عن حرمة التبديل والتغيير ، أي لا يجوز تبديل الوصيّة وتغييرها إلاّ إذا كانت وصيّة بالمعصية ، فتكون الآية بناء على هذا ظاهرة في عدم جواز الوصيّة بالمعصية وفي عدم صحّتها.

ويدلّ على أنّ المراد من الآية هذا المعنى ما ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية قال عليّ بن إبراهيم : قال الصادق علیه السلام : « إذا أوصى الرجل بوصيّة فلا يحلّ للوصي أن يغيّر وصية يوصى بها ، بل يمضيها على ما أوصى إلاّ أن يوصى بغير ما أمر اللّه فيعصي في الوصيّة ويظلم ، فالموصى إليه جائز له أن يردّه إلى الحقّ مثل رجل يكون له ورثة فيجعل ماله كلّه لبعض ورثته ويحرم بعضا ، فالوصي جائز له أن يردّه إلى الحقّ وهو قوله تعالى ( جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) فالجنف الميل إلى بعض ورثتك دون بعض ، والإثم أن تأمر بعمارة بيوت النيران واتّخاذ المسكر ، فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشي ء من ذلك » (1).

فرع : عقد الوصيّة جائز من طرف الموصي ، سواء كانت الوصيّة بمال أو كانت عهديّة مثل أن يجعل شخصا وليّا وقيّما على صغاره ، أو يوصي بدفنه في مكان كذا وأمثال ذلك من الوصايا ، فللموصي الرجوع في وصيّته متى شاء وما دام حيّا. والدليل عليه : أنّ الموصي ما دام حيّا لا ينتقل المال إلى الموصى إليه وإن قلنا بجواز القبول في حال حياة الموصي وقد تقدّم هذه المسألة ، فالمال ماله ولم يخرج عن تحت سلطنته والناس مسلّطون على أموالهم.

وأصالة اللزوم في العقود لا تشمله ، إمّا لأنّ محلّ القبول بعد موت الموصي وقبله لا قبول فلا عقد ، وإمّا لأنّه وإن كان عقدا ويصحّ من الموصى له القبول ولكن هو خارج عن تحت تلك القاعدة بالإجماع ، أو بورود روايات تدلّ على جواز رجوع

ص: 243


1- « تفسير القميّ » ج 1 ، ص 65 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 420 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 37 ، ح 4.

الموصي في وصيته ما دام فيه الروح ، في صحّة كان أو مرض.

منها : رواية ابن مسكان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام أنّ المدبّر من الثلث ، وأنّ للرجل أن ينقض وصيّته فيزيد فيها وينقص منها ما لم يمت » (1).

ومنها : رواية يونس عن بعض أصحابه قال : قال عليّ بن الحسين علیه السلام : « للرجل أن يغيّر وصيّته فيعتق من كان أمر بملكه ويملك من كان أمر بعتقه ، ويعطي من كان حرمه ، ويحرم من كان أعطاه ما لم يمت » (2).

وفي الوسائل أنّ الصدوق روى هذه الرواية إلاّ أنّه زاد في آخره : « ما لم يكن رجع عنه » (3).

منها : رواية عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « للموصي أن يرجع في وصيّة إن كان في صحّة أو مرض (4) وروايات أخر (5).

وبعد الفراغ عن أنّها عقد جائز من طرف الموصي وله أن يرجع فيه ما دام حيّا ، يتحقّق الرجوع بالقول وبالفعل.

فالأوّل : أمّا قول الصريح في الرجوع كقوله :

ص: 244


1- « الكافي » ج 7 ، ص 12 ، باب الرجل يوصي بوصيّة ثمَّ يرجع عنها ، ح 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 199 ، باب الرجوع عن الوصيّة ، ح 5459 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 190 ، ح 762 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 385 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 13 ، باب الرجل يوصي بوصيّة ثمَّ يرجع عنها ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 199 ، باب الرجوع عن الوصيّة ، ح 5460 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 190 ، ح 763 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 385 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 2.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 386 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 2.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 12 ، باب الرجل يوصى بوصيّة ثمَّ يرجع عنها ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 199 ، باب الرجوع عن الوصيّة ، ح 5458 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 189 ، ح 860 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 386 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 3.
5- انظر : « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 385 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 18.

رجعت في الوصيّة الفلانيّة أو نقضتها أو فسختها ، أو يقول : لا تعطوا فلانا ما أوصيت له به ، إلى غير ذلك من الألفاظ التي صريحة في نقض وصيّته وفسخها. وإمّا ما يكون له ظهور عرفي في الرجوع ولو بتوسّط القرينة مثل أن يقول للدلاّل : اجعله في معرض البيع.

والثاني : إمّا بفعل ما يخرجه عن ملكه إمّا شرعا ، كنقله بأحد النواقل الشرعيّة إلى الغير ، مثل أن يبيع العين الموصى بها أو يهبها أو يصالح عليها أو يقرضها أو يخرجها عن ملكه بأن يعتقها أو يوقفها ، ففي جميع ذلك لا يبقى محلّ ومجال لكونها وصيّة ، لأنّ الوصيّة عبارة عن كون المال الموصى به باقيا تحت سلطنته وفي ملكه إلى زمان الموت ، ثمَّ بالموت منضمّا إلى قبول الموصى له يصير ملكا له فلو نقل إلى غيره شرعا أو وقع عليه التلف بإتلاف أو تلف سماوي لا يمكن بقاؤه وصية.

وخلاصة الكلام : أنّ عقد الوصيّة جائز من طرفه ، فله الرجوع ما دام فيه الروح ، سواء كان بالقول أو بالفعل. وإذا كان بالقول لا بدّ وأن يكون له ظهور عرفي في الرجوع وإن كان بواسطة القرينة ، وذلك لحجّية الظهورات في الكشف عن المراد.

وأمّا إن كان بالفعل ، فتارة بإعدام الموضوع حقيقة وهو إمّا بإتلاف تكوينا أو بنقله بأحد النواقل شرعا إلى غيره ، وأخرى جعله في معرض البيع وإن لم يبع فعلا ولكن وضعه في السوق في دكّانه كسائر الأجناس التي في معرض البيع ، وثالثة يكتب إعلان ويعلق أنّ الدار الفلانيّة في معرض البيع وقد كان أوصى بها لشخص.

ثمَّ إنّ الرجوع تارة يكون في أصل الوصيّة ، وأخرى في بعض جهاتها وكيفيّاتها ومتعلّقاتها ، فله تبديل الموصى به كلاّ أم بعضا مثل إن كانت وصيّته أن يعطى داره لولده الأكبر مثلا ، فغيّر الموصى به وجعله بستانه أو دكّانه مثلا ، هذا في تبديل الكلّ.

وأمّا تبديل البعض بأن كانت وصيته إعطاء كتبه لولده الفلاني مطبوعا ومخطوطا ، ثمَّ يغيّر ويستثنى المخطوط ويجعل بدله ألبسته أو فراشه.

ص: 245

وأمّا التبديل في الموصى له فهو أن يجعل أوّلا ولده الأكبر مثلا ، ثمَّ لجهة من الجهات يبدّله بولده الآخر أو شخصا أجنبيا.

وأمّا التبديل في الوصي ، مثل أن جعل زيدا وصيّة ثمَّ يبدو له ويجعله عمروا ، أو يشرك عمرا معه بعد إن كان مستقلا ومنفردا. وكلّ ذلك جائز له ، لأنّها عقد جائز من طرفه وله السلطنة على ماله.

وأمّا التبديل في وليّ أطفاله وصغاره ، مثل أن يجعل أوّلا زيدا وليّا عليهم ، ثمَّ يبدو له ويبدّل ويجعله عمروا ، أو يشركه مع زيد في الولاية.

والحاصل : أنّ الموصي إلى آخر لحظة من حياته له السلطنة التامّة على وصيّته ، من حيث ما اوصى به ، ومن أوصى له ، ومن أوصى إليه ، فله التغيير والتبديل في جميع ذلك أصلا أو زيادة أو نقيصة.

بقي شي ء : وهو أنّه في بعض الموارد صار محلا للشكّ في أنّه رجوع أم لا؟

أمّا حكم الشكّ لو استقرّ ولم يوجد دليل على أنّه رجوع أو ليس برجوع فاستصحاب عدم تحقّق الرجوع وبقاء الوصيّة.

وأمّا موارد الشكّ ، فمنها : لو تصرّف في الموصى به تصرّفا أخرجه عن مسمّاه ، كما لو أوصى بطعام لزيد فطحنه ، أو بدقيق فعجنه أو خبزه ، فربما يقال ببطلان الوصيّة وصدق الرجوع عليه ، لأنّه من قبيل إعدام الموضوع ولم يبق موضوع لما أوصى به.

ولكن يمكن أن يقال : إذا تعلّقت بالطعام الخارجي والدقيق كذلك ، فالموضوع لما أوصى هذا الجسم الخارجي من حيث أنّه غذاء للموصى له ولعياله ، فطحنه ربما يكون أفيد بالنسبة إلى هذه النتيجة والغرض ، فكأنّه إحسان آخر إلى الموصى له ، وتغيّر الاسم من كونه حنطة إلى كونه دقيقا وكذلك من كونه دقيقا إلى كونه عجينا أو خبزا لا يضرّ بكونه وصيّة.

نعم لو كان هناك قرينة على رجوعه بهذا الفعل عن وصيّة ، فلا بأس بالقول به ، لما

ص: 246

قلنا من حجّية الظهورات والمتفاهم العرفي ولو كان بتوسّط القرائن الحاليّة أو المقاليّة. مثلا لو كان الموصي خبّازا ومرض ، فأوصى بإعطاء الحنطة الموجودة عنده لولده أو لأخيه ، فبرء وطحنه ثمَّ قبل أن يخبزه مات فجأة ، فالإنصاف أنّ فعله في هذا الفرض ظاهر في الرجوع ، كما أنّه لو قال : اطحنوه ولكن هناك قرائن على أنّه يريد بذلك الفعل مساعدة أخيه الضعيف لكي يسهل عليه الأمر ، فيدلّ هذا على بقاء الوصيّة وعدم الرجوع.

الأمر الثاني : في الموصي

فرع : يعتبر في الموصي البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والرشد ، والحرّية ، لاعتبار هذه الأمور في جميع المعاملات إجماعا ، مضافا إلى أدلّة أخرى مذكورة في كتاب البيع.

أمّا البلوغ : فلأنّ الصبي غير البالغ مسلوب العبارة ، فلا اعتبار بإنشائه كسائر معاملاته ، سواء كانت من المعاوضات أو كانت من الهبات والعطايا.

نعم وردت روايات في صحّة وصيّة الصبي إذا بلغ عشرا وإن لم يحتلم ، وفي بعضها صحّة وصيّته وإن لم يدرك ومطلق من حيث مقدار السنّ ، وفي بعضها صحّة وصيّته إن بلغ سبع سنين ، ولكن أكثر الروايات الواردة في هذا الباب تقيّد صحّة وصية الغلام ببلوغه عشر سنين.

فمنها : رواية محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « إنّ الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيّته لذوي الأرحام ، ولم يجز للغرباء » (1).

ص: 247


1- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب وصيّة الغلام والجارية. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيته ، ح 5453 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 728 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 428 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 1.

وهذه الرواية تدلّ على صحّة وصيّة غير البالغ مطلقا ، سواء بلغ عشرا أو لم يبلغ ، ولكن مقيّد من حيث الموصى له بأن يكون لذوي الأرحام ولا يكون للغرباء.

ومنها : رواية أبي بصير - يعني المرادي - عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إذا بلغ الغلام عشر سنين وأوصى بثلث ماله في حقّ جازت وصيّته ، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيّته » (1). وهذه الرواية قيّد صحّة وصيته بأمور : بلوغه عشرا ، وكون وصيّته في حقّ ، أي لا يكون في الباطل والمحرّمات ، وأيضا يكون وصيته بثلث ماله لا أزيد.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته » (2).

ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنّه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز » (3).

ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أكلت ذبيحته ، وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيّته » (4).

ومنها : رواية أبي بصير وأبي أيّوب عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الغلام ابن عشر سنين

ص: 248


1- « الكافي » ج 7 ، ص 29 ، باب وصيّة الغلام والجارية. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيّته ، ح 5452 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 732 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 428 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب وصيّته الغلام والجارية. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 196 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيّته ، ح 5450 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 429 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 3.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب وصيّته الغلام والجارية. ، ح 1. « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، باب الحدّ الذي إذا بلغه الصبيّ جازت وصيّته ، ح 5452 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 729 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 429 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 726 ، باب وصيّة الصبي والمحجور عليه ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 428 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 5.

يوصى؟ قال : « إذا أصاب موضع الوصيّة جازت » (1).

ومنها : رواية حسن بن راشد عن مولانا العسكري علیه السلام : « إذا بلغ الغلام ثماني سنين ، فجائز أمره في ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود ، وإذا تمَّ للجارية سبع سنين فكذلك » (2).

والرواية الأخيرة ظاهرة في حصول البلوغ للذكر بثمانية وللأنثى بسبعة بالنسبة إلى جميع الأمور ، سواء كانت في المعاملات والمعاوضات أو من العبادات بل مطلق الفرائض ، أو كانت من الحدود فتجري في حقّهما.

ولا شكّ في أنّ بلوغ الذكر بثمانية والأنثى بسبعة بالنسبة إلى جميع الأحكام الشرعيّة في المعاملات والفرائض والحدود مخالف لإجماع المسلمين بل لضرورة من الدين ، فهذه الرواية شاذّة لم يعمل بها أحد فيجب أن يطرح. وكذلك ذيل رواية أبي بصير المتقدّم « وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيّته » لم يعمل به ، فهو مطروح.

وأمّا سائر الروايات الواردة في هذا الباب وان كان بعضها مطلقة ، كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام في ذيله : « وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيّته » ولكن لا بدّ من تقييدها بما إذا كانت وصيّته في وجوه المعروف والبرّ ، ولعلّ هذا هو المراد من قوله علیه السلام : « أو أوصى على حدّ معروف وحقّ ».

وكذلك لا بدّ من تقييدها بما إذا كان عاقلا بصيرا ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله علیه السلام في رواية أبي بصير وأبي أيّوب : « إذا أصاب موضع الوصيّة جازت ».

فالمتحصل من مجموع هذه الروايات بعد إرجاع مطلقاتها إلى مقيّداتها هو صحّة

ص: 249


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 727 ، باب وصيّته الصبي والمحجور عليه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 429 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 44 ، ح 6.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 183 ، باب وصيّته الصبي والمحجور عليه ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، أبواب أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 4.

وصيّة الصبي إذا بلغ عشرا في وجوه البرّ والمعروف إذا كان عاقلا وبصيرا ، وهذا المعنى بعد طرح رواية حسن بن راشد ، لإعراض الأصحاب بل المسلمين عنها ، مضافا إلى ضعف سندها ومخالفتها للأخبار الصحيحة الصريحة ، وبعد طرح رواية أبي بصير التي تقدّمت وكان مفادها جواز وصيّة ابن سبع سنين إذا كان أوصى بالمال اليسير في حقّ ، لشذوذها ومخالفتها للإجماع.

وقال في المسالك : وابن إدريس رحمه اللّه سدّ الباب واشتراط في جواز الوصيّة البلوغ كغيرها (1) ، ونسبه الشهيد في الدروس إلى التفرّد بذلك ، ثمَّ قال : ولا ريب أنّ قوله هو الأنسب ، لأنّ هذه الروايات التي دلّت على الحكم وإن كان بعضها صحيحة إلاّ أنّها مختلفة بحيث لا يمكن الجمع بينها ، فإثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكل (2).

ولكن الإنصاف أنّ إنكار مثل هذا الحكم الذي هو مشهور بين الأصحاب - بل في الغنية (3) دعوى الإجماع عليه مع وجود هذه الروايات الكثيرة الصحيحة الصريحة - وعدم الاعتناء بهذه الأخبار والأقوال أشكل.

مضافا إلى ما تقدّم منّا من إمكان الجمع العرفي بسهولة.

وقال في جامع المقاصد بعد إقراره بأنّ الروايات الدالّة على جواز وصيّة الصبي إذا بلغ عشرا كثيرة : والمناسب لأصول المذهب وطريقة الاحتياط القول بعدم الجواز (4).

ويردّه ما تقدّم ذكره ، واللّه العالم.

ص: 250


1- « المسالك » ج 1 ، ص 392. وهو في « السرائر » ج 3. ص 206.
2- « الدروس » ج 2 ، ص 298.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 604.
4- « جوامع المقاصد » ج 10 ، ص 34.

فرع : لو جرح الموصي نفسه عمدا بما فيه هلاكها ، أي نوى قتل نفسه فأوجد السبب ، سواء كان بالجرح بآلة قتّالة أو بشرب السمّ أو غير ذلك ، لم تصحّ وصيّته إذا كانت في ماله. وأمّا إذا كانت في غير ماله كتجهيزه ودفنه في موضع كذا ، فالظاهر صحّته ، لصحيحة أبي ولاّد قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها ». قلت له : أرأيت إن كان أوصى بوصيّة ثمَّ قتل نفسه من ساعته تنفذ وصيّته؟ قال : فقال علیه السلام : « إن كان أوصى قبل أن يحدث حدثا في نفسه من جراحة أو قتل أجيزت وصيّته في ثلثه ، وإن كان أوصى بوصية بعد ما أحدث في نفسه من جراحة أو قتل لعلّه يموت لم تجز وصيته » (1).

فهذه الصحيحة لها دلالة واضحة على من أوجد سبب قتله متعمّدا لأجل أن يموت ، ويسمّى في عرف هذا العصر بالانتحار ، ثمَّ بعد ذلك أوصى وصيّة بشي ء من ماله لم تقبل وصيّته.

وأمّا لو أوصى أوّلا ثمَّ أوجد سبب قتله ، تجاز وصيّته في ثلثه. وهذه الكلمة الأخيرة - أي ثلث ماله - تدلّ أنّ محلّ النفي والإثبات هو المال لا أمور الأخر.

وأيضا استدلّ بعضهم على عدم نفوذ وصيّة من قتل نفسه في الماليّات بأنّه سفيه ، والسفيه محجور لا يجوز له أن يتصرّف في أمواله.

أمّا أنّه سفيه ، فلأنّ إتلاف المال بلا مصلحة يكشف عن السفه ، وإتلاف النفس عصيانا - لا فيما إذا كان راجحا كما في باب الجهاد - أولى بأن يكشف عنه السفه.

وأمّا أنّ السفه يوجب المنع من تصرّفات السفيه في أمواله ومحجور ممنوع ، فهذا دليله وتحقيقه في كتاب الحجر مذكور مفّصلا.

ص: 251


1- « الكافي » ج 7 ، ص 45 ، باب من لا تجوز وصيته من البالغين ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 202 ، باب وصيّة من قتل نفسه متعمّدا ، ح 5470 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 207 ، ح 820 ، باب وصيّة من قتل نفسه. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 441 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 52 ، ح 1.

هذا هو المشهور بين الأصحاب وجوّز ابن إدريس (1) وصيّته إذا كان عقله ثابتا ، واحتجّ بأنّه عاقل رشيد فينفذ وصيّته كغيره ، وبعموم النهي عن تبديل الوصيّة.

وقال العلاّمة في المختلف : لا بأس بالذهاب إلى قول ابن إدريس حيث قال : ولو قيل بالقبول مع تيقّن رشده كان وجها وأجاب عن الاحتجاج بالرواية بحملها على عدم استقرار الحياة ، بمعنى أنّ عدم القبول في الرواية فيما إذا كانت حياته بواسطة الجرح أو شرب السمّ أو نحوهما غير مستقرّة. (2)

وأنت خبير بأن لازمه أنّ المريض إن صارت حياته غير مستقرّة فلا تنفذ وصيّته ، ولا يمكن القول بذلك مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذا الكلام غير صحيح في حدّ نفسه ، لأنّ هذا الجريح غير المستقرّ حياته عاقل بالغ رشيد ، فتكون وصيّته مشمولة للأدلّة الدالّة على وجوب تنفيذ الوصيّة التي منها قوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (3) ولم يفرق بين مستقرّ الحياة وغيره ، وتخصيص هذا العامّ يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

وربما يقال : إنّ غير مستقرّ الحياة في حكم الميّت ، فلا يجري في حقّه الأحكام الجارية على الأحياء ، ويقاس بعدم ورود التذكية على الحيوان غير مستقرّ الحياة.

وفيه : أنّ كون الحيّ في حكم الميّت يحتاج إلى دليل ، وفي المقام لا دليل عليه.

والحاصل : أنّ كلمات هؤلاء الأساطين - مع وجود رواية صحيحة صريحة في عدم جواز وصيّة من قتل نفسه إذا كان متعمّدا في إيجاد سبب موته لكي يموت ، وكان إيجاد سبب موته قبل أن يوصى - اجتهادات في مقابل النصّ الصحيح الصريح المعمول به عند الأصحاب والمشهور بل ادّعى بعضهم عليه الإجماع. ومثل هذا مخالف

ص: 252


1- « السرائر » ج 3 ، ص 197.
2- « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 328.
3- البقرة (2) : 181.

لأصولنا التي يجب العمل عليها.

فرع : لا تجوز الوصيّة لغير الأب والجدّ من طرف الأب بأن يجعل القيّم والوليّ على الأطفال بعد موته. أمّا الأب والجدّ من قبله فيجوز لهما ذلك ، وذلك من جهة ثبوت ولايتهما عليهم حال حياتهما بنحو يشمل جميع التصرّفات التي لها مدخليّة في إصلاح شؤونهم من الماليّات وغيرها حال حياتهما وحال مماتهما.

وإن شئت قلت : إنّ المستفاد من الأخبار المستفيضة وسائر الأدلّة أنّ لهما التصرّف في جميع شؤونهما الصالحة لهم ، سواء كانت تلك الأمور صالحة لهم في حال حياة الأب والجدّ أو في حال مماتهما.

ولا شكّ في أنّ نصب القيّم الثقة لإصلاح أمورهم وتدبير شؤونهم بعد موتهما من التصرّفات الصالحة لهم ، فلذلك يصحّ للأب والجدّ من طرف الأب الوصيّة بذلك وتكون نافذة.

فقوله صلی اللّه علیه و آله : « أنت ومالك لأبيك » (1) وأمثال ذلك من الروايات والأحاديث تدلّ على أنّ للأب والجدّ من طرف الأب الولاية والسلطنة على صغارهم وأطفالهم ، فلهما نصب القيّم الواحد أو الأكثر بالاستقلال أو بالاشتراك على صغارهما بعد موتهما ، ويجوز أيضا لهما جعل الناظر على ذلك القيّم الذي جعلاه ، كلّ ذلك لأجل الولاية التي لهما عليهم ، وهذا الحكم إجماعي لا خلاف فيه من أحد.

وأمّا الأمّ فلا تصحّ الوصيّة منها بالولاية عليهم بأن تجعل قيّما على أولادها الصغار ، لأنّه لا ولاية لها عليهم لعدم الدليل على ذلك ، إذ لا شكّ أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم ولاية أحد على مال غيره وكذلك على نفس غيره ، والخروج عن هذا الأصل ليس إلاّ بالدليل ، ولا دليل على ولايتها عليهم ، بل الدليل على خلافه.

ص: 253


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 261 ، باب 78 ، ح 22479.

وأمّا الحاكم الشرعي وإن كان له الولاية على مطلق القاصرين الذين ليس لهم وليّ من الأب والجدّ من طرف الأب لأنّه وليّ من لا وليّ له من باب الحسبيّات - أي الأمور التي لا يرضى الشارع بتركها - وليس عن قبل الشارع من عيّن لتصدّيها ، فمثل هذه الأمور هو القدر المتيقّن أنّ تصدّيها وظيفة الحكّام والفقهاء ، بحيث لو لم يكن مجتهد مطلق عادل في البين تصل النوبة إلى عدول المؤمنين.

لكن كلّ ذلك من وظائفه حال حياته ، وأمّا بعد مماته يكون وظيفة سائر مصاديق هذه الطبيعة ، أي طبيعة مجتهد المطلق العادل.

فبناء على هذا ليست له الوصيّة بالولاية بأن يقول : اجعلوا فلانا قيّما على أطفال فلان بعد مماتي ، لعدم ولايته عليهم بعد مماته ، لرجوع أمرهم بعد موته إلى غيره من المجتهدين والحكّام.

وأيضا ما قلنا من أنّ للأب والجدّ من قبله الوصيّة بالولاية على صغارهما ، هذا يكون لكلّ واحد منهما مع فقد الآخر ، وإلاّ فمع وجود الآخر لا تصحّ ، لأنّه مع وجود الآخر يكون هو الوليّ منفردا أو بالاستقلال ، ولا يجوز مزاحمته من قبل أحد.

نعم الولاية المطلقة على الأموال والأنفس بحيث ينفذ حكمه على كلّ أحد هو للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وأولاده الطاهرين المعصومين. وما قلنا من أنّ مقتضى الأصل عدم ولاية أحد على مال الغير أو نفسه وإن كان صحيحا ، ولكن خرج من تحت هذا الأصل بالأدلّة القطعيّة تصرّفات النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

قال اللّه تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (2)

ص: 254


1- الأحزاب (33) : 6.
2- الأحزاب (33) : 36.

( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1) وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما في رواية أيّوب بن عطيّة : « أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ».

وقال صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خم : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ » قالوا : بلى ، قال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » (2).

وقال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بعد ما ذكر الأدلّة على أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمّة المعصومون لهم الولاية المطلقة على جميع الأموال والأنفس وفي جميع الأمور. والمقصود من جميع ذلك دفع ما يتوهّم من أنّ وجوب إطاعته صلی اللّه علیه و آله وإطاعة الإمام علیه السلام مختصّ بالأوامر الشرعيّة ، وأنّه لا دليل على وجوب طاعته في أوامره العرفيّة وسلطنته على الأموال والأنفس. وبالجملة فالمستفاد من الأدلّة الأربعة بعد التتبّع والتأمّل أنّ للإمام سلطنة مطلقة على الرعيّة من قبل اللّه تعالى وأنّ تصرّفهم نافذ على الرعيّة ماض مطلقا (3).

وما أفاده قدس سره كلام صحيح لا غبار عليه ، فبناء عليه للإمام علیه السلام التصرّفات في أموال الصغار وفي أنفسهم مع وجود الأب والجدّ من قبل الأب.

وفي تحقيق مسألة الولاية وأقسامها ، من التكوينيّة والتشريعيّة ، والمطلقة والمقيّدة ، والكليّة والجزئيّة محلّ آخر حققناها فيه ، واللّه هو العالم بحقائق الأمور.

الأمر الثالث : في الموصى به

اشارة

وهو إمّا عين أو منفعة ، وعلى كلّ واحد من التقديرين يعتبر في الوصيّة التمليكيّة

ص: 255


1- النور (24) : 63.
2- انظر : « الغدير » ج 1 ، ص 18.
3- « المكاسب » ص 153.

أن يكون مملوكا ، إذ عرّفنا الوصيّة بأنّها تمليك عين أو مال أو منفعة بعد الوفاة ، وإذا لم يكن ملكا لا يمكن تمليكه أو يكون حقّا قابلا للانتقال كحقّ التحجير ونحوه ، لا مثل حقّ القذف ونحوه مما لا يقبل الانتقال. ولا فرق في المال بين كونه عينا أو منفعة أو دينا في ذمّة الغير ، وفي العين بين كونها موجودة فعلا أو ممّا سيوجد ويكون متوقّع الوجود ، كالوصيّة بما تحمله الدابّة والجارية ، أو تمر الشجرة في المستقبل.

فرع : لا بدّ أن تكون العين الموصى بها ذات منفعة محلّلة مقصودة كي تكون مالا شرعا ، فلا تصحّ الوصيّة بالخمر إلاّ أن تكون قابلة للتحليل ، أو ينتفع بها في غير الشرب ، ولا بالخنزير ولا بآلات اللّهو والقمار إلاّ إذا كان ينتفع بها إذا كسرت ، ولا بالحشرات ولا بكلب الهراش. وأمّا منافع المحرّمة أو المحلّلة غير المقصودة للعقلاء فلا اعتبار بهما ، وهي في حكم العدم.

فرع : يشترط في الوصيّة العهديّة أن يكون ما أوصى به عملا سائغا ، فلا تصحّ الوصيّة بمعونة الظالمين ، وقطّاع الطريق ، وعمارة الكنائس ، ونسخ كتب الضلال وطبعها ونشرها. وخلاصة الكلام أنّ الوصيّة العهديّة لا بدّ وأن تكون بفعل غير محرّم ، وأن لا يكون صرف المال فيه عبثا وسفاهة. أمّا ما يكون محرّما ومبغوضا عند الشارع فوجهه واضح ، لأنّ الشارع لا يحثّ على أمر يغضبه ، فأدلّة الوصيّة منصرفة عنه. وأمّا ما هو عبث وسفاهة فأيضا منفور عنده.

فرع : يشترط في الوصيّة أن لا يكون الموصى به زائدا على ثلث التركة ، فإن كان زائدا بطلت إلاّ إذا أجاز الوارث ، وإذا أجاز بعض الورثة ولم يجز البعض نفذت في حصّة البعض المجيز دون البعض الذي لم يجز ، وإذا أجازوا في بعض الموصى به دون

ص: 256

البعض صحّ فيما أجازوا وبطلت في البعض الآخر بلا خلاف بينهم ، بل الحكم إجماعي.

والنصوص الدالّة على هذا مستفيضة أو متواترة :

منها : مكاتبة أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن علیه السلام : إنّ درّة بنت مقاتل توفّيت وتركت ضيعة أشقاصا في مواضع ، وأوصت لسيّدنا في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث ، ونحن أوصياؤها وأحببنا إنهاء ذلك إلى سيّدنا ، فإن أمرنا بإمضاء الوصيّة على وجهها أمضيناها وإن أمرنا بغير ذلك انتهينا إلى أمره في جميع ما يأمر به إن شاء اللّه؟ قال : فكتب علیه السلام بخطّه : « ليس يجب لها في تركتها إلاّ الثلث ، وإن تفضّلتم وكنتم الورثة كان جائزا لكم إن شاء اللّه ». (1)

ومنها : عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجل حضره الموت فأعتق غلامه وأوصى بوصيّته وكان أكثر من الثلث؟ قال علیه السلام : « يمضى عتق الغلام ويكون النقصان فيما بقي » (2).

ومنها : ما رواه عليّ بن عقبة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال : « ما يعتق منه إلاّ ثلث وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك ولهم ما بقي » (3).

ومنها : ما عن الحسين بن محمّد الرازي قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام : الرجل

ص: 257


1- « الكافي » ج 7 ، ص 10 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 187 ، باب من يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5429. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 772 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 364 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 194 ، ح 780 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 454 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 194 ، ح 781 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 455 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 4.

يموت فيوصي بماله كلّه في أبواب البرّ ، وبأكثر من الثلث ، هل يجوز له ذلك وكيف يصنع الوصي؟ فكتب علیه السلام : « تجاز وصيّته ما لم يتعدّ الثلث » (1).

ومنها : ما عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إن أعتق رجل عند موته خادما له ثمَّ أوصى بوصية أخرى ألقيت الوصيّة وأعتقت الجارية من ثلثه ، إلاّ أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصيّة » (2).

ومنها : ما رواه عبّاس بن معروف قال : كان لمحمّد بن الحسن بن أبي خالد غلام لم يكن به بأس عارف يقال له « ميمون » فحضره الموت ، فأوصى إلى أبي العبّاس الفضل بن معروف بجميع ميراثه وتركته أن أجعله دراهم وابعث بها إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام وترك أهلا حاملا وإخوة قد دخلوا في الإسلام وأمّا مجوسيّة قال : ففعلت ما أوصى به وجمعت الدراهم ودفعتها إلى محمّد بن الحسن. إلى أن قال : وأوصلتها إليه علیه السلام ، فأمره أن يعزل منها الثلث فدفعها إليه ويردّ الباقي إلى وصيّه يردّها على ورثته (3).

والأخبار بهذا المضمون كثيرة ذكرنا شطرا منها ، وظهورها في أنّ الوصيّة لا تنفذ في أزيد من ثلث تركته إلاّ بإجازة الورثة غنيّ عن البيان.

ونسب الخلاف في هذه المسألة إلى عليّ بن بابويه (4) قدس سره وأنّ الوصيّة تنفذ مطلقا وإن أوصى بجميع ماله ، أجاز الوارث أم لم يجز ، مستندا إلى ما رواه عمّار بن موسى

ص: 258


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 195 ، ح 784 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 458 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 5.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 197 ، ح 786 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 198 ، ح 790 ، باب الوصيّة بالثلث وقلّ منه وأكثر ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 125 ، ح 473 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 366 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 7.
4- حكاه عن علي بن بابويه في « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 350.

الساباطي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الرجل أحقّ بماله ما دام فيه الروح إذا أوصى به كلّه فهو جائز » (1).

ولكن هذه الرواية وما يقرب منها من حيث المضمون لا تقاوم الروايات المتقدّمة التي يمكن ادّعاء التواتر فيها.

مضافا إلى عمل الأصحاب بها وإعراضهم من هذه الطائفة حتّى ادّعى بعضهم الإجماع بقسميه على ما هو ظاهر الطائفة الأولى ، أي عدم نفوذ الوصيّة في الزائد على الثلث إلاّ بإجازة الوارث.

ووجّهوا كلام عليّ بن بابويه قدس سره بما لا ينافي المشهور بل المجمع عليه ، فلا يكون مخالف في المسألة أصلا.

والتوجيه المذكور في الجواهر (2) عبارة عن أنّ مراده وجوب صرف المال الموصى به بجميعه على حسب ما أوصى ، من حيث وجوب العمل بالوصيّة ، وحرمة تبديلها بنصّ الكتاب والسنّة حتّى يعلم فسادها وبطلانها ولو بالجور على الوارث وإرادة حرمانه من التركة الذي هو أحد أسباب بطلان الوصيّة.

ففي كلّ مورد احتملنا صحّة الوصيّة وإن كان لاحتمال أن يكون لموصى إليه دين عليه ، يجب على الوصي إنفاذ تلك الوصيّة وإن كانت بجميع ماله ، عملا بإطلاقات أدلّة نفوذ الوصيّة كتابا وسنّة حتّى يعلم أنّها وقعت تبرّعا فيكون مقدار الزائد على الثلث موقوفا على إجازة الوارث.

وحكى في الجواهر عن صاحب الرياض قدس سره أنّ هذا التوجيه وإن لم يكن ظاهرا من عبارة عليّ بن بابويه فلا أقلّ من مساواة احتماله لما فهموه من كلامه ، فنسبة

ص: 259


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 187 ، ح 753 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 459 ، باب انّه لا تجوز الوصيّة بأكثر. ، ح 9. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 370 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 19.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 282.

الخلاف إليه ليس في محلّه (1).

وعلى كلّ حال ، سواء كانت هذه التوجيهات لكلام ابن بابويه قدس سره صحيحة أو غير صحيحة ، لا يضرّ مخالفته بالحكم المجمع عليه الذي كان مفاد الروايات المتواترة.

كما أنّ ورود بعض الروايات الأخر - كرواية عمّار بن موسى الساباطي المتقدّمة ، ورواية محمّد بن عبدوس قال : أوصى رجل بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمّد علیه السلام ، فكتبت إليه : رجل أوصى إليّ بجميع ما خلف لك ، وخلف ابنتي أخت له فرأيك في ذلك؟ فكتب إليّ : « بع ما خلف وابعث به إليّ » فبعت وبعثت به إليه ، فكتب إليّ : « قد وصل » (2) وبعض الروايات الأخر - لا تقاوم ما ذكرناه من الروايات الكثيرة المجمع عليها ، مع إعراض الأصحاب عن هذه الطائفة.

فرع : لو أجاز الوارث في حال حياة الموصي فيما زاد على الثلث هل تؤثّر تلك الإجازة ، أو لا بدّ وأن تكون بعد الوفاة؟

المشهور أنّ إجازة الوارث في حال الحياة موجبة لنفوذ ما زاد على الثلث ، ولا يجوز للوارث ردّه بعد وفاة الموصي ويكون ملزما بتلك الإجازة.

والدليل عليه :

أوّلا : الأخبار الواردة في هذا الباب المعمول بها عند الأصحاب المؤيّدة بعمومات وإطلاقات أدلّة نفوذ الوصيّة وعدم جواز تبديلها ، والقدر المتيقّن الخارج عن تحت تلك الإطلاقات هو في الوصيّة الزائدة على الثلث مع عدم صدور الإجازة من الوارث

ص: 260


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 282.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 195 ، ح 785 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 123 ، ح 468 ، باب انّه لا يجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 369 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 16.

مطلقا ، لا في حال حياة الموصي ولا في ما بعد وفاته. أمّا في غير هذا فيشملها العمومات والإطلاقات.

ومن تلك الأخبار ما رواه محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل أوصى بوصيّة وورثته شهود فأجازوا ذلك ، فلمّا مات الرجل نقضوا الوصيّة هل لهم أن يردّوا ما أقرّوا به؟ فقال علیه السلام : « ليس لهم ذلك والوصيّة جائزة عليهم إذا أقرّوا بها في حياته » (1) وعن جماعة من أفاضل المحدثين بطرق مختلفة مثله (2).

ومنها : ما رواه منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أوصى بوصيّة أكثر من الثلث وورثته شهود فأجازوا ذلك له ، قال : « جائز » (3).

وثانيا : تعليق النفوذ - إذا كانت الوصيّة زائدة على الثلث - على إجازة الورثة إنّما هو لمراعاة حقّ الورثة ، ولا فرق في سقوط حقّهم بالإجازة بين أن تكون الإجازة في حال حياة الموصي أو بعد مماته.

وفيه : أنّ الفرق بينهما في كمال الوضوح ، فإنّه في حياة الموصي الورثة ليس لهم علاقة بما أوصى من التركة وهم والأجانب في ذلك سواء إلاّ في صدق قضيّة شرطيّة وهي أنّه على تقدير موته هم يرثون ، وأمّا بعد موته فالتركة ملك لهم ولذلك لو اعترفوا بعد وفاة الموصي أنّ هذا المال لزيد مثلا يعطى لزيد ، وأمّا في حال الحياة هذا الاعتراف لا يسمع منهم ولا يؤثّر في شي ء.

ص: 261


1- « الكافي » ج 7 ، ص 12 ، باب بدون عنوان ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 200 ، باب فيمن أوصى بأكثر من الثلث. ، ح 5461. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 193 ، ح 775 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 122 ، ح 464 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر. ، ح 14. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 371 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 13 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 371 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 13 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 193 ، ح 778 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 123 ، ح 467 ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر. ، ح 17. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 372 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 13 ، ح 2.

وثالثا : بأنّ الموصى به إمّا يكون للموصي لو برأ ، وإمّا للورثة لو مات. فإن كان للموصي فقد أعطاه للموصى له بالوصيّة ، وإن كان للورثة فقد أعطوه بالإجازة.

وفيه : أنّه لا شكّ في أنّ المال للموصي ما دام روحه في جسده ولم يخرج ، فالكلام في أنّ إجازة الورثة قبل أن يملكوا لها أثر أم لا؟

والظاهر أنّه لو لا هذه الأخبار كان مقتضى القواعد الأوّلية عدم تأثير إجازتهم في حال حياة الموصي ، لعدم ارتباط المال بهم في ذلك الوقت إلاّ بنحو القضيّة الشرطيّة التي لم يوجد شرطه ، مثل أن يقول : لو عقد على فلانة - مع اجتماع الشرائط المقرّرة في كتاب النكاح لصحّة العقد ولترتّب الأثر عليه - كانت تلك زوجة له ، ومن المعلوم أنّه مع عدم العقد لا ارتباط شرعا بينهما.

ورابعا : أنّ التعليق على الموت في الوصيّة ليس في الإنشاء ، بل الإنشاء حاصل حال الوصيّة فعلا والمعلّق هي الملكيّة المنشأة بهذا الإنشاء ، فإنشاء الوصيّة قابل للقبول ولو قبل موته.

فكما أنّ القبول في العقود قبل حصول المنشأ بالإيجاب - إذ الملكيّة في البيع لا تحصل إلاّ بالقبول واجتماع الشرائط المعتبرة في الموجب والقابل والعوضين ، والزوجيّة كذلك لا تحصل إلاّ بعد قبول الزوج ، ولا ينافي ذلك قابليّة الإيجاب للقبول ، بل لا يعقل غير ذلك وإلاّ لا يحتاج إلى القبول أصلا - فكذلك في المقام وإن كان قبل موت الموصي لا تحصل ملكيّة الموصى به لا للموصى له ولا للورثة ، ولكن إنشاء الملكيّة للموصى له وجد ، وكذلك المنشأ بذلك الإنشاء.

غاية الأمر المنشأ هي الملكيّة المتأخّرة ، أي بعد وفاته ، فهذه الملكيّة المتأخّرة عن موته حيث أنّه أوجدها الموصي في عالم الاعتبار ، والإنشاء قابلة للإجازة والردّ فإن قلنا بأنّ ردّها لا أثر له فلدليل شرعي لا لعدم إمكانه ، فمقتضى القاعدة تأثير الإجازة لو لا دليل على عدم تأثيره ، وحيث لا دليل على عدم تأثيره فتؤثّر ، فلو لم تكن هذه

ص: 262

الروايات لكنّا نقول أيضا بأنّه ليس لهم الردّ بعد الإجازة في حال الحياة ، لعدم الفرق بين الإجازة في حال الحياة وبعد الوفاة فيما هو المناط.

وفيه : أنّ الفرق هو أنّ الإجازة بعد الوفاة تكون في حال لو لم تكن وصيّة في البين لكان ملكا لهم ، فإجازتهم في ذلك الوقت تشبه إجازة المالك لمعاملة الفضولي ، ولذلك مقتضى القاعدة هو النقل لا الكشف ، فكان إجازة الوارث هي متمّم عقد الوصيّة ، مثل إجازة المرتهن للراهن بيع العين المرهونة ، إذ له حقّ المنع وحقّ الإمضاء ، وكذلك الوارث له حقّ الردّ وحقّ الإجازة.

هذا إذا كان بعد الوفاة ، وأمّا في حال الحياة فالملك طلق للمورث ، ولا حقّ للوارث فيه أصلا كي يجيز ، فإجازته في ذلك الوقت كإجازة الأجنبي لا أثر له ، وليس البحث في أنّ إجازة الوارث هل لها متعلّق في حال الحياة أم لا كي تأتي هذه الكلمات.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن ما ذكرنا من الروايات لكان مقتضى القاعدة عدم تأثير الإجازة في حال الحياة خصوصا فيما إذا ردّ أوّل زمان الموت ، لكنّ الروايات صحيحة صريحة وقد عمل بها الأصحاب ، فلا يبقى مجال للشكّ في الحكم أي في أنّ الإجازة في حال الحياة تؤثّر وليس للوارث الردّ بعد ذلك. ولا فرق في هذا الحكم بين وقوع الوصيّة في حال مرض الموصي وحال صحّته ، ولا بين كون الوارث غنيا أو فقيرا ، كما قال بعض ، وذلك لإطلاق الروايات.

فرع : وهو أنّه هل إجازة الوارث بعد الوفاة هبة للموصى له أو تنفيذ للوصية؟ وبعبارة أخرى : الموصى له يتلقّى الملك من الموصي أو من الوارث؟ إذ لا يمكن أن بكون هبة إلاّ بأن يقال : إنّ الموصى به ينتقل بسبب الإرث إلى الوارث ثمَّ بالإجازة ينتقل إلى الموصى له ، فيكون نقل الملك من الوارث إلى الموصى له مجّانا وبلا عوض ، وهذا معناه أنّه هبة من الوارث إلى الموصى له ، فلا بدّ وأن يجري فيها أحكام الهبة

ص: 263

من اشتراط صحّتها إلى قبض الموصى له ، وسائر أحكام الهبة من جواز رجوع الوارث الواهب إلى عين الموهوبة لو لم يكن الموصى له من ذوي الأرحام ، وغير ذلك من الأحكام.

والتحقيق في هذا الفرع موقوف على أنّ المقدار الزائد على الثلث هل ينتقل بالموت إلى الوارث ، ثمَّ منه بواسطة الإجازة ينتقل إلى الموصى له ، فيكون ابتداء هبة يقينا ، أم لا ينتقل إلى الوارث أصلا بل ينتقل إلى الموصى له ، غاية الأمر للإجازة دخل في هذا الانتقال وبدونها لا ينتقل ، لأنّه للوارث حقّ الإجازة والردّ؟

وبعبارة أخرى : يتلقّى الموصى له الملك عن الموصي ، والإجازة من قبيل إذن المرتهن في بيع الرهن إعمال حقّ من قبل المرتهن ، وإلاّ فالمشتري يتلقّى الملك من نفس البائع الراهن ، فبناء على هذا ليست بهبة يقينا ، لأنّ الموصى به ينتقل من الموصي إلى الموصى له ، والإجازة تكون تنفيذا لفعل الموصي ، لا أنّها ابتداء هبة وعطيّة من المجيز.

ثمَّ بعد وضوح هذه المقدمة ، فالظاهر من أدلّة الوصيّة كتابا وسنّة أنّ مقدار الوصيّة لا تنتقل إلى الوارث ، غاية الأمر إذا كانت زائدة على ثلث التركة انتقال الزائد إلى الموصى له مشروط بإجازة الوارث ، وللوارث حقّ الإجازة والردّ ، فإذا أجاز تكون إجازته تنفيذا لفعل الموصي ، لا انّ إجازته ابتداء هبة وعطيّة من قبله كما توهّمه بعض المخالفين ، وإلاّ فالحكم عندنا إجماعيّ ولم يخالفه أحد منّا فيه.

وها هنا تكلّموا كثيرا في أنّ المستفاد من أدلّة الوصيّة وأدلّة الإرث - أيّ واحد من الأمرين - هل هو انتقال المال إلى الورثة بعد الموت أوّلا ثمَّ بالإجازة تنتقل إلى الموصى له ، أو ابتداء ينتقل إلى الموصى له بشرط الإجازة؟

والأدلّة من الطرفين لكلّ واحد من القولين لا يخلو من نظر وإشكال ، ولكنّ الظاهر تخصيص أدلّة الإرث بأدلّة الوصيّة كما تقدّم منّا.

وأيضا تكلّموا كثيرا في الثمرات التي تترتّب على كلّ واحد من القولين ، مثلا لو

ص: 264

قلنا بأنّ الإجازة تنفيذ لفعل الموصي ، فالنماء بعد الموت وقبل الإجازة للموصى له. وأمّا إن قلنا بأنّ الإجازة هبة وعطيّة من الوارث ، فالنماء فيما بين الإجازة وموت الموصي للوارث ، لأنّ المال ملكه فيكون له منفعته ونماؤه.

فلو أوصى له شاة ومات وفرضنا أنّه زائد على الثلث ، فحليبها وصوفها فيما بين موت الموصي وإجازة الوارث للوارث ، وهكذا في سائر الموارد. وكذلك الأمر في النفقة إذا كان الموصى به حيوانا ، فبناء على الأوّل - أي كون الإجازة تنفيذا لما فعله الموصي - فالنفقة بعد الموت إلى زمان الإجازة على الموصى له ، وبناء على القول الثاني - أي كون الإجازة هبة - فالنفقة على الوارث.

فرع : ويعتبر الثلث - الذي إذا كانت الوصيّة أزيد منه يفتقر إلى إجازة الوارث أن يكون بذلك المقدار ولا يكون أزيد منه - حال الوفاة لا حال الوصيّة ، فلو كانت وصيّته في زمان الوصيّة أقلّ من الثلث أو مساويا معه ولكن في زمان الوفاة صار أزيد فالاعتبار بحال الوفاة ، ويحتاج إلى إجازة الوارث في مقدار الزيادة. وبالعكس لو كان ما أوصى به حال الوصاية أزيد من الثلث ولكن صار فيما بعد حال الوفاة أقلّ من الثلث بواسطة زيادة ثروته لكثرة أرباحه في معاملاته فلا يحتاج إلى الإجازة ، فالمدار في كون الموصى به لا يزيد على الثلث وإلاّ يفتقر إلى الإجازة هو الثلث حال الوفاة ، لا حال الإيصاء.

ووجهه : أنّ مفاد الروايات التي قدّر الوصيّة التي لا يحتاج إلى الإجازة بأن لا يكون أزيد عن الثلث هو أن لا يكون أزيد من ثلث ما ترك ، وهذا العنوان لا يصدق إلاّ على الثلث حال الوفاة.

فقوله علیه السلام في رواية أحمد بن إسحاق المتقدّم « ليس يجب لها في تركتها إلاّ

ص: 265

الثلث » (1) أي الثلث من تركتها ، ولا يصدق الثلث من التركة إلاّ على الثلث حال الوفاة ، لا على ثلث ماله في أيّ وقت من الأوقات.

وأيضا لأنّ حال الوفاة وقت تعلّق الوصيّة بالمال واستقرار الملك للوارث والموصى له ، لا حال الوصيّة ، ولذلك لو عاش الموصي زمانا طويلا بعد الوصيّة يكون جميع المال ملكا طلقا له لا يستحقّ الوارث شيئا منه ولا الموصى له ، فزمان استحقاقهما هو بعد الوفاة ، فلا بدّ وأن يكون التقدير بذلك اللحاظ وباعتبار زمان الاستحقاق وهو زمان الوفاة.

واستشكل في المسالك تبعا لجامع المقاصد على إطلاق هذه العبارة وقال : وهو يتمّ على إطلاقه مع كون الموصى به قدرا معيّنا كعين أو مائة درهم مثلا أو بجزء من التركة مع كونه حالة الموت أقلّ من زمان الوصيّة أو مساويا ، لأنّ تبرّعه بالحصّة المذكورة زائدة يقتضي رضاه بها ناقصة بطريق أولى ، أمّا لو انعكس أشكل اعتبار وقت الوفاة للشكّ في قصد الزائد وربما دلّت القرائن على عدم إرادته على تقدير زيادته كثيرا حيث لا يكون الزيادة متوقّعة غالبا (2).

وفيه : أنّ ظهور الألفاظ حجّة في تشخيص المراد واستكشافه حتّى وإن ظنّ بالخلاف ، نعم لو علم بأنّ الظاهر ليس بمراد فيسقط عن الحجيّة ، لأنّ حجّية كلّ أمارة مقيّدة بعدم العلم بالخلاف ، بل ومع العلم بمؤدّاه ، لأنّ حجّية العلم ذاتيّة ، فلا يبقى محلّ لجعل الحجيّة مع العلم بمؤداه.

ولزوم القصد إلى التمليك في مقام التمليك وإن كان من المعلوم ، ولكن ظهور لفظه في أنّ مراده ما يكون اللفظ ظاهرا فيه يكون أمارة على أنّ مراده ومقصوده هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه. واحتمال أن لا يكون مراده ما هو ظاهر اللفظ ملغى في نظر

ص: 266


1- تقدّم في ص 257 ، رقم (1).
2- « المسالك » ج 1 ، ص 393.

الشارع ولا يعتنى به.

نعم لو حصل العلم ولو كان بتوسّط القرائن بأنّ ما هو ظاهر اللفظ ليس بمراد ، فالظاهر ليس بحجّة. وأمّا الشكّ في أنّه هل قصد تمليك الزيادة المتجدّدة أم لا ، لا يضرّ بلزوم الأخذ بما هو ظاهر اللفظ واستكشاف القصد من ذلك الظاهر.

فهذا الإشكال الذي أورده المحقّقان في جامع المقاصد (1) والمسالك على إطلاق عبارة الشرائع (2) والقواعد (3) يمكن الجواب عنه بما ذكرناه.

وفي المسالك أشار إلى ما ذكرنا بقوله : ووجه إطلاق المصنّف وغيره اعتبار حال الوفاة الشامل لذلك النظر إطلاق اللفظ الشامل ذلك (4).

فرع : لو أوصى لرجل بثلث ماله أو بربعه أو بكسر آخر ثمَّ قتله قاتل خطأ أو جرحه جارح كذلك ، فوصيّته ماضية من ماله منضمّا إليه دينه وأرش جراحته. والمقصود أنّ دية المقتول خطاء أو عمدا إن صالحوا مع القاتل بالدية تكون جزء المال في مقام إخراج الثلث أو الربع أو غير ذلك ، ولا يكون مخرج الثلث أو الربع أو غيرهما من الكسور الذي أوصى بها المال الذي كان يملكه قبل وقوع الجناية فقط ، بل المال الذي يملكه بعد الوصيّة من دية قتله أو أرش جراحته أيضا داخل في مجموع الكسر الذي أوصى به ، فيخرج الثلث من المجموع.

مثلا لو كان ماله قبل ورود الجناية عليه ثلاثة آلاف دينار ، وبعد أن قتل خطأ زاد عليه ألف دينار من قبل ديته ، وهو أوصى بربع ماله ، فيخرج الربع من مجموع ماله وديته ، أي من أربعة آلاف دينارا ، فيعطى للموصى له ألف دينار.

ص: 267


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 116.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 246.
3- « قواعد الأحكام » ج 2 ، ص 297.
4- « المسالك » ج 1 ، ص 394.

والدليل عليه الأخبار :

منها : رواية محمّد بن قيس قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصيّة من ماله ثلث أو ربع ، فيقتل الرجل خطأ يعنى الموصي؟ فقال : « يجاز لهذا الوصيّة من ماله ومن ديته » (1).

ومنها : رواية السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين : من أوصى بثلثه ثمَّ قتل خطأ ، فإنّ ثلث ديته داخل في وصيّته » (2).

ومنها : أيضا رواية أخرى عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى لرجل بوصيّة مقطوعة غير مسماّة من ماله ثلثا أو ربعا أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ قتل بعد ذلك الموصي فودي ، فقضى في وصيّته أنّها تنفذ من ماله ومن ديته كما أوصى ».

وهذه الروايات صريحة في دلالتها على أنّ ما يملكه بعد الموت داخل في ما أوصى به. وبعبارة أخرى : يحسب الثلث أو الربع أو ما هو أقلّ أو أكثر من ذلك من مجموع ما كان يملكه قبل الموت وما يملكه بعد الموت بواسطة ديته أو غير ذلك.

ولا فرق بين ما يملكه الموصي بعد الموت بواسطة دية قتل الخطأ ، أو بواسطة قتل العمد بعد صلح الورثة مع القاتل بأخذ الدية ، وإن كان الحكم أوّلا أنّ للورثة حقّ القصاص ، ولكن بعد ما صالحوا مع القاتل بالدية تكون الدية عوضا عن نفس المجني عليه فهو أحقّ بها ، فإذا كان الإنسان يملك عوض ماله فهو أولى بأن يملك عوض

ص: 268


1- « الكافي » ج 7 ، ص 63 ، باب النوادر ، ح 21 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 227 ، باب الرجل يوصى من ماله بشي ء. ، ح 5536. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 207 ، ح 822 ، باب وصيّة من قتل نفسه أو قتله غيره ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 372 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 14 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 7. « الفقيه » ج 4 ، ص 227 ، باب الرجل يوصى من ماله بشي ء. ، ح 5537. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 193 ، ح 774 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 372 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 14 ، ح 2.

نفسه ، بأن يكون في حكم ماله يصرف في ما هو من شؤونه ، من أداء ديونه والعمل بوصاياه.

هذا بناء على أنّ اعتبار الملكيّة للميّت لا معنى له لعدم مساعدة العرف والعقلاء ، وأمّا لو قلنا بأنّه يملك حقيقة فلا إشكال وتكون كسائر أمواله.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه يملك الدية بعد الوفاة والموت ، لأنّ الموت علّة أو موضوع لها ، فتكون ملكيّته لها أو كونها في حكم ماله متأخّرة عن الوفاة ، فلا تشملها أدلّة أنّ الوفاء بالوصيّة من الثلث عند الوفاة ، والدية ليست من ملكه عند الوفاة ومقارنة لها بل بعدها.

فليس بشي ء لأنّ هذا التأخّر رتبيّ لا زماني ، بل لا يمكن أن يكون ، وإلاّ يلزم إمّا انفكاك المعلول عن العلّة زمانا ، وإمّا انفكاك الحكم عن الموضوع ، وكلاهما محالان.

هذا ، مضافا إلى النصوص الواردة في المقام من عدم الفرق بين دية الخطأ ودية العمد بإطلاقها أو بالتصريح.

منها : رواية يحيى الأزرق ، عن أبي الحسن علیه السلام في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دينه؟ قال : « نعم ». قلت : هو لم يترك شيئا ، قال : « إنّما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه » (1).

ومنها : خبر عبد الحميد : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن رجل قتل وعليه دين ، وأخذ أهله الدية من قاتله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : « نعم ». قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : « إنّما إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا الدين » (2).

ص: 269


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 225 ، باب قضاء الدين من الدية ، ح 5532 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 245 ، ح 952 ، باب في الزيادات ، ح 45 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 411 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 31 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 225 ، باب قضاء الدين من الدية ، ح 5532 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 192 ، ح 416 ، باب الديون وأحكامها ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 111 ، أبواب الدين والقرض ، باب 24 ، ح 1.

وهاتان الروايتان ظاهر في عدم الفرق بين دية العمد والخطاء بالإطلاق.

وأمّا ما يدلّ على الصراحة فهو خبر عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام قال : قلت : فإنّه قتل عمدا وصالح أوليائه قاتله على الدية ، فعلى من الدين على أوليائه من الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال : « بل يؤدّوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنّه أحقّ بديته من غيره » (1).

فهذا الخبر نصّ في أنّ دية قتل العمد أيضا تصرّف في أداء ديونه والعمل بوصاياه.

وأمّا القول بأنّ المجعول ابتداء في قتل العمد هو حقّ القصاص للوارث ، غاية الأمر أنّه للوارث أن يصالح حقّه هذا مع القاتل بمقدار الدية أو أقلّ أو أكثر لا أنّ المجعول هي الدية أو حقّ الاقتصاص كي لو اختار الدية يكون ما يأخذ دية ويكون عوض نفس المجني عليه ، فيدخل في ملك الميّت أو يكون بحكم ماله فيؤدّي منها ديونه.

فمن قبيل الاجتهاد مقابل النصّ الصريح الصحيح المعمول به عند الأصحاب ، فلا ينبغي الاعتناء إلى أمثال هذه الكلمات ، ولذلك ادّعى بعضهم الإجماع على عدم الفرق بين الدية في قتل الخطاء أو في قتل العمد بعد مصالحة الورثة حقّ اقتصاصهم بمقدار الدية وأخذهم الدية عن القاتل ، خصوصا مع تعبيره علیه السلام « بأنّه أحقّ بديته من غيره ».

فرع : لو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ ، وربما يشترط كونه قدر الثلث أو أقلّ. هذا هو فتوى المشهور من أصحابنا.

ص: 270


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 112 ، باب القود ومبلغ الدية ، ح 5220 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 92 ، أبواب القصاص في النفس ، ح 2.

والأصل فيه رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم ، وأذن له عند الوصيّة أن يعمل بالمال وأن يكون الربح بينه وبينهم؟ فقال علیه السلام : « لا بأس به من أجل أنّ أباه قد أذن له في ذلك وهو حيّ » (1).

وأيضا رواية محمّد بن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن خالد بن بكير الطويل قال : دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال : يا بنيّ اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به وخذ نصف الربح وأعطهم النصف وليس عليك ضمان ، فقدّمتني أمّ ولد أبي بعد وفاة أبي إلى ابن أبي ليلى فقالت : إنّ هذا يأكل أموال ولدي. قال : فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقال لي ابن أبي ليلى إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه ثمَّ أشهد عليّ بن أبي ليلى أنّ أنا حرّكته فأنا له ضامن فدخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام فقصصت عليه قصّتي ثمَّ قلت له : ما ترى؟ فقال علیه السلام : « أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردّه ، وأمّا فيما بينك وبين اللّه عزّ وجلّ فليس عليك ضمان » (2).

ثمَّ إنّ ظاهر هاتين الروايتين الحكم بصحّة الوصيّة بالمضاربة وعدم الضمان للعامل لو خسرت المعاملة ، وأيضا مقتضى الظاهر في كلتا الروايتين كون الأولاد صغارا.

أمّا رواية محمّد بن مسلم فظهورها في كون الأولاد صغارا فمن أجل قول محمّد بن مسلم أنّه سأل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم ، فإنّ الوصيّة بولده إلى رجل لا يصحّ إلاّ أن يكونوا صغارا ، وظاهر الرواية أنّها وصية صحيحة.

وأمّا رواية خالد بن بكير فصرّح فيها بذلك في قول أبيه له « يا بنيّ اقبض مال

ص: 271


1- « الكافي » ج 7 ، ص 62 ، باب النوادر ، ح 19 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 227 ، باب الرجل يوصى إلى رجل بولده. ، ح 5538. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 236 ، ح 921 ، باب الزيادات الوصايا ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 478 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 92 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 61 ، باب النوادر ، ح 61 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 228 ، باب الرجل يوصى إلى رجل بولده. ، ح 5539. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 236 ، ح 919 ، باب الإقرار في المرض ، ح 37 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 478 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 92 ، ح 2.

إخوتك الصغار واعمل به » ومعلوم أنّ للأب جعل القيّم لولده الصغار بعد موته كي يدبّر أمورهم وشؤونهم ، وأيضا له أن يجعل أجرة له بإزاء عمله بما يرى من صلاحهم ، فإذا رأى من صلاحهم أن يجعل من يعمل في أموالهم بالمضاربة فله أن يوصى بذلك إلى رجل أمين عنده ويعيّن حصّته من الربح أجر عمله ، ولا إشكال في ذلك وفي فتوى المشهور بصحّة مثل هذه الوصيّة. وهذا إذا كان فتواهم في مورد الروايتين أو الوصية بالمضاربة في مال أولاده الصغار.

وأمّا الظاهر من بعض العبائر هو صحّة الوصيّة بالمضاربة على ورثته مطلقا ، كانوا بالغين أم صغارا ، كالعنوان الذي ذكرنا في أوّل هذا الفرع تبعا للشرائع (1) وهو قولنا : لو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ.

ولا شكّ في أنّ إطلاق الورثة يشمل الصغير والكبير ، وأيضا يشمل ما إذا كان ما عيّنه عن حصّة العامل ، أي نصف الربح أزيد من الثلث ، أو أقلّ ، أو المساوي.

ثمَّ إنّه ربما يأتي إشكال : وهو أنّه لو كانت الورثة كبارا فليس للموصي أن يوصي بالمضاربة في أموالهم ، خصوصا إذا كانت مدّة المضاربة كثيرة ، مثل خمسين سنة والربح الذي يعود إليهم قليل ، فيرجع المضاربة حينئذ إلى منعهم عن التصرّف في ملكهم مدّة طويلة إذا أوصى بتلك المدّة وقلنا بوجوب إنفاذ تلك الوصيّة لقوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (2).

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال : بأن الوصيّة يمكن أن تكون صحيحة وتكون مشروطة بإجازة المالك إن كانت الورثة كبارا ، فإذا أجازوا فلا يأتي كلا الإشكالين ، لأنّها بإذنهم ، غاية الأمر في صورة بلوغ الوارث تكون الوصيّة مثل سائر

ص: 272


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 246.
2- البقرة (2) : 181.

المعاملات الفضوليّة ، فيحتاج إلى إجازة المالك.

وأمّا إذا كانوا صغارا ، فله الولاية عليهم وجعل القيّم عليهم ، وأن يفعل كذا وكذا.

وأمّا الإشكال على إطلاق العبارة بأنّها تشمل ما إذا كانت حصّة العامل أزيد من الثلث فتكون الوصيّة باطلة فيما زاد ، إلاّ أن تكون بإجازة الوارث.

ففيه : أوّلا : أنّ الربح ليس ممّا ترك ، بل هو نتيجة سعي العامل ، وإلاّ فالمال الذي تركه الميّت باق إمّا عينا أو ما يقابله من ثمنه ، ولم يتلف منه شي ء مع وجود الربح ، وإلاّ يكون فرض الخسران لا الربح. وأمّا مع عدم وجود الربح فلا يأتي هذا الإشكال أصلا ، لأنّه حينئذ لا حصّة للعامل كي يقال حصّته أزيد من الثلث ، فلا يرد إشكال على كلا التقديرين ، سواء كان هناك ربح أو لم يكن ، وسواء كان على تقدير وجوده أزيد من الثلث أو لم يكن.

وثانيا : أنّ الربح يحدث على ملك العامل ، بمعنى أنّه على فرض صحّة المضاربة حصّة العامل من أوّل حدوثه يكون حدوثه على ملك العامل ، لا أنّه يحدث على ملك الموصي المورث ، أو يحدث على ملك الورثة ثمَّ تنتقل إلى العامل ، فليست من تركة الميت كي لا تنفذ في أزيد من الثلث.

وقال في جامع المقاصد (1) ما مفاده : أنّه يلزم من فساد هذه المضاربة عدم فسادها ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال. وبيّن هذا المطلب : أنّ فسادها على تقدير ثبوته إنّما يكون لتفويت ما زاد على الثلث من التركة تبرّعا ، وذلك إنّما يكون على تقدير أن يكون حصّة العامل أزيد من أجرة المثل بزيادة على الثلث ، وأن تكون ذلك من نماء مال التركة إذا صحّت المضاربة ليكون الشراء نافذا ، فإذا فسدت المضاربة لم ينفذ الشراء فلم يتحقّق الربح ، فانتفى التصرّف في الزائد على الثلث ، فانتفى المقتضي للفساد ، فوجب الحكم بالصحّة. ومتى أدّى فرض الفساد إلى عدمه كان

ص: 273


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 118.

فرضه محالا.

وقال ابن إدريس (1) ببطلان هذه الوصيّة لأنّه وصيّة بالباطل ، ووافق ابن أبي ليلى حيث قال لخالد بن بكير الطويل بعد ما سمع منه ما أوصاه أبوه من المضاربة والعمل في مال إخوته الصغار وأخذ نصف الربح لنفسه وإعطاء النصف الآخر لإخوته : إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه.

ووجه البطلان بأنّ الوصيّة لا تنفذ إلاّ في ثلث المال قبل موته ، والربح تجدد بعد موته ولم يكن له وجود قبل موته ، فكيف تنفذ وصيّة دخوله فيه.

وفيه : أنّ منافع ما يملكه الميّت قبل موته تصحّ الوصيّة فيها مع أنّها توجد بعد موته ، فلا يعتبر في صحّة الوصيّة وجود الموصى به قبل الموت ، بل الوصيّة تنفذ في ثلث ما يملكه الميّت ، سواء كان وجوده قبل موت الموصي أو كان من منافع ما يملكه وإن كان وجود تلك المنافع بعد موته ، فهي باعتبار أنّها تابعة لما كان يملكه قبل موته يصحّ الوصيّة فيها وإن كان حدوثها في ملك الوارث إذا وجدت بعد موت المورث.

وبعبارة أخرى : حينما كانت الأعيان في ملك الموصي وكان حيّا كانت تلك المنافع متوقّعة الوجود ، فلذلك تحسب من أمواله وتدخل في ثلثه ، خصوصا إذا كانت من قبيل الأثمار للأشجار أو الحمل للدابّة.

ولذلك لم يشكل أحد في جواز الوصيّة بهما وأمثالهما فكلام ابن إدريس وابن أبي ليلى لا أساس لهما ، فالروايتان ليستا مخالفتان للقواعد الأوّليّة في باب الوصيّة وقد عمل بهما الأصحاب ، فلا إشكال في حجّيتهما ولزوم العمل بهما ، أي في مورد الوصيّة بالمضاربة في أموال أولاده الصغار.

وأمّا إذا كانت الورثة كبارا وبالغين ، أيضا لا مانع من صحّة الوصيّة. نعم تكون من قبيل المعاملة الفضوليّة فتكون موقوفا على الإجازة ، من جهة أنّ المال بعد الموت

ص: 274


1- « السرائر » ج 3 ، ص 192.

ملك للورثة البالغين ، وليست للمورّث الموصي ولاية عليهم.

إن قلت : إنّ له الوصيّة والتصرّف بمقدار الثلث من ماله وإن كانت ورثته من الكبار والبالغين ، وفي الزائد موقوف نفوذها على الإجازة.

قلنا : أوّلا أنّ المورد ليس عن ذلك القبيل بأن يملّك مقدارا من ماله للموصى له وصيّة تمليكيّة كي تكون نافذة في مقدار الثلث وفي الزائد تكون موقوفا على الإجازة ، بل إيصاء للوصي أن يضارب بهذه الكيفيّة ، وإن كانت الورثة صغارا لا يحتاج إلى إجازتهم ، لأنّ وليّهم أذن وأجاز.

وأمّا إن كانوا كبارا فليس لأحد التصرّف والتجارة في أموالهم إلاّ بإذنهم وإجازتهم ، فليست وصيّته للعامل المضارب كي تكون نافذة في مقدار الثلث ، بل يكون أذن في التجارة والعمل بإزاء نصف الربح.

وثانيا : تقدّم أنّ الربح ليس من أموال الميّت كي يكون بمقدار الثلث نافذا غير محتاج إلى الإجازة ، فإن لم يكن أذن الأب بالتجارة في أموال أولاده وصيّة بمقدار من ماله فلا مجال لأن يقال بالنفوذ في مقدار الثلث أو أقلّ ، سواء كانوا صغارا أو كبارا بل إذا كانوا صغارا يؤثّر إذنه مطلقا ، وإذا كانوا كبارا لا أثر لإذنه ويكون من قبيل الفضولي ليس للوصي التصرّف مطلقا إلاّ بإجازتهم.

فرع : لو أوصى بواجب وغيره ، فإن وسع الثلث عمل بالجميع ، وإن قصر ولم يجز الورثة بدأ بالواجب من الأصل وكان الباقي من الثلث ، ويبدأ بالأوّل فالأوّل ، ولو كان الكلّ غير واجب بدأ بالأوّل فالأوّل حتّى يستوفي الثلث.

أقول : الواجب قسمان : ماليّ وبدنيّ. والواجب المالي تارة مالي محض كالزكاة والخمس والكفارات الماليّة ، لا مثل الصوم شهرين متتابعين في بعض الكفارات أو عشرة أيّام أو ثلاثة أيّام أو غير ذلك في البعض الآخر. والكفّارات الماليّة كعتق رقبة

ص: 275

أو الطعام ستّين مسكينا أو إعطاء مدّ من الطعام وأمثال ذلك. وأخرى : ماليّ مشوب بالبدن كالحجّ الواجب.

وأمّا الواجب البدني فهو مثل الصلاة والصوم وغيرهما ممّا ليس المطلوب فيها صرف المال ، بل المطلوب فيها الأعمال البدنيّة.

أمّا القسم الأوّل لو أوصى به يخرج من أصل المال ، بل يخرج من أصل المال وإن لم يوص به ، لأنّها في الحقيقة ديون تعلّقت بماله في حياته ويجب أداؤها والإرث فيما سواها وبعد أدائها.

وأمّا القسم الثاني فلا يخرج من أصل المال بل يخرج من الثلث ، لعدم وجوب إخراجها من تركة الميّت إلاّ إذا أوصى بها ، فتكون كالوصايا التبرعيّة لا تنفذ بدون إجازة الورثة إلاّ في الثلث.

فبناء على هذا لو كان الواجب الذي ذكرنا في العنوان واجبا ماليّا وأوصى به مع ما ليس بواجب أصلا ، فمقتضى القواعد الأوّليّة وإطلاقات أدلّة وجوب العمل بالوصيّة وإنفاذها في الثلث فقط إلاّ مع إجازة الورثة أنّه يجب العمل بالجميع إن وسّع الثلث لذلك. وأمّا إن قصّر ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فيبدأ بالواجب من الأصل وغير الواجب من الثلث ، الأوّل فالأوّل.

مثلا لو كانت تركته تسعمائة دينار وأوصى بحجّ واجب وإعطاء مصارف الزواج لزيد مثلا مائتي دينار ، ومصارف الزواج لعمرو أيضا مائتي دينار ، وأجرة الحجّ يفرض أنّها ثلاثمائة دينار ، فالحج الواجب أوّلا يخرج من أصل التركة ثلاثمائة دينار ، فيبقى التركة ستمائة دينار بعد إخراج ثلاثمائة للحجّ الواجب وثلث الباقي مائتان.

فبناء على إنفاذ الوصيّة في غير الواجب المالي على الترتيب - أي الأوّل فالأوّل لا يبقى لزواج عمرو مال ، لأنّ الوارث لم يجز والثلث لا يسع للجميع ، فإذا بنينا على إنفاذ الوصيّة في غير الواجب المذكور الأوّل فالأوّل ، فلا يبقى محلّ للوصيّة الثالثة - أي

ص: 276

زواج عمرو - فتبطل بالنسبة إليه.

وذلك لأنّ الشارع لم يمض تصرّفات الموصي المتبرّعة في أمواله بتمليكه بعد موته لغيره في أزيد من ثلث ما يملكه إلاّ بإجازة الورثة ، ولا شكّ في أنّ الوصيّة في غير الواجبات من التبرّعات ، بل وحتّى في الواجبات غير المالي ، فلا بدّ من إخراجها من الثلث فيما إذا لم يجز الورثة كما هو المفروض.

وأمّا كونها أوّلا فأوّلا فإمّا من جهة تصريح الموصي بذلك بأن قال : خذوا نائبا لي في الحجّ الذي كان واجبا عليّ وما أديته ، وأعطوا زيدا مائتي دينار لزواجه ، ثمَّ أعطوا لعمرو كذلك مائتي دينار لزواجه ، أو فأعطوا لعمرو أو أعطوا عمروا بعد زواج زيد أو بعد إعطائكم زيدا.

والحاصل : أنّ الترتيب قد يستفاد من تصريح الموصي بذلك ، وقد يستفاد من ظواهر الألفاظ ، وقد يستفاد من القرائن الحاليّة والمقاليّة ، ولو كانت تلك القرينة هو الترتيب الذكري.

هذا كلّه فيما إذا كانت الوصيّة مركبة من الواجب المالي وغيره ، وأمّا إذا كان كلّها واجبا غير مالي ، أو كان كلّها غير واجب أصلا بل كان من التبرّعات ، أو كان مركّبا من الواجب غير المالي وغير الواجب أصلا ، فالحقّ أنّها تخرج من الثلث. وإن قيل بأنّ الواجبات غير الماليّة كالصلاة والصوم أيضا تخرج من الأصل ، ولكنّ الحقّ خلافه ، لما أشرنا إليه وهو أنّها أيضا من التبرّعات ، وكذلك بعد الفراغ من أنّها من الثلث لا من الأصل يكون إخراجها أوّلا فأوّلا إن لم يسع الثلث للجميع.

أمّا إخراج جميع هذه الأقسام الثلاثة - أي فيما إذا كان جميع ما أوصى بها غير واجب أصلا ، أو كان جميعها واجبا غير مالي ، أو كان مركّبا منهما - من الثلث لا من الأصل ، فلأنّها ليست مثل الديون بحيث يجب إخراجها ، ولو لم تكن وصيّة في البين بل وصيّة تبرعيّة بها ، فلا تنفذ إلاّ في الثلث إلاّ بإجازة الورثة.

ص: 277

وأمّا كونها أوّلا فأوّلا فيما إذا لا يسع الثلث للجميع ، فمثل ما ذكرنا وتقدّم من استفادة الترتيب إمّا من تصريح الموصي بذلك ، أو من الظهور اللفظي ككونها عقيب الفاء أو ثمَّ ، أو من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ولو كانت هي الترتيب في الذكر كما تقدّم.

وأمّا لو لم يستفد الترتيب من تصريحه أو ظهور لفظه بما ذكرنا ، أو صرّح بعدم الترتيب في مقام الوصيّة كأن قال : لا تقدّموا بعض هذه على بعض ، فإن لم يسع الثلث للجميع ولم يجز الورثة فيما زاد ، فيقسّط النقص على الجميع بنسبة نقص الثلث عن مجموع الوصايا.

مثلا لو أوصى وصيّة تبرعية لأحدهم بمائتين وللآخرين كلّ واحد منهما بمائة فالمجموع يصير أربعمائة يفرض أنّ الثلث ثلاثمائة فالثلث ينقص عن الوصيّة بالربع أي يكون الثلث ثلاثة أرباع الوصيّة ، فينقص عن نصيب كلّ واحد منهم ربع ما أوصى له ، فمن صاحب المائتين يسقط خمسين ، ومن الآخرين من كلّ واحد منهما خمسة وعشرين ، وبعد إسقاط ما ذكرنا يبقى مجموع الوصيّة ثلاثمائة وهو مساو للثلث. وهكذا الأمر في جميع موارد نقص الثلث عن مجموع الوصيّة فيما إذا لم يفهم ترتيب أو فهم عدمه.

ثمَّ إنّه لو اشتبه الأمر ولم يكن دليل على الترتيب ولا على عدمه ، كما أنّه لو عدّد أشياء ثمَّ أوصى بمجموعها وكان الثلث أقلّ ، فهل يقسّط النقص على الجميع أو يقرع؟ وجهان ، والأظهر هو الأوّل.

هذا فيما إذا عيّن مقدار الموصى به لكلّ واحد منهم ، وأمّا إذا لم يعيّن فيقسّم بينهم بالسويّة ، كما إذا قال : أعطوا ثلث مالي بعد وفاتي زيدا وعمروا وبكرا ، أو قال : ملّكت ثلث أموالي هؤلاء وعددّهم.

وها هنا رواية تدلّ على نفوذ الوصيّة أوّلا فأوّلا فيما إذا يفي الثلث بالجميع ، بمعنى أنّه يبدأ بإنفاذ الوصيّة بما أوصى أوّلا ، ثمَّ بما بعدها ، وهكذا حتّى يتمّ الثلث ، وبطل

ص: 278

الزائد مع عدم إجازة الوارث.

وهي ما رواه حمران عن أبي جعفر علیه السلام في رجل أوصى عند موته وقال : أعتق فلانا وفلانا وفلانا حتّى ذكر خمسة ، فنظر في ثلثه فلم يبلغ ثلثه أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين أمر بعتقهم قال علیه السلام : « ينظر إلى الذين سمّاهم وبدأ بعتقهم فيقوّمون وينظر إلى ثلثه ، فيعتق منه أوّل شي ء ذكر ، ثمَّ الثاني ، ثمَّ الثالث ، ثمَّ الرابع ، ثمَّ الخامس فإن عجز الثلث كان في الذين سمى أخيرا ، لأنّه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك » (1).

وهذه الرواية تدلّ على أنّ الترتيب الذكري كاشف وأمارة على الترتيب الواقعي ، خصوصا بملاحظة التعليل الذي ذكره علیه السلام لحكمه بإنفاذ الوصيّة الأوّل فالأوّل.

فتحصّل ممّا ذكرنا في هذا الفرع أنّه إذا أوصى بوصايا متعدّدة ، فإن كان كلّها أو بعضها واجبا ماليّا ، يخرج ذلك الواجب المالي من الأصل ، سواء زاد على الثلث أم لم يزد. وأمّا إن لم يكن فيها واجب مالي ، سواء كان فيها واجب بدني أو لا ، أي سواء كان كلّها من واجبات بدنيّة أو بعضها أو لم يكن فيها واجب أصلا ، فيكون كلّها من الثلث ولا يكون في أزيد منه إلاّ بإجازة الوارث.

هذا فيما إذا كان الثلث وافيا بالجميع ، وأمّا إن لم يف بالجميع فقيل بتقديم الواجب على غيره ويخرج من الثلث ابتداء ثمَّ تصل النوبة إلى التبرّعات. ولكن عرفت أنّ الواجب البدني في عرض سائر المتبرّعات ، ولا تقدّم له عليها.

ثمَّ إنّه إن استفدنا الترتيب من تصريح الموصي أو من ظهور ألفاظه وضعا أو بتوسّط القرائن الحاليّة أو المقاليّة فيؤخذ به. وأمّا إن لم نستفد شيئا من هذا القبيل ،

ص: 279


1- « الكافي » ج 7 ، ص 19 ، باب من أوصى بعتق أو صدقة أو حجّ ، ح 15 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 212 ، باب الوصيّة بالعتق والصدقة والحجّ ، ح 5493 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 197 ، ح 778 ، باب الوصيّة بالثلث وأقل منه وأكثر ، ح 20 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 457 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 66 ، ح 1.

أو فهمنا من كلامه عدم الترتيب لتصريحه أو من القرائن ، فمقتضى القاعدة هو التقسيط وورود النقص على الجميع ، فينقص عن كلّ وصية من تلك الوصايا بنسبة نقص الثلث إلى مجموع الوصايا كما تقدّم ، لا القرعة كما توهّم.

نعم مقتضى رواية حمران المتقدّم هو الأخذ بالأوّل فالأوّل ، لكن بيّنّا أنّه بواسطة كون الترتيب الذكري أمارة على الترتيب الواقعي كما يظهر من تعليله علیه السلام بذلك حكمه بالإنفاذ أوّلا فأوّلا إلى أنّ يتمّ الثلث. وأمّا لو علم أنّه لم يرد الترتيب الواقعي ، بل أراد أن يكون الثلث لجميعهم ، فلا يبقى محلّ للأخذ بالأوّل فالأوّل.

فرع : لو أوصى لشخص بثلث ما يملك ، ولآخر بربعه ، ولثالث بسدسه ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فبناء على استفادة الترتيب من هذه الوصيّة ، إمّا من ترتيب الذكري ، أو من القرائن المقاميّة أو الحاليّة أو المقاليّة ، أو من الظهور الوضعي كما إذا عقب الوصيّة الأولى بالفاء أو بثمّ في الثانية والثالثة وهكذا ، أو من جهة كون الترتيب الذكري أمارة على الترتيب الواقعي كما أشرنا إليه في بيان رواية حمران ، فيكون الثلث للشخص الأوّل وبطلت الوصيّة لمن عداه.

وأمّا بناء على عدم استفادة الترتيب ، أو استفادة عدمه من القرائن المقاميّة ، أو تصريحه كما لو قال : لا تقدّموا أحدا على أحد في هذه الوصية بل يكون ثلثي لكلّهم ، فمقتضى القاعدة هو تقسيط الثلث على كلّهم ، أو القرعة إذا كان المورد واجدا لشرائط الاستخراج بالقرعة.

ولكن الظاهر أنّ مورد القرعة ما يكون له واقع وصار مجهولا في الظاهر. وما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّ الوصايا المتعدّدة مقدار ما أوصى به في كلّ واحد منها معلوم ظاهرا وواقعا ، غاية الأمر لا يمكن العمل بها ، لأنّ العمل بمجموعها يوجب إخراج أزيد من الثلث ، وهو لا يجوز إلاّ بإجازة الورثة ، والمفروض أنّهم لم يجيزوا فيردّ عليهم

ص: 280

نقص بنسبة نقص الثلث عن المجموع.

مثلا لو كان مجموع الوصايا يبلغ الألف ، والثلث خمسمائة ، فالنسبة بين الثلث ومجموع الوصايا هي النصف ، فيسقط من كلّ وصية نصف ما أوصى به. فإذا أوصى لزيد مثلا بستمائة ، ولعمرو مثلا بثلاثمائة ، ولبكر بمائة فمجموع الوصايا يبلغ الألف ، والمفروض أنّ الثلث خمسمائة والنسبة هي النصف ، فيسقط من زيد ثلاثمائة ، ومن عمرو مائة وخمسين ، ومن بكر خمسين ، والمجموع خمسمائة فيبقى خمسمائة وهي مساو للثلث. وهكذا في جميع الموارد وطريقه تقسيم الثلث على الوصايا.

فإطلاق كلام القوم « إنّه إذا أوصى لشخص بثلث ولشخص آخر بربع وللآخر بسدس ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، يكون الثلث للشخص الأوّل وتبطل الوصيّة في الثاني والثالث » ليس كما ينبغي ، بل لا بدّ وأن يفصّل كما فصّلناه.

فرع : ولو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه للآخر ، كان ذلك رجوعا عن الأوّل إلى الثاني ، وذلك من جهة أنّ الوصيّة سواء كانت عقدا أو إيقاعا يجوز للموصي الرجوع عنها ما دام فيه الروح ، ولا ينفذ تصرّفاته في ماله بعد الموت بدون إجازة الورثة إلاّ في الثلث.

وهذا هو المراد من قولهم : « أنّ الميّت لا يملك من ماله إلاّ الثلث » وإلاّ فالميّت لا يملك شيئا وبمحض الموت المال ينتقل إلى الورثة والموصى له بعد قبوله إن كانت وصيّة في البين. وأيضا هذا هو المراد ممّا في بعض الروايات « للميّت ثلث ماله » فإذا أضاف الثلث إلى نفسه فليس له إلاّ ثلث واحد ، لأنّه لا ينفذ تصرّفاته باعتبار ما بعد الموت ، أي بعنوان الوصيّة في أزيد من ثلث واحد من أمواله ، فكأنّه لا يملك أزيد من هذا.

فلو أوصى عهديّا أو تمليكيّا في ثلثه المضاف إلى نفسه لشخص ، فلا يملك بعد ذلك

ص: 281

من ماله شيئا ، فوصيّته ثانيا بثلث المضاف إلى نفسه لشخص آخر تكون مضادّة لوصيته الأولى ، فلا بدّ بأن يقال : الوصية الثانية إمّا لغو وكلام باطل ، أو رجوع عن وصيته الأولى. ولكن ظاهر الكلام أنّه رجوع مع إمكانه وعدم محذور. وحمله على اللغويّة ولقلقة اللسان خلاف طريقة العقلاء وسيرتهم.

وبعبارة أخرى : حال الثلث المضاف إلى نفسه حال العين الخارجيّة المعيّنة من حيث عدم التعدّدية فيه ، فكما أنّه لو أوصى بمعيّن في الخارج ، كدار أو دكّان له لزيد مثلا ، ثمَّ أوصى ذلك العين الخارجي ثانيا لعمرو مثلا ، يكون رجوعا عن الوصيّة الأولى بلا خلاف. فليكن ما نحن فيه أيضا كذلك ، لأنّ الجهة فيهما واحدة ، وهي عدم لزوم اللغويّة في الثاني.

نعم لو لم يضف الثلث إلى نفسه بأن قال : أعطوا فلانا ثلثا من أموالي ، أو يقول في الوصيّة التمليكية : ملّكت فلانا ثلثا من أموالي ، بدون إضافة الثلث إلى نفسه يمكن أن يقال : إنّ متعلّق الوصيّة في الثاني غير ما هو متعلّق الوصيّة في الأولى ، لأنّ أحواله مشتملة على ثلاث أثلاث ، فيمكن أن يكون الثلث الذي هو متعلّق الوصيّة الأولى غير الثلث الذي يكون متعلّق الوصيّة الثانية ، وليس دليل يدلّ على اتّحاد المتعلّقين في البين.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر كلامه أنّه في مقام إنشاء وصيّة ماله أن يتصرّف فيه وهو ثلث نفسه ، وإلاّ فالثلثان الآخران خارجان عن تحت سلطنته وليس له أن يتصرّف فيهما ، فلو لم تكن إضافة في اللفظ فأيضا لا بدّ وأن يكون هو المراد ، فالثلث المجرّد عن الإضافة أيضا مثل المضاف ، فيكون أيضا رجوعا عن الأولى.

وفيه : أنّ هذا القياس ، أي قياس ثلث المجرّد عن الإضافة بالثلث المضاف في غير محلّه ، لأنّ المضاف ليس له فردان ، وأمّا غير المضاف فله أفراد ، فيمكن أن يكون المراد من الثلث في الوصيّة الثانية غير ما هو المراد في الوصيّة الأولى.

ص: 282

وأمّا ما يقال : ليس له التصرّف إلاّ في ثلث واحد وهو في مقام إنشاء الوصيّة - في الوصية التمليكيّة أو العهديّة - يريد التصرّف فيما يوصى به ، فلا بدّ من ورود الوصيّتين على نفس ذلك الثلث الذي له أن يتصرّف فيه ، وهو واحد لا تعدّد فيه ، فيعود المحذور.

وفيه : أنّه ما دام حيّا وفيه الروح له أن يتصرّف في أيّ ثلث من أثلاث أملاكه ، بل له أن يتصرّف في مجموع أمواله ، وتصرّفاته في جميع أمواله ممضاة لو كانت منجّزة ولا تحتاج إلى إجازة الورثة. نعم لو كانت غير منجّزة وكانت بعنوان الوصيّة يحتاج فيما زاد على الثلث إلى إجازة الورثة ، فله أن يريد من الثلث في الوصيّة الثانية غير ما أراد منه في الوصيّة الأولى ، غاية الأمر يحتاج نفوذه إلى إجازة الوارث. ففي هذا الفرض ليست الوصيّة الثانية ناسخة للأولى ، لعدم ورودهما على محلّ واحد كي يكون كذلك.

نعم للورثة أن لا ينفذوها ، وهذا لا يوجب انصراف لفظ الثلث إلى ثلثه المختصّ به الذي لا يحتاج إلى الإجازة وعدم إرادة أثلاث الآخر ، كي تكون الوصيّة الثانية مضادّة للأولى وتكون ناسخة لها.

فالحقّ في المقام هو الفرق بين الثلث المضاف إلى نفسه والثلث المجرّد عن الإضافة ، ففي الأوّل تكون الوصيّة الثانية رجوعا عن الوصيّة الأولى وناسخة لها ، وفي الثاني تكون وصية أخرى صحيحة لكن نفوذها موقوف على إجازة الورثة ، مثل ما لو كانت الوصيّة زائدة على الثلث يكون نفوذ مقدار الزائد موقوفا على إجازة الورثة.

ثمَّ إنّه في الصورة الأولى - أي فيما إذا أوصى بثلثه المضاف إلى نفسه تارة لزيد مثلا ومرّة أخرى لعمرو فبناء على أنّه رجوع عن الأولى يجب أن يعطى الثلث لعمرو ولا يستحقّ زيد شيئا منها. وبناء على أنّه يجب أن يعطى لزيد لأنّه في وقت الوصية لم يكن مانع عن نفوذها فوقعت صحيحة ، ولم يبق مجال للوصيّة الثانية ، فتكون الوصيّة الثانية لغوا وباطلا وإن أشكلنا على هذا الاحتمال ورجّحنا أن تكون الوصيّة الثانية رجوعا عن الأولى - لو اشتبه الأولى ولم يعلم أنّ الوصيّة الأولى لزيد أو لعمرو كي

ص: 283

نرتّب الأثر على كلّ واحد من القولين بأن يعطى له لو لم يكن الثاني رجوعا ، ولم يعط له لو كان ، فإنّه يستخرج بالقرعة.

وذلك من أنّه للأولى واقع معيّن معلوم عند العالم بها ، غاية الأمر اختفى واشتبه في مقام الظاهر والإثبات ، والاحتياط لا يمكن في الماليّات أو لا يجب ، ومثل هذه الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي مورد القرعة ، فإذا خرج بالقرعة أنّه زيد مثلا يرتّب عليه أثره.

وطريق القرعة هو أن يكتب في رقعة اسم أحدهما مع كلمة الأولى والسابق ، وفي رقعة أخرى اسم الآخر أيضا مع كلمة الأولى أو السابق ، فيخلطان فيخرج أحدهما فينظر فيه ، فأيّ واحد من الاسمين كان يكون هو السابق والأولى. وللقرعة طريق آخر أيضا لا حاجة إلى ذكرها.

فرع : ولو أوصى بشي ء واحد لاثنين كداره مثلا لهما وهو يزيد عن الثلث ولم تجز الورثة ، كان لهما ما يحتمله الثلث. مثلا لو كانت قيمة تلك الدار ألفين والثلث ألف ، فالألف الزائد يحتاج نفوذه إلى إجازة الورثة ، فإذا لم يجيزوا تبطل الوصيّة بالنسبة إليه. وأمّا ما يحتمله الثلث ، أي الألف الآخر يكون لهما بالمناصفة ، أي كلّ واحد منهما خمسمائة. والوجه في الجميع واضح.

هذا إذا كانت الوصيّة واحدة ، وأمّا إذا كانت متعدّدة متعاقبة كما إذا قال : لزيد نصف داري الفلانيّة ولعمرو نصفها الآخر ، وكان مجموع الوصيّتين زائدا على الثلث ولم تكن الوصيّة الأولى وحدها زائدة على الثلث ولم تجز الورثة ، فالوصيّة الأولى تنفذ بلا نقص ، وكان النقص واردا على الثانية من الوصيّتين وقد تقدّم الوجه في ذلك.

فرع : ولو أوصى بنصف ماله مثلا فأجاز الورثة ثمَّ قالوا : ظننا أنّه قليل ، قضى

ص: 284

عليهم بما ظنّوه وأحلفوا على الزائد قال المحقّق قدس سره : وفيه تردّد. (1)

أقول : أمّا وجه الحكم على الورثة بما ظنّوه لأنّهم أقرّوا واعترفوا بإجازة هذا المقدار ، وأمّا إحلافهم على عدم إجازة الزائد فلأجل أنّهم منكرون إجازة الزائد ، والموصى له يكون مدّعيا لإجازة الزائد ، والأصل مع الورثة ، أي أصالة عدم صدور الإجازة بالنسبة إلى الزائد ، أو أصالة عدم العلم بالزائد.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذه الدعوى ممّا لا يعلم إلاّ من قبلهم ، لأنّ ما يدّعون من كونهم ظانّين بالقلّة أمر مخفي على غيرهم ، فلا يطلبون بالبيّنة ، لعدم إمكان إقامتها على مثل تلك الدعوى غالبا ، لعدم اطّلاع الغير على الضمائر وما في النفس إلاّ من إخبار وإظهار صاحب الضمير ، وفي مثل هذه الدعوى لا يكلّف المدّعي بالبيّنة ، فلا يبقى ميزانا للقضاء إلاّ الحلف ، ولذلك يحلف.

وأمّا وجه تردّد المحقق قدس سره لأنّ المسألة ذات وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا من أنّ الورثة يقضى عليهم بما ظنّوه ، لأنّهم أقرّوا واعترفوا بإجازة ذلك المقدار ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز (2). وسماع قولهم بالنسبة إلى الزائد عمّا ظنّوه ، لمطابقة دعواهم للأصل ، فيكونون منكرين على حسب موازين باب القضاء ، وعليهم الحلف لا البيّنة.

والوجه الثاني : هو أنّ اعترافهم بأنّهم أجازوا النصف مثلا أو ما هو زائد على الثلث حجّة عليهم ، فقولهم : « ظنّنا أنّه قليل » من قبيل الإنكار بعد الإقرار فلا يسمع ، وذلك لأنّ ظواهر الألفاظ وما هو المتفاهم منها عند العرف حجّة.

ولذلك في باب الأقارير لو أقرّ بلفظ وكان ذلك اللفظ ظاهرا في معنى ، فأنكر

ص: 285


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 247.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، ج 2 ، ص 257 ، ح 3 ، ج 3 ، ص 442 ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 33 ، أبواب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.

كون ذلك المعنى الظاهر مراده وقال : إنّ مرادي كان شي ء آخر ، لا يسمع منه بل يؤخذ بإقراره ، أي بما هو ظاهر كلامه ويحسب دعوى إرادة خلاف ما هو ظاهر الكلام من الإنكار بعد الإقرار الذي لا يسمع.

وحيث لم يظهر عنده ترجيح أحد هذين الوجهين لذا أظهر التردّد في الوجه الأوّل الذي ذكرناه.

ولكن أنت خبير بأنّ ظواهر الألفاظ حجّة على المتكلّم ما لم يعلم أنّه أراد خلاف الظاهر ، واحتملنا أنّه أراد ما هو ظاهر اللفظ ولذلك في مقام الإقرار يثبت عليه ويلزم بما هو ظاهر لفظه ، إلاّ أن يعلم إرادة خلافه. وهذا ليس مخصوصا بظواهر الألفاظ بل حجّية كلّ أمارة موقوفة على عدم العلم بالخلاف ، ومع عدم العلم بعدم إرادته ما هو ظاهر اللفظ يستكشف المراد من ظاهر اللفظ.

فلو اعترف بأنّه أجاز النصف ، فادّعاؤه بعد ذلك بعدم إرادة النصف الواقعي بل إرادة ما ظنّ أنّه هو النصف لا يسمع ، إلاّ مع العلم بعدم إرادة النصف الواقعي ، ولا دليل على إثبات عدم إرادته النصف الواقعي وأنّه أراد ما هو مظنونه ، لاحتمال أن يكون دعواه دعوى كاذبة وأنّه أراد ما هو واقع نصف المال ، لا ما هو مظنونة.

مثلا لو كان النصف الواقع للمال ألف دينار ، وهو يدّعي الظنّ بأنّه ألف درهم فيدّعي أنّ إجازتي تعلّقت بألف درهم لا بألف دينار ، فحيث أنّ إجازته حسب اعترافه تعلّق بعنوان نصف المال ، ونصف الواقعي هو ألف دينار لا ألف درهم ، فيكون اللفظ كاشفا عن أنّه أجاز ألف دينار لا ألف درهم ، إلاّ أن يعلم بعدم إرادة النصف الواقعي ، وليس في البين علم بذلك ، فالتحقيق عدم قبول قول الورثة لاحتمال كذبهم فيما يدّعون.

هذا كلّه فيما إذا كانت الوصيّة بجزء مشاع كالنصف وثلثين وأمثالهما. وأمّا لو أوصى بعين معيّنة خارجيّة ، كداره المعيّنة ، أو بستانه المعيّن المعلوم ، فأجازوا هذه

ص: 286

الوصيّة ثمَّ ادّعوا أنّهم ظنّوا أنّها ليست أزيد من الثلث ، أو يكون أزيد بيسير على تقدير الزيادة ، لم يلتفت إلى دعويهم ولا يسمع ، لأنّ الإجازة في هذا الفرض تعلّقت بعين خارجيّة معيّنة معلومة ، لا إجمال لها ولا إبهام فيها.

فالفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة هو ما ذكرنا من عدم الإجمال والإبهام في هذه الصورة لأنّ الموصى به فيها معيّن معلوم وشخص خارجي يمتنع صدقه على المتعدّد ، بخلاف الصورة السابقة فإنّ الموصى به فيها حيث أنّه كسر مشاع يمكن أن يشتبه فيه من حيث القلّة والكثرة ، ولذلك هنا لا تسمع دعوى الورثة ، لعدم تطرّق الجهل والاشتباه بخلاف هناك ولذلك تسمع دعواهم.

ولكن التحقيق عدم الفرق بين الصورتين ، لوحدة المناط فيهما ، وهو كما ذكرنا حجّية الظهورات وما هو المتفاهم عرفا من الكلام ، ولذلك عند العرف يؤخذ المتكلّم بما هو ظاهر كلامه. وقد صرّح الفقهاء قدس سره بذلك في باب الوصايا والأقارير والإجازات في المعاملات والعقود التي تقع فضولة. ولا فرق بين أن يكون متعلّق الإجازة هو الكسر المشاع أو شخص خارجي معيّن معلوم في الظهور العرفي. وكشفه عن مراد المتكلّم وحجّيته في ذلك ما لم يعلم أنّ مراده خلاف هذا الظهور ، فالحقّ في المقامين عدم سماع دعوى الورثة.

الكلام في الوصايا المبهمة

فرع : لو أوصى بجزء من ماله وردت روايات مفادها حمل الجزء من المال على العشر منه ، مستدلا بقوله تعالى ( قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (1) وكانت الجبال عشرة ، فعبّر اللّه تعالى عن كلّ عشر بالجزء ، فيحمل الجزء من الشي ء على عشرة تبعا لاستعماله في الكتاب العزيز

ص: 287


1- البقرة (2) : 262.

بهذا المعنى ، والإمام علیه السلام استدلّ بهذه الآية على أنّ المراد من جزء الشي ء هو عشرة في روايات :

منها : رواية أبان بن تغلب قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « الجزء واحد من عشرة ، لأنّ الجبال عشرة والطيور أربعة ». (1)

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان ، عن عبد الرحمن بن سيابة قال : إنّ امرأة أوصت إلىّ وقالت : ثلثي يقضى به ديني وجزء منه لفلانة ، فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى فقال : ما أرى لها شيئا ، ما أدرى ما الجزء. فسألت عنه أبا عبد اللّه علیه السلام بعد ذلك وخبرته كيف قالت المرأة وبما قال ابن أبي ليلى ، فقال علیه السلام : « كذب ابن أبي ليلى ، لها عشر الثلث إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر إبراهيم علیه السلام فقال ( اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، فالجزء هو العشر من الشي ء » (2).

وروى الشيخ هذه الرواية بإسناده عن عبد اللّه بن سنان بدون واسطة عبد الرحمن بن سيابة فتكون صحيحة. ورواها معاوية بن عمّار أيضا كذلك. (3)

ومنها : رواية أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر علیه السلام في الرجل يوصي بجزء من ماله ، قال علیه السلام : « إنّ الجزء واحد من عشرة ، لأنّ اللّه يقول ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال عشرة والطير أربعة ، فجعل على كلّ جبل منهن جزءا » (4).

ص: 288


1- « الكافي » ج 7 ، ص 40 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 209 ، ح 826 ، باب الوصية المبهمة ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 496 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 442 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 39 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 208 ، ح 824 ، باب الوصية المبهمة ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 131 ، ح 494 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 442 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 40 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 205 ، باب الوصيّة بالشي ء من المال. ، ح 5476. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 208 ، ح 825 ، باب الوصية المبهمة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 443 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 3.
4- « معاني الأخبار » ص 217 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 443 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 4.

ومنها : ما في تفسير العيّاشي عن عبد الصمد بن بشير ، عن جعفر بن محمّد علیه السلام في حديث أنّه سئل عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال : هذا في كتاب اللّه بيّن ، إنّ اللّه يقول ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الطير أربعة والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كلّ عشرة أجزاء جزءا واحدا » (1).

ومنها : رواية أبي جعفر بن سليمان الخراساني ، عن رجل من أهل خراسان في حديث : أنّ رجلا مات وأوصى إليه بمائة ألف درهم ، وأمره أن يعطي أبا حنيفة منها جزءا ، فسأل عنها جعفر بن محمّد علیه السلام وأبو حنيفة حاضر ، فقال له جعفر بن محمّد علیه السلام : « ما تقول فيها يا أبا حنيفة؟ » فقال : الربع. فقال لا بن أبي ليلى؟ فقال : الربع. فقال جعفر بن محمّد علیه السلام : « ومن أين قلتم الربع؟ » فقالوا : لقول اللّه عزّ وجلّ ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « هذا قد علمت الطير أربعة فكم كانت الجبال؟ إنّما الأجزاء للجبال ليس للطير ». فقالوا : ظنّنا أنّها أربعة. فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لا ولكنّ الجبال عشرة » (2).

ومنها : رواية عليّ بن أسباط ، عن الرضا علیه السلام في حديث قال : « والجزء واحد من عشرة » (3).

ومنها : رواية أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل أوصى بجزء من ماله ، قال : « جزء من عشرة ، وقال : كانت الجبال عشرة » (4).

ص: 289


1- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 145 ، ح 476 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 444 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 8.
2- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 145 ، ح 476 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 445 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 9.
3- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 143 ، ح 472 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 446 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 10.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 827 ، باب الوصية المبهمة ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 497 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 446 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 11.

وفي قبال هذه الروايات وردت روايات أخر مفادها تفسير الجزء بواحد من سبعة ، فإذا أوصى بجزء من ثلث ماله فيكون الموصى به سبع الثلث ، وإذا أوصى بجزء من ماله فيكون الموصى به سبع جميع ماله :

منها : رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ فقال علیه السلام : « واحد من سبعة ، إنّ اللّه تعالى يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (1) » (2).

ومنها : رواية إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا علیه السلام في الرجل أوصى بجزء من ماله قال : « الجزء من سبعة إن اللّه تعالى يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) » (3).

ومنها : رواية حسين بن خالد ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : سألته عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ قال : « سبع ثلثه » (4).

والمراد أنّ الميّت ليس له إلاّ ثلث ماله ، فإذا كان جزء الشي ء سبعة وماله ثلثه فإذا أوصى بجزء من ماله يكون سبع ثلثه.

ولا شكّ في تعارض هذه الطائفة مع الطائفة الأولى. وقد جمع الشيخ قدس سره بينهما بحمل الطائفة الأولى على الوجوب بمعنى أنّه يجب على الوصي أو الورثة إنفاذ الوصيّة

ص: 290


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 828 ، باب الوصية المبهمة ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 499 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 446 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 12.
2- الحجر (15) : 44.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 829 ، باب الوصية المبهمة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 132 ، ح 499 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 447 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 13.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 831 ، باب الوصية المبهمة ، ح 8 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ح 501 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 447 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 54 ، ح 14.

بالجزء بواحد من العشرة ، أي لا يجوز إعطاء الأقلّ من هذا ، والطائفة الثانية على الاستحباب ، بمعنى أنّه يستحبّ على الورثة إنفاذها بواحد من السبعة (1).

والتحقيق في باب الوصايا المبهمة التي هي محلّ بحثنا هو أنّه لو كان الإبهام من ناحية اللفظ وإجماله ، فإن كان تفسير من قبل الشارع في كلام ثبتت حجّيته من حيث الصدور ودلالته من حيث الظهور ، فيجب الأخذ به تعبّدا لا من باب دلالة ذلك الكلام المجمل وكشفه عن مراد المتكلّم.

ففي باب الوصايا والأقارير لو كان مثل هذا الكلام مثل ما نحن فيه لو أوصى بجزء من ماله لشخص ، والشارع الأقدس فسّر الجزء بالعشر أو السبع على اختلاف الروايات في هذه المسألة ، فلا يمكن أن يقال : إنّ مراد المتكلّم هو العشر أو السبع ، لعدم ظهور كلامه في هذا المعنى حسب طريقة أهل المحاورة ، بل حكم تعبّدي يجب الأخذ به تعبّدا والعمل به ، وذلك لولاية الشارع على أنفس المؤمنين وعلى أموالهم بطريق أولى ، ولقوله تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (2).

فمقتضى القواعد الأوّلية في المقام هو أنّه لو كان الكلام مجملا ولم يكن له ظهور يكون وجوده كالعدم ، فإذا لم يكن دليل آخر على الحكم لا بدّ وأن يرجع إلى العمومات والإطلاقات الأوّلية وفي المقام هي أدلّة الإرث. ولا مجال للرجوع إلى إطلاقات أدلّة الوصيّة ، لأنّ المفروض أنّ وصيّته مجملة لا يفهم منها شي ء.

نعم إذا ثبت أنّ الشارع فسّر الكلام يجب الأخذ به تعبّدا ، وفي المقام أخبار التفسير كما عرفت متعارضة ، فإذا كان من الممكن جمع عرفي فهو ، وإلاّ وجب العمل بقواعد باب التعارض من الترجيح مع وجود المرجّح والتخيير مع فقده.

وها هنا الترجيح من حيث السند مع روايات السبع ، وذلك من جهة أنّ رواية

ص: 291


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 210 ، ذيل ح 831 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ذيل ح 501.
2- الأحزاب (33) : 6.

أحمد بن أبي نصر البزنطي صحيحة بلا إشكال ، وأمّا رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام إن كانت بدون وساطة عبد الرحمن بن سيابة فصحيحة بلا إشكال ، ولكن الظاهر أنّها بواسطة عبد الرحمن بن سيابة ، لأنّه من المستبعد جدّا أن يسأل عبد اللّه بن سنان الفقيه الجليل الإمامي عن ابن أبي ليلى ، فهذه قرينة على أنّ السائل غيره وهو عبد الرحمن بن سيابة الذي واسطة بينه وبين الإمام علیه السلام .

فالإنصاف أنّ روايات تفسير الجزء بالسبع أصحّ سندا ، وإن كانت روايات العشر أكثر عددا ، ومعلوم أنّ الترجيح من حيث السند مقدّم على كثرة العدد. ولكن قولنا إنّ روايات السبع أصحّ سندا مبنيّ على أن تكون رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام بواسطة عبد الرحمن سيابة ، وإلاّ لو كانت بدون واسطة فليست روايات السبع أصحّ سندا.

هذا ، مضافا إلى أنّ الجمع الذي ذكره الشيخ بين الطائفتين بحمل روايات السبع على الاستحباب على الورثة أن يعطوا للموصى له سبع المال ، لو كان جمعا عرفيّا كما هو كذلك فلا تعارض كي تصل النوبة إلى الترجيح بالسند. ولا ينافي ذلك ما ذكرنا من استبعاد أن يكون السائل عن أبي ليلى هو عبد اللّه بن سنان ، لأنّ ذلك غاية ما يدلّ هو أنّ الراوي عن الإمام علیه السلام ليس عبد اللّه بن سنان بلا واسطة ، بل هو عبد الرحمن سيابة والرواية ضعيفة سندا.

ولكن بعد ما قلنا بالجمع العرفي فلا تصل النوبة إلى الترجيح كي يقال إنّ رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي أصحّ سندا ، فالترجيح معها.

فالأولى والأحسن هو ما ذهب إليه الشيخ قدس سره وجمع آخر من الأساطين إلى أنّ المستحبّ على الوارث إعطاء السبع وإن كان ليس ملزما إلاّ بالعشر.

فرع : لو أوصى له بسهم من ماله كان للموصى له ثمنه ، ولو أوصى له بشي ء

ص: 292

كان له السدس.

أمّا الأوّل فلصحيحة البزنطي قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى بسهم من ماله ، فقال علیه السلام : « السهم واحد من ثمانية ، ثمَّ قرأ ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) (1) » إلى آخر الآية (2).

ورواية صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر قالا : سألنا الرضا علیه السلام عن رجل أوصى لك بسهم من ماله ولا ندري السهم أيّ شي ء هو؟ فقال علیه السلام : « ليس عندكم فيما بلغكم عن جعفر ولا عن أبي جعفر علیه السلام فيها شي ء؟ » فقلنا له : ما سمعنا أصحابنا يذكرون شيئا من هذا عن آبائك علیهم السلام قال : فقال : « السهم واحد من ثمانية إلى أن قال : قول اللّه عزّ وجلّ ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ثمَّ عقد بيده ثمانية قال : وكذلك قسّمها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ثمانية أسهم ، فالسهم واحد من ثمانية » (3).

ورواية محمد بن محمد المفيد في الإرشاد قال : قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل أوصى عند الموت بسهم من ماله ولم يبيّنه فاختلف الورثة في معناه ، فقضى عليهم بإخراج الثمن من ماله وتلي عليهم ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) إلى آخره ، وهم ثمانية أصناف ، لكلّ صنف منهم سهم من الصدقات. (4) وروايات أخر بهذا المضمون. (5)

ص: 293


1- التوبة (9) : 60.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 209 ، ح 828 ، باب الوصايا المبهمة ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ح 501 ، باب من أوصى بجزء من ماله ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 448 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 41 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 2 ، « معاني الأخبار » ص 216 ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 210 ، ح 833 ، باب الوصية المبهمة ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 133 ، ح 503 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 448 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 2.
4- « الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 221 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 450 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 7.
5- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 448 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55.

نعم هناك روايتان أخريان :

إحديهما : رواية طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام قال : « من أوصى بسهم من ماله فهو سهم من عشرة » (1).

الثانية : رواية محمّد بن عليّ بن الحسين قال : « وقد روى أنّ السهم واحد من ستّة » (2).

أقول : أمّا رواية العشر فمن الشواذّ التي لا يعلم بها قائل ، ونسبه الشيخ (3) إلى وهم الراوي وأنّه سمعه فيمن أوصى بجزء من ماله فظنّه السهم ، أو أنّه ظنّ أنّ السهم والجزء واحد ، وعلى كلّ فالرواية متروكة لم يعمل بها أحد.

وأمّا مرسلة الصدوق وما روى عن ابن مسعود أنّ رجلا أوصى لرجل بسهم من المال فأعطاه النبيّ صلی اللّه علیه و آله السدس ، فأعرض عنها المشهور ، فلا تقاوم الروايات الكثيرة التي بعضها صحيحة ، وإن عمل بهما الشيخ في أحد قوليه. (4) وأمّا ما قيل : إنّ السهم في كلام العرب هو السدس ، فلم يثبت ولا أساس له.

فرع : لو أوصى بشي ء من ماله لرجل فله السدس إجماعا ، لرواية أبان عن عليّ بن الحسين علیهماالسلام أنّه سئل عن رجل أوصى بشي ء من ماله فقال : « الشي ء في كتاب عليّ واحد من ستّة » (5) والقول بأنّه العشر شاذّ.

ص: 294


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ح 834 ، باب الوصية المبهمة ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 134 ، ح 504 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 449 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 4.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 204 ، باب الوصيّة بالشي ء من المال والسهم. ، ح 5475. « معاني الأخبار » ص 216 ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 449 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 55 ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ذيل ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 134.
4- « المبسوط » ج 4 ، ص 8.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 40 ، باب من أوصى بشي ء من ماله ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 204 ، باب الوصيّة بالشي ء من المال. ، ح 5473. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ح 835 ، باب الوصية المبهمة ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 450 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 56 ، ح 1.

فرع : لو أوصى بوجوه فنسي الموصي وجها منها ، جعله الوصي في وجوه البرّ.

هذا أحد القولين في المسألة ، وإليه ذهب المشهور.

والقول الآخر : أنّه يرجع ميراثا. والقائل به ابن إدريس (1) ، ونسب إلى الشيخ أيضا في بعض فتاواه (2) ، ولكن في كتبه وافق المشهور بأن يجعله الوصي في وجوه البرّ.

والأقوى هو قول المشهور ، وذلك أوّلا لرواية محمّد بن ريّان قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام أسأله عن إنسان أوصى بوصيّة فلم يحفظ الوصي إلاّ بابا واحدا منها كيف يصنع في الباقي؟ فوقّع : « الأبواب الباقية اجعلها في البرّ » (3) ، وروى هذه الرواية بعدّة طرق.

وثانيا : أنّه بعد ما خرج عن ملك الموصي والورثة بعد موت الموصي ، فيكون من قبيل مال المجهول المالك ، وبعد نسيان مصرفه فيصرفه في وجوه البرّ ، لأنّه في الغالب أقرب إلى ما يريد الموصي ، بل يمكن أن يقال إنّ صرفه في وجوه البرّ حيث أنّه يرجع إلى الجهات العامّة للمسلمين يكون من الصدقة التي هي مصرف مجهول المالك.

وثالثا : على هذا فتوى المشهور ، وهو ممّا يؤيّده قوّة حجّية رواية محمّد بن ريّان.

ورابعا : حكمهم علیهم السلام بالصرف في وجوه البرّ في نظائر المقام ، كما إذا أوصى بمال أن يحجّ عنه مع عدم كفاية ذلك المال للحجّ عنه ، وذلك في رواية علي بن

ص: 295


1- . « السرائر » ج 1. ص 209.
2- « النهاية » ص 613.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 58 ، باب النوادر ، ح 7 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 218 ، باب الرجل يوصى بوصيّة فينساها. ، ح 5513. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 214 ، ح 844 ، باب الوصيّة المبهمة ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 453 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 61 ، ح 1.

مزيد صاحب السابري قال : أوصى إلى رجل بتركته وأمرني أن أحجّ بها عنه فنظرت في ذلك ، فإذا هي شي ء يسير لا يكفي للحجّ إلى أن قال : فسألت أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : « ما صنعت بها »؟ قلت : تصدّقت بها قال علیه السلام : « ضمنت إلاّ أن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة ، فإن كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان ، وإن كان يبلغ ما يحجّ به من مكّة فأنت ضامن » (1).

فقد حكم علیه السلام بعدم الضمان وصحّة الصدقة فيما إذا لم يبلغ المال قدر ما يحجّ به عنه من مكّة.

نعم نبّه الإمام علیه السلام الوصي على أمر ، وهو أنّ المراد من عدم بلوغ المال قدر ما يكفي الحجّ هو عدم بلوغه حتّى من مكّة ، بأن يكون حجّ إفراد ، أو من أقرب المواقيت مثلا لو كان المال يكفي للإحرام من الحديبية بل من أوّل الحرم ، فهذا ليس من عدم البلوغ.

وأمّا القول الآخر - أي رجوعه ميراثا الذي قال به ابن إدريس ونقله عن الشيخ - فمستنده أنّ الوصيّة بعد عدم إمكان العمل بها تبطل ، فيرجع المال إلى صاحبه وهو الوارث.

وفيه : أنّ العجز عن العمل بها لا يوجب بطلانها ، لأنّه غالبا يكون من قبيل تعدّد المطلوب. مثلا لو أوصى بعمارة مسجد أو مدرسة تكون مساحة كلّ واحد منهما ألف متر ولا يوجد المكان الذي يسع هذا المقدار ، بل في ذلك المكان المعيّن الذي عيّنه الموصي للمسجد أو للمدرسة توجد أرض بسعة تسعمائة مترا ، والمال الذي عيّن لبناء المدرسة ذات طبقتين لا يفي بذلك ، ولكن يمكن عمارة مدرسة ذات طبقة واحدة ، فلا شكّ في أنّ القسم الأوّل هو مطلوبه الكامل ، لا أنّ المطلوب منحصر به فلو بنى

ص: 296


1- « الكافي » ج 7 ، ص 21 ، باب أنّ الوصي إذا كانت الوصيّة في حقّ. ، ح 1. « الفقيه » ج 4 ، ص 207 ، باب ضمان الوصي لما يغيّره. ، ح 5482. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 228 ، ح 896 ، باب وصية الإنسان لعبده وعتقه له ، ح 46 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 419 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 37 ، ح 2.

مسجدا سعة تسعمائة متر ليس لمطلوبه أصلا وكذلك مدرسة ذات طبقة واحدة ليس بمطلوبه أصلا ، فلا شكّ في مطلوبيّة هذا القسم عند تعذّر القسم الأوّل ، نعم هو المطلوب الأكمل وهذا أيضا له مرتبة من المطلوبيّة. ولعلّ هذا هو المناط في قاعدة الميسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

هذا إذا كان العجز من أوّل الأمر. وأمّا العجز الطاري عن بعض مراتب الوصيّة فلا يوجب بطلانها يقينا ، كما أنّه في الوقف الذي طرأ العجز عن العمل به تماما كما أراد الواقف فالمشهور على أنّه لا يبطل الوقف ولا يرجع إلى ملك الواقف فيرثه الوارث ، بل يصرف فيما هو أقرب إلى الجهة التي وقف عليها ، لأنّ الرجوع إلى ملك الوارث يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

مضافا إلى أنّ الرجوع إلى ملك الوارث لا معنى له في المقام ، لأنّه كان ملكا للموصي وهو ملّك الموصى له أو أخرج عن ملكه لعنوان من العناوين كالعلماء والسادات ، أو لجهة من الجهات كالصرف في عزاء سيّد الشهداء علیه السلام أو جهة أخرى من شعائر الدين ولم ينتقل إلى الوارث أصلا.

وأمّا الرجوع إلى ملك الموصي فإن كانت الوصيّة انعقدت صحيحة وخرجت عن ملكه بعد موته فطرأ النسيان ولذلك تعذّر صرفها في مصرفها الذي عيّن الموصي لها ، فحال الموصي مع سائر الناس بالنسبة إليها سواء ، فلا بدّ وأن يقال إمّا أن يصير كالمباحات الأصليّة فلكلّ أحد أن يتصرّف فيها. وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به فقيه ، فالأقوى - بل المتعيّن - صرفها في وجوه البرّ ، فإنّها بعض مطلوب الموصي ، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

فرع : ولو أوصى بإخراج بعض ولده من تركته بأنّه لا يرث من تركته ، فهل تقع هذه الوصيّة صحيحة أم لا؟ فيها خلاف بين الأصحاب ، والمشهور عدم الصحّة ،

ص: 297

لأنّها مخالف للكتاب والسنّة.

أمّا مخالفتها للكتاب فلقوله تعالى ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) (1) إلى آخر.

ولقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (2).

وأيضا لقوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (3).

وأمّا السنّة فروايات :

منها : رواية السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه علیهم السلام قال : قال عليّ علیه السلام : « ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال » (4).

ومنها : أيضا عن السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه علیهم السلام قال : قال عليّ علیه السلام : « من أوصى ولم يحف ولم يضارّ كان كمن تصدّق به في حياته » (5).

ومنها : رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام : « قال قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل توفّى وأوصى بماله كلّه أو أكثره ، فقال له : الوصيّة تردّ إلى المعروف غير المنكر ، فمن ظلم نفسه وأتى في وصيّته المنكر والحيف فإنّها تردّ إلى المعروف ويترك لأهل الميراث ميراثهم » الحديث (6) وروي هذه الرواية بعدة طرق ذكرها في الوسائل.

ص: 298


1- البقرة (2) : 181.
2- النساء (4) : 10.
3- الأحزاب (33) : 6.
4- « الفقيه » ج 4 ، ص 183 ، باب ما جاء في الإضرار بالورثة ، ح 5418 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 174 ، ح 710 ، باب في الوصيّة ووجوبها ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 5 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 62 ، باب النوادر ، ح 18 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 182 ، باب ثواب من أوصى فلم يحف ولم يضارّ ، ح 5414 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 174 ، ح 709 ، باب في الوصيّة ووجوبها ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 5 ، ح 2.
6- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 186 ، باب ما يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5425. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 773 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 358 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 8 ، ح 1.

ومنها : رواية محمّد بن سوقة قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول اللّه تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (1) قال علیه السلام : « نسختها الآية التي بعدها قوله عزّ وجلّ ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) قال : يعنى الموصي إليه إن خاف جنفا من الموصي فيما أوصى به إليه ممّا لا يرضى اللّه عزّ ذكره من خلاف الحقّ فلا إثم عليه ، أي على الموصى إليه أن يردّه إلى الحقّ وإلى ما يرضى اللّه عزّ وجلّ فيه من سبيل الخير » (2).

ومنها : رواية عليّ بن إبراهيم عن رجاله قال : قال : إنّ اللّه أطلق للموصى إليه أن يغيّر الوصيّة إذا لم تكن بالمعروف وكان فيها حيف ، ويردّها إلى المعروف ، لقوله عزّ وجلّ ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) إلى آخر (3). والحيف هو الجور على الورثة.

ومنها : رواية عليّ بن إبراهيم في تفسيره قال : قال الصادق علیه السلام : « إذا أوصى الرجل بوصيّة فلا يحلّ للوصي أن يغيّر وصيّة يوصى بها بل يمضيها ، إلاّ أن يوصى غير ما أمر اللّه فيعصي في الوصيّة ويظلم ، فالموصى إليه جائز له أن يردّه إلى الحقّ مثل رجل يكون له ورثة فيجعل ماله كلّه لبعض ورثته ويحرم بعضا ، فالوصي جائز له أن يردّه إلى الحقّ وهو قوله تعالى ( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) فالجنف هو الميل إلى بعض ورثتك دون بعض ، والإثم أن تأمر بعمارة بيوت النيران واتّخاذ المسكر فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشي ء من ذلك » (4).

ص: 299


1- البقرة (2) : 181.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 21 ، باب إنّ من حاف في الوصية. ، ح 2. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 186 ، ح 747 ، باب الرجوع في الوصية ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 421 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 38 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 20 ، باب أنّ من حاف في الوصية. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 422 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 38 ، ح 2.
4- « تفسير القمّي » ج 1 ، ص 65 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 420 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 37 ، ح 4.

ومنها : رواية سعد بن سعد قال : سألته - يعني أبا الحسن الرضا علیه السلام - عن رجل كان ابن يدّعيه فنفاه وأخرجه من الميراث وأنا وصيّه فكيف أصنع؟ فقال علیه السلام : « لزمه الولد لإقراره بالمشهد لا يدفعه الوصي عن شي ء قد علمه » (1).

وهذه الروايات كما ترى تدلّ على عدم جواز الجور والخروج عن الجادة في الوصيّة بأن يضرّ ببعض الورثة ويخرجه عن تركته وميراثه ، وإن اثم وفعل فلا يجوز إمضاؤه فيما صنع من الحيف والجور ، بل يجب ردّه ممّا صنع وتحويله إلى الحقّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ إخراجه عن تركته إمّا بنفي كونه ولدا له ، وهذا بعد إقراره به لا مجال له ولا يسمع ، لأنّه من الإنكار بعد الإقرار. وإمّا ينفي كونه وارثا مع الإقرار بأنّه ولد ، وهذا يرجع إلى إنكار الحكم الشرعي الثابت بالأدلّة القطعيّة ، وهو واضح البطلان. وإمّا بمنعه عن حقّه بواسطة الوصيّة ، وهذا هو الجنف والحيف المنهي عنه.

نعم وردت رواية في إنفاذ مثل هذه الوصيّة في حقّ الولد الذي وقع على أمّ ولد أبيه ، وهي ما رواه محمّد بن يحيى عن وصي عليّ بن السري قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام : إنّ علي بن السري توفّي وأوصى إليّ فقال رحمه اللّه فقلت وإنّ ابنه جعفر وقع على أمّ ولد له فأمرني أن أخرجه من الميراث ، فقال لي : أخرجه إن كنت صادقا فسيصيبه خبل قال : فرجعت فقدّمني إلى أبي يوسف القاضي فقال له : أصلحك اللّه أنا جعفر بن على بن السري وهذا وصي أبي فمره فليدفع إلي ميراثي من أبي فقال لي : ما تقول؟ فقلت : نعم هذا جعفر بن على بن السري وأنا وصيّ علي بن السري قال : فادفع إليه ما له. قلت : أصلحك اللّه أريد أن أكلّمك. قال : فادن فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي فقلت هذا وقع على أمّ ولد لأبيه فأمرني أبوه وأوصى إليّ أن أخرجه من الميراث

ص: 300


1- « الكافي » ج 7 ، ص 64 ، باب النوادر ، ح 26 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 220 ، باب إخراج الرجل ابنه من الميراث. ، ح 5516. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 235 ، ح 918 ، باب في الزيادات الوصايا ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 139 ، ح 520 ، باب أن من كان له ولد. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 476 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 90 ، ح 1.

ولا أورثه شيئا ، فأتيت موسى بن جعفر علیه السلام بالمدينة فأخبرته وسألته ، فأمرني أن أخرجه من الميراث ولا أورثه شيئا ، فقال : إنّ أبا الحسن علیه السلام أمرك؟ قلت : نعم فاستحلفني ثلاثا ثمَّ قال : أنفذ ما أمرك فالقول قوله قال الوصي فأصابه الخبل بعد ذلك (1).

ولكن هذه الرواية على تقدير عدم كونها مهجورة متروكة وعدم إعراض الأصحاب عنها ليس مفادها جواز إخراج بعض الورثة عن التركة مطلقا ، بل موردها مورد خاصّ وهو فيما إذا كان المأمور بالإخراج عن التركة هو الولد الذي وقع على أمّ ولد أبيه ، ولا مانع من الالتزام بها في مورده.

وبعبارة أخرى : هذا حكم تأديبي صدر عن الإمام علیه السلام في مورد ذلك الشخص أو يكون حكم كلّ من فعل مثل هذا الفعل وارتكب مثل هذه الجريمة جواز إخراجه عن الميراث؟

وحكى في الوسائل (2) عن الصدوق أنّه قال : ومتى أوصى الرجل بإخراج ابنه من الميراث ولم يكن أحدث هذا الحدث لم يجز للوصي إنفاذ وصيّته في ذلك (3) ونسب إلى الشيخ أنّه قال : هذا الحكم مقصور على هذه القضيّة لا يتعدّى إلى غيرها ، لأنّه لا يجوز أن يخرج الرجل من الميراث المستحقّ بنسب شائع بقول الموصي وأمره أن يخرج من الميراث إذا كان نسبه ثابتا (4) ، ولنعم ما قال.

ص: 301


1- « الكافي » ج 7 ، ص 61 ، باب النوادر ، ح 15 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 219 ، باب إخراج الرجل ابنه من الميراث. ، ح 5515. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 235 ، ح 917 ، باب في الزيادات الوصايا ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 139 ، ح 521 ، باب ان من كان له ولد. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 476 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 90 ، ح 2.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 477 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 90 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 220 ، باب إخراج الرجل ابنه من الميراث. ، ذيل ح 5515.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 235 ، باب في الزيادات الوصايا ، ذيل ح 917. ولا يخفى أنّ كلام الشيخ أخصّ من كلام الصدوق ويحتمل اتّحاد مرادهما قدّس اللّه اسرارهما.

ثمَّ إنّه قد يحتمل أن يكون مراد الأب من إخراج هذا الولد من التركة إخراجه عن الثلث الذي يملكه هو فكأنّه وصيّته لغيره بالثلث. وأفرض أنّه له ولدين ، أحدهما صغير ولا يقدر على إعاشة نفسه من الكسب ، والآخر كبير يقدر على ذلك ، فهو مراعاة للولد الصغير يخصّ الثلث بالصغير ، وباقي المال - أي الثلثان - يكون بينهما. وهذا على حسب مقتضى القواعد الأوّليّة لا محذور فيه أصلا.

أقول : هذا الاحتمال في حدّ نفسه صحيح لا مانع منه ، ولكن الفرض والرواية ليسا ظاهرين في هذا المعنى أصلا.

فرع : لو أوصى لغيره بسيف وكان في جفن وعليه حلية ، كان السيف له بما عليه وفيه ، وذلك من جهة الظهور العرفي لهذا الكلام. وكذلك لو أقرّ به لشخص.

وقد روى أبو جميلة عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن وعليه حلية؟ فقال له الورثة إنّما لك النصل وليس لك السيف ، فقال علیه السلام : « لا ، بل السيف بما فيه له » الحديث (1).

وروى أيضا أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح قال : كتبت إلى أبي الحسن علیه السلام أسأله عن رجل أوصى لرجل بسيف فقال الورثة : إنّما لك الحديد وليس لك الحلية ليس لك غير الحديد؟ فكتب علیه السلام إلىّ : « السيف له وحليته » (2).

وأيضا لو أوصى بصندوق لغيره وكان فيه مال ، كان الصندوق بما فيه من المال

ص: 302


1- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 217 ، باب الرجل يوصى لرجل بسيف. ، ح 5509. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 211 ، ح 837 ، باب الوصية المبهمة ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 451 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 57 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 212 ، ح 839 ، باب الوصية المبهمة ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 451 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 57 ، ح 2.

للموصى له. وفيه أيضا رواية عن عليّ بن عقبة ، عن أبيه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أوصى لرجل بصندوق وكان في الصندوق مال ، فقال الورثة : إنّما لك الصندوق وليس لك ما فيه ، فقال : « الصندوق بما فيه له » (1).

وأيضا لو أوصى لشخص بسفينة وفيها طعام ، فهي وما فيها من الطعام للموصى له. وأيضا فيها رواية عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجل قال هذه السفينة لفلان ولم يسمّ ما فيها وفيها طعام أيعطيها الرجل وما فيها؟ قال علیه السلام : « هي للذي أوصى له بها إلاّ أن يكون صاحبها متّهما وليس للورثة شي ء » (2).

وروى الصدوق هذه الرواية إلاّ أنّه قال في آخرها : « إلاّ أن يكون صاحبها استثنى ممّا فيها » (3).

وقد تقدّم أنّه في باب الوصايا والأقارير يلزم الأخذ بما هو ظاهر الكلام حسب المتفاهم العرفي ، وقد خصّ الفقهاء قدس سره هذه الموارد بالذكر لوجود الروايات المتقدّمة ، وإلاّ فلا خصوصية لها كما هو واضح.

فرع : لو أوصى بلفظ مجمل لم يفسّره الشرع ، رجع في تفسيره إلى الوارث ، كقوله : أعطوا فلانا حظّا من مالي أو قسطا أو نصيبا أو قليلا أو يسيرا أو جليلا أو جزيلا وأمثال ممّا ليس له حدّ معيّن ومفهوم مبيّن عند العرف وأهل المحاورة.

ص: 303


1- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 212 ، ح 840 ، باب الوصية المبهمة ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 452 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 57 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 44 ، باب بدون العنوان ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 212 ، ح 838 ، باب الوصية المبهمة ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 452 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 59 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 217 ، باب الرجل يوصى لرجل بسيف. ، ح 5510. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 452 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 59 ، ح 1.

هذا ما قاله في الشرائع (1) ، ولكن لم نفهم وجها للرجوع إلى الوارث في تفسير هذه الألفاظ ، بل المعتبر في تشخيص مراد الموصي هي الظهورات عند أهل المحاورة ، وحال الوارث مع غيره في ذلك سواء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الوارث خصوصا إذا كان من الأقرباء الأقربين كأولاده المعاشرين معه عارف بالمعنى الذي يريد من هذه الألفاظ ، فيكون التبادر إلى أذهانهم - بواسطة الأنس باستعمالاته - دليلا على أنّ مراده من هذه الألفاظ هو هذا المعنى الذي تبادر إلى أذهانهم ، وإلاّ فلا وجه للرجوع إليهم أصلا ، بل الصحيح هو أنّه لو استعمل الألفاظ المجملة في وصيته أو إقراره يكون كلامه غير حجّة وكأنّه لم يكن ، فالمرجع هي الأصول العمليّة.

ويمكن أن يكون المراد من الرجوع في تفسير هذه الألفاظ إلى الوارث من جهة أنّ التركة بين الموصى له والوارث ، فأيّ مقدار عيّن للفظ إمّا واقعا للموصى له فيعطيه ما هو حقّه وملكه ، وإمّا تمامه أو بعضه ملك للوارث ، فهو باختياره يعيّنه للموصى له وله ذلك ، لأنّ الناس مسلطون على أموالهم.

ولكن يظهر من عبارة الشيخ قدس سره في المبسوط أنّ هذه الألفاظ حيث أنّ إجمالها بواسطة صدقها على القليل والكثير ، فالوارث مخيّر بين تطبيقها على القليل والكثير ، بل وعلى أيّ مرتبة من مراتب مصاديق هذه الألفاظ فله حقّ التفسير والتطبيق ، لذلك يرجع إليه في التفسير.

وأمّا احتمال أن يكون تفسيره وتطبيقه على أقلّ ممّا يستحقّه الموصى له فليس له هذا الحقّ ، مدفوع بأصالة عدم استحقاقه للزائد. ولعل هذا أحسن الوجوه لهذا الحكم ، أي للرجوع إلى الوارث في تفسيرها.

قال في المبسوط : إذا قال لفلان : حظّ من مالي أو نصيب أو قليل ، فإنّه يرجع

ص: 304


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 249.

إلى الورثة (1).

ولو تعذّر الرجوع إلى الوارث لغيبته ، أو لامتناعه عن التفسير ، أو لصغره وعدم الاعتبار بكلامه ، أو لجنونه قال في المسالك : أعطي أقلّ ما يصدق عليه الاسم ، أي اسم ذلك اللفظ المجمل ، لأنّه القدر المتيقّن. (2)

وفيه نظر واضح ، لتعارض الحقّين ، أي حقّ الموصى له وحقّ الوارث.

ومن هذه الألفاظ المجملة لفظ « كثير » فلو أوصى وقال : أعطوا الفلان مالا كثيرا من تركتي ، فقال جماعة : إنّه يعطى له ثمانين من أيّ شي ء كان متعلّق الوصيّة درهما أو دينارا أو غيرهما. وذلك للرواية التي وردت في باب النذر أنّه لو نذر أن يعطى درهما أو دينارا كثيرا أو غيرهما ، فعليه أن يعطى ثمانين ممّا نذر. واستدلّ الإمام علیه السلام لهذا التفسير بقوله تعالى ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (3) وكانت تلك المواطن بعد إحصائها ثمانين.

ولكن أنت خبير بأنّ استعمال اللفظ في مورد في بعض مصاديقه لا يوجب كون المراد من اللفظ دائما ذلك المعنى ، ففي نفس مورد الرواية المعتبرة يجب العمل بها مع الإمكان ، وفيما سوى ذلك لا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأوّلية أو الأصول العمليّة.

فرع : يستحبّ أن تكون الوصيّة بخمس ماله ، ودونه في الفضل الربع ، ودونه الثلث. وأمّا بالأزيد من الثلث فلا ينفذ إلاّ بإجازة الورثة. والمستند رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول لأن أوصي بخمس مالي أحبّ إليّ من أن أوصى بالربع ، ولأن أوصى بالربع أحبّ إليّ من أن أوصى

ص: 305


1- « المبسوط » ج 4 ، ص 23.
2- « المسالك » ج 1 ، ص 401.
3- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 222 ، أبواب النذر والعهد ، باب 3 ، ح 1 - 4. والآية في سورة التوبة 3. : 25.

بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك وقد بلغ الغاية ( وقد بالغ ) » (1).

ورواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من أوصى بالثلث فقد أضرّ بالورثة ، والوصيّة بالربع والخمس أفضل من الوصيّة بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك » (2).

ورواية السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه علیهم السلام قال : « قال عليّ علیه السلام الوصيّة بالخمس ، لأنّ اللّه عز وجل قد رضى لنفسه بالخمس ، وقال : الخمس اقتصاد ، والربع جهد ، والثلث حيف » (3).

ورواية مسعدة بن صدقة ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ علیه السلام قال : « لئن أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصى بالربع ، ولأن أوصى بالربع أحبّ إليّ من أن أوصى بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئا » (4).

في أحكام الوصيّة

فرع : لو أوصى بمنافع أعيان ما يملك ، بعضها أو جميعها ، لكلّ ما يملك أو لبعضه ،

ص: 306


1- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5423 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 773 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 453 ، باب أنّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 360 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 5. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5424 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 769 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 451 ، باب أنّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 360 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5421 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 362 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 3.
4- « قرب الإسناد » ص 31 ، « علل الشرائع » ص 567 ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 361 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 9 ، ح 4.

على التأييد أو مدّة معيّنة صحّ بلا خلاف. ولا فرق في تلك المنافع الموصى بها بين أن تكون من الأعيان التي لها وجود مستقلّ بعد الانفصال عن ذيها كالحمل في الدابّة ، والثمرة في الشجر ، واللبن والصوف في الأغنام وغير ذلك ، وبين أن لا يكون كذلك كسكنى الدار ، والكسب في الدكان ، وركاب الدابّة وأقسام المراكب ، لشمول عمومات وإطلاقات أدلّة الوصيّة.

وأمّا الإشكال بأنّ تلك المنافع ليست من تركة الميّت ولا من أمواله كي يملكها لغيره.

ففيه : أنّ الموصي يملكها حال حياته بتبع العين ، بمعنى أنّ حالها بالنسبة إلى الموصي حال نفس العين ، له السلطنة عليها كسلطنته على نفس العين ، ولذلك يجوز أن يؤجر العين سنين متعدّدة ثمَّ يبيعها ، فتنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدّة الإجارة ، وهذا دليل قطعي على أنّ مالك العين مالك لمنافعها ، لأنّ الإجارة عبارة عن تمليك منافع العين بعوض مالي معلوم ، وما لم يكن مالكا كيف يملك الغير وليس صرف التبعيّة للعين ، لأنّ المفروض أنّه باع العين ، فالمنافع ملك لشخص والعين ملك لشخص آخر. وكذلك الأمر في الوصيّة التمليكيّة بالنسبة إلى المنافع تكون العين ملكا للورثة بعد موت الموصي بالإرث والمنافع ملكا للموصى له بالوصية.

نعم لا بدّ وأن تقوّم تلك المنافع التي أوصى بها ، وتلاحظ مع مجموع المال المركّب منها وما سواها من الأعيان والمنافع بكلا قسميها.

ثمَّ إنّه لو أوصى لزيد مثلا بركوب دابّته سنة أو أكثر ، فنفقة الدابّة على مالكها لا على الموصى له ، لأنّ المفروض أنّ النفقة نفقة الملك ، والدابّة ملك للوارث لا الموصى له وإنّما الموصى له مالك المنفعة فقط.

ولكن هذا الذي قلنا من كون النفقة على الوارث لا الموصى له مسلّم فيما إذا كانت الوصيّة بالمنافع موقّتة ، وأمّا لو كان الإيصاء بالمنفعة مؤبّدة ففيه إشكال ينشأ من أنّه

ص: 307

من حيث أنّ الحيوان ملك للوارث والنفقة نفقة الملك فتجب عليه لأنّه مالك ، ومن أنّه ملك مسلوب المنفعة فإلزام المالك بالنفقة ووجوبها عليه ضرر عليه بدون تدارك ، ومثل هذا الحكم منتفي في الشريعة الإسلاميّة بقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (1) وأيضا بأنّ « من كان له الغنم فعليه الغرم ».

ومن أجل هذا الإشكال قيل بأنّ نفقته من بيت المال ، لأنّ المفروض أنّ منافعه للموصى له ، فلا بدّ وأن يكون نفقته إمّا على المالك أو على الموصى له أو من بيت المال فإذا نفينا الأوّلين لما ذكرنا في وجه نفيهما فلا يبقى وجه إلاّ كونها من بيت المال.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الاستحسانات - مضافا إلى أنّها مخدوشة في نفسها ومنقوضة بموارد كثيرة ولا دليل على اعتبارها وذهاب الأكثر إلى أنّ النفقة على الوارث لا على الموصى له بالمنفعة وإن كانت مؤبّدة - لا تعارض إطلاق أدلّة وجوب نفقة الملك على المالك إن كان حيوانا ، إنسانا كان أو غير إنسان بل وإن كان غير حيوان كالبستان الذي أوصى المالك كون أثماره ومنافعه لشخص ، فسقيه وحرثه وتسميده إن كان محتاجا إليها بحيث تموت الأشجار وتتلف على الوارث المالك.

وإن كان لا يخلو من الإشكال ، وذلك لعدم الدليل على وجوب نفقة البستان على مالكه كي يؤخذ بإطلاقه. وقياسه بنفقة الحيوان أوّلا قياس باطل ، وثانيا مع الفارق.

فإذا ظهر أنّ الوصيّة بالمنافع التي لعين من أعيان ماله صحيحة موقتة ومؤبدة ، فلكلّ واحد من الوارث والموصى له التصرّف فيما يخصّه ، فللموصى له التصرّف في المنافع على وجه لا يضرّ بالعين أزيد ممّا هو متعارف في باب الإجارات ، بمعنى جواز التصرّفات التي يتوقّف الانتفاع بها حسب المتعارف في باب الانتفاع فيما إذا ملك الانتفاع بالإجازة لصيرورة المنافع ملكا له ، وللوارث التصرّف في العين ولكن التصرّفات التي لا يضرّ بمنافعها أو الانتفاع بها بلا خلاف ولا إشكال.

ص: 308


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718.

وذلك لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ولا شكّ في أنّ الإضرار بالغير غير جائز ، ونتيجة الجمع بين هذه الأدلّة هو جواز تصرّف كلّ واحد منهما في ماله من دون احتياج إلى الإذن من الآخر ولكن مع عدم الإضرار بالآخر.

وليس ما نحن فيه من قبيل الشريكين كي يكون التصرّف من كلّ واحد محتاجا إلى إذن الآخر ، وذلك لأنّ الشراكة بناء على الإشاعة كلّ جزء جزء من المال المشترك يكون بينهما بأحد الكسور إمّا بالمناصفة أو بالمثالثة وهكذا ، فتصرّف كلّ واحد منهما في أيّ جزء مستلزم للتصرّف في مال الآخر ، ولذلك يحتاج إلى الإذن.

وأمّا فيما نحن فيه فالمالان متميّزان ، ومتعلّق الملكيّة في أحدهما العين وفي الآخر المنفعة ، فلكلّ واحد منهما التصرّف في ماله من دون الاحتياج إلى إذن. وأمّا المقدار الذي يلزم من التصرّف في ماله التصرّف في مال الغير ، فهو من لوازم جعل ملكيّة المنافع للموصى له مثلا ، وإلاّ يلزم أن يكون جعل الملكيّة له لغوا.

ولذلك في باب الإجازة التي هي عبارة عن جعل ملكيّة سكنى الدار مثلا لزيد مدّة معيّنة بعوض مالي معلوم ، بعد وقوع هذا الجعل من طرف المالك وتماميّة العقد لا مانع من تصرّف زيد في تلك الدار ، ولا يحتاج إلى الاستيذان من المالك في التصرّف فيها لأجل الانتفاع ، لأنّ ملكيّة منفعة الدار مثلا ملازم مع جواز التصرّف فيها وإلاّ يكون جعل ملكيّة المنفعة له لغوا.

وعلى كلّ حال من الواضح المعلوم أنّ كون المنفعة للموصى له والعين للوارث ليس من باب الشركة ، لتميّز الملكين كلّ واحد عن الآخر. ويتفرّع عليه فروع.

الكلام في إثبات الوصية

وتثبت الوصيّة التي عرفت جملة من أحكامها بالبيّنة ، وهي عبارة عن شهادة عدلين كسائر الموضوعات التي لها آثار شرعيّة ، وذلك لعموم حجّيتها بالنسبة إلى

ص: 309

جميع الموضوعات التي لها آثار شرعيّة. وقد تقدّم في هذا الكتاب (1) الكلام في عموم حجّيتها وعدم اختصاصها بباب القضاء.

فرع : هل تثبت الوصيّة بشهادة أهل الذمّة عند فقد البيّنة ، أي عدم عدلين مسلمين أم لا؟

لا إشكال في إثبات الوصيّة وقبول شهادة الذمّي عند فقد عدول المسلمين في الجملة ، للآية والرواية.

أمّا الآية : فقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (2).

المراد ( بالآخران من غيركم ) هو أن يكونا من أهل الذمّة من الكفّار ، لا مطلق الكفّار سواء كانوا حربيين أم ذمّيين ، وذلك لورود الرواية على قبول شهادة أهل الذمّة ، في ما رواه سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شهادة أهل الذمّة؟ فقال : « لا تجوز إلاّ على أهل ملّتهم ، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة ، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد » (3).

ويستفاد من هذه الرواية تقييد قبول شهادتهم بأمرين : أحدهما عدم العدول من أهل الإسلام ، الثاني انحصار قبول شهادتهم بخصوص الوصيّة. نعم لو أخذنا بعموم التعليل وهو عدم صلاح ذهاب حقّ أحد فتصير دائرة القبول أوسع.

ولكن أنت خبير بأنّ مفاد الرواية ليس انحصار من تقبل شهادته بخصوص أهل

ص: 310


1- « القواعد الفقهية » ج 3 ، ص 9.
2- المائدة (5) : 106.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 398 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 252 ، ح 652 ، باب البيّنات ، ح 57 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 5.

الذمّة ، لأنّ ثبوت حكم لموضوع لا يوجب نفيه عن غيره ، إلاّ أن يكون للكلام مفهوما ، أي يكون للكلام قيد يدلّ على ثبوت الحكم عند وجود ذلك القيد وعدمه عند عدمه ، سواء كان ذلك القيد بصورة الشرط أو الوصف أو غيرهما ممّا يكون له مفهوم.

نعم ها هنا رواية أخرى عن يحيى بن محمّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال : اللذان منكم مسلمان ، واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سنّ فيهم سنّة أهل الكتاب في الجزية ، وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يوجد مسلمان أشهد رجلين من أهل الكتاب ، يحبسان بعد صلاة العصر فيقسمان باللّه لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذا لمن الآثمين ، قال :

وذلك إذا ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما ، فإن عثر على أنّهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما ، حتّى يجئ شاهدان يقومان مقام الشاهدين الأوّلين ( فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) » إلى آخر (1).

فترى في هذه الرواية أنّه علیه السلام فسرّ قوله تعالى ( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بأهل الكتاب ، غاية الأمر إنّه علیه السلام ألحق المجوس أيضا بأهل الكتاب لما ذكره. والروايات المطلقة وإن كانت كثيرة لكنّها تقيّة بهاتين الروايتين بخصوص أهل الكتاب ، والمجوس أيضا لإلحاقه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهم في الجزية وفيما إذا لم يوجد شاهد مسلم.

وأمّا المطلقات فكثيرة ، وقد عقد لها بابا في الوسائل ، أي باب العشرين في

ص: 311


1- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 6 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 192 ، باب الإشهاد على الوصيّة ، ح 5436 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 178 ، ح 715 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 1 ، وص 179 ، ح 716 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 6.

أحكام الوصايا (1).

وأمّا تفسير الآية وإن كان فيه بعض الاختلاف ، ولكن نحن ننقل ما في الكافي قال بإسناده : خرج تميم الداري وابن بندي وابن أبي مارية في سفر ، وكان تميم الداري مسلما وابن بندي وابن أبي مارية نصرانيين ، وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع وآنية منقوش بالذهب وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع ، فاعتلّ تميم الداري علّة شديدة ، فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية ، وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته ، فقدما إلى المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته فافتقد القوم الآنية والقلادة ، فقالوا لهما : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرا؟ قالا : لا ، ما مرض إلاّ أيّاما قلائل : قالوا : فهل سرق منه شي ء في سفره هذا؟ قالا : لا. قالوا فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا : لا. قالوا : فقد افتقدنا أفضل شي ء كان معه ، آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجوهر ، وقلادة. فقالا : ما دفع إلينا فأدّيناه إليكم ، فقدّموهما إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأوجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما ، ثمَّ ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما ، فجاء أولياء تميم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما ، فانتظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحكم من اللّه في ذلك ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) فأطلق اللّه شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين إلى آخر. (2)

أمّا الرواية فكثيرة.

ص: 312


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 390 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 : باب ثبوت الوصية بشهادة مسلمين عدلين و.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 5 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 7 ، « تفسير القميّ » ج 1 ، ص 189 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 394 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 21 ، ح 1.

منها : رواية ضريس الكناسي قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن شهادة أهل الملل هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم؟ فقال : « لا ، إلاّ أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم ، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصيّة ، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ امرء مسلم ولا تبطل وصيّة » (1).

ومنها : رواية هشام بن سالم ( الحكم ) عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قوله عزّ وجلّ : ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال : « إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة » (2).

وهذه الرواية رويت بطريق آخر بدل قوله : في بلد ليس فيه مسلم أو « في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم » (3).

ورواية حمزة بن حمران ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ ( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال : فقال : « اللذان منكم مسلمان ، واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فقال : إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمين ، فليشهد على وصيّته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما » (4).

والمتحصّل من هذه الأخبار ومن الآية الشريفة بعد تقييد مطلقاتها بمقيّداتها هو

ص: 313


1- « الكافي » ج 7 ، ص 399 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 253 ، ح 654 ، باب البيّنات ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 390 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 3 ، وص 398 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ص 725 ، باب الاشهاد على الوصية ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 4.
3- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 391 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 399 ، باب شهادة أهل الملل ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 179 ، ح 718 ، باب الاشهاد على الوصية ، ح 4 ، وج 6 ، ص 253 ، ح 655 ، باب البيّنات ، ح 60 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 392 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 20 ، ح 7.

أنّه لو أشرف على الموت أو أحسّ أنّه قريب منه أراد أن يوصى وأن يشهد على وصيّة ولم يجد شاهدين عدلين مسلمين ، فله أن يشهد شاهدين من أهل الكتاب ، وشهادتهما في تلك الحال نافذة إن كان المشهود به هو المال.

وهاهنا أمور يجب التنبيه عليه

الأوّل : هو أنّ نفوذ شهادتهما هل موقوف على أن تكون الوصيّة في حال السفر ، أم لا فرق بين أن تكون في السفر أو الحضر ، بل المناط فيه عدم تمكّن الموصي من إشهاد مسلمين عادلين ، سواء كان متمكّنا من إشهاد غير العدول من المسلمين أو من إشهاد المؤمنات العادلات ، أو لم يكن متمكّنا من ذلك أيضا ، بل وسواء كان متمكّنا من إشهاد عدل واحد من المسلمين فيكون حجّة مع ضمّ اليمين في بعض الموارد؟

الظاهر أنّه لا فرق بين أن تكون في حال السفر وبين أن تكون الوصيّة حال الحضر ، ولا بين أن يكون متمكّنا من الشقوق التي ذكرناها أو لم يكن فيما إذا لم يكن متمكّنا من إشهاد عدلين مسلمين ، لأنّه علیه السلام جعل موضوع نفوذ شهادة ذمّيين عدم وجدان مسلمين عادلين ، فجميع تلك الشقوق داخل في ذلك الموضوع ولا فرق بين وجودها وعدمها.

وأمّا مسألة كونها في حال السفر لا الحضر وإن كان ظاهر الآية هو ذلك ، لقوله تعالى ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) (1) ولكنّ الظاهر هو أنّ الشرطية سيقت لبيان تحقّق الموضوع غالبا ، حيث أنّه في الغالب عدم وجدان المسلم يكون في السفر ، وأمّا في الحضر فغالبا يوجد المسلم العدل اثنان وأكثر. وكذلك في رواية هشام « إذا كان الرجل في أرض غربة » أيضا سيقت لبيان تحقّق الموضوع ، لما ذكرنا.

الثاني : هو أنّ المراد من قوله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) هما خصوص أن

ص: 314


1- المائدة (5) : 106.

يكونا من أهل الكتاب أو مطلق من ليس بمسلم ، سواء كان ذمّيا أو لم يكن ، وعلى تقدير كون المراد أن يكونا من أهل الكتاب وذمّيين هل يكون المجوس منهم ، أو ملحق بهم حكما ، أو لا منهم ولا ملحق بهم؟

الظاهر أنّ المراد هو خصوص الذمّيين وأهل الكتاب لا مطلق الكفّار ، أوّلا لأنّ مورد الآية هما الذمّيان ، أي ابن بندي وابن أبي مارية نصرانيّان وقد تقدّم وكانا تحت حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهما ذمّيان. وثانيا : إنّ هذا - أي قبول شهادتهما - خلاف القواعد الأوّليّة ، لأنّ الأشياء كلّها على ذلك حتّى ذلك يستبين أو تقوم به البيّنة ، ومعلوم أنّ البيّنة عبارة عن شهادة مسلمين عدلين ، فيجب الوقوف على مورد اليقين والنصّ وهو لم يكونا ذمّيين. وثالثا : تفسيره في رواية حمزة بن حمران بأهل الكتاب وقد تقدّم. ورابعا : إجماع الفقهاء على ذلك.

نعم تقدّم إلحاق المجوسي بأهل الكتاب في رواية يحيى بن محمّد في ما نقل عن أبي عبد اللّه علیه السلام قوله علیه السلام : « فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوسي ، لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سنّ فيهم سنّة أهل الكتاب في الجزية ». هذا مع احتمال أن يكونوا من أهل الكتاب فإنّ الفقهاء قالوا لهم شبهة كتاب.

الثالث : إذا لم يوجد مسلم عادل ووصلت النوبة إلى إشهاد أهل الكتاب ، هل يجب أن يكون ذلك الكتابي عادلا في دينه أم لا ، بل يجوز أن يشهد على وصيّته رجلا ذمّيا ولو كان فاسقا في دينه ، بمعنى أنّه لا تجتنب عمّا هو حرام في دينه أي يرتكب المحرّمات مثل الكذب والبهتان وأكل أموال اليتامى ظلما وشهادة الزور وأمثال ذلك من القبائح العقليّة والمحرّمات في كلّ دين مع وجود فسّاق المسلمين؟

ظاهر المقابلة في الآية بين ( اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) وبين أو ( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) هو أنّ مع فقدان الأوّل تصل النوبة إلى الثاني ، فإذا لم يوجد اثنان ذوا عدل منكم تصل النوبة إلى آخران من غيركم وإن لم يكونا عادلين في دينهم ، وأيضا وإن

ص: 315

كان يوجد الفسّاق من المسلمين.

لا يقال : إذا كان شهادة الفاسق يجوز الاعتماد عليه ، فالمسلم الفاسق أولى من الكافر الفاسق.

لأنّه استحسان ولا يجوز أن يكون مدركا للحكم الشرعي ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول.

ولكن هناك أمر يدلّ على اعتبار العدالة في دينه في إشهاد الذمّي ، وهو قوله علیه السلام في رواية حمزة بن حمران : « فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيّته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما » ومعلوم أنّ المراد من هذه العبارة الأخيرة هو أن يكونا عادلين في دينهما كي يكونا مرضيين عند أصحابهما ، لأنّ الكذّاب المغتاب مثلا ليس بمرضي عند من يقول بحرمة الكذب والغيبة ، وهكذا الأمر في سائر المعاصي التي حرام في كلّ مذهب ودين.

فرع : ولو أوصى بلفظ وكان كليّا متواطئا ، مثل أن يقول : أعطوا فلانا غنما مثلا من أغنامي ، فللورثة الخيار في تطبيقه على أيّ فرد أرادوا ، لصدق الوفاء وإنفاذ الوصيّة على الجميع.

فرع : لا خلاف ولا إشكال في ثبوت الوصيّة بالمال بشهادة العدل الواحد مع اليمين إجماعا ، وكذلك لا خلاف في ثبوتها بشهادة عدل واحد مع شهادة امرأتين ثقتين ، لإطلاق الأدلة في أبواب الحقوق الماليّة وعدم اختصاصها بمورد دون مورد ، كما هو مذكور مشروحا في كتاب القضاء والشهادات.

وكذلك تقبل شهادة امرأة واحدة في ربع ما شهدت به ، وتقبل شهادة اثنين في نصفه ، وشهادة ثلاث في ثلاثة أرباع ممّا شهدن به ، وشهادة أربع في الجميع ، كلّ ذلك

ص: 316

إذا كانت شهادتين في الماليّات.

والمدرك في هذا الحكم رواية الربعي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصى ليس معها رجل ، فقال علیه السلام : « يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها » (1).

ورواية أبان عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في وصيّة لم يشهدها إلاّ امرأة ، فأجاز شهادتها في الربع من الوصيّة بحساب شهادتها (2).

ورواية محمّد بن قيس قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في وصيّة لم يشهدها إلاّ امرأة أن تجوز شهادة المرأة في ربع الوصيّة إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها » (3).

ودلالة هذه الروايات على ما ذكرنا في أوّل الفرع من أنّ بشهادة الواحدة الربع ، وبالاثنتان النصف ، وبالثلاث ثلاثة أرباع ، وبالأربع الجميع واضحة لا يحتاج إلى البيان.

وأمّا ما توهّم أنّه لا تثبت بشهادة المرأة إلاّ الربع سواء كانت واحدة أم كنّ متعدّدات ، فخلاف ما يفهم من ظاهر الكلام. وليس من باب القياس كما كان كذلك في دية قطع أصابع المرأة ، لوجود الدليل هناك وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا زاد يكون ديتها نصف دية الرجل » بل الظهور العرفي يقتضي أن يكون لشهادة كلّ امرأة ربع ما شهد بها غير الربع الذي يثبت بشهادة الأخرى إلى أن

ص: 317


1- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 192 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 5435 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 719 باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 395 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 4 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 722 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 396 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 723 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 396 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 3.

يستوفي بشهاداتهنّ تمام ما شهدن به ، فلا يبقى محلّ وموضوع لشهادة الخامسة.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأصل عدم التداخل.

ثمَّ إنّ ها هنا روايات أخر ظاهرها عدم قبول شهادة المرأة في الوصيّة مطلقا ، كرواية عبد الرحمن (1) ، ورواية عبد اللّه بن سنان (2) ، ومكاتبة أحمد بن هلال (3) ، ولكن لا بدّ من تأويلها كما في الوسائل ، أو طرحها لإعراض المشهور عنها بل الإجماع على خلافها.

فرع : لا تثبت الوصيّة بالولاية إلاّ بشاهدين عدلين ، أي البيّنة الشرعيّة كسائر الموضوعات ، وذلك لعموم قوله علیه السلام في رواية مسعدة : « الأشياء كلّها على ذلك حتّى يستبين غيره أو تقوم به البيّنة » (4) وليست الوصيّة بالولاية من موارد الاستثناء عن تحت هذه القاعدة ، فلا تثبت برجل وامرأتين ولا بعدل واحد مع اليمين ولا بشهادة أربع من النساء منفردات ، وجميع ذلك لأجل عدم الدليل وشمول إطلاقات وعموماته لها وعدم دليل على حجّيتها كي تكون مخصصة لها أو حاكمة عليها.

فرع : لا تثبت بشهادة الوصيّ ما هو وصي فيه ولا ما يجرّ به نفعا أو يستفيد منه ولاية ، والأصل في ذلك ما ذكروه في كتاب الشهادة أنّه من شروط صحّة الشهادة

ص: 318


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 180 ، ح 722 ، باب الاشهاد على الوصيّة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 396 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 6.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 270 ، ح 728 ، باب البيّنات ، ح 133 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 30 ، ح 100 ، باب فيما يجوز فيه شهادة النساء ، ح 32 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 397 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 7.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 268 ، ح 219 ، باب البيّنات ، ح 124 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 28 ، ح 90 ، باب فيما يجوز فيه شهادة النساء ، ح 22 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 397 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 22 ، ح 8.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب الزيادات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

وقبولها أن لا يكون الشاهد منهما يجلبه نفع إليه من شهادته ، أو من جهة عداوة دنيويّة للمشهود عليه ، وأمّا العداوة الدينيّة فلا تمنع من قبول الشهادة. وتفصيل المسألة في كتاب الشهادات.

وعلى كلّ حال ذهب المشهور إلى عدم قبول شهادة الوصي فيما هو وصيّ فيه ، ولا فيما يجرّ نفعا إليه ، أو يستفيد منه ولاية ، فالعمدة في ذلك هو أنّ الشاهد في هذه الموارد يكون مدّعيا لنفسه شيئا وله نصيب وحظّ من المشهود به ، ولا شكّ في أنّ المدّعى عليه أن يأتي بالشهود لما يدّعيه ، ولا يمكن أن يكون هو المدّعي وهو الشاهد.

وأيضا يدلّ على عدم قبول شهادة المذكورات ما روى عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه نهى أن تجاز شهادة الخصم والظنين والجارّ إلى نفسه منفعة.

وأيضا ما ورد في باب شهادة الشريك لشريكه من أنّها لا تقبل.

منها : رواية أبان قال سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه؟ قال : « تجوز شهادته إلاّ في شي ء له فيه نصيب » (1). وروايات أخر بهذا المضمون (2).

وأيضا ورد روايات في عدم قبول شهادة الوصي فيما هو وصيّ فيه.

منها : ما رواه محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أبي محمّد كتب هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ».

وهذا ظاهر في عدم قبول قول الوصيّ وشهادته ، وإلاّ لم يكن محتاجا إلى اليمين لوجود البيّنة.

ص: 319


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 44 ، باب من يجب ردّ شهادته و. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 246 ، ح 623 ، باب البيّنات ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 15 ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 272 ، أبواب الشهادات ، باب 27 ، ح 3.
2- انظر : « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 271 - 272 ، أبواب الشهادات ، باب 27 و 28.

وأيضا ممّا يدلّ على هذا الحكم مضمرة سماعة قال : سألته عمّا يردّ من الشهود؟ قال : « المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتّهم ، كلّ هؤلاء تردّ شهاداتهم » (1).

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّه لو كان وصيّا في إخراج مال معيّن ، فشهد للميّت بمال على رجل يوجب كون إخراج ذلك المال المعيّن جميعه من الثلث لا تقبل.

مثلا لو كان وصيّا في إخراج ألف دينار وصرفه في الميراث وجميع التركة ألفان ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فشهد الوصيّ بألف دينار للميّت على رجل لا تكون الوصيّة زائدا على الثلث لو قبلت شهادته ، ولو لم تقبل ينقص عن الألف المقدار الزائد على الثلث ويمنع الوصي عن التصرّف في ذلك المقدار ، فشهادته لو قبلت توجب توسعة تصرّفه فلذا لا تقبل.

وذلك كما أنّه لو وقع الخلاف بين الورثة والوصيّ في مقدار الوصيّة وادّعى الوصيّ أنّها الثلث ، وقال الوارث إنّها الربع أو الخمس مثلا ، فشهادة الوصيّ أنّها الثلث لا تقبل ، فكذلك الأمر فيما نحن فيه.

وحاصل الكلام أنّه كلّما كان موجبا لنفع الوصي ، وراجعا إلى توسعة تصرّفه فشهادته لا تقبل فيه ، لأنّه يكون مدّعيا ، وشهادة المدّعي لا تقبل فيما يدّعيه.

الأمر الرابع : في الموصى له

ويشترط فيه أن يكون موجودا حال الوصيّة وأن يكون قابلا للتملّك في الوصيّة

ص: 320


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 599 ، باب البيّنات ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 14 ، ح 38 ، باب شهادة الشريك ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 278 ، أبواب الشهادات ، باب 32 ، ح 3.

التمليكيّة ، فإذا كان موجودا ولكن لا يكون قابلا للتمليك فلا يجوز أن يوصى له كي يكون هو الموصى له ، مثل أن يوصى لغير الإنسان من الجمادات أو النباتات أو الحيوانات غير الإنسان.

وذلك لأنّ الوصيّة التمليكيّة عبارة عن تمليك مال للموصى له ، فلا بدّ وأن يكون الموصى له قابلا للتملّك وإلاّ لا يتحقّق التمليك.

وأمّا اشتراط كونه موجودا فلأنّ المعدوم ليس قابلا لأنّ يتملّك ، والوصيّة التمليكيّة عبارة عن إنشاء ملكيّة مال لشخص ، غاية الأمر أنّ إنشاء الموصي يتعلّق بملكيّة ذلك المال لذلك الشخص الذي نسمّيه بالموصى له بعد موت الموصي ، فكونها بعد الموت من قيود المنشأ لا الإنشاء ، فلا يمكن إنشاء مثل هذه الملكيّة المقيّدة لما هو معدوم حال الإنشاء.

وذلك من جهة أنّ الملكيّة وإن كانت أمرا اعتباريّا ، ولكن لها إضافتين : إضافة إلى الشي ء الذي يعتبر ملكيّته وبهذه الإضافة يسمّى ملك أو مملوك ، وإضافة إلى من يملك ذلك الشي ء وبهذا الاعتبار يسمّى بالمالك ، فلا تتحقّق الملكيّة في عالم الاعتبار بدون هذين الاعتبارين. وذلك مثل الزوجيّة الاعتباريّة التي لا يمكن تحقّقها إلاّ بوجود امرأة تكون معروضا لعنوان أنّها زوجة ، وشخص يكون اعتبار زوجيّتها له الذي نسمّيها بالزوج ، فكما لا معنى لاعتبار زوجية امرأة بالفعل للزوج المعدوم ، كذلك لا معنى لاعتبار ملكيّة مال للمالك المعدوم.

وأشكلوا على هذا بصحّة اعتبار الملكيّة للمالك المعدوم فعلا حال اعتبار الملك له ، كما في الوقف على البطون المتأخّرة وجودهم من حال الوقف بناء على أنّ الوقف تمليكا لهم ، غاية الأمر ملكا غير طلق بل ملكا محبوسا بحيث لا يباع ولا يورث ولا يرهن.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّه في باب الوقف على البطون الطبقة الأولى موجودة

ص: 321

حال الوقف والواقف يملّكهم ، ثمَّ بعد انقراضهم يعتبر ملكيّة طبقة البعد مثل باب الإرث ، فإنّ الشارع اعتبر ملكيّة المورث الموجود حال الاعتبار بأسبابها ، من الحيازة أو العطايا أو الهبات أو بالمعاملات والانتقال إليه بأحد النواقل الشرعيّة ، وأيضا اعتبر بعد موته ملكيّة ورثته حال وجودهم. وقد جاء الدليل على هذا المعنى بقوله علیه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه ». وهذا أمر ممكن معقول ، وقد جاء الدليل عليه في مقام الإثبات ، وهذا ليس من تمليك المعدوم.

لا يقال : لا فرق في عدم إمكان التمليك بين عدم الموصى له وبين عدم الموصى به ، وذلك لما بيّنّا من أنّ الملكيّة لها إضافتان : إحديهما إلى الشي ء الذي يتّصف بالملكيّة وأنّه مملوك ، وأخرى إلى الشخص الذي يتّصف بأنّ الملك له. ويعبّر عن الأوّل بالمملوكيّة ، وعن الثاني بالمالكيّة. والموصى به هو الأوّل ، والموصى له هو الثاني. فلو قلنا بأنّ الموصى له لا يمكن أن يكون معدوما ، فالموصى به أيضا كذلك ، لوحدة المناط فيهما ، مع أنّه من المسلّمات جواز الوصيّة بالأعيان المعدومة حال الوصيّة فعلا ، وكذلك بالمنافع المعدومة حالها كما إذا أوصى بكون ثمرة هذا البستان لفلان عشر سنين مثلا ، بل ينبغي أن يعدّ جواز الثاني من الضروريّات.

وفيه : أنّ هذا ليس من باب تمليك ما هو المعدوم حال التمليك للموصى له ، بل من باب تمليك شي ء في ظرف وجوده لشخص معيّن ، أو لعنوان من العناوين ، أو لطبيعة كلّية ، ولا مانع عقلا من هذا الأمر.

والذي قلنا إنّه غير ممكن هو أن لا يكون التمليك بلحاظ حال وجوده ، وإلاّ لا شكّ في أنّ الأحكام الوضعيّة تتعلّق بموضوعاتها ومتعلّقاتها باعتبار وجود صفة وحالة في تلك الموضوعات ، أو بلحاظ ظرف وجود نفس تلك الموضوعات ، وإن كان الجعل في حال عدم تلك الموضوعات أو عدم تلك الصفات ولكن اعتبار المجعول بلحاظ ظرف وجود تلك الموضوعات أو تلك الصفات.

ص: 322

نعم يحتاج إلى وجود دليل على صحّة العقد الفلاني والتمليك بهذا اللحاظ ، كما ورد في باب الوقف على البطون من الأخبار والإجماع ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ إطلاقات أدلّة الوصيّة يظهر منها أنّ الموصي في حال الإيصاء ينشئ ملكيّة المقيّدة بما بعد الموت للشخص الفلاني ، فلا بدّ من وجوده في تلك الحال لما بيّنّا وتقدّم.

فما أفاده في جامع المقاصد بقوله : واعلم أنّه قد سبق القول في الوقف جوازه على المعدوم إذا كان تابعا ، كما لو وقف على أولاد فلان ومن سيولد له ، فأيّ مانع من صحّة الوصيّة كذلك ، فإذا أوصى بثمرة بستانه مثلا خمسين سنة لأولاد فلان ومن سيولد له ، فلا مانع من الصحّة ، بل تجويز ذلك في الوقف يقتضي التجويز هنا بطريق أولى ، لأنّه أضيق مجالا من الوصية (1).

ففيه : أنّ الفرق بين المقامين جليّ ، وهو أنّ في الوقف أتى دليل من الأخبار والإجماع على صحّة الوقف على البطون وإن وجد بعضهم مئات من السنين بعد إنشاء الواقف أو بعد موته كذلك. وأمّا في الوصيّة فالإجماع على عدم صحّة الوصيّة للمعدوم حين الوصيّة أو حين موت الموصي.

نعم تقدّم في بعض الفروع السابقة بالنسبة إلى الموصى به أنّه يجوز الوصيّة بالمنافع غير الموجودة حال الوصيّة أو حال موت الموصي ، كالمثل الذي ذكره في جامع المقاصد من وصيّته بثمرة بستانه خمسين سنة لأولاد فلان الموجودين أو الذين سيولدون ويوجدون ، فهذا المثل بالنسبة إلى المنافع الموصى بها فلا إشكال فيها ، بل ادّعى الإجماع على صحّتها. وأمّا بالنسبة إلى الموصى لهم فإن كان كلّهم موجودين فلا إشكال أيضا في صحّتها وإن كان كلّهم معدومين فالإجماع على عدم صحّتها. وأمّا إذا كان بعض ولده موجودين وبعض آخر لم يولد بعد ، فهذا لا يخلو من إشكال بالنسبة إلى ذلك البعض الذي لم يوجد بعد.

ص: 323


1- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 41.

فرع : لا خلاف بين الإماميّة في صحّة الوصيّة إذا كانت واجدة لشرائط الصحّة للوارث والأجنبي ، وبعض الروايات الواردة في عدم جواز الوصيّة للوارث يجب طرحها أو تأويلها لإعراض الأصحاب عنها ، وورود روايات مستفيضة في جوازها له ، وقد عقد في الوسائل بابا في جواز الوصيّة للوارث تركنا ذكرها لوضوح المسألة وانعقاد الإجماع على الجواز. وقد ذكر في الوسائل إحدى عشر رواية تدلّ على الجواز (1).

فرع : تصحّ الوصيّة للذميّ مطلقا ، سواء كان أجنبيا أو كان من ذوي الأرحام. وقال في الشرائع : وقيل لا يجوز مطلقا ، ومنهم من خصّ الجواز بذوي الأرحام. والأوّل أشبه (2). أي القول بالجواز مطلقا أشبه بالقواعد والأدلّة من الإطلاقات والعمومات الواردة في الباب. أمّا من الكتاب العزيز فقوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (3) ولا شكّ في أنّ الوصيّة لهم من البرّ.

وأمّا الروايات فقد عقد في الوسائل بابا لذلك (4).

منها : ما عن ريّان بن شبيب قال : أوصت مارية لقوم نصارى فراشين بوصيّة ، فقال أصحابنا : اقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك ، فسألت الرضا علیه السلام فقلت : إنّ أختي أوصت بوصيّة لقوم نصارى ، وأردت أن أصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا مسلمين ، فقال : « امض الوصيّة على ما أوصت به ، قال اللّه تعالى : ( فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى

ص: 324


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 373 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 15.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 253.
3- الممتحنة (60) : 8.
4- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 415 ، باب جواز الوصيّة من المسلم والذمي بمال.

الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (1) (2) ».

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل اللّه؟ قال : « أعطه لمن أوصى له وإن كان يهوديّا أو نصرانيّا ، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) » (3).

ومنها : ما رواه حسين بن سعيد في حديث آخر عن الصادق علیه السلام قال : قال علیه السلام : « لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهوديّ أو نصرانيّ لوضعت فيهم ، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) » (4).

ولا شكّ في دلالة الآية هذه الروايات على جواز الوصيّة للذميّ مطلقا ، سواء كانوا من ذوي الأرحام أو لم يكونوا منهم.

هذا كلّه مع نفي الخلاف فيه في الخلاف (5) ، فيكون عليه الإجماع.

وأمّا القول بعدم الجواز مطلقا ، فمستنده يمكن أن يكون بعض الروايات التي ذكرها في الوسائل ، كمكاتبة أحمد بن هلال إلى أبي الحسن علیه السلام (6) ومكاتبة عليّ بن

ص: 325


1- البقرة (2) : 181.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 16 ، باب آخر منه ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 202 ، ح 806 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 129 ، ح 486 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 415 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 14 ، باب إنفاذ الوصية على جهتها ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 200 ، باب وجوب إنفاذ الوصيّة والنهي عن تبديلها ، ح 5462 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 808 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 129 ، ح 488 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 417 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 5.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب آخر منه ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 810 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 131 ، ح 493 ، باب من أوصى بشي ء في سبيل اللّه. ، « وسائل الشيعة » ج 13. ص 417 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 6.
5- « الخلاف » ج 4 ، ص 153 ، المسألة : 26.
6- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 204 ، ح 812 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 129 ، ح 489 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 416 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 2.

بلال أو الهلال (1) ، وكلاهما لا ظهور لهما في عدم صحّة الوصيّة للذمّي ، مضافا إلى إعراض المشهور عنهما.

وأمّا القول بالتفصيل بين ذوي الأرحام منهم فيجوز ، وغيرهم فلا يجوز ، فلم تجد لهذا القول مدركا يمكن الاعتماد عليه والاستناد إليه.

هذا كلّه في الوصيّة للذمّي.

وأمّا الحربي فالظاهر عدم الجواز له ، لقوله تعالى ( إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (2).

ولكنّ الإنصاف أنّ هذه الآية أخصّ من المدّعى ، ولا تشمل إلاّ قسم خاصّ من الحربي لا كلّهم.

ولقوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ) (3).

ولا شكّ في أنّ الوصيّة لهم من المودّة المنهيّ عنها ، فتكون الوصيّة لهم منهيّ عنها ، والنهي في المعاملات بالمعنى الاسم المصدري يدلّ على الفساد كما قررناه في الأصول.

ولكن هذه الآية أيضا أخصّ من المدّعي ، إذ ليس كلّ حربي محادّ اللّه ولرسوله ، مع أنّ النهي ها هنا على تقدير تسليمه ليس متعلّقا بنفس المعاملة ، بل تعلّق بعنوان ملازم للمعاملة أو ملزوم لها ، ومثل هذا النهي دلالته على البطلان غير معلوم.

ص: 326


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 336 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5726 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 416 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 35 ، ح 3.
2- الممتحنة (60) : 9.
3- المجادلة (58) : 22.

والدليل الثالث على عدم صحّة الوصيّة للكافر الحربي هو عدم إمكان العمل بهذه الوصيّة شرعا ، وهذا يدلّ على فسادها ، إذ لا معنى للفساد في أبواب المعاملات إلاّ عدم لزوم ترتيب الأثر عليها وجواز عدم الاعتناء بها. أمّا عدم وجوب العمل بهذه الوصيّة بل عدم جوازه هو أنّ الحربي لا احترام لماله ولا لنفسه ، فلا يجوز أو لا يجب إعطاء ما أوصى له إليه.

وإن شئت قلت : لو جازت الوصيّة للحربي فإمّا يجب على الوصي الدفع إليه ، وهو ممنوع ، لجواز أخذه وتملّكه ، أو لا يجب. وهو أي عدم وجوب الدفع إليه عليه من لوازم الفساد.

وخلاصة الكلام أنّ الأظهر والأحوط عدم الجواز ، كما ذهب إليه المحقّق ، قال في الشرائع : وفي الحربي تردّد ، أظهره المنع (1). والعلاّمة في القواعد قال : والأقرب صحّة الوصيّة للذمّي وإن كان أجنبيّا ، والبطلان للحربي (2). وقال في الإيضاح : والصحيح ما اختاره المصنّف ، وهو جوازها للذمّي مطلقا والبطلان للحربي والمرتدّ. (3) والشيخ في الخلاف قال بجواز الوصيّة للذمّي دون الحربي (4). ويستفاد من جامع المقاصد أيضا أنّه قائل بعدم الجواز للحربي. (5)

فرع : إطلاق الوصيّة يقتضي التسوية بين من أوصى لهم ، فلو أوصى لأولاده تشملهم بالسويّة فإذا كانوا ذكورا وإناثا فنصيب الإناث مثل نصيب الذكور ، لوحدة السبب لأنّ السبب لاستحقاق الموصى به هي الوصيّة ، وفي ذلك كلّهم سواء ، لأنّ

ص: 327


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 253.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 293.
3- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 487.
4- « الخلاف » ج 4 ، ص 153 ، المسألة : 26.
5- « جامع المقاصد » ج 10 ، ص 52.

الموصي لم يفرّق على الفرض بين الذكور والإناث ، ولا بين العالم والجاهل ، ولا بين العادل والفاسق ، وهكذا الأمر في سائر الطواري والخصوصيّات الواردة على عنوان الموصى له ، والمفروض أنّ كلّهم من مصاديق ذلك ومتساوي الإقدام في انطباق العنوان عليها ، وحيث لم يفرّق الموصي بين هذه الطواري وأطلق العنوان ولم يقيّده بأحد هذه القيود وجودا وعدما فالإطلاق يقتضي التسوية.

وكذلك الأمر لو قال الموصي : المال الفلاني لأخوالي أو لخالاتي أو لأعمامي أو لعمّاتي بعد وفاتي ، فيشملهم بالسويّة ولا يقسّم بينهم بترتيب الإرث ، لأنّه في الإرث جاء الدليل على أنّ تركة الميّت ليس بينهم بالسويّة ، بل لكلّ صنف منهم نصيب غير نصيب الصنف الآخر ، فللذكر منهم ضعف الإناث وإلاّ هناك أيضا يقسّم بينهم بالسويّة ، فلو كان دليل الإرث فقط قوله علیه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (1) كان يقسّم المال بالسويّة ، وهذا واضح.

نعم لو صرّح بالتفصيل فلا يبقى مورد للأخذ بالإطلاق ، بل يجب العمل على طبق تفصيله. وها هنا رواية تدلّ على التفصيل ، ولكن الأصحاب لم يعملوا بها فصارت مهجورة متروكة ، وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعمامه وأخواله ، فقال علیه السلام : « لأعمامه الثلثان ، ولأخواله الثلث » (2) وروى هذه الرواية في الكافي بطريق آخر عن ابن محبوب ، ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسن بن محبوب ، ولكنّها لعدم العمل بها وإعراض الأصحاب عنها مطروحة ، أو يحمل على أنّ الموصي أوصى لهما على كتاب اللّه ، أي طريقة الإرث التي في كتاب اللّه وأنّ ( لِلذَّكَرِ ) مثلَ ( حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

ص: 328


1- تقدّم ذكره في ص 322.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 45 ، باب من أوصى لقراباته ومواليه. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 208 ، باب الوصيّة للأقرباء والموالي ، ح 5483 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 214 ، ح 845 ، باب الوصية المبهمة ، ح 22 ، وص 325 ، ح 1169 ، باب ميراث الأعمام والعمّات. ، ح 8. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 454 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 62 ، ح 1.

فرع : قال في الشرائع : إذا أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبة (1).

أقول : كالهاشمي لأفراد الهاشميّين ، وكذلك الطالبين والعلويين بالنسبة إلى أفراد هذين العنوانين.

ولكن الإنصاف أنّ العناوين العامّة التي تطلق على الأشخاص مختلفة جدّا من حيث كثرة المصاديق وقلّتها ، ومن جهة اتّصالهم في أب قريب أو بعيد. والقرب والبعد أيضا قد يكون بحسب الزمان ، وقد يكون بحسب كثرة عدد الفواصل ، وقد يكون بحسب الاثنين ، ولا شكّ في أنّ ذلك اللفظ قد يكون منصرفا عن بعض أفراده بل عن أغلب أفراده ، فعنوان الهاشمي أو العلوي أو الحسيني أو الموسوي يطلق على الملايين ، ولا شكّ في أنّ كلّهم أقرباء بمعنى اشتراكهم واتّصالهم في النسب ، ولكن مع ذلك لفظ « الأقرباء » منصرف عن أغلب أفراد هذه العناوين المذكورة.

فالأحسن بل المتعيّن إحالة المعنى وتشخيص المراد إلى الظهور العرفي ، - أي ما يفهمه العرف من هذا اللفظ - فلا يمكن أن يكون ما ذكره في الشرائع هو المناط في تشخيص المراد من اللفظ.

فلو أوصى لذوي قرابته أو أقربائه ، فلا يمكن أن يكون كلّ من هو معروف بنسبة الهاشمي أو العلوي أو العبّاسي مثلا أو الموسوي أو الفاطمي وأمثالها من أقربائه ، لأنّ اللفظ منصرف عن أغلب الأفراد قطعا ، فالمناط هي الإحالة إلى العرف.

وفي المفاهيم العرفيّة أيضا قد يكون معلوم الانطباق ، وقد يكون عدم انطباقه معلوم. وحال هذين معلوم في شمول الوصيّة وعدم شمولها له. وقد يكون مشكوك الانطباق ، فالإطلاق لا يشمله أيضا وخارج عن الحكم ، إلاّ أن يكون أصل موضوعي في البين ، وإلاّ فالمرجع هي الأصول العمليّة.

ص: 329


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 254.

وما ذكرناه من لزوم الإحالة إلى العرف في لفظ « ذوي القرابة » جار في مطلق الألفاظ التي تقع متعلّقا للوصية ويكون الوصيّة لهم ، من لفظ « القوم » و « العشيرة » و « الجيران » وأمثالها ، فلا بدّ وأن يؤخذ بما يفهمه العرف منها إلاّ أن يأتي دليل من قبل الشارع على التوسعة أو التضييق ، مثل الطواف بالبيت صلاة أو المطلّقة الرجعيّة زوجة ، فلا نطيل الكلام وإن أطالوا في معنى بعض هذه الألفاظ كلفظ « أهل البيت » وغيره.

فرع : وتصحّ الوصيّة للحمل الموجود حال الوصيّة وإن لم يكن ولجه الروح ، لشمول عمومات الوصيّة وإطلاقاتها له ، ولأنّه اجتمع فيه الشرطان اللذان للموصى له ، وهما وجوده وقابليته للتملّك ، فلا وجه لعدم صحّته ، ولكن استقرار الصحّة بوضعه حيّا وإن وضعته ميتا يكشف عن بطلانها من أوّل الأمر وإن كان حيّا حين الوصيّة ، فهو مثل الإرث أي كما أنّه يرث إن ولد حيّا أمّا لو ولد ميّتا لا يرث وإن كان حال موت مورّثه حيّا في بطن أمّه ، وذلك لأنّ صلاحيّته للتملّك بالإرث أو بالوصيّة موقوفة على تولّده حيّا ولو آنا مّا ، فلو لم يولد حيّا فيستكشف أنّه لم يملك أصلا ، فالنماء المتخلّل بين حال الوصيّة والولادة ، وبين موت المورث وحال الولادة للطفل إن ولد حيّا ، وللورثة إن لم يولد حيّا. والحال أنّ النماء تابع للعين في كلا المقامين.

ثمَّ إنّ من الواضحات أنّه لو ولد حيّا ثمَّ مات تكون الوصيّة لورثة الولد من باب الإرث كسائر موارد الإرث ، كما أنّه لو ولد حيّا ثمَّ مات بالنسبة إلى المال الذي ورثه وهو في بطن أمّه أيضا كذلك يكون لوارثه.

وأمّا بناء على لزوم قبول الموصى له في صيرورة الوصيّة ملكا له فهل يحتاج إلى قبول وارث الطفل الذي ولد حيّا ومات ، أو قبول من هو وليّ عليه ، أم لا؟ الظاهر عدم الاحتياج ، لأنّه بالولادة حيّا صار ملكا للولد ، فالوارث يملك الوصيّة بالإرث لا

ص: 330

بالوصيّة ، فلا يحتاج إلى القبول.

نعم يمكن أن يقال - كما هو الظاهر من المسالك (1) - : إنّ الولد حال الولادة كان قبوله أو قبول وليّه شرطا في تأثير الوصيّة ، وحيث أنّه لم يكن قبول من كلّ واحد منهما كما هو المفروض في المقام ، فيجب القبول من الوارث أو وليّه إن كان صغيرا أو وكيله إن كان كبيرا ، وإلاّ لا يتمّ الوصيّة. وهو كلام حسن قويّ جدّا.

ولكن صاحب الجواهر (2) أشكل عليه بأنّ ظاهر الفتاوى استقرار الوصيّة بانفصاله حيّا.

وهذا الكلام منه إن كان ادّعاء الإجماع على استقرار الوصيّة بالانفصال حيّا وإن لم يحصل القبول فهو شي ء. وبعبارة أخرى : يكون من نقل الإجماع ، وإلاّ لا يسمن ولا يغني من جوع.

فرع : لو أوصى في سبيل اللّه ، قيل : يختصّ بالغزاة ، وقيل : يصرف في وجوه البرّ وفيما فيه أجر وثواب. والاختصاص بالأوّل لا وجه له ، نعم هو أحد طرق سبيل اللّه والثاني أقرب إلى ما هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة.

وقد تقدّم منّا أنّ في جميع هذه الموارد لا بدّ من مراجعة العرف في فهم ألفاظ المستعملة في الموصى به والموصى له كالفقراء والعلماء والقرّاء أو الأرامل أو لورثة فلان أو لعصبة فلان أو لبني فلان أو للشيوخ أو للكهول أو للشبّان أو للعرائس أو للعذارى أو للعجائز ، وأمثال هذه الألفاظ من العناوين.

وكذلك الأمر في الموصى به ، مثل أن يقول : أعطوا فلانا قوسي أو عودي أو عصاي أو سيفي أو فروتي أو ثيابي أو قرآني أو كتب ادعيتي ، ففي فهم جميع تلك

ص: 331


1- « المسالك » ج 1 ، ص 410.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 388.

الألفاظ فهم العرفي هو المتّبع ، إذ هو المناط في تشخيص الظاهر من غيره ، وهو الحجّة في تعيين ما أراد المتكلّم.

وأمّا في بيان « سبيل اللّه » وأنّه ما المراد منه إذا أوصى بصرفه في سبيل اللّه ، فقد ورد فيه روايات عقد له بابا في الوسائل ، ونحن نذكر جملة منها :

منها : ما رواه حسن بن راشد قال : سألت أبا الحسن العسكري علیه السلام ( بالمدينة ) عن رجل أوصى بمال له في سبيل اللّه؟ قال علیه السلام : « سبيل اللّه شيعتنا » (1).

ومنها : حسين بن عمر قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ رجلا أوصى إليّ بمال في السبيل ، فقال لي : « اصرفه في الحجّ ، فإنّي لا أعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج » (2).

ومنها : ما رواه حجّاج الخشّاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن امرأة أوصت إليّ بمال أن يجعل في سبيل اللّه ، فقيل لها : يحجّ به ، فقالت : اجعله في سبيل اللّه. فقالوا لها : فنعطيه آل محمد صلی اللّه علیه و آله قال : اجعله في سبيل اللّه. فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « اجعله في سبيل اللّه كما أمرت ». قلت : مرني كيف أجعله؟ قال : « اجعله كما أمرتك ، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3) أرأيتك لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا؟ ». قال : فمكثت بعد ذلك ثلاث سنين ، ثمَّ دخلت عليه فقلت له مثل الذي قلت أوّل مرّة ،

ص: 332


1- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب آخر منه ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 206 ، باب الرجل يوصى بمال في سبيل اللّه ، ح 5478 ، « معاني الأخبار » ص 167 ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 204 ، ح 811 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 412 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح 5 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 206 ، باب الرجل يوصى بمال في سبيل اللّه ، ح 5479 ، « معاني الأخبار » ص 167 ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 809 ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 130 ، ح 491 ، باب من أوصى بشي ء وفي سبيل اللّه تعالى ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 412 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 2.
3- البقرة (2) : 181.

فسكت هنيئة ، ثمَّ قال : هاتها ، قلت : من أعطيها؟ قال : « عيسى شلقان » (1).

ومنها : ما عن يونس بن يعقوب أنّ رجلا كان بهمدان ذكر أنّ أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر ، فأوصى بوصيّة عند الموت وأوصى أن يعطى شي ء في سبيل اللّه فسأل عنه أبو عبد اللّه علیه السلام كيف نفعل وأخبرناه أنّه كان لا يعرف هذا الأمر فقال علیه السلام : « لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهوديّ أو نصرانيّ لوضعته فيهما ، إنّ اللّه تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) فانظروا إلى من يخرج إلى هذا الأمر - يعني بعض الثغور - فابعثوا به إليه » (2).

وبعد التأمّل التامّ يطمئن الناظر فيها أنّ ما ذكر في كلّ رواية من هذه الروايات ليس إلاّ مصداقا من مصاديق سبيل اللّه ، فالإعطاء إلى الشيعة أو للحجّ عنه أو لأهل الجهاد والحافظين للثغور كلّهم من مصاديق سبيل اللّه ولا تنافي بينها.

الأمر الخامس : في الأوصياء

اشارة

جمع مفرده : الوصي ، مأخوذ من الوصاية. وهي في عرف المتشرعة عبارة عن التعهّد إلى شخص بالتصرّفات المتعلّقة بأمواله وأولاده القصر أو أحفاده كذلك بعد موته ، فتحصل لذلك الشخص ولاية على هذه التصرّفات من قبل الموصي ، فذلك

ص: 333


1- « الكافي » ج 7 ، ص 15 ، باب آخر من إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 203 ، ح 810 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 131 ، ح 493 ، باب من أوصى بشي ء في سبيل اللّه ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 413 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 14 ، باب إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 200 ، باب وجوب إنفاذ الوصيّة والنهي عن تبديلها ، ح 5463 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 202 ، ح 805 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 128 ، ح 485 ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 414 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 33 ، ح 4.

الشخص يسمّى بالوصي ، وهو من المفاهيم الواضحة عند العرف ، فلا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

وإنّما الكلام في الشروط والأوصاف التي يلزم أن يكون متّصفا بها كي يصلح لجعله وصيّا ، ويترتّب الصحّة على التصرّفات التي تصدر منه.

فمنها : العقل والبلوغ ، واعتبار هذين معلوم ، لأنّ المالك الأصيل محجور عن التصرّفات في أمواله مع فقدهما أو أحدهما ، فكيف يمكن إعطاء مثل هذه الولاية لفاقدهما أو فاقد أحدهما.

ومنها : الإسلام. واشتراط صحّة الوصاية بكون الوصي مسلما إجماعي لا خلاف فيه. وقد يستدلّ بأدلّة أخرى ولكن لا تخلو من مناقشة ، من قبيل الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، ووصاية الكافر على أموال المسلم - وخصوصا على أولاده القصر وأحفاده كذلك المسلمين - علوّ عليهم ، وأيّ علوّ أعلى من كونه وليّا عليهم وقوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (1) إلى آخر والكافر ظالم لنفسه ولغيره. وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) في هذه الآية هم الكفّار ، والركون هو الميل اليسير وهو مقابل النفوذ ، ولا شك في أنّ جعله وليّا على أمواله وأولاده ركون إليه وأيّ ركون.

نعم يبقى كلام في هذا المقام وفي مقامات أخر ، وهو أنّه هل النهي يدلّ على الفساد ، أم لا ، لأنّه ليس بعبادة كي يكون محتاجا إلى قصد القربة ، ولا يمكن قصدها مع كونه منهيّا عنه. وقد حقّقنا في الأصول في كتابنا « منتهى الأصول » (2) أنّ النهي في أبواب المعاملات إذا تعلّق بالمعنى الاسم المصدري من تلك المعاملة فيدلّ على الفساد ، وها هنا كذلك ، لأنّ ما هو المبغوض عند الشارع وغير راض به هو ولاية الكافر على

ص: 334


1- هود (11) : 113.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 420.

أموال المسلمين وأنفسهم ، لا جهة إصدار هذا الجعل فقط. وهذا واضح جدا.

ثمَّ إنّ هذه الأدلّة على تقدير دلالتها على اعتبار الإسلام في الوصي ، هو فيما إذا كان الموصي مسلما. وأمّا إذا كان كافرا وأوصى إلى واحد من أهل ملّته فلا إجماع في البين.

ومنها : العدالة ، وفي اعتبارها خلاف. قال في الشرائع : وهل يعتبر العدالة؟ قيل : نعم ، لانّ الفاسق لا أمانة له. وقيل : لا ، لأنّ المسلم محلّ للأمانة. (1)

وكلا القولين المستندين إلى هذين الدليلين غير خال عن الخلل.

أمّا الأوّل : فمن جهة أنّه ربما يحصل الوثوق والاطمئنان من الفاسق أزيد من غيره ، خصوصا إذا كان من أقربائه الأقربين ، كابنه الذي هو أخ لأولاده ، وأحفاده القصر خصوصا إذا كان شقيقا لهم ، فلا شكّ في أنّه أعطف وأرأف إلى إخوته - وإن كان فاسقا - من الأجانب وإن كانوا عدولا.

وأمّا الثاني : فلأنّ المسلمين مختلفون من حيث الأمانة ، لأنّه بين المسلم والأمين عموم وخصوص من وجه ، فربّ شخص يكون أمينا وليس بمسلم ، وكذلك العكس.

وما ورد في أمانة المسلم أو في خيانة الكافر غالبي ليس بطور الكلّيّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : اعتبار الوثوق أو الاطمئنان والأمانة فيما إذا كان أوصى إليه في أداء حقوق الواجبة ، كما إذا أوصى إلى شخص أن يحجّ عنه حجّة الإسلام أو حجّ واجب من جهة أخرى ، أو يقضي ما فات من فرائضه التي هو مأمور بقضائها ، أو جعله وصيّا وقيّما على أولاده وأحفاده القصر كي يدبّر في إدارة أموالهم أو سائر شؤونهم.

وإلاّ لو جعله وصيّا في صرف ثلثه في الخيرات والمبرات ، فلا دليل على لزوم وثوقه بالوصي فضلا عن لزوم كونه عادلا.

ص: 335


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 255.

وذلك من جهة أنّ اعتبار الوثوق أو الأمانة من جهة عدم تلف أمواله ، وأن يصرف في ما يريد أو في ما له الأجر والثواب ، لا أن لا يصرف في الخيرات بل لعلّه في بعض الأحيان يصرف في المحرّمات والجرائم الكبيرة ، بل وحتّى في مورد يحتمل أن يصرف الوصي بعض ماله في المحرّمات لا مانع من جعله وصيّا ، لأنّه مسلّط على ثلث ماله ، يفعل به كيف ما يشاء.

إلاّ أن يكون المنع من باب أن لا يكون إعانة على الإثم. ولكن هذا الاحتمال أيضا لا أثر له ، لأنّ الإعانة على الإثم لا تتحقق بدون قصد ترتّب الإثم على فعله ، والمفروض في المقام أنّ قصد الموصي ها هنا هو أن يصرف الوصي في الخيرات والمبرّات ، لا في المحرّمات.

وأمّا ما يقال من أنّ المال يخرج عن ملكه بعد الموت ، فيكون من قبيل تعيين الولي في أن يتصرّف في مال الغير ، فلا بدّ أن يكون موثوقا وأمينا كي لا يتلف عن طرف جعله ونصبه ذلك الشخص أموال القصر ، أو فيما أوصى للجهات العامّة حقوق الجميع.

مثلا إذا أوصى للمصرف في قنطرة فلان ، فبتلف ذلك المال الذي عيّنه لعمارة القنطرة يضيع حقوق جميع العابرين. وهكذا الأمر فيما أوصى لجميع الخيرات والجهات العامّة.

وأمّا جعل الوصي في تقسيم وتدبير ما أوصى بالوصيّة التمليكيّة للعناوين العامّة ، فلو خان الوصي يكون تلفا في ملكهم ، لأنّه بعد الموت يصير الموصى به ملكهم ، فإتلاف الوصي يقع في ملكهم لا في ملك الموصي ، لأنّ الموصى به خرج بالموت عن ملك الموصي ، فإتلاف الوصي وخيانته لا محالة تقع إمّا في ملك الموصى لهم أو في حقوقهم ، وليس له السلطنة على هذا الإتلاف ، فلا بدّ وأن يكون الوصي عادلا كي يأتمنه على مال الغير أو على حقّه ، ولا يؤتمن الفاسق ، كما ورد في بعض الروايات ،

ص: 336

ولصريح آية النبإ التي أمر اللّه تعالى فيها بالتثبّت والتبيّن عمّا أخبره ، وعدم قبول قوله.

ففيه : أنّ الموصي ما دام حيّا والروح في بدنه ، له أن يتصرّف في ماله كيفما شاء ، ولذلك له أن يتصرّف فيه في مقدار الثلث بأيّ نحو أراد ، ما لم يكن التصرّف في المحرّمات من التصرّفات التي لا يجوز له حال الحياة.

وأمّا أنّ تصرّفه بلحاظ ما بعد الموت تصرّف في ملك الغير أو في حقّه فمغالطة واضحة ، لأنّه لا ينتقل إلى الورثة المال الذي لم يتصرّف فيه كي يكون تصرّفه في ملك الورثة ، بل انتقل إليهم المال الذي وقع فيه التصرّف بهذا القيد.

وذلك نظير أنّ المالك آجر ماله واستوفى المنفعة التي لسنين ثمَّ بعد ذلك باعه ، فينتقل إلى المشتري مال مسلوب منفعة وإن كان زمان حصول المنفعة بعد زمان انتقاله إلى المشتري ، وذلك من جهة أنّه قبل البيع له السلطنة على ماله عينا ومنفعة إلى الأبد ، ولذلك يجوز له التصرّفات المعيّنة للعين أو المنفعة إلى الأبد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المحقق أجاد في مقام تعليل عدم اعتبار العدالة بقوله : ولأنّها ولاية تابعة لاختيار الموصي فتحقّق بتعيينه. (1) كما أنّ للمالك أن يوكل من يريد ويستودع عنه من يريد ، عادلا كان أم لا.

وهناك قول ثالث اختاره في المسالك (2) وهو أنّ العدالة ليست بشرط ولكن ظهور الفسق مانع ، فلو كان ظاهر الفسق ومعلوم الحال أنّه فاسق لا يجوز جعله وصيّا ، وأمّا لو كان مجهول الحال ولا يعلم فسقه بحيث أنّ من نسب إليه الفسق وقال إنّه فاسق يعزّر ، فيجوز أن يوصى إليه ويجعله وصيّا.

ومن المحتمل أن يكون مراده من ظهور الفسق عليه أن يكون متجاهرا بالفسق ، ففرّق بين الفاسق الواقعي والمتجاهر بالفسق ، فجوّز جعله وصيّا في الأوّل ، ومنع

ص: 337


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 255.
2- « المسالك » ج 1 ، ص 411.

في الثانية.

ولكن ظاهر عبارته بعيد عن هذا المعنى ، وإن كان هو في نفسه لا بأس به.

فالأقوال في المسألة ثلاثة : اعتبار العدالة ، وعدم اعتبارها مطلقا سواء ظهر عليها الفسق أم لا ، وعدم اعتبار العدالة وعدم ظهور الفسق.

ثمَّ ظهر مما ذكرنا أنّ الأرجح هو القول الثاني.

نعم لا بأس بالقول باعتبار كونه ثقة مأمونا عن الخيانة ، كما هو بناء العقلاء في مقام الوصيّة ، فلا يوصون إلاّ إلى من يثقون به وأنّه لا يخون ولا يتلف بل يضع كلّ ما أوصى إليه في موضعه. وأمّا العدالة بالمعنى المعلوم عند الفقهاء فمن كلّ مائة من الأوصياء لا تجد واحدا فيهم ، ولا تعرّض في الأخبار من هذه الجهة أصلا مع كثرة سؤال الأوصياء عنهم علیهم السلام عن وظائفهم فيما أوصى إليهم. ولعلّ بعد التأمّل في جميع ما ذكرنا يحصل الاطمئنان بعدم اعتبار العدالة في الوصي ، وكفاية الوثوق بأمانته.

فرع : لو أوصى إلى عدل ففسق بعد موت الموصي فهل تبطل وصيّته مطلقا ، أو على تقدير القول باشتراط صحّة الوصاية بعدالة الوصي ، أو لم تبطل مطلقا؟

وجه الأوّل الذي اختاره الأكثر ، بل ادّعى جماعة الإجماع عليه : أنّ الموصي لم ينصبه مطلقا وعاريا عن القيد ، بل نصب هذا الشخص بما أنّه عادل لا يخون ، فإذا زال الوصف يزول الموضوع ، كما أنّه إذا نصب المجتهد العادل قاضيا ففسق يزول عنه منصب القضاء لانعدام موضوعه ، فكذلك هنا جعل هذا الشخص العادل بما أنّه عادل وصيّا ، فموضوع الوصاية ليس ذات هذا الشخص بل بوصف أنّه عادل وإن لم تكن العدالة شرطا للوصاية ولكن الموصي أعطى هذا المنصب باعتبار أنّه عادل ، فعند

ص: 338

فسقه انعدم الموضوع فانعدم الحكم.

وجه الثاني : أنّ ظاهر اشتراط عدالة الوصي في صحّة الوصاية هو أنّها شرط حدوثا وبقاء ، لا حدوثا فقط ، وذلك لوحدة المناط حدوثا وبقاء ، لأنّ مناط الاشتراط هو عدم تلف أموال أولاده وأحفاده أو مال سائر الناس أو حقّهم. وهذا المعنى كما أنّه يوجب اشتراط العدالة في إعطاء الموصي الولاية في أوّل الأمر ، كذلك يوجب اشتراطها بقاء كي لا يوجد خلل من تلف مال أو حقّ بقاء.

وإذا قلنا بعدم اشتراط العدالة في أوّل الأمر حدوثا فلا وجه لاشتراطها بقاء ، فكما أنّ الفسق من أوّل الأمر ليس بمانع عروضه ، فيما بعد أيضا ليس بمانع.

وجه الثالث : هو أنّه بعد ما تحقّق الوصيّة صحيحا وصار الموصى إليه وصيّا واعطى هذا المنصب ، فبزواله يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، بل إذا شككنا فمقتضى الاستصحاب بقاء كونه وصيّا.

ولكن أنت عرفت ممّا ذكرنا في بيان وجه الأوّل أنّ الدليل على الزوال موجود وهو فقد وصف الموضوع أي العدالة ، والوجه الأوّل هو الصحيح ، أي القول بالبطلان مطلقا.

أمّا على تقدير اشتراط الصحّة بعدالة الوصي فالأمر واضح ، لما ذكرنا من عدم الفرق بين الحدوث والبقاء. وأمّا على تقدير عدم الاشتراط فأيضا لما ذكرنا من تقييد المتعلّق بوصف العدالة ، فبعد زوال الوصف لم يجعل له هذا المنصب ، وليس شكّ في البين كي يستصحب ، لأنّ المفروض أنّ الموضوع ها هنا مركّب وبزوال الوصف يحصل القطع بارتفاع الموضوع.

نعم لو كان ذات الوصي موضوعا للوصاية ، وكان وصف العدالة من قبيل الداعي للجعل فلا يرتفع الوصاية ، لأنّ تخلّف الداعي للجعل لا يوجب ارتفاع المجعول ، لأنّ ما هو العلّة في الجعل هي الصورة الذهنيّة لما هو الداعي ، وعدم مطابقة

ص: 339

تلك الصورة مع الخارج لا تأثير له في الجعل ، ولا في وجود المجعول.

ولكن هذا فيما نحن فيه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّه جعل فلانا مثلا وصيّا بما هو عادل ، لا أنّه جعله وصيّا والداعي لهذا الجعل عدالته ، فالحقّ هو بطلان وصيّته بعد صيرورته فاسقا وانعزاله قهرا.

ثمَّ إنّه على تقدير عود العدالة هل تعود الوصيّة أم لا؟

الظاهر أنّه لا ، لأنّ عودها يحتاج إلى جعل جديد ، نعم كان له من أوّل الأمر أن يجعله هكذا ، أي العود بعودها.

فرع : وحيث أنّ من جملة شرائط الوصي أن يكون بالغا - لأنّ الصبي ممنوع عن التصرّف في ماله بنفسه ومباشرته ، ومحجور عن المعاملات ، ومسلوب عبادته ، ولا يعتني بقوله ولا بفعله - فلا تصحّ الوصيّة إلى الصبيّ منفردا لعدم قابليّته للتصرّفات شرعا ، ولمّا جعله منضمّا إلى الكبير بحيث يكون شريكا مع غيره المنضمّ إليه عند بلوغه ، فلا مانع منه عقلا ولا شرعا. وورود الدليل على ذلك أيضا مع أنّ جميع ذلك مطابق للقواعد الأوّليّة وإن لم يكن نصّ في البين ، فالكبير متفرّد في التصرّفات إلى أن يبلغ الكبير ، فإذا بلغ فليس له التفرّد لوجود الشريك ، كما أنّه ليس للصغير بعد بلوغه نفوذ شي ء ممّا أبرمه الكبير قبل بلوغ هذا الصغير.

وأمّا النصّ الوارد في المقام فروايات :

منها : ما عن محمد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمد علیه السلام رجل أوصى إلى ولده ، وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار ، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته ويقضوا دينه لمن صحّ على الميّت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقّع علیه السلام

ص: 340

« نعم ، على الأكابر من الولد أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك » (1).

ومنها : ما عن عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى إلى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبيّا؟ فقال علیه السلام : « يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصيّة ، ولا تنتظر بلوغ الصبي ، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى ، إلاّ ما كان من تبديل أو تغيير ، فإنّ له أن يردّه إلى ما أوصى به الميّت » (2).

فرع : بعد الفراغ عن جواز الوصيّة إلى الصغير منضمّا إلى الكبير وعدم جواز تصرّفه قبل البلوغ وكونه شريكا مع الوصي الكبير بعد البلوغ وعدم جواز تفرّد الكبير في التصرّفات بعد بلوغ الوصي الصغير ، فلو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل فهل ينفرد الكبير بالتصرّف ويصير كأنّه لم يكن غيره وصيّ في البين ، أم لا بدّ من مراجعة الحاكم ومداخلته بالإذن له بذلك ، أو يجعل شريكا له في التصرّفات عوضا عن الشريك الذي مات أو صار كالعدم؟

الظاهر عدم لزوم المراجعة إلى الحاكم بل عدم جواز مداخلته ، لأنّ مداخلة الحاكم مورده فيما إذا لم يداخل يتعطّل الأمر ، وليس هناك من يجب مباشرته ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له ، فإذا كان للأمر وليّ يجب عليه الدخل والتصرّف ، كما في مثل المقام حيث أنّ الوصي الكبير كان له التصرّفات قبل موت الصغير أو جنونه وفساد عقله ، فالآن كما كان ، فمع وجود ذلك الكبير الذي له ولاية على ما أوصى به لا تصل

ص: 341


1- « الكافي » ج 7 ، ص 46 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك منه الصغير ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 209 ، باب الوصيّة إلى مدرك وغير مدرك ، ح 5487 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 185 ، ح 744 ، باب الأوصياء ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 438 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 50 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 46 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 209 ، باب الوصيّة إلى مدرك وغير مدرك ، ح 5486 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 184 ، ح 743 ، باب الأوصياء ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 140 ، ح 522 ، باب أنّه يجوز أن يوصى إلى امرأة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 439 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 50 ، ح 2.

النوبة إلى الحاكم ومداخلته.

فرع : لا يشترط الذكورة في الوصيّ فيجوز أن يوصى إلى امرأة موثوقة غير عاجزة عن التصرّفات التي أوصى إليها ، وذلك لأنّ الأصل عدم اعتبار الذكورة مع شمول إطلاقات الوصيّة لما إذا كان الوصيّ امرأة ، مضافا إلى الإجماع وعدم وجود المخالف ودلالة رواية عليّ بن يقطين المتقدّمة أنّه قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل أوصى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبيّا؟ فقال علیه السلام : « يجوز ذلك وتمضى المرأة الوصيّة » إلى آخر.

فرع : ولو أوصى إلى اثنين أو أكثر ، فلهذه المسألة صور :

الأولى : أن يطلق ولم يقيّد وصايتهما وولايتهما أو تصرّفهما بالإجماع أو بالانفراد.

الثانية : أن يقيّد بالاجتماع ، سواء كان الاجتماع قيد الولاية والوصاية ، أو كان قيد التصرّف.

الثالثة : أن يصرّح بجواز تصرّف كلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا أو ولاية كلّ واحد منهما كذلك.

أمّا الصورة الثانية والثالثة فالأمر فيهما واضح ، لأنّ كلّ واحد منهما في الثانية إمّا ليس بوليّ ووصيّ ، أو لا يجوز تصرفه مستقلا وإن كان لاشتراط الاجتماع ، فمخالفته تبديل للوصيّة وقد حرّمه اللّه تعالى بقوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (1).

هذا إذا كان الاجتماع شرطا للتصرّف ، وأمّا إذا كان قيدا للولاية بمعنى أنّ الولاية

ص: 342


1- البقرة (2) : 181.

جعل للاثنين فكأنّه كلاهما وليّ واحد ، فكلّ واحد منهما منفردا عن الآخر ليس بوليّ ، فلا ينفذ تصرّفاته ويكون حاله حال الأجنبيّ عن التركة ، بل هو هو.

وأمّا في الثالثة فيجوز تصرّف كلّ واحد منهما مجتمعا مع الآخر ومتفرّدا عنه ، لتصريح الموصي بذلك.

أمّا الصورة الأولى ، أي فيما إذا أوصى إليهما من دون تصريح بكونهما مجتمعين أو تصريح بعدم الفرق بين كونهما مجتمعين أو منفردين ، فالمشهور عدم نفوذ تصرّف كلّ واحد منهما منفردا واستقلالا لوجوه :

الأوّل : لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ احتمال أن يكون تصرّف كلّ واحد منهما مشروطا بالانفراد ، بحيث لو اتّفقا على أمر يكون تصرّفهما باطلا ، لا يليق مثل هذا الاحتمال بالفقيه ، فلا بدّ من أحد أمرين : إمّا اختصاص النفوذ باجتماعهما على أمر ويكون التصرّفات ناشئة من رأيهما جميعا ، أو ينفذ وإن تفرّد أحدهما بالتصرّف دون الآخر. وهذا معنى الدوران بين التعيين والتخيير ، فالقدر المتيقّن ممّا هو نافذ هو صورة اجتماعهما ، فلا بدّ وأن يؤخذ به ، لأنّ الأخذ به يوجب القطع بالعمل بالوصيّة. وأمّا الفرد الآخر ، أي الأخذ بنفوذ تصرّف كلّ واحد منهما وإن كان منفردا مشكوك أنّه عمل بالوصيّة أم لا ، والعقل يحكم بلزوم الأخذ بالأوّل ، وهذا الحكم العقلي ثابت وجار في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

الثاني : ظهور جعلهما وصيّا في أنّ لنظر كلّ واحد ورأيه مدخليّة في نفوذ الوصيّة ، ورأي كلّ واحد منهما بعض المؤثّر لإتمامه ، ولا شكّ في أنّ المعلول لا يوجد إلاّ بتمام العلّة لا ببعضها ، وكذلك الحكم لا يوجد إلاّ بعد وجود تمام موضوعه ، فلا بدّ من الاجتماع في نفوذ الوصيّة.

الثالث : الروايات الواردة الظاهرة في أنّ تصرّف أحد الوصيّين دون الآخر ومنفردا لا نفوذ له :

ص: 343

منها : رواية محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام : رجل أوصى إلى رجلين أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة ، والآخر بالنصف؟ فوقّع علیه السلام : « لا ينبغي لهما أن يخالفا الميّت وأن يعملا على حسب ما أمرهما إن شاء اللّه ».

وروى المشايخ الثلاثة هذه الرواية عن الصفّار (1).

ومنها : ما رواه صفوان بن يحيى قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل كان لرجل عليه مال فهلك وله وصيّان ، فهل يجوز أن يدفع إلى أحد الوصيّين دون صاحبه؟ قال : « لا يستقيم إلاّ أن يكون السلطان قد قسم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف وعلى يد هذا النصف ، أو يجتمعان بأمر السلطان » (2).

فقوله علیه السلام : « لا يستقيم » صريح في أنّ كلّ واحد منهما ليس مستقلاّ في التصرّفات.

وأمّا الاستثناء فإن كان المراد من السلطان هو الإمام الحقّ ، فلا شكّ في أنّه بعد تقسيمه لمصلحة فكلّ واحد منهما يصير مستقلاّ في نصيبه. وإن كان المراد هو الجائر فيكون الحكم من باب التقيّة وقد وجّه الرواية بهذا أو ما هو قريب منه الشيخ قدس سره (3) ولا بأس به.

ومنها : ما رواه بريد بن معاوية قال : إنّ رجلا مات وأوصى إليّ وإلى آخر أو إلى رجلين فقال أحدهما : خذ نصف ما ترك وأعطني النصف ممّا ترك ، فأبى عليه الآخر ،

ص: 344


1- « الكافي » ج 7 ، ص 46 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 203 ، باب الرجلين يوصى إليهما. ، ح 5471. « الاستبصار » ج 4 ، ص 118 ، ح 448 ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 185 ، ح 745 ، باب الأوصياء ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 440 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 51 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 243 ، ح 941 ، باب من الزيادات الوصايا ، ح 34 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 450 ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 440 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 51 ، ح 2.
3- « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ذيل ح 119.

فسألوا أبا عبد اللّه علیه السلام عن ذلك ، فقال علیه السلام : « ذلك له » (1).

وهذه الرواية أيضا تدلّ على عدم جواز استقلال أحدهما وتفرّده بالتصرّف ، بناء على أن يكون المشار إليه في كلمة « ذلك له » هو أباه الآخر بعد طلب أحدهما التقسيم والنصف ، لا أن يكون المشار إليه هو طلب التنصيف ، وإلاّ فيكون على خلافه أدلّ. فظهر أنّ هذه الروايات أيضا تدلّ على عدم جواز انفراد كلّ واحد من الوصيّين أو الأوصياء بالتصرّف ، بل لا بدّ من اجتماعهما على رأي وأمر فيما لم ينصّ الموصي على الاستقلال والانفراد.

ثمَّ إنّه لو تشاحا ولم يجتمعا على أمر وأصرّ كلّ واحد منهما على رأيه المخالف لرأي الآخر ، فالحاكم يجبرهما على الاجتماع ، فإن لم يمكن وتعذّر الاجتماع بل وإن تعسّر يستبدل بهما غيرهما ، لأنّ تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، ولأنّ التعطيل في وصايا الميّت بحيث يضيع حقّ من أوصى له أو غير ذلك من وصاياه أمر مرغوب عنه شرعا. ومضافا إلى أنّ المال يبقى بلا من يكون وليّا عليه ويدبّر أمره ، خصوصا إذا كان من الحيوانات فتتلف لاحتياجها إلى عنايات من تعليفها ، ومكان بالليل لحفظها من السباع ، وراع يرعيها وأمثال ذلك ، والصغار من يتامى الموصي يحتاجون إلى الأكل واللباس وغير ذلك من حوائجهم ، فلا بدّ من مداخلة الحاكم الذي بيده مجاري الأمور لاستبدال المتشاحين بغيرهما كي يدبّر هذه الأمور وينظّمها.

وأمّا ما قيل : من أنّ في الأمور اللابدّية التي لا يمكن تعطيلها لفوات نفس محترمة ، أو فوات الأموال بجواز انفراد أحدهما بالتصرّف كما في الشرائع. (2)

ص: 345


1- « الكافي » ج 7 ، ص 47 ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 203 ، باب الرجلين يوصى إليهما. ، ح 5472. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 185 ، ح 746 ، باب الأوصياء ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 118 ، ح 449 ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 440 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 51 ، ح 3.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 256.

فهذا كلام خال عن الدليل ، بل الدليل على خلافه ، لأنّهما بعد سقوط رأيهما عن الاعتبار لعدم إمكان اجتماعهما لا اعتبار برأي كلّ واحد منهما منفردا عن الآخر ولا بفعله ، فيكون حاله حال الأجانب بل هو بمفرده أجنبي عن التركة ، فهو كسائر الناس لا يجوز له التصرّف إلاّ بأمر وإذن من الحاكم ، فبعد عدم إمكان اجتماعهما على رأي لا بدّ من مداخلة الحاكم كي يستبدل بهما ، سواء كان مورد خلافهما من الضروريّات والأمور اللابدّ منها ، أو لم يكن كذلك.

نعم لو لم يوجد الحاكم - أي المجتهد العادل - أو لم يمكن الوصول إليه ، فعلى عدول المؤمنين بل على فسّاقهم إن لم يوجد العدول أيضا من باب الحسبة. وليس ذلك حينئذ من باب الوصيّة كي يقدّم أحدهما على سائر المؤمنين.

وما ذكرنا من أنّه لا بدّ من مراجعة الحاكم فيما إذا كان عدم إمكان الاجتماع لإصرار كلّ واحد منهما على رأيه وعدم تنزّله عنه.

وأمّا إذا كان لسقوط رأيه وعدم قابليّته للتدخل بموت أو جنون ، فهل للحاكم ضمّ آخر إلى الباقي منهما أم لا؟ الظاهر أنّه ليس له ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له ، وها هنا حيث أنّ لكلّ واحد منهما ولاية على الموصى به ، فبخروج أحدهما عن قابليّة الولاية والوصاية لا يبقى الموصى به بلا ولي كي تصل النوبة إلى الحاكم ، بل ينفرد الولي والوصي الآخر ويتمّ العمل بمقتضى الوصيّة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الوصاية والولاية التي جعلها الموصي لكلّ واحد منهما كانت مشروطة بانضمام الآخر ، فلو سقط الآخر عن قابليّة الانضمام بواسطة الموت أو الجنون فينتفي حصول الشرط ، فينتفي المشروط بانتفاء الشرط ، فلا يبقى له الولاية والوصاية فتصل النوبة إلى الحاكم.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اشتراط ولاية كلّ واحد منهما بانضمام الآخر لم يكن مطلقا ، بل كان مقيّدا بالإمكان ، ففيما إذا لم يمكن الانضمام لموت أو لجنون لا اشتراط ، فتكون

ص: 346

ولاية من له قابليّة التصرّف باقية ، فلا تشمله أدلّة رجوع الأمر إلى الحاكم.

ولكن الإنصاف : أنّه يمكن الفرق بين أن يكون التقييد صريحا بأن يقول الموصي لزيد مثلا : أنت وصيّ بشرط أن لا تعمل بوصاياي إلاّ مع عمرو ، فإذا اتّفقتما على رأي فاعمل ، وبين أن يكون التقييد بالانضمام مستفادا من الإطلاق بأن يقول لزيد : أنت وصيّ ، ويقول لعمرو أيضا : أنت وصيّ.

ففي الأوّل التقييد يوجب تضييق دائرة الولاية والوصاية ، بمعنى عدم كونه وصيّا في غير تلك الدائرة ، سواء كان الانضمام ممكنا أم لا ، ففي صورة عدم الانضمام لا ولاية وإن كان لجهة عدم إمكانه كما في المقام ، لأنّ الانضمام مع الموت أو الجنون غير ممكن.

وأمّا في الثاني فنفس التقييد مقيّد بإمكان حصول القيد ، فإن لم يمكن حصول القيد كما في المقام حيث أنّ حصول الانضمام غير ممكن بواسطة الموت أو الجنون ، فلا تقييد في البين. والحاكم بهذا الفرق هو الظهور العرفي.

وحيث أنّ التقييد في المقام مستفاد من الإطلاق فلا إطلاق له ، ففي صورة عدم إمكان الانضمام الولاية والوصاية مطلقة لا تضييق فيها ، فلا تصل النوبة إلى الحاكم ، بل الآخر الباقي على قابليّته ينفرد ويستقرّ بالأمر ، ولا يحتاج إلى جعل الحاكم شريكا له بدل الآخر الذي سقط عن القابليّة للموت أو للجنون ، وعلى اللّه التوكّل وبه الاعتصام.

فرع : قد تقدّم أنّ الوصيّة عقد جائز ، فيجوز فسخها من قبل الموصي ما دام في بدنه الروح وأن يغيّرها بالزيادة والنقصان ، ومن طرف الموصى إليه أيضا كذلك في حياة الموصي وإن كان بعد القبول. أمّا لو كان بعد موت الموصي أو لم يبلغه الردّ وإن كان في حال حياته فليس له الردّ ، بل يجب عليه القبول والعمل بمقتضاها. والظاهر أنّ هذا الحكم إجماعيّ لا خلاف فيه.

ص: 347

ويدلّ على لزوم القبول أيضا التعليل الذي في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا أوصى الرجل إلى أخيه وهو غائب فليس له أن يردّ عليه وصيّته ، لأنّه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره » (1) فجعل علیه السلام مناط عدم جواز الردّ ووجوب القبول على الوصي عدم اطّلاع الموصي على الردّ ، فكونه غائبا لا خصوصيّة له ، بل المناط عدم إمكان الوصيّة إلى شخص آخر لعدم اطّلاعه على الردّ لهذا التعليل.

وفي بعض الروايات الأخر الواردة في هذا الباب كرواية فضيل بن يسار (2) أيضا إيماء بذلك.

نعم هنا كلام وهو أنّه هل صرف بلوغ الردّ يكفي في عدم وجوب القبول على الموصى إليه ، أو يحتاج مضافا إلى بلوغ الردّ إمكان جعل غيره ، بحيث لو لم يمكن جعل غيره وصيّا إمّا لقلّة زمان حياته بعد البلوغ أو لشدّة المرض والآلام أو لغياب سائر من يعتمد عليهم من أقربائه وأصدقائه فلا يفيد البلوغ ، بل يجب عليه القبول وإن بلغ؟

وظاهر التعليل هو الثاني ، لأنّه علیه السلام جعل البلوغ مقدّمة لإمكان جعل شخص آخر وصيّا ، فالمناط لصحّة الردّ وعدم وجوب القبول في الحقيقة هو الغاية الأخيرة ، لأنّها العلّة واقعا للحكم في باب ترتّب الغايات.

ص: 348


1- « الكافي » ج 7 ، ص 6 ، باب الرجل يوصى إلى آخر. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 196 ، باب للامتناع من قبول الوصيّة ، ح 5449 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 206 ، ح 816 ، باب قبوله الوصيّة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 398 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 23 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 6 ، باب الرجل يوصى إلى آخر. ، ح 2. « الفقيه » ج 4 ، ص 195 ، باب الامتناع من قبول الوصيّة ، ح 5446 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 205 ، ح 815 ، باب قبول الوصيّة ، ح 2 ، وص 159 ، ح 654 ، باب في النحل والهبة ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 398 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 23 ، ح 2.

فرع : لو ظهر عن الوصي عجز بمعنى عدم قدرته على العمل بالوصيّة لمرض مزمن أو هرم أو ما يشبه ذلك هل ينعزل ويسقط ولايته ووصايته ، أو يضمّ إليه الحاكم من يساعده فيخرج عن الاستقلال لعدم قدرته مستقلاّ؟ وأمّا ولايته وصدور التصرّفات عن رأيه ونظره فلا يسقط. وأمّا فرض عدم رأي ونظر له من جهة مرض أو كبر بحيث صار مخرفا فهو خارج عن الفرض ، إذ الفرض في المقام هو عجزه عن تنفيذ الوصيّة استقلالا وبمفرده؟

الظاهر عدم انعزاله مع إمكان العمل بالوصيّة وعدم تبديلها عمّا وقعت عليه بضمّ الحاكم إليه مساعد معه يتمّ العمل بالوصيّة ، فالقول بعزله أو انعزاله يكون من التبديل المنهي عنه ، وهذا لا كلام ولا خلاف فيه بل ادّعى الإجماع عليه.

نعم هنا بحث علميّ ربما يترتّب عليه بعض الآثار ، وهو أنّه في المفروض هل ولاية الوصي العاجز عن التنفيذ تنقص وتقصر ، بمعنى أنّها لا تكون تامّة بحيث يستقلّ في التصرّفات ، فيكون الحاكم أو المساعد الذي ضمّه إليه الحاكم شريكا له في الولاية ، أو يكون تمام الولاية له فإذا خالف رأيه رأي المساعد المنصوب عن طرف الحاكم ، يكون رأيه هو المتّبع دون رأي المساعد. وأمّا فرض أنّه لا رأي له لكبر أو مرض فقلنا إنّه خارج عن الفرض؟

الظاهر عدم حصول نقص في ولايته ، ولذلك لو كان قادرا على تعيين شخص للمباشرة وتنفيذ ما هو عاجز عن مباشرته وتنفيذه ، يمكن أن يقال بأنّه مقدّم على جعل الحاكم وضمّه مساعدا إليه. نعم لو كان عاجزا عن هذا أيضا كما أنّه عاجز عن المباشرة وتنفيذ الوصيّة ، فحينئذ تصل النوبة إلى جعل الحاكم ونصبه.

فما هو الحقّ والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الوصي إن كان عاجزا عن العمل بالوصيّة مباشرة وتسبيبا ، فتسقط ولايته رأسا ويتعيّن على الحاكم جعل وليّ على الوصايا بدلا عن الوصي الأصلي الذي كان وليّا بجعل الموصي ، لأنّ العمل بوصايا

ص: 349

الميّت لازم وليس من يعمل بها ، فلا بدّ عن جعل الحاكم من يعمل ، لئلا يلزم التعطيل.

وأمّا إن كان ضعيفا لا يقدر على العمل بها وحده ، فإن كان يقدر على تحصيل شريك معه في العمل وتنفيذ الوصايا ، فله أن يحصّل ولو كان بإعطاء الأجرة له ولا يحتاج إلى الحاكم أيضا ، إلاّ إذا كان الموصي اشتراط عليه المباشرة بنفسه ، وأن يكون مثلا مشرفا على تنفيذ الوصيّة بنفسه في الأمور الراجعة إلى أولاده الصغار من تربيتهم والنظر في أمر معاشهم وتنظيم تعاليمهم وأمر دروسهم وهو بنفسه عاجز عن ذلك.

وحيث أنّه ليس له الولاية على جعل وليّ آخر يشاركه في هذه الأعمال ، فتصل النوبة إلى الحاكم وأن يعيّن شخصا يشارك الوصي في هذه ، كي لا تبقى وصاياه معطّلا ، بعد الفراغ عن العلم بأنّ الشارع لا يرضى بتعطيل وصايا الميّت وتبديله.

نعم هنا احتمل بعض أنّ هذا يكون من الحسبيات ويكون بيد عدول المؤمنين.

وفيه : أنّه مع وجود الحاكم لا تصل النوبة إلى عدول المؤمنين ، بل هم في طول الحاكم لا في عرضه ، ففي هذه الفروض انعزال الوصي لا وجه له ، غاية ما يمكن أن يقال هو أنّه للحاكم أن يضمّ إليه مساعدا يشاركه كي لا يلزم تعطيل الوصيّة ، وهو أيضا فيما لا يمكن للوصي تحصيل مساعد له ولو بأجرة ، أو فيما اشترط الميّت عليه المباشرة بنفسه ، وإلاّ لا تصل النوبة إلى الحاكم كما تقدّم.

هذا كلّه فيما إذا صار عاجزا عن العمل بالوصيّة بالاستقلال بعد ما لم يكن كذلك.

وأمّا لو كان عاجزا من حين الوصيّة ، هل يجوز جعله وصيّا ولو بضمّ مساعد إليه ، أم لا؟ والظاهر أيضا عدم المانع من هذا ، لأنّ إطلاقات أدلّة الوصيّة تشمل هذا الفرض ، لأنّ المقصود عن الإيصاء إلى شخص هو أن يوجد ما أوصاه في الخارج ، ويعمل ذلك الشخص على طبق ما أوصى وينفذه ، فإذا أمكن مثل هذا ولو بتوسّط مساعد له على ذلك فلا مانع من جعله لحصول الغرض من الوصيّة ، بل ربما يحصل

ص: 350

الاطمئنان منه أكثر من الذي يقدر على تنفيذها وحده من دون مساعد.

ولو كان الاحتياج إلى المساعد مانعا عن جعله وصيّا مع جعل مساعد له ، لكان حصول العجز في الأثناء أيضا كذلك ، فبعد الفراغ عن صحّته فيما إذا طرأ العجز في الأثناء وعدم انعزاله لا بدّ من أن يقال بصحّته وإن كان من أوّل الأمر ، غاية الأمر بشرط جعل مساعد له.

ثمَّ إنّه فيما إذا جعل الحاكم مساعدا له لعجزه ، فإذا زال العجز كما إذا كان مريضا مزمنا فبرأ فهل يرجع استقلال الوصي وليس للمساعد مشاركته في الرأي أو العمل أو الاثنين ، أو يبقى شريكا معه حتّى بعد زوال العجز؟

الظاهر استقلاله ، لأنّ مشاركة المساعد المجعول من طرف الحاكم كان لتتميم نقصه ، فإذا زال النقص فلا يبقى موضوع للتتميم ، فقهرا يسقط حقّ مشاركته مع الوصي ، ولا يبقى مجال لاستصحاب بقاء حقّه أو ولايته ، بناء على ثبوت ولاية له بعد جعله الحاكم مساعدا وأمثال ذلك من الأوصاف التي توجد له بعد جعل الحاكم ، وذلك للقطع بزوالها بعد زوال العجز.

ولكن قال في جامع المقاصد : إنّ في ذلك وجهين : وجه رجوع الاستقلال تقدّم ، وأمّا وجه بقاء المشاركة هو أنّ بجعل الحاكم وجد للمساعد منصب لا يرتفع إلاّ برافع ، وليس رافع في المقام (1).

وبطلان هذا الوجه ظهر ممّا تقدّم.

فرع : لو ظهرت من الوصي خيانة ، فقد يقال : إنّ الحاكم يضمّ إليه أمينا يمنعه عن الخيانة ، فإن لم يمكن ذلك لعدم امتناعه أو لعدم قدرة الأمين على منعه فيعزله

ص: 351


1- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 280.

الحاكم وينصب غيره. وقد يقال بأنّ الحاكم مخيّر من أوّل الأمر بين أن يعزله أو يضمّ إليه أمينا حسب ما يراه من المصلحة.

وقال في الشرائع : وإن ظهر منه - أي من الموصي - خيانة ، وجب على الحاكم عزله ويقيم مقامه أمينا. (1)

أقول : ظاهر كلام صاحب الشرائع تعيّن العزل أو الانعزال ، ولم يتكلّم عن ضمّ الأمين إليه أصلا.

وعلى كلّ حال تحقيق المقام هو أنّه لو قلنا باعتبار العدالة في الوصي ، والخيانة حيث أنّها موجبة لفسقه وخروجه عن العدالة ، فبانعدام العدالة التي هي شرط في الوصاية ينعدم المشروط أي الوصاية ، فيخرج من كونه وصيّا من غير احتياج إلى العزل بل عدم إمكانه ، لأنّه كما أنّ إيجاد الموجود لا يمكن لأنّه تحصيل للحاصل فكذلك إعدام المعدوم ، فحيث أنّ في صورة اعتبار العدالة في الوصي بالخيانة ترتفع العدالة فلا وصاية ، فعزله معناه أنّ الوصية التي ليست وارتفعت يرتفعها ، وهذا معناه إعدام المعدوم ، ومحال.

فقول المحقّق « وجب على الحاكم عزله » لا يستقيم مع القول باعتبار العدالة فيها ، بل بناء على هذا القول ينعزل قهرا ، نعم يجب على الحاكم نصب شخص أمين يقوم مقامه ، ولا معنى بناء على هذا المبنى لضمّ الأمين إليه ، لسقوط وصايته وصيرورته أجنبيّا عن وصايا الميّت.

نعم بناء على عدم اعتبار العدالة يبقى مجال للكلام في أنّه بالخيانة والفسق هل يسقط الوصيّة وينعزل ، أو يجب على الحاكم عزله وجعل شخص آخر أمين يقوم مقامه في العمل بالوصيّة؟ وجهان :

وجه الأوّل : أي السقوط هو أنّ الموصي من أوّل الأمر أوصى إلى شخص يكون

ص: 352


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 275.

أمينا ويراه أنّه لا يخون ، والموضوع للولاية هو الشخص المقيّد بكونه غير خائن ، فإذا خان فليس هو بموضوع فقهرا ينعزل ولا تبقى وصاية له ، فيجب على الحاكم نصب شخص أمين مراعاة لحق الصغار وأموال الصدقات كي لا تضيع ولا تعطل الوصايا ، كما تقدّم.

وبناء على هذا الوجه يكون كلام صاحب الشرائع « وجب على الحاكم عزله » غير مستقيم ، ولا بدّ في تصحيحه من تأويل ، كما صنعه صاحب الجواهر وقال : لعلّ المصنّف - أي المحقّق - يريد بعزل الحاكم منعه عن التصرّف (1) ، لا العزل بمعناه الحقيقي.

وجه الثاني : أي عدم السقوط وبقاء الوصاية والولاية حتّى بعد الخيانة ، هو أنّ الولاية أمر اعتباري مجعول من قبل الحاكم ، فإذا لم تكن مشروطة بالعدالة فلا وجه لسقوطها بالخيانة التي هي ضدّ للعدالة ، بل هو منصب من قبل الحاكم لا يرتفع إلاّ بعزل الحاكم ، لأنّ أمر وضعه بيد الحاكم.

والوجه هو الأوّل ، لأنّنا وإن لم نقل باعتبار العدالة في الوصي - بل الإسلام لو لم تكن الإجماعات المدّعاة في المقام - ولكنّ الظاهر أنّ المجعول ليس هو هذا الإنسان مطلقا ، بل هو مقيّدا بأنّه أمين غير خائن. وهذا من قبيل القيود الضمنيّة الارتكازيّة ، فيكون متعلّق الوصاية ضيقا من أوّل الأمر وفي حال الجعل. وهذا أمر ارتكازي عرفي في كلّ من يوصي إلى شخص أنّ إيصاءه إلى من هو أمين ولا يفرّط فيما أوصى إليه ، فهذا الارتكاز عند العرف بمنزلة التقييد اللفظي.

فرع : لا شكّ في أنّ الوصي أمين ، والمال الذي في يده أمانة ، فلو تلف في يده لا يضمن. وقاعدة « على اليد ما أخذت » لا تشمل اليد الأمانيّة ، بل هي خارجة عن موردها تخصيصا أو تخصّصا ، لأنّ اليد في القاعدة إن لم تكن مقيّدة فاليد الأمانيّة

ص: 353


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 421.

والمأذونة من قبل اللّه المسمّى بالأمانة الشرعيّة كاللقطة ، أو ما في أيدي الحكّام من باب الولاية الشرعيّة خارجة تخصيصا ، لا ضمان فيها إلاّ على التعدّي والتفريط.

وفي الحقيقة في مثل مورد التعدّي تخرج عن كونها أمانة ، وتكون من اليد الغاصبة حكما بل موضوعا ، وإن كانت مقيّدة بعنوان غير المأذونة فهي خارجة تخصّصا ، وذلك لأنّ اليد غير المأذونة لا تنطبق عليها ، لأنّها مأذونة إمّا من قبل اللّه كالأمانات الشرعيّة ، أو من قبل المالك ، وفي كليهما خارجة عن تحت قاعدة اليد بناء على هذا التقدير تخصّصا ، فضمان اليد لا محلّ له ، وباقي أقسام الضمانات لا موجب لها.

ولا شك في أنّ يد الوصي أمانيّة ، إمّا أمانة شرعيّة أي : مأذونة من قبل اللّه باعتبار أنّ المجعول من قبل الحاكم مجعول من قبل اللّه كسائر الأولياء ، وإمّا المالك الميّت جعله وليّا حين كونه مالكا ، فيكون الوصي مأذونا من قبل المالك الموصي إلى أن ينفذ وصيّته. وعلى كلا التقديرين لا ضمان ما لم يفرّط ولم يغيّر الوصيّة عن وجهها.

نعم وردت روايات في ضمان الوصي ، ولكن كلّها فيما إذا غيّر الوصي الوصيّة عن وجهها ، وقد عقد لذلك بابا في الوسائل (1) لكنّها أجنبيّة عن المقام ، فإنّها راجعة إلى تبديل الوصيّة عن وجهها وتغييرها عما أوصى لها ولا كلام ولا إشكال في هذا.

فرع : لو كان للوصي دين على الميّت ، جاز أن يستوفي ممّا في يده وهو وصي في خصوص أداء ديونه ، أو عنوان عامّ يشمل أداء الديون وغيره ، ولا يحتاج إلى أخذ الإذن في ذلك من الحاكم قيل : مطلقا ، أي سواء كان عنده حجّة يمكن بها أن يثبت حقّه ودينه ، أو لم يكن. وقيل : هذا الحكم - أي جواز استيفاء ما يطلب من الميّت ممّا في يده بدون إذن الحاكم - مخصوص بالأخير ، أي : بما لم يكن عنده حجّة يمكن أن يثبت بها حقّه.

ص: 354


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 419 ، باب أنّ الوصي إذا كانت في حقّ فغيّرها فهو ضامن.

والتحقيق في المقام أن يقال : بعد أن كان الوصي على الفرض واحدا ، لا شريك له كي يكون فعله وتصرفه فيما أوصى الميّت إليه موقوفا على إجازة شريكه وإذنه ، وهو بمقتضى الوصيّة مخيّر بين تطبيق دين الميّت على أيّ مصداق من مصاديق ذلك الدين من أموال الميّت ، فلا يحتاج إلى قيام البيّنة لإثبات دينه ، لأنّ المفروض أنّ الوصي الذي بيده أمر أداء ديون الميّت يعلم بأنّ الميّت مديون له.

فكما لو كان يعلم أنّ رجلا آخر غيره له دين في ذمّة الميّت الموصي كان عليه أن يؤدّى دينه ، وإن كان لذلك الرجل بيّنة لإثبات دينه لا يحتاج إلى طلب إقامة البيّنة لإثبات دينه ، لأنّه ثابت ، لأنّ المفروض أنّ الوصي يعلم بذلك ، فطلب البيّنة منه من قبيل طلب تحصيل الحاصل بل أردأ منه ، لأنّه من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد.

فكذلك الأمر بالنسبة إلى دين نفسه ، فيجوز أن يستوفي دينه من التركة ، لأنّ المفروض أنّه وصى في أداء ديونه.

وادّعاء الانصراف عن أداء دينه لا وجه له ، ولا يحتاج إلى أخذ الإجازة والإذن من الحاكم حتّى لو قلنا بلزوم أخذ الإجازة عن الحاكم ، لأنّه هناك حقّ تطبيق الكلّي على الخارج بيد المقتصّ منه لا بيد المقاصّ ، وها هنا بيد نفس الدائن ، لأنّه وصي ، فهاهنا الدائن مأذون من قبل نفس المديون في التطبيق ، فلا وجه لعدم جواز الاستيفاء مطلقا ، سواء كان عند الوصي الحجّة على إثبات دينه أو لم يكن.

ولكن قد يشكل الأمر على هذا برواية بريد بن معاوية ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّ رجلا أوصى إليّ ، فسألته أن يشرك معي ذا قرابة له ، ففعل وذكر الذي أوصى إليّ أنّ له قبل الذي أشركه في الوصيّة خمسين ( خمسمائة ) ومائة درهم عنده ورهنا بها جاما من فضّة ، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدّعى أنّ له قبله أكرار حنطة ، قال علیه السلام : « إنّ أقام البيّنة وإلاّ فلا شي ء له ». قال : قلت له : أيحلّ له أن يأخذ ممّا

ص: 355

في يديه شيئا؟ قال علیه السلام : « لا يحلّ له ». قلت : أرأيت لو أنّ رجلا عدا عليه فأخذ ماله فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ ، أكان ذلك له؟ قال : « إنّ هذا ليس مثل هذا » (1).

فهذه الرواية الموثّقة تدلّ على أنّ الوصي بصرف ادّعائه أنّه يطلب من الميّت الموصي كذا مقدار لا يحلّ له أخذ شي ء ممّا في يده من مال الميّت الموصي إلاّ بإقامة البيّنة ، وهذا نقيض الحكم بالجواز الذي اخترناه.

ولكن أنت خبير بالفرق بين مورد هذه الرواية وبين ما نحن فيه ، لأنّ ما نحن فيه مورده أنّه هناك وصي واحد يجب عليه أداء ديون الميّت إذا ثبت بالوجدان أو بالتعبد أنّه مديون لفلان بكذا ، والمفروض أنّ أمر تطبيق دين الكلّي الذي في ذمّة الميّت على المال الخارجي بيد الوصي ، لأنّ الميّت أوكل الأمر إليه في حياته ، فلا يرى مانع من استيفائه. وفي مورد الرواية وصيّان ، والوصي الأصلي الذي هو العمدة غير الدائن ، فالدائن ليس له استقلال في تطبيق حقّه إلاّ أن يثبت عند شريكه الذي هو الوصي الأوّل كي يأذن له في التطبيق. نعم لو فرضنا أنّ شريك من يدّعي الدين في الوصيّة أيضا يعلم بطلب شريكه من الميّت وأذن في التطبيق ، فلا يحتاج الاستيفاء إلى إقامة البيّنة ، لكن هذا ليس مورد الرواية.

فرع : وهو أنّه هل يجوز للوصي أن يشتري لنفسه من نفسه ، بمعنى أنّه إنسان كاسب يشتري لأن يكتسب به ، أو من حوائج الدار والمنزل فيشتري من أموال الميّت لحاجة الدار مثلا من الوصي الذي هو نفسه ، فالبائع والمشتري شخص واحد باعتبارين : فهذا الوصي باعتبار أنّه وصىّ عن الميّت بائع كما إذا أوصى ببيع بعض أسباب بيته أو أدوات شغله وصرفه في مورد كذا ، فيبيع الوصي باعتبار أنّه وصىّ

ص: 356


1- « الكافي » ج 7 ، ص 57 ، باب ما يلحق الميّت بعد موته ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 234 ، باب نوادر الوصايا ، ح 5560 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 232 ، ح 910 ، باب من الزيادات ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 479 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 93 ، ح 1.

متاع بيت الميّت أو دكّانه للصرف في مورد كذا ، ويشتري لنفسه باعتبار أنّه أحد الناس الحاضرين للاشتراء في المزاد العلني مثلا ، وهذا هو المراد من الاشتراء من نفسه لنفسه.

والظاهر عدم الإشكال في صحّة هذا المعاملة ، وإن أظهر المحقّق في الشرائع التردّد فيها وقال في ذيل كلامه : أشبهه الجواز إذا أخذ بالقيمة العدل (1). وهذا الكلام الأخير لا حاجة إليه ، لأنّه إن لم يكن بالقيمة العدل متعمّدا فهذه خيانة إمّا ينعزل أو يجب عزله كما تقدّم ، فليس له البيع وأيضا سائر المعاملات.

والإشكال ليس من هذه الناحية ، بل الإشكال من ناحية اتّحاد الموجب والقابل وأنّه هل يكفي تغاير الاعتباري أو يعتبر التغاير الحقيقي ، فإن قلنا بالأوّل - كما هو الصحيح - فيجوز أن يشتري الوصي لنفسه باعتبار أنّه أحد الحاضرين في مجلس المزاد العلني ، وهو أيضا يبيع باعتبار أنّه وصىّ من قبل المالك الحقيقي. وإن قلنا بأنّ التغاير الاعتباري لا يكفي ولا بدّ أن يكون بين البائع والمشتري في عقد واحد تغايرا حقيقيّا ، لأنّ البائع من يخرج المبيع عن ملكه ، والمشتري من يدخل المبيع في ملكه ، والشخص الواحد لا يمكن أن يخرج المبيع الواحد من ملكه ويدخل أيضا في زمان واحد وفي عقد واحد ، إذ هما متقابلان ، فلا يجوز أن يشتري لنفسه من نفسه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا شبه مغالطة ، إذ نحن لا ندّعي أنّ الشخص الواحد بعنوان شخصه - الذي واحد لا تعدّد فيه - بائع ومشتري كي يأتي أمثال هذه الإشكالات ، بل نقول إنّه بائع بعنوان أنّه وصىّ أي يخرج المبيع عن كيس الموصي بناء على بقائه بحكم مال الميّت ، لأنّ الوارث يرث من بعد وصيّة يوصي بها ، وحيث أنّ الوصي نائب عن الموصي فالفعل الذي يصدر منه كأنّه يصدر من الموصي.

كما أنّه كذلك في باب الوكالة ، ففعل الوكيل ينسب إلى الموكّل ، فإذا باع الوكيل

ص: 357


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 257.

داره ففي الحقيقة البائع هو الموكّل ، ويخرج المبيع عن ملكه لا عن ملك الوكيل.

وكذلك الأمر هنا ، فالوصيّ إذا اشترى لنفسه بائع باعتبار نيابته عن الموصي ، ففي الحقيقة البائع هو الموصي وإن كان المباشر هو الوصي ، ومشتري باعتبار نفسه فيدخل المبيع الخارج عن ملك الموصي أو الموصى له في ملك نفس الوصي ، فلا إشكال في البين.

فما نسب إلى الشيخ وابن إدريس 5 من إنكارهما صحّة اشتراء الوصي من نفسه لنفسه ، لأنّ الواحد لا يكون موجبا قابلا في عقد واحد ، لأنّ الأصل في العقد أن يكون بين اثنين (1).

فيه : أنّ هذا إذا كان الواحد موجبا قابلا باعتبار واحد ، والشاهد على ذلك الاتفاق على صحّة شراء الأب عن طفله الصغير لنفسه وبيع ماله له أيضا ، وكذلك الجد ، بالنسبة إلى حفيده. والسرّ في ذلك أنّ في جميع هذه الموارد في الحقيقة البائع الحقيقي غير من هو مشتر حقيقة.

هذا ، مضافا إلى ما رواه الحسين بن يحيى الهمداني قال : كتبت مع محمد بن يحيى هل للوصيّ أن يشتري من مال الميّت إذا بيع فيمن زاد يزيد ويأخذ لنفسه؟ فقال : يجوز إذا اشترى صحيحا (2).

نعم لا بدّ أن لا يكون مخالفا لمصلحة الطفل إذا كان وليّه يشتري ماله لنفسه أو يبيع ماله للطفل ، ولكن هذا لا دخل له بمسألة اتّحاد الموجب والقابل ، بل من شرائط صحّة البيع والشراء للقاصر ، طفلا كان أو مجنونا أو غير ذلك من موارد معاملة الأولياء للمولّى عليهم.

ص: 358


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 426.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 59 ، باب النوادر ، ح 10 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 219 ، باب الوصيّ يشتري من مال الميّت. ، ح 5514. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 245 ، ح 950 ، باب في الزيادات ، ح 43 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 475 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 89 ، ح 1.

وقال في المسالك : وعلى الجواز - أي على جواز شراء الوصيّ من نفسه لنفسه - رواية مجهولة الراوي والمروي عنه ، لكنّها شاهد (1).

والظاهر أنّ مراده هذه الرواية ، أي رواية حسين بن يحيى الهمداني ، وهو كما ذكره إذ الراوي مجهول لم نجده في كتب الرجال ، وأمّا المروي عنه فلم يذكره هو - أي الراوي - أصلا حتّى بالإضمار ، فلا حجّية لهذه الرواية وإن استند في جامع المقاصد إليها أيضا في ذكر مدارك هذا الحكم. (2)

وأمّا قول الشهيد الثاني بعد الطعن على الرواية بأنّها مجهولة الراوي والمروي عنه لكنّها شاهد. (3) أي ليس بدليل ولكنّها شاهد.

وفيه : أنّها إذا لم تكن حجّة فليست شاهدا أيضا.

فرع : إذا أذن الموصي للوصي أن يوصى ، أي يجعل وصيّا كي ينفذ وصايا الميّت الذي أوصى إلى هذا الوصي ، ويكون الوصي الثاني وصيّا للوصي الأوّل ولكن متعلّق الوصاية لكلا الوصيّين أمر واحد وهو تنفيذ وصايا الموصي الأوّل ، ففي هذه الصورة يجوز إجماعا.

وخلاصة الكلام في هذا الفرع هو أنّه لو أوصى إلى رجل بوصايا متعدّدة وأذن لمن أوصى إليه أنّه إذا حضره الموت وبعد لم ينفذ جميع وصاياه أن يوصى هو - أي الوصي - إلى شخص آخر كي ينفذ البقيّة الباقية من وصاياه ، فهذا جائز إجماعا.

وهذا الحكم مطابق للقواعد الأوّلية ، وذلك لأنّ الموصي الذي أذن لوصيه أن يوصى ، كان له أن يوصى إلى شخص آخر بعد موت الوصي الأوّل لينفذ ما بقي من

ص: 359


1- « المسالك » ج 1 ، ص 415.
2- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 287.
3- « المسالك » ج 1 ، ص 415.

وصاياه ولم يعمل بها الوصي الأوّل عصيانا أو لعذر شرعي ، فإذا هو يملك مثل هذا الأمر فلا فرق بين أن يوصى هو بالترتيب المذكور أو يوصى إلى وصيّة بالإيصاء.

والحاصل : أنّ في هذه الصورة لم يخالف أحد في جواز إيصاء الوصي إلى شخص آخر لتتميم تنفيذ ما بقي من الوصايا التي هو لم ينفذها عصيانا أو لعذر ، كما أنّه لا يصحّ الخلاف مع وضوح الأمر.

كما أنّه لو شرط مباشرة الوصي بنفسه تنفيذ وصاياه ، ليس له أن يوصى إلى شخص آخر. فهاتان الصورتان واضحتان ولا خلاف فيهما.

إنّما الكلام والخلاف فيما إذا أطلق الموصي ، أي لم يأذن في الإيصاء ولم يقيّد الوصاية بمباشرة الوصي بنفسه ولم ينه أيضا عن الإيصاء ، فقال الأكثر : إنّه لا يجوز له الإيصاء ، لعدم ولايته على مثل ذلك ، لأنّ الموصي المالك جعل له جواز أن يتصرّف في وصاياه بالشكل الذي أراده ، والشارع أيضا نهى عن التبديل وأوجب العمل طبق ما أوصى ، ولم يجعل له أن يجعل جواز التصرّفات لغيره مع أنّ المال لغيره ، ومقتضى الأصل أيضا عدم نفوذ إيصائه ، لأنّ مفاد إطلاقات أدلّة الوصاية نفوذ وصيّة المالك في ثلث ماله مطلقا ، وفي الزائد مع إذن الورثة أو إجازتهم بعد الوصيّة. وأمّا غير المالك فليس له مثل هذا الحقّ إلاّ بإذنه.

وأمّا القائلون بالجواز فقاسوا المقام بتوكيل الوصي شخصا آخر بتنفيذ بعض الأمور الراجعة إلى الوصايا ، كما أنّه إذا كان بعض وصاياه إطعام الناس في إفطار الصائمين في شهر رمضان ، أو في عشرة عاشوراء ، فيجوز للوصي أن لا يباشر بنفسه ويوكل شخصا لإنفاذ هذه الوصيّة والعمل بها.

ولكن فيه : أنّه مع كونه قياسا باطلا في نفسه ، يكون فرق واضح بينهما ، إذ الوصي في حال حياته مالك لمثل هذا التصرّف ، فيجوز أن يستنيب فيه غيره. وأمّا بعد موته لا يملك شيئا من التصرّفات كي يستنيب شخصا آخر ، بل بموته ينقطع ، فإن كان من

ص: 360

طرف الموصي وصي آخر مجعول طولا أو عرضا ، فيرجع الأمر إليه ، وإلاّ فالمرجع هو الحاكم.

وأيضا قالوا : إنّ الموصي أقام مقام نفسه ، فكما أنّ له الولاية على الاستنابة بعد الموت ، فكذلك للقائم مقامه.

وفيه : أنّ كون الاستنابة للموصي بعد الموت من شؤون مالكيّته في حال الحياة ، فكأنّ المالك حال الحياة له أن يستنيب بعد موته شخصا آخر يتصرّف في أملاكه بما أوصاه بها إن لم تكن تلك الأملاك زائدة على الثلث ، وإلاّ فأيضا يجوز مع إجازة الوارث.

وممّا استدلّ القائلون بالجواز أيضا صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أبي محمّد علیه السلام أنّه كتب إليه رجل كان وصيّ رجل ، فمات وأوصى إلى رجل ، هل يلزم الوصي وصيّة الرجل الذي كان هذا وصيّه؟ فكتب : « يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ إن شاء اللّه تعالى » (1).

فحملوا الحقّ في قوله علیه السلام : « يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ » على حقّ الأخوّة ، أي إن كان الموصي مؤمنا وكان له حقّ الأخوّة الإيمانيّة على وصيّه لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (2) فيلزم الوصي العمل بذلك الحقّ ، أي بحقّ الإيمان.

فهذه الرواية تدلّ على لزوم عمل الوصيّ الثاني بوصيّة الوصي الأوّل إن كان مؤمنا ، سواء أذن الموصي الأوّل بوصيّة الموصي الثاني أو لم يأذن.

وفيه : أنّ ها هنا احتمال آخر ، وهو أن يكون المراد بحقّه هو حقّ الوصي الأوّل الذي ثبت له بواسطة إذن الموصي الأوّل له في الإيصاء ، فيكون حاصل معنى الرواية

ص: 361


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 226 ، باب ما يجب على وصيّ الوصيّ من القيام بالوصيّة ، ح 5535 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 215 ، ح 850 ، باب الوصي يوصى إلى غيره ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 460 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 70 ، ح 1.
2- الحجرات (49) : 10.

أنّه يلزم العمل بالوصيّة إن كان له - أي للموصي الأوّل - حقّ قبله أي الوصي الأوّل ، وهو عبارة عن الوصيّة إليه بالإيصاء ، فوصيّة الموصي الأوّل بإيصاء الوصي الأوّل حقّ له عليه.

فمفاد الرواية : إن كان للموصي الأوّل حقّ على الوصي الأول أي أذن له في الوصيّة فيلزمه هذه الوصيّة ، ومفهوم الشرطيّة يكون أنّه إن لم يأذن فلا يلزمه. وهذا خلاف ما أرادوا من الرواية ، وعلى خلاف مقصودهم أدلّ.

وهذا الاحتمال إن لم يكن أظهر من الاحتمال الأوّل ليس أبعد منه ، ومعه لا يبقى ظهور للرواية في ما استدلّوا له.

فالأظهر ما ذهب إليه الأكثر من عدم الجواز مع عدم الإذن ، وبناء على ما ذكرنا عن عدم نفوذ وصيّة الوصي بالنسبة إلى وصايا من أوصى إليه إلاّ مع إذن الموصي لوصيّه بالإيصاء ، فإذا مات الوصي الأوّل وكان أوصى في حياته إلى شخص آخر من غير إذن من قبل الموصي في ذلك ، فحيث أنّ وصيّته غير نافذة ، فيرجع الأمر الحاكم بالنسبة إلى وصايا الموصي الأوّل ، وتكون وصيّته في حكم العدم ، فيكون كما لو مات ولم يكن له وصي أصلا ، فلا وليّ على تركته ويكون بيد الحاكم إن كان فيهم قصّر.

فرع : لو مات إنسان وكانت ورثته كلّهم كبيرا لا صغير ولا قاصر فيهم ، فأمر تركة مورّثهم بيدهم ، يقسّمونها بينهم كما فرضه اللّه تعالى ، وإن وقع النزاع في أمر فالمرجع هو الحاكم. والمراد من الحاكم في عصر غيبة صاحب الأمر والعصر والزمان - عجّل اللّه فرجه - هو المجتهد المطلق العادل المخالف للهوى ، حيث أنّهم علیهم السلام نصبوه مرجعا عامّا إليه ينتهي الأمور ، ولا مجال ها هنا لذكر الأدلّة والإثبات ، وله محلّ آخر ، فالحاكم هو وليّ من لا وليّ له.

وأمّا لو كان فيهم الصغار والقصر أو الغيّب ، فإن كان لهم وليّ خاصّ ، كالأب

ص: 362

والجدّ من قبل الأب الأقرب فالأقرب ، فالمرجع هو ذلك الولي الخاصّ لا الحاكم ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له. وإن لم يكن لهم أب وجدّ من قبل الأب بمراتبه ، فالأمر ينتهي إلى الحاكم بالمعنى الذي عرفت ، وإن لم يكن للميّت وصيّ ارجع أمور هؤلاء القصر إليه ، وأمّا لو كان فأيضا لا تصل الأمر إلى الحاكم.

والبحث في هذه الأمور وبيان مراتب الأولياء مفصّلا مع الدليل والبرهان ليس محلّها ها هنا ، ونتكلّم عنها في محلّه - مبحث الولايات - إن شاء اللّه تعالى.

فرع : تقدّم في الفرع السابق تقدّم ولاية الأب والجدّ من قبله - وإن علا مع مراعاة الأقرب فالأقرب - على ولاية الأوصياء والحكّام وعدول المؤمنين عند فقد الحكّام ، فلو أوصى بالنظر إلى أجنبي في مال ولده الصغير مع وجود أب الموصي الذي هو جدّ الصغير لم يصحّ ، وكانت الولاية لجدّ الصغير من قبل أبيه دون الوصي. وقيل : يصحّ في مقدار الثلث من تركة الموصي وفي أداء الحقوق.

أمّا الأوّل ، فوجهه واضح ، لأنّه بعد ما عرفت أنّ ولاية الوصي بالنسبة إلى الصغير - سواء كانت في نفسه أو في ماله - في طول ولاية الأب والجدّ ، فمع وجودهما أو أحدهما لا مجال لجعل الولاية للأجنبي ، لأنّه في غير محلّه ، فيكون لغوا وباطلا.

وأمّا الثاني ، أي ما قيل من التفصيل بين مقدار الثلث والأقلّ منه وبين الأزيد منه ، فيجوز في الأوّل دون الثاني ، وكذا التفصيل بين أن تكون في أداء الحقوق وبين غيره ، فيجوز في الأوّل ، ولا يجوز في الثاني ، فهناك تفصيلان :

الأوّل : هو التفصيل بين ما يكون بمقدار الثلث أو أقلّ منه ، وبين ما يكون أزيد منه ، ففي الأوّل يجوز ، وفي الثاني لا يجوز.

ووجهه : أنّ مقدار الثلث أو ما هو أقلّ منه ، أمره بيد الميّت قبل أن يموت ، له أن يمنع ولده الصغار عنه رأسا بأن يهبه لغيرهم بالعقد المنجّز ، وأن يوصى به لغيرهم

ص: 363

فيحرمون من ذلك المقدار ، فإذا جاز ذلك فقهرا له إبطال ولاية الجدّ على ذلك المقدار من مال الصغار ، فلا مانع من جعل الوليّ على ذلك المال الذي له أن يحرمهم عنه ، ولا يبقى موضوع ومحلّ لولاية الجدّ. وبعبارة أخرى : إن كان إفناء أصل المال بذلك المقدار جائزا للأب كي لا يبقى محلّ وموضوع لولاية الجدّ بالنسبة إلى ذلك المال ، فإفناء التصرّفات فيه جائز بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذه مغالطة واضحة ، وذلك لأنّ إفناء جميع ماله جائز بالعقد المنجّز ، بناء على أنّ إخراج المنجّزات من الأصل لا من الثلث ، ومع ذلك جعل الوصي على جميع التركة مع وجود الجدّ لا يجوز حتّى عند المفصّل ، لأنّه يجوز في مقدار الثلث أو ما هو الأقلّ منه ، وأمّا في الزائد فلا.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الحكم الشرعي بولاية الجدّ وأنّ ولايته مقدّم على ولاية الوصي والفقيه بعد وجود الموضوع ، وأمّا إن لم يكن موضوع فلا يشمله دليل تقديم ولاية الجدّ على الوصي ، ففرض عدم وجود الموضوع أو جواز إفنائه أجنبي عن محلّ الكلام.

وإنّما الكلام في أنّه مع وجود الموضوع ووجود مال للصغير ، ويكون له جدّ من قبل أبيه ، هل في هذا الفرض جعل الوصي على ذلك المال بأن يكون له النظر دون الجدّ جائز أم لا؟

وفي هذا الفرض معلوم أنّ ولاية الجدّ مقدّم على ولاية الوصي ، فيكون جعله لغوا ، سواء كان في مقدار الثلث أو أقل منه أو أزيد منه.

وأمّا التفصيل الثاني وهو الفرق بين أداء الحقوق فيجوز ، وبين غيره فلا يجوز ، ففي الحقيقة هذا خارج عن محل البحث ، لأنّ الكلام في الوصيّة بالولاية على الصغار أو على أموالهم ، وأداء الحقوق مسألة أجنبيّة عمّا هو محلّ الكلام.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الموصي لو أوصى إليه بالنظر في شي ء معيّن ، فليس للوصي

ص: 364

التعدّي عمّا عيّن له ، فلو قال : أوصيت إلى فلان في إصلاح شؤون بستاني فلان ، أو زرعي فلان ، أو أداء ديوني أو استيفائها من المديونين ، أو ردّ الأمانات التي من أربابها عندي إليهم ، أو شؤون أولادي الصغار أو السفهاء منهم من حيث مساكنهم وملابسهم وما سوى ذلك من حوائجهم ، فللوصي التصرّف والتدخّل فيما عيّنه له فقط وفيما أوصى إليه ، دون سائر ما له الولاية فيها.

فلو أوصى إليه بأداء ديونه فقط ، فليس له استيفاؤها من المديونين ، وبالعكس أيضا كذلك ، وذلك لأنّ حقيقة الوصيّة بالولاية استنابة من الموصي بعد موته في التصرّف فيما كان له التصرّف فيه ، فإذا استنابه في عمل خاصّ ، ليس له التجاوز عنه ، فهي من هذه الجهة مثل الوكالة.

فكما أنّه لو وكّله في بعض أموره ليس له التصرّف في الأمور الآخر ، فلو وكّله في بيع ما عنده من الحنطة ليس له بيع ما عنده من الشعير ، أو وكّله في شراء الفرش لداره ليس له شراء الغنم أو البقر لشرب حليبهما وهكذا ، لأنّهما - أي الوصيّة والوكالة - كلاهما استنابة في التصرّف ، فإذا تعدّى في كليهما عمّا استنابه الموصي أو الموكّل فيه ، يكون تصرّفاته حراما تكليفا إن كان تصرّفا خارجيّا في مالهما ، وفاسدا وضعا إن كان من قبيل المعاملات التي يحتاج إلى إمضاء الشارع. وهذا واضح جدّا.

فرع : الشروط المعتبرة في الوصي من بلوغه وإسلامه وحرّيته وعقله وعدالته - بناء على اعتبار هذه الشروط ، لأنّ في اعتبار بعضها خلاف - هل يعتبر وجودها ، أي اتّصاف الوصي بها حال العقد ، أو يكفي وجودها حال الوفاة وإن لم يكن وقت الإيصاء متّصفا بها ، ولكن صار متّصفا بها حال وفاة الموصي.

مثلا لو أوصى إلى صبيّ كافر عبد مجنون ، ولكن حال موت الموصي صار واجدا لتلك الصفات ، أي صار بالغا مسلما حرّا عاقلا عادلا - بناء على اعتبار العدالة -

ص: 365

فيصحّ هذه الوصيّة ، لاجتماع الشرائط في وقتها ، وهو حال الوفاة.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ القول الأوّل الذي مفاده اجتماع الشروط حال الوصيّة معناه صرف وجود هذه الشروط في ذلك الوقت وإن لم يبق بعد ذلك أو ارتفع بعضها أو جميعها ، بل لا شكّ في لزوم اجتماع الشروط حال الإنفاذ ، لأنّ الاعتبار بلحاظ حال الإنفاذ.

فالكلام في الحقيقة يرجع إلى أنّ وجود هذه الشروط حال الإنفاذ يكفي ، أو يلزم أن يكون حال الوصيّة موجودة وباقية إلى زمان الإنفاذ ، أو يكفي أن تكون موجودة حال الموت إلى زمان الإنفاذ ، فاجتماعها حال إنفاذ اتّفاقي لا خلاف فيه فإنّ أحدا لا يقول وليس له أن يقول إنّ الوصي لو كان حال إنشاء العقد مسلما عادلا عاقلا حرّا ، ثمَّ صار حال الإنفاذ كافرا أو فاسقا ومجنونا وعبدا مثل أن كان حال العقد حرّا ومن أهل الجزية ثمَّ خالف شروط الجزية فاسترقّه المسلمون.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الأقوال في هذه المسألة ليست أربعة أو ثلاثة كما توهّمه بعض ، بل اثنان : أحدهما : اجتماع الشروط من حال العقد إلى زمان الإنفاذ ، الثاني : كفاية اجتماع الشروط من حال الموت إلى حال الإنفاذ.

وقال في الشرائع : والأوّل أشبه. (1) وترجيح هذا القول لوجوه :

الأوّل : أنّ هذه الشروط شروط صحّة العقد ، وما لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط ، فعند انتفاء جميعها أو بعضها ينتفي الصحّة.

وفيه : أوّلا أنّ هذه الشروط شروط لكونه وصيّا لا لصحّة العقد ، فيمكن أن يكون العقد صحيحا ، ولكن تأثيره في صيرورته وصيّا بالفعل يكون موقوفا على كونه متّصفا بهذه الصفات من حين موت الموصي إلى آخر زمان إنفاذ هذه الوصايا وإن لم يكن حال العقد متّصفا بها.

ص: 366


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 257.

وبعبارة أخرى : يرجع الأمر إلى أنّ شرط صحّة العقد هل هو وجود هذه الصفات حال العقد ، أو من زمان موت الموصي إلى آخر زمان إنفاذها ، بل من الممكن أن يكون الشرط وجود هذه الصفات حال الإنفاذ فقط ، لا قبله ، ولا حال العقد ، ولا حال موت الموصي ، فلا بدّ من مراجعة أدلّة اعتبار هذه الشروط ولا يبعد أن يكون ظاهرها اعتبارها حال الإنفاذ فقط لمناسبة الحكم والموضوع.

الثاني : أنّ التفويض إلى من ليس متّصفا بهذه الصفات منهيّ ، والنهي يدلّ على الفساد إن كان متعلّقا بركن العقد ، ولا شكّ في أنّ الموصى إليه ركن في عقد الإيصاء بالولاية.

وفيه : أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إن كان نهيا غيريّا وأفاد الإرشاد إلى المانعيّة ، فلا محالة يدلّ على الفساد ، كما أنّه لو كان نفسيا مولويّا وتعلّق بالمعنى الاسم المصدري أي النقل والانتقال في باب المعاوضات مثلا ، فأيضا يدلّ على الفساد كما حقّقنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

ولكن العمدة في المقام هو النهي عن الإيصاء إلى غير البالغ أو الفاسق أو الكافر أو المملوك أو غير العاقل مطلقا ، فلو كان كذلك فهذا الدليل يدلّ على لزوم وجود هذه الصفات في الوصي حال العقد ، ولكن هذا أوّل الكلام ، لأنّه يمكن أن يكون متعلّقا بالإيصاء إلى الصبيّ حال موت الموصي أو حال إنفاذ الوصايا. وأمّا لو لم يكن ذلك الوقت صبيّا مثلا فلا إشكال ، فهذا الدليل لا يتمّ إلاّ مع الاستظهار عن الأدلّة أنّ النهي متعلّق بالإيصاء إلى فاقد هذه الصفات حال العقد ، وهذا أوّل الكلام ، فيكون هذا الاستدلال من قبيل المصادرات.

الثالث : أنّ الوصي يجب أن يكون - متى مات الموصي - أهلا وقابلا للعمل وإنفاذ الوصايا ، وغير البالغ والمجنون والمملوك والكافر ليسوا قابلين لإنفاذ الوصايا لو

ص: 367


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 419.

فرضنا موت الموصي في حال عدم اتّصافهم بهذه الصفات.

وفيه : أنّ هذا خلف بالنسبة إلى الفرض ، لأنّ المفروض أنّ الوصي واجد لهذه الصفات حال الموت ، وقد عرفت أنّ هذه الوجوه وإن كانت لا تخلو من نظر ومناقشة ، ولكن الإنصاف أنّ ظاهر أدلّة اشتراط الوصي بالصفات المذكورة هو كونه متّصفا بها حال الإيصاء إليها ، بمعنى أنّه لا يجوز ولا يصحّ الإيصاء إلى الصبيّ غير البالغ ، فلو كان حال وقوع عقد الإيصاء إليه غير بالغ يصدق على ذلك العقد أنّه إيصاء إلى غير البالغ ، فيكون منهيّا عنه مثل هذا الإيصاء فيكون باطلا.

فالأظهر ما ذهب إليه المحقّق قدس سره من أنّ صحّة العقد مشروط بوجود هذه الصفات في الوصي حال العقد. (1)

فرع : يجوز للوصيّ على الصغار الأيتام المسمّى باسم « القيّم » أن يأخذ أجرة مثل عمله إذا كان لعمله أجرة عرفا وكان القيّم فقيرا ، أمّا إذا كان غنيّا ففيه إشكال ، والأصل في ذلك قوله تعالى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (2).

المقصود من ذكرنا الآية ها هنا الجملتان الأخيرتان : أي قوله ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، فاللّه تبارك وتعالى بيّن أنّ وليّ الصغير واليتيم الذي يصلح أمورهم ويدبّر شؤونهم يجب عليه أن يختبر اليتيم ، فإن رأى منه أنّه بلغ السن الرشد فيجب عليه أن يدفع إليه أمواله ، وما دام متشاغلا بحفظ أموالهم وإدارة شؤونهم فله أن يتناول من ماله بقدر قوته إن كان فقيرا ، وأمّا إن كان

ص: 368


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 257.
2- النساء (4) : 6.

غنيّا فيجب عليه أن يستعفف ويترك أموالهم ولا يأخذ منهم شيئا.

وخلاصة الكلام : أنّ اللّه تبارك وتعالى نهى القيّم والوصيّ على اليتيم أن يأكلا من أمواله إسرافا وبدارا ، أي متجاوزين عن القوت اللازم ، ومسرعين في الأكل قبل أن يكبروا ويأخذوا المال من أيديهم.

ثمَّ بيّن سبحانه وتعالى أنّ القيّم والوصيّ اللذان يحفظان أموال اليتامى ، ويصلحان أمورهم وشؤونهم ، وتستغرق أوقاتهم في تدبير شؤون أموال اليتامى ونفوسهم ولا يبقى للاشتغال لأنفسهم ، إن كانوا أغنياء - أي يملكون قوت سنتهم ، بل جميع نفقات سنتهم ونفقات عيالهم الواجبي النفقة عليهم - فيجب عليهم التعفّف ، وترك أكل أموالهم ولو كان قليلا. وأمّا إن كانوا فقيرا - أي لا يملكون ما ذكرنا من قوت سنتهم وقوت عيالهم الواجبي النفقة ، بل مطلق نفقاتهم ونفقات عيالاتهم مقدار سنة كاملة - فيجوز لهم الأكل بالمعروف.

والمراد بالمعروف هو القوت المتعارف الذي هو الوسط بين البخل والإمساك ، وبين التبذير والإسراف ، أي أكلا متعارفا.

وقد روى الشيخ في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ فليأكل بالمعروف قال : « المعروف هو القوت ، وإنّما عنى الوصي أو القيّم في أموالهم ما يصلحهم ». (1)

والظاهر أنّ مراده علیه السلام من القوت ما يقابل الكماليّات والتجمّلات كما هو المصطلح في هذه الأزمان ، لا الخبز فقط. والظاهر أنّه لا فرق فيما ذكرنا في جواز الأكل إن كان فقيرا ، وعدم جوازه إن كان غنيّا بين أن يكونا منصوبا من قبل الأب أو من قبل الحاكم.

ص: 369


1- « الكافي » ج 5 ، ص 130 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 340 ، ح 950 ، باب المكاسب ، ح 72 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 184 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 1.

وقيل : المراد بالمعروف هو أن يأخذ بقدر أجرة عمله. وقيل : هو أقلّ الأمرين من أجرة عمله وقدر قوته المتعارف ، أي مقدار معيشة المتعارفة.

فلنذكر الأخبار الواردة في هذا المقام :

منها : ما روى الشيخ عن البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل يكون في يده مال لأيتام ، فيحتاج إليه ، فيمدّ يده فيأخذه وينوي أن يردّه؟ فقال : « لا ينبغي له أن يأكل إلاّ القصد ولا يسرف ، فإن كان من نيّته أن لا يردّه إليهم فهو بالمنزل الذي قال اللّه عزّ وجلّ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) (1) » (2).

ومنها : ما عن سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال علیه السلام : « من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم ، فليأكل بقدر ولا يسرف ، وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأ من أموالهم شيئا » (3).

ومنها : موثقة حنّان بن سدير عنه علیه السلام قال : « إذا لاط حوضها وطلب ضالّتها وهنأ جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير نهك لضرع ولا فساد نسل ». (4)

ومنها : ما عن أبي الصباح ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : ( فمَنْ

ص: 370


1- النساء (4) : 10.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 128 ، باب أكل مال اليتيم ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 339 ، ح 946 ، باب المكاسب ، ح 67 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 192 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 76 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 129 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 340 ، باب المكاسب ، ح 69 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 185 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 4.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 130 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 340 ، ح 951 ، باب المكاسب ، ح 72 ، « قرب الإسناد » ص 47 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 185 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 2.

كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) فقال ذلك يحبس نفسه من المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا ». (1)

ومنها : ما روى العيّاشي في تفسيره عن زرارة ، وروى أيضا عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في تفسير الآية أنّه قال : « هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه فليأكل بالمعروف ، وليس له ذلك في الدنانير والدّراهم عنده موضوعة » (2).

ومنها : ما روى الشيخ عن الكاهلي قال : قيل لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعه خادم لهم ، فنقعد على بساطهم ، ونشرب من مائهم ، ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم ، فما ترى في ذلك؟ فقال : « إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس ، وإن كان فيه ضرر فلا. وقال علیه السلام : « ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) وأنتم لا يخفى عليكم وقد قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) (3) » (4).

ومنها : ما في الكافي عن عليّ بن المغيرة : قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ لي ابنة أخ يتيمة ، فربما أهدى لها شي ء فأكل منه ثمَّ أطعمها بعد ذلك الشي ء من مالي ، فأقول : يا ربّ هذا بذا؟ فقال علیه السلام : « لا بأس » (5).

ص: 371


1- « الكافي » ج 5 ، ص 130 ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 3410 ، ح 952 ، باب المكاسب ، ح 73 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 185 ، أبواب ما يكتسب منه ، باب 72 ، ح 3.
2- « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 222 ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 187 ، أبواب ما يكتسب منه ، باب 72 ، ح 9.
3- البقرة (2) : 220.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 129 ، باب أكل مال اليتيم ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 339 ، ح 947 ، باب المكاسب ، ح 68 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 183 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 71 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 129 ، باب أكل مال اليتيم ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 184 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 71 ، ح 2.

ومنها : ما رواه الشيخ عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عمّن تولّى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ فقال : « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم ، فليأكل بقدر ذلك » (1).

والإنصاف أنّ القدر المتيقّن المتحصّل من هذه الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها هو أنّ المتولي لأمر الصغار ، أي الوصي عليهم من طرف الأب ، أو الجدّ من قبل الأب ، أو القيّم عليهم من طرفها أو من طرف الحاكم ، إذا كان فقيرا - أي لم يملك مئونة نفسه وعياله الواجبي النفقة مقدار سنة كاملة ، وكان مشتغلا بإصلاح أموالهم وتدبير شئونهم بحيث يشغله ذلك عن تحصيل معيشته وإدارة شئونه ، وعن كسبه وتدبير مال نفسه - فيجوز له أن يأكل من مال اليتيم بمقدار أقلّ الأمرين من قوته المتعارف ومن أجرة عمله ، بشرط أن لا يكون مال اليتيم قليلا بحيث لو أكل الوصي أو القيّم منه ينعدم ، أو يكون قريبا من الانعدام. وإن شئت قلت : أنّه لا يكون موجبا لتبيّن نقصه عرفا.

فلجواز الأكل قيود :

الأوّل : أن لا يكون غنيّا ، لأنّ الأمر بالاستعفاف ظاهر في الوجوب.

الثاني : أن يكون مشتغلا بإصلاح أموالهم وشؤونهم ، ويدلّ على هذا القيد أغلب الروايات المتقدّمة.

الثالث : أن يكون اشتغاله بإصلاح أمورهم مانعا عن تحصيل معيشته والاشتغال لنفسه ، ويدلّ على هذا القيد قوله علیه السلام في رواية سماعة « وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يزرأ من أموالهم شيئا ». ومعنى « لا يزرأ » هو « لا ينقص » والنهي عن النقص من أموالهم كناية عن عدم جواز الأكل مطلقا ، قليلا كان أو كثيرا.

ص: 372


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 343 ، ح 960 ، باب المكاسب ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 186 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 72 ، ح 5.

الرابع : أن يكون بمقدار أقلّ الأمرين من القوت المتعارف ومن أجرة عمله ، فالدليل على هذا القيد هو رواية هشام بن الحكم حيث يقول علیه السلام فيها « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك ».

والآية وإن كانت مطلقة من هذه الجهة ، لأنّ مفادها جواز الأكل بالمعروف وإن كان أكثر من أجرة المثل ، لكن هذه الرواية يقيّدها بما إذا لم يكن أزيد من أجرة المثل.

مضافا إلى أنّ أكله أزيد من أجرة المثل خلاف القواعد الأوّلية ، إذ في الكبير لا يجوز ذلك فضلا عن الصغير ، وكون هذا حكما تعبّديا في خصوص الصغير بعيد إلى الغاية.

أمّا لو كان قوت السنة أقلّ من أجرة المثل ، فالأخذ به من جهة أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة في قوله تعالى ( مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) هو أنّ أزيد من قوت السنة الذي هو الأكل بالمعروف لا يجوز ، فيقيّد به دليل استحقاق الأجير أجرة عمله ، وكأنّه قال : كلّ أجير يستحقّ مقدار أجرة عمله ويجوز له أكل ما يستحقّ من ناحية عمله ، إلاّ إذا كان عمله في إصلاح أموال اليتيم ، فإنّه لا يستحقّ ولا يجوز أكل أزيد من قوت ، ونتيجة ما ذكرنا هو استحقاق أقلّ الأمرين.

الكلام في منجّزات المريض

إنّ من المعلوم أنّ تصرّفات المريض نوعان : مؤجّلة بالموت ومعلّقة عليه ، وهي الوصيّة وقد تقدّمت بتفاصيلها ، سواء صدرت عن المريض أو الصحيح ، وذكرنا مقدارا مهمّا أعني ما هو محلّ الابتلاء من فروعها ، ومنجّزة وهي التي اصطلح عليها الفقهاء بإطلاق لفظ منجّزات المريض عليها.

والمنجّزات التي تصدر عن المريض إن لم تكن فيها محاباة ولم تكن من التبرّعات ، فلا كلام فيها ولا خلاف في البين.

ص: 373

وأمّا إن كانت من التبرّعات كالهبة والعتق والوقف وأمثالها ، أو كانت من المعاوضات التي فيها المحاباة ، فقد وقع الخلاف في أنّها من الأصل وإن لم يجز الوارث ، أو متوقّف كونها من الأصل على إجازة الوارث مثل الوصيّة ، فإن لم يجز كان من الثلث؟

فمن الأولى والأرجح أن نقدّم أمورا لتوضيح المقام :

الأوّل : كما عرفت أنّ المراد من « المنجّز » هو ما يقابل الوصيّة ، بمعنى أن تكون العطيّة التي يعطيها ، أو المعاملة المحاباتيّة التي ينشأها ، أو فكّه لملكه أو إبراء ذمّة مشغولة له ، سواء كانت مشغولة بمال أو حقّ له غير معلّق على موته ، بل يتحقّق ما أنشأه من الأصل على أحد القولين ، ومن الثلث على القول الآخر في حال حياته وليس موقوفا على موته ، بخلاف الوصيّة فإنّ الموصى به لا يوجد للموصى له إلاّ بعد موت الموصي. فبناء على هذا عتقه في حال المرض وهبته ووقفه وصدقته وبيعه المحاباتي وصلحه بلا عوض أو مع عوض أقلّ ممّا يصلح عليه وإجارته المحاباتيّة وكلّ معاوضة محاباتيّة وجميع تبرّعاته على أنحائه ممّا يوجب ضررا ونقصا على الوارث ، وكذلك إسقاط حقوقه التي تعاوض بالمال وإبراء ذمّة مديونه ، وأمثال المذكورات ممّا ليس منشأه معلّقا على الموت ويكون إضرارا بالوارث ، يكون داخلا في محلّ النزاع والخلاف.

ثمَّ إنّ ها هنا موارد وقع الكلام في أنّها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟

منها : شراء من ينعتق عليه كالعمودين - أي الآباء والأمّهات - أو المحارم من النساء ، فمن جهة يمكن أن يقال هذه المعاملة ليس فيها محاباة ، وإنّما المبيع الذي اشتراه يساوي ثمنه ، وليس عند العرف خسارة وضرر ، ولذلك ليس فيها خيار غبن ، والضرر الذي يتوجّه على الورثة من ناحية حكم الشارع بانعتاق هؤلاء ، وإلاّ لو فرضنا عدم

ص: 374

هذا الجعل من قبل الشارع لم يكن ضرر عليه في البين ، ولكن حيث أنّه يظهر من روايات الباب أنّ مناط عدم النفوذ في الزائد على الثلث على القول به هو الإضرار بالورثة ، ففي ما روى الكليني أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله عاب من أعتق مماليكه ولم يكن له غيرهم وقال صلی اللّه علیه و آله : « ترك صبية صغارا يتكفّفون الناس ». (1) شاهد واضح على أنّ مناط المنع في الزائد على الثلث هو الإضرار بالورثة ، ولا شكّ في أنّ في شراء من ينعتق عليه إضرار بالورثة ، فيكون داخلا في محلّ الخلاف ، لوجود المناط فيه.

منها : ردّ الهبة والوصيّة والصدقة إن كان من أهلها.

منها : العفو عن القصاص مع إمكان أن يصالح هذا الحقّ بالمال. ولكن الإنصاف أنّ هذا من عدم جلب النفع للورثة لا من الإضرار عليهم ، لأنّ المجعول لوليّ الدم ابتداء هو ليس حقّا ماليّا بل حقّ القصاص فقط ، ولكن له أن يصالح بالمال فلو لم يحصل مالا وأضرّ بهم وإلاّ لو كان ذا صنعة مهمّة مثل أن يكون خطّاطا من الدرجة الأولى ، كلّ قطعة من خطّه يباع بقيمة مهمّة غالية يمكن أن يحصل أيّام المرض مالا مهمّا يجب أن يقال بوجوب الشغل بتلك الصنعة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

منها : الإتلاف الموجب للضمان ، فلو تعمّد إتلاف مال الغير فيكون ضامنا لما أتلف ، ولا شكّ في أنّه إضرار بالورثة ، فهل يخرج الضمان من الأصل أو الثلث؟ ومثل أنّه أفطر في نهار رمضان متعمّدا فيجب عليه الكفّارة فيما إذا تعيّن عليه الكفّارة الماليّة من إطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة مؤمنة ، وهكذا الحال في سائر الكفّارات الماليّة فهل يكون من الأصل أو من الثلث مثل كفّارة حنث الحلف النذر؟

أقول : محل البحث هو إنشاء تبرّع ابتداء أو في ضمن معاملة محاباتيّة ، سواء كانت عقدا أو إيقاعا ، فهل مثل هذه المعاملات تنفذ من الأصل أو من الثلث؟

ص: 375


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 9.

أمّا الفعل الخارجي التكويني الذي جعله الشارع موضوعا لحكم من الأحكام - كباب الجنايات التي جعل الشارع لها الدية أو لزوم إعطاء الأرش ، أو جعله الشارع موضوعا لوجوب إعطاء الكفّارة - فلا دخل لها بما هو محلّ بحثنا ، بل رفع الحكم فيها يحتاج إلى تقييد في دليلها أو تخصيص فيه ، وحيث لا تقييد ولا تخصيص في البين فيجب إعطاء الكفّارة فيما تجب فيها والأرش والدية فيما يجب فيه الأرش أو الدية.

وخلاصة الكلام هو أنّ البحث في أنّه إذا صدر من المريض عقد أو إيقاع يكون تبرّعا ابتداء أو يكون متضمنا للتبرّع كالعقود المحاباتيّة أو الإيقاع كذلك ، فهل ينفذ من الأصل أو لا ينفذ إلاّ في خصوص الثلث كالوصيّة؟

وإن شئت قلت : إنّ محلّ النزاع والخلاف هو أن يكون مالا موجودا للمريض من عين أو منفعة أو دين أو حقّ ماليّ ، ففي عالم الاعتبار التشريعي لو نقله إلى غيره بلا عوض أو بعوض أقلّ أو أبرأ ذمّة من في ذمّته أو أسقط حقّه المالي الموجود ، فهل ينفذ مطلقا ، أو لا بل ينفذ في مقدار الثلث ، أمّا الزائد عليه فنفوذه موقوف على إجازة الورثة؟

نعم لو اشتغل ذمّته لشخص بعقد أو إيقاع ، بحيث يكون ملزما بأدائه من المال الموجود عنده بدون عوض والظاهر كونه داخلا في محلّ الكلام.

وأمّا إذا ضمن بعقد الضمان ما في ذمّة زيد مثلا ، خصوصا إذا كان زيد معسرا يتعذّر عليه أداء عوض الضمان ، فهل داخل في محلّ البحث ، أم لا؟ فيه وجهان :

من حيث أنّ الضمان عقد موجب لاشتغال ذمّة الضامن بعوض مثله في ذمّة المضمون عنه ، فليس من عقود التبرّعات ولا المعاوضة المحاباتيّة ، فيكون خارجا عن محلّ النزاع.

ومن حيث أنّ المضمون له لو كان معسرا يتعذر عليه أداء ما في ذمّته من عوض المضمون به ربما يكون ضررا على الورثة ، فيكون داخلا في محلّ الخلاف والنزاع.

ص: 376

والإنصاف : أنّه في صورة كون المضمون عنه معسرا بحيث يتعذّر عليه أداء ما في ذمّته ، لا يبعد دخوله في محلّ النزاع ، لوجود المناط والملاك فيه.

وأمّا نذر المال في حال المرض فداخل في محلّ الكلام بلا كلام ، لأنّه يقينا ضرر على الورثة ، فإنّ مقدار المال المنذور يخرج من كيس الورثة يقينا وبلا عوض ، فهو من العقود التبرعيّة بلا ريب.

ثمَّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا من الضابط من محلّ النزاع والخلاف - وهو أن يكون مالا موجودا ، أو ما يكون بحكم الموجود ، كالمنافع للأعيان الموجودة التي تتجدّد في الأزمنة المتتالية ، من عين أو منفعة أو دين في ذمّة أو حقّ مالي ، ففي عالم الاعتبار التشريعي بعقد أو إيقاع لو نقله إلى غيره بلا عوض أو مع عوض أقلّ منه ، أو أبرأ ذمّة من في ذمّته ، أو أسقط حقّه المالي الموجود ، ففي جميع ذلك يأتي الخلاف المذكور أنّه من الأصل أو هو كالوصيّة من الثلث إذا صدر من المريض - أنّ العطايا الخارجيّة التي تصدر منه كما إذا أعطى مالا بدون عقد أو إيقاع في البين لمادح يمدحه ، أو لمن يخاف منه على نفسه أو على ماله أو على عرضه ، أو يريد يجلب مودّته لغرض من الأغراض أو يريد احترامه لأجل حقّ له عليه فيضيفه ، أو يهدى إليه لرجوعه من سفر أو لعرسه وزفافه ، أو يعطى لفقير للأجر والثواب ، أو يعطى لسلامته من الآفات وحصول الصحّة والاستشفاء من مرضه ، فجميع ذلك خارج عن محلّ الخلاف والنزاع ، وعليه السيرة المتشرّعة قديما وحديثا.

الثاني : أنّه ما المراد من المرض الذي أخذ في عنوان البحث ، حيث أنّ المسألة عندهم معنونة بعنوان أنّ منجّزات المريض هل هي من الأصل أم من الثلث كالوصيّة؟

أقول : الاحتمالات كثيرة :

منها : أن يكون المراد منه المرض الذي بسببه يحصل الموت ، فيكون من إضافة

ص: 377

السبب إلى المسبّب ، فمرض الموت أي المرض الذي يكون سببا وعلّة للموت.

وهذا أيضا على قسمين ، لأنّ السبب قد يكون سببا فعليّا ، وقد يكون شأنيّا.

مثلا قد يكون الموت مستندا إليه ، وليس للموت سبب وعلّة أخرى بحيث لو لم يكن هذا المرض لم يمت ، وأخرى يكون سبب آخر للموت من غرق أو حرق وإن كان المرض أيضا لو لم يكن ذلك السبب الآخر كان كافيا لوقوع الموت ، ولكن بواسطة وجود ذلك السبب الآخر لم يبق مجال لتأثير المرض ، كما أنّه كان مبتلى بالسل في الدرجة الأخيرة التي ليست قابلة للعلاج ، ولكن يتأخّر موته سنة مثلا وفي الأثناء انهدمت الدّار عليه ومات ، فالمرض في هذا المثال سبب شأني للموت ، والسبب الفعلي له انهدام الدار عليه.

ومنها : أن يكون المراد منه المرض الذي يتّفق فيه الموت ، وليس للمرض تأثير فيه أصلا ، وذلك كما إذا كان مريضا قابلا للعلاج وفعلا مشغولة بالمعالجة ، ولكن اتّفق أنّه مات بسبب آخر ، كما أنّه وقع من شاهق أو لدغه حيوان سامّ مثلا فمات بسببه.

وبناء على هذا التفسير - لمرض الموت - يكون من قبيل إضافة الظرف إلى مظروفة ، كقولهم : سنة الوباء أو الطاعون أو القحط وأمثال ذلك أي المرض الذي يقع فيه الموت. وبناء على هذا التفسير الأخير لو كان مريضا وصدر منه تصرّف منجّز في ماله ، كهبة أو وقف أو عتق ومات في أثناء ذلك المرض بسبب آخر ، كلدغ حيّة مثلا ، يكون داخلا في محلّ الخلاف ، أي أنّه يخرج من الأصل أو الثلث؟

ثمَّ إنّه قد تحصل أمارات الموت وليس بمريض أصلا ، كما أنّه لو صعب الولادة على المرأة حال الطلق وظهرت عليها أمارات الموت ، فإن صدرت في هذه الحالة تبرّعات منجّزة من بذل مهرها لزوجها وأمثال ذلك ، فهل داخل مثل هذا التبرع في محلّ الخلاف أم لا؟ أو كان في الحرب في محلّ يظنّ فيه التلف لوقوع رصاصه عليه ، أو كان في السفينة المشرفة على الغرق في حال هيجان البحر وتلاطم الأمواج ، ففي مثل

ص: 378

هذه الموارد هل يكون ملحقا بمرض الموت ، لوحدة الملاك وتنقيح المناط ، أم لا؟

ولكن هناك في الروايات تعبير آخر غير مرض الموت ، وهو عنوان « حضرته الوفاة » ربما يشمل مثل هذه الموارد ، فالمرأة التي حال الطلق ظهرت عليها أمارات الموت يصدق عليها أنّها حضرتها الوفاة ، وهكذا في السفينة المشرفة على الغرق.

ثمَّ إنّه هاهنا أمران :

أحدهما : هل موضوع هذا الخلاف والنزاع وقوع التبرّعات المنجّزة في مطلق المرض ، وإن كان تطول مدّته ويبقى المريض سنين ، كمرض السل والسرطان ، فإنّهما وإن كان سببا للموت بالأخرة وليس لهما العلاج ولكن قد تطول سنين عديدة ، أو مخصوص بالمرض الذي يتعقّب بالموت بسرعة ولا يزيد على الشهر مثلا؟

ومعلوم أنّه لو كان موضوع الحكم هو مرض الموت ، فلا بدّ من مراجعة العرف في فهم المراد من هذه الكلمة إلاّ أنّ الشأن في ذلك.

الثاني : أنّ موضوع هذا الحكم ووقوع الخلاف مطلق المرض ، أو خصوص المخوف منه؟ واختلف عباراتهم في هذا القيد ، ويظهر من عبارة المحقّق في الشرائع أنّ موضوع هذا الخلاف مطلق المرض الذي يتّفق به الموت ، سواء كان مخوفا في العادة أو لم يكن (1) فعنده موضوع هذا الخلاف هو المرض الذي يكون سببا للموت وإن لم يكن مخوفا بل اتّفق فيه الموت. واختار في القواعد (2) أنّ الموضوع لهذا الحكم هو المرض يتّفق معه الموت وإن لم يكن بسببه.

ثمَّ إنّ الذين جعلوا الموضوع المرض المخوف مثل الشيخ (3) قدس سره ومن تبعه في ذلك ، دخلوا في مسألة بيان الأمراض المخوفة وما ليس بمخوف ، وهذا عبارة الشرائع : كلّ

ص: 379


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 261.
2- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 334.
3- « المبسوط » ج 4 ، ص 44.

مرض لا يؤمن معه من الموت غالبا فهو مخوف ، كحمّى الدق ، والسل ، وقذف الدم ، والأورام السوداويّة والدمويّة ، والإسهال المنتن وما شاكله. وأمّا الأمراض التي الغالب فيها السلامة فحكمها حكم الصحّة ، كحمى يوم وكالصداع عن مادّة أو غير مادّة ، والدمل ، والرمد ، والسلاق ، وكذا ما يحتمل الأمرين كحمى الغض ، والزحير ، والأورام البلغمية (1).

وهذه الأمراض التي ذكرها أنّ عدّة منها مخوفة وعدّة أخرى غير مخوفة هو حسب الطبّ القديم ، وأمّا اليوم فتغيّرت أسماؤها ، وبعض ما سمّاها بالمخوفة ليست بالمخوفة ، بل يمكن علاجها بسهولة في هذه الأزمان.

هذا ، مضافا إلى أنّه ليس في الروايات هذا العنوان ، أي عنوان « المرض المخوف » كي ترجع في تعيين مفاده إلى العرف أو إلى أهل الخبرة في فنّ الطبّ ، وأنّه هل يسمع شهادة الفاسق بل الكافر من أهل الخبرة أو لا بدّ وأن يكون شهادة العدل بل العدلين لو كان من باب الشهادة.

نعم في عدّة روايات عنوان « المريض » من دون قيد ، وفي الكتاب العزيز وفي عدة من الروايات عنوان « حضر أحدكم الموت » وفي بعضها « عند الموت » فالبحث عن أنّ أيّ مرض مخوف وأيّها ليس بمخوف لا أثر له.

نعم المسلّم عند الكلّ أنّه لو تبرّع في مرضه ، ثمَّ طاب من ذلك المرض ولم يمت ، ثمَّ مات بمرض آخر أو بسبب آخر ، فهذا ليس داخلا في محلّ النزاع والخلاف قطعا ، فما هو المسلّم في دخوله في محلّ النزاع هو أن يقع الموت في نفس المرض الذي صدر التبرّع منه في ذلك المرض ، أمّا كونه سببا للموت أو كونه مخوفا فليس شي ء من ذلك مذكور في الأخبار ولا من المسلّمات عند الأصحاب.

الثالث : في بيان أنّه ما هو مقتضى الأصل ، مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة التي

ص: 380


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 261.

مفادها خروج منجّزات المريض من الأصل أو من الثلث.

فتارة نتكلّم في الأصول اللفظيّة من العمومات والإطلاقات التي هي من الأمارات ومع جريانها لا يبقى محلّ لجريان الأصول العمليّة لارتفاع الشكّ الذي هو موضوعها بها ، لأنّها حاكمة عليها وقد حرّرنا المسألة في الأصول. (1)

وأخرى في الأصول العمليّة على فرض عدم جريان الأصول اللفظيّة من العمومات والإطلاقات.

أمّا الأوّل ، أي الأصول اللفظيّة :

فمنها : المرسلة المعروفة بين الفريقين : الناس مسلّطون على أموالهم » (2).

وتقريب الاستدلال بها في المقام هو أنّ مفاد هذه المرسلة أنّ كلّ من يملك مالا فهو السلطان على ماله ، فله أنحاء التصرّفات الجائزة شرعا ، ولا فرق في ذلك بين التصرّفات التكوينيّة كشرب المشروبات وأكل المأكولات ولبس الملبوسات ، وهكذا في سائر أنحاء التصرّفات التكوينيّة فيؤخذ بالعموم ، إلاّ أن يأتي دليل على التخصيص بالنسبة إلى تصرّف من التصرّفات ، وبين التصرّفات التشريعيّة كبيعه وهبته وإجارته وعاريته والصلح عليه وهكذا ، بل قلنا في الاستدلال بها على أصالة اللزوم إذا شككنا في لزوم معاملة مملكة ونفي جواز الرجوع بعد حصول الملك للطرف المقابل إنّ إرجاعه بدون رضاه مناف مع سلطنته على ماله.

وذلك من جهة أنّ مقتضى السلطنة التامّة التي هي مفاد القاعدة أنّ للمالك جميع أنحاء التصرّفات المباحة في ماله ، وقصر سلطنة الغير عنه. فالمرسلة متضمّن لعقدين : إيجابي وسلبي ، أي كما أنّ له جميع أنحاء التصرّفات الجائزة المباحة ، كذلك له منع الغير

ص: 381


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 222 ، ح 99 ، وص 457 ، ح 198 ، وج 2 ، ص 138 ، ح 383 ، وح 3 ، ص 208 ، ح 49 ، « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 272 ، كتاب العلم ، ح 7.

عن التصرّف فيه ، وإلاّ ليس سلطنة تامّة بل ناقصة ضعيفة ، ولذا جعلناها دليلا على اللزوم في مورد الشكّ وقلنا بأصالته في الملك.

ففي ما نحن فيه بعد الفراغ أنّ المال ماله ما دام الروح في بدنه ولا يخرج عن ملكه ، فبهذه المرسلة نستدلّ على أنّه في حال المرض الذي يقع فيه الموت حيث أنّ المال ماله ولم يخرج عن ملكه ، فله التسلّط على جميع أنحاء التصرّفات المشروعة غير المحرمة ، إلاّ أن يأتي دليل على المنع عن تصرّف وإن كان في حدّ نفسه حلالا أو كان في حدّ نفسه من المحرّمات كجعل عنبه خمرا مثلا أو خشبه صنما وأمثال ذلك.

وحيث أنّ التبرّعات المنجّزة ليست من العناوين المحرّمة ، ولا نهي الشارع عن مثل هذا التصرّف على الفرض ، بل هي من العناوين الراجحة بلا كلام ، فللمالك السلطنة عليها.

لا يقال : إنّ قاعدة السلطنة ليست مشرّعة لمعاملة مشكوك الشرعيّة ، بمعنى أنّه لا يمكن ولا يصحّ إثبات شرعيّتها بهذه القاعدة ، وذلك لأنّ المعاملات التي عند العرف والعقلاء سبب للنقل والانتقال يحتاج إلى إمضاء من قبل الشارع ، فما لم يمضه الشارع لا يثبت ماليّة ذلك المال شرعا لمن انتقل إليه ، فبالقاعدة لا يثبت الإمضاء ، وهذا معنى أنّها ليست مشرّعة. فإذا شككنا في أنّ التبرّعات العقديّة الصادرة عن المريض في المرض الذي وقع فيه موته هل أمضاها الشارع أم لا؟ لا يصحّ إثبات إمضائها بهذه القاعدة ، فلا يصحّ إثبات الانتقال إلى المتبرّع إليه بهذه القاعدة وترتيب آثار ملكيّة المتبرّع إليه لما تبرّع به ، وهذا ملازم مع عدم خروجها عن ملك المريض بل هو باق إلى زمان حصول الموت ، فيرثه الورثة. نعم مقدار الثلث يقينا صدر الإمضاء عن الشارع فينتقل إلى المتبرّع إليه قطعا ، وأمّا الزائد عليه فيبقى على حاله ، فيصدق عليه التركة ، فيرثها الورثة.

لما ذكرنا أنّ هذه المعاملات والعقود التبرّعية ممضاة من قبل الشارع يقينا ، وإنّما

ص: 382

الشكّ في محلّ النزاع أتى من قبل أنّ المرض الذي يقع فيه الموت هل يوجب نقصا وقصورا في سلطنة المريض كي لا تكون عقوده المنجّزة مؤثّرة في الأزيد من ثلث ماله ، أم لا قصور ولا نقص فيه كي تكون مؤثّرة في الجميع في الثلث وما زاد عليه؟

فعموم « الناس مسلّطون على أموالهم » حيث يدلّ على السلطنة المطلقة التامّة على جميع أموالهم في جميع الأحوال ، صحيحا كان أم مريضا ، وكذا بالنسبة إلى جميع الحالات الطارئة على المالك مثل السفر والحضر ، فالمرسلة تدلّ على أنّ أيّ معاملة مشروعة - أي ممضاة - من قبل الشارع في حدّ نفسها إذا صدر عن المالك يجب ترتيب الأثر عليها والحكم بصحّتها ، لأنّ الشارع جعل المالك سلطانا عليها في جميع الحالات ، إلاّ فيما إذا جاء الدليل على عدم سلطنته على تلك المعاملة في حال من الأحوال.

كما أنّ القائلين بعدم نفوذ المنجّزات في الزائد على الثلث يدّعون وجود الدليل على مثل ذلك التخصيص ، وأنّه ليس للمريض الذي يقع موته في ذلك المرض السلطنة على التبرّع بماله بأزيد من الثلث إلاّ بإجازة الورثة ، فإذا أثبتنا أنّه ليس دليل على مثل ذلك التخصيص ، فمقتضى أصالة العموم وأصالة الإطلاق في المرسلة أنّ السلطنة لجميع الملاّكين ثابتة في جميع أموالهم في جميع الأحوال ، سواء كانوا أصحّاء أو كانوا مرضى.

وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى في أنّ أدلّة القائلين بمنع نفوذ منجّزات المريض في أزيد من الثلث غير تامّ ، فمقتضى الأصل أي عموم قاعدة السلطنة وإطلاقها بالنسبة إلى جميع الأحوال هو النفوذ وإن كان أزيد من الثلث.

ومنها : الأدلة العامّة التي تدلّ على وجوب الوفاء بالعقود ، كقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وقوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (2) بناء على شمول

ص: 383


1- المائدة (5) : 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 404 ، باب الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور و. ، ح 66. « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 218 ، ح 84 ، وج 2 ، ص 257 ، ح 7 ، وج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 301 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.

الشروط الابتدائيّة كي يشمل العقود والالتزامات الابتدائيّة.

وتقريب الاستدلال بهذه العمومات هو بعد ما صدر أحد العقود التبرّعية عن المريض الذي يموت في ذلك المرض ، أو صدر أحد المعاملات المحاباتيّة ، وكان واجدا لشرائط تلك المعاملة عرفا بحيث تحقّق موضوع ذلك العقد عرفا ، فيشمله العمومات الواردة في لزوم الوفاء بذلك العقد أو ذلك الشرط ، ومعنى وجوب الوفاء به ترتيب أثر الملكيّة بالنسبة إلى ذلك المال الذي تبرّع به للمنتقل إليه.

وإطلاق وجوب الوفاء يدلّ على عدم الفرق بين صورة إجازة الوارث ، وبين صورة عدم إجازته. ومعنى حكم الشارع بلزوم ترتيب آثار ملكيّة من انتقل إليه مطلقا أجاز الوارث أم لا ، نفوذ التبرّعات والمعاملات المحاباتيّة مطلقا.

ومنها : عمومات نفس ذلك التبرّع ، مثل عمومات الهبة أو الصدقة ، أو عمومات البيع أو الإجازة أو الصلح المحاباتيّة بنفس التقريب الذي بيّنّا في العمومات التي تشمل مطلق العقود والمعاملات ، فلا حاجة إلى إعادة ما ذكرنا.

وهم ودفع

أمّا الأوّل : فهو أنّ دلالة قاعدة السلطنة ، وعمومات وجوب الوفاء بالعقود ، وعمومات كلّ واحد من عناوين هذه المعاملات مثل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وعموم ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) وكذلك عموم الرهن قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (3) أو قوله علیه السلام :

ص: 384


1- . البقرة 1. : 275.
2- النساء (4) : 128.
3- البقرة (2) : 283.

« لا بأس استوثق من مالك » (1) وهكذا في الإجارة والعارية وغيرها على كون المالك سلطانا ، ووجوب الوفاء بكلّ عقد ، ونفوذ كلّ معاملة بالنسبة إلى جميع ما يصدق عليه البيع بالنسبة إلى عمومات البيع ، وجميع ما يصدق عليه الإجارة أو الصلح بالنسبة إلى عموماتها ، وهكذا في سائر العناوين من عناوين التبرّعات والمعاملات المحاباتيّة متوقف على إحراز قابليّة المحلّ للسلطنة أو وجوب الوفاء أو النفوذ في جميع المصاديق والحالات. وأمّا لو علم بعدم قابليّة المحلّ للمذكورات أو شكّ فيها ، فلا يفيد في ثبوت السلطنة أو وجوب الوفاء أو نفوذ تلك المعاملة شي ء من هذه العمومات والإطلاقات.

نعم لو كان هناك أصل موضوعي أثبت قابليّة المحلّ تعبّدا فتجري تلك العمومات ، مثلا في محلّ كلامنا احتمال وجود حقّ المنع للورثة عن تصرّف المريض الذي يموت في ذلك المرض في الزائد على الثلث يمنع من تأثير العقود المنجّزة في مؤدّاها لعدم إحراز قابليّة المحلّ ، لأنّ قابليّة المحلّ شرط التأثير ، نعم لو جرى أصالة عدم حدوث حقّ للورثة بعد حدوث المرض وأحرز القابليّة تعبّدا فتجري العمومات الثلاثة ، أي قاعدة السلطنة ، وعمومات وجوب الوفاء بكلّ عقد ، وعمومات كلّ واحد من تلك العقود التبرّعية والمعاملات المحاباتيّة ، فأوّلا لا بدّ من إجراء استصحاب عدم حدوث حقّ للورثة ، ثمَّ الاستدلال بهذه الطوائف الثلاث من العمومات ، وإلاّ مع الشكّ في قابليّة المحلّ لا يجري شي ء منها هذا هو الوهم.

وأمّا الثاني : أي الدفع ، فهو أنّا لا نرى معنى محصّلا لتوقّف شمول هذه العمومات للمورد على إحراز قابليّة المحلّ باستصحاب عدم حدوث حقّ للورثة بعد حدوث المرض المذكور.

وذلك لأنّ محلّ السلطنة ومتعلّقها هو مال ذي السلطنة ، ولا شكّ في أنّ مال كلّ

ص: 385


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 121 ، أبواب كتاب الرهن ، باب 1 ، ح 1 و 3 و 8.

شخص قابل لأن يكون له السلطنة عليه ، وأن يكون له التصرّف فيه بأنواع التصرّفات ، سواء كان حال التصرّف صحيحا أو مريضا ، وسواء يموت في ذلك المرض أو لم يمت ، وإذا منع المالك عن التصرّف فيه في حال من الأحوال فلا بدّ وأن يكون تخصيصا في قاعدة السلطنة.

كما أنّ الراهن لا يجوز له التصرّف في ماله المرهون ، لورود الدليل على تخصيص القاعدة وعدم جواز تصرّف الراهن في عين المرهونة بدون إجازة المرتهن ، لا لعدم قابليّة المحلّ لتعلّق حقّ المرتهن به.

وباب التخصيص غير عدم قابليّة المحلّ للحكم الشرعيّ أو اعتبار العرفي ، مثل بعض الحشرات التي لا فائدة فيها ولا يترتّب أثر عليها مثل الخنفساء مثلا المحلّ ليس قابلا لاعتبار الماليّة حتّى عرفا.

مثلا التذكية شرعا عبارة عن فري الأوداج الأربعة من مسلم بآلة من حديد مسمّيا موجّها إلى القبلة ، وأثرها في الحيوان المحلّل الأكل أمران : طهارة أجزائه ، وحلّية أكله ، وفي حيوان المحرّم الأكل طهارة بدنه وأجزائه فقط ، وأمّا حرمة أكله فذاتيّة لا تزول ، وأمّا الحيوان نجس العين كالكلب والخنزير البرّيان فالمحلّ غير قابل للتذكية ، لأنّ أثر التذكية إمّا كلا الأمرين أو أحدهما ، فإذا لم يترتّب كلّ واحد منهما - كما أنّه كذلك في نجس العين - فاعتبار التذكية لا معنى له ، فالمحلّ غير قابل للتذكية ، كما أنّه لو شككنا في حيوان أنّه نجس العين ، فلو لا قاعدة الطهارة تكون قابليّته للتذكية مشكوكة ، للشكّ في قابليّة المحلّ.

وأمّا فيما نحن فيه ، فمال المريض قابل للسلطنة عليه مثل الصحيح ، فإذا لم يكن في مورد له السلطنة عليه لا بدّ وأن يكون لدليل مخصّص في البين ، وهكذا الحال بالنسبة إلى أدلّة وجوب الوفاء بالعقود ، فعقود المريض مثل الصحيح قابل لوجوب الوفاء بها.

فإذا لم يكن في مورد واجب الوفاء لا بدّ وأن يكون لوجود دليل مخصّص لذلك

ص: 386

العموم ، وإلاّ فعدم قابليّة المحلّ كلام لا أساس له. وهكذا الأمر في عمومات كلّ واحد من العناوين التبرّعية ، أو المعاملات المحاباتيّة الدالّة على نفوذ تلك المعاملة لو لم تكن نافذة في مورد لا بدّ وأن يكون لوجود مخصّص ، لا لعدم قابليّة المحلّ ، فحديث عدم قابليّة المحلّ في هذه الموارد كلام لا أساس له ، وإن كان أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره مصرّا عليه ، فلا حاجة إلى أصالة عدم حدوث حقّ للورثة ، لإجراء قاعدة السلطنة ، أو التمسّك بعمومات وجوب الوفاء بالعقود ، أو عمومات نفس المعاملات المحاباتيّة ، أو العناوين التبرعيّة الصادرة عن المريض الذي يموت في ذلك المرض.

وأمّا الثاني أي الأصول العملية :

فالأصل الذي يمكن جريانها - في نفس المسألة أي لإثبات نفوذ التبرّعات في الزائد على الثلث من دون إجازة الوارث ، أو عدم نفوذها وتوقّفه على إجازة الورثة - هو الاستصحاب.

وهو على قسمين : تنجيزي ، وتعليقي.

أمّا [ القسم ] الأوّل ، فهو أيضا على قسمين : كلّي وشخصي.

فالأوّل - أي الاستصحاب الكلّي التنجيزي - هو أن يقال : إنّ الإنسان العاقل البالغ الصحيح الرشيد ، غير المحجور عليه من جهة أحد أسباب الحجر ، يقينا له السلطنة على ماله وينفذ جميع تصرّفاته المباحة ، فإذا زالت عنه الصحّة وصار مريضا بمرض مات فيه شككنا في بقاء سلطنته ، فيشمله قوله علیه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » فينتج الاستصحاب بقاء السلطنة ونفوذ التصرّفات في حال المرض أيضا.

لا يقال : إنّ اتّحاد قضيّة المتيقّنة مع المشكوكة موضوعا ومحمولا شرط في جريان الاستصحاب ، وها هنا ليس كذلك ، فإنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة هو الإنسان العاقل الصحيح ، وفي المشكوكة هو المريض.

قلت : هذا الإشكال يأتي في جميع الاستصحابات في الحكم الكلّي ، ولأجل ذلك

ص: 387

أنكر بعضهم جريان الاستصحاب في الحكم الكلّي ، منهم سيّدنا الأستاذ الأصفهاني قدس سره على ما ببالي ، ولكن نحن حرّرنا المسألة في كتاب « منتهى الأصول » (1) في مبحث الاستصحاب في ذكر أقوال المفصّلين في حجّيته.

وإجمال ما ذكرنا هناك بطور الاختصار أنّ اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا وإن كان صحيحا لا مناص منه ، ولكن الاتّحاد بنظر العرف كاف وإن كانا بالدقّة غير متّحدين ، وكذلك وإن كان بحسب ما أخذ موضوعا في لسان الدليل مختلفين ، فالاتّحاد بنظر العرف هو المناط في جريان الاستصحاب. وإن شئت التفصيل فراجع كتابنا « منتهى الأصول ».

والمثل المعروف لجريان استصحاب الكلّي هو أنّه لا شكّ في نجاسة الماء المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ، فإذا زال التغيّر من قبل نفسه فهل تبقى نجاسته ، أو تجري فيه أصالة الطهارة؟ الصحيح هو الأوّل ، ومدرك بقاء نجاسته هو استصحابها ، فيأتي هذا الإشكال وهو أنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة هو الماء المتغيّر بوصف التغيّر ، وفي المشكوكة الماء الذي زال التغيير من قبل نفسه لا بوصول المطهّر إليه.

ولكن بعد ما كان بنظر العرف موضوع الحكم هو الماء ، والتغيّر كان واسطة في الثبوت ، أي كان علّة الحكم ، لا من قيود الموضوع كي ينتفي بانتفائه الحكم ، وشكّ في أنّه هل بحدوثه علّة لحدوث الحكم الوضعي أي النجاسة وبقائه إلى أن يأتي المطهّر أم لا ، بل علّة لحدوث الحكم وبقائه ما دام باقيا ، وأمّا إن زال فلا دليل لا على بقاء النجاسة ولا على ارتفاعها ، فبالاستصحاب يحكم ببقائها ، فحدوث النجاسة بحدوث التغيّر وبقاؤها ببقائه ، وأمّا إن زال التغيّر فلا دليل على بقائها إلاّ استصحابها ، فهذا الاستصحاب لا مانع من جريانه.

فكذلك في المقام السلطنة التي كانت ثابتة للإنسان العاقل البالغ حال صحّته

ص: 388


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 385.

مشكوكة البقاء بعد زوال الصحّة وصيرورته مريضا ، فبالاستصحاب يثبت بقاؤها. والجواب عن اختلاف الموضوع هو كفاية الاتّحاد عرفا وهو حاصل.

والثاني : أي استصحاب التنجيزي الشخصي ، هو أن يقال : إنّ هذا الشخص حال صحّته يقينا كان ذا سلطنة على أمواله ، وكان جميع تصرّفاته التبرعيّة والمحاباتيّة نافذة من أصل ماله ، وبواسطة ارتفاع الصحّة أو وجود المرض حصل الشكّ في بقاء سلطنته ونفوذ تصرّفاته ، فبالاستصحاب يثبت بقاؤها وبقاء نفوذها من أصل المال.

وأمّا توهم أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم السلطنة فيما إذا كان المرض من حال الصغر إلى أن بلغ ومات في ذلك المرض وتبرّعاته كانت بعد بلوغه ، فبهذا الاستصحاب يثبت عدم سلطنته على التبرّعات والعقود المحاباتيّة فيما زاد على الثلث.

لا يقال : لا تعارض بين الاستصحابين ، لأنّهما في موضوعين ، فيمكن العمل بكليهما والقول بعدم نفوذ التبرّعات في مورد الأخير ، أي فيما إذا كان البلوغ في حال المرض ، وكان صدور التبرّعات منه في حال المرض وبعد البلوغ بواسطة هذا الاستصحاب فيما زاد على الثلث إلاّ بإجازة الورثة ، والقول بالنفوذ من الأصل في مورد الاستصحاب الأوّل ، أي فيما إذا كان البلوغ في حال صحّة المتبرّع ثمَّ مرض وصدر منه التبرّعات لأجل استصحاب الأوّل ، أي استصحاب بقاء السلطنة التي كان له في حال صحّته.

لأنّه وإن كان الاستصحابان غير متعارضين بالذات لأنّهما في موضوعين ، لكنّه لا يمكن العمل بكليهما ، لأنّه قول بالفصل ولا قائل به ، بل في المسألة قولان : النفوذ من الأصل مطلقا - سواء كان المرض من قبل البلوغ مستمرّا إلى أن يبلغ فيصدر منه التبرّعات المنجّزة أو كان وجود المرض بعد البلوغ - وعدم النفوذ في الزائد على الثلث إلاّ بإجازة الوارث أيضا مطلقا ، سواء كان المرض بعد البلوغ أو قبله وكان مستمرّا إلى زمان صدور المنجّز عنه ، فالقول بالتفصيل والعمل بكلا الاستصحابين

ص: 389

خرق للإجماع المركّب ، فلا يجوز العمل بكليهما ، فيكونان متعارضين بالعرض فيتساقطان.

فتوهم فاسد ، لعدم جريان استصحاب عدم السلطنة التي كان في حال الصغير بعد البلوغ ، وذلك لأنّ الصغر في نظر العرف موضوع واسطة في العروض ، لا أنّ الموضوع في نظرهم ذات هذا الشخص والصغر واسطة في الثبوت ، كي يقال بأنّ موضوع عدم السلطنة باق وهو ذات هذا الشخص ، والصغر كان علّة لعدم السلطنة لا أنّه موضوعه.

وبعبارة أخرى : في نظر العرف غير البالغ والصغير موضوع لأحكام منها عدم توجّه الخطابات الإلزاميّة إليهم ، منها عدم صحّة معاملاتهم وعدم سلطنتهم على أنواع التصرّفات فجرى هذا العدم إلى زمان البلوغ وإثباتها للبائع على فرض ثبوت الشكّ ليس من الاستصحاب ، بل يكون من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وذلك لما ذكرنا من أنّ العرف يرى الصغير موضوعا وواسطة في العروض ، لا أنّ الموضوع ذات الشخص وعدم البلوغ واسطة في الثبوت.

العجب من أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره أنّه مع كمال دقّة نظره غفل عن مثل هذا النكتة الواضحة ، وقال بالتعارض بين هذين الاستصحابين وتساقطهما ، مع أنّه ليس هناك استصحابان ، بل واحد وهو استصحاب بقاء السلطنة التي كان له حال الصحّة ، فلا تعارض ولا تساقط في البين أصلا.

وأمّا القسم الثاني : أي استصحاب التعليقي هو أن يقال : إنّ هذا الشخص لو كان يصدر منه هذه التبرّعات المنجّزة في حال صحّته لكانت نافذة جميعها من أصل ماله بدون التوقّف على إجازة الورثة - لا من الثلث والزائد يتوقّف على إجازتهم - ففي حال المرض أيضا كذلك.

كما يقال : إنّ هذا الزبيب لمّا كان عنبا ورطبا لو كان يغلي ماؤه ينجّس أو يحرم

ص: 390

شربه أو أكله إلاّ إذا ذهب ثلثاه ، فالآن في حالة الجفاف والزبيبية كما كان.

وأيضا مثل أن يقال : إنّ هذا الرجل لمّا كان صحيحا ولم يكن مريضا ، أو لمّا كان شابّا ولم يكن شيخا هرما لو كان مستطيعا كان يجب عليه الحجّ ، فالآن بعد ما صار مريضا أو شيخا هرما وصار مستطيعا يجب عليه.

فالاستصحاب التعليقي في الحقيقة عبارة عن أنّ الموضوع المركّب من الجزئين إذا وجد أحدهما ، فذلك الجزء الموجود بشرط انضمامه إلى الجزء الآخر يكون له حكم كذا.

مثلا البالغ العاقل الحرّ لو انضمّ إليه الاستطاعة وصار مستطيعا يجب عليه الحجّ ، فوجوب الحجّ ليس حكم البالغ العاقل الحرّ فقط ، بل هذا جزء الموضوع بحيث لو انضمّ إليه الجزء الآخر وهو الاستطاعة يأتي الحكم وهو وجوب الحجّ ، فقبل وجود الجزء الآخر لا حكم أصلا ، وإلاّ يكون خلفا ويلزم أن يكون ما فرضته جزء الموضوع تمام الموضوع ، وهذا خلف بيّن.

فإذا وجد تغيّر في ذلك الجزء الموجود ، مثل أن كان البالغ العاقل الحرّ صحيحا وصار مريضا ، أو كان شابّا فصار شيخا هرما ، وحصل الشكّ بواسطة هذا التغيّر في أنّه بعد هذا التغيير هل أيضا لو انضمّ إليه الجزء الآخر - أي الاستطاعة - يكون ذلك الحكم - أي وجوب الحجّ - عليه أو لا؟ فبالاستصحاب تريد أن تجرّ ذلك الحكم الذي كان معدوما وتبقية إلى زمان الشكّ ، وهل هذا إلاّ إبقاء ما هو معدوم ، الذي هو من المحالات الأوّلية.

والتخلّص عن هذا بأنّ الاستصحاب جرّ الملازمة التي كانت موجودة بين الجزء الموجود من الموضوع وبين الحكم بشرط انضمام الجزء الموجود إلى الجزء المعدوم ، كما يظهر من عبارات شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره .

أو القول بأنّ الحكم التقديري نحو حكم يسمّى بالحكم المشروط ، كما يظهر من

ص: 391

صاحب الكفاية علیه السلام .

أو القول بأنّ ظرف وجود الحكم ظرف فرض وجود الموضوع في الذهن ، لا وجود الموضوع خارجا ، لأنّ ظرف وجود موضوع الحكم بمعنى متعلّقة خارجا ظرف سقوط الحكم ، لا ظرف ثبوته ، مثلا ظرف وجود الصلاة خارجا ظرف حصول الامتثال ، وهو ظرف سقوط الوجوب لا ثبوته ، كما قال به أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره وجمع أخر من الأساطين.

فكلّ هذه الاحتمالات بل الأقوال لا يسمن ولا يغني من جوع ، وقد أبطلنا الاستصحاب التعليقي في كتابنا « منتهى الأصول » (1) في إحدى تنبيهات الاستصحاب الموضوع لأجل هذا الأمر بأحسن بيان وأقوم برهان ، فراجعه.

ولا فرق فيما ذكرنا من بطلان الاستصحاب التعليقي بين أن يكون الحكم المشروط وضعيّا أم كان تكليفيّا ، لأنّ المناط في كليهما واحد ، وهو محاليّة إبقاء ما هو المعدوم.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فالمسألة ذات قولين :

الأوّل : نفوذها في الثلث فقط ، وفي الزائد عليه يتوقّف على إجازة الوارث.

وذهب إلى هذا القول واختاره جماعة من الأساطين ، منهم المحقّق في الشرائع ، (2) والعلاّمة في القواعد ، (3) والشيخ في المبسوط ، (4) والشهيدان ، (5) والمحقّق الثاني في جامع

ص: 392


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 463.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 102.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 334.
4- « المبسوط » ج 4 ، ص 43.
5- « الدروس » ج 2 ، ص 302 ، « المسالك » ج 1 ، ص 242.

المقاصد ، (1) وفخر المحقّقين في الإيضاح ، (2) والصدوق ، (3) وابن الجنيد ، (4) بل ادّعى بعضهم الشهرة بين المتأخّرين ، بل ربما استظهر بعض من الخلاف دعوى الإجماع على أنّها من الثلث.

القول الثاني : نفوذها في أصل المال وإن كان زائدا على الثلث ، واختاره الكليني في الكافي ، (5) والصدوق في أحد قوليه ، (6) والمفيد في المقنعة ، (7) والشيخ في التهذيب وسائر كتبه ، والمرتضى علم الهدى (8) ، وابن زهرة في الغنية ، (9) وابن البراج ، (10) وابن إدريس ، (11) وابن سعيد ، (12) وجماعة أخرى. ومستندهم روايات سنذكرها إنشاء اللّه تعالى.

أمّا القول الأوّل فاستندوا إلى روايات ، وهي طوائف :

الطائفة الأولى : ما مفادها أنّ للميّت ثلث ماله.

منها : صحيح يعقوب بن شعيب ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يموت ما له من ماله؟ فقال « له ثلث ماله » (13).

ص: 393


1- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 94.
2- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 593.
3- « المقنع » ص 165.
4- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 367.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 7.
6- « المقنع » ص 165.
7- « المقنعة » ص 671.
8- « الانتصار » ص 224.
9- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 603.
10- « المهذّب » ج 1 ، ص 420.
11- « السرائر » ج 3 ، ص 199.
12- « الجامع للشرائع » ص 497.
13- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5422 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 770 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه. ، ح 2. « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 452 ، باب انه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 362 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 2.

وتقريب الاستدلال به أنّ الميّت في حال حياته وقبل أن يموت مالك لجميع ماله ، فالسؤال ليس عمّا يملك من ماله ، لأنّه من الواضح المعلوم أنّه مالك لجميع ماله ، فلا بدّ وأن يقال : إنّ المراد من الميّت من أشرف على الموت ، وهو الذي عبّر عنه في بعض الروايات بمن حضرته الوفاة ، فيكون من قبيل من قتل قتيلا فله سلبه. والمراد من قول السائل « ما له من ماله » أي : في أيّ مقدار يجوز له التصرّف في ماله وتنفذ تصرّفاته ، أعمّ من أن تكون معلّقة على الموت أو منجّزة؟ فأجاب علیه السلام بأنّ له ثلث ماله ، أي له أن يتصرّف معلّقة على الموت ، أو مطلقة ومنجّزة في ثلث ماله.

وحيث أنّ السؤال عن حدّ ما يملك التصرّف فيه ، أعمّ من أن يكون تصرّفه معلّقة على الموت أو منجّزة - فجوابه بيان ذلك الحدّ ، فتدلّ الرواية على عدم ملكيّته للتصرّف فيما زاد على الثلث ، سواء كان تصرّفه منجّزا أو معلّقا على موته ، والأوّل هو المسمى بالمنجّزات ، كما أنّ الثاني مسمّى بالوصيّة.

ولكن أنت خبير بأنّ الرواية ظاهرة في التصرّفات بلحاظ بعد موته ، فيكون المراد بها الوصيّة وأنّ في أيّ مقدار من ماله تنفذ وصيّته من غير الاحتياج إلى إذن الورثة أو إجازتهم. ووجه ظهوره في التصرّفات المعلّقة على الموت هو أنّه كان في ذهن المؤمنين أنّ الإرث بعد الوصيّة والدين ، لقوله تعالى في كتابه العزيز ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1) فجعل الإرث بعدهما ، ولكنّ السؤال عن الدين لا وجه له ، لأنّه تابع لواقعة.

وأمّا الوصيّة التي يكون الإرث بعدها لم تكن معلومة عندهم أنّ الموصي في أيّ مقدار من ماله له أن يوصى من دون توقّف على إجازة الورثة ، فيجيب علیه السلام بأنّه

ص: 394


1- النساء (4) : 12.

الثلث ، وإلاّ فلا معنى له ، لأنّ يسأل ما له من ماله ، لأنّ الجميع ماله ، فالمراد بالسؤال هو أنّه أيّ مقدار من ماله له أن يخصّصه بنفسه ويجعل في الخيرات والمبرات لينتفع بها في الآخرة ، فيجيبون علیهم السلام أنّه الثلث من ماله ، ولكنّ الزائد يتوقّف صحّته ونفوذه على إذن الورثة أو إجازتهم.

فتمام النظر في هذه الأسئلة والأجوبة بعد الفراغ عن أنّ الإرث بعد الوصيّة أنّ المالك الموصي أيّ مقدار له حقّ أن يخصّصه بنفسه ويجعل ذخيرة لآخرته ويحرم الورثة منه ، فهذه الروايات التي مضمونها بيان ما هو حدّ حقّ الميّت من ماله أجنبيّ عن محلّ بحثنا بالمرّة.

ولأجل ذلك يقول علیه السلام في صحيحة عليّ بن يقطين بعد أن سئل ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : « الثلث والثلث كثير » (1) أي : أنّ اللّه تبارك وتعالى راعي المالك ، وخصّص ثلث ماله بوصاياه التي ترجع منافعه إليه وليس الثلث قليلا ، فكأنّه تعالى رأفة لعباده جعل حصّة من مال الشخص بعد موته لنفس الميّت وهي ثلث ماله ، وحصّته للورثة وهي الثلثان الباقيان.

ومنها : خبر عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « للرجل عند موته ثلث ماله ، وإن لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه » (2).

وتقريب الاستدلال به على عدم نفوذ التبرّعات المنجّزة في الزائد على الثلث ، كما تقدّم في صحيح يعقوب بن شعيب.

والجواب أيضا عين ما تقدّم ، نعم في هذه الرواية جملة أخرى ، وهي قوله علیه السلام : « وإن لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه » أي : إن لم يوص فليس على الورثة إعطاء

ص: 395


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 242 ، ح 940 ، باب في الزيادات ، ح 33 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 363 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 242 ، ح 939 ، باب في الزيادات ، ح 32 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 363 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 7.

الثلث بعنوان الخيرات والمبرّات للميت ، فكأنّه قال علیه السلام : إن أوصى فيوجب نقصا في حصّة الورثة ، وإلاّ إن لم يوص لم يجب على الورثة شي ء وإن كان للميّت أن ينقص الإرث بالإيصاء ولكن حيث أنّه لم يوص فلا نقص.

ومنها : خبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يموت ما له من ماله؟ فقال : « له ثلث ماله ثلث ماله ، وللمرأة أيضا ». (1)

وتقريب الاستدلال والجواب عنه كما تقدّم.

ومنها : مرسلة جامع المقاصد : المريض محجور عليه إلاّ في ثلثه. (2)

ودلالتها على المنع في الزائد على الثلث وإن كانت واضحة إلاّ أنّ كونها رواية ليست ثابتة ، بل الظاهر أنّها فتواه ونتيجة اجتهاده في المقام ، وإن كان ظاهر كلامه أنّها رواية ، لأنّه يقول : واختاره المصنّف - أي : العلاّمة في القواعد لأنّ كتابه شرح قواعد العلاّمة - لتناول عموم قوله علیه السلام : المريض محجور عليه إلاّ في ثلث ماله.

وعلى كلّ حال ليست من الروايات الموثوقة الصدور كي يشملها أدلّة حجّية خبر الواحد الموثوق الصدور ، كما اخترناه في الأصول (3).

ومنها : خبر أبي حمزة عن بعض الأئمّة علیهم السلام قال : إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : ابن آدم تطوّلت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدّم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم

ص: 396


1- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 3. « الفقيه » ج 4 ، ص 185 ، باب مقدار ما يستحبّ الوصيّة به ، ح 5422 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 770 ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 119 ، ح 452 ، باب انّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 362 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 10 ، ح 2.
2- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 97.
3- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 112.

تقدّم خيرا (1).

وقوله تبارك وتعالى « ما واروك » أي : ما دفنوك. وقوله تعالى : « فاستقرضت منك » إشارة إلى الآية الشريفة ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) . (2)

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث القدسي هو أنّه تعالى يقول : « جعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك » فلو كانت تبرّعاته في مرض الموت تخرج من الأصل فلا اختصاص لجعل النظرة في الثلث ، بل جعل له النظرة في جميع ماله.

وفيه : أنّ هذا الحديث في مقام بيان ما منّه اللّه تعالى على عباده وعدم شكرهم له تعالى ، ومعلوم أنّ المناسب لهذا المقام هو جعل النظرة للعبد في ماله باعتبار زمان موته وبعد حياته ، لأنّ النظرة في ماله باعتبار زمان حياته معناها أنّ اللّه تعالى جعل له أن يصرف ماله في الخيرات والمبرّات في حياته ، وهذا تكليف شاقّ عليه ربما يكون أشقّ من التكاليف البدنيّة ، مثلا الزكاة والخمس ربما يكون على العبد امتثالها أصعب من امتثال الصوم والصلاة.

وأمّا النظرة في ماله بعد موته بأن يصرف فيما يكون له منفعة في الآخرة مع انقطاعه عن ذلك المال وانتقاله إلى آخرين يكون من ألطافه على ذلك العبد ، فالمراد من النظرة في ماله حيث أنّه تعالى في مقام الامتنان هو النظرة باعتبار زمان موته ، وهذا هو الوصيّة ، ولا كلام في أنّ الوصيّة بدون إجازة الورثة لا تنفذ في أزيد من الثلث.

ومنها : طائفة من الأخبار واردة فيمن أعتق في مرض موته - وهي الطائفة الثانية - فيأمر علیه السلام بنفوذه من الثلث ، ولا شكّ أنّه إذا أعتق فقد نجز وتمَّ الأمر

ص: 397


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 181 ، باب حجّة اللّه عزّ وجلّ على تارك الوصيّة ، ح 5410 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 175 ، ح 712 ، باب الوصيّة المبهمة ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 4 ، ح 4.
2- البقرة (2) : 245.

فأمره علیه السلام بأنّه ينفذ من الثلث معناه أنّ التبرّعات المنجّزة لا تنفذ من الأصل وإنّما نفوذها من الثلث ، مثل الوصيّة المعلّقة على الموت.

منها : خبر عليّ بن عقبة عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال : « ما يعتق منه إلاّ ثلثه ، وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك ولهم ما بقي » (1).

ومنها : خبر عقبة بن خالد مثل ما ذكرنا عن عليّ بن عقبة إلاّ أنّه ليس فيه هذا الذيل « وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك ولهم ما بقي » (2).

ومنها : خبر أبي بصير عن الصادق علیه السلام قال : « إن أعتق رجل عند موته خادما له ثمَّ أوصى بوصيّة أخرى ألقيت الوصيّة وأعتقت الجارية من ثلثه ، إلاّ أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية » (3).

ومنها : خبر السكوني ، عن عليّ علیه السلام : إنّ رجلا أعتق عبد له عند موته لم يكن له مال غيره ، قال علیه السلام : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يستسعى في ثلثي قيمته للورثة ». (4)

ومنها : ما هو المروي في المسالك (5) عن صحاح الجمهور ، وهو أنّ رجلا من الأنصار أعتق ستّة أعبد له في مرضه ولا له غيرهم ، فاستدعاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجزّأهم ثلاثة أجزاء ، وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرقّ أربعة.

ص: 398


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 194 ، ح 781 ، باب الوصية بالثلث و. ، ح 13. « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 455 ، باب انه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 219 ، ح 862 ، باب وصيّة الإنسان لعبده وعتقه له ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 384 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 197 ، ح 786 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 365 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 6.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 229 ، ح 828 ، باب العتق وأحكامه ، ح 61 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 7 ، ح 22 ، باب من أعتق بعض مملوكه ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 76 ، أبواب كتاب العتق ، باب 64 ، ح 5.
5- « المسالك » ج 1 ، ص 424.

وهذه الطائفة من الروايات التي فيها أنّ المريض أعتق عبده أو عبيده ظاهرة في الوصيّة بالعتق ، لا إنشاء العتق منجّزا قبل وفاته وباعتبار حال حياته ، والأخبار بلفظ الماضي تعبير عرفي ، وكأنّ العرف - في باب وصايا المريض الذي حضره الوفاة - يرى المريض ميّتا ، للجزم بوقوعه قريبا ، فيرى الموصى به أمرا واقعا لوقوع شرطه وما علّق عليه ، وهو الموت.

ولذلك إذا علموا بوصيّة مريض أنّه أوصى بأن يعطوا بعد وفاته داره مثلا أو كتبه العلميّة أو ألبسته لفلان يقولون : إنّه أعطى هذه المذكورات لفلان.

والشاهد لما ذكرنا أنّ في بعض هذه الأخبار يقول علیه السلام كما في خبر أبي بصير المتقدّم « إن أعتق رجل خادما له ثمَّ أوصى بوصيّة أخرى ». وأنت ترى أنّ ظاهر هذه العبارة وقوله علیه السلام « ثمَّ أوصى بوصيّة أخرى » أنّ الأوّل أي العتق أيضا وصيّة بالعتق ، وإلاّ لا يبقى وجه للتعبير عن الوصيّة التي بعد العتق بوصيّة أخرى ، فكلمة أخرى دليل على أنّ الأولي أيضا وصيّة.

فتدلّ هذه الكلمة على أنّ عرفهم في ذلك الزمان كان الإخبار من وقوع العتق بلفظ الماضي إيصاء بالعتق ، فيسقط ظهور هذه الطائفة في العتق المنجّز كي يكون دليلا على أنّ التبرّعات المنجّزة تخرج من الثلث ، كما هو مدّعى المستدلّ.

وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما رواه المسالك عن الجمهور - أنّ رجلا من الأنصار أعتق ستّة أعبد له في مرضه - من هذا القبيل ، أي أنّ الأنصاري أوصى بعتق الستّة أو دبّر عتقهم ، فإن المدبّر عن الثلث كالوصيّة ، وبذلك روايات وقد عقد في الوسائل بابا بهذا العنوان وأن المدبّر ينعتق بعد الموت من الثلث (1). ففي تطبيق الثلث عليهم لا طريق إلاّ القرعة ، وكذلك الأمر في خبر السكوني وقول أمير المؤمنين علیه السلام : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يستسعى في ثلثي قيمته » إذا قلنا إنّ عتقه عند موته وصيّة ولا

ص: 399


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 19.

ينفذ في الزائد عن الثلث ، فالذي يحكي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو مقتضى القواعد ، ولا يدلّ على أنّ إخراج المنجّز من الثلث وممّا ذكرنا ظهر الحال في خبري عليّ بن عقبة وعقبة بن خالد ، فلا نطول الكلام.

الطائفة الثالثة : فيما ورد من الروايات في خصوص العتق ممّن عليه الدين :

منها : خبر حسن بن الجهم قال : سمعت أبا الحسن علیه السلام يقول في رجل أعتق مملوكا وقد حضره الموت وأشهد له بذلك وقيمته ستمائة درهم ، وعليه دين ثلاثمائة درهم ولم يترك شيئا غيره ، قال : « يعتق منه سدسه لأنّه إنّما له منه ثلاثمائة درهم ، وله السدس من الجميع ، ويقضي عنه ثلاثمائة درهم وله من الثلاثمائة ثلثها ». (1)

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنّه لو كان نفوذ المنجّزات من الأصل - ولا شبهة في أنّ العتق من المنجّزات - فكان يعتق نصف ذلك العبد لا سدسه ، لأنّه مالك لنصف قيمته إذ نصفه يخرج بواسطة الدين للدائن ، ويبقى ملك المالك النصف الباقي ، فإذا كان نفوذها من الأصل فتمام هذا النصف الباقي يعتق ، فحكمه علیه السلام بعتق السدس دليل على النفوذ من الثلث ، لا من الأصل ، إذ سدس الجميع عبارة عن ثلث النصف الباقي للمالك بعد أداء نصفه إلى الدائن للوفاء بدينه.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألني أبو عبد اللّه علیه السلام : « هل يختلف ابن أبي ليلى وابن شبرمة » فقلت : بلغني أنّه مات مولى لعيسى بن موسى فترك عليه دينا كثيرا وترك مماليك يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت إلى أن قال علیه السلام : « إذا استوى مال الغرماء ومال الورثة ، أو كان مال الورثة أكثر من مال الغرماء لم يتّهم الرجل على وصيّته وأجيزت وصيّته على وجهها ، فالآن يوقف هذا فيكون نصفه

ص: 400


1- « الكافي » ج 7 ، ص 27 ، باب من أعتق وعليه دين ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 169 ، ح 690 ، باب الإقرار في المرض ، ح 36 ، ص 218 ، ح 855 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 423 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 39 ، ح 4.

للغرماء ، ويكون ثلثه للورثة ، ويكون له السدس » (1).

وهذه الرواية مفصّلة سأل الإمام علیه السلام عن اختلاف الفتاوى بين أبي ليلى وابن شبرمة القاضيين في الكوفة ، فذكر الراوي موردا من موارد اختلافهما ، وفي هذا المورد قال علیه السلام : إذا استوى مال الغرماء مع مال الورثة أو كان مال الورثة أكثر أجيزت وصيّته وحكم بنفوذ الوصيّة في الثلث لا من الأصل.

وبهذه الجهة تكون دليلا في المقام. بيان ذلك أنّ المفروض أنّ قيمة العبيد الذين أعتقهم مثلا ضعف دينه ، فليفرض أنّ قيمتهم ستمائة درهم ودينه ثلاثمائة ، فيبقى بعد إخراج الدين للمالك الموصي المعتق ثلاثمائة ، وثلث ثلاثمائة مائة وهو سدس المجموع ، فحكمه علیه السلام بأنّ له - أي للميّت - السدس ، أي ثلث التركة بعد أداء الدين ، فنفوذ العتق في سدس المجموع معناه نفوذ الوصيّة في الثلث ، وإلاّ لو كان من الأصل لكان ينفذ في ثلاثمائة درهم الذي هو نصف المجموع لا في مائة درهم الذي هو سدس المجموع ، فهذه الرواية تدلّ على نفوذ العتق في سدس المجموع الذي هو ثلث التركة ، فتدلّ على أنّ العتق الذي هو من المنجّزات من الثلث ، لا من الأصل.

ولكن أنت خبير أنّ هاتين الروايتين وأمثالهما موردهما الوصيّة بالعتق ، لا أنّه أعتق منجّزا في حال حياته ، فتكون خارجة عن محلّ البحث ، خصوصا الرواية الثانية فإنّه علیه السلام صرّح بأنّه أجيزت الوصيّة ، فحملها على العتق المنجّز خلاف ظاهر الرواية.

نعم في الرواية إشكال آخر من جهة تقييده علیه السلام نفوذ الوصيّة في الثلث بأن يكون مال الغرماء وحصّتهم من التركة مساويا مع ما يبقى للورثة ، أو يكون ما يبقى لهم أكثر.

ص: 401


1- « الكافي » ج 7 ، ص 26 ، باب من أعتق وعليه دين ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 217 ، ح 854 ، باب وصية الإنسان لعبده وعتقه له ، ح 4 ، وج 8 ، ص 232 ، ح 841 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 423 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 39 ، ح 5.

وهذا الإشكال لا دخل له بما هو محلّ بحثنا وإن كان موجبا لطرح الرواية وعدم عمل الأصحاب بها.

الطائفة الرابعة : الأخبار الواردة في موارد بعض المنجّزات ، وعدم نفوذ ذلك التبرّع المنجّز في ذلك المورد.

منها : صحيح الحلبي ، سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو بعضه ، فتبرأه منه في مرضها؟ فقال علیه السلام : « لا ». (1)

ومنها : خبر جراح المدائني سئلت أبا عبد اللّه علیه السلام عن عطية الوالد لولده يبينه قال : « إذا أعطاه في صحّته جاز » (2).

وتقريب دلالة هذين الخبرين على ما يدّعون من خروج المنجّزات من الثلث لا من الأصل.

أمّا الأوّل ، فمن جهة أنّ نفيه علیه السلام صحّة الإبراء مطلقا ، سواء كان بقدر الثلث أو الأزيد منه مع الإجماع على صحّته إن كان بقدر الثلث أو كان أقلّ منه يدلّ على أنّ المراد من نفيه هو كون الإخراج من الأصل ، وأمّا الإخراج من الثلث فليس بمنفي.

وأمّا الثاني ، أي خبر جراح المدائني وإن كانت القضيّة الشرطيّة بمفهومها تدلّ على عدم الجواز إذا لم تكن العطيّة في حال الصحّة ، ولكن حيث أنّ نفي الجواز بقول مطلق وإن كانت مساويا للثلث أو كانت أقلّ منه خلاف الإجماع فلا بدّ وأن يحمل النفي على الكراهة.

ويؤيّد هذا الحمل قوله علیه السلام في رواية سماعة التي مضمونها نظير المقام في جواب

ص: 402


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 201 ، ح 802 ، باب الوصية للوارث ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 384 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 15.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 201 ، ح 801 ، باب الوصيّة للوارث ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 127 ، ح 480 ، باب عطيّة الوالد لولده في حال المرض ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 284 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 14.

السائل « وأمّا في مرضه فلا يصلح ». (1)

ومنها : خبر أبي ولاّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين ، فتبرأه منه في مرضها؟ قال علیه السلام : « بل تهبه له فتجوز هبتها له ، ويحسب ذلك من ثلثها ». (2)

وهذا الخبر وإن كان ذيله يدلّ على أنّ الهبة المنجّزة تخرج من الثلث ، ولكن من حيث اشتماله على ما هو مخالف لإجماع الأصحاب وهو إعراضه عن الإبراء الدالّ على عدم صحّته ، وصحّة الهبة ساقط عن الاعتبار ، ولا يصحّ الاعتماد عليه.

قال في المسالك (3) في مقام الاعتراض على هذه الرواية : وأمّا رواية أبي ولاّد ففيها أنّ مضمونها لا يقول به أحد ، لأنّ الإبراء ممّا في الذمّة صحيح بالإجماع دون هبته ، والحكم فيها بالعكس ، فكيف يستند إلى مثل هذه الرواية المقلوبة الحكم الضعيفة السند.

هذا مع أنّها على فرض صحّتها ليست قابلة للمعارضة مع الأخبار الصحيحة الصريحة في أنّ إخراج المتنجّزات من الأصل لا من الثلث.

الطائفة الخامسة : الأخبار الواردة في عدم جواز الإضرار بالوارث ، والجور في الوصيّة والحيف ، ووجوب ردّها إلى العدل.

منها : رواية السكوني عن جعفر بن محمد ، عن أبيه علیه السلام قال : قال على علیه السلام : « ما

ص: 403


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 156 ، ح 642 ، باب النحل والهبة ، ح 19 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 461 ، باب انّه لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 384 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 11.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 195 ، ح 783 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 15 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 120 ، ح 457 ، باب انّه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 367 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 11 ، ح 11.
3- « المسالك » ج 1 ، ص 425.

أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال ». (1)

ولا شكّ في أنّ هذه الرواية تدلّ على عدم جواز الإضرار بالورثة بتنقيص حصّتهم بالأزيد من الثلث ، لأنّ أدلّة جواز الوصيّة بالثلث تخصّص هذه الرواية بالنسبة إلى مقدار الثلث ، والزائد يبقى تحت المنع ، ومعلوم أنّه لا فرق بين أن يكون سبب الإضرار هي الوصيّة أو التبرّعات المنجّزة ، لأنّه علیه السلام في مقام مذمّة الإضرار بهم وأنّه مثل السرقة ، فإذا كان موضوع الحكم بالحرمة هو الإضرار فأيّ فرق بين أسبابه.

وفيه : أنّ الفرق واضح ، لأنّ الوصيّة إخراج الموصى به عن التركة بعد الموت بإنشائه قبل الموت ، فالوصيّة في الحقيقة من قبيل إيجاد المانع عن ملكيّتهم لمقدار الذي أوصى به بعد وجود المقتضي لملكيّتهم لذلك المقدار وهو الموت ، بخلاف التبرّعات المنجّزة فإنّها إخراج في حال الحياة ، أي في وقت تكون الورثة أجانب عن المال كسائر الأجانب ، نعم على تقدير موت المورث يوجد المقتضي لإرثهم لو لا المانع ، فقياس أحدهما بالآخر - مع بطلان القياس في حدّ نفسه - قياس مع الفارق الكثير ، وأين أحدهما من الآخر.

وأمّا ادّعاء تنقيح المناط القطعي بأن يقال : نقطع بأنّ المناط في عدم نفوذه في الزائد على الثلث هو حرمان الوارث عن ذلك المقدار بأيّ سبب كان ، فهذا باطل قطعا ، لأنّ لازم ذلك عدم جواز التبرّعات وعدم نفوذها حتّى في حال الصحّة.

وبما ذكرنا يظهر بطلان الاستدلال لعدم نفوذ المنجّزات في الأزيد من الثلث برواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام ، قال علیه السلام : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل توفّى وأوصى بماله كلّه أو أكثره فقال علیه السلام : الوصيّة تردّ إلى المعروف غير المنكر ، فمن ظلم نفسه وأتى في وصيّته المنكر والحيف فإنّها تردّ إلى المعروف ، ويترك لأهل الميراث

ص: 404


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 183 ، باب ما جاء في الإضرار بالورثة ، ح 5418 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 174 ، ح 710 ، باب الوصية ووجوبها ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 356 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 5 ، ح 1.

ميراثهم » (1).

وذلك لوضوح أنّهم في حياة المورث ليسوا أهل الميراث ، لأنّه لا ميراث في البين كي يترك لأهل الميراث ميراثهم ، وبعد الوفاة أيضا لا ميراث بالنسبة إلى ذلك المقدار الذي نجّز فيه التبرّع ، لأنّه أفناه وانتقل عنه بالتبرّع ، فلا يصدق عليه عنوان أنّه « ما تركه الميّت » الذي هو موضوع الميراث.

الطائفة السادسة : الأخبار الواردة في باب نفوذ الإقرار من المريض - يموت في ذلك المرض - في الثلث ، وعدم نفوذه في الأزيد منه إن كان متّهما ، ولتعليله علیه السلام ذلك بقوله في إقرار امرأة بذلك في رواية بيّاع السابري : « فإنّما لها من مالها ثلثه ».

عن العلاء بيّاع السابري قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن امرأة استودعت رجلا مالا ، فلمّا حضرها الموت قالت له : إنّ المال الذي دفعته إليك لفلانة ، وماتت المرأة فأتى أولياؤها الرجل فقالوا : إنّه كان لصاحبتنا مال ولا نراه إلاّ عندك ، فاحلف لنا مالها قبلك شي ء أفيحلف لهم؟ فقال : « إن كانت مأمونة عنده فيحلف لهم ، وإن كانت متّهمة فلا يحلف ويضع الأمر على ما كان ، فإنّما لها من مالها ثلثه » (2).

ورواية إسماعيل بن جابر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أقرّ لوارث له وهو مريض بدين له عليه ، قال علیه السلام : « يجوز عليه إذا أقرّ به دون الثلث » (3).

ص: 405


1- « الكافي » ج 7 ، ص 11 ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح 4. « الفقيه » ج 4 ، ص 186 ، باب ما يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5425. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 192 ، ح 773 ، باب الوصية بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 358 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 8 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 42 ، باب المريض يقرّ لوارث بدين ، ح 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 229 ، باب إقرار المريض للوارث بدين ، ح 5543 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 661 ، باب الإقرار في المرض ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 431 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 377 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 42 ، باب المريض يقرّ لوارث بدين ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 228 ، باب إقرار المريض للوارث بدين ، ح 5540 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 659 ، باب الإقرار في المرض ، ح 5 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 429 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 377 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 3.

ورواية أبي ولاّد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل مريض أقرّ عند الموت لوارث بدين له عليه قال : « يجوز ذلك ». قلت : فإن أوصى لوارث بشي ء قال : « جائز ». (1)

وظاهر هذه الرواية وإن كان مطلقا بالنسبة إلى كون ما أقرّ به أزيد من الثلث أو أقل أو مساويا ، ولكن يقيّد برواية إسماعيل بن جابر بكونه دون الثلث.

ورواية البرقي عن سعد بن سعد ، عن الرضا علیه السلام ، قال : سألته عن رجل مسافر حضره الموت ، فدفع مالا إلى أحد من التّجار فقال له : إنّ هذا المال لفلان بن فلان ليس له فيه قليل ولا كثير فادفعه إليه يصرفه حيث يشاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال : « يضعه حيث شاء ». (2)

ورواية الحلبي قال : سئل أبو عبد اللّه عن رجل أقرّ لوارث بدين في مرضه أيجوز ذلك؟ قال : « نعم إذا كان مليا ». (3)

ورواية أبي أيّوب عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه

ص: 406


1- « الكافي » ج 7 ، ص 42 ، باب في المريض يقرّ لوارث بدين ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 660 ، باب الإقرار في المرض ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 430 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 377 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 63 ، باب النوادر ، ح 23 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 662 ، باب الإقرار في المرض ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 378 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 41 ، باب من أوصى بسهم من ماله ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 229 ، باب إقرار المريض للوارث بدين ، ح 5541 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 159 ، ح 655 ، باب الإقرار في المرض ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 111 ، ح 425 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 378 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 7.

دينا؟ فقال : « إن كان الميّت مريضا فأعطه الذي أوصى له » (1).

ومضمرة سماعة قال : سألته عمّن أقرّ للورثة بدين عليه وهو مريض؟ قال : « يجوز عليه ما أقرّ به إذا كان قليلا ». (2)

ومكاتبة محمّد بن عبد الجبّار قال : كتبت إلى العسكري علیه السلام امرأة أوصت إلى رجل وأقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم ، وكذلك مالها أقرّت به للموصى إليه ، وأشهدت على وصيّتها ، وأوصت أن يحجّ عنها من هذه التركة حجّتان ، وتعطى مولاة لها أربعمائة درهم ، وماتت المرأة وتركت زوجا فلم ندر كيف الخروج من هذا ، واشتبه علينا الأمر وذكر كاتبت أنّ المرأة استشارته فسألته أن يكتب لهم ما يصحّ لهذا الوصيّ فقال لها لا تصحّ تركتك لهذا الوصي إلاّ بإقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود ، وتأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه به وكتبت له بالوصيّة على هذا وأقرّت للوصي بهذا الدين فرأيك أدام اللّه عزّك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا وتعريفنا ذلك لنعمل به إن شاء اللّه؟ فكتب بخطّه : « إن كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال إن شاء اللّه ، وإن لم يكن الدين حقّا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف » (3).

ورواية عليّ بن مهزيار قال : سألته عن رجل له امرأة لم يكن له منها ولد ، وله

ص: 407


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 657 ، باب الإقرار في المرض ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 378 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 160 ، ح 658 ، باب الإقرار في المرض ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 111 ، ح 428 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 379 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 9.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 161 ، ح 664 ، باب الإقرار في المرض ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 113 ، ح 433 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 379 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 10.

ولد من غيرها ، فأحبّ أن لا يجعل لها في ماله نصيبا ، فاشهد بكلّ شي ء له في حياته وصحّته لولده دونها ، وأقامت معه بعد ذلك سنين ، أيحلّ له ذلك إذا لم يعملها ولم يتحلّلها وإنّما عمل به على أنّ المال له يصنع به ما شاء في حياته وصحّته؟ فكتب علیه السلام : « حقّها واجب ، فينبغي أن يتحلّلها ». (1)

ورواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ علیهم السلام : « إنّه كان يرد النحلة في الوصيّة وما أقرّ به عند موته بلا ثبت ولا بيّنة ردّه ». (2)

ورواية مسعدة بن صدقة ، عن جعفر ، عن أبيه علیهماالسلام قال : « قال عليّ علیه السلام : لا وصية لوارث ولا إقرار له بدين ». (3)

فهذه الأخبار الكثيرة التي يمكن ادّعاء تواترها إجمالا ظاهرة في عدم نفوذ الإقرار من المريض الذي حضره الموت في الأزيد من الثلث.

وفيه : أوّلا : أنّ الإقرار غير التبرّعات المنجّزة وخارج عنها موضوعا ، لأنّ التبرّعات المنجّزة أو العقود والمعاملات المحاباتيّة في حال المرض عبارة عن إنشاء تمليك منجّز غير معلّق على موته بغيره ، فهو بهذا الإنشاء فعلا أي في وقت الإنشاء يخرج بعض ما يملكه أو تمامه عن ملكه ، ويدخله في ملك شخص آخر.

وأمّا الإقرار فهو عبارة عن الاعتراف بكون حقّ - من دين أو عين أو حقّ - ثابتا في ما هو تحت سلطنته ، أو في ذمّته ، أو على عهدته من ذي قبل ، ففرق واضح

ص: 408


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 162 ، ح 667 ، باب الإقرار في المرض ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 379 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 11.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 249 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 5592 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 161 ، ح 663 ، باب الإقرار في المرض ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 112 ، ح 432 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 380 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 12.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 162 ، ح 665 ، باب الإقرار في المرض ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 113 ، ح 434 ، باب الإقرار في حال المرض ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 380 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 16 ، ح 13.

بينهما إذ الإقرار ليس تصرّفا جديدا في ماله كي يقال بأنّه محجور عليه بالنسبة إلى الأزيد من ثلث ماله ، بل هو إخبار عن دينه السابق على هذه الحالة التي حجر عليه الشارع في الأزيد من الثلث.

إذا عرفت ما ذكرنا تعلم أنّه لا منافاة بين أن يفتي الفقيه في باب الإقرار بعدم نفوذه في الزائد على الثلث ويفتي في باب التبرّعات المنجّزة والعقود المحاباتيّة بالنفوذ من الأصل أو بعكس هذا ، إذ لا ربط بين المسألتين.

وثانيا : أنّ في مسألة الإقرار في مرض الموت ليس من المسلّم أنّه لا ينفذ في الأزيد من الثلث دائما ومطلقا ، ولا أنّه ينفذ في مقدار الثلث دائما ومطلقا ، بل الأقوال فيها كثيرة ، وقيل بأنّها عشرة ، وذلك لاختلاف الروايات الواردة في هذا الباب ، وقد تقدّم ذكرها آنفا.

ففي بعضها كرواية العلاء بيّاع السابري قيّد النفوذ في جميع المال بكون الامرأة المقرّة مأمونة غير متّهمة ، وعلّل ذلك بقوله علیه السلام : « فإنّما لها من مالها ثلثه ». والظاهر أنّ مراده علیه السلام من هذا الكلام أنّه إذا لم تكن مأمونة يمكن أن تكون في إقرارها كاذبة ، فتكون النتيجة أنّ إقرارها صار سببا لخروج جميع التركة من يد الورثة ، مع أنّها لا تملك أزيد من ثلث تلك التركة.

إن قلت : هذا الكلام الأخير منه علیه السلام يدلّ على أنّ المنجّزات لا تخرج من الأصل ، لأنّه لا يملك في المرض الذي يموت فيه تمام ماله ، بل له الثلث.

قلنا : إنّ المراد أنّها إذا لم تكن مأمونة ، واحتملنا أن تكون كاذبة في إقرارها ، فيكون إقرارها خبرا كاذبا وليس تبرّع ولا عقد محاباتي في البين بحيث أنّها تنشأ فعلا تمليك مالها لتلك الفلانة ، بل غاية ما يمكن أن يقال في حقّها إنّها توصي بإعطاء جميع مالها لتلك الفلانة بعد مماتها ولكن بصورة الإقرار ، لعلمها بأنّ الوصيّة لا تنفذ في الأزيد من الثلث ، فلذلك تظهر ما تريد بصورة الإقرار كي يصل إليها تمام المال ، وإلاّ

ص: 409

فليس مرادها أن يعطى المال لتلك الامرأة الفلانية في حياتها ، فيكون إقرارها لها في الحقيقة وصيّة لها.

ومعلوم أنّ الميت ليس له التصرّف في ماله بعد موته في الأزيد من الثلث ، أي يكون تصرّفه في ماله وإن كان في حال حياته ، ولكن يكون ظرف انتقال المال إلى الطرف بعد موته ، وهذا معنى الوصيّة ، وهو مقابل للمنجّزات ، لأنّ المنجّز التمليك وتملّك الطرف الاثنان في حال الحياة ، ويكون كسائر معاملاته في حال صحّته.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ جميع موارد إقرار المريض إذا كانت إقرارا واقعا حقيقيّا وكان صادقا ، فهذا واقعا مال المقرّ له ، ولا يخرج عن ملك المريض في عالم الثبوت شي ء كي يقال بالنفوذ في الأصل أو في الثلث ، وإن كان كاذبا فليس للمقرّ له شي ء كي يقال بأنّه من الأصل أو من الثلث.

إذا عرفت ذلك تعرف أنّ التفاصيل الكثيرة الواردة في الأخبار المتقدّمة كلّها ترجع إلى أنّه هل هناك أمارة على أنّ المقرّ صادق في إقرار أم لا.

مثلا الفرق بين أن يكون المقرّ له وارثا أو كان أجنبيّا يرجع إلى أنّه لو كان وارثا فهذا أمارة على كذب الإقرار ، وذلك لأنّ المريض الذي أشرف على الموت بعد أن رأى أنّ يده تنقطع عن أمواله بالموت ، فيجب أن ينتقل أمواله إلى من يحبّه أكثر ، ولا شكّ في أنّه يحبّ أولاده أكثر من الأجنبيّة التي صارت من ورثته بواسطة تزوّجه لها قبل كم يوم ، خصوصا إذا لم يدخل بها أو وإن دخل بها ولكن ليس له ولد منها ويدري بأنّ الوصيّة لا تنفذ في الأزيد من الثلث ، فيقرّ بأنّ جميع ماله لأولاده مثلا.

وأمّا الروايات التي قيد فيها نفوذ الإقرار بأن لا يكون المقرّ متّهما ، فأمرها فيما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى البيان.

ورواية الحلبي التي يقول الإمام علیه السلام فيها « نعم إذا كان مليّا » يعني إذا كان مليّا بفقد إقراره ، وذلك لأنّ كون المريض المقرّ مليّا أمارة على صدقه في إقراره ، لأنّ الملي

ص: 410

يصل إلى وارثه ما يكفيه من إرثه ، فلا يحتاج إلى أن يقرّ المريض كاذبا بالمال ، فتكون ملاءته أمارة على صدقه.

ورواية أبي أيّوب التي يقول علیه السلام فيها « إن كان الميّت مرضيّا فأعطه الذي أوصى له » أي ما أقرّ له بالدين كما هو المذكور في نفس الرواية ، وواضح أنّ كونه مرضيّا أمارة صدقه في إقراره.

ورواية سماعة التي يقول علیه السلام فيها « يجوز عليه ما أقرّ به إن كان قليلا » يعني إذا كان المقرّ به شيئا قليلا ، فلا داعي له على الكذب ، فهو صادق في إقراره.

وأمّا مكاتبة محمّد بن عبد الجبّار إلى مولانا العسكري علیه السلام فأوّلا أمارات كونها تقيّة بادية وظاهرة عليها ، وقوله علیه السلام فيها « وإن لم يكن الدين حقّا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف » ظاهر بل صريح في ما استظهر من تلك الروايات ، أي الروايات التي وردت في باب إقرار المريض لوارثه أو لأجنبي ، وهو أنّه لو كانت أمارة صدق لإقراره وأنّه صادق في إقراره يؤخذ به ، وإلاّ يكون وصيّته يخرج من الثلث ، كفى أو لم يكف.

والسرّ في ذلك : أنّ نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم من جهة أنّ العاقل لا يقدم على ما هو ضرر عليه بلا داع أهمّ من ذلك الضرر في نفسه ، والأمارات المذكورة في هذه الروايات لبيان أنّ المورد مورد جريان هذه القاعدة. فإذا كان مورد الجريان تجري وإلاّ ليس بإقرار ، بل صرف وصيّة ويخرج من الثلث ، فلا ربط لهذه الروايات بباب المنجّزات.

وأمّا القول المختار ، أي خروج المنجّزات من أصل التركة فلوجوه :

الأوّل : الإجماع.

وفيه : المنع صغرى وكبرى.

ص: 411

أمّا الصغرى ، فلكثرة المخالفين حتّى ادّعى بعضهم الإجماع على الخلاف ، ولكن المحقّق أنّه - أي القول بالخروج من الثلث - ذهب إليه جميع كثير من أعاظم الأصحاب كالشهيدين ، (1) والفاضلين ، (2) وجامع المقاصد ، (3) بل في المسالك نسبته إلى الأكثر ، بل نسب إلى عامّة المتأخّرين. (4)

وأمّا الكبرى ، فلأنّ الإجماع في مثل هذه الموارد - التي يدّعي الطرفان تواتر الروايات كلّ واحد منهما على مذهبه - لا حجّية له قطعا ، لما ذكرنا في الأصول من أنّ حجّية الإجماع وكونه دليلا على الحكم الشرعي موقوف على أن لا يكون للمجمعين والمتّفقين مدرك معيّن ، ومتكئا معلوم ، من عقل أو نقل ، أي الآيات والروايات ، وإلاّ لا بدّ من المراجعة إلى تلك المدارك وأنّها تدلّ على المدّعى أو لا تدلّ. ففي مثل هذا المقام الذي يدّعي كلّ واحد من الطرفين وجود روايات متواترة على مدّعاه لا يبقى مجال للتمسّك بالإجماع.

الثاني : قاعدة السلطنة ، أي عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » خرج منها التصرّفات المعلّقة على الموت ، ويبقى المنجّزة تحت العموم.

الثالث : استصحاب ما كان للمالك حال الصحّة من نفوذ تصرّفاته المنجّزة في جميع ماله ، وإن كانت تبرّعية أو معاملة محاباتيّة. وهذا الاستصحاب تنجيزي لا تعليقي ، لأنّه استصحاب صفة وحالة كانت للمالك قبل أن يمرض.

الرابع : الأخبار الواردة في الباب :

منها : رواية سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : « هو ماله يصنع ما شاء به إلى أن

ص: 412


1- « الدروس » ج 2 ، ص 302 ، « المسالك » ج 1 ، ص 242.
2- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 102 ، « مختصر النافع » ص 167 ، « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 334.
3- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 94.
4- « المسالك » ج 1 ، ص 464.

يأتيه الموت » (1).

وهذه الرواية رواها في الوسائل بطريق آخر من سماعة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام مثل ما ذكرنا ، وقال صاحب الوسائل : وزاد - أي أبو بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام - : « أنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا إن شاء وهبه ، وإن شاء تصدّق به ، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت ، فإن أوصى به فليس له إلاّ الثلث ، إلاّ أنّ الفاضل في أن لا يضيّع من يعوله ولا يضرّ بورثته ». (2)

ومنها : رواية عمّار بن موسى الساباطي أنّه سمع أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « صاحب المال أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الروح يضعه حيث شاء ». (3)

ومنها : رواية أخرى له أيضا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام : « الرجل أحقّ بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كلّه فهو جائز ». (4)

قال في الوسائل : حمله الشيخ وجماعة على التصرّفات المنجّزة ، وحمله الصدوق على من لا وارث له. (5)

ص: 413


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحق بماله ما دام حيّا ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 186 ، ح 749 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 381 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 381 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، حكم التصرّفات المنجزة في مرض الموت.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 7 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 176 ، ح 748 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 381 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 4.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 7 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 202 ، باب في أنّ الإنسان أحقّ بماله... ، ح 5468. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 187 ، ح 753 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 6 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 459 ، باب أنّه لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 5.
5- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 5 ، وانظر : « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ذيل ح 460.

ومنها : رواية ثالثة لعمّار بن موسى الساباطي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : الميّت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به؟ قال : « نعم فإن أوصى به فليس له إلاّ الثلث ». (1)

ومنها : رواية رابعة لعمّار بن موسى الساباطي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الرجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه ، فقال : « إذا أبانه جاز ». (2)

وهذه الرواية الأخيرة لا تدلّ على ما نحن بصدده من نفوذ المنجّزات من الأصل ، لأنّه من الممكن أن يكون البعض هو الثلث أو الأقلّ منه ، وإن كان ظاهر القضيّة الشرطيّة - حيث علّق الجواز على الإبانة ، أي المنجّز - كون ذلك البعض أزيد من الثلث ، وإلاّ لو كان بمقدار الثلث أو أقلّ منه لم يكن وجه لهذا التعليق ، لأنّه كان جائزا أبان أو لم يبن ، لأنّ نفوذ الوصيّة في الثلث وفيما هو أقلّ منه إجماعي بل قطعي ، لتواتر الروايات على ذلك.

وعلى كلّ حال رواية سماعة ، وروايات الثلاث لعمّار دلالتها على ما ندّعي من نفوذ المنجّزات من الأصل واضحة لا حاجة لها إلى الشرح والإيضاح.

ولذلك لم يستشكل في دلالتها جامع المقاصد (3) الذي يقول بنفوذ المنجّزات مثل الوصايا المعلّقة على الموت من الثلث ، وينكر كونه من الأصل ، بل يستشكل في سندها بأنّ عمّار وسماعة ضعيفان ، لكونهما خارجين عن طريق الحقّ ، لأنّ عمارا فطحي وسماعة واقفي ، ولذلك لم يعتبر روايتها في مقابل الصحاح المعتبرة ، كصحيحة

ص: 414


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 188 ، ح 756 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 7.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 190 ، ح 764 ، باب الرجوع في الوصيّة ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 121 ، ح 461 ، باب في أنّه لا تجوز الوصيّة بأكثر من الثلث ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 10.
3- « جامع المقاصد » ج 11 ، ص 95.

عليّ بن يقطين ، وصحيحة يعقوب بن شعيب.

ولكن قد عرفت فيما سبق حال هذه الأخبار الصحيحة منها ، وغير الصحيحة. وقد جعلناها ستة طوائف ، وأجبنا عن كلّ طائفة بما يناسبها. وقد عرفت أنّه لا دلالة لها على إخراج المنجزات عن الثلث ، فضلا عن أن يكون راجحا في مقام المعارضة على أخبار التي لا ريب في دلالتها على إخراج المنجّزات من الأصل ، كموثقات عمّار وسماعة هذا.

مع أنّ عمارا وسماعة وثّقهما أصحاب الرجال والحديث ، بل ينقل صاحب جامع الرواة عن الخلاصة والنجاشي ثقة ثقة في حقّ سماعة ، (1) وفي حقّ عمّار أيضا ينقل عن الكتابين المذكورين أنّه وأخواه « قيس » و « صباح » كانوا ثقاة في الرواية. (2)

هذا مع أنّه يروي الصدوق عن صفوان ، عن مرازم في الرجل يعطي الشي ء من ماله في مرضه ، فقال : إذا أبان فهو جائز ، (3) وليس في الطريق لا سماعة ولا عمّار ، وصفوان ومرازم كلاهما ثقتان. (4)

والمراد من الإبانة على الظاهر هو فصله عن نفسه بحيث لا يبقى بينه وبين ذلك المال علاقة ، وهذا عبارة أخرى عن إخراجه عن ملك نفسه بعقد منجّز بهبة أو صدقة أو غير ذلك ، بخلاف الوصيّة فإنّ الموصى به ما دام حيّا يكون ملكه كسائر أملاكه.

إن قلت : إنّ الشي ء من ماله يطلق على القليل والكثير ، بل له ظهور في القليل ، فربما يكون المراد هو الثلث أو أقل منه ، ولا خلاف في النفوذ في الثلث أو ما كان أقلّ منه.

ص: 415


1- « جامع الرواة » ج 1 ، ص 384. وهو في « الخلاصة » ص 228. وفي « رجال النجاشي » ص 193 ، رقم 517.
2- « جامع الرواة » ج 1 ، ص 613.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 202 ، باب في أنّ الإنسان أحقّ بماله. ، ح 5467. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 382 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 6.
4- « رجال النجاشي » ص 197 ، رقم 524 ، وص 424 ، رقم 1138.

قلنا : إذا كان كذلك فيكون الشرط لغوا ، لأنّ نفوذ ما هو بقدر الثلث أو ما هو أقلّ منه ليس مشروطا بالإبانة قطعا ، بل ينفذ مطلقا أبان أو لم يبن ، وكان من قبيل الوصيّة ، فالرواية تدلّ على النفوذ إن كان منجّزا بالمنطوق ، وعلى عدمه إن كان من قبيل الوصيّة بالمفهوم.

ومنها : ما رواه الكليني قدس سره مرسلا قال : وقد روي أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال لرجل من الأنصار أعتق مماليكه لم يكن له غيرهم ، فعابه النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : « ترك صبيّة صغارا يتكفّفون الناس ». (1)

ورواه الصدوق عن هارون بن مسلم نحوه إلاّ أنّه قال : « فأعتقهم عند موته » (2) فيكون على المقصود أدلّ ، لارتفاع احتمال كون عتقهم في حال الصحّة ، فيكون خارجا عن محلّ البحث.

ثمَّ إنّ الإشكال في موثّقات عمّار بأنّها مطلقات من حيث كون التصرّف في حال الصحّة والمرض فيقيّد بحال الصحّة بالروايات التي تدلّ على إخراج تصرّفات المريض في حال المرض من الثلث.

ففيه أوّلا : أنّا قد ذكرنا فيما تقدّم من عدم دلالة تلك الأخبار على نفوذ المنجّزات من الثلث كي تصلح لتقييد الموثّقات بحال الصحّة.

وثانيا : قوله علیه السلام في إحدى الموثّقات « صاحب المال أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الرّوح » نصّ في أنّه وإن كان مريضا قريب الموت ، فليس من قبيل المطلقات القابلة للتقييد ، فإن كان هناك ما يدلّ على إخراج المنجّزات من الثلث يقع بينه وبين الموثّق التعارض.

ص: 416


1- « الكافي » ج 7 ، ص 8 ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 9.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 186 ، باب ما يجب من ردّ الوصيّة إلى المعروف. ، ح 5427. « علل الشرائع » ص 566 ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 383 ، أبواب أحكام الوصايا ، باب 17 ، ح 9.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ في التبرّعات المنجّزة التي تصدر من المريض الذي يموت في ذلك المرض هو إخراجها من أصل المال وجميع التركة ، لا خصوص الثلث كالوصيّة. ومع ذلك كلّه مراعاة الاحتياط أولى بل لا ينبغي تركه ، لأنّ مستند القائلين بإخراجها من الثلث كالوصيّة قوّى جدّا ، والقائلون به من العظماء والأساطين قدّس اللّه أسرارهم.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطنا ً

ص: 417

ص: 418

فهرس الموضوعات

ص: 419

ص: 420

56 - قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها : ... 9

الأوّل : قوله تعالى ( فرهان مقبوضة ) ... 9

الثاني : رواية الباقر علیه السلام ... 9

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة ... 10

بيان حقيقة الرهن عرفا وشرعا ... 10

هل القبض دخيل في حقيقة الرهن أو شرط لصحته ... 12

فروع كون القبض شرطا لصحة الرهن ... 15

منها : لو قبضه من غير إذن الراهن ... 15

منها : لو مات الراهن أو جن قبل القبض ... 16

فرع : عدم بطلان الرهن فيما لو أخذ الراهن بعد قبضه بإذن من المرتهن أو بدون إذنه 17

فرع : لو رهن ما هو في يد المرتهن ولو كانت يده غصبا لزم الرهن ... 18

فرع : لو رهن مالا غائبا عن مجلس الرهن ... 19

فرع : لو كان ما جعله رهنا مشاعا فلا يجوز تسليمه إلى المرتهن إلا برضاء شريكه 20

فرع : لا إشكال في صحة رهن الأعيان المملوكة ... 21

فرع : لا يجوز رهن مالا يملك ... 22

ص: 421

فرع : لو رهن المشاع نفذ في حصته ويقف في حصة الغير على إجازته... 22

فرع : عدم جواز رهن المصحف أو العبد المسلم عند الكافر ... 23

فرع : لو رهن ما يسرع إليه الفساد ... 24

فرع : يجوز أن لا يكون الرهن ملكا للراهن ... 25

فرع : لو رهن عصيرا فصار خمرا عند المرتهن ... 26

فرع : لو رهن على دينه مالا ثم استدان من ذلك المرتهن ... 28

فرع : الرهن لازم من طرف الراهن وجائز من طرف المرتهن ... 29

فرع : الرهن أمانة مالكية عند المرتهن ... 33

فرع : يجوز للمرتهن اشتراء الرهن من الراهن ... 37

فرع : لا يجوز للمرتهن التصرف في الرهن بدون إذن الراهن ... 38

فرع : لو كان للرهن مؤنه فانفق المرتهن عليه جاز له الانتفاع عوضا عن نفقته 39

فرع : جواز استيفاء المرتهن دينه من الرهن ... 41

فرع : لو مات المرتهن ولم يعلم بوجود الرهن في تركته ... 43

فرع : لو أفلس الراهن أو مات ، فهل المرتهن مقدم على الديان؟ ... 47

فرع : لو أذن المرتهن ببيع العين المرهونة ... 49

فرع : لو أذن الراهن للمرتهن في بيع الرهن قبل حلول الاجل وبعده ... 50

فرع : هل يصح شرط المرتهن على الراهن أن يكون الرهن مبيعا بالدين أن لم يؤد الدين إلى أجل معين ، أو لا؟ 51

فرع : منافع العين المرهونة لمالك الرهن ... 53

فرع : إذا كان الرهن من مستثنيات الدين ... 57

ص: 422

فرع : عدم جواز بيع الزائد من الرهن فيما لو وفي بعضه بالدين ... 58

فرع : لا تبطل الرهانة بموت الراهن ولا المرتهن ... 59

فرع : إذا ظهر للمرتهن أمارات الموت يجب عليه الوصية بالرهن ... 59

فرع : لو استدان من شخص دينارا برهن ودينارا بلا رهن ... 62

فرع : لا إشكال في تحقق الرهن بالعقد والمعاطاة ... 63

فرع : لو اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين ... 66

فرع : لو اختلفا في أن المقبوض وديعة أو رهن ... 70

فرع : لو رجع المرتهن عن الاذن في البيع واختلفا في أن الرجوع قبل البيع أو بعده فالقول قول المرتهن 74

فرع : ليس للمرتهن الزام الراهن بالوفاء بعين الرهن ... 78

فرع : إذا ادعى المرتهن رهانة شئ معين وادعى الراهن غيره ... 83

فرع : لو اختلفا في رد الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه ... 84

فرع : إذا رهن مالا مشاعا ... 86

فرع : لو أرهن بيضة على دين فاحضنها المرتهن ... 88

فرع : لو رهن المستعير ما استعاره بدون إذن مالكه ... 92

فرع : إذا انفك الرهن بأداء الدين أو ابراء المرتهن ... 93

57 - قاعدة الزعيم غارم

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ... 97

الأوّل : الآية الكريمة ... 97

ص: 423

الثاني : الحديث ... 98

الثالث : الاخبار ... 98

الرابع : الاجماع ... 99

الخامس : بناء العقلاء ... 99

الجهة الثانية : شرح مفادها ... 99

المقام الأوّل : في الضمان ... 101

البحث الأوّل : في شرائط الضمان ... 103

البحث الثاني : في شرائط صحة الضمان ... 106

فرع : الضمان المؤجل للدين الحال جائز إجماعا ... 108

فرع : يجوز رجوع الضامن على المضمون عنه فيما أداه ... 110

فرع : يجوز ضمان مال الجعالة ... 113

فرع : يجوز ضمان نفقة الزوجة على الزوج ... 116

فرع : هل يجوز ضمان الأعيان المضمونة أم لا؟ ... 117

فرع : يجوز الترامي في الضمان ... 120

فرع : لو ضمن اثنان أو أكثر ما في ذمة شخص معين ... 121

فرع : هل ينفك الرهن بالضمان أم لا؟ ... 122

فرع : صحة الضمان لو قال للدائن : علي ما عليه بنحو البت ... 123

المقام الثاني : في الحوالة وفروعها : ... 123

فرع : يعتبر في صحة الحوالة أن يكون المال ثابتا في ذمة المحيل ... 124

فرع : يعتبر في صحة الحوالة رضا المحال عليه ... 125

فرع : هل الحوالة على البرئ صحيحة ... 125

فرع : هل الحوالة بيع أم لا؟ ... 126

ص: 424

فرع : تصح الحوالة سواء كان المال الذي في ذمة المحيل عينا أو منفعة أو عملا 126

فرع : إذا تحققت الحوالة برءت ذمة المحيل عن الدين ... 127

فرع : لو كان المحتال جاهلا بإعسار المحال عليه له الفسخ والرجوع إلى المحيل 129

فرع : جواز رجوع المحال عليه إلى المحيل بالمال الذي أحال عليه ... 130

فرع : عدم جواز فسخ الحوالة إلا في حالة إعسار المحال عليه حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك 132

فرع : حال المحيل بعد أن أحال دينه حال الأجنبي ... 132

فرع : لا يجب على المحتال قبول الحوالة ... 132

فرع : تبرأ ذمة المحيل بمحض وقوع الحوالة الصحيحة ... 133

فرع : جواز ترامي الحوالات ... 134

فرع : لا تصح الحوالة إلا بشرطين : اتفاق الحقين في الجنس ، وكون الحق مما يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه 137

فرع : جواز الحوالة بما لا مثل له - القيمي - ... 140

فرع : لو اختلفا - المحيل والمحتال - في الإحالة هل هي حوالة أو وكالة؟ فالقول قول المحيل 141

فرع : تصح الحوالة لو أحاله على اثنين كل واحد منهما ضامنا لصاحبه... 146

فرع : جواز شرط الاجل في الحوالة ... 149

المقام الثالث : في الكفالة وفروعها : ... 150

فرع : شروط صحة الكفالة ... 151

ص: 425

فرع : تصح الكفالة حالة ومؤجلة ... 156

فرع : للمكفول له مطالبة الكفيل باحضار المكفول عاجلا ، إذا كانت الكفالة حالة أو مطلقة 157

فرع : من أطلق غريما عن يد صاحب الحق قهرا ضمن احضاره أو أداء ما عليه 160

فرع : لا كفالة في الحد ... 163

فرع : عقد الكفالة لازم ولا يجوز فسخه إلا بالإقالة أو باشتراط الخيار للكفيل أو المكفول له 164

فرع : إذا أحضر الكفيل الغريم قبل الاجل ، هل يجب على المكفول له تسلمه؟ 165

فرع : لو سلمه وكان المكفول له ممنوعا من تسلمه لم يبرأ الكفيل ... 166

فرع : إذا كان المكفول غائبا ، معلوم المكان أو مجهول المكان ... 166

فرع : في حالة عدم تعين مكان التسليم ينصرف إلى بلد المكفول له... 167

فرع : إذا تكفل رجلان برجل واحد ثم سلمه أحدهما ثم هرب المكفول ، فهل تبرأ ذمة الاخر؟ 168

فرع : إذا مات المكفول برأ الكفيل ، وكذلك لو مات الكفيل ... 169

فرع : لو انتقل الحق بأحد النواقل الشرعية يبرأ الكفيل ... 171

فرع : يصح ترامي الكفالات ... 171

فرع : يكره التعرض للكفالات لروايات تدل على الكراهة ... 172

58 - قاعدة الشفعة جائزة في كل شي ء

وفيها جهات من البحث :

ص: 426

الجهة الأولى : شرح ألفاظ القاعدة ، وبيان المراد منها ... 177

الجهة الثانية : مدرك القاعدة وبيان الدليل عليها ... 178

الجهة الثالثة : شروط القاعدة ... 180

فرع : لو ادعى الشفيع غيبة الثمن ... 195

فرع : يثبت هذا الحق للغائب ... 196

فرع : الشفيع يأخذ المال المشاع بعد تحقق البيع بنفس الثمن ... 199

فرع : مورد حق الشفعة هو الاخذ من المشتري ... 201

فرع : لو تلف بعض المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة ... 202

فرع : لو باع الشفيع سهمه بعد البيع ... 205

فرع : هل يورث حق الشفعة أم لا؟ ... 206

فرع : لا تبطل الشفعة بتقايل المتبايعين ... 208

فرع : لا يحق للشفيع التبعيض في الاخذ إذا كان المال المشاع الذي تعلقت به الشفعة عينا واحدا 209

فرع : لو اشترى المال المشاع بثمن مؤجلا ... 211

فرع : لو باع الشريك سهمه المشاع في مرض موته محاباة ... 211

فرع : ربما يقال باعتبار علم الشفيع بمقدار الثمن قبل الاخذ بالشفعة... 211

فرع : لو تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع ... 212

فرع في التنازع ... 215

59 - قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدرك القاعدة ... 221

ص: 427

الجهة الثانية : شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها ... 222

الأمر الأوّل : في الوصيّة ... 223

فرع : الايجاب يصح بكل لفظ من أي لغة ... 225

فرع : الموصى به ينتقل إلى الموصى له بعد صدور الايجاب عن الموصى وبعد موته 228

فرع : هل لابد وأن يكون القبول بعد الموت أو يصح في حياة الموصى... 233

فرع : لو مات الموصى له قبل أن يقبل ... 238

فرع : لو رد الموصى له في حياة الموصي ، فهل تبطل الوصية؟ ... 239

فرع : لو رد الموصى له بعضا وقبل بعضا ، صح فيما قبله وتبطل فيما رده... 240

فرع : لا تصح الوصية في معصية ... 242

فرع : عقد الوصية جائز من الموصي وله الرجوع حتى شاء وما دام حيا... 243

الأمر الثاني : في الموصي ... 247

فرع : الشرائط المعتبرة في الموصي ... 247

فرع : لو جرح الموصي نفسه عمدا بما فيه هلاكها لم تصح وصيته في ماله ... 251

فرع : لا يجوز الوصية لغير الأب والجد من طرف الأب بأن يجعل القيم على الأطفال بعد موته أحدهما 253

الأمر الثالث : في الموصى به ... 255

فرع : لابد أن تكون العين الموصى بها ذات منفعة محللة ... 256

ص: 428

فرع : يشترط في الوصية العهدية أن يكون ما أوصى به عملا سائغا... 256

فرع : يشترط في الوصية أن لا يكون الموصى به زائدا عن الثلث ... 256

فرع : لو أجاز الوارث في حياة الموصي فيما زاد عن الثلث ... 260

فرع : هل إجازة الوارث بعد الوفاة هبة للموصى له أو تنفيذ للوصية ... 263

فرع : المراد من الثلث حال الوفاة لا حال الوصية ... 265

فرع : لو أوصى لرجل بثلث ماله - مثلا - ثم قتله قاتل فوصيته ماضية ... 267

فرع : لو أوصى بالمضاربة بتركته على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صح 270

فرع : لو أوصى بواجب غيره ... 275

فرع : لو أوصى لشخص بثلث ما يملك ولآخر بربعه ولثالث بسدسه ... 280

فرع : لو أوصى بثلثه لواحد وبثلثه لاخر كان ذلك رجوعا عن الأول إلى الثاني 281

فرع : لو أوصى بشئ واحد لاثنين وهو يزيد عن الثلث ... 284

فرع : لو أوصى بنصف ماله وأجاز الورثة ثم قالوا : ظننا أنه قليل قضى عليهم بما ظنوه واحلفوا على الزائد 284

الكلام في الوصايا المبهمة ... 287

فرع : لو أوصى بجزء من ماله ... 287

فرع : لو أوصى له بسهم من ماله كان للموصى له ثمنه ... 292

فرع : لو أوصى بشئ من ماله لرجل فله السدس ... 294

فرع : لو أوصى بوجوه فنسى الموصي وجها منها جعله الوصي في

ص: 429

وجوه البر أو يرجع ميراثا ... 295

فرع : لو أوصى باخراج بعض ولده من تركته ، فهل تقع هذه الوصية صحيحة؟ 297

فرع : لو أوصى لغيره بسيف وكان في جفن وعليه حلية ... 302

فرع : لو أوصى بلفظ مجمل لم يفسره الشرع رجع في تفسيره إلى الوارث ... 303

فرع : يستحب أن تكون الوصية بخمس ماله ... 305

في أحكام الوصيّة ... 306

الكلام في إثبات الوصية ...309

فرع : هل تثبت بشهادة أهل الذمة عند فقد البينة ... 310

فرع : لا إشكال في ثبوت الوصية بالمال بشهادة العدل الواحد ... 316

فرع : لا تثبت الوصية بالولاية إلا بشاهدين عدلين ... 318

فرع : لا تثبت بشهادة الوصي ما هو وصي فيه ... 318

الأمر الرابع : في الموصى له ... 320

فرع : لا خلاف بين الامامية في صحة الوصية للوارث والأجنبي ... 324

فرع : تصح الوصية للذمي مطلقا ... 324

فرع : إطلاق الوصية يقتضي السوية بين من أوصى لهم ... 327

فرع : إذا أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبه ... 329

فرع : تصح الوصية للحمل الموجود حال الوصية ... 330

فرع : لو أوصى في سبيل اللّه ... 331

الأمر الخامس : في الأوصياء ... 333

فرع : لو أوصى إلى عدل ففسق بعد موت الموصي ... 338

ص: 430

فرع : تصح الوصية إلى الصبي منضما إلى الكبير ... 340

فرع : لو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل ، فهل ينفرد الكبير بالتصرف أو يراجع الحاكم؟ 341

فرع : لا يشترط الذكورة في الوصي ... 342

فرع : لو أوصى إلى اثنين أو أكثر ... 342

فرع : الوصية عقد جائز فيجوز فسخها ... 347

فرع : لو ظهر عن الوصي عجز ... 349

فرع : لو ظهرت من الوصي خيانة ... 351

فرع : الوصي أمين ، فلو تلف المال في يده لا يضمن ... 353

فرع : لو كان للوصي دين على الميت جاز أن يستوفيه مما في يده - وهو وصي في أداء ديونه - أو يحتاج إلى إذن من الحاكم؟ ... 354

فرع : يجوز أن يشتري الوصي لنفسه من نفسه ... 356

فرع : إذا أذن الموصي للوصي أن يوصى ... 359

فرع : المرجع في اختلاف الورثة هو الحاكم ... 362

فرع : في ولاية الأب والجد من قبل الموصي ... 363

فرع : الشروط المعتبرة في الوصي هل تعتبر اتصاف الوصي بها حال العقد أو حال الوفاة؟ 365

فرع : يجوز للوصي على الصغار أخذ الأجرة ... 368

الكلام في منجّزات المريض ... 373

ص: 431

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.