القواعد الفقهيّة المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الرابع

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 4

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

فهرس الإجمالى

36 - قاعدة : الإحسان... 9

37 - قاعدة : الولد للفراش وللعاهر الحجر... 23

38 - قاعدة : وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه... 53

39 - قاعدة : مشروعية عبادات الصبي... 109

40 - قاعدة : الميسور لا يسقط بالمعسور ... 127

41 - قاعدة : حجية سوق المسلمين... 155

42 - قاعدة : عدم شروطية البلوغ في الأحكام الوضعية... 173

43 - قاعدة : الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد... 189

44 - قاعدة : الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها... 229

45 - قاعدة : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب... 319

ص: 5

ص: 6

36 - قاعدة الإحسان

اشارة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وأهل بيته الطيبين لطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

قاعدة الإحسان (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة الإحسان ».

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2) والآية وإن كانت واردة في مورد قعود العاجزين عن الجهاد لفقرهم ، وعدم تمكّنهم من تحصيل الزاد والراحلة

ص: 9


1- (*) « الحق المبين » ص 125 ، « عناوين الأصول » عنوان 64 ، « مجموعه رسائل » ص 479 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 170 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 9 ، « قواعد فقه » ص 264 ، « القواعد » ص 27 ، « قواعد فقه » ج 2 ، ص 264 ، « قواعد فقهي » ص 41 ، « قواعد فقهية » ص 273 ، « القواعد الفقهيّة » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 281 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4
2- التوبة (9) : 91.

للسفر مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك ، حتّى أنّ بعضهم لم يجدوا نعلا ، فسألوا النبي صلی اللّه علیه و آله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة ، والنعال المخصوفة ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولّوا وهم يبكون ، وهم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن ، فأنزل اللّه تعالى في حقّهم ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

فظاهر الآية بناء على هذا نفي السبيل ، أي العقاب الأخروي ، والعتاب من المجاهدين عليهم لتخلّفهم عن الجهاد عن هؤلاء المتخلّفين العاجزين ، مقيّدا بنصحهم لله ورسوله ، ولكنّ العبرة بعموم الآية من حيث المفاد لفظا ، ولا اعتبار بخصوصيّة المورد.

وكثير من الآيات القرآنيّة واردة في موارد خاصّة ، ولكنّ الفقهاء يستدلّون بعمومها فيما هو خارج عن المورد. نعم لا بدّ وأن يكون العموم يشمل المورد ، لأنّ تخصيص المورد مستهجن.

فلا بدّ لنا من شرح هذا الكلام الشريف والجملة المباركة ، أي قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) وأنّه ما هو الظاهر والمتفاهم العرفي منها.

فنقول : أما كلمة « المحسنين » فهو جمع معرّف باللام يفيد العموم ، وأمّا « الإحسان » هو صدور الجميل من قول أو فعل بالنسبة إلى غيره ، وذلك قد يكون بإيصال نفع إليه مالي أو اعتباري ، وقد يكون بدفع ضرر مالي أو اعتباري عنه.

والسبيل المنفي حيث أنّه نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم ، لأنّ انتفاء الطبيعة لا يتحقّق إلاّ بانتفاء جميع أفرادها ، وإلاّ يلزم اجتماع النقيضين. فإذا كان مفاد الآية عموم النفي ، أي كون السبيل منفيّا بطور العموم ، ويكون السلب كليّا لا

ص: 10


1- التوبة (9) : 91.

المسلوب فقط ، فوجوده ولو كان في مورد واحد نقيضه ، لأنّ الموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكليّة.

فالآية بظاهرها تدلّ على نفي كلّ ما يصدق عليه أنّه سبيل عن كلّ من هو محسن ، فهذه كبرى ثابتة من الآية الشريفة تكون دليلا وحجّة لجميع مواردها في الفقه ، ولا يزال الفقهاء يستدلون بها على نفي الضمان في موارد الإحسان.

والسبيل جاء بمعنى : السبّ ، والشتم ، والحرج ، والحجّة ، والطريق. والظاهر أنّه في الآية بمعنى الحجّة والحرج.

وإن شئت قلت : بمعنى المؤاخذة ، أي ليس على المحسن مؤاخذة فيما تسبب عن إحسانه.

ولا شكّ في أنّ الضمان سبيل بأيّ معنى كان من المعاني المذكورة ، فتدلّ الآية على أنّ الفعل الذي صدر من المحسن وإن كان ذلك الفعل في حدّ نفسه سبب وموجب للضمان ، ولكن إذا كان محسنا فلا يوجب الضمان.

مثلا لو كان حيوانا جائعا صاحبه غائب ، وليس من يعلفه ، فأخذه وعلفه ، فصار سببا لتلفه من باب الاتّفاق ، فلا ضمان على المحسن. أو أدخله في اصطبله لحفظه عن البرد أو السبع ، ثمَّ وقع عليه البناء وتلف ، فليس عليه سبيل ، لأنّه محسن. أو الطبيب الذي أخذ المريض الفقير إلى داره ليعالجه ويعطيه الدواء والغذاء ، ولكن من باب الاتّفاق لدغته حيّة أو عقرب فمات فلا سبيل عليه ، لأنّه محسن.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الجملة كبرى كلّية تنطبق على جميع موارده ، إلاّ أن يأتي دليل مخصّص ويخصّصه ، فهو عامّ شرعي ، كسائر العمومات الشرعيّة قابلة لورود التخصيص عليه ، وما لم يكن مخصّصا في البين يؤخذ بعمومه.

وان شئت قلت : إنّ هذه الجملة تنحلّ من ناحية الموضوع إلى قضايا متعدّدة بعد أفراد الموضوع ، فيكون مفادها أنّ كلّ واحد من أفراد المحسنين ليس عليه كلّ ما

ص: 11

يصدق عليه السبيل.

نعم بقي شي ء : وهو أنّه موضوع الحكم هل هو الإحسان في قصده واعتقاده وإن كان إساءة في الواقع؟ أو هو الإحسان واقعا وإن لم يعلم أنّه إحسان ، بل وإن قصد به الإساءة ، أو كلاهما؟ أي يكون إحسانا واقعا وهو أيضا يكون قاصدا للإحسان؟ وجوه.

والظاهر أنّه دائر مدار الإحسان الواقعي وإن لم يقصد به الإحسان ، لأنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم - الذي أخذ موضوعا للحكم الشرعي - هو واقعها والمعنى الحقيقي لها ، إلاّ أن يكون المتفاهم العرفي معنى آخر غير المعنى الحقيقي ، ولا شكّ في أنّ العرف لا يفهم من لفظ « الإحسان » غير ما هو المعنى الحقيقي له. نعم هذا بحسب ما يستفاد من هذه الجملة.

وأمّا الدليل العقلي والإجماع فسترى ما يكون مفادهما.

الثاني : حكم العقل بقبح مؤاخذة المحسن على إحسانه ولعلّ إلى هذا يشير بطور الاستفهام الإنكاري قوله تعالى ( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) (1) أي مكافاة الإحسان يكون بالإحسان إلي المحسن ، لا الإساءة إليه.

وبعبارة أخرى : شكر المنعم حسن بحكم العقل وعند العقلاء ، ولا شكّ في أنّ المحسن منعم ، فشكره ، أي جزاءه بالإحسان إليه قولا أو عملا حسن ، كما أنّ كفران نعمته قبيح.

ومعلوم أنّ تغريم المحسن وتضمينه فيما أحسن إليه كفران لما أنعم عليه ، وذلك كما في المثال الذي ذكرنا أنّه لو رأى غنم شخص صاحبه غائب عنه ، فأدخله في داره للحفظ عن التلف وأن لا يفترسه السباع ، فانهدم البناء وتلف ، فتغريم هذا الشخص وتضمينه قبيح بحكم العقل ، ويكون إساءة في مقابل جميلة وإحسانه ، لأنّه وإن وضع

ص: 12


1- الرّحمن (55) : 60.

يده عليه بدون إذن صاحبه ، إلاّ أنّه كان بقصد الإحسان وحفظ ذلك الحيوان عن التلف ، وفي الواقع كان إحسانا من جهة حفظه عن السباع ، لا أنّه صرف قصد الإحسان ، وإنّما وقع عليه التلف بجهة أخرى غير جهة إحسانه ، وهو انهدام البناء من باب الاتّفاق.

فتغريمه في مثل هذه الصورة قبيح ، فيستكشف من هذا الحكم العقلي ملاك حرمة تغريم المحسن وتضمينه في الفعل الذي صدر عنه بقصد الإحسان وكان واقعا إحسانا ، وإن تضرّر صاحب الحيوان من ناحية أخرى وتلف ماله.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حكم العقل بقبح تغريم المحسن وتضمينه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف استحسان ، وإثبات الحكم الشرعي أو نفيه عن موضوعه لا يجوز بالظنون الاستحسانيّة ، بل لا بدّ من قيام دليل وحجّة ثبت حجّيته بالحجّة القطعيّة على ثبوته أو نفيه ، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف ، أو يد غير مأذونه ، أو تعدّ ، أو تفريط من الأمين ، أو غير ذلك من أسباب الضمان لا يصحّ الحكم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان.

الثالث : من أدلّة هذه القاعدة هو الإجماع ، فإنّ الفقهاء يستدلّون بها في كتبهم وفتاويهم على عدم ضمان المحسن من نكير منهم ، مثلا إذا كان المال الذي أودعه المودع عند شخص ، وكان ذلك الشخص غيّر مكان الوديعة لاعتقاده أنّه أحفظ ، وكان ذلك المكان واقعا أحفظ ، وكانت الوديعة من الأحجار الكريمة فانكسر ، فلا ضمان على الودعي ، لأنّه محسن في هذا النقل ، وإن كان بغير إذن المودع.

حتّى قال بعضهم : أنّه يجوز النقل إلى مكان أحرز ولو مع نهي المالك المودع عن النقل ، بل ادّعى الإجماع على عدم الضمان فيما نقل مع خوف التلف ، معلّلا بأنّه محسن في هذا الفعل و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) .

والحاصل : أنّ استدلالهم على عدم الضمان بهذه القاعدة وإن كان من المسلّمات ،

ص: 13

فهذا صاحب الجواهر قدس سره يستدلّ على قبول قول الودعي إن ادّعى التلف بالإجماع ، وبأنّه محسن قابض لمصلحة المالك (1). ولكن استدلالهم بهذه القاعدة في عدم الضمان لعلّه مستند إلى الآية الشريفة ، بل الظاهر أنّه كذلك ، لا أنّه صرف الاحتمال ، ومع هذا كيف يمكن أن يكون من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ عمدة المدرك لهذه القاعدة هو عموم الآية الشريفة (2) بناء على إلقاء خصوصيّة المورد ، كما بيّنّا وتقدّم مفصّلا.

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

فنقول : المراد منها - وإن ظهر ممّا بيّنّا في شرح أدلّتها ، خصوصا ما ذكرنا في شرح الآية المباركة ، ولكن نبيّن توضيحا لما سبق - أنّ الذي يفعل فعلا يكون موجبا للضمان والتغريم في حدّ نفسه ، كما أنّ الولي أو القيّم على الصغير لو صدر فعل عنه في مال الصغير من باب الإحسان إليه ، وكان ذلك الفعل في الواقع إحسانا ، لا أنّه اعتقد أنّه إحسان وفي الواقع لم يكن إحسانا ، لأنّ موضوع القاعدة هو الإحسان الواقعي لا تخيّل الإحسان ، ولكن اتّفق أنّه ترتّب على ذلك الفعل ضرر. كما أنّه لو نقل متاعه في البحر لانتفاع أكثر فغرق ، أو في البرّ فسرق ، فليس عليه الضمان ، لأنّه كان محسنا في هذه الفعل ، وهذا الفعل في حدّ نفسه إحسان إليه ، والغرق والحرق والسرقة أمر اتّفاقي.

ووجود هذه الأمور من باب الاتّفاق لا يمنع التجّار عن تجاراتهم ومكاسبهم ، كما أنّه لا يمنع عن صدق الإحسان إلى القصر إذا صدر عن الأولياء.

ص: 14


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 147.
2- التوبة (9) : 91.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه القاعدة ففي السبيل مطلقا على كلّ واحد من أفراد المحسنين ، فهذه قضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة ، مثل قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1) حيث أنّه تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بعدد أفراد الموضوع ، أي اجتنبوا عن هذا الخمر وذاك وهكذا.

وحاصل معناها : أنّ كلّ ما وجد في الخارج وصدق عليه أنّه خمر يجب الاجتناب عنه ، وهذا هو معنى الانحلال ، وفيما نحن فيه أيضا معنى الانحلال هو أنّ كلّ من وجد في الخارج وكان محسنا فلا سبيل عليه ، ولا شك أنّ الضمان والتغريم سبيل عليه ، فيرجع المعنى إلى أنّه لا ضمان ولا غرامة في الفعل الذي صدر عن كلّ محسن بجهة الإحسان وكان في الواقع إحسانا ، لا ما تخيّل أنّه إحسان مع أنّه ليس بإحسان.

وبعبارة أخرى : نفي السبيل على المحسن باعتبار إحسانه ، فإنّ تعليق الحكم على الوصف وجعله موضوعا مشعر بهذا المعنى ، فيفيد أنّ الفعل الذي صدر بعنوان الإحسان وكان إحسانا واقعا ، ولكن من باب الاتّفاق ترتّب عليه ما يوجب الضمان لا يضمن ولا يغرم ، لأنّه محسن.

ثمَّ إنّه لا فرق في صدق الإحسان بين أن يكون فعل المحسن لجلب المنفعة لذلك الذي يريد الإحسان إليه ، أو يكون لدفع المضرّة عنه ، فكلاهما إحسان ، فكما أنّ جلب المنفعة له إحسان إليه ، كذلك دفع الضرر عن نفسه أو عن ماله إحسان إليه ، وربما يكون صدق الإحسان على دفع الضرر في بعض المصاديق والموارد أولى بنظر العرف من صدقه على جلب المنفعة ، خصوصا إذا كان دفع الضرر لحفظ النفس عن الهلاك ، فأيّ إحسان أعظم من هذا.

ص: 15


1- المائدة (5) : 90.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : تارة : يكون إحسانه إلى صاحب المال باعتبار دفع الضرر المالي أو النفسي عنه ، وأخرى : باعتبار جلب المنفعة له.

فمن الأوّل : لو رأى اشتعال النار في لباسه بحيث لا طريق إلى حفظ نفس ذلك الشخص عن الاحتراق إلاّ بتمزيق ألبسته ، فمزّقها ، فحيث أنّه محسن إليه في هذا الفعل فلا يضمن.

وكذلك لو كان البزّاز اشتعل النار في دكّانه ، فهو لدفع الضرر عنه وعدم احتراق أجناسه الغالية القيّمة هدم مقدارا من الدكّان ، لعدم وصول النار إلى تلك الأجناس ، فلا ضمان عليه ، لأجل أنّه محسن إليه في هذا الفعل فلا سبيل عليه.

أو أخرج الأجناس من دكّانه مع العجلة والسرعة خوفا من احتراقها في أثناء اشتغاله بتفريق المحلّ عن الأجناس ، ووقع التلف على بعضها فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

وكذلك الأمر لو أشرف شخص على الغرق ، ولم يمكن نجاته إلاّ بأن يتلف بعض ما معه من الأموال من الألبسة وغيرها ، فأتلفها لاستخلاصه فلا ضمان عليه ، لأنّه محسن في هذا الفعل الذي صدر عنه لدفع الضرر عن صاحب المال التالف.

وكذلك لو رأى ربّان السفينة أنّ السفينة مع الأموال الكثيرة التي فيها أشرفت على الغرق لثقلها ، والمفروض أنّ السفينة وجميع الأموال لمالك واحد ، فألقى مقدارا من تلك الأموال في البحر لحفظ السفينة وباقي الأموال فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

وكذلك لو كان السيل متوجّها إلى داره ، أو خانه الذي محلّ تجارته وفيهما أموال كثيرة ، فسدّ السيل عنهما ببعض فروش داره أو أثاث بيته من الأجناس والأنواع

ص: 16

الآخر ، أو غيّر مجرى السيل منهما إلى مزرعته ، فوقع التلف على فروشه وأثاث بيته أو على زرعه فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

ولا يخفى أنّ ما قلنا من عدم الضمان ، يصحّ فيما إذا كان الضرر الذي يرد عليه أقلّ من الضرر الذي يدفع عنه إذا كان الذي يدفع عنه ماليّا ، لأنّه لو كان أكثر بل ولو كان مساويا لا يعدّ هذا الفعل إحسانا إليه ، بل إذا كان الضرر الذي يدفع عنه أقلّ من الضرر الذي يرد عليه يكون هذا إساءة لا إحسانا ، وإذا كان مساويا يكون لغوا لا إحسانا ، إلاّ أن يكون جهة أخرى غير الماليّة ، فيخرج عن اللغويّة ، بل ربما يوجب صيرورته إحسانا وإن كان مساويا مع الضرر الذي يدفعه عنه من حيث الماليّة.

وكذلك الودعي لو أراد المسافرة التي لا يمكن له تركها ، ولا يمكن له الوصول إلى مالك الوديعة كي يردّها ، فيجوز له دفنها في محلّ الأمن إن لم يأمن - مع كونه ظاهرا بارزا - عن سرقته أو غصبه أو تلفه بشكل. فلو دفنه مع هذا الخوف ، فوقع عليه التلف من باب الاتّفاق فلا يضمن ، لأنّه محسن في هذا الفعل.

قال في الجواهر : كما أنّه لو خشي المعاجلة ، أو خاف عليها من معاجلة السارق أو الظالم لم يضمن حينئذ بالدفن المراعى مقدار ما يتمكّن منه من الحرزيّة والأعلام ونحوهما ، لانحصار طريق حفظها حينئذ بذلك ، وكذا لو كان السفر ضروريّا له ، وخاف معاجلة الرفقة ، فدفنها مراعيا ما سمعت بعد تعذّر ما وجب عليه من الردّ على الوجه المزبور (1). انتهى كلامه.

والحاصل أنّ موارد تطبيق على قاعدة الإحسان في هذا القسم - أي : فيما إذا كان الإحسان باعتبار دفع الضرر عمّن يحسن إليه - كثيرة لا يمكن في هذا المختصر استيفاؤها واستقصاؤها.

وأمّا موارد تطبيق هذه القاعدة في القسم الثاني ، أي فيما إذا كان الإحسان باعتبار

ص: 17


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 145.

جلب المنفعة وإيصالها إلى الذي يريد أن يحسن إليه فكثيرة أيضا.

فمنها : الأفعال الكثيرة التي تصدر من الأولياء لإيصال النفع إلى المولّين عليهم ، فاتّفق ترتّب الضرر على تلك الأفعال ، فلا ضمان لهم ، لأنّهم محسنون في تلك الأفعال إليهم. مثلا أحد الأولياء هو الحاكم ، فلو تصرّف في مال المولّى عليه لإيصال النفع إليه ، كما أنّه اشتغل في قناة له بالحفر والإصلاح لازدياد الماء ، فصار سببا لانهدام القناة ، فلا ضمان عليه ، لأنّه كان محسنا إليه. أو فتح طريق السيل إلى مزرعته أو بستانه لشرب الماء ونموّ زرعها ، أو نموّ أشجار البستان فاتّفق أنّ ذلك السيل أفسد تلك المزرعة وذلك البستان ، فلا ضمان عليه.

وكذلك لو أعطى الحاكم النقود التي عنده لأجرة العبادات للأجير الذي ثقة عنده فاتّفق أنّه لم يأت بتلك العبادة ومرض ومات ، ولم يترك مالا كي يؤخذ ما أعطاه الحاكم عن تركته ، فلا ضمان على الحاكم ، لأنّه محسن إلى صاحب المال.

وكذلك الحال في الأب والجدّ من طرف الأب بالنسبة إلى أموال صغيرهما ، فلو حبسوا طعامه ومتاعه ولم يبيعاه التماس زيادة الثمن ، فنزل السعر أو فسد الطعام والمتاع ، فلا ضمان عليهما ، لأنّهما محسنان في تأخير البيع.

وهذا فيما إذا كان نزول السعر أو فساد المتاع من باب الاتّفاق ، وإلاّ لو كان النزول أو فساد المتاع غالبيّا ، فتأخير البيع ليس إحسانا ، بل ربما يكون إساءة ، وذلك كالمنسوجات التي مادّتها صوف أو وبر ، فإبقاؤها وتأخير بيعها خصوصا في الصيف يوجب غالبا فسادها وإتلافها ، بواسطة أنّه غالبا تلك المنسوجات في الصيف في معرض أكل العثة.

وهكذا تأخير بيع الفواكه التماس زيادة الثمن ، لأنّ إبقاء الفواكه وتأخير بيعها غالبا ممّا يوجب فسادها ، فالتأخير في أمثال هذه لطلب زيادة الثمن وإيصال النفع ليس إحسانا ، بل يكون في بعض الصور إساءة.

ص: 18

وكذلك الأمر فيما لو زرع زرعا للمولّى عليه لإيصال النفع إليه ، ولكن من باب الاتّفاق بواسطة حوادث الجوّ فسد ذلك الزرع ، أو صار حاصل ذلك الزرع رخيصا وقليل الفائدة ، بحيث لم يف بنصف ما صرف في ذلك الزرع ، فلا ضمان على الوليّ ، لأنّه كان محسنا في ذلك الفعل.

وكذلك لو أجر سفينته أو أباعرة وجماله للركوب أو للحمل ونقل المتاع من مكان إلى مكان آخر ، فغرقت السفينة ، أو تلفت الأباعر والجمال ، فلا ضمان على الوليّ ، كما ذكرنا من أنّه محسن في هذا الفعل ، وقد نفى اللّه سبحانه وتعالى السبيل على المحسنين ، وقد تقدّم أنّ موارد تطبيق هذه القاعدة كثيرة ، ولا يمكن استقصاؤها واستيفاؤها تماما.

وقد أورد بعضهم ها هنا إيرادا ، وهو أنّ الفقهاء - قدّس اللّه أسرارهم - ذكروا في باب اللقطة أنّ الملتقط بعد اليأس عن إيصال المال إلى صاحبه يتصدّق بذلك المال عن طرف صاحبه المجهول ، لأنّ هذا أيضا نحو إيصال إلى المالك وإحسان إليه ، ومع ذلك حكموا بأنّه ضامن للمالك إن ظهر وعلم به بعد أن تصدّق ، وهذا الحكم منهم مناف لعموم هذه القاعدة.

ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنّ الشارع حكم بجواز التصدّق مع الضمان إن ظهر صاحبه ، والتصدّق إحسان بهذا القيد ، وإلاّ فصرف التصدّق بدون أن يكون في البين ضمان - على تقدير ظهور صاحبه وتبيّنه - يكون إحسانا مشكل.

وهذا الحكم ليس مختصّا باللقطة ، بل قالوا به في كلّ ما هو مجهول المالك ، كما لو وقعت في يده الأموال المسروقة أو المغصوبة التي لا يعلم صاحبها ، فبعد اليأس عن الإيصال إلى صاحبها يجب عليه أن يعطيها صدقة بشرط ضمانها لو ظهر صاحبها أو أصحابها.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 19

ص: 20

37 - قاعدة الفراش

اشارة

ص: 21

ص: 22

قاعدة الفراش (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المعروفة قاعدة « الولد للفراش ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

فنقول : وهو الحديث المشهور المعروف بين جميع الفرق والطوائف الإسلاميّة ، ولم ينكره أحد من المسلمين ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (2).

وقد روى هذا الحديث في الصحاح المعتبرة عندهم هكذا عن عائشة ، قالت : كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقّاص أنّ ابن وليدة زمعة مني فأقبضه. قالت : فلمّا كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقّاص ، وقال ابن أخي قد عهد إلىّ فيه ، فقام عبد بن زمعة ، فقال : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فتساوقا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال سعد : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابن أخي كان قد عهد إلىّ فيه ، فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « هو لك يا عبد بن

ص: 23


1- (*) « القواعد » ص 189.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 492 ، باب الرجل يكون له جارية... ، ح 3. « الكافي » ج 7 ، ص 163 ، باب ميراث ولد الزنا ، ح 1 و 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 380 ، ح 5812 ، باب النوادر ( من ألفاظ النبي صلی اللّه علیه و آله ) ، ح 50 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 565 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 56 ، ح 1 ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 647 ، ح 2006 و 2007 ، باب الولد للفراش وللعاهر الحجر.

زمعة » ثمَّ قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ». ثمَّ قال صلی اللّه علیه و آله لسودة - بنت زمعة زوج النّبي صلی اللّه علیه و آله - « احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة : فما رآها حتّى لقي اللّه تعالى » (1).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام في جواب معاوية : « وأمّا ما ذكرت من نفي زياد ، فإنّي لم أنفه بل نفاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر » (2).

وكتب الحسن علیه السلام في جواب زياد - لمّا كتب زياد إليه علیه السلام : من زياد بن أبي سفيان إلى حسن بن فاطمة علیه السلام يريد بذلك إهانته علیه السلام - : من حسن بن فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى زياد بن سميّة ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (3).

ورواية حسن الصيقل عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته ويسأل عن رجل اشترى جارية ، ثمَّ وقع عليها قبل أن يستبرأ رحمها ، قال علیه السلام : « بئس ما صنع يستغفر اللّه ولا يعد » قلت : فإن باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها ، ثمَّ باعها الثاني من رجل آخر ، فوقع عليها ولم يستبرء رحمها فاستبان حملها عند الثالث؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (4).

ورواية سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد ، لمن يكن الولد؟ قال : « للذي عند الجارية ، لقول رسول

ص: 24


1- « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 70 ، باب تفسير المشبّهات ، و: ( يا سودة ) غير موجودة في نص البخاري ، « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 1080 ، ح 1457 ، كتاب الرضاع ، ح 36 ، باب الولد للفراش ، وتوقي الشبهات ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 646 ، ح 2004 ، باب الولد للفراش وللعاهر الحجر.
2- « الخصال » ص 213 ، باب : الأربعة ، عن ابن عباس.
3- « شرح نهج البلاغة » لابن أبى الحديد ، ج 16 ، ص 194 ، باب نسب زياد بن أبيه ..
4- « الكافي » ج 5 ، ص 491 ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح 1. « الفقيه » ج 3 ، ص 450 ، ح 4557 ، باب أحكام المماليك والإماء ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 168 ، ح 587 ، باب لحوق الأولاد بالآباء ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 568 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 58 ، ح 2.

اللّه صلی اللّه علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر » (1).

ولا ينبغي البحث عن صدور هذا الحديث الشريف عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأنّ صدوره قطعيّ.

وذلك من جهة أنّ إلحاق معاوية زياد بن سميّة بأبي سفيان صار سببا لاشتهار هذا الحديث بين المحدّثين والمؤرّخين ، إذ هذه القضية العجيبة التي كانت خلاف نصّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقعت في زمان وجود جمع كثير من الصحابة الكرام ، وأنكروا كلّهم هذا الأمر على معاوية لمّا سمعوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا النصّ الصريح ، ولذلك اشتهر ونقله المحدّثون وأغلب المؤرّخين ، وذكروا له المطاعن الأربعة المعروفة عند جميع المسلمين : بغيه على أمير المؤمنين علیه السلام ، وقتله حجر بن عدي الذي كان من خيار أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإلحاق زياد ، ونصبه يزيد ابنه خليفة من بعده وأميرا على المسلمين.

ولما ذكرنا فمدّعى القطع بصدور هذا الحديث ليس بمجازف ، وعلى كلّ حال ثبوته وصدوره من المسلّمات بين المسلمين.

[ الجهة ] الثانية : في بيان مدلول هذا الحديث والمتفاهم العرفي منه

اشارة

فنقول : أوّلا : أنّ ألفاظ الحديث الشريف : ف- « الولد » عبارة عن أنّ النطفة بعد استقرارها في الرحم ونمائها إلى أن بلغ إلى قابليّتها لولوج الروح فيها ، أي بعد تكميل خلقتها البدنيّة ، فإذا ولج فيها الروح يسمّى ولدا ، سواء أكان وقت خروجه حيّا سويّا

ص: 25


1- « الكافي » ج 5 ، ص 491 ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 169 ، ح 589 ، باب لحوق الأولاد بالآباء ، ح 13 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 368 ، ح 1317 ، باب القوم يتبايعون الجارية. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 568 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 58 ، ح 4.

أم لا.

نعم بعض الآثار الشرعيّة يترتّب عليها بشرط خروجها حيّا ، وهذا الذي يسمّى بالولد له إضافة إلى من تولّدت النطفة منه ، وهذه الإضافة والنسبة خارجيّة ، لا أنّها صرف اعتبار تشريعي أو عرفي.

وهذه النسبة المكررة بين الوالد والولد ، وكذا بين الوالدة تكون من المحمولات بالضمائم ومن مقولة الإضافة ، وحالها حال سائر الأعراض التسعة الخارجيّة المقوليّة ، وهذه النسبة حيث أنّه لها طرفان ، بمعنى أنّه لكلّ واحد من الطرفين نسبة مقوليّة إلى الطرف الآخر.

وتسمّى هذه النسبة من الطرف الذي خرجت هذه النطفة من صلبه ب- « الأبوّة » ، ويسمّى ذلك الشخص باعتبار تولّد هذه النطفة منه ب- « الوالد » ، وتسمّى بالنسبة إلى نفس هذه النطفة بعد تكميلها وولوج الروح فيها ب- « البنوّة » إن كان ذكرا و « البنتيّة » إن كانت أنثى ، وموصوف هذه الإضافة والنسبة يسمّى بالابن إن كان ذكرا ، وبالبنت إن كانت أنثى.

كما أنّ الموصوف لتلك النسبة التي في الطرف يسمّى بالوالد أو الأب كما ذكرنا.

وأيضا لهذه النطفة نسبة مكرّرة إلى من استقرّت هي في رحمها ، وهي أيضا نسبة خارجيّة مقوليّة مكرّرة لها طرفان ، وليس فرق بين هذه النسبة وبين النسبة السابقة ، إلاّ أنّها من طرف من استقرّت في رحمها تسمّى بالأمومة ، وموصوفها تسمّى بالأمّ أو الوالدة ، فهذا هو معنى الولد ، والوالد ، والوالدة.

وأمّا « الفراش » فهي عبارة عمّا يفرش لنوم أو لغيره ، وها هنا كناية عن الزوج الشرعي أو المالك ، باعتبار أنّ من هو زوج شرعا أو كان مالكا لها له حقّ أن ينام معها فيه شرعا ويستمتع منها ، وأمثال هذه الكنايات كثيرة في لغة العرب وتعابيرهم وفي القرآن الكريم.

ص: 26

وأمّا « العاهر » هو الزاني ، و « الحجر » معناه واضح.

وهذا الذي ذكرنا كان معنى مفردات الحديث.

وأمّا المتفاهم العرفي من هاتين الجملتين :

أمّا الجملة الأولى ، فهي عبارة عن أنّ الولد مخصوص بالزوج ، وليس لأحد غيره حقّ ونصيب فيه ، وهذا المعنى نتيجة حصر المبتدأ في الخبر الذي يقولون به في علم البلاغة إذا كان المبتدأ معرّفا بالألف واللام ، كقولهم : الكرم والفصاحة في العرب.

ولا شكّ في أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام بيان الحكم الشرعي ، لا في مقام الإخبار عن أمر خارجي ، وظاهر القضايا الشرعيّة التي بصورة الأخبار كلّها من هذا القبيل ، أي وإن كانت بحسب الصورة جمل خبريّة ، لكنّها في الحقيقة إنشاءات بصورة الإخبار عن وقوعها في أحد الأزمنة الثلاثة.

مضافا إلى أنّها لو كانت إخبارات عن الأمور الخارجيّة تكون غير مطابق مع الواقع في كثير من الأحيان ، فقوله علیه السلام : « يغتسل » و « يعيد » وأمثال هذين في مقام بيان الأحكام الشرعيّة ، فربما لا يغتسل ولا يعيد.

وفي نفس محلّ الكلام لو كان قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش » إخبارا عن أمر واقع ، ربما لا يكون كذلك ، أي يكون الولد واقعا لغير الفراش ، خصوصا في الأزمنة التي تشيع فيها الفجور ، ولا يمكن أن يصدر الكذب منه صلی اللّه علیه و آله ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله معصوم ، فهذا وجه آخر لأنّها إنشاءات لا إخبارات.

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا بدّ من القول بأنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام جعل الفراش أمارة معتبرة في مقام الإثبات لإثبات أنّ المولود في فراش شخص يكون له ، وليس لآخر نصيب فيه. ومن المعلوم أنّ جميع الأمارات الشرعيّة كالعرفيّة - بل هي أيضا عرفية في الأغلب أمضاها الشارع - قد تخطّى ، لكنّها غالب المطابقة ، وهذا مناط جعلها أمارة.

ص: 27

وأيضا معلوم أنّ أماريّة الأمارة منوطة بعدم القطع على خلافها وعلى وفاقها أيضا ، إذ مع القطع بأحد الطرفين لا يبقى مجال للتعبّد.

أمّا في صورة كون القطع على وفاقها ، فحجّية الأمارة تكون من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد ، الذي هو أسوء من تحصيل الحاصل المحال.

وأمّا في صورة كونه على خلافها ، فمن جهة عدم إمكان جعل الطريق والمثبت للذي خلافه ثابت لديه ، فالأمارة المعتبرة حجّة لمن يكن شاكّا في مؤدّاها ، فإذن قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش » يكون أمارة في مورد الشكّ في أنّ الولد هل لصاحب الفراش أو لغيره ، وإلاّ فمع أنّه له أو لغيره لا يبقى مجال للتمسّك به في مقام الإثبات.

نعم حيث أنّه بناء على ما ذكرنا أمارة معتبرة لا يعتنى بالظنون غير المعتبرة على خلافها ، كما هو الحال في كلّ أمارة ، مثلا لو شهدت البيّنة العادلة على أنّ فلانة زوجة فلان مع عدم نفيه ، فالظنّ غير المعتبر على أنّها ليس زوجة له لا أثر له.

وفيما نحن فيه بعد ما جعل الشارع الفراش أمارة على أنّ الولد لصاحب الفراش ، فكونه شبيها بالزاني وإن كان يوجب الظنّ بأنّه له ، ولكنّ الشارع لم يعتبر هذا الظنّ ، فلا أثر له في مقابل الحجّة المعتبرة ، ولذلك هو صلی اللّه علیه و آله لم يعتبر ولم يعتن بالشبه الذي كان بين الولد وعتبة بن أبي وقّاص ، وردّ دعوى سعد بن أبي وقّاص ، وحكم بكون الولد لزمعة ، معلّلا بأنّه صاحب الفراش. وأمّا أمره صلی اللّه علیه و آله زوجته سودة أمّ المؤمنين بالاحتجاب عن ذلك الولد للشباهة التي كانت بينه وبين عتبة - مع أنّه صلی اللّه علیه و آله حكم بأنّه أخوها - فمن باب الاحتياط ، وقد تقرّر في الأصول أنّ الاحتياط حسن عقلا وشرعا ، حتّى مع وجود الحجّة المعتبرة على أحد الاحتمالين. وهذا الحديث أيضا أحد الأدلّة على حسنه شرعا ، بل استحبابه إن كان أمره صلی اللّه علیه و آله باحتجابها منه مولويّا ، لا إرشاديّا إلى حسن الاحتياط.

ومن جملة الظنون غير المعتبرة التي لا تقاوهم هذه الأمارة قول القافة بواسطة

ص: 28

الأمارات التي عندهم ، ولا شكّ في أنّ قولهم يوجب الظنّ ، ولكنّ الشارع لم يعتبره.

وأمّا سرور النبي صلی اللّه علیه و آله من قول القائف حينما رأى رجلي أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت إقدامها ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض.

وقد روى هذا الحديث عن أمّ المؤمنين عائشة بعدّة طرق ، ومتن الحديث على ما رواه سفيان عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : دخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم مسرورا ، فقال : « يا عائشة ألم ترى أنّ مجزز السلمي المدلجي دخل علىّ فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت إقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض » (1) فلا يدلّ على حجّية قول القائف واعتباره.

وذلك أنّ سروره صلی اللّه علیه و آله - على تقدير صحّة الرواية - كان من جهة أنّ أسامة كان أسود شديد السواد ، وكان زيد أبيض ، وكانوا يقدحون في نسب أسامة ويطعنون من هذه الجهة ، والنبي صلی اللّه علیه و آله كان يحبّ زيدا وكذلك أسامة ، فلمّا أخبر القائف بصحّة نسبه وأن زيدا أبوه فرح صلی اللّه علیه و آله بذلك.

ولا شكّ في أنّ الظنّ بوجود ما هو المطلوب والمحبوب يوجب السرور والفرح وإن لم يكن ذلك الظنّ حجّة شرعا ، فلو أخبر معلّم كافر مشرك بأنّ ابنك فلان ذكيّ ، سريع الفهم ، وفوق ذلك أنّه مشغول جدّا بالمطالعة والحفظ يسرّ الأب ، وان كان قول المعلّم ليس حجّة ، لأنّ قول المؤمن العادل الواحد ليس بحجة في الموضوعات ، فضلا عن قول الكافر المشرك.

هذا أوّلا.

وثانيا : في الجاهلية كانت العرب تعتبر قول القائفين ، وكانوا يرتّبون عليه الآثار ،

ص: 29


1- « صحيح البخاري » ج 8 ، ص 195 ، باب : القائف ، « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 1082 ، ح 1459 ، كتاب الرضاع ، ح 39 ، باب العمل بإلحاق القائف الولد ، « سنن النسائي » ج 6 ، ص 184 ، باب : القافة. في المصادر أعلاه : « أنّ مجزّزا المدلجي. ».

فأخبار القائف بصحّة نسب أسامة كان موجبا لارتداع القادحين عن قدحهم وطعنهم ، ولذلك سرّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لحبّه زيدا وولده أسامة.

وأمّا وجه سواد أسامة فهو من ناحية أمّه أمّ أيمن ، فإنّها كانت امرأة حبشيّة تزوّجها زيد بعد زوجها الأوّل ، وهو عبيد بن زيد من بني الحارث بن خزرج ، وكانت أمّ أيمن حاضنة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وورثها من أبيه مع خمس جمال وقطيعة من غنم ، فأعتقها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال صلی اللّه علیه و آله : « من سرّه أن يتزوج امرأة من أهل الجنّة فليتزوّج أمّ أيمن ، فتزوّجها زيد ابن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد (1) ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحبّ أسامة حبّا شديدا ، وقد صرّح بذلك حين أمره على الجيش المعروف بجيش أسامة.

ومن جملة الظنون التي لا تقاوم هذا الأمارة المعتبرة ، الأمارات الظنيّة غير المعتبرة شرعا ولكنّ العرف يعتمدون عليها ، من قبيل تحليل الدم وأمثاله الشائعة في هذه الأعصار عند الأطبّاء ، ولكن كلّ ما ذكرنا من عدم مقاومتها لهذه الأمارة المعتبرة يكون فيما إذا يوجب الظنّ.

وأمّا إذا أوجب القطع بأنّ الولد لغير صاحب الفراش ، فلا يبقى مجال لإجراء هذه القاعدة ، لأنّها أمارة عند الشكّ.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ نفي النسب عن الزاني أو عن غيره ممّن هو ليس بصاحب الفراش في صورة إمكان الانتساب إلى صاحب الفراش.

وأمّا إذا لم يكن - كما إذا كان الزوج في سفر طويل ، أو كان غيبته عنها لسبب آخر كالسجن الطويل مثلا وأمثال ذلك - فلا تجرى هذه القاعدة ، وبناء على هذا لو ولدت بعد الزواج بمدّة أقلّ من أقلّ الحمل ، أو ولدت بعد غياب الزوج بمدّة أكثر من أكثر الحمل فلا يجوز الإلحاق بهذه القاعدة.

هذا هو شرح الجملة الأولى من الحديث الشريف.

ص: 30


1- « الطبقات الكبرى » ج 8 ، ص 224 ، باب تسمية النساء المسلمات المبايعات.

وأمّا الجملة الثانية : فالعاهر هو الزاني ، والحجر معناه معلوم. وقيل في معنى هذه الجملة : أنّها كناية عن طرد الزاني وردّه عن دعواه الولد ، كما أنّ الكلب يطرد بالحجارة ، وقيل : بأنّ المراد من الزاني هو المحصن وهو لا يعطى له الولد ، بل يرمى بالحجارة حتّى يهلك ، أي يحدّ بهذا الحدّ الذي عيّنه الشارع للزاني المحصن.

والأوّل أولى ، وإن كان الذي يتبادر إلى الذهن أوّلا هو الثاني.

وجه الأولويّة : هو أنّ ظاهر الحديث الشريف أنّ أماريّة الفراش ليست مخصوصة بكونها في مقابل الزاني المحصن ، بل تكون أماريّته عامّة في قبال كلّ زان ، بل في قبال كلّ واطئ ليس بصاحب الفراش وإن لم يكن زانيا ، فحمله على المعنى الثاني خروج عمّا هو المتفاهم العرفي من ظاهر الحديث ، ويكون من قبيل التخصيص بلا مخصّص.

[ الجهة ] الثالثة : في بيان جملة من موارد تطبيقها

اشارة

فنقول :

الأوّل : أن يكون في مقابل الفراش زناء فقط ، ويمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما خارجا أي ليس شي ء يمنع المنع عن إلحاقه بأحدهما لا شرعا ولا تكوينا لو لا معارضة أحدهما بالآخر ولو لا هذه القاعدة.

وهذا القسم هو القدر المتيقّن من موارد هذه القاعدة ، وكان هذا هو مورد الحديث الشريف في دعوى سعد بن أبي وقّاص ، ودعوى عبد بن زمعة ، حيث أنّ عبد بن زمعة يدّعى الولد لزمعة الذي هو صاحب الفراش ، لأنّه كان مالكا للجارية.

والفراش يتحقّق بأحد أمرين : إمّا أن يكون زوجا لها بالعقد الدائم أو الموقّت

ص: 31

المسمّى بالمتعة في اصطلاح الفقهاء وعند العرف أيضا ، أو يكون مالكا لها. وأمّا التحليل سنتكلّم فيها ، وسعد بن أبي وقّاص يدّعيه لأخيه بالزنا وقد عرفت أنّه صلی اللّه علیه و آله حكم لزمعة : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وإلحاق الولد بصاحب الفراش قد عرفت أنّه فيما أن يكون له عقلا وشرعا. أمّا الإمكان العقلي العادي هو أنّه لا يلزم من الانتساب إليه محال بحسب العادة ، كأن يكون الزوج مسافرا مدّة طويلة لا يمكن وصوله إليها عادة ، أو كان غائبا لجهة أخرى غير المسافرة لا يمكن له الوصول إليها ، أو لا يكون للزوج أو المالك أمناء لمرض ، أو لشيخوخة ، أو لأيّ علّة أخرى.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يكون الانتساب إلى صاحب الفراش - سواء أكان زوجا لها بالعقد الدائم أو المنقطع ، أو كان مالكا لها ، أو كان مالكها حلّلها له بناء على أنّ التحليل أيضا يوجب صيرورة المحلّلة له صاحب فراش كما أنّه ليس ببعيد - من قبيل وجود المعلول بدون العلّة.

وأمّا الإمكان شرعا فذكر الفقهاء - قدّس اللّه أسرارهم - له شروط ثلاثة :

الأوّل : الدخول ولو دبرا ، وقال : بعضهم وإن لم ينزل ، فإن كان المراد عدم العلم بالإنزال مع احتماله فله وجه ، وأمّا إن كان مرادهم من عدم الإنزال هو العلم بعدمه فهذا عجيب ، لأنّ مرجعه إلى وجود المسبّب بدون السبب.

وأمّا ما أفاده صاحب الجواهر - قدس سره - في هذا المقام بقوله : ولعلّه لتحرّك نطفة الامرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلّها ، أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلاّ ربّ العزّة (1) ، فهذا الذي قال من تحرّك النطفة إلى قوله « في محلّها » يشبه أن يكون أمرا خياليّا لا واقعيّا. وأمّا قوله - قدس سره - أو غير ذلك من الحكم إلى آخره.

ص: 32


1- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 223.

ففيه : أنّه حقّ لو جاء دليل قطعي على أنّه بدون إنزال صاحب الفراش يلحق به ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بل هنا قاعدة وأمارة شرعيّة ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وبيّنّا أنّها أمارة لكون الولد لصاحب الفراش في ظرف إمكان ذلك عادة ، وبدون الإنزال لا يمكن ، ولذلك قال في الرياض ما خلاصته أنّ إلحاق الولد بصاحب الفراش مشروط بما إذا كان تولّده من مائه محتملا ولو باحتمال بعيد ، وفي غيره إشكال (1). وان حكى الإطلاق عن الأصحاب واحتمل الإجماع ، فاعتبار الدخول ليس لموضوعيّة فيه ، بل من جهة كونه مقدّمة لوصول الماء إلى رحمها ، ولذلك لو وصل الماء إلى رحمها من غير الدخول ، كما إذا لاعبها وأنزل على الفرج ووصل الماء إليها من غير الدخول يلحق بصاحب الفراش الملاعب قطعا ، وقد شاهدنا في عصرنا مواليد تكونوا من ماء أبيهم مع عدم زوال بكارة أمّهم ، وأولدتهم القوابل بالعلاج.

وروى في قرب الإسناد بإسناده عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبيه علیه السلام أنّ رجلا أتى عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال : إنّ امرأتي هذه حامل وهي جارية حدثة ، وهي عذراء ، وهي حامل في تسعة أشهر ، ولا أعلم إلاّ خيرا وأنا شيخ كبير ما افترعتها ، وأنّها لعلى حالها ، فقال له عليّ علیه السلام : « نشدتك اللّه هل كنت تهريق على فرجها؟ » إلى أن قال علیه السلام : « وقد ألحقت بك ولدها فشقّ عنها القوابل ، فجاءت بغلام فعاش » (2).

ورواية أخرى بهذا المضمون نقلها في الوسائل عن المفيد - قدس سره - في الإرشاد (3).

وظهر ممّا ذكرنا أنّ إدخال ماء الرجل بتوسّط الإبر في الرحم - كما يقولون لو

ص: 33


1- « رياض المسائل » ج 2 ، ص 154.
2- « قرب الإسناد » ص 149 ، ح 541 ، أحاديث متفرقة.
3- « الإرشاد » للمفيد ، ص 112 و 113 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 114 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 16 ، ح 2.

صحّ هذا - أيضا يوجب أن يلحق الولد بصاحب الماء ، وإن قلنا بأنّ هذا الفعل حرام ، وكذلك لو انجذب الماء إلى الفرج في الحمّام ودخل في الرحم ، وتكون الولد يلحق بصاحب الماء لو كان معلوما.

وحاصل الكلام : أنّ كون الولد لصاحب الماء أمر تكويني ، لأنّه هو نفس الماء ، غاية الأمر نما إلى أن جعله اللّه ولدا سويّا ، فهو في سياق الزرع ، كما أنّ البذر إذا وقع في الأرض ينمو إلى أن يصير سنبلا بإرادة اللّه وجعله ، كذلك النطفة بعد ما وصل إلى الرحم القابل ينمو إلى أن يجعله اللّه ولدا وينشأه خلقا آخر ، ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) . نعم في خصوص الزنا ألغى الشارع هذا الانتساب التكويني من حيث بعض الآثار لبعض المصالح ، ولعلّ عمدتها حفظ الجامعة عن الفجور.

وممّا ذكرنا ظهر الإشكال في كفاية الدخول في الدبر إلاّ مع الإمناء واحتمال السبق وعدم الشعور به ، ولذلك حكى عن ابن إدريس في السرائر (1) وعن العلاّمة في التحرير (2) - قدّس اللّه اسرارهما - عدم العبرة بالوطي دبرا ، وعدم اعتبارهما بالوطي في الدبر. إمّا في صورة عدم احتمال السبق ، أو لكون الاحتمال ضعيفا بدرجة يكون عند العقلاء بحكم العدم.

الثاني : مضىّ ستّة أشهر هلاليّة من زمان الوطي ، فلو كان أقلّ من ذلك وولدت تامّ الخلقة حيّا لا يلحق بصاحب الفراش ، وذلك من جهة أنّها أقلّ الحمل كتابا وسنّة ، مستفيضة بل متواترة ، ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب ، بل نسب الاتّفاق إلى علماء الإسلام ، وقد نسب في الجواهر (3) إلى المفيد (4) والشيخ (5) - قدس سرّهما - التخيير

ص: 34


1- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 223.
2- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 223.
3- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 230.
4- « المقنعة » ص 538.
5- « النهاية » ص 505.

بين النفي والإقرار به.

وهذه الفتوى من هذين الشيخين الجليلين لا يخلو عن غرابة ، مع استفاضة الروايات واتّفاق الفقهاء على خلافهما.

ولكنّ الذي يظهر من عبارة المقنعة أنّه لو نفاه الزوج وخاصمته المرأة وادّعت أنّه منه واختلفا في زمان الحمل (1) ، لا أنّ المرأة مع اعترافها بأنّها وضعت لأقلّ من ستّة أشهر تدّعي أنّه له ، فيكون هذا من فروع اختلافهما في مدّة الحمل ، ويكون خارجا عن محلّ بحثنا ، وهو أن يكون معلوما مدّة الحمل وأنّها أقلّ من ستّة أشهر.

والشاهد على ذلك أنّه - قدس سره - يصرّح قبل هذا العبارة ، بأنّها إن ولدته حيّا تامّا لأقلّ من ستّة أشهر من يوم لامسها ، فليس له بولد بحكم العادة (2).

وعبارة المبسوط أيضا صريح في أنّها إذا وضعت لأقلّ من ستّة أشهر من حين لامسها فالولد لا يلحق به ، وهذا عين عبارته : كما لو أتت بولد لدون ستّة أشهر ، فإنّه ينفي عن الزوج بلا لعان ، لأنّه لا يمكن أن يكون منه (3).

فهذا الشرط أيضا مقدّمة لإثبات مورد القاعدة ، وهو احتمال أن يكون الولد لصاحب الفراش ، لأنّه قبل انقضاء ستّة أشهر من حين الوطي لو ولدت نفى الشارع كونه له ، فيكون احتمال كونه منه ملغى بحكم الشارع ، ويكون معلوم العدم ، فلا يبقى موضوع للقاعدة.

الثالث : أن لا يكون الوضع في أكثر من أكثر مدّة الحمل.

وفي تعيين أكثر مدّة الحمل خلاف ، فالمشهور يقولون بأنّه عبارة عن تسعة أشهر ، وبناء على هذا لو تجاوز مدّة الحمل - أي من زمان الوطي تسعة أشهر إلى

ص: 35


1- « المقنعة » ص 538.
2- « المقنعة » ص 538.
3- « المبسوط » ج 5 ، ص 185.

زمان الوضع - فلا يلحق. والأخبار التي تدلّ على أنّ أكثر مدّة الحمل تسعة أشهر كثيرة.

وقول آخر بأنّه عشرة أشهر ، وهو الذي استحسنه في الشرائع (1) ، وحكى عن الشيخ - قدس سره - في المبسوط (2) أيضا ، ونسب إلى العلاّمة (3) - قدس سره - أيضا ، وصرّح العلاّمة في التبصرة بذلك (4). وقول آخر بأنّه سنة ، وإليه ذهب المرتضى - قدس سره - في الانتصار مدّعيا عليه الإجماع (5) ، وأبو الصلاح (6) ، ومال إليه في المختلف (7) على نقل صاحب الجواهر (8) - قدس سره .

وقال الشهيد الثاني - قدس سره - إنّه أقرب إلى الصواب (9). ولكن المحقق قال في الشرائع : إنّه متروك (10) ، وهناك رواية على أنّه سنتين (11) ، ولكن لم يقل به أحد من الأصحاب ، وحملوها على التقيّة.

أقول : أمّا القول الأوّل الذي هو المشهور بين أصحابنا الإماميّة - قدّس اللّه أسرارهم - فمستنده قبل الإجماع روايات مستفيضة ذكر سبعة منها في الجواهر (12) ، ودلالة بعضها واضحة لا يمكن المناقشة فيها ، وذلك كمرسل عبد الرحمن ابن سيابة :

ص: 36


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 340.
2- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 226.
3- « تحرير الأحكام » ج 2 ، ص 44.
4- « تبصرة المتعلمين » ص 143.
5- « الانتصار » ص 154.
6- « الكافي في الفقه » ص 314.
7- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 316.
8- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 226.
9- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 458.
10- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 340.
11- « الفقيه » ج 3 ، ص 511 ، ح 4793 ، باب : طلاق الحامل ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 15.
12- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 225.

« أقصى مدّة الحمل تسعة أشهر ولا يزيد لحظة ، ولو زاد لحظة لقتل أمّه قبل أن يخرج » (1).

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مضمون هذا الخبر معلوم البطلان بالوجدان ، فلا يمكن صدوره عن الامام علیه السلام .

ولكن يمكن أن يقال : إنّ معلوميّة بطلانه بالوجدان غير معلوم ، لأنّ هذه أمور لا يعرفها غير ربّ العزّة جلّ جلاله ، هذا أوّلا.

وثانيا : صدر الرواية جملة مستقلّة لا إشكال في مضمونه ، وهو قوله علیه السلام : « أقصى مدّة الحمل تسعة أشهر » فلا مانع من التعبّد بصدوره ، وهو كاف في إثبات المطلوب.

وكرواية محمّد بن حكيم ، عن أبي الحسن علیه السلام في حديث قال : قلت : فإنّها ادّعت الحمل بعد تسعة أشهر ، قال علیه السلام : « إنّما الحمل تسعة أشهر » (2).

وأمّا رواية أبان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « إنّ مريم حملت بعيسى تسع ساعات كلّ ساعة شهر » (3). فدلالتها على أنّ الحمل لا يزيد على تسعة أشهر غير واضحة ، ولا يخلو عن المناقشة.

وعلى كلّ حال هذا القول - أي : أنّ أكثر الحمل لا يزيد على تسعة أشهر - بحسب المدرك قويّ ، للروايات المستفيضة ، وادّعاء الإجماع فيه ، والشهرة المحقّقة.

وأمّا القول الثاني - أي كون أكثر الحمل عشرة أشهر الذي استحسنه المحقق في الشرائع وقال : يعضده الوجدان (4) - فلا إجماع ولا رواية تدلّ عليه.

ص: 37


1- « الكافي » ج 6 ، ص 52 ، باب النوادر ( من كتاب العقيقة ) ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 115 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 115 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالجميل ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 8 ، ص 332 ، ح 516 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 7.
4- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 340.

وعمدة الوجه هو ادّعاؤهم الوجدان ، وأنّه كثيرا ما يزيد على تسعة أشهر.

ولكن فيه أنّ مبدأ الحقيقي للحمل غالبا غير معلوم ، وإن كان انتهاؤه بالولادة أمر محسوس ، وحكم القوابل أو النساء بالحمل إمّا بواسطة احتباس الحيض ، وإمّا بواسطة ظهور علامات الحمل. والأوّل ربما يكون لجهة أخرى غير الحمل ، بل يكون لعلّة ومرض فيها. والثاني غالبا يكون بعد مضيّ زمان من شهر أو شهرين بعد الحمل.

وأمّا القول الثالث - أي كون أكثر الحمل سنة - فادّعى المرتضى - قدس سره - عليه الإجماع (1) ، وقرّبه المسالك إلى الصواب (2).

ولكن ليس في الروايات ما يدلّ على ذلك ، إلاّ ما نقل من خبر غياث ، عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن أبيه علیه السلام قال : « أدنى ما تحمل المرأة لستّة أشهر ، وأكثر ما تحمل لسنة » (3). لكن في الوسائل روى هذه الرواية عن غياث « وأكثر ما تحمل سنتين » (4). وقلنا إنّه لم يقل به أحد من الأصحاب ، ولذلك حمله في الوسائل على التقيّة. ومع هذا الاختلاف في النقل لا يبقى مجال للاستدلال بها على السنة.

وأيضا ممّا يمكن أن يستدلّ به على هذا القول ما هو المروي عن نوادر المعجزات للراوندي عن سيّدة النساء علیهاالسلام أنّها ولدت الحسين علیه السلام عند تمام السنة (5) لكنّه معارض بما هو المعروف والمشهور أنّها ولدته لستّة أشهر (6).

ص: 38


1- « الانتصار » ص 154.
2- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 458.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 511 ، ح 4793 ، باب طلاق الحامل ، ح 7 ، وفيه : لسنتين بدل لسنة.
4- « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 15.
5- الراوندي في « الخرائج والجرائح » ج 2 ، ص 840 ، الباب (16) : في نوادر المعجزات ، وفيه : في تمام الستّة ، وفي نسخة « بحار الأنوار » ج 43 ، ص 273 ، فيه : فنزل تمام السنة.
6- « الكافي » ج 1 ، ص 385 ، باب مولد الحسين بن علي علیهماالسلام ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 4.

ففي الوسائل عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « حمل الحسين علیه السلام ستّة أشهر ، وأرضع سنتين ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (1) » (2). هذا ، مضافا إلى أنّه معارض بما ورد من أنّ ولادته علیه السلام في ثالث شعبان ، وولادة الحسن علیه السلام في النصف من رمضان ، ومعلوم أنّ الفصل بينهما أقلّ من السنة بما لا يتسامح.

وأيضا ربما يستدلّ لهذا القول بما رواه حريز عمّن ذكره ، عن أحدهما علیهماالسلام في قول اللّه عز وجل ( يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) (3) قال علیه السلام : « الغيض : كلّ حمل دون تسعة أشهر. وما تزداد : كلّ شي ء يزداد على تسعة أشهر ، فلمّا رأت المرأة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد بعدد الأيّام التي رأت في حملها من الدم » (4).

وظاهر هذه الرواية - على تقدير صحّة سندها والإغماض عن إرسالها ، ومع الإغماض عن معارضاتها الأقوى منها سندا ودلالة - هو أنّ المراد من الزيادة مقدار ما رأت الدم في حال حملها يزيد في مقدار الحمل ، فإن رأت الدم في حال الحمل خمسة أيّام يزيد في مدّة الحمل خمسة أيّام ، فلا تدلّ على المقصود أي كون مدّة أكثر الحمل سنة إلاّ على تقدير شاذّ في غاية الشذوذ.

بل يمكن أن يقال بأنّه حال عادة ، وهو أن ترى الدم في كلّ شهر عشرة أيّام كي يصير في مجموع تسعة أشهر الذي هو مدّة الحمل تسعين يوما ، فيزيد هذا المقدار على تسعة أشهر ، فيكون المجموع سنة كاملة.

ص: 39


1- الأحقاف (46) : 15.
2- « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 14.
3- الرعد (13) : 8.
4- « الكافي » ج 6 ، ص 12 ، باب بدء خلق الإنسان وتقلبه في بطن أمه ، ح 2 ، « تفسير العياشي » ج 2 ، ص 204 ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 116 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 6.

هذا حال الأخبار التي استدلّوا بها على هذا القول.

ولكن الشهيد الثاني - قدس سره - تمسّك لإثبات هذا القول بوجوه :

الأوّل : عدم دليل معتبر على الأقلّ من السنة (1).

وفيه : ما عرفت من وضوح دلالة بعض الروايات على أنّ أكثر الحمل تسعة أشهر (2) ، وقلنا لو كان ضعف في سندها فهو منجبر بعمل الأصحاب والشهرة المحقّقة ، وقد حكينا من جماعة الإجماع. وأمّا إجماع المرتضى - قدس سره (3) - فوجّهه في الجواهر على أنّ مراده منه نفي أكثر من السنة ، لإثبات السنة به (4). وهو توجيه حسن فلا يعارض هذا الإجماع.

الثاني : الوجدان ، وهو ما إذا سافر الزوج بعد الوطي مثلا إلى مكان بعيد لا يمكن وصوله عادة إليها ، وأيضا علم من الخارج من الأمارات الموجبة لليقين والمفيدة للعلم أنّه لم يصل إليها أجنبيّ ، ومع ذلك وضعت بعد مضيّ سنة من زمان الوطي.

وفيه : على فرض تسليم ما قيل ليس سبب الحمل منحصرا بوصول الزوج أو أجنبي إليها ، بل هناك احتمالات أخر معلومة لا يحتاج إلى الذكر.

الثالث : أمره بالاحتياط بعد انقضاء تسعة أشهر من حين الوطي في بعض الأخبار التي مفادها أنّ أكثر الحمل تسعة أشهر :

منها : خبر محمّد بن الحكيم ، عن أبي الحسن علیه السلام قلت له : المرأة الشابّة التي مثلها تحيض يطلّقها زوجها ويرتفع حيضها كم عدّتها؟ قال : « ثلاثة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت الحبل بعد الثلاثة أشهر ، قال علیه السلام : « عدّتها تسعة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت

ص: 40


1- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408.
2- تقدم راجع ص 37 ، هامش رقم (1).
3- « الانتصار » ص 154.
4- « جواهر الكلام » ج 31 ، ص 227.

الحبل بعد تسعة أشهر ، قال علیه السلام : « إنّما الحبل تسعة أشهر ». قلت : تتزوّج؟ قال علیه السلام :

« تحتاط بثلاثة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت بعد ثلاثة أشهر ، قال علیه السلام : « لا ريبة عليها تزوّجت إن شاءت » (1).

وهذه الرواية لها ظهور جليّ في أنّ من تدّعي الحبل بعد مضيّ تسعة أشهر من طلاقها أيضا يجب عليها أن تحتاط بثلاثة أشهر إن ادّعت بقاء الحبل بعد ذلك أيضا ، وهذا مرجعه إلى أنّ احتمال بقاء الحمل إلى سنة موجود ، ويجب ترتيب الأثر بعدم جواز التزويج قبل انقضاء السنة.

ومنها : خبر عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سمعت أبا إبراهيم علیه السلام يقول : « إذا طلّق الرجل امرأته فادّعت حبلا ، انتظر بها تسعة أشهر ، فإن ولدت وإلاّ اعتدّت بثلاثة أشهر ، ثمَّ قد بانت منه » (2).

ومنها : خبر أبان عن ابن حكيم ، عن أبي إبراهيم علیه السلام أو ابنه علیهماالسلام قال علیه السلام في المطلّقة يطلّقها زوجها ، فتقول : أنا حبلى ، فتمكث سنة ، فقال علیه السلام : « إن جاءت به لأكثر من سنة لم تصدق ، ولو ساعة واحدة في دعواها » (3).

فمن هذه الروايات يستكشف أنّ الشارع لم يلغ احتمال كونها أكثر من تسعة إلى السنة وإن كان نادرا.

نعم يستظهر منها أنّ احتمال الزائد على السنة ملغى في نظره ، ولذلك أجمعت

ص: 41


1- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408 ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالحمل ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 129 ، ح 445 ، في عدد النساء ، ح 44.
2- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408 ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالحمل ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 129 ، ح 444 ، في عدد النساء ، ح 43.
3- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 408 ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب المسترابة بالحمل ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 129 ، ح 446 ، في عدد النساء ح 45 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 442 ، أبواب العدد ، باب 25 ، ح 3.

الإماميّة الاثنتي عشريّة على نفي الزائد عنها ، ولم يقل به أحد ، وقلنا إنّ صاحب الجواهر وجّه إجماع المرتضى - قدس سره - بأنّ مراده نفي الزائد على السنة ، وقلنا : إنّه حسن.

أقول : لا شكّ في أنّ الغالب في أكثر الحمل هو تسعة أشهر كما نراه بالوجدان. نعم قد يزيد أو ينقص أيّام قلائل ، ولا شكّ في أنّ لكلّ أمر من الأمور الخارجيّة مصاديق وأفراد غالبيّة ، ومصاديق نادرة شاذّة ، وذلك كما أنّ البلوغ واليأس في المرأة أفرادها الغالبية في البلوغ يكون بإكمال تسع سنين هلاليّة ، وفي اليأس بإكمال خمسين أو ستّين ، والشارع لاحظ في الحكم بحيضيّة الدم الخارج عن المرأة الأفراد الغالبيّة إذ لم ير محذورا في ذلك ، فحكم بعدم الحيضيّة في أقلّ من تسع وأكثر من خمسين أو ستّين ، مع أنّ النساء يختلفن في ذلك قطعا حسب اختلاف امزجتهنّ ، إذ لا محذور مهمّ في عدم مراعاة الأفراد النادرة ، فأيّة مفسدة مهمّة في الحكم بحيضيّة دم ليس بحيض في الواقع ، أو بالعكس في الأفراد النادرة.

وأمّا إذا كان في عدم ملاحظة الأفراد النادرة مفاسد عظيمة - كما في ما نحن فيه ، لأنّ نفي النسب مع ثبوته واقعا ربما ينجرّ إلى مفاسد عظيمة ، كنكاح العمّ لبنت أخيه ، والأخ للأخت ، أو حرمان شخص عن ثروته الكثيرة ، أو عن شرف أسرته الجليلة - فحينئذ يجب مراعاة الأفراد النادرة. فمكث الحمل وبقاؤه في الرحم إلى السنة وإن كان في غاية القلّة والندرة ، ولكن مع ذلك مراعاته لازم لما ذكرنا ، ولذلك أمر بالاحتياط بثلاثة أشهر بعد مضيّ تسعة أشهر كما تقدّم.

والإنصاف أنّ قول المشهور وإن كان قويّا بحسب المدرك ، مضافا إلى اشتهاره بين أرباب الفتوى. ولكن مراعاة هذا الاحتياط لا ينبغي أن يترك ، لما ذكرنا من المفاسد العظيمة في تركه ، ولعلّه لذلك ذهب جماعة من أعاظم أساطين الفنّ

ص: 42

كالمرتضى (1) والعلاّمة في المختلف (2) والشهيد الثاني في المسالك (3) - قدّس اللّه أسرارهم - إلى هذا القول ، مع ما رأوا من القوّة في مدرك القول المشهور. وقد ذهب إلى هذا القول أيضا الفقيه المتتبّع السيّد الطباطبائي اليزدي - قدس سره - في حواشيه على التبصرة.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

تارة : يكون الزاني مدّعيا للفراش يدّعى الولد في مقابله ، فهذا هو القدر المتيقّن من مورد القاعدة إن كان صاحب الفراش - أي : الزوج دواما أو انقطاعا ، أو المالك - واجد للشرائط المذكورة التي كانت نتيجتها إمكان تكون ذلك الولد من مائه عادة ، وإن كان الفقهاء اشترطوا الدخول قبلا أو دبرا ، وعدم كون مدّة الحمل أقلّ من أقلّ الحمل والأكثر من أكثره ، لكن المقصود هو ما ذكرناه ، أو الحقّ ما ذكرناه وإن لم يكن مقصودا لهم.

وأخرى : يكون الواطئ بالشبهة يدّعي الولد في مقابل الفراش بالمعنى الذي ذكرنا للفراش.

وظاهر الأصحاب أنّه يقرع بينهما.

ولكن عندي في هذا تأمّل ، لأنّه بناء على ما ذكرنا من أنّ الشارع جعل الفراش أمارة لكون الولد لصاحب الفراش فيما يمكن أن يكون له تكوينا وشرعا. أمّا تكوينا فبوصول نطفة صاحب الفراش إلى رحمها ، وأمّا شرعا فبأن لا يكون حمله أقلّ من أقلّ الحمل ولا أكثر من أكثره ، فلصاحب الفراش أمارة على أنّ الولد له وهي الفراش ، فلا تصل النوبة إلى القرعة.

كما حقّقناه في قاعدة القرعة أنّها تستعمل في الشبهة الموضوعيّة التي لا يجوز فيها

ص: 43


1- « الانتصار » ص 154.
2- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 316 ، المسألة : 222.
3- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 458.

الاحتياط ولا يجب ، وتكون من المعضلات والمشكلات ، ومع وجود الأمارة في بعض أطراف العلم الإجمالي ينحلّ العلم ، ولا يبقى إجمال في البين.

وبعبارة أخرى : قلنا إنّ القرعة أمارة حيث لا أمارة في البين ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أماريّة الفراش مخصوصة بما إذا كان في قبال الزناء ، لا في قبال الوطي بالشبهة.

وهذا الاحتمال أبطلناه فيما تقدّم ، وقلنا إنّ أماريّته مطلقة ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « الولد للفراش » كلام مستقلّ ، ومفاده أنّ الفراش - أي كون الرجل له حقّ المضاجعة في ذلك الفراش مع المرأة التي تنام فيه ، ويكون لها نحو اختصاص به - أمارة شرعيّة على أنّ الولد الذي ولد في ذلك الفراش ملحق بصاحب الفراش عند الشكّ ، فيكون حال الفراش حال البيّنة.

نعم الفرق هو أنّ البيّنة أمارة في جميع الموضوعات ، والفراش أمارة في خصوص إلحاق الولد بصاحب الفراش فيما أمكن الإلحاق به.

وأمّا الجملة الأخرى ، أي : قوله صلی اللّه علیه و آله : « وللعاهر الحجر » فلا ربط له بالجملة الأولى ، بل ذكره لطرد المدّعي المقابل لصاحب الفراش ، لأنّ المدّعي المقابل لصاحب الفراش في مورد الحديث كان زانيا ، فطرده بهذا الكلام.

وأمّا فيما إذا لم يمكن ، كما إذا كان صاحب الفراش لم يمسّه لا قبلا ولا دبرا ، أو لم يمض من حين وطئه مدّة أقلّ الحمل ، أو تجاوز من زمان وطئه إلى الوضع أكثر مدّة الحمل ، فلا يكون الفراش أمارة ، القطع بالعدم شرعا. وفي مثل هذه الصورة يعطي الولد الواطئ بالشبهة ، لأنّه مدّع بلا معارض ، أو للقطع بأنّه منه.

وأمّا لو كان المدّعي المقابل للفراش هو أيضا صاحب الفراش ، ففيه صور أربع :

الأولى : أن لا يمكن لحوقه بالثاني وأمكن لحوقه بالأوّل ، كما إذا طلّق الأوّل زوجته وبعد انقضاء عدّتها تزوّجها الثاني ، فوضعت لأقلّ من ستّة أشهر من زمان

ص: 44

وطئ الثاني ، ولم يتجاوز أقصى الحمل من زمان وطئ الأوّل ، فالولد ملحق بالأوّل لكونه ذا أمارة وفراش ، والثاني لا يمكن أن يكون أمارة لكونه ولدت في زمان يكون أقلّ من أقلّ الحمل ، فيستكشف بطلان نكاح الثاني لوقوعه في العدّة ، لأنّ انقضاء عدّة الأوّل بالوضع ، والمفروض أنّه تزوّجها قبل الوضع وتصير تلك المرأة محرمة على الثاني أبدا ، لأنّه وطأها في العدّة بعد العقد عليها.

الثانية : عكس الصورة الأولى ، وهو عدم إمكان لحوقه بالأوّل وإمكان لحوقه بالثاني ، كما إذا كانت الولادة بعد مضيّ أكثر الحمل من الوطي الأوّل ، ولا يكون أقلّ من أقلّ الحمل ، ولا أكثر من أكثره من حين وطئ الثاني ، ألحق بالثاني ، لعدم أماريّة فراش الأوّل ، لعدم الشكّ وعدم إمكان الإلحاق ، فيكون الفراش الثاني أمارة بلا معارض لها.

الثالثة : عدم إمكان الإلحاق بكلّ واحد منهما ، فيسقط أماريّة كليهما وينفي عنهما لما ذكرنا أنّ أماريّة الفراش في ظرف إمكان الإلحاق.

الرابعة : إمكان الإلحاق بكليهما ، فمقتضى القاعدة سقوط كليهما بالتعارض ، ولكن بناء الأصحاب على الإلحاق بالثاني ، لإحدى جهتين :

إمّا من جهة أنّ المراد من الفراش هو الفراش الفعلي ، ولا شكّ أنّ الفراش الفعلي هو الثاني ، دون الأوّل.

وفيه : أنّ لزوم الفعليّة في الفراش أمر مسلّم ، ولكن في زمان الوطي لا في زمان الوضع ، والمفروض أنّه في زمان الوطي كان كلاهما فعليّين.

وإمّا من جهة الأخبار ، وقد وردت روايات مستفيضة (1) في أنّ الولد يلحق

ص: 45


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 470 ، ح 4639 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ح 23 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 168 ، ح 584 ، في لحوق الأولاد بالآباء. ، ح 8. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 118 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 17 ، ح 13.

بالفراش الثاني إن أمكن ، وإن كان لحوقه بالأوّل أيضا ممكنا.

وهو صحيح لا إشكال فيه.

وأمّا التمسّك بالإجماع مع وجود هذه الأخبار فلا وجه له ، لما ذكرنا مرارا فلا نعيد.

وقد عرفت أنّ المراد من الفراش في الحديث الشريف من له حقّ المضاجعة شرعا مع المرأة وأن يلامسها ، فالفراش كناية عن هذا الأمر ، وقد عرفت أنّ الزوج بكلا قسميه - الدوام والانقطاع - حيث أنّ له هذا الحقّ فيكون صاحب الفراش ، وكذلك مالك الجارية حيث له هذا الحقّ فيكون صاحب الفراش.

هذا ، مضافا إلى تطبيقه صلی اللّه علیه و آله هذه القاعدة على زمعة ، وهو كان مالكا لا زوجا.

وأمّا الواطئ بالشبهة ، فليس له هذه الحقّ قطعا ، بل هو متعدّ ومتجاوز على عرض الغير ، غاية الأمر لا يعاقب لجهله ، فهو معذور بالنسبة إلى العقاب والمؤاخذة ، لا أنّ له هذا الحقّ شرعا. وجواز الوطي له حكم ظاهري ، لا أنّه واقعا له جائز ، إلاّ على القول بالتصويب الباطل ، فلا فرق بين الزاني والواطئ بالشبهة في حرمة الوطي واقعا.

نعم هناك فروق آخر بينهما ، وهو أنّ الشارع جعل الزناء موضوعا لأحكام لا تجري ولا تترتّب تلك الأحكام على الوطي بالشبهة ، من الحدّ ، وعدم إلحاق الولد به بالنسبة إلى بعض الأحكام ، كتوريثه من أبيه ، فادّعاء أنّ الواطئ بالشبهة صاحب الفراش عجيب.

وأمّا التحليل فكون المحلّل له صاحب الفراش فله وجه ، لأنّه بالتحليل يوجد له هذا الحقّ ، خصوصا إذا قلنا بأنّ التحليل عقد محتاج إلى الإيجاب والقبول ، فيمكن أن يقال بأنّه تزويج لها من المولى ، فيكون كالمتعة تزويجا موقّتا ، فهو أيضا صاحب

ص: 46

الفراش كالزوج في عقد الانقطاع.

والحاصل : أنّ الفراش عبارة عن كونه مالكا شرعا للوطي ، وله حقّ أن يفعل ، والمشتبه ليس له ذلك ، وإنّما يرتكب محرّما معفوا عنه ، لجهله. نعم فعله ليس زناء ، لأنّه أخذ في مفهوم الزناء الالتفات والعلم أو العلمي بالحكم والموضوع جميعا ، فلا يترتّب على عمله آثار المترتّبة على الزناء ، من عدم إرث الولد والحدّ وغيره.

فلو كان هناك واطئان بالشبهة وأمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما يقرع بينهما ، أمّا لو اجتمع الزناء مع الوطي بالشبهة وأمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما ، كما إذا وطيا في طهر واحد ، والوضع صار بعد التجاوز عن أقلّ الحمل ، وعدم التجاوز عن أكثر الحمل من زمان وطئ كلّ واحد منهما.

فإن قلنا : إنّ الزاني مطرود ولا نسب له مطلقا ، فلا شكّ أنّ الولد للواطئ شبهة ، وليس للزاني إلاّ الحجر.

وأمّا إن قلنا : إنّ طرده فيما إذا ادّعى في قبال الفراش - كما هو مورد الحديث لا مطلقا ونفي النسب بملاحظة الإرث لا مطلقا ، ولذلك يحرم على الزاني تزويج بنته من الزناء إجماعا بل ضرورة - فمقتضى القواعد الأوّليّة هو أن يقرع بينهما ، ولكن الظاهر اتّفاق الأصحاب عن أنّه للواطئ بالشبهة ، ويطرد الزاني ، لأنّه علیه السلام عبّر من الولد المخلوق من ماء الزاني « أنّه لغية ».

محمّد ابن الحسن القمّي ، قال : كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر علیه السلام : ما تقول في رجل فجر بامرأة فحبلت ، ثمَّ أنّه تزوّجها بعد الحمل ، فجاءت بولد هو أشبه خلق اللّه به؟ فكتب علیه السلام بخطّه وخاتمه : « الولد لغية لا يورث » (1) والغية ظاهرها أنّه باطل وخائب ولا يعتنى به ، فمفاد هذه الرواية هو أنّ الولد لا يلحق بالزاني وإن لم

ص: 47


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 182 ، ح 637 ، في لحوق الأولاد بالآباء. » ح 61. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 214 ، أبواب أحكام الأولاد ، باب 101 ، ح 1.

يكن مدّع في مقابله ، فضلا عمّا إذا كان مثل الواطئ بالشبهة الذي لم يلغ الشارع نسبه ، حتّى أنّ بعضهم ادّعى صدق الفراش على وطئ الشبهة.

ولكن مع ذلك كلّه ظاهر الرواية أنّه لغية من ناحية الإرث ، لا أنّه لغية بقول مطلق حتّى من ناحية نكاح المحارم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو زنى الاثنان بامرأة في طهر واحد فجاءت بولد يمكن القول بالاقتراع بالنسبة إلى الآثار غير الإرث.

تنبيه

ثمَّ إنّه من المعلوم والواضح الجلي أنّ الزناء قد يكون بالنسبة إلى الرجل والمرأة ، فيكونان زانيا وزانية ، والولد لا يرث من كلّ واحد منهما ويكون لغية من الطرفين.

وقد يكون الزناء من طرف واحد ، وذلك بأن يكون أحدهما متعمّدا ملتفتا ، والطرف الآخر مشتبها ، فيرث الولد من المشتبه دون الزاني والزانية.

وأمّا في غير الإرث فقد بيّنّا أنّه يلحق بهما بالنسبة إلى بعض الآثار ، كحرمة نكاح المحارم حتّى في الزناء من الطرفين ، بحيث يكونان باغ وبغيا ، فضلا عن أن يكون من طرف واحد.

هذا هو الذي اخترناه.

ولكن ظاهر المشهور وبعض الروايات هو أنّ الشارع ألغى النسب في الزناء. ولكن الالتزام بذلك مشكل جدّا ، خصوصا بالنسبة إلى نكاح المحارم ، كتزويج البنت من الزناء ، والأخت من الزناء.

وبناء على ما اخترناه فلو كان الولد الأكبر من الزناء لا يرث الحبوة ، ولكن يجب عليه قضاء صلوات أبيه.

ص: 48

هذا إذا كان الزناء من الطرفين ، وأمّا إذا كان أحد الطرفين مشتبها ، فيلحق الولد بالمشتبه قطعا ، ويترتّب عليه جميع آثار النسب الصحيح. واللّه هو العالم بحقائق الأمور والأحكام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 49

ص: 50

38 - قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدّيه

اشارة

ص: 51

ص: 52

قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدّيه (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة اليد

التي ذكرناها وشرحناها في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.

فنقول : عمدة البحث والنظر في تلك القاعدة كان في أماريّة اليد ، وأنّها مثل البيّنة والسوق تثبت الملكيّة والتذكية والطهارة ، وأنّ هذه المرأة التي تحت يده زوجته ، وأنّ هذه العين الموقوفة التي تحت يده هو المتولّي والناظر عليها أم لا؟

وموضع البحث أيضا هناك عامّ ، لا اختصاص له باليد الغاصبة أو غير المأذونة من قبل المالك ، بمعنى أنّ المراد من اليد هناك سيطرة الشخص واستيلائه على شي ء ، ولم

ص: 53


1- (*) « الحقّ المبين » ص 128. « عوائد الأيّام » ص 108 ، « خزائن الأحكام » ش 24 ، « بلغة الفقيه » ج 3 ، ص 291 ، « مجموعه رسائل » ص 472 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 62 ، « مجموعة قواعد فقه » ص 25 ، قواعد فقه » ص 91 ، « قواعد » ص 181 ، « قواعد فقه » ص 75 ، « قواعد الفقه » ص 84 ، « قواعد الفقه » ص 111 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 83 ، « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 231 ، « قواعد الفقيه » ش 34 ، ص 63 « ضمان يد غير قانونى » عباس كريمى ، ماچستير جامعه الشهيد بهشتى ، 1368 ، « موجبات ضمان قهري وأسباب آن » غلامعلى پيراسته ، ماچستير ، جامعه طهران ، « يد مالكي ويد ضماني » أبو القاسم گرجى ، فصليّة « حقّ » دفتر 9 سال 1366 ، « قاعدة على اليد » سيد على محمد مدرس الأصفهاني ، « كانون وكلاء » العام 15 ، ش 84.

يكن حالها معلومة ، وأنّها يد المالك ، أو يد الغاصب ، أو يد المأذونة من قبل المالك ، أو يد الأمين شرعا ، كلّ ذلك غير معلوم ، فيبحث في أنّ مثل هذه اليد هل هي أمارة الملكيّة أو سائر ما ذكرناها أم لا؟ فالبحث دائما هناك عن جهة أماريّتها.

وها هنا موضوع البحث هو أنّ اليد المعلومة أنّها يد غير المالك ، وأنّها غير مأذونة من قبل المالك ، هل توجب الضمان ، أم لا بل يجب تكليفا ردّ ما في يده من مال الغير إلى صاحبه ، ففرق واضح بين موضوع البحث ها هنا ، وبينه هناك.

ونحن وإن تكلّمنا هناك قليلا من جهة كونها هل توجب الضمان أم لا ، وعن تعاقب الأيدي على مال الغير ، ولكن كان ذكرا تبعيّا ولم نستوف البحث ، ولذلك نذكر القاعدة ها هنا ، ونستوفي البحث عنها بمقدار وسعنا إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعد

اشارة

فنقول : مدرك هذه القاعدة هو الحديث المعروف المشهور بين جميع الطوائف الإسلاميّة ، والذي رواه العامّة والخاصّة ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (1).

فالبحث عن سنده وأنّه صحيح أو ضعيف لا وجه له ، لأنّه بعد هذا الاشتهار بين الفقهاء وقبولهم له والعمل به فيكون موثوق الصدور ، الذي هو موضوع الحجّية ، بل لا يبعد أن يكون من مقطوع الصدور.

ص: 54


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 409 ، المسألة : 22 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، باب القضاء ، ح 10 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 88 ، أبواب الغصب ، باب 1 ، ح 4 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 296 ، ح 3561 ، باب في تضمين العارية ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، ح 2400 ، أبواب الصدقات ، باب العارية ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 566 ، ح 1266 ، باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة.

وعلى كلّ حال لا كلام في حجيّته ، إنّما الكلام في دلالته ، وبيان المراد منه. وطريق كشف المراد منه هو معرفة ما هو المتفاهم العرفي منه.

فنقول : من المعلوم أنّ كلمة « على اليد » خبر مقدّم للموصول ، أي كلمة « ما » في « ما أخذت » فتقدير الكلام عبارة عن أنّ الذي أخذته اليد ثابت أو مستقرّ على اليد ، وذلك من جهة أنّ الظرف أي « على اليد » يحتاج إلى عامل ومتعلّق مقدّر ها هنا ، لأنّه ليس في الكلام ، أي جملة « على اليد ما أخذت » فعل أو شبه فعل يكون قابلا لأن يتعلّق به الظرف ، فلا بدّ من تقديره.

والمقدّر العامل للظرف إن كان من أفعال العموم - ك « استقرّ » أو « ثبت » أو « كان » أو « حصل » يسمّى بأفعال العموم ، لأنّ كلّ فعل وحدث صدر عن الفاعل يصدق أنّه استقرّ وجوده ، وكان ، وثبت ، وحصل - يسمّى الظرف بظرف المستقرّ. ووجه التسمية واضح.

وإن كان من أفعال الخصوص - ك « ضرب » و « أكل » و « شرب » إلى غير ذلك من الأفعال الخاصّة ، التي هي عبارة عن الأحداث الخاصّة ، كلّ واحد منها لا ينطبق على الآخر ، بل شي ء مقابل أو مخالف له - يسمّى الظرف بظرف اللغو ، لأنّه ملغى عن الضمير المستتر فيه يرجع إلى العامل.

وظاهر الكلام حسب المتفاهم العرفي أنّ الظرف ظرف مستقرّ ، لا ظرف لغو ، فيكون المعنى أنّ الذي أخذته اليد ثابت ومستقرّ على اليد ، وهذا الثبوت والاستقرار باق على اليد ولا يرتفع عنها إلاّ بالأداء ، فنفس ما أخذت على عهدته وثابت على اليد إلى غاية ذلك الثبوت ، وغايته هي أداء ما أخذته.

وأمّا وجه أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من الحديث هو أنّ الظرف مستقرّ لا لغو فلجهات :

الأولى : أنّ الظاهر أنّ نفس ما أخذت يكون على اليد ، من دون إضمار في البين ،

ص: 55

لأنّ التقدير والإضمار خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم استقامة الكلام بدونه. وفيما نحن فيه الكلام بدون الإضمار في غاية الاستقامة ، لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث - إذا كان الظرف ظرف مستقرّ - أنّ نفس المال الذي مثلا أخذت بدون الإذن يكون مستقرّا على ذلك اليد أي عهدته مشغولة به ، كما سنبيّن معنى « اليد » في المقام ، ولا يفرغ ذمّته إلاّ بأداء ذلك الذي أخذه إلى صاحبه.

وأمّا احتمال أن يكون العامل المقدّر « يجب » أو « يلزم » فيبعده ، بل ينفيه أنّ الأحكام التكليفيّة لا تتعلّق بالذوات والأعيان الخارجيّة ، بل لا بدّ وأن يكون متعلّقها فعل المكلّف ، فيحتاج في المقام إلى التقدير. والفعل المناسب لان يكون متعلّقا ليجب أو ليلزم في المقام هو الأداء والردّ ، ليكون معنى الحديث أنّه يجب أو يلزم ردّ ما أخذه من الغير وأداؤه إليه.

ولكن أنت خبير بأنّه مضافا إلى كونه خلاف الأصل ، ركيك إلى أقصى الغاية ، لأنّه يجب أن يكون الفعل مع غايته واحدا ، أي يكون معنى الحديث : يجب ردّ ما أخذ إلى أن يردّ.

وأمّا احتمال أن يكون المتعلّق ليجب أو ليلزم المقدّر هو « الحفظ » كي يكون المعنى : يجب أو يلزم حفظ ما أخذ حتّى يؤدّيه ، فبعيد جدا.

أمّا أوّلا : فلما قلنا إنّ التقدير خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلاّ لضرورة. وليس ها هنا ضرورة إلى التقدير ، لأنّ ظاهر الكلام بدون التقدير في كمال الاستقامة ، لأنّه عبارة عن أنّ نفس ما أخذته اليد ثابت في ذمّة اليد ، ولا يمكن الخروج عنه إلاّ بأداء ما هو ثابت في العهدة إلى من هو صاحب المال المأخوذ. وهذا معنى لطيف ، له كمال الملائمة مع الأخذ بالقوّة والقهر ، ومع الأخذ بدون إذن المالك ، ويشبه لما هو مفاد سائر أدلّة باب الغصب من قوله علیه السلام : « لأنّ الغصب كلّه مردود » (1) وغيره (2).

ص: 56


1- « الكافي » ج 1 ، ص 542 ، باب الأنفال ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 309 ، أبواب الغصب ، باب 1 ، ح 3.
2- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 308 ، أبواب الغصب ، باب 1 و 7.

وأمّا ثانيا : فلأنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام بيان ردّ مال الغير الذي وقع تحت يده وإيصاله إلى صاحبه ، لا في مقام حفظ مال الغير عن التلف ، مضافا إلى أنّ الظاهر من أمثال هذه التراكيب عرفا هو كون عهدته وذمّته مشغولة بما يكون مستعليا ، فإذا قال له : علىّ كذا درهم - مثلا - فهو إقرار واعتراف بأنّ ذلك المقدار على ذمّته وفي عهدته. أو إذا قال لي : على فلان كذا مقدار ، لا يفهم منه إلاّ ادّعاء أنّه له في ذمّة فلان ذلك المقدار.

والسّر في ذلك : أنّ كلمة « على » موضوعة للنسبة الاستعلائيّة التي بين شي ء ومدخول على ، فإذا قيل : زيد على السطح ، فعلى تحكي عن النسبة الاستعلائيّة التي بين زيد ومدخول على ، فيفهم من هذا الكلام أنّ زيدا مستعل على السطح ، والسطح مستعلي عليه ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت » حيث أنّ الموصول مبتدأ مؤخّر ، فيرجع مفاد الكلام إلى أنّ المال الذي أخذته اليد يكون مستعليا على اليد ، ومستقرّا عليها كاستقرار زيد واستعلائه على السطح.

ثمَّ إنّ « اليد » ليس المراد منها هي الجارحة المخصوصة ، لأنّه ربما لا يكون للأخذ - الغاصب أو بدون إذن المالك أو الشارع الذي هو وليّ المالك - تلك الجارحة المخصوصة ، أو الشي ء المأخوذ ليس قابلا لأن يؤخذ بالجارحة المخصوصة ، بل المراد منه ها هنا الاستيلاء على الشي ء خارجا ، أو في عالم الاعتبار الشرعي أو العرفي.

وبهذا المعنى يقال ليس الأمر بيدي ولو كان لكنت أفعل كذا ، ونفس الاستيلاء التكويني أو الاعتباري حيث أنّه من صفات المستولي ، فإذا قيل : إنّ الشي ء الفلاني على اليد بهذا المعنى ، فالمراد منه على المستولي باعتبار استيلائه.

وبهذا الاعتبار قال اللّه تعالى حكاية عن قول اليهود - لعنهم اللّه - ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (1) فالمراد من قولهم ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي ليس له القدرة على الإنفاق والتوسعة

ص: 57


1- المائدة (5) : 64.

في رزق العباد ، فأجابهم اللّه تعالى بقوله ( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) أي من التوسعة والتضييق حسب المصالح التي يراها.

فظهر أنّ اليد كناية عن الاستيلاء خارجا وتكوينا ، أو عرفا ، أو شرعا واعتبارا.

وقد تكون كناية عن المستولي المتّصف بصفة الاستيلاء.

وفيما نحن فيه بهذا المعنى الأخير ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت » ظاهر في أنّ المال الذي أخذه إنسان واستولى عليه يكون على تلك اليد ، أي يكون مستعليا ومستقرّا على ذلك المستولي باعتبار استيلائه على ذلك المال ، وهذا معنى عرفي لهذه العبارة.

ثمَّ إنّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن حكم بأنّ الذي أخذه المستولي يكون مستقرّا ومستعليا عليه ، غيّاه بقوله صلی اللّه علیه و آله : « حتّى تؤدّيه » أي هذا الاستعلاء والاستقرار مغيى بأداء ما أخذ ، بمعنى أنّه مستمرّ إلى حصول تلك الغاية ، أي أداء ما أخذ ولا يرتفع إلاّ به.

إذا ظهر ذلك ، فنقول : هذا معنى الضمان عرفا ، لأنّ معنى ضمان الشي ء وإن عرّفوه بتعاريف متعددة ، ولكن العرف لا يفهم من لفظ « الضمان » إلاّ استقرار الشي ء وثبوته في عالم الاعتبار في عهدة الضامن ، فليس الضمان أمرا خارجيّا تكوينيّا ، أي ليس من مقولات العشر ، إذ ليس له ما بحذاء في الخارج ، بل هو أمر اعتباري يعتبره الشرع أو العقلاء ، أو كلاهما معا.

فإذا كان الأمر كذلك ، فذات الموجود الخارجي بوجوده الخارجي لا يمكن أن يكون في الذمّة والعهدة ، لأنّ الموجود الخارجي وعاء وجوده عالم الخارج ، لا عالم الاعتبار ، إذ ليس عالم الاعتبار إلاّ عبارة عن الموجودات الاعتباريّة التي لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار ، فلا يمكن أن يكون الموجود الخارجي موجودا في عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم انقلاب الخارج اعتبارا ، وذلك كما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن يكون موجودا في الذهن وإلاّ يلزم انقلاب الخارج ذهنا ، وهو محال.

ص: 58

فمعنى كون المأخوذ في ذمّة الآخذ وفي عهدته ، هو أنّ المهيّة الموجودة في الخارج إن وقعت تحت اليد غصبا أو بدون إذن المالك أو الشارع ، يعتبرها الشارع أو العقلاء أو كلاهما في عهدة الآخذ. والمراد من الذمّة والعهدة هو عالم الاعتبار الذي هو عبارة عن نفس الاعتبارات ، فعهدة كلّ شخص وكذلك ذمّته عبارة عن اعتبارات الشارع أو العقلاء بالنسبة إليه.

فمفاد الحديث الشريف هو أنّ كلّ مال أخذه أمّا جبرا وبالقوّة ، أو بدون إذن من قبل مالكه ، أو من قبل الشارع فهو مستقرّ بوجوده الاعتباري على صاحب تلك اليد. وهذا الوجود الاعتباري ثابت عليه ، لا يرتفع إلاّ بأداء ذلك المأخوذ فبالأداء يفرغ ذمّته.

وأداء ذلك المأخوذ في الدرجة الأولى يردّ نفس العين الخارجيّة التي وقعت تحت اليد ، ولكن إذا تلفت تلك العين الخارجيّة فبصرف تلفها لا يرتفع ذلك الموجود الاعتباري ، لأنّ بقاءه في العهدة - أي في عالم الاعتبار - مغيى بالأداء ، فما لم يؤدّ لا يرتفع ويكون باقيا ، ولا منافاة بين تلفه خارجا وبقائه في عالم الاعتبار ، فإذا كان باقيا بعد تلف العين فأداؤه بردّ نفس العين الخارجيّة محال ، فتصل النوبة إلى الدرجة الثانية من الأداء ، أي أداء مثله ، فإذا لم يوجد مثله وتعذّر أو تعسّر تحصيله تصل النوبة إلى الدرجة الثالثة من الأداء ، وهي أداء ماليّته ، أي قيمته.

والسرّ في ذلك هو أنّ ردّ المال إلى صاحبه إن كان ممكنا بجميع خصوصيّاته الشخصيّة فيجب ، لأنّه الفرد الحقيقي من الردّ بدون أيّ عناية. وإن لم يمكن ردّه بخصوصيّاته الشخصيّة بواسطة التلف ، إذ كلّ فرد من طبيعة ذلك المأخوذ غيره بحسب الخصوصيّات الشخصيّة ، ولكن يمكن ردّ ذلك الشي ء بالصفات النوعيّة - وان كان فاقدا لخصوصياته الشخصية - فيجب ردّ ذلك المثل.

وإنّما قلنا ذلك المثل ، لأنّ الفرد الذي يصدق عليه ذلك الشي ء بحسب الماهيّة ، مع

ص: 59

كونه واجدا للصفات النوعيّة ، لا بدّ وأن يكون من أمثال ذلك التالف. بل المثل المنطقي أوسع من هذا ، إذ هو يطلق على كلّ فرد يكون متّحدا مع التالف في الماهيّة وإن لم يكن واجدا لجميع صفاته النوعيّة.

وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ المرتبة النازلة من ردّ التالف هي هذه المرتبة ، بعد عدم إمكان ردّه بجميع خصوصيّاته الشخصيّة ، وإن لم يمكن هذه المرتبة أيضا من ردّ ذلك الشي ء المأخوذ - والمفروض كما بيّنّاه أنّ ذلك الوجود الاعتباري باق في عهدته ، أي في عالم الاعتبار ، إذ لم يأت بالغاية التي توجب سقوطه - فتفريغ ذمّته الذي لازم بحكم الفعل والشرع يقتضي أن يأتي بمرتبة أخرى من ردّ التالف الممكنة ، وليست هي إلاّ أداء ماليّة التالف بعد عدم إمكان ردّ خصوصيّاته الشخصيّة ، ولا الجهات النوعيّة التي كانت للتالف ، فلا يبقى في البين ما يمكن ردّه إلاّ جهة ماليّته ، فتصل النوبة إليها ، وإن كانت هذه المرتبة أنزل من المرتبة الثانية.

وهذه المراتب ليس بصرف الدقّة العقليّة ، بل العرف أيضا يحكم مثل ما ذكرنا ، لأنّه أيضا بعد ما حكم بالضمان - بالمعنى الذي ذكرنا له - يرى في الدرجة الأولى ردّ نفس العين المأخوذة ، وبعد التلف وعدم إمكان ردّ نفس العين ، لو كان له مثل يحكم بلزوم ردّ المثل ، لأنّ في ردّ المثل لا يذهب من مال المغصوب منه إلاّ جهاته الشخصيّة ، وباقي جهاته تصل إليه ، أي جهة ماليّته وجهاته النوعيّة ، وجهاته الشخصيّة التي تذهب لا يمكن تداركها. وإن لم يكن له مثل ، أو تعسّر تحصيله فيحكم بأداء ماليّته ، إذ المقدار الممكن من وصول المال إلى صاحبه هو هذا المقدار.

وأمّا ما في بعض الروايات من وجوب إعطاء القيمة ابتداء بعد تلف المغصوب أو المأخوذ بدون إذن المالك ، من دون ذكر المثل ، فمن جهة كون المورد من القيميّات لا المثليّات.

وما ذكرنا من المراتب بالنسبة إلى المثلي والقيمي كان حسب الضابط العقلي

ص: 60

والعرفي ، وأمّا ما هو الضابط عند الشرع في تعيين المثلي والقيمي سنذكره إن شاء اللّه تعالى ، وفعلا مقصودنا شرح معنى الحديث الشريف ، وأنّ « اليد » من أسباب الضمان كالإتلاف.

فقد ظهر ممّا ذكرنا دلالة هذا الحديث على صحّة هذه القاعدة ، وهي أنّ اليد سبب لضمان عين ما وقع تحت اليد.

بقي الكلام في ضمان منافع العين بقسميها ، أي المستوفاة وغير المستوفاة.

فنقول :

أمّا المنافع المستوفاة ، فلا شبهة في ضمانها ، وأنّها في عهدة المستوفي.

أمّا أوّلا : فلأنّها مال ، وقاعدتا « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » و « أنّ مال المسلم لا يحلّ إلاّ بطيب نفسه » تدلاّن على ضمانها ، وكونها في عهدة المستوفي ، وذلك لأنّه لا فرق في صدق الماليّة بين الأعيان والمنافع ، بل في كثير من الأشياء ماليّة العين بواسطة المنافع ، وإلاّ نفس العين لو لا تلك المنافع لا يبذل بإزائها المال.

وثانيا : وقوعها تحت اليد يتبع وقوع العين تحتها ، ولذلك يقال في باب إجارة الأعيان - بناء على أن تكون الإجارة فيها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم - إنّ قبض المنفعة بقبض العين.

وأمّا منافع غير المستوفاة ، فالمشهور فيه أيضا الضمان ، وهو الصحيح ، وذلك للتفويت إن قلنا بأنّه من موجبات الضمان عند العقلاء ، كما هو كذلك عندهم ، ولم يردع الشارع عن هذه القاعدة العقلائيّة ، وهي أنّ « من فوّت مال الغير عليه فهو له ضامن » بل ربما يظهر من بعض الروايات إمضاؤها ، ولا شك في أنّ المنافع غير المستوفاة أيضا مال كالمستوفاة ، والغاصب الحابس للعين فوّت منافعها على المالك.

نعم يبقى هنا شي ء : وهو أنّه لو كانت للعين منافع متضادّة في الوجود ، فبناء على الضمان فهل يضمن الجميع ، أو يضمن الأكثر ماليّة ، أو أحدها مخيّرا ، والتخيير للمالك

ص: 61

أو للضامن؟ وجوه.

والأقوى بناء على أن يكون مدرك الضمان وموضوعه تفويت مال الغير كما هو المفروض ، هو ضمان المنفعة التي هي أكثر ماليّة ، وذلك من جهة أنّها بعد كونها متضادّة في عالم الوجود ، فصدق التفويت على جميعها جمعا محال ، لأنّ معنى التفويت معنى هو أنّه صار سبب الفوت ، بحيث أنّه لو لم يكن لكان هذا الفائت حاصلا ، وها هنا حصول الجميع في حدّ نفسه لا يمكن لتضادّها ، ففوت الجميع جمعا مستند إلى تضادّها ، لا إلى المفوّت.

وأمّا أنّ التي يضمنها المفوّت هي التي أكثر ماليّة ، لأنّ المقدار الزائد على البقيّة كان ممكن الحصول لو لا تفويته وحبسه للعين على المالك ، فيكون ضامنا له ، بناء على صحّة قاعدة التفويت واعتبارها ، كما هو المختار عندنا.

نعم هذه القاعدة لا تجري بالنسبة إلى جميع أقسام منافع غير المستوفاة وتكون مخصوصة بما إذا كان عدم الاستيفاء مستندا إلى تفويته ، لا إلى آفة سماويّة. فلو غصب بستانا - مثلا - أو دابّة كذلك ، وكان عدم استيفاء الغاصب لمنفعة ذلك البستان ، أو تلك الدابّة لوصول آفة سماويّة إليهما لا لحبس الغاصب لهما على مالكهما ، فلا تجري هذه القاعدة ، ولا يمكن الحكم بالضمان لأجل قاعدة التفويت ، وأيضا لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ، وذلك لما ذكرنا من أنّ اليد على العين يد على المنفعة ، فتكون في عهدته ، ولا يرتفع إلاّ بأدائها. ولا فرق من جهة وقوعها تحت اليد بين أن تكون مستوفاة أو غير مستوفاة.

فالحقّ هو أنّ اليد الغاصبة أو غير المأذونة موجبة لضمان العين والمنافع مطلقا ، سواء أكانت مستوفاة أو لم تكن.

ثمَّ إنّه مقتضى القاعدة هو أن يكون الضمان بالمثل في المثلي ، والقيمة في القيمي ، وقد عرفت ذلك مفصّلا عند شرحنا لمعنى الضمان.

ص: 62

وأمّا الدليل على أنّ الضمان بالقيمة في القيمي وفي المثلي بالمثل ، فتارة يتمسّك بالإجماع ، وحاصله اتّفاق فقهائنا كافّة على أنّ الضمان في الضمان الواقعي في المثلي بالمثل ، وفي القيمي بالقيمة. وأمّا في ضمان المسمّى فهو نفس المسمّى ، قلّ أو كثر.

ولكن أنت خبير بأنّ الاستدلال في أمثال المقام بالإجماع لا يخلو عن الإشكال والمناقشة ، لوجود المدارك المتعدّدة من الآية والرواية.

وأخرى : بالآية الشريفة ، وهي قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) ولا شك في أنّ الاعتداء بمثل ما اعتدى عليه في المثليّات هو المثل ، بل يمكن أن يقال إنّ الآية نصّ في ذلك.

وفيه : أوّلا أنّ كلمة « ما » في ( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) يمكن أن تكون مصدريّة لا موصولة ، فيكون معناها : أنّ اللّه تعالى أمر بالاعتداء بمثل اعتداء المعتدي ، فالمماثلة في نفس الاعتداء ، لا في الشي ء الذي وقع الاعتداء عليه ، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (2) حيث أنّه ظاهر في أنّ المماثلة في كون الجزاء أيضا سيّئة لا فيما يجزى به ، ولذلك قلنا إنّ إطلاق السيّئة ها هنا على الجزاء من باب صنعة - المشاكلة.

والاستدلال بها مبنيّ على أن تكن كلمة « ما » موصولة ، ويكون المراد منها أنّ الشي ء الذي تعتدون به على المعتدي الأوّل يكون مماثلا للشي ء الذي هو اعتدى به عليكم ، ولو لم يكن ظاهر الآية هو الاحتمال الأوّل ، فلا أقلّ من أن يكون سببا لإجمالها من هذه الجهة ، فلا يصحّ الاستدلال بها.

وثالثة : بما ذكرنا من أنّ ذلك مقتضى نفس أدلّة الضمان الواقعي ، ومنها : قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». ومنها : قاعدة الإتلاف ، وهي قولهم : « من أتلف

ص: 63


1- البقرة (2) : 194.
2- الشورى (43) : 39.

مال الغير فهو له ضامن » المصطادة من الأخبار الواردة في أبواب مختلفة.

وقد شرحناها مفصّلا ، وقلنا : معنى الضمان هو اعتبار وجود التالف ، أو المغصوب ، أو المأخوذ بدون إذن المالك ، أو من يكون أمر ذلك الشي ء بيده - من قبل المالك أو من قبل اللّه - على ذمّة الشخص الذي يسمّى بالضامن ، إلى أن يفرغ ذمّته وعهدته عن ذلك الوجود الاعتباري بأداء ما أتلف ، أو ما وقع تحت يده ، أو ما فوّت على المالك.

وقلنا : إنّ لأداء ذلك الشي ء مراتب ودرجات ثلاث ، على التفصيل المتقدّم فلا نعيد. والمقصود ها هنا هو أنّه مع وجود المثل لا تصل النوبة إلى القيمة ، لأنّ القيمة هي الدرجة الثالثة من أداء الشي ء.

وقلنا : إنّ هذا المعنى للضمان من المرتكزات في أذهان العرف والعقلاء.

وأمّا ما ربما يقال : من لزوم أداء المثل في المثليّات لأنّه أقرب إلى التالف فلا أساس له ، لعدم الدليل على وجوب إعطاء الضامن في مقام تفريغ ذمّته ما هو أقرب إلى التالف ، بل الدليل مفاده ردّ المغصوب أو تفريغ ذمّته عمّا اعتبر عليها.

ولا شكّ في أنّه مع وجود العين المغصوبة أو الواقعة تحت اليد غير المأذونة ، فأداء العين المغصوبة وردّها إلى مالكها موجب لفراغ ذمّته عنها ، ومع تلفها حيث أنّه لا يمكن ردّ الخصوصيّات الشخصيّة فلا بدّ إمّا من القول بسقوط وجوب الأداء عنه بالمرّة ، وهذا شي ء لا يمكن الالتزام به ، وإمّا أن يقال بعد عدم إمكان ردّ الخصوصيّات الشخصيّة يردّ ما أمكن ردّه من التالف ، بحيث يكون عند العرف ردّه ردّ المغصوب في صورة عدم إمكان ردّ العين بخصوصياته الشخصيّة بأن يكون من أفراد ومصاديق تلك الماهيّة الواجدة لجميع جهات التالف ، ما عدى الجهات والخصوصيّات الشخصيّة ، وهو الذي نعبّر عنه بالمثل.

نعم عند عدم إمكان هذا ، أيضا لا بدّ وأن تكون الهويّة بينه وبين التالف باعتبار

ص: 64

المالية فقط ، وهو الذي نسمّيه بالقيمي ، فظهر أنّ عنوان أنّه أقرب إلى التالف ما نزل في آية ، ولا وردت به رواية ، ولا دلّ عليه إجماع ، ولا دليل عقلي.

وأيضا لا يتوهّم : أنّ معنى الضمان هو أن ينتقل التالف إلى ملك من يقع التلف في يده آنا مّا قبل التلف بعوضه الواقعي كالقرض ، فيكون التالف ملكه تلف في يده وعليه ضمانه الواقعي مثل باب القرض ، لأنّه لا وجه لفرض هذا الانتقال وصيرورته آنا مّا ملكا لمن وقع التلف في يده قبل التلف ، لأنّه حصول ملكيّة للغاصب بدون قصد صاحب المال ، بل وبدون التفاته إلى ذلك أصلا ولا تخيّل الغاصب ولا التفاته إلى ذلك ، فهذا شعر بلا ضرورة.

وقياسه على تلف المبيع قبل قبضه مع الفارق ، لأنّه هناك لا موجب للضمان ، لا قاعدة الإتلاف ، لأنّه لا إتلاف ، ولا ضمان اليد ، لأنّ اليد يد أمانة من قبل المالك ، بخلاف المقام فإنّ الموجب - وهي اليد - موجود ، ولا حاجة إلى فرض أمور لا دليل عليها ، مع مخالفتها للارتكاز العرفي كما عرفت ، فلا نعيد.

ثمَّ إنّهم اختلفوا في بيان ضابط المثلي والقيمي ، والتعاريف التي ذكروها أشبه بالتعريف اللفظي من التعريف الحقيقي. وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ المثلي هي الطبيعة التي أفرادها متماثلة في الجهات النوعيّة والصفات الصنفيّة ، بحيث يكون ما به الامتياز بينها هي الخصوصيّات الشخصيّة ، وأمّا في الجهات الصنفيّة والنوعيّة فمشتركة ، ولذلك يصحّ السلم فيه ، بل بعضهم عرّف المثلي بأنّه ما يصحّ السلم فيه.

والحاصل : أنّ المراد من المثلي في هذا المقام هو أنّه لا ينقص عن التالف إلاّ في الخصوصيّات الشخصيّة ، وإلاّ ففي سائر الجهات فهو والتالف سواء.

وهذا هو السرّ في أنّه مع وجوده لا تصل النوبة في مقام تفريغ ما في ذمّته إلى القيمة ، لأنّه بأداء المثل لا يذهب من كيس مالك التالف إلاّ الخصوصيّات الشخصيّة فقط ، وأمّا مع أداء القيمة فيذهب من كيسه - مضافا إلى الخصوصيّات الشخصيّة -

ص: 65

الجهات الصنفيّة ، والصفات والحالات والعوارض النوعيّة بلا موجب ولا مبرر.

نعم المثلي بهذا المعنى على قسمين :

لأنّ الاشتراك في الصفات والعوارض النوعيّة ، والاتّحاد في الجهات الصنفيّة قد يكون بحسب الخلقة الإلهيّة ، وذلك كأغلب الحبوبات ، فإنّ امتياز حبّة حنطة أو شعير أو عدس أو حمصة إلى غير ذلك عن سائر حبّات نوعه أو صنفه غالبا ليس إلاّ بالخصوصيّات الشخصيّة ، وليس امتياز بينها بحسب الصفات النوعيّة والجهات الصنفيّة غالبا عرفا.

ولذلك أحسن شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في تعريفه المثلي - على ما يستفاد من عباراته في هذا المقام - بأنّه هو ما لا يتفاوت أفراد نوعه أو صنفه ، ولا يتميّز كلّ فرد عن الآخر ، بحيث لو اختلطا أو امتزجا وكانا من مالكين تحصل الشركة القهريّة ، وأيضا كلّما يصحّ السلم فيه فهو مثلي (1).

فهذا أحد القسمين من المثلي ، وهذا القسم هو القدر المتيقّن من المثلي في المقام من حيث حكمهم بأنّه مع وجوده لا تصل النوبة في أبواب الضمانات والغرامات إلى القيمة.

والقسم الثاني : هو أن يكون الاشتراك والاتّفاق في الجهات النوعيّة والصنفيّة بتوسّط الصناعة البشريّة ، كالقرّائين طبع حافظ عثمان مثلا ، فكلّ فرد من طبعة فلان من المطبعة الفلانيّة مشتركة من غير الجهات والخصوصيّات الشخصيّة مع الأفراد الأخر من نفس تلك الطبعة في نفس تلك المطبعة ، وهكذا الحال في سائر الكتب المطبوعة ، بل في جميع الأجناس التي تستخرج من المكائن العصريّة من الحاجيات وغيرها ، بل لا يكاد يوجد في العصر الحاضر في الأنواع الصناعيّة بغير هذا الشكل.

فجميع هذه الأنواع أفرادها مثليّات واقعا حسب التعريف والمناط الذي ذكرنا له ، ولكن مع ذلك كلّه وقع الخلاف في عدّ هذا القسم من المثليّات على ما ذكره شيخنا

ص: 66


1- « المكاسب » ص 105 - 106.

الأستاذ قدس سره (1) ويظهر من تقييده المثلي - بأن يكون تساوى الصفات والآثار بحسب الخلقة الأصليّة (2) - عدم عدّ هذا القسم من المثلي ، ولكنّه كلام عجيب بناء على أن يكون مدرك هذا الحكم في المثلي - أي : عدم وصول النوبة إلى القيمة مع وجوده - هو نفس أدلّة الضمان ، لا الإجماع.

وذكر قدس سره وجها للفرق بين القسمين (3) ، وهو أعجب من أصل فرقه. وحاصل ذلك هو أنّه النوع أو الصنف الذي أفراده متّحد الصفات والجهات ، إن كان من المخلوقات الإلهيّة ، فالمادّة والصورة فيه موجودان بوجود واحد ، أفيض عليهما من قبل اللّه تعالى بجعل واحد ، وخلقة واحدة ، وليست المادّة فيه مصنوعة لشخص ، والهيئة والصورة لشخص آخر.

وأمّا ما كان من المصنوعات البشريّة ، فمن الممكن أن تكون المادّة لشخص والهيئة لشخص آخر ، وحصلت من عمل إنسان غير من هو صاحب المادّة ، فقهرا يكون له مالكان : أحدهما مالك الهيئة ، والآخر مالك المادّة.

مثلا : إذا كان الخشب لشخص ، وعمل النجّار فيه عملا بحيث يكون عمله محترما - لا كالغاصب الذي لا احترام لعمله - فصنعه بابا أو سريرا أو غير ذلك من أنواع ما يمكن أن يصنعه النجّار ، فيكون الخشب في ذلك السرير مثلا ملكا لصاحب الخشب ، والهيئة السريرية ملكا لذلك النجّار الذي صنع ذلك السرير ، فإذا غصب هذا السرير غاصب ، أو وقع تحت يده بالعقد الفاسد ، أو بغير ذلك ممّا هو ليس بإذن المالك ، فمثل هذا السرير وإن كان موجودا ولكن حيث أنّ للتالف كان مالكين ، فلا يمكن إعطاء المثل لكلّ واحد منهما ، لعدم استحقاق كلّ واحد منهما تمام المثل ، بل أحدهما تلف هيئته والآخر مادّته ، فلا بدّ في مقام تفريغ الذمّة من إعطاء قيمة الهيئة لمن يملكها ،

ص: 67


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 337 - 338.
2- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 337.
3- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 337 - 338 ، في تحديد المثلي والقيمي.

وقيمة المادة أيضا كذلك ، مع أنّ التالف من المثليّات بالمعنى الثاني.

وأمّا في الأنواع والأصناف التي لا دخل للصناعة البشريّة فيها ، بل هي بمادّتها وصورتها من المخلوقات الإلهيّة ، فلا يمكن أن تكون المادّة لشخص والصورة لشخص آخر ، فإذا صار تالفا فمقتضى كونه بوجوده الاعتباري في عهدة الضامن هو تفريغ ذمّته بأداء مثله في الدرجة الثانية ، أي بعد تعذّر العين ، لا القيمة التي هي الدرجة الثالثة ، كما بيّنّا هذه المطالب وشرحناها مفصّلا.

وأنت خبير بما في هذا الكلام ، مضافا إلى الإشكالات العلميّة التي فيه ، أنّ هذا الفرق غير فارق بالنسبة إلى ما هو المقصود.

أما أوّلا : فلعدم جريانه فيما إذا كان التالف بمادّته وهيئته ملكا لشخص واحد ، وهذا القسم هو الغالب في الخارج ، لأنّ المتعارف في هذا العصر أنّهم يشترون من الأسواق من المصنوعات البشريّة ، وما من بيت إلاّ وفيه عشرات منها ، فالمادّة والهيئة كلاهما لشخص واحد ، فإذا تلف تحت يد غير مأذونه أو غاصبة أو التي أخذه بعقد فاسد أو بغير ذلك من الأيدي الموجبة للضمان ، فلا بدّ للضامن من إعطاء مثله - لما ذكرنا ، فلا نعيد - إلاّ أن يكون إجماع على عدم كفاية المثل لتفريغ ذمّة الضامن فيما إذا كان المثل من المصنوعات البشريّة ، وادّعاء هذا عجيب.

وثانيا : لا مانع من أن يكون الضامن في عهدته مثل التالف لكليهما ، فيشتركان في ما هو في عهدة الضامن ، كما كانا في الأصل كذلك.

وثالثا : حيث تحصل الشركة القهريّة بين العامل الصانع - كالنجّار مثلا - وبين صاحب المادّة ، فلا يبقى موضوع لهذا الفرض كي يكون ضامنا لأحدهما بالمادّة وللآخر بالهيئة ، بل لأحدهما ضامن بأحد الكسور وللآخر بالآخر ، سواء كانا متّفقين في الكسر أو كانا مختلفين.

وخلاصة الكلام : أنّ الفرق بين الأنواع والأصناف الطبيعيّة والصناعيّة خلاف

ص: 68

المرتكزات العرفية وعند العقلاء في أبواب الضمانات والغرامات.

بل عندي أنّ لزوم إعطاء المثل ، وعدم جواز إلزام المالك للضامن بالقيمة في المثليّات الصناعيّة أولى وأرجح من المثليّات الطبيعيّة والمجعولات الإلهيّة ، وما لم تدخل في صنعة أيدي البشريّة ، وذلك من جهة أنّ الأخير ربما يكون بعض الاختلاف غالبا بين أفراد ذلك النوع من حيث الشكل والكبر والصغر ، فلو أنّ أحدا غصب أربع حبّات حنطة أو حمصة أو غير ذلك من الحبوب ، فالاختلاف بين الحبوب التالفة وبين ما يعطي الغاصب بعنوان الغرامة أزيد من الاختلاف بين استكان التالف المغصوب مع ما يعطي الغاصب بعنوان الغرامة من نفس الماركة.

بل عبارة شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في مقام تعريف المثلي « بأنّه ما لا تتميّز أفراده بعد الاختلاط أو الامتزاج » (1) انطباقه على المثليّات الصناعيّة أوفق من الطبيعيّة ، لقلةّ الاختلاف في الأوّل.

هذا بحسب المرتكزات العرفيّة وكون مدرك المثل في المثليّات هو فهم العرف من أدلّة الضمان ذلك.

وأمّا لو كان مدركه الإجماع ، فيمكن أن يفرق بين المثلين ، ولكن دعواه عجيب بحيث ينتهي إلى المعصوم قولا أو فعلا أو تقريرا ، وذلك لعدم المكائن في تلك الأعصار ، وأمّا ما كان من صنع اليد في تلك الأزمنة فالاختلاف بينها كانت كثيرة ، فلا يجوز إجراء حكم ما كان يصنع باليد في تلك الأزمنة على ما يصنع بالمكائن في هذا العصر.

وإنّما طوّلنا البحث في المقام لأجل كثرة الاحتياج والابتلاء في هذا العصر بالصناعيّات ، والضمان والغرمات فيها.

إذا عرفت ما ذكرنا في أنّ مقتضى قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » هو

ص: 69


1- « المكاسب » ص 105.

في الدرجة الأولى ردّ نفس العين ، ومع تلفها ردّ مثلها في المثليّات في الدرجة الثانية ، ومع كون التالف من القيميّات على الضابط المتقدّم تصل النوبة إلى الدرجة الثالثة ، وهي ردّ القيمة في القيميّات. فنقول :

إنّ ها هنا أمور يجب ذكرها والتنبيه عليها

[ الأمر ] الأوّل : أنّه لو لم يوجد المثل إلاّ بأكثر من ثمن أمثاله ، فهل ينتقل إلى الدرجة الثالثة ، ويكون عليه القيمة ، ويكون وجوده بمنزلة العدم ، أم لا بل يجب شراؤه وإعطاؤه غرامة للتالف؟

ثمَّ إنّ المراد بعدم وجوده إلاّ بأكثر من ثمن أمثاله هو عدم وجوده إلاّ عند شخص لا يبيعه إلاّ كذلك ، بحيث لو كان في السوق أو كان عند غير هذا الشخص لكان يباع بأقلّ من هذا ، وأمّا لو كانت زيادة القيمة من ناحية ترقّي قيمته في الأسواق ، فلا إشكال في وجوب شرائه ولزوم إعطائه لمالك التالف؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّه لا بدّ وأن ينظر ، وأنّ كونه في يد شخص لا يبيع إلاّ بأزيد من ثمن مثله وعدم وجوده في مكان آخر هل هو لانحصار وجوده فيما عند ذلك الشخص ، أو لقلّة وجوده؟ فإن كان كذلك ، فالظاهر أنّ هذا ملحق بتعذّره ، وسنتكلّم عنه.

وأمّا إن كان لأجل أنّ هذا الشخص أو مع غيره - ولكن ذلك الغير في بلاد بعيدة بحيث متعذّر أو متعسّر الاشتراء منه - حصروا هذا النوع أو الصنف عندهم ، ولم يكن وجوده في حدّ نفسه قليلا ، ففي مثل هذه الصورة لا يخرج عن كونه مثليّا ، لأنّ المثلي - بناء على ما ذكرنا - أن يكون نوع التالف أو صنفه ذا أفراد متماثلة غير متفاوتة من ناحية الصفات والجهات النوعيّة والصنفيّة ، وفيما نحن فيه يكون الأمر كذلك ، غاية الأمر حصره البعض عنده لأجل زيادة الربح ، كما هو شغل بعض المحتكرين ،

ص: 70

فيخزنون الحنطة مثلا ويجعلونها منحصرة بما عندهم ، ثمَّ لا يبيعونها إلاّ بما هو أضعاف قيمتها لو لا هذا الاختزان.

فالإنصاف : أنّ في مثل هذه الصورة مقتضى ما ذكرنا من الارتكاز العرفي هو لزوم تفريغ ذميته ، وأداء ما أخذته يده بالمثل ، ويجب شراؤه وإن كان بأضعاف قيمته.

وهذا بعنوانه الأوّلي ، ولكن بعنوان أنّ وجوب الشراء في مثل هذه الصورة ضرريّ ، والحكم الضرريّ منفيّ في الإسلام فذلك أمر آخر ، ولا بدّ من الملاحظة والدقّة في أنّ مثل هذه الموارد هل من موارد جريان قاعدة لا ضرر ، أو ليس كذلك.

وفيه كلام طويل ، وقد بحثنا عن هذه القاعدة ومفادها ومدركها وموارد جريانها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

وإجماله : أنّ مفاد القاعدة هو نفي الحكم الضرري ، بحيث يكون عنوان أنّه ضرريّ عنوانا ثانويّا لذلك الحكم ، فالحكم الذي لا يترتّب عليه ضرر أصلا خارج عن تحت هذه القاعدة ، والحكم الذي يكون طبعه مقتضيا للضرر أيضا كذلك ، كالجهاد أو الخمس أو الزكاة ، والحجّ بالنسبة إلى الزاد والراحة ، فهذه الموارد كلّها خارجة عن تحت هذه القاعدة.

فمورد القاعدة هو فيما إذا كان الحكم بحسب طبعه لا يقتضي الضرر ، ولكن قد يتّفق لجهات خارجيّة ترتّب الضرر عليه ، سواء كان ذلك الضرر بدنيّا أو ماليّا أو اعتباريّا ، ففي مثل ذلك المورد تكون هذه القاعدة حاكمة على عموم الدليل الأوّلى أو إطلاقه ، ويخصّصه أو يقيّده بغير مورد ترتّب الضرر.

فلو نذر أن يطعم زيدا - مثلا - إن صار كذا ، فيتنجّز نذره بوجود المعلّق عليه ، فيجب عليه الوفاء بنذره وشراء الطعام من السوق ، وإن كان هذا الشراء ضررا ماليّا عليه. والقاعدة لا ترفع هذا الوجوب ، لأنّ هذا الضرر مقتضى طبع وجوب الوفاء بالنذر في الماليّات ، وفي المفروض من المورد لو ترقّى قيمة اللحم ترقّيا فاحشا في

ص: 71

الأسواق لا يمنع هذا الضرر عن وجوب الوفاء بالنذر ، لما قلنا إنّ هذا القسم من الضرر مقتضى طبع وجوب الوفاء.

وأمّا لو كان غلاء قيمة اللحم من جهة احتكار شخص أو أشخاص ، لا من جهة ترقّي القيمة السوقيّة ، فيمكن المورد مشمولا لقاعدة لا ضرر ، لأنّ هذا الضرر له جهة خارجيّة ، وليس من مقتضيات طبيعة الحكم ، كما هو واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال جريان القاعدة في محلّ كلامنا وعدم جريانها ، وأنّه إن كانت زيادة قيمة المثل بأكثر من ثمن أمثاله من جهة احتكار من عنده المثل أو ما يشبه الاحتكار ، فالقاعدة تجري ، وأمّا إن كان طلب الزيادة من جهة قلّة وجوده ، فالقاعدة لا تجري ، لأنّ الشي ء القليل الوجود إذا كان مطلوبا للعموم فقهرا تترقّى قيمته ويغلو سعره ، وإذا غلى سعره - وإن كان بواسطة قلّة وجوده في الأسواق - يكون الضرر من مقتضيات طبع الحكم ، فلا يكون مشمولا للقاعدة.

وكذلك الأمر في مسألة شراء الماء للوضوء ، فإن كان من عنده الماء يطلب قيمة زائدة لأجل كونه في قافلة في فصل الصيف ، والماء هناك قليل وطلاّبه كثيرون ، فلا تجري القاعدة ، ويجب الشراء وإن كان غالبا ، لاقتضاء الزمان والمكان ذلك ، وهذا الضرر من مقتضيات طبع الحكم.

وأمّا إن كانت الزيادة لأجل حصر الماء عن الآخرين ، فتجري القاعدة.

وهذا ضابط كلّي في جميع الموارد.

[ الأمر ] الثاني : لو تعذّر المثل في المثلي ، فلا شكّ في أنّ الأداء وتفريغ الذمّة ينتقل إلى الدرجة الثالثة وهي القيمة. إنّما الكلام في أنّ وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك ، أو يكون مطلقا؟

ولتوضيح المقام وتنقيحه نقدّم أمورا :

الأوّل : في أنّه ما المراد من تعذّر المثل؟ وهل المراد عدم وجوده وعدم إمكان

ص: 72

تحصيله مطلقا حتّى مع التعب الشديد وصرف المال الكثير ، أو لا بل المراد منه عدم سهولة تحصيله من جهة قلّة وجوده ، أو كونه في بلد بعيد يصعب عليه جلبه من ذلك البلد؟

أقول : المناط في أبواب الضمانات والغرامات حسب الارتكاز العرفي في الانتقال من الدرجة الثانية إلى الثالثة ، عدم التمكّن من تحصيله عرفا ، فإذا حصل التعذّر بهذا المعنى فيجب عليه دفع القيمة ، بمعنى أنّه ليس للمالك إلزامه بإعطاء المثل ، ولو كان يجلبه من البلد البعيد وتحمّل المشقّة أو صرف المال الكثير ، فإنّ العرف يرى وجود المثل في هذه الصورة كالعدم ، فيفهم من أدلّة الضمان وجوب أداء القيمة.

الثاني : أنّ حكم تعذّر المثل هو حكم تلف العين ، أو حكم تعذّر العين؟ فإن كان هو الأوّل فقهرا ينتقل ما في الذمّة من كونه مثلا إلى القيمة ، كما أنّ العين إذا وقع عليها التلف ينتقل الضمان من العين إلى بدلها من المثل أو القيمة ، كلّ واحد منهما في مورده.

أمّا إن كان مثل تعذّر العين ، فكما أنّ في تعذّرها لا ينتقل الضمان إلى البدل ما دامت العين موجودة - غاية الأمر على الغاصب إعطاء بدل الحيلولة لا بدل نفس العين - فكذلك ها هنا لا ينتقل الضمان إلى القيمة ، بل المثل باق على عهدة الغاصب إلى زمان الأداء.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ قياس تعذّر المثل بتعذّر العين لا وجه له ، لأنّ العين مع وجودها وبقائها لا وجه لخروجها عن ملك مالكها ، لأنّ تعذّر الوصول إلى الملك ليس ممّا يوجب سقوط الملكيّة ، فمع بقاء عين ماله في ملكه لا معنى لأخذ بدله الواقعي ، لأنّه من الجمع بين البدل والمبدل ، فلو قلنا بلزوم تدارك ما فات من المالك لا بدّ أن يكون بدل حيلولته بين المال ومالكه.

وأمّا فيما نحن فيه ، فبعد تلف العين قلنا إنّ المرتكز العرفي - فيما إذا قيل إنّ الذمّة مشغولة ولا يرتفع بعد تلفها إلاّ بأداء ما أخذه - أنّ عليه أداء ما أخذه بالمثل إن كان ،

ص: 73

وبعد تعذّره تصل النوبة إلى القيمة ، فلا وجه لبقاء المثل في عهدته إلى زمان الأداء ولو بالقيمة. وقياسه على تعذّر العين باطل ، ومع الفارق إذ هو لم يملك المثل إلاّ بعد أن يعطى له بخلاف العين ، فإنّه يملكها ولا وجه لسقوط ملكيّتها بصرف التعذّر.

الثالث : أنّه بناء على ما عرفت في الأمرين المتقدّمين - وهما عدم سهولة تحصيله المثل عرفا ، وكون تعذّره بمنزلة تلف العين - فقهرا يكون التعذّر موجبا لأن يكون ذمّة الغاصب أو من هو بحكمه مشغولة بالقيمة. وإن شئت سمه بانقلاب المثل إلى القيمة ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

فبناء على هذا يجب دفع القيمة إلى المالك ، طالب أو لم يطالب ، بل له إلزام المالك بأخذ القيمة إلاّ أن يكون المثل مرجو الحصول في زمان قريب ، فله أن يمتنع عن أخذ القيمة ويصبر إلى زمان حصول المثل ، كما إذا كان التالف حنطة ، والحنطة إمّا ليس بموجود أو عزيز الوجود ، فللغاصب إلزام المالك بأخذ القيمة إلاّ أن يكون في زمان الحصاد والمتوقّع وفور الحنطة في زمان قريب.

ولا فرق فيما ذكرنا من الانقلاب بين التعذّر الطاري والبدوي أصلا ، كما هو واضح فلا يحتاج إلى تطويل الكلام.

[ الأمر ] الثالث : من الأمور التي قلنا يجب التنبيه عليها هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ المغصوب أو ما كان بحكمه إن كان قيميّا يجب أداء قيمته - إمّا للإجماع على ذلك كما ادّعى في المقام ، أو من جهة أنّ المرتكز في أذهان العرف هو ذلك من أدلّة الضمان كما هو المختار عندنا - هل المدار في تعيين القيمة قيمة يوم دخول العين تحت اليد ، أو قيمة يوم التلف ، أو قيمة يوم الأداء ، أو أعلى القيم من زمان دخول العين تحت اليد إلى زمان التلف ، أو إلى زمان الأداء؟

وجوه وأقوال ، وذكروا لهذه الأقوال والوجوه الخمسة أدلّة ومدارك ، ويطول المقام بذكر جميع ما قالوا في مدارك هذا القول ، ولذلك نحن نكتفي بذكر ما هو المختار

ص: 74

عندنا ، وهو قيمة يوم الأخذ غصبا ، أو بدون إذن المالك وإن لم يطلق عليه عنوان الغصب عرفا.

فنقول : ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » - كما تقدّم - هو أنّ نفس ما وقع تحت اليد يثبت ويستقرّ على عهدة الآخذ ، ولا شك في أنّ هذا المعنى - أي استقرار ما أخذته اليد عليها - حكم شرعي وضعي في عالم الاعتبار التشريعي ، ونفس المأخوذ مال وعين خارجيّة وقعت تحت اليد ، فنفس العين الخارجيّة من الموجودات الخارجيّة ، ولا يمكن أن تنتقل بنفسها إلى العهدة ، لأنّ المراد من العهدة والذمّة عالم الاعتبار ، والموجود الخارجي محال أن ينتقل بوجوده الخارجي إلى عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم أن ينقلب الخارج اعتبارا ، فكما أنّ الموجود الخارجي لا يأتي إلى الذهن للزوم الانقلاب ، فكذلك الأمر ها هنا. بل المحاليّة هاهنا أوضح ، لأنّ الموجود الخارجي والذهني كلاهما موجودان خارجيّان واقعيّان ، والقول بأنّ أحدهما ذهني والآخر خارجي مجرّد اصطلاح.

وأمّا في ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، بل الموجود الخارجي أمر واقعي وله وجود في الخارج ، سواء كان معتبر في العالم أو لم يكن ، بخلاف الأمر الاعتباري ، فليس له وجود أصلا وإنّما هو صرف اعتبار ممّن بيده الاعتبار.

وبعبارة أخرى : كما أنّ للأشياء وجود خارجي ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود كتبي ، كذلك للأشياء المتموّلة وجود اعتباري ، أي يعتبرها الشارع أو العقلاء في عالم الاعتبار لترتيب آثار ذلك الموجود عليه ، فالمراد من « على اليد ما أخذت » اعتبار ذلك الوجود الذي وقع تحت اليد فوق اليد ، أي على العهدة.

وذلك الوجود المأخوذ له جهات ثلاث : الخصوصيّات الشخصيّة ، والجهات الصنفيّة والصفات والعوارض الطارئة على نفس الطبيعة ، والثالثة ماليّته التي هي العمدة في أبواب الضمانات والغرامات ، ففي عالم الاعتبار يعتبر ما هو الواجد للجهات

ص: 75

الثلاث ، فما دام يمكن أداء الجهات الثلاث يجب عليه أداؤها جميعا. وهذا فيما إذا كانت عين المال المغصوب موجودة يجب على الآخذ أداؤها جميعا ، لأنّ في ذمّته بالمعنى الذي ذكرنا للذمّة.

وإذا تلفت العين تسقط الخصوصيّات الشخصيّة ، لأنّ اعتبارها على الذمّة لترتيب الأثر الذي هو وجوب أدائها ، فإذا لم يمكن فاعتبارها لغو وتبقى الجهتان الآخريان ، أي الماليّة ، والعوارض والطواري النوعيّة الموجبة لتصنيفه. وإذا فقد المثل وانعدم بالمرّة - إمّا من أوّل الأمر ، أو طرأ الفقدان بعد ما كان - فتسقط الجهات المصنّفة أيضا ، وتبقى الجهة الماليّة فقط.

وبقاء الجهة الماليّة في العهدة يجتمع حتّى مع وجود العين فيما إذا سقطت عن المالية كقربة من الماء في المفازة التي تحتاج إليه القافلة ، خصوصا مع فقد غيرها إذا أتي بها الغاصب ويريد أن يرجعها إلى المالك في حافة الشط ، وكالأوراق الماليّة التي غصبها في حال اعتبارها ويريد ردّها إلى مالكها في حال سقوط اعتبارها.

ثمَّ إنّه قد ظهر لك أنّ المدار في القيمي قيمة يوم الأخذ ، لأنّ ظرف الضمان حسب مفاد هذا الحديث الشريف هو وقت الأخذ ، فيأتي المأخوذ بجهاته الثلاث في العهدة في ذلك الوقت ، منها قيمته في ذلك الوقت.

وبناء على ما ذكرنا لو سقطت العين المغصوبة بعد أن غصبها عن الماليّة ، فيجب عليه أداء قيمتها ، وأيضا أداء نفس العين مع بقائها ، وذلك من جهة إمكان أداء الجهات ، أمّا القيمة فمن الخارج ، وأمّا الجهات المصنّفة والخصوصيّات المشخصة فلوجودها في العين مع بقائها.

إن قلت : إن كان المدار في القيمة قيمة يوم الأخذ ، فلما ذا قالوا بضمان النماءات التي تحصل للعين المغصوبة بعد الغصب ، وإن تلفت تلك النماءات بعد حصولها ، كما لو سمن الشاة مثلا في يد الغاصب ثمَّ زال عنها السمن وعادت حالته الأولى ، فلو كان الضمان

ص: 76

قيمة يوم الأخذ فقط ، فلا وجه لضمان تلك النماءات التي تحصل بعد يوم الأخذ.

قلنا : إنّ النماءات التي تحصل بعد الغصب تقع تحت اليد جديدا بتبع بقاء العين ، وفي الحقيقة تكون غصبا آخر غير مربوط بالغصب الأوّل ، ولذلك نفرق بين تلك النماءات وترقّى القيمة السوقيّة. وذلك من جهة أنّ ترقّيات القيمة السوقيّة ليست من أشياء تقع تحت اليد كي تكون غصبا جديدا وموجبا لضمان جديد.

هذا ، مضافا إلى دلالة صحيحة أبي ولاّد على أنّ المدار في القيمة قيمة يوم الغصب ، فلنذكر الصحيحة ونبيّن كيفيّة دلالتها على أنّ المدار في تعيين القيمة قيمة يوم الأخذ والغصب ، وهي هذه :

في الوسائل : محمّد بن الحسن بإسناده عن أبي ولاّد ، قال : اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت نحو النيل ، فلمّا أتيت النيل خبرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتبعته فظفرت به ورجعت إلى الكوفة - إلى أن قال : - فأخبرت أبا عبد اللّه علیه السلام ، فقال : « أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه » ، قال : قلت : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : « لا ، لأنّك غاصب » ، فقلت : أرأيت لو عطب البغل ، أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال : « نعم قيمة بغل يوم خالفته » قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر؟ فقال : « عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه » ، قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : « أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك » الحديث (1).

ص: 77


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 313 ، أبواب الغصب ، باب 7 ، ح 1.

ثمَّ إنّه ربما يستشكل بالاستدلال بهذه الصحيحة بأنّها مخالفة للقواعد العامّة ، والأخبار المستفيضة ، بل الأخبار القطعيّة (1). وهي أنّه لا شكّ في أنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، والتفصيل قاطع للشركة ، فلا يجتمعان بالنسبة إلى أحد المتخاصمين في واقعة واحدة ، وهنا اجتمع بالنسبة إلى المالك.

وفيه أوّلا : أنّه يمكن أن يكون هذا الكلام باعتبارين واختلاف كيفية إنشاء دعويهما ، وذلك كما إذا ادّعى شخص على زيد مثلا بكذا ، فإن قال زيد في مقام جوابه :

لم تطلب مني شيئا ، يكون منكرا. وإن قال : أعطيتك ، يكون مدّعيا ، ففي المقام إذا ادّعى الغاصب تنزل القيمة يوم المخالفة بعد الاتّفاق في القيمة قبل يوم المخالفة بيوم أو بأيّام ، فيكون المالك منكرا للتنزّل ، وعليه الحلف وعلى الغاصب أن يأتي بشهود.

وأمّا لو كان مصبّ الدعوى والاختلاف في القيمة هو نفس يوم المخالفة ، من غير اتّفاق على القيمة سابقا ، فالقول قول الغاصب ، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة ، وهي البراءة عن الزائد الذي يدّعيه المالك ، فيكون على المالك إقامة البيّنة على ما يدّعيه.

وثانيا : اختلال بعض الفقرات لا ينافي مع حجّية فقرات الأخر.

وأمّا دلالة هذه الصحيحة على أنّ المدار في تعيين القيمة هو قيمة يوم المخالفة ، ففي موضعين :

[ الموضع ] الأوّل : قوله علیه السلام : « نعم قيمة بغل يوم خالفته ». وقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في وجه دلالة هذه الفقرة على أنّ المدار في قيمة القيمي التالف قيمة يوم الغصب والأخذ هو أنّ الظرف قيد للقيمة ، وذكر لذلك وجهين :

الأوّل : إضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا ، فيكون معنى الكلام بناء على

ص: 78


1- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب ان البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب (89) كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1 - 2.

هذا الاحتمال هكذا : قيمة بغل قيمة يوم المخالفة (1). وهو يوم الغصب والأخذ بدون إذن المالك ، فيكون صريحا فيما هو المقصود ، وهو أنّ المدار على قيمة يوم الأخذ في ضمان القيميّات.

ولكن الإشكال في أنّ الكلمة الواحدة في جملة واحدة تكون مضافة إلى شيئين في عرض واحد - كما هو مدعاه قدس سره على تقدير إمكانه ، - والإغماض عما استشكل عليه شيخنا الأستاذ قدس سره من الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في استعمال ولحاظ واحد - وهو محال (2) ليس معهودا في تراكيب الكلام والجمل العربيّة ، فمثل هذه الدعوى لا تقبل في استظهار مفاد الكلام العربي.

نعم الذي لا مانع منه هو تتابع الإضافات ، مثل ماء حوض ، دار فلان ومثل دأب قوم نوح الوارد في القرآن كريم ، ولكن هذا غير ما ذكره قدس سره .

الثاني : أن يكون الظرف قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل ، فيكون المعنى قيمة مختصّة بالبغل يوم المخالفة. وحيث أنّ كلمة « مختصّة » - الحاصلة من إضافة القيمة إلى البغل - شبه فعل ، فيجوز أن تكون عاملا في الظرف.

وعلى هذا التقدير أيضا يكون صريحا على أنّ المدار قيمة يوم الأخذ بدون إذن المالك ، لأنّ القيمة المختصّة بالبغل يوم المخالفة هي عين قيمة يوم الأخذ.

واستشكل شيخنا الأستاذ قدس سره على هذا الوجه أيضا بمثل الإشكال الأوّل ، وهو أنّ الاختصاص الحاصل من الإضافة معنى حرفي ، وملحوظ آلي ، فلا يمكن أن يرد عليه القيد (3) ، لأنّ المعاني الحرفيّة ليست قابلة للتقييد ، وذلك من جهة أنّ التقييد لا يمكن إلاّ مع ملاحظة القيد والمقيّد استقلاليّا ، فيلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي

ص: 79


1- « المكاسب » ص 110.
2- الشيخ الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 359 ، في مدرك القول بيوم الضمان.
3- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 359 ، في مدرك القول بيوم الضمان.

في لحاظ واحد.

ولكن الإنصاف أنّه يمكن أن يلاحظ ذلك الاختصاص الحاصل من الإضافة باللحاظ الآلي ، ثانيا بلحاظ آخر استقلالي. ونظائره كثيرة ، مثلا يقال : هذا عصاء زيد يوم سفره ، أو هذا عباؤه يوم الجمعة ، أي : عصائه المختص بيوم سفره ، أو عباؤه المختصّ بلبسها يوم الجمعة ، فليس التقييد بلحاظ ذلك اللحاظ الآلي في حال الإضافة ، بل بلحاظ آخر استقلالي بعد الإضافة.

نعم هنا وجهان آخران لاستفادة كون المدار على قيمة يوم الأخذ من هذه الفقرة :

أحدهما : كونها من تتابع الإضافات ، وهو أن تكون القيمة مضافة إلى بغل ، وبغل مضافا إلى يوم وسقوط اللام عن بغل بواسطة إضافته إلى يوم ، فيكون المعنى : قيمة بغل ذلك اليوم. وهذه عبارة أخرى عن قيمة ذلك اليوم ، أي يوم الغصب والأخذ بدون اذن المالك.

وذلك من جهة أنّ اختلاف البغل باختلاف الأيّام ، وإن كان من الممكن أن يكون باعتبار سمنه في يوم وهزاله في يوم آخر ، أو صحّته ومرضه كذلك ، ولكن في المورد ظاهر في أنّ تخصيص البغل بيوم المخالفة باعتبار قيمته في ذلك اليوم ، لأنّ مجموع الأيّام التي كان البغل تحت يده لا يتجاوز أيّام قليلة ، والبغل لا يختلف في تلك الأيّام القليلة من جهة السمن والهزال ، والصحّة والمرض ، فيكون ظاهر التخصيص بيوم المخالفة هو باعتبار قيمة ذلك اليوم. وبناء على هذا يكون الظرف قيدا للبغل.

الثاني : أن يكون الظرف قيدا ل- « نعم » ويكون متعلّقا ب- « يلزمك » المقدّر في جواب قول السائل والمستفهم ، أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ، فقوله علیه السلام :

« نعم » في جواب هذا الاستفهام تصديق وتقرير لما قال : أليس كان يلزمني ، فيصير المعنى : نعم يلزمك قيمة بغل يوم خالفته. وظاهر هذه العبارة وإن كان أنّ ضمانه

ص: 80

واشتغال عهدته في ذلك اليوم بقيمة بغل ، وأمّا قيمة يوم الغصب ، أو يوم التلف ، أو يوم الأداء ، أو أعلى القيم ، فكلّ ذلك ممكن ويصلح للجميع.

ولكن شيخنا الأستاذ قدس سره أفاد أنّ ضمان القيمة لو كان يوم المخالفة ، أي يوم الغصب يتعلّق بالعهدة ، وتشتغل الذمّة بها في ذلك اليوم (1) ، فلا يمكن أن تكون قيمة يوم المتأخّر عن يوم المخالفة ، وهو يوم التلف ، أو يوم الأداء.

وهذا الكلام وإن كان لا يخلو من تأمّل - بل وإشكال - ولكن يمكن أن يقال : إنّ معنى الضمان في ذلك اليوم - كما تقدّم - هو اشتغال ذمّته فيه بتلك العين التي وقعت تحت يده بدون إذن المالك ، أي اشتغال ذمّته بوجود العين في عالم الاعتبار ، وقلنا إنّ الوجود الخارجي لا يأتي في عالم الاعتبار ، فالذي يركب على العهدة هو الوجود الاعتباري لتلك العين المغصوبة ، أي الشارع أو العقلاء يعتبرون عليه وجود العين الخارجي بجهاتها الثلاث ، أي خصوصيّاتها الشخصيّة ، وصفاتها العارضية على النوع ، وماليّتها الموجودة في ذلك اليوم ، أي في يوم الضمان على الفرض وهو يوم الغصب. وهذا معنى اشتغال عهدته بقيمة يوم الغصب ، وقد تقدّم شرح ذلك تفصيلا.

فإذا تلفت العين وعدم المثل كما هو المفروض في تلف القيمي ، لا يبقى في العهدة إلاّ تلك الجهة الثالثة ، أي ماليّة تلك العين وقيمتها في يوم الغصب ، لأنّ العين بتلك الجهات الثلاث الموجودة في ذلك اليوم استقرّت في العهدة ، فتصير الصحيحة بناء على هذا الوجه موافقة في المضمون ، وبحسب مفادها مع قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

الموضع الثاني : قوله علیه السلام : « أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك ».

والظاهر من قوله علیه السلام « قيمة البغل حين اكترى » هو قيمة يوم الغصب ، إذ وقت

ص: 81


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 361 ، في الوجوه المحتملة من صحيحة أبي ولاّد.

الاكتراء لا ضمان قطعا.

ولكن حيث أنّ وقت الغصب ويومه هو نفس يوم الاكتراء في هذا المورد - لأنّه اكترى في الكوفة ، ووقع الغصب قرب قنطرة الكوفة حين ما سمع بتوجّه غريمه إلى النيل ، وهذا عادة يتّفق في نفس يوم الاكتراء بعد ساعة أو ساعات - عبّر عن يوم الغصب بيوم الاكتراء.

ولعلّ العدول عن يوم الغصب إلى عنوان « حين الاكتراء » لأجل أنّ تحصيل الشهود حين الاكتراء أسهل من حال الغصب ، وذلك من جهة أنّ حين الاكتراء غالبا محلّ اجتماع المكّارين العارفين بقيمة الدوابّ ، وأمّا حين الغصب وهو الواقع في أثناء الطريق لا طريق غالبا إلى تحصيل الشهود على معرفة قيمته في ذلك الوقت ، فبناء على هذا تكون هذه الفقرة صريحة في أنّ المدار في ضمان القيمي قيمة يوم الغصب والأخذ بدون إذن المالك.

وأمّا احتمال أن يكون المراد بهذه الفقرة ضمان عين المستأجرة مع عدم شرط الضمان الذي مخالف للقواعد ، فلا ينبغي صدوره عن فقيه ، مع كون هذه أحد شقّي الترديد في مطلب واحد ، وفي مورد واحد وهو ضمان البغل الذي وقع عليه التلف بعقر أو كسر أو دير بعد تصرّفه العدواني بدون إذن صاحبه.

ثمَّ إنّ ها هنا مناقشات فيما استظهرناه من الرواية يجب أن تذكر مع الجواب عنها :

منها : أنّ قوله علیه السلام « عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه » ظاهره أنّ المدار على قيمة يوم الأداء ، بناء على أن يكون هو المراد من « يوم تردّه عليه ».

وهذا بناء على أن يكون « يوم تردّه » قيدا للقيمة واضح ، وبناء على أن يكون متعلّقا ب- « عليك » يكون الظرف لغوا أو يكون العامل فيه من أفعال العموم ويكون الظرف مستقرا أيضا كذلك ، لأنّه بناء على الأوّل يكون المعنى : يلزمك القيمة يوم

ص: 82

تردّه ، ولا يمكن أن يأتي يوم الردّ على عهدته قيمة يوم آخر سابق عليه. وبناء على الثاني يكون المعنى : أنّ القيمة يثبت عليك يوم الردّ ، ويستقرّ على عهدتك ذلك اليوم.

والجواب : أنّ ظاهر هذا الكلام هو أنّ الظرف متعلّق ب- « عليك » ويكون المعنى :

يلزم عليك يوم تردّ البغل ، مثلا أن تعطى له قيمة تفاوت ما بين الصحّة والعيب ، وأمّا أنّ القيمة قيمة أيّ يوم فالرواية ساكتة عنه ، فلا يعارض ظهور هذه الفقرة ظهور الفقرات السابقة.

هذا ، مع أنّ هذه الفقرة في مقام بيان ضمان أرش العيب ، ولا دليل على لزوم اتّحاد زمان ضمان التلف مع زمان ضمان أرش العيب ، فيمكن أن يكون زمان ضمان التلف يوم الغصب ، وزمان ضمان أرش العيب يوم ردّ العين ، فتأمل.

ومنها : أنّه علیه السلام تارة جعل المالك منكرا ، لقوله علیه السلام : « إمّا أن يحلف هو فيلزمك » ، وأخرى جعله مدّعيا ، لقوله علیه السلام : « أو يأتي صاحب البغل بشهود » إلى آخره ، وذلك لوضوح أنّ الحلف ابتداء وظيفة المنكر ، والبيّنة وظيفة المدّعي ، وقد جمعها في الرواية للمالك ، فلا بدّ وأن يكونا في موردين كي لا يلزم هدم القاعدة المسلّمة المعروفة بين المسلمين ، وهي قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) ولا يمكن أن يكونا في موردين إلاّ أن يكون ضمان القيمي قيمة يوم التلف ، لا يوم المخالفة.

بيان ذلك : أنّه لو كان المدار على الأخير فدائما يكون المالك مدّعيا والغاصب منكرا ، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة براءة ذمّته عمّا يدّعيه المالك من الزيادة في يوم المخالفة.

وأمّا لو كان المدار على قيمة يوم التلف ، فيمكن أن يكون المالك مدّعيا ، وهو فيما

ص: 83


1- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب أنّ البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، 1 - 2.

إذا كان معترفا بعدم تفاوت قيمة يوم الغصب مع قيمة يوم التلف ، وإنّما يدّعي قيمة زائدة على ما يقبله الغاصب ، وأصل البراءة مع الغاصب ، وليس دليل حاكم من استصحاب أو أمارة في البين ، فيكون المالك مدّعيا والغاصب منكرا ، لمطابقة قوله لأصل البراءة.

ويمكن أن يكون المالك منكرا ، وذلك فيما إذا ادّعى الغاصب نقصان القيمة يوم التلف عمّا كان يوم الغصب مع اتّفاقهما في ذلك اليوم ، فالمالك منكر ، لمطابقة قوله مع الاستصحاب.

والجواب عن هذه المناقشة : أنّ كون المالك تارة منكرا وأخرى مدّعيا أيضا يمكن مع كون المدار على قيمة يوم المخالفة.

بيان ذلك : أنّه لو كانا متّفقين على قيمة قبل يوم المخالفة ، وادّعى الغاصب نقصانها يوم المخالفة عن تلك القيمة المتّفقة عليها ، فيكون الغاصب مدّعيا والمالك منكرا ، وهذا واضح جدّا.

ولا ينبغي ذكر أمثال هذه المناقشات ، فترك ذكر باقي ما ذكروه في هذا المقام أولى.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » وصحيحة أبي ولاّد (1) أنّ المدار في تعيين قيمة القيمي هو قيمة يوم الأخذ بدون إذن المالك ، لا يوم التلف ، ولا يوم الأداء ولا أعلى القيم بكلتا صورتيه ، فلا حاجة إلى ذكر مدارك تلك الأقوال والمناقشة فيها.

[ الأمر ] الرابع : فيما إذا كانت العين باقية ولم يطرأ عليها التلف ، ولكن يتعذّر أو يتعسر إيصالها إلى المالك ، فهل على الغاصب أو من بحكمه إعطاء بدل الحيلولة بين المالك وماله ، أم لا؟

ص: 84


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 313 ، أبواب الغصب ، باب 7 ، ح 1.

الظاهر هو الأوّل.

بيان ذلك : أنّهم وإن ذكروا للقول الأوّل أدلّة متعدّدة من التمسّك بقاعدة لا ضرر تارة ، وفوت سلطنة المالك أخرى ، وكون الغاصب حائلا بين المال ومالكه ثالثة وغيرها ، ولكن لا يخفى على الناقد البصير عدم صحّة تلك الأدلّة كلّها ، فلا وجه لذكرها والردّ عليها ، فإنّه تطويل بلا طائل.

فلنذكر ما هو العمدة في المقام ، وهو أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » - كما بيّنّا فيما تقدّم - يدلّ على ما هو المتفاهم العرفي منه ، على أنّ العين المأخوذة بدون إذن المالك ورضاه ثابتة ومستقرّة في عالم الاعتبار التشريعي على عهدة المالك بجميع خصوصيّاتها الشخصيّة ، وعوارضها النوعيّة وصفاتها وماليّتها ، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء أيضا ، فإنّ لكلّ عين متموّلة خارجيّة لها وجود اعتباري عندهم على عهدة من غصبها.

وإن شئت قلت : إنّ ما يقع تحت اليد غير المأذونة بوجوده الخارجي من الأموال يستقرّ بوجوده الاعتباري - أي في عالم الاعتبار - فوق اليد ، أي على عهدة الغاصب ، وما يعبّرون عنه بالعهدة أو بالذمّة ليس إلاّ اعتبار من طرف العقلاء ، أو من طرف الشارع ، أو من كليهما. فإذا كان الأمر كذلك فيجب تكليفا ووضعا ردّ الجهات الثلاث مع الإمكان ، وعند تلف العين يجب ردّ الجهتين الأخريين ، كما ذكرنا مفصّلا.

وأمّا إن كانت العين باقية ، ولكنّ تعذّر أو تعسّر ردّها ، فحيث يسقط التكليف بردّ نفس العين للتعذّر أو التعسّر ، فيدور الأمر بين أن يسقط عن ردّ جميع الجهات الثلاث ، أو يبقى بالنسبة إلى الجهتين الباقيتين إن كان مثليّا ، والجهة الواحدة الباقية إن كان قيميّا.

ولا وجه للأوّل ، لأنّه بلا دليل ، بل الدليل على عدمه ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » الذي قلنا إنّه يدلّ على استقرار الجهات الثلاث في العهدة ،

ص: 85

وبارتفاع أحدها - وهي الخصوصيّات الشخصيّة للتعذّر أو التعسّر - لا يرتفع الأخريان ، فيجب عليه إعطاء المثل إن كان مثليّا ، والقيمة إن كان قيميّا.

ولكن هذا المثل أو القيمة ليس بدلا واقعيّا للعين المغصوبة ، لأنّ ملكيّته للعين باقية ، فيلزم الجمع بين البدل والمبدل. وهذا غير معقول ، لأنّ المراد من البدل في باب المعاوضات هو أن يكون عوضا عمّا يخرج عن ملكه ، فمع فرض عدم خروجه كما في المقام فكونه بدلا واقعيّا محال ، ولذلك قالوا إنّه بدل الحيلولة بين المالك وملكه.

نعم يقع الكلام في أنّه هل هذا البدل يصير ملكا للمغصوب منه دائما وأبدا ، أو ما دام لم يصل ماله إليه ، أو يكون مالكا لانتفاعاته إلى زمن إرجاع ماله إليه؟ احتمالات ، سنتكلم فيها إن شاء اللّه تعالى.

وحاصل الكلام : أنّ التعذّر وعدم إمكان الردّ تارة يكون لمدّة قصيرة ، فمثل هذا لا يسقط التكليف بردّ العين ، ولا يوجب إعطاء بدل الحيلولة. وأمّا لو كان لمدّة طويلة فمع اليأس عن الوصول إليه عادة ، كما إذا وقع في قاع البحر فهو في حكم التلف ، ويجب على الغاصب إعطاء بدل الواقعي. نعم إذا ارتفع التعذّر من باب الاتّفاق ، وردّ الغاصب ذلك المال إلى مالكه يأتي البحث الآتي في بدل الحيلولة في وجوب ردّ البدل إلى الغاصب أم لا. وسنتكلّم فيه إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا مع عدم اليأس بل رجاء ارتفاع التعذّر أو التعسّر ، فهذا هو مورد البحث عن بدل الحيلولة. وقد عرفت أنّ ذمّته مشغولة ولا تبرأ بصرف تعذّر أداء الخصوصيّة الشخصيّة ، بل يجب على الغاصب أداء مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا ، ولكن لا بعنوان كونه بدلا واقعيّا ، بل بعنوان كونه بدل الحيلولة بين المال ومالكه.

ثمَّ انّ ها هنا أمور يجب التنبيه عليها

الأوّل : هو أنّ المدار في التعذّر بناء على ما بيّنّا في معناه ، هو أن يكون موجبا

ص: 86

لسقوط التكليف بأداء العين ، ولذلك قلنا أنّ أداء العين تعذّر أو تعسّر ، لأنّ التعسّر أيضا قد يكون موجبا لسقوط التكليف ، وذلك من جهة ما بيّنّا أنّ المناط في وجوب إعطاء بدل الحيلولة هو سقوط الجهة الأولى من الجهات الثلاث للتعذّر أو التعسّر ، وبقاء الجهتين الأخريين مع بقاء العين وعدم تلفها ، لا حقيقة ولا حكما.

وذلك من جهة أنّه مع التلف الحقيقي أو الحكمي يكون البدل بدلا واقعيّا ، لا بدل الحيلولة كما هو واضح.

ولا فرق في ثبوت بدل الحيلولة بين أن تكون العين مرجو الحصول ، أو كان مأيوس الحصول.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ في صورة اليأس تكون بحكم التلف ، فيكون البدل بدلا واقعيّا ، ويخرج عن موضوع بدل الحيلولة.

الثاني : أنّ بدل الحيلولة هل يصير ملكا لمالك العين ، أو يكون تصرّفه فيه مباحا فقط بدون حصول الملكيّة؟

والظاهر بناء على ما استظهرنا من الحديث الشريف - من استقرار العين وثبوتها على العهدة بوجودها الاعتباري بجميع جهاتها الثلاث - هو أن يكون البدل ملكا لمالك العين ، لأنّه أداء العين بعد سقوط التكليف.

ولكن يرد ها هنا إشكال ، وهو الجمع بين العوض والمعوّض للمالك إن قلنا ببقاء ملكيّة العين له ، كما هو كذلك ظاهرا.

ولا يمكن الخروج عن هذا الإشكال إلاّ بالقول بأنّها بإعطاء البدل تصير ملكا للضامن.

وهو كما ترى وإن قال به بعض ، مضافا إلى أنّ الالتزام بهذا يوجب خروج البدل عن كونه بدل الحيلولة ، وصيرورته بدلا واقعيّا وهو خلاف الفرض.

ص: 87

ولكن يمكن أن يقال : إنّ إعطاء الضامن للمثل أو القيمة كلّ واحد في محلّه إن كان بعنوان المعاوضة وكونه بدلا عن المال الذي حيل بينه وبين المالك - كما توهّم - فيرد هذا الإشكال ، ولا مخرج عنه إلاّ ما قلنا.

وأمّا إن كان بعنوان الغرامة وتدارك خسارة التي أوردها على المالك كما هو المستفاد من ظاهر لفظ « بدل الحيلولة » فلا يرد هذا الإشكال أصلا.

إن قلت : إنّ تدارك الخسارة لا يقتضي ولا يوجب كون هذا البدل ملكا للمالك ، لأنّ تدارك خسارته يمكن بدون أن يصير ملكا له ، بل يحصل بجواز جميع التصرّفات له حتّى المتوقّفة على الملك وإن لم يكن ملكا.

قلنا : أوّلا : أنّ جواز جميع التصرّفات - حتّى المتوقّفة على الملك - ملازم عرفا للملكيّة ، ولا يمكن انفكاكهما في عالم الاعتبار.

وثانيا : بناء على ما استظهرنا من معنى الحديث إعطاء الضامن للمثل أو القيمة يكون بعنوان أداء ما في ذمّته من مال الغير ثبت واستقرّ على عهدته ، فلا يمكن أن لا يكون ملكا للمالك.

الثالث : أنّ ملكيّة المالك للبدل - بناء على ما اخترناه من القول بالملكيّة - هل هي ملكيّة دائمة أو ما دام بقاء تعذّر الردّ أو إلى أن يردّ؟ احتمالات ، والأظهر أنّها ملكيّة موقّتة ، وذلك من جهة أنّ تدارك الخسارة أو غرامتها لا يصدق إلاّ على مقدار ما خسر وفات ، وأمّا الزائد على ذلك المقدار فإن كان فيكون من قبيل الهبة وبدون مقابل.

وفيما نحن فيه لم يخسر العين ، لأنّها موجودة وتردّ عليه ، وما هو الفائت ليس إلاّ مقدار خروجه عن تحت سلطانه ، وهو زمان موقّت معيّن ، وحصل تداركه بإعطائه البدل في ذلك الزمان وكون ذلك البدل تحت سلطانه في ذلك المقدار من الزمان. فإذا كان في تلك المدّة مثل ماله تحت سيطرته وسلطانه ، فعند العرف كأنّه لم يخسر ،

ص: 88

ويصدق عليه أنّه حصل تداركه وغرم له ، فلا وجه لبقاء ملكيّته بعد أخذ غرامته وتدارك خسارته.

نعم لو كانت ملكيّته إلى الأبد ودائما مقابل تلك القطعة الفائتة - من كون ماله تحت سيطرته - فلا يرجع إلى الضامن أبدا ، ويصير ملكا دائميّا للمالك. ولكن هذا لا دليل عليه ، بل الدليل عن عدمه ، لأنّه إجحاف وتعدّ على الضامن بلا سبب يوجبه.

ثمَّ إنّه لا أثر لارتفاع التعذّر في ارتفاع ملكيّة المالك للبدل ، لأنّه ما لم يصل ملكه إليه ولم يقع تحت سلطانه ، خسارته لا ترتفع ، ويكون حاله حال التعذّر ، فالمناط كلّ المناط هو عود سلطنته على ماله ، وإلاّ ما لم يعدّ فالحيلولة بينه وبين ماله موجودة ، وتداركها بكون البدل عنده وتحت سلطانه.

ثمَّ إنّه ربما احتمل بعض القائلين بكون بدل الحيلولة ملكا دائميّا للمالك بأنّ العين المغصوبة تصير ملكا للغاصب الضامن بعد إعطائه للغرامة.

ولكن أنت خبير بأنّ صحّة هذا الكلام منوطة بأن يكون البدل بدلا واقعيّا ، ويكون إعطاء البدل من باب المعاوضة بين هذا البدل والعين المأخوذة بدون إذن المالك ، وهذا شي ء لا يمكن الالتزام به.

لأنّ المعاوضة إمّا مالكيّة يحتاج إلى قصدهما المعاوضة ، ومعلوم أنّه لم يتحقّق قصد المعاوضة بين المالك والغاصب. وإمّا شرعيّة تقع قهرا ، وذلك يحتاج إلى دليل ، وليس في المقام شي ء يدلّ على أنّ الشارع حكم بوقوع المعاوضة بين ما يعطى الضامن بعنوان بدل الحيلولة ، وغرامة خسارة المالك من فوت سلطانه على ماله.

وما ذكرناه هو السبب لعدم صيرورة العين المغصوبة ملكا لمعطي البدل ، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أنّ الغرامات كلّها من باب واحد (1). فلو كانت الغرامة بإعطاء بدل الحيلولة سببا لصيرورة العين المغصوبة ملكا للضامن الغاصب ، فلا بدّ وأن

ص: 89


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 381 ، في بدل الحيلولة.

يكون الأمر في باب التلف الحقيقي والحكمي أيضا كذلك ، بل لا بدّ وأن نقول بحصول الملكيّة له بنفس التعذّر ، لأنّ إعطاء البدل بيّنّا أنّه ليس بعنوان المعاوضة ، فليست الملكيّة مربوطة بإعطاء البدل ، بل يخرج عن ملك مالكه بمحض التعذّر ولو قبل إعطاء البدل ، ولازم ذلك أن تكون منافع العين المغصوبة ملكا للغاصب قبل إعطاء البدل ، ولا أظنّ أنّ أحدا يلتزم به.

وذلك من جهة أنّه أوّلا يمكن أن يقال بأنّ حصول الملكيّة للغاصب بعد إعطاء البدل وإن لم يكن إعطاؤه بعنوان المعاوضة.

وثانيا أنّ ملكيّة منافع العين ليست بأعظم من ملكيّة نفسها ، فمن يقول بملكيّة نفس العين بصرف حدوث التعذّر وليست متوقّفة على إعطاء البدل ، يلتزم بها في المنافع بطريق أولى.

وأمّا قوله قدس سره بأنّ الغرامات من باب واحد ، فلو كانت الغرامة أو نفس التعذّر في مورد بدل الحيلولة موجبة لملكيّة العين المغصوبة فلا بدّ وأن يكون في مورد التلف الحقيقي أو الحكمي أيضا كذلك.

ففيه : أنّ التلف سبب للغرامة ، والغرامة سبب للملكيّة ، فيلزم أن يصير الشي ء بعد تلفه وانعدامه ملكا للغاصب ، واعتبار ملكيّة الشي ء بعد انعدامه باطل ، ويكون من قبيل اعتبار الحكم بعد انعدام موضوعه ، فالقياس في غير محلّه.

إن قلت : يمكن تقدير ملكيّته آنا مّا قبل التلف ، كما يقدرون في مسألة التلف قبل قبض المشتري لكي لا يلزم هذا المحذور.

قلنا : إنّ في باب التلف قبل القبض حيث جاء الدليل على أنّ التلف من مال البائع مع أن المبيع انتقل إلى المشتري بعد العقد ، فلا بدّ من الالتزام بالتقدير آنا مّا. وأمّا فيما نحن فيه فلا ملزم لهذا التقدير ، بل القول بملكيّة الغاصب للعين المغصوبة ، خصوصا قبل إعطاء الغرامة وبعد التلف في نظر العرف أمر من الغرائب.

ص: 90

فالحقّ في المقام هو بقاء العين في ملك مالكه حتّى بعد الغرامة ، وليس جمعا بين العوض والمعوّض في بعض الصور ، لأنّ إعطاء البدل ليس من باب المعاوضة ، بل يكون من باب الغرامة كما عرفت.

ثمَّ إنّه من فروع عدم كون إعطاء البدل من باب المعاوضة القهريّة أنّه لو خرج المال المغصوب عن الماليّة في يد الغاصب إمّا شرعا أو عرفا ، كما إذا صار الخلّ المغصوب خمرا ، أو بقي الجمد المغصوب صيفا إلى الشتاء عند الغاصب ، فلا شك في أنّ الغاصب يغرم بالبدل. فلو قلنا بأنّ إعطاء البدل يكون من باب المعاوضة القهريّة ، فحقّ الاختصاص في ذلك الخمر أو في ذلك الجمد لا يبقى للمالك بعد إعطاء البدل لخروجه عن ملكه بالإعطاء ، بل يكون للغاصب. فلو صار ذلك الخمر ثانيا خلا ، أو بقي ذلك الجمد إلى الصيف الآتي يكونان ملكا للغاصب بمقتضى تلك المعاوضة القهرية.

وأمّا إن قلنا بأنّه ليس من باب المعاوضة القهريّة ، بل يكون من باب الغرامة لما فات من كيس المالك من ماليّة ماله ، فيكون حقّ الاختصاص للمالك.

لا يقال : إنّ التلف وما في حكمه يخرج المال عن ملك مالكه ، لعدم صحّة اعتبار الملكيّة في التالف والمعدوم أو ما كان بحكمها ، فحال المالك حال سائر الأجانب عن ذلك المال. بل يمكن أن يقال بأنّه للغاصب ، لكونه في يده ، وبعد التلف ليس يده يدا عادية كي لا يترتّب عليها آثار اليد.

لأنّ زوال الملكيّة لا ينافي بقاء حقّ الاختصاص ، لأنّه مرتبة ضعيفة من الملكيّة ، وذهاب المرتبة القويّة لا يلازم عدم بقاء المرتبة الضعيفة أيضا.

ولو حصل الشكّ في بقائها يكون مجرى للاستصحاب ، ويكون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، فمع مساعدة العرف في وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة يجري الاستصحاب.

ص: 91

فرع آخر :

وهو أنّه لو توضّأ بماء الغير بدون إذن مالكه جهلا بكونه غصبا ، وبناء على صحّة الوضوء بالماء المغصوب جهلا بالموضوع ، فلو علم بالغصبيّة بعد تمام الغسلتين ووصول النوبة إلى المسح ، فذلك الماء حيث صار تالفا بسبب التوضّي به - وفرضنا أنّ المتوضّي أعطى البدل ، فعلى تقدير كونه من باب المعاوضة القهريّة - يجوز له أن يمسح ببلّة ذلك الوضوء حتّى مع منع المالك ، لأنّه خرج عن ملكه بإعطاء البدل ، فهو أجنبيّ عن هذه البلّة.

وأمّا إن لم يكن من باب المعاوضة القهريّة ، بل كان صرف غرامة - كما رجّحنا - فحقّ الاختصاص باق للمالك ، فبدون إذنه لا يجوز له أن يمسح بتلك البلّة إلاّ بناء على ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من إنكار كون تلك البلّة ممّا تقبل حقّ الاختصاص أيضا ، لعدم الانتفاع بها إلاّ بالنسبة إلى من هي في يده. (1)

وهذا كلام عجيب.

الرابع : هل للغاصب إلزام المالك بأخذ البدل ، وإن امتنع يرفع أمره إلى الحاكم ، أو لا؟

الظاهر أنّه بناء على ما ذكرنا في معنى الحديث الشريف من أنّه يدلّ على اشتغال ذمّة الضامن بالجهات الثلاث التي في العين ، فكلّ واحد من المالك والغاصب إلزام الآخر بدفع البدل.

أمّا المالك فواضح ، لأنّ له في ذمّته الجهات الثلاث ، فبعد تعذّر إحدى الجهات وهي الخصوصيّة الشخصيّة ، فله المطالبة بالجهتين الباقيتين وإلزام الغاصب بدفعهما ، ويجوز له أن لا يطالب بحقّه ، فإنّ هذا حقّ له لا عليه.

ص: 92


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 393 ، في بدل الحيلولة.

وأمّا الغاصب فله أيضا المطالبة بتفريغ ذمّته عن ذلك الثقل الذي عليه ، أي عن الجهتين الباقيتين في ذمّته ولا ينافي ذلك بقاء الخصوصيّات الشخصيّة في ملك المالك ، لأنّه حين ما تمكّن من ردّها برفع التعذّر وجب ردّها ، فلا يفوت من المالك شي ء.

هذا ، مضافا إلى أنّ حال هذا الضمان حال سائر الضمانات ، فكما أنّ في سائر الضمانات للضامن مطالبة المضمون له بتفريغ ذمّته - ففي الدين الذي حلّ أجله للمديون إلزام الدائن بالأخذ ، وإن لم يقبل يرفع أمره إلى الحاكم - فكذلك في المقام.

واعتذار المالك بأنّه لا يريد إلاّ جميع جهات ماله من الخصوصيّات الشخصيّة ، والجهتين الأخريين ، لا يقبل منه ، لأنّ تلك الجهة المتعذّرة فعلا ليست مكلّفة بالأداء لعجز الضامن ، والمفروض أنّ تلك الجهة لا تذهب من البين بالمرّة في التعذر الموقت ، غاية الأمر يتأخّر أداؤها.

وهذا يشبه أن يكون المغصوب شيئين ، فتعذّر ردّ أحدهما موقّتا وأمكن ردّ الآخر ، فامتنع المالك من قبول الموجود ويعتذر لامتناعه بأنّي أريد الاثنين.

وصرف أنّهما موجودان بوجودين ، والجهات الثلاث موجودة بوجود واحد ، لا يوجب فرقا فيما هو محلّ الكلام.

فما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من الاستدلال لما اختاره (1) - تبعا لشيخنا الأعظم قدس سره من عدم حقّ للضامن بإلزام المالك بأخذ البدل (2) ، بأنّ الخصوصيّات الشخصيّة وإن سقط التكليف عنها بالأداء للتعذّر ، ولكن لم يسقط ضمان الخصوصيّات الشخصيّة وضعا.

غير خال عن الخلل ، لما ذكرنا أنّ بقاء الخصوصيّات الشخصيّة بوجودها الاعتباري في ذمّة الضامن لا ينافي مع حقّ الضامن بتفريغ ذمّته عن المقدار الممكن

ص: 93


1- النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 390 ، في بدل الحيلولة.
2- « المكاسب » ص 106 - 107.

غير المتعذّر أدائه.

الخامس : أنّه حيث رجّحنا - بل اخترنا - أنّ بدل الحيلولة ليس من باب المعاوضة القهريّة ، بل يكون من باب الغرامة ، فالعين المغصوبة بجميع جهاتها باقية على ملك المالك ، فجميع منافعها المتّصلة والمنفصلة بعد البدل تكون للمالك ، كما كانت له قبل البدل ، إذ لم تتغيّر حال العين عمّا هي عليه قبل إعطاء البدل وبعده ، وهذا واضح جدّا.

السادس : أنّه بناء على ما اخترنا في بدل الحيلولة من أنّ الضمان فيه من باب الغرامة لا من باب المعاوضة القهريّة ، فحيث أنّ العين المغصوبة تبقى في ملك المالك ولا تخرج عنه ، فإذا ارتفع التعذّر يجب ردّها إلى المالك.

وأمّا بناء على المعاوضة فهل يجب أيضا ردّها ، لأنّ موضوع المعاوضة هو التعذّر ، فإذا ارتفع التعذّر فلا يبقى موضوع للمعاوضة ، فيدور المعاوضة مدار التعذّر ، فبعد ارتفاع التعذّر يرجع كلّ مال إلى صاحبه الأوّل ، فيكون ارتفاع التعذّر من قبيل فسخ المعاوضة ، أو لا ، لأنّه بعد حصول المعاوضة وصيرورة البدل ملكا للمالك والعين المغصوبة ملكا للضامن الغاصب ، فخروج كلّ واحد من البدل والعين من ملك مالكه يحتاج إلى دليل؟

نعم لو كانت المعاوضة من أوّل الأمر موقّتة إلى زمان ارتفاع العذر ، كان لهذا الكلام وجه صحيح تامّ ، لكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ الملكيّة الموقّتة في باب المعاوضات في الأعيان أوّلا غير معهودة في الشرع ، وثانيا أنّ التعذّر ليس موضوعا للمعاوضة كي تكون دائرة مداره ، بل موضوع المعاوضة هو البدل والعين ، فإنّ المعاوضة القهريّة - إن قلنا بها - تقع بحكم الشارع بين المالين ، والتعذّر علّة وواسطة في الثبوت ، لا في العروض ، بالنسبة إلى حكم الشارع بالمعاوضة القهريّة.

ولكن بعد حكم الشارع بهذه المعاوضة بعلّة التعذّر وصيرورة البدل ملكا للمالك

ص: 94

والعين ملكا للضامن الغاصب ، فارتفاع التعذّر لا تأثير له في ارتفاع هذه المعاوضة ، فإذا ارتفع التعذّر لا يجب ردّ العين بناء على المعاوضة ، خلافا لشيخنا الأستاذ قدس سره حيث قال بوجوب ردّ العين بعد ارتفاع التعذّر حتّى على مبنى المعاوضة. (1)

السابع : هل تعذّر الردّ بواسطة أنّه موجب لتلف مال محترم أو نفس محترمة - كالخيط الذي خيط به ثوب ، أو جرح حيوان أو إنسان - في حكم التعذّر العقلي والعرفي أم لا؟ وكذلك الكلام فيما تعذّر ردّه بواسطة الخلط أو المزج؟

فنقول : أمّا مسألة الخيط المذكور وما يشبهه - ممّا يؤدّي ردّه إلى تلف حيوان أو مال محترم - فإن كان يؤدّي إلى تلف حيوان محترم ، فلا يجوز للمالك مطالبته قطعا ، لعدم جواز إتلاف الحيوان المحترم ، سواء أكان إنسانا أو غير إنسان ، فيكون كالتعذّر العقلي ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

وإن كان يؤدّي إلى تلف مال آخر ، كالثوب مثلا ، أو الخشب الذي استعمل في البناء ، أو اللوح في السفينة الموجودة في الساحل فارغة عن الراكب وأمثال ذلك ، فإن كان ذلك المال الذي يتلف بردّ العين المغصوبة لنفس الغاصب ، فقد يقال بوجوب ردّه ، لعدم احترام ماله ، لأنّه بنفسه هتك احترام ماله ، وأوجد سبب إتلافه ، وأضرّ بنفسه.

ولكن الإنصاف : أنّ الالتزام بهذا مشكل ويأباه الذوق الفقهي ، خصوصا إذا كان موجبا لضرر مالي عظيم ، كما إذا كان المغصوب خشبة وضعها الغاصب في أساس بنائه ، بحيث يكون ردّها موجبا لهدم ذلك البنيان العظيم.

فالأولى أن يقال بأنّه في حكم التلف إن كان التعذّر دائميّا ، ومورد بدل الحيلولة إن كان موقّتا ، كما هو كذلك في بعض صور المسألة.

وأمّا إن كان ذلك المال لغير الغاصب ، فلا شكّ في أنّه لا يجوز إتلافه ، فيكون بحكم التالف بلا كلام ، وعلى الغاصب ردّ مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا إن

ص: 95


1- الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 386 ، في بدل الحيلولة.

كان التعذّر دائميّا ، وإن كان موقّتا فعليه بدل الحيلولة.

وأمّا إن كان تعذّر ردّه من جهة الخلط أو المزج مع مال آخر من الغاصب أو من غيره ، فإن كان الخلط أو المزج مع غير جنسه ، فإمّا أن يستهلك المغصوب في الآخر ، فهذا في حكم التلف وعلى الغاصب دفع مثله في المثلي وقيمته في القيمي ، ولا فرق بين أن يكون استهلاكا حقيقيّا أو عرفيّا ، وذلك كما إذا غصب ملح شخص وصار ممزوجا مع عجين شخص آخر من غير اختيار أحد.

ولا شكّ في أنّ هذا المورد لا يمكن ردّ الملح ، فيدور الأمر بين أن يقال بتلف الملح ، فيكون كما ذكرنا من وجوب دفع المثل أو القيمة على الغاصب ، أو يقال بشركة مالك الملح مع مالك العجين بنسبة قيمة ماليهما.

وإمّا أن لا يستهلك ، فلا محاله تحصل الشركة.

وحيث أنّ الاستهلاك لا يمكن إلاّ في الجنسين المختلفين ، لأنّ الاستهلاك عبارة عن صيرورة المستهلك من جنس المستهلك فيه بواسطة المزج معه بعد ما لم يكن كذلك ، وأمّا لو كان الممزوجان من جنس واحد فلا يمكن هذا المعنى ، فلو وقعت قطرة ماء في البحر لا تصير مستهلكا فيه ، لأنّها بصورتها النوعيّة موجودة فيه.

والاستهلاك لا يمكن إلاّ بتبدّل صورته النوعيّة حقيقة أو عرفا إلى صورة المستهلك فيه ، فلو امتزج المغصوب مع ما هو من جنسه ، سواء أكان من غير اختيار أحد أو كان بفعل الغاصب أو بفعل شخص ، وسواء أكان المزج بحقّ أو بغير حقّ كمزج الغاصب ، وسواء أكان مع مال الغاصب أو مع مال غيره ، ففي جميع هذه الصور تحصل الشركة القهريّة بين المالكين ، فيكون مالك المغصوب شريكا مع ذلك الآخر بنسبة ماليهما إذا كان المالان متساويين في الجودة والرداءة.

وأمّا إذا كان أحدهما أجود فإن كان المزج من غير اختيار أحد ، أو كان باختيار من له الحقّ كما في مورد غير الغصب ، فلا بدّ وأن تكون الشركة بنسبة قيمة المالين في

ص: 96

قيمة مجموع الممتزجين ، لا في نفس الممتزجين كي لا يلزم الرباء.

وإن كان المزج بفعل الغاصب وكان مع ماله ، فإن كان الغاصب هو الأردء فتحصل الشركة في العين بنسبة مقدار ماليهما كي لا يلزم الرباء ، ولكن على الغاصب تفاوت القيمة التي حصلت في المغصوب.

وأمّا إن كان مال الغاصب هو الأجود ، فأيضا تكون الشركة بنسبة مقدار المالين كي لا يلزم الرباء ، فالزيادة التي حصلت في قيمة مال المغصوب رزق رزقه اللّه ، كما أنّ النقصان التي حصلت في قيمة مال الغاصب لا يضمنه أحد ، لأنّه بفعل نفسه.

وأمّا إن كان مع مال الغير ، فإن كان المغصوب أجود فالزيادة التي حصلت في مال ذلك الغير رزق رزقه اللّه ، والنقصان الذي حصل في المغصوب يضمنه الغاصب ، لأنّه بفعله. وأمّا الشركة في العين فبنسبة مقدار المالين على أيّ حال كي لا يلزم الرباء.

وأمّا لو كان المالان متساويين وكانا من جنس واحد - كما هو المفروض - ففي جميع صور المسألة تكون الشركة بنسبة مقدار المالين ، سواء أكان الخلط والمزج بفعل الغاصب أو بفعل غيره ، أو كان من باب الاتفاق ولم يكن بفعل أحد ، لا أحد المالكين ولا غيرهما.

الثامن : كلّ ما ذكرنا فيما تقدّم كان راجعا إلى المغصوب أو المقبوض بدون إذن المالك تحت يد واحدة. وأمّا لو تعاقبت الأيدي الغاصبة - أو غير المأذونة على مال الغير - فلا شكّ في أنّ كل واحدة من تلك الأيدي تضمن المال الذي وقع تحت سيطرتها ، وللمالك أن يرجع إلى أيّة واحدة منها إذا شاء ، وإذا رجع إلى اليد السابقة وأخذ منها فلها أن ترجع إلى اللاحقة من تلك الأيدي.

أمّا الأوّل - أي : ضمان كلّ واحدة من الأيدي المتعاقبة على ذلك المال الواحد - فلهذه القاعدة ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

فمفاد هذا الحديث الشريف جعل الضمان لكلّ يد عادية بطور القضيّة الحقيقيّة ،

ص: 97

فكما أنّ الحديث الشريف يشمل وقوع الأيدي المتعدّدة على الأموال المتعدّدة ، كذلك يشمل الأيدي المتعدّدة إن وقعت على مال واحد.

وذلك من جهة أنّ المناط في تعدّد الضمان تعدّد اليد ، إذ هو موضوع الحكم بالضمان على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فتنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعها الذي هي اليد ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ، ولا دخل في تعدّد ما تقع عليه اليد في الحكم بالضمان ، فإذا صارت الأيدي كلّ واحدة منها موضوعا مستقلاّ للضمان ، فمن آثار ذلك ، جواز رجوع المالك إلى كلّ واحدة منها.

نعم إذا رجع إلى إحديهنّ وأخذ منها المثل أو القيمة - في صورة تلف المغصوب - فليس له الرجوع إلى غيره من الأيدي ، لأنّه لم يكن له إلاّ مال واحد وقد قبضه.

نعم المقبوض منه إن لم يكن هو الذي صار عنده التلف واستقرّ عليه ، فله أن يرجع إلى كلّ واحدة من الأيدي اللاحقة لو لم يكن غارّا لها. وسيظهر وجهه إن شاء اللّه تعالى.

نعم ها هنا إشكال : وهو أنّ المال الواحد كيف يمكن أن يكون مضمونا بضمانات متعدّدة في عرض واحد؟ فإنّ تدارك المال الواحد من شخصين مستقلاّ ، بمعنى أن يكون على كلّ واحد منهما ردّ تمام هذا المال بتمامه غير ممكن ، فكما أنّ وجود شخص مال واحد في الخارج بتمامه عند شخص ، وكذلك بتمامه عند شخص آخر في نفس ذلك الزمان لا يمكن - وإلاّ يلزم أن يكون الواحد اثنين وهو محال - فكذلك وجوده في عهدة اثنين في عالم الاعتبار - بحيث يكون تفريغ ما في ذمّته يصدق عليه أنّه أداؤه - لا يمكن ، لأنّه لا يعقل أن يكون للشي ء الواحد أداءين في عرض واحد لما قلنا أنّه مستلزم لأن يكون الواحد اثنين ، وهو محال.

وقد صحّحه صاحب الكفاية قدس سره في حاشيته على مكاسب شيخنا الأعظم قدس سره

ص: 98

بإمكانه بنحو الواجب الكفائي (1) ، بأن يكون كلّ واحد من الشخصين مكلّفا بالأداء في ظرف عدم أداء الآخر ، فليس تكليف بأداءين كي يكن ممتنعا ، بل امتثال مثل هذا التكليف لا يقتضي إلاّ أداء واحدا ، فلا يمتنع أن يكون كلّ واحد منهما ضامنا في زمان واحد ، وفي عرض ضمان الآخر ، بأن يكون عليه وجوب تدارك المال التالف وأدائه في ظرف عدم تدارك الآخر وأدائه.

ولكن أنت خبير بأنّه ليس حكما تكليفيّا ، ويكون عبارة عن وجوب أداء التالف كي يصحّح ضمان شخصين ، كلّ واحد منهما لتمام مال واحد وفي عرض الآخر في ظرف عدم أداء الآخر ، بل هو حكم وضعي وعبارة عن وجود ذلك المال الخارجي في عهدة شخص ، ولا يرتفع عن عهدته.

وحيث أنّ أداءين لا يمكن كما بيّنّا ، فلو كان في عهدة شخصين وفرضنا أنّ أحدهما أدّاه ، فلا يرتفع عن عهدة الآخر إلى قيام يوم القيمة ، لأنّ أداءه ثانيا غير ممكن ، فقياس المقام بالواجب الكفائي ليس في محلّه ، كما فرضه قدس سره .

فظهر : أنّ المال الواحد بتمامه لا يمكن أن يكون في عهدة شخصين ، فلو دلّ الدليل في مورد على ضمان شخصين لمال واحد لا بدّ وأن يحمل على اشتراكهما في ضمان واحد ، بمعنى أنّ قيمة ذلك الواحد أو مثله في عهدة الشخصين بالشراكة ، فيجب على الاثنين بنحو الشركة أداء مثله أو قيمته.

فلو ضمن شخصان في زمان واحد كلّ واحد منهما تمام دين مديون ، فلا بدّ بناء على القول بصحّة مثل هذا الضمان من الالتزام بأنّ لكلاهما بنحو الاشتراك ضمان واحد ، لما ذكرنا من امتناع كون المال الواحد في عهدة شخصين ، بحيث أن يكون على كلّ واحد منهما أداء تمام المال في عرض واحد ، بل لا بدّ من أحد الأمرين : إمّا الطوليّة أو الاشتراك.

ص: 99


1- آخوند الخراساني في « حاشية كتاب المكاسب » ص 83.

والمراد من الطوليّة أن يكون اللاحق ضامنا لما يؤدّى السابق ، فالمالك له الرجوع إلى أيّ واحد من العادين. فإذا رجع إلى بعضهم فليس لذلك البعض الرجوع إلى السابق ، لأنّ السابق ليس ضامنا لذلك البعض اللاحق له. نعم له أن يرجع إلى لاحقه بناء على أنّ اللاحق يضمن لما يؤدّى اليد السابقة.

وأمّا وجه جواز رجوع المالك إلى كلّ واحد من الأيدي المتعاقبة - مع ما عرفت أنّ ضمان الجميع عرضا - أي كلّ واحد منهم يكون ضامنا لتمام ذلك المال الواحد - محال ، هو أنّ كلّ واحدة منها ضامن ، ولكن طولا لا عرضا.

بيان ذلك : أنّ اليد الأولى والغاصب الأوّل ضامن لنفس المالك ابتداء بنفس المال المغصوب ، بمعنى أنّ نفس المال بوجوده الاعتباري في عهدته كما بيّنّا مفصلا. واليد الثانية - أي : الغاصب الثاني - ضامن للعين المضمونة بما هي مضمونة ، أي العين التي في ذمّة الضامن الأوّل.

وبعبارة أخرى : المال الذي صار مغصوبا ووقع تحت اليد العادية ، يكون في ذمّة الغاصب بما له من الصفات والخصوصيّات ، تكوينيّة أم اعتباريّة. ولكن ما يقع تحت اليد الأولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها التكوينيّة فقط ، وفي اليد الثانية تقع العين تحتها بما هي مضمونة ، ففي اليد الثانية يزيد على ما وقع تحت اليد الأولى صفة اعتباريّة ، وهي كونها في ذمّة الغاصب الأوّل.

فكما أنّ لو كان للعين صفة خارجيّة تضمن اليد الواقعة عليها تلك الصفة الخارجيّة ، كذلك تضمن الصفة الاعتباريّة لو كانت لها. وحيث أنّ العين المغصوبة تكون في ذمّة الغاصب الأوّل ، ففي الغصب الثاني تكون ذات العين مع صفة كونها في ذمّة الغاصب الأوّل في ذمّة الغاصب الثاني.

وهكذا الحال لو وقع المال تحت يد ألف غاصب ، فما يقع تحت يد الغاصب الأخير ليس هي العين الخارجيّة فقط ، بل العين الخارجيّة مع كونها في ذمّة تسعمائة وتسعة

ص: 100

وتسعين.

وأثر إتيان هذه الصفة الاعتباريّة في عهدة الغاصب أنّه لو رجع المالك إلى الغاصب السابق ، له أن يرجع إلى الغاصب اللاحق ، لأنّه ضامن لضمانه ، فضمان كلّ لاحق في طول ضمان سابقة ، لأنّ ضمان السابق بمنزلة الموضوع لضمان اللاحق.

فلا يمكن أن يكونا في عرض واحد وإن كانا في زمان واحد ، بل لا يمكن أن يكونا في زمان واحد ، لأنّه ما لم يتحقّق الضمان السابق لا تصل النوبة إلى الضمان اللاحق ، فضمان اللاحق متأخّر عن الضمان السابق حتّى زمانا.

وحيث أنّ كلّ واحد من ذوي الأيدي العادية في ذمّته العين - إمّا بدون هذه الصفة الاعتباريّة كاليد الأولى ، أو معها كالأيدي المتأخّرة عنها - فيجوز للمالك الرجوع إلى كلّ واحد منها بدون أن يكون محذور ضمان المتعدّد للمال الواحد عرضا في البين.

لما عرفت أنّ الضمان وان كان متعدّدا ولكن طوليّ ، وليس ضمانان في عرض واحد ، لما ذكرنا من تأخّر رتبة كلّ ضمان لا حق عن ضمان سابقة.

ولا تتوهّم أنّه يأتي محذور تعدّد الضمان لمال واحد عرضا في هذه الصورة أيضا ، وذلك لأنّ متعلّق الضمان في الضمان الطوليّ في كلّ واحدة من الأيدي غير ما هو متعلّق الضمان في الأيدي الآخر ، لأنّ ضمان اليد الأولى متعلّق بنفس العين ، وضمان الثانية متعلّق بضمان العين في ذمّة اليد الأولى ، وضمان اليد الثالثة متعلّق بما في ذمّة الثانية ، وهكذا في سائر الأيادي اللاحقة بلغت ما بلغت ، فلم يجتمع الضمانان على متعلّق واحد ، وكلّ واحد من الغاصبين يضمن غير ما يضمنه الآخرون ، فلا إشكال في البين.

ولا يخفى أنّ رجوع المالك إلى كلّ واحد من الغاصبين يكون على البدل ، بمعنى أنّه لو رجع إلى أحدهم واستوفى حقّه منه ليس له الرجوع إلى الآخرين ، لأنّه لا يبقى موضوع لرجوعه إلى آخر بعد ذلك ، وهذا مرادنا من قولنا : « على البدل » في الجزء

ص: 101

الأوّل من هذا الكتاب في شرح تعاقب الأيادي في قاعدة اليد ، وإلاّ كون نفس ضمانهم عرضا على البدل لا يخلو عن إشكال.

لأنّ معنى الضمان على البدل إن كان مرجعه إلى تقييد إطلاق الجعل مثل باب التكاليف والواجب الكفائي أو التخييري ، حيث أنّ إطلاق الأمر مقيّد بعدم إتيان المكلّف الآخر في الواجب الكفائي ، وبعدم إتيان الفرد الآخر في الواجب التخييري ، فيكون معناه ضمان كلّ واحد منهما في ظرف عدم ضمان الآخر.

وحيث أنّهم كلّهم ضامنون ، فتكون نتيجة التقييد عدم ضمان كلّ واحد منهما ، وهو خلاف الدليل ، كما قلنا أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » يدلّ على ضمان جميع ذوي الأيدي بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بل خلاف الضرورة وإن كان مرجعه إلى تعلّق الضمان بطبيعة الغاصب وذو اليد العادية على هذا المال مثلا كما قيل في الوجوب الكفائي بأنّ الأمر بطور طلب صرف الوجود تعلّق بطبيعة المكلف ، فأيّهم امتثل حصل المطلوب ويسقط التكليف عن الباقين ، فهاهنا أيضا إذا كانت طبيعة الغاصب ضامنا لهذا المال ، فإذا أدّاه أحدهم فيحصل المطلوب ويرتفع الضمان.

ففيه أوّلا : أنّ هذا خلاف ظاهر أدلّة الضمان ، لأنّ ظاهرها الانحلال ، وأنّ كلّ فرد من أفراد اليد العادية يضمن ما في يده.

وثانيا : أنّ استقرار الضمان على من وقع التلف في يده لا يلائم مع كون الضمان متعلقا بالطبيعة.

وثالثا : كون الطبيعة ضامنا لا يساعده الاعتبار العرفي والعقلاء.

ثمَّ إنّ نتيجة ما ذكرنا واخترنا في مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أمور :

الأوّل : جواز رجوع المالك إلى أيّ واحد من الغاصبين.

الثاني : أنّه لو رجع إلى أحدهم واستوفى حقّه منه فليس له الرجوع إلى الآخرين

ص: 102

لعدم بقاء حقّ له.

الثالث : يجوز رجوع كلّ سابق إلى اللاحق إن لم يكن غارّا له ، وأيضا لم يتلف المغصوب عنده ، وإلاّ فمع أحد هذين أو كلاهما فليس له الرجوع إليه.

الرابع : أنّ جواز رجوع السابق إلى اللاحق لا بدّ وأن يكون بعد أداء ما في ذمّته من المثل أو القيمة ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ الضمان طولي ، وإنّ اللاحق ضامن للخسارة والبدل الذي يعطيه السابق ويدفعه إلى المالك. وهذا معنى ضمانه لضمانه.

وها هنا تنبيهات

الأوّل : أنّ المالك لو أبرأ أحد الغاصبين وأسقط ما في ذمّة إحدى الأيدي العادية ، هل يسقط عن الجميع ، أو لا يسقط عن غير ما أسقط ما في ذمّته مطلقا ، أو يفصل بين السابق على ما أسقط واللاحق له وأنّه يسقط عن اللاحق دون السابق ، أو بالعكس؟ وجوه.

والأقوى هو سقوطه عن ذمّة الجميع.

بيان ذلك : أمّا سقوطه عن اللاحق فلما ذكرنا أنّ اللاحق ضامن لضمان السابق ، فإذا سقط ضمان السابق فلا يبقى موضوع لضمان اللاحق ، وذلك واضح جدّا. وأمّا سقوط السابق فلأنّ إبراءه للاحق بمنزلة استيفاء حقّه منه ، وحيث أنّ الحقّ واحد ، فلا يبقى للضمان موضوع بالنسبة إلى السابق أيضا.

ولكن الإنصاف أنّ التفصيل قويّ جدّا بين السابق ببقاء ما في ذمّته دون اللاحق ، لانتفاء موضوع ضمانه وهو ضمان السابق عليه الذي أسقط المالك ضمانه بإبراء ما في ذمّته. وأمّا بقاء ضمان السابق على الذي أبرأ عنه فلعدم وجه لسقوطه مع وجود سببه وهو اليد العادية.

ص: 103

وأمّا ما ذكر شيخنا الأستاذ قدس سره من الوجه لسقوطه - بأنّ ذمّة السابق مشغولة بما يكون مخرجه من اللاحق ، فإذا أبرأ اللاحق فلا يعقل بقاء الاشتغال السابق ، لأنّه يبقى بلا مخرج (1) - فعجيب ، لأنّ بقاءه بلا مخرج ليس محذورا كي يوجب سقوطه ، لأنّ المخرج يكون كيسه ، ولذلك لو غصب مالا ولم تقع يد آخر عليه يكون المخرج كيسه. وكذلك في اليد الأخيرة ليس لاحق كي يرجع إليه ، وكذا من عنده صار التلف عليه أن يعطى الغرامة أو البدل من كيسه.

نعم لو قيل بأنّ معنى الإبراء رفع يد المالك عن ماله ، أو عبارة عن استيفاء المالك حقّه ، فلا يبقى له حقّ كي يضمن أحد ، ولازم ذلك سقوط الضمان عن الجميع ، وعلى أيّ حال التفصيل الذي كان يرجّحه شيخنا الأستاذ قدس سره من سقوط السابق دون اللاحق لا وجه له.

الثاني : لو وهب المالك ما في ذمّة أحدهم له ، أو صالحه بلا عوض أو مع العوض ، فهل يكون هذا المتهب أو المتصالح مثل الأجنبي عن سلسلة ذوي الأيدي الذي وهب له ما في ذمّة أحدهم ، ومثل المالك في جواز الرجوع إلى كلّ واحد من ذوي الأيدي إن شاء ، أم لا بل تبرأ ذمّة الجميع ببراءة ذمّة نفسه؟

والفرق بين المسألتين هو أنّه في تمليك الأجنبي عن سلسلة ذوي الأيدي يقوم ذلك الأجنبي مقام ذلك المالك الذي وهب أو صالح بلا عوض أو مع العوض ما في ذمّة أحدهم معه ، لأنّه ينتقل المغصوب من ملكه إلى ذلك الأجنبي ، فيكون الأجنبي مالك المغصوب ، فيجوز له الرجوع إلى أيّ واحد منهم إذا شاء ، لأنّه يده العادية وقعت على ماله وهي موجبة لضمانه ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

وأمّا لو كان الموهوب له أو المتصالح هو نفس من في ذمّته مال المغصوب ، وإن كان هو أيضا تمليك ، ولكن نتيجة هذا التمليك هو إسقاط ما في ذمّته وإبراؤه ، فتصير

ص: 104


1- الأستاذ النائيني « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 300 ، في الفروع المترتبة على الضمان الطولي.

ذمّته فارغة في عالم الاعتبار ، بخلاف ما إذا كان الموهوب له أو المتصالح معه هو الأجنبي ، فإنّه في هذه الصورة لا يكون إسقاط وإبراء في البين ، بل تبقى ذمّته مشغولة لذلك الأجنبي.

غاية الأمر قبل ذلك كان طرف الإضافة هو المالك ، فصار بعد تلك الهبة أو تلك المصالحة هو ذلك الأجنبي ، والذمم في جميع السلسلة باقية على حالها.

وأمّا في الصورة المتقدّمة حيث أنّ نتيجتها الإبراء والإسقاط ، فكان المالك أعدم ماله الذي في ذمّة هذا الشخص في عالم الاعتبار ولم يكن له أموال متعدّدة ، فليس له الرجوع بعد ذلك إلى أحدهم. والموهوب له أيضا لم يبق له مال ، إذ قلنا أنّ نتيجة هبة المالك له ما في ذمّته هو إسقاط ما في ذمّته ، فليس له شي ء كي يطالب به أحدهم ، ومرجع ذلك إلى إبراء ذمّة الجميع ، فكأنّ المالك بإبراء ذمّة أحدهم أبرأ ذمّة الجميع ، فالتفصيل بين الذمم السابقة واللاحقة - بحصول الإبراء بالنسبة إلى الأولى دون الثانية - لا يخلو عن غرابة.

الثالث : لو أقرّ أحدهم بالغصبيّة دون الباقين ، وتلف المال المدّعى غصبيّته ، فعلى ذلك المعترف بالغصبيّة أداء المثل أو القيمة ، كلّ واحد في مورده. وأمّا الباقون فليس عليهم شي ء إلاّ أن يثبت المدّعي للملكيّة بحجّة شرعيّة أنّ المال له على موازين باب القضاء ، وإلاّ فبصرف ادّعاء الملكيّة مع إنكار ذي اليد ليس له الرجوع إلى الباقين.

هذا بالنسبة إلى رجوع من يدّعي الملكيّة إليهم.

وأمّا رجوع السابق منهم إلى اللاحق ، فإن لم يكن السابق مقرّا بالغصبيّة وانتقل المال إلى اللاحق بناقل شرعي لازم كالهبة اللازمة ، أو المصالحة ، أو الإرث ، أو غير ذلك فليس له الرجوع ، ولو تلف المال عند هذا اللاحق ، لأنّه تلف ماله عنده ولا يضمن لأحد.

وإن كان مقرّا وأدّى المثل أو القيمة كلّ في محلّه ، فإن كان اللاحق أيضا مقرّا بها ،

ص: 105

فيجب على اللاحق تدارك خسارة السابق ، لأنّه كما ذكرنا ضامن لضمانه ، وإن لم يعترف فعلى السابق الإثبات على موازين باب القضاء.

نعم إذا أثبت الغصبيّة فيكون الأمر كما قلنا في تعاقب الأيدي على المغصوب المسلّم المعلوم غصبيّته.

الرابع : لو رجع المال المغصوب من اللاحق إلى سابقة الذي أخذ منه ، بمعنى أنّ السابق استردّ من اللاحق ما أخذه منه ، فتلف في يده ، فلا شكّ في أنّه للمالك الرجوع إليه وإلى اللاحق ، لأنّ ماله وقع تحت يد كلّ واحد منهما بدون إذنه ، فوجد سبب ضمان كلّ واحد منهما. فلا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه لو رجع إلى السابق وأخذ منه البدل ، فهل للسابق الرجوع إلى اللاحق بأخذ ما خسره للمالك منه ، أم ليس له ذلك؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك من جهة أنّ المفروض أنّه استردّ المال من اللاحق ، وبهذا انقلب السابق لاحقا ، لأنّه بعد استرداده المال ممّن هو كان لاحقا ، صار لاحقا لذلك اللاحق ، وذلك اللاحق صار سابقا ، وهذا هو معنى الانقلاب ، فصار السابق بعد استرداده المال ضامنا لضمان من كان لاحقا.

ولذلك لو رجع المالك إلى هذا الذي كان لاحقا قبل الاسترداد ، فله أن يرجع إلى من كان سابقا قبل الاسترداد ، لصيرورته لاحقا بعده.

فبناء على ما بيّنّا في مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » من جواز رجوع المالك إلى كلّ واحد من الأيدي المتعاقبة ، وجواز رجوع كلّ سابق إلى لاحقه ، يكون الأمر كما ذكرنا. هذا تمام الكلام في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا

ص: 106

39 - قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ

اشارة

ص: 107

ص: 108

قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المعروفة التي وقع الخلاف فيها بين الفقهاء ، هي قاعدة « مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها ، والأقوال فيها ، وما هو المختار منها

أمّا الأوّل : فالمراد منها أنّه هل توجّه إليهم الأوامر والنواهي غير الإلزاميّة - بعد الفراغ عن عدم توجّه الإلزام إليهم ، لا أمرا ولا نهيا - أم لا؟

ففي الحقيقة النزاع في أنّه هل شرع في حقّهم العبادات ، بحيث يصدق على إتيانهم بتلك العبادات الإطاعة والامتثال للأوامر المولويّة الاستحبابيّة ، أم لا ، إذ لم يشرع في حقّهم تلك العبادات أصلا ، وحالهم حال البهائم والمجانين ، فلو أتوا بها بقصد الإطاعة والامتثال للأوامر المولويّة يكن تشريعا وافتراء محرّما عقلا لا مولويّا؟

وأمّا الثاني : ففيه أقوال :

الأوّل : أنّها مشروعة في حقّهم ، غاية الأمر ليس من طرف المولى إلزام عليهم بالفعل في الواجبات ، ولا بالترك في المحرّمات ، فتكون الواجبات في حقّهم كالمندوبات ،

ص: 109


1- (*) « خزائن الأحكام » ش 23. « القواعد الفقهيّة » ( فاضل لنكرانى ) ج 1 ، ص 344.

والمحرّمات كالمكروهات.

وإن شئت قلت : إنّ الأحكام التكليفيّة في حقّهم ثلاثة : فالواجبات والمستحبّات مندوبات ، والمحرمات والمكروهات مكروهات ، إذ لا وجوب ولا حرمة في حقّهم. وأمّا المباح فباق على إباحته ، فالتكاليف منحصرة في حقّهم في ثلاث : المستحب ، والمكروه ، والمباح.

الثاني : أنّه لم يتوجّه إليهم خطاب من طرف المولى أصلا ، لا الوجوبي ولا الاستحبابي ولا التحريمي ولا التنزيهي ، والصبيّ المميّز - الذي له شعور وإدراك - حاله من هذه الجهة حال غير المميّز.

وأمّا الخطابات المتوجّهة إلى الأولياء بأمرهم لهم بالصلاة والصيام قبل أن يصيروا بالغين فللتمرين ، لا أنّ الأولياء أمروا بأن يأمروا بنفس الصلاة مثلا لمصلحة في نفس الصلاة ، بل أمروا أن يأمروا بالصلاة والصيام لأن يتمرّنوا ويتعوّدوا لكي لا يكون إتيانها بعد الوجوب ثقيلا عليهم ، فليس أمر الأولياء بأن يأمروا الصبيان والأطفال بالعبادات داخلا في مسألة أنّ الأمر بالأمر بشي ء هل أمر بذلك الشي ء أم لا؟ كي يقال إذا كان الأمر بالأمر بالشي ء أمر بذلك الشي ء ، فتكون العبادات متعلّقا للأمر المولوي ، وبعد الفراغ عن عدم وجوبها على الصبيان لا بدّ وأن تكون تلك الأوامر أوامر ندبيّة ، ففي الحقيقة أمر الشارع للأولياء أن يأمروا صبيانهم بالعبادات تعلّق بعنوان التمرين والتعويد ، أي مرّنوهم وعوّدوهم على الصلاة والصيام.

الثالث : أنّ الشارع أمر الصبيان كالبالغين بهذه العبادات ، لكن أمره بها ليس لمصلحة في أنفسها ، ولذا لو حجّ الصبيّ غير البالغ المستطيع لا يكفي حجّه عن حجّة الإسلام ، وذلك ليس إلاّ لعدم مصلحة في حجّه ، بل أمره لهم بها لمصلحة التمرين فقط ، فكأنّه قال : مرّنوا أنفسكم على الصلاة والصيام أو غيرهما من العبادات. وعوّدوها عليها ، فالمستحبّ عليهم هو عنوان تمرين أنفسهم وتعويدهم على العبادات.

ص: 110

وتظهر الثمرة بين هذا القول والقول الأوّل ، أنّه بناء على القول الأوّل يجوز أن ينوب في عمله العبادي عن غيره بأجرة كي يكون أجيرا ، أو بدون أجرة كي يكون تبرّعا ، لأنّ عمله واجد للمصلحة التامّة بدون نقص فيها ، غاية الأمر رفع الشارع الإلزام عنهم لطفا ورحمة عليهم ، ومن باب الرفق بهم والامتنان ، فيكون رفع التكليف الإلزامي عنهم مثل الرفع في باب الحرج ، وعدم جعله التكاليف الحرجيّة على قول ، وهو رفع الإلزام من دون تغيير في ناحية الملاك ، ولذا لو أتى بها وتحمّل الحرج يكون عمله صحيحا ومجزيا عند أرباب هذا القول.

وأمّا بناء على هذا القول فلا يصحّ أن ينوب عن قبل غيره ، لا مع الأجرة ولا بدونها ، إذ عمله يكون عبادة بحسب الشكل فقط ، ولا روح له ، فلا يجوز إجارته لعمل عبادي ، ولا تبرأ ذمّة الميّت بإتيانه ما فات عنه.

وظهر ممّا ذكرنا الفرق بين القول الثاني والأوّل ، وأنّه بناء على القول الثاني لا يصحّ أن ينوب عن غيره بطريق أولى ، إذ بناء على القول الثالث تكون لعمله مصلحة التمرين ، وإن لم يكن في نفس عبادته من صلاته وصومه وحجّه مصلحة وملاك أصلا.

وأمّا بناء على القول الثاني لا خطاب ولا ملاك ، حتّى ملاك التمرين.

وأمّا الفرق بين القول الثاني والثالث ، هو أنّه بناء على القول الثاني مصلحة التمرين في متعلّق أمر الأولياء ، فالشارع أمرهم بتمرين أولادهم ، فالثواب وجزاء التمرين لهم ، لأنّه مستحبّ عليهم ، ولا ربط لا للملاك ولا للخطاب بالصبيان ، لأنّ خطاب الشارع إلى الأولياء ، ولا خطاب إلى الصبيان أنفسهم.

وأمّا بناء على القول الثالث فالخطاب إلى الصبيان ، لكن لا بملاك في عباداتهم ، بل الملاك في تعوّدهم ، وإلاّ فنفس العبادة التي يأتي بها صرف صورة ويكون بشكل العبادة فقط.

ص: 111

وأمّا الثالث : فالمختار هو القول الأوّل ، وهو المشهور بين الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ، وسنذكر الدليل عليه في بيان الجهة الثانية ، وذكر مستند القائلين بالمشروعيّة.

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة

فنقول :

أمّا مشروعيّة عباداته وأنّها شرّعت في حقّهم - غاية الأمر أنّها ليس بواجبة عليهم ، بل تكون مأمورة بالأمر الاستحبابي - فلوجوه :

الأوّل : شمول الأدلّة العامّة والمطلقات لهم ، فقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) ، وقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2) وأمثالهما من العمومات والإطلاقات في أدلّة العبادات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين.

ولا مخصّص للعمومات ولا مقيّد للمطلقات عدا ما يتخيّل من قول علي علیه السلام « أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ » (3).

وقد يدّعي أيضا انصراف تلك العمومات والإطلاقات إلى البالغين.

وفيهما : أمّا في دعوى الانصراف ، فإنّها لا تخلو عن مجازفة ، إذ لا شكّ في أنّ الشارع لم يتّخذ في مقام تبليغ أحكامه طريقا خاصّا ، بل يبلغ ويفهمهم على طريق

ص: 112


1- البقرة (2) : 43 ، 83 ، 110 ، النساء (4) : 77 ، يونس (10) : 87 ، النور (24) : 56 ،.
2- البقرة (2) : 185.
3- « الخصال » ص 40 و 175 ، باب الثلاثة ، ح 40 و 233 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 32 ، أبواب مقدمة العبادات ، باب 4 ، ح 11.

أهل المحاورة ، ولا شكّ في أنّ أهل المحاورة لا يفرقون في توجيه الخطاب وألفاظ المخاطبة بين البالغين ومن كان عمره أقلّ من عمر البالغ بساعة. بل يخاطبونهم على نسق واحد وبلفظ واحد ، فدعوى أنّ العمومات لا تشمل غير البالغين ، أو تكون منصرفة عنهم مجازفة محضة وبلا دليل ولا برهان.

وأمّا حديث رفع القلم الذي هو عمدة دليل القائلين بعدم شرعيّة عبادات غير البالغين ، فالإنصاف أنّه في مقام الامتنان واللطف والرأفة والرحمة ، فلا يدلّ على أزيد من رفع الإلزام. مثل قاعدة الحرج عند المشهور ، فإنّهم يقولون : ببقاء الملاك وارتفاع الإلزام والوجوب للامتنان ، ولذلك يقولون : لو تحمّل الحرج وأتى به يكون صحيحا ومجزيا.

وأمّا عدم إجزاء حجّ الصبي عن حجّة الإسلام ، فلعلّه لخصوصيّة في حجّة الإسلام لا تحصل تلك الخصوصيّة إلاّ بأن يكون بالغا ، كما أنّه في اشتراط الحرّيّة أيضا كذلك ، فليس من جهة عدم مصلحة وملاك في حجّ غير البالغين كما توهّمه هذا القائل.

ولكن ربما يرد ها هنا إشكال ، وهو أنّه لا شكّ في أنّ مفاد حديث رفع القلم هو رفع الوجوب عن غير البالغين ، فإذا ارتفع الوجوب فلا دليل على استحباب ذلك الفعل ، لأنّ دليله كان مفاده الوجوب وهو ارتفع على الفرض ، فما الذي يدلّ على استحبابه في مقام الإثبات؟ وإن لم يكن دليل على عدم استحبابه أيضا ولكن صرف عدم الدليل على عدم استحبابه لا يكفي في الحكم باستحبابه ، فإثبات الاستحباب لا طريق إليه.

وفيه أوّلا : أنّه ربما يقال بأنّه يمكن إثباته بالاستصحاب ، بأن يقال بأنّ القدر الجامع بين الواجب والمستحب وهو مطلق الطلب وجد ، وبارتفاع الوجوب يشكّ في بقاء الجامع لاحتمال بقائه في ضمن الطلب الاستحبابي.

وفيه : أنّ هذا الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ،

ص: 113

وأثبتنا في الأصول عدم جريانه.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه على تقدير جريانه يكون مثبتا ، لأنّ إثبات خصوص فرد باستصحاب الجامع بعد زوال الفرد الذي وجد الجامع في ضمنه يقينا ، واحتمال وجود فرد آخر من أوّل الأمر أو من حين زوال ذلك الفرد المتيقّن الوجود يكون من إثبات اللازم العقلي بالحكم ببقاء الملزوم.

فلا يرد ، لأنّ في المقام لا يحتاج إلى إثبات خصوص الفرد ، أي الطلب الاستحبابي ، لأنّ الأثر مترتّب على نفس بقاء الجامع ، وهو الطلب المشترك بين الاثنين.

ولكن يمكن ها هنا تصوير الاستصحاب بنحو لا يكون من القسم الأوّل أو القسم الثاني من القسم الثالث اللذان أثبتنا عدم جريانها ، بل يكون من القسم الثالث من القسم الثالث من الاستصحاب الكلّي الذي قلنا بجريانه مع وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة عرفا.

بأن يقال : إنّ الطلب الاستحبابي مرتبة من الطلب منطوية في الطلب الوجوبي ، فإذا ارتفعت تلك المرتبة الأكيدة من الطلب - المسمّى بالطلب الوجوبي - فيشكّ في بقاء تلك المرتبة الضعيفة التي كانت منطوية في المرتبة الأكيدة ، فيستصحب. وأركان الاستصحاب تامّة من اليقين بوجود تلك المرتبة سابقا والشكّ في بقائه.

وفيه أنّ هذا المبنى - من كون الاستحباب مرتبة ضعيفة من الطلب ، منطوية في المرتبة الأكيدة المسمّى بالوجوب - غير تامّ.

وثانيا : أنّ مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب بحكم العقل بلزوم إطاعته ، إلاّ أن يأذن هو في الترك ، فالاستحباب ليس مقتضى طبع الطلب ، بل يستفاد من إذنه في الترك ، والإذن في الترك كما يحصل من نفس هذا العنوان إلى التصريح بجواز الترك ، كذلك يحصل بعناوين آخر ، مثل رفع العسر والحرج ، ومثل هذا العنوان ، أي

ص: 114

رفع قلم الإلزام ، ورفع القلم عن شخص أو طائفة مقابل ما كتب عليه أو عليهم.

فكما لا يفهم من العبارة الأخيرة غير اللزوم والوجوب ، فكذلك لا يفهم من الأولى إلاّ رفع الوجوب والإلزام والإذن في الترك ، فحديث رفع القلم بمنزلة الإذن في ترك الواجبات ، فقهرا يكون مفاد الأوامر الأوّليّة بعد ورود الإذن في الترك بتوسّط حديث الرفع هو الاستحباب. لا أنّ حديث الرفع يرفع الخطاب الوجوبي من رأس ، كي تقول إذا ارتفع الخطاب الوجوبي بحديث رفع القلم عن الصبي فليس هناك آخر يستفاد منه الاستحباب.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذا الإشكال مختصّ بالواجبات ولا تأتي في المستحبّات.

الثاني : العمومات التي دلّت على ترتّب الثواب على من صلّى ، أو صام ، أو حجّ ، أو أعطى زكاة ماله وأمثال تلك المذكورات من العبادات ، وهذه العمومات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين. ودعوى الانصراف إلى البالغين خروج عن ظاهر اللفظ بدون دليل عليه.

ولا شكّ في أنّ ترتّب الثواب على فعل من لوازم استحباب ذلك الفعل ، فهذه العمومات والإطلاقات تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على استحباب تلك الواجبات على غير البالغين بعد القطع بعدم وجوبها عليهم.

الثالث : أنّ العقل مستقل بحسن بعض الواجبات ، كردّ الأمانة ، وحفظ النفس المحترمة ، ولا يفرق في حكم العقل بحسن ذلك الفعل واستحقاق الأجر والثواب عليه بين أن يكون للفاعل من العمر خمسة عشر سنة بالتمام ، أو كان ناقصا مقدار ساعة بل يوم بل شهر ، فكون الصبيّ غير البالغ مستحقّا للأجر والثواب على مثل ذلك الفعل ممّا يستكشف منه استحباب ذلك الفعل ، وبعدم القول بالفصل يثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضا.

مضافا إلى أنّه يثبت بهذا الدليل مشروعيّة عبادات الصبيّ في الجملة ، مقابل

ص: 115

السلب الكلّي الذي يدّعيه الخصم.

إن قلت : إنّ حديث رفع القلم يخصّص العمومات بغير الصبيّ من العاملين الممتثلين لتلك العبادات ، لأنّه إذا كان مفاد الحديث رفع قلم التكليف مطلقا ، سواء أكان وجوبا أو استحبابا ، فيرفع استحقاق الصبيّ غير البالغ للأجر والثواب من باب نفي اللازم بنفي الملزوم.

فجوابه : أنّ مفاد حديث رفع القلم ليس رفع التكليف مطلقا كما توهّم ، بل مفاده وظاهره رفع خصوص الإلزام والوجوب بالبيان المتقدّم.

الرابع : كمال الاستبعاد أن لا يستحقّ غير البالغ القريب إلى وصوله إلى البلوغ بزمان يسير كيوم مثلا أو أقلّ ، مع إتيانه بالصوم مثلا في نهار طويل من أيّام شهر رمضان وفي حرّ شديد مع كمال الإخلاص ، وهو يتحمّل الأذى قربة إلى اللّه تعالى ، أو يمشي إلى الحجّ مثل هذا الصبيّ مخلصا لله تعالى راجلا مع كمال المشقّة ، ثمَّ يقال إنّ هذا لا يستحقّ شيئا من الأجر والثواب لأنّه لم يصل إلى حدّ البلوغ.

فالإنصاف أنّ القول بعدم استحقاق مثل هذا الولد في هذا العمر مع أنّه في كمال الشعور والإدراك - خصوصا إذا كان من أهل الفضل والتقوى ، بل ربما يتّفق أن يكون من الفقهاء ، كما يقال في حقّ بعض الفقهاء الكبار قدس سره إنّه صار فقيها وبلغ إلى درجة الاجتهاد قبل أن يصير بالغا - خلاف الإنصاف ، بل خلاف الوجدان ، وكيف يمكن أن يقال مثل هذا ، مع أنه صلی اللّه علیه و آله قال : « في كلّ كبد حرى أجر » (1).

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّ هذا الوجه مع هذا التفصيل المذكور بالخطابة أشبه من كونه دليلا فقهيّا يكون مدركا للفتوى ، وذلك من جهة أنّه لو صدر عمل أشقّ ممّا ذكرنا من أكبر العلماء ، وكان إتيانه بعنوان أنّه من الدين بدون دليل عنده أنّه من

ص: 116


1- « مسند أبي يعلى الموصلي » ج 3 ، ص 137 ، ح 1568 ، « المعجم الكبير للطبراني » ج 20 ، ص 323 ، ح 763 ، « السنن الكبرى للبيهقي » ج 4 ، ص 186 ، باب ما ورد في سقي الماء.

الدين ، يكون ذلك تشريعا محرّما ولا يستحقّ شيئا من الأجر والثواب ، بل يستحقّ اللؤم والعقاب. ففيما نحن فيه أيضا يقال : حيث أنّه لم يدلّ دليل على أنّ مثل ذلك الصوم أو مثل ذلك الحجّ مشروع ، فلو أتى به بعنوان العبادة وأنّه مشروع يكون تشريعا ، ولا يستحقّ عليه شيئا من الأجر والثواب.

ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا وجوها أخر لمشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ، تركنا ذكرها لكونها من الاستحسانيّات التي لا يصحّ جعلها مدركا للحكم الفقهي ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

وما ذكرنا كان مدرك القول الأوّل القائلون بمشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ كالبالغين ، وأنّ الواجبات أيضا في حقّهم مستحبّات.

وأمّا مدرك القول الثاني - أي عدم مشروعيّة عباداتهم أصلا وأنّ الشارع أهملهم كالبهائم والمجانين - هو عموم حديث رفع القلم عنهم للواجبات والمستحبّات ، فكما أنّ الوجوب مرفوع عنهم ، كذلك الاستحباب أيضا مرفوع ، لأنّه لا شكّ في أنّ قلم التكليف عامّ يشمل الأحكام الخمسة كلّها ، والنفي وارد على هذا المعنى ، فمعنى رفع القلم عنهم هو أنّ كلّما يكون مندرجا تحت عنوان قلم التكليف فهو مرفوع عنهم ، فرفع القلم مقابل وضع القلم.

فكما أنّ وضع القلم عند البلوغ معناه أنّ الأحكام الخمسة كلّها تكتب في حقّه ، فكذلك معنى رفع القلم عدم كتابة شي ء منها عليه ، لا الوجوب ، ولا الاستحباب ، ولا الحرمة ، ولا الكراهة ، حتّى ولا الإباحة بعنوان أنّه حكم شرعي ، فمع رفع القلم عنه وعن أفعاله لا يبقى مجال للقول بمشروعيّة عباداته واستحبابها ، ولذلك ترى أنّ العرف إذا يقولون : إنّ فلانا مرفوع القلم ، أي لا اعتبار بأقواله ولا بأفعاله ، أي حاله حال البهائم.

والإنصاف أنّ الحديث وإن كان ظاهره بحسب المتفاهم العرفي هو هذا المعنى ،

ص: 117

ولكن القرائن المقاميّة تدلّ على أنّ المراد منها هو خصوص الأحكام الإلزاميّة ، كالوجوب والحرمة ، لا مطلق الأحكام لكي يشمل الاستحباب والكراهة ، بل الإباحة الشرعيّة ، وذلك لما ذكرنا من أنّه تبارك وتعالى في مقام الرحمة والرأفة بالعباد ، وأنّ الصبيّ غير البالغ غالبا لا يميّز بين الضرر والنفع ، ولا يعتني بأنّ ترك الواجب وفعل الحرام مجلبة للضرر. لقصور عقله ، أو لغلبة شهواته الحيوانيّة.

ولذلك رفع المؤاخذة والعقاب عنه برفع منشئهما ، وهو الحكم الإلزامي ، أي الوجوب والحرمة.

وأمّا الروايات في عدم جواز أمره حتّى يحتلم (1). وأيضا ما ورد من أنّ عمده خطأ فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ الطائفة الأولى راجعة إلى عقوده وإيقاعاته ، وسائر معاملاته وإن لم يكن يعقد أو إيقاع ، كمعاملاته المعاطاتيّة. والطائفة الثانية راجعة إلى باب الجنايات ، لأنّها ظاهرة فيما يكون لعمده حكم ولخطائه حكم ، فقال علیه السلام في رواية إسحاق بن عمّار : « عمد الصبيان خطأ » (2) أي حكم المترتّب على ما صدر عنه عمدا هو حكم هذا الفعل لو كان يصدر من البالغ خطا ، ولذلك قال علیه السلام بعد هذه الجملة جملة أخرى ، وهي قوله علیه السلام : « يحمل على العاقلة ». فالقول بعدم مشروعيّة عبادات غير البالغين لا أساس له ، وإن كان يظهر من جماعة من أعاظم الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.

وأمّا مدرك القول الثالث وهو أنّها شرعيّة لا من حيث عناوينها الأصليّة ، أي ليست الصلاة مثلا مشروعة ومستحبّة من حيث أنّها صلاة ، وكذلك في الصوم والحجّ وسائر العبادات الواجبة ليس مشروعيّتها من تلك العناوين أنفسها ، بل من حيث

ص: 118


1- « الكافي » ج 7 ، ص 197 ، باب حد الغلام والجارية اللذين يجب عليهما الحد تماما ، ح 1 ، « السرائر » ج 3 ، ص 596 ، المستطرفات ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 268 ، ح 22750 ، أبواب عقد البيع ، باب 14 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 233 ، ح 921 ، في باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 54 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 307 ، ح 35835 ، أبواب العاقلة ، باب 11 ، 3.

القعود وتمرين النفس على إتيانها ، فكان للصلاة مثلا جهتين : جهة الصلاتيّة التي هي عنوان أوّلى لها ، وجهة التمرن بإتيانها كي لا يشقّ عليه بعد البلوغ إتيانها.

فالمدّعى بناء على هذا القول الثالث ليس هو مشروعيّة الصلاة من حيث أنّها صلاة ، بل مشروعيّتها من حيث حصول التمرين والتعوّد على أداء الواجبات بإتيانها ، ففي الحقيقة موضوع الاستحباب ليس هو نفس الصلاة ، بل موضوع الاستحباب هو التمرين الذي يحصل بإتيان الصلاة في كلّ يوم في وقتها ، فهو مركب - أي القول الثالث - من أمرين :

أحدهما : عدم مشروعيّة العبادات من حيث عناوينها الأصليّة.

وفي هذا الأمر دليلهم دليل القول الثاني ، وجوابهم عين ذلك الجواب.

ثانيهما : استحباب تلك العبادات ومشروعيّتها من حيث حصول التمرين بإتيانها.

ودليلهم في هذا الأمر الأخبار الكثيرة التي مفادها استحباب التمرين والتعوّد. (1)

وفيه : أنّ دليل رفع القلم لو شمل المستحبّات ، فهذا الاستحباب أيضا مرفوع عنهم ، فهذا التفصيل لا وجه له.

نعم الأخبار الكثيرة واردة في أنّه على الوليّ أن يأمره بإتيان الواجبات لمصلحة التمرين (2) ، فيستحبّ أو يجب على الوليّ الأمر لمصلحة التمرين لا على الصبيّ.

فلا يخلو الأمر عن أحد هذين : وهو أنّ حديث رفع القلم مفاده إمّا رفع جميع

ص: 119


1- « الخصال » ص 626 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 381 ، ح 1590 ، (18) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 409 ، ح 1563 ، باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 11 ، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، باب 3 ، ح 1 - 8.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 409 ، باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ، ح 1 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 281 ، ح 863 ، باب الحد الذي يؤخذ فيه الصبيان بالصلاة ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 381 ، ح 1590 ، (18) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 11 ، أبواب أعداد الفرائض ، باب 3 ، ح 1 - 5 - 6 - 7 - 8.

الأحكام حتّى المستحبّات ، فلا فرق بين أن يكون موضوع الاستحباب نفس عناوين العبادات ، أو يكون التعوّد والتمرين على إتيان تلك العبادة ، فلا يستحبّ على الصبيّ شي ء بأيّ عنوان كان. وأمّا مفاده رفع خصوص الإلزام ووجوب الفعل أو الترك ، فنفس هذه العناوين مستحبّات.

وقد تقدّم التفصيل ، فظهر أنّ القول الثالث لا وجه له.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة ، والفروع المترتّبة عليها

فنقول :

الأوّل : الطهارات الثلاث ، فبناء على القول بالمشروعيّة تكون مستحبّة على غير البالغ بعد دخول وقت الصلاة ، لأنّها واجبة على البالغين في ذلك الوقت ، كما أنّه بناء على القول باستحبابها في أنفسها تكون أيضا مستحبّة على غير البالغين. وفي كلتا الصورتين له أن يأتي بها بقصد أمرها الاستحبابي ، غاية الأمر في إحديهما بعد دخول الوقت ، وفي الأخرى وإن كان قبل دخول الوقت.

الثاني : في تجهيز الميّت من الغسل ، والكفن ، والصلاة عليه ، ودفنه بعد الصلاة عليه ، فبناء على المشروعيّة يستحبّ عليه هذه الأمور ، وإن كان على البالغين واجبا كفائيّا ، فيجوز له أن يتصدّى ويرفع موضوع الوجوب عن البالغين. وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فليس له أن يجهز الميّت وإن كان أباه أو أمّه.

الثالث : المستحبّات من الأفعال والأذكار الواردة في الطهارات الثلاث قبلها وبعدها وفي حين الاشتغال بها ، فبناء على المشروعيّة يستحبّ كلّ ذلك على الصبيّ غير البالغ أيضا كالبالغين ، وكذلك الحال في مستحبّات تجهيز الميّت.

ص: 120

الرابع : الأذان والإقامة قبل الصلاة مستحبّ عليه قبل الدخول في الصلاة ، وكذلك أذان الإعلام بناء على المشروعيّة ، وليس شي ء منها مستحبّا بناء على عدم المشروعيّة. وكذلك نفس الصلاة مع مستحبّاتها الكثيرة - التي كتب الشهيد قدس سره فيها كتاب الألفيّة والنفليّة - مستحبّة في حقّه بناء على مشروعيّة عباداته ، ولا يستحبّ شي ء منها بناء على عدم المشروعيّة.

وكتاب الألفيّة مشتمل على ألف واجب ، وكتاب النفليّة مشتمل على ما يزيد ثلاثة آلاف من المستحبّات ، فجميع هذه الأربعة آلاف أو أكثر من واجبات الصلاة ومستحبّاتها مستحبة على الصبيّ غير البالغ بناء على المشروعيّة ، فله أن يأتي بها بقصد أمرها الندبي.

وذكرها وبيان مدرك وجوبها واستحبابها خارج عن طور هذا الكتاب ، وقد أتعب الشهيد الأوّل قدس سره نفسه في استقصائها وذكرها في كتابيه ، وشرحهما الشهيد الثاني قدس سره أحسن شرح ، فلا حاجة إلى ذكرها.

والغرض ها هنا بيان أنّ هذه القاعدة - أي قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ - من أكبر القواعد الفقهية وأكثرها فرعا.

الخامس : الحجّ نفسها وواجباتها ومستحبّاتها الكثيرة التي بعد الصلاة لا يماثلها في كثرة الواجبات والمستحبّات عبادة ، فجميعها مستحبة في حقّ الصبيّ ، ويثاب ويوجر على الإتيان بها بناء على القول بمشروعيّة عبادات الصبيّ كما هو المختار.

وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فلا يستحبّ شي ء منها عليه.

السادس : الصوم ، واجباته ومستحبّاته مستحبّة على غير البالغ بناء على المشروعيّة ، كما أنّ الاعتكاف أيضا كذلك. وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فلا يستحبّ شي ء منها عليه ، وواجبات الصوم ومستحبّاته كثيرة ، وكذلك الاعتكاف.

ثمَّ إنّه بناء على ما اخترنا في معنى حديث رفع القلم عن الصبيّ من أنّ المراد برفع

ص: 121

القلم رفع الأحكام الإلزاميّة كالوجوب والحرمة ، فالمكروه أيضا كالمستحبّ ليس مرفوعا عنه ، فبناء على هذا لو صام في شهر رمضان استحبابا ، أو في غيره من الأزمنة التي يكون الصوم فيها مستحبّة ، وهو كلّ أيّام السنة إلاّ المنهيّ عنه ، والمؤكّد منها أيّام خاصّة ، كصوم أيّام الليالي البيض ، ويوم الغدير وصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وهو أوّل خميس منه ، وآخر خميس منه ، وأوّل أربعاء من العشر الثاني ، ويوم السابع عشر من ربيع الأوّل ، ويوم السابع والعشرون من رجب ، ويوم دحو الأرض - وهو اليوم الخامس والعشرون من ذي العقدة - إلى غير ذلك من الأيّام التي يستحبّ فيها الصوم ، فالمكروهات في حال الصوم مكروه في حقّه ، كالاكتحال والسعوط وشمّ الرياحين وغير ذلك.

كما أنّ أقسام الصوم المكروه كصوم يوم عاشوراء بناء على كراهته أيضا مكروه عليه ، كما أنّه لو صار جنبا بإدخاله في امرأة قبلا أو دبرا ، أو إدخال الغير فيها قبلا أو دبرا يكره عليه كلّ ما يكره على الجنب.

والحاصل : أنّ المكروهات كالمستحبّات غير مرفوع عنه ، فتكون في حقّه مكروها كالبالغين ، إلاّ أن يكون دليل الكراهة مخصوصا بالبالغين ، وذلك كالملاعبة مع زوجته في حال الصوم خوفا من الإنزال ، فهذا التعليل يوجب اختصاص هذا الحكم بالبالغين.

ثمَّ إنّه بناء على مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ المميّز لا وجه للقول بعدم جواز استيجاره للصلاة ، أو الصوم ، أو الحجّ عن الميّت ، بناء على ما هو المفروض من كون فعله ذا ملاك تامّ كالبالغين ، وإنّما ارتفع اللزوم إرفاقا ورأفة بهم ، فيمكن للصبيّ المميّز أن ينوب عن الميّت ، ويأتي بما على عهدته ، ويفرغ ما في ذمّته ، لأنّه لا خلل ولا نقصان في فعله.

فعدم الجواز وعدم الإجزاء لا يبقى له مجال ، ولو كان دليل على اشتراط البلوغ

ص: 122

في صحّة عبادة لكان تعبّدا يجب الالتزام ، ولكنّه ليس في البين إلاّ حديث رفع القلم (1) ، وحديث أنّ عمده خطأ (2) ، ورواية أنّ جوازه أمره موقوف على الاحتلام - أي البلوغ (3) - وقد عرفت الحال في هذه الأحاديث.

فالأقوى جواز استيجاره للعبادات التي يمكن النيابة فيها ، وإنّ الأحوط تركها ، خروجا عن مخالفة جمع كثير من أعاظم الفقهاء قدس سره .

وأمّا نذره أن يفعل ما هو عبادة غير مالي ، فأيضا بناء على مشروعيّة عباداته ، فبمقتضى القواعد الأوّليّة ينبغي أن يقال بصحّته ، ولكن لا قائل بها ، بل الظاهر انعقاد الإجماع على اشتراط البلوغ في صحّة النذر.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ من لوازم صحّة النذر وجوب الوفاء به ، لقوله تعالى ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (4) فإذا لم يكن وجوب الوفاء في مورد فلا يصحّ النذر في ذلك المورد ، لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم المساوي.

ولكن يمكن الجواب عن هذا بأنّ النذر لازمه أن يمكن الوفاء به ، ولذلك لا يجوز نذر ما لا يقدر عليه ، كما إذا نذر أن يحجّ ماشيا مع عدم قدرته على ذلك.

وأمّا وجوب الوفاء ، فهذا من الأحكام الشرعيّة التي رتّب الشارع عليه ، فمن الممكن أن يرفع الشارع هذا الحكم رأفة وامتنانا في بعض الموارد ، فالعمدة في وجه بطلان نذر الصبيّ غير البالغ هو الإجماع لا غير.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 123


1- تقدم راجع ص 112 ، هامش رقم (3).
2- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (2).
3- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (1).
4- الدهر (76) : 7.

ص: 124

40 - قاعدة الميسور

اشارة

ص: 125

ص: 126

قاعدة الميسور (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة الميسور ». وفيها جهات من البحث.

[ الجهة ] الأولى : في بيان مفادها

فنقول : المراد منها أنّ الشارع إذا أمر بمركب له أجزاء وشرائط وموانع ، فإذا تعذّر له إيجاد بعض الأجزاء أو بعض الشرائط أو تعسر عسرا يرفع التكليف عن المعسور ، أو تعذّر له ترك بعض الموانع ، أو تعسر فهل يسقط الوجوب بالمرّة ، ويرتفع عن جميع أجزاء ذلك المركّب مع شرائطه وموانعه ، المتعذّر منها وغير المتعذّر ، أم لا بل يرتفع عن خصوص ما هو المتعذّر منها ، وأمّا بالنسبة إلى الباقي فباق؟

ومعنى قاعدة الميسور هو أنّ الوجوب بالنسبة إلى المقدار الميسور من المركّب باق ، ولا يرتفع عن ذلك المقدار بواسطة ارتفاعه عن المقدار المتعذّر أو المعسور.

ص: 127


1- (*) « عوائد الأيّام » ص 88. « عناوين الأصول » عنوان 19 ، « مناط الأحكام » ص 25 ، « اصطلاحات الأصول » ص 201 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 118 ، « القواعد » ص 297 ، « قواعد فقهي » ص 291 ، « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 539.

[ الجهة ] الثانية : في مدركها

اشارة

وهو أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إطلاق دليل المركّب ، بمعنى أنّ دليل المركّب له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكّن من إيجاد الجزء وعدم التمكّن منه ، مثلا قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) لو فرض أنّه له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكّن من رمي الجمرة وعدم التمكّن منه ، فإذا لم يكن متمكّنا منه وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة ، يتمسك بإطلاق دليل وجوب الحجّ لوجوب الباقي وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء أو ذلك الشرط.

ولكن التمسّك بإطلاق دليل المركّب يتوقّف على أمور :

الأوّل : أن تكون مقدّمات الإطلاق فيه موجودة.

الثاني : أن لا يكون لدليل ذلك الجزء أو الشرط المتعذّر إطلاق يدلّ على جزئيّته أو شرطيّته مطلقا ، سواء كان المكلّف متمكّنا من إيجاده أم لا ، إذ مع إطلاقه لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق دليل المركّب ، لحكومة إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب.

الثالث : أن لا يكون اللفظ الموضوع لذلك المركّب موضوعا للصحيح إذا كان من العبادات ، وذلك لأنّه بناء على أن يكون كذلك لا يمكن التمسّك بإطلاقه في رفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة ، أو شرطيّته كذلك.

نعم لا بأس بالتمسّك بإطلاقها المقامي ، كما شرحنا كلّ ذلك مفصّلا في كتابنا « المنتهى ».

ص: 128


1- آل عمران (3) : 97.

[ الأمر ] الثاني : الاستصحاب. ومعلوم أنّ بقاء الوجوب بالنسبة إلى البقيّة - أي ما عدى المتعذّر من الأجزاء والشرائط والموانع وجودا بالنسبة إلى الأولين ، وعدما بالنسبة إلى الأخير - الذي هو عبارة عن الاستصحاب حيث أنّه مفاد الأصل العملي ، فلا تصل النوبة إليه ، إلاّ بعد فقد إطلاق دليل المركّب وإطلاق دليل القيد ، أي الجزء والشرط وعدم المانع ، إذ مع فرض إطلاق دليل المركّب مع إجمال دليل القيد ، فبقاء الوجوب للبقيّة معلوم بواسطة الإطلاق.

فلا يبقى موضوع لجريان الاستصحاب ، لحكومة إطلاق دليل المركّب عليه ، ومع فرض إطلاق دليل القيد سواء كان إطلاق لدليل المركّب أو لم يكن ، يكون سقوط الوجوب بالنسبة إلى البقيّة معلوما.

أمّا في فرض إجمال دليل المركّب فواضح ، وأمّا في فرض إطلاقه فلحكومة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليل المركّب ، فلا مجال لوصول النوبة إلى الاستصحاب ، إلاّ فيما إذا كان دليل المركّب ودليل القيد كلاهما مجملين.

وأمّا إذا كان أحدهما مطلقا ، أو كان كلاهما مطلقين ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وذلك لحكومة الأمارات التي منها الإطلاقات على الأصول مطلقا ، محرزة كانت أو غير محرزة.

ثمَّ إنّ تقرير الاستصحاب ها هنا من وجوه :

الأوّل : استصحاب بقاء الجامع بين الوجوب النفسي المحتمل الوجود المتعلّق بما عدا القيد بعد تعذّره ، ووجوب الغيري الذي كان متعلّقا بما عدا القيد المتعذّر من باب المقدّمة.

ومعلوم أنّ هذا الوجه مبنيّ على وجوب المقدّمات الداخليّة بالوجوب الغيري ، مثل المقدّمات الخارجيّة.

ص: 129

بيان ذلك : أنّ وجود ذلك الجامع في ضمن الوجوب الغيري لما عدا قيد المتعذّر كان متيقّن الوجود ، وحيث أنّه من المحتمل وجوب النفسي المستقلّ لما عدا ذلك القيد المتعذّر بعد تعذّره ، فيكون بقاء ذلك الجامع مشكوكا بعد تيقّن وجوده ، فيكون مجرى الاستصحاب.

وفيه أوّلا : أنّ المقدّمات الداخليّة - أي أجزاء المركّب الواجب - ليست واجبة بالوجوب الغيري ، وقد حقّقنا ذلك في باب مقدّمة الواجب.

وثانيا : أنّ هذا الاستصحاب يكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، الذي قلنا بعدم جريانه وعدم تماميّة أركانه. وعمدة الإشكال فيه هو أنّ وجود الطبيعة في ضمن كلّ فرد غير وجوده في ضمن الفرد الآخر ، فوجود الجامع في ضمن الوجوب الغيري في المفروض متيقّن الارتفاع ، وفي ضمن الوجوب النفسي المحتمل مشكوك الحدوث ، فليس هناك وجود واحد متيقّن الحدوث ، ويكون هو مشكوك البقاء.

وثالثا : إثبات الوجوب النفسي المستقلّ لما عدى القيد المتعذّر بهذا الاستصحاب مثبت.

الثاني : استصحاب نفس الوجوب النفسي الذي كان متعلّقا بالمركّب قبل حدوث تعذّر القيد.

والإشكال : بأنّ موضوع ذلك الوجوب كان مجموع المركّب ، والمفروض ارتفاع ذلك الموضوع بواسطة تعذّر بعض أجزائه ، والبقيّة على تقدير وجوبها تكون موضوعا آخر ، ولا يمكن بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وتبدّله ، حتّى ولو كان الباقي واجبا لكان وجوبا آخر غير الوجوب الأوّل ، لما ذكرنا من تبدّل الموضوع من الأكثر إلى الأقلّ.

يجاب عنه : بأنّ وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة بحسب الموضوع عرفي ، ولا

ص: 130

يجب أن يكون الموضوع فيهما واحدا بالدقّة العقليّة ، وإلاّ لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّية أصلا إلاّ من جهة احتمال النسخ ، فيستصحب عدمه. وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « المنتهى ».

ولكن فيه : أنّ هذا الوجه من تقرير الاستصحاب لا يفي إلاّ بالموارد التي يكون موضوع القضيتين - المتيقّنة والمشكوكة - واحدا بنظر العرف ، وأمّا فيما لا يكون كذلك ، كما هو الأكثر في أبواب العبادات ، فإنّ حكم العرف بوحدة الحجّ المتعذّر فيه الوقوف في الموقفين - العرفات والمشعر ، الوقوف الاضطراري والاختياري - مع الحجّ المتمكّن فيه الوقوفان ، أو حكمه بوحدة صلاة فاقد الطهورين مع واجدهما أو أحدهما لا أثر له بعد العلم بأنّ الشارع يراهما متباينين حقيقة ، بل الواحدة العرفيّة ليست إلاّ بحسب الشكل فقط.

فليس للعرف طريق إلى تشخيص الوحدة بين المركّب التامّ الأجزاء والناقص في أغلب العبادات ، لعدم طريق له إلى معرفة الأركان ، وتميّزها عن غيرها إلاّ بما صرّح الشارع بركنيّتها.

وهذا الإشكال يأتي في إجراء قاعدة الميسور أيضا وسنتكلّم فيه إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل : أنّ خطاب لا تنقض اليقين بالشكّ وإن كان تشخيص موضوعه بنظر العرف ، ولكن فيما يكون للعرف طريق إلى التشخيص ، لا فيما ليس لهم طريق إلى ذلك.

هذا ، مضافا إلى أنّ العرف أيضا ربما لا يرى الوحدة بين الفاقد للقيد والواجد له ، حتّى فيما إذا كان المركّب من الأمور العرفيّة ، فالاستصحاب بهذا الوجه لا يفي بجميع الموارد.

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ القيد المتعذّر لو كان من قبيل الشرط أو المانع ، فيحتمل أن يكون بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت ، لا الواسطة في العروض ، فيكون

ص: 131

ما هو الموضوع في القضيّتين بنظره واحدا.

وأمّا إذا كان من قبيل الأجزاء فلا يمكن ذلك ، إذ لا شكّ في أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ينبسط على جميع الأجزاء ، فكلّ جزء من الأجزاء يقع تحت الأمر المتعلّق بالمجموع ، فلا يكون من قبيل الواسطة في الثبوت ، بل هو بنفسه معروض ، ولا شكّ في انتفاء المركّب بانتفاء جزئه ، وأيضا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، فلا يبقى شكّ في بقاء الحكم عقلا ، وإن فرضنا وحدة الموضوع عرفا.

نعم بناء على هذا البيان يأتي وجه آخر للاستصحاب الشخصي ، سنذكره إن شاء اللّه تعالى.

لا يقال : فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة بناء على ما ذكر ، للقطع بانتفاء الحكم بعد تغيّر الموضوع ، وبدونه لا شكّ إلاّ من قبل احتمال النسخ.

وذلك من جهة أنّه هناك من المحتمل أن يكون القيد المنفي من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض ، وهذا الاحتمال موجب للشكّ في بقاء الحكم. بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجزء المتعذّر ها هنا ليس واسطة في الثبوت قطعا ، بل هو يكون بنفسه معروضا - كما بيّنّاه - فالفرق بين المقامين في كمال الوضوح.

الثالث : أنّه لا شكّ في أنّ الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان واجبا نفسيّا في ضمن المجموع المركّب منه وممّا تعذّر ، والجامع بين هذا الوجوب النفسي الضمني والوجوب النفسي المستقلّ المتعلّق بالمجموع كان موجودا يقينا ، وبعد انتفاء أحد فرديه - وهو الوجوب النفسي المتعلّق بالمجموع - يحتمل بقاؤه في ضمن الفرد الآخر ، وهو الوجوب المتعلّق بما عدا المتعذّر.

غاية الأمر وجوب الباقي بعد ما كان ضمنيّا ينقلب استقلاليّا ، ولا إشكال فيه ، لأنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع من أمر وجودي وهو وجوب الباقي ، وأمر عدمي وهو عدم وجوب الجزء المتعذّر. أمّا الثاني فهو المفروض ، وأمّا الأوّل فيثبت

ص: 132

بالاستصحاب.

وفيه : أنّ إثبات وجوب الباقي باستصحاب الجامع مثبت.

ويمكن تقرير هذا الوجه بشكل آخر ، وهو أنّ الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي للمجموع مع الوجوب النفسي الاستقلالي للباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان موجودا يقينا في ضمن وجوب المجموع ، وبعد تعذّر بعض الأجزاء وإن كان انعدم وجوب المجموع ، ولكنّه حيث أنّه من المحتمل حدوث وجوب نفسي استقلالي للباقي ، فوجود الجامع محتمل البقاء ، فيستصحب.

وفيه أوّلا : أنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي قلنا بعدم جريانه.

وثانيا : إثبات وجوب الباقي باستصحاب الجامع مثبت.

أمّا إنّه من القسم الثالث من أقسام الكلّي ، لأنّ الجامع الموجود يقينا كان وجوده في ضمن الوجوب المتعلّق بالكلّ ، وقد انعدم قطعا ، واحتمال بقائه من جهة احتمال حدوث فرد آخر من مصاديق ذلك الجامع حال انعدمه - وهو وجوب النفسي الاستقلالي للباقي - عين القسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وأمّا إنّه مثبت ، فمن جهة أنّ الجامع في المفروض له فردان : وجوب الكلّ ، ووجوب الباقي ، وبعد انعدام أحد الفردين وهو وجوب الكلّ فلو فرضنا بقاء الجامع كما هو مفاد الاستصحاب ، فلا بدّ وأن يكون في ضمن الفرد الآخر وهو وجوب الباقي ، وهذا لازم عقلي لوجود الجامع وبقائه ، وليس عينه.

الرابع : استصحاب الجامع بين الوجوب النفسي الضمني الذي كان لغير المتعذّر من الأجزاء قبل حدوث التعذّر ، والوجوب النفسي الاستقلالي المحتمل حدوثه للباقي بعد حدوث التعذّر ، ولا شكّ في أنّ هذا الجامع كان موجودا يقينا في ضمن الوجوب النفسي الضمني للباقي قبل حدوث التعذّر ويشكّ في بقائه بعد حدوث التعذّر لاحتمال

ص: 133

حدوث الوجوب النفسي الاستقلالي للباقي بعد التعذر.

وفيه : أنّ هذا أيضا أوّلا من القسم الثالث من أقسام الكلّي ، وثانيا أنّه مثبت. ومن كثرة وضوحه لا يحتاج إلى البيان.

الخامس : وهو الذي اعتمد عليه وسليم عن هذه الإشكالات ، وإن ذكرته في كتابنا « منتهى الأصول » بصورة الاحتمال.

وتوضيحه ببيان مقدّمة : وهي أنّ الإرادة إذا تعلّقت بمركّب ، فكلّ جزء من أجزاء ذلك المركّب يقع تحت قطعة من تلك الإرادة ، وليست الإرادة ، وليست الإرادة أمرا بسيطا متعلّقا بالمجموع بحيث يكون وجودها وجودا واحدا غير قابل للانحلال ، بل تنبسط على جميع الأجزاء نحو انبساط البياض - مثلا - على الجسم المعروض له.

ولأجل هذه الجهة قلنا إنّ المقدّمات الداخليّة - أي الأجزاء - ليست واجبة بالوجوب الغيري ، بل واجبة بالوجوب النفسي الضمني ، وأيضا لهذه الجهة قلنا بالانحلال في باب العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ، فإنّ الأقلّ معلوم تفصيلا وجوبه النفسي وكونه تحت الإرادة ، ويبقى كون الزائد تحت الإرادة مشكوكا ، فيكون مجرى البراءة.

وأمّا كون وجوب الأقلّ مردّدا بين أن يكون ضمنيّا أو استقلاليّا ، فأوّلا : لا دخل له بالمقام ، وثانيا : قلنا إنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع عن وجوبه وعدم وجوب غيره معه ، ولا فرق في كونه واجبا ومتعلّقا للإرادة بين أن يكون معه غيره أو لا يكون.

إذا عرفت هذا فنقول : فما عدى الجزء المتعذّر قطعا كان قبل حدوث التعذّر واجبا وكان تحت الإرادة ، وبعد حدوث التعذّر بالنسبة إلى بعض الأجزاء يشكّ في بقاء تلك القطعة التي كانت متعلّقة بما عدا الجزء المتعذّر ، إذ من المحتمل ارتفاع خصوص تلك القطعة المتعلّقة بخصوص الجزء المتعذّر - من باب أنّه تكليف بالمحال إذا كان ذلك الجزء متعذّرا ، أو من باب أنّ التكليف به مناف مع كون الشريعة سمحة

ص: 134

وسهلة إذا كان إيجاد ذلك الجزء متعسّرا - لا ارتفاع الإرادة بالمرّة.

ومعلوم أنّ الإرادة بعد التمكّن من إيجاد متعلّقها تابعة للملاك وجودا وعدما ، فيتمّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وهذا الاستصحاب شخصي وليس بكلّي.

ثمَّ لا يخفى أنّ الرجوع إلى الاستصحاب يكون بعد عدم دليل لفظي على لزوم الإتيان بالميسور ، أو أمارة لبيّة كالإجماع ، وإلاّ لو كان إطلاق دليل أو رواية معتبرة أو إجماع على لزوم الإتيان بما عدا الجزء المتعذّر أو عدم لزومه ، فلا تصل النوبة إلى هذا الاستصحاب.

[ الأمر ] الثالث : الإجماع والاتّفاق على أنّ الأمر المتعلّق بمركّب لا يسقط بصرف تعذّر بعض أجزائه أو تعسّره ، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذّر باق على مطلوبيّته ووجوبه.

والإنصاف : أنّ الإجماع على هذا العنوان العامّ وإن لم نتحقّقه ، ولكن لا سبيل إلى إنكاره بالنسبة إلى بعض مصاديقه وصغرياته ، خصوصا في مثل الحجّ والصلاة في غير الأجزاء الركنيّة لهما ، ومع ذلك لا يصحّ الاعتماد على مثل هذه الإجماعات التي يمكن أن يكون اتّفاقهم مستندا إلى بعض هذه الأدلّة التي أقيمت في هذا المقام.

[ الأمر ] الرابع : الروايات الواردة في هذه القاعدة :

منها : قوله صلی اللّه علیه و آله في خطبته في الحجّ : « أيّها الناس قد فرض اللّه عليكم الحجّ فحجّوا » فقال رجل : أكلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت صلی اللّه علیه و آله حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » ثمَّ قال صلی اللّه علیه و آله : « ذروني ما تركتم فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي ء فدعوه » (1).

ص: 135


1- « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 975 ، ح 1337 ، كتاب الحج ، ح 412 ، (73) باب فرض الحج مرة في العمر ، « سنن النسائي » ج 5 ، ص 110 ، باب وجوب الحج.

منها : ما روى عن أمير المؤمنين علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (1).

منها : أيضا عنه علیه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2).

وهذه الروايات الثلاث لكثرة اشتهارها بين الفقهاء وعملهم بها لا يحتاج إلى التكلّم عن سندها ، أو الإشكال عليه بالضعف.

وعمدة الكلام هو التكلّم في دلالتها

فنقول :

أمّا الحديث الأوّل المرويّ عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فتقريب الاستدلال به على هذه القاعدة هو أنّه لا شكّ في أنّ مرجع الضمير في كلمة « منه » هو الشي ء المأمور به ، فتكون كلمة « من » ظاهرة في التبعيض ، لأنّ الشي ء المأمور به له بالنسبة إلى قدرة المكلّف حالات ثلاث : فتارة يكون تمامه مقدورا ، وأخرى تمامه غير مقدور ، وثالثة يكون بعضه مقدورا وبعضه غير مقدور.

أمّا على الأوّلين فحاله معلوم ، فيجب إتيان تمامه على الأوّل ، ولا يجب عليه شي ء على الثاني.

وأمّا على الثالث فثلاث صور : الأوّل إتيان تمامه ، وهذا لا يجب قطعا ، لأنّه تكليف بما لا يطاق. الثاني : عدم إتيان تمامه. الثالث : التبعيض بوجوب الإتيان بالمقدور منه فقط.

وهذا الأخير هو مفاد القاعدة ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « فأتوا منه ما استطعتم » ظاهر في هذا الأخير.

ص: 136


1- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 205.
2- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 207.

وذلك من جهة أنّ كلمة « من » وإن كانت قد تأتي لبيان ما قبلها وأنّه من أيّ جنس ، كقولهم : خاتم من فضة ، لكنّه فيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لأنّ مدخول « من » ضمير راجع إلى نفس الشي ء ، فلا يمكن أن يكون مفسّرا ومبيّنا له ، كما هو شأن « من » البيانيّة.

وأمّا كونها بمعنى الباء وإن كان ممكنا كي يكون المعنى كذلك : إذا أمرتكم بشي ء فأتوا بذلك الشي ء ما دام استطاعتكم ، ولكن هذا المعنى مع أنّه لا ينطبق على المورد - لأنّ السائل يسأل عن تعدّد الإتيان في كلّ عام بعد الفراغ عن القدرة على الإتيان في العام الأوّل. وإن شئت قلت : بعد الفراغ عن القدرة على إتيان صرف الوجود - يكون ذكر هذا القيد ركيكا ، من جهة أنّ اشتراط التكليف ووجوب الإتيان بالقدرة عقليّ وأمر واضح معلوم ، فلا بدّ وأن تكون كلمة « من » للتبعيض ، كما هو الظاهر والغالب من استعمالات هذه الكلمة ، فيكون المعنى هكذا : إذا أمرتكم بشي ء فأتوا بعضه الذي تحت قدرتكم واستطاعتكم. وتكون الماء موصولة ، لا مصدريّة ولا ظرفيّة ، فيكون مفاد الحديث الشريف عين القاعدة.

نعم ها هنا إشكال : وهو أنّ الاستدلال بهذا الحديث على هذه القاعدة مبنيّ على أن يكون المراد من « الشي ء » في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا أمرتكم بشي ء » هو الكلّ والمركّب من عدّة أجزاء ، وأمّا لو كان المراد به الكلّي والطبيعة المنطبقة على الأفراد والمصاديق المتعدّدة من دون ملاحظة خصوصيّات المشخّصة لها فيكون المعنى هكذا : إذا أمرتكم بطبيعة كلّية ذات أفراد ومصاديق متعدّدة فأتوا بعض تلك الأفراد والمصاديق الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم ، فيكون الحديث الشريف أجنبيّا عمّا نحن بصدده ، ويكون تامّ الانطباق على المورد ، لأنّ سؤال ذلك الصحابي كان عن لزوم تكرار الطبيعة وإيجادها في كلّ عام ، أو الاكتفاء بصرف الوجود منها ، والمتعيّن هو هذا الاحتمال وإلاّ يلزم عدم انطباقه على المورد وهو في غاية الركاكة.

ولا يمكن أن يقال بأنّ المراد من الشي ء كلا الأمرين : الكلّ والكلّي ، فيشمل المورد

ص: 137

والقاعدة جميعا ، وذلك لتنافي اللحاظين ، فلا يمكن جمعهما في استعمال واحد.

وفيه : أنّ إرادة الكلّ بهذا العنوان - أي الواحد المركّب من الأجزاء - والكلّي أيضا بهذا العنوان - أي الطبيعة الكلّية القابلة للانطباق على كثيرين - وإن كان لا يمكن جمعهما في استعمال واحد ، لما ذكرت من تنافي اللحاظين ، إلاّ أنّه لا مانع من إرادة الجامع بينهما ، إذ ليس بناء على هذا إلاّ لحاظ واحد ، وهو لحاظ الجامع بين الكلّ والكلّي ، لا لحاظ الكلّ والكلّي بخصوصيّتهما كي يكون من الجمع بين اللحاظين المتنافيين في استعمال واحد.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره من عدم إمكان أن يراد من « الشي ء » الأعمّ من الكلّ والكلّي كي يكون المعنى كما ذكرنا ، لعدم الجامع بينهما ، لأنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء.

فقد عرفت ما فيه ، لأنّ لحاظ الجامع بمكان من الإمكان ، إذ الشي ء من المفاهيم العامّة ، ومصدر مبنيّ للمفعول وبمعنى المشي وجوده ، ويكون مساوقا للوجود ولمفهوم الموجود في الممكنات ، فكلّ ممكن شي ء وجوده فهو موجود ، لعدم تخلّف الإرادة التكوينيّة عن المراد ، وأمّا ما ليس بممكن ، أو كان ولكن لم يشأ وجوده كالعنقاء مثلا فهو معدوم ، وليس بشي ء. وأمّا واجب الوجود فهو شي ء لا كسائر الأشياء أي ما شي ء وجوده ، لأنّ الوجود عين ذاته تعالى.

فبناء على هذا المركّب من الأجزاء الذي شي ء وجوده شي ء ، وكذلك الكلّي والطبيعة التي شي ء وجودها شي ء ، فوجود الجامع بين الكلّ والكلّي من أوضح الواضحات.

وأمّا ما أفاده أخيرا من عدم صحّة استعمال كلمة « من » في الأعمّ من الأفراد والأجزاء ، وإن صحّ استعمال « الشي ء » في الأعمّ من الكلّ والكلّي.

ففيه : أنّ كلمة « من » استعملت في الربط والنسبة التبعيضية بين الفعل - أي فأتوا

ص: 138

- ومفعوله - أي الشي ء - كما تقول : ملأت الكوز من النهر ، فالمراد أنّ ما ملأ الكوز بعض ماء النهر ، وليس كلمة « من » في هذا المثال مستعملة في بعض ماء النهر ، بل استعملت في الربط التبعيضيّة الذي بين قوله « ملأت » و « ماء النهر » وهكذا الأمر في المقام ، فكلمة « من » استعملت في الربط الكذائي بين الإتيان والشي ء ، وإذا كان المراد من الشي ء باعتبار كونه مصداقا للجامع بين الكلّ والكلّي هو الكلّ ، فيكون مصداق تلك النسبة هي الربط التبعيضية في الأجزاء ، وإذا كان المراد بذلك الاعتبار هو الكلّي فيكون المصداق هو الربط المذكور في المصاديق والأفراد ، وإن كان المراد هو الجامع فيشمل كلا الأمرين كما فيما نحن فيه.

والإنصاف : أنّه لو لم يكن المورد من قبيل الكلّي والأفراد لكان مقتضى فهم العرفي - الذي هو الميزان في استظهار المعاني من الأحاديث والروايات ، بل الآيات أيضا وعليه مدار الفقاهة - هو أنّ المراد من « الشي ء » الكلّ ، بقرينة كلمة « من » الظاهرة في التبعيض.

ولكن حيث أنّ المورد ليس من قبيل الكلّ والأجزاء ، فلا بدّ وأن نقول بأنّ المراد منه هو الأعمّ من الكلّ والكلّي لكي يندرج فيه المورد ويخرج من الركاكة.

هذا مع أنّه لو قلنا بمقالة صاحب الكفاية قدس سره في المعاني الحرفيّة - من أنّ الموضوع له في الحروف والأسماء واحد كلّ لمرادفه ، (1) فيكون في المقام كلمة « من » بمعنى البعض الذي هو مفهوم اسميّ أيضا - لا يرد شي ء على ما استظهرنا من الحديث من أنّ مفاده اعتبار هذه القاعدة.

وذلك من جهة أنّ لفظ « البعض » أيضا مفهومه مشترك بين بعض الأجزاء وبعض الأفراد ، فلو كانت ألفاظ الحديث هكذا : إذا أمرتكم بمركّب ذي أجزاء أو بطبيعة ذات أفراد فأتوا بعضهما الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم. والمفروض أنّ ذلك

ص: 139


1- « كفاية الأصول » ص 11 - 12.

المركّب المأمور به ليس تمام أجزائه تحت قدرة المكلّف واستطاعته ، ولا تمامها خارج عن تحت قدرته ، بل يقدر على إتيان البعض دون البعض الآخر ، وكذلك في الطبيعة المأمور بها قادر على إتيان بعض الأفراد دون بعضها ، فهل يشكّ أحد في أنّ المراد به إتيان أجزاء المقدورة من ذلك المركّب والأفراد المقدورة من تلك الطبيعة؟

هذا تمام الكلام في الحديث الأوّل.

وأمّا الثاني : أي الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (1) فهو في دلالته على المطلوب أوضح ، لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ الميسور من كلّ ما أمر به الشارع الأقدس لا يسقط بواسطة سقوط المعسور من ذلك الشي ء ، فإذا أمر بالصلاة أو بعبادة أخرى ، فكان بعض أجزاء تلك العبادة معسورا وسقط التكليف عنه بواسطة تعسّره أو تعذّره ، فلا يوجب سقوط هذا البعض سقوط البعض الميسور من تلك العبادة. وهذا عين مفاد هذه القاعدة ، وليس ها هنا مورد مثل الحديث النبويّ صلی اللّه علیه و آله كي يأتي الإشكال المذكور فيه ، فيحتاج إلى الأجوبة التي تقدّمت ، أو إلى غيرها.

نعم يمكن أن يكون المراد من قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » أعمّ من الأجزاء والأفراد ، فباعتبار كونه الميسور من المركّب يكون الأجزاء غير المتعذّرة أو غير المتعسّرة ميسورة ، وباعتبار إضافته إلى الطبيعة الكليّة يكون ميسورها هو الأفراد غير المتعذّرة ، فيشمل كلا الأمرين ، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما.

فكما أنّ الصلاة - مثلا - لو تعذّر إتيان بعض أجزائها دون البعض الآخر يشملها هذا الحديث ، فكذلك لو قال : أكرم السادات أو العلماء ، والمكلّف متمكّن من إكرام بعض دون بعض ، فلا يسقط وجوب إكرام الأفراد الميسور إكرامهم بواسطة تعذّر إكرام الآخرين أو تعسّره.

ص: 140


1- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 205.

ثمَّ إنّ هذه الرواية تشمل المستحبّات كما تشمل الواجبات ، فلو كان في صلاة الليل - مثلا - بعض أذكارها المستحبّة ميسور له دون البعض الآخر ، فبتعذّر ذلك البعض لا يسقط البعض الميسور عن موضوعيّته للاستحباب.

وحيث أنّ السقوط عبارة عن ارتفاع حكم المعسور ، إذ لا معنى لارتفاع نفس المعسور ، فنفي السقوط عبارة عن عدم ارتفاع حكم الميسور - أي ثبوت حكمه - لأنّ النفي في النفي إثبات ، فيكون معنى الرواية أنّ حكم الميسور من كلّ شي ء باق ، ولا يسقط بسقوط حكم المعسور ، فإن كان حكمه الاستحباب فاستحبابه باق ، وإن كان الوجوب فوجوبه باق.

وأمّا ما قيل : من أنّ المنفي إن كان هو اللزوم فلا تشمل الرواية المستحبّات ، لأنّ الأجزاء الميسورة من المستحبّات لا لزوم لها كي يحكم الشارع بعدم ارتفاعها ، فتكون الرواية مختصّة بالواجبات ، وإن كان المنفي هو مطلق المطلوبيّة والرجحان ، فلا يثبت بها لزوم الإتيان بالميسور ، ويدلّ على أنّ الإتيان به راجح فقط.

وهذا خلاف ما يراد من الرواية ، لأنّ المقصود إثبات وجوب الباقي بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب إن كان واجبا ، وبناء على التعميم استحباب الباقي بعد تعذّر البعض إن كان المركّب مستحبّا فلا بدّ وأن نقول بأنّ المنفي هو ارتفاع الوجوب عن الباقي بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فتكون الرواية مختصّة بالواجبات ولا تشمل المستحبّات.

ففيه : أنّ المنفي هو سقوط موضوعيّة الميسور لحكمه السابق قبل حدوث التعذّر ، أو موضوعيّته لحكمه على تقدير عدم تعذّر بعض الأجزاء ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الحكم على تقدير عدم تعذّر بعض الأجزاء هو الاستحباب أو الوجوب. وقد بيّنّا في كتابنا « المنتهى » أنّ الموضوعيّة للحكم الشرعي من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل التشريعي ، فيكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع.

ص: 141

ومن الواضح الجليّ أنّ قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » ليس إخبارا عن أمر خارجي ، بل هو في مقام التشريع يحكم ببقاء موضوعيّة الميسور من كلّ مركّب كان موضوعا لحكم شرعي على ما كان ، وعدم سقوط موضوعيّته بتعذّر بعض أجزائه ، سواء كان حكمه السابق هو الوجوب ، أو كان هو الاستحباب.

وأمّا ما قيل : من أنّ حكمه السابق هو كان الوجوب النفسي الضمني ، وهو في ضمن وجوب الكلّ ، فإذا ارتفع الوجوب عن الكلّ لتعذّر بعض أجزائه فيرتفع ذلك الوجوب الضمني عن الباقي قهرا ، ولو كان هناك بعد ذلك وجوب فهو الوجوب النفسي الاستقلالي ، وهو غير ذلك الوجوب الضمني ، فموضوعيّته ارتفع قهرا ولا معنى لعدم سقوطه ، ولو فرضنا أنّه كان له مثل الحكم السابق ، فهذا حكم جديد وموضوعيّة جديدة.

ففيه : ما قلنا في بعض صور جريان الاستصحاب في هذه المسألة ، أنّه على تقدير وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء فليس هذا وجوبا آخر ، بل هو عين الوجوب السابق.

وأمّا كونه ضمنيّا في السابق واستقلاليّا بعد حدوث تعذّر بعض الأجزاء لا يوجب تغيّرا في وجوب الباقي. والضمنيّة والاستقلاليّة مفهومان ينتزعان عن وجوب ما عدا الباقي وعدم وجوبه ، وبهذا الوجه أجرينا الاستصحاب الشخصي ، واعتمدنا عليه ودفعنا جميع الإشكالات.

ثمَّ إنّه بعد ما ظهر لك دلالة هذه الرواية على مفاد هذه القاعدة ، وشمولها للمركّب الواجب والمستحبّ ، أقول : إنّه يعتبر في مقام إجراء هذه القاعدة كسائر القواعد إحراز موضوعها ، وتشخيص أنّ الباقي بعد تعذّر البعض ميسور ذلك المركّب الكلّ ، لأنّ موضوع الحكم بعدم السقوط هو كون الباقي المتمكّن منه ميسورا لذلك المركّب ، فلا بدّ وأن يكون من مراتب ذلك المركّب ، غاية الأمر ولو كان إحدى مراتب النازلة منه كي

ص: 142

يصدق عليها أنّها ميسورة.

وهذا فيما إذا كان المراد من الميسور هو الميسور من نفس المركّب ، مثلا الميسور من الوضوء أو الغسل بعد تعذّر بعض أجزائهما هو مرتبة منهما دون المرتبة الكاملة.

مثلا يمكن أن يقال : إنّ الوضوء أو الغسل مع المسح على الجبيرة في بعض أعضائهما مرتبة نازلة من الوضوء أو الغسل دون المرتبة الكاملة منهما ، التي في الوضوء عبارة عن غسل تمام بشرة الوجه واليدين من المرفق إلى رؤوس الأصابع ومسح الرأس والرجلين ، وفي الغسل عبارة عن إحاطة الماء على تمام بشرة البدن ، فالميسور من مركّب هو وجود مرتبة من ذلك المركّب وإلاّ إن لم يصدق عليه عنوان ذلك المركّب وكان أمرا مباينا له ، فلا يصدق عليه أنّه ميسورة.

إذا عرفت هذا فيرد ها هنا إشكال : وهو أنّ تشخيص هذا المعنى في الموضوعات العرفيّة ممكن غالبا ، لأنّ مفاهيم المركّبات العرفيّة غالبا معلوم عند العرف ، وأنّ الجزء المتعذّر هل له دخل في التسمية بحيث أنّه مع عدمه ينعدم المركّب ولا يصدق على الباقي عنوان ذلك المركّب ، أم ليس كذلك وليس له دخل في التسمية ، بل الجزء الفاقد يوجب سلب الكمال لا سلب أصل الحقيقة ، فإذا كان من القسم الأوّل فليس من ميسور المركّب ولا يشمله القاعدة ، بخلاف القسم الثاني فيصدق عليه أنّه ميسورة.

وأمّا إذا كان المركّب الكلّ من الموضوعات الشرعيّة ، كالصلاة والصوم والحجّ ، بل وكالوضوء والغسل والتيمم ، فإذا تعذّر إيجاد بعض أجزاء هذه المذكورات ، أو بعض شرائطها ، أو تعذّر ترك بعض موانعها ، فإطلاق الميسور على الباقي المتمكّن منها لا يخلو من إشكال.

وذلك من جهة عدم طريق للعرف إلى معرفة أنّ هذا الجزء أو الشرط المتعذّر وجودهما ، أو أنّ هذا المانع المتعذّر تركه هل له دخل في تحقّق ماهيّة هذا المركّب ، بحيث لو لم يكن في مورد تعذّر الجزء والشرط أو كان في مورد تعذّر ترك المانع لا

ص: 143

يوجد ماهيّة هذا المركّب ولو مرتبة ضعيفة منها ، ولا يصدق عنوان هذا المركّب الكلّ على الباقي المتمكّن منه.

وذلك من جهة أنّ دخل الجزء أو الشرط الكذائي في تأثير المركّب في الأثر المطلوب منه بحيث لو لم يكن لا أثر له أصلا لا يعرف إلاّ من بيان نفس الشارع ، فلا طريق إلى معرفة أنّه بعد بعض الأجزاء أو بعض الشرائط وجودا ، أو تعذّر بعض الموانع عدما إلاّ من طرف نفس الشارع الذي هو جاعله للوصول إلى الغرض المطلوب منه ، فلو لم يكن بيان من قبل الشارع لما كان يعرف العرف أنّ الحاجّ الذي يتحمّل المشاقّ ويأتي بجميع أعمال الحجّ من الإحرام والسعي والطواف وصلاته وأعمال منى جميعا ، ولكن لم يقف في وادي العرفات ولا في المشعر ، فهذا لم يحصل له الحجّ أصلا.

وكذلك من أتى بجميع أجزاء الصلاة وشرائطها وترك موانعها ، إلاّ أنّه ترك شرطا واحدا وهو أنّه أتى بها مثلا خمس دقائق قبل الوقت لا صلاة له ولو كانت مرتبة ضعيفة منها.

وحاصل الكلام : أنّ معرفة الأجزاء الركنيّة وكذلك شرائطها لا طريق إليها إلاّ من طرف بيان الشارع ، فبناء على هذا لا يمكن إحراز موضوع قاعدة الميسور في الموضوعات والمهيّات المخترعة من قبل الشارع ، فلا يمكن إجرائها فيها.

نعم أجزاء تلك العبادات ربما تكون من الموضوعات العرفيّة ، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة ، وغسل البشرة في الوضوء أو الغسل ، والوقوف والسعي في الحجّ ، وأمثال ذلك ، فيمكن إجراء القاعدة في نفس هذا الجزء.

مثلا القيام أو الركوع لكلّ واحد منهما مراتب عند العرف ، فإذا لم يتمكّن من المرتبة العليا منهما فلا يسقطان بالمرّة ، بل على المكلّف أن يأتي بالمرتبة النازلة منهما التي يتمكّن منها. وهكذا الأمر في سائر الأجزاء والشرائط ، فلا نطيل الكلام أزيد

ص: 144

من هذا.

ولكن كلّ ما ذكرنا - بالنسبة إلى عدم إمكان إحراز موضوع قاعدة الميسور في المهيّات المخترعة عن قبل الشارع - كان فيما إذا كان المراد من كلمة « الميسور » في الرواية المذكورة الميسور من المركّب المأمور به. وأمّا إذا كان المراد منه الميسور من أجزائه لا نفس المركّب ، فلا يأتي هذا الإشكال ، لأنّ الميسور من الأجزاء أمر عرفي يفهمه كلّ أحد ، فالمركّب عن عدّة أمور لو تعذّر بعض أجزائه ، فالباقي من الأجزاء الذي تحت قدرته وهو متمكّن من إتيانه يصدق عليه أنّه الميسور من أجزاء ذلك المركّب ، سواء صدق عليه عنوان ذلك المركّب أو لم يصدق.

نعم يبقى الكلام في أنّ المراد من الميسور في مقام الإثبات هل هو ميسور المركّب أو الميسور من الأجزاء؟

والإنصاف أنّ لفظ « الميسور » وإن كان مطلقا من هذه الجهة ، لأنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه الميسور ، ولكن إرادة الميسور من الأجزاء منه بعيد جدّا ، لأنّ الميسور من الأجزاء يصدق على جزء واحد من المركّب الذي يكون أجزائه عشرين مثلا وتعذّر تسعة عشر منها وبقي واحد منها تحت التمكّن ، فيقال وجوب هذا الواحد لا يسقط بتعذّر باقي الأجزاء ، فهذا في غاية البعد من ظاهر هذا الكلام.

وأمّا الثالث : أي قوله علیه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كله » فدلالته على هذه القاعدة في غاية الوضوح ، لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ الشي ء الذي لا يمكن الإتيان بجميعه لا يجوز ترك جميعه ، بل يجب الإتيان بالمقدار الذي يمكنه أن يدركه ويكون تحت قدرته. وأمّا احتمال أن يكون المراد من الموصول خصوص الكلّي - باعتبار أفراده المتعدّدة كي يكون المعنى : أنّ من لا يمكنه إدراك جميع أفراد الطبيعة التي أمر بها لا يجوز له ترك جميع تلك الأفراد ، بل يجب عليه أن يأتي بالمقدار المقدور منها - لا وجه له أصلا ، لأنّ ظهور جملة « ما لا يدرك كلّه » في الكلّ أقوى من ظهورها في خصوص

ص: 145

الكلّي. وهذا واضح جدّا.

نعم لا بأس بأن يقال إطلاق لفظ الكلّ في الجملتين يشمل كلّ أجزاء المركّب المأمور به ، وكلّ أفراد الكلّي الذي أمر به ، وأمّا تخصيصه بكلّ أفراد الكلّي يكون بلا مخصّص وليس له وجه ظاهر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه إن كان إشكال في دلالة قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » على هذه القاعدة لما ذكرنا ، لكن لا إشكال في دلالة الروايتين الأولى والثالثة عليها ، وفيهما غنى وكفاية.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها

فنقول : موارد تطبيقها في المسائل الفقهيّة كثيرة واستقصائها لا مجال له في هذا المختصر ، ولكن نذكر جملة منها. ولا يخفى أنّ أغلب موارد تطبيق هذا القاعدة ممّا نذكرها ها هنا - أو ممّا لم نذكرها - وردت أدلّة خاصّة على لزوم الإتيان بالباقي الميسور في الواجبات ، وعلى استحبابه في المستحبّات.

فمنها : ما إذا تعذّر تعدّد الغسل في المتنجّس بالبول - بناء على لزوم التثنية في البول فيما إذا غسل بالماء القليل - وهو متمكّن من غسله مرّة واحدة ، فهل يجب لأثر تخفيف النجاسة أم لا؟ الظاهر جريان القاعدة.

ومنها : إذا كان الإناء ولغ فيه الكلب والخنزير ولا يقدر على التعفير ، فهل يجب غسله بالماء القراح وحده بهذه القاعدة أم لا؟

الظاهر جريان القاعدة ولزوم الإتيان بالمقدار الميسور. ولكن يمكن أن يقال في هذين الموردين أنّ الشارع جعل سبب التطهير هو التعدّد في البول والغسل مع التعفير

ص: 146

في الولوغ ، فإذا لم يوجد السبب لا يوجد المسبّب ، ويبقى الإناء على نجاسته في مسألة الولوغ ، والثوب المتنجّس على نجاسته في مسألة المتنجّس بالبول.

وحيث أنّ وجوب الغسل في المسألتين مقدّميّ ، وتحصيل طهارة الثوب وطهارة الإناء ليستعمل فيما هو مشروط بالطهارة ، فإذا علم بعدم حصول الطهارة بدون التعدّد في البول وبدون التعفير في الولوغ ، فيكون الغسل الواحد في الأوّل وبدون التعفير في الثاني لغوا وبلا فائدة ، فلا معنى لأن يكونا واجبين بالوجوب المقدّمي. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّهما يوجبان التخفيف في النجاسة ويرفعان مرتبة منها ، ولا يبعد ذلك.

ومنها : إذا تعذّر مقدار الذي عيّن الشارع من الدلاء في نزح البئر لوقوع النجاسات فيها ، ولكن يمكن له نزح بعض ذلك المقدار ، فهل تجري قاعدة الميسور لوجوب نزح مقدار الممكن إن قلنا بوجوب النزح ، أو لاستحبابه بناء على القول باستحبابه وبناء على القول بجريانها في المستحبّات ، كما هو المختار عندنا.

الظاهر جريانها إلاّ على الإشكال المتقدّم من كون وجوب النزح وجوبا مقدّميّا ، ومع عدم حصول ذي المقدمة يكون لغوا.

والجواب عن هذا الإشكال هو الجواب المتقدّم ، فلا نعيد.

والإنصاف : أنّ قاعدة الميسور على تقدير شمولها للمستحبّات تجري في الواجبات والمستحبّات النفسيّة ، وأمّا جريانها في الواجبات المقدّميّة مع العلم بأنّ هذا المقدار الميسور من المقدّمة لا تأثير له في إيجاد ذي المقدّمة مشكل جدّا ، بل في بعض الموارد يكون من المضحكات.

ومنها : أنّه لو تعذّر السدر والكافور في غسل الميّت ، فهل يجب الغسل بالماء القراح باعتبار أنّه الميسور من الغسل مع الخليط بأحدها ، أم لا؟

والظاهر جريان القاعدة ها هنا بدون إشكال في البين ، لأنّ هذا الغسل واجب نفسيّ ، فلا مانع من أن يكون الواجب والمطلوب أغسال ثلاثة بالماء القراح ، أحدها

ص: 147

هو المشروع الأوّلي بجعله كذلك ، واثنان منها بقاعدة الميسور.

ومنها : في باب الكفّارات لو تعذّر عتق الرقبة المؤمنة ، ولكنّه متمكّن من عتق غير المؤمنة ، فهل يجب بقاعدة الميسور ، أم لا؟

الظاهر جريانها ووجوب عتق الرقبة غير المؤمنة ، بناء على جريانها في الواجب المقيّد بقيد فيما إذا تعذّر قيده.

وربما يقال بأنّ المقيّد بقيد إذا تعلّق به الوجوب - كما في المثال المذكور - ففاقد ذلك القيد يباين الواجد له ، فليس بميسورة كي تشمله قاعدة الميسور ، كما أنّ ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا أمرتكم بشي ء فأتو منه ما استطعتم » (1) هو أن يكون المستطاع بعضا خارجيّا لذلك الشي ء الذي أمر به الشارع.

وكذلك الأمر في قوله علیه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2) ويكون مفاده لزوم الإتيان بالبعض الخارجي لذلك الكلّ المأمور به ، وفاقد القيد ليس بعضا خارجيّا لواجد القيد ، بل هو بعض تحليلي له ، وذلك من جهة أنّ القيد مع ذات المقيّد لهما وجود واحد ، لا أنّ لكلّ واحد منهما وجود حتّى يكون من قبيل المركّب الخارجي والكلّ وجزئه.

فلا يشمله أدلّة قاعدة الميسور ، إذ ليس مجموع القيد والمقيّد كلاّ خارجيّا بالنسبة إلى ذات المقيّد وحدها ، ولا أنّ ذات المقيّد جزء خارجي للمجموع ، ولا أنّه ميسورة.

ولذلك قالوا في بيع الجارية المغنّية بالبطلان وعدم كونه من باب تبعّض الصفقة ، كلّ ذلك من جهة أنّ ذات المقيّد مع قيده موجودان بوجود واحد في الخارج ، لا أنّ لكلّ واحد منهما وجود يخصّه ، فالتركيب بينهما اتّحادي لا انضمامي.

ص: 148


1- « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 975 ، ح 1337 ، كتاب الحجّ ، ح 412 (73) باب فرض الحج مرة في العمر ، « سنن النسائي » ج 5 ، ص 110 ، باب وجوب الحجّ.
2- « عوالي اللئالي » ج 4 ، ص 58 ، ح 207.

وفيه : أنّ القيود ليست على نسق واحد ، فتارة : يكون القيد من قبيل الفصل ، وذات المقيّد من قبيل الجنس. كما إذا أمره أن يأتي بحيوان ناطق ، وهو لا يقدر على الإتيان بهذا القيد ، ويقدر على إتيان الحيوان غير الناطق. ولا شكّ في أنّ في هذا القسم من القيد والمقيّد لا تجري قاعدة الميسور ، لعين ما ذكره هذا القائل. ولا شكّ في أنّ التركيب بين القيد والمقيّد في هذا القسم اتّحادي.

وأخرى : يكون من قبيل المعرّف لموضوع الحكم وإن كان عرضيّا ، كالجارية الروميّة ، فالقيد في هذا القسم وإن لم يكن منوّعا لذات المقيّد عقلا ، بل أضافه عرضيّة لها ، ولكن ليس أيضا عند العرف عرضا منضما إليها ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة كذلك.

ففي هذا القسم أيضا لا تجري قاعدة الميسور ، فإذا قال المولى : أعتق جارية روميّة ، وهو لا يقدر على ذلك ولكن يقدر على عتق جارية حبشيّة ، فالعرف يرى هذا الأخير مباينا للمأمور به ، فلا تجري هذه القاعدة ها هنا ، وذلك من جهة أنّ الجارية الحبشيّة ليست ميسور الجارية الروميّة عنده. والمناط في تشخيص المفاهيم هو فهم العرف.

وثالثة : عند العرف وبحسب متفاهمهم أيضا يكون وجود القيد خصوصيّة زائدة على وجود ذات المقيّد ، كما في الرقبة المؤمنة. ففي مثل هذا القسم الظاهر جريان هذه القاعدة ، فإذا أمر المولى بالصلاة الجهريّة وهو لا يقدر على إتيانها جهرا لجهة من الجهات ، فهل ترضى من نفسك بأن تقول بعدم كون الصلاة الغير الجهريّة ميسور الصلاة الجهريّة ، ولا يجب عليه شي ء حتّى مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجيّة وأنّها لا تترك بحال.

والسر في ذلك : هو أنّ العرف يرى الصلاة شيئا ، وكونا جهرا شيئا خارجيّا زائدا على ذات الصلاة ومن الصفات العارضة عليها ، ويرى التركيب بينهما انضماميّا ،

ص: 149

وإن كان العرض يتّحد مع الذات بعد أخذه لا بشرط وجعله بصورة المشتقّ لا بصورة مبدأ الاشتقاق.

وأمّا عدم كون بيع الجارية المغنّية من قبيل تبعّض الصفقة ، فليس من جهة عدم كون وصف الغناء أمرا زائدا على الذات ، بل من جهة عدم الانحلال عند العرف إلى كون الذات مبيعا والوصف مبيعا آخر ، بل العرف يرى الذات المتّصفة بهذا الوصف مبيعا واحدا ، كما أنّ الجارية مع أنّه لها أجزاء يقينا ، من الرأس واليد والرجل وغيرها من سائر الأعضاء ، ومع ذلك لا ينحلّ إلى بيوع متعدّدة بعدد الأعضاء ، وذلك كلّه لأنّ العرف والعقلاء يرون المجموع مبيعا واحدا غير قابل للانحلال.

نعم باعتبار كسور المشاع يرونها بيوعا متعدّدة ، فلو ظهر أنّ نصف هذه الجارية ملك لغير البائع أو حرّ - إن قلنا بإمكان ذلك وعدم السراية - فينحلّ إلى بيعين ، ويكون من باب تبعّض الصفقة.

فظهر أنّه لو تعلّق الوجوب بذات متّصفة بصفة عرضيّة ، وكانت تلك الصفة من الأعراض الخارجيّة المحمولات بالضمائم ، وتعذّر تلك الصفة ، ولم تكن تلك الصفة عنوانا معرفة لذلك الشي ء ، ولم يكن منوّعا له عند العرف ، فبتعذّرها لا يسقط الوجوب أو الاستحباب عن ذلك الذات ، وتجري فيها قاعدة الميسور.

ومنها : أيضا في باب الكفّارات في عدد الأيّام في الصوم الذي جعل كفارة ، فلو لم يقدر على تمام العدد ولكن قدر على بعضها ، فهل تجري قاعدة الميسور ويحكم بوجوب المقدار المقدور منه ، أم لا فيسقط وجوب الباقي؟

الظاهر أنّها تجري ويحكم بوجوب الباقي.

وهذا فيما إذا لم يكن للصوم عدل لا تخييرا ولا ترتيبا واضح ، لأدلّة القاعدة.

وأمّا إن كان له عدل بأحد الوجهين ، فإن كان تخييرا كما فيما إذا أفطر في نهار شهر

ص: 150

رمضان متعمّدا بلا عذر بالحلال ، فبعد تعذّر إحدى الخصال الثلاث بتعيّن الآخران ، ولا تصل النوبة إلى إجراء قاعدة الميسور بالنسبة إلى الباقي. وهذا أيضا واضح.

وأمّا إذا كان العدل ترتيبا ، كما في كفّارة الظهار ، فإنّ إطعام ستّين مسكين جعل عدلا لصيام شهرين متتابعين بعد عدم استطاعة الصيام والعجز عنه ، لقوله تعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) . (1)

ففي هذا القسم يمكن أن يقال : إنّ وصول النوبة إلى العدل بعد العجز عن تمام مراتب السابقة لا العجز عن خصوص المرتبة التامّة.

ولكن الظاهر أنّ الترتيب بين المرتبة التامّة وما رتّب عليها ، لا تمام مراتب السابقة.

ومنها : ما ورد في بعض المستحبّات من قراءة السور المتعدّدة ، كما ورد في عمل أمّ داود ، أو السورة الواحدة مرّات كثيرة محدودة بحدّ كعشرة أو مائة أو ألف سورة التوحيد - مثلا - كما ورد في أعمال ليلة القدر ، أو بعض ليالي الآخر من شهر رمضان المبارك ، أو ليلة النصف من شعبان أو الأذكار الواردة في صلاة الليل من الاستغفار وغيره ، أو مائة مرّة « السلام على الحسين وأصحابه وأولاده علیهم السلام » في زيارة عاشوراء ، فلو لم يقدر على إتيان الجميع في الجميع ، ولكن قدر على إتيان البعض في جميع ما ذكرنا وغير ما ذكرنا من المستحبّات الكثيرة المشتملة على الأذكار المتعدّدة ، فهل تجري قاعدة الميسور ، أم لا بناء على ما اخترناه من تعميم القاعدة ، وشمولها للواجبات والمستحبّات؟

والظاهر جريانها ، فتعذّر البعض لا يوجب سقوط الاستحباب عن الجميع. فبناء على هذا لو تعذّر عليه الاستغفار سبعين مرّة في صلاة الليل مثلا ويقدر على ثلاثين

ص: 151


1- المجادلة (58) : 4.

مثلا فليأت به استحبابا.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة لا يمكن استقصاؤها في هذا المختصر.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 152

41 - قاعدة السوق

ص: 153

ص: 154

قاعدة السوق (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة السوق ». وهي أمارة على التذكية وغيرها. وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأوّل : استقرار سيرة المسلمين والمؤمنين على أنّهم يدخلون الأسواق ويشترون اللحوم والجلود من دون السؤال عن أنّها ميتة أو مذكّى ، حتّى أنّ صاحب الشريعة صلی اللّه علیه و آله ، والأئمّة المعصومين علیهم السلام أيضا كانوا كذلك ، وهذا شي ء لا يقبل الإنكار ، ولم يرد عنهم علیهم السلام ردع عن هذه السيرة ، بل هم أنفسهم علیهم السلام كانوا كسائر المسلمين يعملون بها ، فيدخلون سوق النخاسين ويشترون العبيد والإماء ، من دون أن يسألوا ويفتشوا هل هم أحرار قهروا فيبيعونهم ، أو عبيد.

حتّى أنّه قال علیه السلام في رواية حفص بن غياث : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (2) وظاهر هذه العبارة أنّ الاعتناء بهذه الاحتمالات - أي احتمال عدم التذكية في

ص: 155


1- (*) « القواعد » ص 149. « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 487.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، الباب (9) من أبواب الشهادات، ح1؛ «الفقيه» ج3، ص51، ح3307، باب من يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته ، ح 27 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 695 ، (91) باب البينات ، ح 100 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدّعوى ، باب 25 ، ح 2.

اللحوم والجلود ، واحتمال كونهم أحرار في العبيد والإماء ، واحتمال كونه مال الغير وأنّه سرق أو غصب في سائر الأموال - يوجب تعطيل الأسواق ، واختلال أمر المسلمين في معاملاتهم ، وهذا أمر مرغوب عنه عند الشارع ، فعدم الاعتناء بأسواق المسلمين وترتيب الأثر على هذه الوساوس منفور عنه.

الثاني : الإجماع على حجّية السوق ، فإنّه من قديم الزمان لم يشكّك أحد في حجّية السوق وفي أنّها أمارة التذكية.

ولكنّك عرفت ما ذكرنا مرارا من عدم اعتبار مثل هذه الإجماعات التي لها مدارك للمتّفقين يعتمدون عليها ، وليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، وكشفه عن رأي المعصوم علیه السلام .

الثالث : الأخبار :

منها : ما رواه الحلبي ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال : « اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه » (1).

وبعد الفراغ من أنّ الظاهر أنّ المراد من السوق هو سوق المسلمين ، فأمره علیه السلام باشتراء تلك الخفاف المشكوكة - أنّها مأخوذة من المذكّى أو من الميتة والصلاة فيها حتّى تعلم بأنّها مصنوعة من الميتة - يدلّ على أنّ السوق أمارة التذكية ، إلاّ أن تعلم بخلافها ، وإلاّ فمقتضى أصالة عدم التذكية التي هي من الأصول التنزيليّة هو عدم جواز شرائها ، وعدم جواز الصلاة فيها ، فلا بدّ وأن يكون هناك أمارة حاكمة على ذلك الأصل ، وليست هي إلاّ السوق حسب المتفاهم العرفي من نفس هذه الرواية.

ص: 156


1- « الكافي » ج 3 ، ص 403 ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ، ح 28 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 234 ، ح 920 ، (11) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه ، ح 128 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1071 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 2.

ولا يمكن أن يقال : إنّ أمره علیه السلام بالاشتراء والصلاة فيها حكم ظاهري مجعول للشاكّ ، حتّى يعلم من قبيل أصالة الطهارة ، لأنّه لو كان كذلك لكان استصحاب عدم التذكية حاكما على ذلك الأصل غير التنزيلي ، وعلى فرض عدم حجّية الاستصحاب نفس أصالة عدم التذكية تجري ، لأدلّة خاصّة ، فلا يبقى محلّ لذلك الحكم الظاهري الموهوم.

نعم بناء على مسلك صاحب المدارك قدس سره من أنّ أصالة عدم التذكية ليست أصلا برأسها ، وإنّما هو نفس الاستصحاب في مورد الشكّ في التذكية ، والاستصحاب ليس بحجّة (1) ، لكان لهذا الكلام وجه.

ولكن تردّه أدلّة حجّية الاستصحاب أوّلا ، وعلى تقدير تسليم عدم حجّيته تردّه الأدلّة الخاصّة التي تدل على حجّية أصالة عدم التذكية.

ومنها : رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكية ، أيصلّي فيها؟ فقال : « نعم ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر علیه السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك » (2).

وهذه الرواية ظاهرة بل نصّ في أنّ في مورد الشكّ في التذكية لا يجب السؤال والتفتيش ويصلّى فيها ، مع أنّ مقتضى أصالة عدم التذكية هو عدم جواز الصلاة فيها ، إلاّ بعد المسألة وتبيّن أنّها ذكيّة ، فليس هذا إلاّ لأجل وجود أمارة على التذكية ، وهو هنا ليس إلاّ السوق.

ومنها : ما رواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن العبد الصالح

ص: 157


1- « مدارك الأحكام » ج 2 ، ص 387.
2- « قرب الإسناد » ص 385 ، ح 1358 ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 368 ، ح 1529 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 61 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1071 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 3.

موسى بن جعفر علیه السلام مثله. (1)

عن ابن أبي نصر عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشترى الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري ، يصلّي فيه؟

قال علیه السلام : « نعم أنا اشترى الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلي فيه ، وليس عليكم المسألة » (2).

ومنها : رواية الحسن بن جهم ، قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام اعترض السوق فاشترى خفّا لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال علیه السلام : « صلّ فيه ». قلت : فالنعل؟ قال علیه السلام مثل ذلك ، قلت : إنّي أضيق من هذا ، قال : « أترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله » (3).

ودلالة هاتين الروايتين الأخيرتين على أماريّة السوق على حذو ما سبق ، بلا تفاوت أصلا.

وها هنا أخبار أخر تدلّ على اعتبار سوق المسلمين ، وأنّه أمارة التذكية ، (4) تركنا ذكرها ، لأنّ في ما ذكرنا غنى وكفاية.

الجهة الثانية

في أنّ اعتبار هذه القاعدة هل هو في خصوص إثبات التذكية في مورد الشكّ

ص: 158


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 257 ، ح 791 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب وجميع الأنواع ، ح 42.
2- « قرب الإسناد » ص 385 ، ح 1375 ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 371 ، ح 1545 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 77 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 404 ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ، ح 31 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 234 ، ح 921 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 129 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1073 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 9.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 234 ، ح 922 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 130 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1073 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 8.

فيها ، أو أوسع من هذا فيثبت بها الملكيّة أيضا ، فإذا دخل السوق ويريد أن يشتري متاعا ويحتمل أن يكون مسروقا ، أو يدخل سوق النخاسين ويريد أن يشتري عبدا أو أمة ويحتمل أن يكونا حرّين ، فهل السوق أمارة على أنّ ذلك ملك للبائع ، والأمة والعبد مملوكان لبايعهما أم لا ، بل الذي هو أمارة الملكيّة هي اليد ، فلو فرضنا عدم وجود يد عليه فلا طريق إلى إثبات ملكيته؟

والظاهر : أنّ ما هو أمارة الملكيّة هي اليد ، وصرف كونه في السوق لا يدلّ على أنّه ملك لأحد أهل هذا السوق ، أو لأحد من الناس ، إلاّ أن يكون من الأموال التي يعلم بأنّها ملك لأحدهم وإن كان المالك مجهولا ، فبصرف وجود أشخاص في سوق النخاسين في صفّ العبيد والإماء لا يمكن الحكم عليهم بالمملوكيّة ما لم يكونوا تحت يد أحد.

وأمّا مسألة الطهارة في بيع ما يتوقّف صحّة بيعه على الطهارة - بحيث لو لم يكن طاهرا لا يكون له منفعة أصلا - كالسكنجبين مثلا من جهة أصالة الطهارة ، ولذلك في الموارد التي يجري استصحاب النجاسة فيها يحكم بالنجاسة ، وبصرف كونه في السوق ووقوع البيع والشراء لا يحكم عليه بالطهارة.

وأمّا في موارد الشكّ في الطهارة والنجاسة من جهة الشكّ في التذكية وأن يحكم عليه بالطهارة بواسطة كونه في السوق ، ولكن ذلك ليس من جهة إثبات الطهارة بأماريّة السوق عليها أوّلا وبالذات ، بل من جهة أنّ السوق أمارة التذكية ، ومن آثار التذكية هي الطهارة ، وكذلك الأمر في الحلّية ، فلا يثبت به الحلّية ابتداء ، بل من آثار التذكية الواقعة على الحيوان المحلّل الأكل هو حلّية أكل لحمه بعد التذكية.

الجهة الثالثة

في أنّه هل السوق أمارة في عرض اليد - بحيث لو كان من في السوق في دكّانه

ص: 159

اللحم ويبيعه كالقصّاب أو كالفراء الذي يبيع في دكّانه الفراء ، وهكذا أمثالهما ، فهاهنا أمارتان على التذكية في عرض الآخر - أم لا؟ بل السوق أمارة على الأمارة ، بمعنى : أنّ الذي هو أمارة على التذكية أوّلا وبالذات هي اليد.

وأمّا سوق المسلمين فيستكشف منه أنّ البائع المجهول الحال - الذي لا يعلم حاله أنّه مسلم كي تكون يده أمارة التذكية ، أم لا فتجري أصالة عدم التذكية ويحكم بلزوم الاجتناب - مسلم ويده يد المسلم وأمارة ، وبناء على كونه أمارة على الأمارة ، فلو كان البائع معلوم الحال فلا أثر للسوق أصلا.

وذلك من جهة أنّ أماريّة الأمارة متقوّمة بعدم العلم على خلافها ولا على وفاقها ، فلو علم أنّ البائع مسلم تكون يده حجّة قطعا ، ولا حاجة إلى السوق أصلا ، كما أنّه لو علم أنّ البائع مشرك ، فكونه في سوق المسلمين لا أثر له ، وإن احتمل التذكية بأن تلقاه هذا المشرك من يد مسلم ، ولكن هذا الاحتمال لا أثر له ، لأنّه لا يثبت به التذكية ، لأنّ السوق المعلوم الوجود ليس أمارة على التذكية على الفرض ، ويد المسلم الذي معلوم الأماريّة مشكوك الوجود ، لأنّ المفروض أنّه ليس إلاّ صرف احتمال أن تكون يد هذا المشرك مسبوقا بيد المسلم وأنّه تلقاه من يده.

ولكن الظاهر من قيام سيرة المتديّنين على الاعتماد على سوق المسلمين في أمر التذكية ، وعدم السؤال والتفتيش عنها - هو أنّ كون هذا الجلد أو اللحم في سوق المسلمين يباع ويقع عليه التعاطي بينهم - علامة أنّهم يرونه مذكّى في الغالب ، كما هو الشأن في أغلب الأمارات ، وإلاّ فليس هناك أمارة تكون دائم المطابقة ، حتّى القطع الوجداني ، فضلا عن الأمارات الظنيّة التي مناط حجّيتها كونها غالب المطابقة.

وحاصل الكلام في هذا المقام هو أنّه بعد العلم بأنّ المسلمين يجتنبون عن لحم غير المذكّى بنصّ قوله تعالى ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1) فتعاطي اللحم بالبيع والشراء في

ص: 160


1- المائدة (5) : 3.

أسواق المسلمين يوجب الظنّ القويّ بأنّه مذكّى. وهذا الظنّ أقوى بكثير عن الظنّ الحاصل عن كونه في يد مسلم خارج السوق ، لأنّ احتمال كونه ممن لا يبالي بالأحكام الشرعيّة - أو الاشتباه في إجراء شرائط التذكية ، أو نسيان بعضها ممّا يضرّ بها فيه - أكثر ممّا هو يباع في سوق المسلمين علنا.

هذا بالنسبة إلى قيام السيرة على حجّية السوق.

وأمّا بناء على أن يكون مدركها الأخبار فلعلّ الأمر أوضح ، وذلك من جهة أنّ قوله علیه السلام : « أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (1) ظاهر في أنّ مراده علیه السلام من نفي لزوم السؤال ، نفي السؤال عن كونه مذكّى أو غير مذكّى ، لا نفي السؤال عن أنّ البائع مسلم أو لا.

ومرجع هذا إلى أنّ كونه في السوق كاف في إثبات أنّه مذكّى ، فلا يحتاج إلى السؤال والفحص. وكون المراد منه أنّ السوق كاف في إثبات أنّ اليد يد المسلم ، وأنّها يثبت أنّ اللحم والجلد أو غيرهما من الأجزاء أو مشتقّات حيوان مأكول اللحم من المذكّى ، يكون من قبيل الأكل من القفى.

وأمّا قوله علیه السلام في خبر إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (2) [ عليكم أنتم أن تسئلوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسئلوا عنه ] لا يدلّ على عدم اعتبار السوق بالنسبة إلى كشفه عن أصل التذكية.

ص: 161


1- تقدم راجع ص 158 ، هامش رقم (2).
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 258 ، ح 792 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب وجميع الأنواع ، ح 43 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 371 ، ح 1544 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 76 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 7.

بأن يقال : لو كان السوق كاشفا عن ذلك فلم يكن معنى للسؤال إذا رأوا أنّ المشركين يبيعونه ، وأيضا لم يكن معنى لتعليق عدم السؤال على صلاتهم فيه ، وذلك من جهة أنّ كلامه علیه السلام ظاهر في أنّ السوق أمارة وحجّة كاشفة عن التذكية فيما كان السوق والبيع والمعاملة مخصوصا بالمسلمين ، فلا يحتاج إلى السؤال.

وأمّا لو كان المشركون أيضا يبيعون ذلك ، بحيث يكون السوق مشتركا ، أو كان البيع مخصوصا بهم ، فعند ذلك يجب عليكم المسألة والفحص ، ولا أثر لكون البائع وحده في ذلك السوق مسلما في عدم وجوب السؤال ، فيمكن أن تعدّ هذه الرواية من جملة أنّ دلالة السوق إذا كان مخصوصا بالمسلمين على التذكية أهمّ من دلالة يد المسلم ، خصوصا إذا كان ذلك المسلم في السوق المخصوص بالكفّار ، بل وفي السوق المشترك أيضا.

وأمّا قوله علیه السلام بعد ذلك « وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » فمن جهة أنّ صلاتهم فيه بمنزلة شهادتهم عملا بأنّه مذكّى ، فهو أيضا طريق إلى أنّه صار مذكّى. ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ سوق المسلمين بنفسه طريق إلى أنّه مذكّى رواية إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح علیه السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام » قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال علیه السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (1).

وهذه الرواية ظاهرة في أنّ كون الجلد في أرض تكون مخصوصة بالمسلمين ، أو كان أغلب أهلها من المسلمين موجب لثبوت كونه من المذكّى ، ولا موجب لذلك ظاهرا إلاّ أماريّة كونه في تلك الأرض لكونه من المذكّى.

ومعلوم أنّه لو كان بصرف وجوده في أرض الإسلام ، أو ما كان الغالب عليها

ص: 162


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 368 ، ح 1532 ، (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح 64 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 5.

الإسلام يثبت أنّه من المذكّى ، فبكونه في سوق المسلمين يثبت بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ طريقيّة السوق إلى ذلك أقوى من طريقيّة كونه في أرضهم.

وكذلك رواية السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّ أمير المؤمنين علیه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبها وبيضها ، وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « يقوّم ما فيها ، ثمَّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن ». قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدري سفره مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال علیه السلام : « هم في سعة حتّى يعلموا » (1).

وهذه الرواية يحتمل أن يكون المراد من قوله علیه السلام فيها : « هم في سعة حتّى يعلموا » بيان حكم اللحم الذي مشتبه تذكيته ، ولا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة؟ وأنّه علیه السلام بيّن أنّ حكم المشتبه هي الحلّية ، كي يعلموا بأنّه من غير المذكّى الذي هو حرام ، فيكون مفادها أصالة الحلّ في مشتبه المذكّى والميتة ، فيكون كأصالة الطهارة في مشتبه الطهارة والنجاسة ، وأصالة الحلّ في مشتبه الحلّية والحرمة أصلا عمليّا غير تنزيلي.

ولكن ينفي هذا الاحتمال أنّ أصالة عدم التذكية الجارية في المقام يثبت موضوع الحرمة ، فليسوا في سعة حتّى يعلموا ، فلا بدّ من جعل أصل تنزيلي يكون مقدّما على أصالة عدم التذكية عند المعارضة ، أو أمارة تكون حاكمة عليها ، أو رفع اليد عن حرمة غير المذكّى في ظرف الشكّ في التذكية رفعا واقعيّا ، كي يكون حال الشكّ حال الاضطرار.

لا سبيل إلى هذا الأخير ، لاستلزامه للتصويب الباطل ، فلا بدّ من القول بأحد الأوّلين ، أي الأصل المقدّم ، أو الأمارة الحاكمة.

وها هنا الأمارة الحاكمة المحتملة هو كون السفرة المطروحة في أرض الإسلام

ص: 163


1- « الكافي » ج 6 ، ص 297 ، باب نوادر ( من كتاب الأطعمة ) ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1073 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 11.

طريقا إلى ثبوت تذكيته ، أو أصلا تنزيليّا ، ولا بعد في ذلك ، من جهة غلبة كون اللحم الموجود في مثل هذه السفرة المطروحة في بلاد الإسلام من القسم المذكّى ، ولذلك حكم أمير المؤمنين علیه السلام بجواز وحلّية أكل ما فيها من حيث التذكية لكونها مطروحة في بلاد الإسلام ، والتقويم وتغريمهم لما فيها لصاحب السفرة إذا جاء ، لقاعدة احترام الأموال إن كان المالك مسلما ، لقوله علیه السلام : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (1). أو لقاعدة : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وإن لم يكن المالك مسلما لكن كان في ذمّة الإسلام ، أو كان من المعاهدين مع المسلمين.

ونتيجة ما ذكرنا هو أنّه إذا اشترى من سوق المسلمين ، أو وجد في أراضيهم التي كلّ أهلها مسلمون أو كان للغالب عليها المسلمون ، وكان شاكّا في تذكيته ، فكونه في سوق الإسلام وكذلك كون ذلك اللحم أو الجلد في أراضيهم موجب للحكم بأنّه مذكّى.

وهذا فيما إذا لا يعلم أنّ البائع ليس بمسلم واضح ، سواء أكان معلوم الإسلام أو كان مجهول الحال.

وأمّا إذا علم بأنّه ليس بمسلم ، ولكن يحتمل أنّه تلقّاه من يد مسلم مع فرض أنّ السوق سوق الإسلام ، كما أنّه إذا اشترى جلدا أو لحما من نصراني في بغداد ، ويحتمل أنّه تلقّاه من يد مسلم ، فبناء على كون السوق أمارة في عرض اليد ، فلا بدّ من القول بأنّه في حكم المذكّى.

وبناء على أنّه أمارة على الأمارة ، فمع العلم بأنّه غير مسلم ليس للسوق أثر. اللّهمّ إلاّ أن يقال بأحد أمرين : إمّا تقييد أماريّة السوق بعدم كونه في يد غير المسلم ، أو يقال بأنّه كما أنّ سوق المسلمين أمارة على التذكية كذلك يد الكافر أمارة على عدم

ص: 164


1- « الكافي » ج 2 ، ص 268 ، باب السباب ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 377 ، ح 5781 ، باب النوادر ( من ألفاظ موجزة للنبي ( ص ) ، ح 19 ، « المبسوط » ج 3 ، ص 59 ، كتاب الغصب ، « مسند أبى يعلى الموصلي » ج 9 ، ص 55 ، ح 5119 ، مسند عبد اللّه بن مسعود ، الديلمي في « الفردوس » ج 2 ، ص 143 ، ح 2727.

التذكية ، فتتعارض الأمارتان. وبعد تساقطهما بالمعارضة فالمرجع أصالة عدم التذكية ، وإلاّ فإنكار كون سوق المسلمين في عرض اليد لا مجال له.

[ الجهة ] الرابعة

في أنّه هل السوق - بعد الفراغ عن اعتباره وحجّيته لإثبات التذكية - أمارة أو أصل؟ وعلى تقدير كونه أصلا هل هو أصل تنزيلي ، أو يكون من الأصول غير التنزيلية؟

فنقول : أمّا كونه أصلا غير تنزيلي فمما لا ينبغي أن يحتمل ، لأنّه لو كان أصلا غير تنزيلي لكان أصالة عدم التذكية حاكما عليه ، وكان لا يبقى مورد لجريانه ، كما هو الشأن في كلّ أصل حاكم مع محكومة. هذا أوّلا.

وثانيا : قيام السيرة على اعتباره ليس إلاّ لأجل أنّ المتديّنين - بعد ما علموا أنّ الصلاة لا يجوز في غير المذكّى ، ومع ذلك كانوا يشترون المشكوك من أسواقهم ، وكانوا يرتّبون آثار التذكية عليه - يرون سوق المسلمين كاشفا وطريقا إلى كونه مذكّى ، فلذلك كانوا يرتّبون آثار التذكية عليه ، لا من جهة صرف التعبّد بالتذكية في ظرف الشكّ.

وأمّا أنه أصل تنزيلي أو أمارة ، فالظاهر أنّها أمارة ، وذلك لما ذكرنا من أنّ قيام السيرة على دخول المتديّنين في الأسواق الإسلاميّة ، وشرائهم المشكوك التذكية ، والمعاملة معه معاملة المذكّى ، مع أنّهم يدرون أنّ الصلاة في غير المذكّى ليست جائزة - دليل على أنّهم يرون أسواق المسلمين طريقا وكاشفا عن كونه مذكّى.

وبعبارة أخرى : نحن بيّنّا في محلّه في الفرق بين الأصل والأمارة ، أنّ الأمارية متقوّمة بأمرين :

أحدهما : أن يكون ذلك الشي ء الذي جعل أمارة ، فيه جهة كشف عن مؤدّاه ، ولو

ص: 165

كان كشفا ناقصا ، وإلاّ فالشي ء الذي في حدّ نفسه ليس فيه جهة الكاشفيّة أصلا ، لا يمكن جعله كاشفا في عالم الاعتبار التشريعي ، إذ الكاشفيّة أمر تكويني لا توجد إلاّ بأسبابها التكوينيّة ، وذلك مثل رافعيّة شرب الماء للعطش ، فإنّه أمر تكويني لا يمكن جعله لشي ء ليس رافعا للعطش أصلا ، وبالجعل في عالم الاعتبار والتشريع لا ينجعل.

ولذلك قلنا هناك إنّ معنى تتميم الكشف في باب جعل الأمارات ليس أن يضمّ الجاعل مقدارا من الكشف في عالم الاعتبار إلى ذلك المقدار الناقص الذي لذلك الشي ء موجود كي يصير المجموع كشفا تامّا ، بل المراد منه أنّ الشارع يرى ذلك المقدار من الكشف الناقص - الموجود في ذلك الشي ء في حدّ نفسه في عالم الاعتبار التشريعي - كشفا تامّا ومثبتا لمؤدّاه وطريقا إليه.

ثانيهما : أن يكون نظر الجاعل في مقام جعل الحجّية للأمارة إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حدّ نفسه ، وإلاّ فبصرف الأمر بالعمل به والتعبّد بمؤدّاه لا يصير ذلك الشي ء أمارة ، بل يمكن أن يكون أصلا عمليّا في عالم الجعل التشريعي مع وجود تلك الجهة من الكشف فيه تكوينا ، فأماريّته متوقّفة على أن يكون جعل حجّيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكوينا في عالم التشريع والاعتبار.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ كون اللحم أو الجلد الذي في سوق المسلمين يباع ، فيه جهة كشف عن أنّه مذكّى ، لأنّهم غالبا لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلده ، ووقوعه في بعض الأوقات من بعض الأفراد وإن كان لا ينكر ، ولكن هذا المقدار القليل لا يمنع عن حصول الظنّ بكونه من المذكّى ، لغلبة وجود هذا القسم مقابل القسم الآخر.

وأيضا لا شكّ في أنّ سيرة المتديّنين من الصدر الأوّل في دخولهم الأسواق واشترائهم اللحوم والجلود بلحاظ أنّ كونها في أسواق المسلمين تباع ، يكشف عن

ص: 166

أنّها مذكّى ، وسيرة المتديّنين لا تحتاج إلى الإمضاء مثل سيرة العقلاء ، وذلك من جهة كون شي ء طريقا عند العقلاء يمكن أن يقبل الشارع طريقيّته ويمكن أن يردّها ، فيحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ يبقى على كونه مشكوك الطريقيّة عنده.

وأمّا سيرة المتديّنين بما هم متديّنين - مثل الإجماع - كاشف ابتداء عملهم هذا عن موافقته لرأي المعصوم علیه السلام .

ولا شكّ أنّ السيرة فيما نحن فيه من القسم الثاني ، لأنّ التذكية من الأمور الشرعيّة التي لا شأن للعقلاء بها بما هم عقلاء ، نعم العقلاء بما هم عقلاء ينظرون إلى اللحم بنظر أنّه من الطيّبات أو من الخبائث ، لا أنّه مذكّى أو غير مذكّى.

وأمّا الروايات الواردة في هذه القاعدة واعتبارها ، فالظاهر من بعضها أيضا أماريّتها ، كرواية إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح علیه السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ». قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال علیه السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (1). وظاهر أنّ التفريق - في الأرض المشترك أهلها بين المسلمين وغيرهم بتعليق الحكم بعدم اليأس على غلبة المسلمين من حيث كثرتهم من غيرهم - دليل على أنّ نظرهم علیهم السلام في هذا الحكم إلى جهة كاشفيّة الأرض التي أهاليها المسلمون عن كونه مذكّى ، فإذا كان المسلمون هم الغالبون على الأرض فيكون احتمال التذكية أقوى.

وكذلك الأمر في رواية إسماعيل بن عيسى ، ففي قوله علیه السلام فيها « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (2) علّق السؤال والفحص عن أنّه مذكّى أو غير مذكّى على بيع المشركين ذلك ، وعدم السؤال والفحص على رؤية أنّهم يصلّون فيه.

ص: 167


1- تقدم راجع ص 162.
2- تقدم راجع ص 161 ، هامش رقم (2).

ولا شكّ في أنّ الأوّل يوجب ضعف احتمال التذكية ، فحكم عليهم بلزوم الفحص والسؤال على ذلك التقدير. والثاني يوجب قوّة احتمال تحقّق التذكية ، لأنّ المسلم بعد أن عرف أنّ الصلاة لا يجوز في غير المذكّى ، فإذا صلّى فيه ، فيكون ظاهره أنّه أحرز أنّه مذكّى ، فلا يبقى مجال ومورد للسؤال ، ولذلك نفي السؤال عنه على هذا التقدير.

ففي هاتين الروايتين حكمه علیه السلام بالصلاة فيه ناظر إلى جهة كشفه ، فبناء على الأصل الذي تقدّم يكون السوق أمارة ، لا أصلا بكلا قسميه من التنزيلي وغير التنزيلي.

[ الجهة ] الخامسة : في نسبة هذه القاعدة مع غيرها من الأدلّة في مقام التعارض

فنقول : أمّا بالنسبة إلى استصحاب عدم التذكية الجارية في المقام لو لم يكن السوق ، فإن قلنا بأنّه أمارة كما هو كذلك ، فيكون حاكما عليه بلا كلام ، كما هو شأن كلّ أمارة بالنسبة إلى كلّ أصل ، ولو كان من أقوى الأصول التنزيليّة.

وأمّا بناء على أنّه من الأصول وأنّه أصل تنزيلي - لما بيّنّا أنّ احتمال أنّه أصل غير تنزيلي واضح البطلان فلا ينبغي المصير إليه - فأيضا يكون مقدّما عليه ، وإن كان مقتضى القاعدة التعارض والتساقط ، لأنّ كليهما أصلان تنزيليان ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

ولكنّه في المقام لا بدّ من ذلك ، أي تقديمه على الاستصحاب ، وإلاّ لا يبقى له مورد أصلا ، فيكون جعله لغوا ، فبدلالة الاقتضاء لا بدّ من تقديم السوق على استصحاب عدم التذكية وإن كان مثله أصلا تنزيليّا وفي رتبته.

وأمّا بالنسبة إلى البيّنة فلو قامت البيّنة العادلة على أنّ هذا اللحم ، أو هذا الجلد من غير المذكّى ، أو هذا الحيوان الميّت مات حتف أنفه ، أو ذبح ولكن لم يكن الذبح

ص: 168

واجدا لشرائط التذكية وهكذا ، فبناء على كونه أصلا وإن كان أصلا تنزيليا فتقديم البيّنة عليه واضح ، لأنّ البيّنة أمارة ، وكلّ أمارة تكون لها الحكومة على كلّ أصل عند المعارضة.

وأمّا بناء على كونه أمارة كما هو المختار ، وإن كان مقتضى القاعدة هو التساقط ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارتين إن لم يكن أحدهما أقوى ، ولكن مع ذلك تكون البيّنة مقدّمة عليه لإحدى جهتين.

الأولى : أنّ البيّنة من أقوى الأمارات ، ولذلك جعلها الشارع ميزانا للقضاء على ذي اليد ، مع أنّ اليد أيضا من الأمارات ، فإذا كانت تقدّم على اليد مع أنّها من الأمارات القويّة ، تقدّم على السوق بطريق أولى.

الثانية : أنّ عمدة الوجه في حجّية السوق هي السيرة العمليّة من المتديّنين ، وهذه ليست قطعا فيما قامت البيّنة العادلة على عدم التذكية ، بل ولا فيما أخبر البائع بأنّه غير مذكّى.

هذا ، مضافا إلى أنّه على فرض التعارض النتيجة هو التساقط ، فيكون المرجع استصحاب عدم التذكية ، فنتيجة التساقط وتقديم البيّنة واحدة.

[ الجهة ] السادسة : في مورد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : بعد إحراز موضوع هذه - أي بعد إحراز أنّه سوق الإسلام ، إمّا لأنّ كلّهم مسلمون ، وإمّا لأنّ الغالب ممّن يكون فيه من أرباب المكاسب هم المسلمون - إذا اشترى من مثل هذا السوق أو استعار أو انتقل إليه بسبب آخر من أسباب الانتقال ، وشكّ في أنّه مذكّى أو غير مذكّى فلا يخلو الأمر ، فإمّا يكون الطرف الآخر الذي انتقل منه إليه معلوم أنّه مسلم ، أو معلوم أنّه ليس بمسلم ، أو مشكوك.

ص: 169

فهذه الأمارة تدلّ على أنّه مذكّى في المعلوم أنّه أخذ من يد مسلم ، وكذلك في المأخوذ من يد مشكوك الإسلام إذا كان السوق سوق الإسلام ، وهذا معنى أماريّته عند الشكّ في أنّه مذكّى.

والفرق بين هذين القسمين أنّ القسم الأوّل فيه أمارتان : إحديهما سوق المسلم ، والأخرى يد المسلم ، بناء على ما اخترناه من عرضيّة هاتين الأمارتين. وبناء على القول بأنّه ليس إلاّ أمارة واحدة وهي يد المسلم ، لأنّ السوق بناء على ذلك القول الآخر أمارة على أنّ اليد يد مسلم ، ومع العلم بذلك - لا يبقى مجال لأماريّة السوق لذلك.

وأمّا القسم الثاني فأمارة واحدة فقط ، وهو السوق.

وأمّا القسم الثالث فقد بيّنّا أنّه من تعارض البيّنتين على تقدير وعدم حجّية السوق على تقدير.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 170

42 - قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ

اشارة

ص: 171

ص: 172

قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « عدم شرطيّة البلوغ في الأحكام الوضعيّة ». وفيها جهات من الكلام

[ الجهة ] الأولى : في مدلولها

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، فإنّه لا خلاف بينهم في أنّ إتلاف الصبي مال الغير كإتلاف البالغين موجب للضمان ، واشتغال ذمّته بمثل ما أتلف إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا. وكذلك الحال في ضمان اليد ، فلو استولى الصبي على مال الغير وغصبه فتلف ذلك المال في يده - بل وإن كان التلف في يد غيره ، غاية الأمر استقرار الضمان على من وقع التلف في يده - يكون ضامنا وإن لم يكن بإتلافه ، بل كان بتلف سماوي.

وهذا الإجماع محقّق لكلّ من تتبّع في الفقه ، إذ لم ينقل الخلاف من أحد. ولا يمكن أن يكون اعتمادهم في هذا الاتّفاق على عمومات أدلّة الضمان ، مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». وما هو المعروف : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » وغيرهما ممّا ذكرناها في قاعدة الإتلاف.

ص: 173


1- (*) « عوائد الأيام » ص 268. « عناوين الأصول » عنوان 84 ، « القواعد الفقهيّة » ج 1 ، ص 331.

وذلك من جهة وقوع الخلاف بينهم في انصراف الأدلّة العامّة عن الصبي ، ولم يقع خلاف في أصل الضمان ، فهذا إجماع يمكن الاعتماد عليه. ولا يرد عليه ما أوردنا على الإجماعات التي ادّعيت في أغلب القواعد الفقهيّة المذكورة في هذا الكتاب.

الثاني : سيرة المتديّنين ، بل العقلاء قاطبة على أنّ الصبي إذا أتلف مال الغير أو غصبه ، فوقع عليه التلف - وإن كان التلف في غير يده - فهو له ضامن ، بل ربما يقولون بضمانه إن فوّته على المالك وإن لم يقع يده عليه ولا أتلفه ، كما لو حبس حرّا ففوّت عليه منافعه ، خصوصا إذا كان عاقلا ذا شعور وإدراك وفهم حادّ وكان أقلّ من زمان البلوغ بزمان يسير ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة بل أمضاها بإطلاقات الأدلّة العامّة ، كما سنتكلّم عنها وعمّا قيل بأنّها رادعة إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : الروايات والأدلّة العامّة الواردة في أبواب الضمانات والنجاسات والطهارات ، وفي باب إحياء أراضي الموات ، وفي أبواب الديات والحيازات ، فإنّه في جميع الأدلّة عامّة أو مطلقة تشمل البالغ والصبيّ على نهج واحد.

فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (1) أو قوله : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (2) أو قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (3) وأمثال ذلك ممّا يدلّ على جنابة الواطى والموطوء وإن لم ينزل ، ولكن بعد غيبوبة الحشفة في أحد المأتيين (4). أو ما يدلّ على نجاسة بدن الذي لاقى النجس أو المتنجّس مع الرطوبة (5).

ص: 174


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 152 ، ح 673 ، (1) باب أحكام الأرضين ، ح 22 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 327 ، أبواب إحياء الموات ، باب 1 ، ح 5 و 6.
2- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 291.
3- تقدم راجع ص 54.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 46 ، باب ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة ، ح 1 و 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 118 ، ح 310 ، (6) باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 108 ، ح 358 ، (64) باب ان التقاء الختانين يوجب الغسل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 469 ، أبواب الجنابة ، باب 6 ، ح 1 - 9.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 60 ، باب الكلب يصيب الثوب والجسد وغيره. ، ح 1 ، 2 ، 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 421 ، ح 1333 ، (22) باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ، ح 6 ، « وكذلك ، ج 1 ، ص 260 ، ح 756 ، (12) باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ، ح 43 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1034 ، أبواب النجاسات ، باب 26 ، ح 1 و 3.

والحاصل : أنّ الفقيه المتتبّع إذا نظر في تلك الأدلّة مع كثرتها يتيقّن بشمولها لغير البالغين مثل البالغين ، خصوصا إذا كان غير البالغ واجدا لجميع شرائط التكليف ما عدى مقدار قليل من الزمان كيوم ، بل وإن كان كشهر باقيا إلى أن يصير بالغا بحسب العمر.

ولا شكّ أنّ دعوى انصراف تلك الأدلّة عن مثل هذا الصبي الذي لم يبق إلى بلوغه بحسب العمر إلاّ يوما ، لا يخلو عن مجازفة ، فإذا شمل مثل هذا الفرض يتمّ في سائر الموارد بعدم القول بالفصل ، ولا مخصّص ولا مقيّد في البين لهذه العمومات والإطلاقات بعد الفراغ عن عدم انصرافها إلى خصوص البالغين ، عدا ما يتخيّل من قول عليّ علیه السلام : « أما علمت رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ » (1).

وبيانه : أنّ قوله علیه السلام : « رفع القلم عن الصبيّ » معناه أنّ الصبيّ ليس عليه جعل من قبل الشارع ، وكذلك الحال في المجنون حتّى يفيق ، والنائم حتّى يستيقظ ، فأهملهم كما أهمل الحيوانات ، ولم يكتب عليهم شيئا ، لا وضعا ولا تكليفا ، فالمنفيّ في هذا الحديث الشريف هو قلم جعل الأحكام مطلقا ، سواء أكانت الأحكام وضعيّة أم تكليفيّة ، فهذا الحديث الشريف تخصّص به الأدلّة العامّة ، أو تقيّد به الإطلاقات الواردة في الأبواب المختلفة.

وفيه أوّلا : أنّ الظاهر من هذه العبارة - التي في مقام الامتنان والتسهيل - هو رفع المؤاخذة عن هذه الثلاثة ، لعدم التفاهم إلى المصالح والمفاسد ، أمّا المجنون لعدم عقله

ص: 175


1- « الخصال » ص 40 و 175 ، باب الثلاثة ، ح 40 و 233 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 32 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 4 ، ح 11.

قبل أن يفيق ، وأما الصبيّ لقلّة عقله غالبا ، وأمّا النائم لغفلته بواسطة نومه وعدم تنبّهه إلى المضارّ والمنافع.

والمؤاخذة من آثار مخالفة التكاليف الإلزاميّة أي ترك الواجب وفعل الحرام ، فيستكشف من نفي اللازم الذي هو المؤاخذة ، نفي الملزوم - أي الوجوب والحرمة - فيدلّ على عدم تنجّز التكاليف الإلزاميّة على النائم لغفلته ، وعدم توجيه التكليف الإلزامي إلى الصبيّ والمجنون لقلّة عقله في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، ولا يدلّ على نفي الأحكام التكليفيّة غير الإلزاميّة ، فضلا عن نفي الأحكام الوضعيّة.

وهذا المعنى مناسب مع ما اشتهر بينهم من عدم اشتراط البلوغ في الأحكام الوضعيّة ، وأيضا ما اشتهر بينهم من مشروعيّة عبادات الصبيّ.

وثانيا : على فرض تسليم أنّه ليس المراد من رفع القلم خصوص نفي العقاب والمؤاخذة - بل المراد نفي قلم الجعل عليه - فلا بدّ وأن يكون المراد منه أنّ الأفعال التي تترتّب عليها الآثار لو صدرت عن البالغ العاقل المستيقظ ، لو صدرت عن الصبيّ أو المجنون أو النائم لا تترتّب عليها ، وذلك من جهة فقد البلوغ في الصبيّ ، والعقل في المجنون ، والانتباه في النائم.

فبناء على هذا المعنى لا يشمل الحديث الشريف الأفعال التي تترتّب عليها الآثار ، من دون فرق بين الالتفات وعدمه ، وكذلك الاختيار وعدمه. وتكون مثل هذه الأفعال خارجة عن مورد هذا الحديث تخصّصا ، فتكون أبواب الديات والجنايات والجنابة والأحداث مطلقا ، والإتلاف والضمان - من ناحية اليد - والنجاسة والطهارة خارجة عن مورد هذا الحديث الشريف تخصّصا.

وخلاصة الكلام : أنّه يظهر من هذا الحديث الشريف وذكر الصبيّ في سياق المجنون والنائم ، هو أنّه كما لا قصد في المجنون والنائم تكوينا قصد الصبي في حكم العدم تشريعا ، فكلّ أثر فعل كان مترتّبا على تعمّد ذلك الفعل وقصده ، بحيث لو صدر عنه

ص: 176

بلا التفات ليس ذلك الأثر له ، فإذا صدر عن الصبيّ لا يترتّب عليه ذلك الأثر وإن قصده وصدر عنه عمدا.

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه في قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري ، عن جعفر علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام ، عن علي علیه السلام ، أنّه كان يقول في المجنون المعتوه الذي لا يفيق ، والصبيّ الذي لم يبلغ : « عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم » (1). فقوله علیه السلام : « وقد رفع عنهما القلم » بعد حكمه بأنّ عمده خطأ بمنزلة العلّة لهذا الحكم ، فيكون معنى رفع القلم عنه أنّ الأثر الذي كان يترتّب على الفعل الذي يصدر عن العاقل عن عمد وقصد لو كان بالغا لا يترتّب على مثل ذلك الفعل لو صدر عن الصبيّ غير البالغ ، فيكون قصده كلا قصد ، وعمده كالخطإ.

فالأفعال التي لا فرق في ترتّب الأثر عليها بين أن تكون صادرة عن قصد وعمد - مع الالتفات إليها أو عدم الالتفات إليها - ليس مشمولة لهذا الحديث الشريف.

وأمّا ما يقال : من أنّ الأحكام الوضعيّة اعتبارات من قبل الشارع ابتداء أو إمضاء من قبله لما اعتبره العرف والعقلاء ، والأمور الاعتباريّة سواء أكانت اعتبارات ابتدائيّة من قبله أو كانت إمضائية ، تكون اعتبارها بلحاظ الآثار المترتّبة عليها ، وإن قلنا بأنّها مستقلّة في الجعل ، وليست منتزعة عن الأحكام التكليفيّة كما هو المختار عندنا ، وإلاّ لو يكن لها أثر يكون اعتبارها لغوا لا يصدر عن عاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

ففي الحقيقة اعتبار الأحكام الوضعيّة - أي : جعلها في عالم التشريع - لأجل ترتّب الأحكام التكليفيّة عليها ، والفرق بين هذا القول المشهور والمذهب المنصور مع ما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس سره هو أنّ الحكم الوضعي عند المشهور ملزوم وموضوع

ص: 177


1- قرب الإسناد » ص 155 ، ح 569 ، أحاديث قهزقة.

للأحكام التكليفيّة (1) ، وعند الشيخ قدس سره من لوازمها ومنتزعة عنها (2) ، وإلاّ ففي كلا القولين الحكم الوضعي بدون الحكم التكليفي لا يمكن أن يوجد ، إمّا لعدم إمكان وجود الملزوم بدون اللازم كما هو المذهب المشهور المنصور ، أو لعدم إمكان وجود اللازم بدون الملزوم ، كما هو المنسوب إلى الشيخ الأعظم قدس سره .

فلو سلّمنا أنّ معنى الحديث الشريف هو رفع خصوص الأحكام التكليفيّة ، لا الأعمّ منها ومن الوضعيّة ، لكن النتيجة في كلتا الصورتين واحدة ، إذ رفع الأحكام التكليفيّة ملازم مع رفع الأحكام الوضعيّة أيضا ، لما قلنا من عدم إمكان وجود اللازم بدون الملزوم ، بناء على أنّها منتزعات عن الأحكام التكليفيّة ، وعدم إمكان وجود الملزوم بدون اللازم ، بناء على المختار من أنّ الأحكام التكليفيّة من لوازم الأحكام الوضعيّة ، لأنّها بمنزلة الموضوع.

فجواز الاستمتاعات من لوازم الزوجية ، لا أنّ الزوجيّة منتزعة عن جواز الاستمتاعات ، وكذلك جواز التصرّفات ونفوذها من لوازم الملكيّة وآثارها ، لا أنّ الملكيّة منتزعة عن جواز التصرّفات.

والدليل على ذلك الأدلّة الواردة في الموارد المتفرّقة من الأحكام الوضعيّة ، مثلا : « الناس مسلّطون على أموالهم » (3) يدلّ على أنّ موضوع السلطنة وجواز التصرّفات هي الملكيّة وكون الشي ء مالا له ، وموضوع وجوب الإطاعة والتمكين هي الزوجيّة ، وموضوع عدم جواز الأكل والشرب هو كون المأكول والمشروب نجسا ، وهكذا الأمر في سائر الموارد ، وهذا ينبغي أن يعدّ من الواضحات.

فقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد من رفع القلم هو رفع المؤاخذة التي من لوازم مخالفة التكليف

ص: 178


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 601.
2- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 602 - 603.
3- « الخلاف » ج 3 ، ص 176 ، في أحكام القرض ، مسألة : 290.

الإلزامي بترك الواجب وإتيان الحرام ، وحيث أنّ رفع اللازم مستلزم لرفع الملزوم ، فالمرفوع هي التكاليف الإلزاميّة لا مطلق التكاليف ، فالأحكام الوضعيّة لا تبقى بلا أثر - كما توهّم - بل يستحبّ عليه إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، بناء على شرعيّة عبادات الصبيّ.

الثاني : أنّ أثر الوضع هو وجوب تفريغ ذمّة الصبيّ على الوليّ ، إذ لا مانع من أن يكون فعل الصبيّ موضوعا للحكم التكليفي الإلزامي على شخص آخر ، وها هنا هو الولي ، بل هذا المعنى صريح قوله علیه السلام : « عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة » (1) فجناية الصبيّ إن كان عن عمد موضوع لوجوب الدية على العاقلة ، ولذلك لو أتلف الصبيّ مال شخص ، أو تلف بعد وقوع يده عليه ولو كان بتلف سماويّ يجب على الولي أداء مثله من مال ذلك الصبي إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا ، وهكذا الحال في باب جناياته ودياته التي اشتغلت ذمّته بها ، بل وكفّاراته التي تعلّقت به ، وسائر الضمانات التي تعلّقت به.

الثالث : وجوب ترتيب الأثر عليه بعد البلوغ ، وهذا كاف في عدم لغويّة ذلك الاعتبار.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدلّة الواردة في الأبواب المتفرّقة - التي تدلّ على أنّ بعض الأفعال موضوع أو سبب لثبوت حكم وضعي - عمومات أو مطلقات تشمل أفعال البالغين وغير البالغين.

فقوله : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (2) أو قوله علیه السلام : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (3) وكذلك سائر الأدلّة الكثيرة المتفرّقة في الأبواب المختلفة - لا اختصاص لها بالبالغين ، وحديث رفع القلم لا يخصّصها.

ص: 179


1- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (2).
2- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 291.
3- تقدم راجع ص 174 ، هامش رقم (2).

وأمّا الروايات الواردة في أنّ عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة فموافق للعمومات ، لا أنّها مخصّصة لها ، لأنّ مفادها أنّ الصبي إذا صدر عنه فعل عن عمد لا يترتّب عليه أثر العمد ، بل يترتّب عليه أثر الخطأ ، فكلّ فعل إذا صدر عن الصبي وكان لصدوره خطأ أثر يترتّب عليه.

وباب الجنايات والديات والجنابة من هذا القبيل ، فإذا وجدت أسباب هذه الأمور - وإن كان صدورها منه خطأ - تترتّب عليها تلك الأمور ، فالنتيجة ثبوت الأحكام الوضعيّة لغير البالغ أيضا مثل البالغين. وأمّا الروايات التي مفادها توقّف نفوذ أمره على البلوغ (1) فأجنبيّ عن محلّ كلامنا.

[ الجهة ] الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

فأقول : إنّ الفعل الذي يكون موضوعا لحكم وضعي - وقد يسمّى ذلك الفعل سببا لذلك الحكم ، ولكن التحقيق أنّ ذلك الفعل موضوع لذلك الحكم ، وليس سببيّة في البين ، لأنّ سبب الحكم هو الجعل الشرعي ، فالشارع هو السبب الموجد له ، وإنّما موضوع حكمه يكون ذلك الفعل - قد يصدر من البالغ وقد يصدر من غير البالغين ، وليس بلوغ الفاعل شرطا لتحقق ذلك الحكم.

مثلا حيازة المباحات - كالاحتطاب والاعتشاب - موضوع لملكيّة ذلك الحطب وذلك العشب للفاعل ، سواء صدر عن البالغ أو من غيره ، فليس بلوغ من احتطب أو اعتشب شرطا في تحقق ملكيّة ذلك الحطب أو ذلك العشب.

وقد تقدّم الدليل على عدم شرطيّة البلوغ لحصول الحكم الوضعي في الجهة

ص: 180


1- تقدم راجع ص 118 ، هامش رقم (1).

الأولى ، وهو قوله علیه السلام : « من حاز شيئا من المباحات فقد ملكه » وكذلك الأمر في سائر الأمثلة. والمقصود من ذكر هذه الجهة بيان مفهوم هذه القاعدة.

[ الجهة ] الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول :

منها : حصول الجنابة لغير البالغ بغيبوبة الحشفة في أحد فرجيه ، سواء أكان مع إنزال الواطي البالغ أو مع عدمه ، بل وكذلك تحصل الجنابة له مع غيبوبة حشفته في فرج الآخر ، سواء أكان الموطوء بالغا أو لم يكن.

ومنها : حدوث الحدث الأصغر لمن خرج عنه البول أو الغائط أو الريح أو نام ، سواء أكان بالغا أو لم يكن.

ومنها : حصول الضمان واشتغال ذمّة من أتلف مال الغير ، سواء أكان المتلف بالغا أو لم يكن ، ودليله هو عموم « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » - وقد تقدّم شرح هذه القاعدة في بعض مجلّدات هذا الكتاب (1) - من غير مخصّص لذلك العموم.

ومنها : حصول الضمان لمن تلف ماله في يده غير المأذونة ، سواء أكان صاحب تلك اليد بالغا أو لم يكن. ودليله عموم قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (2) من دون وجود مخصّص لهذا العموم. وقد شرحنا هذا الحديث الشريف دلالة وسندا في قاعدة « وعلى اليد ».

ومنها : ما لو فوّت على الحرّ منافعه ، بأن حبسه عن شغله ، ففاتت تلك المنافع التي

ص: 181


1- راجع ج 2 ، ص 25.
2- تقدم راجع ص 54.

كان يحصلها لو لم يحبسه فهو له ضامن ، سواء أكان هذا الذي فوّت منافعه بالغا أو لم تكن.

ودليله إمّا قاعدة الإتلاف بناء على صدق الإتلاف عليه عرفا ، ولا شكّ في أنّه لو حبس مالك الأغنام والأغنام في برية فأكلها الذئب ، يصدق على الحابس عرفا أنّه أتلف الغنم.

وكذلك لو حبس مالك البستان ، ففسدت ثمراته لعدم من يصلحها ، أو يبست أشجارها لعدم من يسقيها ، فيصدق على الحابس أنّه أتلفها.

فكذلك لو حبس ذا صنعة أو منعه عن الاشتغال بشغله ، كما لو منع البنّاء من أن يبنى ، أو الصائغ من الصياغة ، يصدق عليه عرفا أنّه أتلف منافعه من عمله.

وفيه : الإتلاف إعدام شي ء موجود ، لا المنع عن إيجاده.

وإمّا قاعدة احترام مال المسلم وأنّ احترامه كاحترام دمه ، فإذا حبس ذا صنعة فوت عليه منافع إشغاله وأعماله التي كان يعملها لو لا منع الحابس عن الاشتغال بها.

ولا شكّ في أنّ تلك المنافع مال ، وماله محترم ، فمن فوّته يجب عليه تدركه وغرمه.

وفيه : أنّ المنافع وإن كانت مالا ولكن بعد وجوده لا قبل ، والحابس لم يتلف مالا موجودا ولا فوّته على صاحبه ، بل إنّما منع عن أن يوجد ، فلم يفوت مالا على صاحبه كي يكون ضامنا له بقاعدة الاحترام ولكنّه حيث يصحّ أن يواجر نفسه - والإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم عند أكثر الفقهاء قدس سره وإن عرف بتعاريف أخر ، ولا يمكن تمليك ما ليس بمالك له - فلا بدّ وأن يقال بأنّ أعماله قبل وجودها مال ، ولذلك تبادل بالمال ، فإذا فوّتها على المالك فقد فوّت مالا محترما عليه ، فيضمن بقاعدة الاحترام.

ص: 182

وإمّا قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) ولا شكّ أنّ من حبسه ومنعه عن عمله واستيفاء منافعه فقد اعتدى عليه ، فله أن يعتدى عليه بمقدار الضرر الذي أورده عليه ويغرمه.

والتحقيق في مسألة تفويت المنافع غير المستوفاة ، هو أنّه إن كانت تفويت المنافع بواسطة وقوع ذي المنفعة تحت يده ، كما لو حبس عبده أو دابّته ومنعهما عن إيجاد منافعهما ، فهذا يرجع إلى ضمان اليد.

والدليل عليه : قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » وذلك من جهة أنّ اليد على الشي ء يد على منافعه ، فكما أنّه يجب إرجاع العين وردّه إلى صاحبه يجب عليه إرجاع المنافع غير المستوفاة أيضا ، لأنّها وقعت تحت يده بتبع وقوع العين تحت يده.

وهذا المعنى لا يمكن في حبس الحرّ ، لعدم إمكان وقوع الحرّ تحت يده ، وعدم صدق الموصول عليه في قوله صلی اللّه علیه و آله : « ما أخذت » لأنّ الحرّ ليس شيئا مأخوذا بحيث يكون الأخذ سلطانا عليه ، ويكون له التصرّف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك من التصرّفات ، فلا بدّ لإثبات الضمان فيه إلى التماس دليل آخر غير قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ».

وقد ذكرنا ما قالوا من اندراجه تحت قاعدة الإتلاف ، وقاعدة الاحترام أو الاعتداء في الآية المباركة ، وقد عرفت ما فيها.

والمسألة من حيث الأقوال أيضا فيها اختلاف كثير ، ذكرها شيخنا الأعظم قدس سره في مكاسبه ، وهو بنفسه له كرّ وفرّ. ونسب إلى المشهور القول بالضمان (2).

ص: 183


1- البقرة (2) : 194.
2- « كتاب المكاسب » ص 105.

ولكن عرفت أنّ هذا فيما يقع تحت اليد لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما لا يقع تحتها ، كما قلنا في صورة حبس الحرّ وهو الذي يقال أنّه مورد لقاعدة التفويت. وقد ذكرنا ما يمكن أن يكون مدركا لقاعدة التفويت ، مع ما فيها من الخلل.

وأمّا ما يقال : إنّ مدركها الروايات ، فالروايات التي نحن اطّلعنا عليها ترجع إلى قاعدة الإتلاف ، وقد ذكرنا عدّة منها في مقام بيان مدرك قاعدة الإتلاف (1) ، وعلى كلّ حال كون قاعدة التفويت في قبال قاعدة الإتلاف - وقاعدة الاحترام وقاعدة على اليد قاعدة أخرى ويكون لها مدرك مختصّ بها - في غاية الإشكال.

نعم لو قلنا بأنّ منع الحرّ عن استيفاء منافعه بواسطة منعه عن العمل ، أو بواسطة منعه عن استثمار أملاكه موجب للضمان مع عدم كونه مندرجا تحت قاعدة الإتلاف ، ولا تحت قاعدة الاحترام ، ولا تحت قاعدة على اليد ، كما هو المفروض ، فلا بدّ وأن نقول إنّ هناك قاعدة أخرى ، وهي قاعدة التفويت.

فضمان المنافع غير المستوفاة ، - بدون وقوعها تحت اليد ولو بتبع العين ، مدركه قاعدة التفويت ، ومدرك قاعدة التفويت - بعد الفراغ عن عدم كون المذكورات مدركا له - هو بناء العقلاء على ذلك ، مع عدم صدور ردع عن قبل الشارع ، وتقريبه : أنّ في أبواب الضمانات غالبا أمضى الشارع الطرق العرفيّة.

ولا شكّ في أنّ العرف والعقلاء يرون من حبس شخصا حرّا ومنعه عن الاشتغال باشغاله - خصوصا إذا كان إشغاله ذات فائدة كثيرة وقيمة كبيرة - ضامنا ، ويحكمون بتغريمه وأخذ ما خسره المحبوس عنه.

وهذا دليل قطعيّ على أنّ تفويت المنافع على شخص موجب للضمان ، وإن كانت تلك المنافع غير مستوفاة ، وحيث أنّ الشارع لم يردع عن هذه الطريقة العقلائيّة فعدم

ص: 184


1- راجع ج 2 ، ص 25.

الردع دليل على إمضائها.

ومنها : حيازة المباحات ، فإنّه لا فرق بين أن يكون من حاز بالغا أو غير بالغ في حصول الملكيّة له بالحيازة. ودليله على عموم الحكم قولهم : « من حاز شيئا من المباحات ملكه » (1) من دون مخصّص لهذا العموم.

ومنها : عموم حكم الشارع بتعلّق الدية بذمّة من أوجد سببها ، سواء أكان بالغا أو غير بالغ ، من دون مخصّص في البين.

ودليله الأخبار الكثيرة الواردة في موارد الديات ، كرواية أبي الصباح عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « من أضرّ بشي ء من طريق المسلمين فهو له ضامن » (2).

وكرواية السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئا في طريق المسلمين ، فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن ». (3) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في أبواب الديات والجنايات.

ومعلوم أنّ الموصول عامّ يشمل غير البالغين كما يشمل البالغين ، ولا مخصّص في البين ، عدا ما توهّموه. وقد عرفت عدم صحّة ما ذكروه.

ومنها : عموم حصول ملكيّة كلّ من أحيا أرضا ميتة ، سواء أكان بالغا أو لم يكن.

ص: 185


1- « جواهر الكلام » ج 26 ، ص 291.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 3 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 155 ، ح 5346 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا. ، ح 6. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 905 ، (18) باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 180 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 8 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 8 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 154 ، ح 5343 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا. ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 908 ، (18) باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 182 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 11 ، ح 1.

والدليل عليه قوله علیه السلام : « من أحيا أرضا مواتا فهي له » (1).

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 186


1- تقدم راجع ص 158 ، هامش رقم (1).

43 - قاعدة الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد

اشارة

ص: 187

ص: 188

قاعدة الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة هي أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟ وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان الأقوال فيها

فنقول :

ذهب الشيخ (2) والقاضي (3) وابن سعيد 5 (4) وجماعة أخرى إلى عدم كونه مفسدا مطلقا. وذهب جمع من المحقّقين كالعلاّمة (5) والمحقّق الثاني (6) ، والشهيدين (7) وغيرهم قدس سرهم بل

ص: 189


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 241 ، « الحق المبين » ص 74 ، « عناوين الأصول » عنوان 50 ، « قواعد فقه » ص 68 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 9 و 39 ، « قواعد فقهيّة » ص 119 ، « سه قاعدة فقهي ( الشرط الفاسد ليس بمفسد. ) » سيد محمد موسوي بجنوردى ، فصليّة « حق » ، دفتر 11 و 1. العام 1366.
2- « المبسوط » ج 2 ، ص 148 - 149.
3- نقل قوله العلاّمة في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، ولم نعثر عليه في « المهذب » ولعلّه في « الكامل » من كتب القاضي « مخطوط ».
4- « الجامع للشرائع » ص 251.
5- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 152 ، « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، الفصل (18) في الشروط ، مسألة : 295.
6- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 415 و 431.
7- الشهيدين « اللمعة - الروضة البهية » ج 3 ، ص 505 ، خيار الاشتراط.

قيل جلّ المتأخّرين إلى أنّه مفسد مطلقا. وفصّل ابن زهرة (1) بين ما إذا كان سبب فساد الشرط كونه غير مقدور فقال بالإفساد ، وبين ما إذا كان سببه كونه مخالفا لمقتضى العقد ، أو كونه مخالفا للسنّة فقال بعدم الإفساد وادّعى الإجماع في كلا الموردين.

وهناك تفصيل آخر نسب إلى ابن المتوج البحراني (2) ، وهو الإفساد إن كان سبب فساد الشرط كونه غير عقلائي ، وإلاّ فلا.

والحقّ : هو القول الأوّل ، وسيأتي بيانه وبرهانه إن شاء اللّه تعالى.

[ الجهة ] الثانية

في أنّه بعد الفراغ من أنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به لفساده وبطلانه - والشارع لم يعتن بهذا الالتزام والإلزام - فهل يستحبّ الوفاء به ، من حيث أنّه وعد ابتدائي ، لا من حيث أنّه إلزام أو التزام في ضمن العقد اللازم ، كي تقول بأنّه من هذه الجهة فاسد وباطل ولم يمضه الشارع.

أقول : أمّا فيما إذا كان منشأ بطلان الشرط وفساده كونه ممّا أحلّ حراما ، فلا وجه لإتيان هذا الاحتمال ، وهذا واضح.

وأمّا فيما عداه ممّا ليس مخالفا للمشروع ، فقد أفاد شيخنا الأعظم قدس سره أنّه لا تأمّل فيه ، لكونه من الوفاء بالوعد الذي لا شبهة في حسنه عقلا واستحبابه شرعا (3).

واستشكل عليه شيخنا الأستاذ قدس سره بأنّ الوعد إخبار ، فلا ربط له بباب الشروط التي تكون من مقولة الإنشاءات ، لما قلنا إنّها إلزامات والتزامات في ضمن العقود اللازمة ، فلا يشملها دليل استحباب الوفاء بالوعد ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « من كان يؤمن باللّه

ص: 190


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 524 - 525.
2- حكى عنه الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 287.
3- « كتاب المكاسب » ص 287.

واليوم الآخر فليف إذا وعد » (1) وكقوله علیه السلام : « عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له ، فمن أخلف فيخلف اللّه بذا ولمقته تعرّض ، وذلك قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (2). (3)

ولا دليل لزوم الوفاء بالشرط ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » (4) لأنّ المراد من الشروط هي الشروط الصحيحة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ الواعد أيضا نحو التزام بإيجاد أمر في المستقبل ، فيكون من قبيل الإنشاءات.

ولذلك يقال : إنّه وفي بوعده ، ولو كان صرف الإخبار عن أمر فيما سيأتي لما كان للوفاء به معنى.

وأمّا اتّصافه بالكذب والصدق في الكتاب العزيز في موارد كثيرة ، فلا دلالة فيه على أنّه ليس من الإنشاءات ، لأنّ الإنشاء لا يتّصف بالصدق والكذب.

وذلك من جهة أنّ الإنشاء وإن لم يتّصف بهما باعتبار نفس الإنشاء ، لأنّه لا حكاية في الإنشاء كي تكون مطابقة للمحكي أو غير مطابقة له ، ولكن ربما يتّصف بهما باعتبار قصد الحقيقي وعدمه بالنسبة إلى وقوع المنشأ وعدمه ، فيكون اتّصاف الوعد بهما من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف.

هذا ، مضافا إلى أنّ العمل بالالتزام بأمر لا شكّ في حسنه عقلا وشرعا وإن لم يكن ذلك الالتزام مشمولا لدليل وجوب الوفاء بالشروط ، إذا لم يكن ممّا ندب

ص: 191


1- « الكافي » ج 2 ، ص 270 ، باب خلف الوعد ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 515 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 109 ، ح 2.
2- الصف (61) : 2 و 3.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 270 ، باب خلف الوعد ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 515 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 109 ، ح 3.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب (31) في المهور والأجور. ، ح 66. « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب (142) من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوّج عليها ولا تيسر ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أحكام المهور ، باب 20 ، ح 4.

الشارع إلى تركه.

[ الجهة ] الثالثة : في تعيين ما هو محلّ النزاع ، وبيان مورد ما وقع فيه الخلاف

اشارة

فنقول :

الحقّ في مقام تحرير محلّ الخلاف هو أن يقال : كلّ شرط كان وجوده - أي الالتزام به أو إلزام الطرف به - موجبا لاختلال العقد أو العوضين أو غيرهما من أركان المعاملة ، فهو خارج عن محلّ النزاع ، ولا شكّ في أنّ مثل هذه الشروط فاسدة ومفسدة للعقد ، فلو باعه شيئا بشرط أن لا يملكه ، أو زوّجه بشرط عدم جميع الاستمتاعات منها ، فمثل هذا الشرط فاسد ومفسد يقينا ، لأنّه مناقض للعقد ، غاية الأمر أنّه في المثال الأوّل تكون المناقضة بين الالتزامين - أي بين الالتزام العقدي والشرطي - صريحة ، لأنّ مفاد الأوّل تمليك ، ومفاد الثاني نفي التمليك.

وفي المثال الثاني تكون بالدلالة الالتزامية ، لأنّ الزوجيّة المنشأة بالعقد وإن كانت غير جواز الاستمتاعات منها ، إلاّ أنّ جواز الاستمتاع منها بطور الموجبة الجزئيّة من لوازمها ، وإلاّ يكون اعتبارها لغوا وباطلا ، فمفاد الشرط يكون نفي الزوجيّة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم ، فيتناقضان.

وها هنا ربما يتوهّم أنّ التناقض يكون فيما إذا أمضى الشارع هذا الشرط ورتّب عليه الأثر ، فصحّة العقد - بمعنى ترتيب الأثر عليه - مع صحّة الشرط - أي ترتيب الأثر عليه - متناقضان ، ولا تناقض بين العقد وصرف وجود هذا الشرط ، فلو قلنا بفساد الشرط وعدم لزوم ترتيب الأثر عليه فلا تناقض في البين ، في كلا المثالين - أي لا صريحا ولا بالدلالة الالتزاميّة - لأنّ الشرط بناء على هذا يكون صرف لقلقة لسان ، ووجوده كعدمه.

ص: 192

ولكن أنت خبير بأنّ مثل هذا الكلام متناقض من حيث المتفاهم العرفي ، سواء أمضى الشارع مثل هذا الشرط أو لم يمضه ، ولا يصحّ إنشاء النقل والانتقال أو الزوجيّة بمثل هذا الكلام المتناقض الذي ليس له مفهوم عرفي صحيح.

نعم هذا الإشكال يأتي - وله مجال - فيما إذا لم يكن الشرط بوجوده موجبا لاختلال العقد أو أحد أركانه ، بل يكون موجبا للاختلال على تقدير صحّته وإمضائه من قبل الشارع ، كما إذا باع العنب بشرط أن يعمله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صليبا أو صنما ، فحصر المنفعة في هذه المنفعة المحرّمة موجب لسقوط ماليّته وبطلان البيع وفساده لذلك ، لصيرورة المبيع بلا منفعة بناء على هذا ، فيخرج عن الماليّة ويختلّ أحد أركان العقد وهو ماليّة أحد العوضين ، ولكن هذا الخروج عن الماليّة حيث أنّه ليس خروجا تكوينيّا ، بل يكون خروجا تشريعيا ، فيحتاج إلى إمضاء الشارع لهذا الشرط ، وإلاّ فبصرف وجوده لا يوجب سقوط الماليّة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حصر المالك منفعة المبيع في هذا المحرّم موجب لسلب سائر المنافع عن ذلك المال ، سواء أكان هذا الشرط صحيحا أم لا ، فلا يبقى للمشتري إلاّ هذه المنفعة وهي محرّمة ، سواء أكان الشرط صحيحا أم فاسدا ، فيكون الشرط من ذلك القسم الذي بوجوده يوجب الاختلال ، لا باعتباره وإمضائه من طرف الشارع.

إذا تدبّرت فيما ذكرنا تعرف أنّ بعض التفاصيل في هذه القاعدة ليس قولا بالتفصيل ، بل خارج عمّا هو محلّ الخلاف.

وذلك كما إذا كان فساد الشرط موجبا لعدم القدرة على تسليم المبيع مثلا ، أو صيرورة البيع غرريّا ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ، فهذه الصور وأمثالها خارجة عن محلّ الكلام.

وحاصل الكلام : أنّ النزاع في هذه القاعدة - وأنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه أم لا - يكون فيما إذا كان وجه كونه مفسدا

ص: 193

تقييد المعاملة ، أو إناطة الرضا بالنقل والانتقال ، أو بأيّ شي ء كان مضمون العقد ومفاده بذلك الشرط؟ فيقال : إنّ الشرط إذا كان فاسدا ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز فيما إذا كان محرّما ، فهل ذلك العقد وتلك المعاملة تكون فاسدة - من جهة عدم الرضا بمضمونها ، أو من جهة انتفاء المقيّد بانتفاء قيده - أم لا ، إذ لا يلزم محذور؟

وأمّا لو كان الشرط سببا لاختلال أحد أركان العقد - أو أحد شرائط العوضين أو المتعاملين ، فهذا لا ربط له بهذه القاعدة.

إذا عرفت هذه الأمور ، فنقول :

الدليل على القول المختار - وهو عدم الإفساد مطلقا - من وجوه :

الأوّل : إطلاقات أدلّة المعاملات والعقود ، كقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وغيره من العمومات والإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات ، ولا يجوز الخروج عنها إلاّ بمخصّص أو مقيّد ، وليس في البين ما يكون صالحا لأن يكون مخصّصا ، أو يكون مقيّدا عدا ما توهّم من إناطة الرضا في العقد المشروط بذلك الشرط المذكور فيه ، ومن بعض الروايات التي ذكروها في مقام إثبات الإفساد ، (2) ومن أنّ للشرط قسطا من الثمن ، فإذا كان الشرط فاسدا يكون العوض في العقد مجهولا ، لأنّه لا يعلم أيّ مقدار منه بإزاء نفس المبيع مثلا ، وأيّ مقدار بإزاء الشرط.

وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى عن هذه الأمور الثلاثة مفصّلا في مقام الجواب عن أدلّة القول بالإفساد.

الثاني : الإجماع الذي ادّعاه السيّد أبو المكارم ابن زهرة (3) قدس سره ولكن فيه على فرض تسليم وجوده لا وجه لحجّيته مع وجود المدارك التي ذكرناها من العمومات

ص: 194


1- المائدة (5) : 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 59 ، ح 253 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 409 ، أبواب أحكام العقود ، باب 35 ، ح 1.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 524.

والإطلاقات ، وما سنذكرها من الروايات.

الثالث : الأخبار :

منها : النبويّ المشهور بين الفريقين المرويّة في كتب العامّة والخاصّة في قصة بريرة التي اشتراها أمّ المؤمنين عائشة ، وهو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي عن الصادق علیه السلام أنّه ذكر أنّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة. فاشترتها عائشة فأعتقتها ، فخيّرها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « إن شاءت قعدت عند زوجها وإن شاءت فارقته » ، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أنّ لهم ولاؤها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « الولاء لمن أعتق » (1).

ودلالة هذا الحديث الشريف المشهور بيننا وبين الجمهور على عدم إفساد الشرط الفاسد للعقد ممّا لا ريب فيه وواضحة جدّا ، وذلك لحكمه صلی اللّه علیه و آله بفساد الشرط وصحّة العقد جميعا.

أمّا حكمه صلی اللّه علیه و آله بفساد الشرط وأنّه خلاف السنّة فلقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّ شرط اللّه قبل شرطكم » (2) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « الولاء لمن أعتق ».

وأمّا حكمه بصحة العقد المشتمل على هذا الشرط الفاسد ، فلقوله صلی اللّه علیه و آله : « إن شاءت قعدت عند زوجها ، وإن شاءت فارقتها » فإنّ تخييرها بين العقود عند زوجها وبين مفارقتها له موقوف على صحّة عتقها ، وهي موقوفة على صحّة بيعها كي يكون

ص: 195


1- « الكافي » ج 6 ، ص 198 ، باب الولاء لمن أعتق ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 134 ، ح 3497 ، باب ولاء المعتق ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 250 ، ح 907 ، باب العتق وأحكامه ، ح 140 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 47 ، أبواب العتق ، باب 37 ، ح 2 ، « صحيح البخاري » ج 7 ، ص 62 ، باب 16 ، « سنن الترمذي » ج 4 ، ص 436 ، ح 2124 ، باب ما جاء في الرجل يتصدّق أو يعتق عند الموت ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 671 ، ح 2076 ، باب خيار الأمة إذا أعتقت.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 370 ، ح 1500 ، باب المهور والأجور... ، ح 63. « الاستبصار » ج 3 ، ص 231 ، ح 832 ، باب من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 46 ، أبواب المهور ، باب 38 ، ح 1.

العتق في ملك المعتق ، وإلاّ فلا يصحّ العتق ، فلا يكون لها التخيير.

ومنها : مرسلة جميل وصحيحة الحلبي :

فالأوّل : عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما في رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب؟ قال : « يفي بذلك إذا شرط لهم ». وفي طريق آخر زاد « إلاّ الميراث » (1).

والثاني : عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا تورث ولا توهب؟ فقال : « يجوز ذلك غير الميراث ، فإنّها تورث ، وكلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو ردّ » (2).

وظاهر هذه الصحيحة والمرسلة هو أنّ البائع لو شرط على الذي اشترى جاريته أن لا يبيعها ولا يوهبها ولا تورث ، فيجب على المشتري أن يفي بالشرطين - أي عدم بيعها وعدم هبتها - وشرط عدم الإرث لا ينفذ ، لأنّه خلاف كتاب اللّه تعالى ، فهو مردود.

ومعلوم أنّ وجوب الوفاء بذينك الشرطين موقوف على صحّة البيع الذي وقعا في ضمنه ، مع أنّ ذلك البيع مشروط بشرط فاسد ، أي : شرط أنّها لا تورث ، لأنّه خلاف الكتاب. فهذه الرواية تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسدا للعقد.

ولكن يشكل الاستدلال بهذه الرواية على عدم كون الشرط الفاسد مفسدا بأنّه مبنيّ على صحّة اشتراط بيع الجارية بعدم بيعها وعدم هبتها كي يكون الوفاء بهما واجب ، والمشهور يقولون بفساد هذين الشرطين وأنّهما خلاف السنة ، فلا يجب الوفاء بهما ، فتكون الرواية قد أعرض عنها المشهور ، بل ربما ادّعى الإجماع على خلافه ، إذ

ص: 196


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 373 ، ح 1509 ، باب المهور والأجور. ، ح 72. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 17 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 289 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 43 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 1.

حكى عن كاشف الرموز أنّه قال : لم أجد عاملا بهذه الرواية (1).

وأجاب شيخنا الأعظم قدس سره عن هذا الإشكال بحمل الأمر بالوفاء بالشرطين على الاستحباب (2) ، إذ المشهور لا ينكرون استحباب الوفاء ، بل يقولون بعدم وجوب الوفاء بالشرطين ، لعدم صحّتهما ، ولا ينافي عدم صحّة الشرط مع استحباب الوفاء به ، كما نبّهنا عليه في صدر القاعدة.

ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر الرواية هو وجوب الوفاء بالشرطين ، وقلنا في الأصول إنّ الجملة الخبريّة إذا وقعت موقع الطلب تكون آكد في الوجوب من صيغة « افعل » فالرواية بظاهرها أعرض عنها الأصحاب ، فلا تكون صالحة للاستدلال بها على المطلوب ، وهو عدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد.

ومنها : رواية عبد الملك بن عتبة قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟

وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال علیه السلام : « لا ينبغي ». وفي بعض النسخ : وما حدّ ذلك؟ قال علیه السلام : « لا ينبغي » (3).

وظاهر هذه الرواية أنّ المشتري لو شرط أن تكون الوضيعة عن الثمن الذي اشترى به لو باع يكون على البائع الأوّل ، بمعنى : أنّه لو خسر المشتري في بيعه هذا المتاع لغيره تكون الخسارة على البائع الذي اشتراه منه ، لا على نفسه ، وهذا شرط فاسد ، لأنّه خلاف الكتاب والسنّة ، ومع ذلك لم يحكم الإمام علیه السلام بفساد البيع الأوّل ، بل قال : « لا ينبغي » وفيه احتمالان :

أحدهما : أنّه لا ينبغي أن يشرط على البائع مثل هذا الشرط ، فيكون نفس

ص: 197


1- « كشف الرموز » ج 1 ، ص 475.
2- « كتاب المكاسب » ص 281.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 59 ، ح 253 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 409 ، أبواب أحكام العقود ، باب 35 ، ح 1.

الاشتراط مكروها. ومعلوم أنّ هذا فيما إذا كان أصل المعاملة صحيحة ، وإلاّ فلا معنى لكراهة هذا الشرط.

ثانيهما : أنّ مثل هذه المعاملة لا ينبغي وقوعها وصدورها منهما. وهذا أيضا لا يدلّ على فساد هذه المعاملة ، بل معنى كراهيّتها أنّها تقع ولكن مع كونها مكروهة وفيها حزازة ، كما في سائر المعاملات المكروهة كالحياكة وبيع الأكفان وغيرهما ، فهذه الرواية أيضا تدلّ على القول المختار ، وهو عدم إفساد الشرط الفاسد للعقد الواقع هذا الشرط في ضمنه.

وأمّا احتمال أن يكون هذا الشرط في خارج العقد - فتكون الرواية أجنبيّة عن محلّ الكلام ، لأنّ محلّ كلامنا هو الشرط الفاسد الواقع في ضمن العقد ، لا الواقع في خارجه - فخلاف ظاهرها ، لأنّ الظاهر من قوله : « على أنّه ليس منه على وضيعة » أنّه - أي الظرف - متعلّق بابتاع ، فيكون المعنى أنّ الابتياع مبنيّ على هذا الشرط ، فلا وجه لاحتمال أن يكون هذا الشرط في خارج العقد.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا وجه لكراهة مثل هذا الشرط في خارج العقد ، بل يكون وعدا ابتدائيّا يستحبّ الوفاء به.

وأمّا احتمال أن يكون « لا ينبغي » للإرشاد إلى عدم وقوع هذه المعاملة المشروطة بمثل هذا الشرط ، فبعيد إلى أقصى الغاية.

نعم يمكن أن يكون إرشادا إلى عدم صحّة هذا الشرط ، فيكون مفاده لغويّة هذا الاشتراط. ولكنّه أيضا خلاف الظاهر ، بل ظاهره هو أنّ المعاملة المشتملة على هذا الشرط مكروهة كسائر المعاملات المكروهة ، فلا قصور في دلالة هذه الرواية على المطلوب.

ومنها : رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قضى في رجل تزوّج امرأة وأصدقته هي واشترطت عليه أنّ بيدها الجماع والطلاق قال علیه السلام : « خالفت السنّة

ص: 198

وولّيت حقّا ليس بأهله ، فقضى أنّ عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق ، وذلك السنّة » (1).

وهذه الرواية صريحة في فساد الشرط وبطلانه ، وصحة العقد.

والإشكال في سنده من جهة اشتراك محمّد بن قيس بين من هو ثقة ومن هو ضعيف ، لا وجه له بعد عمل الأصحاب بها ، وبعد أن ذكرها المشايخ الثلاثة في كتبهم.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة صحيحة - في كتاب النكاح في أبواب المهور - صريحة في صحّة عقد النكاح وبطلان الشروط الواقعة في ضمنه.

وذلك كما إذا شرط في ضمن عقد النكاح لزوجته إن تزوّج عليها ، أو تسرى ، أو هجرها فهي طالق ، أو شرط عليها الإتيان وقتا خاصّا ، أو شرط ترك القسم وأمثال ذلك.

وأمّا التفصيل بين عقد النكاح وسائر العقود بعدم الإفساد في الأوّل والإفساد في سائر العقود لأجل هذه الأخبار ، فكان من الممكن لو كان مدرك الإفساد وعدمه هو الأخبار ، فيقال : إنّ الأخبار الواردة في هذا الباب مختلفة من حيث المفاد ، فالواردة منها في باب النكاح مفادها فساد الشرط وصحّة العقد. وأمّا الواردة في غيره فمفادها فساد الشرط والعقد جميعا. وربما ينسب هذا التفصيل إلى صاحب المدارك قدس سره (2) وقبله إلى العلاّمة قدس سره . (3)

ولكن أنت خبير بأنّ عمدة مدرك القائلين بالإفساد ونظرهم إلى إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، ففي مورد الشرط الفاسد الذي لا يجب العمل به - بل

ص: 199


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 425 ، ح 4475 ، باب ما أحل اللّه عزّ وجلّ من النكاح وما حرّم منه ، ح 60 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 369 ، ح 1497 ، باب المهور والأجور وما ينعقد من النكاح من ذلك وما لا ينعقد ، ح 60 ، وفيه : قضى عليّ علیه السلام . ، « وسائل الشيعة » ج 15. ص 41 ، أبواب المهور ، باب 29 ، ح 1.
2- صاحب المدارك في « نهاية المرام » ج 1 ، ص 420.
3- العلاّمة في « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 152.

لا يجوز إن كان حراما - لا رضاء في البين ، وفي هذا المعنى لا فرق بين النكاح وسائر العقود.

فقد ظهر ممّا ذكرنا قيام الدليل على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد من الروايات.

الرابع : من أدلّة القائلين بعدم الإفساد وصحة العقد مع فساد الشرط هو أنّه لو كان صحّة العقد متوقّفة على صحّة الشرط يلزم منه الدور.

وفيه : أنّ صحّة العقد ليست متوقّفة على صحّة الشرط ، لأنّ العقد صحيح وإن لم يكن فيه شرط أصلا.

نعم العقد الذي وقع في ضمنه شرط صحّته موقوفة على أن لا يكون ذلك الشرط فاسدا ، وعدم كون الشرط المذكور في ضمن العقد فاسدا ليس متوقّفا على صحّة العقد ، كي يكون دورا ، بل موقوف على عدم علّته - أي عدم جعل الشرط الفاسد في ضمن ذلك العقد - فلا دور ، لأنّه من الممكن أن يكون الشرط الفاسد مفسدا بدون أن يكون دور في البين ، والأمر واضح جدّا ، فلا يحتاج إلى تطويل الكلام.

وإن شئت قلت : ليست صحّة الشرط من مقدّمات وجود العقد الصحيح ، إذ من الممكن وجود العقد الصحيح بدون أن يكون شرط في ضمنه ، لا الشرط الصحيح ولا الشرط الفاسد ، نعم الشرط الفاسد مانع عن صحّة العقد ، فيسري فساده إلى العقد ، فيكون وجود العقد الصحيح موقوفا على عدم وجود الشرط الفاسد في ضمنه ، توقّف وجود الشي ء على عدم مانعه.

ولكن عدم وجود الشرط الفاسد ليس موقوفا على صحّة العقد كي يكون دورا ، بل موقوف على عدم علّته ، أي عدم اشتراط مثل ذلك الشرط.

وبعد ما عرفت أنّ الشرط الفاسد لا يوجب فساد العقد ، فهل يوجب الخيار أم لا؟

ص: 200

الظاهر هو الأوّل ، وذلك من جهة أنّ المناط الذي أوجب الخيار في تخلّف الشرط الصحيح أو تعذّره موجود ها هنا ، بناء على ما حقّقنا في وجه ثبوت الخيار عند تعذّر الشرط أو عدم العمل على طبقه وعدم الوفاء به ، لا بناء على ما استند إليه شيخنا الأعظم قدس سره من الإجماع أو قاعدة الضرر في الشروط الصحيحة (1).

وذلك من جهة أنّ المناط في مجي ء الخيار عند التخلّف في الشروط الصحيحة هو أنّ دليل اللزوم لا يشمل مورد تخلّف الشرط أو تعذّره ، أو عدم الوفاء به ، لأنّ مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) الذي هو عمدة أدلّة لزوم العقود هو وجوب الوفاء بما التزم به والثبوت عند تعهّده ، فإذا لم يكن له التزام لا يبقى موضوع لوجوب الوفاء به ، فالعقد إن لم يكن شرط في ضمنه عبارة عن تعهّده والتزامه بما هو مضمون العقد ، فبمقتضى مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يجب عليه الوفاء بالتزامه بمضمون ذلك العقد والثبوت عنده وإبرامه ، وليس له حلّه وفسخه.

وأمّا إن كان مشروطا بشرط ، سواء أكان ذلك الشرط صحيحا أم فاسدا ، فالتزامه بمضمون ذلك العقد ليس مطلقا ، بل منوط بالعمل على طبق ذلك الشرط ووجوده في وعائه ، فإن تخلّف أو تعذّر ليس له التزام بالوفاء بذلك العقد في ظرف عدم وجود ذلك الشرط ، فموضوع وجوب الوفاء ودليل اللزوم يذهب من البين. وهذا هو المراد من عدم شمول دليل اللزوم لمورد تخلّف الشرط أو تعذّره.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مناط ثبوت الخيار في باب الشروط الصحيحة هو إناطة الالتزام بالوفاء بمضمون العقد بوجود ما اشترط ، فإذا تعذّر أو تخلّف المشروط عليه عن الوفاء به لا التزام من طرف المشروط له ، وعدم الوفاء قد يكون من جهة تعذّره عقلا وقد يكون من جهة فساده شرعا ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

ص: 201


1- « كتاب المكاسب » ص 285.
2- المائدة (5) : 1.

وخلاصة الكلام : أنّ العقد المشروط بالشرط الفاسد إن لم يوجب ذلك الشرط اختلالا في أركان العقد يكون صحيحا ، غاية الأمر مع ثبوت الخيار. هذا هو القول الأوّل ، أي القول بعدم الإفساد.

وأمّا القول الآخر - أي القول بالإفساد - فاستدلّوا له بوجوه :

الأوّل : أنّ فساد الشرط يوجب سقوطه عن الاعتبار ، ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان حراما ، المشهور أنّ له قسطا من الثمن ، فبعد سقوطه يكون عوض المثمن مجهولا ، ولا يعلم أنّه أيّ مقدار من الثمن بإزاء المثمن ، فإذا صار عوض المثمن مجهولا تكون المعاملة باطلة ، لأنّه من شرائط صحّة المعاملة معلوميّة العوضين ، وإلاّ تكون غرريّة باطلة.

وفيه أوّلا : منع وقوع شي ء من الثمن بإزاء الشرط ، بل المبادلة والمعاوضة تقع بين الثمن ونفس المثمن في البيع مثلا. نعم الشرط أو الوصف يوجبان ازدياد ماليّة المثمن في البيع - مثلا - بدون أن يقسط عليهما وعلى المبيع مثلا ، وهذا أمر وجدانيّ ارتكازيّ للعرف والعقلاء في معاملاتهم في أسواقهم ، فيصفون سلعتهم بأوصاف مرغبة ، وربما يذكرون تلك الأوصاف بصورة الشرط لجلب المشتري ورغبته ، ولكن المبادلة تقع بين نفس المثمن وذلك العوض ، وليس الوصف والشرط مثل الجزء كي يقع شي ء من الثمن في مقابلهما.

نعم إجزاء المبيع كلّ واحد منها يقع مقابل جزء من الثمن ، خصوصا إذا كان متساوي الأجزاء من حيث القيمة كالحنطة والشعير ، وهذا مناط المثليّة في باب تعيين المثلي والقيمي ، ولكن الشرط أو الوصف ليسا كذلك ، ولا يوجبان إلاّ ازدياد قيمة نفس العوض.

نعم بعض الشروط ربما يكون كذلك ، أي له قسط من الثمن عند العرف والعقلاء ،

ص: 202

كما إذا كان الشرط عملا يبذل بإذائه المال ، كخياطة ثوبه مثلا ، أو عمارة داره وأمثال ذلك ، ولكن عند التدقيق أيضا لم يقع شي ء من الثمن في مقابله في مقام الإنشاء ، وإن كان في مقام اللبّ للمشروط له نظر إلى ذلك الشرط في مقام تعيين الثمن قلّة وكثرة.

ولكن في مقام إنشاء المبادلة والمعاوضة لم تنشأ المبادلة إلاّ بين نفس العوضين ، والشروط خارجة عن دائرة المبادلة ، ففي عالم الإنشاء عوض تمام الثمن - مثلا - هو تمام المبيع ، وإن كان في مقام اللبّ يبذل مقدارا من الثمن بإزاء الشرط ، ولكن لا اعتبار في باب المعاوضات بأنظار المتعاملين ، بل المدار على إنشائهما ، وهو المتّبع.

نعم حيث أنّ التزامه بهذه المبادلة - أي بذله تمام الثمن بإزاء المبيع - كان منوطا بوجود ذلك الشرط ، فلو لم يوجد بأيّ سبب كان لا التزام له ، فلا لزوم ويكون له الخيار ، ولذلك قلنا في باب تخلّف الشروط الصحيحة ليس له أخذ الأرش ، بل له الخيار فقط.

وثانيا : على فرض تسليم وقوع مقدار من الثمن مقابل الشرط وبإزائه مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان الشرط ممّا يبذل بإزائه المال مستقلا بتعذّره أو عدم وفاء المشروط عليه بما التزم ، لا يصير العوض مجهولا ، إذ العرف وأهل الخبرة يعيّنون مقدار المقابل للشرط وما هو بإزاء أصل المبيع مثلا ، فلا يبقى جهالة في البين.

وهذا الإشكال يأتي في الشروط الصحيحة إذا تعذّرت أو لم يف المشروط بها ، وأيضا يأتي في باب تبعّض الصفقة ، فيلزم القول ببطلان المعاملة في الجميع ، ونفس المستشكل لا يقول به هناك.

والجواب في الجميع واحد ، وهو أوّلا : عدم وقوع شي ء من الثمن بإزاء الشرط. وثانيا على تقدير وقوعه - كما أنّه يقع قطعا مقدار منه مقابل الجزء الذي لا يملك أو الذي لا يملكه ، كما في باب تبعّض الصفقة - فبتعيين أهل الخبرة ترتفع الجهالة ، ومثل هذه الجهالة لا تكون غررا ، ولا تضرّ بصحّة المعاملة ، ولذلك لم يقولوا ببطلان المعاملة

ص: 203

في باب تبعّض الصفقة مع وقوع مقدار من الثمن بإزاء الجزء الفائت قطعا.

الثاني : أنّ رضاء المشروط له بهذا العقد والمعاملة منوط بوجود هذا الشرط ووفاء المشروط عليه به ، وأمّا إذا لم يكن الوفاء لازما وواجبا - بل لم يكن جائزا فيما إذا كان الفساد لحرمته - فلا رضاء له ، ومن المعلوم أنّ المعاوضة والتجارة بدون الرضاء لا أثر لها ، بل الرضاء بمضمون العقد لازم في تأثيره ، ولو كان في غير باب المعاوضات كالنكاح.

وأجيب عنه حلاّ ونقضا :

أمّا النقض : فبالشروط الفاسدة في عقد النكاح ، فإنّه قد استفاضت الأخبار والروايات الصحيحة على فساد الشرط وصحّة العقد (1) ، وقد ذكرنا جملة من تلك الأخبار وتقدّمت ، ولا فرق فيما ذكرنا بين الشروط الفاسدة الراجعة إلى المهر ، أو إلى نفس مضمون العقد وحصول علاقة الزوجيّة.

وذلك من جهة أنّه كما لا تحصل المبادلة والمعاوضة بينهما بدون رضاء الطرفين ، كذلك لا تحصل علاقة الزوجيّة بينهما بدون رضائهما.

نعم هناك بعض الشروط في باب النكاح يوجب فساد العقد وبطلانه ، كما إذا شرطت الزوجة عدم جميع الاستمتاعات ، فكون هذا الشرط وأمثاله موجبا لبطلان النكاح ليس لخصوصيّة في النكاح ، بل لأجل الاختلال في أركان العقد ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ولو بالالتزام ، كما في المثال المذكور.

وهذا يجري في جميع العقود ، فما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في هذا المقام من أنّ المراد بالشروط الفاسدة في مورد النقض هي الشروط الراجعة إلى المهر لا إلى أصل عقد النكاح ، لا يخلو عن إشكال ، لما ذكرنا من ورود الأخبار الكثيرة في فساد بعض الشروط الراجعة إلى أصل النكاح ، مع صحّة أصل ذلك العقد.

ص: 204


1- تقدم راجع ص 195 - 199.

وأيضا النقض بصورة تعذّر الشرط ، أو عدم وفاء المشروط عليه وعدم إمكان إجباره ، وكذلك بصورة تخلّف الوصف ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان وفساد العقد في تلك الموارد.

نعم يقولون بالخيار للمشروط له ، وفي تخلّف الوصف أيضا ، كما أنّنا نقول ها هنا أيضا ، وكذلك النقض بصورة تبعّض الصفقة ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان ، مع أنّ هذا الإشكال - أي إناطة الرضا بوجود الشرط - هناك أقوى ، من جهة أنّه في باب الشروط غالبا الغرض الأصلي يتعلّق بمبادلة نفس العوضين ، أو حصول علاقة الزوجيّة بين الطرفين ، والشروط الواقعة في ضمن تلك العقود مقاصد فرعيّة ، بخلاف باب تبعّض الصفقة ، فإنّ المقصود الأصلي الأوّلي هو وقوع المبادلة بين تمام كلّ واحد من العوضين مع تمام العوض الآخر ، فأمر إناطة الرضاء بمجموع كلّ واحد من العوضين أهمّ من إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، فكلّ ما يجيبون عن هذا الإشكال في تلك الموارد ، فليكن الجواب في هذا المقام.

وأمّا الحلّ : فقد ذكرنا في مسألة تعذّر الشرط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب (1) ، ولا بأس بالإشارة إليه ها هنا أيضا إجمالا.

فنقول : إنّ المبادلة والمعاوضة وقعت بين العوضين مع التراضي ، أي بدون إكراه ولا إجبار ، والمراد في باب المعاوضة والتجارة من التراضي هو هذا المعنى ، لا طيب النفس ، وإلاّ لو كان المراد من التراضي هو هذا المعنى الأخير ، فلا بدّ وأن يقال ببطلان بيع المضطرّ إلى البيع لغرض عقلائيّ مع كمال كراهته لهذا البيع. مثلا لو اضطرّ إلى بيع داره التي يسكنها لأجل أداء دينه ، أو لأجل حاجة أخرى ، فهو غير راض بهذا البيع ، بل ربما يبكي ويبيع لأجل تلك الضرورة ، حيث لا حيلة له في رفع حاجته إلاّ بهذا

ص: 205


1- راجع ، ج 3 ، ص 304.

الأمر ، مع أنّ صحّة بيع المضطرّ لرفع حاجته من المسلّمات.

فمن هذا يستكشف أنّ التراضي المعتبر في أبواب المعاملات والتجارات هو الاختيار المقابل للإكراه والإجبار ، بمعنى أنّه ليس هناك من يكرهه أو يجبره على المعاملة. وكذلك في باب النكاح المراد من رضاء الطرفين ليس طيب نفسيهما ، بل ربما يكون العقد الواقع بينهما لدواع أخر ، من إرضاء أبويهما ، أو شي ء آخر مع كمال كراهتهما ، أو كراهة أحدهما.

فإذا كان الأمر كذلك ، ففي مورد تخلّف الشرط أو الوصف تارة يكون الشرط المتخلّف أو وصفه من قبيل العنوان للموصوف والمشروط به ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط يكون من قبيل الصورة النوعيّة للموصوف والمشروط به ولو عند العرف ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة ليسا كذلك ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط ليسا إلاّ من قبيل الأعراض الضمنيّة للحقيقة النوعيّة المشتركة بين واجد الوصف أو الشرط ، وبين فاقدهما.

وذلك كالجارية الموصوفة أو المشروطة بكونها روميّة ، وهي حبشيّة ، فالجارية الروميّة والحبشيّة وإن كانتا بحسب الحقيقة النوعيّة واحدة ، ولكن عند العرف في مقام المعاملة حقيقتان مختلفتان.

وأخرى : ليسا كذلك ، بل يكون من العوارض والطواري التي لا توجب اختلاف حقيقة الواجد والفاقد حتّى عند العرف.

فإن كان من قبيل الأوّل ، فالمعاملة باطلة قطعا ، لأنّه لم يقع التراضي المعاملي - أي إنشاء النقل والانتقال - على هذا الفاقد للوصف أو الشرط ، وذلك لما قلنا من أنّ المبيع الموجود في هذه الصورة - مثلا - غير ما وقع عليه النقل والانتقال حقيقة ، فما أنشأ نقله ليس بموجود ، بل الموجود حقيقة أخرى ، ولو عند العرف الذي نظرهم هو المتّبع في أبواب المعاملات ، وما هو الموجود لم يقع عليه نقل وإنشاء.

ص: 206

وأمّا إن كان من قبيل الثاني ، فإنشاء النقل والانتقال وقع على هذا الموجود بلا إكراه ولا إجبار ، فهذه المعاملة وقعت عن تراض معاملي ، ولا وجه لبطلانها.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة منوط بوجود ذلك الوصف أو الشرط ، فعند تخلّفهما لا التزام له ، فلا يشملها دليل اللزوم.

وأمّا الجواب عن هذا الإشكال بتعدّد المطلوب ، بأن يقال : إنّ كون طرف المبادلة هو الواجد للوصف أو الواجد للشرط هو مطلوب أوّلي ، وكون الفاقد لهما طرفا للمعاملة مطلوب آخر ، غاية الأمر أنّه مطلوب ثانوي ، بمعنى أنّه على تقدير فقد الوصف أو الشرط أيضا مطلوب ، لكن في طول الأوّل ، لا في عرضه.

فبناء على هذا ، العقد ينحلّ إلى عقدين ، وكلاهما صادران عن تراض بينهما ، حتّى ولو كان المراد من التراضي هو طيب النفس ، أي الحالة النفسانيّة التي يعبّر عنها بالرضاء الباطني ، فكأنّه في الدرجة الأولى يكون المشروط له رضاءه بهذه المعاملة مع وجود الشرط وعدم تخلّفه ، وكذلك الأمر في الوصف. وفي الدرجة الثانية يكون أيضا راضيا حتّى مع فقد الوصف أو الشرط.

وقد أفاد هذا المجيب أنّ المشخّص لذلك - أي أنّه من قبيل وحدة المطلوب كي تكون المعاملة فاسدة مع فقدهما ، أو من قبيل تعدّد المطلوب كي تكون صحيحة - هو العرف ، ثمَّ قال : هذا باب مطرد في العبادات والمعاملات والأوقاف والنذور ، ثمَّ استظهر اتّفاقهم على أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود من قبيل تعدّد المطلوب ، لأنّهم اتّفقوا على أنّ الشرط الخارج عن غرض العقلاء فاسد ، ولا يوجب فساده فساد العقد.

وهذا الجواب أفاده بعض الأجلّة من تلاميذ شيخنا الأعظم قدس سره .

وفي هذا الجواب نظر من وجوه عديدة :

الأوّل : أنّ العرف لا طريق لهم إلى تشخيص وحدة المطلوب أو تعدّده ، لاختلاف الناس بحسب الأغراض والموارد ، فربّ شخص يريد مبادلة ماله بمال آخر مشروطا

ص: 207

بأمر ، وفي صورة عدم وجود ذلك الشرط لا يريد المبادلة أصلا ، وشخص آخر يريد مع وجود ذلك الشرط وعدمه ، غاية الأمر مع وجود الشرط مطلوب أوّلي ، وفي صورة عدمه مطلوب ثانويّ.

وكذلك الاختلاف بحسب الموارد ، حتّى بالنسبة إلى شخص واحد ، فذلك الشخص الواحد في مورد تكون مبادلته بالنسبة إلى ذلك الشرط من قبيل تعدّد المطلوب ، وفي مورد آخر تكون بنحو وحدة المطلوب ، فلا يمكن تعيين ضابط كلّي لتشخيص أنّ المعاملة المشروطة بشرط هل تكون بنحو وحدة المطلوب بالنسبة إلى ذلك الشرط ، كي يكون تخلّف ذلك الشرط موجبا لفسادها ، أو بنحو تعدّد المطلوب كي لا يكون موجبا لفسادها.

الثاني : أنّ الأغراض والدواعي في أبواب المعاملات والعقود ما لم تدخل في مرحلة الإنشاء ، لا يترتّب عليها أثر من الصحّة والفساد ، بل المدار فيهما على الإنشاء.

نعم الإنشاء بلا قصد أيضا لا أثر له ، بل يكون صرف لقلقة لسان ، فصرف أنّ مطلوبه واحد أو متعدّد لا أثر له ما لم يقع على طبقه الإنشاء.

فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ العقد المنشأ ، فإن كان المنشأ مقيّدا بالوصف أو الشرط ، فالنقل والانتقال تعلّق بالمقيّد ، فمطلوبيّة نقل الذات بلا قيد لا أثر له ، لأنّه لم يقع تحت الإنشاء.

فالعمدة في موارد تخلّف الوصف والشرط علاج هذا الإشكال ، وهو لا يرتفع بتعدّد المطلوب ، لما قلنا من أنّه لا أثر للمطلوبيّة ما لم يقع ذلك المطلوب تحت الإنشاء ، والتراضي أيضا لا بدّ وأن يكون بما أنشأ. وإلاّ فصرف الرضاء بالمبادلة بدون الإنشاء ليس تجارة.

فالعقد المتعلّق بعوض موصوف كما أنّه إذا قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، أو المشروط كما إذا قال في نفس المثال : بشرط أن يكون كاتبا ، تعلّق بالمقيّد ، وتحقّق

ص: 208

الرضاء المعاملي أيضا به ، فلو كان هناك له رضاء آخر في الرتبة الثانية بفاقد القيد أيضا ، لا يصير بصرف هذا الرضاء الباطني - الذي لم يقع تحت الإنشاء - تجارة ومعاملة من بيع أو غيره ، ولا يمكن أن يقال بالنسبة إلى فاقد القيد : أنّه بيع صحيح بواسطة تعدّد المطلوب.

ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال إلاّ بما قلنا ، من أنّ إنشاء المبادلة والمعاوضة تعلّق بنفس هذه العين الخارجيّة ، والتزام الطرف بالشرط أمر آخر غير مربوط بنقل هذه العين ، بل هو التزام آخر في ضمن التزامه بهذا النقل ، فالتزامه بنقل هذه العين منوط بالتزام الطرف بالشرط أو الوصف ، لا أصل النقل.

نعم لو كان الشرط أو الوصف عنوانا ، ومن قبيل الصورة النوعيّة بالنسبة إلى ما وقع عليه إنشاء النقل ، فتخلّفه يوجب فساد النقل وبطلان المعاملة ، لأنّ ما قصد لم يقع عليه الإنشاء ، وما وقع عليه الإنشاء - أي العين الخارجيّة - لم يقصد. ولا يمكن أن يقال : إنّ ما هو من قبيل الصورة النوعيّة للشي ء يكون من الدواعي والأغراض الخارجة عن حقيقة الشي ء.

الثالث : ممّا استدلّوا على فساد العقد بفساد الشرط طائفة من الأخبار.

منها : رواية عبد الملك بن عتبة ، قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟ وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال علیه السلام : « لا ينبغي » (1) فقالوا إنّ المراد من قوله علیه السلام : « لا ينبغي » هو أنّ مثل هذا البيع المشتمل على هذا الشرط الفاسد - أي كون الوضيعة والخسارة في البيع الثاني على البائع الأوّل - ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمنين ، فلا بدّ وأن يكون البيع بواسطة ذلك الشرط الفاسد فاسدا كي يقول علیه السلام : « لا ينبغي » وإلاّ لو كان بيعا صحيحا لا وجه لنهيه.

ص: 209


1- تقدم راجع ص 197 ، رقم (3).

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون النهي عن هذه المعاملة مع صحّتها لحزازة فيها كسائر المعاملات المكروهة ، ولا إشكال في كون معاملة صحيحة يترتّب عليها الأثر ، ومع ذلك تكون مكروهة. ونظائرها في المعاملات كثيرة ، فهذه الرواية لا تدلّ على فساد الشرط ، فضلا عن فساد العقد.

وقد تقدّم أنّ القائلين بعدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد أيضا تمسّكوا بهذه الرواية. والحقّ أنّها لا تدلّ على كلّ واحد من الطرفين ، كما بيّنّاه وشرحناه.

ومنها : ما رواه الحسين ابن منذر عن أبي عبد اللّه علیه السلام في بيع العينة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة ، فاشترى له المتاع مرابحة ، ثمَّ أبيعه إيّاه ، ثمَّ أشتريه منه مكاني؟ قال : « إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر ، فلا بأس » فقلت : إنّ أهل المسجد يزعمون أنّ هذا فاسد ، ويقولون إن جاء به بعد أشهر صلح؟ قال : « إنّما هذا تقديم وتأخير فلا بأس » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية - على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد - هو أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة أنّه إن لم يكن بالخيار وكان ملزما بأن يبيع على البائع ، ففي هذه المعاملة بأس ، أي فاسد ، ومنشأ فسادها هو اشتراط البائع على المشتري أن يبيعه بعد اشترائه منه ، وهذا الشرط فاسد ، لما تقدّم في شرائط صحّة الشروط في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » (2) ، فصار سببا لفساد العقد.

وبعبارة أخرى : البيّاع المذكورون في هذه الرواية ثلاثة : البائع الأوّل هو الذي يبيع المتاع مرابحة من هذا السائل عن الإمام قدس سره ، ولكن فرض هذا البائع أجنبيّ عن مسألتنا ، وإنّما فرض لأجل أنّ الجنس لم يكن عنده ، ففي الحقيقة البائع اثنان ، وظاهر

ص: 210


1- « الكافي » ج 5 ، ص 202 ، باب العينة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 51 ، ح 223 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 370 ، أبواب أحكام العقود ، باب 5 ، ح 4.
2- راجع : ج 3 ، ص 257.

الرواية أنّه حسين بن المنذر. والبائع الثاني هو نفس هذا السائل الذي اشتراه مرابحة عن البائع الأوّل. والبائع الثالث هو ذلك الرجل الذي يطلب العينة.

ومفاد الرواية ما هو ظاهرها هو أنّ البائع الثالث كان ملزما بالبيع من البائع الثاني ، بواسطة شرط البائع الثاني عليه أن يبيعه منه ، فهذا البيع الثاني باطل وفاسد لفساد شرطه. فبناء على هذا تدلّ الرواية على فساد العقد بواسطة فساد الشرط ، وبيع العينة عبارة : عن بيع مال نسيئة بقيمة أزيد ممّا يباع نقدا ، فيكون الزائد مقابل ذلك الأجل الذي عينه في بيعه نسيئة ، ثمَّ يشتريه منه نقدا بقيمة أقلّ ممّا باعه ، وفي الواقع هذا القسم من البيع للفرار عن الرباء مع تحصيل ما هو نتيجتها من أخذ الزائد على ما يعطي بعد مضيّ مدّة.

ولكن يمكن الجواب عن دلالة هذه الرواية - على فساد العقد بواسطة فساد الشرط - بالبيان الذي تقدّم ، بأن يقال : بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة وإن كان بطلان البيع الثاني إن كان البائع ألزم المشتري بالشرط أن يبيعه ثانيا منه ، فيكون سبب بطلانه وفساده هو فساد ذلك الشرط.

ولكن يمكن أن يكون جهة بطلانه أنّ هذا الشرط مستلزم للمحال ، أي : الدور ، كما ذكره العلاّمة قدس سره (1) فليس جهة الفساد فساد الشرط ، كما توهّمه المستدلّ ، بل الجهة أنّ البيع الثاني من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية باطل من جهة استلزامه للدور.

ولكن هذا الجواب غير تامّ ، وقد ذكرنا في شرائط صحّة الشروط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الشرط السابع أنّ هذا الشرط لا يستلزم منه محال ، فلا يمكن حمل البطلان في الرواية على هذا المعنى ، وإن شئت فراجع هناك.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عن هذا الدليل - بعد أن قال : في هذا الاستدلال تكلّف واضح - بأنّ المراد من القضيّة الشرطيّة هو أن يكون البيع الأوّل - أي : البيع الثاني من

ص: 211


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.

البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية - جدّيا لا صوريّا ومقدّمة للبيع الثاني ، أي البيع الثالث من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية.

ولا شكّ في أنّ البيع الأوّل إن كان صوريّا غير جدّي ، فلم يصير الثاني - أي الذي طلب العينة - مالكا ، فبيعه من البائع الأوّل باطل وفيه بأس ، لأنّه « لا بيع إلاّ في ملك » (1) فلا يكون لها ربط بمحلّ كلامنا ، أي كون الشرط الفاسد مفسدا.

ولكن أنت خبير بأنّ ما ذكره قدس سره أكثر تكلّفا من الاستدلال ، لأنّ ظاهر الرواية تعليق عدم البأس على اختيار البائع والمشتري في البيع والشراء ، وعدم كونهما ملزمين بواسطة التزامهما ، أو إلزام الغير إيّاهما على البيع والشراء شرعا ، ولا شكّ في أنّ التزامهما أو إلزامهما شرعا بالأمرين لا بدّ وأن يكون بواسطة الشرط ، فعدم البأس معلّق على عدم الشرط.

وأمّا في صورة وجود ذلك الشرط الفاسد ففيه بأس ، ومنشأ البأس ليس إلاّ فساد الشرط.

وأجيب : أيضا عن ذلك الدليل : بأنّ كون البيع فيه بأسا لا يدلّ على فساده ، إذ البأس يصدق مع الحرمة التكليفيّة وإن لم يكن فساد وضعا في البين.

وفيه : أنّ الحرمة وإن لم تكن ملازمة مع الفساد ، إلاّ أنّه لا وجه للحرمة التكليفيّة بدون الفساد ، وذلك من جهة أنّ الحرمة التكليفيّة لا بدّ وأن يتعلّق بفعل اختياري يكون فيه مفسدة ملزمة ، وأيّ مفسدة يمكن أن يكون في البيع الثاني كي يكون حراما.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم ، أيحلّ؟ قال : « إذا لم يشترط

ص: 212


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 247 ، ح 16 ، نحوه ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 252 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 2 ، ح 1 ، نحوه ، « المستدرك » للحاكم ، ج 2 ، ص 17 ، نحوه.

ورضيا به فلا بأس » (1).

ورواه عليّ بن جعفر في كتابه ، إلاّ أنّه قال : بعشرة دراهم إلى أجل ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم بنقد (2).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مثل الرواية السابقة ، بل هي أوضح دلالة منها ، لأنّها صريحة مفهوما في أنّ البائع الأوّل إذا اشترط على المشتري أن يبيعه ما اشتراه ، ففي هذه المعاملة بأس ، وحيث علّق علیه السلام عدم البأس على عدم الاشتراط فيكون الاشتراط سببا للبأس ، ومعنى هذا هو فساد العقد لفساد الشرط.

وقد أجاب شيخنا الأعظم قدس سره عن هاتين الروايتين بأنّ غاية مدلوليهما فساد البيع المشروط فيه بيعه عليه ثانيا ، وهو ممّا لا خلاف فيه ، حتّى ممّن قال بعدم فساد العقد بفساد الشرط كالشيخ قدس سره في المبسوط ، فلا يتعدّى منه إلى غيره (3).

وفيه : أنّ ما ذكره قدس سره لا بأس به إن لم يستظهر من الروايتين أنّ علّة فساد ذلك العقد هو فساد الشرط ، وإلاّ فيكون حكمه علیه السلام عامّا يشمل كلّ شرط فاسد ، ولا يقف على مورده.

ولا شكّ في أنّ ظاهر التعليق في القضيّة الشرطيّة في الروايتين هو علّيّة فساد الشرط لفساد العقد ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهرها علّيّة هذا الشرط الفاسد لفساد العقد ، لا كلّ شرط فاسد ، فافهم.

وأمّا الذي أفاده أوّلا من أنّ فساد البيع الثاني لعلّه من جهة عدم الرضا وعدم طيب النفس بواسطة التزامه في خارج العقد ، فهذا كلام عجيب ، من جهة أنّ في جميع الشروط يسلب اختيار المشروط عليه شرعا بالنسبة إلى ما اشترط عليه ، سواء أكان

ص: 213


1- « قرب الإسناد » ص 267 ، ح 1062 ، باب ما يحل من البيوع ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 371 ، أحكام العقود ، باب 5 ، ح 6.
2- « مسائل علي بن جعفر » ص 127 ، ح 100.
3- « كتاب المكاسب » ص 289 ، « المبسوط » ج 2 ، ص 148 - 149.

الاشتراط في ضمن العقد ، أو في خارجه.

ولازم هذا الكلام بطلان أيّ معاملة أو معاوضة اشترط عليه ، بل بطلان أيّ معاملة نذر أن يوجدها ، لأنّه ملزم في جميع ذلك بإيجادها شرعا.

والسرّ في عدم بطلان المذكورات أنّ الإلزام الآتي من قبل التزامه باختياره من قبل شرط أو نذر لا ينافي الرضا المعاملي ، ولا فرق في عدم تنافي الإلزام الآتي - من قبل التزامه مع الرضا المعاملي - بين أن يكون هذا الإلزام إلزاما واقعيّا ومن قبل الشارع ، أو كان إلزاما تخيليّا وهميّا.

فلو باع أو أوقع إحدى المعاملات الأخر بتوهّم أنّه نذر أو شرط ، وفي الواقع لم ينذر ولم يكن شرط في البين ، فهذه المعاملة صحيحة وإن لم يكن له الرضا الباطني وطيب النفس ، بل إنّما أوجدها باعتقاد أنّه واجب عليه من باب النذر أو الشرط.

فالأحسن أن يقال : إنّ هاتين الروايتين وإن كان لهما ظهور ما في علّيّة فساد مطلق الشرط للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور وحمله على علّيّة خصوص هذا الشرط - أي شرط أن يبيع المشتري ثانيا - على البائع لتلك الأدلّة القطعيّة التي تقدّمت ، وكانت تدلّ على أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد.

خصوصا قضيّة بريرة التي أعتقها عائشة ، وكان بائعوها شرطوا عليها أن يكون ولائها لهم ، فحكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصحّة البيع وبطلان الشرط.

ولا يبعد ادّعاء القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلی اللّه علیه و آله ، لما رواه الفريقان من غير نكير لأحد من الفريقين (1). ودلالته أيضا جليّة يشبه أن يكون نصّا ، مع ما في سند الروايتين من عدم الوثوق مع عدم جابر في البين ، واللّه الهادي إلى الصواب.

ص: 214


1- تقدم راجع ص 195 ، رقم (1).

ها هنا أمور يجب أن يذكر

[ الأمر ] الأوّل : لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد ، فهل على القول بأنّه مفسد يصحّ العقد ، لأنّه بعد سقوطه بإسقاط المشروط له ليس شي ء في البين كي يكون مفسدا ، أم لا يصح؟ لأنّ الشي ء بعد ما وجد لا ينقلب عمّا هو عليه ، والمفروض أنّه وجد باطلا؟

أمّا أنّه قابل للإسقاط فقد تقدّم الكلام فيه في الجزء الثالث من هذا الكتاب في شرح قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » (1) وقد بيّنّا هناك أنّ ظاهر أدلّة وجوب الوفاء بالشروط - والثبوت والوقوف عندها - هو أنّ الشرط يحدث حقّا للمشروط له على المشروط عليه ، ومن هذه الجهة قابل للإسقاط ، وذلك من جهة القابليّة للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ ، ولذلك عرفوا الحقّ بهذا الأمر.

ولكن هذا الكلام في الشروط الصحيحة ، ومحلّ بحثنا ليس فيها ، بل كلامنا فعلا في الشروط الفاسدة ، وتلك الشروط لا توجب ثبوت حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، فالإسقاط لا معنى له ، إذ ليس شي ء في البين كي يسقطه.

فالمراد بالإسقاط ها هنا ليس بمعناه المعروف ، بل المراد به رضا المشروط له بالعقد والمعاملة بدون ذلك الشرط الفاسد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فربما يقال : لو كان جهة بطلان العقد بالشرط الفاسد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد - لأنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان محرّما ، فلو كان العقد مع ذلك صحيحا يجب الوفاء بالعقد المجرّد عن ذلك الشرط ، مع أنّ رضائه كان بالعقد المقيّد بذلك الشرط ، فبعد أن أسقط الشرط - يكون ذلك الإسقاط رضا بالعقد ، فيرتفع المانع من البين ، فيكون العقد صحيحا.

ص: 215


1- راجع : ج 3 ، ص 303.

ولكن أنت خبير بأنّ العقد تعلّق بالمقيّد ، والرضاء المتجدّد تعلّق بالعقد المجرّد ، فما تعلّق به العقد - أي المقيّد - لم يتعلّق به الرضا ، وما تعلّق به الرضا المتجدّد - أي المجرّد - لم يتعلّق به العقد ، والمعتبر هو أن يكون ما تعلّق به العقد يكون متعلّقا للرضا كي يصدق عليه أنّه تجارة عن تراض.

وأمّا القول بأنّ العقد تعلّق بالذات وبالقيد أيضا - فهاهنا تعلّقان : تعلّق بالذات ، وتعلّق آخر بالقيد ، فلو قال : اشتريت منك هذا العنب بشرط أن تعصره لي خمرا ، والتزم الطرف بذلك ، فكان ها هنا تعهّدان من البائع : أحدهما نقل العنب إلى ذلك المشتري ، ثانيهما أن يعصره خمرا ، والمشتري قبل كذلك ورضى به ، فلما منع الشارع عن العمل بأحد التعهّدين - والممتنع الشرعي كالعقلي - بقي تعهّد نقل العنب فقط ، ولكن المشتري لم يرض بهذا التعهّد وحده ، أي بانتقال العنب إليه وحده من دون أن يعصره البائع خمرا ، فيبقى العقد المتعلّق بنقل العنب وحده - أي : تعهّده بذلك - موقوفا على رضا المشتري بذلك. والظاهر أنّ مراد العلاّمة قدس سره من الإيقاف هو هذا المعنى - فهو رجوع من القول بالإفساد إلى القول بعدمه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، وهو المختار.

هذا كلّه لو كان مدرك القائلين بالإفساد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد عن الشرط ، وأمّا لو كان مدركهم جهالة عوض المبيع ، لأنّ للشرط قسط من الثمن ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، أو كان مدركهم الروايات ، فالرضا المتجدّد وإن كان يرتفع به جهالة الثمن ، لأنّه يرضى بكون تمام الثمن في مقابل نفس المبيع - مثلا - بدون ذلك الشرط ، ولكن صرف هذا لا يصدق عليه التجارة ، ولا بدّ من وقوع العقد عليه ، وقد عرفت عدم وقوعه عليه.

وأمّا بالنسبة إلى مفاد الروايات على تقدير دلالتها على الإفساد وصحّة سندها ، فمفادها أنّ ذلك العقد الذي وقع من حيث اشتماله على الشرط الفاسد باطل ، فكأنّه لم يكن ولم يوجد. وقلنا : إنّ صرف رضائه بالانتقال المجرّد عن الشرط لا يجعله معاملة وتجارة عن تراض بدون عقد جديد ، لأنّ العقد الأوّل بناء على هذا انعدم في عالم

ص: 216

التشريع ، والشارع في عالم اعتباره لا يرى له وجودا.

والمفروض أنّه ليس عقد جديد في البين ، فلا وجه للقول بصحّة تلك المعاملة ، فيكون العنب - بناء على القول بالإفساد في المثال المذكور - في يد المشتري - لو قبضه بعنوان أنّه ملكه بذلك العقد ، حتّى مع رضا الطرفين - من المقبوض بالعقد الفاسد الذي يجري مجرى الغصب عند المحصّلين بقول ابن إدريس قدس سره (1).

الأمر الثاني : لو ذكر الشرط الفاسد قبل العقد ولم يذكره في متنه ، فهل يكون مفسدا - بناء على القول بالإفساد - أم لا؟

فيه وجهان ، بل قولان : الإفساد مطلقا ، وعدمه أيضا كذلك.

وحكى عن الشهيد الثاني قدس سره في المسالك (2) - التفصيل بين ما لو علما أنّ الشرط المتقدّم على العقد لا يؤثّر فلا يفسد ، وبين ما لو لم يعلما ذلك فيكون موجبا للفساد.

وذلك من جهة أنّه مع العلم بعدم تأثير الشرط المتقدّم على العقد لم يقدّما على ثبوت ذلك الشرط والوفاء به ، بخلاف ما إذا كان جاهلين ، فبنائهما على العمل بذلك الشرط ولزوم الوفاء به ، فهما أقدما على هذا الشرط الفاسد ، فيكون مفسدا في هذه الصورة.

إذا عرفت هذا فنقول : أمّا القول بالإفساد مطلقا ، فمبنيّ على أنّ الشرط الخارج عن العقد مطلقا ، سواء أكان صحيحا أم فاسدا ، لا أثر له ، لأنّ وجوده بالنسبة إلى العقد كالعدم ، إذ الالتزام بالوفاء بمضمون العقد غير مربوط بشي ء ، وكذلك تعهّده بالنقل والانتقال غير منوط بشي ء ، فيجب عليه الوفاء بتعهّده وعقده ، ويكون عقده مشمولا لأوفوا بالعقود.

وأمّا إن قلنا بأنّ الشرط المتقدّم يؤثّر أثره ، خصوصا إذا وقع العقد مبنيّا عليه ،

ص: 217


1- « السرائر » ج 2 ، ص 488.
2- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 142.

فيكون العقد فاسدا وباطلا ، لأنّه بناء على هذا يكون الشرط الخارج عن العقد مثل الداخل فيه في الآثار والأحكام ، فبناء على القول بالإفساد لا محالة يكون مفسدا ، لما قلنا من أنّ الشرط الخارج على هذا المبنى مثل الداخل ، ويجري فيه ما يجري في الداخل.

وأمّا إنّ أيّ واحد من المبنيين صحيح ، فالحقّ أنّ الشرط في خارج العقد لا أثر له كما عليه المشهور. وقد حقّقنا هذا الأمر في بعض شرائط صحّة الشروط الصحيحة في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب وهو الشرط الثامن ، وهو عبارة عن التزام المشروط عليه بذلك الشرط في متن العقد.

وخلاصة ما ذكرنا هناك في وجه هذا الشرط هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ليس واجبة الوفاء ، فالشروط التي لم تذكر في متن العقد إن لم يقع العقد مبنيّا عليها ، فلا وجه لتوهّم وجوب ترتيب الأثر عليها ، لأنّها تكون من قبيل الشروط الابتدائيّة المحضة.

وأمّا إن وقع العقد مبنيّا عليها بدون أن تذكر في متن العقد - التي اصطلحوا على تسميتها بشروط التباني - ففي وجوب الوفاء بها - كالشروط المذكورة في ضمن العقد ، أو عدمه كالتي لم تذكر ولم يقع العقد مبنيّا عليها - فيه خلاف.

والقائلون بوجوب الوفاء بتلك الشروط ذكروا وجوها ذكرناها هناك مع ردّها ، وإن شئت فراجع.

والنتيجة أنّ شروط التباني لا يجب الوفاء بها ، فضلا عمّا ذكر في خارج العقد ولم يقع العقد مبنيّا عليها.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال نسيان الشرط حال العقد ، بعد أن كان بناء الطرفين على ذكره ، وهو على كلّ حال حاله حال سائر شروط التباني ولا أثر له ، لأنّ العقد وقع بلا قيد ولا شرط ، وصرف نيّتهما بدون الإنشاء لا أثر لها.

ص: 218

وقد ذكرنا في هذا الكتاب - في قاعدة « العقود تابعة للقصود » - (1) أنّ وجوب الوفاء يحتاج إلى أمرين : الإنشاء باللفظ ، مع القصد ، وإنّ القصد بلا إنشاء أو الإنشاء بلا قصد لا أثر له ، فلا بدّ من اجتماع كلا الأمرين ، ففي صورة النسيان لا لفظ قطعا ، كما هو المفروض ، وقد لا يكون القصد أيضا ، كما إذا كان غافلا حال العقد عن أصل الشرط.

وقد فرّق شيخنا الأعظم قدس سره (2) بين هذه الصورة فقال فيها بالصحّة لما ذكرنا من وقوع العقد مجرّدا عن كلّ قيد وشرط ، وبين الصورة التي لم يكن غافلا من أصل الشرط ، وإنّما غفل عن ذكره في محلّه ، فقال في هذه الصورة بأنّه كتارك ذكر الشرط عمدا ، تعويلا على تواطئهما.

ولكن أنت خبير بأنّ الشرط غير المذكور لا أثر له أصلا ، سواء أكان مغفولا بالمرّة ، أو كان ملتفتا إليه حال العقد ، غاية الأمر نسي ذكره في محلّه.

الأمر الثالث : لو كان فساد الشرط لأجل عدم تعلّق غرض عقلائي معتدّ به بذلك الشرط ، فقالوا بأنّ مثل هذا الشرط الفاسد لا يفسد به العقد ، وإن قيل بالإفساد في سائر أقسام الشروط الفاسدة ، فقد حكى على العلاّمة قدس سره (3) التصريح بصحّة العقد ولغويّة الشرط.

وعمدة الوجه في نظرهم : أنّ مثل هذا الشرط لا يعتنى به عند العقلاء ، ويرون وجوده كالعدم ، فليس قابلا لأن يقيّد به العقد ، ويكون كالكلام اللغو والمهمل الذي يصدر عنه في أثناء العقد ، ولذلك ذكروا في باب السلم لغويّة بعض الشروط غير العقلائيّة ، وعدم لزوم ترتيب أثر عليها.

ص: 219


1- راجع : ج 3 ، ص 135.
2- « كتاب المكاسب » ص 290.
3- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 277 ، حكى على العلاّمة.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو قلنا بأنّ الشرط الفاسد يفسد العقد ، فجملة من الأدلّة التي استدلّوا بها يشمل المقام ، خصوصا مسألة الرضا بمضمون العقد ، فلا ريب في أنّ رضا المشروط له بمضمون هذا العقد مقيّد بوجود هذا الشرط ، وذلك لاختلاف الأنظار ، فربما يكون أمر عند نوع العقلاء لغوا ولا يعتنون به ولا يبذلون بإزائه المال ، بل إذا كان في ملكهم وأتلفه الغير لا يرونه ضامنا لعدم الاعتناء به ، ولكن مع ذلك كلّه هناك شخص يهتمّ به كلّ الاهتمام ، ويعتني به كلّ الاعتناء لغرض من الأغراض ، وإن كان ذلك الغرض غير عقلائي لا يعتني به نوع العقلاء.

الأمر الرابع : في الموارد التي خرجت عن تحت الكلّية التي اخترناها ، وهي أنّ كلّ شرط فاسد لا يوجب فساده فساد العقد :

فمنها : ما إذا كان الشرط مجهولا وسرى جهالته إلى أحد العوضين ، فالمعاملة فاسدة ، وإن قلنا بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد ، وذلك من جهة أنّه من شرائط صحّة المعاوضة أن يكون العوضان معلومين ، وجهالتهما أو أحدهما موجب لبطلان المعاملة ، لنهيه صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر (1).

ومنها : أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه عليه بعد اشترائه ، فهذا البيع فاسد ، حتّى عند القائلين بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد.

وذكروا لذلك وجوها ذكرناها مفصّلا مع أجوبتها في الشرط السابع من شروط صحّة الشروط في الجزء الثالث من هذا الكتاب في مقام شرح « قاعدة المؤمنون عند شروطهم » (2).

ص: 220


1- « عيون أخبار الرضا » ج 2 ، ص 45 ، باب (31) فيما جاء عن الرضا علیه السلام من الأخبار المجموعة ، ح 168 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 248 ، باب المتاجر ، ح 17 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، ح 3376 ، باب في بيع الغرر ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 1153 ، ح 1513 ، كتاب البيوع ، ح 4 ، باب (2) بطلان بيع الحصاة ، والبيع الذي فيه غرر ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 532 ، ح 1230 ، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.
2- راجع : ج 3 ، ص 281.

ومنها : الشروط المخالفة لمقتضى العقد ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط فاسدا ، للتناقض بين مدلول العقد ومفاد الشرط ، إمّا مطابقة وصريحا ، وإمّا التزاما. فالأوّل كما إذا قال : بعتك هذا بشرط أن لا تملكه. والثاني كما إذا قالت هي أو قال وكيلها : زوجتك موكّلتي فلانه بشرط أن لا تستمتع منها أيّ استمتاع.

والوجه في فساد هذا الشرط ومفسديته للعقد واضح ، وقد بيّنّا ذلك في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » فراجع (1).

ومنها : فيما إذا كان الشرط غير مقدور ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط غير قابل للوفاء. فلا يشمل أدلّة وجوب الوفاء بالعقد ، ولا أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، فيكون مثل هذه المعاملة لغوا وباطلا عند العقلاء ، ولا يمضيه الشارع أيضا ، فافهم.

ومنها : كون الشرط حراما ، وذلك مثل أن يبيع العنب على أن يجعله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صنما أو صليبا. لأنّ الشارع أسقط أمثال هذه المنافع عن درجة الاعتبار في عالم التشريع ، فلا يملكها المالك للعنب ، أو الخشب مثلا. فإذا حصر المنفعة التي يبيعهما - أي : العنب والخشب لأجل تلك المنفعة في المذكورات المحرّمات - يكون أكل المال بإزائها أكلا بالباطل ، فتكون المعاملة باطلة.

ولكن أنت خبير بأنّ خروج هذه الموارد عن تحت تلك الكلّية بالتخصّص لا بالتخصيص ، وذلك من جهة أنّ فساد العقد في تلك الموارد ليس لفساد العقد كما توهّم ، بل لوقوع خلل في بعض أركان العقد.

وبعبارة أخرى : موارد هذه الكلّية هي فيما إذا كان فساد الشرط من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ الفساد أوّلا وبالذات عرض على الشرط ، ويكون انتسابه إلى العقد بالعرض والمجاز ، لا أن يكون الشرط واسطة في الثبوت ، بمعنى أنّ

ص: 221


1- راجع : ج 3 ، ص 267.

الفساد أوّلا وبالذات عرض على نفس العقد لاختلال بعض أركانه ، ويكون الشرط سببا وعلّة لعروض ذلك الاختلال على نفس العقد.

مثلا : إذا كان الشرط مجهولا ، كما إذا شرط أن يكون المبيع بكيل كذا ، أو بوزن كذا ، وكان ذلك الكيل أو ذلك الوزن مجهولا ، فتسرى الجهالة إلى نفس المبيع ، فيكون البيع غرريّا وفاسدا ، ففساد البيع ليس إلاّ لوقوع غرر في نفس البيع ، لا لفساد ذلك الشرط. وكذا في شرط البيع على البائع يكون بطلان مثل هذا البيع لأجل استلزامه للمحال ، للزوم الدور. فليس فساده ، لأجل فساد الشرط ، بل لو كان هذا الشرط جائزا كان هذا البيع فاسدا ، لما ذكرنا من استلزامه للمحال.

وإن شئت قلت : إنّ الشرط بوجوده يوجب فساد العقد ، لا بفساده ، لما قلنا إنّ وجود هذا الشرط موجب لصيرورة البيع الأوّل مستلزما للمحال وهو الدور. وأمّا إن أجبنا عن الدور ، فيخرج عن محلّ الكلام بالمرّة ، فلا يكون العقد ولا الشرط فاسدا. وقد تقدّم ما هو التحقيق فيه في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم ». (1)

وكذا الشروط المنافية لمقتضى العقد بوجودها يوجب التناقض بين مفاد العقد ومفاد الشرط ، ولا يكون مستندا إلى فساد الشرط ، وكذلك الشرط غير المقدور بوجوده يوجب لغويّة المعاملة ، فليس فساده مستندا إلى فساد الشرط ، بل يكون لوجوده.

وخلاصة الكلام : أنّ تلك الموارد المذكورة خارجة عن تحت هذه الكلّية تخصّصا ، لا تخصيصا.

ثمَّ إنّ الذين اختاروا عكس ما اخترناه - أي قالوا بأنّ كلّ شرط فاسد يوجب فساد العقد - أيضا قالوا بخروج الشرط الذي يكون فساده - أي : عدم لزوم وجوب الوفاء به - من جهة لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، مع أنّه فاسد لا يوجب

ص: 222


1- راجع : ج 3 ، ص 267.

فساد العقد.

وهذا كان منشأ تفصيل ابن المتوج البحراني بأنّ الشرط الفاسد مفسدا للعقد ، إلاّ فيما إذا كان جهة فساد الشرط لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، فإنّ العقد لا يفسد به (1) ، لأنّ وجود ذلك الشرط وعدمه سواء ، فلا يؤثّر في العقد.

وأنت خبير بأنّ خروج هذا القسم أيضا من قبيل التخصّص لا التخصيص ، لأنّ أدلّة وجوب الوفاء بالشرط منصرفة عن مثل هذه الشروط. نعم في باب النكاح ورد الدليل على أنّ بعض الشروط الفاسدة - كشرط عدم التزويج والتسرّي عليها - لا يوجب فساد عقد النكاح ، وقلنا إنّ تلك الروايات الواردة في باب النكاح ممّا تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد. (2)

وقد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ التفاصيل في هذه المسألة لا وجه لها ، وأنّه ينبغي أن تحرّر المسألة ذات قول بالإفساد مطلقا ، وقول بعدمه مطلقا كما هو المختار ، وأمّا الموارد التي صارت سببا لتلك التفاصيل فهي خارجة عن تحت القاعدة تخصّصا.

الأمر الخامس : في بيان موارد جريان هذه القاعدة ، فنقول :

تجري هذه القاعدة في جميع العقود ، فإذا باع شيئا وشرط عليه شرطا مخالفا للكتاب والسنّة أو لمقتضى أصل العقد - لا مقتضى إطلاقه - أو لم يكن مقدورا ، أو لم يكن ممّا فيه غرض عقلائي ، أو كان مجهولا ، أو كان مستلزما للمحال ، أو لم يكن منجّزا ، أو لم يلتزم به في متن العقد ، فمثل هذه الشروط لا يجب الوفاء بها قطعا لا كلام فيه. وقد بيّنّا جميع ذلك في شرح قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » مع وقوع الخلاف في بعضها.

إنّما الكلام في أنّ هذه المذكورات توجب فساد ذلك العقد الذي وقعت هذه

ص: 223


1- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 287 ، حكى عن ابن المتوج.
2- تقدم راجع ص 195 - 198.

الشروط في ضمنه أم لا؟

وقد عرفت أنّ بعضها خارج عن محلّ الخلاف تخصّصا لا تخصيصا ، وعمدة ما هو داخل في محلّ الخلاف هو الشرط الذي مخالف للكتاب والسنّة ، فإذا باع أو أجار أو أعار أو رهن أو اقترض أو أودع أو صالح أو وكل ، أو أيّ عقد من العقود المذكورة في أبواب المعاملات ، وشرط شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، يكون محلا للخلاف.

وبناء على ما اخترناه في هذه القاعدة الشرط فاسد لا يجب الوفاء به ، ولكن لا يكون مفسدا لذلك العقد الذي وقع فيه. نعم في خصوص عقد النكاح ادّعى بعضهم خروجه عن محلّ الخلاف ، لورود أخبار كثيرة تدلّ على عدم فساد عقد النكاح بالشرط المخالف للكتاب والسنّة (1) ، مع دلالتها على أنّ ذلك الشرط فاسد لا يجب العمل به ، وقد عرفت أنّ تلك الأخبار كانت من جملة ما استدلنا بها على عدم الإفساد.

الأمر السادس : في أنّه هل يأتي هذا الخلاف في الإيقاعات أم لا؟ مثلا : لو أعتق عبده ، أو طلّق امرأته وشرط عليهما شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، فهل يوجب ذلك الشرط بطلان ذلك العتق وذلك الطلاق ، أم لا؟

ربما يقال بعدم دخول الشرط في الإيقاعات مطلقا ، سواء أكان شرطا صحيحا أو فاسدا ، وذلك من جهة أنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين ، والإيقاع ليس بين اثنين ، بل هو متقوّم بواحد ، فهو يعتق عبده من دون اطلاع أحد ، لا العبد ولا غيره ، أو يطلق زوجته من دون إخبارها. وأمّا لزوم كونه بحضور شاهدين عدلين ، فهو من باب الإشهاد ، لا أنّ الطلاق بين المطلّق وبينهما.

وفيه أوّلا : أنّهم يقولون بجواز اشتراط خدمة مدّة في عتق عبده.

وثانيا : قوله : « إنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين » إن كان مراده أنّه لا بدّ من

ص: 224


1- تقدم راجع ص 199 ، هامش رقم (1).

المشروط له والمشروط عليه - أو الشارط والمشروط عليه - فهذا موجود في الإيقاعات ، مثلا في الإطلاق المشروط له أو الشارط هو الزوج ، والمشروط عليها هي الزوجة ، وفي الإبراء بين الدائن والمديون ، وفي العتق بين السيد وعبده ، وهكذا في سائر الإيقاعات.

وإن كان مراده أنّه يحتاج إلى إيجاب من الشارط وقبول من المشروط عليه - فيكون الشرط من العقود ، لا أنّه فقط في ضمن العقود أو الإيقاعات أيضا - فمضافا إلى أنّه ليس كذلك قطعا - لأنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود لم يقل أحد إنّه يحتاج صحّة الشرط إلى قبول مستقلّ من طرف المشروط عليه عدا قبول ذلك العقد ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قبوله يتحقّق في ضمن قبول العقد وليس ببعيد - لا مانع من قبوله في الإيقاعات أيضا كما أنّهم قالوا في اشتراط خدمة العبد في عتقه بلزوم قبوله من طرف العبد.

وخلاصة الكلام : أنّه لا مانع عقليّا ولا شرعيّا عن دخول الشرط في الإيقاعات ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ في مورد مخصوص على المنع ، أو كان في الشرط خصوصيّة لا يلائم مع ذلك الإيقاع.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 225

ص: 226

44 - قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها

اشارة

ص: 227

ص: 228

قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان مدركها

فنقول : روى الصدوق عن الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن بن علي علیه السلام في الوقف وما روى فيه عن آبائه علیهم السلام ، فوقّع علیه السلام : « الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه » (2).

وروى الكليني قدس سره عن محمّد بن يحيى ، قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمّد علیه السلام في الوقوف وما روى فيها ، فوقّع علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء اللّه » (3).

والظاهر أنّها رواية واحدة ، ومراد الكليني قدس سره من بعض أصحابنا هو محمّد بن

ص: 229


1- (*) « القواعد » ص 319.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 237 ، ح 5567 ، باب الوقف والصدقة والنّحل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 295 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنّحل. ، ح 34. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 295 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 2.

الحسن الصفّار أيضا ، إلاّ أنّ في الأولى بزيادة لفظة « تكون » قبل كلمة « على حسب » ، وكلمة « يوقفها » بصيغة باب الإفعال ، وفي الثانية « يقفها » بصيغة الثلاثي ، ولعلّ الثانية أصحّ ، لما ذكره في نهاية ابن أثير : من أنّه يقال وقفت الشي ء اقفه وقفا ، ولا يقال :

أوقفت ، إلاّ على لغة رديئة (1) ، وإن كان بصورة باب الإفعال في الروايات كثيرة. ولا حجّية لما في النهاية.

وروى الشيخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روى أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقّع علیه السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه » (2).

[ الجهة ] الثانية : في بيان المراد منها

اشارة

بعد ثبوتها بهذه الروايات المعتبرة التي يثق الإنسان بصدورها وإن كانت مكاتيب ، لما ذكره المشايخ الثلاث في جوامعهم ، وصحّة سندها ، واعتماد جلّ الأصحاب في فتاواهم عليها واستنادهم إليها.

فنقول : الظاهر أنّه علیه السلام بعد السؤال عن الوقف وأحكامه وكيفيّته وما روي

ص: 230


1- « النهاية » ج 5 ، ص 216 ، مادة « وقف ».
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 132 ، ح 562 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 9 ، « الإستبصار » ج 4 ، ص 100 ، ح 384 ، باب من وقف وقفا ولم يذكر الموقوف عليه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 307 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 7 ، ح 2.

عنهم علیهم السلام فيه ، يجيب بصورة كبرى كلّية لهذه الأسئلة ، فيكون مفادها أنّ كلّ وقف - لعموم جمع المعروف بالألف واللام - يجب أن يعامل معه بحسب ما وقفه الواقف ، من الشروط ، والخصوصيّات ، والكيفيّات ، وما عيّنه من التصرّفات فيه ، ومن عيّنه لأن يكون ناظرا عليه.

ومعلوم أنّ مراده علیه السلام عن لزوم العمل مع الوقف على طبق جعل الواقف - ممّا ذكرناه - فيما إذا كان أصل الوقف وجميع خصوصيّاته وكيفيّته وشرائطه المجهولة مشروعة ، ولم تكن ممّا منع عنه الشارع ، مثلا : الشرط الذي شرطه الواقف في ضمن عقد الوقف يكون واجدا لشرائط صحّة الشروط.

وهكذا تدلّ هذه الجملة على أنّه لا يجوز أن يعامل مع الوقف ما ينافي حقيقته وإن لم يشترط فيه شرط أصلا.

وتوضيح هذا المعنى - الذي ذكرنا في المراد من هذه القاعدة - ببيان أمور :

الأوّل : في بيان حقيقة الوقف وشرح ماهيته؟

فنقول : عرّفه الفقهاء 5 بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. والظاهر أنّ هذا التعريف مأخوذ من الأحاديث والروايات المرويّة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وعن الأئمّة المعصومين علیهم السلام .

منها : ما رواه ابن أبي جمهور عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (1).

ومنها : ما رواه عبد اللّه بن عمر أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إن شئت حبست أصلها وتصدّقت

ص: 231


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 260 ، باب الديون ، ح 14.

بها » (1).

والمراد بكلمة « تصدّقت بها » هو التصدّق بثمرتها ، وهو عبارة أخرى عن تسبيل ثمرتها ، لأن الصدقة هو الإعطاء مجّانا بقصد القربة.

ومنها : ما تكرّر ذكره في روايات الباب عن الأئمّة المعصومين علیهم السلام ، وهو قولهم وتعبيرهم عن الوقف ب- « صدقة لا تباع ولا تورث » (2) تارة ، وتعبيرهم ب- « صدقة مبتولة » (3) أخرى و « بتا بتلا » (4). ثالثة ، وكلّ هذه الجمل يرجع مفادها إلى تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.

وبعض الفقهاء بدّلوا كلمة « التسبيل » بالإطلاق ، والمراد واحد في الجميع كما هو ظاهر ، وإن كان الأقرب هو الأوّل ، بناء على أنّه من العبادات ويحتاج في وقوعه وصحّته إلى قصد القربة ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

وبعضهم بدّل لفظة « الثمرة » إلى المنفعة ، ولا فرق بينهما ، وقد عبّر عنه في الروايات بالصدقة ، ولكن بوصف لا تباع ولا توهب ولا تورث.

ومعلوم أنّ الصدقة المتّصفة بهذه الصفات معناها أن يكون الشي ء موقوفا محبوسا عن النقل والانتقال ، وأن تكون ثمرته ومنفعته في سبيل اللّه ، ولفظ الوقف

ص: 232


1- « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 209 ، باب الشروط في الوقف ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 116 ، ح 2878 ، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 659 ، ح 1375 ، باب في الوقف.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 54 ، باب صدقات النبي صلی اللّه علیه و آله وفاطمة والأئمة علیهم السلام ووصاياهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 148 ، ح 609 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 56 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 98 ، ح 380 ، باب أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 56 ، باب ما يلحق الميت بعد موته ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 292 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 1 ، ح 2.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 54 ، باب صدقات النبي صلی اللّه علیه و آله وفاطمة والأئمة علیهم السلام ووصاياهم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 148 ، ح 609 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 56 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 2.

أيضا يفيد معنى التحبيس أو الحبس عن النقل والانتقال ، ولكن حيث أنّه - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - يعتبر في صحّة الوقف قصد القربة ، وأيضا صرف حبس المال من دون تسبيل الثمرة أو المنفعة لغو ، فلذا يكون أخصّ من مطلق الحبس ، وإلاّ فلا فرق بين أن يقال وقفته وأوقفته ووقّفته - بالتضعيف - وبين أن يقال : حبّسته وأحبسته وحبّسته بالتضعيف.

فالوقف المصطلح عند الفقهاء وعند الشرع - وإن كان استعماله في لسان الشرع قليلا ، ويعبّر عنه في لسان الشرع غالبا بالصدقة ، غاية الأمر مقيّدة بالعناوين التي ذكرناها - هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، كما عرّفه الفقهاء بهذا. والمراد من التسبيل هو جعلها في سبيل اللّه.

وما ذكرنا كان لشرح حقيقة الوقف وماهيّته ، وإلاّ فتعاريف الفقهاء لموضوعات الأحكام غالبا تكون تعاريف لفظيّة ، تكون بالأعم تارة ، وبالأخصّ أخرى ، لا طرد ولا عكس لها.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للوقف ليس أمرا تكوينيا ، كحبس إنسان ، أو حيوان في الخارج ، فإنّه لا يحصل إلاّ بأسباب خارجيّة ، بل هو اعتبار عرفي أو تشريعي لا يوجد إلاّ بالإنشاء ممّن له أهليّة هذا الإنشاء.

وإذا كان الأمر كذلك فربما يعتبر الشارع أو العرف - بناء على كون هذا المعنى عندهم قبل شرعنا - أمورا في جانب العقد والوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه ، كما أنّه ظاهرهم الاتّفاق على لزوم كون الإنشاء بالصيغة.

ثمَّ يقع الكلام في أنّه عقد يحتاج إلى القبول ، أو لا يحتاج مع أنّه عقد ، أو لأنّه إيقاع ، وكما أنّه شرط الشارع في طرف المنشئ أن يكون عاقلا بالغا مالكا غير ممنوع التصرّف بحجر من فلس أو سفه وأمثال ذلك ، وكما أنّه شرط في جانب المنشأ أيضا أمورا نذكرها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 233

ونبيّن هذه الأمور في ضمن مطالب :

المطلب الأوّل : في أنّ الوقف عقد يحتاج إلى القبول ، أو إيقاع

اشارة

أو عقد ولكن لا يحتاج إلى القبول القولي ، بل يكون نفس تصرّف الموقوف عليهم في العين الموقوفة وقبضهم لها قبولا فعليّا ، كما يكون الأمر كذلك في باب الجعالة بناء على أنّه عقد لا إيقاع ، بل في باب الوصيّة بناء على أنّها عقد ولا يعتبر القبول ، وإن رجّحنا نحن اعتبار القبول فيها ، وظاهر الأصحاب أنّه عقد وإن اختلفوا في اعتبار القبول فيه؟

والظاهر أنّه عقد كما هو ظاهر الأصحاب ، بل صريح جماعة ، بل جماعة منهم كالمحقّق رحمهم اللّه وغيره يعرفون الوقف بأنّه عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة (1).

ويحكي تعريفه بما ذكر عن القواعد (2) والتنقيح (3) وإيضاح النافع والكفاية (4).

وذلك من جهة أنّه لا ريب في أنّ الوقف حقيقة واحدة ، بمعنى أنّه ليس الوقف على الجهات كالمسجد والرباط والقنطرة حقيقة ، وعلى العناوين العامّة كالفقراء والعلماء والسادات وغير ذلك من العناوين وعلى الذريّة مثلا حقيقة أخرى ، بل الوقوف في الجميع بمعنى واحد كما هو الظاهر المتبادر من استعمالاتهم.

وأيضا الظاهر بل المعلوم أنّ الوقف على العناوين العامّة أو الخاصّة تمليك لهم كما سيأتي ، وظاهر التمليك والتملّك الاختياري هو أنّه معاهدة من الطرفين ، فيكون عقدا

ص: 234


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 211.
2- « قواعد الأحكام » ، ج 1 ، ص 266.
3- « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 300.
4- « كفاية الأحكام » ص 139.

حتّى إذا كان على الجهات العامّة كالمدارس والمساجد والقناطر والخانات والرباطات.

وأيضا صرّح جماعة ببطلانه بالردّ ، ولو كان إيقاعا لم يبطل ، وإذا كان عقدا فمقتضى الأصل هو احتياجه إلى القبول ، وهو أصالة عدم ترتّب الأثر إلاّ مع القبول.

اللّهمّ إلاّ أن لا يكون القبول دخيلا في تحقّق عنوان الوقف عرفا ، فإذا تحقّق عنوانه فإطلاقه ينفي شرطيّة القبول في صحّته.

وعمدة استدلال القائلين بعدم لزوم القبول خلوّ الأخبار المشتملة على أوقاف الأئمّة المعصومين علیهم السلام وسيّدة نساء العالمين علیهم السلام عن ذكر القبول.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون خلوّ الأخبار المشتملة على أوقافهم من ذكر القبول من جهة أنّها في مقام بيان صدور كيفيّة الوقف عنهم علیهم السلام لا في مقام بيان تمام سبب حصول الوقف ، فلا إطلاق لها كي يتمسّك بها ، وأيضا يمكن أن يقال باكتفاء القبول من قيّم الوقف وإن كان هو نفسه ، كما في الجواهر (1).

وأمّا التفصيل بين الوقف الخاصّ والوقف العامّ - كما صدر عن بعض - فلا وجه وجيه له أصلا ، لأنّ اعتمادهم في هذا التفصيل على عدم من هو يقبل ، وجوابه إمكان قبول الحاكم أو من بحكمه.

وأمّا جريان الفضولي فيه أوّلا فمبنيّ على أنّه عقد أو إيقاع ، وأنّ الفضولي في البيع هل على القاعدة أو لأدلّة خاصّة؟ فإن قلنا إنّه إيقاع ، فالظاهر الإجماع على عدم جريان الفضولي في الإيقاعات ، وقد تقدّم أنّه ليس بإيقاع ، وقد تقرّر في محلّه أنّ صحّة معاملة الفضولي على القاعدة ، فمقتضى القاعدة جريانه فيه.

ولكن يمكن أن يقال بأنّه وإن لم يكن مانع عن جريانه فيه بمقتضى القاعدة ، إلاّ أنّه بناء على اعتبار قصد القربة فيه حال العقد وإنشائه ، فلا يحصل هذا الشرط وإن

ص: 235


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 7.

قصد الفضول القربة حال العقد ، لأنّ قصد القربة عن غير الواقف لا أثر له وإن كان بعنوان النيابة عن المالك ، خصوصا من غير استنابة المالك.

وأمّا قصد المالك حال الإجازة فغير مفيد ، لأنّ الشي ء بعد وقوعه لا ينقلب عمّا وقع عليه. نعم بناء على عدم اعتبار قصد القربة فيه ، وبناء على كونه عقدا لا إيقاعا ، وبناء على أنّ جريان الفضولي في المعاملات على القاعدة لا أنّه فقط في البيع وبالأدلّة الخاصّة ، فلا إشكال في جريان الفضولي ، فإذا وقف شخص فضولة ملك شخص وأجازه المالك الواجد لشرائط الإجازة ولكونه واقفا يصحّ ذلك الوقف ، ويكون كما صدر عن نفس المالك.

وأمّا اعتبار كونه بقصد القربة في وقوعه وتحقّقه شرعا أو لا؟

فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، واختار العلاّمة قدس سره في قواعده الاعتبار (1) ، وحكى ذلك أيضا عن الشهيد قدس سره في الدروس (2) ، ويظهر من السرائر (3) والغنية (4) دعوى الإجماع على الاعتبار ، وحكى عن بعض دعوى الاشتهار بين القدماء.

ثمَّ إنّه لو لم يوجد دليل لا على اعتبار قصد القربة في تحقّقه ووقوعه ولا عدم الاعتبار ، فهل مقتضى الأصل أيّ واحد منهما؟

أقول : أمّا أصالة عدم الاعتبار الذي ذكرها في الجواهر (5) فليس لها حالة سابقة على تقدير كون العدم نعتيّا. ومثبت إن كان محموليّا.

فتكون أصالة الفساد في المعاملات والعقود محكما ، لاحتمال دخله في تحقق ماهيّة الوقف شرعا ، ومع هذا الشكّ والاحتمال لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاقات أدلّة الوقف ،

ص: 236


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 267.
2- « الدروس الشرعية » ج 2 ، ص 264.
3- « السرائر » ج 3 ، ص 157.
4- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 540.
5- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 8.

فإنّ قوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » حكم على الوقوف بعد الفراغ عن تحقّق أصل حقيقة الوقف وماهيّته بجميع ما له دخل في تلك الماهيّة عرفا أو شرعا.

نعم لو كان الوقف معنى عرفيّا كالبيع ، ويكون في نظر العرف موجودا بدون قصد القربة ، وتكون المطلقات باعتبار ما هو المفهوم منها عرفا ، فإذا احتملنا دخل شي ء فيه شرعا ، ولم يدلّ دليل على اعتباره فيمكن التمسّك بالمطلق لرفع الشكّ وعدم اعتبار ما شكّ في اعتباره شرعا في تلك الماهيّة.

وعلى هذا المبنى سلك شيخنا الأعظم قدس سره في التمسّك بالمطلقات في باب البيع في مكاسبه (1) ، ولكن فيما نحن فيه لا نعلم بتحقّق حقيقة الوقف ، لأنّ الوقف ليس من العناوين العرفيّة المحضة ، بل تصرّف فيها الشارع بضمّ بعض الخصوصيّات وحذف أخرى ، فليس المطلق ملقى إلى العرف بما يفهمه العرف ويكون عندهم هو الوقف.

ويكون من هذه الجهة شبيها بمفاهيم عناوين العبادات ، فإنّه هناك يصحّ التمسّك بالمطلقات بعد إحراز عنوان المطلق شرعا ، وإن احتمل دخل خصوصيّة أخرى زائدة على المسمّى ، وإلاّ لا بدّ من القول بعدم جواز التمسّك بالإطلاقات في أبواب العبادات بناء على الصحيحي ، والاكتفاء بالإطلاق المقامي في رفع الشكّ.

وأمّا الدليل على اعتبار قصد القربة في الوقف :

فمنها : الإجماع المدّعى من السرائر والغنية.

ويجيب عنه صاحب الجواهر قدس سره بأنّه لم نتحقّقه ، لخلوّ كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه. (2)

ص: 237


1- « كتاب المكاسب » ص 80 و 96.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 8 ، الوقوف والصدقات.

أقول : قد تكرّر منّا عدم صحّة التمسّك بأمثال هذه الإجماعات - على فرض تحقّقه - في إثبات الاعتبار ، وذلك من جهة معلوميّة مدرك إجماعهم واتّفاقهم ، ولا أقلّ من احتمال كون مدركهم هذه الأدلّة التي سنذكرها ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يبقى مجال استكشاف رأي المعصوم علیه السلام بالحدس القطعي من هذا الإجماع والاتّفاق.

ومنها : قوله علیه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه عزّ وجلّ » (1).

بناء على أنّ ماهيّة الوقف من أنواع الصدقة ، فهو صدقة خاصّة ، ولذا وصفوها علیهم السلام في الروايات العديدة ب- « لا تباع ولا توهب ولا تورث » (2) فيكون مفهوم الوقف أخصّ من مفهوم الصدقة ، ولذلك عبّر عنه بالصدقة في جميع أصناف الوقف.

فالصدقات على أقسام : منها : الوقف ، ومنها : الزكاة ، ومنها : غيرهما من الصدقات الواجبة والمندوبة.

وقد عبّر عن الوقف على الولد بالصدقة في بعض الروايات ، كرواية عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل يتصدّق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثمَّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده؟ قال علیه السلام : « لا بأس بذلك » (3).

واحتمال إرادة غير الوقف من الصدقة بعيد.

وخلاصة الكلام : أنّ تعبيرهم علیهم السلام عن الوقف بالصدقة كثير في الروايات في الأقسام المختلفة من الوقف ، في الوقف على الجهات ، وعلى العناوين ، وعلى الذريّة والأولاد ، فادّعاء أنّ النسبة بينهما عموم من وجه لا يخلو عن مجازفة.

ص: 238


1- « الكافي » ج 7 ، ص 30 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 151 ، ح 619 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 319 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 13 ، ح 2 و 3.
2- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (2).
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 575 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 22 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 101 ، ح 389 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 300 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 5 ، ح 1.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله في بيان الوقف على ما رواه ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (1) حتّى أنّ أكثر الفقهاء عرّفوا الوقف بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، ويقول في القاموس : وسبله تسبيلا : جعله في سبيل اللّه تعالى (2).

فبناء على هذا المعنى يكون حقيقة الوقف عبارة عن حبس الأصل وتوقيفه عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، وجعل ثمرته ومنفعته في سبيل اللّه ، وهل مع هذا يبقى شكّ في أنّ قصد القربة داخل في حقيقة الوقف؟!.

وقال الشيخ قدس سره في النهاية : وعلى كلّ حال ، فالوقف والصدقة شي ء واحد ، ولا يصحّ شي ء منهما إلاّ ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى ، فإن لم يقصد بذلك وجه اللّه لم يصحّ الوقف (3) ، انتهى.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الجواهر قدس سره (4) من حصول القطع للفقيه بعدم اعتباره بأدنى ملاحظة فيما ذكره من الوجوه لعدم الاعتبار ، فإنّا لاحظنا في جميع ما ذكره ولم يحصل لنا الظنّ ، فضلا عن القطع.

وأمّا ما ذكره من عدم كون الوقف صدقة لعدم اعتبار الفقر فيه مع اعتباره فيها ، فلا يدلّ على عدم كونه صدقة ، لأنّه من الممكن أن تكون أصناف الصدقة مختلفة في الأحكام والآثار.

وأمّا صحّة الوقف على الكافر أو من الكافر ، فلا ينافي اعتبار القربة. أمّا على الكافر الذمّي إذا كان أحد أبويه ، لأنّه يمكن أن يتقرّب به إلى اللّه في إحسانه إليهم الذي أمر به اللّه ، بل وفي غير الأبوين من الكفّار غير الحربيّين لا ريب في حسن

ص: 239


1- تقدم راجع ص 231.
2- « القاموس المحيط » ج 3 ، ص 393 ، « السبيل ».
3- « النهاية » ص 596.
4- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 9.

الإحسان إليهم ، خصوصا إذا كانوا عجزة فقراء فأيضا ممكن التقرّب إلى اللّه بهذا الإحسان إليهم.

وأمّا من الكافر الذمّي ، فلأنّه من الممكن أن يقصد القربة وإن لم يحصل له التقرّب.

نعم بناء على اشتراط الإيمان في صحّة العبادة يدلّ على عدم كونه عبادة منه ، لا على عدم اعتبار قصد القربة.

وأمّا ما قيل : من أنّ قوله علیه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه » أنّ نفي الحقيقة مبالغة في نفي الكمال ، فنفي الحقيقة ادّعائيّ لا حقيقيّ.

فهذا الادّعاء خلاف ظاهر الكلام وما يفهمه العرف من هذه الجملة ، فظاهر « لا » النافية للجنس نفي الحقيقة حقيقة ، لا ادّعاء.

وأمّا الإشكال على الاعتبار بأنّ الوقف على الأولاد والذرّيّة بل سائر الأقارب ليس المحرّك والداعي إلى الوقف هو التقرب إلى اللّه ، بل الداعي إلى ذلك هو حبّه لهم والعطف عليهم. وأن لا يبقوا محتاجين وفقراء معرزين.

ففيه : أنّ حبّه لهم ليس مانعا عن قصد القربة ، لأنّ اللّه تبارك وتعالى أيضا يحبّ التودّد إليهم والعطف عليهم ، فالعاقل إذا علم أنّ نفي قصد التقرب بهذا الفعل يحصل كلا الأمرين : حسن حال أقربائه بنفس هذا الفعل ، وثواب الآخرة والدرجات الرفيعة بقصده القربة فيه ، فلا محالة يقصد القربة بفعله هذا.

وأمّا صدوره في بعض الأحيان عن بعض الأشخاص بدون قصد القربة - وصرف العطف على أقربائه من قلّة مبالاته بأمور الآخرة وثوابها وعقابها - فهذا ليس دليلا على عدم الاعتبار ، كما أنّ الذين لا يبالون بمخالفة أحكام الدين يراءون في عباداتهم لأغراض دنيويّة ، ولا مانع من الالتزام ببطلان وقفهم في هذه الصورة.

كما أنّه في العتق أيضا لو أعتق أحد أقربائه غير الذين ينعتقون عليه قهرا لحبّه

ص: 240

إيّاهم لا بقصد القربة ، خصوصا إذا كان في كفّارة ، لا مانع من القول بعدم وقوع الكفّارة ، بل عدم صحّة العتق بناء على اعتبار قصد القربة ، كما هو كان ظاهر قوله علیه السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه تعالى ».

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف لا يخلو من نظر وتأمّل ، بل الأحوط وجوبا مراعاته.

ومن جملة ما يعتبر في الوقف - في صحّته أو في لزومه - هو الإقباض ، وسنتكلّم عنه في شرائط الوقف ، وأنّه هل من شرائط صحّة الوقف أو من شرائط لزومه إن شاء اللّه تعالى.

ثمَّ إنّه بعد وقوع عقد الوقف مع القبول وقصد القربة من الأصيل أو الفضولي ، وأجاز المالك بناء على جريان الفضولي فيه واجدا لجميع شرائط الوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه يكون من المنجزات ، فيكون حاله حال سائر المنجّزات في دخوله في مفاد المسألة المعروفة ، وهي أنّ منجّزات المريض الذي يموت في ذلك المرض هل مثل الوصية ، ويكون نفوذها في الزائد على الثلث منوطا بإجازة الورثة أم لا ، بل يكون من أصل التركة وليس معلّقا على إجازتهم؟

وتحقيق الحقّ والمختار في تلك المسألة موكول إلى محلّه ، والغرض ها هنا بيان أنّ الوقف بعد وقوعه وتماميّته بشرائطه يكون مثل البيع والصلح وسائر العقود المنجّزة.

المطلب الثاني : في شرائط الوقف

اشارة

وهي أمور أربعة :

[ الشرط ] الأوّل : القبض. ولا خلاف في أصل شرطيّته واعتباره في الوقف عندنا ،

ص: 241

وإنّما الخلاف في أنّه هو شرط الصحّة أو شرط اللزوم. وتظهر ثمرة القولين في النماء.

والدليل على اعتباره في لزومه الروايات الواردة الدالة عليه :

منها : صحيح صفوان بن يحيي ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمَّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ، فقال : « إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمَّ جعل لها قيّما لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها ، لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » (1).

ومنها : ما روى عن محمّد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان علیه السلام : « وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمَّ يحتاج إليه صاحبه ، فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلّما سلم فلا خيار فيه لصاحبه ، احتاج أو لم يحتج ، افتقر إليه أو استغنى عنه. وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (2).

فقوله علیه السلام في رواية صفوان « لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » يدلّ على أنّ علّة جواز الرجوع هو عدم حيازتهم وقبضهم للضيعة ، وهذه العلّة بمفهومها تدلّ على أنّ

ص: 242


1- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 36. « الفقيه » ج 4 ، ص 239 ، ح 5573 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 134 ، ح 566 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 13 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 392 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 298 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 4.
2- الصدوق في « كمال الدين » ج 2 ، ص 520 - 521 ، ذكر التوقيعات ، ح 49 ، « الطبرسي في « الاحتجاج » ج 2 ، ص 558 - 560 ، في التوقيعات ، ح 351 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 300 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 8.

الحيازة والقبض موجب لعدم جواز الرجوع الذي هو من لوازم اللزوم.

وظهور هذا التعليل في هذا المفهوم عرفي ، وإنكاره مكابرة ، والفقرة السابقة على هذه الفقرة وهو قوله علیه السلام : « وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع » فعلّق علیه السلام عدم جواز رجوعه الذي هو كناية عن اللزوم على الحيازة لهم ، لأنّ حيازته حيازة لهم ، لأنّه وليّ عليهم ، فيكون القبض والحيازة علّة للزوم الوقف ، وهذا منطوق الرواية.

وأمّا رواية الأسدي ، الفقرة الأولى من تلك الرواية وهي قوله علیه السلام « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلما سلم فلا خيار فيه لصاحبه » إلى آخر الرواية ، فصريحة في أنّه شرط اللزوم.

بيان ذلك : أنّه حكم بالخيار في صورة عدم التسليم الذي هو بمعنى عدم الإقباض ، وحكم بعدم الخيار في صورة التسليم - أي الإقباض - ولا شكّ في أنّ عدم الخيار كناية عن اللزوم ، فعلّق اللزوم على التسليم الذي هو بمعنى الإقباض الملازم للقبض. والإنصاف أنّ ظهور هاتين الروايتين في أنّ القبض موجب للزوم لا يمكن إنكاره.

وأمّا ما ربما يقال ، بل قال بعض الأعاظم 5 من أنّ بطلان الوقف بموت الواقف قبل إقباضه دليل على أنّ القبض شرط الصحّة لا شرط اللزوم.

ففيه : أنّه من الممكن أن يكون نفس الموت موجبا لبطلانه إن كان قبله صحيحا غير لازم. وتظهر ثمرة القولين في النماءات ، فبناء على أنّه شرط اللزوم تكون النماءات من زمان وقوع العقد للموقوف عليهم ، وبناء على أنّه شرط الصحّة تكون للواقف.

وها هنا فروع لا بأس بذكرها

الأوّل : لو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف ، لخبر عبيد بن زرارة عن أبي

ص: 243

عبد اللّه علیه السلام في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا ، قال علیه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » وقال علیه السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه » (1).

ودلالة الخبر على بطلان الوقف بموت الواقف واضح لا يحتاج إلى البيان ، لأنّ قوله « تصدّق على ولد له قد أدركوا » إمّا صريح في الوقف بالخصوص ، أو يشمله بالإطلاق.

واحتمال المدارك اختصاصه بالصدقة بالمعنى الأخصّ فلا يشمل الوقف ممّا لا شاهد له ، لعدم دليل على انصراف المطلق إلى أحد فرديه مع كثرة الاستعمال في الفرد الآخر أيضا.

وأمّا تأييده هذا الاحتمال بذيل الخبر « لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه اللّه » فلا وجه له أصلا ، لأنّه من المحتمل القريب أن تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله علیه السلام : « فهو جائز » فيكون مفاده لا يرجع في الوقف إذا كان ابتغاء لوجه اللّه ، أو مطلق الصدقة ، وقفا كانت أو الصدقة الخاصّة ، حيث تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه لا يجوز أن يرجع فيها.

هذا فيما إذا مات الواقف ، وأمّا إن مات الموقوف عليه قبل أن يقبض ، فبناء على ما اخترناه من أنّ القبض شرط اللزوم لا الصحّة ، فالوقف وقع صحيحا ولا وجه لخروجه عن ذلك. نعم للواقف أن يرجع قبل قبض الطبقة اللاحقة أو الشخص اللاحق ، ولا إشكال في البين.

وأمّا بناء على أنّه شرط الصحّة ، فالصحّة التأهليّة باقية ، فإذا قبض البطن اللاحق

ص: 244


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 247 ، ح 5585 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 19 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 577 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 390 ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 299 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 5.

مثلا تصير فعليّة ، وإن شكّ في بقائها فيمكن إحرازها بالاستصحاب.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه نظير قبول غير من خوطب به ، لأنّ ظاهر الاشتراط بالقبض هو القبض ممّن كان الطرف في إجراء الصيغة.

لا وجه له ، لأنّ المفروض أنّ العقد تمَّ من الإيجاب والقبول ممّن لهما أهليّة ذلك ، وإنّما الذي بقي حسب اشتراط الشارع صحّة الوقف هو قبض طبيعة الموقوف عليه ، وقبل موت الطبقة الأولى كان مصداق الطبيعة هو ذلك الشخص في الوقف الترتيبي ، وبعد موته صارت الطبقة المتأخّرة مصداقا.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الوقف على عنوان عامّ ، كأولادي - مثلا - نسلا بعد نسل ، أو كان على أشخاص معيّنين ، أو على شخص معيّن ثمَّ على أشخاص معيّنين أخر ، أو ثمَّ على شخص معيّن آخر.

الثاني : في أنّه هل يشترط في تحقّق القبض الذي هو شرط صحّة الوقف أو شرط لزومه أن يكون بإذن الواقف ، أم لا؟

أقول : مقتضى القاعدة عدم الاشتراط ، خصوصا بناء على أنّه شرط اللزوم لا الصحّة ، لأنّ العقد تمَّ من الطرفين بشرائطه ، غاية الأمر اشتراط الشارع شرطا للصحّة أو اللزوم ، وشرطيّة أصل القبض معلوم.

وأمّا كونه بإذن الواقف غير معلوم ، فيكون مجرى أصالة عدم الاشتراط ، وأصالة عدم تأثير العقد بدونه - المعبّر عنها بأصالة الفساد في أبواب المعاملات - محكوم بإطلاقات أدلّة الوقف ، لأنّ الوقف تحقّق عند العرف. وهذا اعتبار آخر زائد على تحقّق حقيقة الوقف عرفا ، وإثباته يحتاج إلى دليل معتبر ، وليس في البين شي ء يكون مانعا من جريان الإطلاقات.

فهذا من قبيل الشكّ في اعتبار بعض الخصوصيّات في عقد البيع شرعا بعد تحقّق ماهيّته عرفا ، كالعربيّة والماضويّة مثلا الذي قلنا بجريان إطلاقات أدلّة البيع ورفع

ص: 245

الشكّ بها.

وأمّا الاستدلال لاعتبار اذن الواقف بقوله علیه السلام : « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار » بأنّه علیه السلام علّق الخيار على عدم التسليم لا عدم القبض ، فيستفاد منه اشتراط الصحّة أو اللزوم بالتسليم وإقباض الواقف ، فلا أثر لصرف قبض الموقوف عليه بدون إقباض الواقف وتسليمه.

ففيه : أنّ المراد من هذه الجملة هو وصول المال الموقوف إلى الموقوف عليه وصيرورته تحت يده ، ولذلك عبّر عنه علیه السلام في صحيح محمّد بن مسلم بقوله علیه السلام : « إذا لم يقبضوا فهو ميراث » (1).

ولا شكّ في إطلاق جملة « فإذا لم يقبضوا » وشمولها لكلتا حالتي الإذن وعدمه ، وأزيد من هذا قوله علیه السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها » فإنّه يدلّ على أنّ أخذهم بالقوّة ورغما لأنف الواقف كاف في الصحّة أو اللزوم.

الثالث : هل يشترط في القبض أن يكون فورا أم لا؟

الظاهر عدم اشتراطه ، للأصل المتقدّم في الفرع السابق ، ويمكن أن يستظهر أيضا من قوله علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ».

وإطلاقه يشمل حتّى فيما إذا كان بين العقد مدّة طويلة ، فإذا حصل القبض بعد العقد بمدّة ولكن قبل الموت بساعة مثلا فيؤثّر أثره.

الرابع : في أنّ الوقف يتمّ صحيحا ويصير لازما بقبض الطبقة الأولى ، ولا يحتاج صحّته أو لزومه بقبض الطبقة الثانية والثالثة ، وهذا لأنّه بعد ما تمَّ وصار لازما لا يخرج عن الصحّة أو اللزوم الاّ بدليل على ذلك.

ص: 246


1- « الكافي » ج 7 ، ص 31 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 7. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 135 ، ح 569 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 101 ، ح 387 ، باب : من تصدّق على ولده الصغار. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 4 ، ح 1.

نعم يبقى كلام في أنّ قبض بعض الموقوف عليهم يكفي عن قبض الآخرين ، أم لا بل يقسط ، ويكون صحيحا أو لازما بالنسبة إلى حصّة ذلك البعض فقط؟

الظاهر أنّه يحتاج إلى قبض جميع الطبقة الأولى ، ولا يكفي قبض بعضهم عن الآخرين ، أمّا أوّلا : فلأنّ ظاهر قوله علیه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث » أنّ اللزوم أو الصحّة متوقّف على قبض الجميع ، وكذلك قوله علیه السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها ».

وثانيا : أنّ الموقوف عليه جميعهم ، فإذا كان قبض الموقوف عليه شرطا في صحّة الوقف أو في لزومه ، فيجب قبض الجميع.

إن قلت : إنّ الطبقات المتأخّرة أيضا هم الموقوف عليهم ، فبناء على هذا يجب أيضا قبضهم.

أقول : إنّ الطبقة الأولى إذا قبضوا كلّهم إمّا أن يتمّ الوقف ، فلا مجال لاشتراط قبض الباقين لحصول الصحّة أو اللزوم ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وإمّا أن لا يتمّ ، فلا يتمّ إلى الأبد فيما إذا كان وراء كلّ طبقة طبقة ، وهذا شي ء مستنكر ومخالف للضرورة الفقهيّة ، فلا بدّ من القول بأنّه يتمّ بقبض الطبقة الأولى ، فلا يحتاج إلى قبض سائر الطبقات.

نعم لو وقف على أولاد زيد نسلا بعد نسل - مثلا - وكان لزيد أولاد موجودين حال الوقف ، وقبضوا ، فتجدّد له أولاد أو ولد واحد مثلا ، لا يبعد أن يكون قبض الولد المتجدّد أيضا معتبرا في صحّة الوقف أو لزومه ، لأنّهم أيضا من الطبقة الأولى ، وإن كان القول بتماميّة الوقف بقبض الموجودين حال الوقف أيضا له وجه.

وأمّا الموجودين حال الوقف من الطبقة الأولى إن قبض بعضهم دون بعض ، فهل يصحّ الوقف أو يلزم في التمام ، أو لا يصحّ في التمام ، أو يصحّ بالنسبة إلى حصّة القابضين دون الباقين؟ وجوه ، والأظهر هو الوجه الأخير.

ص: 247

الخامس : لو وقف على أولاده نسلا بعد نسل ، وكان الموجودون كلّهم صغارا ، فلا يحتاج إلى الإقباض ، لأنّ يد الأب والجدّ الأبي يدهم ، وقبضهما قبضهم ، وهذا الحكم جار في كلّ من هو وليّ شرعا بالنسبة إلى المولى عليه بلا كلام.

نعم الذي ينبغي أن يتكلّم فيه ، هو أنّه هل يحتاج إلى القصد عن قبلهم أم لا يحتاج؟ بل حكى عن كاشف الغطاء قدس سره أنّ قبض الوليّ هو قبض المولى عليه وان نوى الخلاف (1) ، مثلا لو اشترى شيئا للمولى عليه وقبضه وقصد أن لا يكون للمولى عليه ، بل لنفسه فتلف ، فليس هذا التلف من مصاديق تلف قبل القبض ، وليس ضمانه على البائع لحصول القبض بفعله له قهرا ، وإن قصد خلافه.

والظاهر : هو الأوّل ، لأنّ وقوع فعل شخص عن شخص آخر بحيث يصحّ استناده إلى ذلك الآخر ، لا بدّ وأن يكون بقصد أنّه عن قبله ، وإلاّ لا مصحّح للاستناد إليه ، بحيث أنّ يقال : إن قبض هذا الوليّ أو هذا الوكيل قبضه ، خصوصا مع قصد الخلاف.

وأمّا قوله علیه السلام في خبر عبيد بن زرارة : « فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره ». (2) فلا إطلاق فيه يشمل صورة عدم القصد ، لأنّ الظاهر منه أنّه لا يحتاج إلى قبض نفس المولى عليه ، إذ الوالد يلي أمره.

وأمّا كيفيّة ولايته لأمره - وأنّه هل مع القصد عن قبله أو بدون القصد - فليس في مقام بيان هذا ، فلا إطلاق لها. ومعلوم أنّ ما قلنا من كفاية قبض الولي فيما إذا كان في يده ، وأمّا إذا كان في يد غيره من غاصب ، أو آخذ بالعقد الفاسد أو غيرهما ، فيحتاج إلى قبض الولي وأخذه من يد غيره بعنوان الولاية على الموقوف عليهم.

والمراد من كونه في يد غير الوليّ خروجه عن تحت سيطرته ، فلا يضرّ كونه في

ص: 248


1- الشيخ جعفر في « كشف الغطاء » ص 372 ، كتاب الوقف.
2- تقدم راجع ص 244.

يد وكيله أو من استأجر أو استودع عنه ، بحيث لا ينافي كونه عند غيره مع سيطرته عليه وكونه في يد نفسه ، كما أنّه لو كان الوقف بيد الموقوف عليهم فلا يحتاج بعد الوقف إلى قبض جديد ، بأن يستردّه الواقف ويعطيهم ويقبضهم ثانيا ، لأنّ الشرط حاصل ، فتحصيله ثانيا من قبيل تحصيل الحاصل.

نعم لو قلنا باعتبار إذن الواقف في القبض ، فيحتاج إلى الاذن في البقاء. ولا فرق في ما قلنا من كفاية كونه في يدهم وأنّه لا يحتاج إلى قبض جديد بين أن يكون يدهم يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة ، أو مالكيّة. ويكفي في قبض المسجد والمقبرة لكافّة المسلمين أو لطائفة خاصّة صلاة شخص واحد في الأوّل ، ودفن ميّت واحد في الثاني ، بقصد أنّه وقف المسجد في الأوّل ، وأنّه مقبرة وقف على كافّة المسلمين ، أو خصوص طائفة في الثانية.

وذلك بناء على اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، وقد تقدّم اعتباره ، وبناء على أنّ القبض لا بدّ وأن يكون بإذن الواقف ، فلا بدّ في تحقّق قبض المسجد بصلاة واحدة ، وقبض المقبرة بدفن رجل واحد أن تكون تلك الصلاة وذلك الدفن بإذن الواقف.

السادس : في أنّه هل يحتاج صحّة الوقف أو لزومه على القبض في الأوقاف العامّة - كالوقف على الجهات العامّة ، كالمساجد والقناطر والرباطات والآبار في الطرق العامّة وأمثالها ، وهكذا الوقف على العناوين العامّة ، كالعلماء والسادات والفقراء وأمثالهم - أم لا؟

والمشهور هو الأوّل. ويمكن أن يستدلّ له بقوله علیه السلام في صحيح صفوان : « فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يحوزونها » (1) فعلّل علیه السلام جواز الرجوع بعدم حيازتهم لها ، فيستكشف من هذا التعليل أنّ حقيقة الوقف وطبيعته لا يصحّ - أو لا يلزم - إلاّ

ص: 249


1- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (1).

بحيازة الموقوف عليهم له.

وأمّا القول بأنّه ليس هناك في الوقف على الجهات العامّة من يقبضه. وقد تقدّم نظير هذا الكلام في اشتراط الوقف بالقبول ، وقد أجبنا عنه بأنّه إمّا أن يقبل الحاكم أو أحد مصاديق تلك العناوين.

ونقول ها هنا أيضا نظير ما تقدّم ، مضافا إلى أنّ مقتضى الأصل أيضا هو اعتبار القبض فيه ، إذ ليس عموم يتمسّك به لعدم الاعتبار.

أمّا قوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (1) فلما ذكرنا من أنّ هذه الجملة ناظرة إلى أحكام الوقف بعد الفراغ عن تحقّق ماهيّته ، وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون القبض دخيلا في تحقّق ماهيّته بناء على أنّه شرط صحّته لا لزومه.

وأمّا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلاحتمال عدم كونه عقدا ، بل يكون إيقاعا ، فيكون خارجا عن موضوع عموم الآية. ولكن تقدّم أنّه عقد ، فالتمسّك لاحتياج كلّ وقف إلى القبض لصحّته أو للزومه بالروايات أولى.

وعلى تقدير لزوم القبض حتّى في الوقف على الجهات ، يكفي قبض المتولّي ، أو الحاكم ، أو أحد المسلمين ممّن كان مصداقا لتلك الجهة إن كان قبضه بعنوان أنّه مصداق لتلك الجهة ، فلو عبّر أحد المسلمين من القنطرة التي وقفها لأجل عبور المسلمين بعنوان أنّه من مصاديق هذه الجهة ، فهذا يعتبر قبضا منه لتلك القنطرة.

الشرط الثاني من شرائط الوقف الدوام. فلو قال : وقفت هذا الخان - مثلا - على الزوّار مدّة عشر سنين ، فلا يصحّ ولا يقع وقفا.

وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط ، وتمسّكوا أيضا بوجوه أخر :

ص: 250


1- تقدم راجع ص 229 ، هامش رقم (1).

منها : الروايات الواردة في كيفيّة وقف الأئمّة علیهم السلام ومن تعبيرهم علیهم السلام في تلك الروايات عن أوقافهم بالصدقة التي لا تباع ولا توهب ولا تورث (1).

ولا شكّ أنّ نفي هذه الأمور الثلاثة معا ملازم للدوام ، بل نفي خصوص الإرث يكفي في إثبات شرطيّة الدوام لتحقّق حقيقة الوقف. مضافا إلى أنّ في بعضها : « حتّى يرثها وارث السماوات والأرض ». وفي وقف أمير المؤمنين علیه السلام داره التي كانت في بني زريق هذه العبارة مرويّة « صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها اللّه الذي يرث السماوات والأرض » (2).

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات هو أنّ الصدقة أنواع ، والوقف نوع من تلك الأنواع ، فهم علیهم السلام لتعيين هذا النوع من بين سائر الأنواع وصفوها بهذه الأوصاف ، وقيّدوها بهذه القيود ، وليست هذه الأوصاف من الشروط الضمنيّة الخارجة عن ماهيّة الوقف ، لأنّ ظاهر هذه الروايات حسب القواعد العربيّة أنّ الصدقة هو مفعول مطلق نوعيّ ويكون قوله علیه السلام : « لا تباع ولا توهب ولا تورث » صفة معيّنة لذلك النوع.

فيكون حاصل المعنى أنّه علیه السلام يتصدّق بهذه الدار - مثلا - صدقة كذائيّة التي متّصفة بكذا وكذا ، أي : هذا النوع من الصدقة التي من آثارها وأحكامها عدم جواز بيعها ولا هبتها ولا إرثها حتّى قيام القيامة ، فعيّن الوقف وعرّفه بهذه الأوصاف.

وأمّا القول بأنّ الصدقة مصدر ، فلا يتّصف بصفات العين.

ففيه : أنّها تتّصف بها باعتبار ما يتصدّق به ، فتدلّ هذه الروايات على أنّ الدوام والتأبيد داخلان في حقيقة الوقف وماهيّته.

ص: 251


1- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (2).
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 248 ، ح 5588 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 22 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 131 ، ح 560 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 98 ، ح 380 ، باب : أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 304 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 4.

ومنها : أنّ الوقف من العقود المملّكة ، ومفادها تمليك الموقوف للموقوف عليه ، والتمليك لا يمكن بدون التأبيد ، فإنّ الملكيّة الموقّتة غير معهود في الشرع.

وفيه : أنّه ممنوع بكلتا مقدّمتيه : أمّا كون حقيقة الوقف تمليكا ، فمنقوض بالوقف على المساجد ، ووقف نفس المساجد ، حيث أنّ المشهور قالوا بأنّه فكّ ملك ، لا أنّه تمليك للمسلمين ، بل منقوض بجميع الأوقاف التي تقفها الملاّك على الجهات العامّة ، بل حقيقته - كما عرّفه أكثر القدماء - مأخوذ من النبوي المشهور بأنّه « تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة » (1).

وليس في هذه العبارة ما يفيد أنّه تمليك. وأمّا الملك الموقّت فلا مانع منه إذا دلّ الدليل عليه ، لأنّه أمر اعتباري قابل للتوقيت وللتأبيد ، فتابع للدليل واعتبار الشارع ، أو لاعتبار العقلاء.

وقد تقدّم الكلام فيه في بدل الحيلولة في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت » من إمكان ردّه كون بدل الحيلولة ملكا موقّتا إلى زمان حصول المغصوب ، أو إمكان ، أو إلى زمان نفس الردّ. وأيضا لو وقف على زيد عشر سنين ثمَّ على الفقراء ، فملكيّة زيد عشرة سنين تكون موقّتا.

فظهر بطلان كلتا المقدّمتين ، أي : لا يكون حقيقة الوقف هو التمليك ، ولا يمتنع أيضا الملكيّة الموقّتة ، بل هو معهود من الشارع أيضا.

وقد حكى هذا الوجه لاعتبار التأبيد عن تقرير بحث شيخنا الأعظم قدس سره وهو من مثله لا يخلو عن غرابة.

ومنها : أنّ الوقف عبارة عن توقيف العين الموقوفة ، وحبسه عن التقلّبات والنقل والانتقال في عالم الاعتبار التشريعي ، ومثل هذا المعنى يلائم مع التأبيد بل ينافي التوقيت.

ص: 252


1- تقدم راجع ص 231 ، هامش رقم (1).

وفيه : أنّ الحبس في عالم الاعتبار عن التقلبّات ، مثل الحبس الخارجي عن الانتقال من مكان إلى مكان ، يمكن أن يكون مؤبّدا ، ويمكن أن يكون موقّتا ، فالعمدة في دليله هو الإجماع.

ولكن فيه أنّ الإجماع أيضا يمكن أن يكون اتّكاء المجمعين على بعض هذه الوجوه المذكورة أو على جميعها ، فليس من الإجماع المصطلح الذي قلنا في الأصول بحجّيته ، ولكن مع ذلك كلّه الاتّفاق التامّ بحيث لم يوجد مخالف واحد في جميع الأعصار ممّا يوجب الاطمئنان باعتبار هذا الشرط في صحّة الوقف.

ثمَّ إنّه لو وقّت الوقف بسنة أو أكثر أو أقلّ مثلا ، فلا يقع الوقف بناء على اعتبار الدوام ، ولكن هل يكون هذا الإنشاء باطلا وبلا أثر - وكأنّه لم يكن - أو يكون حبسا يترتّب عليه آثار الحبس وأحكامه؟

وتحقيق الحقّ في هذا المقام هو أنّ الوقف والحبس إن قلنا بأنّهما مختلفتان بحسب الماهيّة والحقيقة ، فلو قصد الوقف بذلك الإنشاء فلا يقع شي ء منهما ، ويكون ذلك الإنشاء لغوا وبلا أثر ، أما عدم وقوع الوقف ، لانتفاء شرط الصحّة ، وأمّا عدم وقوع الحبس ، لعدم قصده ، والعقود تابعة للقصود.

وأمّا لو قصد الحبس فعدم وقوعه وقفا واضح ، لعدم قصده ، مضافا إلى انتفاء شرطه. وأمّا وقوعه حبسا فمبنيّ على أنّ إنشاء الحبس هل يلزم أن يكون بصيغة خاصّة ، أو يصحّ وإن كان بصيغة وقفت مثلا؟

وأمّا لو يعلم أنّه قصد أيّ واحد منهما ، بعد الفراغ عن أنّه ليس في مقام أداء هذا الكلام بلا قصد ، وأيضا لم يقصد المعنى الجنسي المشترك بينهما - وإلاّ فمن المعلوم أنّه لو كان أحد هذين الأمرين فلا يقع شي ء منهما - فهل التوقيت بمدّة معيّنة يكون قرينة على إرادة خصوص الحبس فتدخل المسألة حينئذ في ما ذكرنا من أنّ الحبس هل يصحّ بلفظ الوقف ، أم لا؟

ص: 253

الظاهر : أنّه تكون قرينة على إرادة الحبس فيما إذا يعلم باشتراط التأبيد في الوقف ، وأمّا تعين المراد - وأنّه قصد الحبس ولم يقصد الوقف - بأصالة الصحّة ، فممّا لا ينبغي احتماله.

وأمّا إذا قلنا بأنّهما حقيقة واحدة ، وكلاهما عبارة عن حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، غاية الأمر أنّ الواقف مشروط صحّته بأن يكون حبس الأصل دائميّا حتّى يرث اللّه السماوات والأرض ، فيكون حبسا بلا كلام ، لأنّ المفروض أنّه لا امتياز بينهما إلاّ بالتوقيت وعدمه ، فإنّ الوقف غير موقّت والحبس موقّت ، فإذا وقّته يكون حبسا ، ويكون حال هذه المسألة حال عقد الدوام والانقطاع وعدم ذكر الأجل.

فكما أنّه هناك بناء على أنّ الزوجيّة في الدائمة والمنقطعة حقيقة واحدة ، والفارق بينهما ليس إلاّ بذكر الأجل في المنقطعة دون الدائمة ، فإذا لم يذكر الأجل وإن كان نسيانا تقع دائمة وإن قصد الانقطاع ، لأنّهما حقيقة واحدة. فكذلك ها هنا إذا لم يذكر التأبيد بل وقّته بوقت معيّن قليلا كان أو كثيرا ، فلا محالة يكون حبسا.

ويمكن أن يستدلّ لكونه حبسا أيضا بصحيحة عليّ بن مهزيار ، قلت له علیه السلام :

روى بعض مواليك عن آبائك علیهم السلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكل وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك علیهم السلام ؟ فكتب علیه السلام : « هكذا هو عندي » (1).

وصحيح محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض

ص: 254


1- « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 31. « الفقيه » ج 4 ، ص 237 ، ح 5569 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 132 ، ح 561 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 307 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 7 ، ح 1.

ومن عليها ، وقال آخرون : هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع علیه السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء اللّه » (1).

أقول : ظاهر الصحيحة الأولى أنّ الوقف الموقّت بوقت معلوم صحيح ، والموقّت بوقت مجهول باطل ، فالظاهر أنّه يقع في الشقّ الأوّل وقفا صحيحا ، لا حبسا صحيحا ، ولذا استدلّ بعض بها على وقوع الموقّت المعلوم وقفا صحيحا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفرق بين الوقف والحبس بصرف التأبيد والتوقيت ، فالصحيحة تدلّ على صحّته حبسا ، وإن عبّر في السؤال بلفظ الوقف.

وظاهر الصحيحة الثانية هو أنّ الواقف بأيّ كيفيّة من الكيفيّات المذكورة وقف يكون صحيحا ، لأنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، فعلى أيّ حال كلتا الصحيحتين تدلاّن على أنّ الوقف الموقّت يقع صحيحا ، غاية الأمر إمّا وقفا وإمّا حبسا. نعم تدلّ الأولى على أنّه إذا كان جهلا مجهولا فهو باطل ، ولذلك ترى أنّ الذي يقول بأنّ الموقّت حبس صحيح والذي يقول بأنّه وقف صحيح ، كلاهما استدلاّ بهاتين الصحيحتين.

الشرط الثالث : التنجيز ، بمعنى أنّه يلزم أن ينشأ الوقف منجّزا غير معلّق على شي ء ، وهذا الشرط لا اختصاص له بالوقف ، بل اعتبروه في جميع العقود ، وأنّ التعليق فيها مبطل لها.

وعمدة دليلهم على اعتبار التنجيز في العقود هو الإجماع المدعى في المقام ، وإلاّ ليس دليل عقليّ على تنافي التعليق مع العقد والعهد إذا كان التعليق في المنشأ.

ص: 255


1- تقدم راجع ص 229 ، هامش رقم (1).

وأمّا الإنشاء فلا يمكن التعليق فيه ، سواء أكان الإنشاء والإيجاد متعلقه أمرا تكوينيّا وموجودا خارجيّا أو أمرا اعتباريّا ، وذلك من جهة أنّ الإنشاء والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم منجّزا ، لأنّه إن أوجد ذلك الشي ء الخارجي ، والموجود التكويني في عالم الخارج ، أو الموجود الذهني في الذهن ، أو الأمر الاعتباري كالملكيّة في عالم الاعتبار فقد تحقّق الإنشاء جزما بدون أيّ تعليق في البين ، وإن لم يوجد ذلك الشي ء فلم يتحقّق الإيجاد قطعا وجزما ، وعلى كلّ حال ليس تعليق في البين.

وأمّا تعليق المنشأ فلا مانع منه عقلا ، بل واقع في الشرعيّات كثيرا ، ففي الجعالة - مثلا - ينشأ الجاعل ملكيّة الجعل لكلّ من ردّ عليه ضالّته ، فالملكيّة المعلّقة على ردّ الضالّة هي التي تعلّق بها الإنشاء ، كما في قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (1) وهكذا الحال في الوصيّة ، فهو ينشأ الملكيّة المعلّقة على موته وفي التدبير ينشأ حرّية عبده معلّقا على موته.

وكذلك في النذر ينشأ ملكيّة المنذور للمنذور له معلّقا على برء مرضه مثلا ، أو قدوم ابنه عن سفره ، وأمثال ذلك ممّا يتداول بين الناس النذر لأجله.

وهذا معنى قولهم أنّ التعليق في الإنشاء محال ، وأمّا في المنشأ فلا مانع منه عقلا ، إلاّ أنّ الإجماع قام على بطلان العقود بالتعليق في منشآتها إلاّ ما خرج بالدليل ، فيكون ذلك الدليل مخصّصا للإجماع ، كما ورد في الوصيّة والجعالة والتدبير كما عرفت (2).

وأمّا استدلال صاحب الجواهر قدس سره على بطلان التعليق في العقود ، لأنّه مناف مع ظاهر أدلّة تسبيب الأسباب لترتّب آثارها عليها ، (3) وذلك لأنّ ظاهرها حسب

ص: 256


1- يوسف (12) : 72.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 191 ، ح 766 ، باب : الرجوع في الوصيّة ، ح 19 ، وكذلك ، ج 8 ، ص 264 ، ح 965 ، باب : التدبير ، ح 28 ، وكذلك ، ج 7 ، ص 344 ، ح 1407 ، باب : العقود على الإماء. ، ح 38. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 387 ، في أحكام الوصايا ، باب 18 ، ح 8 ، وكذلك ، ج 16 ، ص 96 ، من أبواب التدبير ، باب 11 ، ح 1 و 2.
3- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 63.

المتفاهم العرفي آثارها عليها حال وقوعها ، فإنّ ظاهر قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ترتيب آثار العقد على كلّ واحد من العقود حال وقوع ذلك العقد ، لا أنّه يرتّب آثار البيع - مثلا - أو النكاح أو الصلح أو غيرها على تلك العقود بعد مضيّ زمان من وقوعها.

ففيه : أنّ ظواهر تلك الأدلّة هو العمل على طبق العقد أو الشرط الواقع ، ووجوب الوفاء بمضمونهما ، فإن كانا مطلقين فمطلقا ، وإن كانا معلّقين على أمر فعند حصول ذلك الأمر ، سواء أكان معلوم الحصول أو مشكوكه ، بل إن كان العقد أو الشرط معلّقا وعمل بهما قبل حصول المعلّق عليه لم يف بعقده أو بشرطه ، وعمل بخلاف ظاهر دليل ذلك العقد أو ذلك الشرط.

مضافا إلى أنّ هذا الكلام لا يأتي فيما إذا كان المعلّق عليه حاصلا حال العقد أو الشرط ، فإنّه لا يتأخّر ترتيب الأثر عنهما في تلك الصورة.

فليس في البين إلاّ الإجماع وقد عرفت في هذا الكتاب مرارا حال هذه الإجماعات وأنّ أغلبها مستند إلى أصل أو رواية ضعيفة بحسب المسند ، أو الدلالة ، أو كلاهما ، أو اعتمد المجمعون على وجوه استحسانيّة التي أشبه بالقياس من الدليل الشرعي ، مع أنّ في بعض صور التعليق اختلاف كثير بينهم.

كما إذا كان التعليق على أمر محقّق الوقوع ، أو كان معلوم الحصول حال العقد ، فالأوّل كما إذا قال : وقفت هذه الدار على الفقراء - مثلا - إن طلعت الشمس غدا. والثاني كما إذا قال : وقفت هذه الدار على زيد - مثلا - إن كان عادلا ثمَّ على الفقراء ، وعدالة زيد معلوم عنده.

الشرط الرابع : إخراجه عن نفسه ، بمعنى أن لا يكون هو الموقوف عليه ولا

ص: 257


1- المائدة (5) : 1.

داخلا فيه أو شريكا معه ، فبناء على هذا لا يصحّ الوقف على نفسه.

وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط تارة ، وعدم إمكان الوقف على النفس أخرى ، لأنّ حقيقة الوقف هو إمّا تمليك المنافع للموقوف عليه وحده ، وإمّا مع العين ، ولا يمكن أن يملك الإنسان نفسه ، لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأجيب عن هذا الدليل بأنّ حقيقة الوقف ليس هو التمليك ، لا تمليك العين ولا تمليك المنفعة ، بل حقيقته تحبيس الأصل عن التقلّبات الاعتباريّة الواردة على المال - كبيعه وهبته وعتقه والصلح عليه وغيرهما - وتسبيل ثمرته ، وأيضا ليس التسبيل أيضا تمليك الثمرة والمنفعة ، بل إباحتها طلبا لمرضاة اللّه وفي سبيله ، فلا مانع عقلا من جعل نفسه موقوفا عليه أو شريكا معه.

وثالثة دلالة الروايات على عدم جواز الوقف على نفسه ، ولزوم إخراج الواقف الوقف عن نفسه :

منها : مكاتبة علي بن سليمان بن رشيد قال : كتبت إليه - يعني أبا الحسن علیه السلام - جعلت فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان ، فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين ، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي؟ فإني أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي ، فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب علیه السلام : « فهمت كتابك في أمر ضياعك ، فليس لك أن تأكل منها من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ إن كان لك ورثة ، وبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك ، وإن تصدّقت أمسك لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين علیه السلام » (1).

ص: 258


1- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل. ، ح 33. « الفقيه » ج 4 ، ص 238 ، ح 5570 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 129 ، ح 554 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 296 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 1.

ومنها : خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام أنّ رجلا تصدّق بدار له وهو ساكن فيها ، فقال علیه السلام : « الحين أخرج منها » (1).

وفيه : أنّ هاتين الروايتين أجنبيّتان عمّا هو محلّ الكلام.

أما الأولى منهما : فالسؤال فيه عن جواز أكله عنها بعد وقفه على الفقراء المفروض في الرواية ، فأجاب علیه السلام بالعدم ، لأنّه صدقة ووقف على الفقراء ، وهو ليس من الموقوف عليهم ، فلا يجوز له أن يأكل منها ، وهذا المعنى غير مربوط بجواز الوقف على نفسه وعدمه.

وأمّا الثانية : فالأمر فيه أوضح ، لأنّ السؤال عن أنّ الرجل تصدّق بداره التي يسكن فيها ، وظاهر هذه العبارة أنّه تصدّق بها على غيره ، فهو ليس من الموقوف عليه ، فيجب خروجه عنها فورا ، ولذلك أمر علیه السلام به.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا دليل في المسألة يدلّ على عدم جواز الوقف على النفس استقلالا أو تشريكا إلاّ الإجماع ، وما ذكرنا من عدم صحّة الوقف على نفسه مستقلا أو تشريكا على فرض تسليمه فيما إذا كان الواقف بنفسه موقوفا عليه مستقلا أو تشريكا معهم.

وأمّا لو وقف على عنوان ينطبق عليه أيضا ، كعنوان الفقراء والفقهاء ، فالظاهر صحّة مثل هذا الوقف ودخوله فيهم ، وجواز أخذه من ثمرة المال الموقوف وانتفاعه بها ، وليس من قبيل الوقف على النفس ، لأنّ الموقوف عليه هي الطبيعة الكلّية ، لا الأشخاص.

ولذلك لا يملكون الثمرة إلاّ بعد الأخذ وتطبيق الطبيعة ، وذلك من جهة أنّ أخذ

ص: 259


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 138 ، ح 582 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 29 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 103 ، ح 394 ، باب : من تصدّق بمسكن على غيره. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 4.

العنوان متعلّقا وموضوعا للوقف من قبيل القضايا الحقيقيّة ، لا من قبيل القضايا الخارجيّة.

نعم لو كان أخذ العنوان موضوعا للوقف من قبيل القضايا الخارجيّة ، بأن تكون مشيرة إلى أشخاص معيّنين وموجودين في الخارج ، والواقف أحدهم ، كما إذا قال :

وقفت داري على الجالسين تحت هذه الخيمة ، أو الساكنين في هذه الدار الساعة وهو أحدهم ، فلا يجوز ، لأنّه وقف على النفس.

ثمَّ اعلم : أنّه بعد ما تمَّ الوقف واجدا لهذه الشروط الأربعة وسائر الشروط التي نذكرها إن شاء اللّه تعالى يكون لازما ، ليس للواقف الرجوع إليه.

والدليل على ذلك مضافا إلى قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وقوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » الروايات الواردة في القبض ، وأنّه بعده يلزم ولا يجوز الرجوع إليه.

منها : ما تقدّم من ذيل خبر عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه » (2).

والظاهر أنّ المراد من الصدقة في هذه الرواية هو الوقف ، ولا أقلّ من شمولها له بالإطلاق.

ومنها : غيرها ممّا تقدّم في مسألة اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، كصحيح صفوان (3) ورواية العمري (4) وعلى كلّ تقدير لا شكّ في أنّ الوقف من العقود اللازمة عندنا ، خلافا لأبي حنيفة (5).

ص: 260


1- المائدة (5) : 1.
2- تقدم راجع ص 244.
3- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (1).
4- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (2).
5- السرخسي في « المبسوط » ج 12 ، ص 27 ، كتاب الوقف ، الميداني في « اللباب في شرح الكتاب » ج 2 ، ص 180 ، كتاب الوقف ، الكاساني في « بدائع الصّنائع » ج 6 ، ص 218 ، كتاب الوقف والصدقة.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ من شروط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، فلو وقف على من ينقرض غالبا ، كما إذا وقف على أولاده بلا فصل ، أي البطن الأوّل مثلا ، أو ولو قال بطنا بعد بطن إلى عشرة أبطن ، أو مطلقا ولكن لم يذكر عنوانا آخر كالفقراء أو الفقهاء بعدهم ، فهل يبطل فلا يقع وقفا ولا حبسا ، أو يقع حبسا فيرجع بعد انقراضهم إلى الواقف أو ورثته؟

فيه أقوال :

الأوّل : وقوعه وقفا.

الثاني : وقوعه حبسا.

والثالث : بطلانه وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا.

أمّا الثالث - أي البطلان وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا - فنسبه في الشرائع إلى القيل (1) ، وقال في الجواهر في شرح العبارة : كما عن المبسوط إرساله أيضا ولكن لم أتحقّق قائله (2).

أمّا الأوّل - أي وقوعه وقفا - فنسب إلى الشيخين 5 (3) والمختلف (4) والتذكرة (5) ، وقال في الجواهر : وأكثر الأصحاب (6).

وأمّا الثاني فنسب إلى جماعة منهم جامع المقاصد (7) وثاني الشهيدين في كتبه

ص: 261


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 216.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 55.
3- الشيخ المفيد في « المقنعة » ص 655 ، الشيخ الطوسي في « النهاية » ص 599.
4- « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 265 ، كتاب الوقف ، مسألة : 37.
5- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 433.
6- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 56.
7- « جامع المقاصد » ج 9 ، ص 16.

الثلاثة المسالك (1) والروض (2) والروضة (3) والإرشاد (4) والمختلف (5) والتنقيح (6) وإيضاح النافع وغيرهم.

والظاهر أنّ القول بالبطلان في غاية الشذوذ ، وأمّا القولان الآخران فكلّ واحد منهما له شهرة ، وعلى كلّ حال فمقتضى ما ذكرنا أنّ الفرق بين الوقف والحبس ليس إلاّ بالتأبيد والتوقيت ، فيقع حبسا لا محالة ، لأنّه بناء على هذا يكون حبسا للعين وتسبيلا للثمرة مدّة عدم انقراضهم ، وهذا هو الحبس.

غاية الأمر يبقى الكلام في أنّه يجوز إنشاء الحبس بصيغة « وقفت » أم لا؟

وهذا ليس فيه كثير إشكال بناء على أنّ حقيقة الوقف والحبس واحدة ، وهو إيقاف العين عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، غاية الأمر في الوقف دائما ، وفي الحبس موقّتا.

ولكن يرد عليه أنّ الحبس بعد انقضاء المدّة يرجع فيه المال المحبوس إلى المالك ، وفي الوقف خرج عن ملكه فلا يرجع إليه أو إلى ورثته ، بل الصحيح أنّ في الحبس لم يخرج المال عن ملك المالك ، بل هو تسبيل المنفعة موقّتا فهذا الاختلاف وغيره من الآثار والأحكام يدلّ على أنّهما ليسا حقيقة واحدة ، فإذا قصد الوقف وأنشأ بصيغة الوقف لا بدّ وأن يكون إمّا وقفا إن كان صحيحا ، وإمّا أن يكون باطلا.

وأمّا ما يقال : من أنّهما حقيقة واحدة ، والاختلاف في الأحكام والآثار من ناحية اختلافهما في المرتبة ، كالوجوب والاستحباب عند هذا القائل ، فالوقف هو الحبس

ص: 262


1- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 278.
2- « مفتاح الكرامة » ج 9 ، ص 17.
3- « اللمعة - الروضة البهية » ج 3 ، ص 169.
4- « إرشاد الأذهان » ج 1 ، ص 452.
5- « مختلف الشيعة » ج 6 ، ص 267.
6- « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 303.

المطلق غير المحدود ، والحبس هو الحبس المحدود المعيّن مدّته.

فعلى فرض صحّة هذا الكلام ، فإذا قصد مرتبة من تلك الحقيقة لا تقع مرتبة أخرى ، لأنّ العقود تابعة للقصود ، والمفروض أنّه فيما نحن فيه قصد الوقف ، فوقوع مرتبة أخرى لا وجه له ، فبناء على هذا لا بدّ من القول بوقوعه وقفا إن لم نقل بالبطلان.

ولكن يرد على هذا أيضا أنّ من شرائط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، بل احتملنا أن يكون داخلا ومأخوذا في حقيقة الوقف.

ويمكن أن يجاب عنه أوّلا : بأنّ الدوام ليس مأخوذا في حقيقة الوقف ، وليس دليل يدلّ على هذا ، وإنّما قلنا باعتباره فيه للإجماع ، وادّعاء الإجماع مع شهرة المخالف في هذه المسألة - حيث أنّهم يقولون بصحّته وقفا - لا يخلو عن غرابة.

وثانيا : المراد من الدوام المعتبر في الوقف هو أن لا يحدّد الوقف ومدّة حبسه ، وأمّا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه فعقليّ وليس من قبيل تحديد الحكم ، فلو قال لزيد :

بعتك هذه الدار بكذا ، فلم يحدّد تمليكه لزيد ولكن ملكيّة زيد ينعدم بموته عقلا ، إذ لا يمكن بقاء الحكم بدون الموضوع. وفيما نحن فيه إذا قال : وقفت على أولادي النسل الأوّل منهم ، لم يحدّد وقفه وحبسه ، وإنّما ينتفي الحبس بانقراضهم عقلا ، لا بتوقيت وتحديد من قبل المالك.

ولذلك لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، واتّفق أنّهم لم ينقرضوا ، فالوقف صحيح ، مع أنّ بقاءهم من باب الاتّفاق لا ربط له بإنشاء الواقف.

ثمَّ إنّه بناء على القول بأنّه حبس صحيح ، فلا شكّ في أنّه بعد انقراضهم يرجع إلى المالك أو إلى ورثته.

وأمّا بناء على ما رجحناه من أنّه وقف صحيح ، فهل يرجع إلى المالك أو إلى ورثته إذا لم يكن المالك باقيا ، أو يرجع إلى ورثة الموقوف عليه ، أو يصرف في وجوه

ص: 263

البرّ؟ وجوه بل أقوال :

وبيان الرجوع إلى المالك أو ورثته هو أنّه لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف صرف حبس ماله وإيقافه عن ورود التقلّبات الاعتبارية عليه ، وتسبيل ثمرته على عنوان خاصّ أو أشخاص مخصوصين من دون إخراجه عن ملكه ، فالأمر في غاية الوضوح ، لأنّه ملكه ، وبعد موته ملك وارثه.

وأمّا إن قلنا بأنّه تمليك للموقوف عليهم فيما عدا وقف المسجد ، بل وفيما عدا الوقف على الجهات ، كالقناطر والخانات والرباطات ، فمقتضى القاعدة عدم رجوعه إليه أو إلى وارثه ، لأنّ رجوعه إليه بعد خروجه عنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خروجه عن ملك الواقف ليس مطلقا ودائميّا بل مقيّد ببقاء الموقوف عليهم ، فإذا انقرضوا يرجع إلى حالته الأولى ، بل ينبغي أن يقال يبقى على حالته الأولى ، لا أنّه يرجع إليها.

وأمّا إن قلنا بخروجه عن ملك الواقف ، وصيرورته ملكا مطلقا للموقوف عليهم غير مقيّد ببقائهم ، فإذا انقرضوا يكون لورثة البطن أو الشخص الأخير ، بمفاد قوله علیه السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (1). وليس التمسّك به من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية ، لأنّه بناء على عدم تقييد ملكيّته ببقائه يصدق عليه عنوان « ما تركه الميت » يقينا.

وأمّا القول بصرفه في وجوه البرّ فليس له وجه ، إلاّ أن يقال بأنّ المال خرج عن ملك الواقف مطلقا ودخل في ملك الموقوف عليهم مقيّدا ببقائهم ، فلا يرث وارثهم ولا الواقف ، لأنّ دخوله في ملكه ثانيا يحتاج إلى دليل وليس ، ومع ذلك كلّه الوقف باق على وقفيّته ، فيكون مثل الوقف المجهول المصرف يصرف في وجوه البرّ.

ص: 264


1- النراقي في « مستند الشيعة » ج 14 ، ص 412 ، « مسند احمد » ج 2 ، ص 453 ، نحوه ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص ص 914 ، ح 2738 ، باب ذوي الأرحام ، نحوه.

ولكن أنت خبير بعدم تماميّة هذه المقدّمات ، خصوصا المقدّمة الأخيرة والأولى ، بل الأقوى من الوجوه المذكورة هو الرجوع إلى الواقف ، وذلك لأنّ المال إمّا لم يخرج عن ملكه بالمرّة ، أو يكون خروجه ما دام بقاء الموقوف عليهم لا مطلقا.

بقي الكلام في أنّه بناء على المختار من أنّه يرجع إلى الواقف أو ورثته ، فهل المراد هو الوارث حين موت الواقف ، أو حين انقراض الموقوف عليهم؟

وتظهر الثمرة فيما إذا كان للواقف ولدان - مثلا - أحدهما مات بعد موت المالك الواقف ، ولكن قبل انقراض الموقوف عليهم. والثاني باق إلى زمان انقراضهم ، فلو كان المراد الوارث حين موت الواقف فيرث ذلك الولد الذي مات قبل انقراض الموقوف عليهم ، ويكون شريكا مع أخيه الباقي إلى زمان الانقراض ، ويرث منه ورثته الباقون.

وأمّا لو كان المراد الوارث حال الانقراض ، فيكون جميع المال لذلك الولد الباقي إلى زمان الانقراض.

والظاهر أنّ المراد من الوارث هو الوارث حال موت الواقف ، لا الوارث حال الانقراض ، وذلك من جهة أنّ المناط في رجوع المال إليه كونه وارثا لمن يرجع إليه - أي الواقف - وهذا المعنى يثبت له حال موت الواقف المورث ، ولا ربط لانقراض الموقوف عليهم بكونه وارثا ، كما هو واضح.

إن قلت : إنّ حال موت الواقف ليس شي ء في البين كي يرثه هذا الوارث ، لأنّ الرجوع بعد الانقراض ، ولا بدّ في كونه وارثا من صدق « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » والمفروض أنّه في حال موته لم يترك شيئا كي يرثه هذا الوارث.

قلت : بيّنّا أنّ الرجوع إلى المالك أو وارثه يكون إمّا بناء على عدم خروج المال الموقوف عن ملك الواقف أصلا ، وفي هذه الصورة واضح أنّه لا إشكال في البين. وإمّا بناء على أنّ تمليك الموقوف عليهم ليس تمليكا مطلقا ، بل يكون مقيّدا ببقائهم ، فمن زمان انقراضهم لم يخرج عن ملك المالك من أوّل الأمر.

ص: 265

وبعبارة أخرى : صار تقطيعا في ملكيّة المالك مثل الحبس ، حيث أنّه يصير ملكا موقّتا له ، فخروجه عن ملك الواقف بمقدار زمان الحبس ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، وفيما نحن فيه أيضا بناء على هذا المبنى كذلك ، أي خارج عن ملك الواقف بمقدار بقاء الموقوف عليهم ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، فلا يبقى إشكال في أنّه ينتقل حين موته إلى ورثته.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ أحد شروط صحّة الوقف إخراج الواقف نفسه عن الموقوف عليهم كي لا يكون من قبيل الوقف على النفس ، لأنّه باطل إجماعا - كما تقدّم مفصّلا - فلو وقف على أحد العناوين كالفقهاء أو السادات أو غيرهما من العناوين ، وشرط عليهم أداء ديونه أو إدرار مئونته أو عياله أو غير ذلك ممّا يرجع إلى نفسه ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس كي يكون باطلا ، أو ليس كذلك فيكون صحيحا؟

أقول : إن كان شرط عليهم إدرار مئونته أو أداء ديونه من غير منافع الوقف ومن ماله الآخر ، فلا إشكال في أنّه ليس من قبيل الوقف على النفس. وإن شرط أن يكون من منافع الوقف ، فيكون وقفا على النفس ، من جهة أنّ المراد من الوقف على النفس هو أن يرجع تمام الثمرة والمنفعة أو بعضها إلى الواقف ، وما نحن فيه كذلك ، فيكون هذا الشرط فاسدا. وحيث أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد ، وهو إحدى القواعد التي رتّبناها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، فيكون الوقف صحيحا ويصرف في نفس العنوان الموقوف عليهم ، ولو شرط صرف بعض منافعه وثمرته على أهله أو أضيافه أو على أولاده وإن كانوا ممّن هم نفقتهم واجبة عليه ، لأنّ هذا ليس من قبيل الوقف على نفسه.

وأمّا إذا شرط أداء زكاته الواجبة ، أو الخمس الواجب في ماله ، فهذا الشرط فاسد ، لأنّه من قبيل الوقف على نفسه. ولو شرط عليهم الحجّ له به بعد موته من منافع هذا الوقف ، فالظاهر عدم صحّة هذا الشرط.

ص: 266

فرع :

إذا استثنى مقدارا من منافع العين الموقوفة ، أو من نفس العين لنفسه ، فالظاهر أنّه ليس من الوقف على النفس ، بل هو إخراج عن أصل الوقف ، فيرجع إلى أنّه لم يقف تمام هذه العين ، أو لم يسبل تمام منافعه ، فلا إشكال فيه أصلا.

فرع آخر :

لو جعل نفسه متوليّا وناظرا على الوقف ، وجعل مقدارا من منافع ذلك الوقف قليلا أو كثيرا للمتولّي ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس وباطل ، أم لا؟.

أقول : إذا كان بمقدار المتعارف ، كالعشر من منافع الوقف ، فالظاهر أنّه لا إشكال فيه ، لأنّه في الواقع من قبيل الأجرة مقابل عمله وتعبه في إدارة الوقف من عمارته وإجارته وإصلاح شؤونه وسائر تصرّفاته.

ولا شكّ في أنّ حال الوقف حال الأملاك الشخصيّة ، كما أنّهم يجعلون أجرا للذي يدير ذلك الملك ، وقد يكون الأجر حصّة من منافع ذلك الملك ، وليس معنى ذلك أن يكون شريكا فيه ، بل يكون كسائر مؤن ذلك الملك ، فيكون حال المتولي والناظر في الوقف حال ذلك الرجل الذي يدير أمر ملك غيره ويديره.

وأمّا إذا كان كثيرا كتسعة أعشار منافعه مثلا لو جعلها للمتولّي الذي هو نفس الواقف ما دام حيّا وفي الطبقة الأولى ، وعيّن غيره بعد مماته ، وجعل له مقدارا متعارفا ، فالإنصاف أنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّه بنظر العرف وقف على نفسه ، فكأنّه جعل نفسه موقوفا عليه ، وإن كان بحسب الظاهر يقال : إنّه حقّ التولية ، ولكن في مقام اللبّ ليس بإزاء إتعابه في إصلاح شؤون الوقف وإدارة أموره.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عمدة دليل بطلان الوقف على النفس هو الإجماع كما تقدّم ، ولا شكّ في أنّه ليس إجماع في مثل المقام ، بل القائلين بصحّة مثل هذا المقدار للمتولّي كثير ، إن لم يكن من القائلين بالبطلان أكثر.

ص: 267

أو يقال : بأنّه من باب استثناء هذا المقدار من المنافع مدّة حياة المتولي عن الوقف ، فلا إشكال من ناحية الوقف على النفس أصلا.

وأمّا من ناحية الاستثناء ، فالظاهر أنّه أيضا لا إشكال فيه ، لأنّ مرجع استثناء هذا المقدار في تلك المدّة عدم تعلّق الوقف بهذا المقدار من ثمرة الوقف في مدّة حياة ذلك المتولّي. ولا مانع من هذا لا عقلا ولا شرعا ، بل لو استثنى في ضمن إجراء الصيغة مقدار مئونته ما دام حيّا من منافع الوقف ، لا إشكال فيه ، لأنّ الوقف تعلّق بما عدا هذا المقدار.

ولذلك يجوز وقف العين باعتبار بعض منافعها ، ويبقى الباقي في ملك الواقف ، مثلا يجوز وقف الشاة لأن يعطي لبنها للأطفال الرضع ، ويبقى سائر منافعها للواقف ، وكذلك البستان باعتبار ثمرة نخيلها ، فتبقى منافعها الأخر للواقف.

وصحّة هذا القسم من الوقف - بناء على كونه عبارة عن صرف حبس الأصل عن التقلّبات في عالم التشريع ، وجعل ثمرته للموقوف عليهم - لا إشكال فيه ، لأنّ هذه الاستثناءات تدلّ على أنّ الثمرة المجعولة للموقوف عليهم ما عدا هذا المقدار ، كما هو شأن كلّ استثناء في كلّ مقام ، وهو أنّ حكم المستثنى منه يشمل ما عدا مقدار المستثنى.

وأمّا بناء على أنّه عبارة عن تمليك الموقوف عليهم للعين الموقوفة ، ربما يتوهّم : أنّه كيف يمكن أن تكون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين ، فباعتبار بعض المنافع تكون ملكا للموقوف عليهم ، وباعتبار بعض آخر تكون ملكا للواقف.

ولكن جوابه : أنّه يمكن أن يكون الأصل بتمامه ملكا للموقوف عليهم فاعتبار ذلك البعض من المنافع ، ويكون من قبيل ما لو آجر الملك قبل الوقف باعتبار بعض الثمرة ، كما لو آجر البستان باعتبار بعض ثمرته ، فأوقفه باعتبار بعض الآخر ، فيصير البستان ملكا للموقوف عليهم ، ولكن مجرّدا عن بعض المنافع. وأمّا لو كان مجرّدا عن جميع المنافع دائما أبدا فاعتبار التمليك لغو.

ص: 268

وأمّا ما ذهب بعض الأساطين 5 من مقاربي عصرنا إلى صحّة كون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين - بأنّ تمام العين من دون شركة الآخر ملكا لهذا ، وكذلك تمام العين يكون ملكا للآخر ، غاية الأمر ملكيّة كلّ واحد منهما لتمام العين باعتبار بعض منافعها غير بعض الآخر - فلا يخلو عن غرابة.

وأمّا لو وقف على العناوين العامّة ، كالمساجد على المصلّين ، والقناطر لكافة المسلمين بل لكافّة العابرين ، والخانات لكافّة المسافرين ، أو المدارس الدينيّة لكافّة طلاّب العلوم الدينيّة الإسلامية ، وكان مصداقا لأحد هذه العناوين ، فلا إشكال في أنّ هذا ليس من الوقف على النفس لو انتفع بها ، لأنّه كسائر مصاديق هذه العناوين ، فحاله حالهم.

وذلك من جهة أنّ الوقف على الجهة ليس من قبيل الوقف على الطبيعة السارية كي يكون كلّ فرد منها موقوفا عليه ، فيكون بالنسبة إلى حصّة الواقف من قبيل الوقف على النفس ، وذلك لو وقف على السادات أو الفقهاء أو الفقراء وكان هو منهم ، فشموله لنفسه ربما يقال إنّه من قبيل الوقف على النفس ، والوقف على إمام مسجد يكون هو إمامه حين الوقف أو إذا صار بعد الوقف يكون من هذا القبيل ، لأنّ إمام المسجد عنوان عامّ هو أحد مصاديقه ، غاية الأمر في كلّ زمان فرده منحصر بواحد غالبا.

وكذلك الوقف على أفقه البلد ، أو الأفقه بقول مطلق ، وكان هو مصداقه حين الوقف ، أو صار بعد ذلك من هذا القبيل.

وأمّا الفرق بين كونه كذلك حين الوقف في الفرعين - أي : مسألة الوقف على إمام المسجد ، ومسألة الوقف على الأفقه وأنّه صار مصداقا لذلك العنوان بعد الوقف - بالصحّة في الثاني دون الأوّل ، فلا وجه له أصلا ، والمسألة خلافيّة ، ولكن الأظهر عندي هو صحّة هذا الوقف وفاقا للمشهور.

ص: 269

أمّا أوّلا : فلأنّ الموقوف عليه هو العنوان ، وصرف قابليّته للتطبيق على نفسه لا يوجب صيرورته موقوفا عليه. وذلك كما أنّه لو باع صاعا من هذه الصبرة - مثلا - فالمبيع قابل للانطباق على كلّ واحد من صيعان الموجودة فيها ، ومع ذلك ليس شي ء من الصيعان - بعد تفرّقها في الخارج وانقسامها إلى صيعان منفصلة - مبيعا إلاّ بعد التطبيق وإقباضه للمشتري ، وإلاّ قبل القبض تعيّن أحدها لمعيّن ترجيح بلا مرجّح.

وأحدها غير المعيّن غير معقول ، لأنّ الصيعان الموجودة كلّ واحد معيّن وجميعها يكون مبيعا ، لأنّ قابليّة الانطباق في الجميع خلاف الفرض ، إذ المفروض أنّ المبيع صاع واحد ، فلا مناص إلاّ القول بأنّ قبل القبض كلّ واحد منها ليس مبيعا ، وبالقبض يتحقّق صفة المبيعيّة.

ففيما نحن فيه تمليك الثمرة للعنوان ، ولا يصير ملكا لنفس الواقف الذي مصداق إلاّ بعد ، فهو ليس بنفسه موقوفا عليه.

وثانيا : قلنا إنّ بطلان الوقف على نفسه لا دليل عليه إلاّ الإجماع ، والإجماع مع ذهاب المشهور إلى جواز انتفاعه من الوقف إذا وقف على عنوان الفقهاء الفقراء أو ما يشابههما إذا كان هو من مصاديق تلك العناوين.

مسألة :

إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج ، فيه أقوال :

قول بصحّة الوقف والشرط جميعا ، فيرتّب عليه آثار الوقف ما دام لا يحتاج إليه ، وعند الاحتياج يعود إلى ملكه. وحكى عن المرتضى قدس سره (1) دعوى الإجماع على هذا القول ، وادّعى بعضهم أنّ هذا هو قول الأكثر ، وعن جماعة بطلان الوقف والشرط ، وحكى عن ابن إدريس (2) دعوى الإجماع على ذلك.

ص: 270


1- « الانتصار » ص 226.
2- « السرائر » ج 3 ، ص 156 و 157.

وقول بصحّته حبسا لا وقفا ، وصحّة الشرط أيضا. وبه قال في الشرائع (1).

والأقوى هو القول الأوّل بناء على عدم كون التأبيد داخلا في ماهيّة الوقف ، وهو واضح ، وإلاّ فالقول الثالث الذي قال به في الشرائع ، وذلك من جهة أنّ التأبيد لو كان شرطا في تحقّق ماهية الوقف ، فحيث أنّ مرجع هذا الشرط إلى عدم التأبيد ، فلا يقع الوقف قطعا ، فيدور أمره بين البطلان بالمرّة ، أو وقوعه حبسا.

فإن قلنا : بأنّ الوقف والحبس حقيقتان مختلفتان ، فيكون باطلا بالمرّة ، لأنّ الذي قصده الواقف - وهو الوقف - لم يقع ، لعدم التأبيد ، والحبس أيضا لا يقع ، لأنّ العقود تابعة للقصود ولكن حيث قلنا بأنّهما حقيقة واحدة - غاية الأمر الفرق بينهما بخصوصيّة زائدة على الماهيّة والحقيقة ، بل تكون تلك الخصوصيّة من العوارض المصنّفة وهي التأبيد - فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، لعدم كونه مخالفا لمقتضى العقد ولا للكتاب والسنّة ، لأنّ عود الملك إلى الحابس ليس مخالفا للكتاب ، ولا الحبس يقتضي عدمه.

فالعمدة في المقام هو أنّ التأبيد داخلا في حقيقة الوقف وتحقّق ماهيّته ، أم لا؟

فإن لم يكن داخلا في حقيقة الوقف فيصحّ الوقف والشرط ، كما ذهب إليه المشهور ، لأنّه قصد الوقف ، وشرط رجوعه إليه عند الحاجة مناف لإطلاق عقد الوقف لا له مطلقا ، فلا مانع من صحّة الوقف والشرط جميعا.

وأمّا إن كان داخلا في حقيقة الوقف ، وكان الوقف والحبس حقيقتين مختلفتين ، فلا يقع شي ء منهما. وهو القول الثاني الذي ذهب إليه ابن إدريس وادّعى عليه الإجماع.

وأمّا إن كانا حقيقة واحدة مع اعتبار التأبيد في الوقف شرعا في تحقّق الوقف ، فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، وهو قول صاحب الشرائع.

ص: 271


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 217.

ثمَّ إنّه لمّا رجّحنا فيما تقدّم في شروط صحّة الوقف اعتبار التأبيد ، فلا يمكن الموافقة مع قول المشهور. ولمّا رجّحنا أنّ الوقف والحبس حقيقة واحدة ، فلا بدّ - بناء على ما رجّحنا - من الذهاب إلى ما قاله في الشرائع من صحّة الشرط ووقوعه حبسا.

هذا بحسب القواعد.

وهناك روايتان تمسّك كلّ واحد من الطرفين من القائلين بالصحّة والبطلان بهما :

أحدهما : خبر إسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يتصدّق ببعض ماله في حياته في كلّ وجه من وجوه الخير قال : إن احتجت إلى شي ء من المال فأنا أحقّ به ، ترى ذلك له وقد جعله لله يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا أو يمضي صدقة؟ قال علیه السلام : « يرجع ميراثا على أهله » (1).

الثاني : قوله علیه السلام : « من أوقف أرضا ثمَّ قال : إن احتجت إليها فأنا أحقّ بها ثمَّ مات الرجل ، فإنّها ترجع إلى الميراث » (2).

ويروي هذا الخبر في المستدرك عن دعائم الإسلام بدل « أرضا » « وقفا » ، وبدل « ترجع إلى الميراث » « رجع ميراثا » (3) والمعنى واحد.

والظاهر أنّ الثلاثة خبر واحد ، فتارة نقل مسندا ، وأخرى نقل مرسلا.

وعلى كلّ حال الذي يستدلّ بها على بطلان الوقف يقول قوله علیه السلام : « ترجع إلى الميراث » أو « رجع ميراثا » أو « يرجع ميراثا على أهله » كلّها تدلّ على عدم صحّة هذا الوقف وبطلانه ، لأنّ الوقف لا يرجع ميراثا إلى أهله ، وباق إلى أن يرث اللّه

ص: 272


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 146 ، ح 607 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 54 ، وكذلك ، ج 9 ، ص 135 ، ح 568 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 297 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 3 ، ح 3.
2- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1288 ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.
3- « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 47 ، أبواب كتاب الوقوف والصدقات ، باب 2 ، ح 3.

السماوات والأرضين وما فيهما.

والذي يستدلّ بها على صحّة الوقف والشرط جميعا يقول : إنّ ظاهر « يرجع » أو « رجع » هو الدخول ثانيا بعد خروجها.

فظاهر هذه الروايات هو خروج ما وقف بالوقف ثمَّ رجوعه إليه بالشرط لاحتياجه إليه في حياته ، فتدلّ على صحّة الشرط أيضا ، فإذا رجع إليه ومات عنه فطبعا يكون ميراثا إلى أهله بقواعد الإرث وأدلّته ، وإسناد الرجوع إلى الميراث من باب أنّ الميراث معلول لرجوعه إليه بالشرط ، فأسند الرجوع إلى المعلول باعتبار رجوع علّته ، فيكون من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.

والإنصاف : هو أنّ الثاني أصح ، لأنّه علیه السلام بعد قول السائل : « يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا » ، فكأنّه فرّع كونه ميراثا بعد هلاك الرجل على كونه له في حياته ، فجوابه علیه السلام بأنّه يرجع ميراثا ظاهر في تصديقه علیه السلام له في هذا التفريع ، وأنّه يكون له في حياته.

ومعلوم أنّ كونه له في حياته لازم صحّة الشرط ، وصحّة الشرط ملازم مع صحّة الوقف.

إن قلت : كونه له في حياته يمكن أن يكون من جهة بطلان الوقف ، لا من جهة صحّة الشرط.

قلت : إن لفظ « الرجوع » ظاهر في العود إليه بعد الخروج عن ملكه ، فلا يمكن أن يكون له لبطلان الوقف ، لأنّه مع بطلان الوقف يكون له من أول الأمر ، ويكون ميراثا من أول الأمر بعد هلاكه ، لا أنّه يرجع ميراثا.

وأمّا ما قيل : من أنّ ظهور الخبرين وإن كان في البطلان وعدم صحّة مثل هذا الوقف مع مثل هذا الشرط ثابتا ، إلاّ أنّه علیه السلام حكم بالفساد والبطلان من جهة قصة الواقف أن يكون هو الموقوف عليه إنّ احتاج ، ومعلوم أنّ مثل هذا الوقف وقف على

ص: 273

النفس وباطل ، لكنّه لا ربط له بمحلّ كلامنا ، مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر هذه الروايات.

ينفيه : قوله علیه السلام : « يرجع ميراثا » لما بيّنّا من أنّ الرجوع هو العود بعد الخروج ، وهذا لا يلائم مع ما قال.

وأمّا اعتذاره عن هذا : أنّه بملاحظة قصده الوقف وعقده عليه - وان الوقف ممّا يخرج - فعجيب.

وأمّا ما أوردوا على صحّته وقفا :

منها : أنّه خلاف مقتضى عقد الوقف.

وأجبنا عنه : أنّه خلاف اقتضاء إطلاق العقد ، لا أنّه خلاف مقتضى العقد مطلقا.

ومنها : أنّه خلاف اشتراط الدوام في الوقف.

وأجبنا عنه : أنّ اشتراط الدوام على فرض تماميّته هو الدوام في مقابل التوقيت ، كأن يقول : وقفت هذا سنة ، أو أزيد ، أو أقلّ.

ومنها : أنّه يرجع إلى الوقف على النفس.

وفيه : أنّه في الحقيقة شرط زوال الوقف ، لا أن يكون الوقف باقيا ، ويكون هو الموقوف عليه.

ومنها : التعليق وأنّ التعليق في العقد موجب لبطلانه إجماعا.

وفيه : أنّ دعوى الإجماع في مورد الخلاف لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، مضافا إلى أنّ العقد لا تعليق فيه ، وإيقاع الوقف منجّز لا تعليق فيه ، وإنّما الشرط أثره رفع الوقف لا تعليقه ، فلا تعليق ، لا في الإنشاء ولا في المنشأ.

ص: 274

المطلب الثالث : في شرائط الموقوف

وهي أن يكون عينا مملوكا يمكن الانتفاع بها مع بقائه ، وأن يكون لها البقاء مدّة معتدّة بها ، وأن يكون نفعه محلّلا ، وأن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير ، بحيث يكون ذلك الحقّ مانعا عن التصرّف فيها ، وأن تكون ممّا يمكن إقباضها.

أمّا الشرط الأوّل : فلأنّه لو كان منفعة ، فلا يمكن تحقّق حقيقة الوقف الذي هو عبارة عن حبس الأصل وتسبيل ثمرته ، لأنّ تسبيل الثمرة ينطبق على نفس أصل الموقوف الذي هي المنفعة ، فلا يبقى له أصل حتّى يحبس.

فبناء على هذا الشرط لا يصحّ وقف المنافع ، كمنفعة الدار أو الدكان أو الخان التي ملكها بالإجارة ، وإن كانت لمدّة طويلة.

وأيضا لا يصحّ أن يكون دينا في ذمّة غيره ، كما لو كان له شيئا في ذمّة غيره.

وأيضا لا يصحّ أن يكون كلّيا في ذمّة نفسه.

والوجه فيهما أيضا عدم صحّة اعتبار الحبس ولو في عالم الاعتبار ، لأنّ الكلّي في ذمّة غيره أو في ذمّة نفسه ، حيث أنّه غير معيّن ، فلا معنى لحبسه وتسبيل ثمرته.

وقياسه على صحّة وقوع البيع والصلح عليه لا وجه له ، وذلك من جهة أنّ تلك النواقل الشرعيّة مفادها نقل ما في ذمّته إلى الغير ، فيملك ذلك الغير في ذمته ذلك الكلّي ، أو نقل ما يملكه في ذمّة الغير إلى غيره ، ولا يتصور مانع في كلا الفرضين ، بخلاف الوقف ، فإنّ تحقّقه موقوف على حبس شي ء تكون له ثمرة وتسبيل ثمرته ، ومثل ذلك في الكلّي الذي في ذمّته أو يملكه في ذمّة غيره ليس له اعتبار عقلائي.

وإن شئت قلت : كما أنّه لا يحبس الكلّي وطبيعة صرف وجود الإنسان مثلا في الحبس التكويني ، كذلك يكون الأمر في الحبس التشريعي. وإن أبيت إلاّ عن إمكانه وعدم وجود مانع في البين ، ففي الإجماع غنى وكفاية ، حيث أنّ عدم صحّة الوقف

ص: 275

الكلّي بقسميه - أي سواء أكان في ذمّته ، أو في ذمّة غيره - إجماعيّ لا خلاف فيه.

وأمّا الشرط الثاني : أي كونه مملوكا ، لأنّ غير المملوك إمّا لأنّه ليس ممّا يملك ، كالخنزير وكلب الهراش ، لأنّه ليس له منفعة يسبله. وإمّا من جهة أنّه ملك غيره ، فتصرّفاته فيه غير نافذة.

وأمّا مسألة الفضولي فقد تقدّم الكلام فيه.

وأمّا الشرط الثالث : أي يمكن الانتفاع بها مع بقائها ، فلو كان من المأكولات والمشروبات حيث أنّ الانتفاع بها بإتلافها أكلا أو شربا ، فلا يصحّ وقفها ، لعدم تصوير حبس العين فيها مع تسبيل ثمرتها ، وهذا واضح جدّا.

وأمّا الشرط الرابع : وهي أن يكون له البقاء مدّة معتدّة بها ، من جهة عدم صدق تحبيس الأصل وتسبيل ثمرته مع عدم بقاء مدّة معتدّة بها ، فلا يصدق هذا المعنى على وقف الورد للشمّ ، لعدم بقائه مدّة يصدق عليه حبس الأصل وتسبيل ثمرته عرفا.

وأمّا الشرط الخامس : أي كانت للعين الموقوفة منفعة محلّلة ، كي يصدق عليه التسبيل ، خصوصا إذا كان صحّة الوقف مشروطا بقصد القربة ، فإذا كانت المنفعة التي يقفها لأجل تسبيل تلك المنفعة محرّمة ، فيكف يتقرّب بمثل هذا الوقف إلى اللّه ، وكيف يقال : إنّ الواقف سبلها في سبيل اللّه تعالى؟ وهذا الأخير بناء على ما استظهرنا من التسبيل أنّ المراد من هذه الكلمة جعلها في سبيل اللّه تعالى.

وأمّا الشرط السادس : وهو أن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير المانع عن التصرّف. ووجه هذا الاشتراط واضح ، لأنّه إذا كانت العين لا يجوز التصرّف فيها ببيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك بواسطة كونها متعلّقا لحقّ الغير ، كالعين المرهونة ، أو الأعيان التي تركها الميّت مع كون دينه مستوعبا لتمام التركة ، فبناء على الانتقال إلى الورثة ولكن متعلّقة لحقّ الديّان ، وكالأموال غير المخمّسة أو غير المزكّاة بناء على كونها متعلّقة لحقّ السادات أو لحقّ الفقراء وأمثال المذكورات.

ص: 276

فكما أنّ سائر النقل والانتقالات والتقلّبات الشرعيّة لا يجوز - وعلى فرض إيجاد المالك لها تكون غير ممضاة من قبل الشارع ، فيكون باطلا - فكذلك الوقف ، مضافا إلى أنّ الوقف - بناء على ما ذكرنا - يحتاج إلى قصد القربة ، وكيف يتقرّب بما هو ممنوع شرعا؟ نعم بعد ارتفاع المنع من التصرّف كما إذا فكّ الرهن - مثلا - أو أجاز المرتهن فلا مانع من وقفه ، وهذا واضح.

وأمّا الشرط السابع : أي كونه ممّا يمكن إقباضه ، لأنّه بناء على أن يكون القبض من شرائط صحّة الوقف فواضح ، فإنّ المشروط لا يتحقّق بدون شرطه. وأمّا بناء على أنّه شرط اللزوم - كما رجّحناه - فلأنّه لو لم يمكن إقباضه - كالطير في الهواء الشارد من عنده ولا يمكن إعادته ، أو الحيوان الآخر النافر الذي لا يمكن قبضه عادة ، أو العبد الآبق الذي حصل اليأس من عوده أو وجدانه أو التغلب عليه وأمثال ذلك - يكون تسبيل ثمرته لغوا بل لا ثمرة له كي يسبل.

تنبيه :

ما ذكرنا في الشرط الخامس أنّه لا بدّ وأن يكون للعين الموقوفة منفعة محللة كي يكون التسبيل بلحاظها ، لا يلزم أن تكون تلك المنفعة لها فعلا ، بل يكفي في صحّته كونها لها ولو بعد مدّة. فلو وقف بستانا غرس فيه النخيل ، وهي صغار لا تحمل إلاّ بعد سنين ، فهذا الوقف صحيح باعتبار تلك المنافع التي لها قوّة الوجود ، وإن كان وجودها بعد عشر سنين مثلا ، وهكذا الحال في سائر الموارد.

المطلب الرابع : في شرائط الواقف

قال في الشرائع : ويشترط فيه البلوغ ، وكمال العقل ، وجواز التصرّف (1).

ص: 277


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 213.

ولكنّ الأولى أن يقال : ويشترط في الواقف أن يكون جائز التصرّف ، وأن يكون مختارا غير مكره عليه ، لأنّ البلوغ وكمال العقل مندرج في جواز التصرّف ، فيتفرّع على جواز التصرّف أن يكون بالغا ، لأنّه لا يجوز أمر الصبيّ حتّى يحتلم ، وأن لا يكون مجنونا ، لأنّه لا يجوز أمره حتّى يفيق ، وأن لا يكون محجورا عليه بفلس أو سفه ، وأن لا يكون عبدا بدون إذن مولاه ، لعدم نفوذ أمر العبد بدون إذن مولاه ، وهو بنفسه ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) و ( كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ) .

ويتفرّع على اشتراط الاختيار أن لا يكون في وقفه مكرها مع عدم لحوق الرضا أوّلا : للإجماع ، وثانيا : لحديث الرفع (1) ، كما أنّ الإكراه مع عدم لحوق الرضا موجب لبطلان سائر عقوده وإيقاعاته كبيعه وهبته وصلحه وطلاقه وعتقه ، وذلك كلّه للإجماع المحصّل الذي لم يخالف أحد ولحديث الرفع ، ولأنّه « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (2).

ولا شكّ في أنّ صدور الوقف عن المالك مع الإكراه وعدم لحوق الرضا به مرجعه إلى أنّ أكل الموقوف عليه لماله يكون من غير طيب نفسه. وأمّا بناء على ما قاله الشهيدان بل العلاّمة 5 (3) من عدم قصد المكره إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فالأمر أوضح.

هذا فيما إذا لم يلحقه الرضا ، وأمّا فيما لحقه الرضا ، فإن كان وجه فساد عقد المكره وإيقاعه عدم القصد إلى وقوع مضمونه في الخارج - وأنّ العقود تابعة للقصود ، ففيه : أنّ القصد المعتبر في العقود هو أن يكون قصدا لإنشاء المعنى باللفظ ، فإن كان المراد

ص: 278


1- « الكافي » ج 2 ، ص 335 ، باب ما رفع عن الأمة ، ح 2 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 59 ، ح 132 ، باب : فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه ، ح 4 ، « الخصال » ص 417 ، ح 9 ، رفع عن هذه الأمّة تسعة أشياء ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1284 ، أبواب قواطع الصلاة ، باب 37 ، ح 2.
2- الطوسي في « الخلاف » ج 3 ، ص 410 ، مسألة : 23 ، « سنن الدار قطني » ج 3 ، ص 26 ، ح 91 ، « مسند أحمد » ج 5 ، ص 72 ، « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 100 ، باب : من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا.
3- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 428 ، فيما يشترط في الواقف.

من نفي القصد هذا المعنى في عقد المكره فهو.

وإن كان لحوق الرضا فيما بعد لا يجعل العقد الواقع بدون قصد إنشاء المعنى عقدا مقصودا ، فيكون العقد باطلا ، لما ذكرنا من أنّ العقود تابعة للقصود.

ولكن هذه الدعوى باطلة ليس لها أصل ، لأنّ المكره أيضا مثل المختار يقصد إنشاء المعنى باللفظ ، غاية الأمر أنّه ليس له طيب النفس بوقوع مضمون العقد في عالم التشريع ، وإن كان مراده هذا المعنى الذي ذكرناه من عدم قصده ، فهذا لا يضرّ بصحّة العقد بعد حصول الرضا وطيب النفس.

وأمّا احتمال اعتبار مقارنة الرضا وطيب النفس لحال الإنشاء لا دليل عليه ، بل الإطلاقات كقوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) و « لا يحلّ مال امرء مسلم » تدلّ على خلافه ، فأيّ وقت لحق بالمعاملة الرضا يصدق عليها أنّها تجارة عن تراض ، وأنّها عن طيب النفس ، فلا وجه لبطلان وقف المكره إذا لحقه الرضا كسائر معاملاته.

ثمَّ إنّ ها هنا وردت روايات على صحّة وقف الصبيّ الذي بلغ عشرا ، وكذلك وصيّته وعتقه ، وهي :

الأوّل : خبر زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إذا أتى على الغلام عشر سنين ، فإنّه يجوز في ماله ما أعتق ، أو تصدّق ، أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز » (2).

الثاني : خبر جميل بن درّاج ، عن أحدهما علیهماالسلام قال : « يجوز طلاق الغلام إذا كان

ص: 279


1- النساء (4) : 29.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 28 ، باب : وصية الغلام والجارية التي لم تدرك وما يجوز منها وما لا يجوز ، ح 1 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 197 ، ح 5451 ، باب : الحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 181 ، ح 729 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 1.

قد عقل ، وصدقته ، ووصيّته وإن لم يحتلم » (1).

الثالث : رواية الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سأل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم؟ قال : « نعم إذا وضعها في موضع الصدقة » (2).

ودلالة هذه الروايات على صحّة وقف الصبيّ إذا بلغ عشر سنين متوقّف على أن يكون المراد من التصدّق والصدقة خصوص الوقف ، أو المعنى الأعمّ من الوقف والصدقة بالمعنى الأخصّ ، وإلاّ لو كان المراد خصوص الأخير فلا دلالة فيها على المدّعى في هذا المقام ، وهو صحّة وقف الصبي الذي لم يبلغ مطلقا ، أو خصوص البالغ عشرا منهم.

وظهور لفظ الصدقة في خصوص الوقف أو في الأعمّ لا دليل عليه ، بل ظاهره بواسطة القرائن المذكورة فيها - من قوله علیه السلام : « على حدّ معروف وحقّ » في الأوّل ، ومن قوله علیه السلام : « قد عقل » في الثاني ، ومن قوله علیه السلام : « إذا وضعها في موضع الصدقة » في الثالث هو خصوص الصدقة بالمعنى الأخصّ ، الذي هو إعطاء مال لمؤمن بقصد القربة ، فلا مخصّص لعمومات عدم جواز أمر الصبي حتّى يحتلم بالنسبة إلى الوقف ، لأنّه من قبيل الشكّ في التخصيص ، فيتمسّك بأصالة العموم.

نعم لمّا وردت أخبار معمولة بها في نفوذ وصيّته ، فلو أوصى بالوقف ينفذ.

ثمَّ إنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، بل يجوز وقف الكافر وإن قلنا باشتراط قصد القربة فيه ، لتمشية منه. نعم الذي لا يعتقد - العياذ باللّه - بوجود إله العالم ، خالق السماوات والأرضين ، وينكر وجود صانع حكيم ، فقصد القربة لا يتمشّى

ص: 280


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 733 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 2.
2- « تهذب الأحكام » ج 9 ، ص 182 ، ح 734 ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 321 ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب 15 ، ح 13.

منه ، لأنّ مثل هذا الرجل لا يعتقد بوجود شخص يتقرّب إليه بوقفه.

نعم يمكن أن يكون وقفه لعطفه ورأفته على الفقراء والضعفاء ، وهذا غير قصد القربة.

ثمَّ إنّه تقدم أنّه للواقف جعل المتولّي والناظر للوقف نفسه أو غيره ، وفي كليهما يجوز استقلالا واشتراكا ، وذلك لقوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ».

وحاصل الكلام : أنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، فيصحّ وقف الكافر إذا كان واجدا لشرائط صحّة الوقف والموقوف والموقوف عليه والواقف إذا كان الموقوف من المسلمين.

وأمّا إذا لم يكن من المسلمين فلا يشترط في صحّة وقفه بعض ما كان شرطا للموقوف فيما إذا كان الواقف مسلما ، كأن يكون للموقوف منفعة محلّلة ، فيجوز أن يقف الخنزير مثلا على أهل ملّته.

وهكذا لا يشترط في وقفه بعض ما يشترط في الموقوف عليه إذا كان الواقف مسلما ، كأن لا يكون الوقف عليه محرّما ، مثل الوقف على بيوت النيران ، ويجوز إذا كان الواقف مجوسيّا ، وكذلك يجوز على البيع والكنائس إذا كان نصرانيا.

المطلب الخامس : في شرائط الموقوف عليه

والمشهور أنّها أربعة :

الأوّل : أن يكون موجودا.

الثاني : أن يكون معيّنا.

الثالث : أن يكون ممّن تصحّ تملّكه.

ص: 281

الرابع : أن لا يكون الوقف عليه محرّما.

أمّا [ الشرط ] الأوّل : وهو أن يكون موجودا ، فلأنّ الشيخ قدس سره ادّعى الإجماع عليه في المبسوط. (1) وقال في الجواهر : ولأنّ الوقف يقتضي تمليك الموقوف عليه للمنفعة وحدها ، أو هي مع العين ، والمعدوم ليس قابلا للتمليك (2).

أقول : إنّ ما ادّعاه في الجواهر - من اقتضاء عقد الوقف تمليك الموقوف عليه للعين الموقوفة مع منفعتها ، أو خصوص منفعتها ، وأنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك - فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : فهو كوقف المسجد وأنّه ليس تمليكا لأحد ، بل هو فكّ ملك كالعتق ، وعلى كلّ حال يأتي الكلام فيه مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الكبرى : وهو أنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك ، ففيه : أنّ الملكيّة من الأمور الاعتباريّة ، وليست من الأعراض الخارجيّة كي لا يمكن أن توجد قبل وجود موضوعه ولو كان آنا من الآنات ، وذلك لأنّ العرض ليس لوجوده استقلال ولو كان آنا واحدا ، لأنّ وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه.

وإن شئت قلت : إنّ العرض في جوهر ذاته بحسب الوجود أمر ناعتي ، ففرض الاستقلال لوجوده ولو كان بآن خلف. وأمّا الملكيّة أمر اعتباري عرفا أو شرعا ، لا وجود لها في الخارج أصلا ، وكما يمكن اعتبارها لشخص موجود ، كذلك يمكن اعتبارها لشخص معدوم فعلا ولكن سيوجد.

نعم لو فرضنا أنّه لا يوجد أصلا فالاعتبار له لغو ، ولا يساعد على اعتبارها في هذه الصورة لا الشرع ولا العقلاء والعرف ، وخصوصا في المعدوم بالمعنى الذي يشمل الحمل ، فإنّه واقعا بل في بعض الصور تامّ الخلقة سوى فيه الروح وتمام الأعضاء.

ص: 282


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 292 و 293.
2- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 27.

وحاصل الكلام : أنّ الأمر الاعتباري تحقّقه في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده الاعتبار ، ولا دخل في الوجود الفعلي لمن يعتبر له فيه.

هذا ، مضافا إلى ورود نقوض كثيرة على من ينكر إمكان تمليك المعدوم والذي سيوجد :

منها : مسألة الوقف على البطون المتتالية ، بناء على تمليك كلّهم حال إجراء العقد الصحيح ، فإنّ الواقف ينشأ ملكيّة الجميع في ذلك الحال ، غاية الأمر أنّ فعليّة الملكيّة لكلّ بطن في ظرف وجود ذلك البطن ، كما هو شأن جعل الأحكام الشرعيّة بطور القضايا الحقيقيّة في جميع الموارد ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة.

ومنها : أنّهم جوّزوا الوقف على أولاده الموجودين ومن يوجد بعد ذلك ، والكلام في تصحيحه كما ذكرنا في تصحيح الوقف على البطون ، وموارد أخر ، فلا نطول الكلام.

فالإنصاف : أنّ عمدة مدرك هذا الاشتراط هو الإجماع المدّعى في المبسوط (1) ، فإن تمَّ فهو ، وإلاّ فلا موجب لهذا الشرط.

وما ذكروه في هذا المقام من عدم قابليّة المعدوم للتمليك ، أو عدم الدليل على صحّة مثل هذا الوقف ، أو فساده ، كلّها لا يرجع إلى محصّل.

أمّا الأوّل : فقد عرفت إمكانه بل وقوعه. وأمّا الثاني : فلإطلاقات أدلّة الوقف.

وأمّا الثالث : فلحكومة الإطلاقات عليها.

وأمّا الشرط الثاني : وهو أن يكون الموقوف عليه معيّنا لا ترديد فيه ، كأن يقول : وقفت هذه الدار على أخي أو ابني ، أو يقول : على أحد أولادي ، ولكنّه يمكن أن يكون بين المثلين فرق بأنّه في الأوّل الموقوف عليه بحسب الواقع مردّد بين الأخ والابن ، ولكن في الثاني مفهوم أحد أولادي قابل للانطباق على كلّ واحد منهم ، فكلّ واحد

ص: 283


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 292.

يجوز أن يتصرّف فيه بنحو الاستقلال لا بنحو التشريك ، فإذا سبق أحدهم فقد تصرّف فيما هو له وليس ضامنا للآخرين ، وإذا صار بينهم تشاحّ فالمرجع هي القرعة.

وعلى كلّ الدليل على اعتباره هو الإجماع ، فإن ثبت فهو ، والاّ فالدليل العقلي الذي تمسّكوا به فغير تامّ ، وهو عدم إمكان تمليك المبهم المردّد ، لما عرفت أنّ الملكيّة أمر اعتباريّ ، وليس من العوارض الخارجيّة التي تستدعي في الخارج موضوعا معيّن غير مبهم ، فهي قابلة لأن تتعلّق بأحد الشخصين أو إحدى الطائفتين.

وليس أمر هذا الأمر الاعتباري أعظم من العلم الإجمالي الذي هو صفة خارجيّة وموجود واقعي محمول بالضميمة ، ومع ذلك يتعلّق بالمردّد ، وكما أنّه بناء على صحّة تزويج إحدى بناته ، أو طلاق إحدى زوجاته ، أو عتق أحد عبيده يستخرج ذلك الأمر المبهم المردّد بالقرعة ، فكذلك يتعيّن الموقوف عليه بالقرعة.

وأمّا الشرط الثالث : وهو أن يكون الموقوف عليه ممّن يصحّ تمليكه ، فلو لم يكن قابلا للتملك فلا يصحّ تمليكه ، لأنّ صحّة التمليك متوقّف على قابليّة الطرف للتملّك ، وإلاّ فالتمليك بدونها غير ممكن ، فالكافر الحربي حيث أنّ الشارع لم يمض كونه مالكا فالوقف عليه باطل ، بناء على أنّ الوقف تمليك وإن كان من جهات أخر لا يجوز الوقف عليه.

وعلى كلّ حال ، فالبحث ها هنا عن أنّ الوقف هل هو مشروط بكون الموقوف عليه قابلا لتمليكه العين الموقوفة أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّه قابل أو ليس بقابل.

وأمّا البحث عن أنّ العبد أو المرتدّ الفطري قابل أو ليس بقابل ، فهو خارج عن محلّ كلامنا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لو كان حقيقة الوقف هو التمليك ، أو كان التمليك من لوازم طبيعة الوقف شرعا ، فاعتبار هذا الشرط في محلّه ، إذ التمليك بدون التملّك لا يعقل. وأمّا إذا لم يكن التمليك من لوازم الوقف - بل كان التمليك في بعض أقسام الوقف من

ص: 284

أحكام ذلك القسم شرعا - فلا وجه لاعتبار هذا الشرط ، إلاّ ادّعاء الإجماع ، فإن ثبت فهو وإلاّ فلا. وسنتكلم في هذه المسألة وأنّ الوقف حقيقته التمليك ، أو ملازم معه ، أو ليس شي ء منها فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الشرط الرابع : وهو أن لا يكون الوقف عليه محرّما ، وذلك كالوقف على الملاهي ، وأن يصرف في المعاصي ، وطبع كتب الضلال واستنساخها ، وأن يعطى لمن يرد على المذهب ويوقع الشبهات في قلوب المؤمنين ، وكالوقف على مبلّغي الأديان الباطلة ومروّجي العقائد الفاسدة.

واعتبار هذا الشرط بناء على اشتراط قصد القربة في تحقّق الوقف واضح ، إذ لا يمكن قصد القربة بما هو محرّم ومبغوض ، وبناء على عدم الاشتراط أيضا لا يصحّ الوقف على من يكون الوقف عليه محرّما ، لأنّ مثل هذا الوقف مبغوض عند الشارع ، وما هو مبغوض عنده لا يمضيه قطعا ، والمعاملات صحّتها تحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ فمقتضى الأصل في جميع المعاملات هو الفساد.

ولذلك قلنا في دلالة النهي في المعاملات على الفساد أنّه ذلك فيما إذا كان متعلّقا بالمعنى الاسم المصدري ، لأنّه حينئذ تكون المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أي أثر العقد مبغوضا ، فلا يقع الإمضاء عليه ، فيكون باطلا.

إذا ظهر لك ما ذكرنا ، تعرف أنّ أغلب الفروع التي ذكرها الفقهاء في هذا المقام يرجع البحث فيها إلى صغريات هذا الشرط :

منها : عدم جواز الوقف على الكفّار ، أو جوازه مطلقا ، أو التفصيل بين الحربي والذمّي ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني.

ومنها : جوازه على الكنائس والبيع وعدم جوازه.

ومنها : جواز الوقف على استنساخ وطبع الكتب السماويّة المحرّفة ، أي التوراة والأناجيل ، فلا وجه لتطويل الكلام فيها.

ص: 285

ثمَّ إنّ الموقوف عليه تارة يكون معيّنا لا إهمال ولا إجمال فيه ، سواء أكان شخصا كزيد مثلا ، أو كلّيا كعنوان طلبة مدرسة فلان ، فلا كلام فيه.

وأخرى : يشكّ في شمول ذلك العنوان الذي جعله موقوفا عليه في العقد لبعض الأشخاص أو الأصناف ، فإن ثبت انصراف ذلك العنوان إلى بعض مصاديقه ، أو إلى بعض الأصناف التي تحت ذلك العنوان فيؤخذ به ، وإن لم يثبت فيجب الأخذ بإطلاقه إن كان في مقام البيان من تلك الجهة ولم يقيّد ، وإلاّ يرجع إلى الأصول العمليّة.

ومعلوم أنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت الوقف لذلك المشكوك ، كلّ ذلك فيما إذا كان مراد الواقف من ذلك مشكوكا.

وأمّا إن كان معلوما فيؤخذ به ، إلاّ أن يكون فيه الإشكال من جهة صحّة الإنشاء بذلك اللفظ ، وذلك من جهة أنّ المدار في العقود ليس على القصد فقط ، ولا على الإنشاء فقط ، بل لا بدّ وأن تكون المعاملة مقصودة له ومنشأه بالإنشاء الصحيح.

ولذلك وقع البحث في أنّه لو وقف على الفقراء ، فالمشهور ادّعوا انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف ، لأنّ المسلم - مثلا - لا يقصد غالبا من الفقراء في وقفه - بل وفي سائر عطاياه - إذا كانت لوجه اللّه فقراء غير المسلمين ، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح. وقد ذكر بعضهم عناوين كثيرة وألفاظ متعدّدة وباحث عنها ، وكلّها يرجع إلى ما ذكرنا وأبحاث صغرويّة ، وقس الحال على هذا المنوال في سائر الموارد والمقامات ، فلا نطول المقام بذكر الأمثلة.

فرع

لو وقف على مصلحة معيّنة ، كما إذا وقف على طلاّب مدرسة دينيّة ، فانهدمت وصارت جزء للشارع العامّ ، بحيث لا أمل بحسب العادة في رجوعها مدرسة ، أو وقف على مسجد صار كذلك منهدما وصار جزء للشارع العامّ ، أو على قنطرة على نهر تغيّر مجرى ذلك النهر ، وصارت تلك القنطرة متروكة وبلا فائدة ، فهل يجب صرفه

ص: 286

في وجوه البرّ ، أو يرجع إلى المالك ، أو يصير مباحا لكل أحد كالمباحات الأصليّة؟ وجوه.

فالذي يقول برجوعه إلى المالك إن كان وإلاّ إلى ورثته ، فبنى كلامه على أنّه من قبيل وقف منقطع الآخر ، فأمّا أن لا يخرج من ملك المالك أبدا ، لأنّه مثل الحبس عبارة عن تسبيل ثمرته مدّة بقاء الموقوف عليه ، فإذا وقع التلف على الموقوف ، فلا يبقى موضوع للتسبيل ، فقهرا ترجع المنفعة إلى مالك العين الذي هو الواقف ، ومنه إلى ورثته.

وأمّا القولان الآخران فمبناهما أنّ بالوقف يخرج عن ملك المالك ، فالذي يقول بأنّه يصرف في وجوه البرّ يقول وإن كان الموقوف يخرج عن ملك الواقف ، ولكن غرضه من هذا الإخراج صرف منافعه في ما هو البرّ عند اللّه تعالى ، ويكون موجبا للأجر والثواب ، ولكن عيّن ما هو البرّ في نظره بموضوع خاصّ ، فإذا ارتفع ذلك الموضوع الخاصّ الذي رجّحه على سائر مصاديق البرّ فيفقد تلك الخصوصيّة المرجّحة ، ولكن صرفه في أصل البرّ ممكن فيجب ، لأنّه بعض مطلوبه بل أصل مطلوبه ، ولم يفقد ممّا أراد إلاّ تلك الخصوصيّة المرجّحة.

بل يمكن أن يقال : إنّ المنشأ ينحلّ إلى طبيعة البرّ وتلك الخصوصيّة المرجّحة ، وليس من قبيل صرف الغرض كي تقول في باب العقود لا أثر للغرض ما لم يقع المراد والمقصود تحت الإنشاء ، ففي الحقيقة أنشأ تسبيل منفعة هذه العين الموقوفة على البرّ الذي هو المسجد أو المدرسة مثلا ، فإذا تعذّرت الخصوصيّة وأمكن صرفه في الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق يجب العمل به ، لمكان ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بمقدار ما أمكن.

وليس الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق معنى جنسيّا حتّى تقول ينعدم الجنس بانعدام الفصل ، بل هو معنى متحصّل نوعيّ كسائر الطبائع والمهيّات النوعيّة ،

ص: 287

والذي يقول بأنّه مباح لكلّ أحد كالمباحات الأصليّة ، يقول بأنّه بعد خروجه عن ملك الواقف وعدم دخوله في ملك الموقوف عليه على الفرض لعدم قابليّة الموقوف عليه الذي هو جهة من الجهات - وإلاّ لو كان ملكا للموقوف عليه لكان ينتقل إلى ورثته ، لا إلى ورثة الواقف - فقهرا بعد تعذّر الموقوف عليه يبقى ملكا بلا مالك ، فيكون كالمباحات الأصليّة.

والصحيح عندي بناء على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف - وسيأتي تحقيقه وما هو المختار عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى - هو الوجه الأوّل ، أي صرفه في وجوه البرّ. وبناء على عدم خروجه هو الوجه الثاني ، أي رجوعه إلى الواقف ، أو إلى ورثته إن لم يكن الواقف باقيا.

ووجه المختار في كلا الشقّين واضح.

أما الأوّل : فلأنّه بعد الخروج عن ملكه والقول بالانحلال لا مناص إلاّ من القول به. وأمّا الثاني : بعد القول ببقاء العين الموقوفة على ملك الواقف ، فلا بدّ من القول برجوعه إلى الواقف أو إلى ورثته ، بل في القول بالرجوع مسامحة ، لأنّه لم يخرج كي يرجع.

وأمّا الوجه الثالث فلا أساس له أصلا ، بل الأولى أن يعبّر عنه بصرف الاحتمال ، ولم أجد قولا به في الأقوال المنقولة ، بل سمعته عن بعض أساتيذي 5 قبل ستّين سنة.

المطلب السادس : في اللواحق

اشارة

ونذكر فيه أمور :

الأمر الأوّل : في أنّه هل بالوقف بعد إن تمَّ بشرائطه يخرج الموقوف عن ملك

ص: 288

الواقف ويزول ملكه عنه ، أم لا؟

ظاهر المشهور هو الأوّل ، بل ربما يظهر من كلام الغنية (1) والسرائر (2) الإجماع عليه ، والظاهر عدم الدليل على ما ذهب إليه المشهور ، لأنّ الشهرة والإجماع المنقول لا اعتبار بهما ، كما أثبتناه في محلّه ، والإجماع المحصّل أوّلا : ثبوته وتحقّقه غير معلوم.

وثانيا : على فرض ثبوته لا اعتبار به ، لما ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أنّ الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اعتماد المتّفقين على مدرك أو مدارك ذكروها كما في المقام ، ليس من الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.

وأمّا كون تشريع الوقف لأجل إخراج عين الموقوفة عن ملكه - وجعله في سبيل اللّه - فهذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل ظاهر أدلّة تشريع الوقف هو أن يجعل الواقف ماله الموقوف محبوسا في عالم التشريع والاعتبار عن وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، ليبقى صدقة جارية على مرور الدهور ، ويجعل ثمرته في سبيل اللّه تعالى للموقوف عليه الذي عيّنه ، ومن الواضح المعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يستلزم الخروج عن ملكه لا شرعا ولا عرفا.

وأمّا ما قيل : من أنّ فائدة الملك هو الانتفاع بثمرته ، أو وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فاعتبار الملكيّة لغو ، لأنّ مورد الكلام هو الوقف المؤبّد ، وفي غيره لم ينكر المشهور عدم خروجه عن ملك الواقف ، بل إمّا لم يخرج أصلا ، أو خرج موقّتا ثمَّ يعود كما في الحبس ، بل وفي الوقف المنقطع الآخر.

وهذا الدليل وإن كان لا يخلو عن قوّة ، ولكنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الملكيّة حيث أنّها من الأمور الاعتبارية يمكن اعتبارها ولو كان لأثر اعتباري.

وأمّا ما قيل : من أنّها صدقة ، ومن لوازم كون المال صدقة خروجه عن ملك

ص: 289


1- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 541.
2- « السرائر » ج 3 ، ص 153 و 155.

المتصدّق ، كما ربما يدلّ عليه قوله علیه السلام في رواية طلحة ابن زيد : « إنّما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردّها بعد ما يعتق » (1).

ففيه : أنّ هذا بالنسبة إلى الصدقة بالمعنى الأخصّ ، وهو غير الوقف.

وإن شئت قلت : إنّ هذا المعنى من لوازم بعض أقسام الصدقة ، لا الطبيعة المطلقة.

وأمّا ما قيل من القول بعدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ، يلزم تخصيص قوله تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (2) والأصل عدم التخصيص ، وذلك لأنّ وطي أمته التي وقفها لا يجوز قطعا ، فلو لم تكن خارجة عن ملكه ومع ذلك لا يجوز ، يلزم تخصيص هذه الآية ، لأنّ مفادها جواز وطي كلّ من كانت ملك يمينه.

وهذا استدلال عجيب ، لأنّ مورد أصالة العموم - أو بتعبير آخر أصالة عدم التخصيص - فيما إذا كان الشكّ في الخروج عن تحت العموم ، لا ما هو مقطوع الخروج عن الحكم - كما في هذه الآية الشريفة - والشكّ في كونه مصداقا ، فإذا لم يكن دليل على زوال ملكيّة المال الموقوف عن ملك الواقف ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فالأصل يقتضي بقاء الملكيّة.

هذا كلّه في الوقف المؤبّد ، ولكن مع ذلك كلّه القول ببقاء ملكيّة الواقف - مع ما عرفت من الإجماع على العدم الذي يظهر من كلام السرائر والغنية ، ومع ما عرفت من لغويّة اعتبارها مع عدم وجود أثر لها ، ومع الأخبار الظاهرة في انقطاع الواقف عن العين الموقوفة ، كقول أمير المؤمنين علیه السلام في وقف عين التي كانت في ينبع « هي صدقة بتّا بتلا » (3) والبت والبتل بمعنى القطع والانقطاع ، وظاهره أنّه علیه السلام قطع نفسه عنها ولم يبق له علاقة معها - مشكل جدّا.

ص: 290


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 152 ، ح 622 ، باب : الوقوف والصدقات ، ح 69 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 316 ، ح 24430 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 11 ، ح 3.
2- المؤمنون (23) : 6.
3- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (4).

ثمَّ إنّه بناء على الخروج عن ملك الواقف ، فهل يدخل في ملك الموقوف عليه ، أو في ملك اللّه تعالى ، أو يبقى بلا مالك ، أو يفصّل بين الوقف الخاصّ والعامّ؟

فالأوّل عبارة عن الوقف على الأشخاص ، والثاني على العناوين.

ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي العامّ ينتقل إلى اللّه تعالى أو يفصّل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف على الجهات ، كالمساجد والقناطر ولخانات التي في الطريق لعموم المسافرين ، ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي الثاني إلى اللّه. وتفاصيل أخر. وجوه بل أقوال.

أقول : لو لم يوجد دليل على الانتقال إلى الموقوف عليه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا شكّ في أنّ مقتضى الأصل عدم الانتقال.

وأمّا الدليل على الانتقال ، فعمدته عند القائلين به أمران :

أحدهما : بقاء الملك بدون مالك ، وهو غير معقول.

والثاني : أنّ الملكيّة اعتبار عقلائيّ أمضاها الشارع لترتّب آثار عليها ، فإذا رأينا أنّ الشارع يرتّب آثار الملكيّة لشخص أو عنوان بالنسبة إلى مال ، نستكشف ملكيّة ذلك المال لذلك الشخص ، أو لذلك العنوان عند وجودهما ، وهذا من الحكم بوجود اللزوم لوجود لازمه ، ولا شكّ في أنّ ملكيّة نماء مال وثمراته من الآثار ولوازم ملكيّة نفس ذلك المال ، وأيضا لا شكّ في أنّ نماءات مال الموقوف وثمراته تكون للموقوف عليهم.

أقول أمّا الأوّل : ففيه : أنّ كون المال بلا مالك لا مانع منه ، فإنّ المباحات الأصليّة التي يدفع بإزائها المال مال وليس لها مالك ، وكذلك الأموال التي يعرض عنها أصحابها بناء على القول بخروج تلك الأموال عن ملك أصحابها بالإعراض عنها ، فأموال وليس لها مالك قبل وضع آخر يده عليها.

وأمّا الملك بدون المالك وإن كان لا يمكن وغير معقول إلاّ أنّ كون المال الموقوف

ص: 291

ملكا بعد زوال ملك الواقف عنه أوّل الكلام ، ويكون ادّعاؤه شبه مصادرة.

وأمّا الثاني : فإنّ ملكيّة النماءات والثمرات من قبيل لازم الأعمّ بالنسبة إلى ملكيّة العين ، فإنّ المستأجر يملك منافع العين بعقد الإجارة مع عدم كونه مالكا للعين ، وهكذا في العارية بناء على أنّها تمليك منفعة لا تمليك صرف الانتفاع بها. ومعلوم أنّه لا يمكن استكشاف الملزوم الخاصّ من اللازم الأعمّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الوقف ، كالوقف على الجهات العامّة - كالمساجد والقناطر والجسور والخانات الموقوفة في الطرق لنزول عامة المسافرين - ليس الموقوف عليه فيها قابلا لأن يتملك.

والقول بأنّ الملكيّة أمر اعتباري وليس عرضا خارجيّا فتابع لاعتبار المعتبرين ، فإذا اعتبروه لهذه الجهات فيتحقّق في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّها وإن كان كذلك ، ولكن العقلاء أو الشارع لا يعتبرون ذلك الأمر الاعتباري إلاّ في مورد يكون مصحّحا لاعتبارهم ، فلا يعتبرون الولاية أو القيمومة على الصغير - مثلا - لسفيه أو مجنون ، ونرى بالوجدان أنّهم يستنكرون اعتبار الملكيّة لجماد أو نبات ، بل ولحيوان غير الإنسان.

ومضافا إلى أنّ هذه الدعوى معارض بمثلها ، وهو أنّه كما يستكشف من وجود الأثر واللازم وجود الملزوم ، كذلك يستكشف من نفي الأثر واللازم نفي الملزوم ، ولا شكّ أنّ من لوازم الملكيّة جواز التصرّف في الملك ببيع أو هبة أو صلح وسائر التقلّبات المشروعة في عالم الاعتبار التشريعي ، ولا شكّ في أنّ الموقوف عليه ليس له هذه التصرّفات حقيقة ، إذ هي ضدّ حقيقة الوقف الذي هو الحبس والإيقاف في عالم الاعتبار التشريعي.

فيمكن أن يقال بعدم الملكيّة لعدم جواز هذه التصرّفات.

ولكن الجواب في كلا المقامين واحد ، وهو أنّه لا وجود اللازم الأعمّ يدلّ على

ص: 292

وجود الملزوم الخاصّ ، ولا نفي الأثر الذي ليس لازما لنفس الطبيعة ، بل قد يكون وقد لا يكون لنفي تلك الطبيعة.

وبعبارة أخرى : الأثر فيما نحن فيه - أي : التصرّفات في العين وجواز ورود التقلّبات عليه - ليس أثرا لطبيعة الملك مطلقا ، سواء أكان طلقا أو غير طلق ، بل أثر للملك الطلق ، والوقف على تقدير كونه ملكا ليس بطلق ، فنفي اللازم وإن كان يدلّ على نفي الملزوم ، لكن فيما إذا كان من لوازم الشي ء مطلقا ، لا من لوازم بعض أقسامه ، كما فيما نحن فيه ، نعم يدلّ على نفي ذلك القسم الذي هو لازمه.

وممّا ذكرنا ظهر : أنّ ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره - من التفصيل بين الوقف على الجهات ، فقال بعدم انتقال الملك إلى تلك الجهة ، لعدم قابليّتها للتملّك ، ونفي البعد عن الانتقال إلى الموقوف عليهم في الأوقاف الخاصّة ، والعناوين العامّة القابلة للتملّك (1) - قول وتفصيل بلا دليل ، ولم يقم هو دليل على هذه الدعوى ، وما ذكروه عرفت حاله.

الأمر الثاني : في الوقف على أولاده.

وللوقف على الأولاد في مقام الإنشاء صور :

فتارة : يقف على أولاده بدون قيد الصلبي ، وأخرى : معه.

فإذا كان أولاده بدون قيد الصلبي ، فهل يشمل أولاد أولاده ، أو يختص بالصلبي؟

أي بدون واسطة ، كما أنّه لو كان مقيّدا بالصلبي لا يشملهم يقينا إلاّ مع قرينة.

وظاهر المشهور اختصاصه بالصلبي ، وعدم شموله لأولاد الأولاد.

ولكن هذه الكلمة بحسب الوضع اللغوي تكون موضوعه لمطلق الولد ، سواء أكان بلا واسطة أو معها ، فيشمل الجميع ، إلاّ أن يدّعي الانصراف وهو غير بعيد ، لأنّ مشهور الفقهاء الكبار إذا فهموا منه كون الولد بلا واسطة مع أنّ الأساطين منهم

ص: 293


1- السبزواري في « كفاية الأحكام » ص 142.

عربيّون وهم أعرف بظواهر لغتهم ، والمناط في باب الألفاظ هو ظهورها في معنى ، فإنّه حجّة ، لا أنّه موضوع لكذا أو كذا.

وأمّا لو قال : على أولادي وأولاد أولادي ، فهل يشمل خصوص البطن الأوّل والثاني فقط ، أو يعمّ جميع البطون؟

فذهب المشهور إلى أنّ كلمة « أولادي » ينصرف إلى بلا واسطة ، أي البطن الأوّل ، وكلمه « أولاد أولادي » إلى البطن الثاني فقط ، فلا يعمّ جميع البطون. وهو الصحيح ، لأنّ ذكر أولاد أولادي قرينة على عدم عموم كلمة أولادي الأوّل ، وإلاّ لما كان يحتاج إلى الثاني.

كما أنّه أيضا قرينة على اختصاصه بالبطن الثاني فقط ، ولا يشمل سائر البطون لعين تلك الجهة ، إذ لو يؤخذ بعموم لفظ « الأولاد » فلم يكن ذكره محتاج إليه بل كان لغوا ، فيكون ذكره قرينة على عدم العموم في المضاف وفي المضاف إليه.

وأمّا شمولها للذكر والأنثى بل الخنثى ، وإن كان الولد بحسب الوضع اللغوي عامّا يشمل الذكر والأنثى والخنثى ، ولكن حيث قلنا إنّ المناط هو الظهور لا المعنى الحقيقي ، فلا بدّ من مراعاة الظهورات ، وهي تختلف بحسب الأعصار والأمصار ، ففي هذا الزمان - مثلا في العراق - ينصرف لفظ الولد إلى الذكر ، ولا يشمل الأنثى ولا الخنثى.

فلو كان الواقف من أهل هذه البلاد وفي هذا الزمان ، يجب الأخذ بظاهرهما وما هو المتفاهم العرفي بينهم ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي له معنى عامّ.

وأمّا لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، فهل يشمل البطون على الترتيب أو على التشريك؟ بمعنى أنّ الابن يشارك أباه ، وكذا ابن الابن يشارك أباه وجدّه وهكذا ، أو لا يصل إلى الطبقة الثانية إلاّ بعد موت الطبقة الأولى ، فلو كان للواقف ابن واحد حيّ وابن مات أبوه فهل يشارك عمّه ، أو لا؟

فبناء على القول بالترتيب لا يشارك ، وعلى التشريك يشارك.

ص: 294

وقد تقدّم أنّه يجب الأخذ بظاهر كلامه عند الإنشاء إن لم يعلم بمراده. والظاهر حسب المتفاهم العرفي من هذه العبارة هو الترتيب لا التشريك ، بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى الطبقة الثانية ما دام من الطبقة الأولى يكون موجودا ولو كان واحدا ، فلا تصل إلى أحفاده ما دام أولاده الصلبي موجودا. وهذا الترتيب بين الطبقات يستفاد من ظاهر لفظ « بعد » ، وهو واضح. والاحتمالات الأخر ملقى بنظر العرف.

الأمر الثالث : في أنّ الوقف لا يبطل بخرابه وانهدامه ، لا بجواز بيعه.

أمّا الأوّل : فلأنّ وقف دكّان أو دار أو بستان - مثلا - مثل بيعه أو هبته أو سائر الاعتبارات الواردة عليها ، فكما أنّه لا تبطل تلك العناوين بخرابه وانهدامه ، فكذلك في الوقف ، لأنّه أيضا أحد الاعتبارات الواردة عليه وليس الموقوف عنوان الدار أو الدكّان مثلا ، بل تلك القطعة من الأرض المعنونة بهذا العنوان.

فلو ارتفع العنوان فلا ينعدم موضوع الوقف بالمرّة ، بل الموقوف باق ، غاية الأمر وقع تغيّر فيه ، وهذا التغيير لا يضرّ ببقاء الوقف ولا ببقاء الموقوف عليه ، فلا وجه لبطلان الوقف.

نعم لو جاء دليل على أنّه خرج عن كونه وقفا بإتيان دليل على جواز بيعه ، فهو المتّبع ، وإلاّ فمقتضى الأصل بقاء وقفيّته حتّى مع جواز بيعه ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو تلك القطعة من الأرض التي كانت معنونة بعنوان الحمّام أو الدار أو الدكّان أو غير ذلك.

وأمّا الثاني : أي : عدم بطلان الوقف بجواز بيعه : فلأنّ بطلان الشي ء إمّا بانعدام علل قوامه - وذلك لأنّه بعد انتفاء علل قوامه جميعا لو بعضها أو بقي يلزم الخلف ، أي يلزم أن يكون ما فرضه داخلا في قوامه لا يكون داخلا في قوامه ، وهو محال - وإمّا بإتيان دليل تعبّدي على بطلانه.

أمّا الدليل التعبّدي من إجماع أو آية أو رواية معتبرة ، فليس شي ء من هذه في

ص: 295

المقام ، فالعمدة هو الوجه الأوّل ، أي انتفاء شي ء ممّا هو داخل في قوامه ، فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ هل عدم جواز البيع من مقوّمات حقيقة الوقف وماهيّته كي يبطل بجواز البيع ، أو من بعض آثاره وأحكامه كي لا يكون ارتفاعه وجوازه موجبا لبطلانه إذا جاء دليل من نصّ أو إجماع على جواز بيعه عند عروض بعض العوارض؟

إذا عرفت هذا ، فنقول : قد تقدّم أنّ الوقف عبارة عن الإيقاف وحبسه عن التقلّبات الاعتباريّة ، كبيعه وهبته والصلح عليه وغير ذلك ، ومقتضى هذا التعريف أنّ عدم جواز البيع كسائر التبدّلات الاعتباريّة داخل في حقيقة البيع وفي قوام ذاته ، أو لا أقلّ من مقتضيات ذاته ، فلا بدّ من القول ببطلانه عند جوازه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حقيقة الوقف وإن كان هو الحبس عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، ولكن لا مطلقا ، بل ما لم يعرض عليه أحد موجبات جواز بيعه ، وإلاّ ففي صورة حدوث أحد تلك الموجبات لجواز بيعه يجوز بيعه ، مع أنّه وقف. نعم بوقوع البيع خارجا لا يبقى موضوع للوقف ، فيرتفع قهرا.

وهذا أيضا يظهر من ظاهر عبارتهم أنّه يجوز بيع الوقف في مورد كذا وكذا ، فإنّ ظاهرها أنّ البيع يرد على الوقف.

وعلى كلّ حال قالوا بجواز بيع الوقف في موارد وصور :

الأوّل : أن يخرب الوقف بحيث يسقط عن المنفعة بالمرّة ، بمعنى أنّه لا يمكن انتفاع الموقوف عليهم به مع بقاء عينه.

ووجه جواز البيع في هذه الصورة هو أنّ حبس العين عن البيع وعن سائر التقلّبات كان لأجل أن ينتفع الموقوف عليهم به ، وهذه الغاية هو المراد والمقصود الأصلي من إنشاء الوقف ، فإن لم يمكن الانتفاع به أصلا فيكون الإيقاف لغوا.

ولذلك قلنا من شرائط صحّة الوقف أن يكون الموقوف ذا منفعة محلّلة قابلة

ص: 296

للتسبيل ، فالمنع عن البيع يكون لأجل هذه الجهة ، فإذا لم تكن منفعة في البين فلا مانع عن البيع ، لأنّ إبقاءه لغو ولا فائدة فيه.

وأمّا أدلّة المنع ، فادّعاء الإجماع على عدم جواز البيع ، مع ذهاب الأكثر إلى الجواز في هذه الصورة فممّا لا ينبغي أن يتفوّه به.

وأمّا قول أبي الحسن علیه السلام في رواية عليّ بن راشد : « لا يجوز شراء الوقف ، ولا تدخل الغلة في ملكك » (1) لا إطلاق لها يشمل هذه الصورة ، لورود هذه الرواية في مورد وجود منفعة العين الموقوفة كاملة ، وإنّما كان سؤال الراوي عن اشتراء الوقف من جهة مجهوليّة الموقوف عليه ، ولذلك قال علیه السلام : « ادفعها إلى من أوقفت عليه » قال :

لا أعرف لها ربّا ، قال علیه السلام : « تصدّق بغلتها ». فليس علیه السلام في مقام بيان أنّ الوقف بأيّ حال من الأحوال لا يجوز شراؤها.

وإن شئت قلت : إنّها منصرفة عن هذه الصورة التي ترجع إلى إبقائها بلا فائدة حتّى تتلف.

وبعبارة أخرى : المراد منها أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بحيث يجوز بيعه وشراؤه مطلقا.

وأمّا قوله علیه السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ ظاهره لزوم العمل على طبق ما قرّره الواقف من القيود والشروط حين إنشاء الوقف.

ومعلوم أنّ إبقاؤها وعدم بيعها بعد ما لم تكن لها منفعة أصلا - وكان إبقاؤها لغوا وبلا فائدة - ليس من الكيفيّة التي أنشأ الواقف الوقف بتلك الكيفيّة ، ولا من الشروط أو القيود التي قرّر الوقف عليها حال الإنشاء.

ص: 297


1- « الكافي » ج 7 ، ص 37 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 35. « الفقيه » ج 4 ، ص 242 ، ح 5576 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 303 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 1.

وأمّا قوله علیه السلام : « صدقة لا تباع » في طائفة من الأخبار المتقدّمة ، (1) فالظاهر أنّ المراد منه أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بل لا يجوز بيعه وشراؤه إلاّ بعد دليل على الجواز في بعض الحالات الطارئة عليه ، فيكون مخصّصا لأدلّة عدم جواز بيعه إن كان لها عموم ، ومقيّدا إن كان لها إطلاق.

ويكون ذلك الدليل الدالّ على الجواز حاكما على أصالة عدم جواز البيع ، أو استصحاب المنع الذي كان قبل طروّ تلك الحالة ، على تقدير جريانه وتماميّة أركانه ، فيدور الأمر بين أحد هذه الأمور الثلاثة :

أحدها : إبقاؤها حتّى تتلف. وهذا ممّا يأباه الذوق الفقهي والفهم السليم.

والثاني : بيعه وإعطاء ثمنه للموجودين. وهذا تضييع لحقّ البطون اللاحقة.

الثالث : تبديله بعين أخرى تكون ذات منفعة جارية كالمبدّل ، فتكون صدقة جارية كالأصل ، وربما يكون في البدل نفعا أكثر من الأصل.

ويمكن أن يوجّه التبديل ، مضافا إلى ما ذكرنا أنّ الواقف أنشأ حبس العين بجهاتها الثلاث لجريان منافعها على الموقوف عليهم ، والمراد من الجهات الثلاث : الخصوصيّات ، والنوعيّة ، والماليّة للعين الموقوفة. وبعد تعذّر إبقاؤها شرعا بجهاتها الثلاث لكونها لغوا لا فائدة فيه ، ولا يترتّب عليه الأثر المقصود من وقفها ، وإمكان إبقائها بجهتين ، أي : الماليّة ، والجهات النوعيّة ، كما إذا كان الموقوف دارا فخربت ، وهي في مكان لا ينتفع بها أصلا ، ولكن أرضها واقعة بجنب دار أو دكّان أو خان يشتريها ربّ تلك الدار أو ذلك الدكّان أو الخان بأعلى القيم ، فيشتري دارا أخرى بثمن تلك الخربة دارا أوسع وأحسن منه بعشر مرّات ، فيمكن إبقاء حبس ماليّة تلك الدار الموقوفة مع جهاتها النوعيّة ، فلا وجه لعدم الالتزام بالإبقاء والقول بذهابه من البين.

ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا احتمالات وأقوال لا يهمّنا ذكرها بعد ما عرفت ممّا هو

ص: 298


1- تقدم راجع ص 232 ، هامش رقم (2).

الصواب ، فذكرها والنقض على بعضها وإبرام بعضها الآخر لا فائدة فيها إلاّ تطويل المقام.

الصورة الثانية : أن يكون خرابه سببا لقلّة الانتفاع به ، كما إذا خرب دكّان أو خان ، وكان نفعهما حين ما كانا دكّانا وخانا كثيرا ، لأنّهم كانوا يستأجرونهما لمحلّ كسبهم وتجارتهم ، ولكن بعد خرابها وصيرورتها عرصتين وإن كانوا يستأجرونهما بمقدار قليل لبعض الحوائج ، ولكن بالنسبة إلى النفع الأوّل في حكم العدم ، فالمشهور ذهبوا إلى عدم جواز بيعه ، لأنّ إبقاءه ليس بلا فائدة ، غاية الأمر قليلة ولو كان قلّة المنفعة كانت سببا لجواز البيع ، فإذا كان الدكّان أو الخان في سوق كثير المارّة مزدحمة بالناس ، ثمَّ اتّفق أن صار ذلك السوق قليل المارّة بواسطة وجود الشوارع والأسواق المعمورة في ذلك البلد وإقبال الناس عليها ، فيقلّ طلاّب ذلك الدكّان أو ذلك الخان ، وربما يبلغ في القلّة ونزول غلّته إلى عشر ما كان في الأوّل ، فهل ترضى من نفسك أن تقول بجواز بيع مثل ذلك الدكّان والخان؟!

فالإنصاف : أنّ ما ذهب المشهور إليه من عدم جواز بيعه في هذه الصورة جيّد ولا بأس به. نعم لو قلّت منفعته بمقدار لا يعدّه العرف ذا منفعة ، بل يرونه عادم المنفعة ، فالظاهر إلحاقه بالصورة الأولى ، لأنّ الوقفيّة أيضا اعتبار من اعتبارات الشرع ، بل هو أيضا مثل الملكيّة من الاعتبارات العرفيّة التي أمضاها الشارع ، وليس من مخترعاته ، فإذا كان نفعه قليلا بحيث يرى العرف حبسه وتسبيل منفعته لغوا ، فلا تشمله أدلّة المنع عن بيع الوقف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بجريان استصحاب عدم جواز البيع قبل أن تقلّ منفعته إلى ذلك الحدّ ، وذلك أيضا فيما إذا حصل الشك.

وأمّا إذا كان اعتبار الوقف لغوا في مثل هذا المال الذي بنظرهم يكون مسلوب المنفعة - وإن كان له منفعة قليلة - فلا يأتي شكّ كي يستصحب المنع.

ص: 299

الصورة الثالثة : لو زال العنوان الذي وقفه الواقف بذلك العنوان ، كالحمّام والبستان ، فوقف الأوّل لأن يغتسل فيه الزوّار أو الطلاّب مثلا ، والثاني لأن ينتفع بثمرته الفقراء ، فخربا وصارا عرصتين ، ولكن يمكن أن ينتفع الموقوف عليهم بهما بعد خرابهما وزوال عنوانهما بمنافع أخر أكثر من الأوّل أو ما يساويه.

فقال جماعة بجواز بيعهما بعد زوال عنوانهما ، لأنّ الواقف وقف الحمّام أو البستان ، والمفروض أنّ ما هو الموجود ليس بحمّام ولا ببستان ، فلم يبق ما هو الموقوف كي يقال بوقفيّته.

وأشكل عليه : بأنّ تعلّق الوقف بهذه العناوين مثل تعلّق البيع والهبة بها ، فكما أنّه لو باع الحمّام أو البستان ، أو وهبهما لا يخرجان عن ملك المشتري أو الموهوب له بزوال عنوانيهما وصيرورتهما عرصتين ، فكذلك لا يخرجان عن الوقفيّة بزوال العنوانين.

وما قيل في الفرق : بأنّ الحمّام أو البستان في البيع والهبة مورد ، وفي الوقف عنوان ، لا يخلو عن مجازفة.

اللّهمّ إلاّ أن يكون مراد هذا القائل أنّ في باب البيع والهبة يملك الأرض مع بنائها للمشتري والموهوب له ، ولذلك لو خربا وانهدما لا تخرج أرضهما عن ملكه ، بخلاف الواقف فإنّه يحبس هذا العنوان لتسبيل منفعته.

فعمدة نظره إلى تسبيل منفعة هذا العنوان ، فإذا زال فلا يبقى موضوع للحبس ولا لتسبيل منفعته ، لأنّه بناء على ما ذكرنا يكون مراد الواقف - وما أنشأه - هو تسبيل منفعة هذا العنوان ، لا منفعة هذه الأرض التي بنى عليها هذا العنوان ، فإذا وقف دارا على أن يسكن فيه إمام المسجد الفلاني مثلا ، فانهدمت وصارت عرصة لا بناء عليها ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون لتلك الأرض منافع كثيرة ، يجعلها مخزن للبعض الأجناس ، أو محلاّ للسيّارات ، ولكن هذه المنافع لم ينشأ نسبتها من

ص: 300

طرف الواقف.

نعم لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف تمليك للموقوف عليهم لكان حال الوقف حال البيع والهبة ، وقياسه في محلّه. ولكنّك عرفت أنّ حقيقة الوقف هو إيقاف العين لتسبيل ثمرتها ، أو هو مركّب من الأمرين.

نعم لو كان إعادة العنوان ممكنا بمقدار من غلّته ، كما إذا كانت إعادة البستان أو كونه حمّاما أو دكّانا أو خانا ، وهكذا بغرس الأشجار في الأوّل ، وبناء مثل ما انهدم في البقية بأن يواجره لمدّة ، خصوصا إذا كانت المدّة قليلة ، فلا يبعد عدم جواز بيعه ولزوم إعادة عنوانه ، مثلا الدكّان الذي وقع في محلّ مرغوب من البلد - ويستأجرونه بمقدار كثير من المال - لو انهدم ويمكن إعادة عنوانه بنصف إجارته السنويّة لا يصحّ بيعه وإبطال الوقف مع إمكان إبقائه عرفا ، وإن كان بتجديد بنائه. وهكذا الأمر والحال في سائر العناوين.

وقد تقدّم عدم بطلان وقفيّته بخرابه وانهدامه ، وكلامنا الآن في عدم جواز بيعه بعد الفراغ عن عدم بطلان وقفيّته.

وحاصل الكلام : أنّ ما ذكرنا في وجه جواز بيعه هو الذي أثبتنا فساده وبطلانه في مقام بيان عدم زوال وقفيّته بالخراب والانهدام ، فالحقّ أنّه لا يجوز بيعه بصرف زوال عنوانه مع بقاء منفعته بمقدار يعتنى به ، وخصوصا إذا كان إعادة عنوانه ممكنا بمقدار من غلّته.

الصورة الرابعة : أن يكون بيعها أنفع وأعود للموقوف عليهم ، بأن يبيعوها ويشترون بثمنها شيئا من أمثالها ، أو من غير أمثالها ، ويقفونه على من كان موقوفا عليه على النهج الوقف الأوّل ، وتكون غلّة الثاني أكثر بمقدار معتدّ به ، بل اتّفق في زماننا أنّه لو كان بيعها صحيحا في هذه الصورة يكون أعود عليهم بآلاف مرّة ، بل ليس قابلا للقياس عرفا ، مثلا : كانت مزرعة وقفا على مدرسة دينيّة تزرع فيها

ص: 301

الخضروات ، فصارت متّصلة بمكان مرغوب من بلد كبير مزدحمة بالسكّان ، يشترون كلّ متر من أرض تلك القرية بمقدار كثير من المال ، بحيث يمكن أن تكون منفعة ثمن هذا المتر الواحد لو يشترون به شيئا آخر مساويا لمنفعة تمام تلك القرية التي هي مئات ألوف من الأمتار ، فهذا شي ء غير قابل للقياس عرفا.

فهل يجوز بيعها في هذه الصورة ، أم لا؟

حكى عن المفيد - رضوان اللّه عليه - جواز بيعه ، (1) ولكن أنكر بعض صحّة هذه الحكاية ، والذي رأيته في المقنعة عبارته هكذا : « أو يكون تغيير الشرط في الوقف إلى غيره أعود عليهم وأنفع لهم » (2).

وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تدلّ على جواز بيع الوقف إن كان البيع أعود لهم ، بل راجع إلى تغيير الشرط إذا كان ذلك التغيير أنفع لهم ، كما إذا شرط أن يكون زرعه شعيرا ، وكانت الحنطة أعود وأنفع لهم ، أو شرط أن يشغل فيه خباز ، وكانت الصيدلة أنفع لهم ، وهكذا.

وعلى كلّ حال مقتضى أدلّة المنع التي تقدّم ذكرها عدم جواز بيعها ، وليس مخرج عنها إلاّ ما يتوهّم من دلالة بعض الروايات على الجواز.

منها : رواية جعفر بن حنّان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام إلى أن يقول : قلت : فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلّة؟ قال : « نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيرا لهم باعوا » (3).

ومنها : خبر الحميري ، كتب إلى صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه : روى عن

ص: 302


1- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 170 ، حكى عن المفيد.
2- « المقنعة » ص 652 ، باب الوقوف والصدقات.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 35 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 29. « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 133 ، ح 565 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 99 ، ح 382 ، باب : لا يجوز بيع الوقف ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 8.

الصادق علیه السلام غير مأثور : إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه ، وكان ذلك أصلح ، لهم أن يبيعوه ، فهل يجوز أن يشتري من بعضهم ان لم يجتمعوا كلّهم على البيع ، أم لا يجوز إلاّ أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب علیه السلام : « إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه ، وإذا كان على قوم من المسلمين فليبع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء اللّه تعالى » (1).

أمّا الرواية الأولى : فظاهر السؤال أنّه يجوز بيع الوقف عند احتياج الموقوف عليهم ، وعدم كفاية غلّته لهم ، فأجاب علیه السلام بالجواز مع رضائه كلّهم ، وكان البيع خيرا لهم ، وهذه الصورة غير التي الآن محلّ كلامنا ، وسيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا رواية الحميري : فظاهرها جواز البيع مطلقا ، سواء أكان أعود أو لم يكن كذلك ، ولم يقل به أحد. وعلى كلّ حال خارج عمّا هو محلّ كلامنا.

الصورة الخامسة : أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة وحاجة ولا يكفيهم غلّته.

فذهب جماعة إلى صحّة البيع وجوازه في هذه الصورة ، وحكى عن السيّدين المرتضى (2) وابن زهرة 5 (3) الإجماع على الجواز.

وعمدة الاستدلال على الجواز هو قوله علیه السلام في خبر جعفر بن حنّان قال : « نعم إذا رضوا كلّهم » في جواب السائل ، حيث يسأل عن جواز البيع إن احتاجوا ولم يكفهم غلّته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ظاهر الجواب هو جواز البيع مطلقا ، لأنّ العبرة بعموم

ص: 303


1- « الاحتجاج » ص 490 ، في توقيعات الناحية المقدسة ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 9.
2- « الانتصار » ص 226.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 541.

الجواب لا بخصوصيّة المورد ، ولا بالخصوصيّة التي تذكر في السؤال. مضافا إلى ضعف هاتين الروايتين وإعراض الأصحاب عنهما وعدم العمل بمضمونهما.

فالإنصاف عدم جواز البيع في هذه الصورة أيضا ، بملاحظة أدلّة المنع.

الصورة السادسة : أن يقع بين أرباب الوقف اختلاف ربما ينجرّ إلى تلف الأموال والنفوس.

فذهب جماعة إلى جواز بيعه في هذه الصورة ، وعمدة الدليل على هذا القول هو مكاتبة عليّ بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام : أنّ فلانا ابتاع ضيعة ، فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ، ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض ، أو تقويمها على نفسه بما أشتريها ، أو يدعها موقوفة؟ فكتب إليّ : « أعلم فلانا أنّي آمره ببيع حقّي من الضيعة ، وإيصال ثمن ذلك إليّ ، وإنّ ذلك رأيي إن شاء اللّه ، أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له » (1).

وكتبت إليه : أنّ رجلا ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا ، وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده ، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ، ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته؟ فكتب إليّ بخطّه : « وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس » (2).

ودلالة هذه الرواية على جواز البيع - إذا كان بين الموقوف عليهم اختلافا يظنّ

ص: 304


1- « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 30. « الفقيه » ج 4 ، ص 240 ، ح 5575 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 304 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 5.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 240 ، ح 5575 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 130 ، ح 557 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 6.

أنّه يوجب تلف الأموال أو النفوس - واضح لا ريب فيه.

ولكن من المحتمل القريب أن يكون تجويزه علیه السلام ذلك في الوقف المنقطع لا الدائم والمؤيّد الذي هو محلّ الكلام ، لأنّ الوقف المنقطع الآخر مثل الحبس إمّا لا يخرج عن ملك الواقف أصلا ، أو على فرض خروجه يكون خروجه موقّتا وما دام بقاء الموقوف عليهم ، فيجوز للواقف المالك أن يبيع ماله.

ويؤيّد هذا الاحتمال ظهور الرواية في كون الثمن للموجودين ، ولو كان مؤبّدا لكان منافيا مع حقّ البطون اللاحقة ، فلا بدّ من الحمل على الوقف المنقطع.

وأيضا من المحتمل أن يكون مورد السؤال هو الوقف بعد إجراء الصيغة وقبل القبض ، فيجوز رجوع الواقف وأن يبيعه.

ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ حصّة الإمام علیه السلام كانت قبل القبض يقينا ، لأنّه يخبره بأنّه جعل لك في الوقف الخمس ، والقبض فضولة لا معنى له ، وصاحب الوسائل قدس سره أيضا يدّعي ظهور الرواية في عدم القبض (1).

ويؤيّد كونه ، أي تجويزه علیه السلام للبيع في الوقف المنقطع ما عن دعائم الإسلام أنّه ذكر جواب الإمام هكذا : فكتب علیه السلام : « إنّ رأيي له إن لم يكن جعل آخر الوقف لله أن يبيع حقّي من الضيعة ويوصل ثمن ذلك إليّ ، وأن يبيع القوم إذا تشاجروا ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف إتلاف الأموال والأنفس » (2).

فبناء على صحّة هذا النقل جعل علیه السلام جواز البيع مشروطا بأن لم يجعل آخر الوقف لله تعالى ، وهذا عبارة عن الوقف المنقطع ، ولكن الظاهر أنّه نقل بالمعنى ، فيكون هذا الشرط حسب فهمه واجتهاده في استظهار المراد من الرواية ، فلا اعتبار به ، وعلى فرض عدم كونه اجتهادا منه في فهم المراد ، بل كان نقلا للرواية ، فأيضا لا

ص: 305


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 306 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 6 ، ح 5 و 6.
2- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1290 ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.

اعتبار به ، لأنّه ليس قابلا للمعارضة مع ما رواه في الكافي (1) والتهذيب (2).

مضافا إلى أنّ في أصل حجّية كتابه كلام بل إشكال ، فالأحسن حمل الرواية على عدم حصول القبض ، كما حمله في الوسائل.

وعلى كلّ حال مع وجود هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لرفع اليد عن الأدلّة المانعة بهذه الرواية.

الصورة السابعة : فيما إذا اشترط الواقف بيعه لو خرب أو قلّ نفعه ، أو إذا كان بيعه أعود عليهم ، أو إذا وقع بينهم الاختلاف ، أو عند حدوث أمر آخر غير المذكورات ، فهل يجوز البيع ويكون الشرط نافذا ، أو يكون الشرط فاسدا ، أو يكون الشرط والوقف كلاهما باطلان بناء على أنّ الشرط الفاسد إذا وقع في ضمن عقد يكون مفسدا لذلك العقد؟

والظاهر صحّة الشرط والوقف جميعا ، وذلك لأنّه لا وجه لبطلانهما أو بطلان خصوص الشرط ، إلاّ ما يتوهّم من أنّ هذا الشرط خلاف مقتضي العقد ، أو خلاف الكتاب والسنّة وكلاهما ليس في محلّه.

أمّا توهّم الأوّل : فلأنّ مقتضى عقد الوقف لو كان عدم جواز البيع مطلقا ، لكان لهذا التوهّم وجه ، ولكنّ الظاهر أنّ عدم جواز البيع مقتضى إطلاق عقدة ، لا مقتضى عقده مطلقا ، ولذلك يصحّ وقف المنقطع الآخر.

وأيضا لذلك قلنا بعدم بطلان الوقف بجواز البيع ، وإنّما يذهب موضوعه بنفس البيع خارجا ، لأنّه بعد البيع خارجا لا يبقى شي ء في عالم الاعتبار كي يقال بأنّه موقوف ، والمناط في كون الشرط مخالفا لمقتضى ذات العقد لا لإطلاقه هو أن يكون بين الشرط وبين ما أنشأه مضادّة في عالم الاعتبار التشريعي.

ص: 306


1- « الكافي » ج 7 ، ص 36 ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح 30.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 130 ، ح 557 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 4.

كما إذا اشترط في عقد الإجارة عدم تصرّف المستأجر في الدار المستأجرة أصلا ، أو عدم استمتاع الزوج من الزوجة أصلا في عقد النكاح ولو بالنظر أو التقبيل ، فتجويز الشارع بيع الوقف في بعض الأحيان - كالصور المتقدّمة - دليل على عدم المضادّة بينهما.

وأما توهّم الثاني - أي : كونه خلاف الكتاب والسنّة لكونه مخالفا للأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف - ففيه أنّ مفاد تلك الأدلّة ليس عدم جواز بيع الوقف مطلقا ، بل عدم جوازه ما لم يكن دليل على الجواز ، ولذلك لا معارضة بين أدلّة الجواز وبين الأدلّة المانعة.

وإن شئت قلت : إنّ الأدلّة المانعة تدلّ على عدم الجواز بعنوانه الأوّلي ، وأدلّة الجواز عند طروّ حالة أو فيما إذا شرط الواقف ، فيكون قوله علیه السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (1)يدلّ على نفوذ الشرط بلا معارض.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّه بناء على أنّه يجب أن يشتري بثمنه بعد بيعه بدله وجعله وقفا فلا إشكال قطعا ، وليس خلاف مقتضى العقد يقينا ، وذلك لأنّ كون البيع خلاف الكتاب والسنّة على فرض صحّته يكون فيما لو أتلف ثمنه ، وكذلك كونه خلاف مقتضى العقد ، أمّا لو اشترى بدله فالوقف باق ببقاء الجامع بينهما ، لأنّ عقد الوقف لم يتعلّق بالخصوصيّة العينيّة. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (2) تبعا لشيخنا الأعظم (3) 5.

ولكن أنت خبير بأنّ قوله : « وقفت هذا » يكون مثل قوله : « بعت هذا » وفي كليهما المشار إليهما هو هذا الشخص الخارجي ، فيتعلّق الوقف بخصوصيّتها العينيّة الشخصيّة ،

ص: 307


1- تقدم راجع ص 191 ، هامش رقم (4).
2- النائيني في « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 383.
3- « كتاب المكاسب » ص 168.

فالجواب الصحيح هو الذي قلنا.

وربما يقال : بأنّ قضيّة وقف مولانا أمير المؤمنين علیه السلام عين ينبع (1) يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى مع وجود البطن الأوّل وبصرف إرادة الحسن علیه السلام ومع عدم اشتراء بدله بثمنه.

ولذلك يقول شيخنا الأعظم قدس سره أنّ السند صحيح وتأويله مشكل والعمل به أشكل (2).

وأفاد شيخنا الأستاذ قدس سره في توجيه الصحيحة بأنّه منزل علي أنّ مرجع الشرط إلى أنّ له أن يجعله وقف المنقطع ، وأن يبقيه على حاله (3).

وفيه : أنّه علیه السلام أوقف تلك العين ، ولا يمكن أن يكون وقفه مردّدا بين المؤبّد والمنقطع وأن يكون المنشأ هو الجامع ، ويجعل اختيار أحدهما بيد الحسن علیه السلام بعد مدّة إذا أراد ، بل الظاهر - من الصحيحة ومن روايات أخر في قضيّة وقف عين ينبع - هو أنّه علیه السلام جعله وقفا مؤبّدا ، لقوله علیه السلام حين ما أوقفه « بتّا بتلا ».

ولا شكّ في ظهور هذه العبارة في الوقف المؤبّد ، فتجويز بيعه للحسن علیه السلام يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى في الوقف المؤبّد.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأعظم قدس سره أنّ العمل به أشكل (4).

ففيه : أنّه لا إشكال فيه أصلا ، بعد ما عرفت أنّ هذا الشرط مناف لمقتضى إطلاق العقد ، لا لمقتضى ذاته.

ص: 308


1- « الكافي » ج 7 ، ص 49 ، باب : صدقات النبي صلی اللّه علیه و آله وفاطمة والأئمة علیهم السلام ووصاياهم ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 146 ، ح 608 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 55 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 312 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 10 ، ح 4.
2- « كتاب المكاسب » ص 172.
3- النائيني في « المكاسب والبيع » ج 2 ، ص 400 ، في بيع الوقف.
4- « كتاب المكاسب » ص 172.

الصورة الثامنة : فيما لو ظنّ أنّ بقاءه يؤدّي إلى خرابه ، فيجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه بديله ويقفه. وذلك كما إذا كان وقف دارا قريبا من الشط ، فبواسطة تبدّل مجرى الشط لبعض العوارض والطواري صارت على حافة الشط ، فيظنّ أنّها تخرب في أيّام فيضان ماء الشط ، وذلك لأنّ إبقاءها لا طريق له إلاّ بهذا الشكل ، فيدور الأمر بين ذهابه عن البين بالمرّة ، أو بقائه بهذا الشكل ، ولا شكّ في أنّ الثاني أولى وأوفق بغرض الواقف.

ولكن هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بناء على لزوم إبقاء عين الموقوفة ، ولو كان بماليّتها وخصوصيّاتها الصنفيّة ، وهو مشكل جدّا.

المطلب السابع : في المتولّي والناظر للعين الموقوفة

وهما بمعنى واحد ، والمراد بهما من ينظر في شؤون المال الموقوف ويدبّر أمره.

وربما يطلق المتولّي على المتصرّف والمباشر لتدبير أمور الوقف استقلالا ، أو مع شراكة الغير ، والناظر على من يلزم أن يكون تصرّفات المتولّي باطّلاعه ، أو باستصوابه وتصويبه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الناظر على قسمين :

أحدهما : أن يكون إعمال المتولّي باطّلاعه.

والثاني : أن يكون بنظره وتصويبه.

ووجه التسمية في كلتا الصورتين معلوم ، وقد عبّر عنهما في بعض الأخبار بالوالي ، وهي رواية عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي الحسن موسى علیه السلام (1).

ص: 309


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 249 ، ح 5593 ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح 27 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 149 ، ح 610 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 57 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 314 ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب 10 ، ح 5.

وعلى كل حال ففيه أمور :

[ الأمر ] الأوّل : لا شكّ في جواز جعل الواقف نفسه استقلالا أو مع شركة الغير ، وكذلك غيره ناظرا ومتولّيا على الوقف في ضمن العقد الذي يقف مالا ، وذلك للإجماع ، ولم ينقل خلاف إلاّ من ابن إدريس قدس سره وعبارته ليس صريحة في الخلاف ، كما ذكره صاحب الجواهر قدس سره ونقل عين عبارته (1) وأنا شاهدتها في كتابه السرائر (2) ، وعلى كلّ حال مقتضى قوله علیه السلام « الوقف على حسب ما يوقفها أهلها » وسائر المطلقات صحّة هذا الجعل بجميع شقوقه التي ذكرناها.

نعم إذا جعل التولية لنفسه ، وجعل حقّ التولية من منافع العين الموقوفة أكثر من أجرة مثل عمله ، ربما يتوهّم أنّه يكون من قبيل الوقف على النفس الذي قلنا إنّه باطل إجماعا ، مضافا إلى عدم كونه تسبيلا للمنفعة الذي يعرف الوقف به ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ويجوز أن يجعل في ضمن عقد الوقف أمر جعل التولية بيده ، بأن يعيّن المتولّي والناظر متى شاء ، وكذلك له أن يجعل أمر عزل المتولّي بيده ، بأن يعزله متى شاء وأن ينصب غيره متى شاء ، ويجوز أن يجعل أمر جعل التولية بيد غيره ، بأن يجعل من يريد متوليّا متى شاء ، ويعزل هذا وينصب غيره متى شاء. ودليل جميع هذه الشقوق هو قوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » ويجوز أيضا أن يجعل لكلّ متولّ أن ينصب متوليّا بعده.

الأمر الثاني : لو لم يعيّن المتولّي في ضمن نفس العقد ، ومعلوم أنّه لا بدّ في الوقف من متولّ يلي أمره ويدبّر شؤونه ، فهل له أن يعيّن متوليّا على الوقف ، أو للموقوف

ص: 310


1- « جواهر الكلام » ج 28 ، ص 22.
2- « السرائر » ج 3 ، ص 156 ، شروط صحة الوقف.

عليهم ، أو للحاكم ، أو يفصّل بين الوقف العامّ فللحاكم ، وبين الوقف الخاصّ فللموقوف عليهم؟ وجوه وأقوال :

أقول : أمّا الواقف بعد أن تمَّ الوقف يكون كسائر الأجانب ، بناء على ما تقدّم من زوال ملكه بالوقف ، فلو لم يعيّن في متن العقد فليس له أيّ مداخلة في شؤون الوقف. وأمّا ما يقال : من أنّه كان له النظر في شؤون هذه العين التي وقفها ، وأيضا كان له أن يعيّن غيره للنظر فيها ، والذي معلوم زواله بالوقف هو الملك لا كون النظر فيها وتدبير شؤونها بنفسه أو بتعيين الغير له ، فيستصحب.

ففيه : أنّ كون النظر له من شؤون الملكيّة ، فإذا زالت فيزول قطعا ، فلا يبقى مجال للاستصحاب.

فيدور الأمر بين أن يكون أمر التولية وتعيين الناظر بيد الحاكم أو الموقوف عليه ، وقد تقدّم الوقف على الجهات العامّة - كالمساجد والقناطر والخانات الموقوفة للمسافرين وأمثال ذلك - لا يملكه أحد ، ففي مثل هذه الأوقاف لا شبهة في أنّ أمر توليتها بيد الحاكم ، بأن يباشر تدبير شؤونها إمّا بنفسه ، وإمّا بأن يعيّن غيره.

وأمّا بالنسبة إلى الأوقاف الخاصّة - كالوقف على أولاده وذراريه مثلا - والأوقاف على العناوين العامّة التي قابلة لأن تتملّك ، فبناء على كونهم مالكين للوقف وإن كان في بادئ النظر تأتي إلى الذهن قوّة احتمال أن يكون أمر النظر مباشرة أو تعيينا إليهم ، لكونهم ملاّك ولهم السلطنة على أموالهم بمباشرتهم بأنفسهم ، أو بتعيينهم شخصا آخر ، ولكن عند التأمّل حيث أنّ هذه الملكيّة ليست كسائر الأملاك المطلقة ليكون المالك مطلق العنان - بل لا بدّ من مراعاة حقوق البطون اللاحقة أيضا في جميع التصرّفات على أنحائها في هذا الملك ، وليست البطون اللاحقة بالنسبة إلى البطن السابق كالوارث ، لأنّ المورث مطلق العنان ، وملكه طلق ، بخلاف البطن السابق بالنسبة إلى اللاحق - فليس له ولاية التصرّف في هذا الملك الذي لا بدّ من ملاحظة

ص: 311

حقوق آخرين ، فتكون الولاية في أمرهم للحاكم ، لأنّهم بمنزلة الغيّب والقصر ، بل أنزل منهم ، فالمتعيّن أن يكون المرجع في تعيين الناظر والمتولّي هو الحاكم حتّى في الأوقاف الخاصّة ، كالوقف على الذراري.

نعم بعض التصرّفات من طرف الموقوف عليهم التي لا يضرّ بحقوق البطون يجوز لهم ولا مانع عنه ، لأنّهم مالكون.

الأمر الثالث : هل تعتبر العدالة في الناظر ، أم لا؟ أو يفصّل بين من يجعله الواقف فلا تعتبر فيه ، ومن يجعله الحاكم فتعتبر فيه؟

ومقتضى الإطلاقات - مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها - عدم اعتبارها فيمن يعيّنه نفس الواقف من ضمن عقد الوقف.

وأمّا ما قيّده في وقف مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في قضيّة وقف عين ينبع من قوله علیه السلام : « فإن وجد فيهم من يرضى بهداه وإسلامه وأمانته ، فإنّه يجعله إليه إن شاء » (1) أي : يجعله ناظرا ، فلا يدلّ على اعتبار العدالة ، لأنّ الهدى والإسلام والأمانة غير العدالة. نعم جعل فاسق يفسد الوقف ويفنيه ربما يكون منافيا لجعله صدقة جارية ، فالإنصاف : أنّه لا تعتبر العدالة ، بل ولا الأمانة فيمن يجعله الواقف.

نعم لو عيّن الفاسق الذي لم يعمل بالوقف طبق ما جعله الواقف ، ويهمل شؤونه حتّى يحتمل فناؤه وخرابه ، فلا يبعد وجوب ضمّ الأمين إليه من طرف الحاكم ، وإن كان المتولّي والناظر المنصوص هو نفس الواقف ، فضلا عن أن يكون غيره.

وذلك من جهة أنّ حفظ الوقف مطلوب من قبل الشارع ، ولا يرضى بتركه ، فيكون أمره بيد الحاكم ، لأنّه من الحسبيّات ، وحيث أنّ عزله لا يجوز - لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها - فلا بدّ من ضمّ أمين إليه بمنعه عن التعدّي وعن الإهمال جميعا.

ص: 312


1- تقدم راجع ص 308 ، هامش رقم (1).

وأمّا من يعيّنه الحاكم فلا بدّ وأن يكون ثقة وأمينا ، لأنّه لا بدّ في جعله من مراعاة مصلحة الوقف ، فليس له أن يأتمن الخائن.

وأمّا الفاسق الذي يرتكب الذنب - وإن كان صغيرة ، فإن كان أمينا موثوقا في أعماله ، بحيث يطمئنّ بعدم إهماله شؤون الوقف وتدبير أمره ، ويعمل على طبق الوقف ولا يتعدّى عن مضمون الوقف ، فالقول بعدم جواز تعيينه متوليّا وناظرا مشكل ، لعدم دليل على اعتبار عدالة الناظر ، إلاّ كونها موجبة للاطمئنان بحفظ شؤون الوقف ، فإذا حصل من دونها فلا وجه لاعتبارها.

وأمّا ادّعاء الإجماع - من الكفاية (1) والرياض (2) والحدائق (3) فغير مسموع ، مع ذهاب جمع كثير إلى عدم الاعتبار.

الأمر الرابع : في أنّ الواقف لو جعل شخصا ناظرا على المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فلا ريب في جواز ذلك له ، لأنّ هذا ليس مخالفا للكتاب ، فبمقتضى « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » يكون جعله نافذا.

وحيث أنّ الناظر - على ما تقدّم ذكره - قسمان : اطّلاعيّ واستصوابيّ. والأوّل عبارة عن أنّ كلّ فعل يصدر من المتولّي يلزم أن يكون باطّلاعه. والثاني عبارة عن أن يكون بتصويبه ، لا صرف اطّلاعه عمّا فعل ، ففي القسم الأوّل للمتولّي أن يفعل بدون لزوم أخذ الإذن منه ، بل صرف اطّلاعه كاف. وأمّا في القسم الثاني فيحتاج نفوذ تصرّفاته إلى أخذ الإذن منه وتصويبه لذلك الفعل.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ من مراجعة كلامه ، وأنّه ظاهر في أيّ واحد من القسمين فيؤخذ به ، وإن يستظهر منه شي ء من القسمين ، فلا بدّ

ص: 313


1- « كفاية الأحكام » ص 141.
2- « رياض المسائل » ج 2 ، ص 23.
3- « الحدائق الناضرة » ج 22 ، ص 184.

للمتولّي في مقام العمل من الجمع بين الأمرين ، أي أخذ الإذن منه واطّلاعه على العمل أيضا ، وذلك من جهة أصالة عدم جواز عمله ونفوذ تصرّفاته إلاّ بالأمرين.

الأمر الخامس : لو جعل التولية لأكثر من واحد ، فتارة على وجه الشركة ، وأخرى على وجه الاستقلال.

فإن كان من القسم الأوّل فلا يجوز تصرّف كلّ واحد منهما على الانفراد بدون مداخلة الآخر ، لأنّ معنى الشركة أنّ كلاهما بمنزلة شخص واحد ، كما أنّ الشركة في المال أيضا ذلك ، ولذلك هناك أيضا ليس كلّ واحد منهما مستقلاّ في التصرّف ، فيجب اجتماعهما على تصرّف كي ينفذ ، وإن امتنعا أجبرهما الحاكم مع الإمكان ، وإن لم يمكن فالمرجع هو الحاكم.

وأمّا إن كان من القسم الثاني ، فإذا اجتمعا فلا إشكال ، وأيّ واحد منهما تصرّف بدون رضا الآخر نافذ. ولو تصرّف كلاهما ، مثلا آجر أحدهما من زيد ، والآخر من عمرو ، قدّم المقدّم ، ولو كانا في زمان واحد بطلا. والسرّ واضح.

الأمر السادس : في أنّ الواقف إذا عيّن وظيفة المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فيعمل بما عيّن له من الوظيفة ، وإذا لم يعيّن وظيفة وجعله متوليّا من دون بيان عمل له ، فالظاهر من هذه العبارة والمتفاهم العرفي منه أنّه عليه تدبير شؤون الوقف ، من حفظه عن الخراب ، وإجارته ، وتحصيل مال الإجارة نقدا وجنسا ، وتقسيمه على الموقوف عليهم ، وإيصال حصّة كلّ واحد منهم إليهم ، وغير ذلك ممّا هو وظيفة المتولّي عند العرف.

وذلك من جهة أنّه بعد البناء على لزوم العمل بما أراده الواقف من لفظ المتولّي حال الجعل ، فطريق تشخيص مراده هو ظهور كلامه ، ففي أيّ معنى كان ظاهرا فيه فيحكم بأنّه مراده. وهذا معنى أصالة الظهور وحجّية الظواهر ، ومعنى الظهور هو ما يفهم العرف من الكلام عند إلقائه إليه ، ففيما نحن فيه إذا قال الواقف : وقف المال الفلاني

ص: 314

وجعلت فلانا ناظرا ومتوليّا عليه ، فما يفهمه العرف من لفظ « المتولّي » يحكم بأنّه مراده.

ولا ريب في أنّ العرف يفهم الذي يكون عليه ما ذكرنا من إدارة شؤون الوقف من عمارة ما انهدم منه ، أو ما يوجب حفظه عن الانهدام ، وجمع غلّته وتقسيمه على الموقوف عليهم. لا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل لغير المتولّي المنصوص - وإن كان موقوفا عليه ، أو وإن كان هو الحاكم - هذه التصرّفات ، أم لا؟

والظاهر أنّه مع وجود المتولّي المنصوص من طرف الواقف في ضمن عقد الوقف ليس لغيره هذه التصرّفات ، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، ولما في التوقيع عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان علیه السلام وفيه : « وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (1).

فإنّ ظاهر التوقيع المبارك عدم جواز هذه التصرّفات لغير من جعله متوليّا وقيّما ، وعدم مزاحمة غيره له.

الجهة الثالثة

من جهات البحث في هذه القاعدة هي جهة

تطبيقها على مواردها

وقد عرفت أنّ موارد تطبيقها بعد ما صدق عليه الوقف عرفا وتحقّق مفهومه ،

ص: 315


1- تقدم راجع ص 242 ، هامش رقم (2).

فعند ذلك كلّ شرط أو قيد اعتبر الواقف وجوده أو عدمه فهو نافذ وماض ، لقوله علیه السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقد طبّقناها على مواردها في تضاعيف ما تقدّم ، فلا يحتاج إلى الإعادة.

وفي الحقيقة هذه القاعدة كسلاح للفقيه لدفع ما يتوهّم من عدم صحّة بعض الشروط ، أو القيود التي قيّد الواقف بها الموقف ، أو الوقوف عليه ، أو المتولّي ، أو الناظر وقد تقدّم موارد كلّ ذلك ، فعليك بالتتبّع التمام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 316

45 - قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

اشارة

ص: 317

ص: 318

قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب(1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في شرح مفهوم هذه القاعدة

فنقول : الرضاع بفتح الراء وكسرها ، وهكذا الرضاعة بالفتح والكسر مصدر رضع عبارة عن امتصاص الثدي أو الضرع أو مطلق شرب اللبن ، سواء أكان منهما أو من غيرهما ، واللبن كان من إنسان أو حيوان.

ثمَّ إنّ الرضاع مثل الولادة يوجب وجود إضافة بين شخصين أو أشخاص ، والإضافة على قسمين : اعتباريّة ومقوليّة ، وذلك لأنّ حقيقة الإضافة عبارة عن نسبة متكرّرة بين شيئين ، بمعنى أنّ النسبة الموجودة في أحد الطرفين بالنسبة إلى الآخر موجودة أيضا في ذاك الطرف الآخر بالنسبة إلى هذا الطرف ، فإن كانت النسبتان الموجودتان في الطرفين من سنخ واحد ، تسمّى تلك الإضافة بالإضافة المتشابهة الأطراف ، كمحاذاة جسم مع جسم آخر ، حيث أنّ لكلّ واحد من الجسمين

ص: 319


1- (*) « عناوين الأصول » عنوان 94. « بلغة الفقيه » ج 3 ، ص 119 و 130 و 207 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 169 ، « القواعد » ص 325 ، « قواعد فقه » ص 175 ، « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » جعفر السبحاني.

المتحاذيين نسبة مع الآخر. والنسبة من الطرفين تسمّى بالمحاذاة أو المقابلة مثلا ، فهما من سنخ واحد ، وإن كانتا من سنخين تسمى تلك الإضافة بمخالفة الأطراف ، كالفوقيّة والتحتيّة.

فحينئذ إن كانت تلك النسبة المتكرّرة غير موجودة في عالم الأعيان ، بل صرف اعتبار اعتبرها العقلاء وأمضاها الشارع ، أو اعتبار من قبل نفس الشارع إحداثا لا إمضاء فقط كالملكيّة والزوجيّة ، فمثل هذه الإضافة تسمّى إضافة اعتباريّة لا حقيقة مقوليّة.

وأمّا إن كانت تلك النسبة خارجيّة حقيقيّة وموجودة في عالم الأعيان ، كالفوقيّة والتحتيّة ، فتسمّى تلك الإضافة إضافة مقوليّة.

والولادة التي هي عبارة عن انفصال قطعة من المني من شخص ، ثمَّ دخولها واستقرارها في رحم شخص آخر ، حتّى يصير بأمر اللّه جلّ جلاله إنسانا سويّا فتضعها وتنفصل عنها ، توجب حدوث إضافات حقيقيّة ونسب خارجيّة مقوليّة بين شخصين أو أشخاص.

فلتلك القطعة نسبة مع من انفصل عنه تسمّى بالبنوّة ، كما أنّ لمن انفصل عنه هذه القطعة نسبة معها تسمّى بالأبوّة. وأيضا لتلك القطعة نسبة مع من استقرّت في رحمها أيضا تسمّى بالبنوّة ، كما أنّه لمن استقرّت في رحمها نسبة مع تلك القطعة تسمّى بالأمومة وهكذا في سائر النسب التي تحصل من الولادة كالبنتيّة والأختيّة.

وهكذا العناوين الآخر ، كالجّد ، والجدّة ، والعمّ ، والعمّة ، والخال ، والخالة ، وابن الأخ وبنته ، وابن الأخت وبنتها ، وابن العمّ وبنته ، وابن العمّة وبنتها ، وابن الخال وبنته ، وابن الخالة وبنتها. وموضوع تحريم النكاح بالنسب سبعة من هذه العناوين الحاصلة من الولادة بصريح الآية الشريفة (1) وهي : الأمّهات والبنات ، والأخوات ، والعمّات ،

ص: 320


1- النساء (4) : 23.

والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت.

والرضاع الذي هو عبارة عن امتصاص الثدي ، أو الضرع ، أو مطلق شرب اللبن - كما بيّنّاه - أيضا يوجب حدوث إضافات حقيقيّة ونسب خارجيّة مقوليّة مثل الولادة طابق النعل بالنعل ، فالولد الذي ارتضع من ثدي امرأة ، له نسبة مع المرضعة تسمّى بالبنوّة ، كما أنّ للمرضعة أيضا نسبة معه تسمّى بالأمومة ، وأيضا للولد المرتضع نسبة مع زوج المرضعة الذي هو صاحب اللبن تسمّى أيضا بالبنوّة ، كما أنّ لصاحب اللبن نسبة مع الولد المرتضع تسمّى بالأبوّة وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الإضافات التي تحصل من الولادة ، تحصل كلّها من الرضاع أيضا.

وكلّ هذه الإضافات والنسب الحاصلة من الولادة أو من الرضاع خارجيّة حقيقيّة ومقوليّة تكوينيّة ، وليس من الاعتباريات الصرفة التي لا وجود لها في الأعيان أصلا ، بل هي موجودة في الخارج ، سواء أكان في العالم معتبر أو لم يكن.

نعم تسمية تلك الإضافات بتلك الأسماء اعتبارات من الواضعين ، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الألفاظ الموضوعة لمعانيها ، ولذلك تختلف باختلاف الأمم واللغات ، وهذا واضح جدّا.

ثمَّ لا يخفى أنّ الإضافة الحاصلة من الرضاع ليس أضعف من الإضافة الحاصلة من الولادة بتوهّم عدم ترتّب جميع الآثار المترتّبة على الحاصلة من الولادة على الحاصلة من الرضاع ، كالتوارث مثلا.

وذلك من جهة أنّه من الممكن أن يكون وجه عدم الترتّب عدم جعل الشارع إحدى الإضافتين موضوعا مع ترتيبه الأثر على الأخرى بدون أن يكون اختلاف في الإضافتين من حيث الشدّة والضعف ، بل تصوير الاختلاف بالشدّة والضعف في سنخ واحد من الإضافة - كالأبوّة أو الأمومة مثلا - في الحاصلة من الولادة مع الحاصلة من الرضاع لا يخلو من غموض وإشكال.

ص: 321

ثمَّ إنّ الألفاظ الموضوعة لهذه النسب والإضافات ، كالأب والأمّ وغيرهما هل موضوعة للجامع بين القسمين؟ بمعنى أنّ لفظ الأمّ - مثلا - موضوع للجامع بين الأمومة الحاصلة من الولادة ، والحاصلة من الرضاع كي تكون آية تحريم نكاح العناوين السبعة - أعنى : الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت - دالّة على تحريم ما يحصل من هذه العناوين بالرضاع ، كما تدلّ على تحريم ما يحصل منها بالولادة من دون احتياج إلى دليل آخر.

أو مشترك لفظي بينهما ، كي لا تكون دالّة على ذلك ، لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لا يجوز ، وإرادة هذه العناوين الحاصلة من الولادة معلوم من الآية ، فيحتاج - تحريم ما يحصل من هذه العناوين من الرضاع - إلى دليل آخر غير الآية؟

أو تكون حقيقة في الحاصلة من الولادة ، ومجاز في ما يحصل من الرضاع. وبناء على هذا أيضا تحريم ما يحصل من الرضاع يحتاج إلى دليل آخر؟ احتمالات.

الأقرب هو الأخير ، لأنّ هذا تنزيل شرعيّ ، وإلاّ عند العرف هذه العناوين ظاهرة في الحاصلة من الولادة ، حتّى أنّ الشارع لو لم يجعل الرضاع سببا محرّما لما كان يلتفت العرف إلى هذه العناوين بالنسبة إلى الرضاع أصلا ، خصوصا في ما عدى الأمّ والأخت.

الجهة الثانية : في الدليل على هذه القاعدة

وهو ثلاثة :

الأوّل : الآية الشريفة ، وهي قوله تعالى ( وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ

ص: 322

مِنَ الرَّضاعَةِ ) . (1)

ولكن في هذه الآية الشريفة لم يذكر ممّا يحرم بالرضاع إلاّ موردين : أمّ الرضاعيّة ، والأخت من الرضاعة ، وأمّا سائر ما يحرم بالنسب - كالعمّة والخالة وبنات الأخ وبنات الأخت وغيرها - فيستفاد حرمتها من الحديث الشريف المرويّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (2).

الثاني : الإجماع ، بل هو من ضروريّات الدين ، ولا خلاف فيه في الجملة بين المسلمين. نعم هناك اختلاف بين الفقهاء في تحقّق الرضاع الشرعي الذي جعل موضوعا لحرمة التزويج من حيث شروط الرضاع ، بعضها يتعلّق بالرضيع ، وبعضها بمدّة الرضاع ، وبعضها بكيفيّة الارتضاع ، وبعضها بالمرضعة ، وسنذكرها وما هو المختار منها إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : الأخبار.

فمنها : النبويّ الذي رواه الفريقان : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ».

ومنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة » (3).

ومنها : ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سنان - في الصحيح أو الحسن - عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « لا يصلح للمرأة أن ينكحها عمّها ولا خالها من الرضاعة » (4).

ص: 323


1- النساء (4) : 23.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 475 ، ح 4665 ، باب الرضاع ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 280 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 1 ، ح 1 ، « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 222 ، باب الشهادة على الأنساب ، والرضاع المستفيض ، « صحيح مسلم » ج 2 ، ص 1070 ، ح 1445 ، كتاب الرضاع ، ح 9 ، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل ، « مسند أحمد » ج 1 ، ص 454 ، ح 2486 ، مسند عبد اللّه بن عباس.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 437 ، باب الرضاع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 291 ، ح 1222 ، باب من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرم منهن في شرع الإسلام ، ح 58.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 5.

ومنها : ما رواه في الكافي والفقيه عن أبي عبيدة الحذاء - في الصحيح - قال :

سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها ، ولا على أختها من الرضاعة » (1).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « عرضت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنة حمزة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أما علمت أنّها ابنة أخي من الرضاعة؟ وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعمّه قد رضعا من امرأة » (2).

ومنها : ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاما مملوكا لها من لبنها حتّى فطمته ، هل لها أن تبيعه؟ قال : فقال : « لا ، هو ابنها من الرضاعة ، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه » قال : ثمَّ قال : « أليس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟ » (3).

ومنها : ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن الحلبي وابن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في امرأة أرضعت ابن جاريتها قال : « تعتقه » (4).

ومنها : ما رواه عن أبي بصير وأبي العباس وعبيد ، كلّهم جميعا عن أبي

ص: 324


1- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 304 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 13 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 11 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 411 ، ح 4436 ، باب ما أحلّ اللّه عزّ وجلّ من النكاح وما حرّم منه ، ح 21 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 292 ، ح 1229 ، باب من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرّم منهن في شرع الإسلام ، ح 65 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 446 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 307 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 17 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 878 ، باب العتق وأحكامه ، ح 111 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 307 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 17 ، ح 2.

عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يملك أمّه من الرضاعة ، ولا أخته ، ولا عمّته ، ولا خالته فإنّهنّ إذا ملكن عتقن ». وقال : « كلّما يحرم من النسب فإنّه يحرم من الرضاع » (1).

ومنها : ما عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن امرأة أرضعت جارية ، ولزوجها ابن من غيرها ، أيحل للغلام ابن زوجها أن يتزوّج الجارية التي أرضعت؟ فقال : « اللبن للفحل » (2).

ومنها : ما في الحسن عن الحلبي قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أمّ ولد رجل قد أرضعت صبيّا ، وله ابنة من غيرها ، أيحل لذلك الصبيّ هذه الابنة؟ قال : « ما أحبّ أن أتزوّج ابنة رجل قد رضعت من لبن ولده » (3).

ومنها : ما في الموثّق عن سماعة قال : سألته عن رجل كان له امرأتان ، فولدت كلّ واحدة منهما غلاما ، فانطلقت إحدى امرأتيه ، فأرضعت جارية من عرض الناس أينبغي لابنه أن يتزوّج بهذه الجارية؟ قال : « لا ، لأنّها أرضعت بلبن الشيخ » (4).

ومنها : ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن علیه السلام قال : قلت له : أرضعت أمّي جارية بلبني ، فقال : « هي أختك من الرضاعة ». قال : قلت : فتحلّ لأخ لي من أمّي لم ترضعها أمي بلبنه ، يعني ليس بهذا البطن ولكنّ ببطن آخر؟ قال : « والفحل واحد؟ » قلت : نعم هو أخي لأبي وأمّي قال : « اللبن للفحل صار أبوك

ص: 325


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 113 ، ح 3435 ، باب العتق وأحكامه ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 246 ، ح 877 ، باب العتق وأحكامه ، ح 110 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 1.
2- « قرب الإسناد » ص 369 ، ح 1323 ، أحاديث متفرقة ، « الكافي » ج 5 ، ص 440 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 295 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 7.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 441 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1319 ، باب ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 27 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 722 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 295 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 8.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 440 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1317 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 25 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 720 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 295 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 6.

أباها وأمّك أمّها » (1).

ومنها : في الصحيح عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل تزوّج امرأة ، فولدت منه جارية ، ثمَّ ماتت المرأة فتزوّج أخرى ، فولدت منه ولدا ، ثمَّ إنّها أرضعت من لبنها غلاما ، أيحلّ لذلك الغلام الذي أرضعته أن يتزوّج ابنة المرأة التي كانت تحت الرجل قبل المرأة الأخيرة؟ قال : « ما أحبّ أن يتزوّج ابنة فحل قد رضع من لبنه » (2).

ومنها : ما عن التهذيب - في الموثق - عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا رضع الرجل من لبن امرأة ، حرم عليه كلّ شي ء من ولدها ، وإن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعت بلبنه ، وإذا أرضع من لبن رجل حرم عليه كلّ شي ء من ولده ، وإن كان من غير المرأة التي أرضعته » (3).

ومنها : ما عن الكافي - في الصحيح أو الحسن - عن الحلبي وعبد اللّه ابن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل تزوّج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده قال : « تحرم عليه ». (4)

ومنها : أيضا ما في الكافي - في الصحيح أو الحسن - عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح » (5).

ص: 326


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 322 ، ح 1328 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 299 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 3.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 440 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1318 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 26 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 721 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 294 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 321 ، ح 1325 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 33 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 306 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 15 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 305 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 15 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 303 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 10 ، ح 2.

قال : وسألته عن امرأة رجل أرضعت جارية أتصلح لولده من غيرها؟ قال : « لا ». قلت : فنزلت منزلة الأخت من الرضاعة قال : « نعم من قبل الأب » (1).

ومنها : رواية عثمان عن أبي الحسن علیه السلام ، قال : قلت له : إنّ أخي تزوّج امرأة فأولدها فانطلقت فأرضعت جارية من عرض الناس ، فيحلّ لي أن أتزوّج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ فقال : « لا إنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (2).

ومنها : رواية مسمع عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ثمانية لا يحلّ مناكحتهم - إلى أن قال : - أمتك وهي عمّتك من الرضاع ، أمتك وهي خالتك من الرضاع » (3).

ومنها : روايته الأخرى عنه علیه السلام قال : « عشر لا يجوز نكاحهن - إلى أن قال : - أمتك وهي عمّتك من الرضاعة ، أمتك وهي خالتك من الرضاعة » (4).

ومنها : رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « يحرم من الإماء عشر : لا يجمع بين الأمّ والبنت ، ولا بين الأختين - إلى أن قال : - ولا أمتك وهي عمّتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي خالتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي أختك من الرضاعة » (5).

ص: 327


1- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 10 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 323 ، ح 1332 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 7.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 447 ، في نحوه ( في كتاب النكاح ) ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 293 ، ح 1230 ، باب : من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرم منهن في شرع الإسلام ، ح 66 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 300 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 8 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 198 ، ح 696 ، باب : السراري وملك الايمان ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 517 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 19 ، ح 2.
5- « الفقيه » ج 3 ، ص 451 ، ح 4559 ، أحكام المماليك والإماء ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 198 ، ح 695 ، باب : السراري وملك الايمان ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 517 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 19 ، ح 1.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام في رجل فجر بامرأة أيتزوّج أمّها من الرضاعة أو بنتها؟ قال : « لا » (1).

قال في الحدائق : ومن هذه الصحيحة يستفاد أنّه لو لاط بغلام حرمت عليه أمّه وأخته وبنته من الرضاع ، كما يحرمن من النسب تحقيقا لفرعيّة الرضاع على النسب ، كما دلّت عليه هذه الأخبار (2).

وأنت إذا تدبّرت وتأمّلت في هذه الأخبار وفي الآية الشريفة (3) عرفت أنّ هذه الأخبار أغلبها ، وكذلك الآية الشريفة ليست وافية بجميع ما يحرم بالرضاع وشاملة لجميع فروعها ، إلاّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وهكذا قوله علیه السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة » الذي هو أيضا بمعنى الأوّل ، فإنّ هذا الكلام الشريف يشمل جميع موارد الرضاع وفروعه ، إلاّ ما شذّ ممّا ورد فيه دليل خاصّ في مورد مخصوص ، كما سنذكره فيما سيأتي إن شاء اللّه.

وذلك من جهة أنّ الآية الشريفة لم يذكر فيها إلاّ الأمّهات من الرضاعة والأخوات منها.

وأمّا الأخبار فكذلك لم يذكر في أغلبها إلاّ بعض موارد التحريم بالرضاع.

وأمّا قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » قضيّة كلّية ، مفادها أنّ كلّ عنوان من العناوين السبعة المعروفة ، أو من غيرها التي توجب حرمة نكاح المرأة إذا كان حاصلا من النسب ، فذلك العنوان بعينه يوجب حرمة النكاح إذا كان حاصلا

ص: 328


1- « الكافي » ج 5 ، ص 416 ، باب : الرجل يفجر بالمرأة فيتزوج أمها أو ابنتها. ، ح 8. « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 331 ، ح 1360 ، باب : القول في الرجل يفجر بالمرأة ثمَّ يبدو له في نكاحها. ، ح 18. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 325 ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، باب 7 ، ح 1.
2- « الحدائق الناضرة » ج 23 ، ص 442.
3- النساء (4) : 23.

من الرضاع ، مثلا الأمومة إحدى تلك العناوين التي توجب حرمة نكاح الأمّ على ابنها إذا كانت حاصلة من النسب - أي : الولادة - فهذا العنوان بعينه إذا كان حاصلا من الرضاع أيضا يوجب الحرمة.

فمن النسب يحرم عنوان الأمّ والبنت والأخت وغيرها من العناوين المحرّمة بوجوداتها السارية في جميع مصاديقها ، فكذلك تحرم نفس هذه العناوين أيضا الحاصلة من الرضاع بوجوداتها السارية ، فلا حاجة إلى تقدير لفظة « المثل » أو « النظير » بأن يقال : يحرم من الرضاع نظير ما يحرم من النسب ، كما صنعه شيخنا الأعظم قدس سره في رسالته المعمولة في الرضاع (1) مع اعترافه بأنّ ظاهر هذا الحديث الشريف هو أنّ عين ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع.

نعم لو كان المراد بالموصول في قوله صلی اللّه علیه و آله : « ما يحرم بالنسب » النساء الخارجيّات المعنونات بهذه العناوين ، فلا بدّ حينئذ من التقدير ، ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ ، لأنّ ظاهره - كما ذكرنا - أنّ نفس العناوين التي تحرم من النسب ، تحرم أيضا إذا كانت من الرضاع.

إن قلت : قد تكون الحرمة من جهة المصاهرة الشرعيّة كأمّ الزوجة أو بنتها مع الدخول ، بها ، من جهة الزنا كأمّ المزني بها وبنتها ، أو من جهة الإيقاب كأمّ الغلام الموقب وأخته وبنته ، مع أنّ كل هذه المذكورات تحرم إذا كانت هذه العناوين حاصلة من الرضاع ، فالأمّ الرضاعيّة للزوجة ، وبنتها الرضاعية مع الدخول بها ، والأمّ والبنت الرضاعيّتان للمزني بها ، والأمّ والأخت والبنت الرضاعيّات للموقب تحرم هذه كلّها ، مع أنّ الحرمة آتية من ناحية المصاهرة والزنا والإيقاب لا النسب ، فيحتاج حرمة هذه المذكورات إلى دليل غير هذا الحديث الشريف.

قلت : إنّ في حرمة أمّ الزوجة على الزّوج - مثلا - إذا كانت الأمومة حاصلة من

ص: 329


1- « كتاب المكاسب » ص 376 و 382.

النسب جهتين :

إحديهما : المصاهرة ، ولأجل ذلك عدّها الفقهاء 5 في المحرّمات بالمصاهرة ، إذ لو لم يكن بين هذا الرجل وهذه المرأة مصاهرة لما كان يحرم عليه أمّها.

ثانيهما : النسب ، أي نسبة الأمومة التي بين الزوجة وأمّها. فهذه النسبة أيضا دخيلة في حرمة أمّ الزوجة على الزوج ، إذ لو لم تكن بين الزوجة وتلك التي نسمّيها أمّها نسبة ، بل كانت أجنبيّة عنها لما كانت تحرم على الزوج. فثبت أنّ هناك جهتان يمكن إسناد الحرمة إلى مجموع الجهتين ، ويمكن إسنادها إلى كلّ واحدة منهما.

وأمّا عدّها الفقهاء في المحرّمات بالمصاهرة ، فلأجل مقابلتها مع ما هو علّة الحرمة متمحّض في النسب ، كالعناوين السبعة المعروفة ، لا أنّ علّة الحرمة فيها منحصرة في المصاهرة كما توهّم.

وهكذا الحال في أمّ المزني بها وبنتها وأمّ الموقب وأخته وبنته ، ففي كلّ من هذه أيضا جهتان : ففي الأوّل جهة الزنا وجهة النسب ، وفي الثاني جهة الإيقاب وجهة النسب ، ويصحّ إسناد الحرمة إلى كلّ واحدة من الجهتين ، كما يصحّ إسنادها إلى مجموعهما.

فالحديث الشريف يشمل جميع هذه الموارد ، لصدق أنّ الحرمة في هذه الموارد من جهة النسب ، وإن كان يصدق أيضا أنّها من جهة المصاهرة أو الزنا أو الإيقاب.

ولا دليل على أنّ شمول الحديث لا بدّ وأن يكون في مورد تكون النسب علّة تامّة منحصرة للتحريم ، بل ظاهره أنّ في كل مورد تكون العلاقة الحاصلة من النسبة دخيلة في الحرمة ، تكون تلك العلاقة إذا كانت حاصلة من الرضاع تقوم مقام العلاقة الحاصلة من النسب.

فلو كان موضوع الحرمة مركّبا من أمرين : أحدهما الإضافة الحاصلة من النسب ، وبوجودها وحدها لا يترتّب الحكم ، بل لا بدّ من وجود الجزء الآخر وهو

ص: 330

ثانيهما ، كذلك تلك الإضافة وحدها لو حصلت من الرضاع لا توجب ثبوت الحكم ، بل لا بدّ من وجود الجزء الآخر ، أي المصاهرة ، أو الزنا ، أو الإيقاب.

نعم هذا الحديث الشريف لا يشمل العناوين الملازمة للعناوين النسبيّة المحرّمة - كما توهّم - ويسمّونها بعموم المنزلة ، لأنّ ظاهره هو أنّ نفس هذه العناوين التي توجب تحريم المعنون بها الحاصلة من النسب توجب التحريم أيضا ، إذا كانت حاصلة من الرضاع ، لا الملازم لها ، فأمّ الأخ النسبي ملازم لأحد العنوانين الذين كلّ واحد منهما يوجب التحريم ، وهما : أمّ الإنسان وزوجة أبيه ، وكلتاهما محرّمتان عليه ، ومع ذلك عنوان أمّ الأخ ليس من العناوين المحرّمة. وسيأتي تفصيل هذه المسألة وما يقول القائل بعموم المنزلة وما يقول من يخالفه.

ثمَّ إنّه لا يتوهّم : أنّ المراد من النسب هي النسبة التي بين المحرم والمحرّم عليه كي لا تشمل المذكورات ، لأنّه لا نسبة بين الرجل وأمّ زوجته ، أو بين الزاني وأم المزني بها ، أو بين الموقب وأمّ الغلام الموقب مثلا ، لأنّه لا وجه لهذا التقييد ، بل ظاهر الحديث - كما ذكرنا - هو أنّ كلّما كانت النسبة سببا للحرمة ، بأن تكون تمام الموضوع أو جزء للموضوع إذا كانت حاصلة من الولادة ، فيقوم مقامها عين تلك النسبة إذا كانت حاصلة من الرضاع ، سواء أكانت النسبة النسبيّة بين المحرّم والمحرّم عليه ، كالعناوين السبعة المعروفة ، أو كان بين شخصين آخرين ، كالنسبة التي بين الزوجة وأمّها ، أو بين المزني بها وأمّها ، أو بين الغلام الموقب وأمّها.

الجهة الثالثة

اشارة

فيما إذا شكّ في الرضاع من جهة الشبهة المفهوميّة أو المصداقيّة ، فتارة نتكلّم من حيث الرجوع إلى الإطلاق ورفع الشكّ بها ، وأخرى من جهة الرجوع إلى الأصول العمليّة.

ص: 331

ومعلوم أنّه مع إمكان رفع الشكّ بالإطلاقات لا يبقى مجال للرجوع إلى الأصول العمليّة ، لحكومة الأصول اللفظية عليها.

أمّا التكلم من الجهة الأولى :

فنقول : إنّه فرع أن يكون هناك إطلاق في البين ، وهو متفرّع على أن يكون الرضاع الموجود في الأدلّة العامّة هو ما يكون عند العرف رضاعا ، وإلاّ لو كان معنى شرعيّا - استعمل لفظة « الرضاع » فيه مجازا أو بوضع آخر - فلا يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظي ، لأنّ العرف لا طريق له إلاّ بيان الشارع في فهم مراده ، فإذا شككنا في اشتراط الرضاع بشرط ، أو تقيّده بقيد في الشبهة المفهوميّة فليس إطلاق في البين حتّى يرفع هذا الشكّ.

نعم لا بأس بالتمسّك بالإطلاق المقامي ، وهو أنّ الشارع بصدد بيان تمام ما له دخل في حكمه ، أي الحرمة في هذا المقام ، فلو كان شي ء آخر غير المذكورات له دخل ، كان عليه البيان.

وقد بيّنّا نظير ذلك في الأصول في باب الصحيح والأعمّ بالنسبة إلى لفظة « الصلاة » بناء على وضعه للصحيح.

وأمّا الشبهة المصداقيّة ، فلا يمكن التمسّك لرفعها بالإطلاق على كلّ حال ، سواء أكان لفظة « الرضاع » المستعمل في الأدلّة بمعناه العرفي ، أم لا ، لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ لما هو مشكوك المصداقيّة له ، وهذا من قبيل إثبات الموضوع بالحكم ، وهو غير معقول.

والظاهر : أنّ لفظ « الرضاع » في الروايات العامّة لم يستعمل إلاّ فيما هو المراد منه عند العرف ، غاية الأمر أنّ الشارع جعله موضوعا لحرمة النكاح مقيّدا بقيود.

وذلك من جهة أنّ الرضاع في اللغة ولو كان بمعنى مطلق الامتصاص أو الشرب ولو كان مرّة ومقدارا قليلا من اللبن ، ولكن المتفاهم العرفي منه لا يبعد أن يكون

ص: 332

الشرب مدّة من الزمن حدّده الشارع بكذا ، مثل السفر والإقامة وغيرهما من الأمور المتكممة عند العرف والشرع ، وإن كان التحديد الشرعي ربما يكون أوسع ممّا عند العرف ، وربما يكون أضيق.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظي مثل الإطلاق المقامي لرفع الشكّ فيما شكّ في شرطيّته وفي مدخليّته في الرضاع المحرّم.

ثمَّ إنّه هل يمكن تنقيح موضوع الرضاع الذي جعله الشارع محرّما - بعد الفراغ عن أنّ الشي ء الفلاني مثلا شرط له - بالاستصحاب؟ مثلا بعد الفراغ عن أنّ الحياة شرط في المرضعة ، فإذا شككنا في حياتها فهل يمكن إثبات الموضوع المترتّب عليه الحرمة باستصحاب الحياة ، أم لا؟

والظاهر : أنّه لا مانع من إثباته به ، لأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الموضوع مركّب من شرب اللبن مع هذه القيود والشروط ، فيكون من قبيل الموضوعات المركّبة التي أحرز بعضها بالأصل ، وبعضها الآخر بالوجدان ، لا أنّ الموضوع للحرمة عنوان بسيط متحصّل من هذا المركّب الخارجي ، مثل الطهارة الحاصلة من الغسلات والمسحات في باب الوضوء ، بناء على أنّها من هذا القبيل ، كي يكون الاستصحاب مثبتا بالنسبة إلى حصول ذلك العنوان.

هذا كلّه فيما إذا كان المرجع هي الإطلاقات.

وأمّا إذا لم يكن إطلاق في البين ، ووصلت النوبة إلى الأصول العمليّة ، فالشبهة إمّا حكميّة وإمّا موضوعيّة مصداقيّة.

فالأوّل - أي الشبهة الحكميّة - كما إذا شككنا في اعتبار شي ء فيه شرعا ، ولم يكن إطلاق نتمسّك به إمّا لعدم كون مفهوم الرضا الذي جعله الشارع موضوعا لحرمة النكاح مفهوما عرفيّا ، والمفهوم الشرعي غير معلوم على الفرض ، للشكّ في اعتبار هذا الشي ء مثلا فيه. وإمّا من جهة عدم إحراز كون الشارع في مقام البيان في

ص: 333

الأدلّة العامّة ، وأيضا لم يكن إطلاق مقامي في البين ، وإلاّ لا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

وأنت خبير بأنّ كلّما ذكرنا صرف فرض ، وإلاّ من الواضح أنّ الرضاع بماله من المفهوم العرفي أخذ موضوعا للحكم الشرعي ، ومعلوم أنّ الشارع بصدد بيان تمام ما له دخل في الحرمة ، وعلى فرض عدم تماميّة هذين لا إشكال في وجود الإطلاق المقامي ، فلا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة في الشبهة الحكميّة أصلا.

ولكن مع ذلك لو فرضنا الوصول إلى تلك المرتبة ، فربما يتوهّم جريان حديث الرفع لرفع شرطيّة ما هو مشكوك الشرطيّة للرضاع المحرم ، أو جزئيّة ما هو مشكوك الجزئيّة. أو قيديّة كلّ ما يحتمل أن يكون قيدا.

وفيه : أنّ حديث الرفع وإن كان يجري لرفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة ، وشرطيّة مشكوك الشرطيّة - كما حقّقناه في الأصول - إلاّ أنّه حيث كان في مقام الامتنان ، فلا يجري إلاّ في ما كان في رفعه منّة على الأمّة ، وها هنا جريانه ضد الامتنان ، لأنّه يلزم أوّلا من جريانه ثبوت الحرمة حتّى في فاقد المشكوك الشرطيّة ، وفي فاقد المشكوك الجزئيّة. وثانيا أنّ كون الفاقد موضوعا مشكوك ، وإثباته بإجراء حديث الرفع من الأصل المثبت.

وأمّا جريانه في مشكوك الموضوعيّة بأن يقال : موضوعيّة مشكوك الموضوعيّة غير معلوم فمرفوع ، فعلى فرض صحّته ينتج عكس المقصود ، لأنّ مشكوك الموضوعيّة هو الفاقد لذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، فينتج مدخليّة المشكوك في الموضوع وشرطيّته له.

وأمّا استصحاب عدم جزئيّة جزء المشكوك ، أو شرطيّة شرط المشكوك ، فليس له حالة سابقة ، والعدم المحمولي مثبت بالنسبة إلى الآخر النعتي.

وأمّا استصحاب عدم تحقّق ما هو الموضوع للتحريم عند الشارع بالمعنى العدم

ص: 334

النعتي ، ليس له حالة سابقة ، والعدم المحمولي وإن كان لا مانع من جريانه لكن مثبت.

وأمّا استصحاب عدم الحرمة - بأن يقال : بأنّ هذه المرأة لم تكن محرّمة على هذا الولد قبل أن يرتضع منها عشر رضعات ، وبعد ارتضاعه منها هذا المقدار نشكّ في التحريم أو حصول الأمومة مثلا ، فنستصحب عدم تحقّقهما ، أي التحريم والأمومة مثلا فلا بأس به.

وأمّا ما ربما يتوهّم : من أنّها قبل وقوع العقد عليها كانت أجنبيّة ومحرّمة عليه لأنّها أجنبيّة ، وبعد العقد نشكّ في حصول الزوجيّة وحلّية الوطي وسائر آثار الزوجيّة مثلا ، فنستصحب تلك الحرمة ، أو عدم حصول الزوجيّة ، أو عدم تلك الآثار.

ففيه : أنّ الاستصحاب الأوّل حاكم على هذا الاستصحاب ، لأنّ الشكّ في بقاء عدم الزوجيّة - وكونها أجنبيّة - مسبّب عن صيرورتها بهذا المقدار من الرضاع - مثلا - معنونة بأحد العناوين المحرّمة ، وبعد جريان الاستصحاب في عدم حصول أحد هذه العناوين ، لا يبقى مجال لهذا الشكّ أصلا ويرتفع تعبّدا ، وهذا معنى الحكومة. هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

وأمّا الشبهة الموضوعيّة المصداقيّة ، أي : الثاني من قسمي الشبهة ، فإن لم يكن أصلا موضوعيّا في البين ينقّح موضوع المشتبه ، ووصلت النوبة إلى الأصل الحكمي ، وذلك لأنّ الأصول الجارية في الموضوعات حاكمة على الأصول الجارية في أحكامها ، فمقتضى الأصل الحكمي هي حلّية المرأة المشتبهة حلّيتها وحرمتها ، وهو قوله علیه السلام : « كل شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (1).

إلاّ أن يقال بعدم جريان أصالة الحلّ في مثل هذه الشبهة أيضا ، لاهتمام الشارع بحفظ الأعراض وباب الفروج والدماء.

ص: 335


1- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ، ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

ولكن ذيل رواية مسعدة بن صدقة التي يقول فيها الإمام علیه السلام : « أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين أو تقوم به البيّنة » (1) ينفي هذا الاحتمال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بوجود الأصل الموضوعي في مورد الرواية ، وهو أصالة عدم تحقّق العلاقة والإضافة الأختيّة بينه وبينها ، نسبيّة أو رضاعيّة ، فتكون حلّيتها من جهة تنقيح موضوعها وإخراجه عن موضوع الحرمة تعبّدا.

وأمّا الأصول الموضوعيّة في الشبهة المصداقيّة فمختلفة هي ومواردها وآثارها جدّا باعتبار المشكوك ومنشأ الشكّ.

وعلى كلّ حال لا يبقى مجال لجريان الأصل الحكمي بعد جريانها ، لما ذكرنا من حكومتها عليها وإدخالها للموضوع تحت موضوع الحرمة أو الحلّية تعبّدا ، فيرتفع الشكّ تعبّدا ، فمثلا لو شككنا في حياة المرضعة وقلنا إنّ موضوع حرمة النكاح مركّب من الارتضاع من ثدي المرأة ، وكون المرأة حيّة ، لا أنّه أمر بسيط مسبّب عن هذه الأمور ، فباستصحاب بقاء الحياة يثبت الموضوع ، فيحكم بالحرمة ، فلا يبقى مجال لجريان أصالة الحلّ ، لعدم بقاء الموضوع له تعبّدا.

وكذا لو شككنا في أنّ اللبن من نكاح ووطي صحيح أم لا؟ فبجريان أصالة الصحّة في العقد يثبت النكاح الصحيح ويرتفع الشكّ.

وقد يكون الأصل الموضوعي موجبا لرفع موضوع الحرمة ، كما هو الحال في أغلب موارد الشكّ والشبهة المصداقية ، لأنّ استصحاب عدم حصول أحد هذه العناوين السبعة - من المشكوك الرضاعيّة - يكفي غالبا لارتفاع موضوع الحرمة ، إلاّ أن يكون أصلا جاريا في طرف الموضوع ، أعني نفس الرضاع مع شرائطها وقيودها يكون موجبا لإحرازها ، أو إحراز البعض المركّب منه ومن غيره ، فيكون حاكما على

ص: 336


1- تقدم راجع ص 335.

هذا الأصل ، أعني أصالة عدم حصول أحد هذه العناوين.

وحاصل الكلام في هذا المقام : أنّ الأصل الحكمي بحسب طبعه الأوّلي هي الحلّية ، لو لم يكن مخصّصا بالإجماع على الاحتياط في باب الفروج في الشبهات المصداقيّة ، والأصل الموضوعي حاكم عليه مطلقا ، سواء أكان موافقا له أو كان مخالفا له.

والأصول الجارية في الموضوع غالبا تكون رافعة لموضوع الحرمة ، وقد تكون في الموارد القليلة موجبة لإثبات موضوع الحرمة ، وذلك في كلّ مورد يكون الأصل الموضوعي مثبتا لبعض أجزاء الموضوع المركب ، أو بعض شرائطه وقيوده ، ويكون البعض الآخر من ذلك الموضوع المركّب محرزا بالوجدان ، كي يكون الموضوع المركّب بعضه محرزا بالأصل ، وبعضه بالوجدان.

هذا تمام الكلام في حكم الشكّ في تحقّق الرضاع مفهوما ومصداقا من حيث الرجوع إلى الإطلاقات ، ومن حيث الرجوع إلى الأصول العمليّة.

الجهة الرابعة : في شرائط تحقّق الرضاع

اشارة

وهي أمور :

[ الشرط ] الأوّل : يشترط أن يكون اللبن عن نكاح صحيح ، أي وطي غير محرّم ، فإذا كان عن الفجور بامرأة فلا يكون محرّما وموجبا لنشر الحرمة قطعا إجماعا بقسميه كما عن الجواهر. (1) وقد حقّقنا في الأصول عدم حجّية مثل هذه الإجماعات التي لها مدرك بل مدارك من الأخبار.

فالعمدة في دليل هذا الحكم قوله علیه السلام فيما رواه دعائم الإسلام عن علي علیه السلام : أنّه

ص: 337


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 265 و 266.

قال : « لبن الحرام لا يحرّم الحلال ، ومثل ذلك امرأة أرضعت بلبن زوجها ثمَّ أرضعت بلبن فجور. قال : ومن أرضع من فجور بلبن صبيّة لم يحرم من نكاحها ، لأنّ اللبن الحرام لا يحرم الحلال » (1).

وقد ورد بهذه الجملة تعليلا لعدم حرمة الحلال بالحرام في موارد عديدة ، وعلى فرض عدم اعتبار ما يتفرّد به دعائم الإسلام هناك روايات معتبرة دالّة على أنّ اللبن الذي يوجب الارتضاع منه نشر الحرمة لا بدّ وأن يكون عن وطي صحيح ، بأن تكون زوجته بالعقد الدائم أو المنقطع ، أو تكون ملكا للواطي ، أو تكون محلّلة له من قبل المالك مع اجتماع شرائط التحليل ، فما ليس عن وطى كما لو درت بدون وطي أصلا لا يوجب الحرمة فضلا عن أن يكون بوطي محرّم مثل الحيض والمحلوفة على ترك وطيها وعن الزنا.

ومن تلك الأخبار ما رواه في الكافي عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن امرأة درّ لبنها من غير ولادة ، فأرضعت جارية وغلاما من ذلك اللبن ، هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال : « لا ». (2) ورواه الصدوق بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن يونس بن يعقوب مثله (3).

وما رواه الشيخ عن يعقوب بن شعيب قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام امرأة درّ لبنها من غير ولادة ، فأرضعت ذكرانا وإناثا ، أيحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ فقال لي : « لا » (4).

ص: 338


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 243 ، ح 916 ، ذكر الرضاع.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 446 ، باب : نوادر في الرضاع ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 9 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 479 ، ح 4682 ، باب الرضاع ، ح 22 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 9 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 325 ، ح 1339 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 47 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 9 ، ح 2.

وما رواه الشيخ أيضا في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن لبن الفحل؟ قال : « هو ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام » (1).

وما رواه في الكافي عن بريد العجلي في حديث قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » فسّر لي ذلك؟ قال :

فقال علیه السلام : « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام ، فذلك الذي قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » الحديث (2).

ويظهر من هذه الروايات : أنّ الرضاع المحرّم لا بدّ له من أمرين :

أحدهما : أن يكون عن ولادة.

ثانيهما : أن يكون اللبن لبن فحل المرأة شرعا ، فلو درّ لبنها عن غير ولادة لا يكون محرّما ، فضلا عن أن يكون اللبن من ذكر أو خنثى المشكل ، ولو لم يكن من فحل المرأة شرعا أيضا لا يكون محرّما.

أمّا الأمر الأوّل ، فلقوله علیه السلام « لا » في جواب من قال : امرأة درّ لبنها من غير ولادة أيحرم؟ إلخ.

وأمّا الثاني ، فلقوله علیه السلام - في تفسيره قوله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب - « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام فذلك الذي قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ».

ولفظة « الفحل » في هذه الروايات وإن كان ظاهرا في الزوج ، سواء أكان حصول

ص: 339


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 319 ، ح 1316 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 719 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 294 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 6.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 442 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 293 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 1.

الزوجيّة بالعقد الدائم أو المنقطع ، ولكن لا يبعد كونه كناية عن الوطي الشرعي المحلّل مقابل الزنا ، فيشمل الملك والتحليل ، بل وطي الشبهة إن كان المراد من الوطي المحلّل المحلّل ظاهرا وإن كان حراما واقعيّا.

ولكن الأخير لا يخلو عن إشكال ، لبعد أن يكون المراد من هذه اللفظة هو الوطي الحلال ، ولو كان حلالا ظاهريا.

وعلى كلّ حال هذه الروايات تدلّ على أنّ اللبن الناشئ من الزنا لا يكون محرّما ، كما أنّها تدلّ على أنّ لبن الحاصل من الوطي الحلال واقعا سواء أكان حلّيته من جهة أنّ الواطي زوج أو مالك أو محلّل عليه من قبل المالك. نعم في شمولها للوطي بالشبهة إشكال كما ذكرنا.

وأمّا قوله علیه السلام - فيما رواه في الصحيح - [ عن ] عبد اللّه بن سنان « هو ما أرضعت امرأتك » محمول على الغالب ، وإنّ هذه اللفظة أيضا مثل لفظة « فحلها » كناية عن الوطي الشرعي الصحيح ، وعبّر عن هذا المعنى بامرأتك لأنّ غالب الوطي الصحيح الحلال واقعا يكن مع امرأته في أغلب الأشخاص ، وفي أغلب الأعصار والأمصار.

بقي الكلام في الوطي بالشبهة ، وأنّه هل ملحق بالوطي الصحيح من جهة حلّيته الظاهريّة ، أو ملحق بالزنا من جهة حرمته الواقعية؟

فيه وجهان :

قد يقال بأنّ عمومات التحريم ومطلقاته أنّه خصّصت أو قيّدت - بما ذكر في جملة من الروايات من أن يكون اللبن - بعنوان لبن امرأتك ، أو عنوان أن يكون لبن فحلها ، وهذان العنوانان لا ينطبقان على الوطي بالشبهة.

وقد أجبنا عن هذا بأنّ هذين العنوانين يمكن أن يكونا كنايتين عن الوطي الصحيح الشرعي.

ص: 340

ولا يرد على هذا التوجيه ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنّه لو بنينا على ورود التقييد مورد الغالب لينسدّ باب الاستدلال على اعتبار كثير من الشروط ، لتطرّق هذا الاحتمال في كثير منها إن لم يكن في جميعها (1).

وذلك لأنّ المتبع هي الظهورات ، ولا شكّ في أنّ القيود تختلف بحسب ظهورها ، وليست على نسق واحد ، وحيث أنّ المشهور ذهبوا إلى الإلحاق بالزوجة وما في حكمها في نشر الحرمة ، وإن تمسّك بعضهم بوجوه استحسانيّة لا يخرج عن كونها قياسا باطلا ، إلاّ أنّ فهمهم ممّا يؤيّد هذا الوجه الذي ذكرنا في المراد من هذين العنوانين ، ولا أقلّ من الإجمال ، فيكون المرجع هي العمومات والإطلاقات.

وأمّا دعوى انصراف العمومات والإطلاقات عن الوطي بالشبهة ، فدعوى بلا بيّنة ولا برهان.

ثمَّ إنّ في نشر الحرمة بالارتضاع من الخنثى المشكل إشكال ، لأنّ حصول الولد لها من الوطي الصحيح الشرعي الذي من شرائط نشر الحرمة بناء على عدم وجود طبيعة ثالثة من أمارات أنّه امرأة ، فليس من الخنثى المشكل ، والخنثى المشكل تصوير الوطي الصحيح في حقّه مشكل ، إلاّ أن يكون الوطي بالشبهة ، فيكون فيه جهتان من الإشكال : من جهة كونه خنثى ، ومن جهة أنّ وطيها وطي بالشبهة.

وفي الجواهر استدلّ على العدم بقول الباقر علیه السلام : « لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة » (2). فإحراز كون المرضعة امرأة لازم ، وفي الخنثى المشكل لا طريق إلى ذلك حسب الفرض ، وإلاّ ليس بمشكل.

ولكن وفيه ما ذكرنا من ورود هذه الألفاظ مورد الغالب.

ص: 341


1- « كتاب المكاسب » ص 377.
2- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 267.

وها هنا فروع

الأوّل : هل يشترط في نشر الحرمة بقاء المرأة في حبال الرجل إلى تمام الرضاع بحيث لو طلّقها قبل ذلك ، أو مات عنها قبل أن يتمّ الرضاع لا يكن الرضاع محرّما ، أو لا؟ وجهان.

وقد ادّعى الإجماع على عدم لزوم البقاء ، وقد بيّنّا حال هذه الإجماعات ، فلا نعيد.

وجه الاشتراط هو قوله علیه السلام في الروايات السابقة في تفسير الرضاع « هو ما أرضعت امرأتك » والمشتقّ ليس حقيقة فيما انقضى المبدأ عنه ، فلا يصدق على المطلّقة والمتوفّى عنها زوجها هذا العنوان.

وأمّا عنوان « فحلها » الذي في بعض الروايات الأخر فيصدق حتّى مع الطلاق وأن يتوفّى عنها زوجها.

ويرد [ على ] هذا الوجه ما بيّنّا سابقا ، من أنّ هذا العنوان ليس المراد منه إلاّ الوطي الصحيح الشرعي ، وهذا المعنى لا منافاة له مع هذين كما هو واضح ، إذ الموت والطلاق لا يقطعان نسبة اللبن عنه ، وأيضا لا فرق بين أن يرتضع في العدّة أو بعد تماميّتها.

نعم بناء على اعتبار كون الرضاع المحرّم في الحولين ، يلزم أن لا يكون خارجا عن الحولين ، ومن هذه الجهة لا فرق بين أن يكون قبل الطلاق والوفاة أو بعدهما ، وكذلك لا فرق بين أن يكون في العدّة ، أو في خارجها ، لأنّ هذا شرط آخر في الرضاع معتبر بدليل آخر.

الثاني : في أنّها لو تزوّجت بعد أن طلّقها أو مات عنها ، فإذا لم تجعل من الثاني فالحكم كما لو لم تتزوّج ، لأنّ صرف تزوّجها لم يمنع عن استناد اللبن إلى زوجها

ص: 342

الأوّل.

وأمّا لو جعلت من الثاني فتارة يكون اللبن مستمرّا وبحاله من دون انقطاع ولا زيادة ولا نقيصة ، فالظاهر أنّه من الأوّل ، وإن كان من الممكن عقلا أن يكون من الثاني بقاء ، أو يكون للثاني أيضا له دخل ، بناء على أنّ الحمل قبل الوضع أيضا ربما يوجب درّ اللبن ، وإن كان كلّ هذه احتمالات وفروض ووقوعها مستبعد جدّا. وأخرى ينقطع ويعود أو ينقص ويزيد.

فربما يتخيّل أنّه بعد الازدياد يكون المقدار الزائد للثاني ، وهكذا بعد الانقطاع تمام ما عاد للثاني ، وإلاّ فلا وجه للنقص ثمَّ الزيادة ، أو الانقطاع ثمَّ العود ، إلاّ أن يكون المنشأ هو الحمل.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه احتمالات ليس لها أساس متين ، ولم يدلّ دليل على حجّية هذه الظنون ، مضافا إلى أصالة عدم حدوث لبن آخر مستندا إلى سبب آخر.

نعم بعد الوضع لا يبقى مجال لهذا الاستصحاب ، إذ الظاهر حينئذ أنّ اللبن غذاء الطفل المتولّد ، وقد ادّعى الإجماع على الأمرين : أي : أنّ اللبن قبل الوضع للزوج الأوّل ، وبعده للثاني.

الشرط الثاني : كمّية الرضاع.

أجمعت الإماميّة على أنّ للرضاع المحرّم تقدير ، ولا يكفي فيه مسمّى الرضاع ولو بمثل ما فطر به الصائم.

نعم ذهب إلى ذلك جمع كثير من العامّة ، كأبي حنيفة (1) ومالك (2)

ص: 343


1- « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 35 ، في مانع الرضاع ، نقل عن أبي حنيفة ، « اللباب » ج 3 ، ص 31 ، كتاب الرضاع.
2- « الموطأ » ج 2 ، ص 604 ، كتاب الرضاع ، ح 11 ، باب رضاعه الصغير ، « المدونة الكبرى » ج 2 ، ص 405 ، كتاب الرضاع، ما جاء في حرمة الرضاعة ، « بلغة السالك لأقرب المسالك » ج 1 ، ص 515 ، باب في بيان أحكام الرضاع.

والأوزاعي (1) والثوري (2) والبلخي (3) والليث (4) ، حتى الأخير منهم ادّعى إجماع أهل العلم على نشر الحرمة بمثل ما يفطر به الصائم ، مع أنّ أكثرهم قائلون بالتقدير.

نعم ذهب القاضي نعمان المصري صاحب « دعائم الإسلام » إلى مقالتهم ، لما رواه في ذلك الكتاب عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : « يحرم من الرضاع قليله وكثيرة المصة الواحدة تحرم » (5).

ثمَّ قال في محكي الجواهر : وهذا قول بيّن صوابه لمن تدبّره ووفّق لفهمه ، لأنّ اللّه تعالى يقول ( وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) والرضاع يقع على القليل والكثير (6).

وفيه : أنّ الاستدلال لأمثال هذه الفتاوى بمطلقات الكتاب والسنّة لا وجه له ، بعد تقييدها بالمقيّدات المستفيضة ، كما ستمرّ عليك إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا ما رواه عن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ، ومكاتبة عليّ بن مهزيار - في الصحيح - لأبي الحسن علیه السلام يسأله عمّا يحرم من الرضاع؟ فكتب علیه السلام : « قليله وكثيره حرام » (7) فلا بدّ وأن يطرحا أو يؤوّلا ، لإعراض الأصحاب عن العمل بظاهرهما ، ومعارضتهما مع ما هو معمول به بين الأصحاب ، وأصحّ سندا وأكثر عددا ، مع موافقة

ص: 344


1- « فقه الأوزاعي » ج 2 ، ص 129 ، في أحكام الرضاع ، المسألة الأولى : المقدار المحرم في الرضاع ، « المحلى » ج 10 ، ص 12 ، أحكام الرضاع ، نقل عن الأوزاعي ، « المغني » ج 9 ، ص 193 ، كتاب الرضاع ، (6410) المسألة الأولى ، نقل عن الأوزاعي.
2- « المغني » ج 9 ، ص 193 ، كتاب الرضاع ، (6410) المسألة الأولى ، نقل عن الثوري.
3- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 269 ، في شروط الرضاع وأحكامه ، نقل عن البلخي.
4- « المغني » ج 9 ، ص 193 ، كتاب الرضاع ، (6410) المسألة الأولى ، نقل عن الليث بن سعد.
5- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 240 ، ذكر الرضاع.
6- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270.
7- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1308 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 16 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 196 ، ح 711 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 285 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 10.

هذين لكثير من أهل الخلاف ، كما حكيناهم عن الجواهر ، ومخالفة تلك لهم (1).

وإن كان يمكن أن يقال : كلّ واحدة من هاتين الطائفتين مخالف لبعضهم وموافق للبعض الآخر ، وعلى كلّ حال الذي راجع أخبار التقدير يقطع ببطلان هذه الفتوى الذي صدر عن القاضي المصري ، ومثله في الشذوذ ما نقل عن الإسكافي : أنّه ذهب إلى أنّ الرضاع المحرّم هو الرضعة الكاملة حتّى يمتلأ بطنه (2).

قال في محكي الجواهر : قد اختلف الرواية من الوجهين جميعا ، في قدر الرضاع المحرّم ، إلاّ أنّ الذي أوجبه الفقه عندي - واحتياط المرء لنفسه - أنّ كلّما وقع عليه اسم رضعة - وهي ملأ بطن الصبي إمّا بالمص أو بالوجور - محرّم للنكاح (3).

وهذا القول وإن كان لا ينافي أصل التقدير ، لأنّه في الحقيقة تقدير برضعة كاملة ، وليس عبارة عن مسمّى الرضاع ، قليلا كان أو كثيرا ، إلاّ أنّه مخالفة المشهور ، بل مخالفة إجماع الإماميّة مثل القول الأوّل.

وما يمكن أن يكون دليلا لهذا القول روايات :

منها : رواية زيد ابن عليّ ، عن آبائه عن عليّ علیهم السلام قال : « الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحلّ له أبدا » (4).

ومنها : مضمرة ابن أبي يعفور ، وفيها قال : سألته عمّا يحرم من الرضاع؟ قال : « إذا رضع حتّى يمتلئ بطنه ، فإنّ ذلك ينبت اللحم والدم ، وذلك الذي يحرم » (5).

ص: 345


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270 و 271.
2- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 30 ، في المحرمات بالرضاع ، نقل عن الإسكافي ، « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270 ، في شروط الرضاع وأحكامه ، نقل عن الإسكافي.
3- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 270.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 317 ، ح 1309 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 17 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 197 ، ح 712 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 286 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 12.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1307 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 15 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 195 ، ح 708 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 290 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 4 ، ح 1.

ومنها : قوله علیه السلام في تفسير الرضاع قال : « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتّى يمتلئ ويتضلّع » (1).

وفيه : أنّ في دلالة بعض هذه الروايات على دعواه تأمّل واضح ، وعلى فرض تسليم دلالتها ليست قابلة للمعارضة مع ما هو أقوى وأشهر وأكثر عددا وأصحّ سندا منها ، خصوصا مع إعراض الأصحاب عن العمل بهذه الروايات ، بل انعقاد الإجماع على خلافها ، فهذا القول في البطلان مثل سابقتها.

وعلى كلّ حال : المشهور بين الأصحاب في تقدير الرضاع طرق ثلاث :

الأوّل : الأثر ، أعني إنبات اللحم ، وشدّ العظم.

الثاني : الزمان ، أعني يوما وليلة.

الثالث : العدد ، أعني العشرة أو الخمسة عشر.

أمّا الأوّل فقد وردت فيه روايات :

منها : ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم وشدّ العظم » (2).

ومنها : ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال : « ما ينبت اللحم والدم » ثمَّ قال : « أترى واحدة تنبته؟ » فقلت :

ص: 346


1- « الكافي » ج 5 ، ص 445 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1306 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 14 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 195 ، ح 707 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 290 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 4 ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 289 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 3 ، ح 2.

اثنتان أصلحك اللّه؟ قال : « لا » ، فلم أزل أعدّ عليه حتّى بلغت عشر رضعات » (1).

ومنها : ما عن حمّاد بن عثمان - في الصحيح أو الحسن - عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدم » (2).

ومنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد اللّه بن سنان عن أبي الحسن علیه السلام قال : قلت له : يحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان والثلاثة؟ قال : « لا ، إلاّ ما اشتدّ عليه العظم ونبت اللحم » (3).

ومنها : ما عن مسعدة بن صدقة - في الموثق - عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما شدّ العظم وأنبت اللحم ، فأمّا الرضعة والرضعتان والثلاث حتّى بلغ عشرا إذا كنّ متفرّقات فلا بأس » (4).

ومنها : ما عن عبيد بن زرارة - في الصحيح - قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : انا أهل بيت كبير ، فربما كان الفرح والحزن الذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فربما استخفت المرأة انّ تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها وبينه رضاع ، وربما استخفّ الرجل أن ينظر إلى ذلك ، فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : « ما أنبت اللحم والدم ». فقلت : فما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : « كان يقال : عشر رضعات ». قلت : فهل

ص: 347


1- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 288 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 21.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 312 ، ح 1294 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 193 ، ح 699 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 289 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 3 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 438 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 312 ، ح 1295 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 288 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 23.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 439 ، باب : حدّ الرضاع الذي يحرم ، ح 10 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1297 ، باب من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 287 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 19.

تحرم عشر رضعات؟ فقال : « دع ذا » ثمَّ قال : « ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع » (1).

ومنها : ما رواه في التهذيب - في الصحيح - عن ابن رئاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت ما يحرم من الرضاع؟ قال : « ما أنبت اللحم والدم وشدّ العظم ». قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : « لا ، لأنّه لا ينبت اللحم ولا يشدّ العظم عشر رضعات » (2).

وظاهر هذه الأخبار ، بل صريح بعضها - كخبر الأخير - هو أنّ المدار على هذين ، ولا اعتبار بالعدد إلاّ من جهة كونه طريقا إليهما ، فما هو الموضوع الشرعي للتحريم ليس في الحقيقة إلاّ هذين ، أي إنبات اللحم ، وشدّ العظم.

وأمّا الإشكال على أنّه كيف يمكن أن يجعل الشارع شيئا موضوعا لحكمه ، مع عدم إمكان معرفته لأغلب الناس ، لأنّه ليس المراد منهما المرتبة الكاملة منهما ، بحيث كلّ من ينظر إلى المرتضع يرى وجود هذين فيه ، لأنّ تلك المرتبة لا تحصل بارتضاعه يوما وليلة ، أو خمسة عشر رضعة له قطعا ، والمرتبة التي تحصل بهذا المقدار من الارتضاع من الأمور غير المحسوسة التي لا يفهمها غالب الناس ، فيلزم إحالة الحرمة على المجهول.

ففيه أوّلا : أنّ كلّ أحد يدري بأنّ كلّ غذاء ترد إلى المعدة - بعد هضمها ودفع المعدة للفضول - تتحوّل إلى الدم ، ويجري في العروق الشعريّة ، وبعد وصوله إلى أيّ عضو من الأعضاء؟ تتشكل بشكل ذلك العضو من العظم واللحم وغير ذلك من الأجزاء والأعضاء ، فلا محالة كلّ غذاء يتغذّى به الإنسان ، بل الحيوان ، بل النبات

ص: 348


1- « الكافي » ج 5 ، ص 439 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1296 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 4 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 194 ، ح 701 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 287 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 18.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1298 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 2.

تكون موجبة لنموّ المتغذّي ، لأنّه لا معنى للنموّ إلاّ هذا المعنى ، والقوّة الغاذية مشتركة بين جميع الحيوانات والنباتات.

فبناء على هذا ، حتّى الرضعة الواحدة تكون موجبة لإنبات اللحم وشدّ العظم ، ولكن الشارع لم يجعل مطلق الإنبات ولو كان بالدقّة العقليّة موضوعا لحكمه ، بل كلّ ما يصدق عليه الإنبات عند أهل الخبرة من العرف ، وتلك المرتبة لا تحصل إلاّ برضاع يوم وليلة ، أو بخمسة عشر رضعة ، اللذان لا يكون الفاصل بينها التغذّي بغذاء آخر ، إمّا لانصراف الإطلاق إلى تلك المرتبة ، أو يفهم ذلك من الجعلين الآخرين ، أي الزمان والعدد.

وعلى كلّ حال : الطريق إلى فهم ما جعله الشارع موضوعا موجود ، وهو إمّا فهم أهل الخبرة ، أو الطريقين المجعولين ، أعني : الزمان والعدد.

وثانيا : أنّ الموضوع الواقعي هو الذي يكون فيه مناط الحكم وملاكه ، وفي عالم الإثبات يحتاج إلى طريق لمعرفته. وأمّا في عالم الثبوت فتابع للواقع ، أعني كونه ذا الملاك ، فيمكن أن يكون الموضوع الواقعي هو إنبات اللحم وشدّ العظم ، ولكن حيث لا طريق إلى معرفته في مقام الإثبات وهو لازم أعمّ لملزومين :

أحدهما : ارتضاع يوم وليلة. ثانيهما : ارتضاع خمسة عشر رضعة جعل الشارع في مقام الإثبات موضوع حكمه أحد العنوانين ، أي الزمان والعدد ، فإنبات اللحم وشدّ العظم موضوع ثبوتي واقعي ، والزمان والعدد موضوع إثباتي ، وفي كلّية الأحكام المعلّلة الموضوع الواقعي هي العلّة إذا كانت قابلة لتعلّق التكليف به.

ثمَّ إنّه على تقدير كون الموضوع هو إنبات اللحم وشدّ العظم مطلقا - سواء أكان حصولها بنفس المقدار المعيّن من الزمان أو العدد ، أو بأقلّ منهما ، أو بأكثر منهما ، بأن لا يكون ملازمة بينهما وبين هذا الموضوع ، أعني : إنبات اللحم وشدّ العظم ، وكون قول أهل الخبرة طريقا إلى معرفتهما - فهل حجّية قولهم من جهة كونه بيّنة كي يعتبر

ص: 349

فيه العدد والعدالة ، أو من جهة أنّ قول أهل الخبرة في نفسه حجّة من دون لزوم اندارجه تحت أدلّة حجّية البيّنة لبناء العقلاء على حجّية قولهم والرجوع إليهم ولو كان واحدا وفاسقا ، بل كان كافرا. كلّ ذلك من جهة بناء العقلاء وعدم ردع الشارع لهذا البناء؟

الظاهر هو الأخير ، لأنّ كلام أهل الخبرة في هذه المقامات ليس من جهة إحساسهم بأحد الحواسّ الخمسة الظاهريّة شيئا لا يدركه من عداهم ، لأنّه ربما يكون غير أهل الخبرة أقوى حواسّا من أهل الخبرة ، بل يكون من جهة إعمال رأيهم ونظرهم ، ولو كان هذا الرأي قد حصل لهم من ناحية الإحساس ، فبناء على هذا لا يحتاج إلى التعدّد ولا إلى العدالة.

ثمَّ إنّ في بعض هذه الأخبار كان بدل شدّ العظم « إنبات الدم » كما في روايتي عبيد بن زرارة ورواية حمّاد بن عثمان ، والظاهر أنّه ملازمة بين إنبات اللحم والدم مع إنبات اللحم وشدّ العظم ، لأنّه ليس المراد من إنبات الدم هو تحوّل الغذاء إلى الدم ، إذ لا يصدق عليه الإنبات في ذلك الوقت ، بل المراد به الدم الذي يجري في العروق الشعريّة ، ويأخذ كلّ عضو وجزء من الأعضاء والأجزاء النامية مقدارا منه ، ويصير من سنخ ذلك الجزء ، فالعظم أيضا مثل سائر الأجزاء له نصيب من هذا الدم.

فمعنى إنبات الدم أي صيرورة الجارية في العروق الشعريّة من سنخ الأعضاء المتغذّية بذلك الدم ، فيكون العنوانات - أي : عنوان إنبات اللحم ، والدم - مع عنوان إنبات اللحم وشدّ العظم متلازمين ، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.

فلا يبقى مجال لأن يقال : هل كلّ واحد منهما موضوع مستقلّ ، أو لا بدّ من اجتماع كلا العنوانين ، أو أحدهما موضوع دون الآخر؟ فيقع التعارض بين الأخبار التي مؤدّاها عنوان إنبات اللحم والدم ، مع التي مؤدّاها عنوان إنبات اللحم وشدّ العظم كي نحتاج إلى إعمال قواعد باب التعارض.

ص: 350

وقد عرفت ممّا ذكرنا أيضا أنّه لا انفكاك بين عنوان إنبات اللحم وشدّ العظم ، بل هما متلازمان ومعلولان لعلّة واحدة. وهي وصول الدم الذي تحوّل إليه الغذاء الواردة إلى المعدة بعد طبخها وهضمها فيها إلى كلّ جزء من أجزاء البدن ، فيحصل من هذا الوصول أمران : أحدهما إنبات اللحم ، ثانيهما شدّ العظم ، ولا يمكن أن يتخلّف أحدهما عن الآخر ، وإلاّ يلزم تخلّف المعلول عن العلّة.

نعم تقدّم : أنّ لازم هذا البيان أنّ الرضعة الواحدة ، بل المصة الواحدة تكون كافية في التحريم ، كما ذهب إليه جمع من أهل الخلاف ، والقاضي نعمان المصري منّا (1).

وقد أجبنا عن ذلك : بأنّ الموضوع للحكم ليس هو مطلق الإنبات والشدّ ولو كان بالدقّة العقليّة ، بل ما هو مصداق بنظر أهل العرف من أهل الخبرة بواسطة انصراف الإطلاق إلى ذلك ، أو من جهة أخبار التقدير بالزمان والعدد.

فلا حاجة إلى ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنّ مقتضى النصوص المذكورة هو اعتبار تحقّق كلا الأمرين واجتماعهما ، أي : إنبات اللحم وشدّ العظم (2) ، لما ذكرنا من تلازمهما وعدم انفكاكهما. نعم لو لم يكن بينهما تلازم كان ما ذكره قدس سره وجيها.

ولم يكن وجه لما ذكره شيخنا الشهيد قدس سره (3) لأنّ عطف شدّ العظم على إنبات اللحم بالواو يدلّ على ذلك.

وينفي ما ذهب إليه الشهيد قدس سره من الاجتزاء بكلّ واحد من الأمرين ، وذلك لأنّ مفاد العطف بالواو هو الجمع.

ثمَّ إنّه لا وجه لاحتمال أن يكون المراد من إنبات اللحم والدم ، أو إنبات اللحم وشدّ العظم قابليّة الطفل لأنّ يصير كذلك بالارتضاع لو لم يكن عروض عارض وطروّ

ص: 351


1- تقدم راجع ص 343 - 344.
2- « كتاب المكاسب » ج 378.
3- « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 372.

مانع ، فيقال في الطفل المريض مثلا لو لم يكن المرض لكان ينبت له اللحم ويشتدّ له العظم بهذا الارتضاع.

وذلك من جهة ظهور كلّ عنوان أخذ موضوعا للحكم ، أو من أجزاء موضوعه ، أو من شرائطه في فعليّته ، لا أنّه موضوع بأعمّ من الفعليّة ، فقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1) جعل الإرث لمن يكون ولدا بالفعل ، لا للنطفة المستقرّة في الرحم التي كانت تصير ولدا لو لا عروض المانع. وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

وأمّا الثاني ، أي التحديد والتقدير بالزمان ، فقد ورد فيه روايتان :

الأولى : موثّقة زياد بن سوقة ، قال : قلت لأبي جعفر علیه السلام هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ فقال : « لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد ، ولم يفصل بينهما رضعة امرأة غيرها ، فلو أنّ امرأة أرضعت غلاما وجارية عشر رضعات من لبن فحل واحد ، وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما » (2).

الثانية : مرسل المقنع سأل الصادق علیه السلام هل لذلك حدّ؟ فقال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصّل بينهن » (3).

والظاهر أنّ هذا الرواية الثانية غير الرواية الأولى ، لأنّ الأولى كانت مرويّة عن أبي جعفر علیه السلام ، وهذه الرواية مرويّة عن الصادق علیه السلام .

ص: 352


1- النساء (4) : 11.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 315 ، ح 1304 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 12 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 192 ، ح 696 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 1.
3- « المقنع » ص 110 ، باب بدو النكاح ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 286 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 14.

واحتمال أن يكون الصادق وصفا لأبي جعفر علیه السلام خلاف مصطلح الأخبار.

ودلالة هاتين الروايتين على المدّعى - أي : التقدير بالزمان - واضح جليّ ، وصريحهما أنّ حدّ الرضاع المحرّم بحسب الزمان يوم وليلة ، ولا يكون أقلّ من ذلك ، ولا يحتاج إلى أكثر من هذا.

وأمّا سندهما وإن كانت الثانية مرسلة لا تشملها أدلّة حجّية الخبر الواحد في نفسه ، لما بيّنّا في الأصول أنّ مفاد تلك الأدلّة حجّية الخبر الموثوق الصدور ، ولكن حيث أنّ العمل بها مجمع عليه بين الأصحاب ، ولم يخالف أحد منهم في العمل بمفاد هاتين الروايتين ، فتدخلان تحت أدلّة الحجّية من هذه الجهة.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأولى حجّة في نفسه ، لكونها موثّقة ، وعلى كلّ حال العمل بهما متعيّن.

وأمّا الروايات الأخر الواردة في التقدير بحسب الزمان - المعارضة مع هاتين مضمونا ومن حيث المؤدّى - فمطروحة أو تأوّل ، لإعراض الأصحاب عنها وعدم اعتنائهم بها ، كالتقدير بثلاثة أيّام متواليات في الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا علیه السلام قال فيه : « والحدّ الذي يحرم به الرضاع ممّا عليه عمل العصابة دون كلّ ما روى ، فإنّه مختلف ما أنبت اللحم وقوي العظم ، وهو رضاع ثلاثة أيّام متواليات ، أو عشرة رضعات متواليات محرّرات مرويّات بلبن الفحل » (1).

وكالتقدير بخمسة عشر يوما ولياليهنّ في مرسلة الصدوق أنّه سأل الصادق علیه السلام « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ولا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع خمسة عشر يوما ولياليهنّ ، وليس بينهنّ رضاع ».

وكالتقدير بسنة في صحيح علاء بن رزين عن الصادق علیه السلام سألته عن الرضاع؟

ص: 353


1- « فقه الرّضا » ص 234 ، باب : النكاح والمتعة والرضاع.

فقال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضع من ثدي واحد سنة » (1).

وكالتقدير بحولين كاملين ، كخبر الحلبي عن الصادق علیه السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما كان حولين كاملين » (2).

وكخبر عبيد بن زرارة عنه علیه السلام أيضا سألته عن الرضاع؟ فقال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين » (3).

فهذه الروايات ولو أنّ بعضها صحيح بحسب السند ، ولكن الأصحاب حيث أعرضوا عنها قديما وحديثا ولم يعتنوا بها سقطت عن الاعتبار ، بل قالوا كلّما ازداد صحّة ازداد وهنا ، وما أحسن عبارة المحقّق في المعتبر حيث قال فيه : فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه ، أو شذّ يجب طرحه (4).

ثمَّ إنّ ها هنا فروع

منها : أنّه لو أرضعت الولد يوما وليلة ولكن برضعات ناقصة ، هل يؤثّر مثل هذا الرضاع في نشر الحرمة ، أو يلزم أن يكون برضعات تامّة؟

والجواب : أنّه لا فرق بين أن يكون إرضاعها بالرضعات الكاملة أو الناقصة ، إذ

ص: 354


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4673 ، باب الرضاع ، ح 13 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1315 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 23 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 198 ، ح 718 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 286 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 13.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4675 ، باب الرضاع ، ح 15 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 292 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 10.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4674 ، باب الرضاع ، ح 14 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 317 ، ح 1310 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 18 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 197 ، ح 713 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 292 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 8.
4- « المعتبر » ج 1 ، ص 29 ، مقدمة الكتاب ، الفصل الثالث : في مستند الأحكام.

أنّ هذه الكلمة - أي : رضاع يوم وليلة بعد معلوميّة أنّه ليس المراد منها اتّصال الرضاع في هذه المدّة ، أي يكون الطفل مشغولا بالارتضاع في تمام هذه المدّة كي يكون المجموع رضعة واحدة ، لأنّ هذا المعنى غير ممكن وقوعها عادة - ظاهرة في أن يكون الولد في تمام هذه المدّة يرتضع بنحو المتعارف ، بحيث يشبع إذا جاع ، فلا فرق بين أن يكون إشباعه بعد أن جاع برضعات كاملة ، أو كان برضعات ناقصة. فلو أرضعته رضعة ناقصة ، ثمَّ أكملته برضعة أخرى ، وهكذا إلى تمام يوم وليلة يصدق أنّه رضاع يوم وليلة ، أو أنّه ليس بأقلّ منها.

ومنها : أنّه هل لا بدّ من أن يكون ابتداء الرضاع في أوّل النهار إلى تمام الليل ، أو ابتدائه من أوّل الليل إلى انتهاء النهار ، أو يكفي الملفّق منهما؟

الظاهر كفاية التلفيق لصدق رضاع يوم وليلة على الملفّق منهما ، لأنّه لا خصوصيّة لعنوان اليوم الكامل أو الليلة الكاملة ، بل المراد امتداد زمان الرضاع حتّى ينبت اللحم ويشدّ العظم ، ولا أثر لخصوصيّة بياض اليوم وسواد الليل ، حتّى إنّه لو كان من الممكن امتداد زمان الرضاع أربعة وعشرين ساعة متّصلة - كلّه من الليل أو كلّه من النهار - لكان كافيا ، لكنّه غير ممكن.

ويمكن أن يقال كما أفاده شيخنا الأعظم قدس سره (1) : إنّ قوله علیه السلام : « لا يكون أقلّ من رضاع يوم وليلة » أظهر في صدقه على الملفّق من صدق رضاع يوم وليلة ، لأنّ لفظة « لا يكون أقلّ من زمان كذا » ربما يكون قرينة على أنّ المراد من اليوم والليلة ليس عنوان اليوم الكامل والليلة هكذا.

ومنها : أنّه لو أطعمه في أثناء اليوم والليلة بطعام آخر ، هل يكون مضرّا بصدق رضاع يوم وليلة أم لا؟

الظاهر عدم كفاية ذلك الرضاع حينئذ ، لأنّ الظاهر من هذه الكلمة « أن يكون

ص: 355


1- الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 379 ، في شروط انتشار الحرمة بالرضاع.

غذاؤه بحسب المتعارف مدّة يوم وليلة » هو هذا الرضاع ، نعم لو كان الطعام الآخر قليلا بحيث لا ينافي صدق هذا العنوان عليه ، فليس بمضرّ.

ومنها : أنّه هل يعتبر حال هذا الطفل في الإرضاع أو أوساط الأطفال؟

الظاهر هو ما ذكرنا من إشباع شخص هذا الطفل ، سواء أكان شربه لللبن أكثر من المتعارف أو أقلّ ، أو كان على المتعارف.

ومنها : أنّه هل يعتبر احتمال تأثير هذا الرضاع في إنبات اللحم وشدّ العظم ، أم لا؟

الظاهر لزوم هذا الاحتمال ، كما هو مفاد بعض الأخبار السابقة (1).

الثالث : التقدير بالعدد ، وقد عرفت عدم صحّة ما حكى عن القاضي نعمان المصري من التحرير بمسمّى الرضاع (2) ، وهكذا ما حكى عن الإسكافي من كفاية الرضعة الواحدة في نشر الحرمة (3) ، وقلنا إنّ الروايات التي استدلّوا بها لهذين القولين مأوّل أو مطروح (4) ، لإعراض الأصحاب عنها.

والمشهور بين الإماميّة في التحديد بالعدد قولان :

أحدهما : العشر رضعات.

ثانيهما : خمسة عشر رضعة ، ولعله أشهر القولين ، بل ما هو المشهور بين المتأخّرين هو الأخير ، أي الخمسة عشر رضعة.

والمدرك لكلّ واحد من القولين هي الروايات الواردة في هذا الباب.

فمدرك القول بالعشر أخبار :

ص: 356


1- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (2).
2- تقدم راجع ص 344.
3- تقدم راجع ص 345 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 344 - 346.

منها : رواية فضيل بن يسار عن الباقر علیه السلام قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما كان مخبورا ». قلت : وما المخبور؟ قال : « أم مربيّة أم تربي أو ظئر تستأجر أو خادم تشتري أو ما كان مثل ذلك موقوفا عليه » (1).

ومنها : الموثّق عن عمر بن يزيد ، قال : سألت الصادق علیه السلام عن الغلام يرضع الرضعة والثنتين؟ فقال : « لا يحرم » فعددت عليه حتّى أكملت عشر رضعات؟ قال : « إذا كانت متفرّقة فلا » (2).

ومنها : خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال : « ما ينبت اللحم والدم » ثمَّ قال : « أترى واحدة تنبته؟ » فقلت : اثنتان أصلحك اللّه فقال : « لا » فلم أزل أعد عليه حتّى بلغت عشر رضعات » (3).

ومنها : خبره الآخر أيضا في حديث ، إلى أن قال : فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : « ما أنبت اللحم والدم ». فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : « كان يقال عشر رضعات ». قلت : فهل تحرم عشر رضعات؟ وقال : « دع ذا ، ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع » (4).

ومدرك القول بالخمسة عشر أيضا أخبار :

منها : ما تقدّم عن زياد بن سوقة في القسم الثاني من تحديد الرضاع ، أي : التقدير بالزمان ، في الموثق وهو قوله علیه السلام فيه : « لا يحرم الرضاع أقلّ من رضاع يوم وليلة ، أو

ص: 357


1- « معاني الأخبار » ص 214 ، باب : معنى قول الصادق علیه السلام « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما كان مجبورا » ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 324 ، ح 1334 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 42 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 284 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 7.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 439 ، باب : حد الرضاع الذي يحرم ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 314 ، ح 1302 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 10 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 194 ، ح 703 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 5.
3- تقدم راجع ص 347 ، هامش رقم (1).
4- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (1).

خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد ولم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ، فلو أنّ امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد ، وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما » (1).

ومنها : مرسل مقنع الذي تقدّم في ذلك المقام أيضا ، وهو : سئل الصادق علیه السلام هل لذلك حد؟ فقال علیه السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعات متواليات لا يفصّل بينهن » (2).

ومنها : موثّقة عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول « عشر رضعات لا يحرمنّ شيئا » (3).

ومنها : صحيحة علىّ بن رئاب ، عن الصادق علیه السلام قال : قلت : ما يحرم من الرضاع؟ قال : « ما أنبت اللحم وشدّ العظم ». قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : « لا ، لأنّه لا تنبت اللحم ولا تشدّ العظم عشر رضعات » (4).

ومنها : ما في التهذيب عن ابن بكير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقال : « عشر رضعات لا تحرم » (5).

هذه جملة من الروايات الواردة في مدرك هذين القولين.

ص: 358


1- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (2).
2- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (3).
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1299 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 195 ، ح 706 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 3.
4- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (2).
5- « قرب الإسناد » ص 170 ، ح 622 ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 313 ، ح 1300 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 283 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 4.

وهناك وردت رواية أخرى مفادها عدم التحريم بخمسة عشر رضعة ، وهو ما رواه عمر بن يزيد قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « خمسة عشر رضعة لا تحرم » (1) ولكنّها مؤولة أو مطروحة ، للإجماع على خلافها.

ففي التقدير بالعدد يدور الأمر بين هذين القولين ، فإذا بطل أحدهما يثبت الآخر ، للإجماع على عدم تحريم أقلّ من العشرة ، ولا لزوم الزيادة على الخمسة عشر ، وعدم القول بتحريم ما زاد على العشرة مع كونه دون الخمسة عشر إلاّ من جهة كون العشرة محرّما ومندرجا تحته ، وإلاّ فالمتوسّط بين العشرة والخمسة عشر لم يجعل موضوعا للتحريم إجماعا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : ذهب المفيد (2) والمعاني (3) وسلار (4) والقاضي (5) والتقي (6) وابن حمزة (7) والعلاّمة في المختلف (8) وولده (9) والشهيد في اللمعة 5 (10) إلى التقدير بالعشر ، ومستندهم في ذلك - بعد الإطلاقات - الروايات المتقدّمة ، أي رواية فضيل بن يسار باعتبار ذيلها ، أي قوله علیه السلام : « ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (11) وموثّق

ص: 359


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 314 ، ح 1301 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 9 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 193 ، ح 697 ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 284 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 2 ، ح 6.
2- « المقنعة » ص 502.
3- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 29 ، في المحرمات بالرضاع ، حكى عن العمّاني.
4- « المراسم » ص 149.
5- « المهذب » ج 2 ، ص 190.
6- « الكافي في الفقه » ص 285.
7- « الوسيلة » ص 301.
8- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 30.
9- « إيضاح الفوائد » ج 3 ، ص 46.
10- « اللمعة الدمشقية » ص 187 ، كتاب النكاح ، الفصل الثالث : في المحرمات.
11- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (1).

عمر بن يزيد ، (1) وخبري عبيد بن زرارة (2).

وفيه : أنّ الإطلاقات على فرض وجودها مخصّصة بالروايات المتقدّمة في التقدير بالأثر وما تقدّم في أوّل هذا العنوان - أعني : صحيحة على بن رئاب (3) ، وموثّقة عبيد بن زرارة (4) ، وخبر ابن بكير (5) - فلا يبقى وجه للتمسّك بالإطلاقات أصلا.

أمّا الروايات ، فعمدتها رواية فضيل بن يسار ، حيث أنّها تدلّ بمنطوقها على تحريم عشر رضعات بخلاف سائرها ، فإنّها لو كانت دالّة تكون دلالتها بالمفهوم ، مع وجود مناقشات كثيرة فيها سنذكر بعضها إن شاء اللّه تعالى.

وهذه الرواية مخدوشة من جهات :

فأوّلا : من جهة سندها ، لأنّ فيه محمّد بن سنان ، وقال النجاشي في حقّه : وهو رجل ضعيف جدّا ، لا يعول عليه ، ولا يلتفت إلى ما تفرّد به ، وحكى عن الكشّي ، عن محمّد بن قتيبة النيشابوري ، عن الفضل بن شاذان أنّه قال : لا أحلّ لكم إن ترووا أحاديث محمّد بن سنان (6) وطعن عليه الكشي أيضا (7).

وثانيا : من جهة مضمونها باعتبار حصرها المحرّم في المجبور ، مع أنّه ليس كذلك إجماعا ، لأنّه لو لم تكن المرضعة أمّا ولا مستأجرة ولا أمة أيضا يوجب إرضاعها التحريم إجماعا.

وثالثا : من جهة متنها ، فإنّ الصدوق قدس سره رواها بدون ذلك الذيل ، أي قوله علیه السلام :

ص: 360


1- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (2).
2- تقدم راجع ص 347 ، هامش رقم (1) ، وص 348 ، هامش رقم (1).
3- تقدم راجع ص 348 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 347 ، هامش رقم (1).
5- تقدم راجع ص 358 ، هامش رقم (5).
6- « رجال النجاشي » ص 328 ، رقم (888).
7- « رجال الكشي » ص 389 ، ح 729 ، وص 507 ، ح 979 و 980.

« ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (1). والتهذيب مع ذلك الذيل (2).

وإذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة ، ولو أنّ أصالة عدم الزيادة مقدّمة على أصالة عدم النقيصة عند العقلاء والاعتبار ، ولكن لا يجرى ذلك في هذا المقام ، لأنّه كيف يمكن لمثل الصدوق قدس سره الذي هو خرّيت هذه الصناعة ، ومن أحذق حذاق هذا الفنّ ترك مثل هذه الفقرة من الرواية وإسقاطها ، مع أنّها مدار الحكم ، وتترتّب عليه آثار مع أنّهم صرّحوا بأن الفقيه أضبط عند وقوع الاختلاف من التهذيب.

واحتمل الشيخ الأعظم قدس سره أنّ تكون هذه الزيادة من محمّد بن سنان ، لأنّه داخل في أسناد التهذيب ، وليس واقعا في سند الفقيه (3).

وهناك اضطرابات أخر في المتن من حيث الاختلاف الواقع في لفظة « المجبور » ففي بعض النسخ بالحاء المهملة ، وفي البعض الآخر بالخاء المعجمة ، وفي نسخة الفقيه بالجيم (4) ، ويرجحه - على الاحتمالين الآخرين - في الوافي (5) ، ومن حيث مقابلة المجبور مع الخادم والظئر في بعض نسخ التهذيب ، وجعلهما قسما له في نسخة أخرى (6).

ورابعا : من جهة ترك ظاهرها وعدم العمل به ، لأنّه لم يفت أحد بلزوم نوم الصبيّ بعد أن ارتضع وروى في التحريم ، فلذلك لا يبقى حجّية لهذه الرواية أصلا كي تكون مدركا ومستندا لهذا القول.

ولو لا ما ذكرنا من الإشكالات على هذه الرواية كان يمكن أن يقال : إنّ رواية فضيل بن يسار - بعد تخصيص عموم العشر رضعات بالمتواليات بواسطة منطوق

ص: 361


1- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (1).
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 315 ، ح 1305 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 13 ،
3- « كتاب المكاسب » ص 380.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 477 ، ح 4672 ، باب الرضاع ، ح 12.
5- « الوافي » 21 ، ص 239 ، ح 21154 ، أبواب بدء النكاح والحثّ عليه ، ح 23.
6- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 316 ، ح 1305 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 13.

موثّق عمر بن يزيد وخبري عبيد بن زرارة - تكون أخصّ من الروايات الدالّة على عدم تحريم العشر ، لأنّ تلك الروايات تدلّ على عدم تحريمه ، سواء أكانت متواليات أو متفرّقات ، وهذه الرواية تدلّ على تحريمه إذا كانت متواليات بعد تخصيصها بما ذكرنا ، فتكون أخصّ من تلك.

ولكن مع ذلك أيضا لا يفيد ، لأنّه حتّى على فرض غضّ النظر عن هذه المناقشات تعارضها رواية زياد بن سوقة ، التي مضمونها عدم التحريم بما هو أقلّ من خمسة عشر متواليات (1) ، فهو صريح في أنّ العشرة المتوالية وما زاد عليها إلى أن يبلغ خمسة عشرة المتوالية لا تكون محرّما ، وعلى فرض التكافؤ يتساقطان ، فيرجع إلى الأخبار الدالّة على عدم تحريم العشرة المتقدّمة.

وهذا الوجه كما يجري في رواية فضيل بن يسار ، يجري في موثّق عمر بن يزيد وخبري عبيد بن زرارة ، لأنّها أيضا طرف المعارضة ، فتسقط أيضا بالمعارضة.

مضافا إلى أنّ دلالتها بالمفهوم والمنطوق أقوى من المفهوم ، مع أنّه يمكن الخدشة في أصل دلالتها ، لأنّه من الممكن أن تكون في مقام عدم تحريم ما هو أقلّ من العشرة ، لا في مقام تحريم العشرة.

هذا كلّه ، مع أنّ القول بالعشرة موافق لمذهب بعض أهل الخلاف ، بخلاف القول بالخمسة عشر ، فإنّه لا يقول به أحد منهم ، لأنّ التحديد بالعدد عند من يقول منهم بالعدد أربعة : الرضعة الواحدة - بناء على أن يكون الواحد من الأعداد - والثلاثة ، والخمسة ، وعشرة.

وممّا يؤيّد ورود هذه الأخبار في مورد التقيّة قوله علیه السلام في إحدى روايتي عبيد بن زرارة ، في بيان ما هو المحرّم ، كأن يقال « عشر » ومعلوم أنّ هذا التعبير يناسب التقية ، لا بيان حكم اللّه الواقعي ، خصوصا بضميمة قوله علیه السلام في جواب المسائل بقوله قلت :

ص: 362


1- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (2).

فهل يحرم عشر رضعات؟ « دع ذا ، ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع ».

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بتحريم عشرة رضعات ليس له مستند يمكن الاعتماد عليه والركون إليه.

وقد ذكرنا أنّ الأمر يدور بين هذين القولين ، فإذا بطل أحدهما يتعيّن الآخر ، فيتعيّن قوله الخمسة عشر.

ثمَّ إنّهم اعتبروا في الرضاع المحرّم من حيث العدد - سواء قلنا بأنّه العشر أو الخمسة عشر - شروطا :

[ الشرط ] الأوّل : أن يكون كلّ رضعة من تلك الرضعات رضعة كاملة ، بمعنى أن يكون الطفل بعد أن جاع واشتهى وطلب يرتوي ويشبع بتلك الرضعة.

ولعلّ هذا مراد من حدّدها بأن يرتوي فيصدر من نفسه ، يعني يرتوي بعد أن جاع ، فيرفع اليد عن الثدي باختياره من دون أن يبعد عنه.

وذلك من جهة ظهور هذه الكلمة في هذا المعنى في متفاهم العرف الذي هو المناط في باب تشخيص الظهورات.

مضافا إلى أنّه فسّر في الأخبار أيضا بهذا المعنى ، كقوله علیه السلام في رواية فضيل بن يسار ، « ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (1).

وكقوله علیه السلام في مضمرة ابن أبي يعفور : « إذا رضع حتّى يمتلئ بطنه ، فإنّ ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي يحرم » (2).

وكقوله علیه السلام في تفسير الرضاع المحرم « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي

ص: 363


1- تقدم راجع ص 357 ، هامش رقم (1).
2- تقدم راجع ص 345 ، هامش رقم (5).

يرضع حتّى يمتلئ ويتضلّع » (1).

وفي مرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتّى يتضلّع ويمتلئ وينتهي من نفسه » (2).

وأنت خبير بأنّ مفاد هذه الروايات مطابق مع ما يفهمه العرف من هذه اللفظة في هذا المقام ، أي في مقام التحديد بالعدد ، وبناء على هذا لو مص الثدي وأعرض عنه فتارة يكون إعراضه لارتوائه بعد أن كان جائعا ، فهذا هي الرضعة الكاملة. وأخرى يكون لإبعاده عن الثدي ، أو للسعال ، أو لغلبة الوجع. أو الانتقال من ثدي إلى ثدي ، أو للالتفات إلى ملاعب وأمثال ذلك ، فلا يعدّ رضعة من تلك الرضعات ، وإن عاد بغير فصل طويل فالمجموع يحسب رضعة ، وإلاّ فلا.

الشرط الثاني : توالي الرضعات ، بمعنى أن لا يكون رضاع امرأة أخرى يفصل بين تلك الرضعات.

والدليل عليه قوله علیه السلام في رواية زياد بن سوقة : « أو خمس عشر رضعات متواليات من امرأة واحدة » (3).

في مرسل المقنع قوله علیه السلام : « أو خمسة عشر رضعات متواليات لا يفصّل بينهنّ » (4).

هذا مع أنّه لو كان المناط الحقيقي لنشر الحرمة هو إنبات اللحم وشدّ العظم بمرتبة خاصّة تحصل من رضاع يوم وليلة ، أو من رضاع خمسة عشر رضعة ، فالفاصل مطلقا سواء أكان هو رضاع امرأة أخرى ، أو أيّ غذاء آخر يكون مضرّا بحصول ما هو الموضوع. نعم لو كان الغذاء الفاصل قليلا ، بحيث لا يكون مضرّا باستناد تلك المرتبة من إنبات اللحم وشدّ العظم إلى تلك الرضعات ، فلا بأس بذلك.

ص: 364


1- تقدم راجع ص 346 ، هامش رقم (1).
2- تقدم راجع ص 346 ، هامش رقم (1).
3- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 352 ، هامش رقم (3).

وأمّا في خصوص رضاع امرأة أخرى حيث أنّه منصوص ، فإن كان فلا بدّ وأن يكون من القلّة ، بحيث لا يصدق أنّه فصل رضاع امرأة أخرى.

هذا مع احتمال أن يكون المراد من رضاع امرأة أخرى الرضعة الكاملة ، فغير الكاملة لا تكون بها بأس أصلا.

ولكن ادّعى في الحدائق الاتّفاق على أنّ الفصل بغير الرضاع لا يكون منافيا مع التوالي المعتبر فيها (1).

الشرط الثالث : أن تكون تلك الرضعات الكاملة المتوالية من امرأة واحدة ، فلو ارتضع من امرأة بعض العدد وكان لصاحب اللبن - أي : الفحل - امرأة أخرى ذات لبن لنفس ذلك الفحل ، فارتضع ما يبقي من العدد من هذه الأخرى لا يؤثّر في التحريم ، ولا يصير ابنا أو بنتا له ، أي لذلك الفحل.

وأمّا المرضعتان فكلّ واحدة منهما لا تصير أمّا بالضرورة ، لأنّ الأمومة لا تحصل إلاّ بذلك العدد من نفس الأمّ ، لا بعضه منها وبعضه من امرأة أخرى ، ولذلك لو لم يكن الفحل أيضا واحدا فالأمر أوضح.

والدليل على هذا الشرط قوله علیه السلام في موثّقة زياد المتقدّمة « أو خمسة عشر رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد » (2).

وهناك روايات أخر تدلّ على هذا المعنى ، كقوله علیه السلام في صحيحة بريد العجلي : « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى » (3) ، وقوله علیه السلام في صحيحة عبد اللّه بن سنان : « ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام » (4).

ص: 365


1- « الحدائق الناضرة » ج 23 ، ص 358.
2- تقدم راجع ص 358 ، هامش رقم (1).
3- تقدم راجع ص 339 ، هامش رقم (2).
4- تقدم راجع ص 339 ، هامش رقم (1).

ومعلوم أنّ المراد من إرضاع الامرأة بحسب العدد هو الخمسة عشر رضعة ، أو العشر رضعات.

فتدلّ هذه الروايات على أمرين : اتحاد المرضعة ، واتّحاد الفحل ، فنتيجة هذه الروايات هو أنّه لا بدّ في تحقّق الرضاع المحرّم من أن تكون المرضعة واحدة والفحل واحدا ، ففي صورة عدم اتّحاد كليهما لا تحريم ، كما إذا ارتضعت جارية مثلا من امرأة بعض العدد المعتبر في التحريم ، ومن امرأة أخرى لفحل آخر ما بقي من تمام العدد ، أو عدم اتّحاد الفحل فقط ، كما إذا أرضعت امرأة رجل ولدا ببعض العدد من لبن زوجها ، وبعد ذلك طلّقها زوجها أو وهبها أو باعها لو كانت أمته ، فتزوّجت من رجل آخر بعد انقضاء عدّتها ، وحبلت بعد ذلك من زوجها الثاني أو من مولاها الثاني ، ودرّ لبنها من الزوج الثاني أو من مولاها الثاني ، فكملت العدد من لبن الفحل الثاني.

لكن صحّة هذا الفرض منوط بأن يكون الفاصل بين الرضعات بغير إرضاع امرأة أخرى ، أي : لو كان بسائر الأغذية لا يكون منافيا مع التوالي الذي اعتبر فيها ، ولو كان ذلك الفاصل من الأغذية الآخر مدّة طويلة ، فلا تحريم في هذه الصورة أيضا ، كما أنّه لو كان الفحل واحدا والمرضعة متعدّدة ، كأن تكونا زوجتين ، أو أمتين ، أو مختلفتين لشخص واحد ، ويكون كلا اللبنين له ، فلا تحريم أيضا.

ثمَّ إنّه يمكن تصوير تعدّد الفحل مع وحدة المرضعة بشكل لا يكون الفاصل في البين أصلا ، لا بالإرضاع من امرأة أخرى ، ولا بغذاء آخر. وهو فيما إذا طلّق امرأته وتزوّجت بعد انقضاء عدّتها من رجل آخر ، فحبلت من ذلك الرجل ، ولكنّ اللبن كان مستمرّا من زمان أنّها كانت زوجة للزوج الأوّل إلى زمان وضع الحمل الذي صار من الزوج الثاني وبعده أيضا.

فبناء على ما اخترناه - تبعا لجمع من المحقّقين - من أنّ اللبن قبل الوضع للزوج الأوّل وبعد الوضع للزوج الثاني ، فيمكن أن يكون بعض الرضعات العشر أو الخمسة

ص: 366

عشر من لبن الزوج الأوّل ، أي ما كان قبل الوضع ، وبعضها الآخر من الزوج الثاني ، أي ما كان بعد الوضع ، فمجموع الرضعات حصلت من امرأة واحدة. ولكن اللبن لفحلين من دون فاصل في البين.

الشرط الرابع : أن تكون تلك الرضعات من الثدي لا بالوجور في حلقه.

وذلك لعدم صدق الرضاع والارتضاع عرفا إلاّ بامتصاص الثدي ، ولو شككنا في الصدق فقد تقدّم حكم الشبهة الحكميّة فراجع.

وأمّا ما يقال : من أنّ الغرض من الارتضاع هو شدّ العظم وإنبات اللحم حاصل من الوجور أيضا ، لأنّه لا فرق في حصول هذه النتيجة بين الامتصاص وبين الوجور.

ففيه : أنّ الموضوع في لسان الدليل هو عنوان الرضاع أو الإرضاع الذي يكون أثره إنبات اللحم أو الدم وشدّ العظم ، لا مطلق الإنبات ولو كان حاصلا من غير الرضاع ، فما ذهب إليه الإسكافي - من كفاية الوجور في حلقه في نشر الحرمة (1) - مضافا إلى أنّه مخالف لما ذهب إليه معظم الأصحاب - لا وجه له أصلا ، بل الوجه على خلافه كما عرفت.

وأمّا مرسل الفقيه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « وجور الصبي اللبن بمنزلة الرضاع » (2) ، مع أنّه ضعيف فلا حجّية له في حدّ نفسه وأعرض المشهور عن العمل به ، معارض برواية زرارة عن الصادق علیه السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضعنا من ثدي واحد حولين كاملين » (3) بناء على أن لا يكون حولين كاملين تحديدا للرضاع بحسب مقدار الرضاع وكميّته بحسب الزمان ، بل يكون ظرفا لأصل الرضاع المقدّر بأحد التقديرات الثلاثة كي لا تكون معرضا عنها للأصحاب ، فلا تكون قابلة للمعارضة.

ص: 367


1- ابن الجنيد الإسكافي في « الفتاوى » ص 236.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 479 ، ح 4683 ، باب الرضاع ، ح 23.
3- تقدم راجع ص 353.

هذا ، مضافا إلى أنّ الإعراض عن الذيل لا يلازم الإعراض عن صدر الرواية ، بل هو يبقى على حجيته.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الشرط ليس مختصّا بالتقدير بالعدد ، بل يعتبر في التقديرات الثلاثة ، ولذلك ينبغي أن يعدّ هذا من شرائط الرضاع ، لا من شرائط العدد.

الشرط الخامس : أن تكون المرضعة حيّة ، فلا اعتبار بما يرتضع الطفل منها بعد موتها. هذا ما ذهب إليه معظم الأصحاب.

واستدلّوا عليه : بأنّ لفظة « الإرضاع » في الآية والرواية ظاهر بحسب متفاهم العرف في الارتضاع من الحيّ ، فهو المحرّم ، وأمّا الارتضاع من الميّت فلا دليل على تحريمها ، فيبقى تحت أصالة الإباحة ، ولو كانت بمعنى استصحاب عدم حدوث الحرمة ، كما تقدّم في حكم الشكّ في الشبهة الحكميّة.

وفيه أوّلا : أنّ هذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل البرهان على خلافه ، لأنّه لو كانت المرأة نائمة أو غافلة وسعى إليها الطفل والتقم ثديها من دون التفاتها إلى ذلك ، تحصل الحرمة إذا حصل أحد التقديرات الثلاثة كذلك ، مع أنّه لا فرق بين الميّت ومثل النائمة والغافلة بحسب الاعتبار ، لأنّ من يدّعي اعتبار الحياة من طريق ظهور لفظة « الإرضاع » في ذلك ، من جهة اعتبار الاختيار والمباشرة والالتفات والقصد إلى صدور هذا الفعل عنها ، وحيث أنّه ليس في الميّت مثل هذه العناوين ، فلا يصدق على الارتضاع منه أنّها أرضعت.

ولكن أنت خبير بأنّ جميع هذه العناوين مفقودة في المثال الذي فرضنا ، ففي النائمة أو الغافلة كلّ ذلك ليس ، فليس هناك مباشرة ولا اختيار ولا التفات إلى الفعل ولا قصد إلى صدوره ، فصدق الإرضاع مع ذلك يدلّ على عدم أخذ هذه الأمور في ذلك المفهوم ، بل لم تؤخذ هذه العناوين في مفهوم أيّ فعل من الأفعال ، لأنّ مادّتها موضوعة للحدث الكذائي ، وهيئاتها على اختلافها لأنحاء النسب التي بين المادّة

ص: 368

والذات ، وليس شي ء آخر في البين كي يكون موضوعا لهذه العناوين ، أو تكون هذه العناوين مأخوذة فيه.

وثانيا : لو سلّمنا عدم شمول لفظة « الإرضاع » - الذي في الآية والرواية - للارتضاع من الميّت ، فمع ذلك لا تصل النوبة أيضا إلى أصالة الحلّ ، أو استصحاب عدم حدوث الحرمة ، أو قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) لأنّ لفظة « الرضاعة » في قوله تعالى ( وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) (2) وهكذا لفظة « الرضاع » في قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (3) ، وفي سائر الروايات ، لا مانع من شموله للميت أيضا.

وأمّا ما ربما يقال : من أنّ الميّت يخرج من كونه متعلّقا وموردا للأحكام بواسطة الموت ، فالرضاع منه لا يترتّب عليه ثمرة شرعيّة أصلا.

فعجيب إلى الغاية ، لأنّ عدم صلاحيّة الميّت لكونه متعلّقا وموردا للأحكام إنّما هو بالنسبة إلى تعلّق حكم بنفسه ، لأنّه ليس قابلا لتوجيه خطاب إليه.

وأمّا تعلّق الأحكام بشخص آخر ، أو أشخاص آخرين - لوجود إضافة ونسبة بينه ، أو بينهم وبين الميّت - فمما لا كلام فيه فمن ذلك إرثه منه ، وجواز تغسيله لو كان مماثلا أو محرّما ، وإجراء الحدّ عليه لو زنى به ، وأخذ الدية منه لو جنى عليه ، إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة.

وأمّا دعوى انصراف الأدلّة والإطلاقات عن الرضاع من الميتة ، فليس له وجه ، إلاّ قلّة وجود هذا القسم ، وندرة وقوعه ، ولو كان مثل هذا انصرافا ومضرّا بالإطلاق ففي جميع الإطلاقات يلزم أن تكون الأفراد النادرة الوجود خارجة عن تحت

ص: 369


1- النساء (4) : 24.
2- النساء (4) : 23.
3- تقدم راجع ص 323 ، هامش رقم (2).

الإطلاقات ، ولا يلتزم به أحد.

هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الرضاع من الميتة لا يمكن فيه دعوى الانصراف ، كما إذا كان مثلا أربعة عشر رضعة في حال الحياة ورضعة واحدة - بناء على القول بالخمسة عشر - في حال الممات ، فمثل هذا المورد لا يمكن أن يقال بعدم شمول الإطلاقات له وانصرافها عنه ، فحينئذ بعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

إلاّ أن يقال بقلب هذا الدليل ، بأنّه في كثير من الصور تكون الإطلاقات منصرفة عنها ، فتدخل تلك الصور تحت آية التحليل ، أي قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) وبعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب ، ولو سقط كلا الدليلين بواسطة التعارض عن الاعتبار ، فالمرجع أصالة الحل بالمعنى الذي ذكرنا.

ولكن أنت خبير بأنّ مسألة عدم القول بالفصل غير الاتّفاق والإجماع المركّب على عدم الفصل ، والذي موجود فيما نحن فيه هو الأوّل ، وهو غير مفيد ، والمفيد هو الثاني وليس بموجود فيما نحن فيه ، فلا مانع من الأخذ بالإطلاقات فيما تشمله ، والرجوع إلى أصالة الحلّ أو آية التحليل في موارد الانصراف.

الشرط السادس : ذهب معظم الأصحاب إلى أنّ الرضاع الذي يكون سببا لنشر الحرمة ، لا بدّ وأن يكون في حولي الرضاعة ، أي لا يكون الرضيع له أزيد من الحولين.

والدليل عليه - قبل الإجماع المدّعى في المقام - قوله علیه السلام فيما رواه الكافي عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا رضاع بعد فطام ». (2)

وحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا رضاع بعد فطام » (3).

ص: 370


1- النساء (4) : 24.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنّه لإرضاع بعد فطام ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 290 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنّه لإرضاع بعد فطام ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضار. 5 ، ح 2.

ورواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا رضاع بعد فطام ». قلت : جعلت فداك وما الفطام؟ قال : « حولين الذين قال اللّه عزّ وجلّ » (1).

ورواية فضل بن عبد الملك ، قال : « الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم » (2).

هذه هي الروايات المرويّة الواردة في هذا المقام.

والمراد من « الفطام » في هذه الروايات ظاهرا هي المدّة التي جعلها الشارع ظرفا للرضاع الكامل ، أي الحولين في قوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (3) لا بمعنى الانقطاع عن الرضاع ، سواء أكان قبل انقضاء الحولين أو بعدهما ، كما ربما يظهر من هذه اللفظة حسب الوضع اللغوي ، وإن كان في بعض كتب اللغة فسّره بزمن الفطم ، وذلك لتفسير الصادق علیه السلام هذه الكلمة بما ذكرنا من الحولين في خبر حمّاد بن عثمان.

فبناء على هذا لو فطم الولد قبل تمام المدّة وتغذّى بغذاء آخر ، ثمَّ حصل الرضاع بعد انفطامه وقبل تمام الحولين تنشر الحرمة ، لأنّ مفاد هذه الروايات بناء على ذلك التفسير المروي ، عدم التحريم بعد انقضاء الحولين. فقبل ذلك لا تدلّ على عدم حصول الرضاع المحرّم ، فتشمله الإطلاقات ولو كان منفطما.

فما نسب إلى العمّاني من لزوم أمرين : أحدهما عدم تماميّة المدّة ، والثاني عدم الانفطام ، فكما أنّه بتماميّة المدّة لإرضاع ، كذلك بالانفطام - ولو كان قبل تماميّة المدّة -

ص: 371


1- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنه لا رضاع بعد فطام ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1313 ، باب : ما يحرم من النكاح في الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 21 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 198 ، ح 716 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 5.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 443 ، باب : أنه لإرضاع بعد فطام ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1312 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 20 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 198 ، ح 715 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 20 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 4.
3- البقرة (2) : 233.

لا رضاع (1).

لا وجه له ، لما ذكرنا من أنّ المراد من الفطام هي مدّة الرضاع ، لا الفطم والقطع الخارجي.

ولا يتوهّم أنّ قوله علیه السلام في رواية فضل بن عبد الملك « الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم » (2) يدل على ما ذهب إليه العماني ، لأنّه علیه السلام أخذ في موضوع الرضاع قيدين :

أحدهما أن يكون قبل الحولين. والثاني أن يكون قبل أن يفطم ، لأنّه بعد ما فسّر الإمام علیه السلام الفطام بما ذكرناه يكون المراد من القيد الثاني عين ما هو المراد من القيد الأوّل.

ولعلّ وجه ذكره مع الاستغناء عنه هو الإشارة إلى قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » (3) وأنّ ما هو قبل الحولين قبل الفطام ، فالمراد من الفطام ليس إلاّ انقضاء الحولين ، ولذلك قال في الجواهر : بل لم نتحقّق خلاف الحسن ، أي : ابن أبي عقيل وهو العمّاني ، لأنّ المحكي عنه اعتبار الفطام ، ويمكن ارادته سنّ الفطام (4).

ثمَّ إنّه نسب إلى الإسكافي قدس سره ثبوت التحريم قبل أن يفطم ، ولو كان الارتضاع بعد مضيّ حولين عن سنّ المرتضع. (5)

ولعلّ مدركه رواية داود بن الحصين المرويّة في الفقيه والتهذيب عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم يحرّم » (6).

ص: 372


1- « مختلف الشيعة » ج 7 ، ص 35 - 36 ، مسألة : 3 ، كتاب النكاح ، في الرضاع ، حكى قول ابن أبي عقيل العمّاني.
2- تقدم راجع ص 371 ، هامش رقم (2).
3- تقدم راجع ص 371 ، هامش رقم (1).
4- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 296 ، في شروط الرضاع وأحكامه.
5- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 297 ، في شروط الرضاع وأحكامه ، حكى عن الإسكافي.
6- « الفقيه » ج 3 ، ص 476 ، ح 4667 ، باب الرضاع ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 318 ، ح 1314 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع و ما لا يحرم منه ، ح 22. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 292 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 7.

وأنت خبير بأنّ هذا خبر شاذّ مخالف للإجماع والأخبار : ولا يمكن الركون إليه.

وقال الشهيد قدس سره إنّ هذه الفتوى - أي فتوى ابن الجنيد ، وهو أن يكون الارتضاع بعد مضيّ حولين من سنّ المرتضع وقبل أن يفطم يكون موجبا لنشر الحرمة - مسوقة بالإجماع على الخلاف وملحوقة به (1).

وربما قيل في توجيه هذه الرواية بأنّ المراد من « بعد الحولين » أي بعد مضي الحولين من عمر ولد المرضعة وقبل أن يفطم المرتضع ، ويكون المراد من هذه الرواية أنّه يمكن أن يقع الرضاع هكذا ، لا أنّه من شروط الرضاع أن يكون هكذا كي يكون منحصرا في كونه هكذا ، كما هو ظاهر الرواية لو كان المراد من الحولين صفة ولد المرضعة ، لا المرتضع كما ذكرنا ، فيكون ردّا على ابن بكير. ولكن هذا التوجيه عجيب.

ثمَّ إنّه هل يعتبر هذا الشرط - أي : عدم انقضاء الحولين ومضيهما عن عمره - في خصوص المرتضع ، أو يكون شرطا لولد المرضعة أيضا؟

فيه خلاف ، فالمشهور بين المحقّقين والفقهاء هو الأوّل ، وحكى عن أبي الصلاح (2) وابن زهرة (3) وابن حمزة (4) بل ادّعى في الغنية الإجماع عليه (5) كما حكى عنه في الجواهر (6) هو الثاني.

وهؤلاء الذين يقولون بالاشتراط حتّى في ولد المرضعة يتمسّكون بالإجماع وبإطلاق قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » حيث أطلق الفطام ولم يقيّده بفطام المرتضع ،

ص: 373


1- الشيخ الأعظم في « كتاب المكاسب » ص 378 ، في شروط انتشار الحرمة بالرضاع ، حكى قول الشهيد.
2- « الكافي في الفقه » ص 285.
3- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 547.
4- « الوسيلة » ص 301.
5- « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 547.
6- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 297.

فيشمل فطام الاثنين ، فإذا انقضى فطام ولد المرضعة أيضا فلا فطام للأصل ، لأنّه بعد انقضاء فطام ولد المرضعة إذا شككنا في التحريم فمقتضى أصالة الحلّ أو عدم حدوث الحرمة عدم تأثير مثل ذلك الرضاع ، وبفهم ابن بكير من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » فطام ولد المرضعة أيضا.

وذلك حيث سأل ابن فضّال عن ابن بكير في المسجد فقال : ما تقولون في امرأة أرضعت غلاما سنتين ، ثمَّ أرضعت صبيّة لها أقلّ من سنتين حتّى تمّت السنتان ، أيفسد ذلك بينهما؟ قال : « لا يفسد ذلك بينهما ، لأنّه رضاع بعد فطام » وإنّما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » أي : أنّه إذا تمَّ للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج من حدّ اللبن ، ولا يفسد بينه وبين من شرب من لبنه (1).

وفيه : أنّ حال هذا الإجماع - مع ذهاب الأكثر على خلافه ، مضافا إلى تمسّك المجمعين بهذه المدارك التي ذكروها - معلوم.

وأمّا إطلاق قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » فممنوع شموله لولد المرضعة ، لأنّه خارج عن مورد البحث والكلام ، بل ظهور الحديث في فطام المرتضع فقط من الواضحات. وعلى فرض الشكّ فالمرجع هي الإطلاقات الواردة في باب تحريم الرضاع ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » لصدق الرضاع عليه يقينا ، والشكّ في تقييد الإطلاق لإجمال مفهوم المقيّد.

وأمّا فهم ابن بكير : فأوّلا هو اجتهاد منه ، وليس بحجّة. وثانيا معارض بفهم الصدوق (2) والكليني خلاف ما فهمه.

وقال الأخير في معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا رضاع بعد فطام » إنّ الولد إذا شرب لبن

ص: 374


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 317 ، ح 1311 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 19 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 197 ، ح 714 ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 291 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 5 ، ح 6.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 476 ، ح 4666 ، باب الرضاع ، ح 6.

المرأة بعد ما تفطمه لا يحرم ذلك الرضاع التناكح (1).

وحيث أنّه في مقام تفسير هذا الكلام فلا مجال لتوهّم أنّه بين إحدى الصورتين ، ولا ينافي ذلك وجود صورة أخرى ومصداق آخر ، وهو فيما إذا شرب الولد لبن المرأة بعد فطام ولد نفسها ، لا بعد فطام المرتضع.

وأمّا الأصل ، فلا أصل له أصلا ، لما ذكرنا من شمول الإطلاقات لصورة حصول الرضاع مع انقضاء الحولين ومضيّهما من عمر ولد المرضعة.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا أنّ الأقوى هو القول الأوّل.

ثمَّ إنّ المراد من الحولين هو أربعة وعشرين أشهر هلاليّة ، كما هو الحال في باب البلوغ وحلول الحول في الزكاة وأمثالهما من نظائر المقام. فإن كانت الولادة في أوّل الشهر فينتهي في آخر الشهر الرابع والعشرين ، وإن كانت في الأثناء فيكمّل مقدار النقص من الشهر الخامس والعشرين.

واحتمال العدد حينئذ في جميع الشهور - بأن يحسب من يوم الولادة إلى ثلاثين يوما شهرا وهكذا - بعيد إلى الغاية ، بل ممّا يقطع بخلافه ويزيد على سنتين قطعا ، لأنّ أشهر السنة الهلاليّة ليست كلّها ثلاثين يوما يقينا ، كما أنّ احتمال أن يكون مبدأ الحولين من أوّل الرضاع لا من أوّل الولادة معلوم العدم ، وذلك لأنّه علیه السلام فسّر الفطام بالحولين الذين قال اللّه عزّ وجلّ ، (2) ومعلوم أنّهما في الآية الشريفة من حين الولادة ، لقوله تعالى ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (3).

الشرط السابع : أن يكون اللبن خالصا غير ممزوج بشي ء جامد أو مائع ، وأن لا يصير جبنا ، كلّ ذلك لأجل عدم صدق اللبن أو انصرافه عنه ، مع ما تقدّم أنّ حقيقة

ص: 375


1- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب : لا رضاع بعد فطام ، ح 5.
2- تقدم راجع ص 371 ، هامش رقم (1).
3- الأحقاف (46) : 15.

الرضاع هو شرب اللبن بامتصاص الثدي ، فلا بدّ من تحقّق عنوان شرب اللبن ، لأنّه من مقوّماته ، فكلّما يخرجه عن هذا العنوان فتحقّق الرضاع يكون مشروطا عقلا بعدمه ، كامتزاجه بجسم آخر جامد أو مائع ، بحيث يخرجه عن كونه لبنا.

ومن هذا القبيل ما يصنع من اللبن ، كالمخبص والجبن ، وأمثال ذلك ممّا هو من فروع اللبن.

هذا تمام الكلام في الشرائط الرضاع.

الجهة الخامسة : في عموم المنزلة

والبحث فيه تارة بلحاظ عموم المنزّل عليه وخصوصه ، أي السعة والضيق في التنزيل باعتبار السعة والضيق في المنزّل عليه ، فمن يقول بعموم المنزلة يقول : ليس التنزيل فقط باعتبار العناوين السبعة النسبيّة المعروفة ، أي الأمّ ، والبنت ، والأخت ، والعمّة ، والخالة ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، بل يشمل جميع العناوين النسبيّة التي تعرضها الحرمة ، ولو من جهة ملازمتها للعناوين النسبيّة التي جعلها الشارع موضوعا للحرمة ، كعنوان أمّ ولد البنت نسبا ، أو عنوان أمّ السبط نسبا المتلازمان مع البنتيّة في باب النسب ، أو عنوان أمّ الأخ للأبوين الملازم مع كونها أمّا له أيضا في النسب ، أو عنوان أخت الأخ للأبوين الملازم لكونها أختا له أيضا ، وهكذا بالنسبة إلى سائر العناوين الملازمة للعناوين السبعة المعروفة التي جعلها الشارع موضوعا للحرمة في باب النسب.

ومن يقول بخصوص المنزلة يقول : المنزّل عليه هي العناوين السبعة فقط ، أي أنّ الشارع نزّل بقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » هذه العناوين السبعة الحاصلة من الرضاع منزلة نفس هذه العناوين الحاصلة من النسب ، لأنّها فقط

ص: 376

موضوع الحرمة في لسان الدليل ، لا العناوين الملازمة لتلك العناوين وجودا.

وأخرى : يكون البحث فيه باعتبار عموم آثار المنزّل عليه ، أو خصوص بعض الآثار فمن يقول بالعموم من هذه الجهة يقول بأنّ كلّ أثر كان يترتّب على الأمّ النسبي - مثلا - يترتّب على الأمّ الرضاعي ، إلاّ ما خرج بالدليل ، كالإرث ، لأنّه من المسلم أنّه لا يرث من أمّه الرضاعيّة ، ولكنّه كما أنّ أمّه النسبيّة مثلا إذا كانت أمة واشتراها تنعتق عليه ، هل كذلك تكون أمّه الرضاعية إذا اشتراها تنعتق عليه ، أم لا؟

فمن يقول بعموم المنزلة بالنسبة إلى جميع الآثار إلاّ ما خرج يقول بالأوّل ، ومن يقول : إنّ التنزيل بلحاظ خصوص تحريم النكاح يقول بالثاني.

أمّا البحث الأوّل : أي عموم المنزلة بلحاظ عموم المنزّل عليه فالمشهور عدمه ، وأنّ التنزيل بلحاظ العناوين السبعة المعروفة المذكورة في الآية الشريفة (1).

وذهب جملة من المتأخّرين منهم المحقّق الداماد ، ونسب إلى الشيخ الشهيد أيضا - ولو ناقش بعض في هذه النسبة - إلى عموم المنزلة ، وقالوا : إنّ كلّ امرأة تحرم من جهة وجود نسبة بينها وبين الرجل - سواء أكانت تلك النسبة من العناوين السبعة المعروفة أو لم تكن ، بل كانت من العناوين المستلزمة لأحد هذه العناوين المعروفة - إذا حصل مثل تلك النسبة من الرضاع يحرم أيضا ، سواء أكانت تلك النسبة الحاصلة من الرضاع أيضا من تلك العناوين السبعة المعروفة ، أو كان من غيرها ممّا هي مستلزمة لإحدى تلك العناوين السبعة إذا كانت حاصلة من النسب. مثلا أمّ ولد الولد في النسب محرّمة عليه من جهة أنّها إمّا بنته وإمّا زوجة ابنه ، وكلتاهما حرام عليه ، فلو أرضعت أجنبيّة ولد ولده فتصير أمّ ولد ولده ، ولكن لا تصير بنته من الرضاع ولا حليلة ابنه من الرضاعة.

فبناء على عدم عموم المنزلة بالمعنى الذي ذكرنا ، لا وجه لتحريم مثل هذه

ص: 377


1- النساء (4) : 23.

المرضعة عليه ، لأنّه لم يحصل بينه وبينها أحد تلك العناوين السبعة لا من النسب ولا من الرضاع. وبناء على العموم ولو لم يحصل أحد هذه العناوين لا من النسب ولا من الرضاع ، ولكن حصل عنوان بالرضاع ، أعني عنوان أمّ ولد الولد الذي لو كان حاصلا من النسب لكانت تلك امرأة حراما عليه ، لملازمة ذلك العنوان مع أحد العنوانين الذين كلّ واحد منهما محرّم : أحدهما عنوان البنت ، والأخرى عنوان زوجة الولد.

هذا ، ولكن الحقّ ما ذهب إليه المشهور ، وذلك لأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ظاهره كما بيّنّا في ما تقدّم أنّ كلّ عنوان جعله الشارع موضوعا للحرمة إذا كان حاصلا من النسب ، فعين ذلك العنوان يكون موضوعا للحرمة أيضا إذا كان حاصلا من الرضاع.

نعم هذا المعنى موقوف على أنّ العناوين السبعة المعروفة كما أنّها تحصل من النسب ، كذلك كانت حاصلة من الرضاع أيضا عند العرف ، كي يكون التنزيل بلحاظ الآثار والأحكام.

بمعنى : أنّ عنوان الأمّ - مثلا - يكون عنوانا عاما ، يحصل تارة من النسب أي الولادة ، وأخرى من الرضاع ، فيكون الموصول كناية عن تلك العناوين السبعة ، لأنّها هي التي حكم الشارع عليها في الآية الشريفة بالتحريم ، لا العناوين المستلزمة لإحدى تلك العناوين ، فإنّ الشارع لم يجعل عنوان أمّ ولد الولد مثلا ، أو عنوان أخت الأخ للأبوين ، وهكذا غيرهما من العناوين المستلزمة لأحد تلك العناوين موضوعا للحرمة أصلا ، فلا يشمل عنوان ما يحرم مثل تلك العناوين ، فالمراد ممّا يحرم هي موضوعات الحرمة في لسان الدليل ، وملازم الموضوع ليس بموضوع ، فليست تلك العناوين المستلزمة لأحد تلك العناوين ممّا يحرم في النسب كي يكون مما يحرم في الرضاع. وهذا واضح جدّا ، وإن وقع جماعة من المحقّقين في الاشتباه.

ثمَّ إنّ هذه القاعدة وإن كانت لا تشمل بعض الموارد ، كعنوان أخت الابن - مثلا

ص: 378

- ما لم تكن بنتا أو ربيبة ، ولكن وردت روايات تدلّ على عدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، ولا في أولاد المرضعة (1) ، وإلاّ كان يجوز وإن كانت أختا للمرتضع من الرضاعة ، وبالنسبة إلى أبي المرتضع تكون أختا لابنه ، فلو لم تكن تلك الروايات كان مقتضى القاعدة - كما شرحنا - جواز نكاحها لأبي المرتضع ، لأنّها ليست بنتا له ولا ربيبة ، وقلنا : إنّ عنوان المحرّم هو البنت أو الربيبة ، لا عنوان أخت الابن ، وكانت حرمة أخت الابن في النسب من جهة ملازمتها مع عنوان البنت أو الربيبة ، وإلاّ فهو بنفسه ليس من المحرّمات.

وأمّا الروايات :

فمنها : صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : سأل عيسى ابن جعفر أبا جعفر الثاني علیه السلام : أنّ امرأة أرضعت لي صبيّا فهل يحلّ لي أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لي :

« ما أجود ما سألت من ها هنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل ، هذا هو لبن الفحل لا غيره ». فقلت له : الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي هي ابنة غيرها؟ فقال : « لو كنّ عشرا متفرّقات ما حلّ لك شي ء منهنّ وكنّ في موضع بناتك ». (2)

ومنها : في الصحيح عن أيّوب بن نوح ، قال : كتب عليّ بن شعيب إلى أبي الحسن علیه السلام : امرأة أرضعت بعض ولدي ، هل يجوز لي أن أتزوّج بعض ولدها؟ فكتب علیه السلام : « لا يجوز ذلك لك ، لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك » (3).

ص: 379


1- « الكافي » ج 5 ، ص 441 ، باب : صفة لبن الفحل ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 320 ، ح 1320 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 723 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 296 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 10.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 441 ، باب صفة لبن الفحل ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ص 320 ، ح 1320 ، باب ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 28 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 199 ، ح 723 ، باب انّ اللبن للفحل ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 296 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 6 ، ح 10.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 476 ، ح 4668 ، باب الرضاع ، ح 8 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 321 ، ح 1324 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 32. « الاستبصار » ج 3 ، ص 201 ، ح 727 ، باب : ان اللبن للفحل ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 306 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 16 ، ح 1.

ومنها : ما روى الكليني - في الصحيح - عن عبد اللّه بن جعفر ، قال : كتبت إلى أبي محمّد علیه السلام : امرأة أرضعت ولد الرجل ، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقّع علیه السلام : « لا تحلّ له » (1).

فبناء على العمل بهذه الروايات ، تحرم الزوجة على زوجها لو أرضعت أمّها ولدها الذي من هذا الزوج ، لأنّ الزوجة تكون من أولاد صاحب اللبن ، فتحرم على أبي المرتضع الذي هو زوجها.

وممّا ذكرنا ظهر عدم حرمة إخوة المرتضع على أولاد الفحل ، أي صاحب اللبن ، لأنّ إخوة المرتضع تكون بالنسبة إلى أولاد صاحب اللبن أخوات أخيهم.

وليس أخت الأخ من العناوين المحرّمة في النسب كي يكون الرضاع مثله ، وهكذا بنات صاحب اللبن ليس محرّمات على أولاد أبي المرتضع ، لأنّهنّ أيضا بالنسبة إلى أولاد أبي المرتضع أخوات أخيهم وهذا العنوان ليس من العناوين السبعة المعروفة التي يكون التنزيل بين حصول هذه العناوين بالرضاع وبين حصولها من النسب ، بمعنى : أنّ حرمة النكاح التي رتّبها الشارع على هذه العناوين عند حصولها من النسب يرتّب على مثل هذه العناوين إن حصلت من الرضاع ، الذي استظهرناه من مثل قوله علیه السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (2).

فإنّ ظاهر الحديث النبوي - الذي رواه الفريقان - أنّ المراد من الموصول ، أي كلمة « ما » في قوله صلی اللّه علیه و آله : « ما يحرم من النسب » هذه العناوين المعروفة التي جعلها اللّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز موضوعا لحرمة النكاح عليهنّ وتزويجهنّ من النسب ،

ص: 380


1- « الكافي » ج 5 ، ص 447 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 307 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 16 ، ح 2.
2- تقدم راجع ص 323 ، هامش رقم (2).

فحكم بحرمة هذه العناوين الحاصلة من الرضاع.

وبعبارة أخرى : جعل الرضاع مثل النسب في ترتّب حرمة النكاح على هذه العناوين الحاصلة منها.

وأمّا العناوين الملازم لهذه العناوين في النسب - كعنوان أخت الابن ، بحيث يكون الابن ابنا نسبيّا ، والأخت لذلك الابن أيضا إذا كان أختا نسبيّا - فلا محالة لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن تكون بنتا له إذا كانت الأخت اختيّته لذلك الابن باعتبار تولّدهما من هذا الأب ، وإمّا أن تكون ربيبة له إن كانت أختيّته باعتبار تولّدهما من أمّ واحد ، ولا يشتركان في الأب.

فالحرمة التي في أخت ابنه من جهة أحد الأمرين : إمّا من جهة أنّها ابنته ، أو من جهة أنّها ربيبته ، وإلاّ لم يجعل الشارع عنوان أخت الابن موضوعا للحرمة ، ولذلك لو فرضنا - محالا - وجود أخت ابن في النسب مع عدم كونها ربيبة ولا بنتا لا تحرم ولكن هذا وقوعه في النسب محال. وأمّا في الرضاع فليس بمحال ، كما قلنا إنّ بنات المرضعة أو بنات صاحب اللبن وان كنّ من غير المرضعة أخوات من الرضاعة للمرتضع ، وليست بنتا ولا ربيبة لأبي المرتضع ، ولذلك لو لم تكن تلك النصوص الخاصّة لم نقل بحرمتهنّ على أبي المرتضع. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام.

الجهة السادسة

في أنّ الرضاع كما أنّه إن حصل أحد العناوين المحرمة به قبل النكاح والتزويج يكون موجبا لحرمة التزويج يكون موجبا لبطلان الزوجيّة ، كذلك لو حصل بعد التزويج - بمعنى : أنّه إن كانت زوجته غير محرّمة عليه لعدم تعنونها واتّصافها بأحد العناوين المحرّمة لا نسبا ولا رضاعا - أحد العناوين المحرمة بواسطة الرضاع يكون

ص: 381

موجبا لصيرورة الزوجة المحلّلة محرّمة.

كما أنّه في النسب لو فرضنا أنّه يمكن انقلاب عنوان المحلّل إلى أحد العناوين المحرّمة ، لكنّا نقول بالحرمة بعد. ما كانت محلّلة.

ولكن هذا الانقلاب في النسب لا يمكن ، بخلاف الرضاع ، فإنّه من الممكن أن لا تكون المرأة معنونة بعنوان محرّم ، ثمَّ يطرأ عليها عنوان المحرّم بواسطة الرضاع بعد التزويج.

ومعلوم أنّه متى ما وجد موضوع الحكم ، يترتّب الحكم عليه ، فالمائع الذي كان خمرا وكان نجسا وحراما شربه متى صار خلاّ يصير طاهرا ويكون شربه حلالا ، وكذلك الأمر في العكس متى صار الخلّ خمرا يصير نجسا ويكون شربه حراما ، فتغيير النسبة يرجع إلى تغيّر الموضوع ، غاية الأمر في النسب لا يمكن ، وفي العناوين الحاصلة من الرضاع يمكن.

والسرّ في ذلك : أنّ العناوين الحاصلة من النسب من لوازم الوجود ، ولا يمكن انفكاكها عن موضوعاتها ، بخلاف العناوين الحاصلة من الرضاع ، فإنّها ليست من لوازم الوجود.

وقد وردت في هذا المعنى - أي : في كون العنوان الحاصل من الرضاع اللاحق على النكاح محرّما - روايات :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته فسد النكاح » (1).

فكلّ عنوان محرّم حصل من الرضاع بالنسبة إلى زوجته التي كانت قبل الرضاع زوجة له بالنكاح الصحيح يفسد نكاحه ، كما أنّ هذا العنوان لو كان حاصلا قبل

ص: 382


1- « الكافي » ج 5 ، ص 444 ، باب نوادر في الرضاع ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 302 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 10 ، ح 1.

النكاح لكان يمنع عن التزويج بها.

فلا فرق بين أن يكون حصول العنوان المحرّم قبل التزويج ، أو بعده ، أو مقارنا له ، فلو تزوّج بصغيرة فأرضعتها أمّ ذلك الزوج ، يفسد نكاح الصغيرة ، لأنّها تصير أختا له ، إذ لا معنى للأخت إلاّ بنت الأبوين ، أو بنت أحدهما ، وها هنا زوجته الصغيرة بنتا لأمّه من جهة الرضاع كما أنّه لو أرضعتها جدة الزوج - أي أمّ أبيه - تصير عمّة له ، لأنّها تصير بواسطة إرضاع أمّ أبيه لها أختا لأبيه ، فتكون عمّة له ، لأنّه لا معنى للعمّة إلاّ كونها أختا لأبيه ، كما أنّه لو أرضعتها جدّته - أي أمّ أمّه - تصير خالته ، لأنّها بإرضاع أمّ أمّه لها تصير بنتا للجدّة ، فتكون أختا لأمّه ، وهذا معنى الخالة.

ومعلوم أنّه في جميع هذه الصور يفسد نكاح الصغيرة بواسطة الرضاع الطارئ واللاحق.

فهاهنا نذكر فروعا للرضاع اللاحق على العقد الذي صار سببا لفساد النكاح السابق :

منها : أنّه لو كان له زوجتان إحديهما صغيرة ، والأخرى كبيرة ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة تحرم الكبيرة ، لأنّها تصير أمّ زوجته ، وكذلك تحرم الصغيرة إن كان رضاعها من لبنه ، أو دخل بالكبيرة وإن لم يكن من لبنه ، لكونها بنتا له في الأوّل ، وربيبة - أي بنت زوجته المدخول بها - في الثاني.

وليس حرمة الكبيرة موقوفا على كون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ ، يتوهّم أنّ ظرف حصول الأمومة ظرف سقوط الزوجيّة ، فلا يمكن حصول هذا العنوان إلاّ في ظرف سقوط الزوجيّة بواسطة الرضاع المحرّم ، فلا تجتمع الأمومة مع الزوجيّة في زمان كي يصدق عليها عنوان أمّ الزوجة ، إلاّ بناء على كون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ.

ص: 383

وفيه : أنّ سقوط زوجية الصغيرة معلول لإتيان عنوانها المحرّم ، وهي البنتيّة على تقدير ، وكونها ربيبة دخل بأمّها على تقدير آخر ، وهذان العنوانان مع عنوان الأمومة للكبيرة من قبيل المتضايفين وفي رتبة واحدة ، وفي تلك الرتبة زوجيّة الصغيرة لم تسقط ، لما قلنا من أنّ سقوطها من ناحية البنتيّة وكونها ربيبة اللتان في عرض أمومة الكبيرة ، فانفساخ الزوجيّة متأخّر رتبة عن الأمومة ، وهذا المقدار يكفي في صدق عنوان أمّ الزوجة الذي هو موضوع حرمة النكاح.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المدار على حصول الأمومة في زمان كونها زوجة ، بمعنى أنّ « أمّ الزوجة » أو عنوان « أمّهات نسائكم » عند العرف عبارة عن أمّ المرأة التي تكون زوجة في زمان الذي هي أمّ لها وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لما قلنا من أنّ حصول نسبة الأمومة للمرضعة في زمان حصول نسبة البنتيّة - أو كونها ربيبة - للمرتضعة ، فزمان البنتيّة وكونها ربيبة متّحد مع زمان الأمومة ، فلو كانت الزوجيّة أيضا حاصلة في زمان حصول الأمومة يرجع إلى أن تكون بنتا أو ربيبة ، مع كونها زوجة في زمان واحد ، وهذا ممّا لا يمكن وواضح الفساد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في التحريم عنوان أمّ من كانت زوجته ، غاية الأمر في باب النسب لا ينفكّ هذا العنوان عن اجتماع الأمومة مع الزوجيّة وإن كان زمان الاجتماع قليلا ، لأنّ الأمومة في النسب إذا كانت حاصلة في مورد تكون من أوّل وجود البنت إلى الأبد ، فلا محالة في أيّ زمان حصلت زوجيّتها تكون أمومة الأخرى أيضا موجودة ، ولكن في الأمومة الحاصلة من الرضاع ليس الأمر كذلك ، لأنّه من الممكن حصول الزوجيّة في زمان - مع عدم وجود أمومة المرضعة - ثمَّ تحصل الأمومة بواسطة الرضاع المحرّم ، مع عدم كونها زوجة في ذلك الزمان ، وإلاّ تكون حرمة المرضعة متوقّفة على كون المشتقّ حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ.

ومنها : أنّه لو كانت زوجة أحدهما كبيرة ، وزوجة الآخر صغيرة ، فطلّق كلّ واحد منهما زوجته وتزوّج بزوجة الآخر ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة ، فبناء على ما

ص: 384

قلنا من تحريم أمّ من كانت زوجته مثل تحريم أمّ الزوجة الفعلية ، فتحرم الكبيرة على الاثنين ، أمّا على زوجها الفعلي ، لأنّها بالرضاع المحرّم صارت أمّ من كانت زوجته ، أي قبل أن يطلّقها. وأمّا بالنسبة إلى زوجها السابق ، لأنّها أمّ من هي زوجته فعلا.

وإن كنّا أشكلنا على هذا في الفرع السابق بأنّ ظرف حصول الأمومة ظرف سقوط الزوجيّة ، والحقّ : أنّ في كليهما - أي : الزوج الفعلي والزوج السابق - منشأ التحريم هو أنّها - أي الكبيرة المرضعة - تصير أمّ من كانت زوجته قبل حصول الأمومة ، لأنّ حال حصولها حال سقوط الزوجيّة.

هذا بالنسبة إلى الكبيرة. وأمّا بالنسبة إلى الصغيرة ، فحرمتها على الزوج السابق واضح ، لأنّها تصير بنتا له بالرضاع إن كان اللبن لبنه ، وأمّا إن لم يكن اللبن لبنه ، فالحرمة جمعا أيضا واضح ، سواء دخل بزوجته الكبيرة المرضعة أم لا ، لأنّه لا يجوز الجمع بين الربيبة وأمّها وإن لم يدخل بأمّها.

وأمّا حرمتها - ولو في صورة الانفراد بها بأن يطلّق أمّها الرضاعيّة ، ويتزوّج بها - فمشروط بالدخول بها ، أي بالكبيرة المرضعة ، وإلاّ فلا.

وأمّا بالنسبة إلى زوجها الفعلي ، فإن كان اللبن لبنه فالحرمة من جهة أنّها تصير بنته الرضاعيّة. وأمّا إن لم يكن اللبن لبنه ، فمع الدخول سابقا بالكبيرة التي كانت زوجته أيضا ، تحرم الصغيرة ، لأنّها بنت زوجته المدخولة بها ، ومع عدم الدخول تحرم جمعا مع أمّها ، وأمّا انفرادا فلا.

ومنها : أنّه لو كانت له أمة موطوءة فأرضعت زوجته الصغيرة ، أمّا الأمة فتحرم عليه على كلّ حال ، لأنّها أمّ زوجته.

والإشكال بأنّها لا تصير أمّا للمرتضعة إلاّ بعد سقوط زوجيّتها بالرضاع المحرم - فلا يتحقّق عنوان أمّ الزوجة في الخارج - أجبنا عنه فلا نعيد.

وأمّا زوجته الصغيرة فهي أيضا تحرم ، لأنّها بواسطة هذا الرضاع المحرّم تصير إمّا

ص: 385

بنتا له - لو كان اللبن له - وإمّا ربيبته ، لأنّها بنت الرضاعي لامرأة دخل بها بوطي شرعي.

بقي الكلام في مسألة مهر هذه الزوجة الصغيرة التي سقطت زوجيّتها بواسطة الرضاع ، هل تستحقّ تمام المهر أو نصفها - بناء على أن يكون مثل الطلاق قبل الدخول ، لأنّ الصغيرة التي سقطت زوجيّتها بواسطة الرضاع غير مدخولة بها - أو لا تستحقّ شيئا منه؟ وجوه وأقوال :

والأظهر هو استحقاق تمام المهر ، لما هو المختار من صيرورة المهر ملكا لها بنفس العقد ، ولذلك قالوا : إنّ الطلاق قبل الدخول موجب لرجوع نصف المهر إلى الزوج بناقل جديد ، وهو الطلاق قبل الدخول ، فإذن استحقّت الصغيرة بنفس العقد تمام المهر ، وسقوطه كلاّ أو نصفا يحتاج إلى دليل حاكم على استصحاب بقاء ملكيّتها لها ، وليس شي ء في البين إلاّ استحسانات قياسيّة التي لا اعتبار بها.

مثل أن يقال : كما أنّ الطلاق قبل الدخول يوجب التنصيف فهاهنا أيضا ذلك الملاك موجود ، وهو سقوط الزوجيّة قبل أن يدخل بها وبعبارة أخرى : ذهاب الزوجيّة قبل أن ينتفع منها صار سببا للتنصيف ، وفيما نحن فيه يكون الأمر أيضا كذلك ، فإنّ الرضاع المحرّم صار سببا لذهاب الزوجيّة قبل أن ينتفع منها.

ولا شكّ في أنّ هذا قياس باطل في مذهبنا ، بل الدليل على التنصيف هي الآية الشريفة (1) والأخبار الشارحة لها (2) ، فالظاهر هو استحقاقها لتمام المهر ، لأنّ القول بالتنصيف قياسا على الطلاق قبل الدخول باطل.

وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره من القول بسقوط المهر مستندا إلى المشهور (3) -

ص: 386


1- البقرة (2) : 237.
2- « البرهان في تفسير القرآن » ج 1 ، ص 228 ، الأحاديث 1 - 4.
3- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 325.

بل ربما يظهر من عبارته عدم وجدانه الخلاف صريحا إلاّ ما عن التذكرة بأنّ السقوط أقوى (1). قال : ولعلّه يؤذن باحتمال عدم السقوط - فعلى كلّ حال مستندهم في سقوط المهر هو أنّ انفساخ العقد - وانحلاله.

وان شئت قلت بطلانه - يقتضي رجوع كلّ ما انتقل منه إلى طرفه إليه ثانيا ، بمعنى : عوده إليه ، وذلك من جهة أنّ بقاء كلّ من العوضين على ملك من انتقل إليه موقوف على بقاء العقد واستمراره ، إذ أنّ بقاء الأثر تابع لبقاء مؤثرة وعلته ، وتبعية المعلول لعلّته حدوثا وبقاءا - كاد أن يكون من البديهيات ، ولذلك ترى أنّ كلّ عقد تعقبه الفسخ - بإقالة أو خيار - يرجع كلّ مال إلى صاحبه قبل العقد ، ففساد العقد من أيّ سبب كان نتيجته ارتفاع آثار العقد من حين البطلان والفساد.

ولا شكّ في أنّ ثبوت المهر من آثار صحّة عقد النكاح. نعم النماء الذي وجد للمهر إلى حين الفساد هي للمرتضعة ، لما قلنا إنّ ارتفاع آثار العقد من حين وقوع الفساد لا من أوّل الأمر ، فإذا ارتفع العقد وصار النكاح فاسدا وباطلا ، فقهرا يرتفع أثره الذي هو عبارة عن ثبوت المهر.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام.

ولكن أنت خبير بأنّ باب النكاح ليس من قبيل باب المعاوضات بالنسبة إلى الزوجيّة والمهر ، بحيث يكون التعهّد من طرف الزوج بأن يكون المهر الذي هو ملك الزوج يكون للزوجة على أن تكون زوجيّتها أو بضعها للزوج عوض المهر ، بحيث يكونان - أي : الزوج والزوجة - يتبادلان بين المهر والبضع أو الزوجيّة.

وذلك من جهة أنّ حقيقة عقد النكاح عبارة : عن تعهّد الزوجة بأن تكون زوجة للرجل ، فالمنشأ في عقد النكاح في الإيجاب هي زوجيّة المرأة لزوجها ، وحيث أنّها من الأمور الاعتباريّة قابلة للجعل والإنشاء ، وفي القبول يتعهّد الزوج قبول هذه

ص: 387


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 325.

الزوجيّة المنشأة من قبل الزوجة أو وكيلها أو وليّها ، والالتزام بلوازمها وأحكامها ، وليس معاوضة في البين أصلا.

ولو كان من قبيل المعاوضات كان لازمه سقوط مهر المسمّى بعد فساد النكاح بالرضاع المحرّم ، حتّى وإن كانت التي فسد نكاحها هي الكبيرة المدخولة. ولا يمكن القول به فيما لا يكون الفساد من قبلها ، بل بثبوت المهر في النكاح حكم شرعي ، فإن عيّنوا في العقد فهو ، وإلاّ فالشارع حكم بمهر المثل ، فليس مقتضى انفساخ العقد وبطلانه رجوع المهر إلى الزوج بعد ذهاب الزوجيّة ، وقياس فساد النكاح بباب فسخ المعاوضات وانفساخها - كما صدر عن صاحب الجواهر قدس سره (1) - ليس في محلّه.

فالأظهر - كما قلنا - أنّ المهر صار ملكا للزوجة بنفس العقد ، غاية الأمر ملكا متزلزلا لا مستقرّا ، واستقراره بأحد أربعة أشياء : إمّا الدخول ، وإمّا ارتداد الزوج ، أو موته أو موت الزوجة ، وهذا حكم الشارع في المهر ، وليس فساد النكاح وسقوط الزوجيّة من أسباب سقوط المهر. ولو شكّ في بقائه بعد فساد العقد وبطلان النكاح يستصحب ، إلاّ أن يأتي دليل حاكم على هذا الاستصحاب ، وليس في المقام شي ء من هذا القبيل.

نعم ها هنا فرع آخر ، بل فروع ذكرها صاحب الجواهر قدس سره وهو أنّ : المرتضعة لو ارتضعت من ثدي المرضعة من قبل نفسها بدون مداخلة المرضعة بل بدون التفاتها وشعورها بذلك ، كما أنّها لو كانت نائمة ، أو مثل النوم ممّا يوجب عدم الالتفات كالإغماء مثلا وسعت هي - أي : المرتضعة - وامتصّت ثديها ، فهل يكون لها مهر ، أم لا؟ بل يسقط حتّى على القول بعدم سقوط المهر لو لم يكن الارتضاع من قبل نفسه ، بل أرضعتها الكبيرة ، وذلك من جهة أنّها هي التي أفسدت النكاح من دون مدخليّة الكبيرة في ارتضاعها ، فهي التي فوتت منافع الزوجيّة على زوجها ، فلا تستحقّ المهر

ص: 388


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 325.

الذي هو في الحقيقة مقابل البضع (1).

ولكن أنت خبير بأنّه بناء على ما ذكرنا وتقدّم ، ليست الزوجيّة ولا البضع مالا كي يكون إتلافهما موجبا للضمان ، ولو كان من غير قصد وشعور ، ولا يقابلانه كي يكون إتلافهما موجبا لرجوع مقابلهما - أي المهر - إليه.

نعم يمكن أن يتمسّك في بعض الموارد بقاعدة لا ضرر ، بأن يقال مثلا - فما إذا أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة بقصد بطلان زوجية نفسها وزوجيّة الصغيرة ، فحكم الشارع ببقاء المهر ، وعدم سقوطه ضرر على الزوج ، لأنّ بقاء المهر إن كان مع بقاء الزوجيّة ، ففي نظر العرف ليس ضررا ، والعقلاء يقدمون على ذلك وإن لم يكن كذلك ، بمعنى أنّ المهر كان باقيا في عهدته ، أو كان متعيّنا في عين خارجي وكانت خارجة عن تحت ملكيّة الزوج مع عدم الزوجيّة وبطلانها ، فهي خسارة عندهم.

إن قلت : هذه الخسارة نشأت من إقدام الزوج ، والحديث (2) لا يشمل هذا الضرر ، بل التحقيق - كما بيّنّا في محلّه - أنّ حديث « لا ضرر » يرفع الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، وها هنا لم ينشأ الضرر من قبل حكم الشارع ببقاء المهر ، بل نشأ من إقدامه على جعل هذا المقدار من ماله مهرا وإخراجه عن ملكه.

قلت : إقدامه على إخراج هذا المقدار من ماله وصيرورته ملكا للزوجة مبنيّ على دوام الزوجيّة وعدم بطلانها ما دام حيّين ، ولم يقدم على إعطاء المهر لزوجيّة يوم بلا أيّ انتفاع في البين ، فحكمه ببقاء المهر في ظرف سقوط الزوجيّة ضرريّ ، ولا شكّ في أنّ هذا الضرر نشأ من قبل حكم الشارع ، لا من اقدام الزوج.

ولكن مع ذلك كلّه التمسّك بقاعدة لا ضرر لسقوط المهر لا يخلو من نظر وتأمّل ،

ص: 389


1- « جواهر الكلام » ج 29 ، ص 324 ، في أحكام الرضاع ، المسألة الرابعة.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 292 ، باب الضرار ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 364 ، أبواب الخيار ، باب 17 ، ح 3 - 4.

بل لا يخلو من غرابة ، وذلك من جهة أنّ الشارع لم يحكم ببقاء المهر في ظرف سقوط الزوجيّة وذهابها كي يكون هذا الحكم المجعول ضرريّا ، بل الشارع حكم بأنّ الزوجيّة بدون المهر لا يمكن ، وأيضا حكم أنّ مهر المسمّى به في العقد يدخل في ملك الزوجة ، وأيضا حكم ببقاء الملكيّة لمالكه ولا يخرج إلاّ بناقل شرعي ، فإذا جاء دليل وناقل شرعي على خروج المهر تماما ، أو بعضه عن ملك الزوجة ، فهو كما أنّه في الطلاق قبل الدخول جاء الدليل على خروج نصف المهر عن ملكها ورجوعه إلى الزوج ، وأيضا في ارتداد الزوجة برجوع الجميع ، فهذه الأحكام الثلاثة - أي : حكمه بلزوم المهر ، وحكمه بدخول المهر في ملك الزوجة بمحض العقد ، وحكمه ببقاء كلّ مال في ملك مالكه وعدم خروجه عنه إلاّ بناقل شرعي ، أو جاء دليل على سقوط ملكيّته - ليس واحد منها ضرريّا كي يرتفع بقاعدة لا ضرر.

وأمّا القول : بأنّ هذه الخسارة وقعت بفعلها - أي الكبيرة - لأنّها أرضعت ، أي إذا كان حصول الرضاع بفعل الكبيرة بغير أمر الزوج بل بدون رضاه ، أو بفعل الصغيرة كما إذا ارتضعت من قبل نفسها ، أي إذا كان حصول الرضاع بفعل الرضيعة من دون مدخليّة الكبيرة ، كما إذا كانت الكبيرة نائمة وهي سعت إليها وارتضعت ، فيجب أن تغرم للزوج الكبيرة أو الصغيرة. وبعبارة أخرى : التي سببت حصول الرضاع المحرّم ، سواء أكانت الغرامة مساوية للمهر أو أكثر أو انقص هي إحديهما.

ففيه أوّلا : أنّ هذا غير سقوط المهر وعدمه الذي هو الآن محلّ الكلام.

وثانيا : ليس كلّ إضرار يتدارك بالمال ، بل لا بدّ أن ينطبق عليه أحد أسباب الضمان من الإتلاف ، أو يد العادية ، أو غير ذلك من أسبابه. وفيما نحن فيه إرضاع الكبيرة أو ارتضاع الصغيرة - بدون مدخليّة الكبيرة - لا يوجب تلف مال كي يكون ضامنا لذلك التالف ، لأنّ الزوجيّة ليست من الأموال ، والبضع وإن كان في بعض الموارد يقابل بالمال ، ولكن مع ذلك ليس من الأموال كي يكون تفويته موجبا للضمان.

ص: 390

وممّا ذكرنا ظهر لك حال الفروع الأخر التي ذكروها في هذا المقام ، مثل ما ذكروا فيما إذا كانت مختارة في الإرضاع بدون ملزم شرعي ، كما إذا خافت على حياة الرضيعة إن لم ترضعها ، وكذا بدون إجبار أو إكراه وأمثال ذلك ممّا يخرجها عن الاختيار والاستقلال ، هل للزوج أن يرجع إليها فيما يغرمه من المهر للرضيعة أم لا ، بناء على عدم السقوط؟ ووجّهوا الرجوع إليها بأنّها سببت فوات زوجيّة الرضيعة والانتفاع بها.

وذلك لما عرفت من عدم كون الزوجيّة أو البضع مالا كي يكون إتلافهما موجبا للضمان.

وأيضا ما ذكروا من أنّ الرضيعة لو سعت إليها وامتصت ثديها وهي مكّنتها ولم تمنعها ، هل هذا التمكين بمنزلة فعلها وإرضاعها استقلالا ، فعليها غرامة جميع ما يؤدّي الزوج للصغيرة أو ينصف بينهما؟

بمعنى أنّ نصف المهر يسقط بواسطة سعي الصغيرة بنفسها إليها وارتضاعها من لبنها ، فسقوط الزوجيّة بفعلها ، فلا تستحقّ نصف المهر لشركتها مع الكبيرة في إسقاط الزوجيّة ، والنصف الآخر تغرمه الكبيرة لشركتها في إسقاط الزوجيّة بتمكينها الرضيعة من الامتصاص والارتضاع.

ولكن أنت خبير بأنّ جميع هذه الوجوه والكلمات ظنون استحسانيّة غير معتبرة لا ينطبق على قواعد باب الضمان ، وعرفت أنّه لا وجه لسقوط المهر.

هذا كلّه بالنسبة إلى المرتضعة الصغيرة ، وأمّا المرضعة الكبيرة التي سقطت زوجيّتها وبطل نكاحها بواسطة الرضاع المحرّم ، فإن كان الزوج دخل بها فلا مورد للشكّ في ثبوت مهرها وعدم سقوطه ، وأمّا إن لم تكن مدخولة وفسد نكاحها بالرضاع المحرّم - وكان إرضاعها باختيارها بدون ملزم شرعي ولا إجبار ولا إكراه - فربما يقال بسقوط مهرها ، لأنّها سببت سقوط زوجيّتها من دون إجبار ولا إكراه

ص: 391

ولا ملزم شرعي في البين ، فيكون حالها حال المرتدة قبل الدخول ، وقد أفتى بذلك سيّدنا الأستاذ قدس سره في كتابه وسيلة النجاة (1).

ولكن أنت خبير بأنّ إجراء حكم المرتدة قبل الدخول عليها قياس باطل اللّهمّ إلاّ أن يكون إجماع على السقوط في هذه الصورة ، وإلاّ قد عرفت أنّ مقتضي القواعد الأوليّة عدم السقوط مطلقا ، وعدم ضمان المرضعة مطلقا.

الجهة السابعة

في أنّه كما أنّ العناوين السبعة النسبيّة المعروفة المذكورة في الآية الشريفة - وهي الأمّ والبنت والأخت والعمّة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت - إن حصلت بالرضاع ، تكون موجبة للحرمة كذلك أربع عناوين أخر ، أي عنوان حليلة الابن ، وعنوان أمّ الزوجة ، وعنوان زوجة أبيه ، وعنوان الربيبة بشرط الدخول بأمّها ، لأنّ هذه العناوين الأربعة أيضا ممّا حرّم اللّه نكاحهنّ ، ومذكورات في الكتاب العزيز.

غاية الأمر : أنّ العناوين المحرّمة على قسمين : قسم منها تارة يحصل بالنسب وحدها ، وأخرى بالرضاع وحده - كعنوان الأمّ والبنت والأخت - وقسم منها لا يحصل بالرضاع وحده ، بل لا بدّ من انضمام نسب أو سبب إليه ، كالعناوين الأربعة المتقدّمة ، فإنّ هذه العناوين الأربعة لا تحصل بالرضاع وحده ، ولا بد في تحقّقها من وجود سبب في البين ، كما أنّها لا تحصل بالنسب وحده أيضا.

والحاصل : أنّ العنوان الذي جعل الشارع موضوعا لحرمة النكاح ، كما أنّه لو حصل بالنسب وحده ، أو به وبالنسب مركّبا منهما - كالعناوين الأربعة المتقدّمة - يكون محرّما ، كذلك لو حصل بالرضاع وحده ، أو به وبالسبب مركّبا منهما كالعناوين الأربعة المذكورة ، يكون محرّما ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »

ص: 392


1- « وسيلة النجاة » ج 2 ، ص 373 ، كتاب النكاح ، القول في الرضاع ، مسألة : 14.

ولا يلزم أن يكون حصول العنوان بالرضاع وحده.

ولكن فليعلم أنّه في الموضوعات المركّبة من السبب والنسب إنّما يقوم الرضاع مقام ما هو دخيل في الموضوع باعتبار النسب ، لا باعتبار السبب ، مثلا في الموضوعات الأربعة المذكورة ، كحليلة الابن مثلا ، حيث أنّه مركّب من أمرين : أحدهما نسب وهو أنّ الزوج ابن له ، والآخر أنّ هذه المرأة حليلة وزوجته ، فالابن الرضاعي يقوم مقام ابن النسبي.

وأمّا كون هذه المرأة حليلته لا بدّ وأن يتحقّق بسببه ، ولا يمكن أن يحصل بالرضاع ، كما أنّه لا يحصل بالنسب أيضا.

والحاصل : أنّ معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » أنّ كلّ ما تحرم بواسطة النسب - أي : العنوان الحاصل من النسب ، سواء أكان جزء للموضوع ، أو كان تمام الموضوع - يقوم مقامه ذلك العنوان إذا حصل من الرضاع ، فإن كان ذلك العنوان الحاصل من النسب تمام الموضوع ، يكون الحاصل عن الرضاع أيضا تمام الموضوع ، وإن كان جزءا فيكون هو أيضا كذلك ، ويحتاج في ترتيب حكمه إلى وجود جزئه الآخر بسببه.

ثمَّ إنّ الموضوع المركّب تارة يكون الجزء ان حاصلين من النسب ، كبنت الأخ والأخت ، فيقوم الرضاع مقام الاثنين ، فالأخ والأخت الرضاعيين إذا كان لكلّ واحد منهما بنت رضاعي ، تكون كالبنت النسبي للأخ والأخت النسبيين ، غاية الأمر برضاعين : رضاع لحصول الأخية أو الأختيّة ، ورضاع آخر لحصول البنتيّة. وأخرى : أحدهما من النسب والآخر من الرضاع ، كالبنت الرضاعي للأخ النسبي أو لأخت النسبي ، أو بالعكس كالبنت النسبي للأخ أو الأخت الرضاعيين.

والحاصل : أنّ الإضافة الحاصلة بين شخصين أو الأشخاص قد يحصل من النسب ، أي الولادة من أب وأمّ أو من أحدهما ، وقد يحصل من الرضاع ، أي من

ص: 393

الارتضاع من ثدي امرأة لبنها يكون من فحل بالشرائط المتقدّمة ، بمعنى أنّه تحصل إضافة بين المرتضع والمرضعة ، وبينه وبين صاحب اللبن ، وحيث أنّ الإضافة من الطرفين وليست متشابهة الأطراف ، كإضافة الأخ إلى الأخ أو الأخت إلى الأخت ، فإنّ الإضافة في الأوّل من الطرفين يعبّر عنها بالأخوّة ، وفي الثاني من الطرفين يعبّر عنها بالأختيّة ، فكلّ واحدة منهما أخت بالنسبة إلى الأخرى.

وتحصل إضافة بين المرتضع وبين أب المرضعة ، وبينه وبين أمّها ، وبينه وبين أخ المرضعة ، وبينه وبين أخت المرضعة ، وهكذا سائر أقارب المرضعة النسبيين لها أو الرضاعيين ، فالإضافة التي تحصل بين المرضعة وبينه تسمّى من طرفه ابنا إن كان المرتضع ذكرا ، أو بنتا إن كانت أنثى ، ومن طرف المرضعة تسمّى أمّا. وهذه الإضافة تسمّى متخالفة الأطراف.

والإضافة التي تحصل بينه وبين صاحب اللبن أيضا متخالفة الأطراف ، ومن طرفه تسمّى ابنا ، ومن طرف صاحب اللبن تسمّى أبا ، والإضافة التي تحصل بينه وبين أخوة صاحب اللبن من طرفهم تسمّى عمّة أو عمّا ، ومن طرف المرتضع تسمّى بابن الأخ أو ابنته ، كما أنّ الإضافة التي تحصل بينه وبين أب صاحب اللبن أو أمّه من طرفهما تسمّى بالجدّ والجدّة ، ومن طرفه تسمّى بالحفيد أو الحفيدة.

والإضافة التي تحصل بينه وبين أب المرضعة أو أمّها من طرفهما أيضا تسمّى بالجدّ أو الجدّة ، ومن طرفه بالسبط أو الحفيدة.

وهكذا بالنسبة إلى سائر الإضافات الحاصلة من النسب تحصل من الرضاع أيضا مثلها ، ويكون الاسم مثل ذلك الاسم.

والفرق أنّ العناوين الحاصلة من النسب ينسب إلى النسب ، والحاصلة من الرضاع ينسب إلى الرضاع ، ففي الأوّل يقال : الأب والأمّ والابن والبنت والأخ والأخت والعمّ والعمّة والخال والخالة والجدّ والجدّة النسبيون ، وفي الثاني يقال أيضا

ص: 394

بنفس تلك العناوين والأسماء ، ولكن بإضافة قيّد الرضاعيّون.

والحاصل : أنّ كلّ إضافة تحصل بين شخصين أو أشخاص بواسطة النسب - أي : الولادة من أب وأمّ ، أو الولادة من أحدهما - تحصل من الرضاع أيضا ، أي من الامتصاص من ثدي امرأة ذات لبن بالشرائط المتقدّمة ، فإذا كان ذلك العنوان الحاصل من النسب موضوعا للحرمة ، فمثل ذلك العنوان إذا حصل من الرضاع أيضا يكون موضوعا لحرمة النكاح ، وإذا كان ذلك العنوان النسبي الذي هو موضوع لحرمة النكاح مركّبا من جزئين ، كلاهما حاصلان من النسب ، فالرضاع يقوم مقام كلّ واحد منهما ، غاية الأمر برضاعين.

وأمّا إذا كان أحد الجزئين يحصل من النسب والآخر من السبب ، فالرضاع يقوم مقام الجزء الذي يحصل من النسب ، وأمّا الجزء الآخر الذي يحصل من السبب ، فلا بدّ من حصوله بسببه ، كي يتمّ الموضوع ، وذلك من جهة أن التنزيل في باب الرضاع باعتبار النسب ، كما تقدّم مفصّلا.

وأمّا العناوين التي لم تجعل موضوعا للحرمة - ولكنّها في النسب لا تنفكّ عن أحد العناوين المحرّمة ، وتستلزمها إذا حصلت من الرضاع ، كعنوان أخت البنت مثلا ، حيث أنّه في النسب لا تنفكّ عن كونها إمّا بنتا وإمّا ربيبة مدخولة بأمّها ، وكلاهما من العناوين المحرّمة - فلا توجب التحريم من جهة حصول هذا العنوان ، إلاّ أن يكون هناك دليل آخر على التحريم ، كما أنّه في المثل المذكور ورد : « لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن » (1).

ولكن جماعة قالوا : بأنّها أيضا توجب التحريم ، وهذا هو المعروف عندهم بعموم المنزلة.

ص: 395


1- تقدم راجع ص 361 ، هامش رقم (1).

ولنذكر فروعا يختلف الفتوى عند من يقول بعموم المنزلة وعند من لا يقول وينكر عموم المنزلة ، وإن تقدّم الكلام فيها مفصّلا.

الأوّل : ما تقدّم من المثال ، أعني زوجتك لو أرضعت بلبنك أختها ، فتصير تلك الأخت بنتك الرضاعيّة ، فتصير زوجتك أخت بنتك الرضاعيّة ، وأخت البنت في النسب تستلزم أحد العنوانين المحرّمين ، أي إمّا بنته أو ربيبته المدخولة بأمّها ، وكلاهما من العناوين المحرّمة ، فمن يقول بعموم المنزلة يقول بالتحريم ، ومن لا يقول بعموم المنزلة لا يقول بالتحريم ، وقد بيّنّا فيما تقدّم بطلان عموم المنزلة.

الثاني : لو أرضعت زوجتك بلبنك ابن أخيها أو بنت أخيها ، فذلك الابن أو البنت يصير ابنك أو بنتك ، فتصير زوجتك عمّة لولدك الرضاعي ، وعمّة الولد في النسب ملازمة مع العنوان المحرّم ، أي أخت الإنسان ، فلو قلنا بعموم المنزلة تصير زوجته حراما عليه ، وإلاّ فلا.

الثالث : لو أرضعت زوجتك بلبنك عمّها أو عمّتها أو خالها أو خالتها ، فتصير أمّ هؤلاء ، وعنوان أمّ عمّ الزوجة أو أمّ عمّتها في النسب ملازم مع كونها جدّة للزوجة من طرف الأب ، وهو عنوان محرّم ، وكذلك أمّ خال الزوجة وخالتها في النسب ملازم مع كونها جدّة الزوجة من طرف الأمّ ، وهو عنوان محرّم ، فإذا قلنا بعموم المنزلة تصير تلك الزوجة حراما على زوجها ، وإلاّ فلا.

الرابع : لو أرضعت زوجتك بلبنك أحد أولاد عمّها ، أو أحد أولاد خالها ، فتصير أبا لهم ، أي أبا لابن عمّها وأبا لابن خالها ، وفي النسب عنوان أب ابن عمّ الزوجة ملازم مع كونه عمّا لها ، وعنوان أب ابن خالها ملازم مع كونه خالا لها ، فتصير زوجها عمّا أو خالا لها ، وبناء على صحّة عموم المنزلة فإذا قلنا بصحّة عموم المنزلة تكون تلك الزوجة حراما على زوجها ، وإلاّ فلا.

الخامس : لو أرضعت زوجتك أخاك أو أختك لأبويك ، فتصير أمّا لهما ، أي أمّ

ص: 396

أخيك أو أمّ أختك لأبوين ، ولا شكّ في أنّ هذين العنوانين في النسب ملازمان مع كونها أمّا له ، فلو حصلا من الرضاع وقلنا بعموم المنزلة - تصير زوجته في المفروض حراما ، لصيرورتها بمنزلة أمّ النسبي. وأمّا إن لم نقل به فلا تحرم ، لأنّ عنوان أمّ الأخ الأبويني أو أمّ الأخت الأبويني لم يجعل في النسب موضوعا لحرمة النكاح ، وإن كان كلّ واحد منهما ملازم مع العنوان المحرّم ، أي عنوان الأمّ.

السادس : لو أرضعت زوجتك ابن ابنتك ، أو ابنة ابنتك ، فتصير أمّا لكلّ واحد منهما ، ولا شكّ أنّه في النسب هذان العنوانان ، أي عنوان أمّ ابن البنت ، أو عنوان أمّ بنت البنت ملازمان لكونها بنتا له ، ولكن نفس هذين العنوانين لم يجعلا موضوعا للحرمة.

فإن قلنا بعموم المنزلة تصير زوجتك حراما عليك ، لأنّها تصير بمنزلة ابنتك النسبي ، وإن لم نقل فلا تحرم ، لأنّ هذين العنوانين الحاصلين من الرضاع المفروض ، أي : عنوان أمّ ابن البنت ، أو عنوان أمّ بنت البنت ليسا من العناوين المحرّمة ، وإن كانا ملازمين في النسب للعنوان المحرّم ، أي البنتيّة.

السابع : لو أرضعت زوجتك ابن أختك أو بنتها ، فتصير أمّ ابن أختك أو أمّ ابنة أختك ، ومعلوم أنّه في النسب هذان العنوانان ملازمان للأختيّة التي هي من العناوين المحرّمة ، وإن لم يكونا بنفسهما من العناوين المحرّمة.

فإن قلنا بعموم المنزلة تصير زوجتك حراما عليك ، لأنّها تصير بمنزلة أختك للنسب ، وإن لم نقل - كما أوضحناه فيما تقدّم - فلا تحرم ، لأنّ العنوانين الحاصلين من الرضاع ليسا من العناوين المحرّمة.

الثامن : لو أرضعت زوجتك عمّك أو عمّتك أو خالك أو خالتك ، فتصير أمّا لهم من الرضاعة ، ولا شكّ في أنّ عنوان أمّ العمّ وعنوان أمّ العمّة في النسب ملازمان لكونها جدّة للإنسان من طرف أبيه ، إن كان العمّ والعمّة مع أبيه من أمّ واحدة ، وكذا

ص: 397

عنوان أمّ الخال وأمّ الخالة في النسب ملازمان لكونها جدّة من طرف أمّك ، إن كان الخال والخالة مع أمّك من أمّ واحدة.

فإن قلنا بعموم المنزلة فتصير زوجتك حراما عليك ، من جهة أنّها تصير بمنزلة جدّتك من طرف أبيك ، أو جدّتك من طرف أمّك ، وهما من العناوين المحرّمة ، أي يكونان من مصاديق عنوان الأمّهات. وأمّا إن لم نقل بعموم المنزلة فلا تحرم ، لأنّ عنوان أمّ العمّ والعمّة والخال والخالة ليس من العناوين المحرّمة ، وإن كانت ملازمة لعنوان المحرّم.

ولا يخفى أنّه جميع الأمثلة المذكورة الثمانية من قسم لحوق الفساد بواسطة الرضاع المحرّم للعقد الصحيح ، كما أنّه لو فرضنا أنّ المرضعة ليس امرأة للشخص المفروض ، بل أجنبيّة عنه ، ويجوز نكاحها ، فبعد الرضاعات المذكورة تصير محرّمة ، فيمنع الرضاع عن وقوع النكاح الصحيح.

الجهة الثامنة : في طريق إثبات الرضاع

اشارة

فتارة يكون دليل الإثبات هو الإقرار ، كأن يقول : هذه المرأة أختي أو بنتي من الرضاعة ، وهكذا في سائر العناوين المحرمة.

وأخرى : يكون هي البيّنة ، أي شهادة عدلين من الرجال.

وثالثة : شهادة النساء.

أمّا الأوّل - أي : في صورة الإقرار - فلا شكّ في لزوم الأخذ بما أقرّ إن كان على ضرره ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ » (1).

ص: 398


1- « التنقيح الرائع » ج 3 ، ص 485 ، « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 3 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، الفصل التاسع؛ « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 133 ، أبواب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.

وأماريّة الإقرار لإثبات ما أقرّ به إن كان على ضرره ربما كان أقوى من البيّنة على ثبوت ما أقرّ به ، لأنّ العاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه ، فلا بدّ وأن يكون الإقرار على نفسه للفرار عن المفاسد المترتّبة على مخالفة الواقع ، فإذا لم يعلم بكذبه - من جهة العلم بأنّ إقراره لدواعي أخر غير بيان الواقع والإخبار عنه - لا بدّ وأن يحمل على أنّه بصدد بيان الواقع.

وعلى كلّ حال حجّية الإقرار - وأنّه طريق إلى إثبات ما أقرّ به - أمر مفروغ عنه فيما إذا كان على ضرره ، وعليها بناء العقلاء في مقام القضاء ، حتّى إنّهم يرون الإقرار من نفس الجناة أقوى دليل على صدور الجناية منه.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ الإقرار بكون هذه المرأة المعلومة إحدى محارمي من أمّ أو أخت أو بنت أو غيرها تارة يلاحظ بالنسبة إلى عمل نفس المقرّ مع تلك المرأة ، فلا أثر لإقراره أصلا ، بل العمل تابع لما هو الواقع ، فإن أحرز بمحرز وجداني أو تعبّدي - وبعبارة أخرى : قام عنده حجّة على ثبوت ما أقرّ به - يعمل على طبقها ، وإلاّ يكون من قبيل الشكّ في الموضوع ، فيجري أصالة الحلّ ، إلاّ في مواضع المستثناة التي حكم الشرع فيها بالاحتياط ، كما هو المعروف في باب الفروج والدماء ، بل قد يقال في الأموال أيضا.

هذا فيما إذا لم يعلم بخلاف ما أقرّ به ، وإلاّ فواضح لزوم العمل على طبق علمه.

وعلى كلّ حال لا أثر لإقراره بالنسبة إلى عمل نفسه ، فإذا أقرّ بأنّ هذه المرأة التي تحته وزوجته إحدى محارمه أمّا رضاعيّا مثلا ، وهو يعلم بأنّه ليس كذلك ، أو قام عنده حجّة على أنّه ليس كذلك مع كونه شاكّا ، فيجب ترتيب آثار الزوجيّة من لزوم إعطاء مهرها ، ويجب عليه نفقتها وسائر الآثار المذكورة في محلّها.

ص: 399

نعم لو أقرّ عند الحاكم وحكم الحاكم بالانفصال ، فيدخل في المسألة المعروفة ، وهي أنّه هل يجب ترتيب الأثر على حكم الحاكم حتّى مع علم المحكوم عليه بالخلاف ، أو قيام الحجّة عنده على الخلاف ، أمّ لا؟

وأخرى : يلاحظ هذا الإقرار بالنسبة إلى عمل المرأة التي تحته ، فإن صدّقته في هذا الإقرار ، فيرجع إلى إقرارها بثبوت ما أقرّ به هذا الزوج.

وحال هذا الإقرار حال إقرار الزوج في جميع ما ذكرنا ، ولا يجوز لها أن تتزوّج بغير هذا الزوج إن كانت تعلم بكذب إقرار الزوج وتصديقها له ، ومع الشكّ وعدم قيام حجّة على الوجود ولا على العدم ترجع إلى الأصول العمليّة ، وعلى أيّ حال لا أثر لإقراره ، ولا لإقرارها لها.

وثالثة : يلاحظ هذا الإقرار بالنسبة إلى عمل غيرهما الذي لا يعلم كذبه فلا شكّ في أنّه لو أقرّ عند الحاكم يؤخذ بإقراره بالنسبة إلى فيما ضرره ، لا فيما نفعه ، ويكون حال الإقرار عند الحاكم بأنّ زوجته إحدى محارمه رضاعا ، حال الاعتراف بأنّه مديون لزيد مثلا بكذا ، ويثبت ما أقرّ به بالنسبة إلى الأحكام والآثار التي للمقرّ به ، إذا كانت تلك الآثار عليها ، وكذلك يثبت بإقراره بالنسبة إلى الآثار التي عليها ، لا لها لغير الحاكم أيضا إذا لم يعلم بكذبه.

والحاصل : أنّ الإقرار عند العقلاء نافذ بالنسبة إلى ما عليه ، لا بالنسبة إلى ماله ، وإلاّ فكل مدّع في مقام الدعوى مقرّ ومعترف بما يدّعيه ، والشارع أمضى ما سلكه العقلاء في إنفاذ الإقرار بما عليه.

نعم ها هنا كلام في إنكاره للرضاع المحرّم بعد ما أقرّ واعترف به ، وأنّه هل يسمع منه هذا الإنكار ، أم لا بل يعدّ من قبيل الإنكار بعد الإقرار في باب الدعاوي والمخاصمات ، فلا يسمع؟.

ص: 400

والتحقيق في هذا المقام : أنّه وجه عدم سماع الإنكار بعد الإقرار هو أنّه يرجع إلى الإقرار والاعتراف بماله ، لا بما عليه ، والعقلاء بناؤهم على سماع الإقرار إذا صدر عن عاقل ، ونفوذه إذا كان الإقرار عليه لا له ، والشارع أمضى ما هو بناء العقلاء عليه ، ففي الحقيقة يرجع الإنكار لما أقرّ به ممّا يكون عليه إلى دعوى عدم ثبوت ما أقرّ به مع وجود الأمارة على ثبوته ، أعني إقراره ، فيصير هذا الإنكار بعد إقراره مثل أنّ يدّعى شيئا تكون البيّنة على خلافه ، ومعلوم مثل هذه الدعوى لا يسمع.

هذا فيما إذا كان متعلّق إنكاره نفي ما أقرّ به ، وأمّا لو كان مرجع إنكاره إلى دعوى بطلان مدرك إقراره ، كما إذا ادّعى أنّ مدرك إقراري كان إخبار فلان ، مع اعتقادي أنّه صادق القول ، ثمَّ تبيّن لي أنّه كذّاب ، أو كان إخباره بذلك الغرض كذا ، فهذه دعوى جديدة يسمع منه ، بمعنى أنّه يطالب بالبيّنة بخلاف الصورة الأولى ، أي : فيما إذا كان متعلّق الإنكار نفس ما أقرّ به ، لأنّه لا أثر للبيّنة مع إقراره وثبوته به.

وأمّا الثاني أي إثبات الرضاع بالبيّنة - فبعد الفراغ عن حجّية البيّنة وإثباتها لجميع الموضوعات عند الشكّ فيها ، سواء أكان في مقام المخاصمة وعند الحاكم ، أم لا وإن لم يكن مخاصمة في البين ، بل حجّيتها مطلقة وعند أيّ شخص كان.

ومع ذلك كلّه ذكر جماعة من الأصحاب عدم قبول الشهادة على ثبوت الرضاع إلاّ مفصّلة ، بأن يشهد بوقوع الرضاع الذي هو عبارة عن كذا وكذا ، بأن يذكر حقيقته وماهيّته وجميع القيود المعتبرة فيه ، حتّى ولو شهد الشاهدان بوقوع الرضاع المحرّم لا يثبت بها ، فضلا عن أن يكون شهادتهما بالرضاع المطلق من دون قيد المحرّم.

وعلّلوا ذلك بأنّ الرضاع المحرّم يختلف عند الفقهاء من حيث اعتبار الشروط قلّة وكثرة ، فربما يكون ارتضاع خاصّ رضاعا محرّما عند فقيه ، من جهة عدم اعتبار ذلك الشرط المفقود عنده ، وهذا الارتضاع بعينه لا يكون محرّما عند فقيه آخر ، لأجل اعتبار ذلك الشرط المفقود عنده ، فمن الممكن أن يكون المشهود به رضاعا عند

ص: 401

الشاهدين اجتهادا أو تقليدا ، ولا يكون رضاعا عند الحاكم ، فلو حكم على طبق شهادتهما فقد حكم على خلاف معتقده واجتهاده.

وبطلان هذا معلوم ، لأنّ جعل الحاكم لأجل الحكم على طبق ما استنبطه من الأدلّة ، ولذلك قال علیه السلام : « انظروا إلى رجل منكم روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » إلى أن يقوله علیه السلام : « فإذا حكم بحكمنا فالرادّ عليه » كذا وكذا ، إلى آخره (1). فلا بدّ للحاكم أن يحرز بمحرز وجداني أو تعبّدي أنّ ما يحكم به يكون حكمهم علیهم السلام كي يكون الردّ عليه حراما ، والمفروض فيما نحن فيه أنّه ليس في المقام محرز وجداني ولا تعبّدي على أنّ المشهود به هو الرضاع المحرّم ، ولو صرّح بأنّه رضاع محرّم ، إذ الرضاع المحرّم مختلف عند الفقهاء من حيث الكميّة والكيفيّة.

ولا يمكن أن يدّعى أنّ لفظ الرضاع المطلق أو الرضاع المحرّم ظاهر في الرضاع الذي جعله الشارع موضوعا للحرمة ، فبعد الفراغ عن حجّية البيّنة وحجّية الظواهر كلام الشاهدين يكون محرزا تعبديا لموضوع الحرمة ، أعني ما جعله الشارع محرّما.

وذلك من جهة أنّ حجّية الظواهر من جهة بناء العقلاء على إرادة ما هو ظاهر اللفظ منه في مقام التفهيم والتفهّم. وهذا فيما إذا كان المعنى الذي هو ظاهر اللفظ معلوما عندهم. وأمّا لو كان معنى اللفظ مختلفا عند المتكلّم والمستمع ، ومعلوم أنّ الظاهر من اللفظ حينئذ أنّ المراد هو الذي يكون معنى اللفظ عنده ، أي المتكلّم ، فلو كان ما هو المعنى عنده - أي المتكلّم - معلوما فيحمل عليه.

وأمّا إذا لم يكن ما هو معنى اللفظ عنده معلوما ، كما فيما نحن فيه ، فيصير مجملا

ص: 402


1- « الكافي » ج 1 ، ص 54 ، باب : اختلاف الحديث ، ح 10 ، وج 7 ، ص 412 ، باب : كراهية الارتفاع الى قضاة الجور ، ح 5 ، « الاحتجاج » ص 355 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 514 ، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 99 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

ومن قبيل استعمال اللفظ المشترك في بعض معانيه بدون قرينة معيّنة لذلك البعض ، فلا بدّ للشاهدين حينئذ من التفصيل وشرح ما هو مراده من لفظة الرضاع المطلق ، أو الرضاع المحرّم ، كي يفهم من يقوم عنده البيّنة مراد الشاهدين ، وأنّ المشهود به هو ما ذا.

نعم لو علم الحاكم من الخارج أنّ معنى الرضاع عند الشاهدين هو المعنى المختار عنده ، فلا يحتاج في حكمه بتحقيق الرضاع إلى الشرح والتفصيل ، وكذلك الأمر في صورة العلم بأنّ معنى الرضاع عند الشاهد اجتهادا أو تقليدا كذلك في غير الحاكم أيضا بالنسبة إلى ترتيب الأثر ، فإن علم بالموافقة أو المخالفة فالأمر واضح ، وإن لم يعلم فيحتاج في ترتيب الأثر مثل الحكم إلى التفصيل ، كي يعلم الموفقة أو المخالفة ، ويرتّب أثر كلّ واحد منهما عليه.

ثمَّ إنّ الذي ذكرنا - من لزوم تفصيل الشاهد مراده من الرضاع - يجري في كلّ ما هو من هذا القبيل ، أي ما كان معنى اللفظ مختلفا عند أهل المحاورة ، خصوصا عند المتكلّم والسامع وعند الشاهدين ومن تقوم عنده البيّنة ، كلفظ « الكرّ » مثلا ، فإنّ فيه اختلافا كثيرا بين الفقهاء من حيث الوزن والمساحة ، ولو شهد الشاهدان العادلان على كرّية ماء ، وكان ما هو معنى الكرّ عندهما معلوما عند من تقوم عنده البيّنة ، فلا إشكال ، لأنّه إن كان موافقا مع مختاره اجتهادا أو تقليدا يرتّب أثر الكرّية على ذلك الماء ، ويثبت كرّيته عنده ، وإلاّ فلا.

وأمّا إذا كان ما هو المعنى للفظ الكرّ - اجتهادا أو تقليدا - غير معلوم ، فبناء على ما ذكرنا من لزوم التفصيل في الشهادة على الرضاع ، يجب التفصيل ها هنا أيضا ، لكن ظاهر الأصحاب ها هنا قبول الشهادة مطلقا وترتيب آثار الكرّ الواقعي ، مع أنّه لا فارق في البين.

وأمّا الثالث - أي إثبات الرضاع بشهادة النساء - فالمسألة ذات قولين

ص: 403

فذهب جماعة منهم الشيخ (1) والعلاّمة قدس سره (2) في بعض كتبه إلى عدم قبول شهادتهن فيه.

وذهب جماعة أخرى إلى القبول ، منهم الشيخ الأجل المفيد (3) والمرتضى قدس سره .

لا شكّ في أنّ مقتضى القواعد الأوّليّة عدم ثبوت الرضاع إلاّ بالعلم الوجداني أو البيّنة ، هو مفاد قوله علیه السلام : « الأشياء كلّها على هذا حتّى يتبيّن لك أو تقوم به البيّنة ». (4)

والظاهر أنّ المراد بالبيّنة معناها المصطلح عند الفقهاء ، وهو شهادة رجلين عادلين ، فقبول قول النساء وشهادتهنّ في باب الرضاع يحتاج إلى دليل يدلّ عليه.

وما يمكن أن يكون أمران.

الأوّل : مرسلة ابن بكير عن الصادق علیه السلام في امرأة أرضعت غلاما وجارية؟ قال علیه السلام : « يعلم ذلك غيرها؟ » قلت : لا ، قال : فقال : « لا تصدّق إن لم يكن غيرها » (5).

فمفهوم قوله علیه السلام « لا تصدّق إن لم يكن غيرها » هو أنّها تصدّق إن كان غيرها ، وهذا بإطلاقه يشمل فيما إذا كان ذلك الغير امرأة أخرى ، فينتج أنّه لو كانت هناك امرأة أخرى مع المرضعة وشهدوا بوقوع الرضاع يقبل قولهما وتصدّقان.

وفيه : أنّ ظاهر قوله علیه السلام : « لا تصدّق إن لم يكن هناك حجّة أخرى » غير إخبارها ، فالمرسلة في مقام نفي حجّية إخبار المرضعة واحتياج إثبات الرضاع إلى حجّة أخرى ، وهي كالبيّنة مثلا ، لا أنّ قولها وحدها ليس بحجّة ، ومع انضمامها إلى

ص: 404


1- « النهاية » ص 462.
2- « تحرير الأحكام » ج 2 ، ص 11.
3- « المقنعة » ص 727.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 323 ، ح 1330 ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 304 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 12 ، ح 3.

امرأة أخرى حجّة ، ولا أقلّ من تكافؤ الاحتمالين.

هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات هذا الحكم المخالف للأصول والقواعد الأوّلية بمثل هذه المرسلة لا يخلو من إشكال.

الثاني : أنّه أي الرضاع - من الأمور التي لا يعلم في الأغلب إلاّ من قبلهنّ ، فلو لم يقبل شهادتهنّ يقع الناس كثيرا في مخالفة الواقع ، لأنّه إذا لم تصدّقن ولم تقبل شهادتهنّ ، فيكون المرجع عمومات الحلّ ، لجريان الأصل الموضوعي ، لعدم إمكان قيام البيّنة ، أي شهادة رجلين عدلين ، بحيث يشهدان بأنّ هذا الطفل ارتضع من ثدي هذه المرأة بالتفاهم الثدي والامتصاص منه ، من جهة أنّ مثل هذه الشهادة تحتاج إلى أن يكون هناك رجلين عدلين من محارم المرضعة ، ينظران إلى ثدييها ، وأنّ الطفل التقمه وامتصّ منه ، وهذا الأمر تكرّر خمسة عشر مرّة متوالية ، في كلّ مرّة رضعة كاملة.

ولكن أنت خبير بأنّ وقوع مثل هذا في غاية القلّة بل الندرة ، فلا بأس بأن يقال : بأنّ شهادتهنّ تقبل فيما لم يكن متّهمات ، كما أنّه ربما يستفاد من بعض الأخبار ، حيث أنّه علیه السلام علّل عدم تصديق المرضعة - التي هي أمّ ولده - بأنّها متّهمة. وفي دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد علیه السلام أنّ رجلا سأله عن جارية له ولدت عنده ، فأراد أن يطأها ، فقالت أمّ ولد له : إنّي قد أرضعتها؟ قال علیه السلام : « تجر إلى نفسها وتتّهم لا تصدّق » (1).

ثمَّ إنّ ها هنا أمور نذكرها تتميما للفائدة

[ الأمر ] الأوّل : لو ملك الرجل إحدى المحرّمات عليه نسبا ، كالأمّ والبنت

ص: 405


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 242 ، ح 908 ، فصل (10) ذكر الرضاع.

والأخت والعمّة والخالة وغيرهنّ ، فينعتقن عليه ، فهل إذا حصلت هذه العناوين من الرضاع وملكهنّ ينعتقن عليه ، أم لا؟

قال في الشرائع : فيه روايتان أشهرهما العتق ، انتهى (1).

وفي المسألة قولان ، أشهرهما من حيث الرواية والفتوى انعتاقهنّ ، بل قال في الجواهر : أنّه المشهور بين المتأخّرين ، وحكى عن بعضهم دعوى الإجماع عليه (2).

وهذا القول - أي اتّحاد حكم المحارم الرضاعيّة مع المحارم النسبيّة - في هذا الحكم - أي الانعتاق بعد حصول ملكيتهنّ - هو الأقوى ، وذلك لورود روايات خاصّة في هذا المقام :

منها : صحيح أبي بصير وابي العباس وعبيد بن زرارة كلّهم عن الصادق علیه السلام : « ولا يملك أمّه من الرضاعة ولا أخته ولا عمّته ولا خالته ، إذا ملكن عتقن » وقال : « ما يحرم من النسب فإنّه يحرم من الرضاع » وقال : « يملك الذكور ما خلا والدا أو ولدا ، ولا يملك من النساء ذات رحم محرم » وقلت : يجري في الرضاع مثل ذلك؟ قال : « نعم يجري في الرضاع مثل ذلك » (3).

وهناك أخبار أخر أيضا تدلّ على هذا المعنى لا حاجة إلى ذكرها (4).

هذا ، مضافا إلى إمكان ادّعاء شمول لفظة الأمّ وسائر العناوين الرضاعيّة مثل النسبيّة ، بدون عناية ورعاية علاقة.

وبعبارة أخرى : يكون المتفاهم العرفي من هذه الألفاظ معنى عامّ ، ينطبق على

ص: 406


1- « شرائع الإسلام » ج 3 : ص 113 ، كتاب العتق ، الفصل الثالث في : الملك.
2- « جواهر الكلام » ج 24 ، ص 142.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 113 ، ح 3435 ، باب العتق وأحكامه ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 877 ، في العتق وأحكامه ، ح 110 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 1.
4- « الكافي » ج 6 ، ص 178 ، باب ما لا يجوز ملكه من القرابات ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 878 ، في العتق وأحكام ، ح 111 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 3 - 4.

الإضافة الحاصلة من الرضاع ومن الولادة ، فإذا كان كذلك فالأخبار المطلقة - التي مفادها انعتاق الأمّ أو أحد العناوين الأخر من هذه العناوين من دون التقييد بالنسب أو الرضاع - أيضا تشمل المقام.

وأمّا الأخبار المعارضة لهذه الأخبار ، كصحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام في بيع الأمّ من الرضاع؟ قال علیه السلام : « لا بأس بذلك إذا احتاج » (1). فيتقدّم عليها تلك الأخبار المتقدّمة ، ويتعيّن الأخذ بها دون هذه الأخبار ، لإعراض المشهور عنها بناء على أن يكون القول بالانعتاق هو المشهور بين المتأخّرين ، كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس سره (2).

ولكن الترجيح بمثل هذه الشهرة مشكل ، لما ذكرنا في الأصول من أنّ المدار في الجارية والكاسريّة هي الشهرة الفتوائيّة بين المتقدّمين ، وكذلك في الإعراض ، لا الشهرة أو الأعراض فيما بين المتأخّرين ، فالمتعيّن أن يقال بترجيح الأخبار التي تدلّ على الانعتاق ، لمخالفتها للعامّة ، وحمل تلك الأخبار المعارضة لها على التقيّة.

وفي هذا الفرع جهات من البحث ، والمقصود بالذكر ها هنا جهة وحدة حكم الرضاع مع النسب بالنسبة إلى هذا الحكم ، أي انعتاقهنّ لو ملكهنّ الذي بينه وبينهنّ إحدى هذه العلاقات. وأمّا البحث من الجهات الأخر ، ففي كتاب البيع في باب بيع الحيوان.

الأمر الثاني : في أنّه هل يقع الظهار بالعناوين الحاصلة من الرضاع - إذا كانت مثل تلك العناوين الحاصلة من النسب التي يقع بها الظهار ، كعنوان الأمّ والأخت أو إحدى المحرّمات الأخر ، بناء على عدم اختصاص وقوعه بخصوص الأمّ - أم لا؟

والأقوى عدم الوقوع ، لأنّ وقوع الظهار بها إمّا لأجل كون هذه العناوين حقيقة في ما إذا حصلت من الرضاع كما إذا حصلت من النسب ، فيكون الحكم المترتّب على

ص: 407


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 245 ، ح 886 ، في العتق وأحكامه ، ح 119.
2- « جواهر الكلام » ج 24 ، ص 142.

هذه العناوين - أعني حرمة الوطي قبل التكفير - مترتّبا عليها إذا حصلت من الرضاع أيضا.

وفيه : أنّ المتفاهم العرفي لا يساعد هذا المعنى.

وإمّا لأجل قوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ».

ولكن أنت خبير بأنّ التنزيل بلحاظ حرمة النكاح من ناحية حصول هذه العناوين ، لا كلّ أثر مترتّب على هذه العناوين.

وإمّا من جهة قوله علیه السلام : « هو - أي الظهار - من كلّ ذي محرم ». ومعلوم أنّ ذي محرم عنوان عام يشمل المحارم الرضاعيّة.

وفيه : أنّ عنوان ذي مرحم بحسب المتفاهم العرفي ظاهر في المحارم النسبيّة ، وفي صحيحة زرارة سأل أبا جعفر علیه السلام من الظهار؟ فقال : « هو من كلّ ذي محرم أمّ أو أخت أو عمّة أو خالة ». إلخ (1) وظاهر التفسير هي المحارم النسبيّة.

الأمر الثالث : في أنّ كثيرا من الأحكام التي يترتّب على هذه العناوين إذا كانت حاصلة من النسب لا تترتّب عليها إن كانت حاصلة من الرضاع ، ومن جملتها التوارث ، فلا يرث الابن البنت الرضاعيين من أبيهما أو أمّهما الرضاعيين وهكذا الأمر في سائر العناوين الحاصلة من الرضاع ومن جملتها عدم وجوب نفقة الأقارب عليهم ، مثلا لا يجب نفقة الابن أو البنت الرضاعيين على أبيهما الرضاعي إن كانا فقيرين ، وكذلك بالعكس.

وكذلك الأمر في سائر العناوين الحاصلة من الرضاع ممّا يوجب إعطاء النفقة في مثلها إذا كانت حاصلة من النسب.

ص: 408


1- « الكافي » ج 6 ، ص 153 ، باب الظهار ، ح 3 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 526 ، ح 4828 ، باب الظهار ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 9 ، ح 26 ، باب حكم الظهار ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 511 ، أبواب الظهار ، باب 4 ، ح 1.

ومن جملتها : عدم قود الوالد بقتل ولده ، فإنّه في الولد نسبا لا يقتل الوالد إن قتل ولده ، وإن ثبت ذلك ببيّنة أو إقرار ، ولكن الأب الرضاعي لو قتل ابنه الرضاعي أو بنته يقتل بهما.

ومن جملتها : أنّ الوالد نسبا لا يقطع يده بسرقة مال ولده نسبا ، ولكنّ الأب الرضاعي لو سرق مال ولده الرضاعي يقطع.

ومن جملتها : عدم ولاية الأب الرضاعي على ابنه أو ابنته الرضاعيين ، بخلاف الأب النسبي ، فإنّه له الولاية عليهما وعلى مالهما ما دام كانا صغيرين.

وكذلك ليس للأمّ الرضاعيّة حقّ الحضانة ، لا للابن الرضاعي ولا لابنتها الرضاعية ، بخلاف الأمّ النسبي ، فإنّ لها حقّ حضانة ابنها سنتين ، وحقّ حضانة ابنتها ستّ سنين.

والسرّ في ذلك كلّه : أنّ الأدلّة الدالّة على هذه الأحكام رتّب فيها هذه الأحكام على نفس هذه العناوين ، وهذه العناوين إمّا حقيقة في خصوص ما إذا كانت حاصلة من النسب - واستعمالها في الإضافة الحاصلة من الرضاع يكون بالعناية وبرعاية مع المعنى الحقيقي ، فتكون الحاصلة من الرضاع خارجة عن تحت تلك المفاهيم ولا تشملها - أو تكون تلك المفاهيم منصرفه عن الحاصلة من الرضاع ، وإن قلنا بأنّها حقيقة فيها أيضا.

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (1) فالظاهر منه أنّ التنزيل بلحاظ حرمة النكاح فقط.

وفي ترتّب غير حرمة النكاح من آثار هذه العناوين إذا كانت حاصلة من

ص: 409


1- « الكافي » ج 5 ، ص 437 ، بابا الرضاع ، ح 2 ، « الفيه » ج 3 ، ص 475 ، ح 4665 ، باب الرضاع ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 291 ، ح 1223 ، باب من أحلّ اللّه نكاحه من النساء وحرّم منهن في شرع الإسلام ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 280 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب 1 ، ح 1 - 3 - 4.

النسب على الحاصلة من الرضاع يحتاج إلى وجود دليل خاصّ يدلّ عليه ، كما ادّعيناه في الانعتاق إذا ملكهنّ.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 410

فهرس الموضوعات

ص: 411

ص: 412

36 - قاعدة : الاحسان

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهو أمور :... 9

الأول : قوله تعالى ( ما على المحسنين من سبيل )... 9

الثاني : حكم العقل... 12

الثالث : الاجماع... 13

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة... 14

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 16

37 - قاعدة : الولد للفراش وللعاهر الحجر

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها... 23

الجهة الثانية : في بيان مدلولها... 25

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 31

في إمكان لحقوق الولد بصاحب الفراش شرعا ، ذكر الفقهاء شروط ثلاثة :... 32

الأول : الدخول... 32

الثاني : مضي ستة أشهر هلالية من زمان الوطىء... 34

الثالث : أن لا يكون الوضع في أكثر من أكثر مدة الحمل... 35

المدعي المقابل للفراش إذا كان أيضا صاحب الفراش ففيه صور أربع :... 44

ص: 413

تنبيه... 48

38 - قاعدة : وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة اليد... 53

الجهة الثانية : في مدركها... 54

في معنى الضمان عرفا... 58

في ضمان منافع العين بقسميها... 61

في بيان ضابط المثلي والقيمي... 65

ينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول : لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمنه... 70

الامر الثاني : لو تعذر المثل في المثلي... 72

الامر الثالث : المدار في تعيين القيمة هو قيمة يوم الغصب... 74

في دلالة صحيحة أبي ولاد... 77

في المناقشات التي استظهرت من الرواية... 82

الامر الرابع : الكلام في بدل الحيلولة... 84

أمور يجب التنبيه عليها :... 86

الأول : هل المدار في التعذر عدم إمكان رد العين؟... 86

الثاني : هل بدل الحيلولة يصير ملكا للمالك؟... 87

الثالث : بناء على ملكية المالك للبدل ، هل يكون دائما أو ما دام الرد متعذرا؟ 88

الرابع : هل للغاصب إلزام المالك بأخذ البدل؟... 92

الخامس : في أن العين المغصوبة باقية على ملك المالك حتى بعد

ص: 414

أخذ البدل... 94

السادس : في وجوب رد العين بعد دفع التعذر... 94

السابع : هل يصدق تعذر الرد إن كان موجبا لتلف مال محترم أو نفس محترمة أم لا؟ 95

الثامن : في تعاقب الأيادي... 97

نتيجة ما ذكرنا في مفاد قوله صلى اللّه عليه وسلم « وعلى اليد ... » أمور :... 102

الأول : جواز رجوع المالك إلى أي واحد من الغاصبين... 102

الثاني : لو استوفى حقه من أحدهم فليس له بعد ذلك الرجوع إلى الآخرين... 102

الثالث : جواز رجوع كل سابق إلى اللاحق... 103

الرابع : في أن جواز رجوع كل سابق إلى اللاحق بعد أداء السابق ما في ذمته 103

ها هنا تنبيهات :

الأول : لو أبرء المالك أحد الغاصبين يسقط عن الجميع... 103

الثاني : لو وهب المالك ما في ذمة أحدهم له ، فليس له الرجوع بعد ذلك إلى أحدهم 104

الثالث : لو أقر أحدهم بالغصبية دون الباقين وتلف المال ، فعليه الأداء دونهم 105

الرابع : لو رجع المال المغصوب من اللاحق إلى سابقه وأخذ منه البدل ، فلا يحق له الرجوع إليه بأخذ ما خسره للمالك... 106

39 - قاعدة : مشروعية عبادات الصبي

وفيها جهات من البحث :

ص: 415

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 109

الجهة الثانية : في مدركها... 112

الأول : شمول الأدلة العامة والمطلقات لهم... 112

الثاني : العمومات التي دلت على ترتب الثواب على من صلى أو صام أو حج 115

الثالث : حكم العقل... 115

الرابع : استبعاد أن لا يستحق الأجر والثواب القريب من البلوغ عند إتيانه بالواجبات 116

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 120

40 - قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان مفادها... 127

الجهة الثانية : في مدركها وهو أمور :... 128

الأول : إطلاق دليل المركب... 128

الثاني : الاستصحاب... 129

تقرير الاستصحاب من وجوه :... 129

الثالث : الاجماع... 135

الرابع : الروايات... 135

الاشكال على القاعدة... 137

عدم إمكان إرادة الكل والكي من الشئ وجوابه... 138

شمول القاعدة للمستحبات أيضا... 141

عدم إمكان إحراز موضوع قاعدة الميسور في الماهيات المخترعة

ص: 416

الشرعية... 143

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 146

عدم جريان القاعدة فيما إذا تعذر القيد... 147

41 - قاعدة ، حجية سوق المسلمين

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهو أمور :... 155

الأول : سيرة المسلمين... 155

الثاني : الاجماع... 156

الثالث : الاخبار... 156

الجهة الثانية : أنها أمارة التذكية فقط أو أوسع من هذا؟... 158

الجهة الثالثة : هل السوق أمارة في عرض اليد أم؟... 159

الجهة الرابعة : هل السوق أمارة أم أصل؟... 165

في الفرق بين الأصل والامارة... 165

الروايات الواردة في هذه القاعدة... 167

الجهة الخامسة : في نسبة هذه القاعدة مع غيرها من الأدلة في مقام التعارض... 168

الجهة السادسة : في موارد تطبيقها... 169

42 - قاعدة : عدم شرطية البلوغ في الأحكام الوضعية

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدلولها وهو أمور :... 173

الأول : الاجماع... 173

ص: 417

الثاني : سيرة المتدينين... 174

الثالث : الروايات والأدلة العامة... 174

في بيان حديث رفع القلم... 175

في بيان الأجوبة على الاشكالات الواردة في حديث رفع القلم... 178

الجهة الثانية : في بيان المراد منها... 180

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها... 181

43 - قاعدة : الشرط الفاسد ليس بمفسد للعقد

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان الأقوال فيها... 189

الجهة الثانية : هل يستحب الوفاء بالشرط الفاسد؟... 190

الجهة الثالثة : في تعيين ما هو محل النزاع... 192

الدليل على القول المختار من وجوه :... 194

الأول : إطلاقات أدلة المعاملات والعقود... 194

الثاني : الاجماع... 194

الثالث : الاخبار... 195

الرابع : لزوم الدور... 200

في أدلة القائلين بالافساد :... 202

الأول : ان فساد الشرط يوجب سقوطه عن الاعتبار... 202

الثاني : ان رضاء المشروط له بهذا العقد منوط بوجود هذا الشرط... 204

في بيان الحل عن هذا المطلب... 205

الثالث : الاخبار... 209

أمور يجب أن تذكر :

ص: 418

الأول : لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد فهل يصح العقد أم لا؟... 215

الثاني : لو ذكر الشرط الفاسد قبل العقد ولم يذكره في متنه ، فهل يكون مفسدا أم لا؟ 217

عدم تأثير الشرط الفاسد في خارج العقد في إفساده... 218

الثالث : التفصيل بين أقسام الشروط الفاسدة في الافساد وعدمه... 219

الرابع : الموارد الخارجة عن هذه القاعدة بناء على عدم الافساد... 220

الخامس : في بيان موارد جريان هذه القاعدة... 223

السادس : هل يأتي هذا الخلاف في الايقاعات أم لا؟... 224

44 - قاعدة : الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها وهي الاخبار... 229

الجهة الثانية : في بيان المراد منها... 230

ولتوضيح المراد من القاعدة نبين أمور :

في بيان حقيقة الوقوف :... 231

المطلب الأول : في أن الوقف عقد يحتاج إلى القبول أو إلى الايقاع 234

في أن الوقف عبادة لا يقع بدون قصد القربة... 236

الأدلة على اعتبار قصد القربة فيه... 237

المطلب الثاني : في شرائط الوقف وهي أربعة 241

الشروط الأول : القبض شرط في صحته أو لزومه... 241

هاهنا فروع :

الأول : بطلان الوقف بموت الواقف قبل قبض الموقوف عليه... 243

الثاني : هل يشترط في تحقق القبض إذن الواقف أم لا؟... 245

ص: 419

الثالث : هل يشترط في القبض أن يكون فورا؟... 246

الرابع : هل قبض الطبقة الأولى كافية أم لا؟... 246

الخامس : لو كانت الطبقة الأولى صغارا أو الواقف هو وليهم فلا يحتاج إلى القبض 248

السادس : في الأوقاف العامة وعلى الجهات ، هل يحتاج إلى القبض أم لا؟... 249

الشرط الثاني : الدوام... 250

تحقيق المقام... 253

الشرط الثالث : التنجيز... 255

الشرط الرابع : إخراجه عن نفسه... 257

الوقف على من ينقرض غالبا... 261

على تقدير الانقراض هل يرجع إلى المالك أو ...؟... 263

لو شرط الواقف أداء دينه أو غيره ، فهل يكون وقفا على نفسه أم لا؟... 266

إذا استثنى مقدارا من المنافع لنفسه ، فهل وقف على النفس أم لا... 267

لو جعل نفسه متوليا وجعل مقدارا كبيرا من المنافع للمتولي ، فهل يكون وقفا على النفس أم لا؟ 267

إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج... 270

المطلب الثالث : في شرائط الموقوف : 275

الشرط الأول : أن يكون عينا... 275

الشرط الثاني : كونها مملوكة... 276

الشرط الثالث : يمكن الانتفاع بها مع بقائها... 276

الشرط الرابع : يكون لها البقاء مدة معتدة بها... 276

الشرط الخامس : للعين الموقوفة منفعة محلله... 276

ص: 420

الشرط السادس : أن لا يكون متعلقا لحق الغير المانع عن التصرف... 276

الشرط السابع : كونه مما يمكن اقباضه... 277

المطلب الرابع : في شرائط الواقف 277

جواز وقف الكافر... 280

المطلب الخامس : في شرائط الموقوف عليه : 281

الشرط الأول : أن يكون موجودا... 282

الشرط الثاني : أن يكون معينا... 283

الشرط الثالث : أن يكون ممن يصح تمليكه... 284

الشرط الرابع : أن لا يكون الوقف عليه محرما... 285

فرع : لو وقف مدرسة دينية أو مسجد فانهدما... 286

المطلب السادس : في اللواحق ، وفيه أمور : 288

الامر الأول : خروج الموقوف عن ملك الواقف بالوقف... 288

الامر الثاني : في الوقف على أولاده... 293

الامر الثالث : عدم بطلان الوقف بخرابه وانهدامه ، ولا يجوز بيعه... 295

المطلب السابع : في المتولى والناظر للعين الموقوفة ، وفيه أمور : 309

الامر الأول : جواز جعل الواقف نفسه متوليا... 310

الامر الثاني : لو لم يعين المتولي في ضمن العقد... 310

الامر الثالث : هل تعتبر العدالة في الناظر أم لا؟... 312

الامر الرابع : الجواز في أن يجعل الواقف شخصا ناظرا على المتوالي في ضمن عقد الوقف 313

الامر الخامس : لو جعل التولية لأكثر من واحد... 314

الامر السادس : فيما لو عين الواقف وظيفة المتولي في العقد فعليه العمل بما عين له 314

ص: 421

الجهة الثالثة : في تطبيقها على مواردها... 315

45 - قاعدة : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في شرح مفهوم القاعدة... 319

الجهة الثانية : في الدليل على القاعدة... 322

الأول : الآية الشريفة ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ... )... 322

الثاني : الاجماع... 323

الثالث : الاخبار... 323

الجهة الثالثة : فيما إذا شك في الرضاع من جهة الشبهة المفهومة أو المصداقية... 331

الجهة الرابعة : في شرائط تحقق الرضاع ، وهي أمور :... 337

الشرط الأول : أن يكون اللبن عن نكاح صحيح... 337

الشرط الثاني : كمية الرضاع... 343

في تقدير الرضاع طرق ثلاث... 346

اعتبروا في الرضاع المحرم من حيث العدد شروطا... 363

الشرط الأول : ان يكون كل رضعة من تلك الرضعات رضعة كامله... 363

الشرط الثاني : توالي الرضعات... 364

الشرط الثالث : أن تكون الرضعات من امرأة واحدة... 365

الشرط الرابع : أن تكون الرضعات من الثدي... 367

الشرط الخامس : أن تكون المرضعة حية... 368

الشرط السادس : أن يكون الرضاع في حولي الرضاعة... 370

الشرط السابع : أن يكون اللبن خالصا غير ممزوج بشئ... 375

ص: 422

الجهة الخامسة : في عموم المنزلة... 376

الجهة السادسة : الرضاع ينشر الحرمة قبل النكاح والتزويج وبعدهما... 381

الجهة السابعة : العناوين السبعة النسبية المعروفة موجبة للحرمة إن حصلت بالرضاع 392

الجهة الثامنة : طريق إثبات الرضاع :... 398

إثبات الرضاع بالاقرار... 398

إثبات الرضاع بالبينة... 401

إثبات الرضاع بشهادة النساء... 403

أمور لتتميم الفائدة :

الامر الأول : لو ملك الرجل إحدى المحرمات عليه من الرضاع تنعتق عليه... 405

الامر الثاني : هل يقع الظهار بالعناوين الحاصلة من الرضاع؟... 407

الامر الثالث : عدم ترتب كثير من الاحكام على الرضاع وترتبها على النسب كالإرث والنفقة وغيرها 408

ص: 423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.