القواعد الفقهيّة المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الثالث

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 3

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

فهرس الإجمالي

26 - قاعدة عموم حجّية البيّنة............................................... 7

27 - قاعدة إقراء العقلاء ................................................. 43

28 - قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ........................ 69

29 - قاعدة كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ............................ 109

30 - قاعدة العقود تابعة للقصود ........................................ 133

31 - قاعدة انحلال العقود .............................................. 157

32 - قاعدة الإلزام .................................................... 177

33 - قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات .................... 207

34 - قاعدة المؤمنون عند شروطهم ...................................... 247

35 - قاعدة التسامح في أدلّة السنن ..................................... 325

ص: 5

ص: 6

26 - قاعدة عموم حجّية البيّنة

اشارة

ص: 7

ص: 8

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخير بريته ، سيّد الأوّلين والآخرين ، محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

قاعدة عموم حجّية البيّنة (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « حجيّة البيّنة ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في الدليل على اعتبارها

اشارة

فنقول : لا شكّ في أنّ المراد من البيّنة في هذه القاعدة هو شهادة عدلين ، فكلّ دليل نأتي به على اعتبارها لا بدّ وأن يكون مفاده حجّية البيّنة بهذا المعنى ، لا بمعنى آخر.

ص: 9


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 405 ، « عوائد الأيام » ص 88 و 273 ، « عناوين الأصول » عنوان 82 ، « خزائن الأحكام » ش 40 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 461 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 46.

فنقول أوّلا : ما هو معنى البيّنة لغة وعرفا؟

ولا شكّ في أنّها صفة مشبّهة من بان ، فإذا كان موصوفها مذكّرا يقال : هو بيّن ، وإذا كان مؤنّثا يقال : هي بيّنة ، فهو كسيّد وسيّدة من سادَ.

وحيث أنّ موصوفها هي الحجّة ، فيقال : إنّها بيّنة ، أي حجّة واضحة لا سترة ولا خفاء فيها ، وهي بهذا المعني تكون مرادفة للبرهان.

وقد استعمل بهذا المعني في خمسة عشر موضعا من القرآن العظيم ، وقد عبر فيه عن المعجزتين اللتين لموسى علیه السلام تارة بكلمة « برهان » ( وأخرى ) بلفظة « البيّنة » في قوله تعالى ( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ ) (1) وفي قوله تعالى حكاية عن قول موسى علیه السلام ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) إلى قوله تعالى ( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ ) (3) فمعني هذه الكلمة لغة وعرفا هي الحجّة الواضحة ، والبرهان أي : ما يوجب اليقين.

ولكن الظاهر أنّها في لسان الشرع عبارة عن شهادة عدلين على أمر ، وهذا المعنى - بعد حكم الشارع باعتبارها وبعد أن جعلها أمارة وحجّة - تكون من مصاديق الحجّة الواضحة بناء على أنّ حجّية الأمارات من باب تتميم الكشف في عالم الاعتبار التشريعي ، فتبادر هذا المعنى في لسان الشرع يرجع إلى انصراف المفهوم الكلّي إلى بعض مصاديقه ، ولذلك لم يحتمل أحد من الفقهاء في قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (4) أو في قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و

ص: 10


1- القصص (28) : 32.
2- الأعراف (7) : 105.
3- الأعراف (7) : 107 - 108.
4- « عوالي اللئالى » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

الأيمان » (1) أن يكون مراده صلی اللّه علیه و آله غير هذا المعنى ؛ لأنّ اليد تكون أمارة شرعية إمضائيّة لما عند العقلاء.

فإذا ادّعى أحد على صاحب اليد فتكليفه بالبيّنة لا يفهم منه إلاّ شهادة عدلين ، وإلاّ لو كان المراد منها مطلق الحجّة ، فلو كان سابقا ملكا للمدّعي فاستصحاب ملكيّته حجّة له بناء على اعتبار الاستصحاب - كما هو كذلك - فلا يحتاج إلى حجّة أخرى ، ففهمهم شهادة شاهدين من ذلك الكلام دليل على انصراف البيّنة إلى ما هو المتبادر منها في تلك الأذهان وهو شهادة عدلين ، وإلاّ لو كان مراده صلی اللّه علیه و آله مطلق الحجّة فالمنكر هو الذي يكون قوله مطابقا للحجّة الفعلية ، فلا يبقي مجال لهذا التفصيل بين المدعي والمنكر ، بل تكون لكلّ واحد منهما الحجة.

فإذا عرفت ما هو المتبادر من لفظة « البينة » في الأحاديث الصادرة عن المعصومين علیهم السلام . فنقول :

استدلّوا لحجية البينة بالمعنى المذكور بأمور :

الأوّل : رواية مسعدة بن صدقة « كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع ، أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة » (2).

ص: 11


1- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبينات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 2 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

وبعد ما عرفت من أنّ المتبادر من لفظة « البينة » في الروايات هو شهادة شاهدين ، فدلالة هذه الرواية على عموم حجّيتها في كلّ موضوع وعدم اختصاصها بباب القضاء واضحة ، إذ الجمع المعرّف باللام يفيد العموم ، مضافا إلى تأكيد كلمة « الأشياء » بكلمة « كلّها ».

فمعني الرواية أنّ جميع الأشياء ، أي الموضوعات الخارجيّة على ذلك ، أي الحلّية إلى أن تعرف بالعلم الوجداني حرمتها أو بالبيّنة ، فجعل علیه السلام قيام البيّنة بمنزلة العلم في حصول غاية الحكم بالحلّية في جميع الأشياء ، سواء أكان في باب القضاء أو غيرها.

وأورد على الاستدلال بهذه الرواية على عموم حجّية البيّنة في جميع الموضوعات بايرادات :

الأوّل : عدم اعتبارها ، لأنّ راويها مسعدة عامّي ولم يوثّقوه.

وفيه : أنّ عمل الأصحاب بها يوجب الوثوق بصدورها ، وموضوع الحجّية هو خبر الموثوق الصدور ، لا خبر الثقة.

الثاني : أنّ المراد بقوله علیه السلام « حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » العلم والعلمي ، فيحتاج إثبات أنّ البيّنة - أعني شهادة عدلين - دليل علمي في جميع الموضوعات ، سواء أكان في باب القضاء أو غير القضاء إلى دليل آخر غير هذه الرواية.

وفيه : أنّه وإن تقدّم أنّ لفظة « البيّنة » معناها لغة هي الحجّة الواضحة ولعلّه عرفا أيضا كذلك ، فلو كان المراد في هذه الرواية هذا المعنى فهو كما توهّم ويحتاج إثبات أنّ البيّنة بمعنى شهادة عدلين من الحجّة الواضحة إلى دليل آخر غير هذه الرواية.

ولكن قلنا إنّ هذه الكلمة بواسطة كثرة الاستعمال في شهادة اثنين على موضوع عند العرف صارت منقولا عرفيا ، وإن أنكرت كونها منقولا عرفيا فلا يمكن إنكار أنّها منقول شرعي ، لما قلنا من أنّها في لسان الشارع ظاهرة في شهادة عدلين. مضافا إلى

ص: 12

أنّها لو كان المراد منها مطلق الحجّة الواضحة يلزم أن يكون قسم الشي ء قسيما له ، لوضوح أنّ الاستبانة - أي العلم - قسم من الحجّة الواضحة ، بل أعظم وأجلى مصاديقها.

الثالث : أنّ البيّنة في هذه الرواية جعلت غاية للحلّ ، فكأنّه قال علیه السلام : كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم حرمته أو تقوم البيّنة على حرمته ، ولا تدلّ إلاّ على حجّية البيّنة لإثبات حكم الحرمة ، لا إثبات الموضوعات كخمريّة مائع ، أو كرية ماء ، أو اجتهاد زيد أو عدالته ، وأمثال ذلك من الموضوعات ، بل لا تدلّ على حجّيتها لإثبات سائر الأحكام الجزئية كنجاسة ذلك الشي ء ، أو ملكيّته لفلان ، أو زوجيّة فلانة لفلان وأمثال ذلك ، والمدّعي هو عموم حجّيتها في جميع الموضوعات.

وفيه : أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من هذه الرواية هو أنّ الحرمة لا تثبت باحتمال ما هو موضوع الحرمة ، بل لا بدّ من العلم بالموضوع وأنّه سرقه أو هي رضيعة ذلك الشخص ، وأمثال ذلك مثل أنّه ميتة أو خمر أو غير ذلك ، أو أن تقوم البيّنة على ذلك الموضوع ، أي يحتاج إثبات الحرمة وارتفاع الحلّية على إثبات ما هو موضوع الحرمة ، والمثبت للموضوعات إمّا العلم أو البيّنة ، فجعل علیه السلام البيّنة عدلا للعلم.

وحيث أنّ حجّية العلم ذاتيّة فلا يحتاج إلى جعل تشريعي ، بل لا يمكن ذلك ، ولكن البيّنة ليست كذلك ، فيحتاج حجّيتها وأماريّتها إلى الجعل ، فلمّا حكم الشارع بكونها لإثبات الموضوعات مثل العلم يستكشف أنّها حجّة وأمارة لإثباتها ، فيثبت بها الموضوعات ، فيترتّب عليها جميع أحكامها من الحرمة والنجاسة والطهارة والملكيّة والزوجيّة وغيرها ، فإذا شهدت البيّنة بعدالة شخص فيجوز الصلاة خلفه والطلاق عنده ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.

وبعبارة أخرى : ظاهر قوله علیه السلام « الأشياء كلّها على ذلك » أي على الإباحة حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة ، أي حتّى تقوم أمارة العلمي أو العلم على

ص: 13

ثبوت موضوع الحرمة ، فإذا ثبت بالعلم أو الذي كالعلم في الأماريّة - أي البيّنة - فيرتفع الحلّية والإباحة.

ثمَّ إنّه بعد هذا الاستظهار من الرواية - وأنّها تدلّ على أماريّة البيّنة لإثبات الموضوعات مثل العلم - فلا يبقي مجال لأن يقال غاية ما تدلّ الرواية هي حجّية البيّنة لإثبات الحرمة ، لا مطلق الأحكام الجزئية وموضوعاتها ، فالدليل يكون أخصّ من المدّعى ، لأنّ المدّعي حجّيتها لإثبات جميع موضوعات الأحكام ، وضعية كانت أم تكليفيّة ، والتكليفية حرمة كانت أو غيرها ، ومفاد الدليل هو حجّيتها في خصوص إثبات الحرمة ، لا سائر الأحكام ولا الموضوعات مطلقا.

وذلك من جهة أنّ هذه الموضوعات التي يعدّها علیه السلام في الرواية - من كون المال سرقة ، أو كون المملوك حرّا قهر عليه ، أو خدع فبيع ، أو كون المرأة التي تحته أخته أو رضيعته - جعلها فيما إذا كانت مشكوكة موارد لقاعدة الحلّ إلاّ فيما إذا استبان أحد هذه الأمور ، أو قامت عليه البيّنة ، فكما أنّه لو علم بوجود أحد هذه الأمور يترتّب عليه جميع أحكامه لا خصوص الحرمة ، فكذلك في صورة قيام البيّنة.

والمشار إليه لكلمة « على ذلك » في قوله علیه السلام : « الأشياء كلّها على ذلك » وإن كان هي الحلّية ، لكن موضوع الحلّية في هذه الجملة وهو « الأشياء » عبارة عنها مع الشكّ في حكمها من ناحية الشكّ في موضوع الحرمة بعد الفراغ عن معلوميّة حكم الموضوعات من ناحية الشبهة الحكميّة.

فيكون المراد من الاستثناء بقوله علیه السلام « حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » استبانة الموضوع وأنّه ممّا هو محرّم كالسرقة ، وكون المملوك حرا ، وكون المرأة أخته أو رضيعته وغير ذلك من الموضوعات المحرّمة.

وكذلك الأمر في قيام البيّنة ، أي الموضوعات المشكوكة أنّها من الموضوعات المحلّلة أو من الموضوعات المحرّمة ، فهي حلال إلاّ أن يثبت كونها من الموضوعات

ص: 14

المحرّمة ، وطريق إثباتها أمّا العلم أو البيّنة ، فتدلّ الرواية على أنّ البيّنة مثل العلم طريق مثبت للموضوعات ، فيترتّب عليها أحكامها مطلقا ، حرمة كانت أو غيرها ، وهو المطلوب.

وبناء على ما ذكرنا فلا يبقى مجال لأن يقال : غاية ما تدلّ عليه هذه الرواية هو حجّية البيّنة فيما إذا قامت على الحرمة ، فلا يقتضي حجّيتها على الموضوع فضلا عن عمومها لجميع الموضوعات ، لما عرفت من دلالة هذه الرواية على أنّ البيّنة مثبتة للموضوعات مثل العلم ، فكما أنّ العلم مثبت لجميع الموضوعات فكذلك البيّنة ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ طريقيّة العلم ذاتيّة وجدانيّة ، وطريقيّة البيّنة جعليّة تعبّديّة وإمضاء لبناء العقلاء على حجّيتها.

فلا يحتاج إلى أن يتكلّف بأنّ قيام البيّنة على الحرمة أعمّ من أن تكون الحرمة مدلولا التزاميّا أو مطابقيّا لما قامت عليه ، فإذا قامت على موضوع محرّم - كالسرقة ، أو كون المرأة أختا له أو رضيعته ، أو كونه حرّا فبيع ، وما شابهها - فقد قامت على الحرمة التزاما ، ثمَّ بعدم القول بالفصل بين مثل هذه الموضوعات وغيرها ممّا ليس حكمها الحرمة يتمّ المطلوب ، أي عموم حجّيتها على جميع الموضوعات ، والإنصاف أنّ هذا يشبه الأكل من القفا.

الثاني : من أدلّة حجّيتها هو الإجماع. وادّعته جماعة ، وفي الجواهر نفي وجدانه للخلاف في إثبات النجاسة بها ، ولم ينقل الخلاف إلاّ من القاضي بن البرّاج ، وظاهر عبارة الكاتب والشيخ قدس سره .

قال في الجواهر : بل لا أجد فيه خلافا إلاّ ما يحكى عن القاضي وعن ظاهر عبارة الكاتب والشيخ ، ولا ريب في ضعفه (1).

ولا ريب في أنّ المتتبّع في كلام الأصحاب يجد تسالمهم على إثبات كلّ موضوع

ص: 15


1- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 172.

ذي حكم شرعي بها ، فإنّهم يعترفون بثبوت النجاسة والطهارة والقبلة والوقت للصلاة ، وأسباب التحريم في باب النكاح من النسب والرضاع ، وثبوت الوكالات للأشخاص وعزلهم والوصايا إلى غير ذلك من الموضوعات أو الأحكام الجزئية بها ، من غير نكير لأحدهم في إثبات هذه الأمور بها إلاّ الشاذّ الذي لا يعبأ بخلافه ، بل المخالف الشاذّ أيضا لا يخالف إلاّ في بعض الموارد الجزئيّة بجهة أخرى غير إنكار حجّية البيّنة ، بل يدّعي مثلا أنّ ارتفاع الطهارة لا يكون إلاّ بالعلم بالنجاسة ، لأنّ طهارة المشكوك مغيّاة بالعلم بالخلاف والبيّنة ليست بعلم.

وإن كان هذا الكلام باطلا ، لأنّ أدلّة حجّية البيّنة ، بل الاستصحاب ، بل كلّ حجّة شرعيّة على النجاسة كإخبار ذي اليد ، أو خبر العدل الواحد - لو قلنا بحجيّته - تكون حاكمة على قاعدة الطهارة.

والحاصل : أنّ الفقهاء لا يزال يستدلّون على ثبوت الموضوعات التي لها أحكام بقيام البيّنة عليها ، ولا ينكر على المستدلّ بها أحد منهم إلاّ المناقشات في تحقق البيّنة وفي جهات أخر غير جهة حجّيتها.

نعم هاهنا مطلب آخر ، وهو أنّه تقدّم منّا مرارا في هذا الكتاب أنّ هذه الإجماعات ليست ممّا هو مصطلح الأصولي التي ثبتت هناك حجّيتها ، لاحتمال اعتماد المتّفقين بل الاطمئنان بأنّهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك المذكورة أو على كلّها.

نعم هذا الاتّفاق والتسالم منهم يؤيّد ما استظهرنا من رواية مسعدة بن صدقة (1) من مفروغيّة حجّية البيّنة ، وأنّها مثل العلم في إثبات موضوعات الأحكام بها.

الثالث : من أدلّة حجّيتها في جميع الموضوعات الروايات :

منها : ما هو المروي في الكافي والتهذيب عن عبد اللّه بن سليمان ، عن الصادق علیه السلام

ص: 16


1- تقدّم في ص 11 ، رقم (2).

في الجبن : « كلّ شي ء حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة » (1).

وظاهر هذا الخبر أنّ ارتفاع الحلّية عن مشكوك الحلّية والحرمة لا يكون إلاّ بقيام شاهدين على تحقّق موضوع الحرمة وثبوته ، وهو في المورد عبارة عن كون الميتة فيه ، أي في الجبن.

فتكون الرواية ظاهرة في أنّ قيام الشاهدين على وجود موضوع الحرمة - أي كون الميتة فيه - أمارة على وجوده ، ومعلوم أنّه علیه السلام بصدد بيان أنّ شهادة شاهدين بمنزلة العلم في إثبات ما قامت عليه ، ولا خصوصيّة للميتة وإنّما ذكرها في الرواية لبيان المورد ، وإلاّ فلا خصوصيّة فيها.

وأمّا الإشكال عليها بضعف السند ، ففيه أنّ اتفاق الأصحاب على حجّية البيّنة في جميع الموضوعات - إلاّ الشاذّ منهم - يكون جابرا لضعف سندها ، وموجبا للوثوق بصدورها الذي هو موضوع الحجّية ، وقد حرّرنا المسألة من هذه الناحية في كتابنا « منتهي الأصول » (2) ومن أراد فليراجعها.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في ثبوت الهلال بشهادة عدلين - أي البيّنة - كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّ عليّا علیه السلام كان يقول « لا أجيز في رؤية الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين » (3) وصحيح منصور بن حازم عنه أيضا أنّه علیه السلام قال : « صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه ». (4) وروايات أخر

ص: 17


1- « الكافي » ج 6 ، ص 339 ، باب الجبن ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 91 ، أبواب الأطعمة المباحة ، باب 61 ، ح 2.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 91 و 613.
3- « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 180 ، ح 499 ، باب فضل صيام يوم الشك ، ح 71 ، « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 208 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، باب 11 ، ح 8.
4- « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 157 ، ح 436 ، باب علامة أوّل شهر رمضان وآخره ، ح 7 ، « الاستبصار » ج 2 ، ص 63 ، ح 205 ، باب علامة أوّل يوم من شهر رمضان ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 208 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، باب 11 ، ح 4.

كهاتين الصحيحتين وبهذا المضمون تقريبا.

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّه علیه السلام بصدد أنّه لا يثبت الهلال إلاّ بالرؤية والعلم ، أو بما هو بمنزلة العلم في إثبات ما قام عليه ، فكأنّه علیه السلام جعل أماريّة البيّنة وكونها بمنزلة العلم أمرا مفروغا عنه ومن المسلّمات ، ولذلك قال علیه السلام : « إذا شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه » لأنّ شهادتهما بالرؤية بمنزلة علمك بها ، مثبت لها.

وأيضا ظاهر هذه الروايات أنّ الحكم بشهادة عدلين لكونها مثبتة وأمارة ولا دخل في كون متعلّقها رؤية الهلال في أماريّتها ، ولكن مع ذلك كلّه ظهور هذه الروايات في عموم حجّية البيّنة - بالنسبة إلى جميع الموضوعات وعدم اختصاصها بإثبات الهلال - لا يخلو من تأمّل وإشكال.

فالأحسن أن تجعل هذه الروايات من المؤيّدات لعموم حجّيتها ، وكونها مؤيّدة له لقوّة احتمال عدم كون المتعلّق - وهو رؤية الهلال - دخيلا في اعتبارها.

ومنها : الأخبار الواردة في باب الدعاوي وأنّها وظيفة المدّعي وتثبت بها دعواه ، كقوله علیه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (1).

وتقريب الاستدلال بها أنّ حجّيتها في مقابل المدّعي مع كونه صاحب اليد وله أمارة الملكيّة أو غيرها ممّا هو محلّ النزاع ، تدلّ على حجّيتها بطريق أولى فيما إذا لم يكن مدّع وصاحب يد في البين ، لأنّه علیه السلام إذا قال إنّها حجّة على ما قامت عليه مع معارضتها بحجّة أخرى من قبل الخصم ، فالظاهر والمتفاهم العرفي من هذه العبارة حجّيتها فيما إذا لم يكن لها معارض بالأولويّة القطعيّة.

ص: 18


1- تقدّم في ص 10 ، رقم (4).

والسرّ في ذلك أنّه علیه السلام جعل البيّنة طريقا ومثبتا لما قامت عليه وكاشفا له بحيث لا يبقي مع وجودها للمدّعي اعتبار ليد المنكر في قبالها.

ومنها : قوله علیه السلام : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (1). وحكي أيضا : « إذا شهد عندكم المؤمنون فاقبلوا » (2).

وتقريب الاستدلال بهما ، هو أنّ المراد بالشهادة قيام البيّنة على شي ء أو أمر فيجب تصديقها أو قبول قولهما.

وفيه : أنّ ظاهرهما على فرض أن يكون المراد من التصديق والقبول ترتيب الأثر على قولهم ولزوم العمل على طبق مقالتهم ، حجّية خبر كلّ مؤمن ومسلم ، سواء أكان عادلا أم لا ، وسواء أكان واحدا أم كان المخبر متعدّدا. وبعبارة أخرى : مفادهما حجّية خبر كلّ فرد من أفراد المسلمين أو المؤمنين الذي معلوم عدمها.

نعم ربما يقال بحجّية خبر كلّ ثقة في الموضوعات أيضا مثل الأحكام ، ولكنّه بهذا العموم لم يقل به أحد.

والحقّ ، أنّ هاتين الروايتين على فرض صحّة سندهما ، مفادهما مفاد قوله تعالى :

( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (3) فيكون المراد منهما ما قيل في تفسير الآية من القبول الصوري وعدم تكذيبهم والإنكار عليهم ، أو بعض مراتب التصديق النفسي فيما ينفعهم أو غيرهم ولا يكون مضرّا لغيرهم ، لا ترتيب الآثار الواقعيّة على ما أخبروا به وإن كان يضرّ غيرهم.

الرابع : الآيات :

ص: 19


1- « الكافي » ج 5 ، ص 299 ، باب في حفظ المال وكراهة الإضاعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 230 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 6 ، ح 1. وفيهما : « المؤمنون » بدل « المسلمون ».
2- لم نجده في وسائل الشيعة وبحار الأنوار ومستدرك الوسائل.
3- التوبة (9) : 61.

منها : قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (1).

وقوله تعالى ( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2).

وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (3).

وقوله تعالى ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (4).

فالآية الأولى وإن كانت في مورد القرض والاستشهاد عليه ، والثانية في مورد الوصية ، والثالثة في مورد جزاء الصيد في حال الإحرام وحكم رجلين عدلين وشهادتهما بالمثليّة للصيد ، ولكن يستظهر منها أنّ اللّه تبارك وتعالى جعل البيّنة - أي شهادة رجلين عدلين - طريقا وكاشفا مثل العلم ، ويثبت بها كلّ موضوع قامت عليه ، سواء أكان أحد هذه الثلاثة - أي القرض والوصيّة وكون الجزاء مثل الصيد - أو غيرها من سائر الموضوعات.

وكذلك الآيات التي تدلّ على وجوب تحمّل الشهادة ووجوب أدائها وحرمة كتمانها ، كقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ) (5) وقوله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (6) وقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (7) ظاهرة بالدلالة الالتزاميّة في وجوب قبولها ، وإلاّ يكون وجوب تحملها ووجوب أدائها وحرمة كتمانها لغوا وبلا فائدة.

ص: 20


1- البقرة (2) : 282.
2- المائدة (5) : 106.
3- الطلاق (65) : 2.
4- المائدة (5) : 95.
5- الطلاق (65) : 2.
6- البقرة (2) : 283.
7- البقرة (2) : 283.

نعم ظاهر هذه الآيات وجوب قبول إخبار العادل بموضوع من الموضوعات وإن كان واحدا ، ولكن يمكن أن يقال بتقييد إطلاقها بكونها متعدّدة ، إمّا بالإجماع أو بالأخبار كرواية مسعدة بن صدقة (1) وغيرها.

وخلاصة الكلام : أنّ الفقيه المتتبّع في موارد قبول شهادة الرجلين العادلين ، إذا أمعن النظر فيها ولاحظ وتدبّر يقطع بأنّه لا خصوصية لتلك الموارد ، بل تكون حجّيتها عامّة في جميع الموضوعات إلاّ ما خرج عن تحت ذلك العموم بأدلّة خاصّة.

فما روي الصدوق قدس سره في كتاب عرض المجالس عن الصادق علیه السلام ، وفيه : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة » (2) ظاهر في أنّ شهادة العدلين في ارتكاب الذنب مثل رؤيته طريق مثبت لارتكاب الذنب ، ومعلوم أنّه لا خصوصية لارتكاب الذنب من بين سائر الموضوعات.

والانصاف أنّ إنكار حجّية البيّنة العادلة - التي نسب إلى القاضي عبد العزيز بن برّاج (3) في إثبات النجاسة ، وكذا ما هو الظاهر من السيّد في الذريعة (4) ، والمحقق الأوّل في المعارج (5) ، والثاني في الجعفريّة (6) ، وبعض آخر - قدس اللّه أسرارهم - من أنّ الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه - لا وجه له بعد ما عرفت توافر الأدلّة على عموم حجّيتها.

الخامس : من أدلّة حجّيتها هي سيرة العقلاء من كافة الملل وإن لم يكونوا من

ص: 21


1- تقدّم في ص 11 ، رقم (2).
2- « الأمالي » للصدوق ، ص 91 ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 292 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 41 ، ح 13.
3- « جواهر الفقه » ص 9 ، مسألة 9.
4- « الذريعة » ج 2 ، ص 81.
5- « معارج الأصول » ص 201.
6- « الجعفريّة » ضمن رسائل المحقق الكركي ، ج 1 ، ص 80.

أهل الدين ، فجميع الملل والعقلاء يرون شهادة شخصين - غير متّهمين ولا معروفين بالكذب ولا مغرضين بالنسبة إلى المشهود عليه - طريقا مثبتا ؛ لما قامت عليه في أحكامهم العرفيّة بالنسبة إلى جميع الموضوعات.

والحاصل : أنّ كون شهادة شخصين بالقيود التي عندهم من الأمارات العرفيّة وطريقا مثبتا لأيّ موضوع تعلّقت به من المسلّمات عندهم ، وعليها - أي حجّية البيّنة في إثبات جميع الموضوعات التي لها آثار عندهم - استقرّت سيرتهم في معاملاتهم ومعاشراتهم وسياساتهم ولم يرد ردع من قبل الشارع ، بل وردت إمضاءات من قبل الشارع على العمل على طبقها ، وهي موارد الأخبار الكثيرة المتقدّمة ، بل يمكن ادّعاء جريان سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة على حجّيتها.

نعم خصّصت هذه القاعدة في موارد ، مثل شهادتهما على الزناء واللواط وأمثالهما ممّا لا يكتفي بشهادة الاثنين ، بل ثبوتهما يحتاج إلى شهادة أربع من العدول ، وكالشهادة على الميّت بكونه مديونا بكذا ، فإنّها - أي البيّنة - لا تقبل إلاّ مع ضمّ يمين المدّعي إليها ، وكشهادتهما على النفي بناء على عدم قبول بيّنة النفي ، وكبيّنة المنكر المسمّى ببيّنة الداخل بناء على اختصاص هذه الوظيفة بالمدّعي ، وغير ذلك.

فهذه قاعدة شرعيّة قابلة للتخصيص كسائر العمومات الصادرة من الشارع ، فيجب الأخذ بها والعمل على طبقها إلاّ أن يرد دليل وحجّة من قبله على التخصيص. وإذا حصل الشكّ في مخصّصية شي ء يؤخذ بأصالة العموم ، كما هو الحال في سائر الموارد.

ثمَّ إنّ هاهنا أمور ينبغي أن يذكر

[ الأمر ] الأوّل : في أنّه بعد ما عرفت من عموم حجّية البيّنة في كلّ موضوع ، فاعلم : أنّه لا بدّ وأن يكون له أثر شرعي ، لأنّه إذا لم يكن له أثر شرعي لا معنى للتعبّد

ص: 22

بقبولها.

ففي كلّ مورد لا يكون عدم شي ء ، أو وجوده ، أو بقاؤه محرزا بالوجدان ، والشارع أمر بترتيب الأثر على عدمه كما في مورد أصالة البراءة ، أو على وجوده كما في موارد الأمارات والأصول المثبتة للتكاليف والأحكام أو لما هو موضوع للحكم الشرعيّ ، أو على بقائه وعدم ارتفاعه كما في موارد الاستصحاب لا بدّ وأن يكون لذلك الوجود أو ذلك العدم أو لبقاء ذلك الشي ء بعد القطع بحدوثه - سواء أكانت تلك الحالة السابقة هو الوجود أو العدم - أثر شرعي ، كي يكون أمر الشارع بالتعبّد بلحاظ ترتيب ذلك الأثر ، فلا بد في مورد قيام البيّنة أيضا أن يكون لما قامت عليه أثر شرعي.

فإن كان موضوع الأثر أمرا محسوسا وقامت البيّنة عليه فلا كلام ، وأمّا إن لم يكن من الأمور المحسوسة - كالعدالة والاجتهاد وسائر الحالات والملكات النفسانيّة التي لثبوتها أثر شرعي - فهل تقبل البيّنة فيها أم لا؟

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ أدلّة حجيّة البيّنة - سواء كانت هي سيرة العقلاء أو الإجماع أو الاخبار أو الآيات - ظاهرة فيما إذا كان أخبارهما عن حسّ ، إذ هو المتفاهم العرفي عن لفظة « الشهادة » و « البيّنة ».

ولكن المشهود به قد يكون من الأمور المحسوسة بنفسه ، كما إذا شهدا بإطلاق ماء أو إضافته أو خمريّة مائع وغير ذلك من الأمور المحسوسة بأحد الحواسّ الخمسة التي لها آثار شرعيّة. وهذا هو الذي لا كلام في حجيّة البيّنة فيها ، بناء على عموم حجيتها في جميع الموضوعات.

وقد لا يكون من الأمور المحسوسة بأحد الحواسّ الخمسة بنفسه ، ولكن له آثار محسوسة بحيث تكون بينها وبين ذلك المشهود به ملازمة عرفيّة ، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات أيضا تقبل ، وتكون إحساسها بإحساسها آثارها غير المنفكّة عنها عند العرف.

ص: 23

وكذلك إذا كان لها أسباب محسوسة ، مثل الطهارة والنجاسة والزوجيّة والملكيّة ، وغير ذلك من الاعتبارات الشرعيّة أو العرفيّة التي لها أسباب محسوسة ، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات أيضا تقبل ، لإمكان عدّها في المحسوسات باعتبار كون أسبابها محسوسة.

ويمكن أن يقال : إنّ الشهادة على هذا المسبّب غير المحسوس شهادة على السبب المحسوس بالالتزام ، فإذا ثبت السبب بها لكونه محسوسا يثبت المسبّب ، للملازمة بينهما. وحيث أنّ البيّنة من الأمارات ولا مانع من إثبات لوازم ما قامت عليه ، وكذلك ملزوماته بها.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ نفس المشهود به إذا كان من المحسوسات فيثبت بالبيّنة ، وكذلك فيما إذا كان له سبب محسوس أو كان له أثر محسوس ، وأمّا فيما عدا ذلك فلا دليل على وجوب قبولها ، لأنّ دليل حجيتها إمّا الأخبار والآيات ، فهي لا تدلّ إلاّ على حجيّة البيّنة إذا كانت شهادتهما وأخبارهما عن مشاهدة وعيان.

وبهذا الاعتبار يطلق على أخبارهما بشي ء لفظة « الشهادة » وذلك لأنّ المتفاهم العرفي من كلمة « الشهادة » هو الإخبار عمّا عايناه وعلماه بإحدى الحواس الخمس لا مطلق الإخبار عن علم ، ولذلك لا يقال للإخبار عن رأيه واعتقاده فيما إذا أخبر المجتهد عن رأيه : أنّه شهد بذلك.

وكذلك إخبار أهل الخبرة عن رأيه في موضوع يتعلّق بفنّه ليس من باب الشهادة ، ولذلك لو قلنا بحجيّة قول أهل الخبرة - كما هو كذلك ، لقيام سيرة العقلاء عليها - لا يعتبر فيه التعدّد ولا العدالة.

وإمّا الإجماع والسيرة - أي بناء العقلاء ، أو سيرة المتشرّعة - فلأنّ القدر المتيقّن منهما هو فيما إذا كان أخبارهما بأحد الطرق الثلاث ، أي يكون نفس المشهود به من المحسوسات ، أو له آثار محسوسة ، أو يكون له سبب محسوس.

ص: 24

الأمر الثاني : في أنّ البيّنة هل هي عبارة عن شهادة رجلين ، وشهادة المرأة خارجة عن البيّنة موضوعا ، أم هي أيضا بيّنة ولكن اعتبر شرعا فيها بدل كلّ واحد من الرجلين امرأتان ، فتكون البيّنة فيما إذا كن شاهدات عبارة عن شهادة أربع امرأة؟

ثمَّ على تقدير كون البيّنة صادقة على شهادتهنّ عرفا - غاية الأمر مقيّدة بكون عددهنّ أربع إجماعا - فهل يكون مقتضي عموم حجيّة البيّنة حجيّة شهادتهنّ في جميع الموضوعات إلاّ ما خرج بالدليل - كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما ممّا لا تجوز شهادتهنّ فيها ، لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال ، لنصوص وردت في عدم جواز شهادتهنّ فيها - أم لا ، بل قبول شهادتهنّ في أي موضوع يحتاج إلى ورود دليل على القبول في ذلك الموضوع ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم القبول ، لا منفردات ولا منضمات ، ولا في باب الدعاوي ومقام المخاصمة ، ولا في غيرها؟

ربما يستشهد لعموم حجيّة شهادتهنّ إلاّ ما خرج بالدليل برواية عبد الكريم بن أبي يعفور ، عن الباقر علیه السلام ، قال علیه السلام : « تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات ، معروفات بالستر والعفاف ، مطيعات للأزواج ، تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم ». (1)

وفيه : أنّ ظاهر هذه الرواية أنّه علیه السلام في مقام بيان شروط قبول شهادة المرأة وأن أي امرأة تقبل شهادتها ، لا في مقام بيان أنّه في أيّ موضوع تقبل ، كي يؤخذ بإطلاقها.

والتحقيق في المقام : أمّا في الأوّل - أي في شمول مفهوم البيّنة حسب المتفاهم العرفي لشهادة النساء ، وعدم خروجها عن مفهوم البيّنة موضوعا - فالظاهر أنّها ليست بخارجة عنها موضوعا ، بل البيّنة عبارة عن شهادة اثنين ، سواء أكانا رجلين

ص: 25


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 597 ، باب البيّنات ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 13 ، ح 34 ، باب العدالة المعتبرة في الشهادة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 294 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 41 ، ح 20.

أو امرأتين. اللّهمّ إلاّ أن يدّعي انصرافها إلى الرجلين.

وعلى كلّ تقدير لا شكّ في ورود الدليل على قبول شهادتهنّ منفردات في بعض الموارد ، ومنضمات إلى الرجال في موارد أخر.

والفرق بين الصورتين أنّه بناء على عدم شمول مفهوم البيّنة لشهادتهنّ وضعا أو انصرافا ، ففيما إذا لم يوجد دليل خاصّ على القبول في مورد فمقتضى الأصل عدم القبول. وأما بناء على الشمول ، فلو كان عموم أو إطلاق بالنسبة إلى حجيّة البينة في كل موضوع - كما ادعينا وجوده - فمقتضى ذلك العموم أو ذلك الإطلاق هو قبول شهادتهن ، إلا أن يأتي دليل في ذلك الموارد على عدم القبول.

وقد تعرض الفقهاء في كتاب الشهادات لموارد القبول وعدمه منفردات ومنضمات الى الرجال ، والروايات الواردة في باب شهادة النساء مختلفة جدا ، فمفاد بعضها جواز شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا اليه ويشهدوا عليه. (1) وظاهر هذا القسم من الروايات انحصار القبول فيما ذكر ، وعدم قبولها فيما يستطيع الرجال ان ينظروا إليه. ومفاد بعضها جواز شهادتهن في النكاح منضمات إلى الرجال ، وعدم قبولها في الطلاق. (2) ومفاد بعضها عدم قبولها في الطلاق والهلال ، معللا بضعف رؤيتهن ومحاباتهن (3) ، إلى غير ذلك من الاختلافات بينها.

وتفصيل هذه المسألة في كتاب الشهادات ، وليس هاهنا مقام بحثها ، والغرض هاهنا بيان حكم مورد الشك ، وعدم وجود دليل لا على القبول ولا على عدم القبول.

وقد ذكرنا الفرق بين عدم شمول إطلاقات أدلة حجية البينة لشهادتهن ، وشمولها لها ففي الصورة الأولى مقتضى الأصل عدم القبول ، وفي الثانية قبولها وجوازها في

ص: 26


1- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 258 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 24 ، ح 4 ، 5 ، 7 و 9.
2- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 258 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 24 ، ح 4 ، 5 ، 7 و 11.
3- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 258 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 24 ، ح 8 ، 10 و 11.

مورد الشك ، لعدم دليل لا على القبول ولا على عدمه.

الأمر الثالث : في أنه بعد ما عرفت حجية البينة في جميع الموضوعات التي لها أثر شرعي ، فيجب على كل من علم بقيام البينة - واجدة لشروط اعتبارها - على موضوع ترتيب أثر ذلك الموضوع عليه ، إن كان الأثر المترتب على ذلك الموضوع مما يكون مربوطا إليه ، سواء أكان غيره أيضا شريكا معه في هذا الأثر ، أم لا.

مثلا إذا شهد شاهدان عدلان عنده : أنك تركت في هذه الصلاة التي صليتها الآن أحد أركانها ، فيثبت بالبينة المعتبرة هذا الموضوع ، أي فقدان صلاته للركن الفلاني.

ولكن ثبوت هذا الموضوع لا أثر له إلا لنفس المصلي إذا كان ما قرأه صلاة نفسه ، فيجب عليه الإعادة أو القضاء إذا قامت عنده البينة ، أو علم بوجودها ، ولا أثر لقيام هذه البينة في حق غيره ، وأما إذا كان غيره شريكا معه في هذا الأثر ، كما إذا قامت البينة المعتبرة على نجاسة هذا المائع مثلا ، فمن اطلع على هذه البينة يجب عليه الاجتناب عن هذا المائع.

وقد يكون أثر ذلك الموضوع مخصوصا بالغير ، كقيام البينة عند زيد على أن عمروا مثلا فات عنه الصلاة الفلانية ، فهذه البينة بالنسبة إلى زيد لا أثر له ، فإن علم عمرو بوجود مثل هذه البينة يجب عليه ترتيب الأثر ، وإلا فلا يجب شي ء ، لا على عمرو ولا على زيد.

ثمَّ إنه لا يخفى أن ما ذكرناه مبني على أن يكون العلم بقيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع مثبتا لذلك الموضوع عند العالم بقيام البينة عند ذلك الشخص ، فيجب ترتيب أثر ذلك الموضوع عليه وإن لم يقم عنده البينة ، مثلا لو علم بأن شاهدين عدلين شهدا عند زيد بأنهما رأيا هلال شوال ، فبناء على عموم حجية البينة ، أو حجيتها في خصوص الهلال مثلا يجب على هذا العالم بقيام البينة عند زيد ترتيب أثر شوال أي الإفطار وحرمة الصوم.

ص: 27

أما لو قلنا بأن قيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع لا يثبت ذلك الموضوع إلا لمن قامت عنده البينة ، وأما بالنسبة إلى غيره فلا يثبت ذلك الموضوع ولو علم بقيام البينة على وجوده عند شخص آخر.

فليس الأمر كما ذكرنا وقلنا من الأقسام الثلاثة ، بأن الأثر إما مخصوص بنفس من قامت عنده البينة ، فيجب عليه ترتيب ذلك الأثر فقط ، ولا ربط لقيامها بالآخرين. وإما غيره شريك معه ، فيجب ترتيب الأثر منه ومن غيره. وإما مخصوص بغيره ، فيجب ترتيب الأثر من ذلك الغير فقط دون نفسه.

والظاهر من أدلة عموم حجية البينة - سواء أكانت الأخبار والآيات ، أو كانت هي سيرة المتشرعة وبناء العقلاء - أن قيامها عند أي شخص على موضوع ذي أثر شرعا مثبت لذلك الموضوع للجميع ، فكل من كان ثبوت ذلك الموضوع له أثر يجب عليه ترتيب ذلك الأثر ، سواء أكان من له أثر هو من قامت البينة عنده ، أو غيره ، أو كانا شريكين.

ثمَّ أنه بناء على القول الآخر - أي اختصاص ثبوت مؤدى البينة بمن قامت عنده - فلا يجب التعرض للآخر ، سواء أكان الآخر شريكا معه في أثر ذلك الموضوع الذي قامت عليه البينة ، أو كان الأثر مخصوصا بذلك الغير ، لأن المفروض بناء على هذا القول عدم ثبوت المؤدى له وهو باق على جهله.

ولا يتوهم : أن له التعرض من باب الأمر بالمعروف إذا كان أثر المؤدى هو الوجوب عليه - ككون المؤدى مثلا رؤية هلال شهر رمضان ومن باب النهي عن المنكر إذا كان المؤدى هي الحرمة ، وذلك ككون المؤدى رؤية هلال شوال باعتبار حرمة الصوم في ذلك اليوم في الفرض الثاني ، ووجوبه في الفرض الأول - لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موردهما فيما إذا تنجز التكليف وجوبا في الأول ، وحرمة في الثاني على المكلف وقام عليه البيان ، والمفروض في المقام أن ذلك الغير جاهل و

ص: 28

لم يصل التكليف إليه ولم ينجز عليه ، لعدم ثبوت مؤدى البينة لغير من قامت عنده البينة على هذا القول.

نعم لو كان ما قام عليه البينة من المحرمات الكبيرة التي يكون وجودها مبغوضا عند الشارع ولو كان صادرا عن غير المكلفين - كما إذا كان المرتكب صغيرا أو مجنونا أو جاهلا أو غير ذلك مما يرفع الحرمة - فله التعرض والمنع ، ولكن لا بمناط النهي عن المنكر ، بل بمناط حكم العقل بلزوم المنع عن إيجاد ما هو مبغوض وجوده عند الشارع ، وإن كان المرتكب غير مكلف بتركه ولا يعاقب على فعله ، لرفع القلم عنه لصغره أو لجنونه أو لكونه مكرها على فعله ، أو لم يتنجز عليه لجهله وعدم وصول التكليف إليه.

تتميم

وهو أنه هل الخبر الواحد الذي مخبره عادل حجة في الموضوعات كما أنه حجة في باب الروايات التي مفادها نقل الأحكام عن الإمام علیه السلام أم لا؟

ذهب جماعة إلى الأول ، واستدلوا على حجيته في الموضوعات أيضا بسيرة العقلاء وبنائهم أولا ، وبالأخبار ثانيا.

فنقول : أما وجود السيرة وبناء العقلاء على قبول خبر الثقة وإن كان غير بعيد ، إلا أنه أولا خبر الثقة غير خبر العادل ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، إذ يمكن أن يكون خبر عدل ولا يكون ثقة ، لكثرة الاشتباه ، أو عدم الضبط ، أو غير ذلك.

وأما كونه ثقة وغير عادل فإمكانه من الواضحات ، بل يمكن أن يكون كافرا وثقة في إخباره ، لتحرزه عن الكذب.

وإن ادعى المدعي تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد ، فعهدة هذه الدعوى عليه ، إذ العقلاء لا يهتمون بعدالة المخبر ، خصوصا إذا كانوا من غير أهل الدين ، بل ردهم وقبولهم دائر مدار الوثوق بالمخبر وإن كان كافرا ، فضلا

ص: 29

عن أن يكون فاسقا ، هذا أولا.

وثانيا : على فرض تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد ، تكون رواية مسعدة بن صدقة « الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (1) رادعة عن هذه السيرة ، كما أنها رادعة عن السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر الثقة أيضا ، من جهة أن ظاهر الرواية حصر غاية الحلية فيها في الاستبانة وقيام البينة ، فلو كان خبر العدل الواحد أو خبر الثقة إذا كان المخبر واحدا حجة ، فلم يكن وجه للحصر في ذينك الأمرين.

إن قلت : إن خبر العدل الواحد إذا كان حجة ، وكذلك خبر الثقة يكون داخلا في الاستبانة تعبدا ، لحكومة أدلة حجية الخبر العدل الواحد ، وكذلك أدلة حجية خبر الثقة على الدليل الذي أخذ الاستبانة غاية للحلية ، كرواية مسعدة ، كما أن استصحاب الحرمة أيضا حاكم ، وذلك لما ذكرنا في الأصول أن الأمارات والأصول التنزيلية لها حكومة على العلم الذي أخذ في الموضوع على وجه الطريقية. (2)

قلنا : إن هذا الكلام صحيح ، ولكن لازمه أن يكون خبر العدل الواحد ، أو الخبر الثقة الذي يكون مخبره واحدا عدلا للبينة ، فكأنه علیه السلام قال : الأشياء كلها على الحلية ، إلا أن تعلم بموضوع الحرمة ، أو يخبر عدل واحد أو عدلان بما هو موضوع الحرمة.

وجعل العدل الواحد عدلا للعدلين في غاية الركاكة ، خصوصا إذا كانت شهادة العدلين تدريجيا لا دفعة واحدة ، لأنه مع شهادة العدل الأول يثبت الموضوع ، فشهادة الثاني يكون لغوا وبلا أثر ، بل يكون اعتبارها لثبوت المؤدى من قبيل تحصيل الحاصل ، فاعتبار التعدد مع ثبوت المؤدى بواحد متنافيان.

نعم اعتبار التعدد في خبر العدل غير الثقة مع ثبوت المشهود به بخبر الواحد

ص: 30


1- تقدم تخريجه في ص 11 ، رقم (2).
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 22 و 538 - 539.

الثقة لا تنافي بينهما ، ولكن اعتبار خبر الواحد الثقة مع إطلاق اعتبار التعدد في خبر العدل - أي وإن كانا ثقتين - متنافيان.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه مع اعتبار خبر العدل الواحد ، أو خبر الواحد الثقة لا يبقى لاعتبار التعدّد وحجية البينة مجال ، فمن دليل حجية البينة واعتبارها يستكشف عدم اعتبار خبر العدل الواحد ، أو خبر الواحد الثقة ، فتكون رواية مسعدة رادعة للسيرة وبناء العقلاء على فرض تحققها.

هذا ، مضافا إلى خبر عبد اللّه بن سليمان ، المروي في الكافي والتهذيب ، في الجبن : « كل شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة » فجعله علیه السلام غاية الحلية مجي ء شاهدين يشهدان أن فيه ميتة ، يدل على عدم كفاية مجي ء شاهد واحد ولو كان عدلا أو ثقة (1).

وخلاصة الكلام : أن اعتبار التعدد كما في البينة مع عدم اعتبار التعدد كما في خبر العدل الواحد - أو خبر الثقة الواحد كما هو ادعاء الطرف - مما لا يجتمعان ، إذ هما متناقضان.

اللّهم إلا أن يقال بعدم اعتبار خبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد في كون الميتة في الجبن ، وهو لا يخلو - مضافا إلى بعده - من الغرابة.

وأما الأخبار التي استدلوا بها على حجية الخبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد :

فمنها حسنة حريز - أو صحيحته - المروية في الكافي ، وفيها بعد ما وبخ الصادق علیه السلام ابنه إسماعيل في دفعه دنانير إلى رجل شارب الخمر بضاعة ليعامل بها ويعطي مقدارا من النفع لإسماعيل ، فأتلف النقود ذلك الرجل ، قال علیه السلام له : « لم فعلت ذلك ولا أجر لك؟ » فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إني سمعت الناس

ص: 31


1- تقدم تخريجه في ص 17 ، رقم (1).

يقولون ، فقال : « يا بني إن اللّه عز وجل يقول في كتابه ( يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) يقول : يصدق اللّه ويصدق المؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » (2).

ولا شك في أن قوله علیه السلام « إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » كلمة « المؤمنون » فيه حيث أنها جمع معرف باللام يفيد العموم الاستغراقي ، لأن العام المجموعي - بمعنى أنه إذا شهد عندك جميع المؤمنين معا فصدقهم - قطعا ليس بمراد ، لأن شهادة جميع المؤمنين الموجودين في الدنيا على موضوع عادة غير ممكن ومحال.

فإذا كان العام استغراقيا ، فتنحل إلى قضايا متعددة حسب عدد أفراد المؤمنين كسائر العمومات ، فيكون مفاد هذه الجملة أن أي واحد من المؤمنين إذا شهد عندك بموضوع ، سواء أكان هو شرب الخمر كما أنه هو المورد ، أو كان غيره فصدقه.

ومعلوم أن معنى التصديق في المقام هو ترتيب أثر المشهود به على شهادته ، وهذا معنى وجوب قبول خبر الثقة والعدل الواحد ، وقد روى بعضهم « إذا شهد عندك المؤمنون فاقبلوا » (3).

وفيه : أولا : أن أحدا لم يقل بحجية خبر كل مؤمن بل كل مسلم ، لما حكي بعضهم « المسلمون » في هذه الرواية بدل « المؤمنون ».

وثانيا : لم يقل أحد بحجية خبر الثقة أو العدل الواحد في باب الحدود ، بل ينفي تصديق المؤمن الواحد في باب ارتكاب الذنب ما رواه الصدوق في كتاب عرض المجالس ، وفيه : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من

ص: 32


1- التوبة (9) : 61.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 299 ، باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 230 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 6 ، ح 1.
3- تقدم ذكره في ص 19 ، رقم (2).

أهل العدالة والستر » (1).

وثالثا : من المقطوع عدم حجيتهما في مقام المخاصمة ومقابل ذي اليد.

ورابعا : يجب تقييدها - أي الحجية بكونهما متعددا - برواية مسعدة بن صدقة (2) وخبر عبد اللّه بن سليمان (3).

هذا كله ، مضافا إلى أنه ليس المراد من وجوب تصديقهم ترتيب الأثر على ما يخبرون به وإن كان فيه ضرر على الغير ، لما ورد « كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم » (4) أي فيما يضره ولا ينفعهم.

فالمراد من وجوب تصديقهم وكذا من قبول قولهم - بناء على صحة الرواية الأخرى - هو التحذر عما أخبر به فيما إذا احتمل أن يكون على تقدير صحة ما أخبر عنه ضرر عليه ، كما أنه كذلك كان في مورد صدور الرواية.

والحاصل : أنه يدور الأمر بين هذه التخصيصات الكثيرة التي ربما يكون العموم مستهجنا معها وتقييد واحد ، وهو تقييد وجوب تصديق المؤمن بكونه متعددا ، ولا شك في أن الثاني أولى بل هو المتعين ، وكذلك الحال في مفهوم آية النبإ بناء على ثبوت المفهوم لها وشموله للأخبار عن الموضوعات وعدم كونه مختصا بالأحكام ، فيدور الأمر بين تخصيصه بهذه التخصيصات أو تقييده بالتعدد بالنسبة إلى الموضوعات ، ومعلوم أن الثاني أولى ، بل هو المتعين.

ص: 33


1- تقدم تخريجه في ص 21 ، رقم (2).
2- تقدم تخريجه في ص 11 ، رقم (2).
3- تقدم تخريجه في ص 17 ، رقم (1).
4- « الكافي » ج 8 ، ص 147 ، كتاب الروضة ، ح 125 ، « عقاب الأعمال » ص 295 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 609 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 157 ، ح 4.

وأما الأخبار الواردة في الموارد الخاصة ، كقول علي علیه السلام : « المؤذن مؤتمن » (1) وكقوله علیه السلام : « الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة » (2).

وقوله علیه السلام في رواية إسحاق بن عمار قال : سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا؟ فقال لي : « إن حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : إنه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي ، فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه أن عندي شيئا ، فقال علیه السلام : أرى أن تتصدق منها بعشرة دنانير » (3).

والرواية ظاهرة في وجوب قبول قول هذا الرجل المسلم الصادق ، حيث أن التصدق على خلاف الإرث ، والروايات الواردة في وجوب الاعلام في بيع الدهن المتنجس (4) ولو لم يكن إخبار البائع واجب القبول ، كان وجوب الإخبار لغواً.

وما ورد في الاعتماد على إخبار البائع بالكيل أو الوزن (5) ، وكذلك في إخباره باستبراء الأمة (6) وغير ذلك من الموارد ، وفي الجميع مضافا إلى المناقشات في دلالتها أنها موارد جزئية لا يظهر منها الدلالة على قاعدة كلية ، وهي حجية كل خبر ثقة أو عدل واحد في أي موضوع من الموضوعات.

ص: 34


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 282 ، ح 1121 ، باب الأذان والإقامة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 618 ، أبواب الأذان والإقامة ، باب 3 ، ح 2.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 87 ، ح 3385 ، باب الوكالة ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 213 ، ح 503 ، باب الوكالات ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 286 ، أبواب كتاب الوكالة ، باب 2 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 235 ، ح 5561 ، باب نوادر الوصايا ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 237 ، ح 923 ، باب الزيادات ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 482 ، أبواب كتاب الوصايا ، باب 97 ، ح 1.
4- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 66 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 6.
5- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 255 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 5.
6- « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 501 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 5.

وأما الاستدلال بما حكى بعضهم « المؤمن وحده حجة » فلا يخفى ما فيه من حيث السند والدلالة.

وأما استدلال لقبول خبر الثقة بمضمرة سماعة : سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بينة ، فقال : « إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه » (1).

ففيه أولا : معارضتها برواية يونس ، قال : سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان ، فسألها : ألك زوج؟ فقالت : لا ، فتزوجها. ثمَّ إن رجلا أتاه فقال : هي امرأتي ، فأنكرت المرأة ذلك ما يلزم الزوج؟ قال : « هي امرأته إلا أن يقيم البينة » (2).

ونحوه مكاتبة الحسين بن سعيد (3).

وأيضا معارضتها بخبر عبد العزيز المهتدي ، سألت الرضا علیه السلام قلت له : إن أخي مات فتزوجت امرأته ، فجاء عمي فادعى أنه كان تزوجها سرا ، فسألتها عن ذلك ، فأنكرت أشد الإنكار وقالت : ما كان بيني وبينه شي ء قط فقال : « يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها » (4).

ومعلوم أن المعارض أقوى من مضمرة سماعة ، لكثرة عددها ، وعمل المشهور بها وإعراضهم عنه ، وعدم الفتوى به.

ص: 35


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 461 ، ح 1845 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 468 ، ح 1874 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 82 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ح 3.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 477 ، ح 1914 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 122 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ذيل ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 563 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ح 27 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 472 ، ح 4650 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 226 ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، باب 23 ، ح 1.

وثانيا : أنه من المحتمل القريب أن يكون النهي عنه من جهة شدة حسن الاحتياط في الفروج ، خصوصا مع قوة الاحتمال إذا كان المدعي ثقة ، ولذا جعل الشارع وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية في باب الفروج مثل وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية من باب الدماء ، لكثرة الاهتمام بهذين البابين.

وخلاصة الكلام : أنه لم نجد دليلا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه من نقل أو بناء العقلاء وسيرتهم على حجية خبر العدل الواحد ، أو خبر الثقة الواحد مع إمضاء من قبل الشارع ، بل وجدنا الأدلة على عدم حجية كليهما ، أي خبر الثقة وخبر العدل الواحد ، وقد تقدم ذكر تلك الأدلة.

الجهة الثانية

في نسبة هذه القاعدة ، أي قاعدة حجية البينة في جميع الموضوعات مع سائر الأدلة ، من الأصول والأمارات التي تستعمل في الموضوعات.

فنقول : أما بالنسبة إلى الأصول الموضوعية كقاعدة الفراغ كما إذا شك في إتيان العمل تام الأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع ، أو أتى به ناقصا بأن أتى به تاركا لجزء أو شرط أو أتى به مقرونا بمانع ، وكان هذا الشك بعد الفراغ عن العمل ، فمقتضى قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بذلك الشك والبناء على أنه أتى به صحيحا وتام الأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع.

فلو قامت بينة شرعية معتبرة على أنه ترك الجزء الفلاني أو الشرط الفلاني أو أتى بالمانع الفلاني أو القاطع الفلاني ، فمقتضى حجية البينة بطلان العمل ، إلا أن يكون هناك دليل آخر على صحة العمل الفاقد لذلك الجزء أو ذلك الشرط أو واجدا لذلك المانع ، كما أنه ورد الدليل بالنسبة إلى الصلاة إن أتى بالناقص نسيانا ، وهي صحيحة « لا تعاد » في غير الأركان ، وكما أنه وردت أدلة خاصة في باب الحج بأن النقص أو

ص: 36

الزيادة في بعض الأجزاء والشرائط نسيانا لا يضر بصحة العمل ، وإن علم وجدانا بالنقص ، فضلا عن البينة التي هي أمارة تعبدية.

وخلاصة الكلام : أنه إذا وقع التعارض بين قاعدة الفراغ التي مفادها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك والمضي عنه وعدم وجوب الإعادة ، وبين البينة على عدم تماميته وأنه تجب الإعادة ، فيجب العمل على طبق قاعدة حجية البينة والإعادة ، إلا فيما ذكرنا من وجود دليل على عدم وجوب الإعادة وإن علم وجدانا بالخلل بالزيادة أو النقيصة ، وذلك من جهة أن البينة أمارة ، وقاعدة الفراغ على ما هو الصحيح عندنا أصل تنزيلي ، ودليل الأمارة حاكم على دليل الأصل وإن كان تنزيليا ، وقد حققنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول ». (1)

وقد ظهر مما ذكرنا حال تعارض البينة مع سائر الأصول ، كقاعدة التجاوز ، وأصالة الصحة ، وقاعدة الوقت حائل ، وقاعدة الطهارة ، والاستصحاب ، وأصالة عدم التذكية ، وأصالة الحل ، كل ذلك في الشبهات الموضوعية ، والمناط في الجميع واحد ، وهو حكومة الأمارات على الأصول.

إذ موضوع الأصل وإن كان تنزيليا هو الشك ، والأمارة - على ما هو التحقيق من أن حجيتها من باب تتميم الكشف - يرفع الشك تعبدا ، وهذا هو معنى الحكومة ، فلا يبقى موضوع للأصل حتى يعارض الأمارة.

وأما حالها مع سائر الأمارات : أما مع اليد ، فلا شبهة في تقديمها على اليد ، لأن عمدة تشريع حجيتها في باب المخاصمة لإبطال التمسك باليد ، وبواسطة قيام البينة من طرف المدعي يؤخذ المال من ذي اليد ويعطى للمدعي.

ولو لم تقدم البينة على اليد يبقى القضاء بلا ميزان ، لأن ميزان القضاء هي البينة على المدعي واليمين للمنكر ، وليس اليمين ابتداء للمنكر ، بل ميزانيته في صورة فقد

ص: 37


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.

البينة ، وإلا في صورة وجود البينة للمدعي لا ميزانية له ، فإذا لم يقدم البينة على اليد فيبقي القضاء بلا ميزان ، ويقف الحكم.

وأما بالنسبة إلى سوق المسلم ، فأمارية السوق على التذكية أو الحلية أو غير ذلك موقوفة على عدم كون البينة على خلافها.

وخلاصة الكلام : أن تقديم البينة على اليد والسوق من الواضحات والمسلمات.

وأما تعارضها مع الإقرار ، مثل أن أقيمت البينة على أن هذا المال له وهو أقر بأنه لزيد مثلا وكذب البينة ، أو في باب الجنايات فلو شهدت البينة المعتبرة أن هذه الجناية صدرت من فلان ، وهو أقر واعترف بأنه الجاني وفاعل هذه الجناية ، فمقتضى القاعدة وإن كان تساقط الأمارتين بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون حجية الأمارات من باب تتميم الكشف ، ولكن الظاهر أن بناء العرف والعقلاء على تقديم الإقرار عليها ، ففي المثال المذكور بعد أن أقر أن هذا المال الذي في يده ليس له ولزيد ، فقيام البينة أنه له لا اثر له.

ولعل السر في ذلك أنهم يرون الإقرار أكشف من البينة ، كما أنه لو علم كذب البينة فلا حجية لها ، لأن التعبد بالأمارة في ظرف الجهل بالمؤدي ، وأما لو علم بوجود المؤدى وثبوته أو علم بعدمه ، فلا معنى ولا مجال للتعبد بوجوده أو عدمه.

والحاصل : أن العقلاء لا يرون كاشفية للبينة في ظرف إقرار المشهود له على خلافها ، كما أنه لا كاشفية لها مع العلم بالخلاف.

ولكن وردت روايات في أنه إذا قامت البينة على أن زيدا مثلا قاتل ، ثمَّ أقر شخص آخر بأنه أنا القاتل ، أن للولي الأخذ بأية واحدة من الأمارتين ، فله قتل أي واحد منهما إذا أراد ، وكل ذلك لصحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام (1) وقد عملوا بها

ص: 38


1- « الكافي » ج 7 ، ص 290 ، باب النادر ( من كتاب الديات ) ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 172 ، ح 678 ، باب البينات على القتل ، ح 18 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 108 ، أبواب دعوى القتل وما يثبت به ، باب 5 ، ح 1.

وأفتوا على طبقها وإن كان مفادها على خلاف مقتضى القواعد والأصول ، لكنّه يجب العمل بها في موردها على كل حال.

وأما تعارض البينة مع مثلها ، فالتكلم فيه في بيان قاعدة « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيقها في الفقه

فنقول : إن هذه القاعدة سارية وجارية في جميع أبواب الفقه.

ففي كتاب الطهارة مثلا تستعمل في إثبات الطهارة والنجاسة بناء على عموم حجيتها ، وفي موضوعات أحكام النجاسات ، وفي إثبات الملاقاة للنجس وعدم الملاقاة ، وفي إثبات أن هذا الماء كر أو ليس بكر ، وأنه مطلق أو مضاف ، وأنه تغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجس أم لم يتغير ، وأنه توضأ أم لم يتوضأ ، وكذلك هل اغتسل أم لا ، وأنه هل كان على البشرة ومحل غسل الوضوء أو مسحه وكذلك في الغسل مانع وحاجب أم لا ، وأنه تيمم أم لا ، وهل هذا التراب الذي يريد أن يتيمم عليه طاهر أم نجس ، وأنه هل هو مما يصح التيمم عليه أم لا في الشبهة الموضوعية لا الحكمية ، وفي مقدار المساحة التي يجب الفحص عن الماء في الشبهة الموضوعية لا الحكمية ، وفي لون الدم الذي تراه المرأة إذا كانت عاجزة عن الرؤية لعمى أو لجهة أخرى وفي نفوذه في القطنة وعدمه كذلك ، وفي كونه مستديرا على القطنة كي يكون دم العذرة أو لا فيكون استحاضة أو حيضا أو شيئا آخر ، وأنه هل انقطع على العشرة أو تعدى وأنه هل كان أقل من الثلاثة أم لا.

ص: 39

كل ذلك فيما إذا لم يكن في قيام البينة محذور شرعي.

وفي كتاب الصلاة تستعمل في معرفة القبلة والأوقات ، وفي لباس المصلي من كونه حريرا أو ذهبا أو غير مأكول ، وفي مكانه من حيث كونه غصبا ، وفي معرفة ما يصح السجود عليه ، وفي ضبط عدد الركعات وتعيينها ، وفي زيادة ركن أو نقيصته وإن كان نسيانا ، وفي حصول المسافة وتعيينها ، وفي مقدار الإقامة أو مضي ثلاثين مترددا ، وفي معرفة حد الترخص ، وفي صلاة الجماعة من حيث عدالة الإمام وصحة قراءته ، والاتصال مع الإمام ، وعدم علو الإمام ، وعدم الحائل بين المأموم والإمام ، كل ذلك في الشبهة الموضوعية ، وغير ذلك من موضوعات الأحكام في كتاب الصلاة.

وفي كتاب الزكاة وصول المال إلى مقدار النصاب في الشبهة الموضوعية ، وفي إثبات الفقر وكونه ابن السبيل ، وأنه من الغارمين ، وأن دينه لم يكن من جهة الصرف في المعصية ولا من جهة الإسراف ، وفي كونه عبدا تحت الشدة ، وفي كونه مسكينا ، وفي إثبات بلوغ المالك وكونه عاقلا وحرا متمكنا من التصرف في ماله تمام التمكن ، وأن تملكه للغلات بواسطة الزراعة وكونه زارعا ، أو انتقل إليه الزرع أو الشجر قبل تعلق الزكاة بهما أي قبل اشتداد الحب في الذرع وقبل بدو الصلاح في الأشجار المثمرة ، أعني النخيل والكروم ، وفي مقدار مئونة تحصيل الغلات ، سواء كانت من قبيل الزرع أو كانت من قبيل أشجار المثمرة ، أي النخيل والكروم.

وفي كتاب الخمس أما بالنسبة إلى ما يتعلق به الخمس ، فمثل المعدن ، أو الغوص ، أو الحلال المختلط بالحرام ، أو أن له الربح ومقدار الربح مستعمل فيها البينة إذا شك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا المفهومية ، لأن المرجع في الشبهة المفهومية هو العرف أو الأدلة الشرعية إن كان تصرف من قبل الشارع فيها ، أي فيما أخذ موضوعا لحكمه ، وكذا في بلوغ النصاب فيما له نصاب منها كالغوص والمعدن.

وأما بالنسبة إلى المستحق فتستعمل في إثبات كونه من بني هاشم ، وأنه لا يملك

ص: 40

مئونة سنته ، وبالنسبة إلى سهم الإمام علیه السلام وإيصاله إلى الفقيه العادل الجامع للشرائط أو صرفه في ما يأذن أو إعطائه لمن يأذن ، ففي جميع هذه الموضوعات تستعمل البينة لإثباتها.

وفي كتاب الحج تستعمل في تعيين المواقيت أو محاذاتها من ناحية الشبهة الموضوعية ، وكذلك في ثوبي الإحرام وكونهما مما يجوز لبسهما في الإحرام ، ثمَّ في عدد أشواط الطواف إذا شك فيه ، وكذلك في عدد السعي بين الصفا والمروة ، وكذلك في تعيين زمان الوقوف في عرفات ومكانه ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المشعر ومنى زمانا ومكانا ، كل ذلك من ناحية الشبهة الموضوعية ، وفي شرائط الذبيحة يوم العيد في منى ، وغير ذلك من الموضوعات الكثيرة للأحكام الشرعية في كتاب الحج التي لا يخفى على الفقيه المتتبع ، وأنه إذا حصل له الشك فيها من ناحية الشبهة الموضوعية فأحد طرق إثباته هي البينة.

وأما في أبواب المعاملات فأغلب الموضوعات للأحكام فيها عرفية ، وبعد أخذ المفهوم من العرف إذا شك في مصداقه ، فأحد طرق إثباته هي البينة ، كالعيب في خيار العيب من ناحية الشبهة الموضوعية ، والغبن أيضا كذلك في خيار الغبن ، وكذلك الحال في سائر المعاملات.

وأما في كتاب الصيد والذباحة والأطعمة والأشربة ، ففي أكثر الموضوعات المشتبهة من حيث المصداق والشبهة الموضوعية تثبت الحلية والحرمة بالبينة ، مثلا إذا شك في أنه عند الرمي هل قال : « بسم اللّه » أم لا؟ فان شهدت البينة بأنه سمى يثبت التسمية ، أو إذا شك في أنه ذبح بالحديد ، أو بآلة من فلز آخر ، أو من شي ء آخر - بناء على توقف الحلية على أن يكون الذبح بالحديد - فإن شهدت بأنه كان بالحديد تثبت الحلية بها.

وفي الأطعمة والأشربة إذا شك في أن هذا السمك هل له فلس أم لا؟ فإن

ص: 41

شهدت البينة بأنه كان له الفلس تثبت الحلية ، أو إذا شك أن هذا الطائر هل له حوصلة أم لا ، وأن دفيفه أكثر من صفيفه أم لا؟ فإن شهدت البينة أن دفيفه أكثر ، أو أنها شهدت أن له حوصلة أو قانصة أو صيصية فتثبت الحلية.

وأما في كتاب القضاء وأبواب الدعاوي ، فهي الركن الركين.

وأما في كتاب المواريث ، فالبينة تستعمل في إثبات الأنصاب ومقدار حصص الورثة ، وغير ذلك من الموضوعات للأحكام من كفر الوارث ، أو كونه قاتلا للمورث ، أو كونه أكبر الأولاد ويستحق الحبوة.

وفي كتاب الحدود والديات تستعمل في مقدار الجناية وتعيين الجاني والمجني عليه.

والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 42

27 - قاعدة إقرار العقلاء

اشارة

ص: 43

ص: 44

قاعدة إقرار العقلاء (1)

ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمور :

الأول : اتفاق العقلاء من جميع الملل كافة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه ، بمعنى أن إقرار العاقل على نفسه طريق مثبت لما أقر به عندهم جميعا ، ولم ينكره أحد.

وذلك أن العاقل لا يقدم على إضرار نفسه إلا لبيان ما هو الواقع لوخز ضميره من الخلاف الذي صدر عنه ، سواء أكان ذلك الخلاف هي السرقة أو جناية أو غصب أو قذف وما شابه ذلك ، أو يقر على نفسه ببيان الواقع حذرا من العذاب الأخروي.

مثلا لو كان مال غيره في يده وتحت سيطرته وتصرفه ، فلا يعترف أنه لذلك

ص: 45


1- « الحق المبين » ص 99 ، « عوائد الأيام » ص 172 ، « عناوين الأصول » عنوان 81 ، « خزائن الأحكام » ش 43 ، « مجموعه رسائل » العدد 22 ، ص 497 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 7 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 207 ، « القواعد » ص 53 ، « قواعد فقهي » ص 223 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 63 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 403 ، « در باب إقرار » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلة « كانون وكلاء » 27 ، « إقرار » سيد على شايكان نشرة « مجموع حقوقي » العام 1 ، العدد 30.

الغير إلا لما ذكرنا من الوجوه ، كما أنه لو كان لنفسه فلا يعترف إنه لغيري ، لعدم الداعي إلى ذلك في الغالب.

نعم قد يتفق له الداعي على إقراره بما هو ضرر عليه مع أنه على خلاف الواقع ، ولكن هذا القسم شاذ قليل الوجود ، ولو لم يكن موجودا أصلا لكان الإقرار على النفس موجبا للعلم بصحة ما أقر به ، ولكن وجود هذا القسم من الإقرار على النفس اتفاقا صار سببا لأن يكون من الأمارات الظنية القوية ، ولذلك العقلاء بنوا على حجيته.

ألا ترى أن أحدهم لو اتهم بسرقة أو جناية أو غصب أو غير ذلك - مما يكون الإقرار به ضررا على نفسه - لو أقر واعترف بذلك ، لا يتردد أحد في تصديقه وقبول قوله وصدور هذه الأفعال عنه ، فإذا أنكر شخص آخر صدور هذه الأفعال عنه يقال له : كيف تقول إنها لم يصدر عنه ، وهو بنفسه أقر واعترف بذلك؟! ولعل هذا مضمون كلام أبي عبد اللّه جعفر الصادق علیه السلام في مرسل عطار : « المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمن عليه » (1).

ولذلك ترى أن القضاة والحكام من جميع الملل والأقطار والأمصار في جميع الأعصار ، يعدون اعتراف الجاني والسارق والقاتل بهذه الأمور من أقوى المدارك لصدور هذه الأفعال عنه ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة ، بل أمضاها كما يمر عليك دليل الإمضاء في الأمور الآتية.

وإذا أردت أكثر من هذا أدلة الإمضاء فراجع كتاب القصاص والحدود والديات من كتب الحديث التي ألفها العامة والخاصة.

الثاني : الإجماع من كافة علماء الإسلام ، وعدم الخلاف من أحدهم في حجية

ص: 46


1- « صفات الشيعة » ص 37 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 110 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 1.

إقرار العقلاء على أنفسهم ، ونفوذه في الجملة بطور الموجبة الجزئية.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الإجماع والاتفاق الظاهر أنه ليس اتفاقا وإجماعا تعبديا من جهة تلقيهم هذا الحكم من المعصوم علیه السلام ، بل من جهة أنهم يرونه طريقا عند العقلاء مثبتا لما أقر به ، ولم يردع عند الشارع بل أمضاها - كما ذكرنا - فليس من الإجماع المصطلح ، كما نبهنا عليه مرارا.

الثالث : الأخبار ، وعمدتها الحديث المشهور بين الفريقين - وقد عبر عنه صاحب الجواهر قدس سره بالنبوي المستفيض أو المتواتر (1) ، ولا يبعد تواتره لاتفاق الفريقين على نقله والاستدلال به في الموارد الخاصة - وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (2). وقوله صلی اللّه علیه و آله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم » (3).

أما قوله صلی اللّه علیه و آله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم جائز » سنتكلم عنه في بيان مفاد القاعدة مفصلا إن شاء اللّه تعالى.

وأما قوله صلی اللّه علیه و آله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم ». فتقريب الاستدلال به أن الأمر ظاهر في الوجوب ، فإذا كان قول الحق واجبا ولو كان على نفسه فيجب قبوله ، وإلا يكون وجوب قول الحق لغوا وبلا فائدة ، فلا بد من القول بوجوب القبول ، وهذا معناه حجية الإقرار على النفس لكونه واجب القبول.

وفيه : أن ظاهر الحديث - بناء على ما ذكرت - أن قول الحق واجب القبول ، سواء أكان على نفسه أو لنفسه ، أو على غيره ، أو كان لا له ولا عليه ، ولكن بعد ما ثبت أنه قول حق بعلم أو علمي ، وأما أن كل ما يقول ويقر على نفسه فهو قول حق فمن أين؟

ص: 47


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 3.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، وج 2 ، ص 257 ، ح 5 ، وج 3 ، ص 442 ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 110 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.
3- « بحار الأنوار » ج 77 ، ص 173 ، ب 7 ، ح 7. « قل الحق ولو على نفسك ».

ولعله يقول قولا باطلا ، وإقرارا كاذبا على نفسه لجهة من الجهات ، كما أنه يريد إظهار سخاوته ، فيقول : استدنت من فلان مبلغ كذا وقسمته بين الفقراء ، أو يريد إثبات شجاعته فيقول : جنيت على فلان بكذا وكذا.

فالإنصاف أن الحديث لا ربط له بهذه القاعدة ، بل في مقام بيان وجوب إظهار الحق وعدم جواز كتمانه ، وإن كان إظهاره على ضرره.

وأما الأخبار المروية عن الأئمة المعصومين علیهم السلام فكثيرة جدا ، خصوصا في الموارد الخاصة بصورة القضايا الشخصية ، وتقدم مرسل عطار عن الصادق علیه السلام :

« المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمن ». وظاهره أن شهادة المؤمن على نفسه - أي إقراره على نفسه - أكشف من شهادة سبعين مؤمن ، وأيضا خبر جراح المدائني عن الصادق علیه السلام : « لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه » (1). وهذا الخبر يدل على نفوذ الإقرار على النفس وإن كان فاسقا ، لأنه لا فرق فيما هو المناط في نفوذ إقراره بين أن يكون فاسقا أو عادلا.

وخلاصة الكلام : أن الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة علیهم السلام في الموارد الخاصة الدالة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه كثيرة جدا ، ومن راجع كتب الحديث من الفريقين - باب القصاص ، وباب الحدود ، وباب الديات ، وباب الغصب ، وباب الإقرار ، وباب القضاء منها وأمعن النظر - لا يتأمل في أن ذكر الموارد لأجل تطبيق الكبرى الكلية عليها ، أو لأجل الجواب عن القضايا الشخصية ، وإلا فلا خصوصية لها ، بل الحكم عام ، أي مفاد تلك الأخبار نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه في أي مورد كان ، ويكون حكما كليا لإقرارات جميع العقلاء في جميع الموارد.

الرابع : الآيات ، ومنها قوله تعالى :

ص: 48


1- « الكافي » ج 7 ، ص 395 ، باب ما يرد من الشهود ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 600 ، باب البينات ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 112 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 6 ، ح 1.

( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) (1).

ومنها قوله تعالى ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) (2).

وقوله تعالى ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (3).

وفيها : أما الآية الأولى ، فلا ربط لها بمقامنا ومحل بحثنا ، أي نفوذ الإقرار على النفس ، لأن اللّه تعالى في الآية يخاطب الناس ويقول بعد أخذ العهد والمواثيق منهم : أن يؤمنوا وينصروا رسله ، هل أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، أي ثقلي؟ والمراد بالثقل : العهود والمواثيق الذي أخذ منهم ، أي قبلتم عهودي ومواثيقي ، قالوا : أقررنا ، أي قبلنا تلك العهود والمواثيق ، فقال اللّه تعالى : فاشهدوا أيتها الملائكة أو الأنبياء أو الأمم على قبولكم ، وأنا اللّه أيضا من الشاهدين ، فلا ربط لها بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم ، لأن المراد من الأمر بالشهادة تثبيت تلك العهود والمواثيق عليهم وإتمام الحجة ، ولذلك يقول هو تعالى بعد ذلك ( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) أي لا يمكن لكم أن تنكروا هذه العهود.

وأما الآية الثانية ، فالمراد من قوله تعالى ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) إما هم الفاسقون ، المعترفون بذنوبهم ، التائبون عما فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السي ء ، أو هم المتخلفون عن غزوة تبوك فندموا وتابوا ، على التفصيل المذكور في كتب التفاسير ، وعلى كل واحد من التقديرين لا ربط لها بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم.

نعم اعترافهم بذنوبهم إقرار على أنفسهم ، ولكن أي ربط له بنفوذ إقرار كل عاقل على نفسه.

وأما الآية الثالثة ، فتقريب الاستدلال بها أن أمره تعالى بكونهم شهداء لله ولو

ص: 49


1- آل عمران (3) : 81.
2- التوبة (9) : 102.
3- النساء (4) : 135.

على أنفسهم ملازم مع وجوب قبول تلك الشهادة التي على النفس ، وهذا معناه نفوذ إقراره على نفسه.

وفيه : أن ظاهر الآية وجوب أداء الشهادة وحرمة كتمانها ولو كانت على أنفسهم ، وهذا لا يدل على أزيد من وجوب قبول شهادة المؤمنين وإن كانت على أنفسهم إذا كانت واجدة لشرائط وجوب قبول الشهادة من التعدد والعدالة ، فلا ربط لها بنفوذ إقرار العاقل على نفسه وإن كان فاسقا وغير متعدد الذي هو محل البحث.

وقد ظهر مما ذكرنا أن الدليل على اعتبار هذه القاعدة أمران :

أحدهما : هو الأمر الأول ، أي اتفاق كافة العقلاء على أماريتها ، وعدم ورود ردع عن قبل الشارع ، بل ورد الإمضاء.

الثاني : هي الأخبار ، وعمدتها النبوي المشهور ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

الجهة الثانية : في بيان مفاد هذه القاعدة وأنه ما المراد منها

اشارة

فنقول : إن مفاد القاعدة والمراد منها تابع للسعة والضيق في مدركها ، فإرادة المعنى الأوسع من مدركها يرجع إلى إرادة ما لا دليل عليه ، وإرادة الأضيق من دليلها معناه عدم الاعتناء بدليلها ، وعدم القول باعتبار ما اعتبره الشارع.

وقد عرفت أن المدرك لهذه القاعدة أمران : اتفاق العقلاء على أن إقرار العاقل على نفسه أمارة على ثبوت ما أقر به ، من حيث أنه على نفسه لا بقول مطلق - أي ولو كان له أثر على الغير ، فلو أقر بأن فلانة زوجتي ، فالعقلاء يبنون على زوجية فلأنه له من حيث الآثار التي على المقر ، أي المهر مثلا. وأما أن المرأة تطيعه وترتب آثار

ص: 50

الزوجية فلا - والأخبار وعمدتها قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ومفاد الحديث هو عين ما اتفق عليه العقلاء ، فلا بد من توضيح مفاد الحديث وبيانه.

فنقول : أما « الإقرار » لغة وبحسب المتفاهم العرفي عبارة عن جعل الشي ء ذا قرار وثبات ، فمعنى أقره على شغله أى : جعله ثابتا على ذلك الشغل.

والمتبادر من كلمة « على نفسه » هو كون الشي ء على ضرره ، كما أن معنى لنفسه كونه لنفعه. ومنه قولهم أنت لنا أو علينا ، أي : تنفعنا أو تضرنا.

ومعنى كلمة « جائز » أي : نافذ وماض لا الجواز مقابل الحرام ، وذلك من جهة أنها بذلك المعنى ليست مختصة بالإقرار على النفس ، بل الإقرار للنفس وبما ينفع المقر أيضا جائز ، فمن الواضح أن الجواز هاهنا بمعنى النفوذ والمضي ، كما قلنا أن على هذا المعنى اتفاق العقلاء.

هذا ، مضافا إلى أن الإقرار على النفس أيضا ربما يكون حراما ، وذلك فيما إذا كان كاذبا فيما يخبر عنه ، وخصوصا فيما إذا كان مضافا إلى أنه كذب مضرا للغير وموجبا لإهانته ، كما أنه إذا أقر واعترف كاذبا بأنه زنى بالمرأة المحصنة الفلانية ولا شك في أن مثل هذا الإقرار وإن كان على نفسه ، ولكنه من أشد المحرمات ، كما هو صريح الآية الشريفة ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (1).

ثمَّ إنه إن كان الظرف ، أي « على أنفسهم » متعلقا ب- « جائز » فيكون المعنى أن إقرار العقلاء مطلقا جائز على أنفسهم ، وإن كان متعلقا ب- « الإقرار » ، فيكون الحاصل أن إقرار العقلاء على أنفسهم لا مطلق أقاريرهم ، وتكون كلمة « جائز » مطلقا لا أنه مقيد بالجواز على أنفسهم فقط.

ص: 51


1- النور (24) : 23.

والفرق بين الصورتين في كمال الوضوح ، لأنه بناء على الصورة الأولي يكون المعنى عبارة عن أن إقرار العقلاء الذي يكون على ضررهم - لا مطلق إقرارهم ولو لم يكن على ضررهم - نافذ مطلقا ، سواء أكان النفوذ على ضرره أو على نفعه ، بمعنى أن الإقرار إذا كان على ضرره ولكن كان له لازم يكون لنفعه ، فبناء على تقدير الأول يرتب ذلك اللازم عليه ، لأنه يصدق عليه أنه إقرار على النفس. كما أنه لو أقر على أن هذا الولد ابني أو هذه المرأة زوجتي ، فهذا الإقرار ضرر عليه من حيث وجوب إعطاء النفقة لهما ، ولكن لازمه أنهما لو ماتا يرث منهما.

فلو كان الظرف من قيود الإقرار وكان الجواز مطلقا ، فيلزم القول بنفوذ هذا الإقرار بالنسبة إلى هذا اللازم ، وأما لو كان من قيود الجواز فيكون المعنى أن إقرارهم جائز في خصوص ما يضرهم لا فيما ينفعهم ، فيلزم القول بعدم نفوذ ذلك الإقرار في اللازم المذكور.

ولكن الإنصاف أن ظاهر هذا الكلام أنه صلی اللّه علیه و آله بصدد بيان أن إقرار العقلاء إذا كان على ضررهم فهو - أي : ذلك الإقرار الذي على ضرره - جائز ونافذ على نفسه ، فلو كان لإقرارهم الضرري لازم غير ضرري عليه ، سواء أكان نافعا له أو لم يكن ، وسواء أكان ضرر على الغير أو لم يكن ، ففي جميع هذه الصور لا يشمله الحديث ، لما ذكرنا أن معنى الحديث أن الإقرار الذي على أنفسهم جائز عليهم لا لهم. فكان الظرف المذكور في القضية متعلق بكلمة « إقرار العقلاء » وهو ظاهر اللفظ ، وإلا محذوف ومقدر متعلق بكلمة « جائز » بقرينة الأول ، مثل قوله تعالى ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) (1) أي : بهم ، فحذف من الثاني بقرينة الأول ، فكان الكلام هكذا : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز على أنفسهم.

ونتيجة هذا أنه إذا كان للإقرار مدلول التزامي لا يكون ضررا على المقر

ص: 52


1- مريم (19) : 38.

لا يشمله الحديث.

إن قلت : إذا حكم الشارع بثبوت المقر به بالإقرار على النفس فقهرا يترتب آثار المقر به عليه ، سواء أكانت تلك الآثار واللوازم على المقر العاقل أو لنفعه ، أو لا لنفعه ولا على ضرره.

قلت : الأمر هكذا بناء على أمارية الإقرار كما هو كذلك ، ولكن تقدير الظرف المتعلق بكلمة « جائز » يمنع عن شمول الحديث لغير ما يضر المقر ، كما ذكرنا من أن معنى الحديث بعد تقييد الإقرار بكونه على نفس المقر وضرريا عليه ، وأيضا تقييد كلمة « جائز » ب- « على نفسه » المقدر ، فيكون المعنى أن الإقرار الذي عليه جائز عليه لا له.

إن قلت : بعد حكم الشارع بثبوت المقر به بذلك الإقرار ، كيف يمكن التفكيك بين ثبوته وثبوت لوازمه؟

قلت : إن الثبوت لو كان ثبوته واقعيا تكوينيا لكان لهذا الإشكال مجال ، وأما الثبوت التعبدي فهو بلحاظ الآثار ، فيمكن أن يرد الدليل بثبوته بلحاظ بعض الآثار دون بعض ، فيمكن أن يقول الشارع : تعبد بثبوت ما أقر به بلحاظ آثاره التي تكون على المقر لا له.

فتلخص مما ذكرنا أن معنى هذا الحديث - الذي هو مفاد هذه القاعدة والمراد منها - أن إقرار العقلاء الذي يكون على ضررهم مثبت وطريق كاشف عن وجود المقر به وثبوته ، ولكن من حيث آثاره التي تكون ضررا على المقر ، ففي كل مورد لم يكن الأثر ضرريا عليه لا يثبت ما أقر به من تلك الجهة.

والتفكيك بين اللوازم والملزومات في التعبديات لا مانع منه ، وله نظائر كثيرة ، لأن الثبوت فيها ليس ثبوتا حقيقيا ، بل هو ثبوت تعبدي بلحاظ الآثار ، فيمكن التفكيك بين ثبوته - أي : ما أقر به - من حيثية دون أخرى.

ص: 53

كما أنه قيل في قاعدة التجاوز ونحن بنينا على هذا (1) إنه لو شك في إتيان صلاة الظهر في أثناء الاشتغال بصلاة العصر ، أو شك في أنه توضأ للصلاة أم لا في أثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز تثبت الإتيان بصلاة الظهر من حيثية شرطية إتيانها قبل صلاة العصر ، ولا تثبت وجودها بقول مطلق ، ولذلك بعد الفراغ عن الصلاة يجب الإتيان بها ، لأن قاعدة التجاوز مفادها أن بعد التجاوز عن محل الشرط لو شك في إتيان الشرط يمضي في عمله ويبنى على الإتيان بالشرط. فالتعبد بوجود صلاة الظهر بما هو شرط ، لا بما هو هو.

وبعبارة أخرى : مفاد القاعدة أنه تعبد بأن العمل الذي أنت مشغول به ليس فاقد الشرط ، وأما ذات صلاة الظهر وأنه أتى بها أو لم يأت بها ، فلا نظر للقاعدة إليها ، ولذلك بعد الفراغ يلزم أن يأتي بها.

وكذلك الأمر في الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز تثبت وجود الطهارة من حيث شرطيتها لهذه الصلاة ، ولا تثبت ذات الوضوء من حيث نفسه ، ولذلك بالنسبة إلى الصلوات الآخر لا بد له إلا أن يتوضأ.

وحاصل الكلام : أن قاعدة التجاوز مفادها التعبد بوجود صلاة الظهر من حيث شرطيتها لصلاة العصر ، وكذلك بوجود الوضوء من حيث شرطيته للصلاة ، لا أصل وجوده.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا وجه لما توهموه من الإشكال ، بأنه إن كان الإقرار على النفس مثبتا لما أقر به فيجب ترتيب جميع آثار ما أقر به ، وإن لم يكن مثبتا له فلا يترتب عليه شي ء أصلا ، لأنه بناء على هذا يكون إقراره ، وجوده كعدمه ، وذلك من جهة أن إقراره يثبت ما أقر به ، لكن بالنسبة إلى آثاره التي تكون على ضرر المقر ، لا ما يكون له ، ولا ما يكون ضررا على غيره ، ولا ما يكون لنفع غيره ، ولا ما يكون لا له

ص: 54


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 315.

ولا عليه.

فلا ينقض على هذه القاعدة بأنّه لو أقرّ بما يكون له ضرر على نفسه ، وعلى نفسه وعلى غيره ، كالزنا مثلا ، فإنّ ما أقرّ به يكون عليه وعلى غيره ، أي المرأة التي يقرّ بالزنا معها.

فالفقهاء يقولون بأنّ المقرّ يجلد إذا كان غير محصن ، ويرجم إذا كان محصناً.

وأمّا المرأة فلا شي ء عليها من ناحية هذا الإقرار ، نعم هي بنفسها لو أقرّت ، أو أقيمت عليها البيّنة تكون حالها حال المقرّ من ناحية إقرار نفسها ، أو من ناحية قيام البيّنة على أنّها مزنية بها.

وذلك من جهة أنّ إقرار ذلك الرجل بالزنا لا يثبت الزناء إلاّ بالنسبة إلى الآثار التي تكون ضرريّة على المقرّ دون غيرها. وأمّا التفكيك بين اللوازم ، فقلنا إنّه لا مانع منه في التعبّديات.

وكذلك لو أقرّ بأبوّة شخص له ، أو بنوّته ، أو أخوّته ، أو غير ذلك من النسب التي تكون من الطرفين ولم يقرّ الآخر ، فلا يترتب على إقراره إلا الآثار التي تكون ضررية على المقر ، دون ما يكون ضررا على ذلك الطرف الآخر ، فإذا كان واجب الإنفاق على المقر يجب عليه الإنفاق عليه ، ويرث من المقرّ.

وأما الطرف الآخر فلا يجب عليه الإنفاق على المقر ، وإن كان على تقدير ثبوت النسبة التي أقر بها واقعا يجب عليه الإنفاق على المقر ويرث المقر منه ، ولكن الإقرار لا يثبت النسبة واقعا وتكوينا ، والتعبد أيضا ليس بلحاظ جميع الآثار ، بل يكون بلحاظ الآثار التي تكون ضررية على المقر ، ولا يثبت الآثار التي تكون ضررية على غير المقر ، ولا الآثار التي تكون فيها نفع المقر.

إن قلت : أليس الإقرار أمارة على ثبوت المقر به ، فإذا ثبت الزناء مثلا القائم بالطرفين - الزاني والمزني بها - ولا يمكن تحقق أحدهما بدون الآخر ، وهكذا الحال في

ص: 55

جميع موارد المتضايفين ، فأبوه زيد لعمرو لا يمكن أن تتحقق بدون بنوة عمرو ، فإذا أقر زيد بأبوته لعمرو وقلنا أن أبوته لعمرو تثبت بالإقرار الذي من الأمارات ، فقهرا يثبت بنوة عمرو بتلك الأمارة.

كما أنه لو قامت البينة على أبوه زيد لعمرو ، تثبت بنوة عمرو له أيضا بتلك البينة ، وذلك لحجية مثبتات الأمارات.

قلت : أن أمارية الإقرار ليست مطلقة ، بل يثبت ما أقر به من حيث كونه منشأ للآثار التي تكون ضررية على المقر ، ولا يثبت ما أقر به مطلقا ، وقلنا إن الثبوت ليس ثبوتا حقيقيا وجدانيا وتكوينيا ، وإنما هو ثبوت تعبدي بلحاظ الآثار ، فيمكن أن يكون الإقرار أمارة على ثبوت الأبوة من حيث آثارها التي تكون ضررية على المقر فقط ، كما مثلنا بقاعدة التجاوز والشك في أثناء صلاة العصر أنه أتى بصلاة الظهر أم لا ، والشك في أنه توضأ أم لا.

وخلاصة الكلام : أن الإقرار قد يكون على نفس المقر فقط - مثل أن يقر بأن لفلان عليه كذا - فنافذ قطعا ، وقد يكون على نفسه وعلى غيره ، وهذا على قسمين :

الأول : أن يكون المقر به في كل واحد منهما مستقلا غير مربوط بالآخر ، مثل أن يقر أحد الشريكين ببيع تمام دار المشترك بينه وبين غيره ، فينفذ في حصته من تلك الدار دون حصة شريكه. وهذا الصورة أيضا لا كلام ولا إشكال فيها ، لأنه في الحقيقة إقراران : إقرار ببيع حصته ، وهذا على نفسه ونافذ. وإقرار ببيع شريكه حصته ، وهذا إقرار على الغير وليس بنافذ.

الثاني : أن يكون المقر به في كل واحد منهما مربوطا بالآخر ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن المقر به معنى قائم بالطرفين ، وذلك كإقراره بأبوة شخص أو بنوته أو أخوته ، أو بالزنا مع امرأة معينة ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة لهذا القسم.

وهذا القسم هو الذي وقع محل الإشكال ، وأنه كيف يمكن التفكيك بأن يكون

ص: 56

نافذا في حقه ولا يكون نافذا في حق ذلك الطرف الآخر ، مع أنهما متضايفان ووجود أحدهما متوقف على وجود الآخر.

وهذا هو الذي أجبنا عنه ، وقلنا بأن توقف أحدهما على الآخر إنما هو في مقام الثبوت ، لا في مقام الإثبات.

نعم في مقام الإثبات أيضا ملازمة بين إثبات أحدهما وإثبات الآخر إن كان الإثبات تكوينيا وجدانيا ، لأن الملازمة بين المتلازمين كما تكون في مقام الثبوت كذلك تكون في مقام الإثبات ، فإن العلم بأحد المتلازمين - سواء كانا معلولين لعلة واحدة ، أو كان أحدهما علة والآخر معلولا - علة للعلم بالآخر ، ولكن هذه الملازمة بينهما ليست في مقام الإثبات إذا كان الإثبات تعبديا ، إذ من الممكن أن يحكم الشارع بالتعبد بأحد المتلازمين دون وذلك بأن يأمر بترتيب آثار أحدهما دون الآخر ، فلا يبقى إشكال في البين.

وهاهنا أمور يجب التنبيه عليها :

[ الأمر ] الأول : أن الإقرار لغة وعرفا عبارة عن جعل الشي ء ذا قرار وثبات ، وهذا المعنى قد يكون مدلولا مطابقيا للفظ ، كما أنه إذا قال : أنا مديون لزيد مثلا بكذا مقدار ، وقد يكون مدلولا التزاميا كقوله : رددت عليك بعد قول زيد لي عليك كذا.

وذلك من جهة أن مدلول المطابقي لكلمة « رددت عليك » هو إرجاع ما أخذ منه ، ولكن العرف يفهم منها بالدلالة الالتزامية أنه اعترف بأنه كان مديونا غاية الأمر يدعي أداء دينه.

وقد يكون بغير اللفظ ، كما إذا أقر بدين عليه بالإشارة المفهمة ، مثل أن يقول له الحاكم مثلا : إن فلانا يقول بأنك مديون له بكذا مقدار ، فهل ادعاه صحيح وأنت مديون له بهذا المقدار؟ فيصدقه بالإشارة ، بحيث يفهم منها العرف تصديقه للمدعي

ص: 57

بهذه الإشارة ، ولذلك يكون الأخرس العاجز عن الكلام إقراره بالإشارة.

والحاصل : أن الإقرار عبارة عن إثبات الشي ء ، أي جعله ذا قرار وثبات سواء أكان هذا الإثبات بالقول أو بالفعل ، غاية الأمر حجية ظواهر الأقوال معلومة وعليها بناء العقلاء وسيرتهم ، سواء كان المراد مدلولا مطابقيا للفظ ، أو مدلولا التزاميا. وأما الأفعال فليست كذلك ، فلا بد وأن يكون الفعل الذي يتحقق به الإقرار صريحا فيه ، لا يكون ذا وجوه بحيث أن العرف يرى أنه أقر واعترف بما ادعاه المدعي.

وبعبارة أخرى : يكون ذلك الفعل في نظر العرف وعندهم مصداقا لمفهوم « الإقرار » ويحمل عليه مفهوم « الإقرار » بالحمل الشائع. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقر عاجزا عن الكلام كالأخرس ، أم لا ولكن أقر بالفعل لا بالقول لجهة أخرى غير العجز ، فكذلك الأمر في الكتابة ، فإن كانت عند العرف صريحة في الإقرار بحيث لا يشكون في أنه أقر بذلك ، أيضا يثبت بهذا الإقرار ، وحيث أن الإقرار عبارة عن الإخبار بثبوت مال أو حق - سواء كان حق الناس أو حق اللّه على نفسه أو لنفسه - أو الإخبار بثبوت أمر يستتبع مالا أو حقا على نفسه ، كإقراره بثبوت نسبة بينه وبين غيره ، فكل ما أفاد هذا المعنى عند العرف يسمى إقرارا.

ولعل هذا مراد صاحب الجواهر قدس سره حيث يقول بعد ذكره تعاريف القوم : ولعل الأولى من ذلك - أي : من تلك التعاريف - إيكاله إلى العرف الكافي في مفهومه ومصداقه. فبناء على هذا لو فهم العرف من الكتابة مثل المعنى الذي ذكرنا وصدق بأنه إقرار ، فتكون تلك الكتابة إقرارا. (1)

الأمر الثاني : هل نفي الحق عن نفسه ، أو نفي المال ، أو نفي النسبة بعد إقرار الطرف بثبوت هذه الأمور له يعد إقرارا على نفسه كي يكون جائزا ونافذا عليه ، أم

ص: 58


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 2.

لا بل هو إنكار لما أقر الطرف ، فلو قال أحد المتبايعين للآخر : لك الخيار في هذه المعاملة ، فنفي ذلك الآخر وقال : ليس لي هذا الحق ، أو قال : هذا المال لك ، أو قال : لك علي كذا من الدنانير ، فقال في جواب الأول : ليس هذا المال لي ، و [ في ] جواب الثاني : ليس لي عليك شي ء ، أو ورثة الميت قالوا له : أنت أخونا من هذا الأب الميت ، فأنكر هو وقال : لست ابنا لهذا الميت كي أكون أخاكم.

ولا شك في أن النفي في هذه الموارد مستتبع للضرر عليه ، فإن كان النفي إقرارا يكون من مصاديق « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فلو صدق المقر بعد النفي - أي رجع عن نفيه - يكون من الإنكار بعد الإقرار ، ولا يسمع.

وأما لو يكن النفي في هذه الموارد وما يشبهها إقرارا ، فلا دليل على نفوذ هذه الإنكارات ، فالإقرارات من ذلك المقر باق بحالها ، والنفي لم يؤثر فيها ، فإذا رجع عن إنكاره وصدق المقر يكون له هذه الأمور ، ويؤخذ المقر بإقراراته المفروضة.

والظاهر أن النفي في الموارد المذكورة وما يماثلها ، حيث أنه مستتبع للضرر عليه ، يكون إقرارا على نفسه ، ولا يرى العرف فرقا في صدق الإقرار بين أن يكون ما أقر به وجود صفة ، أو يكون عدم تلك الصفة ، فكما أنه لو اعترف بأنه فاسق مرتكب للكبائر يكون هذا إقرارا على نفسه ، كذلك لو قال بأنه ليس بعادل ، أو اعترف أنه ليس بمجتهد يكون هذا أيضا إقرارا على نفسه.

فبناء على أمارية الإقرار على النفس لإثبات ما أقر به ، يكون الإقراران من الأمارتين المتعارضتين ، وبعد عدم الترجيح لإحداهما على الأخرى تتساقطان ، فلا يؤخذ كل واحد منهما بإقراره ، لا المقر ولا النافي.

فإذا رجع النافي عن نفيه وصدق المقر ، فإن كان المقر باقيا على إقراره فيكون كإقرار جديد بلا معارض ، فيؤخذ بإقراره. وإن لم يكن باقيا على إقراره يدخل في باب الدعاوي ، وتنطبق عليه موازين القضاء من جديد.

ص: 59

الأمر الثالث : في أن الإنكار بعد الإقرار لا يسمع ولا أثر له ، وذلك من جهة أن الإقرار - كما تقدم - أمارة على ثبوت ما أقر به على نفسه ونفوذه في حقه ، والإنكار الذي يصدر منه بعد إقراره لا دليل على اعتباره ، فوجوده كعدمه ، وهذا معنى سماعه - أي : كلام - لا أثر له.

ولكن هذا فيما إذا تمَّ الإقرار وجرت أصالة الظهور لتشخيص المراد ، وهذا فيما إذا لم تكن قرينة متصلة أو منفصلة تكون أصالة الظهور فيها حاكمة على أصالة الظهور في طرف ذي القرينة ، ولذلك لا يكون الاستثناء عما أقر به إنكارا بعد الإقرار.

فلو قال له : علي عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة لا بعشرة كي يكون استثناء الدرهم إنكارا بعد الإقرار ، وكذلك لو قال : هذه الدار لزيد إلا الغرفة الفلانية ، فهذا إقرار بما عدا تلك الغرفة ، ولو قال : هذه الدار لي إلا الغرفة الفلانية ، فإنها لزيد مثلا ، فالإقرار على نفسه يكون بتلك الغرفة فقط ، وهكذا الأمر في سائر الموارد.

فإذا كان الاستثناء عن الإيجاب ، وأقر بالمستثنى منه لغيره ، فيكون ما أقر به ما عدا المستثنى ، وإن كان الاستثناء في الكلام المنفي بأن قال : ليس لزيد شي ء من هذه الدار إلا الغرفة الفلانية ، فيكون ما أقر به نفس المستثنى.

والحاصل : أن في مقام الاستثناء تارة يكون إخباره بالنفي أو الإثبات متعلقا بحق الغير عليه ، فالاستثناء في الكلام الموجب نتيجته أن المقر به ما بقي بعد الاستثناء ، كما إذا قال له : علي عشرة إلا درهما ، فيكون الإقرار بتسعة. وأما الاستثناء ، في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس له علي شي ء إلا درهم ، نتيجته أن المقر به هو نفس المستثنى ، أعني الدرهم الواحد. وتارة يكون إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، ففي الكلام الموجب كما إذا قال : لي على زيد عشرة إلا درهما ، يكون الإقرار بالنسبة إلى الدرهم الواحد فقط ، لأن نفي الملكية عنه هو الإقرار على نفسه ، فيكون المقر به هو المستثنى فقط ، عكس السابق.

ص: 60

وأما إذا كان الاستثناء في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس لي من هذه العشرة دراهم إلا درهما ، فيكون المقر به هو تمام هذه التسعة الذي غير المستثنى ، فيكون ما أقر به في الصورتين - أي النفي والإيجاب - فيما إذا كان إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، عكس ما كان إخباره بهما بحق الغير عليه.

الأمر الرابع : في أن أمارية الإقرار واعتباره لإثبات المقر به هل مخصوص بما إذا كان في قبال من يدعي ما أقر به ، أو يكون أمارة مطلقا وإن لم يكن مدع في البين أصلا؟

وبناء على الأول ، فلو أقر بأن هذه الدار التي في يدي وتحت تصرفي لزيد ، أو ليس لي ، ولم يكن من يدعيها ، فلو أنكر بعد ذلك ما أقره وقال : إنها ليست لزيد ، أو قال : إنها ملكي ، فليس من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وتكون يده أمارة الملكية ، فلو وهبها لشخص أو وقفها أو باعها أو غير ذلك من التصرفات التي تنفذ للملاك في أملاكهم ، تكون هذه التصرفات نافذة ، ولا تأثير لإقراره السابق ، لأنه بناء على هذا التقدير يكون إقراره السابق كالعدم.

وأما بناء على الثاني - أي بناء على كونه أمارة مطلقا ، سواء أكان مدع في البين أو لم يكن - فإنكاره بعد ذلك يكون إنكارا بعد الإقرار ولا يسمع منه ، وتسقط يده عن الاعتبار بإقراره ، فلا يجوز له أي تصرف ناقل للعين أو لمنفعتها.

هذا فيما إذا لم يدع الملكية الجديدة ، وأما إذا ادعاها ، فإذا كان حصولها غير ممكن - من جهة اتصال زمان تصرفه بزمان إقراره للغير ، أو بوقفيته ، أو بشي ء آخر لا يمكن حصول الملكية معه - فالأمر واضح ، لسقوط يده عن الاعتبار بواسطة إقراره ، ولم يحصل سبب جديد لملكيته على الفرض ، فتكون تصرفاته غير نافذة حسب الأدلة والأمارات.

وأما إذا كان حصولها ممكنا ، فهل يده أمارة على الملكية الجديدة فيما لا علم بعدم

ص: 61

حصولها أم لا؟

والمسألة تدور مدار أن استصحاب حال اليد مقدم أو أمارية اليد الفعلي ، وذلك من جهة أنه لا شك في أنه بعد إقراره - بناء على نفوذه وإن لم يكن مدع في البين كما هو المفروض - تكون يده يد أمانة ، فيشك في أن تلك الحالة - أي كونها أمانة - باقية أم زالت وتبدلت يده من الأمانية إلى المالكية.

كما إذا كان مستأجرا لدار وكانت يده يد أمانة قطعا ، ثمَّ يدعي انتقالها إليه بناقل شرعي ، فهل مثل هذه اليد أمارة الملكية ، أو استصحاب حالتها السابقة يبطل أماريتها؟ لا يبعد جريان استصحاب حال اليد وعدم كونها أمارة الملكية.

ثمَّ إن الاحتمالين الذين بيناهما بالنسبة إلى أمارية اليد - من كونها أمارة مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان مدع في البين - كان بحسب مقام الثبوت.

وأما في مقام الإثبات ، فظاهر النبوي المستفيض أو المتواتر ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (1) هو نفوذ الإقرار مطلقا ، كان هناك مدع أو لم يكن ، ولا مخصص ولا مقيد لهذا الإطلاق في البين.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : إن موارد تطبيق هذه القاعدة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الإقرار كثيرة ، ولكن الموارد مختلفة ، فبعضها محل الوفاق ولا خلاف فيها ، لوضوح كونها من مصاديق القاعدة.

ص: 62


1- تقدم ذكره في ص 47 ، رقم (2)

مثلا لو أقرّ العاقل البالغ اختيارا بأنّ هذه الدار التي تحت تصرّفي وفي يدي ملك زيد ، أو له عليّ كذا مقدار من الدراهم والدنانير ، وكذا مقدار من الحنطة أو الشعير أو سائر الأجناس التي لها ماليّة ، أو أقرّ بحقّ من الحقوق كحقّ الخيار ، أو حقّ التولية والنظارة على وقف ، أو حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان للعبادة أو للمعاملة والتكسّب ، ففي جميع هذه الموارد إذا كان إقراره ممّا يكون على نفسه لا له ، يكون نافذا ولا إشكال ولا خلاف فيه.

ولا فرق بين أن يكون المقرّ له حيّا أو ميّتا ، والمقرّ به عينا أو دينا أو حقا.

نعم يشترط في صحّة إقراره ونفوذه أن لا يكون إقراره معلقا على أمر ، لأنّ التعليق ينافي الإقرار ، وذلك من جهة أنّ الإقرار - كما رجّحناه - عبارة عن الإخبار جزما وبتّا بثبوت شي ء عليه ، أي يكون ثبوت ذلك الشي ء على نفسه ، سواء أكان ذلك الشي ء عينا أو دينا أو حقّا من الحقوق ، أو كان ثبوت ذلك الشي ء مستتبعا لثبوت عين أو دين أو حقّ عليه. وثبوت الشي ء فعلا مع كونه معلّقا بثبوته على أمر - وإن كان محقّق الوجود فيما سيأتي كطلوع الشمس غدا - ممّا يتنافيان ، ولذلك يكون الإقرار معلّقا على أمر باطلا وليس بنافذ ، فلو قال : لك عليّ كذا إن قدم زيد من السفر ، يكون باطلا ولا ينفذ ، بل وكذلك لو قال : لك عليّ كذا إن طلعت الشمس غدا ، باطل ولا ينفذ.

والسرّ في ذلك ما ذكرنا من تنافي حقيقة الإقرار مع التعليق ، حتّى وإن كان المعلّق عليه أمرا محقّق الوقوع.

وبعض الموارد الآخر ليس انطباق القاعدة عليها بتلك المثابة من الوضوح ، ولذا وقع فيها الخلاف والإشكال.

فمنها : لو قال بعد ادّعاه المدّعي شيئا من مال أو حقّ عليه : إن شهد لك فلان

ص: 63

فهو صادق ، فقال جماعة - وهم الشيخ (1) على ما حكى عنه ، وابن سعيد (2) ، والعلامة (3) 0 على ما في الجواهر (4) ، بل حكى في الجواهر عن فخر الإسلام أنّه حكى عن والده نسبته إلى الأصحاب (5) - أنّه إقرار ويلزمه ما ادّعاه المدّعي ، وذكروا لكون هذا الكلام إقرارا وأنّه يلزمه ما ادّعاه المدّعي وجوها :

منها : ما ذكره المحقّق في الشرائع : أنّه إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد. (6)

بيان ذلك : أنّه أقرّ بصدق الشاهد إذا شهد ، ومعلوم أنّ شهادة ذلك الشاهد لا أثر لها في صدقه ، بل صدقه معلول سبب ثبوت ذلك الشي ء على المقرّ ، فصدق الشاهد على تقدير شهادته معناه أنّ ذلك السبب موجود ، فحيث أنّه أقرّ بصدق الشاهد على تقدير شهادته فأقرّ بوجود ذلك السبب على ذلك التقدير ، وحيث أنّ ذلك التقدير أجنبي عن وجود ذلك السبب ، فيكون إقراره بوجود السبب مطلق سواء شهد أو لم يشهد.

وهذا هو المراد من قول المحقّق قدس سره « إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد » أي ليس للشهادة تأثير في صدقه ، أو عدمها في كذبه ، بل مناط صدقه وكذبه وجود سبب الثبوت وعدم وجوده.

ومنها : أنّ ما يدّعيه المدّعي عليه إمّا ثابت عليه في الواقع ، أو ليس بثابت. وعلى الثاني ، فعلى تقدير الشهادة أيضا ليس بصادق ، فصدقه على تقدير الشهادة متوقّف على ثبوت ما يدّعيه المدّعي في الواقع ، فإقراره بصدق الشاهد على تقدير الشهادة

ص: 64


1- « المبسوط » ج 3 ، ص 36.
2- « الجامع للشرائع » ص 340.
3- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 277.
4- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 9.
5- « إيضاح الفوائد » ج 3 ، ص 423 - 424.
6- « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 110.

يرجع إلى الإقرار بثبوت ما يدّعيه المدّعي ، فيلزمه المال أو الحقّ.

وذلك لأنّ الإقرار باللازم الذي هو الصدق على تقدير الشهادة إقرار بملزومه ، أعني ثبوت ما يدّعيه المدّعي.

ومنها : أنّه يصدق هذه القضية ، أي كلّما لم يكن المال ثابتا أو الحقّ كذلك في ذمّة المقرّ لم يكن الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ، فعكس ما نقيضه كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة كان المال ثابتا في ذمّته يكون صادقا ، وذلك لما تقرّر في المنطق أنّ الأصل إذا كان صادقا كان العكس أيضا صادقا ، والمقدّم في عكس النقيض أي : كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ثابت بإقراره ، فيترتّب عليه التالي ، وهو كان المال ثابتا في ذمّته.

ثمَّ انّ هاهنا كلام طويل وإيرادات ذكرها صاحب الجواهر قدس سره في كتاب الإقرار (1) ، تركنا ذكرها والبحث عنها ، لأنّ محلّ ذكرها والبحث عنها هو كتاب الإقرار.

ومنها : لو قال : نعم ، بعد قول المدّعي : ألست مديونا لي بكذا؟ وقع الخلاف في أنّه إقرار أم لا ، بعد الفراغ عن أنّه لو قال : بلى ، لا شكّ في أنّه إقرار ، وذلك من جهة أنّ « بلى » حرف جواب وتختصّ بالنفي وتفيد إبطاله.

وإن شئت قلت : إنّ مفادها تصديق المنفي لا النفي ، بخلاف « نعم » فإنّها تصديق للجملة التي قبلها نفيا كانت أم إثباتا ، ولذلك حكي في المغني عن ابي عباس رضی اللّه عنه أنّه قال : لو قالوا في جواب قوله تعالى ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (2) « نعم » كفروا ، وذلك من جهة أنّ « نعم » تصديق لتمام الجملة ، فيصير مفاد نعم - العياذ باللّه - نفي ربوبيّته تعالى لهم ، ولكن قالوا « بلى » وأبطلوا النفي وصدقوا ما بعده - أي المنفي - أعني

ص: 65


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 9.
2- الأعراف (7) : 172.

صدقوا ربوبيّته تعالى لهم (1).

ولكن مع ذلك ذهب جماعة إلى أنّه إقرار ، لأنّ « نعم » تستعمل بمعنيين ، أي تصديق النفي تارة ، والمنفي أخرى.

وقد استشهد لهم صاحب الجواهر قدس سره (2) بقول الأنصار في جواب النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين قال لهم : « ألستم ترون ذلك »؟ فقالوا : نعم ، في مقام تصديق أنّه لهم.

وبقول الشاعر :

أليس الليل يجمع أم عمرو *** وإيّانا فذاك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه *** ويعلوها النهار كما علاني

ثمَّ حكى عن المسالك أنّ الحكم بكونه إقرارا قويّ.

ولكن أنت خبير بأنّ صرف استعمال « نعم » مقام « بلى » في بعض الاستعمالات لا يثبت كونه إقرارا ما لم يكن له ظهور عرفي ، وإثبات مثل هذا الظهور بمجرّد استعماله مقام « بلى » في بعض الأحيان لا يخلو من نظر ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك.

ومعلوم أنّه إذا بلغت النوبة إلى الشكّ ، فالأصل عدم ثبوت الإقرار ، إلاّ أن يكون في مورده إطلاق لفظي يرفع الشكّ. وأمّا لو كان السؤال كلاما مثبتا - كما إذا سأل عنه : أنّ لي كذا درهما أو شيئا عليك؟ فأجاب بنعم أو بأجل - يكون إقرارا بمضمون ذلك الكلام ، وذلك لأنّ نعم وأجل كلاهما حرف تصديق وجواب ، فإذا أجاب بها أو بإحداهما فقد صدّق السائل فيما أثبته عليه.

ثمَّ انّ الفقهاء ذكروا فروعا كثيرة في كتاب الإقرار ، وتردّدوا أو تنظروا في انطباق هذه القاعدة على بعضها لم نذكرها ، لأنّ محلّ البحث عنها هو كتاب الإقرار ، والمقصود

ص: 66


1- « مغني اللبيب » ج 2 ، ص 452.
2- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 84.

هاهنا بيان اعتبار هذه القاعدة وشرح مفادها والإشارة إلى موارد تطبيقها بطور الإجمال ، لا تفصيل مسائلها ، وإلاّ كان اللازم ذكر جميع مسائل كتاب الإقرار ، وهو خروج عن وضع الكتاب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 67

ص: 68

28 - قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر

اشارة

ص: 69

ص: 70

قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمران

الأوّل : قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2).

واشتهار هذا الحديث بين طوائف المسلمين يوجب الوثوق والاطمئنان بصدوره عنه صلی اللّه علیه و آله ، فلا ريب في حجّيته واعتباره.

وروى في دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه ، عن أبيه ، عن آبائه عن أمير المؤمنين علیهم السلام « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : البيّنة في الأموال على المدّعي واليمين على

ص: 71


1- « القواعد والفوائد » ج 1 ، ص 405 ، « الحق المبين » ص 48 و 65 ، « عناوين الأصول » عنوان 76 ، « خزائن الأحكام » العدد 38 ، « بلغة الفقيه » ج 36 ، ص 376 و 388 ، « قواعد فقهي » ص 21 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 335.
2- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

المدّعي عليه » الحديث. (1)

عوالي اللئالي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2).

وفي كتاب الاستغاثة في كلام له في قصّة فدك مع قول الرسول صلی اللّه علیه و آله بإجماع الأمّة :

« البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » (3).

محمّد بن يعقوب الكليني قدس سره في الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (4).

وأيضا محمّد بن يعقوب في الكافي بإسناده عن جميل وهشام ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعى عليه (5) ».

وفيما ذكرنا في مدرك هذه القاعدة غنى وكفاية ، وإن كان هناك روايات من طرقنا وطرق مخالفينا تركناها لعدم الاحتياج إليها.

الثاني : الإجماع من جميع علماء الإسلام قاطبة ، ومن جميع الطوائف منهم ، وهذا الإجماع المحقّق من جميع طوائف المسلمين وإن لم يكن من الإجماع المصطلح - كما نبّهنا

ص: 72


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 520 ، ح 1859 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 367 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1.
2- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، وص 453 ، ح 188 ، وج 2 ، ص 258 ، ح 10 ، وص 345 ، ح 11 ، وج 3 ، ص 523 ، ح 22.
3- « الاستغاثة » ص 16 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 5.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 2 ، ح 1.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب أنّ البيّنة على المدّعي و. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1.

عليه مرارا - إلاّ أنّه يوجب الوثوق بل القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلی اللّه علیه و آله فلا إشكال في هذه القاعدة من حيث المدرك.

[ الجهة ] الثانية : وهي العمدة هو بيان المراد من هذا الحديث ،

اشارة

وتوضيح ما يفهمه العرف منه

فنقول في مقام شرح مفهوم العرفي لألفاظ هذا الحديث : أمّا « البيّنة » فهي عبارة عن شاهدين ذوي عدل من المؤمنين حسب المتفاهم العرفي ، وقد تكلّمنا في ظهورها عرفا في هذا المعنى في قاعدة حجّية البيّنة ، وهذا لا ينافي كون هذه الكلمة لغة بل وعرفا أيضا بمعنى مطلق الحجّة الواضحة والبرهان ، كما أنّها استعملت في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعا بهذا المعنى ، أي الدليل والبرهان والحجة الواضحة.

وذلك من جهة أنّ المنكر - كما سنذكر - من كان قوله مطابقا للحجّة الفعليّة ككونه ذا اليد ، فلا بدّ وأن يكون المراد من البيّنة التي جعلها صلی اللّه علیه و آله وظيفة المدّعي دون المنكر معنى آخر غير مطلق الحجّة ، وليس معنى آخر في البين يحتمل أن يكون هو المراد إلاّ هذه الحجّة الخاصّة ، أعني شهادة عدلين.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة في الموارد الخاصّة بمطالبة الشهود من المدّعي والحكم له على طبق شهادتها ، مضافا إلى أنّ أحدا من الفقهاء لم يحتمل غير هذا المعنى لها في هذا الحديث.

وأمّا كلمة « على » فباعتبار أنّ هذه الوظيفة - أي كون إقامة البيّنة على ثبوت ما يدّعيه - موجّها إليه تكون كلفة عليه.

وأمّا « اليمين » فهو الحلف والقسم ، وهذا واضح معلوم لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

ص: 73

وأمّا « المدّعي » فقيل في تعريفه وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : هو أنّ المدّعي عبارة عمن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة وإن كان موافقا مع الحجّة غير الفعليّة ، أي كان مثلا موافقا مع الأصل ولكن هناك أمارة على خلافه ، فحيث أنّ الأمارة حاكمة على ذلك الأصل - لذهاب موضوعه بها تعبّدا - كانت الحجّة الفعليّة هي الأمارة دون الأصل ، فيكون مدّعيا بناء على هذا التعريف. مثلا لو ادّعي أنّ هذا اللحم الذي في السوق غير مذكّى ، ويريد بذلك إبطال المعاملة ، فقول هذا الشخص وإن كان مطابقا مع الأصل - أي أصالة عدم التذكية - ولكن حيث أنّ سوق المسلم ويده كذلك أمارة على التذكية ، فأصالة عدم التذكية محكومة بتلك الأمارة ، فتكون تلك الأمارة هي الحجّة الفعليّة ، فيكون قول ذلك الشخص مخالفا للحجّة الفعليّة ، أعني تلك الأمارة وإن كان موافقا مع الأصل - أي أصالة عدم التذكية - فيكون مدّعيا.

وكذلك مدّعي الفساد في باب المعاملات يكون مدّعيا ، مع أنّ قوله موافق لأصالة عدم النقل والانتقال ، وذلك لما ذكرنا من أنّ المدار في تشخيص المدّعي هو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وإن كان مطابقا مع أصل محكوم ، أو أمارة كذلك.

وفيما ذكرنا من الفرع - أي دعوى الفساد في أبواب المعاملات - قوله : مخالف للحجّة الفعليّة ، أي أصالة الصحّة ، وإن كان موافقا لأصالة عدم النقل والانتقال.

وبناء على هذا التعريف للمدّعي ، فقد يختلف في كونه مدّعيا أو منكرا لاختلاف كلامه ، مثلا لو قال في مقام دعوى الطرف دينا عليه ، أو عينا عنده أمانة أو غصبا : ليس لك في ذمّتي أو عندي شي ء ، يكون منكرا ، لكون قوله موافقا مع الحجّة الفعليّة ، أي أصالة عدم اشتغال ذمّته له بشي ء ، وكذلك في ادّعاء العين ، الأصل عدم كونه عنده.

وأمّا لو قال في الأوّل : أدّيته ، وفي الثاني : رددته ، يكون مدّعيا ، لأنّ قوله يكون

ص: 74

مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة عدم أدائه في الأوّل ، وأصالة عدم ردّه في الثاني.

وكذلك الأمر في الدعوى على ذي اليد بما هو تحت يده ، فلو قال : إنّ هذا ليس لك ، أو قال : لنفسي ، يكون منكرا ، لأنّ قوله موافق للحجّة الفعليّة ، أي : كونه ذا اليد. وأمّا لو قال : بأنّك وهبتني ، أو اشتريت منك ، أو ادّعي الانتقال إليه بناقل آخر بعد إقراره بأنّه كان له ، فيكون مدّعيا ، لأنّه أسقط يده عن الاعتبار بإقراره الضمني أو الصريح.

الوجه الثاني : هو أنّ المدّعي من لو ترك دعواه ترك. وبيانه أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يدّعي بثبوت دين ، أو عين ، أو حقّ على خصمه. وبعبارة أخرى :

يريد إلزامه بأحد الأمور المذكورة.

والمنكر في مقابله يردّ دعواه وينكر كونه ملزما بأحد هذه الأمور ، فإنكاره - في قبال ادّعاء المدّعي - يكون من قبيل القبول في مقابل الإيجاب ، ورتبته متأخّرة عن الدعوى ويكون متفرّعا عليها ، فكونه منكرا متفرّع على وجود مدّع يدّعي شيئا عليه ، فإذا ترك دعواه فلا مدّعي ولا منكر في البين ، وهذا هو المراد من قولهم « لو ترك ترك » ومن تعريفهم المدّعي بتلك الجملة.

وهذا المعنى للمدّعي موافق لما يفهمه العرف من هذه الكلمة ، لأنّ المدّعي عندهم من يريد إلزام خصمه بثبوت أمر عليه ، فهو المتعرّض لطرفه ، فلو ترك التعرّض ولم يطالب خصمه بشي ء ، لا يتعرّض الخصم له من ناحية هذه المخاصمة.

نعم يمكن أن يكون للخصم دعوى آخر عليه ، فلا يتركه بل يطالبه ، ولكن من جهة ادّعاء آخر من طرف المنكر.

وأمّا باب التداعي ، ففي الحقيقة هناك دعويان ، في إحديهما يكون هذا مدّع والآخر منكر ، وفي الأخرى بالعكس ، أي يكون المدّعي في الدعوى الأولى منكرا في الأخرى ، والمنكر فيها مدّعيا في هذه الدعوى. وفي كلّ واحدة من الدعويين لو ترك

ص: 75

المدّعي دعواه ، يترك من ناحية تلك الدعوى ولا يتعرّض له خصمه من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى مثلا لو كان مال مطروحا على الأرض ووقع عليه التلف ، وكلّ واحد من المتخاصمين لا بدّ له عليه ، ويدّعي أنّه له ، فكلّ واحد منهما ، يدّعي على الآخر إنّك أتلفت مالي ، فلو ترك أحدهما دعواه يترك من ناحية هذه ، ولا يتعرّض له الآخر من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى.

وكذلك لو كان المال في يدهما معا ، فكلّ واحد منهما بالنسبة إلى نصفه مدّع ، وبالنسبة إلى النصف الآخر منكر ، وذلك من جهة أنّ يد كلّ واحد منهما على الكلّ غير تامّة ، لأنّ معنى التماميّة وعدم النقصان في اليد أن يكون له جميع المتصرّفات المباحة ، ومنع جميع الأغيار ، وحيث أنّه مع الشريك ليس له منعه ، فهذه اليد الناقصة على الكلّ تعتبر يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء إن كان الشريك واحدا ، وعلى الثلث إنّ كانا اثنين ، وعلى الربع ، إن كان شركائه ثلاثة ، وهكذا.

فإذا كان المال في يد اثنين مثلا ، فتعتبر يد كلّ واحد منهما على المجموع يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء ، فبالنسبة إلى النصف الذي تحت يد كلّ واحد منهما يكون ذو اليد منكرا ، وبالنسبة إلى النصف الآخر مدّعيا ، فكلّ واحد منهما منكر بالنسبة لما في يده ، ومدّع بالنسبة لما في يد الآخر ، فيدخل في باب التداعي والتحالف ، ولكن كلّ واحد لو ترك المخاصمة بالنسبة لما في يده الآخر يترك من حيث هذه الدعوى ، ولا يتعرّض له الآخر من هذه الجهة ، وإن كان له تعرّض من ناحية النصف الآخر الذي في يده. فلا يرد النقض على هذا التعريف بمسألة التداعي وأن المدّعي فيها لو ترك لا يترك.

الوجه الثالث : هو أنّ المدّعي عبارة عمّن يكون قوله مخالفا للظاهر ، ومقابله المنكر وهو الذي يوافق قوله الظاهر. كما أنّه إذا ادّعى أنّ هذه الدار التي تسكنها هي داري ، أو الزوجة التي تحتك هي زوجتي ، فهذا القول خلاف ظاهر الحال ، فيكون من

ص: 76

يدّعيه مدّعيا ، ومن تكون الدار تحت يده وينكر كونها للمدّعي منكرا ، وكذلك الأمر في مثال الزوجة.

وفيه : أنّ هذا الظاهر الذي يكون قوله مطابقا معه ، إن كان حجّة معتبرة بالفعل - أي : كان أصلا معتبرا ، أو أمارة معتبرة - فيرجع إلى الوجه الأوّل ، أي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، من وجوه تعريف المدّعي وإن كان من الظنون غير المعتبرة.

فكونه موافقا معه لا ينافي مع كونه مدّعيا ، كما أنّه لو ادّعى شخص من الصلحاء وأهل الشرف على ذي اليد المتّهم بالسرقات أنّ هذا الذي تحت يده هو لي وملكي وأنّه سرقه منّي.

ولعلّ من يعرف المدّعي بأنّه عبارة عمّن يدّعي أمرا خفيا ، والمنكر من يقابله - أي : ينكر ثبوت مثل هذا الأمر الخفيّ - مراده من هذا التعريف هو هذا الوجه الثالث : لأنّ الأمر الخفيّ هو ما لا يكون ظاهرا.

ثمَّ إنّ المراد من هذه الكلمة - أي : كلمة الظاهر في قوله : إنّ المدّعي هو من يخالف قوله الظاهر - هل هو الظهور الشخصي أو الظهور النوعي؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّ مرادهم من الظاهر إن كان هي الحجّة المعتبرة ، فالمراد لا محالة يكون هو الظهور النوعي لا الشخصي ، وذلك لأنّ الحجج والأمارات بل مطلق الأدلّة - وإن كانت من الأصول حجّيتها باعتبار ظهورها النوعية ، وليست دائرة مدار الظنّ الشخصي.

وأمّا إن كان المراد منه هو الظهور العرفي - وإن لم يكن حجّة - فقابل لكلا الأمرين ، أي الظهور النوعي والشخصي ، ولكن الظاهر أنّ مرادهم في هذا التعريف هو الظهور العرفي الشخصي.

وعلى كلّ حال هذا التعريف لا يخلو عن الخلل ، لأنّ من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة - كما إذا ادّعى على ذي اليد بما في يده - يكون مدّعيا ولو لم يكن قوله

ص: 77

مخالفا للظاهر.

اللّهمّ إلاّ أنّ يقال : إنّ المراد من الظاهر في التعريف هي الحجّة الفعليّة ، فيرجع إلى الوجه الأوّل من وجوه تعريفه.

الوجه الرابع : هو أنّ المدّعي من يريد إثبات أمر على خصمه ، سواء أكان ذلك الأمر اشتغال ذمّة طرفه وخصمه له ، أو تقريغ ذمّة نفسه عمّا اشتغلت به لخصمه.

فالأوّل كما إذا ادّعى عليه أنّه مديون بكذا ، والثاني كما إذا ادّعي أداء ما كان عليه من دين له؟

وأنت خبير بأنّ هذا التعريف أيضا يرجع إلى بعض المذكورات.

الوجه الخامس : أنّ المرجع في فهم هذه اللفظة هو العرف فهو يعيّن ويشخّص ما هو المراد منها.

وفيه : أنّ هذا الكلام صحيح ولا مناص منه ، لأنّ المرجع في باب مفاهيم الألفاظ هو العرف ، إذ لم يخترع الشارع طريقا خاصا في باب إلقاء الأحكام إلى المكلّفين ، بل طريق الإفادة عنده ما هو الطريق عند العرف في محاوراتهم في مقام الإفادة والاستفادة ، فإذا قال علیه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (1) فلا بدّ في فهم ألفاظ هذا الحديث من المراجعة إلى العرف ، لأنّ الخطابات الشرعيّة في محاوراته على طريقة العرف ، وعلى طبق محاوراتهم.

ولكن جميع التعاريف السابقة والوجوه المذكورة كانت بنظر من ذكرها وعرف المدّعي بها ما هو المتفاهم العرفي من هذه اللفظة ، لا أنّها من جهة اصطلاح جديد من قبل الشارع وأنّه صلی اللّه علیه و آله استعمل هذه اللفظة بذلك الاصطلاح.

الوجه السادس : أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين : إمّا الأصل ، أو

ص: 78


1- تقدم ذكره في ص 71 ، رقم (1).

الظاهر ، وقد عرفت الحال وكذلك المراد من كليهما.

هذه هي جملة الوجوه التي ذكروها في بيان معنى المدّعي والمراد منه.

ولكن الظاهر من لفظة « المدّعي » في مقام الخصومة وفي مقابل المنكر حسب المتفاهم العرفي - الذي هو المناط في باب تعيين مراد المتكلم - هو أن يكون ما يدّعيه ممّا ليس عليه حجّة فعليّة ، إذ لو كان على ما يدّعيه على خصمه من عين أو دين أو حقّ حجّة فعلية ، فيعمل على طبق تلك الحجّة.

وبعبارة أخرى : المدّعي يريد في مقام المخاصمة أن يثبت ما يدّعيه ، ولذلك يطالب بالبيّنة.

وأمّا إذا كان ثابتا لكونه على طبق الحجّة الفعليّة ، فلا معنى لأن يكون في مقام إثبات ما يدّعيه ، لأنّه يكون من قبيل تحصيل الحاصل ، وأيضا لا معنى لأن يطالب بالبيّنة ، فالذي تحت يده مال ويتصرّف فيه كيف ما يشاء ، فبعد الاعتراف بأنّ اليد أمارة الملكيّة ، فمالكيّة ذي اليد لذلك المال الذي تحت يده ثابتة لا تحتاج إلى دليل الإثبات ، فلا معنى لإطلاق المدّعي عليه.

نعم لو ادّعي شخص آخر - الذي ليس له يد على هذا المال - أنّه له ، يطالب بالدليل على ما يدّعيه ، ولا بدّ له في إثبات ما يدّعيه أن يأتي بدليل حاكم على اليد ، وهي البيّنة على ما قرّره الشارع ، وإلاّ لو لم يكن أقوى من اليد بالحكومة أو التخصيص يتعارضان ويتساقطان.

وخلاصة الكلام : أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بيان لوظيفة المتخاصمين ، وعبّر عن أحد المتخاصمين بالمدّعي وعن الآخر بالمنكر ، فجعل البيّنة وظيفة المدّعي واليمين وظيفة المنكر.

وحيث أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يخترع طريقا خاصّا في محاوراته لتبليغ الأحكام ، بل كان صلی اللّه علیه و آله يتكلّم بما هو طريقة العرف ، فلا بدّ في فهم مراده صلی اللّه علیه و آله من الرجوع إلى ما يفهمه العرف

ص: 79

من كلامه صلی اللّه علیه و آله ، إلاّ أن يثبت نقل من المعنى العرفي إلى معنى آخر عند الشارع كي يكون حقيقة شرعيّة ، أو استعمله في ذلك المعنى الآخر مجازا ، وذلك يحتاج إثباته إلى دليل ، وإلاّ فبحسب الطبع الأولى لا بدّ في فهم مراده صلی اللّه علیه و آله من مراجعة العرف.

وقد عرفت أنّ لفظة « المدّعي » حسب المتفاهم العرفي ، هو من يحتاج في إثبات ما يدّعيه إلى مثبت خارجي ، ولا يكون ثابتا في نفسه ، فبناء على هذا يكون الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها لمعنى المدّعي - أي : من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة - هو الصحيح في معناه.

ثمَّ إنّ تقييد الحجّة بالفعليّة من جهة أنّها لو لم تكن فعليّة ، بل كانت محكومة بحجّة الخصم وكانت حجّة الخصم هي الفعليّة ، فموافقة قوله لمثل هذه الحجّة المحكومة لا يخرجه عن كونه مدّعيا. مثلا لو ادّعى فساد المعاملة الواقعة بينهما ، فقوله وإن كان موافقا مع أصالة عدم النقل والانتقال - الذي قيل بأنّه الأصل في باب المعاملات - إلاّ حيث أنّها محكومة بأصالة الصحّة يكون مدّعيا ، لمخالفة قوله للحجّة الفعليّة التي هي أصالة الصحّة ، فيما إذا كان المورد ممّا يجري فيه هذا الأصل.

وبعد ما عرفت من هو المدّعي ، فالمنكر هو مقابل المدّعي ، بمعنى أنّ هذين المفهومين متقابلان ، لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في مخاصمة واحدة من جهة واحدة في زمان واحد ، وذلك من جهة أنّ مفاد قول المدّعي بثبوت أمر - من دين أو عين أو حقّ - على خصمه ، ومفاد قول المنكر نفي ذلك الأمر ، فهما متقابلان نفيا وإثباتا ، فبأيّ معنى من المعاني المذكورة فسّرت المدّعي ، يكون معنى المنكر عدم ذلك المعنى.

مثلا بناء على ما اخترنا من أنّ المدّعي من كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فالمنكر عبارة عمّن لا يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر المعاني المذكورة.

ص: 80

فإذا قلنا بأنّ المدّعي هو من لو ترك ترك ، فالمنكر هو الذي لو ترك لم يترك.

وكذلك إن قلنا بأنّه عبارة عمّن يكون قوله خلاف الظاهر ، فالمنكر من يكون قوله موافقا للظاهر.

وإن قلنا : إنّ المدّعي هو من يكون مفاد قوله إثبات أمر على خصمه ، فالمنكر هو الذي مفاد قوله نفي ذلك الأمر.

وإن قلنا إنّ المرجع في تعيين المراد من المدّعي والمنكر هو العرف ، فالعرف يرى المنكر من ينفي ما يدّعيه المدّعي.

وإن قلنا : إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين ، أي الظاهر أو الأصل ، فالمنكر من لا يخالف قوله أحدهما.

وإذا ظهر لك معنى المدّعي والمنكر والبيّنة واليمين ، فلا يبقى إجمال في المراد من هذه القاعدة وفي مضمون الحديث الشريف.

نعم ينبغي التكلم عن أمور

الأوّل : فيما إذا شكّ في تشخيص المدّعي عن المنكر لأجل عدم إحراز كون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة أو موافقا لها - سواء أكان منشأ الشكّ هو الشكّ في حجّية ما هو مخالف له يقينا ، أو كان الشكّ في مخالفته له مع حجّيته يقينا - فهل يمكن التمسك لإثبات ما يدّعيه بالبيّنة أم لا؟

فيه إشكال لا من جهة الشكّ في عموم حجّية البيّنة - وذلك لما أثبتنا عموم حجّيتها في جميع الموضوعات - بل من جهة أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) خصّص ميزانيّة البيّنة في مقام القضاء بالمدّعي ، فإذا شكّ في كونه

ص: 81


1- تقدم ذكره في ص 71.

مدّعيا يشكّ في تأثير البيّنة في حقّه ، فلا يصحّ ولا يجوز الحكم له مستندا إلى قيام البيّنة على ما يدّعيه ، لعدم إحراز ميزانيتها للحكم لمثل هذا الشخص.

نعم لو طلب منه الخصم أن يحلف فحلف ، وجب الحكم له مع طلبه من الحاكم ، للعلم إجمالا بوجود الميزان ، إمّا البيّنة لو كان هو المدّعي واقعا ، وإمّا الحلف لو كان هو المنكر بحسب الواقع ، والواقع لا يخلو منهما ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

نعم لو انفرد كلّ واحد منهما بأحد الأمرين - أي البيّنة والحلف - فلا يجوز الحكم له ، لعدم إحراز وجود الميزان في حقّه ، كما أنّه لو اجتمع الاثنان - أي الحلف والبيّنة - لأيّ واحد من المتخاصمين في المفروض جاز أو وجب الحكم له ، للعلم الإجمالي المذكور بوجود الميزان في حقّه.

ولكن أنت خبير بأنّ الشكّ في كونه مدّعيا إذا كان منشأه الشبهة الحكميّة - أي الشكّ في حجّية ما هو قوله مخالف له يقينا - فبأصالة عدم حجّية ذلك المشكوك الحجّية يثبت عدم حجّيته ، فيثبت عدم كونه مدّعيا ، فلا يكون وظيفته البيّنة قطعا.

وأمّا إذا كان منشأه الشبهة المصداقيّة - أي كانت حجّيته معلومة ، ولكن الشكّ في مخالفة قوله لذلك المعلوم الحجّية - فحيث أنّ أصالة عدم المخالفة لا تجري ، لأنّ عدم المخالفة عدم نعتي ليس له حالة سابقة بناء على ما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (1) فلا يمكن إحراز أنّه ليس بمدّع وإن قلنا بأنّ المدّعي موضوع مركّب من قول يكون مفاده إثبات أمر على طرفه ، ومن مخالفة ذلك القول للحجّة الفعليّة ، فيكون الأمر في هذه الصورة كما ذكرنا من عدم جواز الحكم بالبيّنة فقط ، أو الحلف وحده.

وأمّا توهّم أنّ عموم « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه » (2) بضميمة عموم حجّية البيّنة بالنسبة إلى كلّ

ص: 82


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 497.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ح 514. باب من إليه الحكم وأقسام القضاة ، ح 6 ، وص 301 ، ح 845 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 52 ، « الاحتجاج » ص 355 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 98 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

موضوع - يشمل المقام - لأنّه بعد قيام البيّنة يكون ما حكم على طبق البيّنة حكمهم علیهم السلام بحسب الظاهر.

ففيه : أنّه بعد الفراغ عن أنّ مطلق الحجّة ليس ميزانا للقضاء ، بل الميزان في باب القضاء هي البيّنة والأيمان ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1) وقطعه صلی اللّه علیه و آله الشركة بالتفصيل بقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2) فالحكم على طبق البيّنة يكون حكمهم علیهم السلام إن كان قيامها على ما يدّعيه المدّعي.

وكذلك الحكم على طبق الحلف إن كان صدر الحلف من المنكر ، فلا بدّ من إحراز المدّعي والمنكر ، وإلاّ يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لم يقل به أحد ولا ينبغي أن يقال به.

الثاني : أنّه يعتبر في سماع الدعوى عن المدّعي أمور.

وقبل بيان هذه الأمور يجب أن نبيّن أنّ حقيقة الدعوى والمخاصمة لا يتحقّق إلاّ بأن تكون على نحو يوجب إلزام الخصم - على تقدير ثبوت ما يدّعيه في الواقع أو بالحجّة - بالخروج عن عهدة ما ثبت عليه ، سواء أكان ذلك الأمر الثابت عليه عينا أو دينا أو حقّا.

وبعبارة أخرى : تكون الدعوى ملزمة على الخصم أمرا حتّى يستحقّ المطالبة عنه ، ولذلك قالوا : لو ادّعي أنّه وهبني الشي ء الفلاني مع اعترافه بعدم قبضه ، فمثل هذه الدعوى لا تسمع ، لأنّها ليست بملزمة على الخصم شيئا ، لأنّ إنكاره يعدّ رجوعا وإن كان المدّعي صادقا في دعواه.

ص: 83


1- تقدّم ذكره في ص 72 ، رقم (4).
2- تقدّم ذكره في ص 71 ، رقم (1).

وكذلك الأمر في كلّ ما يشترط صحّته بالقبض والإقباض ، كبيع الصرف والسلم ، ففي جميع هذه الموارد وما يشبهها لا تسمع الدعوى ، لأنّه على تقدير ثبوت ما يدّعيه واقعا ، أو في مقام الظاهر بحسب الدليل والحجة ، لا يكون من قبل دعواه إلزام على الخصم ، ولا يستحقّ مطالبة شي ء عنه ، فيكون سماع مثل هذه الدعوى ومطالبة البيّنة عن المدّعي لغوا وبلا فائدة.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ جملة من هذه الأمور التي سنذكر اعتبارها في سماع الدعوى مبنيّ على هذا الأساس.

فمنها : كونه واجدا لشرائط التكليف ، مثل البلوغ والعقل ، وقد ادّعى بعضهم عليه الإجماع ، ونفى الخلاف بعض آخر ، فلا تسمع دعوى المجنون ولا الصبيّ وإن كان مراهقا مميّزا وبلغ من العقل والعلم ما بلغ ، لوجوه :

الأوّل : الأدلّة الدالّة على عدم اعتبار كلامه وأنّه مسلوب العبارة ، وللأدلّة الدالّة على رفع القلم عنه وعدم جواز أمره.

وفيه : أنّ المراد من تلك الأدلّة عدم الاعتبار بكلامه ، وعدم جواز أمره في المعاملات مستقلاّ ، وعدم نفوذ تصرّفاته في أمواله فيما إذا لم تكن بإذن الولي ، لما ورد من قبول قوله وترتيب الأثر في بعض المقامات والموارد ، كباب الوصيّة إذا بلغ عشرا ، ولما اخترناه من شرعيّة عباداته.

وأمّا أدلّة رفع القلم ، قلنا في محلّه إنّ المراد قلم الإلزام ، أي الوجوب والحرمة ، وهذا من جهة الإرفاق به.

وأمّا ادّعاء الإجماع ، فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى ، فلذهاب جماعة إلى سماع دعوى الصبيّ المميّز المراهق في غير الماليّات ، كما إذا ادّعى جناية عليه ، أو أخذ شي ء منه قهرا وبالقوّة وله شهود على ذلك.

ص: 84

وأمّا الكبرى ، فلأنّ المظنون - بل المقطوع - أنّ مدرك المتّفقين على فرض وجود الاتّفاق وتحقّقه هو ما ذكرنا من أدلّة رفع القلم وعدم جواز أمره وغير ذلك ممّا تقدّم ، فليس من الإجماع المصطلح.

الثاني : أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى - من وجوب السماع وقبول البيّنة والإقرار وسقوطها ، أي الدعوى بحلف المنكر وغير ذلك - على دعواه.

وفيه : أنّ عموم « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » واف بلزوم ترتيب تلك الآثار.

الثالث : عدم سلطنة الصبي على المطالبة بذلك الشي ء الذي يدّعي ثبوته على الطرف ، فلا يمكن أن يكون له السلطنة على إلزام الطرف بأمر الذي من شؤونه السلطنة على مطالبته بذلك الأمر ، وإلاّ يلزم انفكاك اللازم عن الملزوم.

بيانه : أنّ حقيقة الدعوى المسموعة هي أن يكون المدّعي له السلطنة على إلزام خصمه بثبوت أمر ، من عين أو مال أو حقّ عليه ، وإن كان بتوسّط إقامة البيّنة على ذلك الأمر ، ولازم هذه السلطنة هو أن يكون له السلطنة على مطالبة ذلك الأمر ، فإذا جاء الدليل على نفي الأخيرة عن الصبي لصغره وعدم بلوغه إلى مرتبة الكمال ، فلازم نفي اللازم نفي الملزوم بالدلالة الالتزامية. هذا ما أفاده أستاذنا المحقق قدس سره في هذا المقام.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين سلطنته على إلزام الخصم وإثبات أمر عليه ، وسلطنة نفسه على مطالبة ذلك الأمر ، بل تكون سلطنة المطالبة بذلك الأمر لوليّه ، وذلك كما أنّه لو اشترى الولي شيئا يصير ملكا له ، ومن شؤون الملكيّة سلطنة المالك على ملكه بأنّ له أنحاء التصرّفات المشروعة ، ولكن بالنسبة إلى الصبي ليس له هذه التصرّفات مباشرة ، بل تكون هذه السلطنة لوليّه.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن إجماع الكلّ واتّفاقهم في البين ، لكان مقتضى القواعد الأوّلية سماع قوله ، خصوصا في غير الماليات ، كادّعائه جناية عليه إذا كان مراهقا ً

ص: 85

ذكيّا فطنا عاقلا عالما. وأمّا حديث انصراف الأدلّة - مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » - عن الصبيّ وإن كان مراهقا ، فدعوى بلا بيّنة ولا برهان.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه على خصمه لنفسه ، أو لموكله ، أو لمن له الولاية عليه بأحد أنحاء الولايات. وأمّا لو لم يكن لما يدّعيه تعلّق به أصلا وكان أجنبيّا عنه ، فلا يصدق عليه المدّعي في مقابل المنكر وفي مقام المخاصمة ، وإن كان يطلق عليه المدّعي بالمعنى الأعمّ ، لأنّه بذلك المعنى الأعمّ يصدق على كلّ من ادّعى أمرا حتّى على المنكر ، لأنّه أيضا يدّعي عدم ثبوت حقّ عليه من جانب المدّعي ، وذلك من جهة أنّ المدّعي في مقام المخاصمة يطالب الطرف بأمر يدّعي ثبوته عليه ، فلا يصدق بهذا المعنى على من هو أجنبيّ عن ذلك الأمر ، وليس له أن يطالب الطرف به ، وإن كان بعد ثبوته بالبيّنة.

نعم لا بأس بأن يقال بسماع دعوى من له حقّ التصدّي في الحسبيات ، إذا كان ذلك الحقّ الذي يدّعيه راجعا إلى من له حقّ التصدّي في أموره وشؤونه ، وذلك كأموال الغيّب والقصر أو حقوقهم.

فإذا كان لأحد هؤلاء عين أو دين أو حقّ على شخص آخر ، فيكون لمن يجوز له التصدّي في أمورهم أن يدّعي على ذلك الشخص ، ويثبت عليه ذلك الأمر بالبيّنة ، ثمَّ يطالبه بما ثبت عليه حسبة. وأمّا من هو أجنبيّ محض عما يدّعيه ، فليس له أن يدّعي ، وإن ادّعى تكون دعواه لغوا لا يترتّب على قوله أثر من الآثار ، من وجوب إحضار المدّعي عليه ، ووجوب الحلف ، أو الردّ إن لم يكن للمدّعي بيّنة وطلب الحلف من خصمه.

نعم لو أقام بيّنة في المفروض يجب ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه البيّنة ، ولكن من جهة عموم حجّية البيّنة لا من جهة فصل الخصومة.

ص: 86

و منها : أن يكون ما يدّعيه ممّا يصحّ تملّكه شرعا ، فلا تسمع دعوى من يدّعي على خصمه كذا مقدار من الخمر ، أو عدد كذا من الخنزير ، ولو كانت الدعوى على كافر ، ولكن هذا فيما إذا كان محطّ الدعوى هي ملكيّة أحدهما ، وأمّا لو كان محطّ الدعوى هو حقّ الاختصاص للانتفاعات المحلّلة المباحة - مثلا الخمر الذي في يد كافر أو مسلم يدّعي أنّ له حقّ الاختصاص به لأن يخلّله أو ينتفع به منفعة محلّلة أخرى - فلا وجه لعدم سماع مثل هذه الدعوى.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة ، وجائزا شرعا. فلو ادّعى أنّه سرق هذا منّي قبل أربعين سنة الشي ء الفلاني ، وعمره أقلّ من عشرين سنة مثلا ، أو ادّعى أنّه مديون لي بمبلغ فلان واستقرض منّي ، والمبلغ كثير والمدّعي فقير بحيث أنّه غير ممكن عادة إقراض هذا المبلغ الكثير ، أو يدّعي عليه مبلغا من باب الربا أو القمار ممّا لا يجوز شرعا ولا يمكن أن يكون مديونا شرعا من تلك الجهة ، ففي جميع هذه الموارد وما يماثلها لا تسمع الدعوى ، لأنّ حقيقة الدعوى عبارة عن ادّعاء ثبوت أمر - من مال أو حقّ - على من هو خصمه ، وفي هذه الموارد يكون مثل هذه الدعوى باطلا ، لعدم إمكان ثبوته إمّا عقلا أو عادة أو شرعا.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر ، وأمّا لو كان مجهولا من هذه الجهة فلا فائدة ولا ثمرة لمثل هده الدعوى.

فلو ادّعي أنّ لي عليه مالا أو ثوبا أو فرسا فلا تسمع ، وعلّلوا عدم سماع الدعوى بأنّه لو اعترف المدّعي عليه لا يثبت عليه شيئا ، لأنّ المجهول لا يثبت بما هو مجهول ، لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّه لو اعترف المدّعي عليه بذلك المجهول ، أو أقام البيّنة عليه يلزم بالتفسير والتعيين نوعا ووصفا وقدرا ، كما أنّه لو أقرّ ابتداء من دون سبق دعوى بالتفسير ، فإن قبل المقرّ له فهو ، وإلاّ يحلف المقرّ على نفي الزائد ، فليكن الأمر فيما نحن فيه أيضا

ص: 87

كذلك ، فإن أقرّ المدّعي عليه به يكون الأمر كما ذكرنا ، وإلاّ فيلزم المدّعي بالتفسير ، فإن فسّر يعمل معه ومع المدّعي عليه بقانون القضاء ، ويطبق عليه ضوابط وموازين باب المدّعي والمنكر ، وإن لم يفسّر فإن أنكر المدّعي عليه يحلف إن لم يقم البيّنة على ذلك المجهول وطلب الحلف منه ، وإن أقرّ يلزم بالتفسير ويكون الأمر كما تقدّم في الإقرار الابتدائي.

وعلى كلّ حال لا وجه لعدم سماع هذه الدعوى مع بنائهم على نفوذ الإقرار بالمجهول والوصيّة به.

نعم لو ادّعي ما يكون مجهولا مطلقا ، مردّدا بين ما له قيمة وما ليس له قيمة - كما إذا قال : لي عليه شي ء - يمكن أن يقال بعدم سماع هذه الدعوى.

والفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى لو أقرّ المدّعي بما ادّعاه يثبت عليه شي ء ، وهو القدر المتيقّن ممّا ادعاه ، وفي الصورة الثانية ليس قدر متيقّن ماليّ في البين ، لأنّه من الممكن بل المحتمل أن لا يكون ذلك المردد مالا ، فلا يثبت عليه شي ء ولو أقرّ به أو أقيمت البيّنة عليه.

هذا ، مع أنّه يلزم في باب الدعوى أن يكون ملزما على المدّعى عليه شيئا لو أقرّ به ، أو أقيمت البيّنة على ما يدّعيه.

ومنها : ما قيل بأنّ من شرائط قبول دعوى المدّعي أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدّعي عينا أو مالا أو حقّا على المدّعى عليه ، فلا تسمع دعواه إن قال : إنّ هذا التمر من نخلي ، أو هذا العجل من بقرتي ، أو هذا الغزل من صوفي وأمثال ذلك ؛ لأنّه لا منافاة بين كون المذكورات كما قال وعدم كونها له ، إذ من الممكن انتقالها إليه بناقل شرعي ، فأمثال هذه الدعاوي لا تدلّ على استحقاق المدّعي شيئا ، حتّى ولو أقرّ المدعى عليه بما ادّعاه المدّعي ، أو أقام المدّعي بيّنة على ما ادّعاه.

وأمّا حديث تبعيّة الفرع للأصل في الملكيّة - بمعنى أنّه لو أقرّ بأنّ هذا العجل من

ص: 88

بقرة فلان ، أو هذا التمر من نخلة فلان ، فلازم هذا الإقرار إقراره بأنّ العجل لصاحب البقرة ، والتمر لصاحب النخلة - فلا أساس له في مقابل اليد التي هي أمارة الملكيّة.

وأمّا الفرق بين أن يقرّ بأنّ هذا الغزل من قطنك أو هذا الدقيق من حنطتك ، وبين أن يقرّ بأنّ هذا العجل من بقرتك أو هذا الغلام من أمتك بأنّه في الصورة الأولى إقرار بأنّ هذا الغزل لصاحب القطن وأنّ هذا الدقيق لصاحب الحنطة ، بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه ليس إقرارا بأنّ العجل لصاحب البقرة والغلام لصاحب الأمة ، وذلك لأنّ الدقيق والغزل عين الحنطة والقطن ، بخلاف العجل فإنّه ليس عين البقرة وكذلك الغلام ليس عين الأمة.

فلا يخلو من تأمّل وإشكال ، وذلك لأنّه وإن كان الدقيق عين الحنطة ، والغزل عين القطن خارجا ، بخلاف العجل والغلام إلاّ أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثّر في المقام ، إذ المقرّ مأخوذ بظاهر كلامه ، وصرف الاحتمال على خلاف ما هو ظاهر الكلام لا يضرّ بحجّية ظهوره في كونه كاشفا عن مراده ، فلا بدّ وأن ينظر إلى ظاهر هذه الدعاوي ، وهل لها ظهور في استحقاق المدّعي شيئا على المدّعى عليه أم لا؟

فنقول : أمّا الصورة الثانية ، أي ما كان لهما وجودان وملكيّة أحدهما لا يلازم ملكيّة الآخر ، بل يمكن أن يكون الأصل له دون الفرع ، وكذلك العكس ، فقوله هذا الغلام متولّد من جاريتي ، أو هذا العجل من بقرتي ، ظاهر في أنّ الأصل له في حال إنشاء الدعوى ، ولا ظهور لهذا الكلام أنّ الفرع أيضا له ، إلاّ أن ينضم إلى قوله : ولم ينتقل الفرع إلى غيري بناقل شرعي مطلقا وهو لي.

ومنها : ما قيل : إنّ من شرائط سماع دعوى المدّعي أن يكون له خصم في مقابله ، ينازعه ويخاصمه وينكر ما يدّعيه ، وإلاّ لو لم يكن له خصم في البين ويريد إصدار الحكم فعلا ليقطع النزاع المحتمل فيما سيأتي - لأنّه لو وقع النزاع فيما بعد ربما لا يتمكّن من إثبات دعواه في ذلك الزمان ، لفقد البيّنة الموجودة عنده الآن في ذلك الوقت ، أو

ص: 89

لجهة أخرى - فلا تسمع.

وأمّا تمسّك القائل بهذا الشرط ولزوم وجود الخصم حين سماع الدعوى بأنّ أدلّة القضاء والحكم وكذلك تعيين الوظيفة لكل واحد من المدّعي والمنكر ، كلّ ذلك في مورد المخاصمة ووقوع النزاع ، ولقطع النزاع والمخاصمة بين الطرفين ، فإن لم يكن نزاع ومخاصمة لا يبقى مورد لسماع دعوى المدّعي والحكم له على طبق بيّنته ، لأنّ هذه الأمور شرعت لدفع المخاصمة وقطع النزاع.

وفيه : أنّه بعد الفراغ عن عموم حجّية البيّنة وجعل المجتهد العادل المتّصف بكذا وكذا حاكما ، وعدم تقييد حكومته بمورد المخاصمة وقطع النزاع وإن كان ذلك حكمة جعله ، فالبيّنة أمارة شرعيّة بالنسبة إلى ما يدّعيه المدّعي ، وكذلك الحكم. فيثبت ما حكم به الحاكم حتّى في الأزمنة المتأخّرة.

نعم لا يجب على الحاكم سماع مثل تلك الدعوى ، والحكم بتلك البيّنة ، لأنّ وجوبها في موارد المخاصمة كما قال.

ومنها : أنّه يشترط في وجوب سماع دعوى المدّعي كون دعواه عن بت وجزم ، فلو كان ادّعاءه بصرف الاحتمال وهما أو شكا بل ولو ظنا لا يقبل ، وحكى في الجواهر عن الكفاية نسبة القول - باشتراط وجوب سماع الدعوى بهذا الشرط - إلى الشهرة (1) ،

وقيل في وجهه وجوه :

الأوّل : عدم صدق المدّعي عرفا على من لم تكن دعواه عن بتّ وجزم ، وذلك لما ذكرنا في تعريف المدّعي بأنّه من يدّعي ثبوت أمر على خصمه ، ومعلوم أنّ ادّعاء الثبوت غير احتمال الثبوت وإن كان الاحتمال ظنيّا.

الثاني : أنّه لو ادّعى وهما أو شكّا أو ظنّا ، وقلنا بوجوب السماع ، فيجب الحكم

ص: 90


1- « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 153 ، « كفاية الأحكام » ص 266.

بنكول المنكر عليه أو مع يمين المدّعي ، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك. أمّا بناء على وجوب الحكم على المنكر بصرف نكوله وعدم حلفه ، فمن جهة أنّ المدّعي يشكّ في استحقاقه على الفرض ، فلا يجوز له الأخذ بعد الحكم ، فيكون الحكم لغوا ، فيكون السماع لا فائدة فيه بل لا معنى له.

وأمّا بناء على أنّ الحكم بثبوت الحقّ على المنكر بعد عدم البيّنة ونكوله عن الحلف متوقّف على يمين المدّعي ، ففيه مضافا إلى عدم جواز الأخذ عدم جواز حلفه ، لأنه لا حلف إلاّ عن بتّ ، ففي كلا الشقّين يكون الحكم لغوا.

الثالث : أنّه في الدعاوي الصحيحة المنكر ، له الخيار بين أن يحلف أو يردّ إلى المدّعي ، وفي المقام لا يمكن الردّ ، لعدم علم المدّعي بثبوت الحقّ ، فلا يجوز له أن يحلف فلا وجه للردّ. والعمدة فيما ذهب إليه المشهور - من اشتراط سماع الدعوى إلى كونها عن بتّ وجزم - هو الوجه الأوّل ، أي عدم كونه مدّعيا عرفا إلاّ مع الجزم في دعواه ، وإلاّ فبصرف أن يقول : احتمل أن يكون فلان مديون لي بكذا - أو احتمل أن يكون عين مالي الفلاني عنده - لا يصدق عند العرف أنّه مدّع وطرفه منكرا ، ويكون مدّعى عليه.

وأمّا الوجه الثاني والثالث فضعفهما واضح ، إذ عدم إمكان ترتّب بعض آثار الدعاوي الصحيحة على الدعوى غير الجزمي لا يوجب عدم سماعها ، وعدم ترتيب الآثار الممكنة.

وأمّا التفاصيل المنقولة في هذه المسألة عن جماعة من الأساطين قدس سرّهم من وجوب السماع في مورد التهمة دون غيره ، أو في صورة الظنّ دون الوهم والشكّ ، أو السماع فيما يعسر الاطّلاع عليه دون غيره ، أو السماع في صورة احتمال صدور الإقرار من الطرف ، أو وجود البيّنة للمدّعي دون غيرها ، فكلّها ممّا لا وجه لها ، وما ذكروها في وجه هذه التفاصيل لا يمكن الركون إليها.

ص: 91

نعم ذكر صاحب الجواهر قدس سره (1) في وجه التفصيل بين مورد التهمة وبين غيره - أي فيما إذا اتّهم المدّعي المنكر - أخبارا مؤيّدا لما ذهب إليه من الإحالة إلى العرف في وجوب السماع ، بمعنى أنّ العرف هل يرون مثل هذه الدعوى من الدعاوي المقبولة عندهم ، أم لا يعتنون بها؟

وهذه الأخبار هي خبر بكر بن حبيب ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه ، قال علیه السلام : « إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي ء » (2).

وأيضا خبره الآخر عنه علیه السلام : « لا يضمن القصّار إلاّ ما جنت يده وإن اتّهمته أحلفته » (3).

وخبر أبي بصير عنه علیه السلام أيضا : « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين ، فيخوف بالبيّنة ويستحلف ، لعلّه يستخرج منه شيئا » (4).

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأخبار مفادها استحلاف المدّعي ، لا المنكر الذي هو محلّ كلامنا. وإن شئت قلت : يد القصار والحائك والصائغ يد أمانة ، والتلف عندهم لا يوجب الضمان إلاّ إذا اتّهمهم بالإتلاف أو بالتعدّي والتفريط في حفظه فله أن يستحلفهم ، وهذا المعنى أجنبي عن محلّ كلامنا الذي هو عبارة عن إحلاف المنكر مع

ص: 92


1- « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 154.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 221 ، ح 966 ، باب الإجارات ، ح 48 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 275 ، أبواب كتاب الإجارة ، باب 29 ، ح 16.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 221 ، ح 967 ، باب الإجارات ، ح 49 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 133 ، ح 481 ، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه. ، ح 12. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 275 ، أبواب كتاب الإجارة ، باب 29 ، ح 17.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 218 ، ح 951 ، أبواب كتاب الإجارات ، ح 33 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 257 ، ح 3928 ، باب ضمان من حمل شيئا. ، « وسائل الشيعة » ج 13. ص 274 ، أبواب كتاب الإجارات ، باب 29 ، ح 11.

كون الدعوى غير جزميّة وعدم البيّنة لذلك المدّعي.

وأمّا ما اختاره صاحب الجواهر قدس سره خلافا للمشهور في هذه المسألة من إحالته إلى العرف وأنّهم إذا رأوها من الدعاوي المقبولة تقبل ويجب سماعها.

ففيه : أنّه بعد ما حكم الشارع بأنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، ففي تشخيص المدّعي والمنكر المرجع هو العرف.

وبعد ما عرفنا أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يخبر جزما بثبوت أمر له على خصمه وطرفه ، فإن لم يكن إخباره عن بتّ وجزم ، بل قال : احتمل أن يكون لي علىّ فلان كذا ، فلا يكون مشمولا لقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ».ففي مثل هذه الصورة قول العرف - بأنّها من الدعاوي المقبولة - لا أثر له ، ولا يوجب وجود موضوع وظيفة البيّنة واليمين.

وأمّا ما أفاده أستاذنا المحقّق قدس سره في كتاب قضائه من سماع الدعوى الاحتمالي إذا قام أمارة على تهمة المدّعى عليه ، إذ العرف يسمعون مثلها ، وبناؤهم متّبع ما لم يردعهم الشارع ولم يثبت ذلك ، بل ثبت خلافه ، لخبري حبيب بن بكر ، وخبر أبي بصير الذين تقدّما.

ففيه : أنّ بناء العرف على سماع الدعوى غير الجزمي في مورد اتّهام المدّعى عليه ليس متّبعا شرعا إن لم ينطبق عليها موازين القضاء ، وقد عرفت عدم انطباقها عليها.

وأمّا إمضاء الشارع لبنائهم بتلك الأخبار ، فقد عرفت أنّها أجنبيّة عن مقامنا ، إذ أنّها تدلّ على استحلاف مدّعي التلف مع اتّهامه ، ولا ربط لها باتّهام المدّعى عليه الذي هو محلّ الكلام.

ومنها : تعيين المدّعى عليه ، فلو قال : أحد هذين ، أو أحد هؤلاء الأشخاص مديون لي بكذا ، لا تسمع ، لأنّه لا أثر لهذه الدعوى لو قامت البيّنة ، أو أقرّا بما ادّعى عليهما بنحو الترديد ، إذ ثبوت الحقّ عليهما بنحو الترديد لا يمنع عن البراءة في حقّ كلّ

ص: 93

واحد منهما ، لشكّ كلّ واحد منهما في اشتغال ذمّته.

ولا يقاس بما إذا علم أو أقام الدليل المعتبر على كونه مديونا لأحد شخصين أو لأحد الأشخاص ، لأنّه هناك يعلم باشتغال ذمّته ، فيجب عليه بحكم العقل تفريغ ذمّته بالجمع بين المحتملات ، ولكن حيث أنّه ضرر فإمّا أن يقرع أو يقسّم بينهما ثنائيا إن كانا اثنين ، وثلاثيا إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بقاعدة العدل والإنصاف التي هي قاعدة معتبرة عند العقلاء.

وأمّا فيما نحن فيه فليس إلاّ الشكّ في اشتغال الذمّة بالنسبة إلى كلّ واحد منهما ، ومعلوم أنّه مجرى البراءة.

وأمّا ما يقال من أنّ إجراءهما يكون ضررا على ذلك الشخص الذي يكون له الحقّ على أحدهما المردّد ، فلا بدّ من أن يقرع بينهما أو يقسّم ، كما قلنا فيما إذا يعلم باشتغال ذمّته لأحدهما.

ففيه : أنّه كلّ واحد منهما يجري البراءة مستقلاّ ، وليست براءته وتكليفه مربوطا بتكليف الآخر وبراءته ، ولا يلزم من إجراء برأيه كلّ واحد منهما العلم بضرر ذلك الشخص.

نعم يحتمل ذلك ، ولكن هذا المعنى - أي : احتمال ضرر الغير من إجراء البراءة في الماليّات والحقوق - موجود في جميع موارد الشبهة البدويّة ، ولم يحتمل أحد عدم جريان البراءة في الحقوق والماليّات في الشبهات البدويّة لأجل هذا الاحتمال.

والإنصاف أنّ هذه الدعوى مرجعها إلى دعويين احتماليتين ، كلّ واحدة منهما متّجهة إلى أحدهما ، وقد عرفت الحال في الدعوى غير الجزمي ، أي الاحتمالية.

ومنها : أنّه لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه ، بل تسمع وإن كان غائبا ، بأن يكون في خارج البلد ، أو كان مسافرا على المشهور وادّعى بعضهم عليه الإجماع ، وتدلّ عليه أخبار :

ص: 94

منها : مرسل جميل : « الغائب يقضى عليه إذا أقامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلاّ بكفلاء » (1).

ومثله خبر محمّد بن مسلم و *** زاد : « إذا لم يكن مليّا » (2)

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله لهند زوجة أبي سفيان بعد ما ادّعت أنّ أبا سفيان رجل شحيح وأنّه لا يعطيها ما يكفيها وولدها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (3).

ومنها : خبر أبي موسى الأشعري : كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا حضر عند خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الآخر ، قضى للذي وفى على الذي لم يف ، اي : مع البيّنة (4).

ومقتضى الأصل الأولى وإن كان عدم نفوذ الحكم فيما شكّ في نفوذه ، سواء أكان منشأ الشكّ من ناحية المدّعي لفقد ما يحتمل اعتباره فيه وجودا أو عدما ، أو من ناحية المنكر لما ذكر ، أو من ناحية ما يدّعيه المدّعي.

ولكن مقتضى إطلاق قوله علیه السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو يعلم » (5) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (6) هو نفوذ الحكم إذا صدق عليهما عرفا المدّعي والمنكر ، وكان الحكم حقّا ومما أنزل اللّه ، فالعمدة في نفوذ الحكم هو صدق

ص: 95


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 296 ، ح 827 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 34 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 216 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 26 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 191 ، ح 413 ، باب الديون وأحكامها ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 216 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 26 ، ح 1.
3- « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 549 ، كتاب الأقضية ، باب 4 ، ح 7 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 769 ، ح 2293 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 403 ، ح 59.
4- « الفقيه » ج 3 ، ص 4 ، ح 3221 ، باب أصناف القضاة.
5- « الكافي » ج 7 ، ص 407 ، باب أصناف القضاة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 53 ، باب من اليه الحكم وأقسام القضاة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 11 ، أبواب صفات القاضي ، باب 4 ، ح 6.
6- تقدّم تخريجه في ص 71.

المدّعي والمنكر على المتخاصمين عرفا ، وأن يكون الحاكم - أي المجتهد الجامع للشرائط - حكم بحكمهم علیهم السلام إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على اعتبار أمر آخر ، من حضور المدّعى عليه في مجلس الحكم وعدم غيابه ، أو السؤال عنه بعد إقامة المدّعي للبيّنة ، وأمثال ذلك.

وفيما نحن فيه - أي جواز الحكم على الغائب - لا دليل على اعتبار الحضور ، بل ظاهر الأخبار المتقدّمة صحّة الحكم ونفوذه على الغائب. ولا ينافي النفوذ قوله علیه السلام في ذيل مرسل جميل ، وخبر محمّد بن مسلم : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » (1) لأنّ المراد من النفوذ هو لزوم العمل على طبقه ما لم ينهدم بحجّة أخرى ، كما لو أقام بيّنة على أداء دينه أو على انتقاله إليه بناقل شرعي مثلا.

نعم يبقى الكلام في أنّ مفاد هذه الأخبار هل هو جواز الحكم على الغائب مطلقا بصرف غيابه عن مجلس الحكم ، ولو كان في البلد وكان متمكّنا عن الحضور ، امتنع أو لم يمتنع ، أو في خصوص ما إذا امتنع عن الحضور؟ أو في خصوص الغائب الذي لم يتمكّن من الحضور؟ أو في خصوص الغائب عن البلد ، سواء أكان مسافرا بالسفر الشرعي أو لم يكن كذلك؟ أو في خصوص ما إذا كان مسافرا شرعا ، سواء أكان متمكّنا من الحضور أو لم يكن؟ أو في خصوص ما إذا لم يتمكن؟ بمعنى أنّه يكون مسافرا ولا يكون متمكّنا من الحضور ، وفي جميع هذه الشقوق هل جواز الحكم فيما قلنا بجوازه مقيّد بإعلامه وامتناعه عن الحضور أو مطلقا؟ احتمالات بل أقوال.

القدر المتيقّن من جواز الحكم عليه ونفوذه ، هو عدم حضوره بعد إعلامه وتمكّنه من الحضور مع كونه في البلد ، أو كان مسافرا وأعلم لكن كان غير متمكّن من الحضور. وظاهر خبر محمّد بن مسلم ومرسل جميل هو أن يكون الغائب الذي يقضى عليه مسافرا ، لقوله علیه السلام : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » لكنّهما مطلقان من

ص: 96


1- تقدّم تخريجه في ص 95 ، رقم ( 1 و 2 ).

جهات أخر ، أي من حيث التمكّن من الحضور وعدمه ، ومن حيث الإعلام وعدمه ، ومن حيث كونه مسافرا شرعيّا ، أو ولم يكن بالغا مسافرته إلى حدّ المسافة الشرعيّة.

وأمّا في قضيّة هند زوجة أبي سفيان ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « خذي ما يكفيك وولدك » فالظاهر أنه صلی اللّه علیه و آله كان في مقام بيان الحكم الشرعي ، وأنّه يجوز لها الأخذ بقدر كفايتها وكفاية ولدها ، لا في مقام الحكم بين المتخاصمين.

وأمّا خبر أبي موسى الأشعري ، فظاهرها الحكم على الممتنع المتخلّف عن موعده ، لا أن يكون غائبا عن البلد.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه الأخبار جواز الحكم إمّا على المسافر الخارج عن البلد ، أو على الممتنع عن الحضور المتخلّف عن موعده.

وأمّا الاستدلال على جواز الحكم على الغائب بأنّه عدم الجواز مع قيام البيّنة ربما يوجب الضرر الكثير على المدّعي ، فهذا وأمثاله من الاستحسانيّات لا يمكن أن يكون مدركا ولا ملاكا للحكم الشرعي ، لأنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول ، فالعمدة هي الروايات وقد عرفت حالها ومفادها وأنّه يجوز الحكم على الغائب في موردين ، الممتنع المتمكّن ولو كان في البلد ، والمسافر مطلقا.

نعم يظهر من مرسل جميل وخبر محمّد بن مسلم أنّ المال الذي يؤخذ من الغائب لا يعطى للمدعي إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّا ، وذلك من جهة أنّه من الممكن أنّه بعد قدومه يثبت بالبيّنة أو بأمارة أخرى عدم اشتغال ذمّته بشي ء ، فإذا لم يكن مليّا فربما يضيع ماله.

ثمَّ إنّه قد يستدلّ لعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا برواية أبي البختري : « لا يقضي على غائب » (1).

ص: 97


1- « قرب الإسناد » ص 66 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 217 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 26 ، ح 4.

وفيه : أنّ هذه الرواية بإطلاقها معرض عنها عند الجميع ، مع أنّه من المحتمل جدّا أن يكون المراد من عدم القضاء للغائب ونفيها هو أن يكون القضاء بنحو البتّ ، بحيث لا يكون الغائب على حجّته.

مضافا إلى ما في سنده من الضعف ، لأنّ راويه أبو البختري وهب ابن وهب كان كذّابا ، بل قيل في حقّه إنّه من أكذب البريّة.

والمراد من أنّ الغائب على حجته هو أنّ له إذا قدم أو حضر الاعتراض على الحاكم بعدم كونه أهلا للحكم ، أو جرح شهود الحكم ، أو إقامة بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ، وأمثال ذلك ممّا يوجب عدم تأثير الحكم الصادر حال غيابه.

ثمَّ أنّه هل جواز الحكم على الغائب مخصوص بحقوق الناس ، أو يجوز الحكم عليه في حقوق اللّه أيضا ، كإقامة البيّنة على أنّه شرب الخمر ، أو زنى أو لاط مثلا؟

ذهب المشهور إلى الاختصاص لقاعدة درء الحدود بالشبهات ، فمن الممكن أن يكون للغائب ما يدرأ عنه الحدّ.

نعم لو كانت الدعوى ذات جهتين - كالسرقة - فهل يجوز مطلقا ، أو لا كذلك ، أو التفصيل والتفكيك بين الجهتين؟ فالجواز بالنسبة إلى جهة حقّ الناس والعدم بالنسبة إلى حقّ اللّه احتمالات :

والحقّ هو الأخير ، أي التفكيك بين حقّ الناس وحقّ اللّه في عالم الإثبات ، ففي مثل السرقة لو شهدت البيّنة على أنّه سرق المال الفلاني مع كونه غائبا ، فجواز الحكم عليه بالنسبة إلى غرمه للمال ، وأمّا بالنسبة إلى القطع فلا. أمّا الجواز بالنسبة إلى الغرم فللأدلّة الدالّة على جواز الحكم على الغائب ، وأمّا العدم بالنسبة إلى القطع فلما قلنا من أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، وإنّ حقّ اللّه مبنيّ على التخفيف لغنائه تعالى عن استيفائه.

ص: 98

ولكن تردّد في هذا التفكيك في الشرائع (1) لأجل كون المحققين معلولين لعلّة واحدة ، وهي قيام البيّنة على السرقة ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

وفيه : أنّ كونهما معلولين لعلّة واحدة ممنوع ، فإنّه من الممكن كون الغرم معلولا لقيام البيّنة على السرقة مطلقا ، سواء أكان المشهود عليه حاضرا أو كان غائبا ، وأمّا القطع فمعلول له بشرط حضور المشهود عليه ، فلا يلزم التفكيك بين معلولي علّة واحدة كما توهّم.

هذا مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ الملازمة بينهما في مقام الثبوت وإن كانت ثابتة ولا ينكر ، ولكن في مقام الإثبات لا مانع من التفكيك بينهما ، لأنّه ربما يكون دليل الإثبات وافيا لإثبات إحدى الجهتين دون الجهة الأخرى ، وله نظائر كثيرة في الفقه ، كما أنّه في نفس هذا المورد ، أي السرقة لو أقرّ مرّة يثبت الغرم دون القطع ، لأنّ إثبات السرقة من حيث موضوعيّتها للقطع لا يكون إلاّ بالبيّنة أو الإقرار مرّتين ، ولكن إثباتها من حيث الغرم يكفي فيه الإقرار مرّة واحدة.

الجهة الثالثة : في موارد تخصيص هذه القاعدة

اشارة

وحيث أنّها مركّبة من كلّيتين :

إحديهما جملة « كلّ من هو مدّع في مقام المخاصمة فعليه البيّنة لإثبات دعواه ».

ثانيهما « كلّ منكر وظيفته اليمين » فقد ذكروا لكلّ واحدة من الجملتين مخصّصات.

فللجملة الأولى ذكروا مخصّصات :

ص: 99


1- « شرائع الإسلام » ج 4 ، ص 73.

منها : أنّ الأمين مطلقا - سواء أكانت أمانته شرعيّة أو مالكيّة - إذا ادّعي التلف لما في يده ، ليس عليه البيّنة ، بل يقبل قوله ، وليس عليه إلاّ اليمين إذا ادّعي عليه الإتلاف ، ويكون مخصّصا لقاعدة « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بالنسبة إلى جملتها الأولى.

وفيه : أنّه قد تقدّم في الجزء الثاني من هذا الكتاب في شرح قاعدة عدم ضمان الأمين (1) نفي ضمان اليد عن الأمين مطلقا ، سواء أكانت الأمانة شرعيّة أو مالكيّة ، لأنّ يده يد المأذون من قبل المالك ، أو من قبل الشارع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو يكون إتلافا من قبل ذي اليد من دون إذن المالك في الإتلاف ، فالموجب لضمان الأمين أحد الأمرين : إمّا إتلافه لما في يده ، أو التعدّي والتفريط منه. والأصل عدمهما ، فلا بدّ للمالك المدّعي لضمانه من إثبات أحد الأمرين ، فيكون المالك مدّعيا للضمان والأمين منكر.

وإن شئت قلت : إنّ المالك يدّعي أحد الأمرين : إمّا التعدّي والتفريط ، وإمّا الإتلاف ، فعليه البيّنة على ذلك. وإن لم يكن له بيّنة فله أن يحلف الأمين المنكر على عدم صدور كلا الأمرين منه على قول ، وعلى القول الآخر لا شي ء على الأمين إلاّ أن يقيم المالك البيّنة على صدور أحد الأمرين منه ، فلا تخصيص في هذا المورد لكلتا الجملتين ، بل الحكم في الأمين على طبق كلتاهما.

ومنها : دعوى الودعيّ ردّ الوديعة إلى مالكها مع إنكار المالك ، فالمشهور قائلون بقبول قوله من غير أن تكون عليه البيّنة ، مع أنّهم لا يقولون بذلك في سائر الأمانات المالكيّة ، وإذا ادّعى المستعير ردّ ما استعاره لا يقبل قوله بدون البيّنة ، وكذلك المستأجر لو ادّعى ردّ ما استأجره ، أو المرتهن ادّعى ردّ العين المرهونة ، أو الوكيل لو ادّعى ردّ ما وكلّ في بيعه مثلا ، لا تقبل دعوى جميعهم إلاّ بالبيّنة ، فيكون قبول قول الودعي بدون

ص: 100


1- « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 7.

البيّنة مخصصا لهذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى.

والدليل على قبول الودعي - في ردّه الوديعة إلى مالكه بدون البيّنة - الإجماع كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس سره (1) والأخبار (2).

منها : أنّ المالك لو ادّعى الإبدال في أثناء الحول بالنسبة لما عنده من المال الزكوي فيما يعتبر فيه مضيّ الحول في تعلّق الزكاة بها ، للفرار عن تعلق الزّكاة بها أو لغرض آخر ، فيقبل قوله من دون أن تكون عليه البيّنة.

فلو ادّعى صاحب الدراهم والدنانير أو صاحب الأنعام - وهي الأجناس التي اعتبر في تعلق الزكاة بها مضي الحول عليها في ملكه واجدة لجميع شرائط وجوب الزكاة وتعلقها بها - أنّه أبدلها بغيرها في أثناء الحول ، فهذا الموجود لم يمض عليه الحول فلم يتعلّق به زكاة ، يقبل قوله إجماعا ، ولا يطالب بالبيّنة بل ولا يمين عليه ، لقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

وقد تكلّمنا في مدرك هذه القاعدة والمراد منها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (3) ، وللروايات الخاصّة الواردة في هذا المقام.

منها : صحيحة بريد بن معاوية : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « بعث أمير المؤمنين علیه السلام مصدقا » وفيها : أنّه علیه السلام قال : « ثمَّ قل لهم يا عباد اللّه أرسلني إليكم وليّ اللّه لآخذ منكم حقّ اللّه تعالى في أموالكم ، فهل اللّه تعالى في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل : لا ، فلا تراجعه » (4) وفي خبر غياث بن إبراهيم :

ص: 101


1- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 148.
2- « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 111 ، أبواب زكاة الذهب والفضّة ، باب 12.
3- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 7.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 536 ، باب آداب المصدّق ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 96 ، ح 274 ، باب الزيادات في الزكاة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 88 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 1.

« فإنّ ولّى عنك فلا تراجعه » (1).

ويظهر من هذه الروايات قبول قول المالك في نفي تعلّق الزكاة بماله الموجود عنده ، سواء أكان من جهة عدم مضيّ الحول عليه - وان كان عدم المضي من جهة تبديله في أثناء الحول - أو من جهة أخرى ، أو كان عدم وجوب الزكاة في ذلك المال من جهة دفعه زكاته الى المستحقّ ، ففي جميع ذلك يقبل قوله بلا بيّنة عليه ولا يمين أيضا عليه ، كلّ ذلك إرفاقا بالمالك.

فإذا كان مدّعي التبديل ومدّعي الدفع إلى المستحقّ يقبل قوله من دون أن تكون بيّنة عليه ، فيكون هذا تخصيصا للجملة الأولى من القاعدة ، وكذلك يقبل قول المالك في دعوى نقصان ما خرصه المصدق عليه.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المذكورات ليس من باب تخصيص تلك القاعدة ، بل قول المالك مطابق للحجّة الفعليّة ، وقد تقدّم في تشخيص المدّعي والمنكر أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا لها.

وأمّا إنّ قول المالك هاهنا موافق لها ، فمن جهة أصالة عدم تعلّق الزكاة بهذا المال الموجود عنده ، وكذلك عدم مضيّ الحول عليه. نعم لو كان أثر شرعي مترتبا على عنوان التبديل فينفي بأصالة عدم وقوع التبديل ، ولكنّه أجنبيّ عن محلّ البحث.

وأمّا بالنسبة إلى الدفع إلى المستحقّ فربما يقال بأنّه بعد اعترافه بتعلّق الزكاة ووجوبها عليه ، مقتضى الأصل عدم الدفع وبقاء الاشتغال ، وأيضا حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني بعد ثبوت الاشتغال اليقيني يقتضي لزوم أدائه والأخذ عنه.

وفيه : أنّ هذا صحيح لو كان مصبّ الدعوى هو أداء ما كان واجبا عليه ودفع الحقّ إلى مستحقّه ، وأمّا لو كان مصبّ الدعوى هو أنّه هل في هذا المال الموجود زكاة

ص: 102


1- « الكافي » ج 3 ، ص 538 ، باب آداب المصدّق ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 90 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 5 ، وص 217 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 55 ، ح 1.

أم لا؟ فلا أصل يثبت وجود الزكاة فيه ، لأنّ هذا المال الموجود لم يكن في زمان من الأزمنة كون الزكاة فيه معلوم الوجود حتّى يستصحب في ظرف الشكّ ، لأنّه من الممكن أن يكون هذا ما عدا مقدار الزكاة.

وهذا إذا كانت من قبيل الكلّي في المعيّن واضح ، وهكذا لو كانت من قبيل حقّ الرهانة ، أو من قبيل منذور الصدقة ، نعم لو كانت الزكاة من قبيل الإشاعة في المال الزكوي فللاستصحاب مجال ، ولكنّه خلاف التحقيق ، كما بيّن في محلّه.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو كانت الدعوى في الدفع وعدمه ، فلا فرق بين أن يكون مصبّ الدعوى هو الدفع ، أو يكون في أنّ هذا المال الموجود فيه الزكاة أم لا؟ وذلك من جهة أنّه بعد القطع بتعلّق الزكاة بهذا المال الشخصي ، فاحتمال أداء الزكاة أو احتمال إخراج مقدار الزكاة عنه لا يخرج القضيّة المشكوكة عن الواحدة العرفيّة مع المتيقّنة.

ولكنّ الروايات والإجماع المدّعى في المقام حاكمان على هذا الاستصحاب على تقدير شمول إطلاقهما لمورد دعوى الدفع.

ثمَّ إنّهم ذكروا موارد أخر لعدم كون البيّنة على المدّعي وتخصيص هذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى ، كدعوى الذمّي إسلامه قبل حلول وقت الجزية للتخلّص عنها ، وكدعوى الحربي الذي نبت الشعر على عانته إنّ إنباته بعلاج حتّى لا يكون أمارة البلوغ فيقتل ، وكدعوى البلوغ لصحّة معاملاته أو لغرض آخر ، وكدعوى الإعسار في بعض صور المسألة ، فقالوا بقبول قولهم ودعواهم بدون البيّنة ، غاية الأمر في بعضها مع اليمين ، وفي بعضها الآخر بغير اليمين أيضا.

وقالوا أيضا في موارد أخر بقبول قول المدّعي من دون أن يكون عليه البيّنة ، تركنا ذكرها خوفا من الإطالة.

وعلى كلّ التحقيق في هذه الموارد ، وأنّه هل هي من موارد سماع قول المدّعي من

ص: 103

دون أن يكون عليه البيّنة ، أو ليست كذلك؟ يحتاج إلى بحث طويل.

وقد وقع الكلام والبحث والنقض والإبرام عن كلّ منها في محلّه وبابه ، والغرض هاهنا الإشارة إلى تلك الموارد لا تحقيق الحال فيها ، فإنّه خارج عن طور هذا الكتاب.

هذا كلّه كان في تخصيص الجملة الأولى من هذه القاعدة.

وأمّا التخصيصات الواردة على الجملة الثانية :

فمنها : يمين الاستظهار ، وهو عبارة عن يمين المدّعي في الدعوى على الميّت ، وادّعى الشهيد الثاني قدس سره عليه الإجماع (1) ، بأنّه من كان له دعوى على الميّت ، إمّا أن يكون له بيّنة على ما يدّعيه أم لا ، فإن لم تكن له بيّنة فدعواه ساقطة ، وإن كانت له البيّنة على ذلك فعليه اليمين استظهاراً.

أمّا كون هذا اليمين تخصيصا للقاعدة فوجهه واضح ، أمّا أوّلا : فلأنّهم ذكروا أنّ المبتدأ المعرّف باللام محصور في الخبر ، كقولهم : الكرام والفصاحة في العرب ، والصنعة في الصين ، فبناء على هذا يكون مفاد هذه القاعدة - التي هي عين مضمون الحديث الشريف - أنّ البيّنة محصورة في المدّعي وليست لغيره ، وهذا مضمون الجملة الأولى من هذه القاعدة - وقد ذكرنا موارد تخصيصها أو الموارد التي توهّم أنّها كذلك - وأنّ اليمين محصور في المنكر ، فكون اليمين على المدّعي وإن كان من باب الاستظهار تخصيص لهذه الكلّية ، أي الجملة الثانية.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ التفصيل قاطع للشركة ، فبحكم هذه القاعدة تكون البيّنة مختصّة بالمدّعي ، واليمين مختصّ بالمنكر ، ولا شركة بينهما في شي ء منهما ، فيكون الحكم على المدّعي على الميّت باليمين استظهارا مخصّصا للجملة الثانية.

ص: 104


1- « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 104.

وأمّا الاعتذار عن ذلك وتوجيهه - بأنّ كون هذا اليمين على المدّعي على الميّت باعتبار كونه منكرا لدعوى المتوهّمة من قبل الميت ، بمعنى أنّ الميّت لو كان حيّا فلربما يدّعي عليه الوفاء لدينه وحقّه ، فيكون المدّعي على الميّت بالنسبة إلى هذه الدعوى المحتملة الفرضيّة منكرا ، فمن هذه الجهة يكون عليه اليمين - لا يخلو من غرابة.

وأمّا مدرك هذا الحكم - أي يمين المدّعي على الميّت - مضافا إلى الإجماع الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة علیهم السلام .

منها : موثّقة عبد الرحمن التي رواها المشايخ الثلاث ، قال : قلت للشيخ (1) علیه السلام . وفيها : « فإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فأقيمت عليه البيّنة ، فعلي المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلاّ هو لقد مات فلان وأنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حقّ له ، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غير بيّنة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له ، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ » (2).

ومنها : صحيح الصفار ، كتب محمّد بن الحسن الصفار إلى أبي محمّد الحسن بن علىّ : هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ». وكتب : أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيرا أو كبيرا وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقّع علیه السلام : « نعم ، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة ». وكتب : أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « نعم من بعد يمين » (3).

ص: 105


1- يعني أبا الحسن الأوّل علیه السلام .
2- « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب من ادّعى على ميّت ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 63 ، ح 3343 ، باب الحكم باليمين على المدعى. ، « تهذيب الأحكام » ج 6. ص 229 ، ح 555 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 172 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 4 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 394 ، باب شهادة الشريك والأجير والوصي ، ح 3 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 73 ، ح 3362 ، باب شهادة الوصي للميّت و. ، « تهذيب الأحكام » ج 6. ص 247 ، ح 626 ، باب البيّنات ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 273 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 28 ، ح 1.

والمراد بقوله علیه السلام : « من بعد يمين » ظاهر في يمين المدّعي. واحتمال كون المراد منه يمين الوصي بعيد لا يعتنى به ، بل لا مجال له ، لأنّ الحلف على مال الغير لا مورد له أوّلا ، وثانيا : لا حلف إلاّ عن بتّ ، ولا يمكن حصول البتّ للوصي ، ولو كان الاحتمال أنّ المدّعي برأ ذمّة الميّت بعد موته ثمَّ ندم ويدّعي.

فالإنصاف أنّ دلالة الروايتين على هذا الحكم - أي يمين المدّعي على الميّت على بقاء حقّه عليه ، وأنّه لم يوفه ، وهو أي المدّعي ، لم يبرئه بعد قيام البيّنة من طرف المدّعي على حقّه على الميّت - واضحة لا ارتياب فيه.

وأمّا ضعف السند في موثّقة عبد الرحمن البصري - لو كان - فمنجبر بعمل الأصحاب ، وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (1). مضافا إلى أنّ رواية الصفار صحيحة ، فلا إشكال لا من ناحية السند ، ولا من ناحية الدلالة.

نعم هاهنا فروع في هذه المسألة بحث الفقهاء عنها في كتاب القضاء :

منها : أنّه هل هذا الحكم - أي : الاحتياج إلى ضمّ يمين المدّعي إلى البيّنة لإثبات ما يدّعيه - مختصّ بالديون ، أو يجري في الأعيان أيضا؟

ومنها : أنّ أثر الحلف نفي احتمال الوفاء وأداء الميّت في حال حياته فقط ، أو أنّ أثره نفي جميع الاحتمالات حتّى احتمال الإسقاط والإبراء بعد الموت؟

ومنها : أنّه لو أقام المدّعي شاهدا واحدا ولم يحصل له شاهد آخر ، فهل هذا اليمين يكفي لانضمامه إلى ذلك الشاهد الواحد ، أو يحتاج إلى يمين آخر ، لأنّ هذا اليمين يمين استظهار؟

ومنها : أنّ هذا الحكم مختصّ بالدعوى على الميّت ، أو يتعدّى إلى المجنون

ص: 106


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 91.

والغائب؟

ومنها : أنّه هل هذا الحكم مختصّ بما إذا كان نفس المدّعي صاحب الحقّ الذي يدّعيه ، أو يجري وإن كان المدّعي وليا أو وصيّا أو وكيلا عن صاحب الحقّ.

فهذه أمور بحث عنها الفقهاء في كتاب القضاء ، ونحن تركناها خوفا من التطويل ، ولخروجها عن وضع هذا الكتاب.

ومنها : اليمين المردودة من طرف المنكر إلى المدّعي ، فإذا حلف المدّعي بعد أنّ المنكر ردّ اليمين إليه يثبت حقّه ، كما كان يثبت بالبيّنة. وظاهر الحصر في هذه القاعدة - كما بيّناه - أنّ ميزان الحكم للمدّعي وإثبات حقّه هي البيّنة ، وأنّ اليمين وظيفة المنكر وميزان له.

فاليمين المردودة إن كان ميزان للمدّعي فيكون مخصّصا للجملة الثانية من هذه القاعدة ، أي كون اليمين مختصّا بالمنكر وعدم كونه ميزانا إلاّ له.

وربما يقال : بأنّ الحصر في هذه القاعدة باعتبار الوظيفة الابتدائيّة ، وأمّا اليمين المردودة فليست كذلك ، بل بعد عجز المدعي عمّا هو وظيفته - أي البيّنة - وتوجّه اليمين إلى المنكر ونكوله عن الحلف وردّه إلى المدّعي يكون ميزانا للمدّعي لا أوّلا وبالذات.

وفيه : أنّه ليس مفاد القاعدة هو أنّ البيّنة وظيفة المدّعي أوّلا وبالذات ، واليمين وظيفة المنكر كذلك ، بل ظاهرها انحصار ميزان المدّعي في البيّنة وميزان المنكر في اليمين ، ولكن الحصر ليس حصرا عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وإنّما هو بحكم الشارع ، فقابل لأن يخصّصه بدليل آخر ، وهو الإجماع والنصّ.

كصحيحة محمّد بن مسلم في الرجل يدّعي ولا بيّنة له ، قال : « يستحلفه ، فإن ردّ

ص: 107

اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف ، فلا حقّ له » (1).

وصحيحة عبيد بن زرارة في الرجل يدّعي عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : « يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له » (2).

وصحيحة هشام قال : « تردّ اليمين على المدّعي » (3).

وروايات أخر بهذا المضمون مذكورة في كتاب القضاء (4).

هذا آخر ما كتبناه في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 108


1- « الكافي » ج 7 ، ص 416 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 557 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 416 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 556 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 417 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 560 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 7 ، ح 3.
4- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7.

29 - قاعدة كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين

اشارة

ص: 109

ص: 110

قاعدة كلّ مدع يسمع قوله فعليه اليمين (1)

ومن القواعد الفقهية قولهم : « كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها

فنقول : المراد من سماع قوله عدم تكليفه بالبيّنة أو بحجّة أخرى في الحكم له ، مثلا يقال : إنّ المالك يسمع قوله إذا ادّعى تلف العين الزكويّة في أثناء الحول ، أي قبل حلول وقت الزكاة ، أو ادّعى أنّه أدّيت زكاتي المتعلّق بمالي ، أو ادّعى الكافر إسلامه قبل حلول وقت الجزية ، أو المدّعي الذي بلا معارض مثلا يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة ، أو الودعي يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة إذا ادّعى التلف أو الردّ ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي يسمع قوله ولا يطلب منه البيّنة أو حجّة أخرى ، ففي جميع ذلك يكون عليه اليمين إلاّ ما خرج بالدليل ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى تلك الموارد.

ص: 111


1- « عناوين الأصول » عنوان 78.

[ الجهة ] الثانية : ذي مدرك هذه القاعدة

فنقول : إنّ هذه القاعدة من قواعد باب القضاء ، بمعنى أنّ الحاكم في مقام حكمه إذا يسمع قول مدّع ولا يطلب منه البيّنة فلا يحكم له إلاّ بعد اليمين ، مثلا إذا تخاصم المودع مع الودعي ولم يكن للمودع بيّنة على أنّ الودعي أتلف ماله أو قصر في حفظه ، أو تصرّف في الوديعة من دون إذن المودع ، أو غير ذلك ممّا يوجب الضمان ، فلا يحكم الحاكم بعدم اشتغال ذمّته إلاّ بعد حلف الودعي على نفي هذه الأمور ، وهذا معنى سماع قوله ، لا أنّه بمحض أن لا تكون للمودع بيّنة على أحد هذه الأمور يحكم للودعي بدون أي شي ء.

واستدلّوا على لزوم الحلف للمدّعي الذي يسمع قوله من دون بيّنة بأمور :

الأوّل : أن الحكم في مقام المخاصمة لا يجوز إلاّ بأحد الميزانين ، وهما البيّنة واليمين، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1).

ولا شكّ في أنّ « إنّما » كلمة حصر ، فيدلّ قوله صلی اللّه علیه و آله هذا على أنّ سبب الحكم منحصر في أحد هذين ، فإذا لم يطالب المدّعي بالبيّنة - كما هو المفروض في المقام - فإمّا أن يحكم له بدون اليمين أيضا ، وهذا خلاف قوله صلی اللّه علیه و آله : إنّ قضاء بأحد الأمرين ، وإمّا إيقاف الدعوى وعدم الحكم أصلا ، وهذا خلاف حكمة جعل القضاء. ويلزم اختلال النظام ، وتضييع الحقوق ، والهرج والمرج ، وخلاف الآية الشريفة ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (2) فلا بدّ وأن نقول بأن الحكم له

ص: 112


1- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب إنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 2 ، ح 1.
2- ص (38) : 26.

بذلك الميزان الآخر ، أي اليمين.

لا يقال : إنّه في بعض الموارد ورد الدليل على عدم الحلف أيضا ، كما في باب العبادات الماليّة كالزكاة والخمس ، وسماع قول المالك في عدم التعلّق وفي الأداء أيضا ، وكسماع قول الفقير في دعوى الفقر ، كلّ ذلك من دون بيّنة ولا حلف.

لأنّه لا نقول نحن بأنّ الحصر عقليّ ليس قابلا للتخصيص ، فإذا جاء الدليل في مورد على عدم لزوم الحلف أيضا يخصّص العمومات.

الثاني : أنّ قول المدّعي في هذه المقامات حجّة ، لأنّ الدليل الذي يفيد قبول قوله من دون قيام البيّنة من طرفه ، يرجع إلى أنّ قوله حجّة ، فلا يكون من المدّعي بالمعنى المراد من المدّعي والمنكر في قوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) وهو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، بل يكون بمنزلة المنكر في أنّ قوله مطابق للحجّة الفعليّة ، بل هو المنكر حقيقة بناء على ما عرّفنا المنكر بأنّه عبارة عمّن يكون قوله مطابقا للحجّة الفعليّة.

إن قلت : أليس يقال المدّعي؟

قلنا : إطلاق المدّعى عليه من قبيل إطلاقه على ذي اليد باعتبار معناه اللغوي ، أي مطلق من يدّعي ، وإن كان دعواه موافقا للحجّة الفعليّة.

الثالث : الإجماع على أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، وذلك مثل الأمين إذا ادّعي التلف يقبل قوله ولا يطالب بالبيّنة ، إلاّ أنّ عليه اليمين ، ولذلك اشتهر في لسان الفقهاء وفي كتبهم : أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ثمَّ لا يخفى أنّ المراد من الإجماع في هذه المسألة هو انعقاده على هذه الكلية ، أي كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، فلا يرد على هذا الدليل أنّ تحقّق

ص: 113


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 3 ، ح 4.

الإجماع في بعض الموارد لا يفيد في مورد الخلاف والشكّ في لزوم الحلف ، لأنّ انعقاد الإجماع على هذا العنوان الكلّي ممّا يجعله كورود دليل لفظي عليه ، فيمكن التمسّك بإطلاقه عند الشكّ والخلاف ، كما يتمسّك بالإطلاقات اللفظيّة.

ولكن فيه أوّلا : أنّه في تحقّق مثل هذا الإجماع في ذلك العنوان الكلّي خفاء. وثانيا : على فرض تحقّقه ، في حجّية مثل هذا الإجماع إشكال ، بل معلوم عدمها ، وذلك لما ذكرنا مرارا أنّ وجه حجّية الإجماع هو كشفه عن رأي الإمام علیه السلام ، والحدس القطعي بكون الاتّفاق مسبّبا عن رأيه علیه السلام ، ومثل هذا لا يكون إلاّ فيما لا يكون مدرك آخر غير التلقّي عن الإمام علیه السلام يتّكئون ويعتمدون عليه ، وفي المقام مع وجود هذه المدارك والأدلّة المذكورة لا يبقى مجال لتحقّق الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.

الرابع : أنّ قول المنكر - مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة - يحتاج إلى اليمين ، وبدون اليمين لا يحكم له، فإذا قبل قول المدّعي بدون الاحتياج إلى البيّنة وهو مخالف للحجّة الفعليّة كما هو المفروض ، فيكون الاحتياج إلى اليمين فيه بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ المقصود من الحلف إمّا ارتداع من ليس له الحقّ عن بغيه وعدوانه ، وإمّا قوّة احتمال مطابقة قوله للواقع ، وعلى كلا الوجهين يقتضي في المدّعي الذي يقبل قوله - ولا يطالب بالبيّنة أيضا - أن يكون عليه اليمين بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذه المذكورات أمور استحسانية لا أدلّة شرعيّة ، فلا يمكن استناد الأحكام الشرعيّة إلى أمثال هذه الظنّيات. نعم لو حصل القطع بأنّ ملاك كون الحلف واليمين على المنكر أحد هذين الأمرين ، فللقول بأنّ المدّعي الذي يسمع قوله بدون البيّنة أيضا يحتاج إلى اليمين مجال.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأمور لا توجب أكثر من الظنّ. نعم في بعض صغريات هذه القاعدة - كالأمين والمحسن أدلّة لفظيّة تدلّ على عدم جواز اتّهامهم

ص: 114

وعدم السبيل عليهم ، كقوله علیه السلام في رواية قرب الأسناد : « ليس لك أنّ تتّهم من قد ائتمنته » (1) وقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2).

ولا شكّ في أنّ تكليف الأمين باليمين اتّهام له ، وأيضا تكليف المحسن باليمين سبيل عليه ، وهما منفيّان بحكم الآية والرواية.

أقول : هذا الكلام بالنسبة إلى المحسن في محلّه ، وأمّا بالنسبة إلى الأمين فليس معنى عدم الاتّهام إلاّ عدم استناد الخيانة والتعدّي والتفريط إليه ، فيرجع إلى عدم إنشاء الدعوى عليه. والرواية بهذا المعنى لم يعمل بها قطعا ، لأنّه لا شكّ في صحّة دعوى الإتلاف أو التعدّي والتفريط على الأمين ، فهذا حكم أخلاقي معناه : لا تأتمن الرجل الخائن ، وإن ائتمنت أحدا فلا تظنّ به السوء ولا تتّهمه.

وأمّا القطع بخيانته وتعدّيه وتفريطه فقطعا يجوز الدعوى معه ، غاية الأمر لو ادّعى التلف يقبل قوله ، أي لا يطالب بالبيّنة ، ولكن اليمين عليه ، لما ذكرنا.

هذا ، مضافا إلى أنّ دعوى الإتلاف من طرف المالك مع إنكار الأمين ، يجعل الأمين منكرا ، فيكون الحلف عليه إجماعا ونصا مستفيضا ، بل متواترا ، وليس من طرف الأمين إلاّ الإنكار ، فيكون خارجا عن محلّ بحثنا ، لأنّ محلّ كلامنا في المدّعي الذي يسمع قوله ، وأمّا كون اليمين على المنكر فمن ضروريّات الفقه.

والحاصل : أنّ يد الأمين ليست يد ضمان ، لأنّها يد مأذونة ، إمّا من قبل مالكه وإمّا من قبل الشرع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو إتلاف الأمين له ، فصاحب المال إن كان يطلب الضمان فلا بدّ له من ادّعاء أحد هذه الأمور ، أي الإتلاف أو التعدّي والتفريط ، فيكون الأمين منكرا والحال في المحسن أيضا كذلك.

الخامس : أنّ المدّعي إن كان له شاهد واحد عادل على ما يدّعيه ، فلا يحكم له

ص: 115


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 229 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 9.
2- التوبة (9) : 91.

بذلك الشاهد الواحد ، بل لا بدّ من ضمّ يمينه إليه ، فإذا لم يكن له شاهد أصلا فيجب عليه اليمين لاستخراج حقّه الذي يدّعيه بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذا الدليل ينبغي أن يعدّ من المغالطات ، لأنّ انضمام اليمين هناك إلى الشاهد الواحد من جهة أنّ المدّعي هناك عليه البيّنة ، وحيث أنّه عاجز عن إقامة البيّنة بتمامها - ولم يقم إلاّ شاهدا واحدا - خفّف عنه بقيام اليمين مقام الشاهد الآخر ؛ بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه ليس عليه البيّنة أصلا ، إذ المفروض سماع قوله بدون البيّنة ، فلا وجه لتكليفه باليمين إلاّ ما ذكرنا من الوجهين الأوّلين.

السادس : أنّ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) دلالتين :

أحدهما : أنّ المتداعيين والمتخاصمين كلّ واحد منهما يحتاج في إثبات ما يقول إلى حجة ، وبدون الحجّة لا يحكم له.

والثاني : تعيين تلك الحجّة في حقّ كلّ واحد منهما ، وأنّها هي البيّنة في حقّ المدّعي ، واليمين في حقّ المنكر ، والحجّة في حقّ الاثنين منحصرة فيهما ، وليست هناك حجّة أخرى تكون ميزانا للقضاء.

فإذا جاء الدليل على عدم تكليف بعض المدّعين في بعض الموارد بإقامة البيّنة ولا يطالب بها ، فهذا الدليل لا يدلّ على أنّ الحكم لا يحتاج إلى حجّة أخرى أصلا ، وذلك لأنّ نفي الأخصّ لا يلزم منه نفي الأعمّ.

وحيث أنّ الحجّة في باب القضاء منحصرة بهما - أي البيّنة واليمين - وهذا الدليل يدلّ على عدم مطالبته بالبيّنة ، فبحكم دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله على لزوم أصل الحجّة - التي كانت فيما ذكرنا أولى الدلالتين - يجب عليه أن يقيم حجّة على ما يدّعيه ، وإذ ليست هي البيّنة - كما هو المفروض - والحجّة منحصرة فيهما ، فيكون عليه اليمين.

ص: 116


1- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

وفيه : أنّه صلی اللّه علیه و آله عيّن وظيفة لكلّ واحد من المدّعي والمنكر في مقام المخاصمة ، فإذا جاء الدليل في مورد - أو في قسم من أقسام المدّعي - أنّه يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، فلا بدّ وأن يكون هذا التخصيص لجهة ونكتة ، فالقضاء تجري إمّا بالحكم له من دون اليمين ، أو بتوجّه الأمر إلى الطرف الآخر ، فإن حلف فلا شي ء عليه ويحكم له ، وإن ردّ اليمين أو نكل تجري أحكام الردّ والنكول.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : معنى سماع الدعوى بدون مطالبة البيّنة هو أنّه يحكم للمدّعي بمحض دعواه ، والحكم لا يمكن بدون أحد الميزانين ، أي البيّنة أو اليمين ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1) بناء على حصر ميزان الحكم في هذين الميزانين ، وعدم تحقّقه بدون أحدهما ، وحيث أنّ البيّنة لا تطلب منه ، فلا بدّ وأن يكون باليمين.

ولكن هذا مرجعه إلى الوجه الأوّل الذي ذكرناه ، وليس وجها آخر ، وهو الوجه الوجيه ومبناه على استفادة الحصر - في ما هو ميزان القضاء بهذين ، وعدم صدور الحكم بدون أحدهما - من قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ». وقد تقدّم جميع ذلك.

الجهة الثالثة : في بيان موارد هذه القاعدة وصغرياتها

اشارة

أي : الموارد التي يسمع دعوى المدّعي فيها بدون أن يكون عليه بيّنة ، وبيان وجه سماع دعواه.

فنقول : أمّا مواردها وصغرياتها فكثيرة جدّا ، ولكن هذه الموارد الكثيرة ليست

ص: 117


1- تقدّم تخريجه في ص 112 ، رقم (1).

تحت جامع واحد وكبرى واحدة ، بل هناك كبريات متعدّدة :

منها : كون المدّعي أمينا ، حيث أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ومنها : كون المدّعي بلا معارض.

ومنها : كون المدّعي ممّن يملك فعل ما يدّعيه.

ومنها : كون ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.

ومنها : ما هو خارج عن تحت هذه الكبريات الأربع ، لكن ورد دليل خاصّ على سماع قوله.

وأمّا عدّ سماع قول ذي اليد أيضا من هذه الكبريات - كما ذكره أستاذنا المحقّق قدس سره في كتاب قضائه (1) - فليس كما ينبغي ، من جهة أنّ إطلاق المدّعى على ذي اليد غير خال عن الخلل ، بل المتفاهم العرفي من المدّعي هو الذي يدّعي - مثلا - ملكيّة شي ء ليس ذلك الشي ء تحت يده ، فإن كان تحت يده ويدّعيه غيره فهو منكر ، وذلك الغير مدّع.

والحاصل : أنّ العرف والشرع متّفقان على عدم صحّة إطلاق المدّعى على ذي اليد، حتّى أنّه بعضهم عرّف المدّعي والمنكر بمن لم يكن في يده وهو المدّعي ، ومن كان في يده وهو المنكر.

ويشهد لما ذكرنا - من اتّفاق العرف والشرع في أنّ المدّعي هو من ليس ما هو محلّ النزاع والمخاصمة في يده ، وإلاّ إن كان في يده فهو منكر - استدلاله علیه السلام في بعض الأخبار على كفاية اليمين منه ، وعدم مطالبة البيّنة منه (2) بأنّه إنّما أمر النبي صلی اللّه علیه و آله أن يطالب البيّنة من المدّعي ، لا من ذي اليد.

ص: 118


1- « كتاب القضاء » ص 86 - 87.
2- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 214 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 25.

وخلاصة الكلام : أنّ كلامنا في أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ، ولا يطلب منه البيّنة فعليه اليمين ، وليس ذو اليد مدعيا كي يكون من صغريات هذه القاعدة.

فلنتكلّم في الكبريات الأربع :

الأولى : كبرى « كون المدّعي أمينا ». أمّا مصاديق هذه الكبرى : فكلّ ما كان تحت يد شخص بإذن المالك فهي أمانة مالكيّة ، كالعارية ، والوديعة ، والعين المستأجرة ، وغير ذلك من موارد اليد المأذونة من قبل المالك ، أو بإذن الشارع فهي أمانة شرعيّة كاللقطة ، وما في يد القيّم للصغار أو المجانين من أموالهم ، وما في يد الحاكم الشرعي من أموال الغيّب والقصر ، والحقوق الشرعيّة التي تعطى للحاكم الشرعي لأن يصرف في مصرفها ، من الأخماس والزكوات والصدقات الواجبة غير الزكاة كالكفارات وردّ المظالم ، إلى غير ذلك ممّا هو وظيفة الحاكم الشرعي حفظها أو صرفها فيما يلزم صرفها فيها.

ومن هذا القبيل الأوقاف التي لم يجعل لها متولّ ، أو مجهول توليتها ، فجميع ذلك - في يد الحاكم أو وكيله أو المنصوب من قبله - أمانة شرعيّة ، أي يكون تحت يده بإذن الشارع ، وفي كلا القسمين ليست اليد يد ضمان ، فلا ضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط.

وأمّا وجه سماع قول الأمين وعدم مطالبته بالبيّنة ، فمن جهة ما تقدّم منّا وذكرناه من أنّ التلف عنده لا يوجب الضمان. لأنّ مدرك الضمان في باب التلف إمّا اليد غير المأذونة ، أو خيانته بالتعدّي أو التفريط. وفي الحقيقة هذا أيضا يرجع إلى أنّه بالخيانة ليست يده مأذونة ، فيكون ضمانه ضمان اليد.

نعم لو كان إتلاف في البين يكون هو سببا وموجبا للضمان ، ولكن حينئذ يكون الطرف مدّعيا للإتلاف وهو منكر ، فيتوجّه عليه اليمين.

ص: 119

وحاصل الكلام : أنّ قول الأمين - ما لم يخرج عن كونه أمينا بالخيانة - يسمع من دون مطالبته بالبيّنة ، لأنّه لا يخلو إمّا أن لا تكون دعوى الإتلاف في البين ولا خيانة ، فلا ضمان. وإمّا أن تكون ، فيكون الطرف مدّعيا وهو منكر ، فليس وظيفته البيّنة.

وفي كلتا الحالتين لا تجوز مطالبة البيّنة من الأمين ، لا في التلف ، ولا في الإتلاف ، فهذا وجه سماع قول الأمين.

الثانية : كبرى « المدّعي بلا معارض » وهو أنّهم يقولون بسماع قول المدّعي الذي بلا معارض ، وقبوله بغير بيّنة في الماليّات وإن لم يكن له يد عليه ، فإذا ادّعى أنّ المال الفلاني الذي لا يد لأحد عليه - أو ينفي صاحب اليد كونه لنفسه ولا يدّعي كونه لشخص معيّن ، بل يعترف بعدم علمه بمالكه - إنّه لي ، وليس هناك معارض يعارضه ، يقبل قوله ويعطي له مع يمينه ، بناء على ما ذكرنا من تماميّة هذه القاعدة.

وأمّا في غير الماليّات - كما أنّه لو ادّعى طهارة شي ء أو نجاسته وهو ليس بمالك ولا بذي اليد عليه ، أو أنّ هذا اليوم يوم العيد وأمثال ذلك من غير الماليّات ولا معارض له ، فلا يسمع دعواه ، بل يحتاج إثباته إلى البيّنة ، أو إحدى الأمارات الشرعيّة الأخر ، وذلك من جهة أنّ عمدة مدرك سماع هذه الدعوى هي سيرة العقلاء وبناؤهم على قبول قول المدّعي الذي لا يعارضه أحد بغير البيّنة ، ولكن هذه السيرة القدر المتيقّن منها هو فيما إذا كان ما يدّعيه من الماليّات وإن لم يكن لذلك المدّعي يد عليه ، أو كان من الحقوق ، كادّعائه تولية وقف ، أو يدّعي حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان ، أو حقّا آخر ولا يعارضه أحد في هذه الدعوى.

وأمّا الإجماع الذي ادّعاه صاحب الرياض (1) وصاحب الجواهر (2) 0 فأيضا القدر المتيقّن منه هو فيما ذكرنا من الماليّات والحقوق والارتباطات كالزوجية والنسب ، كأن

ص: 120


1- « رياض المسائل » ج 2 ، ص 413.
2- « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 398.

يقول : هذه المرأة زوجتي ، أو هذا الغلام ابني ، أو هذه الصبيّة بنتي ، ومن هذه الجهة لو ادّعى في اللقطة أنّها لي ، ولم يكن له معارض يعطي المال له.

وربّما يستدلّ لسماع قول المدّعي بلا معارض برواية الكيس المعروفة ، وهي أنّ يونس بن عبد الرحمن روى عن منصور بن حازم ، قال : قلت : لأبي عبد اللّه علیه السلام : عشرة كانوا جلوسا ، وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال علیه السلام : « للذي ادّعاه » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على قبول قول مدّعي الذي ليس له معارض واضح ، لأنّه علیه السلام قال : هو للمدّعي الذي لم يعارضه أحد من تلك العشرة بل كلّهم نفوا عنهم.

ولكن استشكل على هذا الاستدلال شيخنا الأعظم الأنصاري على ما نقل بعض الأجلّة من تلامذته قدس سره وقبله ابن إدريس (2) بأنّ سماع قول ذلك المدّعي ليس من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه ، بل أنّ الكيس الكائن في وسط جماعة يكون تحت يد تلك الجماعة ، ولذلك لو ادّعاه شخص من غير تلك الجماعة ومن الخارج فلا يقبل قوله إلاّ بالبيّنة.

وأمّا لو كان من تلك الجماعة ، فإن ادّعى الباقون أيضا مثله ، فيجري عليه حكم الشريكين الذين يدّعي كلّ واحد منهما تمام ما في يدهما ، وأمّا إذا نفى الباقون كونه لهم ، فتسقط أمارية اليد في حقّهم. وأمّا الذي يدّعيه ولا ينفي عن نفسه فأماريّة يده باقية ،

ص: 121


1- « الكافي » ج 7 ، ص 422 ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 292 ، ح 810 ، باب من الزيادات في القضايا ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 1.
2- « السرائر » ج 2 ، ص 191.

ويكون هو بحكم ذي اليد الواحد الذي ليس لغيره يد عليه ، فيحكم بأنّه له من جهة يده عليه لا من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه هذه.

وبعبارة أوضح : أماريّة اليد لكون ما في يده ملك له متوقّفة على عدم إقراره بأنّه ليس له ، فإذا نفى عن نفسه وأقرّ بأنّه ليس له تكون يده كالعدم لا أماريّة لها ، واليد بنظر العقلاء تكون كاشفة وأمارة بالمطابقة بأنّ ما هو تحت اليد ملك لذي اليد ، وبالدلالة الالتزاميّة. تدلّ على أنّه ليس لغير ذي اليد.

فالكيس الذي كان في وسط جماعة حيث أنّ لتلك الجماعة يد عليه ، فبالدلالة الالتزامية تدلّ يد جميعهم على أنّه ليس لغيرهم. ويد كلّ واحد منهم وإن كانت تدلّ على أنّه له ، إمّا تماما كما احتمل ، أو بنسبة نفسه إلى الجميع على نحو الشركة ثلثا أو ربعا أو خمسا ، وهكذا حسب عدد الجماعة كما هو الصحيح ، ولكن هذه الدلالة سقطت بواسطة إقراره بأنّه ليس له.

وأمّا ذلك الشخص الواحد الذي ادّعاه حيث أنّه لم يقرّ أنّه ليس له ، بل ادّعى على طبق يده أنّه له ، فيبقى ليده كلتا الدلالتين : المطابقة والالتزامية ، فتثبت أنّه وليس لغيره ، كما هو الحال في اليد الواحدة التي ليس لها يد أخرى شريكة معها ، فيحكم له إلاّ أن يأتي المدّعي الخارج عن تلك الجماعة بالبيّنة على أنّه له ، كما هو الشأن في سائر المقامات بالنسبة إلى الدعوى على ذي اليد الواحد. فحكمه علیه السلام بأنّ الكيس لذلك الواحد المدّعي ليس من أجل أنّه بلا معارض ، بل من جهة أنّه ذو اليد على موازين باب القضاء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ صرف كون الكيس في وسط جماعة ليس ظاهرا عند العرف في ثبوت اليد لتلك الجماعة عليه. أو يقال بأنّ اليد الواحدة - أي الاستيلاء والسيطرة الواحدة - قائمة بالمجموع ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، فإذا نفوا عنهم ما عدا واحد منهم ، فتسقط تلك اليد الواحدة القائمة بمجموع تلك الجماعة ، وليس هناك

ص: 122

استيلاء آخر كي يكون أمارة على الملكيّة ، لأنّ اليد القائمة بالمجموع سقطت عن الاعتبار ، ويد المدّعي كانت في ضمن تلك اليد القائمة بالمجموع ، ولم يكن لها وجود مستقلّ ، فلا بدّ وأن يكون حكمه علیه السلام بكونه لذلك الواحد المدّعي مستندا إلى جهة أخرى غير اليد ، وليست إلاّ أنّه مدّع ليس له معارض.

ولكن أنت خبير بعدم صحّة كلتا الدعويين :

أمّا عدم صحّة دعوى عدم ظهور كون الكيس في وسطهم عرفا في ثبوت اليد لهم ، فممّا يشهد عليه العرف والوجودان. نعم في بعض الفروض يمكن دعوى عدم الظهور عرفا في ثبوت اليد لهم ، كما إذا كان الكيس موجودا في ذلك المكان قبل اجتماعهم فيه ، وبعد ذلك اجتمعوا وصار الكيس في وسطهم ، لكن هذا الفرض وأمثاله خارج عن ظاهر الرواية ، وتكون الرواية منصرفة عنها.

وأمّا دعوى أنّ لمجموع تلك الجماعة يد واحدة ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، ففيها : أنّه لو كانت الجماعة كلّهم يدّعون أنّه لهم فبنظر العرف - الذي هو المناط في فهم مفاهيم الألفاظ وتعيين المراد منها - كان الأمر كما ادّعاه صاحب هذه الدعوى ، بمعنى أنّ لكلّ واحد منهم كانت يد غير تامّة وغير مستقلّة ، كما في الشريكين أو الشركاء في دكّان مثلا.

وقد بيّنّا في محلّه أنّ اليد غير التامّة على المجموع بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على بعض ذلك المجموع بنسبة عدد الشركاء ، فإذا كانا اثنين متصرّفين في الدكّان مثلا ، يرى العرف أنّ لكل واحد منهما الاستيلاء التامّ على النصف ، وإن كانوا ثلاثة يرى الاستيلاء واليد التامّة على الثلث ، وهكذا.

وأمّا إن نفوا عنهم ما عدا واحد الذي ادّعى المجموع ، ففي هذه الصورة يرى العرف أنّ الاستيلاء لذلك الواحد فقط ، لأنّ سائرهم بواسطة إقرارهم بعدم كونه لهم أسقطوا يدهم عن الاعتبار ، فصارت يدهم كأن لم تكن ، فيد هذا الواحد كأنّها يد

ص: 123

واحدة مستقلّة على المجموع.

والحاصل : أنّ دلالة الرواية على قبول قول المدّعي الذي ليس له معارض في غاية الإشكال.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ جميعهم أو بعضهم لو ادّعى ملكيّة ذلك الكيس بعد نفيه عن نفسه أو عن أنفسهم لا يسمع ، لأنّه إنكار بعد الإقرار ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فإقراره السابق بعدم كون الكيس له أسقط ماليّته ظاهرا وإن كان ماله بحسب الواقع ، إلاّ أن يأتي بدليل حاكم على ذلك الإقرار ، أو علم بأنّ إقراره كان على خلاف الواقع لنسيانه ، أو لجهة أخرى.

الثالثة : كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فلو ادّعى أنّه طلّق زوجته ، أو باع ماله الفلاني من فلان ، أو وهبه لفلان ، أو أعطيت زكاتي الواجب عليّ وأمثال ذلك ، سواء أكان له أو عليه ، يسمع بدون أن يطالب بالبيّنة لتلك القاعدة. وعمدة فائدة هذه القاعدة فيما لا يكون الإقرار على ضرره ، وإلاّ فلا احتياج إليها ، لكون موارد الإقرار على ضرر نفسه مشمولا لقاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ».

وأمّا الدليل على هذه الكبرى ، أي كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فقد تقدّم في شرح هذه القاعدة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ، فلا نعيد.

الرابعة : كبرى « أنّه يسمع كلّ دعوى لا يعلم إلاّ من قبل مدّعيها ».

واستدلّوا لهذه الكبرى بوجوه :

الأوّل : الإجماع الإجماع على أنّ من يدّعي شيئا لا يعلم إلاّ من قبله ، يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، ولكن الحكم له بعد الحلف ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على تصديقه بدون الحلف والشاهد على اتّفاقهم على هذا الحكم هو أنّهم يعلّلون في بعض الدعاوي سماعها بأنّه شي ء لا يعلم إلاّ من قبله ، ويرسلونه إرسال المسلّمات ولا ينكره

ص: 124

أحد منهم ، بل كلّ واحد من الفقهاء 5 يقبل هذا التعليل ولا يستشكل عليه ولا يطلبون من القائل الدليل عليه ، فيكون من الكبريات المسلّمة عندهم.

وفيه : أنّه ممنوع صغرى وكبرى. أمّا الصغرى : فمن جهة أنّ قولهم هذا في بعض الموارد لا يدلّ على اتّفاقهم على هذه الكبرى الكليّة.

وبعبارة أُخرى : التعليل إذا كان في آية أو رواية ، أي كان في كلام من يجب اتّباعه ، فيجب الأخذ بظاهره ، فإذا كان ظاهرا في العموم يجب الأخذ بذلك الظهور والحكم بعموم التعليل. وأمّا لو كان في كلام من ليس كلامه حجّة ، فلا بدّ من وجود دليل على وجوب الأخذ بظاهر ذلك الكلام ، والمفروض أنّه ليس هاهنا دليل إلاّ الإجماع ، فلا بدّ أن يكون نفس هذا التعليل - أي : عنوان « لأنّه لا يعلم إلاّ من قبله » - معقدا للإجماع ، وإثبات هذا الاتّفاق في غاية الإشكال.

ثمَّ على تقدير ثبوته يرد عليه ما ذكرنا مرارا أنّ مثل هذا الاتّفاق ليس كاشفا قطعيا عن رأيهم علیهم السلام لاحتمال أن يكون منشأ اتّفاقهم هو بعض ما ذكروه من الأدلّة على قبول دعوى التي لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها ، فلا يكون من الإجماع المصطلح في الأصول الذي قلنا بحجّيته.

الثاني : الحكمة أنّ حكمة جعل القضاء والقاضي هو رفع التشاجر والمخاصمة بين الناس وحسم النزاع ، فإذا كان دعوى المدّعي لا يعلم إلاّ من قبله ، فلا يمكن له إقامة البيّنة عليه ، لأنّ المفروض أن غير المدّعي لا يعلمه كي يشهد به ، ولا يمكن لخصمه المنكر أن يحلف ، لأنّ المفروض أنّ الخصم المنكر لا يعلم به ولا حلف إلاّ عن بتّ ، فيبقى القضاء بلا ميزان ، ولا يرفع المخاصمة.

أقول : وهذا الوجه ممّا يمكن الركون إليه.

لايقال : هذا الوجه صحيح فيما لا يمكن إقامة الشهود والبيّنة المعتبرة للمدّعي ، وموارد سماع دعوى من لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله - كما ذكروا - ليست منحصرة بما

ص: 125

لا يمكن إقامة البيّنة ويتعذّر ، بل أعمّ منه وممّا يتعسّر ، ففي القسم الثاني منه يمكن إقامة الشهود غاية الأمر مع التعسّر ، لأنّ التكليف بالأمر المتعسّر أيضا ليس من دأب الشارع وديدنه غالبا ، ولا يناسب الشريعة السمحة السهلة إلاّ فيما تكون المصلحة مهمّة ، بحيث يكون على المكلّف بذل كلّ نفس ونفيس كالجهاد والدفاع مع الكفّار فيما إذا هجموا على المسلمين مثلا.

فبناء على هذا يكون المتعسّر بحكم المعتذّر ، وكون التعسّر حكمة للجعل كثير في الشريعة ، كجعل التيمّم بدلا عن الطهارة المائيّة ، والتقصير والإفطار في السفر ، وأمثال ذلك.

الثالث : الأخبار أنّه وردت أخبار على أنّ الحيض والعدّة إلى النساء كصحيح زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام : « العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت » (1) وقول الصادق علیه السلام في تفسير قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (2) « قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء : الحيض ، والطهر ، والحمل » (3).

ومعلوم أنّ تفويض هذه الأمور إلى النساء من جهة أنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، وادّعى بعضهم أنّ في بعض هذه الأخبار تعليل قبول قولهنّ في هذه الأمور بتعذّر الإشهاد منهنّ عليها ، لأجل عدم اطلاع غيرهنّ عليها. ومعلوم أنّ هذا الكلام في قوّة أن يقول : لأنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، ولكنّني فتشت بمقدار وسعي ولم أجده.

نعم ورد في رواية محمد بن عبد اللّه الأشعري قال : قلت للرضا علیه السلام : الرجل

ص: 126


1- « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب ان النساء يصدّقن في العدّة والحيض ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 165 ، ح 575 ، باب عدد النساء ، ح 174 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 356 ، ح 1276 ، باب أنّ العدّة والحيض إلى النساء. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 441 ، أبواب العدد ، باب 24 ، ح 1.
2- البقرة (2) : 228.
3- « مجمع البيان » ج 2 ، ص 326 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 441 ، أبواب العدد ، ب 24 ، ح 2.

يتزوّج. إلى آخره؟ فقال علیه السلام : « أرأيت لو سألها البيّنة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج » (1).

والحاصل : أنّ ظاهر هذه الأخبار قبول قول المرأة في الحيض والحمل والطهر والعدّة ، وهذه أمور لا تعلم إلاّ من قبلهنّ في الغالب ، فمن هذا يستكشف كبرى كلّية ، وهو أنّ كلّ ما لا يعلم إلاّ من قبله يسمع قوله فيه.

هذا إذا لم يكن ذلك التعليل في البين ، وأمّا إذا كان كما ادّعاه الكني قدس سره في قضائه (2) فالأمر أوضح ، لأنّه بناء على ثبوت ذلك التعليل ووجوده في بعض الأخبار يكون الحكم بالقبول دائرا مدار وجود تلك العلّة ، ففي كلّ دعوى يتعذّر الإشهاد عليها أو يتعسّر ، يجب قبولها من دون مطالبة البيّنة عن مدّعيها.

ومعلوم مطابقة دعوى التي يتعذّر الإشهاد عليها مع ما لا يعلم إلاّ من قبله ، بمعنى أنّ كل دعوى لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها يتعذّر الإشهاد عليها ، لأنّ الإشهاد فرع معرفة الشاهد وعلمه بالمشهود به ، وعلمه بالمشهود به مع كون الدعوى ممّا لا تعلم إلاّ من قبله خلف.

الرابع : لا شكّ في أنّ قول المنكر مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة - كما بيّنّاه - يحتاج في الحكم له وثبوت قوله إلى اليمين ، فكيف يمكن الحكم للمدّعي بصرف الادّعاء بدون اليمين؟ مع أنّ قوله مخالف للحجّة الفعليّة ، كما عرفت في بيان معنى المدّعي.

وبعبارة أُخرى : حيث أنّ المدّعي كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فجعل الشارع وظيفته أثقل ميزاني القضاء - أي البيّنة - ولكن بالنسبة إلى بعض الدعاوي ارتفع هذا الثقل - أي : البيّنة - عنه لمصلحة وملاك لإحدى الجهات التي تقدّمت ، ولم يكلّف

ص: 127


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 253 ، ح 1094 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 457 ، أبواب المتعة ، باب 10 ، ح 5.
2- « كتاب القضاء » ص 104.

بالبيّنة.

ولكن لا يمكن أن يكون حاله أحسن من المنكر الذي قوله موافق مع الحجّة ولا يحتاج إلى اليمين أيضا ، وهذا معناه عدم الاعتناء بالحجّة.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان ، ولا يصحّ أن يكون مناطا وملاكا للحكم الشرعي ، والشارع عيّن وظيفة للمدّعي وهي البيّنة ، ووظيفة أخرى للمنكر ، أي اليمين بقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1) وهذان الحكمان - أي كون وظيفة المدّعي هي البيّنة ووظيفة المنكر اليمين - عامان يشمل كلّ مدّع وكلّ منكر ، فجاء المخصّص بالنسبة إلى بعض أقسام المدّعي وأسقط لزوم إقامته البيّنة ، فكون وظيفة أخرى له يحتاج إلى جعل آخر ، وإلى دليل على ذلك الجعل في مقام الإثبات ، وإذ ليس فليس.

نعم الدليل هو الوجه الثاني الذي ذكرناه من أنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (2) يستفاد منه أمران : أحدهما حصر ميزان القضاء في هذين الاثنين. والثاني : عدم جواز الحكم بدون الميزان ، فبضميمة عدم جواز إيقاف الحكم وارتفاع البيّنة عنه ، لا بدّ وأن نقول بأنّ الحكم لمثل هذا المدّعي لا يجوز إلاّ مع حلفه.

ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا وجوها استحسانية آخر لهذا الحكم - أي كون اليمين على المدّعي الذي يسمع قوله - تركنا ذكرها ، لعدم الاحتياج إليها ، وعدم صحّتها في أنفسها.

ثمَّ إنّ هذه القاعدة خصّصت في موارد ، بمعنى أنّه جاء الدليل على قبول قول بعض المدّعين بدون أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، أي ليس عليه كلتا الوظيفتين ، وما قلنا إنّ الحكم لا يجوز بدون أحد الميزانين ليس حكما عقليّا غير قابل للتخصيص ، بل

ص: 128


1- سبق تخريجه في ص 113.
2- سبق تخريجه في ص 112 ، رقم (1).

كان مفاد الحديث الشريف ، أعني قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » فإذا أتى دليل على عدم لزوم كلتا الوظيفتين يخصّصه.

فمنها : دعوى المالك للعامل أداء ما عليه من الزكاة ، فيقبل قوله من دون أن يكون عليه حلف أو بيّنة ، لقول عليّ علیه السلام لعامله في خبر غياث : « إذا أتيت على ربّ المال فقل : تصدّق رحمك اللّه ممّا أعطاك اللّه ، فإن ولّى عنك فلا تراجعه » (1). ولغير خبر غياث ممّا يدل على المقام.

ومنها : دعوى الفقير الفقر، فقالوا : إنّها تقبل بلا أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، لخبر عبد الرحمن العزرمي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال علیه السلام : « جاء رجل إلى الحسن والحسين علیهماالسلام وهما جالسان على الصفا ، فسألهما فقالا : إنّ الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع ، أو غرم مقطع ، أو فقر مدقع ففيك شي ء من هذا؟ قال : نعم ، فأعطياه » (2).

ولمصحّح عامر بن جذاعة : رجل أتى أبا عبد اللّه علیه السلام ، فقال : يا أبا عبد اللّه قرض إلى ميسرة ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إلى غلّة تدرك؟ » قال : لا ، قال علیه السلام : « إلى تجارة تؤب؟ » قال : لا واللّه ، قال علیه السلام : « عقدة تباع؟ » قال : لا واللّه ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « فأنت ممّن جعل اللّه له في أموالنا حقا » فدعا بكيس فيه دراهم (3).

تذييل

لا يخفى أنّ ما قلنا - من سماع دعوى المدّعي الذي لا يمكنه الإشهاد على ما يدّعيه ،

ص: 129


1- « الكافي » ج 3 ، ص 538 ، باب أدب المصدّق ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 90 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 5 ، وص 217 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 55 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 4 ، ص 47 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 145 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 1 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 501 ، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، ح 14.

وإن شئت قلت : سماع دعوى الذي لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله إنّما يكون فيما إذا لم يظهر المدّعي خلاف ما يدّعيه وما ينافي دعواه ، فلو أقرّ على خلاف ما يدّعيه ، أو كان ظاهر كلامه خلاف ما يدّعيه ، فلا يسمع دعواه ، وإن كان ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.

وذلك من جهة أنّ إقراره أو ظاهر كلامه حجّة عليه فيما إذا كان على ضرره ، فإذا أقرّ بأنّه غنيّ وليس بفقير ، أو أقرّت واعترفت بانقضاء العدّة ، أو كان ظاهر كلامه ذلك ، فلا يسمع دعواه ، لأنّه من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وبإقراره أو ظاهر كلامه علم من قبله بالحجّة ، فدعواه يكون معلوم البطلان شرعا.

فلو قال وادّعى عدم القصد في المعاملة الفلانيّة أو ادّعت عدم القصد في عقد النكاح مثلا ، أو غير ذلك من العقود والإيقاعات ، كالطلاق أو الجعالة مثلا ، فلا تقبل دعواه ، وإن كانت الدعوى ممّا لا يعلم إلاّ من قبله ، أو وإن كانت ممّا يتعذّر الإشهاد عليه ، لأنّ ظاهر كلامه حجّة عليه ، فهو بدعواه هذه يكذب نفسه.

والحاصل : أنّه علم شرعا خلاف ما يدّعيه من قبل نفسه ، فلا يتعذّر الإشهاد فخرج عن موضوع هذا الحكم خروجا تعبديا.

إن قلت : أليس إنّهم يقولون بسماع دعوى الزوج عدم القصد إلى الطلاق حقيقة في الطلاق الرجعي في العدّة ، مع أنّ ظاهر صيغة الطلاق مخالف لهذه الدعوى؟

قلت : هذا من جهة أنّها ما دامت في العدّة له الرجوع ، وليس للمرأة أن يعارضها ، لقوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (1) بل ربما يقال : إنّها ما دامت في العدّة حقيقة زوجة ، فليس هذا المورد من باب المدّعي والمنكر ، بل هذا من حقوق نفسه بدون مقابل يعترض عليه ويلزمه بظاهر كلامه.

نعم لو كانت هذه الدعوى بعد انقضاء العدّة لا يسمع دعوى عدم القصد إلى

ص: 130


1- البقرة (2) : 228.

الطلاق حقيقة ؛ لأنّه يدّعي بذلك على المرأة بقاءها في حبالته ، وهي تنكر وتقول بانقطاع الزوجيّة وبينونتها عنه ، ولا يجري استصحاب بقاء الزوجيّة ، لحكومة ظاهر كلام الزوج - أي إنشاء الطلاق وأنّه مع القصد - على هذا الاستصحاب ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارات والأصول.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 131

ص: 132

30 - قاعدة العقود تابعة للقصود

اشارة

ص: 133

ص: 134

قاعدة العقود تابعة للقصود (1)

ومن القواعد الفقهيّة - المعروفة المشهورة قاعدة « العقود تابعة للقصود » وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الاولى : في بيان المراد منها

فنقول : الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة هو أنّ العقود حيث أنّها من الأمور القلبيّة ، لأنّ العقد كما قال بعض اللغويين هو العهد المؤكّد ، والعهد أمر قلبي وإن كان له مبرز خارجي ، كما إنّهم في عقد البيعة كانوا يظهرونه ، بل ينشؤونه بوضع اليد في يده ، وكان أمارة تعهّده بأنّه سلم لمن سالمه وحرب لمن حاربه.

وفي الحقيقة العقد عبارة عن تعهّد الشخص مع آخر في أمر من الأمور ، سواء أكان ذلك الأمر من الأمور الماليّة كباب المعاوضات ، أو أمرا آخر كما في باب النكاح ، حيث أنّ الزوجة تتعهّد بأن تكون زوجة ، فإذا قبل الزوج تتمّ المعاهدة ويحصل ذلك الأمر في عالم الاعتبار. فتترتّب عليه آثاره ، فنتيجة العقد حصول ما تعاهدا وتعاقدا عليه لأن يترتّب عليه آثاره.

ص: 135


1- « الحق المبين » ج 1 ، ص 18 ، « عوائد الأيّام » ص 52 ، « عناوين الأصول » عنوان 30 ، « خزائن الأحكام » العدد 11 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 9 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 35 ، « القواعد » ص 179 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 369.

ومعلوم أنّ حصول هذا المعنى في عالم الاعتبار - سواء أكان اعتبارا شرعيّا أم كان من اعتبارات العقلاء وأمضاها الشارع ، أو لم يمضها كما في باب بيع الغرر ، فإنّ الشارع نهى عنه وإن كان العقلاء يقدمون عليه ويرتّبون عليه الآثار في بعض مراتب الغرر - لا يمكن إلاّ بأن يكون ذلك المعنى مقصودا للمتكلّم والمنشئ حال إنشائه وعقده بأيّ لفظ كان.

فكما أنّ صلاة الظهر والعصر مثلا لا توجد بصرف قراءة أربع ركعات من دون قصد كونها ظهرا أو عصرا وأمثال ذلك ، فكذلك عناوين المعاملات والمعاوضات لا تقع إلاّ بالقصد والإرادة. مثلا إذا قصد تمليك ماله وكان ذلك المال من الأعيان بعوض مالي فيحصل عنوان البيع ، وإلاّ لو لم يقصد التمليك أصلا ، أو قصد التمليك بلا عوض ، وكان تمليكا مجّانيّا فيكون هبة.

كما أنّه لو قصد تمليك منفعة لذلك العين بعوض يكون إجارة ، إن كانت المنفعة معلومة من حيث نوع المنفعة ومن حيث المدّة وكان العوض أيضا مالا معلوما.

نعم ثمَّ يقع الكلام من جهات آخر ، مثلا من أنّ اللفظ الذي ينشأ به هذا المعنى هل يلزم أن يكون عربيّا أم لا ، بل يقع بأيّ لغة كان ، إلاّ أن يدلّ دليل خارجي على أنّه يلزم أن يكون باللفظ العربي ، كما أنّ المشهور قالوا بذلك في خصوص باب النكاح ، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع.

وأيضا هل يلزم أن يكون بصيغة الماضي ، أو يقع وإن كان بصيغة المضارع؟

وكذلك في سائر الشروط التي ذكروها في العقد.

وعلى كلّ حال تحقّق هذه العناوين تابع لقصدها ، وبدون القصد لا تقع ، وليس المراد أنّ كلّ ما يقصده ويريده يقع شرعا ، لأنّ ما قصده إن لم يكن من المعاملات العقلائيّة وأيضا ليس ممّا أحدثه الشارع ، أو كان من المعاملات العقلائيّة ولكن لم

ص: 136

يمضها الشارع ، فجميع ذلك لا يقع شرعا قطعا ، بل المراد أنّ المعاملات العقلائيّة وعقودهم وعهودهم الدائرة فيما بينهم إن أمضاها الشارع ، فلا تقع إلاّ مع قصدها وإرادتها مع تحقّق سائر الشرائط ، من شرائط العقد ، ومن شرائط المتعاقدين ، ومن شرائط العوضين إن كانت المعاملة من المعاوضات.

هذا بالنسبة إلى نفس العناوين ، وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات المعاملة ، ككون الثمن من نقد البلد ، أو من نقد خاصّ ، وإن لم يكن من نقد البلد ، أو وإن كان من أيّ نقد من النقود ، أو وإن كان من العروض ، فجميع ذلك تابع لإرادة المتعاقدين وقصدهم ، وكذلك الشرائط الضمنيّة ككون الثمن مساويا مع المبيع في البيع وغيره من الشرائط الضمنيّة ، غاية الأمر الدليل على القصد والإرادة في عالم الإثبات قد يكون بتصريح من الطرفين أو من أحدهما ، وقد يكون بالإطلاق ، وقد يكون بالانصراف.

وإلاّ ففي عالم الثبوت لا مناص إلاّ من إرادة هذه الخصوصيّات ، إذ بدون القصد والإرادة لا توجد ولا تتحقّق.

والسرّ في ذلك هو ما ذكرنا : من أنّ العقد هو العهد المؤكّد ، والعهد بدون قصد ما يتعاهد عليه لا يمكن ، وفي الحقيقة العقد - كما قلنا - ليس من باب الألفاظ ، بل من الأمور القلبيّة التي قد تسمّى بعقد القلب ، وإطلاقه على ألفاظ القبول والإيجاب مجاز ، من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمدلول على الدالّ ، أو من قبيل إطلاق لفظ الموضوع للمسبب على السبب ، وإن كان في تسمية المنشأ بتلك الألفاظ بالمسبب وتسمية تلك الألفاظ بالسبب مسامحة ، وذلك من جهة أنّ سبب المنشأ هو العاقد لا ألفاظ العقد ، أي ألفاظ القبول والإيجاب ، بل تسميتها بآلة الإنشاء أولى.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ القصد والإرادة له تمام المدخليّة في تحقّق العقود والمعاهدات وتحقّق خصوصيّاتها ، ولا معنى لتحقّق المعاهدة أو العهد بدون أن يقصد المعهود ، وكذلك ما تعاهدا عليه ، ولذلك أشكلنا على القائلين بالإباحة في بيع المعاطاة ،

ص: 137

وأنّه لا يمكن حصول الإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع عدم قصد المتعاطيين لها ، لأنّ كلّ واحد من المتعاطيين يقصد تمليك ما يعطيه للآخر ، فكيف تقول لا يقع ما قصداه ويقع شي ء آخر لم يقصداه؟ وهل هذا إلاّ أنّ ما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، وكأنّ هذه الكبرى بطلانها ضروري وجداني ، ومرجعه إلى أنّ الأمور القصديّة - كالتعظيم والتوهين والعقود - وقوعها وحصولها في وعائها ، سواء أكان عالم العين أو عالم الاعتبار ، تابع لقصدها.

كما قلنا في صلاة الظهر والعصر مثلا إنّهما لا تقعان ولا تحصلان في عالم العين إلاّ بقصد عنوانهما ولو كان بصورة إجماليّة ، فوقوع الأمر القصدي بدون القصد ولو إجمالا لا يمكن.

ولا شكّ في أنّ العقود من الأمور القصديّة ، ولذلك لا تقع من الغالط والهازل والسكران والنائم والغافل وأمثال ذلك ، وهذا معنى بطلان إحدى الجملتين من قولهم : إنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ، أي الجملة الأولى منه.

وأمّا الجملة الثانية - أي ما قصد لم يقع - فبطلانها مبنيّ على أن يكون متعلّق القصد من العقود أو الإيقاعات التي شرّعها الشارع إحداثا إن كانت ، أو إمضاء كما هو الغالب والأكثر إن لم يكن الجميع ، ويكون واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المقرّرة شرعا لذلك العقد أو لذلك الإيقاع ، وإلاّ يمكن أن يقصد ولا يقع لفقد شرط أو لوجود مانع.

كما أنّه لو قصد الطلاق حقيقة وواقعا ولكن لم يكن في طهر غير المواقعة في حال حضور الزوج وعدم كونه مسافرا ، أو لم يكن بحضور شاهدين عدلين ، فلا يقع الطلاق. فمعنى أنّ العقود تابعة للقصود ، أي لا يقع العقد بغير قصد مضمونه وخصوصيّاته ، لا أنّ كلّ ما قصده يقع وإن لم يكن واجدا للشرائط المعتبرة في ذلك العقد أو في ذلك الإيقاع.

ص: 138

ثمَّ لا يخفى أنّ الشرائط الضمنيّة - التي يوجب تخلّفها الخيار - كلّها ممّا تعلّق القصد بها ، فلا يتوهّم أحد حصولها بدون القصد ، مثلا من جملة الشرائط الضمنيّة التي يوجب تخلّفها الخيار هو تساوي الثمن والمثمن بحسب القيمة السوقيّة ، إلاّ فيما إذا كان التفاوت بمقدار يتسامح العرف فيها ولا يكون فاحشا.

ولا شكّ في أنّ البائع والمشتري إنّما يقدمان على المعاملة الكذائيّة باعتقاد أنّ في هذه المعاملة لا يرد خسارة على كلّ واحد منهما ، ولذلك لو علم البائع بأنّ المبيع يساوي أكثر من الثمن المذكور في المعاملة بمقدار لا يتسامح فيه يترك المعاملة ، إلاّ أن يكون له غرض آخر ، وهو خارج عن المفروض.

وكذلك المشتري لو علم بأنّ المبيع لا يساوي هذا الثمن يترك المعاملة ولا يشتري ، فالمتعاملان قصدهما المعاملة بين المالين المتساويين من حيث الماليّة والقيمة السوقيّة ، وإنّما المبادلة تكون لأغراض أخر من احتياج المشتري إلى المبيع لقضاء إحدى حوائجه من المأكل والملبس والمسكن وغير ذلك ، والبائع لتحصيل النفع بالنسبة إلى شرائه الأوّل وإمرار كسبه ، وإلاّ ليس غرضهما من هذه المعاملة أن يخدع كلّ واحد منهما طرفه الآخر.

فهذا الذي نسميه بالشرط الضمني ، الذي هو عبارة عن تساوي العوضين من حيث القيمة السوقيّة ، يكون مقصودا لهما من أوّل الأمر ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقع في باب المعاملات من العقود والإيقاعات من دون قصد المنشئ وإرادته ورغما عليه.

وأمّا مسألة كون ضمان المبيع على البائع قبل قبض المشتري وعلى من ليس له الخيار في زمن خيار الأخر ، فإن قلنا بأنّه تعبدي - ومن جهة الروايات الواردة في هاتين المسألتين - فأجنبيّ عن هذه القاعدة ولا إشكال في البين أصلا.

وإن قلنا : أنّ الضمان في كلا الموردين يكون من باب اقتضاء القاعدة ، فربما

ص: 139

يستشكل به على هذه القاعدة بأنّ الضمان في كلا الموردين لم يكن ممّا قصده المتعاملان ، فكيف صار الضمان على البائع لو وقع التلف قبل القبض ، أو لمن ليس له الخيار في زمن خيار الآخر؟

ولكن فيه ما ذكرنا هناك من بناء العرف والعقلاء على أنّ إنشاء العقود المعاوضيّة ، والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لأجل الأخذ والإعطاء الخارجي ، بحيث لو لم يكن العوضان قابلين للأخذ والإعطاء خارجا ، تكون المعاملة والمبادلة في عالم التشريع لغوا وسفهيّا وعملا غير عقلائي ، فقابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مأخوذة في حقيقة المعاملة والمعاوضة حدوثا وبقاء.

فإذا خرج عن هذه القابليّة بواسطة التلف يكون بقاء المعاملة لغوا بنظر العرف والعقلاء ، فتنحلّ عندهم ، ولذلك ليس المراد بالضمان هو الضمان الواقعي ، بل المراد انحلال العقد آنا مّا قبل التلف ورجوع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فلا نقض على هذه القاعدة ، لأنّ بقاء المعاملة منوطا ببقاء قابليّة الأخذ والإعطاء خارجا مقصود من أوّل الأمر ، فالقصد تعلّق بانحلال العقد حين ذهاب تلك القابلية.

هذا بالنسبة إلى قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ».

وأمّا المسألة الثانية ، أي : « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » فلمّا ذكرنا في تلك القاعدة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب من أنّ التلف بمنزلة الفسخ ، من جهة أنّ العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار أنّ حكمة جعل الخيار أنّ ذا الخيار يتأمّل وينظر في أنّه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه أم لا ، بل حلّه وفسخه أصلح بحاله؟ فإذا وقع التلف على الذي انتقل إلى ذي الخيار ، فلا يبقى مجال للنظر والتأمل ، بل يكون التلف بمنزلة الفسخ ، فقهرا ينحلّ العقد ، فهذا المعنى مقصود للمتعاملين ويقع جميع ذلك على طبق قصد المتعاقدين.

ص: 140

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعدة

وهوأمور :

الأوّل : الإجماع من جميع الفقهاء على أنّ العقود تابعة للقصود ، حتّى إنّهم يجعلونها كبرى كليّة مفروغا عنها في مقام الاستدلال على اعتبار القصد في العقود ، وأنّها لا تقع إلاّ على نحو ما قصد ، ولذلك قلنا في المعاطاة كيف يمكن أن تكون مفيدة للإباحة المجرّدة عن الملكيّة مع أنّ الإباحة المجرّدة ليست ممّا قصدها المتعاملان ، والذي قصدا بالتعاطي الخارجي هي الملكيّة ، فلا بدّ إمّا من كونها مفيدة للملكيّة - إن أمضاها الشارع - وإمّا من بطلانها وعدم إفادتها شيئا لا الملكيّة ولا الإباحة لعدم إمضائه لها.

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الجملة كبرى كلّية مسلّمة عندهم بحيث لا ينكرها أحد منهم ، وهذا الاتّفاق والمسلّميّة عندهم من غير نكير من أحد منهم يكون دليلا قطعيّا على تلقّيهم هذه القضيّة من الإمام علیه السلام .

ولكن أنت خبير بأنّ هذه القضيّة ليست تعبّدية ، بل حكم وجدانيّ عقليّ ، وهو أنّ العقود والعهود تابعة لقصد المتعاقدين والمتعاهدين بعد الفراغ عن تشريع ذلك العقد ، وإلاّ لو لم يكن ممضى من قبل الشارع الأقدس لا توجد نتيجة ذلك العقد والمعاهدة في عالم التشريع ، سواء قصدا أو لم يقصدا ، فالقصد يؤثّر في وجود ما قصد بعد كون تلك المعاملة مشروعة من قبل الشارع الأقدس ، وإلاّ فالمعاملات الفاسدة في نظر الشارع الأقدس لا أثر للقصد وعدمه فيها ، لعدم كونها مؤثّرة على كلّ حال.

وخلاصة الكلام : أنّ ادّعاء الإجماع التعبّدي في مثل هذه المسألة الوجدانيّة لا يخلو عن غرابة.

الثاني : أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو عدم ترتّب الأثر على كلّ عقد وعهد

ص: 141

ومعاملة ، وأيضا على كلّ إيقاع ، ولعلّ هذا هو المراد من قولهم : إنّ الأصل في المعاملات الفساد ، ولا مخرج عن هذا الأصل إلاّ أن يأتي دليل على الصحّة وترتيب الأثر.

فيقال : إنّ العقود والمعاملات المشروعة - وكذا الإيقاعات المشروعة - إذا كانت متعلّقة للقصد والإرادة ، بمعنى أنّ الآثار المترتّبة على ذلك العقد شرعا كانت مقصودة للعاقد ، وقبول الطرف بذلك النهج ، فالدليل الدالّ على صحّة ذلك العقد وتلك المعاملة يدلّ على لزوم ترتيب تلك الآثار.

وأمّا لو لم تكن مقصودة فيشكّ في لزوم ترتيب تلك الآثار ، فمقتضى الأصل عدم لزوم ترتيب تلك الآثار ، بل عدم جوازه.

وفيه : أنّ القصد والإرادة إن كان دخيلا في تحقّق عنوان تلك المعاملة ، فلا يشمله دليل الإمضاء ، وذلك لعدم تحقّق موضوعه ، وهذا من أوضح الواضحات ، ولا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه. وإن لم يكن دخيلا فيه فأدلّة الإمضاء تشمله ، ويجب ترتيب الأثر على ذلك العقد أو الإيقاع ، سواء قصد أو لم يقصد.

الثالث : أنّ العقد الذي هو عبارة عن العهد المؤكّد - كما ذكره اللغويّون - من الأمور القلبيّة ، والصيغة بأيّ لفظ كان آلة لإنشاء ذلك المعنى القلبي في عالم الاعتبار ، مثلا عقد النكاح عبارة عن أنّ المرأة تتعهّد في قلبها أن تكون زوجة لفلان بمهر كذا وبشرط كذا ، إن كان لها في هذا الأمر شرط أو شروط ، ثمَّ هي أو وكيلها تنشأ ذلك الأمر القلبي - أي كونها زوجة لفلان بمهر كذا وشرط كذا - في عالم الاعتبار بأيّ لفظ كان ، أو بألفاظ مخصوصة حسب الجعل الشرعي ، وأنّه اعتبر لفظ خاصّ أو بلغة مخصوصة كما ادّعى الإجماع في عقد النكاح أنّه يجب أن يكون باللغة العربيّة.

فإذا كان الأمر كذلك فيتّضح وجه كون العقود تابعة للقصود ، لأنّه لو كان المراد من العقد في هذه الجملة هو ذلك الأمر القلبي - كما عرّفه اللغويّون بأنّه العهد المؤكّد - فهو عين القصد المتعلّق بأمر ، كزوجيّتها لفلان ، أو ملكيّة ماله الفلاني لفلان بعوض

ص: 142

كذا أو مجّانا.

وبعبارة أخرى : حقيقة العقد عبارة عن الالتزام بأمر لشخص أو أشخاص إمّا في مقابل أمر وشي ء من طرفه ، أو بدون مقابل ، كعقد البيعة أو عقد الهبة ، وهذا المعنى هو عين القصد المتعلّق بذلك الأمر. وبناء على هذا يكون المراد من هذه القضيّة - أي العقود تابعة للقصود - أعني : التعهّد بأمر مع الخصوصيّات المعتبرة شرعا أو عرفا في ذلك الأمر تابعة لقصده المتعلّق بذلك الأمر حال الإنشاء ، فإن لم يقصد خصوصيّة من قيد أو شرط حال الإنشاء ، فليس عقده متخصّصا بتلك الخصوصية ، ولا مشروطا بذلك الشرط.

ونتيجة ذلك عدم تحقّق التزامه وتعهّده بذلك الشي ء الذي لم يقصده ، ودليل صحة العقد أو وجوب الوفاء بالعقود لا يشمل تلك الخصوصية ، لأنّ مفاد هذا الدليل هو وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهّد به ، والمفروض أنّ هذه الخصوصيّة ليست ممّا تعلّق به قصده ، أي ليست ممّا تعهّد والتزم به.

وإن شئت قلت : إنّ دليل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) أو « المؤمنون عند شروطهم » (2) مفادهما هو وجوب العمل بما التزم به تكليفا ، أو نفوذ ما التزم به عليه وضعا ، وعلى أيّ واحد من الوجهين لا يبقى موضوع لهما بعد عدم قصد العاقد لتلك الخصوصيّة ، لا مستقلا ولا في ضمن العقد.

وأمّا لو كان المراد من العقد في هذه القضيّة هو الإيجاب والقبول ، كما أنّهم يطلقون هذه الكلمة عليهما ، فيقولون مثلا لكلمة « بعت » من البائع و « اشتريت » - أو « قبلت » من المشتري عقد البيع ، فلا بدّ أن يكون المراد حينئذ بالعقد المعنى المنشئ بهذه الألفاظ ، أي تمليك المبيع للمشتري ، وتملك الثمن للبائع ، فيكون المراد من هذه القضية -

ص: 143


1- المائدة (5) : 1.
2- « عوالي اللئالى » ج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 310 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.

بناء على هذا المعنى - أنّ وقوع البيع مثلا - أي : التمليك والتملك المذكورين - تابع لقصد البائع والمشتري.

وهكذا الأمر في سائر العقود والمعاملات ، لعدم كون نفس هذه الألفاظ تابعة للقصود يقينا إلاّ بمعنى آخر غير مربوط بما نحن فيه ، وهو تبعيّة الوجود اللفظي للوجود الذهني ، فكان المتكلّم بكلام يجعل ما هو موجودا ذهنيّا موجودا خارجيّا لفظيّا ، فيكون المراد أنّ ما قصده يقع وما لم يقصده لم يقع.

وهذا أيضا يرجع إلى أنّ مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وأدلّة صحّة المعاملات - مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وقوله تعالى ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) وقوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (3) وأمثال ذلك من الأدلّة على صحّة المعاملات ومشروعيّتها - هو وقوع المنشئات شرعا ولزوم ترتيب آثارها عليها طبق قصد المتعاقدين والتزامها ، فلو قصدا صرف هذه الأمور من دون ملاحظة خصوصيّة فيها - من قيد أو شرط - تقع نفس هذه الأمور من دون أيّ خصوصيّة فيها.

وأمّا لو قصدا مع خصوصيّة من قيد أو شرط تقع بتلك الخصوصيّة. نعم إثبات أنّ قصدهما أو أحدهما تعلّق بالمعاملة الفلانيّة بتلك الخصوصيّة يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، من تقييد الألفاظ التي تستعمل في مقام الإنشاء أو انصرافها ، وإلاّ ففي مقام الإثبات يتمسّك بإطلاق العقد لنفي الخصوصيّة المحتملة.

وربما يثبت بإطلاق العقد خصوصيّة في الثمن أو المثمن ، وذلك فيما إذا كان عدم تلك الخصوصيّة يحتاج إلى البيان ، وذلك كانصراف الثمن إلى نقد البلد ، فلو كان الدرهم أو الدينار في البلد غير الدرهم والدينار في غير البلد ، سواء أكان من حيث

ص: 144


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 128.
3- البقرة (2) : 283.

الوزن أو كان من حيث الجودة والرداءة من جهة كونهما مغشوشين وغير مغشوشين ، فينصرف إلى ما في البلد ، ولو كان المراد غيرهما يحتاج إلى البيان ، وهكذا في ناحية المثمن ، فلو كان وزن الحقّة أو الصاع أو الرطل في البلدان الأخر غير ما في البلد ، فالإطلاق يثبت به وزن البلد ، وكلّ ذلك لأنّ غير ما في البلد لو كان مرادا يحتاج إلى البيان.

وحاصل ما ذكرنا : أنّ وقوع المسبّب والمنشأ في عالم الاعتبار التشريعي تابع لما قصده المتعاقدان في الإطلاق والتقييد والاشتراط وعدمه ، وكذلك بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات المحتملة.

ثمَّ إنّه قد يستدلّ لهذه القاعدة بأمور لا ينبغي أن يذكر أو يسطر ، كقوله علیه السلام : « إنّما الأعمال بالنيات » (1) ، وقوله علیه السلام : « لكلّ امرء ما نوى » (2).

فعدم التعرّض لها أولى.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

وقبل التكلّم فيها يجب التنبيه على أمور :

الأوّل : هو أنّ تبعيّة العقود للقصود أمر واقعي وفي مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فيؤخذ بظواهر الألفاظ ، ولا يسمع ادّعاء إرادة خلاف ظواهر الألفاظ التي استعملها في مقام الإنشاء من إطلاق أو تقييد ، أو تجوّز أو إضمار أو حذف ،

ص: 145


1- « الأمالي » للطوسي ، ج 2 ، ص 231 ، « مصباح الشريعة » ص 39 ، « دعائم الإسلام » ج 1 ، ص 156 ، « بحار الأنوار » ج 70 ، ص 210 ، ح 32 و 38 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 34 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 5 ، ح 10.
2- « الأمالي » للطوسي ، ج 2 ، ص 231 ، « مصباح الشريعة » ص 39 ، « دعائم الإسلام » ج 1 ، ص 156 ، « بحار الأنوار » ج 70 ، ص 210 ، ح 32 و 38 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 34 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 5 ، ح 10.

وأمثال ذلك.

الثاني : أنّ صرف الإرادة والقصد لا أثر لهما ما لم يكن على طبقهما إنشاء وذلك من جهة أنّه من أوضح الواضحات أنّ إرادة تمليك ماله لزيد مثلا بعوض أو بلا عوض لا يلزمه بشي ء ، لأنّ الذي يجب هو الوفاء بالعقد ، وصرف الإرادة والقصد ليس بعقد وإن قلنا إنّ العقد هو العهد المؤكّد وأنّه أمر قلبي ، ولكن لا يسمّى بالعقد إلاّ بعد وجود مبرز لذلك التعهّد القلبي ، كالإنشاء باللفظ أو بالكتابة ، أو وضع اليد على اليد كما في البيعة وأحيانا في بعض المعاملات كالبيع ، ولذلك يسمّونه بالصفقة ، فالعقد هو العهد المبرز بأحد هذه الأمور ، أو بغيرها ممّا تعارف بينهم.

الثالث : أنّ الأحكام والآثار المترتّبة على المنشأ شرعا ليست تابعة لقصدها ، بل تترتّب عليه ولو قصد عدمها ، فإذا زوّجت نفسها من شخص ، يجب عليها التمكين وإن قصدت عدمها ، وكذلك الزوج يجب عليها نفقتها وإن قصد عدمها حال القبول.

وأمّا لو اشترطا - أو أحدهما - مثل هذه الشروط في متن العقد ، فينظر هل إنّ هذا الشرط من الشروط الصحيحة أو من الفاسدة؟ فإن كان من الصحيحة يجب العمل به ، وإن كان من الفاسدة ، فيدخل في مسألة أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟ وعدم تبعيّة هذه الأمور من جهة أنّها أحكام شرعيّة موضوعها تحقّق المنشأ ، وليست هي من المعاهدات لا مستقلا ولا أنّها من أجزائها ، فلا يصحّ النقض على هذه القاعدة بلزوم ترتّب هذه الآثار وإن لم يقصدها المتعاقدان.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض الخيارات ، فإنّها تثبت مع عدم قصد المتعاقدين ، مثلا خيار الحيوان حكم شرعي مترتّب على المعاملة التي تكون أحد العوضين فيها حيوانا ، أو في خصوص ما إذا كان المبيع حيوانا - على القولين في المسألة - وإن لم يقصد الخيار لطرفه من انتقل عنه الحيوان.

الرابع : أنّ صحّة عقد المكره على تقدير لحوقه الرضا ليس نقضا على هذه

ص: 146

القاعدة ، وذلك من جهة أنّ المكره قاصد للمعنى ، وتمليك داره لزيد مثلا بعد إكراهه على بيعها منه ، والذي يكون عقد المكره فاقدا له هو طيب نفسه بهذه المعاملة ، لا أنّها ليست مقصودة له.

نعم ذكر العلاّمة (1) والشهيدان (2) 5 أنّ المكره قاصد إلى اللفظ لا إلى المعنى ، لكن الظاهر أنّ المكره ليس كذلك ، بل المكره يقصد اللفظ فانيا في المعنى ، وهذا هو معنى استعمال اللفظ ، غاية الأمر يكون هذا الاستعمال ناشئا عن الإكراه لا عن طيب النفس ، بل لدفع الضرر المتوعّد عليه ، فليس من قبيل الغالط والهازل.

أما الغالط فيريد شيئا ، ويستعمل لفظا آخر الذي يفيد معنى آخر غير ما أراد غلطا ، وأمّا الهازل وإن كان يستعمل اللفظ في معناه ، ولكن ليس قصده وقوع مضمون العقد في عالم الاعتبار التشريعي ، بل ينشأ بداعي الهزل والمزاح ، مثل التعارف وأنّه إذا يطلب منه أن ينزل عليه ضيفا وقصده من هذا الطلب ليس واقعا وحقيقة أنّه ينزل عليه ويكون ضيفا عنده ، بل صرف إنشاء بداعي التعارف وإظهار مودّته واحترامه له ، بخلاف ما إذا كان مكرها على هذا الطلب ، كما إذا أوعده المكره بضرر لو لم يضفه ، فلو طلب المكره - بالفتح - في هذه الصورة أن ينزل عليه ضيفا ، يكون طلبه طلبا حقيقيّا غاية الأمر أنّه ليس عن طيب النفس ، بل يكون للتخلّص عن الضرر المتوعّد عليه.

فإذا كان الأمر كذلك ، ففي عقد المكره جميع ما يعتبر في صحّة العقد موجود عدا طيب النفس ، فإذا لحقه الرضا وحصل طيب النفس يتمّ جميع الشرائط ويؤثّر أثره ، ولا يكون نقضا على هذه القاعدة أصلا.

إذا عرفت هذه الأمور فنقول : إنّه إن قصد خصوصيّة في أحد العوضين أو في

ص: 147


1- « نهاية الأحكام » ج 2 ، ص 456.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 192 ، « المسالك » ج 3 ، ص 156 ، « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 126.

كليهما ، أو في أحد المتعاقدين أو في كليهما ، ولم يكن طبقها إنشاء ، أو أنشأ أمرا ولم يتعلّق به قصد ، فذلك لا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي ، بل لا بدّ من اجتماع كلا الأمرين : القصد والإنشاء بعد الفراغ عن مشروعيّتها.

فمن الموارد الواضحة لهذه القاعدة ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في بيع المعاطاة - قبال قول القائلين بالإباحة - : أنّه لا شبهة في أنّ المتعاملين لم يقصدا الإباحة المجرّدة ، وإنّما قصدهما تمليك العوضين ، كلّ واحد منهما ما هو ملكه للآخر عوض ما يتملكه منه ، فكيف يمكن أن لا يقع ما قصداه ويقع ما لم يقصداه؟ (1)

وما قيل في توجيه هذا الأمر - أي : تحقّق الإباحة بالتعاطي الخارجي ، مع قصد المتعاملين تمليك ماله للآخر بعوض تملّك مال ذلك الآخر - من أنّ هذه الدعوى مركّبة من أمرين :

أحدهما : عدم حصول الملك لكلّ واحد منهما لما أخذه بالمعاطاة.

ثانيهما : حصول إباحة جميع التصرّفات فيما أخذه حتّى التصرّفات المتوقّفة على الملك.

أمّا الأوّل - أي : عدم حصول الملك لكلّ واحد منهما وإن قصداه - فلأنّ صرف قصد التمليك ليس من الأسباب الملكيّة ، بل لا بدّ من إنشائه في عالم الاعتبار بلفظ يكون ظاهرا في التمليك ، وليس صرف الإعطاء والأخذ سببا للتمليك والتملّك.

وبعبارة أخرى : يكون داخلا تحت أحد عناوين الملكيّة ، من بيع أو صلح أو هبة أو غير ذلك.

وأمّا الثاني - أي : حصول الإباحة مع عدم قصدهما لها - فلأنّ الإباحة المجرّدة عن الملكيّة من العناوين الثانويّة التي تترتّب على الفعل الصادر عنه بعنوانه الأوّليّ

ص: 148


1- « المكاسب » ص 85.

قهرا وإن لم يقصدها ، بل وإن قصد خلافها وعدمها ، وذلك كما قيل في مسألة الرجوع إلى المرأة المطلّقة رجعيّة إنّ الزوج لو وطأها في أيّام عدّتها يحصل الرجوع قهرا وإن لم يقصده ، بل وإن قصد عدم الرجوع. كما إذا قصد بذلك الوطي الزناء لا الرجوع ، فالرجوع الذي هو عنوان ثانوي للوطئ يترتّب عليه قهرا وإن قصد به الزناء.

أقول : وكلا التوجيهين باطل :

أمّا الأوّل : فلأنّ المعاطاة - أي : الإعطاء بقصد كونه عوضا عمّا يعطيه الآخر - بيع عرفا ، بل البيع عند العرف غالبا بهذا الشكل - أي بالتعاطي - لا بالصيغة والقول ، فيكون من الأسباب المملكة.

وأمّا الثاني - أي : كون الإباحة من العناوين الثانويّة التي تترتّب على العنوان الأوّلي قهرا ، بمعنى أنّ تسليط المالك غيره على ماله بإعطائه له تترتّب عليه الإباحة قهرا وإن لم يقصدها ، بل وإن قصد عدمها - دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، خصوصا فيما إذا كان التسليط بعنوان كونه عوضا عن المسمّى.

نعم لو كان التسليط على ماله مجّانا وبلا عوض ، لكان من الممكن أنّ يترتّب عليه الإباحة قهرا ، فقياس المقام على وطئ المطلقة رجعيّة - في حصول الرجوع قهرا وإن قصد بذلك الوطي الزنا - في غير محلّه ، مع كلام في أصل المقيس عليه ، وأنّه - أي : الرجوع - هل هو من العناوين القصديّة التي لا تحصل إلاّ مع قصدها ، أم من العناوين غير القصديّة التي تحصل مع عدم قصدها ، بل وحتّى مع قصد عدمها كالايلام بالنسبة إلى الضرب الشديد الموجع؟

وعلى كلّ حال ليس المقام مقام تحقيق مسألة المعاطاة ، وكفى في عدم كون مطلق تسليط المالك غيره على ماله مفيدا للإباحة المجرّدة ، اتّفاقهم على أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب.

نعم هاهنا يرد إشكال آخر ، وهو أنّ القول بحصول الإباحة مع قصدهما التمليك

ص: 149

دون الإباحة ليس من موارد نقض هذه القاعدة ، كي يقال بهذه القاعدة بحصول الملكيّة لكلّ واحد من المتعاطيين ، ولا يلزم عدم تبعيّة العقود للقصود ، وذلك من جهة أنّ المعاطاة ليست بعقد ، لأنّ صرف الأخذ والإعطاء - وإن كان بقصد كونه ملكا للآخر عوض تملّكه من الآخر ما يعطيه ، أي ما سمّياه حين المبادلة بينهما - ليس عقدا عند العرف والعقلاء ، بل العقلاء والعرف لا يطلقون العقد إلاّ على التعهّد على أمر يكون لذلك التعهّد والالتزام القلبي مبرزا من لفظ يكون صريحا في إنشاء ذلك العنوان المعاملي.

ولذلك يقولون لألفاظ الإيجاب والقبول - التي ينشأ بها تمليك عين بعوض مالي - عقد البيع ، وهكذا الأمر في سائر المعاملات ، كعقد الإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وغيرها ، أو كتابة بناء على صدق العقد بالكتابة ، أو بالصفقة أو بوضع اليد في يده كما في عقد البيعة.

وأمّا الأخذ والإعطاء خارجا فليس من هذا القبيل ، لأنّه يمكن أن يكون بدون الالتزام والتعهّد بأن يكون ملكا للآخر عوض تملّكه عنه.

ومن موارد هذه القاعدة هو أنّه لو نسي ذكر الأجل والمدّة في عقد الانقطاع ، فقد يقال ببطلان ذلك العقد ، وقال بعض آخر : بأنّه ينقلب دائما ، فيستشكل عليهم بأنّ العقود تابعة للقصود ، فكيف يمكن أن يقع الدوام الذي لم يكن مقصودا ولا يقع ما هو المقصود وهو المتعة والانقطاع؟ فمقتضى هذه القاعدة هو بطلان هذا العقد ، أي عقد الانقطاع والمتعة الذي نسي فيه ذكر الأجل.

وذلك من جهة أنّ الدوام غير مقصود ، فلا يقع ؛ لأنّ العقود تابعة للقصود ، وأمّا الانقطاع وإن كان مقصودا ولكن قد عرفت أنّ صرف القصد لا يترتّب عليه أثر وثمرة ما لم يبلغ إلى مرتبة الإنشاء ، فيحتاج إلى اجتماع أمرين : القصد والإنشاء على طبقه ، وكلّ واحد منهما منفردا لا أثر له.

ص: 150

ونتيجة هذا عدم وقوع كليهما ، أي عدم وقوع الدوام والانقطاع جميعا ، لنقصان كلّ واحد منهما من جهة ، وعدم اجتماع الأمرين في كلّ واحد منهما. أمّا الانقطاع لعدم بلوغه إلى مرتبة الإنشاء لعدم ذكر الأجل لنسيانه ، وأمّا الدوام فلعدم كونه مقصودا.

وإن شئت قلت : إنّ المقصود هو المتعة والمنشأ هو الدوام ، فما هو المقصود ليس بمنشإ ، وما هو المنشأ ليس بمقصود ، ومع ذلك فالمشهور يقولون بأنّه ينعقد دائما ، بل ادّعى بعضهم عليه الإجماع.

ويمكن توجيه كلامهم بحيث لا يكون مخالفا لهذه القاعدة ، بأن يقال : إنّ المتعة والدوام ليستا من نوعين وحقيقتين مختلفتين ، بل كلاهما عبارة عن العلاقة الخاصّة ، والارتباط المخصوص بين الرجل والمرأة في عالم الاعتبار التشريعي يعبّر عنها بالزوجيّة ، والزوجيّة من الأحكام الوضعيّة التي جعلها الشارع في عالم الاعتبار التشريعي مثل الطهارة والنجاسة ، وهي من الاعتبارات القابلة للجعل ابتداء واستقلالا.

فكما أنّ للطهارة والنجاسة موضوعات في الشرع ، كذلك للزوجيّة أيضا موضوعات ، والحكم الكلّي المجعول من قبل الشارع وهو أنّ كلّ امرأة خلية إذا زوّجت نفسها بنفسها ، أو بتوسّط وكيلها ، أو وليّها بالشرائط المقرّرة شرعا - أي شرائط العقد من حيث المادّة والصورة ، وشرائط المتعاقدين أي الزوج والزوجة والمهر ، والأجل إن كان عقد الانقطاع - فهي زوجة ، سواء أكانت زوجيّتها دائمة أو موقّتة ، وهي المتعة.

فلا فرق في الزوجيّة بين أن تكون دائمة أو منقطعة ، والزوجيّة بعد اعتبارها لا ترفع إلاّ برافع ، وإلاّ فهي بحسب نفسها ليس لها أمد ونهاية.

نعم هي كسائر الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الشرعيّة تنتفي وتنعدم بانعدام موضوعها أو بتعيين الأجل والأمد لها من أوّل جعلها ، فالزوجيّة الدائمة ليست إلاّ

ص: 151

إنشاء نفس الزوجيّة من دون احتياجها إلى شي ء آخر ، وليست حقيقتها مركّبة من هذا الاعتبار وعدم ذكر الأجل ، بمعنى أنّها ليست بشرط لا ، كي تكون مركّبة من أمر وجودي وأمر عدمي ، أي العلاقة والارتباط الاعتباري وعدم كونها موقّتة ، كما توهّم هذا التركيب في الوجوب.

فقالوا بأنّه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك ، وبيّنّا خطأهم في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وقلنا إنّ الوجوب عبارة عن نفس طلب الشي ء من دون أيّ قيد عدمي أو وجودي آخر ، غاية الأمر بعد طلب الشي ء إذا صدر إجازة الترك من الشارع فيقال : إنّه مستحب ، وإلاّ فطبع نفس الطلب يقتضي الوجوب وعدم جواز الترك بحكم العقل بلزوم إطاعة المولى ، فلا يحتاج الوجوب إلى مئونة زائدة على نفس الطلب ، والذي يحتاج إلى مئونة زائدة هو الاستحباب.

ولذلك قلنا في الأصول إنّ إطلاق الصيغة يقتضي الوجوب ، وإلاّ لو كان راضيا بالترك كان عليه البيان ، وما نحن فيه من ذلك القبيل عينا ، أي : الزوجيّة الدائميّة لا تحتاج إلاّ الى إنشائها من قبل من له أهليّة ذلك ، من دون احتياجها إلى مئونة زائدة على ذلك ، من قيد عدم كونها موقّتة ، بخلاف الزوجيّة الموقّتة التي يقال لها المتعة والمنقطعة ، فإنّها تحتاج إلى ذكر الأجل ، فإذا لم يذكر الأجل لم تقع الزوجيّة الموقّتة في مقام الإنشاء ، وإرادتها بدون الإنشاء قلنا إنّها لا أثر لها.

فعدم وقوع الزوجيّة الموقّتة يكون مقتضى القاعدة ، وأمّا وقوع الدائمة فلأنّه قصد الزوجيّة على الفرض ، غاية الأمر كان له قصد آخر ، وهو أن تكون موقّتة لكن إنشاء وقع على طبق أحد القصدين ، أي قصده لأصل الزوجيّة ، دون قصده الآخر أي كونها موقّتة ، فذلك القصد الآخر الذي لم يقع الإنشاء على طبقه يبقى لغوا وبلا أثر أصلا.

فليس فتوى المشهور بحصول الزوجيّة الدائمة مخالفا لهذه القاعدة. وإن شئت

ص: 152


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 112.

قلت : إنّ إطلاق عقد النكاح يقتضي كون الزوجيّة المنشأة دائميّة.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات في هذه المسألة لعلّها تكون مستندهم في هذه الفتوى :

منها : ما رواه ابن بكير قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام في حديث : « إن سمّي الأجل فهو متعة ، وإن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات » (1).

ومنها : ما رواه أبان بن تغلب في حديث صيغة المتعة أنّه قال لأبي عبد اللّه علیه السلام : فإنّي أستحي أن أذكر شرط الأيّام ، قال علیه السلام : « هو أضرّ عليك » قلت : وكيف؟ قال علیه السلام : « لأنّك إن لم تشرط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدّة ، وكانت وارثا ، ولم تقدر على أن تطلّقها إلاّ طلاق السنّة » (2).

ومنها : أيضا ما رواه في التهذيب عن الكافي مثله (3).

ومنها : ما رواه هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أتزوّج المرأة متعة مرّة مبهمة؟ قال : فقال علیه السلام : « ذاك أشدّ عليك ترثها وترثك ، ولا يجوز لك أن تطلّقها إلاّ على طهر وشاهدين » قلت : أصلحك اللّه فكيف أتزوّجها؟ قال : « أيّاما معدودة بشي ء مسمّى مقدار ما تراضيتم به ، فإذا مضت أيّامها كان طلاقها في شرطها ، ولا نفقة ولا عدّة لها عليك » (4).

ص: 153


1- « الكافي » ج 5 ، ص 456 ، باب في أنّه يحتاج أن يعيد عليها الشرط. ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 267 ، ح 1134 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 59 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 469 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 455 ، باب شروط المتعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 265 ، ح 1145 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 70 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 150 ، ح 551 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ذيل ح 2.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 267 ، ح 1151 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 76 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 152 ، ح 556 ، باب ان ولد المتعة لاحق بأبيه ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 470 ، أبواب المتعة ، باب 20 ، ح 3.

ومن الموارد التي يستشكل على هذه القاعدة مورد تخلّف الوصف حيث قالوا بصحّة المعاملة ، غاية الأمر إنّ تخلّف الوصف - مثل تخلّف الشرط - يوجب الخيار.

فلو قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، فظهر أنّه ليس بكاتب ، فما قصداه هو العبد الكاتب ، وما هو الموجود ووقع على فرض صحّة هذه المعاملة غير ما هو المقصود.

وذلك من جهة أنّ واجد قيد غير فاقدة ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فليست العقود تابعة للقصود.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ في مورد تخلّف الوصف - الذي هو عبارة عن بيع عين شخصيّة على أن تكون متّصفة بصفة كذا - أيضا التزامين وقصدين : أحدهما : تعلّق بنقل هذه العين الخارجيّة. والثاني : تعلّق بكونها متّصفة بصفة كذا ، غاية الأمر إنّ أحد الالتزامين مربوط بالآخر.

وليس هاهنا التزامين مستقلّين ، بحيث يكون أحدهما أجنبيّا عن الآخر ، بمعنى أنّه باع هذه العين والتزم بصيرورتها ملكا للمشتري مقابل العوض المسمّى والتزم أيضا كونها متّصفة بكذا والتزم المشتري بانتقالها إليه مقابل ذلك العوض الذي سمّياه ، ولكن كان هذا الالتزام منه في ظرف التزام البائع بكونها متّصفة بكذا ، فالتزامه مربوط بالتزام البائع بكونها متّصفة بصفة كذا.

فإذا لم يكن المبيع كذلك وكان فاقدا لتلك الصفة ، فهو - أي : المشتري مثلا - بالخيار في أن يقبل هذا الانتقال ويبرم العقد ويرفع اليد عن تخلّف ذلك الوصف ، أو يفسخ ويحلّ العقد من جهة عدم التزامه بقبول الفاقد للوصف مقابل ذلك العوض المسمّى كي يلزمه ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) بلزوم القبول وعدم جواز الحلّ والفسخ ، فما وقع

ص: 154


1- المائدة (5) : 1.

- أي : انتقال هذه العين التي كانت فاقدة لذلك الوصف - كان مقصودا ، غاية الأمر كان هناك قصد آخر ووقع أيضا تحت الإنشاء ، ولكن حيث ليس له مصداق فذلك المقصود لم يقع.

وبعبارة أخرى : ما وقع ليس تمام مقصوده ، لا أنّه وقع غير ما هو مقصوده ، بل الصحيح أنّ ما وقع تمام ما قصد لكن بأحد القصدين ، والقصد الآخر ومتعلّقه لم يقع أصلا ، لعدمه وعدم إمكان وقوع المعاملة على الصفة الشخصيّة المعدومة.

وبعبارة أوضح : حال تخلّف الوصف حال تخلّف الشرط ، فكما أنّ في مورد تخلّف الشرط يقولون بصحّة المعاملة - وليس من قبيل ما وقع لم يقصد ، بل يكون ما وقع مقصودا ، لأنّ الشرط التزام آخر في ضمن الالتزام بأصل المعاملة ولذلك يوجب تخلّفه الخيار - فليكن تخلّف الوصف أيضا هكذا ، فإنّه أيضا التزام في التزام.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 155

ص: 156

31 - قاعدة انحلال العقود

اشارة

ص: 157

ص: 158

قاعدة انحلال العقود (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « انحلال العقد الواحد المتعلّق بالمركب إلى عقود متعددة ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان المراد منها

اشارة

فنقول : إنّ المراد من انحلال العقد الواحد إلى عقود متعدّدة ، هو أنّ العقد الواقع على هذا المركّب واقع على كلّ جزء من أجزائه ، فإذا باع داره مثلا فالبيع - أي التمليك بعوض مالي - واقع على جميع أجزاء هذه الدار ، فكما أنّه يصحّ أن يقال : إنّ جميع هذه الدار مبيع ، يصح أن يقال بالنسبة إلى كلّ جزء من أجزائها : أنّه مبيع ، وهذا كما أنّه في المركّب الذي تعلّق به الطلب يصحّ أن يقال : إنّ مجموعه واجب ، كذلك يصحّ أن يقال لكل جزء منه : إنّه واجب.

فكما أنّ الانحلال في باب الواجبات المركّبة من الأجزاء عبارة عن أنّ الواجب باعتبار المجموع واحد ، وباعتبار الأجزاء واجبات متعدّدة ، فكذلك الأمر هاهنا أيضا ، فالعقد باعتبار مجموع ما تعلّق به عقد واحد ، ولكن باعتبار أجزائه عقود متعدّدة ،

ص: 159


1- (*) « عناوين الأصول » عنوان 1. « مجموعه رسائل » العدد 4 ، ص 459 ، « قواعد فقهي » ص 237.

لكن لا مستقلّة ، بل تكون ضمنيّة ، كما أنّ الواجبات أيضا كذلك ، أي تكون الأجزاء واجبات ضمنيّة.

ولكن هناك فرق بينهما في بعض الموارد ، وهو أنّ الواجبات المركّبة دائما وفي كلّ مورد تكون أجزاؤها واجبات نفسيّة مثل الكلّ ولكن ضمنيّة ، وفي باب العقود قد لا يكون كلّ جزء من أجزاء المتعلّق قابلا لأن يتّصف بما يتّصف به الكلّ ، كما في باب عقد النكاح الواقع على امرأة ، فإنّ المجموع يتّصف بكونها زوجة ومعقودة لفلان ، ولكن كلّ عضو منها لا يتّصف بأنّه زوجة أو معقودة.

وأمّا في أغلب العقود والمعاملات يتّصف الجزء بما يتّصف به الكلّ ، وإن كان بعنوان الجزء المشاع ، لا الجزء الخارجي الشخصي.

والحاصل : أنّ الانحلال في العقود عبارة عن تعلّق العقد بالأجزاء مثل تعلّقه بالكلّ ، أي كما يكون المجموع في قبال مجموع ما جعل في العقد عوضا ، كذلك يكون كلّ جزء من أحد العوضين في قبال الجزء من العوض الآخر.

وهذا فيما إذا كان المجموع مع كلّ جزء منه من سنخ واحد بحسب الجنس ، وكذلك بحسب القيمة بنسبة كميّتهما واضح ، مثلا لو اشترى طنا من الحنطة بمبلغ كذا من الدراهم أو الدنانير ، فأبعاض المبيع من سنخ الكلّ ، أي الأبعاض حنطة والكلّ أيضا كذلك أي : حنطة ، وقيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة الكلّ كنسبة كميّة ذلك البعض إلى كميّة ذلك الكلّ.

فبناء على هذا ، لو باع مجموع الطن بثلاثين دينارا ، فقد باع نصفه بخمسة عشر ، وثلثه بعشرة ، وهكذا.

وأمّا لو لم تكن نسبة المجموع مع أبعاضه من هذا القبيل ، بل ربما لا يكون للجزء الخارجي - لا الجزء بعنوان أحد الكسور كالنصف والثلث وهكذا - قيمة أصلا ، مثلا الفرس العربيّة التي قيمتها ربما تكون مئات من الدنانير ، رجلها أو رأسها ليس له

ص: 160

قيمة أصلا ، فإن لم يكن للجزء الخارجي الشخصي المعيّن قيمة عند العرف أصلا ، فالانحلال بالنسبة إليه لا معنى له ، لأنّ المراد من الانحلال في هذا المقام هو انحلال العقد الواحد - بالنسبة إلى أبعاض العوضين - إلى عقود متعدّدة ، فكأنه كلّ بعض من المبيع مثلا وقع عليه العقد بإزاء ما يقابله عند العرف من الثمن ، وهذا فيما إذا كان عندهم للجزء مقابل ومقدار من الثمن ، قلّ أو كثر.

وإن لم يكن للجزء الخارجي قيمة ، فربما ينحلّ العقد إلى عقود متعدّدة بحسب الكسور المشاعة في العوضين. مثلا إذا باع فرسا نصفه المشاع لغيره ، فهذا العقد ينحلّ إلى عقدين : أحدهما متعلّق بالنصف الذي يملكه العاقد ، وهو عقد صدر من مالكه ، ويجب عليه الوفاء به ، والثاني : عقد متعلّق بمال الغير ، وهو عقد صادر عن غير المالك ، فيكون فضوليّا يحتاج نفوذه إلى إجازة المالك.

ومعنى الانحلال هو أنّ العقد الواحد وإن كان واحدا بحسب الصورة ، ولكن عند الدقّة عقود متعدّدة ، ولكن بالقوّة لا بالفعل.

وتظهر الثمرة فيما إذا كان بعض المبيع ممّا يملكه العاقد ، وبعضه الآخر ممّا لا يملكه ، بل ملك للغير ، أو بعضه ممّا يملك ومال شرعا يجوز المعاوضة عليه كالغنم والخلّ ، وبعضه الآخر ممّا لا يملك ، أي ليس بمال شرعا كالخنزير والخمر.

فلو باع مجموع غنم وخنزير صفقة واحدة ، أو خلّ وخمر كذلك - أي صفقة واحدة - فإن قلنا بعدم الانحلال ، فلا بدّ من القول ببطلان المعاملة ، لأنّه يشترط في صحّة المعاملة والبيع أن يكون المبيع مالا شرعا ، وإلاّ يكون الأكل بإزائه أكلا لمال الغير بالباطل.

وأمّا إذا قلنا بالانحلال ، فكأنّه صدر منه عقدان : أحدهما تعلّق بما هو ليس بمال شرعا ، وهو ما تعلّق بالخمر والخنزير مثلا ، فيكون باطلا. والآخر تعلّق بما هو مال ، وهو الذي تعلّق بالغنم والخلّ مثلا ، فيكون صحيحا.

ص: 161

غاية الأمر للمشتري أو البائع - أي : الجاهل منهما بالنسبة إلى ما انتقل إليه إن كان مركّبا ممّا يملك وما لا يملك - خيار تبعّض الصفقة ، وإلاّ فأصل المعاملة صحيح لا إشكال فيه.

فأثر الانحلال صحّة المعاملة والعقد بالنسبة إلى ذلك الجزء الذي لا مانع من جعله عوضا في المعاملة ، سواء كان جزءا خارجيّا أو كسرا مشاعا. والجزء الخارجي سواء كان له وجود مستقلّ ، كما إذا باع ثوبا وغنما صفقة واحدة ، أو لم يكن له وجود مستقلّ منفصل عن الأجزاء الآخر ، كالثمر على الشجر ، والحمل في بطن أمّه إذا كان الثمر لشخص والشجر لآخر ، وكذلك الأمّ لشخص والحمل لشخص آخر ، فصاحب أحدهما باع المجموع صفقة واحدة ، فالعقد ينحلّ إلى عقدين : أحدهما بالنسبة إلى ما يملكه ، وهو صحيح غاية الأمر للمشتري خيار تبعّض الصفقة ، والآخر بالنسبة إلى ما لا يملكه ، وهو موقوف على الإجازة.

وخلاصة الكلام : أنّ المتعلّق قد لا يكون قابلا للانحلال ، لا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة ، ولا بالنسبة إلى الكسر المشاع ، وذلك مثل تعلّق عقد النكاح بامرأة معيّنة ، فهذا العقد لا يمكن الانحلال فيه ، لا بالنسبة إلى أجزائها الخارجيّة ، ولا بالنسبة إلى كسورها المشاع ، لعدم إمكان أن يكون بعض أجزائها معقودة بعقد صحيح ، وبعضها الآخر غير معقودة ، وكذلك بالنسبة إلى كسورها ، فنصفها مثلا تكون زوجة والعقد بالنسبة إليه صحيح ، بخلاف النصف الآخر.

ومقابل هذا القسم هو تعلّقه بأشياء متعدّدة ، منفصلة كلّ واحدة منها ، مستقلّة في الوجود ، كما إذا قال : بعتك هذا الكتاب وهذا الثوب بكذا ، فجعل أمرين مستقلّين مبيعا في عقد واحد ، أو يقول من هو وكيل عن قبل امرأتين في تزويجهما : زوّجتك هاتين المرأتين. وهكذا الأمر في سائر المعاملات والعقود.

فلو ظهر مانع عن صحّة بيع أحدهما في المثال الأوّل ، مثل أن لم يكن أحدهما

ص: 162

مال شرعا ، أو لم يكن للبائع ، فينحلّ العقد ، ويكون صحيحا بالنسبة إلى ما ليس له مانع عن بيعه ، وفاسدا بالنسبة إلى الآخر ، أو يكون موقوفا على إجازة مالكه.

وكذلك لو ظهر عدم صحّة نكاح إحدى المرأتين - لكونها من المحارم ، أو لكونها بكرا وقلنا بتوقّف صحّة نكاح البكر على إذن الأب كما هو المشهور ، أو من جهة أخرى - فينحلّ العقد ، ويكون بالنسبة إلى إحداهما صحيحا ، وبالنسبة إلى الأخرى غير صحيح.

ثمَّ إنّه قد يكون ما وقع عليه العقد بالنسبة إلى كسورة المشاع قابلا للانحلال ، وأمّا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة ليس قابلا للانحلال. وذلك كما إذا كان المبيع عبدا أو جارية ، فبالنسبة إلى كسورة المشاع قابل للانحلال ، كما إذا كان نصف العبد أو الجارية له ونصفه الآخر لغيره ، فينحلّ العقد ويكون صحيحا بالنسبة إلى نصفه الذي يملكه ، ويكون موقوفا على إجازة المالك بالنسبة إلى ذلك النصف الآخر الذي لغيره ، أو يكون باطلا فيما إذا ردّه ولم يجز.

وأمّا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة فليس قابلا للانحلال ، لعدم كونها مالا فيما إذا كان كلّ واحد منها وحده وقع العقد عليه ، مثلا لو باع يد العبد أو رجله أو سائر أعضائه يكون البيع باطلا ، لعدم كونه مالا.

بل ربما يكون ما وقع عليه العقد أمرين ، كلّ واحد منهما مستقلّ في الوجود ، ومع ذلك لا يمكن الانحلال بالنسبة إليها ، لعدم كون كلّ واحد منها منفردا عن الآخر مالا ، وذلك فيما تكون الماليّة لكلّ واحد منهما في ظرف اجتماعه مع الآخر.

وبعبارة أخرى : الماليّة لهما فيما إذا كانا زوجين كمصراعي الباب ، أو كزوجي الحذاء والجورب وأمثالهما ، ممّا ليس لأحد الفردين منفردا عن الآخر قيمة عند العرف والعقلاء.

والضابط الكلّي لصحّة الانحلال هو أنّه لو أوقع عقدا مستقلاّ عليه كان صحيحا ،

ص: 163

بمعنى أنّ في صورة انفراده عن سائر أجزاء المعقود عليه يكون قابلا لوقوع العقد عليه. وقد يكون بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة أيضا قابلا للانحلال ، وذلك كعقد من لؤلؤ مثلا ، فلو باعه فظهر أن بعض حباته مغصوبة ، فينحلّ العقد ويكون صحيحا بالنسبة إلى أجزائه التي هي ملك للبائع أو ملك لموكّله أو لمن هو وليّ عليه ، وفاسد أو موقوف على الإجازة بالنسبة إلى أجزائه الآخر التي ليست له ولا لموكّله ولا لمن هو وليّ عليه.

ثمَّ إنّ الانحلال على ثلاثة أقسام :

أحدها : الانحلال في متعلّقات النواهي وموضوعاتها، أي متعلّقات متعلقاتها ، كقوله : لا تشرب الخمر ولا تغتب المؤمنين ، وكذلك الانحلال في موضوعات الأوامر ، أي متعلّقات متعلّقاتها ، كقوله : أكرم العلماء وأكرم السادات.

وأمّا بالنسبة إلى نفس متعلّقات الأوامر فلا انحلال أصلا ، إمّا لعدم القدرة غالبا على إيجاد جميع أفراد متعلّقاتها ، وإمّا لحصول الغرض بإتيان صرف الوجود منها ، فبعد إيجاد أوّل وجود منها لا يبقى سبب ووجه لطلب سائر أفرادها.

والمراد من الانحلال في هذا القسم هو أنّ الطلب فعلا أو تركا تعلّق بالطبيعة السارية إلى جميع أفرادها وخصوصيّاتها.

وإن شئت قلت : إنّ المصلحة والمفسدة في جميع وجودات الطبيعة والغرض قائم بكلّ وجود وكلّ فرد منها ، ولذلك يكون لكلّ فرد فعلا وتركا امتثالا مستقلاّ ، وعصيانا مستقلا ، فالاطاعة والامتثال في كلّ فرد لا مساس له بالمخالفة والعصيان بالنسبة إلى الفرد الآخر.

وأثر هذا القسم من الانحلال هو انحلال الخطاب الواحد إلى خطابات متعدّدة ، في النواهي بالنسبة إلى متعلّقاتها ومتعلّقات متعلّقاتها ، وفي الأوامر بالنسبة إلى متعلّقات متعلّقاتها فقط ، دون متعلّقاتها إن كان لتلك الموضوعات - أي متعلّقات

ص: 164

متعلّقات الأوامر - عموم أو إطلاق شمولي.

الثاني : الانحلال في باب دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر والمراد بالانحلال هناك هو الانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، والتفصيل ذكرناه في محلّه.

الثالث : الانحلال في هذا المقام ، وقد عرفت التفصيل فيه.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من انحلال العقود يأتي في الإيقاعات أيضا ، فلو أعتق عبدين بإيقاع واحد ، فظهر أنّ أحد عبدين ليس له بل لغيره ، فهذا العتق يقع صحيحا بالنسبة إلى ذلك الذي ملك للمعتق ، وباطل بالنسبة إلى ذلك الذي ملك لغيره ، وليس موقوفا على إجازة مالكه ، لأنّ الإجازة المتأخّرة عن الإيقاع فضولة لا تؤثّر فيه ، وليس الإيقاع من هذه الجهة مثل العقد ، فإنّ الإجازة المتأخّرة لا تصحّح الإيقاع الصادر من غير أهله. والتفصيل في محلّه.

والأقسام التي ذكرناها للانحلال في العقود تأتي في الإيقاعات أيضا ، فتارة الإيقاع ليس قابلا للانحلال أصلا ، لا بالنسبة إلى أجزائه الخارجيّة ، ولا بالنسبة إلى كسورها ، كما إذا طلّق امرأته المعيّنة فلا معنى لانحلال هذا الإيقاع ؛ لأنّ بعض أجزائها الخارجيّة لا يمكن أن تكون مطلّقة دون بعض آخر ، كما أنّ كسورها أيضا كذلك ، أي لا يمكن أن يكون نصفها مثلا أو ثلثها مطلّقة دون كسورها الآخر.

والضابط الذي ذكرنا لصحّة الانحلال في العقود وهو أنّ الانحلال يكون صحيحا بالنسبة إلى الأجزاء أو الكسور التي لو كان كلّ واحد منها يقع مستقلا منفردا تحت العقد كان صحيحا ، فكذلك نقول : إنّ ضابط الانحلال في الإيقاعات هو أن يكون ما ينحلّ إليه لو كان الإيقاع يرد عليه مستقلا ومنفردا لكان صحيحا.

ص: 165

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة

وهو أمور :

الأوّل : الإجماع ، فإنّهم - إذا ظهر أنّ بعض المبيع مثلا ممّا لا يملك ، أو ظهر أنّه ممّا لا يملكه البائع - يقولون بصحّة البيع بالنسبة إلى ما يملك ، أو بالنسبة إلى ما يملكه ، وعدم صحّته بالنسبة إلى ذلك البعض الآخر أي البعض الذي لا يملكه ، أو يكون ممّا لا يملك.

واستدلّوا لهذا التفصيل بهذه القاعدة ، أي يقولون بأنّ الصحّة في البعض وعدمها في البعض الآخر تكون لأجل انحلال العقد إلى عقدين : أحدهما صحيح لأجل وجود جميع شرائط الصحّة فيه ، والآخر باطل أو موقوف على إجازة المالك لأجل عدم اجتماع جميع شرائط الصحّة ، فهم يتمسّكون بهذه القاعدة من غير نكير من أحدهم لهذا الاستدلال ، وهو كاشف عن اتّفاقهم على صحّة هذه القاعدة ، واتّفاقهم على ذلك يكشف كشفا قطعيّا عن تلقّيهم هذا الأمر - أي : صحّة هذه القاعدة - عن المعصومين علیهم السلام .

وفيه : ما ذكرنا مرارا من أنّ هذه الإجماعات التي ادّعيت في أمثال هذه المقامات ليست من الإجماعات التي اصطلحنا في الأصول على حجّيتها ، لاحتمال أن يكون مدركهم في هذا الاتّفاق أحد الأمور الآخر ممّا ذكروها مدركا لهذه القاعدة ، ومع هذا الاحتمال ينسدّ باب القطع بل الاطمئنان بأنّ اتّفاقهم مسبّب عن رأي الامام علیه السلام ، فلا يفيد مثل هذا الإجماع في كونه دليلا لمثل هذه القاعدة.

الثاني : بناء العرف والعقلاء في معاملاتهم أنّ المبيع مثلا إذا كان بعضه ممّا لا يملك وليس بمال عندهم ، أو ظهر كونه ملكا للغير ، على أنّ تلك المعاملة صحيحة بالنسبة إلى ذلك البعض الذي ليس ملكا للغير ، وأيضا ليس ممّا لا يملك بل هو مال عندهم ، ويكون لنفس البائع أو لمن أذن له أن يبيعه أو يكون لمن هو وليّ عليه.

ص: 166

وبعبارة أخرى : بناء العرف والعقلاء في أسواقهم ومعاملاتهم - سواء كان بيعا أو إجارة أو رهنا أو عارية أو وقفا أو غير ما ذكر من أقسام العقود والمعاملات بل وكذلك في الإيقاعات من طلاق أو عتق أو غير ذلك - على أنّ ما وقع عليه العقد أو الإيقاع إن كان بعضه لا يصلح لوقوع ذلك العقد عليه لفقد شرط من شرائط ذلك العقد أو ذلك الإيقاع أو لوجود مانع فيه ، وبعضه الآخر يصلح لذلك ، فيبنون على صحّة تلك المعاملة بالنسبة إلى ذلك البعض الذي واجد لشروط الصحّة ، وبطلانها بالنسبة إلى ذلك البعض الآخر.

مثلا لو قال لعبدين أحدهما ملك له والآخر لغيره ، من دون أن يكون مأذونا من قبله أو وليّا عليه : أنتما حرّان ، أو قال : أعتقتكما ، فيرون انحلال هذا الإيقاع والإنشاء إلى إيقاعين وإنشائين : أحدهما صحيح ونافذ ، والآخر باطل وغير نافذ ، وكذلك لو قال لامرأتين إحديهما زوجته والأخرى أجنبيّة بحضور شاهدين عدلين : أنتما طالقان ، وكان هذا الإيقاع في حال طهر زوجته من دون مواقعته لها ، فيرون انحلال هذا الطلاق إلى طلاقين : أحدهما صحيح ونافذ وهو طلاق من هي زوجته ، والآخر باطل وهو طلاق من هي أجنبيّة عنه ، وكذلك الأمر في سائر الإيقاعات.

وأمّا العقود فقد تقدّم أنّه لو باع مال نفسه ومال غيره بعقد واحد ، فيكون ذلك العقد منحلاّ إلى عقدين بنظر العرف والعقلاء : أحدهما صحيح وهو ما تعلّق بمال نفسه ، والثاني باطل إن ردّ المالك ، أو موقوف على إجازة المالك ، وكذلك الأمر عندهم - أي عند العرف والعقلاء - في سائر العقود والمعاملات.

مثلا لو أعطى شيئين عارية بعقد واحد ، أو إجارة كذلك - أي بعقد واحد - فيرون العقد منحلاّ إلى عقدين : أحدهما صحيح وهو الذي تعلّق بمال نفسه ، والآخر باطل أو موقوفا على الإجازة وهو ما تعلّق بمال الغير.

فهذا بنائهم في باب العقود والإيقاعات ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة

ص: 167

والبناء ، بل أمضاها بواسطة العمومات والإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات.

الثالث : أنّ صيغ هذه العقود والإيقاعات أسباب شرعيّة لإنشاء مفادها ومضامينها ، فإذا قال المالك بعتك هذا الكتاب مثلا بدينار ، فهذا القول إذا صدر عن المالك غير المحجور عليه عن قصد وإرادة جدّية يكون سببا لتمليك المشتري لذلك الكتاب.

فإذا كانت المعاملة واجدة لشرائط الصحّة ولم يكن في البين ما يمنع عنها تكون الصيغة سببا أو آلة لإنشاء تلك المعاملة ، أي ملكيّة ذلك الكتاب لذلك المشتري بعوض ما سموه في تلك المعاملة.

ومن المعلوم أنّ هذه الصيغ لا تؤثّر في إيجاد مضمونها ومفادها في عالم الاعتبار التشريعي ، إلاّ إذا اجتمعت شرائط العقد والمتعاقدين والعوضين ولم يكن مانع في البين. فتارة تجتمع الشرائط في مجموع ما تعلّق به العقد ، فالصيغة تؤثّر في إيجاد المجموع ، وهذا هو معنى صحّة العقد بتمامه ، ولا معنى للانحلال حينئذ ، لأنّه عقد واحد صحيح وقع ووجد تمام مضمونه في عالم الاعتبار. وأخرى : لا توجد شرائط الصحّة في جميع أجزائها ، فيكون عقدا باطلا بتمامه ، وأيضا لا وجه للانحلال. وثالثة : توجد شرائط الصحّة في بعض أجزائه دون البعض الآخر ، ففي هذا القسم تؤثّر الصيغة في ذلك البعض الذي واجد لشرائط الصحّة دون البعض الآخر ، وهذا هو الانحلال.

فالانحلال على طبق القواعد الأوّليّة ، وليس أمرا خارجا عن القواعد كي يحتاج إلى دليل ، وجميع الإيقاعات فيما ذكرنا مثل العقود بلا فرق بينهما أصلا.

وفيه : أنّ ظاهر هذا الكلام شبه مصادرة على المطلوب ، خصوصا فيما إذا كان متعلّق العقد أو الإيقاع ومفادهما تمليك شخص عبد في العقد ، أو عتقه في الإيقاع ، وكان نصفه له ونصفه الآخر لغيره.

ص: 168

فظاهر كون الصيغة سببا لوقوع مفادها في عالم الاعتبار التشريعي هو وقوع تمليك مجموع العبد أو عتق مجموعه في الفرض الثاني ، فعدم وقوع المجموع لوجود مانع في البعض ، أو لفقد شرط فيه ، ووقوع البعض الذي هو خلاف ظاهر السببيّة للتمام يحتاج إلى دليل ، وكونها سببا للتمام لا يمكن أن يكون دليلا على وقوع البعض ، إلاّ بما سنذكره في الوجه الآتي إن شاء اللّه تعالى.

الرابع : أنّه إذا باع عبده أو عبديه فلا شكّ في أنّه نقل تمام هذا العبد عن ملكه إلى ملك المشتري ، وكذلك الأمر في عبديه أو شيئين آخرين ، فلو كان نصف العبد مثلا في الفرض الأوّل أو أحدهما في الفرض الثاني ملكا للغير أو متعلّقا لحقّ الغير وهو عمدا أو اشتباها ملك المجموع في الأوّل ، والاثنين في الثاني ، فتعلّق قصده بنقل المجموع أو الاثنين لا ينافي تعلّقه بالبعض في ضمن المجموع والكلّ ، وأيضا لا ينافي تعلّقه بأحدهما في ضمن الاثنين ، بل لا معنى لتعلّقه بالمجموع والكلّ إلاّ تعلّقه بكلّ جزء جزء منه إذا لم يكن المركّب الكلّ ذا هيئة وصورة ، تكون تلك إلهية والصورة متعلّق القصد والإرادة ، وأيضا لا معنى لتعلّقه بالاثنين إلاّ تعلّقه بهذا وذاك ، فنقل كلّ واحد من الأجزاء في ضمن نقل الكلّ ، ونقل كلّ واحد منهما في ضمن نقل الاثنين مقصود ، وقد تعلّق بهما الإرادة والقصد.

وكذلك الأمر في الإيقاعات ، فلو أعتق تمام العبد فقصد عتق نصفه في ضمن قصد عتق تمامه موجود ، وإذا أعتق اثنين فقصد عتق أحدهما في ضمن قصد عتق الاثنين موجود.

فلو كان نصفه ملكا للغير أو متعلّقا لحقّ الغير في الفرض الأوّل ، أو كان أحدهما كذلك في الفرض الثاني وقلنا بالانحلال ، بمعنى تحقّق العتق في النصف دون النصف الآخر في الفرض الأوّل ، وفي أحدهما دون الآخر في الفرض الثاني ، فلا يمكن أن يقال : إنّ ما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، لأنّ ما وقع بعض المقصود ، وذلك لما ذكرنا أنّ ما وقع وما لم يقع كلاهما قد قصدا ، لكن فيما لم يقع كان مانعا هناك عن الوقوع ، ولذلك لم يقع مع

ص: 169

أنّه أيضا كان مقصودا ، وقاعدة العقود تابعة للقصود ليس مفادها أنّ كلّ ما قصد يقع ، بل مفادها أنّه بدون القصد لا يقع وفي مورد الانحلال لم يقع شي ء بدون القصد ، فلا يكون الانحلال مخالفا لتلك القاعدة ، كما ربما يتوهّم. نعم إنّ ما وقع ليس تمام ما قصد ، لا أنه لم يقصد أصلا.

إذا عرفت ذلك ، فنقول عمومات عناوين المعاملات وإطلاقاتها ، وأيضا عمومات عناوين الإيقاعات وإطلاقاتها ، مثل ( أَحَلَّ اللّهُ )( الْبَيْعَ ) (1) و ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) « والطلاق بيد من أخذ بالساق » (4) وأمثال ذلك تشمل ذلك العقد المنحلّ ، فيجب الوفاء به كالعقد المستقلّ المنفرد.

فإذا طلّق زوجتين له بصيغة واحدة وإيقاع واحد ، كما إذا قال بحضور شاهدين عدلين : يا فلانة ويا فلانة أنتما طالقان ، وكانت إحديهما واجدة لشرائط صحّة الطلاق ، أي كانت في طهر لم يواقعها فيه ، وأمّا الأخرى كانت حال الطلاق حائضا ، أو كانت في الطهر الذي واقعها فيه ، يصدق على التي شرائط صحّة طلاقها موجودة أنّه طلّقها بطلاق صحيح ، فيشملها أدلّة نفوذ الطلاق ، وكذلك في سائر الإيقاعات.

وأمّا في العقود ، لو باع خلاّ وخمرا أو شاة وخنزيرا ، فبالنسبة إلى الخلّ والشاة يصدق أنّه باعهما ببيع صحيح وعقد تامّ الأجزاء والشرائط ، فيشمله أدلّة نفوذ البيع و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

نعم لو كان الانضمام والاجتماع منظورا أو شرطا ، فيأتي خيار تخلّف الشرط ، أو خيار تبعّض الصفة.

ص: 170


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 128.
3- المائدة (5) : 1.
4- « مستدرك الوسائل » ج 15 ، ص 306 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 25 ، ح 3 ، « الجامع الصغير » ج 2 ، ص 75.

فالانحلال أمر تكويني وجداني ، وأدلّة نفوذ العقد المستقلّ المنفرد ، وكذلك أدلّة نفوذ الإيقاع المستقلّ المنفرد يشمل هذا العقد الانحلالي وإيقاعه ، ولا يحتاج إلى دليل آخر في مقام الإثبات وإجراء حكم العقد أو الإيقاع الصحيح عليه ، غاية الأمر مع خيار تبعّض الصفقة.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : تجري هذه القاعدة في جميع العقود والإيقاعات :

فمنها : البيع ، فإذا باع داره مثلا ، فظهر أنّ نصفها المشاع أو أقل أو أكثر ، أو قطعة معيّنة من تلك الدار ملك للغير ، أو متعلّق لحقّ الغير ، ككونها مرهونة مثلا بحيث لا يصحّ بيعها بالنسبة إلى ذلك النصف أو تلك القطعة ، فالعقد ينحلّ إلى عقدين :

أحدهما بالنسبة إلى ذلك النصف المشاع الذي للغير ، أو تلك القطعة التي ملك للغير أو متعلّق حقّ الغير ، فهو باطل أو موقوف على الإجازة ، والثاني بالنسبة إلى ما هو ملك طلق له وليس متعلّقا لحقّ الغير ، وهو عقد صحيح ، غاية الأمر فيه خيار تبعّض الصفقة.

ومنها : الإجارة ، فإذا آجر ما يصحّ إجارته له وما لا يصحّ بعقد واحد ، فينحلّ هذا العقد إلى عقدين : أحدهما صحيح ، والآخر غير صحيح وباطل ، أو موقوف على الإجازة.

ومنها : العارية ، فإذا أعار أشياء بعضها له وبعضها ليس له - أو ليس له أن يعيره لكونه متعلّقا لحقّ الغير - بعقد واحد ، فينحلّ إلى عقدين ، فبالنسبة إلى ما هو ملكه وليس ممنوعا عن التصرّف فيه شرعا يصحّ عاريته. ولا فرق في صحّة عارية ما هو ملكه وله التصرّف فيه شرعا بين أن يكون ذلك الشي ء جزءا خارجيّا لمجموع ما وقع

ص: 171

عليه العقد ، أو يكون كسرا مشاعا من كسورة ، أو يكون له وجود مستقلّ جمعه المعير مع غيره في العقد الواحد.

وهذا الكلام - أي عدم الفرق بين هذه الأقسام - جار في جميع العقود بل الإيقاعات فيما يمكن ويصحّ أن يقع متعلّقا للإيقاع ، لا فيما لا يمكن كالطلاق ، فإنّ جزء المرأة خارجيّا كان أو مشاعا لا يمكن ولا يصحّ فيه الطلاق ، وكذلك في عقد نكاحها.

وأمّا بالنسبة إلى ما ليس له أو ما ليس له التصرّف فيه شرعا ، فهو باطل أو موقوف على الإجازة.

نعم لو تزوّج اثنتين بعقد واحد ، وكانت إحديهما ممّن يجوز له نكاحها بخلاف الأخرى ، فإنّها لا يجوز. ففي هذه الصورة ينحلّ العقد إلى عقدين ، فيكون صحيحا بالنسبة إلى من يجوز له نكاحها ، وباطلا بالنسبة إلى من لا يجوز له نكاحها لمانع ، من كونها محرّما أو لجهة أخرى من الجهات التي توجب حرمة نكاح المرأة المذكورة في كتاب النكاح مفصّلا.

وكذلك لو طلّق زوجتين بإيقاع واحد وكان طلاق إحديهما واجدا لشرائط صحّة الطلاق دون الأخرى فينحلّ ذلك الإيقاع إلى إيقاعين ، أحدهما صحيح ، والآخر باطل.

وقد تقدّم ذكر هذا الفرع ، وإنّما الإعادة كانت لجهة بيان أنّ الطلاق أيضا مثل العقد قد يكون قابلا للانحلال ، وقد لا يكون قابلا له.

ومنها : الوقف ، فلو وقف شيئين بعقد واحد ، وكان أحدهما قابلا لأن يكون وقفا ، والآخر ليس قابلا لذلك لجهة من الجهات المانعة عن قابليته للوقفيّة ، فينحلّ عقد الوقف الواحد إلى عقدين : أحدهما يكون صحيحا وهو بالنسبة إلى ذلك الذي قابل للوقفيّة ، والآخر باطل وهو بالنسبة إلى ذلك الآخر الذي ليس قابلا لأن يكون وقفا.

وأمّا لو وقف دارا يكون نصفها المشاع له ، ونصفها الآخر لشخص آخر ، وليس

ص: 172

الواقف مأذونا من قبل ذلك المالك ، ولا وليّا عليه ، فالانحلال هاهنا دائر مدار القول بصحّة وقف المشاع ، فإن قلنا بصحّته تحقّق الانحلال وكان صحيحا بالنسبة إلى ما يملكه مشاعا ، وباطلا بالنسبة إلى النصف الآخر.

ومنها : المضاربة، فلو أعطى العامل مقدارا من الدراهم والدنانير مضاربة بعقد واحد ، فظهر أنّ أحد النقدين أو بعض أحدهما مال الغير ، ولم يأذن للعاقد بجعله مضاربة ، فينحل عقد المضاربة إلى عقدين : أحدهما صحيح وهو الواقع على مال نفسه أو على ما هو مأذون من قبل المالك في إعطائه للعامل مضاربة ، والثاني باطل وهو الواقع على نقود الغير من دون إذنه ورضاه ولا إجازته بعد الوقوع بناء على تأثير الإجازة المتأخّرة.

والحاصل : أنّه إذا كانت المضاربة الواقعة بعقد واحد بالنسبة إلى بعض ما وقعت عليه واجدة لشرائط الصحّة ، وبالنسبة إلى البعض الآخر غير واجدة لها ، فينحلّ عقد تلك المضاربة إلى عقدين : أحدهما صحيح وهو الواجد لشرائط الصحّة ، والآخر باطل وهو الفاقد لشرائطها ، وهكذا الحال في سائر العقود من المزارعة والمساقاة والصلح وغيرها.

وأمّا الإيقاعات ، فمنها العتق ، فإذا أعتق عبدا وكان نصفه مثلا له ونصفه الآخر لغيره ، ففي هذا الفرض لا يمكن الانحلال كي يقال بالصحّة بالنسبة إلى ما هو ملكه ، وبعدمها بالنسبة إلى النصف الآخر الذي لغيره ، وأنّه باق على ملك مالكه ، لأنّ العتق لا يتبعّض ، بل يسري إلى ذلك النصف الآخر الذي ليس له ، فينعتق تمامه ويقوم حصّة الشريك عليه إن كان موسرا ، وإن كان معسرا وقصد الإضرار على شريكه قيل ببطلان عتقه فلا يقع منه شي ء ، وقيل بانعتاق تمام العبد ولكن هو يسعى في قيمة حصّة الشريك ويعطيها له ، وعلى كلّ حال لا يأتي الانحلال المصطلح ، أي يكون العتق صحيحا بالنسبة إلى حصّة نفسه وباطلا بالنسبة إلى حصّة شريكه.

ص: 173

نعم لو أعتق عبدين ، فظهر مانع شرعي عن عتق أحدهما - مثل أنّه كان كافرا بناء على عدم صحّة عتق الكافر ، أو كان أحدهما رهنا عند غيره ، أو كان عتقهما من جهة الكفّارة وكان أحدهما كافرا ، أو غير ذلك من الموانع - فينحلّ الإيقاع إلى إيقاعين : أحدهما صحيح وهو بالنسبة إلى العبد الذي لا مانع من عتقه شرعا ، والثاني باطل وهو بالنسبة إلى العبد الذي لا يصحّ عتقه لمانع شرعا.

ومنها : الطلاق ، فلو طلّق زوجتين له بطلاق واحد ، وكان طلاق إحديهما واجدا لشرائط صحّة الطلاق ، دون طلاق الأخرى ، فمثل ذلك الطلاق ينحلّ إلى طلاقين ، أحدهما صحيح والآخر باطل.

ومنها : النذر، فلو نذر بصيغة واحدة عتق عبدين ، أو ذبح شاتين ، أحد العبدين له والآخر ملك لغيره ، وكذلك في الشاتين بأن كان أحدهما ملكا له جائز له التصرّف والآخر ليس له أو ليس له التصرّف فيه وان كان ملكه ، فينحلّ ذلك النذر إلى نذرين ، أحدهما صحيح والآخر باطل ، وهكذا الأمر بعينه في العهد واليمين وسائر الإيقاعات ، فلا نطول المقام.

ثمَّ إنّه لا إشكال في جريان خيار تبعّض الصفقة في موارد الانحلال في العقود المعاوضيّة للبائع والمشتري بالنسبة إلى ما ينتقل إليهما ، لأنّ المفروض أنّه في موارد الانحلال تبطل المعاوضة بالنسبة إلى بعض كلّ واحد من العوضين ، فلا يأتي بيد كلّ واحد من المتعاقدين تمام ما جعل عوضا في المعاملة ، فيتبعّض صفقة كلّ واحد منهما ، مع بنائه على أنّ المجموع يأتي بيده ورضائه بالمعاوضة. على هذا التقدير فتبعيض الصفقة والحكم بكونه ملزما بأخذ البعض دون البعض الآخر يكون على خلاف التزامه ورضائه ، فيتدارك بالخيار إجماعا ، مع أنّ لازم الانحلال عدم تبعّض الصفقة ، لأنّ الانحلال يرجع إلى أنّ هناك عقدان : أحدهما باطل والآخر صحيح ، فما هو العقد الصحيح ليس فيه تبعّض الصفقة كي يأتي خياره. وبعبارة أخرى : لا يبقى موضوع لخيار تبعّض الصفقة.

ص: 174

وفيه : أنّ الانحلال علّة لتبعّض الصفقة ، فكيف يمكن أن يكون موجبا لانعدامه؟

وهل هذا إلاّ التناقض.

ووجه الاشتباه هو أنّ المتوهم تخيّل أنّ معنى الانحلال أنّ هذا العقد الواحد من أوّل الأمر يكون مركّبا من عقدين مستقلّين لا ربط لأحدهما بالآخر ، غاية الأمر يكون أحدهما باطلا والآخر صحيحا ، وكلّ واحد منهما أجنبيّ عن الآخر ، فكلّ واحد من هذين العقدين لم تتبعّض فيه الصفقة ، وإنّما يكون أحدهما صحيحا لوجود شرائط الصحّة فيه دون الآخر. ولكن هذا اشتباه ، بل المجموع كان عقدا واحدا وإنشاء واحدا ، غاية الأمر حلله العقل وكذلك الفهم العرفي إلى عقدين ، أحدهما صحيح والآخر باطل.

وحيث أنّ الرضا وطيب النفس في معاوضة المجموع بالمجموع ، فلذلك جاء الخيار.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 175

ص: 176

32 - قاعدة الإلزام

اشارة

ص: 177

ص: 178

قاعدة الإلزام (1)

ومن القواعد المشهورة في فقه الإماميّة قاعدة « إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمران

الأوّل : إجماع الإماميّة - رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين - على صحّة هذه القاعدة ، وقد تقدّم منّا مرارا في هذا الكتاب أنّ هذه الإجماعات - مع وجود المدرك للمسألة من الروايات أو سائر الأدلّة - ليس من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجّيته وكشفه عن رأي المعصوم علیه السلام .

الثاني : الروايات :

فمنها : قوله علیه السلام في التهذيب بإسناده عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن علیه السلام :

ص: 179


1- « خزائن الأحكام » العدد 12 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 32 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 174 ، « القواعد » ص 59 ، « قواعد فقه » ج 1 ، ص 136 ، « قواعد الفقه » ص 27 ، « قواعد فقهية » ص 241 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 167 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 159.

« ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتزوّجوهنّ ولا بأس بذلك » (1).

ومنها : ما عن عبد اللّه بن محرز قال قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمّه فقال علیه السلام : « المال كلّه لابنته وليس للأخت من الأب والأمّ شي ء ».

فقلت : إنّا قد احتجنا إلى هذا والميّت رجل من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة عارفة ، قال علیه السلام : « فخذ لها النصف ، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم وأحكامهم ». قال ابن أذينة : فذكرت ذلك لزرارة ، فقال : إنّ على ما جاء به ابن محرز لنورا (2).

ومنها : ما عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن الأحكام؟ قال علیه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » (3).

وهناك روايات أخر خصوصا في مسألة جواز تزويج المطلّقة على غير السنّة ، يقول علیه السلام في بعضها « اختلعها » (4) وفي البعض الآخر « ابنها » (5) ، وفي بعضها « من دان

ص: 180


1- تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 190 ، باب أحكام الطلاق ، ح 109 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 292 ، ح 1032 ، باب ان المخالف إذا طلق امرأته ثلاثا. ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 321 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 5.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 100 ، باب ميراث الإخوة والأخوات مع الولد ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 321 ، ح 1153 ، باب ميراث الإخوة والأجداد ، ح 9 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 484 ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، باب 4 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 322 ، ح 1155 ، باب ميراث الإخوة والأجداد ، ح 11 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 148 ، ح 554 ، باب إن الإخوة والأخوات على اختلاف. ، ح 10. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 484 ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، باب 4 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 57 ، ح 186 ، باب أحكام الطلاق ، ح 105 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1027 ، باب إنّ المخالف إذا طلق امرأته. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدّمات الطّلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 1.
5- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 1 ، ص 310 ، ح 74 ، « معاني الأخبار » ص 263 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 322 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 11.

بدين لزمته أحكامهم » (1) وفي بعضها « إنّ المرأة لا تترك بغير زوج » (2). تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، لأنّ فيما ذكرنا غنى وكفاية ، والعمدة هو فهم المراد من قوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » لأنّ المراد من هذه القاعدة هو مفاد هذه الجملة وما هو الظاهر منها.

فنقول : أمّا سند الرواية المشتملة على هذه الجملة فلا ينبغي البحث عنه ؛ لكمال الوثوق بصدورها عنهم علیهم السلام ، وتكرّرها في جملة من الموارد كمورد أخذ المال منهم بالتعصيب وأيضا في مورد تزويج الزوجة المطلّقة على غير السنّة ، وغير ذلك ممّا تقدّم.

فالإنصاف أنّه إذا ادّعى أحد القطع بصدور هذا الكلام عنهم علیهم السلام ليس مجازفا فيما يدّعيه.

وأمّا ظاهر هذه الجملة ومعناها ، فهو عبارة عن أنّ المخالفين كلّ ما يرون أنفسهم ملزمين به من ناحية أحكامهم الدينيّة ويعتقدون أنّه عليهم ، سواء كان ذلك الشي ء من الماليّات أو الحقوق ، أو كان من الاعتباريّات الآخر كحصول الطلاق مثلا أو غيره وإن لم يكن ذلك ثابتا في أحكامكم الدينيّة ، فالزموهم بذلك مثلا إذا يرون أنفسهم ضامنين للمبيع إذا تلف عند المشتري وكان الخيار لذلك المشتري فالزموهم بذلك ، أي يكون الثمن لكم ويكون التلف عليه ، وإن كنتم لا تقولون بذلك وتقولون بأنّ الخيار لما كان للمشتري كما أنّه كذلك في خيار الحيوان بناء على اختصاصه بالمشتري ، أو من جهة كون المبيع حيوانا دون الثمن ، فالخيار للمشتري فقط دون البائع ، فالتلف يقع في

ص: 181


1- المصدر.
2- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 189 ، باب أحكام الطلاق ، ح 108 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 292 ، ح 1030 ، باب انّ المخالف إذا طلّق امرأته. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 4.

ملك من لا خيار له ، فلا بدّ للبائع أن يردّ الثمن إلى المشتري.

فإذا بعتم حيوانا من أحد هؤلاء وتلف عنده بعد قبضه ، فالزموه بضمان المسمّى وإن كان في زمان خياره وأنتم لا تقولون به ، لقاعدة « التلف في زمن [ الخيار ] من مال من لا خيار له » وفي المفروض من لا خيار له هو البائع ، فبمقتضى تلك القاعدة يكون ضمان المبيع التالف على البائع ، فيجب على البائع ردّ الثمن إلى ذلك المشتري.

ولكن حيث أنّهم يلزمون أنفسهم بأنّ التلف وقع في ملك المشتري فألزموهم بذلك ولا تردّوا إليهم الثمن.

وفي بعض أخبار هذا الباب تعليل هذا الحكم بأنّه خذوا منهم كما أنّهم يأخذون منكم ، بمعنى أنّ البائع لو كان واحد منهم لكان لا يردّ إليكم الثمن ، فأنتم أيضا لا تردّوا إليه الثمن وعاملوا معهم معاملة المثل.

وأمّا قول أبي جعفر علیه السلام في رواية محمّد بن مسلم عنه علیه السلام قال : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » فظاهره أنّ أصحاب كلّ دين أي المتديّنين به الملتزمين بأحكامه ينفذ عليهم ما يستحلّون ، مثلا إذا كانوا يستحلّون أكل أقرباء الميّت - أي العصبة - نصف المال من تركة الميّت ، فينفذ هذا الحكم عليهم ، أي إذا كانت العصبة منّا أي من أهل الولاية ، فيجوز له أن يأخذ منهم نصف تركة الميّت ، كما كان هذا صريح رواية عبد اللّه بن محرز حين ما قال ابن محرز له علیه السلام : إنّ الميّت رجل من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة عارفة ، قال علیه السلام : « خذ لها النصف ، خذوا منهم كما يأخذون منكم ».

الجهة الثانية : في بيان شرح مفاد هذه القاعدة وسعة دلالتها وشمولها للموارد

فنقول : في كلّ مورد يلتزم المخالف بمقتضى مذهبه بورود ضرر عليه ، سواء كان

ص: 182

ذلك الضرر ماليّا ، أو ذهاب حقّ منه عبده ، أو عتق عبده ، أو فراق زوجته ووقوع طلاقه ، أو ضمانه لمال تالف ، أو كون حقّ الأخذ بالشفعة لشريك أو شركة غيره في ميراثه ، ففي جميع تلك الموارد للموافق إلزام المخالف وإن لم يكن ورد ذلك الضرر حقّا عند الموافق ، بل ينكره ولا يعترف به حسب مذهبه وما يدين به.

فلو كان المخالف حسب مذهبه يرى نفسه ضامنا لمال تالف بأحد أسباب الضمان عنده ، وليس ذلك السبب سببا للضمان عند الموافق ، كموارد ضمان ما لم يجب أو ضمان العارية غير المضمونة مثلا لو تلف عند المستعير المخالف ما استعاره ، وهو ممّا يمكن إخفاؤه كالثياب مثلا ففي بعض المذاهب - وهو مذهب المالكيّة - القول بضمان التالف ، فإذا كان المستعير منهم يرى نفسه ملزما بضمان ذلك التالف ، والموافق المعير لا يرى لماله التالف ضمانا ، لأنّ العارية التي غير الذهب والفضة ما لم يشترط ليس فيه ضمان وإن كان ممّا يمكن إخفائه ، ولكن مع ذلك له أن يلزم المستعير المخالف ويأخذ منه ضمان ماله التالف بهذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام ، لقوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ولقوله علیه السلام : « خذوا منهم كما يأخذون منكم ».

وكذلك لو حلف المخالف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، بأن قال مثلا : زوجتي طالق ، أو عبدي حرّ ، أو جميع ما أملك أو بعضه المعيّن صدقة إن فعلت كذا ، أو إن لم أفعل كذا ، فهذا الحلف من أسباب الطلاق والعتاق والصدقة عند المخالف ، ولكن لا اثر له عندنا أصلا ، فيرون صحّة مثل هذا الطلاق وباقي المذكورات ، فيجوز إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتزويج تلك المرأة المطلقة بمثل ذلك الطلاق وأخذ ذلك المال من باب الصدقة وإن كان نادما من حلفه ، وأيضا ترتيب آثار الحرّية على مثل ذلك العبد ، كلّ ذلك لأجل هذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر قوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » هو صحة إلزامهم بما يدينون به ، وإن كان ما يدينون به ممّا لا نقول بصحّته ، بل محلّ

ص: 183

جريان هذه القاعدة هو فيما إذا لا نقول بصحّة ما يدينون به ، وإلاّ فإن قلنا نحن أيضا بصحّته وكان ممّا ندين به أيضا ، فليس موردا لقاعدة الإلزام ، بل يكون حينئذ ترتيب الأثر عليه كترتيب الأثر على سائر الأحكام الشرعيّة.

فقاعدة الإلزام تشبه الأحكام الثانويّة ، أو هي منها على أحد الوجهين الذين نذكرهما إن شاء اللّه تعالى ؛ لأنّ الحكم الأوّلى عدم جواز تزويج المرأة المطلّقة التي طلاقها باطل ، فجوازه فيما إذا كان زوجها يدين بصحّة هذا الطلاق يكون من قبيل الأحكام الثانويّة ، وهكذا الحال في سائر الموارد التي تجري فيها هذه القاعدة.

مثلا بعد الفراغ عن أنّ القول بالتعصيب باطل عندنا ، فأخذ العصبة - أي أقرباء الميّت كأخته وأخيه - ميراث بنته يكون أخذ مال الغير بدون إذنه ورضاه ، ولا شكّ في حرمة ذلك بعنوانه الأوّلى فحكمهم علیهم السلام بجواز أخذه - إذا كان المأخوذ منهم ممّن يدينون باستحقاق العصبة وشركتهم مع البنت فيما إذا كان الآخذ ، أي العصبة ممّن لا يدين بجواز الأخذ وبالاستحقاق - يكون شبيها بالأحكام الثانويّة أو هو منها.

ثمَّ إنّ الظاهر من قوله علیه السلام : « ألزموهم » أنّ مرجع ضمير الجمع هم المسلمون من سائر الطوائف غير الطائفة الإماميّة الاثني عشريّة ، ولا يشمل أرباب سائر الأديان والملل ، فلو أنّ ذميّا طلّق زوجته بطلاق غير صحيح عندنا ولكنّه صحيح عندهم ، فلا تشمله هذه القاعدة بناء على ما ذكرنا من أنّ مرجع الضمير « هم » المسلمون من سائر الطوائف.

اللّهمّ إلاّ أنّ يتمسّك بغير هذه الرواية التي مدرك هذه القاعدة ، مثل قوله علیه السلام الذي تقدّم ذكره « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلون » (1). ولكنّه لا يخلو من تأمّل ونظر.

ص: 184


1- تقدّم تخريجه في ص 180 ، رقم (3).

أو يتمسّك بقوله علیه السلام في موثّق عبد الرحمن البصري عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : امراة طلّقت على غير السنّة ، فقال علیه السلام : « تتزوّج هذه المرأة لا تترك بغير تزويج » (1) فإذا كان بقاؤها بدون تزويج علّة لجواز تزويجها ، فهذه العلّة في مورد الكافر أيضا موجودة ، لأنّ كون ما ذكر علّة تامّة وملاكا تامّا للحكم غير معلوم ، بل معلوم العدم ، لأنّه من قبيل حكمة الحكم.

والضابط في الفرق بين ما هو علّة الحكم وبين ما هو حكمته هو أنّ العلّة لا تكون إلاّ فيما إذا كان من الممكن إلقاؤها إلى الطرف بصورة كبرى كلّية ، بحيث تكون هي موضوع الحكم ، كقوله علیه السلام : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » فيصحّ أن يقول : لا تشرب المسكر.

وأمّا فيما إذا لا يمكن ذلك ، كقوله علیه السلام : « يجب على المطلّقة المدخولة أن تعتدّ بثلاثة أقراء لعدم تداخل المياه واختلاط الأنساب » ، فهو من قبيل حكمة الحكم ولا اطّراد فيه ، كما أنّه لو علمنا أنّها عقيمة ولا تحبل ، فمع ذلك يجب عليها أنّ تعتدّ.

وأمّا إنّ هذا لا يمكن أن يكون موضوعا ، فلأنّ موضوع الحكم لا بدّ وأن يكون قابلا للتشخيص وإن يعرفه المكلّف ، وإلاّ يكون الحكم على مثل ذلك الموضوع - الذي ليس قابلا لأن يعرفه المكلّف ولأن يشخّصه - لغوا ، ومعلوم أنّ اختلاط المياه وتداخل الأنساب ليس قابلا لأن يعرفه المكلّف ، وفي المفروض من الواضح الجليّ أنّه لا يعلم أنّ هذه المرأة - المطلّقة بالطلاق على غير السنّة أو طلاق الكافر الباطل - تبقى بلا تزويج ، لأنّه من الممكن بل الغالب هو أن يتزوّجها من يقول ويدين بصحّة هذا الطلاق من أبناء دينها ومذهبها.

ص: 185


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 188 ، باب أحكام الطلاق ، ح 107 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1029 ، باب انّ المخالف إذا طلّق. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 3.

وأيضا ظاهر قوله علیه السلام « ألزموهم » أنّ المخاطب بهذا الخطاب هم الطائفة الإماميّة الاثني عشريّة ، فلا يشمل المخالفين بعضهم بالنسبة إلى بعض إن كانت طائفة منهم ترى صحّة معاملة وترى الأخرى فسادها ، فيلزم إحديهما الأخرى بما يدين وإن كان في نظرهم عدم صحّة تلك المعاملة.

مثلا لو أعار من لا يدين بمذهب مالك مالكيّا ما يمكن إخفاؤه ، كثوب حيث يمكن وضعه في صندوق وإخفاؤه فتلف ، فمذهب المستعير أنّ التلف في مثل هذه العارية موجب للضمان ، ومذهب المعير أنّه ليس في هذا التلف ضمان ، فهل يمكن إلزام المعير للمستعير بأخذ الضمان منه بهذه القاعدة أم لا؟ الظاهر هو العدم ، لما ذكرنا من أنّ المخاطب هم الطائفة الإماميّة ، ولا يشمل الحديث سائر الطوائف.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الحديث وإن كان لا يشمل إلزام المخالف للمخالف وإن كان ما يريد إلزامه به مخالفا لما يدين به ، فضلا عمّا إذا كان موافقا معه ، لما ذكرنا أنّ ظاهر الحديث أنّ ضمير الخطاب المقدّر في قوله علیه السلام « ألزموهم » مرجعه الطائفة الإماميّة.

ولكن هناك روايات أخر مفادها عامّ ولا يختصّ بالإماميّة ، مثل رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » (1).

فبناء على ما استظهرنا منها من أنّ ظاهرها عبارة عن نفوذ كلّ ما يستحلّون عليهم ، فلو كان أحد المخالفين يعتقد فساد المعاملة التي وقعت بينهما ، والآخر يعتقد صحّتها ، ومضت على تلك المعاملة أعوام ، فالذي يعتقد فساد المعاملة يعتقد أنّ نتاج ما حصل في يده ومنافعه ملك لطرفه لفساد المعاملة ، فلو أنتجت مثلا هذه البقرة أو هذه الفرس بقرات أو أفراس ، فحيث يعتقد بفساد هذه المعاملة - اجتهادا أو تقليدا -

ص: 186


1- تقدّم تخريجه في ص 180 ، رقم (3).

يرى ويعتقد أنّ هذه البقرات أو الأفراس ملك لصاحب البقرة أو الفرس قبل وقوع هذه المعاملة ، فيستحلّها له فينفذ عليه ذلك ، ويجوز لذلك الآخر أن يأخذها منه وإن كان معتقدا بصحّة هذه المعاملة وأنّ هذه المذكورات ليس له.

وكذلك بالنسبة إلى المنافع ، فلو اشترى دارا مثلا من زيد وسكن فيها سنين وهو يرى ويعتقد فساد هذه المعاملة ، فعليه أجرة تلك الدار التي سكن فيها سنين ، ويجوز للمخالف الآخر - أي البائع - أن يأخذ منه أجرة تلك السنين ، وإن كان معتقدا صحّة هذه المعاملة وأنّ هذه الدار ليست له.

وعلى كلّ تقدير لو قلنا بصحّة إلزام المخالف للمخالف فيما يلزم به نفسه ، فهذا خارج عن مفاد قاعدة الإلزام ، بل يكون له مدرك آخر ، وهو قوله علیه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون ».

ثمَّ إنّ ذكرنا من إمكان القول بصحّة إلزام المخالف للمخالف - مستندا إلى رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام ، وهو قوله علیه السلام : « يجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون » - مبني على أن يكونا مختلفين في المذهب بحيث يكون المراد من الدين المذهب ، فإذا استحل شيئا في مذهبه يصحّ أن يقال يستحلّه في دينه ، فلا يشمل مورد اختلاف المجتهدين في مذهب الإماميّة ، لأنّ لهما مذهب واحد وهو مذهب أهل البيت علیهم السلام ، لا أنّ فتوى هذا المجتهد دين ومذهب له ، وفتوى ذلك الآخر دين ومذهب للآخر. نعم يكون أحدهما مخطئا والآخر مصابا إن كان الفتويان متناقضين.

كما أنّ تطبيقه على اختلاف المذاهب الأربعة أيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنّه هناك أيضا ليس إلاّ اختلاف فتوى المجتهدين.

وحاصل الكلام : أنّ رواية محمّد بن مسلم لا يستفاد منها حتّى إلزام المخالف للمخالف ، بل ولا الموافق للمخالف ، لأنّ دين الكلّ واحد وهو الإسلام ، فالمراد من قوله علیه السلام « أهل كلّ ذي دين » هي الأديان المقابلة للإسلام ، فقاعدة الإلزام تستفاد من

ص: 187

قوله علیه السلام : « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » وقوله علیه السلام « خذوا منهم كما يأخذون منكم » وما يكون بمضمونهما.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

منها : مسألة التعصيب ، وهو توريث ما فضل عن السهام من كان من العصبة ، أي قوم الإنسان الذين يتعصّبون له ، والمراد هاهنا أقرباء الميّت وهم الأب والابن ومن يتدلى بهما الى الميت ، فلو كانت للميّت بنت واحدة وأخ مثلا أو عمّ فللبنت النصف ، وبناء على القول بعدم التعصيب وبطلانه - كما هو كذلك عند الإماميّة - يكون باقي التركة أي النصف الآخر أيضا للبنت ، ولكن ردّا لا فرضا.

وعلى القول بالتعصيب - أي : إعطاء ما زاد على الفرض لأقرباء الميّت ، أي ابنه وأبيه والمتقرّب بهما إليه ، وعدم الردّ إلى صاحب الفرض وهي البنت في المفروض - يعطى باقي التركة ، أي النصف الآخر لأخ الميّت في المفروض. وهكذا لو كانت له بنت وعمّ ، فعلى مذهب الإماميّة يعطي جميع المال للبنت ، نصفه فرضا ونصفه الآخر ردّا ، وعلى قول المخالفين يعطى نصف المال للبنت فرضا ولا ردّا ، وباقي المال يعطى للعم.

ولو كانت للميّت بنتان فصاعدا وكان له أخ أو عمّ أو ابن أخ أو ابن عمّ ، فعلي القول بعدم التعصيب فلهما أو لهنّ الثلثان فرضا ، والباقي أيضا لهما أو لهنّ ردّا ، والعصبة بفيها التراب كما في الرواية (1) وأمّا على القول بالتعصيب فالباقي للعصبة ، أي الأخ والجد - أي أب الأب - والعمّ وأولادهما وابن الابن ، على الترتيب المقرّر في الإرث.

وبعد ما عرفت ما قلنا ، فإن كان من هو من العصبة إماميّا اثنى عشريّا - ولا يقول

ص: 188


1- « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 431 ، أبواب موجبات الإرث ، باب 8.

بالتعصيب بل يقول بوجوب إعطاء الباقي ، أي ما زاد على الفرض أيضا إلى ذوي الفروض ، فمع أنّه يعتقد عدم استحقاقه وكون التركة كلّها لذوي الفروض فرضا وردّا - يجوز له الأخذ ويصير ملكا له بالأخذ ، لأجل دلالة هذه القاعدة ، أي قاعدة الإلزام على جواز الأخذ ، وفروع الأخذ بالتعصيب كثيرة.

والضابط الكلّي هو أنّه في كلّ مورد يورثونه المخالفون بحسب مذهبهم ، ولكن هو حيث أنّه إماميّ لا يعتقد استحقاقه لذلك الميراث ، لأنّه ليس من مذهبه ، فهذه القاعدة تجوز أخذه منهم وإلزامهم بما هو مذهبهم.

ومنها : مسألة الطلاق على غير السنة ، أي الطلاق الذي فاقد لأحد الشرائط المعتبرة في صحّته ، سواء أكان من شرائط المطلّق ككونه عاقلا بالغا مختارا ، أو المطلقة ككونها طاهرة من الحيض والنفاس مع حضور الزوج ومع كونها مدخولة وحائلا. وأيضا من شرائط صحّة طلاقها أن لا يقرّبها زوجها في ذلك الطهر الذي يقع الطلاق فيه. وأيضا من شرائط صحّة الطلاق أن يكون بحضور شاهدين عدلين.

فإذا كان الطلاق فاقدا لأحد هذه الشرائط أو أكثر يكون باطلا عند فقهاء الإماميّة ، وكذلك الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها يكون باطلا عند الإماميّة الاثنى عشريّة ، فإذا طلّق المخالف زوجته ولم يكن الطلاق واجدا لجميع هذه الشرائط ، فيكون ذلك الطلاق باطلا عندنا ، وتكون الزوجة باقية على زوجيّتها ، ولكن مع ذلك كلّه لو كان الزوج - أي المطلّق المذكور - يعتقد صحّة ذلك الطلاق حسب مذهبه ، فللإماميّ الاثني عشري أن يلزمه بما ألزمه به نفسه ، أي يلزمه بصحّة ذلك الطلاق الباطل ، ويرتّب عليه آثار الصحّة بهذه القاعدة ويتزوّج بها.

إن قلت : بناء على ما ذكرت من بطلان ذلك الطلاق ، وبقاء تلك الزوجة على زوجيّتها لذلك الزوج المطلّق ، فإذنه بل أمره علیه السلام بتزويج تلك المرأة في ما رواه عليّ بن أبي حمزة في قوله علیه السلام بعد أن قال : أيتزوّجها الرجل؟ فقال علیه السلام : « ألزموهم من ذلك ما

ص: 189

ألزموه أنفسهم وتزوّجوهنّ ولا بأس بذلك » (1) يكون معناه ومرجعه إلى أنّه علیه السلام أمر بتزويج ذات البعل. وهنا في غاية الاستبعاد ، بل لا يجوز أنّ يتفوّه به.

قلنا : إنّ مرجع أمره علیه السلام بتزويج مثل تلك المرأة إلى خروجها عن الزوجيّة بنفس العقد الواقع عليها ممّن لا يعتقد بصحّة ذلك الطلاق ، فيكون من قبيل وطي ذي الخيار للأمة التي باعها ، وكان للبائع الخيار ؛ فيتحقّق الفسخ بنفس الوطي. وحيث أنّ الفسخ يحصل بنفس الوطي فيكون الوطي علّة لحصول الملكيّة ، أي رجوع ملكيّة الأمة إلى البائع ، والعلّة والمعلول متّحدان زمانا ، والتقدّم والتأخّر بينهما رتبيّ فقط. فيكون الوطي والملكيّة في زمان واحد ، فهذا الوطي ليس وطيا في غير ملك كي يكون حراما ، لقوله تعالى ( إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (2).

وفيما نحن فيه نقول : حيث أنّ عقد القائل ببطلان ذلك الطلاق علّة لخروجها عن الزوجيّة ، فالعقد وعدم الزوجيّة يكونان في زمان واحد ، لأنّهما علّة ومعلول - كما ذكرنا - فلم يقع العقد على زوجة الغير.

إن قلت : من أي سبب صار العقد علّة لخروجها عن الزوجيّة؟

نقول : من قوله علیه السلام « ألزموهم » ومن قوله علیه السلام « تزوّجوهنّ » نستكشف ذلك ، بعد القطع بأنّه علیه السلام لا يأمر بتزويج امرأة ذات بعل ، وبعد القطع بأنّ هذا الطلاق باطل ، فلا يمكن الجمع بين هذه الأمور إلاّ بأن يقال : بأنّ الزوجيّة للمطلّق باقية إلى زمان عقد الصادر من الذي يعتقد ببطلان ذلك الطلاق ، فبعقده عليها تصير خلية بالنسبة إلى زوجها الذي طلّقها ، وتصير زوجة للذي عقد عليها.

وأمّا حديث حكومة قوله علیه السلام « ألزموهم » أو قوله علیه السلام « تزوّجوهنّ » فلا يرفع هذا الإشكال أصلا ، وذلك من جهة أنّ الحكومة - على أدلّة اشتراط الطلاق

ص: 190


1- تقدّم تخريجه في ص 180 ، رقم (1).
2- المؤمنون (23) : 6.

بالشرائط المذكورة في باب الطلاق - معناها صحّة هذا الطلاق ، وهذا مخالف للضرورة في مذهب الشيعة ، حيث أنّ الفقهاء كلّهم متّفقون على بطلان هذا الطلاق ، ولم يقل أحد منهم بصحّته ولو بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان أنّه الطلاق الصادر عن المخالفين.

وأيضا مخالف للأخبار الصريحة في أنّه « إيّاكم وتزويج المطلّقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنّهنّ ذوات أزواج » (1).

وحاصل الكلام : أنّه في العناوين الثانوية جعل الشارع لفعل واحد من حيث الماهيّة حكمين واقعيّين مختلفين ، غاية الأمر بعنوانين : أحدهما هو العنوان الأوّلي للشي ء ، والثاني هو العنوان الثانوي ، مثل أكل لحم الميتة الذي هو بعنوانه الأوّلى حرام واقعا ، وبعنوانه الثانوي مثل أن يكون الأكل عن اضطرار أو إكراه أو غير ذلك هو حلال واقعا ، فيرجع الأمر فيما نحن فيه إلى أنّ الشارع جعل للطلاق حكمين : إذا كان صادرا عن الشيعة يكون صحّته مشروطا بتلك الشرائط ، وإذا كان صادرا من المخالف فليس مشروطا بتلك الشرائط.

وبعبارة أخرى : الطلاق الفاقد للشرائط المعتبرة فيه إذا كان المطلّق من الشيعة يكون فاسدا ، وإذا كان من مخالفيهم يكون صحيحا. وهذا كلام لا يمكن الالتزام به.

اما أوّلا : فلاستنكارهم علیهم السلام لصحّة مثل هذا الطلاق ، واستدلالهم على بطلانه بالكتاب العزير عليهم ، وهذا لا يناسب مع كون طلاقهم على غير السنة طلاقا صحيحا شرعيّا.

وثانيا : ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام أنّ رجلا من أصحابه سأله عن رجل من العامّة طلّق امرأته لغير عدّة ، وذكر أنّه رغب في تزويجها ،

ص: 191


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 406 ، ح 4418 ، باب ما حلّ اللّه من النكاح ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 56 ، ح 183 ، باب أحكام الطلاق ، ح 102 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 289 ، ح 1022 ، باب من طلّق امرأته. ، ح 16. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 316 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 29 ، ح 20.

قال علیه السلام : « انظر إذا رأيته فقل له : طلّقت فلانة؟ إذا علمت أنّها طاهرة في طهر لم يمسّها فيه ، فإذا قال : نعم فقد صارت تطليقة فدعها حتّى تنقضي عدّتها من ذلك الوقت ، ثمَّ تزوّجها إن شئت ، فقد بانت منه بتطليقة بائنة ولكن معك رجلان حين تسئله ليكون الطلاق بشاهدين عدلين » (1).

وهذه الرواية ظاهرة - بل صريحة - في فساد الطلاق على غير السنّة ، وإن كان فيها إشكال من جهة أخرى ، وهي مخالفتها لقاعدة الإلزام ، ولكن يمكن أن يقال إنّها محمولة على الاستحباب من هذه الجهة.

وهناك روايات رواها في الوسائل تدلّ على أنّ المطلّقة ثلاثا باقية على زوجيّتها لزوجها المطلّق (2).

وخلاصة الكلام : أنّ القول بصحّة الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها فيما إذا كان المطلّق ممّا يقول بصحّة مثل هذا الطلاق - أي كان من مخالفينا بحيث يكون هاهنا موضوعين : أحدهما موضوع للصحّة وهو الطلاق الصادر ممّن يعتقد بصحّة مثل هذا الطلاق ، والثاني موضوع للبطلان وهو الطلاق الصادر ممّن يقول ببطلان مثل هذا الطلاق ، فالصحة والفساد يكونان منوطين بالقول بالصحّة والفساد - عجيب.

وبعد الإحاطة على ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضي الجمع بين الأدلّة هو ما ذكرناه من أنّ الطلاق الثلاث من غير رجعة بينها ، سواء كان بلفظ واحد أو بتكرار الطلاق ثلاثا من غير رجعة بينها لا يقع الثلاث ، بل لا يقع حتّى واحد منها ، وإن كان من هذه الجهة الأخيرة محلّ خلاف بيننا.

وكذلك يكون الطلاق فاسدا إذا كان فاقدا لسائر شرائط الصحّة ، وإن كان

ص: 192


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 263 ، ح 1002 ، « مستدرك الوسائل » ج 15 ، ص 304 ، أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، باب 23 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 311 ، أبواب مقدّمات الطلاق ، باب 29.

المطلّق ممّن يقول بصحّته ، وتكون الزوجة باقية على زوجيّتها. والقول بصحّة مثل هذا الطلاق ممّا يأباه المذهب وإن كان صادرا ممّن يعتقد بصحّة مثل هذا الطلاق.

وأيضا لا شكّ في أنّهم علیهم السلام أمروا بصحّة تزويج مثل هذه المطلّقة ، مع عدم إمكان أن يسند إليهم علیهم السلام القول بصحّة تزويج المزوّجة والتي هي زوجة الغير ، فلا بدّ من القول بأنّ تلك المطلّقة باقية على زوجيّتها للمطلّق ، ولكن بنفس العقد الواقع عليها من الذي يعتقد بطلان ذلك الطلاق يخرج عن كونها زوجة للمطلّق ، فذلك العقد يكون طلاقا بالنسبة إلى الزوج الأوّل ، ونكاحا بالنسبة إلى الثاني.

وهذا في مقام الثبوت ممكن ، لما ذكرنا من أنّه من قبيل وقف ذي الخيار أو عتقه لمن باعه في زمان خياره ، فعقد الوقف وكذلك إيقاع العتق يكون فسخا وإخراجا عن ملك المبتاع ، ووقفا أو عتقا أيضا في زمان واحد ، وليس أحدهما متقدّما على الآخر بحسب الزمان أصلا ، نعم التقدّم والتأخّر بينهما إنّما هو بحسب الرتبة ، وفيما نحن فيه أيضا كذلك الخروج عن الزوجيّة للزوج الأوّل ، وصيرورتها زوجة للثاني في زمان واحد ، فلم يقع العقد على زوجة الغير كما ربما يتوهّم.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فأمرهم علیهم السلام بتزويجهم ، أو أخذ المال في مورد التعصيب ، أو المعاملات الفاسدة والضمانات غير الصحيحة - مع أنّ لهم الولاية العامّة - يدلّ على أنّهم علیهم السلام جعلوا نفس العقد عليهنّ طلاقا لهنّ ، وتزويجا للزوج الثاني ، وبناء على ما ذكرنا يكون العقد واقعا على امرأة خلية ، لأنّ زمان حصول زوجيّتها للثاني مع زمان عدم زوجيّتها للأوّل واحد ، لأنّهما معلولان لعلّة واحدة ، وهو العقد الواقع عليها.

وعلى هذا الأساس بنينا صحّة الأمر الترتّبي بالنسبة إلى الضدّين بأن قلنا : إنّ عصيان الأهمّ الذي هو شرط فعليّة الأمر بالمهمّ مع نفس الأمر بالمهمّ وامتثاله أيضا

ص: 193

الثلاثة في زمان واحد. والتفصيل في محلّه في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وقد أطلنا الكلام لرفع شبهة ربما تقع في بعض الأذهان.

وأمّا القول بالإباحة فلا أساس له أصلا ، إذ هذا القائل لو يقول بفساد مثل ذلك الطلاق فنسبة إباحة وطي الزوجة الباقية على زوجيّتها للأوّل إلى الإمام علیه السلام مع علم الواطي بأنّها زوجة الغير - عجيب ، وقلنا ينبغي أنّ لا يتفوّه بذلك أحد ، وإن كان يقول بصحّة هذا الطلاق فتكون هي زوجته حقيقة ، فالإباحة المجرّدة لا معنى لها.

ويتفرّع على ما ذكرنا أنّ المخالف لو استبصر بعد أن طلّق زوجته بالطلاق الفاقد لشرائط صحّة الطلاق ولم يعقد عليها غيره ممّن يجوز له العقد عليها ، فله أن يرجع إلى زوجته المطلّقة بدون الاحتياج إلى عقد جديد ، لأنّها زوجته ولم تبن منه ولم تخرج عن زوجيّتها ، لما قلنا من أنّ الخروج بنفس العقد.

فما دام كان مخالفا حيث أنّه يعتقد صحّة طلاقه وكان مخطئا في اعتقاده هذا ، فلو كان يرجع إليها فأمّا كان متجرّيا متهتّكا غير مبال بارتكاب حرمات اللّه ، كما إذا أخطأ في اعتقاده واشتبه عليه فقارب زوجته باعتقاد أنّها زوجة الغير ، أو كان مرتكبا للحرام الواقعي ، بناء على أنّ الشارع نزل هذا الطلاق الفاسد بالنسبة إلى نفس المطلّق في حكم الطلاق الواقعي ، من حيث حرمة مباشرته ومقاربته معها.

وأمّا إذا استبصر فلا معنى لأن يكون متجرّيا ، لعلمه بفساد الطلاق وبقائها على زوجيّتها له على المبنى المذكور. وأمّا بناء على تنزيل هذا الطلاق الفاسد منزلة الطلاق الصحيح من حيث أثر حرمة وطيها وسائر انتفاعات الزوجيّة بالنسبة إليه ، فهذا كان فيما إذا كان مخالفا وما دام أنّه معتقد بصحّته ، كما هو ظاهر قوله علیه السلام في رواية عبد اللّه بن طاوس ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « أنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم » (2).

ص: 194


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 336.
2- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 1 ، ص 310 ، ح 74 ، « معاني الأخبار » ص 263 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 322. أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 11.

وأيضا ظاهر قول مولانا الرضا علیه السلام في رواية هيثم بن أبي مسروق ، حيث ذكر عنده بعض العلويّين ، فقال علیه السلام : « أما إنّه مقيم على حرام » قلت : جعلت فداك كيف وهي امرأته؟ قال علیه السلام : « لأنّه قد طلّقها » قلت : كيف طلّقها؟ قال علیه السلام : « طلّقها وذلك دينه ، فحرمت عليه » (1).

فهاتان الروايتان وما هو نظيرهما علّق الحرمة ولزوم التزامه بأحكام دين بما إذا كان معنونا بعنوان « أنّه دان بدين قوم » أو عنوان « ذلك دينه » فإذا زال هذا العنوان عنه بواسطة استبصاره ، يزول مع زواله حكمه أيضا ، لأنّ ظاهر أخذ كلّ عنوان في موضوع حكم أنّ لذلك العنوان دخل في الحكم حدوثا وبقاء ، لا حدوثا فقط. ولعمري هذا واضح جدّا ولا ينبغي أن يشكّ فيه.

فبناء على هذا لو استبصر قبل أن يعقد عليها شخص آخر ، له أن يرجع إليها. وأمّا إنّه إذا عقد عليها من يجوز له ذلك ، فلا يبقى مورد للرجوع إليها البتّة ، لما قلنا أنّ العقد بمنزلة الطلاق ، ويوجب خروجها عن حبالة الزوج المطلّق.

ومنها : أنّه لو تزوّج الشيعي بامرأة من المخالفين بدون حضور شاهدين على العقد ، فلو مات هذا الشيعي بعد الدخول بها ، فيجوز لورثة الميّت إن كانوا من الشيعة منعها من الإرث ومن مهرها أيضا ، وعن كلّ ما تستحقّ المرأة على زوجها من ناحية كونها زوجة لذلك الميّت ، لأنّها ترى هذا العقد فاسدا ، بناء على ما هو من مذهبها من بطلان النكاح بغير حضور شاهدين ، كما نقول نحن في الطلاق ، فمذهبهم على العكس من مذهبنا ، فالإماميّة قائلون بلزوم شاهدين عدلين في الطلاق دون النكاح ، ومخالفوهم يقولون بلزومهما في النكاح دون الطلاق.

ص: 195


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 58 ، ح 187 ، باب أحكام الطّلاق ، ح 106 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 291 ، ح 1028 ، باب إنّ المخالف إذا طلّق امرأته. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 320 ، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، باب 30 ، ح 2.

ومنها : أنّ المخالف لو طلّق زوجته مكرها على ذلك ، فحيث أنّ طلاق المكره عند أبي حنيفة وجمع آخر صحيح ونافذ على ما نقل عنهم (1). فيجوز للشيعي ، أن يرتّب آثار الصحّة على هذا الطلاق - وإن لم يكن عنده صحيحا - بقاعدة الإلزام ، فيتزوّج بها بعد انقضاء عدّتها.

وكذلك الأمر في كلّ مورد يكون مذهبهم صحّة الطلاق مع عدم صحّته عند الإماميّة ، فيجوز للإمامي الاثني عشري ترتيب آثار الصحّة على ذلك الطلاق الفاسد في مذهبه إن كان صحيحا في مذهب المخالف ، كما إذا حلف بالطلاق إن فعل الأمر الفلاني أو إن لم يفعل ، فهذا الطلاق عندنا باطل ، لكن عندهم صحيح ، فيجوز أن يرتّب عليه آثار الصحّة بقاعدة الإلزام.

وخلاصة الكلام : أنّ موارد قاعدة الإلزام في أبواب النكاح والطلاق كثيرة ، والضابط الكلّي هو أنّ كلّ نكاح أو طلاق كان فاسدا حسب مذهب الإماميّة وكان صحيحا عندهم ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الصحّة عليه بهذه القاعدة إن كان في صحّته ضرر على المخالف ، لأنّ الإلزام لا معنى له إلاّ فيما إذا كان الملزم به ضررا عليه.

وكذلك العكس ، أي كلّ نكاح أو طلاق كان صحيحا حسب مذهب الإماميّة وكان فاسدا عندهم ، يجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد عليه إذا كان آثار الفساد ضررا عليه ، وذلك لما ذكرنا من عدم صدق الإلزام عرفا إلاّ مع كون الملزم به ضررا عليه.

وأيضا يدلّ على ما ذكرنا من لزوم كون الآثار ضررا عليه قوله علیه السلام في بعض روايات القاعدة : « خذوا منهم كما يأخذون منكم » (2) فبناء على ما ذكرنا لو عقد المخالف

ص: 196


1- « بدائع الصنائع » ج 3 ، ص 100 ، « الباب » ج 2 ، ص 226 ، « شرح العناية على الهداية » ج 3 ، ص 39 ، « شرح فتح القدير » ج 3 ، ص 39 ، « تبيين الحقائق » ج 2 ، ص 194 ، « حاشية إعانة الطالبين » ج 4 ، ص 5 ، « فتح الباري » ج 9 ، ص 390 ، « المغني لابن قدامة » ج 8 ، ص 260 ، « الشرح الكبير » ج 8 ، ص 243 ، « المجموع » ج 17 ، ص 67 ، ونقله عنه من أصحابنا الشيخ في « الخلاف » ج 4 ، ص 478.
2- سبق تخريجه في ص 180 ، رقم (2).

على المطلّقة اليائسة قبل انقضاء عدّتها ، فهذا العقد عندنا صحيح ، لأنّ اليائسة عندنا لا عدّة لها ، وعندهم فاسد ، لقولهم بوجوب العدّة عليها ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد على هذا العقد - وإن كان في مذهبه صحيح - بهذه القاعدة ، فله أن يتزوّج بها بدون أن يطلّقها الزوج المخالف.

وكذلك الأمر لو تزوّج المخالف بنت الأخ أو بنت الأخت على عمّتها في الأوّل ، وعلى خالتها في الثاني ، برضاء العمّة في الأوّل ، وبرضاء الخالة في الثاني ، فهذا العقد عند الإماميّة صحيح ، لكن المنقول عنهم عدم صحّته وفساده ، فإنّهم لا يجوّزون الجمع بين العمّة وبنت الأخ ، ولا بين الخالة وبنت الأخت ولو برضاء العمّة في الأوّل وبرضاء الخالة في الثاني ، فيجوز للإمامي ترتيب آثار الفساد على عقد بنت الأخ وبنت الأخت - إن كان العقد عليهما متأخّرا عن العقد على العمّة أو الخالة - بأن يعقد عليهما بدون أن يطلّقهما الزوج المخالف.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال طلاق السكران ، وطلاق الحائض مع حضور الزوج ، والطلاق في الطهر الذي قاربها وجامعها فيه ، ففي جميع ذلك يكون الطلاق فاسدا على مذهبنا ، ويكون صحيحا عند فقهائهم جميعا أو في بعض مذاهبهم ، فيجوز إلزامهم بصحّة الطلاق في الموارد المذكورة ، وإن كان فاسدا عندنا ، كلّ ذلك لأجل شمول قاعدة الإلزام لهذه الموارد المذكورة وأمثالها ممّا لم نذكرها.

ومنها : لو طلّق المخالف امرأته معلّقا على أمر محتمل الحصول أو متيقّن الحصول ، فالأوّل كما لو قال : امرأتي فلانة طالق لو قدم زيد من سفره هذا غدا مثلا أو مطلقا ، ثمَّ جاء في ذلك الوقت المعيّن في الأوّل أو مطلقا في الثاني. وبعبارة أخرى : حصل المعلّق عليه المحتمل الوقوع ، فهذا الطلاق عندنا فاسد إجماعا ، لمكان التعليق ، وصحيح عندهم ، فيجوز ترتيب آثار الصحّة على هذا الطلاق الفاسد عندنا بقاعدة الإلزام.

وأمّا في الصورة الثانية ، أي لو كان طلاقه معلّقا على أمر معلوم الحصول ، كما لو

ص: 197

قال لامرأته : أنت طالق لو طلعت الشمس أو غربت مثلا ، فمن يقول بصحّة مثل هذا الطلاق من فقهائنا فلا إشكال في أنّه يجوز له ترتيب آثار الصحّة على مثل هذا الطلاق ، لأنّه رأيه وفتواه ، سواء أكانت قاعدة الإلزام في البين أو لم تكن.

وأمّا من يقول بفساده لأجل الإجماع على بطلان التعليق في العقود وفي الإيقاعات - التي منها الطلاق - بطريق أولى ، فله ترتيب آثار الصحّة على هذا الطلاق بقاعدة الإلزام ، لأنّهم قائلون بصحّة الطلاق المعلّق على أمر محتمل الوقوع أو متعيّن الوقوع فيما إذا حصل المعلّق عليه.

ومنها : أبواب الضمانات ، سواء أكان الضمان ضمانا واقعيّا ، أو كان هو ضمان المسمّى كباب المعاوضات.

والضابط الكلّي هاهنا هو أنّه في كلّ مورد كان الضمان على المخالف - سواء أكان ضمان المسمّى أو الضمان الواقعي - باعتقاده ، وإن لم يكن عليه ضمان حسب مذهب فقهاء أهل البيت ، فيجوز إلزامه بذلك الضمان الذي يعتقد به حسب مذهبه بقاعدة الإلزام ، وهذا المعنى - أي : كون الضمان عليه - أعمّ من الواقعي والمسمّى حسب مذهبه يختلف سببه عندهم ، فقد يكون سبب الضمان عليه صحّة المعاملة عندهم ، وقد يكون فساد المعاملة موجبا لذلك ، وقد يكون فعل موجبا للضمان عندهم وليس موجبا عندنا.

وعلى كلّ واحد من التقديرين لا بدّ في إجراء قاعدة الإلزام أن يقول فقهائنا بعدم الضمان عليه ، وإلاّ لا معنى لإجراء القاعدة ، كما ذكرنا ذلك مفصّلا فلا نعيد.

وموارد هذا القسم كثيرة في أغلب أبواب المعاملات والضمانات بقسميه ، أي المسمّى والواقعي ، نذكر جملة منها :

ص: 198

أحدها : ما تقدّم منّا (1) من أنّه لو باع حيوانا من المخالف وقبضه المشتري المذكور فتلف في يده قبل انقضاء ثلاثة أيّام ، أي وقع التلف في زمان خيار المشترى ، فيكون الضمان عندنا على البائع الإمامي ، لقاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » وفي الفرض من لا خيار له هو البائع ، فيكون الضمان عليه حسب مذهبه. ولكن المخالفين قائلون بأنّ الضمان على المشتري ، لأنّه بعد أن قبض المبيع - كما هو المفروض - ينتقل الضمان من البائع إلى المشتري بواسطة القبض ، لأنّهم لا يعتبرون قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » دليلا يعتمد عليه ويركن إليه.

وبناء على هذا للبائع الشيعي أن لا يردّ إليه الثمن بقاعدة الإلزام وإن كان بحسب مذهبه يجب عليه ردّ الثمن بناء على أحد القولين ، أو قيمة المبيع إن كان قيميّا ومثله إن كان مثليّا على القول الآخر.

ثانيها : ما تقدّم أيضا من أنّه لو أعار للمخالف ما يمكن اختفاؤه ، مع أنّه ليس من الذهب والفضّة ، وأيضا ليس بدرهم ولا دينار ، ولم يشترط أيضا عليه الضمان ، فعلى مذهب المعير الشيعي ليس في مثل هذه العارية ضمان إذا تلف المعار ، ولكنّهم في بعض مذاهبهم يقولون بالضمان ، فإذا كان المستعير من أهل ذلك المذهب ، للمعير الشيعي إلزامه بالضمان إذا تلف بهذه القاعدة وإن كان مذهبه عدم الضمان.

ثالثها : لو باع شيئا من المخالف ، وكان المخالف حنفيّا ولم يشترطا خيارا لهما أو لخصوص المشتري الحنفي ، فلو فسخ ذلك المشتري وهما بعد في المجلس ولم يتفرّقا فللبائع الشيعي إلزامه ببقاء المعاملة ، وعدم صحّة هذا الفسخ وعدم تأثيره في انحلال العقد ، وذلك من جهة أنّ مذهب ذلك المشتري أنّه لا خيار في المجلس إلاّ بالشرط ، فإذا لم يكن شرط الخيار في المجلس فلا خيار ، وإن كان هذا خلاف مذهب البائع ، لأنّ

ص: 199


1- تقدّم ذكره في ص 182.

الشيعة متّفقون على ثبوت خيار المجلس ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (1).

وكذلك الأمر أيضا لو كان المشتري مالكيّا ، لأنّ مذهبهم أنّه لا خيار في المجلس أصلا ، ويقولون : إنّ الحديث الشريف المتقدّم ، وإن كان روايته صحيحة ، إلاّ أنّ عمل أهل المدينة كان على خلافه ، وعملهم مقدّم على الحديث وإن كان صحيحا ، لأنّه في حكم المتواتر الموجب للقطع بخلاف الحديث ، فإنّه وإن كان صحيحا لكنّه خبر آحاد يفيد الظنّ ، فالأوّل مقدّم عليه ، انتهى ، ولا يخفى أنّ كلامهم هذا صرف ادّعاء بلا بيّنة ولا برهان.

رابعها : لو باع الشيعي للمخالف ما اشتراه قبل أن يقبضه عن المالك الأوّل ، فهذا البيع صحيح عند فقهاء الإماميّة ، غاية الأمر يقول بعضهم بالكراهة في خصوص ما إذا كان المبيع ممّا يكال أو يوزن ، وقول شاذّ بالتحريم إذا كان ذلك المبيع الذي لم يقبضه طعاما ، ولكن هذا البيع - أي بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه - باطل عند الشافعي ، فلو باع الشيعي من أحد من الشافعيّة مثل هذا المبيع ، أي : ما اشتراه قبل أن يقبضه ، فندم يجوز له أن يلزم المخالف بما هو طبق مذهبه من فساد المعاملة ويسترجع المبيع ، وإن كان مذهب البائع صحّة هذه المعاملة.

وكذلك الأمر لو كان المشتري حنفيّا وكان المبيع الذي لم يقبضه عن المالك الأوّل وباعه قبل أن يقبضه من الأعيان المنقولة ، فإنّ الحنفيّة يقولون بفساد بيع الأعيان المنقولة قبل أن يقبضها (2) ، سواء باعها لمن اشتراها منه أو لغيره ، فالبيع الثاني باطل وفاسد ، وأمّا البيع الأوّل فيبقى على صحّته.

خامسها : لو باع حرّا وعبدا صفقة واحدة لحنفي ، فعندنا البيع بالنسبة إلى الحرّ

ص: 200


1- « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 20 ، ح 85 ، باب عقود البيع ، ح 2 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 72 ، ح 240 ، باب ان الافتراق بالأبدان. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 346 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 3.
2- « الفقه على المذاهب الأربعة » ج 2 ، ص 234.

باطل ، وبالنسبة إلى العبد صحيح ولكن عند أبي حنيفة أبطل في الجميع ، فللبائع إلزام ذلك المشتري بالبطلان في الجميع إذا ندم من بيع عبده ، وإن كان صحيحا عند البائع بالنسبة إلى العبد ، وكذلك الأمر بعينه فيما إذا كان بعض الصفقة الواحدة مالا وبعضها ليس بمال ، كما إذا باع خمرا أو خلاّ أو شاة وخنزيرا.

سادسها : لو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ، والمشتري كان شافعيّا ، فعندنا هذا البيع جائز ، وعند الشافعيّة باطل ، فإذا ندم البائع من بيعه هذا يجوز له إلزام المشتري بالبطلان بقاعدة الإلزام.

فهذه الموارد التي ذكرناها من موارد الخلاف بين فقهائنا وفقهاء مخالفينا في كتاب البيع موارد قليلة من الموارد الكثيرة فالتي ذكرها الأصحاب ربما يزيد عددها على المئات.

السابع : ذكر الشيخ قدس سره في الخلاف : أنّ الراهن إذا شرط أن يكون الرهن عند عدل صحّ هذا الشرط (1). ثمَّ ذكر بعد هذا الفرع فرعا آخر ، وهو : أنّ العدل في مقام أداء دين المرتهن لا يجوز له أن يبيع الرهن إلاّ بثمن مثله حالاّ ، فلا يجوز أن يبيعه نسيئة ولا بأقلّ من ثمن مثله.

ونسب إلى أبي حنيفة (2) أنّه قال : يجوز له أن يبيعه نسيئة وبأقلّ من ثمن المثل ، حتّى إنّه لو باع ضيعة تساوي مائة ألف دينار بدانق إلى ثلاثين سنة نسيئة جاز ذلك. وبناء على هذه الفتوى الغريبة من أبي حنيفة لو كان الراهن حنفيّا ، فيجوز إلزامه بصحّة هذا البيع بهذه القاعدة ، وإن كان غير صحيح عندنا.

وأيضا نسب الشيخ قدس سره إلى أبي حنيفة أنّ الرهن مضمون بأقلّ الأمرين (3) والظاهر

ص: 201


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 242 ، المسألة : 40 ، وص 244 ، المسألة : 44.
2- « المبسوط للسرخسى » ج 21 ، ص 84 ، « الفتاوى الهنديّة » ج 5 ، ص 443 ، « بدائع الصنائع » ج 6 ، ص 149 ، « تبيين الحقائق » ج 6 ، ص 81 ، « المغني لابن قدامة » ج 4 ، ص 426 ، « الشرح الكبير » ج 4 ، ص 452.
3- « الخلاف » ج 3 ، ص 245 ، المسألة : 46.

أنّ مراده بالأمرين ، أي الدين وقيمة العين المرهونة ، والصحيح عندنا لا ضمان في الرهن إلاّ مع التعدّي والتفريط ، لأنّه من قسم الأمانة المالكيّة ، وقد بيّنّا عدم الضمان بدون التعدّي والتفريط في الأمانات مطلقا في إحدى قواعد هذا الكتاب ، فلو كان المرتهن حنفيّا وتلف عنده الرهن بدون تعدّ ولا تفريط ، يجوز إلزامه بأخذ أقلّ الأمرين منه بهذه القاعدة ، وإن كان لا يجوز عندنا ولا ضمان.

وأيضا نسب الشيخ قدس سره إلى أبي حنيفة أنّ العدل لو باع الرهن لأداء الدين وقبض الثمن ، فلو تلف الثمن بعد القبض يسقط من الدين بمقدار الثمن (1). وبعبارة أخرى : يكون ثمن الرهن في ضمان المرتهن. وهذا وإن كان غير صحيح عندنا ، لأنّ المرتهن ما لم يقبض دينه لا وجه لسقوط دينه ، ولكن المرتهن إن كان حنفيّا يجوز إلزامه بسقوط دينه بهذه القاعدة.

وأيضا نسب الشيخ قدس سره إلى أبي حنيفة أنّ منفعة الرهن لا للراهن ولا للمرتهن ، مثلا لو رهن دارا فليس أن يسكنها الرهن أو يؤجرها ، ولا يجوز أيضا للمرتهن أن يسكنها أو يؤجرها (2) ؛ وحاصل كلامه : أنّ منفعة الرهن لا يملكه الراهن ولا المرتهن ، وأمّا نماؤه المنفصل فيدخل في الرهن ، فيكون رهنا مثل أصله.

وهذه الفتوى وإن كانت غير صحيحة عندنا ، لأنّ منافع الشي ء تابعة لأصله ، وكلّ من كان مالكا للأصل يكون مالكا للمنفعة والنماء ، متّصلة كانت النماء أم منفصلة ، ولكن لو كان الراهن حنفيّا يجوز إلزامه بدخول النماء المنفصل في الرهن ، فلو رهن بقرة مثلا فولدت عجلا ، يكون ذلك العجل أيضا مثل أمّه رهنا.

وهناك فروع كثيرة في كتاب الرهن تكون من موارد قاعدة الإلزام تركنا ذكرها خوفا من التطويل.

ص: 202


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 245 ، المسألة : 47.
2- « الخلاف » ج 3 ، ص 251 ، المسألة : 58.

الثامن : إذا كان هناك اثنان ، أحدهما راكب على دابّة ، والآخر آخذ بلجامها فتنازعا في تلك الدابّة ولم تكن لأحدهما بيّنة على ما يدّعيه من ملكيّة تمام الدابة ، أو أمارة أخرى ، أو دليل آخر ولو كان أصلا عمليّا كالاستصحاب ، فتجعل بينهما نصفين ، عملا بقاعدة العدل والإنصاف ، أو لكون يد كلّ واحد منهما على تلك الدابّة ، حيث أنّها ليست يدا مستقلّة على التمام ، فتكون عند العرف والعقلاء بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على النصف إذا كانا اثنين ، وعلى الثلث إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بالنسبة إلى عدد الشركاء قلّة وكثرة ، فبكثرة الشركاء ينقص الكسر ، وبقلّتهم يتصاعد حتّى يصل إلى النصف فيما إذا كان الشريك - في كونه أيضا ذا اليد - واحدا ، أو من جهة التصالح القهري ، هذا ما عندنا.

وباقي الفقهاء من مخالفينا قالوا : يحكم بأنّها للراكب ، فلو كان الراكب منّا يجوز له إلزام آخذ اللجام بذلك إن كان منهم.

التاسع : قال الشيخ قدس سره في الخلاف : لو أتلف شخص مال آخر وكان من القيميّات ، كما أنّه لو أتلف شاة له مثلا وكانت قيمتها ثلاث دنانير ، فأقرّ بأنّه أتلفها وصالحه على أقلّ من قيمتها الواقعيّة أو على أكثر منها ، فهذا الصلح باطل ، لأنّه يكون من الرباء المحرّم المبطل للمعاملة (1).

وهذا بناء على جريان حكم الرباء في الصلح مثل البيع ، مع كون ما في الذمّة بعد التلف قيمة التالف لا عينه بوجودها الاعتباري ، كما ربما يكون هذا ظاهر قوله صلی اللّه علیه و آله :

« وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (2). وهو ما اخترناه.

وأمّا كونه من الرباء فمن جهة أنّه بعد أن أتلف مال الغير وكان من القيميّات

ص: 203


1- « الخلاف » ج 2 ، ص 177.
2- « السنن الكبرى » ج 6 ، ص 90 ، « كنز العمال » ج 10 ، ص 360 ، ش 29811 ، « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 437 ، باب 6 ، ح 17216 وج 17 ، ص 88 ، باب 1 ، ح 20819.

تشتغل ذمّته بقيمة ذلك المال ، فالمصالحة تقع بين قيمة ذلك المال التي على عهدته وبين ما يتصالحان به ، وحيث أن المفروض أنّ القيمة أقلّ منه أو أكثر ، فيكون من الرباء ، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة : يجوز ، فلو كان طرف المصالحة حنفيّا وكانت تلك المصالحة على ضرره ، يجوز للآخر الذي يخالفه في المذهب إلزامه بذلك ، بهذه القاعدة.

العاشر : المنافع تضمن بالغصب عندنا ، سواء أكانت المنافع مستوفاة أو غير مستوفاة ، فلو غصب دارا وسكنها أو آجرها ، فكما أنّه ضامن لأصل الدار كذلك ضامن للمنافع التي استوفاه بالسكنى فيها أو بأن آجرها ، بل الحقّ كما قلنا أنّه يضمن المنافع وإن لم يستوفاه. ولتحقيق هذه المسألة مقام آخر.

وقال أبو حنيفة : إنّ الغاصب لا يضمن المنافع أصلا وإن استوفاها ، فضلا عمّا إذا لم يستوفها ، ويقول أيضا : إذا غصب أرضا فزرعها ببذره ، كانت الغلّة له ولا أجرة عليه ، إلاّ أن تنقص الأرض بذلك ، فيكون عليه جبران ما نقص.

وكذلك قال : إن آجر مثلا دارا أو دكّانا غصبهما ، فالأجرة لذلك الغاصب إن أخذها ويملكها دون مالكهما ، هذا ما حكاه الشيخ قدس سره عنه في الخلاف (1) ، فبناء على هذا لو كان المغصوب منه حنفيّا يمكن إلزامه بهذه القاعدة ولا يعطى اجرة ملكه أو أملاكه التي استوفاها الغاصب ، وإن كانت لسنين متعدّدة.

الحادي عشر : لا يصحّ ضمان المجهول عندنا ، فإن كان الذي يريد أن يضمن عن شخص لشخص آخر وكان مقدار دين المضمون عنه مجهولا ويحتمل أن يكون واحدا ويحتمل أن يكون ألفا ، فلا يصحّ مثل هذا الضمان وإن كان واجبا ، أي كان الدين محقّقا فعلا.

وبعبارة أخرى : لم يكن من قبيل ضمان ما لم يجب ، بل كان ضمان ما وجب عليه واشتغلت ذمّته به ، وكذا لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان المقدار معلوما ، مثلا يقول

ص: 204


1- « الخلاف » ج 3 ، ص 402 ، المسألة : 11.

للبزّاز : أعط هذا مقدار عشرين دينارا بالدين وأنا ضامن ، أو يقول : إن أخذ هذا الرجل منك بالدين عشرين دينارا فأنا ضامن.

وهذا يسمّى بحسب اصطلاح الفقهاء بضمان ما لم يجب ، لأنّه بعد لم يجب عليه شي ء ، لأنّه لا دين فعلا في البين كي يكون أداؤه عليه واجبا ، أو يكون فعلا ذمّته مشغولة به ، وعلى كلّ حال لا يصحّ ضمان ما لم يجب وإن كان مقداره معلوم.

وقال أبو حنيفة ومالك : يصحّ مثل هذا الضمان (1) ، فإذا كان الضامن مالكيّا أو حنفيّا وضمن ما لم يجب أو ما ليس بمعلوم ، فيجوز إلزامهما بهذه القاعدة وإن كان غير صحيح عندنا.

الثاني عشر : شركة الأبدان عندنا باطلة ، وهي أن يشترك العاملان أو أكثر ، سواء أكانا متّفقي الصنعة والمهنة كالحدّادين أو النجّارين ، أو مختلفي الصنعة والمهنة كما إذا كان أحدهما نجّارا والآخر خبّازا على أنّ كلّ ما يحصل من كسبهما لهما أو كسبهم لهم ، يكون مشتركا بينهما أو بينهم بالسويّة ، أو بالاختلاف حسب شرطهم.

وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك (2) ، فإذا كان أحد الشريكين في شركة الأبدان حنفيّا ويكون صحّة هذه الشركة - بعد أن عملا مدّة - مضرّة له ونافعا للطرف الآخر الذي مذهبه بطلان هذه الشركة ، يجوز لهذا الأخير إلزامه للآخر بصحّة هذه الشركة بهذه القاعدة ، وإن كانت في مذهبه باطلة.

الثالث عشر : لا شفعة عند أكثر فقهائنا في المنقولات وكلّ ما يمكن تحويله بحسب المتعارف من مكان إلى مكان آخر ، كالأثواب والفروش والحبوبات والحيوانات.

ص: 205


1- « المجموع » ج 14 ، ص 19 ، « فتح العزيز » ج 10 ، ص 370 ، « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 294 ، « البحر الزخار » ج 6 ، ص 76.
2- « اللباب » ج 2 ، ص 75 - 76 ، « النتف » ج 1 ، ص 535 ، « المبسوط » ج 11 ، ص 154 و 216 ، « المغني لابن قدامة » ج 5 ، ص 111 ، « الشرح الكبير » ج 5 ، ص 185 ، « المحلّى » ج 8 ، ص 123 ، « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 252 ، « سبل السلام » ج 3 ، ص 893 ، « فتح العزيز » ج 10 ، ص 414 ، « البحر الزخار » ج 5 ، ص 94.

ومنها : السفن ، وقال مالك : إذا باع سهمه من السفينة المشتركة ، يجوز لشريكه الآخر إلزامه بالأخذ بالشفعة منه بهذه القاعدة ، وإن كان هو لا يقول بها (1).

الرابع عشر : لا تثبت الشفعة بالجوار عندنا ، وقال أبو حنيفة وبعض آخر من الفقهاء : للجار حقّ الأخذ بالشفعة (2) ، ولكن في طول الشريك لا في عرضه ، بمعنى أنّ الشريك لو ترك ولم يأخذ فالجار أحقّ من غيره ، فإذا كان المشتري حنفيّا ، أو ممّن يقول بحقّ الشفعة للجار من سائر الفقهاء ، فللجار إلزامه بهذه القاعدة إن كان منّا ، وإن لم يكن هذا الحقّ من مذهبنا.

وما ذكرنا في موارد هذه القاعدة قليل من كثير ممّا لم نذكرها ، لأنّ استقصاء جميع موارد الخلاف يحتاج إلى تأليف مجلّدات كبيرة ، خصوصا إذا كان مع أدلّة الطرفين ، وهو الذي يسمّى الآن بالفقه المقارن ، وقد كتب شيخ الطائفة قدس سره كتابا في موارد الخلاف سمّاه « الخلاف ».

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ص: 206


1- « بداية المجتهد » ج 2 ، ص 245 ، « بدائع الصنائع » ج 5 ، ص 12 ، « شرح فتح القدير » ج 7 ، ص 405 ، « تبيين الحقائق » ج 5 ، ص 252 ، « فتح العزيز » ج 11 ، ص 364.
2- « المبسوط للسرخسي » ج 14 ، ص 94 ، « بدائع الصنائع » ج 5 ، ص 8 ، « المجموع » ج 14 ، ص 303 ، « المغني لابن قدامة » ج 5 ، ص 461 ، « الشرح الكبير » ج 5 ، ص 466 ، « البحر الزخار » ج 5 ، ص 8 ، « نيل الأوطار » ج 6 ، ص 81.

33 - قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات

اشارة

ص: 207

ص: 208

قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسببات

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في المراد منها

فنقول : أمّا المراد من أصالة عدم تداخل الأسباب هو أنّ كلّ سبب له مسبّب ، أي يتكرّر وجود المسبب بتكرّر وجود السبب ، سواء أكان السبب المكرّر وجوده من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة ، فالأوّل في الأسباب الشرعيّة كما إذا تكرّر منه البول أو الوطي أو الإنزال أو الاحتلام ، والثاني كما إذا بال ونام وخرج منه الريح بالنسبة إلى الوضوء ، فيجب مثلا في المفروض ثلاث وضوءات : واحد للبول ، وواحد للنوم ، وواحد لخروج الريح ، وكذلك واحد للغائط.

فلا فرق في تعدّد المسبّب بتعدّد وجود السبب بين أن تكون الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد ، وبين أن يكون السبب المكرّر من أسناخ متعدّدة.

فلو قلنا بأصالة عدم التداخل ، فكما أنّ السبب المكرّر لو كان من سنخين أو من أسناخ متعدّدة تتعدّد الكفارة بتعدّد السبب ، كذلك يتعدّد المسبّب لو كان من سنخ واحد ، وهذا معنى عدم التداخل.

وأمّا التداخل فمقابل هذا المعنى ، أي عدم تكرّر المسبّب بتكرّر السبب. وأيضا

ص: 209

لا فرق بين أن يكون السبب المكرّر من سنخ واحد أو يكون من أسناخ متعدّدة ، فالتقابل بين التداخل وعدمه تقابل العدم والملكة ، هذا معنى التداخل وعدمه في الأسباب.

وأمّا المراد من التداخل وعدمه في المسبّبات :

أمّا الأوّل : أي التداخل في المسبّبات ، فهو عبارة عن كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، مثلا كفاية وضوء واحد عن الأبوال المكرّرة ، أو كفايته عن البول والغائط والنوم. ولا فرق في تداخل المسبّبات أيضا بين أن تكون أسبابها المتعدّدة من سنخ واحد ، أو من أسناخ متعدّدة.

وما ذكرنا في معنى التداخل وعدمه مضافا إلى أنّ المراد منهما عند الفقهاء هو هذا المعني ، ونحن في مقام شرح قاعدة فقهيّة ، فلا بدّ وأن نتكلّم فيها على وفق مرادهم منها موافق لما هو ظاهر لفظ التداخل وعدمه ، إذ التداخل مصدر باب تفاعل من « دخل » فيكون معناه حسب اللغة والمتفاهم العرفي دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر بحيث يتّحدان من حيث المكان والحيّز إذا كانا جسمين ، ومن حيث التأثير إذا كانا سببين ، ومن حيث التأثّر إذا كانا مسبّبين ، وهكذا.

ولذا قالوا : الضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ، أي تداخل الجسمين بحيث يكون لهما حيّز واحد.

فبناء على هذا المعنى المذكور يكون تداخل الأسباب في عالم السببيّة عبارة عن اتّحاد الأسباب في عالم التأثير ، أي يكون لجميعها تأثير واحد ، كما أنّه لو فرض أنّ جميعها سبب واحد ، ومثل هذا المعني في العلل التامّة التكوينيّة غير ممكن ، بل لا بدّ من أن يرجع إلى كون المجموع سببا واحدا ، وكلّ واحد منها جزء السبب.

وهذا إذا وجد المجموع دفعة واحدة ، وإلاّ لو كان وجودها تدريجيّا وعلى الترتيب ، فإن كان المسبّب قابلا للتكرار فيتكرّر ، وإلاّ يكون السبب الثاني بلا أثر ، لأنّ

ص: 210

فرض وجود ذلك الأثر - الذي وجد أوّلا - ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

وهذا القاعدة لا تأتي فيما لا يكون المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ المقصود منها هو أنّه فيما إذا شكّ في تعدّد المسبّب بتعدّد السبب هل مقتضى الأصل هو تعدّد المسبّب وهذا معناه عدم تداخل السبب وأيضا عدم تداخل المسبّب ، لأنّه لو تداخل السبب فلا يكون وجه لتعدّد المسبّب ، لما ذكرنا من أنّ معنى تداخل الأسباب كونها بمنزلة سبب واحد في مقام التأثير ، والسبب الواحد لا يؤثّر إلاّ في مسبّب واحد ، وكذلك الأمر مع تداخل المسبّب ، أي لا وجه لتعدّده مع تداخله ، لأنّ معنى تداخل المسبّب كما ذكرنا كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة - أو مقتضى الأصل عدم تعدّد المسبّب وهذا معناه هو تداخل الأسباب ، أو مرجعه إلى تداخل المسبّبات؟

مثلا في موجبات الكفّارة للإفطار في نهار شهر رمضان لو قلنا بأنّ الأصل تداخل الأسباب أو المسبّبات ، ففي مورد الشكّ يحكم بكفارة واحدة ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد كما إذا جامع مكرّرا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا صدر منه الأكل والشرب والجماع في نهار شهر رمضان.

وعلى كلّ حال هذا البحث - أي أنّ مقتضى الأصل هل هو التداخل أو عدمه - لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، وأمّا إذا لم يكن المسبّب قابلا للتكرار - كالقتل بالنسبة إلى موجباته وأسبابه ، كما إذا قتل أشخاصا أو قتل واحدا ، وزنى مع أنّه محصن ، ولاط ، وارتدّ بالارتداد الفطري - فلا أثر لهذا البحث ، لأنّ المسبّب أي : القتل ليس قابلا للتكرار.

فلو قلنا بأنّ مقتضى الأصل عدم التداخل ، لا في الأسباب ولا في المسبّبات ، لا يمكن تعدّد القتل الذي هو أثر عدم التداخل. فهذا البحث مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار مثل الكفّارة.

ثمَّ إنّه لو قلنا بتداخل الأسباب ، فلا يبقى وجه للقول بتداخل المسبّبات ، لأنّه بناء

ص: 211

على تداخل الأسباب فليس في البين إلاّ مسبّب واحد ، ولا توجد مسبّبات كي يقال بتداخلها ، ويكون كما إذا وجد سبب واحد فهل يمكن البحث في ذلك المورد من أنّ الأصل هل هو تداخل المسبّبات أم لا؟ لا شكّ في أنّه لا يمكن ، لأنّ مفهوم التداخل سواء أكان مضافا إلى الأسباب أو إلى المسبّبات لا يتحقّق إلاّ مع تعدّدهما ، أي الأسباب والمسبّبات ، وإلاّ فمع وحدتهما لا معنى للتداخل ، كما بيّنّا أنّ التداخل عبارة عن دخول كلّ واحد من الشيئين في الآخر.

ثمَّ إنّ الفرق بين تداخل الأسباب وتداخل المسبّبات من حيث ثمرة البحث هو أنّه لو قلنا بأنّ مقتضى الأصل تداخل الأسباب والمسبّبات جميعا ، ففي مورد الشكّ مثل أنّه تكرّر منه الأكل في نهار شهر رمضان ، لا يجوز له أن يعطي أكثر من كفّارة واحدة بعنوان الوجوب وامتثال الأمر ، لأنّه تشريع محرّم.

ولو قلنا بأنّ مقتضي الأصل تداخل الأسباب دون المسبّبات ، فأيضا يكون الأمر كذلك ، من جهة أنّه وإن صدر السبب متعدّدا ، سواء أكانت الأسباب المتعدّدة من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، لكنّها بمنزلة سبب واحد ، لتداخلها على الفرض ، فلا يجب عليه إلاّ مسبّب واحد ، ويشتغل ذمّته بذلك الواحد فقط ، فإتيان غيره بعنوان الوجوب وامتثال الأمر يكون تشريعا محرما.

ولو قلنا بتداخل المسبّبات دون الأسباب ، فإنّه وإن كان له الاكتفاء بالواحد ، لما ذكرنا من أنّ المراد من تداخل المسبّبات الاكتفاء بمسبّب واحد عن أسباب متعدّدة ، وذلك كالاكتفاء بوضوء واحد أو غسل واحد عن أسباب وموجبات متعدّدة ، ولكن يجوز له أن يأتي بفرد آخر من المسبّب ، لأنّ المفروض في هذه الصورة عدم تداخل الأسباب ، وتأثير كلّ واحد منها في لزوم إيجاد المسبّب.

غاية الأمر إنّ الشارع مثلا حكم بكفاية إتيان فرد واحد من طبيعة المسبّب ولا يؤاخذ على ترك البقيّة ، فهذا لطف وتسهيل من قبل الشارع على المكلّف ، وإتيانه

ص: 212

بالفرد الآخر من طبيعة المسبّب ليس تشريعا كي يكون محرّما ، بل عمل بمقتضى تأثير الأسباب المتعدّدة ، وإن كان يجوز له الاكتفاء بفرد واحد منّة منه تعالى عن عباده.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في هذه الصورة ، بناء على ما ذكره من أنّ تداخل المسبّبات عبارة عن الاكتفاء بمسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة المؤثّر كلّ واحد منها تأثيرا مستقلاّ (1).

ولكن أنت خبير بأنّ هذا ليس من تداخل المسبّبات ، بل هو إسقاط ما في ذمّة العبد من الأفراد المتعدّدة إلاّ فردا واحدا ، والظاهر من تداخل المسبّبات هو أن يكون الفرد الواحد من طبيعة المسبّب أثرا للجميع وهذا المعنى إمّا أن يرجع إلى تداخل الأسباب ، بمعنى : أنّ الأسباب المتعدّدة في عالم التأثير لها أثر واحد ، فيكون خارجا عن مفروض الكلام ، لأنّ مفروضنا الآن هو تداخل المسبّبات دون الأسباب ، وإمّا أن يكون المراد أنّ الآثار المتعدّدة المسبّبة عن الأسباب المتعدّدة يندكّ بعضها في بعض ويوجد مسبّب واحد ، وذلك كالسرج المتعدّدة التي كلّ واحد منها يؤثّر في وجود مرتبة من الضوء في الغرفة مثلا مستقلا ، لكن تلك الآثار يندكّ بعضها في بعض ويتشكل ضوء واحد قويّ.

فنقول : في الشرعيّات مثلا موجبات الوضوء أو الغسل ، كلّ واحد منها يؤثّر في مرتبة من الحدث ، فيوجد حدث واحد قويّ ، أصغرا كان أو أكبرا ، فيرتفع بوضوء واحد في الأوّل ، وبغسل واحد في الثاني ، فيصحّ أن يقال : إنّ هذا تداخل المسبّب من دون تداخل أسبابها وإلاّ لو كان لكلّ سبب تأثير مستقل في وجود فرد من طبيعة المسبّب ، ومع ذلك الأفراد الموجودة بحدودها المعيّنة تصير فردا واحدا ، فهذا محال معناه صيرورة الاثنين واحدا ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين.

ص: 213


1- « فوائد الأصول » ج 1 ، ص 49.

وإذا كان تداخل المسبّبات بهذا المعنى ، فإيجاد المسبّب ثانيا بعنوان الوجوب والامتثال يكون تشريعا محرما ، لأنّ المفروض في المثال أنّ الحدث إذا كان هو الأصغر ارتفع بالوضوء الواحد ، وإذا كان هو الأكبر ارتفع بالغسل الواحد ، فيكون الوضوء أو الغسل الثانيين بعنوان امتثال الأمر تشريعا محرما ، كما في تداخل الأسباب بلا فرق بينهما أصلا.

وإذا كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب فالأمر أوضح ، لأنّه ليس هناك أصلان كي يفرق بين ثمرتيهما ، بل هناك أصل واحد وهو أصالة عدم تداخل الأسباب ، وثمرتها معلومة وقد بيّنّاها ، ولو قلنا بعدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات فيجب أن يأتي بالمسبّب بعدد الأسباب ، وهذا واضح جدّا ، فلو جامع مرارا أو أكل كذلك ، فعليه الكفّارات بعدد الجماع أو الأكل.

الجهة الثانية : في بيان الأدلّة التي أقاموها على هذه القاعدة ، وبيان ما هو الصحيح منها وما ليس بصحيح منها

وقبل الشروع في ذكر الأدلّة نقدم أمورا :

الأوّل : لو وصلت النوبة إلى الشكّ ، أي لم نجد دليلا لا على أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، ولا على أنّه يقتضي تداخلها فما حكمه؟

فنقول : أمّا الشكّ في تداخل الأسباب ، فمرجعه إلى الشكّ في التكليف ، فيكون مجرى البراءة.

بيانه : لو شككنا في أنّ الأسباب المتعدّدة للكفّارة ، سواء أكانت سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة ، هل يقتضي تعدّد الكفارة أم لا ، فمعناه أنّه يشكّ في وجوب كفّارة

ص: 214

أُخرى غير الأولى أم لا ، فهذا شكّ في التكليف بالنسبة إلى الكفّارة الثانية ، فيكون مجرى البراءة.

وأمّا الشكّ في تداخل المسبّبات ، فإن كان المراد من تداخل المسبّبات ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من الاكتفاء بمسبّب واحد وإن كان في ذمّته مسبّبات متعدّدة بواسطة عدم تداخل الأسباب ، فلا شكّ في أنّ المرجع بناء على هذا قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ الشكّ يكون في مرحلة الامتثال بعد الفراغ عن اشتغال الذمّة بالمتعدّد ، وأنّه في مقام الامتثال هل يكفي الإتيان بالمسبّب الواحد أم لا؟

وأمّا لو كان مرجع تداخل المسبّبات إلى تداخل الأسباب ، وأنّ تداخل المسبّبات بدون تداخل الأسباب محال كما ذكرنا ، فيكون المرجع هي البراءة ، لأنّ الشكّ فيه حيث أنّه يرجع إلى الشكّ في تداخل الأسباب ، فيكون الشكّ في أنّ ذمّته هل اشتغلت بالمتعدّد أم لا؟ فيكون الشكّ في ثبوت التكليف بإيجاد المسبّب ثانيا ، وهو مجرى البراءة.

وأمّا لو كان المراد من تداخل المسبّب هذا المعني الأخير الذي بيّنّاه - أي يندكّ تأثيرات الأسباب ويتشكل مسبّب قويّ واحد ، أي حدث أصغر أو أكبر واحد قويّ - فلا يبقى شكّ في البين أصلا بعد إتيانه بالوضوء أو بالغسل ، لارتفاع ذلك الحدث الأصغر القويّ بالوضوء ، والأكبر القويّ بالغسل. إلاّ أن يأتي دليل على عدم ارتفاع ذلك المسبّب الشديد بوضوء واحد أو بغسل واحد مثلا.

والذي يسهل الخطب أنّه لو قلنا بعدم تداخل الأسباب ، فتداخل المسبّبات خلاف الأصل يقينا ، ولا يمكن المصير إليه إلاّ بإتيان دليل على ارتفاع آثار الأسباب المتعدّدة بوجود واحد ممّا نسمّيه مسبّبا ، كوضوء واحد ، وكغسل واحد إذا وجدت لكلّ واحد منهما أسباب متعدّدة.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا - من أنّ الشكّ في تداخل الأسباب إن لم نجد دليلا على أنّ مقتضى

ص: 215

الأصل هو التداخل أو عدمه فمرجعه إلى البراءة - يكون في باب التكاليف.

وأمّا في باب الوضعيّات كما إذا وجد سببان للخيار ولم يدلّ دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالظاهر أنّه يكون مورد الاستصحاب لا البراءة ، مثلا لو ظهر في المبيع الذي هو حيوان ، عيب ، فما دام يكون البائع والمشتري في مجلس البيع وظهر العيب ، تجتمع للخيار أسباب ثلاثة : المجلس ، وكون المبيع حيوانا ، والعيب. فإذا أسقط الخيار المضاف إلى أحد هذه الأسباب فبناء على التداخل لا يبقى له خياران الآخران ، لأنّه بناء على هذا ليس له إلاّ خيار واحد وقد أسقطه.

وبناء على عدم التداخل فيكون الخياران الآخران موجودا ، فإذا شكّ في التداخل وعدمه ولم يكن دليل عليه ولا على عدمه ، فيشكّ في بقاء طبيعة الخيار ، فيكون مجرى الاستصحاب.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الخيار الذي هو عبارة عن حقّ خاصّ به يكون له السلطنة على حلّ العقد وإبرامه. ومثل هذا الحقّ ليس قابلا للتكرار ، فإذا أسقط فلا يبقى احتمال البقاء كي يستصحب ، بل البحث عن التداخل وعدم تداخل الأسباب لا يأتي هاهنا ، كما ذكرنا أنّ مورد هذا البحث هو فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ، لأنّ ما ليس قابلا للتكرار في مقام الثبوت فالبحث عنه في مقام الإثبات - بأنّ مقتضى الأصل هل هو عدم التداخل؟ أي : التكرار مع عدم إمكانه - لا مجال له أصلا.

إن قلت : إنّ الخيار وإن لم يكن قابلا للتكرّر بتعدّد الأسباب من حيث تعدّد وجوده ، ولكنّه قابل للتعدّد بواسطة إضافته إلى أسباب متعدّدة ، فقابل لأن يبحث فيه إذا تعدّد أسبابه ، كما ذكرنا أنّ مقتضى الأصل هل تداخل الأسباب كي يكون خيار واحد عند اجتماع تلك الأسباب ، أو مقتضى الأصل عدم التداخل كي تكون خيارات باعتبار إضافتها إلى أسبابها.

قلنا : إنّ هذا وإن كان كلاما صحيحا ولكن ليس مصحّحا لجريان الاستصحاب

ص: 216

بعد سقوطه أو إسقاطه باعتبار إضافته إلى بعض الأسباب ، وذلك من جهة أنّ الشكّ في التداخل وعدمه وإن كان موجبا للشكّ في وجود الخيار بعد سقوطه أو إسقاطه مضافا إلى أحد أسبابه ، ولكنّه ليس شكّا في بقاء ما هو كان موجودا يقينا الذي هو موضوع الاستصحاب ، لأنّه على تقدير التداخل حيث أنّه كان خيار واحد له ارتفع يقينا بالإسقاط أو السقوط ، ولم يبق شي ء ولو من حيث إضافته إلى سائر الأسباب غير ما أسقط أو سقط ، وعلى تقدير عدم التداخل فموجود يقينا من حيث إضافته إلى سائر الأسباب.

وحيث أنّ المفروض هو الشكّ في التداخل وعدمه ، فما عدا الساقط مشكوك الحدوث ، لا مشكوك البقاء ومتيقّن الحدوث كي يجري الاستصحاب.

وأمّا استصحاب بقاء الجامع - بين ما سقط والمضاف إلى سائر الأسباب لأنّه مشكوك البقاء - وإن كان صحيحا من حيث تماميّة أركانه ، لكنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي أثبتنا عدم صحّة جريانه.

وخلاصة الكلام : أنّ الوضعيّات إن لم تكن قابلة للتكرّر ولا للتأكّد فعند اجتماع الأسباب وتعدّدها لا يأتي بحث التداخل وعدمه ، وأيضا لا حكم للشكّ في التداخل وعدمه ، بل لا موضوع له ، لأنّ المفروض أنّ عدم التداخل بمعنى تعدّد المسبّب أو تأكّده غير ممكن فيه.

ولعلّه تكون الجنابة والنجاسة من هذا القبيل ، فإذا وجدت للجنابة أو النجاسة أسباب متعدّدة ، سواء أكانت تلك الأسباب من سنخ واحد ، كما إذا جامع مرارا ، أو لاقى مكانا من بدنه البول مرارا ، أو كانت من أسناخ متعدّدة ، كما إذا جامع بدون إنزال وأنزل بدون الجماع ، هذا بالنسبة إلى الجنابة ، أو لاقى مكانا من بدنه أو من ثوبه ، أو شي ء آخر البول والمني أو نجس آخر ، ففي جميع هذه الصور لا تؤثّر هذه الأسباب تعدّدا في الجنابة أو في نجاسة المحلّ ، ولا تأكّدا فيهما.

ص: 217

وأمّا إن كان قابلا للتعدّد أو التأكّد ، وإن كان تعدّده باعتبار اضافة إلى أسبابه كما قلنا في الخيار ، فهذا البحث وإن كان يأتي ولكن عند الشكّ وعدم وجود دليل على التداخل ولا على عدمه ، فالاستصحاب لا يجري فيما هو قابل للتعدّد ، لما ذكرنا في الخيار.

وأمّا فيما هو قابل للتأكّد دون التعدّد ، فعدم فرد آخر مقطوع ، فلا مجرى للاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى احتمال بقاء مرتبة منه بعد القطع بزوال مرتبة منه - كما أنّه لو غسل مرّة ما تنجّس بالدم أوّلا ثمَّ لاقى البول أيضا ، فاحتملنا بقاء مرتبة من النجاسة بعد زوال مرتبة منها يقينا ، بناء على تأكّد النجاسة فيكون الاستصحاب حينئذ من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، ولا يجري إلاّ فيما إذا كانت وحدة القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة محفوظة عرفا والمسألة مشروحة على التفصيل في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وإن شئت فراجع.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى النجاسة من التأكّد وزوال مرتبة منها يقينا واحتمال بقاء مرتبة منه صرف فرض ومن باب المثال ، وإلاّ فلا واقعيّة له.

نعم لو كانت لهذه المسبّبات التي من الوضعيّات آثار تكليفيّة ، كوجوب الغسل - بالضم - أو الغسل - بالفتح - وكان الشكّ فيه وأنّه مرّة أو مرّتين ، فالمرجع وإن كان هي البراءة من حيث التكليف ، ولكن لا مانع من استصحاب نفس الوضع ، وذلك كما إذا شكّ في أنّ النجاسة الحاصلة من ملاقاة البول هل يزول بالغسل مرّة أم لا؟ فاستصحاب النجاسة لا مانع منه ، ومعلوم حكومة هذا الاستصحاب على البراءة عن وجوب الغسل مرّة أخرى.

الثاني : في أنّ هذا البحث والنزاع هل يأتي في الأسباب والعلل التكوينيّة بالنسبة إلى مسبّباتها ، أو يختصّ بالأسباب والمسبّبات الشرعية؟

ص: 218


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 448.

ثمَّ إنّ هذا البحث في الأسباب والعلل التكوينيّة على تقدير إتيانه لا يكون إلاّ فيما إذا كان لتكرّر المسبّب أثر شرعي ، وإلاّ يكون البحث لغوا وبلا ثمرة.

وقد عرفت أنّ هذا البحث لا يأتي إلاّ فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار أو التأكّد ، وإلاّ ففيما لم يكن كذلك فقلنا إنّ عدم التداخل - أي : تعدّد المسبّب مع أنّه ليس قابلا للتكرار - محال ، فالبحث عنه باطل ، فهذا البحث على تقدير جريانه وإتيانه في الأسباب التكوينيّة مشروط بهذين الأمرين.

فنقول : المراد من الأسباب التكوينيّة إن كانت هي العلل التامّة ، فمع كون المسبّب قابلا للتكرار فالتداخل محال ، فلا محالة يتكرّر المسبّب بتكرّر السبب ، وإلاّ يلزم توارد علّتين تامّتين على معلول واحد. وأمّا مع عدم كونه قابلا للتكرار فقلنا إنّ هذا البحث لا يأتي مطلقا لا في الأسباب الشرعيّة ولا في الأسباب التكوينيّة.

والحاصل : أنّ احتمال التداخل في العلل التامّة التكوينيّة محال. وأمّا المعدّات فليست المسبّبات مترتّبة عليها حتّى نتكلّم أنّ مقتضى الأصول هل هو التداخل أم لا؟

فهذا البحث مختصّ بالأسباب الشرعيّة.

ولكن ربما يقال بأنّ إتيانه في الأسباب الشرعيّة أيضا مشروط بأن تكون معرّفات لا مؤثّرات وعلل حقيقية ، وإلاّ يكون حالها حال العلل التكوينيّة في عدم جريان هذا البحث لعين ما ذكرنا ، لعدم جريانه هناك.

وفيه : أنّ ما نسميّها بالأسباب الشرعيّة ليست هي إلاّ موضوعات الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، فلا مؤثّرات ولا معرّفات لما هو العلّة حقيقة ، وذلك من جهة أنّ الشارع هو الذي يوجد هذه الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، وهي اعتبارات من قبل الشارع ومجعولات له في عالم الاعتبار والتشريع.

وكما أنّ الموجودات الخارجيّة كلّها مخلوقات له تعالى في عالم الخارج والتكوين ، كذلك جميع الأحكام الشرعيّة ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة ، مجعولات من طرفه تعالى

ص: 219

في عالم الاعتبار والتشريع ، فالمؤثّر والعلّة في وجود الأحكام هو اللّه تعالى.

وهذه الأسباب التي نسمّيها بالأسباب لا علل حقيقية للأحكام كما هو واضح ، لما عرفت أنّ علّتها الحقيقة هو الشارع ، ولا معرّفات للعلل الحقيقة ، لأنّ هذه الأسباب ليست معرّفات للشارع ، لأنّ المراد من المعرّف هاهنا ظاهرا هو الدالّ والمبيّن ، وهذه الأسباب ليست دالاّ ومبيّنا للعلّة الحقيقة بحيث يعرف العلّة الحقيقيّة وأنّها هو الشارع.

فحديث دوران الأمر بين أن تكون أسباب الأحكام وشرائطها إمّا علل حقيقة لها أو معرّفات إليها لا أساس له ، وبناء على هذا فما فرّعوا على هذا الدوران من انّ مقتضى الأصل هو التداخل بناء على أنّها معرّفات ، وعدم التداخل بناء على أنّها علل حقيقيّة كلام فارغ لا محصّل له ، إذ مقصودهم من ابتناء التداخل على أنّها معرّفات ، وابتناء عدم التداخل على أنّها علل حقيقيّة ومؤثّرات واقعيّة هو ما أشرنا إليه ، وهو أنّ توارد علّتين تامّتين حقيقيّتين على معلول واحد محال ، فبناء على أنّها علل حقيقية يكون التداخل محالا.

وأمّا بناء على أنّها معرّفات فلا مانع من التداخل ، إذ من الممكن أن يكون للشي ء الواحد معرّفات متعدّدة وأمارات وعلامات كثيرة وكواشف مختلفة.

هذا إذا كان المراد من العلل الحقيقية هو موجدها في عالم الاعتبار والتشريع - أي الشارع - فقد عرفت أنّه بناء على هذا ليست هذه التي نسمّيها الأسباب والشروط علل حقيقيّة ، ولا معرّفات لها ، ولا كواشف عنها ، ولا أمارات عليها.

وأمّا لو كان المراد منها المصالح والمفاسد التي قد تكون من قبيل علّة الجعل ، وقد تكون من قبيل حكمته ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون هذه الأسباب والشرائط مؤثّرات في وجود المصالح والمفاسد التي هي إمّا علّة جعل الأحكام أو حكمته ، فيكون الإفطار في نهار شهر رمضان متعمّدا مؤثّرا في وجود مصلحة في إعطاء الكفّارة التي هي العلّة الحقيقيّة لجعل وجوبها ، وأيضا يمكن أن تكون معرّفات لوجود

ص: 220

المصلحة والمفسدة في ذلك الفعل الذي نسمّيه بالمسبّب ، لا مؤثرات حقيقيّة.

ولكن هذا التفصيل لا وجه له ، لأنّه على كلا التقديرين يمكن التداخل وعدم التداخل ، لأنّه على تقدير أن تكون مؤثّرات في وجود المصلحة والمفسدة يمكن أن يكتفي - مثلا بغسل أو وضوء واحد عند اجتماع أسباب متعدّدة ، كما أنّه بناء على أن تكون معرّفات يمكن أن يكون هذا السبب مثل البول في كلّ وجود له معرّفا لوجود مصلحة في وجود فرد آخر من طبيعة الوضوء ، أو الغسل كذلك بالنسبة إلى أسبابه.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذه الأسباب والشرائط مرجعها إلى قيود الموضوع مثلا السرقة ليست سببا للقطع ، بل السرقة من قيود موضوع وجوب قطع اليد ، لأنّ موضوع وجوب قطع اليد هو الإنسان المقيّد بكونه سارقا ، كما أنّ موضوع وجوب الحجّ هو الإنسان المقيّد بكونه مستطيعا ، ولا شكّ في أنّ الموضوع وقيوده ليس علّة للحكم ولا معرّفا له.

فهذا الكلام - أي القول بأنّ الأصل عدم التداخل إن كانت هذه الأسباب والشرائط علل ومؤثّرات حقيقيّة ، والتداخل إن كانت معرّفات - لا أساس له ، لأنّها من قيود الموضوعات ، لا علل للأحكام ، ولا معرّفات لها.

الثالث : ربما يتوهّم التنافي بين قولي المشهور ، فهاهنا يقولون بأصالة عدم تداخل الأسباب ، ونتيجة هذا القول هو تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب ، وأيضا يقولون فيما إذا تعلّق الطلب بفعل - أي بطبيعة - مرّتين ، كما إذا قال : صم يوما ، ثمَّ قال ، أيضا : صم يوما ، أو قال : أكرم عالما ، ثمَّ قال ، أيضا : أكرم عالما ، وهكذا في سائر المقامات التي يتعلّق الطلب بطبيعة مرّتين أو مرّات بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له ، مع أنّ الطلب سبب للتكليف ، فإذا تعدّد يجب تعدّد التكليف ولزوم إيجاد المكلّف به متعدّدا بمقدار عدد الطلب.

فقولهم بأنّ ما بعد الطلب الأوّل تأكيد له وكفاية صوم يوم واحد وإكرام عالم

ص: 221

واحد وعدم تعدّد التكليف ولا المكلّف به ، مع القول بعدم تداخل الأسباب وأنّ تعدّد السبب موجب لتعدّد المسبّب متنافيان لا يجتمعان.

ولكن التحقيق أنّ هذا التوهّم باطل ، وذلك من جهة أنّ الطلب - فيما مثّلنا من المثالين وما هو من هذا القبيل - تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الصوم والإكرام ، وكذلك بالنسبة إلى متعلّقيهما - أي اليوم والعالم - فلفظ صم يوما ، وكذلك أكرم عالما ظاهر في طلب صرف الوجود من طبيعة الصوم ، وكذلك في صرف الوجود من اليوم في المثال الأوّل ، وكذلك الأمر في المثال الثاني - أي الطلب - تعلّق بصرف الوجود من طبيعة الإكرام وصرف الوجود من طبيعة العالم.

وصرف الوجود من كلّ شي ء يتحقّق بأوّل وجود منه ، إذ هو نقيض عدمه المطلق ، ولو لم يصدق صرف الوجود للشي ء على أوّل وجود من ذلك الشي ء ، يلزم اجتماع النقيضين ، إذ المراد من صرف وجود الشي ء وجوده المطلق من دون أي تقييد فيه ، وهو نقيض عدمه المطلق ، أي من دون تقييد في ذلك العدم ، ومعلوم أنّ الوجود المطلق والعدم المحمولان على شي ء نقيضان لا يجتمعان ، فالوجود الثاني أو الثالث وهكذا ، وكذلك الوجود المعنون بعنوان الآخر للطبيعة ، ليس جميع ذلك مصداقا لمفهوم صرف الوجود ، وهذا مرادهم من قولهم : صرف الشي ء لا يتكرّر ولا يتثنّى.

فلو أراد الآمر وجود طبيعة مرّة أخرى ، لا بدّ له أن يقيّد مطلوبه بكلمة « ثانيا » أو « الآخر » ، أو « مرّة أخرى » ، وإلاّ لو تعلّق الطلب بوجود شي ء من دون أيّ تقييد في المطلوب يكون متعلّقا بصرف وجود ذلك الشي ء ، وحيث أنّ صرف الوجود لا يتكرّر ، فلا بدّ من حمل الطلب الثاني والثالث - وهكذا - على التأكيد لا التأسيس.

ومثل هذا خارج عن مورد هذا البحث ، لما ذكرنا أنّ مورده فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدد والتكرار ، فعلى فرض تسليم أنّ المفروض من قبيل الأسباب والمسبّبات لا يأتي ذلك البحث هاهنا ، إذ الشكّ في وقوع شي ء فرع إمكانه ، وإلاّ فالعاقل الملتفت

ص: 222

لا يشكّ في وقوع اجتماع النقيضين أو وجود سائر الممتنعات.

وحيث كان مفاد الطلب المتعلّق بوجود شي ء - من دون تقييد المطلوب بأيّ قيد - متعلّقا بصرف وجود الشي ء ، وصرف وجود الشي ء ليس قابلا للتكرّر ، فالبحث عند الشكّ في أنّ الأصل هل تعدّد وجود المطلوب عند تعدّد الطلب ، أو مقتضى الأصل عدم التعدّد باطل لا ينبغي أن يصدر عن عاقل.

نعم لو صدر الطلب المتعلّق بصرف الوجود ثانيا بعد امتثال الطلب الأوّل ، فيدلّ على لزوم إيجاده ثانيا ، لأنّ ذلك الوجود مصداق صرف الوجود في ذلك الوقت.

وبعبارة أوضح : كلّ طلب تعلّق بصرف الوجود من دون تقييد المطلوب بقيد ، مثل « ثانيا » أو « مكررا » أو « آخر » وأمثال ذلك ، فأوّل وجود من تلك الطبيعة بعد صدور الطلب مصداق صرف الوجود ، وبعده وجود تلك الطبيعة ليس مصداق صرف الوجود.

وأمّا إيجاد تلك الطبيعة قبل صدور الطلب لا يكون مضرّا بمطلوبيّة صرف الوجود بعد صدور الطلب ، فلو صدر من الآمر طلب آخر متعلّق بصرف الوجود قبل إيجاد متعلّق الطلب الأوّل ، لا بدّ وأن يكون تأكيدا ، ولا يمكن أن يكون تأسيسا.

إذا عرفت هذه المقدّمات ، فنقول :

إنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب والمسبّبات ، وذلك أمّا بالنسبة إلى عدم تداخل الأسباب فمن جهة ما ذكرنا أنّ مرجع الأسباب والشرائط إلى قيود الموضوعات.

فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، يكون هاهنا موضوعين وحكمين : أحدهما المظاهر يجب عليه عتق رقبة ، والثاني المفطر في نهار رمضان متعمّدا بدون أن يكون له عذر يجب عليه عتق رقبة ، وظاهر هاتين القضيّتين أنّ لكلّ واحد من الموضوعين هذا الحكم ثابت ، سواء اجتمع

ص: 223

مع الموضوع الآخر أم لا ، ففي مورد الاجتماع يكون له طلبان ومطلوبان ، أحدهما مترتّب عليه باعتبار كونه مظاهرا ، والآخر باعتبار كونه مفطرا في نهار شهر رمضان ، وهذا معنى عدم التداخل بالنسبة إلى الأسباب ، أي كلّ واحد من السببين يقتضي حكما غير حكم الآخر.

إن قلت : قد ذكرت أنّ صرف الوجود ليس قابلا للتكرار ، وهاهنا أيضا تعلّق الطلب بصرف الوجود في كلتا القضيتين. وبعبارة أخرى : ما الفرق بين أن يقول : أعتق رقبة ثمَّ يقول ثانيا : أعتق رقبة ، وتقول يكفي في امتثال كلتا القضيتين عتق رقبة واحدة ، وبين أن يقول : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة ، وتقول في هذا الفرض بلزوم عتق رقبتين ؛ لأنّ الأصل عدم تداخل الأسباب؟

قلت : الفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى - أي فيما لا يكون طلب وجود طبيعة مسبوقا بوجود السبب - يكون الحكمان على موضوع واحد ، والحكم هو طلب صرف الوجود الذي لا تكرار فيه ، فلا بدّ وان يكون الثاني تأكيدا للأوّل.

وأمّا في الصورة الثانية - أي : ما يكون الطلب مسبوقا بذكر السبب - يكون الحكم على موضوعين ، فيكون لكلّ موضوع حكمه ، وإن كان هو طلب صرف وجود الطبيعة ، ولكن طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع غير طلب صرف وجود الطبيعة لموضوع آخر ، فقهرا يتقيّد المطلوب في الطلب الثاني بقيد - مثل « آخر » أو « ثانيا » وأمثال ذلك إذا كانت الطبيعة المطلوبة لها أفراد ، فقوله : إن ظاهرت فأعتق رقبة بعد قوله : إن أفطرت فأعتق رقبة قهرا تتقيّد الرقبة فيه بأخرى مثلا ، فيخرج المطلوب عن كونه صرف الوجود.

وهذا فيما إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة في غاية الوضوح ، وأمّا إذا كانت من سنخ واحد ، كما إذا أفطر في يوم واحد متعدّدا بالأكل مثلا أو بالجماع أو بالارتماس ، فظاهر القضيّة الشرطيّة هو الانحلال وأنّ كلّ وجود وفرد من أفراد طبيعة

ص: 224

الشرط موضوع للحكم المنشأ في الجزاء.

فظاهر قوله علیه السلام : « إن جامعت أهلك في نهار رمضان فأعتق رقبة » [1] أو قوله :

« من جامع أهله في نهار رمضان فعليه عتق رقبة » (1) هو أنّ كلّ فرد من أفراد الجماع الواقع في نهار رمضان موضوع مستقلّ لوجوب عتق الرقبة.

فلا فرق بين في أنّ الأصل يقتضي عدم تداخل الأسباب بين أن تكون الأسباب من سنخ ونوع واحد ، أو من أنواع مختلفة بعد أن عرفت أن القضيّة الشرطيّة ظاهرة في أنّ كلّ فرد من أفراد ما أخذ شرطا أو سببا موضوع مستقلّ للحكم المذكور في الجزاء ، ولا يجوز قياسها بالحكم المكرّر في القضيّة غير المسبوقة بالشرط والسبب ، لما ذكرنا من أنّ القضيّة المتكفّلة للحكم على موضوع إن لم تكن مسبوقة بشرط ، فإن تكرّرت تلك القضيّة من دون اختلاف في جانب الموضوع ولا في جانب المحمول بأخذ قيد أو وصف في موضوع إحديهما أو محمولها دون الأخرى ، فلا محالة تكون القضيّة الثانية تأكيدا للأولى ، لأنّ الوجود المطلق لطبيعة من دون تقيّده بأيّ قيد لا تكرّر فيه ويصدق بأوّل وجود منها.

وأمّا إذا كانت القضيّة مسبوقة بشرط أو سبب ، أو قيّد موضوعها بقيد لم يكن في موضوع القضيّة الأخرى فظاهرة في أنّ كلّ واحد من الموضوعين له حكم مستقلّ وجزاء غير الجزاء الآخر ، إلاّ أن لا يكون الجزاء قابلا للتكرار - كالقتل في قوله : المرتدّ يقتل ، والزاني المحصن يقتل ، واللائط يقتل ، سواء كانت تلك القضايا بصورة القضيّة الحمليّة ، أو كانت بصورة القضيّة الشرطية - أو إلاّ أن يأتي دليل على كفاية الجزاء الواحد لجميع تلك الموضوعات أو تلك الشروط والأسباب ، مثل قوله : إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ.

====

2. « مستدرك الوسائل » ج 7 ، ص 326 ، باب 7 ، ح 8308 وص 327 ، ح 8309.

ص: 225


1- لم نجده في بحار الأنوار ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ تعدّد السبب والشرط - في القضايا الشرطيّة وإن اتّحد الجزاء ، سواء كانت تلك الأسباب والشروط من سنخ واحد أو من أسناخ متعدّدة - ظاهر في أنّ كلّ فرد من أفراد السبب والشرط له تأثير مستقلّ في الجزاء إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ، ولم يكن دليل على أنّ جزاء واحدا يكفي للجميع ، أي لم يكن دليل على تداخل المسبّبات.

ويكون هذا الظهور قرينة على عدم إرادة صرف الوجود من الجزاء في القضيّتين كي لا يكون قابلا للتكرار.

ولا فرق في هذا الأمر بين أن تكون القضيّتان اللتان جزاؤهما واحد بصورة القضيّة الشرطيّة ، أو كانتا بصورة القضيّة الحمليّة مع تقييد موضوع إحدى القضيّتين بقيد أو وصف دون الأخرى ، أو كانت قضيّة واحدة حمليّة ولكن تكرّر وجود أفراد موضوعها ، كما إذا قال : من جامع أهله في نهار رمضان متعمّدا من غير عذر فعليه عتق رقبة ، ثمَّ تكرّر منه الجماع في يوم واحد.

فظهر أنّ مقتضى الأصل - أي الأدلّة اللفظيّة - عدم تداخل الأسباب.

وأمّا تداخل المسبّبات فأيضا مقتضى الأصل اللفظي عدمه ، فيكون مقتضى الأصل تعدّد المسبّب بتعدّد السبب ، وذلك من جهة أنّه بعد ما عرفت أنّ الأصل عدم تداخل الأسباب وأنّ كلّ سبب يؤثّر في مسبّب مختصّ به غير المسبّب عن السبب الآخر.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع لكلّ واحد من الحكمين في الجزائين في القضيّتين الشرطيّتين غير ما هو الموضوع في الأخرى بواسطة تعدّد السبب أو الشرط ، بل يتعدّد الموضوع بواسطة القيد والوصف وإن كانت القضيّة حمليّة فيكون تعدّد السبب أو الشرط أو تعدّد الموضوع بناء على هذا الأخير قرينة على عدم إرادة صرف الوجود في طرف الجزاء.

ص: 226

فإذا قال الآمر : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على المظاهر ، ثمَّ قال : إن أكلت في نهار رمضان فأعتق رقبة ، أو قال بصورة القضيّة الحمليّة : يجب عتق رقبة على الذي أكل في نهار رمضان من غير عذر. يكون الجزاء في القضيّة الثانية سواء كانت بصورة القضيّة الشرطيّة أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة مقيّدا بأخرى أو بالثانية أو بأمثالها.

مثلا يكون الجزاء في القضيّة الثانية هكذا : إن أكلت في نهار رمضان من غير عذر فأعتق رقبة ثانية أو أخرى.

إن قلت : إنّ المترتّب على الشرط في القضيّة الشرطيّة هو الحكم المتعلّق بفعل المكلّف لا نفس الفعل ، فالمترتّب على الظهار أو الأكل هو وجوب العتق ، لا نفس العتق الذي هو متعلّق الوجوب ، والوجوب المتعلّق بالعتق ليس قابلا للتكرار وإن كان قابلا للتأكّد.

فغاية ما يمكن أن يكون هو تأكّد وجوب العتق عند تعدّد الأسباب ، وأمّا تعدّد العتق فلا ، فيرجع إلى أنّ تعدّد الأسباب يوجب تأكّد وجوب عتق رقبة واحدة ، وهذا غير ما هو مقصودهم من عدم تداخل المسبّبات ، لأنّ مقصودهم من هذا الكلام هو تعدّد المسبّب بمقدار تعدّد السبب.

قلنا : إنّ تعدّد الحكم إمّا بتعدّد موضوعه ، وإن كان المتعلّق واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، ويا عمرو يجب عليك عتق رقبة ، وإمّا بتعدّد متعلّقة ، وإن كان موضوعه واحدا ، مثل : يا زيد يجب عليك عتق رقبة ، وأيضا : يا زيد يجب عليك إطعام ستّين مسكينا ، وإمّا يكون بتعدّدهما جميعا كما فيما نحن فيه.

فالموضوع في إحدى القضيّتين المظاهر مثلا سواء كانت القضيّة بصورة الشرطيّة أو الحمليّة ، وفي الأخرى الأكل في نهار رمضان من غير عذر أيضا مع عدم الفرق في القضيّة بأيّ صورة كانت. وأمّا المتعلّق في إحداهما نفس عتق الرقبة مثلا من دون قيد ،

ص: 227

وفي الأخرى مقيّدا بقيد « الأخرى » أو « ثانية » كما ذكرنا مفصّلا.

فلا يحتاج الجواب عن هذا الإشكال إلى ما تكلّفه شيخنا الأستاذ ، بأنّ المعلّق على الشرط هو محصّل جملة الجزاء ومفاد مجموعها ، لا خصوص مفاد الهيئة - أي الوجوب - بل المترتّب على الشرط طلب إيجاد مادّة المتعلّق (1).

ففي المثال المذكور علّق الآمر على الظهار أو على الأكل في نهار رمضان مطلوبيّة إيجاد العتق عن المخاطب بهذا الخطاب ، وذلك من جهة أنّ نفس الوجوب الذي هو مفاد الهيئة معنى حرفي ليس قابلا للتقييد ولا التعليق.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره لا يخلو عن تأمّل ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة أي الدليل اللفظي فيما إذا تعدّد السبب - إذا كانت الأسباب المتعدّدة من أسناخ مختلفة ، أو تكرّر وجوده إذا كانت من سنخ واحد - تعدّد المسبب وجودا ، لا صرف تأكّد وجوبه مع وحدته خارجا ، وهذا فيما إذا كان المسبّب قابلا للتعدّد والتكرّر.

وهذا الذي قلنا من أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات لا ينافي إتيان دليل خارجي على التداخل فيهما أو في أحدهما ، فيكون أصلا ثانويا ، وذلك كما في باب الوضوء لو اجتمعت أسباب متعدّدة من البول والغائط والنوم والريح يكفي وضوء واحد.

وكذلك في الغسل بناء على ما ذكروه من كفاية الغسل الواحد مطلقا عن الأسباب المتعدّدة ، أو فيما إذا نوى الجميع بذلك الغسل الواحد ، أو فيما إذا كان ذلك الغسل بقصد غسل الجنابة ، بناء على الأقوال المتعدّدة المختلفة في هذه المسألة.

ولكن كلّ ذلك لقيام الدليل على الاكتفاء بالواحد على خلاف الأصل الأوّلي في

ص: 228


1- « فوائد الأصول » ج 1 ، ص 495.

باب تداخل الأسباب والمسبّبات.

ثمَّ إنّه قد يكتفي بإيجاد المسبّب الواحد من جهة كونه مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، مثلا لو نذر أن يطعم عالما وأيضا نذر أن يطعم هاشميا ، فلو أطعم عالما هاشميا وفي بنذريه من جهة كونه مصداقا لكلا العنوانين.

إن قلت : إنّ امتثال الحكمين - اي الواجبين - منوط بشمول كلا الدليلين لمورد الاجتماع ، ومورده في المثال المفروض حيث أنّ التركيب بين العنوانين فيه اتّحادي لا يمكن أن يشمله العمومان أو الإطلاقان وإن كانا بدليّين ، لامتناع اجتماع المثلين في واحد مثل الضدّين ، فلا بدّ من سقوط كلا الوجوبين أو أحدهما في مورد اجتماع العنوانين واتّحادهما.

قلنا : إنّ الفرق بين الضدّين والمثلين هو أنّ الحكمين الضدّين لا يمكن اتّحادهما وصيرورتهما حكما واحدا مؤكّدا ، بخلاف المثلين ، فإنّهما بعد اجتماعهما - سواء أكانا وجوبين أو حرمتين أو استحبابين - يتّحدان ويصيران حكما واحدا مؤكّدا ، فامتثالهما جميعا بإتيان مادّة الاجتماع.

ثمَّ إنّ ما حكي عن العلاّمة قدس سره من المقدّمات الثلاث دليلا وبرهانا على أن الأصل عدم تداخل الأسباب ولا المسبّبات يرجع إلى ما ذكرنا بل عينه ، غاية الأمر الفرق هو الإجمال والتفصيل.

والمقدّمات الثلاث هذه : الأولى :

أنّ ظاهر القضيّة الشرطية وتعدّد الأسباب هو كون كلّ شرط وسبب مؤثّر مستقلّ في الجزاء ، لا أنّه جزء سبب حتّى يكون المجموع عند اجتماعهما سببا واحدا.

وهذه المقدّمة هي الركن الركين في مسألة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات.

الثانية : أنّ ظاهر كلّ شرط أن يكون أثره غير أثر الشرط الآخر ، لا أن يكون

ص: 229

شيئا واحدا أثر الاثنين.

الثالثة : هو أنّ التعدّد والغيريّة في الأثرين للشرطين يكون بنحو انفصال كلّ واحد من الأثرين عن الآخر ، لا الاندكاك كي يكون بنحو التأكّد والاشتداد ، مثل آثار المصابيح المتعدّدة في الغرفة ، لأنّها وإن كان كلّ واحد منها سبب مستقلّ لمرتبة من الضياء لا أنّه جزء سبب لتلك المرتبة ، وأيضا أثر كلّ واحد من تلك المصابيح غير أثر الآخر ، لكن مجموع آثارها وجد بنحو ضياء واحد مؤكّد شديد ، بمعنى أنّ حدود تلك المراتب اندكّت وذهبت من البين بعد اجتماعهما ، وحصلت مرتبة أكمل وأشدّ. وهذا في الكمّ المنفصل كالأعداد تصويره أوضح ، فلو أنّ أشخاصا متعدّدة كلّ واحد منهم أتى مثلا بعدد من التّفاح أو الرمّان ، فبعد اجتماع تلك المراتب تسقط الحدود ، ويحصل حدّ مرتبة أزيد من العدد ، وهكذا في الكمّ المتصل بل في كلّ ما يقبل الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف ، وإن شئت قلت : في كلّ ما يقبل الكمال والنقص.

وإثبات هذه المقدّمات بالاستظهار من الأدلّة اللفظيّة في كمال الوضوح ، وترتّب أصالة عدم تداخل الأسباب والمسبّبات عليها أوضح ، كما بيّنّا وشرحناه مفصّلا.

نعم استشكل على ترتّب أصالة عدم التداخل على هذه المقدّمات فخر المحقّقين قدس سره (1) بأنّ ما ذكر صحيح في العلل والأسباب التكوينيّة ، وأمّا الأسباب والشرائط الشرعيّة فليست من هذا القبيل ، بل هي أمارات ومعرّفات ، وتبعه جمع ممّن تأخّر عنه.

وخلاصة كلامهم : أنّ ما هو المؤثّر - في وجوب الكفّارة مثلا أو الوضوء أو الغسل والسبب الحقيقي لهذه الأمور أو سائر المسبّبات الشرعيّة - ليست هذه الأسباب المذكورة في لسان الأدلّة ، أو هذه الشرائط المذكورة في أدلّة المسبّبات.

ص: 230


1- حكى الشيخ الأعظم نسبته إلى فخر المحقّقين واحتمل تبعيّة النراقي له في العوائد. راجع : « مطالع الأنظار » ص 175.

فليست الاستطاعة مثلا لها تأثير حقيقي في وجوب الحجّ ، وكذلك البول أو النوم وغيرهما من أسباب الوضوء ليس لها تأثير حقيقي في وجوب الوضوء ، وكذلك بالنسبة إلى أسباب الغسل والكفّارة وغيرهما ، بل المذكورات كواشف عن السبب الحقيقي ، وتعدّد المسبّب إنّما يكون بتعدّد السبب الحقيقي وما هو المؤثّر تكوينا ، وإلاّ فتعدّد الكواشف لا يوجب تعدّد المنكشف وما هو العلّة حقيقة.

وقد تقدّم الجواب عن هذا الكلام وأنّ الأسباب والشرائط للأحكام الشرعيّة ليست إلاّ قيودا لموضوعات تلك الأحكام وإن كانت بصورة القضيّة الشرطيّة ، فمعنى إن استطعت فحجّ ، أي يجب الحجّ على المستطيع. وكذلك قوله : إن بلت فتوضّأ ، أي يجب الوضوء على من بال أو نام. وكذلك قوله : إن قتلت مؤمنا خطأ فكفّر بكذا ، أي تجب الكفّارة على من قتل مؤمنا خطأ.

فتعدّد الأسباب الشرعيّة في لسان الأدلّة مرجعه إلى تعدّد الموضوع ، ومعلوم أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العلّة إلى معلوله ، فإذا تعدّد الموضوع فلكلّ موضوع حكمه ، وقهرا يتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه ، فلا ربط لمسألة أصالة عدم التداخل بأنّها أيّ الأسباب الشرعيّة معرّفات أو مؤثّرات حقيقية ، لأنّها ليست إلاّ قيودا للموضوعات ، لا معرّفات ولا مؤثّرات في الأحكام الشرعيّة.

فلا يبتني هذا البحث على ما ذكره فخر المحقّقين وتبعه على ذلك محقّق الخوانساري (1) والفاضلان صاحب اللوامع وصاحب المستند النراقيّان (2) قدس سره .

وقد ظهر من مجموع ما ذكرنا ثبوت أنّ مقتضى الأصل الأوّلى ، أي الظهور اللفظي فيما إذا تعدّد السبب - سواء كانت الجملة بصورة الجملة الشرطيّة ، كما إذا قال : إن بلت فتوضّأ وإن نمت فتوضّأ ، أو كانت بصورة القضيّة الحمليّة ، كما إذا قال : يجب الوضوء

ص: 231


1- « مشارق الشموس » ص 61 - 69.
2- انظر : « المستند » ج 2 ، ص 371 ، وص 367.

على من بال وكذا يجب على من نام - هو تعدّد المسبّب وعدم التداخل ، لا في جانب الأسباب ولا في جانب المسبّبات.

نعم ورد الدليل في باب الوضوء (1) وكذا في باب بعض الكفّارات من كفّارة إفطار شهر رمضان (2) على عدم تعدّد المسبّب تعدّد السبب ، وكفاية وضوء واحد أو كفّارة واحدة إن تعدّدت أسبابهما ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور القضيّة اللفظيّة ، شرطيّة كانت أم حمليّة في تعدّد المسبب بتعدّد أسبابه ، والقول بأنّ المسبّب هو صرف الوجود من طبيعة المسبّب ، فليس قابلا للتكرار ولا للتأكيد ، فيكون خارجا عن موضوع البحث.

لأنّ البحث في هذا الأصل - كما تقدّم - كان فيما إذا كان المسبّب قابلا للتكرار ولو بواسطة الإضافة إلى سببه كما قلنا في باب الخيارات ، فإنّها قابلة للإسقاط باعتبار الإضافة إلى أسبابها أو للتأكّد ، فإذا لم يكن قابلا لهما فلا مورد لهذا الأصل اللفظي ، لأنّ الإثبات فرع إمكان الثبوت ، وإلاّ يكون البحث فيه باطلا.

ولكن هذا الوجه لا يأتي في باب الوضوء ، لأنّ الوضوء قابل للتأكّد يقينا ، لقوله علیه السلام : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (3) خصوصا إذا كان اسما لذلك الأمر المعنوي ، أي الطهارة الحاصلة للنفس بواسطة تلك الأفعال ، أي الغسلتان والمسحتان الصادرتان عن قصد القربة والإخلاص له تعالى.

ويمكن توجيه كفاية وضوء واحد عن أسباب متعدّدة والنواقص المختلفة بوجه آخر ، وهو أنّ سبب الوضوء في الحقيقة أمر واحد غير قابل للتعدّد ولا للتأكّد ، وهو الحالة النفسانيّة ، ويمكن أن يعبّر عنها بالقذارة النفسانيّة مقابل الطهارة النفسانيّة.

ص: 232


1- « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 263 ، أبواب الوضوء ، باب 7.
2- « وسائل الشيعة » ج 7 ، ص 27 ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ، باب 11.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 41 ، ح 82 ، باب صفة وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 265 ، أبواب الوضوء ، باب 8 ، ح 8.

وهذه النواقص محصّلات لتلك الحالة ، وحيث أنّ تلك الحالة ليست قابلة للتعدّد ولا للتأكّد ، فهذه النواقض لو وجدت مترتّبة وواحد بعد الآخر وفي طوله فبأوّل وجود منها تحصل تلك الحالة ، فيكون حصولها بعد وجودها بأوّل ناقض من تلك النواقض من قبيل تحصيل ما هو حاصل الذي هو محال ، فقهرا وجود سائر النواقض بعد وجود الأوّل منها يكون بلا أثر ولغوا من هذه الجهة.

ولكن هذا منوط بأن لا تكون تلك الحالة - أي القذارة النفسيّة - قابلة للتأكّد ، وإلاّ فبالثاني والثالث وهكذا تشتدّ. وإن شئت مثّل هذا بأنّ الطهارة المعنويّة والنورانيّة النفسانيّة التي هي إمّا مسبّبة عن الوضوء أو تكون عبارة عن نفس الغسلتين والمسحتين بمنزلة النور المتولّد عن سراج واحد أو عن اسرجة متعدّدة ، والنواقض بمنزلة هبوب ريح يطفأ ذلك السراج أو تلك الأسرجة ، فإذا انطفى ذلك السراج أو تلك الأسرجة بهبوب أوّل ريح ، فلا يبقى مجال لتأثير سائر الهبوبات بعد هبوب الأوّل ، وهذا المعنى مناسب مع إطلاق النواقض عليها فخذ واغتنم ، هذا في باب الوضوء.

وأمّا في باب الكفّارات ، فبالنسبة إلى كفّارة إفطار شهر رمضان لمن ليس له عذر ، فالمشهور قالوا بوجوب كفّارة واحدة في غير الجماع ، وإن تعدّد وجود المفطر ، وإن كانا من سنخين كالأكل والشرب ، مع أنّ الكفّارة التي هي المسبّب قابلة للتكرّر.

فيمكن أن يقال : إنّ السبب الكفارة هو الإفطار في نهار رمضان الصادر عن الصائم ، وهذا المعنى يصدق على أوّل وجود من المفطر ، وبصدوره من المتعمّد إلى الإفطار يبطل الصوم وينعدم ، فالوجود الثاني من المفطر - سواء أكان من سنخ الأوّل كالأكل بعد الأكل أو الشرب بعد الشرب ، أو كان من سنخ آخر كالأكل بعد الشرب أو الشرب بعد الأكل - لا يصدق عليه أنّه أفطر صومه ، لأنّه بإفطاره الأوّل أبطل صومه وليس بصائم بعد ذلك. ومن الواضح المعلوم أنّ موضوع الكفّارة هو إفطار الصوم ، لا مطلق الأكل والشرب مثلا في نهار رمضان وإن لم يكن صائما.

ص: 233

ففي الحقيقة هاهنا سبب واحد للكفّارة ، وهو أوّل وجود من المفطرات ، فليس من قبيل تداخل الأسباب أو المسبّبات.

وعلى كلّ حال هذا أصل أوّلى ، ومقتضى أصالة عدم تداخل الأسباب هو تعدّد المسبّب ما لم يأت دليل على خلافه.

وأمّا إتيان دليل على التداخل فلا ينافي هذه القاعدة ، لأنّ هذه القاعدة مفاد ظاهر القضيّة اللفظيّة ، فإذا جاء الدليل على خلافه لا يبقى مجال للأخذ بذلك الظهور ، أو كان المسبّب غير قابل للتكرّر ولا للتأكّد أو كان المسبّب المأتيّ به مصداقا لعنوانين وامتثالا لأمرين ، كما قلنا فيما لو نذر إطعام عالم ونذر أيضا إطعام هاشمي فأطعم عالما هاشميّا فقد أوفي بكلا نذريه وامتثل الأمرين جميعا.

ثمَّ إنّهم بمناسبة البحث عن أصالة عدم تداخل الأسباب في باب الأغسال تكلّموا في مسألة تعدّد حقائق الأغسال واتّحادها ، فذهب المشهور إلى أنّها حقائق مختلفة ، وبعض آخر إلى أنّه حقيقة واحدة ، وهو المحكيّ عن الأردبيلي وتلامذته 5 (1).

ومعنى كونها حقيقة واحدة تارة باعتبار أنفسها ، وأخرى باعتبار اتّحاد أسبابها ، وثالثة باعتبار آثارها.

أمّا الأوّل ، فلا شكّ في أنّ الغسل عبارة من غسل جميع البدن بإجراء الماء عليه مع النيّة ، أي قصد القربة بهذا الفعل ، ولا فرق بين أن يكون إجراء الماء على جميع البدن غسلا ارتماسيّا أو ترتيبيّا.

والعمدة أنّه هل قصد العنوان لازم في هذه الأغسال وبه يتحقّق وبدونه لا يوجد ، مثلا غسل الجنابة أو الجمعة أو مسّ الميّت لا يتحقّق بدون قصد هذه العناوين ، وإن كان بعنوانه الإجمالي مثل ما في الذمّة ممّا يشير إلى ذلك العنوان ، فيكون حال الغسل

ص: 234


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 1 ، ص 130 ، « مدارك الأحكام » ج 1 ، ص 98 و 194.

حال الصلوات الرباعيّة مثلا حيث لا يتحقّق إلاّ بقصد عناوينها من الظهر والعصر والعشاء ولو إجمالا وبعنوان ما في الذمّة.

فإن كان الأمر كذلك ، فلا بدّ وأن نقول باختلاف حقيقتها ، إذ قصد العنوان يكون بمنزلة الفصل المنوّع لها ، كما يكون كذلك في باب الصلوات.

وأمّا الثاني : أي وحدتها باعتبار أسبابها ، أي تداخل أسبابها في عالم التأثير ، أي يكون أثر كلّ واحد من تلك الأسباب قذارة معنوية يعبّر عنها بالحدث الأكبر.

ولا فرق في تلك القذارة المعنوية بين أن يكون حصولها من الجنابة ، أو من الحيض ، أو من مسّ الميّت ، أو من غير ذلك ، كما قلنا في الوضوء إنّ موجباتها توجب حدوث ظلمه في النفس ترتفع بواسطة الوضوء ، ولا شكّ في أنّ مقتضى القاعدة اختلافها من هذه الجهة أيضا ، وإلاّ يلزم تأثير المتعدّد في الواحد.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا يلزم لو لم تكن تلك القذارة المعنويّة قابلة للتأكّد ، وإلاّ فكلّ واحد من تلك الأسباب يؤثّر في مرتبة من تلك القذارة فتشتدّ ، ولا يلزم هذا المحذور ، ولكن الذي يلزم هو أنّه في بعض موجبات الغسل لا يمكن الالتزام بمثل هذا الأثر كغسل الجمعة ، فإنّ موجبه يوم الجمعة وهو لا يوجب قذارة معنويّة قطعا ، بل جميع الأغسال الزمانيّة ذلك الزمان الذي يوجبها لا يمكن أن يكون موجبا لوجود ظلمة أو قذارة معنويّة في النفس ، كغسل ليالي شهر رمضان خصوصا ليلة القدر.

فالقول باتّحاد حقيقة الأغسال من هذه الجهة ممّا لا يمكن الالتزام به.

وأمّا الثالث : أي اتّحادها باعتبار آثارها بأن يقال أثر جميعها واحد ، وهو وجود نورانيّة نفسانيّة ، كما قلنا في الوضوء مستدلاّ بقوله علیه السلام : « الوضوء نور ، والوضوء نور على نور ».

وفيه أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثّر فيما إذا لم يكن ذلك الأثر قابلا للاشتداد ، وأمّا إذا كان فيمكن أن يكون كلّ مرتبة من مراتب ذلك الأثر مستندا إلى

ص: 235

غسل من تلك الأغسال ، فعند اجتماع الأغسال المتعدّدة مرتبة من تلك النورانيّة تكون مستندة إلى غسل الجنابة ، وأخرى إلى غسل الجمعة ، وهكذا ، فلا يمكن استكشاف كون الأغسال حقيقة واحدة من وحدة الأثر بهذا المعنى.

فالإنصاف أنّ الحكم باتّحاد الأغسال من حيث حقائقها ، وكون الاختلاف من ناحية إضافتها إلى موجباتها - كقولك : غسل الجنابة ، وغسل الجمعة ، وغسل مسّ الميّت ، وغسل ليلة القدر وهكذا - ممّا لا دليل عليه ، بل ظاهر قوله علیه السلام : « إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد » (1) تعدّد الحقوق ، غاية الأمر أنّ الرواية تدلّ على كفاية الامتثال للجميع بإتيان غسل واحد ، ولا ينافي الاكتفاء بواحد مع تعدّد حقوق المجتمعة واختلاف حقائقها ، كما هو صريح رواية حريز.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ ظاهر تعدّد الأسباب والموجبات للغسل - كالجنابة والحيض والاستحاضة في بعض أقسامها ومسّ الميّت ونفس الميّت ، أي كون موت المسلم موجبا للغسل ، وغسل الإحرام والجمعة والزيارة ، والأغسال الزمانيّة على كثرتها ، ورؤية المصلوب إلى غيرها من الأسباب المذكورة في الكتب الفقهيّة - هو تعدّد الغسل وأنّها حقائق مختلفة ، ومن آثارها عدم إجزاء واحد منها عن الباقي ، سواء نوى بذلك الواحد سائر الأغسال أو لم ينو ، وسواء كان ذلك الواحد الذي يأتي به غسل الجنابة أو غيرها.

ولكن وردت روايات متعدّدة تدلّ على أنّ إتيان واحد منها يكون مجزيا عن الباقي إذا كان ما في ذمّته متعدّدا ، خصوصا إذا كان بإتيان ذلك الواحد ينوي جميع ما في ذمته ، وخصوصا إذا كان ما يأتي به بعنوان غسل الجنابة وينوي الباقي في ضمنه وتبعا له.

ص: 236


1- « الكافي » ج 3 ، ص 41 ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 107 ، ح 270 ، باب الأغسال المفترضات والمسنونات ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 525 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 1.

ومنها : ما ذكرنا من رواية حريز ، عن زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام المرويّ في الكافي والتهذيب ، قال علیه السلام : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت عليك حقوق اللّه أجزأها عنك غسل واحد » ثمَّ قال : « وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » (1).

وأيضا عن الكافي بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما أنّه علیه السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (2).

وأيضا في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : « غسل الجنابة والحيض واحد » (3). وروايات كثيرة مثل ما ذكرنا واردة في هذا الباب.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

فنقول : موارد تطبيقها في الفقه كثيرة :

فمنها : مسألة تداخل الأغسال وكذلك الوضوءات ، ولكن لا أثر لهذه القاعدة فيما

ص: 237


1- هي نفس الرواية المتقدّمة في ص 236.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 41 ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 526 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 83 ، باب المرأة ترى الدّم وهي جنب ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 395 ، ح 1223 ، باب الحيض والاستحاضة والنّفاس ، ح 46 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 527 ، أبواب الجنابة ، باب 43 ، ح 9.

ورد الدليل على التداخل كما في هذين البابين.

ومنها : لو تعدّدت أسباب النزح في باب البئر بأن وقعت فيها نجاسات عديدة ، هل تتداخل ويكفي للجميع نزح واحد غاية الأمر بالأكثر منها ، أم لا تتداخل ، بل يجب لكل واحد من النجاسات النزح الخاصّ به ، فيتعدّد النزح بتعدّد النجاسات الواقعة فيها ، فينزح المقدّر لكلّ واحد منها؟

ومنها : لو تعدّد ورود النجاسات الخبيثة على محلّ فهل تتداخل ، أم يجب الغسلات المتعدّدة ، لكلّ واحد منها الغسل المختصّ بها ، مثلا لو لاقى بدنه أو ثوبه الدم والبول فبناء على التداخل يغسل مرّتين ، أي يأخذ بالأكثر منهما تقديرا وهو البول بناء على وجوب التعدّد فيه ، وبناء على عدم التداخل يجب غسله ثلاث مرّات ، مرّة للدم ومرّتين للبول.

ومنها : لو تعدّد نذره بالنسبة إلى فعل من الأفعال ، وذلك كما نذر مرّتين أن يصوم يوما أو نذر مرّتين أن يزور الحسين علیه السلام ، فبناء على التداخل يكفي صوم يوم واحد وزيارة واحدة ، وبناء على عدم التداخل يجب أن يصوم يومين ويزوره علیه السلام مرّتين.

ومنها : لو تعدّد موجبات الكفّارة في نهار شهر رمضان لمن يجب عليه الصوم ، كما إذا أكل أو شرب مرارا ، أو أكل وجامع وارتمس ، فبناء على أصالة عدم التداخل تكون عليه كفّارات متعدّدة بعدد أسبابها ، وبناء على التداخل ليس عليه إلاّ كفارة واحدة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى كفّارات الحجّ وكفّارات الإحرام ، تتعدّد الكفارة بتعدّد أسبابها لو قلنا بأصالة عدم التداخل ، وتكفي كفّارة واحدة لو قلنا بالتداخل.

ومنها : تعدّد الأسباب في باب الحدود بالنسبة إلى الجلد ، فلو قذف متعدّدا ، أو زنى غير محصن متعدّدا ، فبناء على عدم التداخل يجلد مرّات بعدد أسباب الجلد ثمانين أو مائة ، وإن قلنا بالتداخل لا يجلد إلاّ مرّة واحدة.

وخلاصة الكلام : أنّ هذا الأصل كثير الدوران في الفقه ، وله موارد كثيرة ،

ص: 238

واستيفاء تمامها موجب للتطويل ، ولذلك نكتفي بما ذكرنا ونحيل الباقي على الكتب الفقهيّة المفصّلة.

ونختم الكلام في هذه القاعدة بذكر أمور لا غناء عن ذكرها

الأوّل : في أنّه هل هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة ، أم من القواعد الأصوليّة ، أم من القواعد العقليّة الكلاميّة

ولا ربط لها بالفقه ولا بالأصول أصلا.

أقول : التحقيق أنّ الجهات الثلاث موجودة فيها.

أمّا جهة كونها قاعدة أصوليّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان ناظرا إلى أنّ القضيّة الشرطيّة لو كان فيها الشرط متعدّدا والجزاء متّحدا هل لها ظهور في تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟ فيكون البحث فيها من هذه الجهة كالبحث فيها من حيث دلالتها على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، أي يكون حال البحث فيها من هذه الجهة حال البحث فيها من حيث أنّها هل لها مفهوم أم لا؟ فتكون بناء على هذا مسألة أصوليّة.

وأمّا كونها عقليّة وكلاميّة ، فمن جهة أنّ البحث فيها لو كان من حيث أنّ الأسباب والشروط المتعدّدة هل يمكن أنّ يؤثّر في واحد بمعنى أنّ المسبّب الواحد أثرا ومعلولا لأسباب وعلل متعدّدة ، أو لا يمكن ، لأنّ تأثير العلل المتعدّدة بما هي متعدّدة في الواحد بما هو واحد غير معقول.

وبعبارة أخرى : كما أنّ صدور المتعدّد بما هو متعدّد عن الواحد بما هو واحد محال ، كذلك صدور الواحد بما هو واحد عن المتعدّد بما هو متعدّد محال ، إلاّ أن يكون المجموع علّة واحدة مركّبة من أجزاء ، وهو خلاف الفرض فيما نحن فيه.

وأمّا كونها فقهيّة ، فباعتبار أنّ البحث فيها عن أنّه هل مقتضى القاعدة الأوليّة هو وجوب إيجاد المسبّبات المتعدّدة ، عند وجود أسباب متعدّدة ، أو كفاية الإتيان

ص: 239

بواحد منها؟ وعلى هذا الأخير ذكرناها في القواعد الفقهيّة.

وخلاصة الكلام : أنّ جهة بحثنا عن هذه القاعدة هو أنّ الموارد التي ذكر الشارع أسباب متعدّدة لحكم من الأحكام - وقد ذكرنا جملة كثيرة منها - هل يجب في تلك الموارد إيجاد مسبّبات متعدّدة بعدد الأسباب ، أم لا يجب إلاّ إيجاد واحد منها؟ كما أنّهم يذكرون في باب الغسل أنّه إذا تعدّدت الأسباب سواء أكانت من سنخ واحد كما إذا جامع مرارا ، أو من أسناخ متعدّدة كما إذا جامع واحتلم ونظر إلى المصلوب ، هل يكون عليه غسل واحد أم لا بل عليه أغسال متعدّدة بعدد الأسباب التي وجدت.

وهكذا بحثهم في باب الكفّارات وفي باب الحدود لو تعدّد وجوب أسباب الكفّارة ، أو تعدّدت أسباب الحدّ يبحثون في أنّه هل عليه كفّارة واحدة ، وكذلك هل عليه جلد واحد ، أو عليه كفّارات وجلدات متعدّدة بعدد أسبابهما.

الثاني : في أنّه هل هذا البحث - في أنّ مقتضى القواعد الأوليّة هو أصالة عدم التداخل وأنّ تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب ، أم لا - مختص بما إذا وجد السبب الثاني والثالث وهكذا قبل الإتيان بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ، أم لا بل يأتي هذا البحث ولو أتى بالمسبّب عقيب السبب الأوّل ثمَّ وجد السبب الثاني ، وهكذا في الثالث والرابع وما زاد. مثلا لو شرب في نهار شهر رمضان متعمدا مع أنّه صائم ، وكفر مثلا بإطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة ، ثمَّ أكل فكفّر ، ثمَّ جامع وهكذا ، فيأتي هذا البحث ، أي بحث تداخل الأسباب أو لا؟

الظاهر أنّه لا يجري البحث في هذه الصورة ، وذلك من جهة أنّ المسبّب الموجود قبل هذا السبب المتأخّر لا يمكن أن يكون من آثاره ، بل لا بدّ وأن يكون من آثار السبب الذي وجد قبله ، وإلاّ يلزم تقدّم المعلول على علّته ، أو - بناء على ما حقّقناه من أنّ هذه الأسباب والشروط يرجع إلى قيود الموضوع - يلزم تقدّم الحكم على الموضوع ، وهو أيضا محال كالأوّل.

ص: 240

وأمّا ما حكي عن بعض من إتيان هذا البحث في مسألة وطئ الحائض ، من أنّه لو وطئ الحائض وكفّر ، ثمَّ وطئ ثانيا بعد أن كفّر عن الوطي الأوّل يأتي هذا البحث ، بمعنى أنّه بناء على تداخل الأسباب لا تجب الكفّارة للوطئ الثاني ، وبناء على عدم التداخل تجب كفّارة أخرى للوطئ الثاني.

فلا يبعد أن يكون مراد القائل هو أنّ سبب الكفّارة في وطئ الحائض هو صرف الوجود من طبيعة الوطي في حال الحيض ، ولا شكّ في أنّ صرف الوجود من تلك الطبيعة يتحقّق بأوّل وجود منها ، ولا يصدق بعد الوجود الأوّل على الوجود الثاني ، لأنّ معنى صرف الوجود لطبيعة هو وجودها المطلق عاريا عن كلّ قيد ، وهو الذي ربما يعبّر عنه بعادم العدم ، وهو نقيض العدم المطلق ، أي العدم غير المقيّد بقيد.

ولا شكّ في أنّ العدم المطلق - أي العدم المحمولي - لشي ء ليس قابلا للتعدّد ، فنقيضه ، أي الوجود المطلق ، أي صرف الوجود ليس قابلا للتعدّد ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

فإذا كان الأمر كذلك ، فبالوطئ الأوّل يتحقّق صرف وجود طبيعة الوطي ، والمفروض أنّه موضوع وجوب الكفّارة ، وسائر أفراد هذه الطبيعة لا توجب الكفّارة ، فلو كفّر بعد الوطي الأوّل لا يجب عليه الكفّارة ولو صدر منه الوطي ألف مرّة.

وبناء على ما ذكرنا لو وطئ في حال الحيض ولم يكفّر ، ثمَّ وطئ ثانيا وثالثا وهكذا ، لا يجب عليه إلاّ كفّارة واحدة للوطئ الأوّل الذي هو مصداق صرف الوجود ، دون سائر الأفراد.

فهذه المسألة أجنبيّة عن مسألة أصالة عدم تداخل الأسباب ، وعلى هذا الأساس قلنا : لو نذر شخص أن لا يشرب الشاي ، ويكون متعلّق نذره وهو ترك صرف الوجود من طبيعة شرب الشاي ، لا ترك جميع وجودات هذه الطبيعة. فلو شرب مرارا يحصل الحنث بأوّل وجود من هذه الطبيعة ، وتجب عليه كفّارة حنث النذر ، ولا تجب كفّارات أخر بإيجاد سائر أفراد تلك الطبيعة ، إذ لا يحصل بتلك

ص: 241

الإيجادات حنث ، ولا يصدق عليها صرف الوجود الذي تركه متعلّق نذره.

وأيضا على هذا الأساس قلنا : إنّ النواهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون متعلّق النهي هي الطبيعة السارية ، فيكون النهي انحلاليّا ، ينحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد الأفراد ، ولكلّ قضيّة من تلك القضايا إطاعة مستقلّة وعصيان مستقلّ مثل : لا تشرب الخمر ، وأغلب النواهي بل جميعها - إلاّ ما شذّ وندر - من هذا القبيل.

ولا فرق في كون أغلب النواهي انحلاليّا بين أن يكون لمتعلّقاتها التي هي أفعال المكلّفين مساس وتعلّق بالموضوع الخارجي ، مثل : لا تشرب الخمر ، ولا تغتب المؤمن ، وبين أن لا يكون لها ذلك مثل : لا تكذب.

ثانيهما : أن يكون متعلّقه صرف الوجود ، كقوله : لا تشرب ماء الدجلة ، بناء على أن يكون الأثر المبغوض لصرف وجوده ، وهذا الذي ذكرنا من كون موضوع وجوب الكفّارة في وطئ الحائض صرف الوجود من طبيعة وطئها إنّما هو كان في مقام إمكان أن يكون كذلك في عالم الثبوت ، فلا ينافي مقام الإثبات استظهار أنّ الموضوع للكفّارة هي الطبيعة السارية لوطء الحائض.

فما رواه في الاستبصار بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من أتى حائضا فعليه نصف دينار يتصدّق به » (1) فإنّه ظاهر في الانحلال ، وأنّ وجود طبيعة وطي الحائض - أيّ وجود كان ، سواء كان الأوّل أو غيره - سبب لوجوب الكفّارة.

وما في فقه مولانا الرضا علیه السلام أوضح وأصرح في أنّ الطبيعة في ضمن أي وجود منها كانت تكون سببا للكفّارة ، وهو قوله علیه السلام « ومتى جامعتها وهي حائض فعليك

ص: 242


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 163 ، ح 467 ، باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح 40 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 133 ، ح 456 ، باب ما يجب على وطى امرأة حائضا ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 575 ، أبواب الحيض ، باب 28 ، ح 4.

أن تتصدّق بدينار » (1).

الثالث : هو أنّ الكلام والبحث فيما إذا كان المسبّب واحدا بالنوع ، وكان من الممكن تعدّد وجوده بحسب الخصوصيّات الفرديّة. وأمّا إذا كان المسبّب عند وجود كلّ سبب من الأسباب غير ما هو المسبّب عند وجود السبب الآخر بالنوع ، مثلا قال : إذا بلت فتوضّأ ، وأيضا قال : إذا جامعت فاغتسل ، فمن أوضح الواضحات خروج هذا القسم عن محلّ النزاع لا كلام في هذا ، كما أنّه لا كلام في دخول الصورة الأولى في محلّ النزاع.

وإنّما الكلام في أنّه - أي المسبّب - لو كان من الكميّات المختلفة بحسب المراتب ، كما أنّه لو قال : إذا جامعت الحائض في أوّل الحيض فعليك دينار ، وإن كان في وسطه فنصف دينار ، وإن كان في آخره فربع دينار ، فهل هذا ملحق بالمتّحد نوعا الذي يمكن أن يتعدّد ويكون له وجودات وأفراد لذلك النوع الواحد ؛ كي يكون داخلا في محلّ النزاع ، أو يكون ملحقا بالمسبّب المختلف نوعا ، كي يكون خارجا عن محلّ البحث؟ لا يبعد أن يكون ما ذكر - أى المسبّب الواحد بالنوع ، ولكن المختلف بحسب الكميّة ، كصوم يوم أو يومين ، أو إعطاء مدّ في الكفّارة أو مدّين ، أو صدقة دينار أو نصف دينار أو ربع دينار في الوطي في أوّل الحيض وفي وسطه وفي آخره ، وأمثال ذلك وأشباهه - ملحقا بالمختلف نوعا ، لأنّ الملاك في الاثنين واحد ، وهو اختلاف الحكم والموضوع جميعا في كليهما.

فكما أنّ في قوله : « إن بلت فتوضّأ » الموضوع هو المكلّف الذي بال ، والحكم هو وجوب الوضوء ، وفي قوله : « إن جامعت فاغتسل » الموضوع هو المكلّف الذي جامع ، والمحمول هو وجوب الغسل ، فالقضيتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، فلا وجه للبحث عن التداخل وعدمه ، لأنّ واحدة من القضيتين أجنبيّة عن الأخرى موضوعا

ص: 243


1- « فقه الرضا علیه السلام » ص 31 ، « مستدرك الوسائل » ج 2 ، ص 21 ، أبواب الحيض ، باب 23 ، ح 1.

ومحمولا. وهذا البحث مورده اتّحاد المحمول في القضيتين ، وإن كانتا بحسب الموضوع مختلفين.

فكذلك ما نحن فيه أيضا القضيّتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، لأنّ الموضوع في إحديهما مثلا الوطي في أوّل الحيض ، والمحمول صدقة دينار ، والموضوع في الأخرى الوطي في وسط الحيض أو في آخره ، والمحمول صدقة نصف دينار أو ربعه ، مثل ما إذا كان المحمول مختلفا بالنوع.

بل بناء على القول بأصالة الماهيّة - وأنّ مراتب الكمّ والكيف أنواع - يكون ما ذكر من مصاديق ما يكون المسبّب مختلفا بالنوع حقيقة ، وإن كان هذا المبنى فاسدا ، كما هو مذكور في محلّه.

الرابع : بعد ما عرفت أنّ مقتضي القاعدة الأوّليّة أصالة عدم التداخل ، فاعلم أنّ هذا ما لم يأت دليل على كفاية مسبّب واحد عن الأسباب المتعدّدة. وأمّا إذا أتى - كما في باب الأغسال - أنّ الغسل الواحد يكفي عن الأسباب المتعدّدة ، فلو أجنبت ثمَّ حاضت وانقطع حيضها يوم الجمعة وطهرت في ذلك اليوم ومست بدن الميت ، فاجتمعت عليها أسباب متعدّدة ، يكفيها غسل واحد للجميع ، لما تقدّم من رواية حريز ، وروايات كثيرة بهذا المضمون ، لا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل صرف إتيان الغسل الواحد كاف عن الجميع ، أو في خصوص ما إذا نوى الجميع ، أو التفصيل بين ما إذا نوى خصوص غسل الجنابة يكفي عن الجميع ، وأمّا إذا نوى غير الجنابة فلا يكفي؟ وجوه واحتمالات.

والمستفاد من أخبار الباب أنّ نيّة الجميع بالغسل الواحد يكفي عن الجميع.

كما أنّه أيضا يستفاد ممّا رواه في الكافي - عن محمّد بن يحيى بإسناده عن جميل بن درّاج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما علیهماالسلام ، أنّه علیه السلام قال : « إذا اغتسل الجنب بعد

ص: 244

طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم » (1) أنّ نيّة غسل الجنابة تكفي عن كلّ غسل.

وأمّا لو لم ينو الجميع ولم ينو الجنابة أيضا ، أو لم تكن فيها الجنابة سواء نوى واحدا غير الجنابة - خصوصا إذا كان ذلك الغير هو غسل الحيض - أو لم ينو أصلا ، فالقول بكفاية مثل ذلك الغسل عن الجميع لا يخلو عن إشكال ، إذ الدليل على كفاية غسل واحد لا يرفع اعتبار النيّة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 245


1- تقدّم تخريجه في ص 237 ، رقم (2).

ص: 246

34 - قاعدة المؤمنون عند شروطهم

اشارة

ص: 247

ص: 248

قاعدة المؤمنون عند شروطهم (1)

ومن القواعد الفقهية المشهورة قاعدة « المؤمنون عند شروطهم ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

وهو أمور

الأوّل : الأخبار :

منها : ما رواه محمّد بن يعقوب بإسناده عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ » (2).

ومنها : عن محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن محبوب مثله (3). وبإسناده عن

ص: 249


1- (*) « الحق المبين » ص 74 ؛ و 141. « عوائد الأيام » ص 41 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 80 ، « قواعد فقه » ( شهابى ) ص 66.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 169 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 22 ، ح 94 ، باب عقود البيع ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 1.
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 22 ، ح 94 ، باب عقود البيع ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6. ح 1.

الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « المسلمون عند شروطهم ، إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فلا يجوز » (1).

ومنها : ما عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر علیه السلام عن أبيه علیه السلام : « إنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام كان يقول : « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطا حرّم حلالا ، أو أحلّ حراما » (2).

ومنها : ما في عوالي اللئالي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « المؤمنون عند شروطهم » (3).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه » (4).

قال الشيخ قدس سره روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « المسلمون عند شروطهم » (5).

ومنها : ما في التهذيب عن أيّوب بن نوح، عن صفوان ، عن منصور بن يونس ، عن عبد صالح علیه السلام قال : قلت له : إنّ رجلا من مواليك تزوّج امرأة ثمَّ طلّقها فبانت منه ، فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلاّ أن يجعل اللّه عليه أنّ لا يطلّقها ولا يتزوّج عليها ، فأعطاها ذلك ، ثمَّ بدا له في التزويج بعد ذلك ، فيكف يصنع؟ فقال : « بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار ، قل له فليف المرأة بشرطها ، فإنّ رسول

ص: 250


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 202 ، ح 3765 ، باب الشرط والخيار في البيع ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 22 ، ح 93 ، باب عقود البيع ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 80 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.
3- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 217 ، ح 77 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 310 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 7.
4- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 44 ، ح 106 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 300 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 1.
5- « الخلاف » ج 3 ، ص 10 ، المسألة : 7.

اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : المؤمنون عند شروطهم »(1).

وهناك أخبار كثيرة مفادها ثبوت هذه القاعدة ، تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، لأنّ ما ذكرناها - مضافا إلى صحّة جملة منها من حيث السند - قد عمل بها الأصحاب قديما وحديثا ، واستندوا في فتاويهم إليها.

فالإنصاف أنّها في كمال الاعتبار والوثوق بصدورها عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام .

وأمّا دلالتها على صحّة هذه القاعدة فلا يحتاج إلى البيان ، لأنّ متن كثير منها عين هذه القاعدة.

وأمّا المراد من هذه القاعدة - التي هي عين متن جملة من هذه الروايات - سنذكره ان شاء اللّه تعالى مع التخصيصات الواردة على هذا العموم ، وشرائط صحّة الشروط ، والشروط الابتدائيّة ، والشروط التي في ضمن العقود ، وحكمها في ضمن أمور.

وأمّا إجمالا : فالظاهر أنّ المراد من هذه القاعدة هو أنّه يجب على كلّ مسلم ومؤمن أن يكون ثابتا عند التزاماته ، بمعنى أنّه إذا التزام لشخص بأمر له ، فيجب عليه الوفاء له بذلك الأمر ، وذلك من جهة وضوح أنّ هذه الكبرى الكليّة الصادرة عنه صلی اللّه علیه و آله في مقام إنشاء الحكم ، لا الإخبار عن أمر خارجي ، فقوله صلی اللّه علیه و آله : « المسلمون عند شروطهم » أي : جميع المسلمين ، لأنّ الجمع المعرف باللام يفيد العموم ، يجب أن يثبتوا عند جميع شروطهم ، لأنّ الشروط أيضا جمع مضاف يفيد العموم ، فهو صلی اللّه علیه و آله يحكم على جميع المسلمين بلزوم الثبوت عند جميع شروطهم.

والمراد من الثبوت والاستقرار عند الشرط هو ترتيب الأثر على شرطه الذي

ص: 251


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من عقد على امرأة و. ، 1. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 4.

شرط ، وعدم الفرار عن العمل على طبق التزامه ، وحيث أنّ الشرط إذا تعدّي ب- « على » - مثلا قال : باع ، وشرط عليه - يكون المتفاهم العرفي أنّه ألزمه بأمر ، ولو قيل : شرط له بأمر ، فالمتفاهم العرفي أنّه التزم له بذلك.

ولذلك نقل عن أهل اللغة أنّه - أي الشرط - هو الإلزام والالتزام (1).

وبهذا المعنى يصحّ أن يطلق على جميع الأحكام الإلزاميّة من قبل اللّه على العباد أنّها شروط من قبل اللّه تعالى ، أي إلزامات من قبله تعالى عليهم.

ولعلّه من هذه الجهة أطلق الشرط صلی اللّه علیه و آله على كن الولاء للمعتق لا الذي يبيع الأمة بشرط أن يكون ولائها له في قصّة اشتراء عائشة لبريرة بشرط أن يكون ولائها للبائع بقوله صلی اللّه علیه و آله « إنّ شرط اللّه أحق وأوثق » (2)

أي : كون الولاء لمن أعتق.

وبناء على ما ذكرنا فيكون معنى « المسلمون عند شروطهم » هو وجوب الوفاء على كلّ مسلم بما التزام لغيره ، لا بما ألزم غيره ، لأنّه لا معنى لأن يكون ثابتا عند إلزامه غيره بأمر ، ولو لم يكن استثناء في البين لكان وجوب الوفاء عامّا بالنسبة إلى جميع التزاماته ، ولكن قوله صلی اللّه علیه و آله « المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه » كما في رواية دعائم الإسلام أخرج الشرط المخالف لكتاب اللّه عن تحت هذا العموم.

وفي بعض هذه الروايات قيد لزوم الوفاء بالتزاماتهم ، الذي هو عبارة أخرى عن شروطهم بكونها ممّا وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وفي بعض آخر استثني عن لزوم الوفاء بكلّ شرط والتزام الشرط الذي حرّم حلالا أو أحلّ حراما ، وسنتكلّم في هذه القيود

ص: 252


1- « القاموس المحيط » ج 2 ، ص 542 ( شرط ).
2- « صحيح البخاري » ج 2 ، ص 18 ، كتاب البيوع ، باب 67 : البيع والشراء مع النساء ، وص 20 ، باب 73 : إذا اشترط شروطا في البيع لا تحلّ ، وص 119 ، كتاب الشروط ، باب 13 : الشروط في الولاء.

والاستثناءات عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى.

وخلاصة الكلام في المراد عن هذه القاعدة بطور الإجمال هو أنّه يجب على جميع المسلمين الوفاء بجميع التزاماتهم إلاّ في موارد تلك الاستثناءات التي سنذكرها إنّ شاء اللّه تعالى. فهذه القاعدة بالنسبة إلى الشروط نظير ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) بالنسبة إلى العقود.

الثاني : هو الإجماع واتّفاق الفقهاء قديما وحديثا على وجوب الوفاء بالشروط الصحيحة في ضمن العقود اللازمة.

وفيه : مضافا إلى أنّ الدليل أخصّ من المدّعي ، ما قلنا مرارا من أنّ هذه الإجماعات مع وجود مدارك معتبرة من الروايات الواردة في هذه المسألة ليس من الإجماع الذي قلنا بحجّيته في الأصول.

الثالث : أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود الصحيحة اللازمة من توابع تلك العقود ومرتبطة بها، وتكون من ملحقاتها ، فدليل وجوب الوفاء بالعقود كما يدلّ على لزوم الوفاء بتلك العقود وترتيب الأثر عليها ، كذلك يدلّ على لزوم الوفاء بتلك الشروط المرتبطة بالعقود الملحقة بها.

وفيه : أيضا مع أنّه أخصّ من المدّعي ، أنّ العقود عبارة عن نصّ المعاهدة الواقعة بين الطرفين المنشأ بالإيجاب والقبول ، والشروط وإن كانت في ضمن تلك العقود والمعاهدات التزامات أخر غير تلك المعاهدات المؤكّدة التي نسمّيها بالعقود ، ولذلك قالوا في مورد الشرط الفاسد : إنّ فساد الشرط لا يسري إلى العقد ، فكذلك وجوب الوفاء بالعقد لا يسري إلى الشرط ، بل يحتاج وجوب الوفاء بالشرط إلى دليل آخر غير دليل وجوب الوفاء بالعقود ، وهو قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 253


1- المائدة (5) : 1.

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1).

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة

اشارة

والفرق بين الشروط الابتدائيّة وما تقع في ضمن العقود ، وبيان شرائط صحّة الشروط ، وبيان أنّ مخالفة الشرط هل يوجب الخيار فقط أم لا بل يوجب بطلان العقد ، وأنّه ما هو حكم تعذّر الشرط؟

فهذه المطالب تذكر في ضمن أمور :

[ الأمر ] الأوّل : في شرح ألفاظ هذه القاعدة وما هو الظاهر منها ، وإن بيّنّاه إجمالا.

فنقول : أمّا كلمة « المؤمنون » أو « المسلمون » جمع معرّف باللام يفيد العموم ومعناهما واضح.

وأمّا الظرف متعلّق بثابتون المقدّر ، وهو مشتقّ من أفعال العموم. وأمّا « الشروط » فهو جمع مضاف يفيد العموم ، والمتفاهم العرفي من هذه الكلمة قلنا إنّه الإلزام باعتبار انتسابه إلى من له ، والالتزام باعتبار انتسابه إلى من عليه.

نعم يبقى شي ء آخر ، وهو أنّه - أي الشرط - مطلق الإلزام والالتزام ، أو هما في ضمن عقد. ونتكلّم فيه في بعض الأمور الآتية إنّ شاء اللّه تعالى.

وأمّا المعاني الأخر مثل ما اصطلح عليه النحويّون أو الأصوليّون فأجنبيّة عن محلّ كلامنا ، لأنّ كلامنا في المراد من القاعدة التي هي مضمون قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون أو

ص: 254


1- المصدر.

المسلمون عند شروطهم » ، وتعيين المراد من الحديث الشريف لا طريق له إلاّ بما يفهم العرف منه ، لأنّ ما هو حجّة عند العقلاء في محاوراتهم لتشخيص المراد ليس إلاّ ظهور الكلام ، والمراد من الظهور هو المتفاهم العرفي منه ، فذكر سائر المعاني والمصطلحات تضييع للعمر وإتلاف للوقت من غير مبرر.

فيكون معنى القاعدة - التي هي عين مفاد الحديث الشريف بناء على ما ذكرنا من شرح ألفاظها وأنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام إنشاء الحكم لا الإخبار عن أمر خارجي - أنّه يجب على كلّ مؤمن أو مسلم الثبوت عند التزاماته إمّا مطلقا ، وإمّا أن تكون تلك الالتزامات في ضمن عقد.

وهذا الاحتمال الأخير لأجل احتمال أن يكون إطلاق الشرط على الشروط الابتدائيّة مجازا.

والمراد من الثبوت عند التزاماته كون ما التزم به ثابتا عليه ، وأنّه في عهدته ، وأنّه لا يخرج عن عهدته إلاّ بالوفاء به ، فيشبه أبواب الضمانات.

فكما أنّه في باب الضمان تكون العين أو مثله في عهدته بوجوده الاعتباري ولا تتخلّص عهدته إلاّ بالأداء ، فكذلك لا يتخلّص الملتزم عمّا التزم به إلاّ بالوفاء بالتزامه والعمل على طبقه ، فيكون مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » - بناء على ما ذكرنا في معناه - حكما وضعيّا ، مثل مفاد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو ثبوت ما التزم به واستقراره عليه ، وليس مفاده وجوب العمل على طبق ما التزم به تكليفا فقط.

الأمر الثاني : في بيان الفرق بين الشروط الابتدائيّة ، وبين الشروط الواقعة في ضمن العقود.

فنقول : أوّلا : أنّ إطلاق الشرط على مطلق الالتزام بشي ء لشخص - سواء أكان في ضمن عقد ، أو كان التزاما ابتدائيّا غير مربوط بشي ء - لا يخلو من نظر وتأمّل ، بل

ص: 255

الظاهر حسب المتفاهم العرفي هو أن يكون إلزامه أو التزامه بشي ء في ضمن عقد ومعاملة ، أو أمر آخر ، بمعنى أن يكون إلزامه غيره بشي ء أو التزامه لغيره بشي ء مربوطا بأمر آخر ، وليس معنى الشرط مطلق الإلزام والالتزام.

فالشرط بالمعنى المصدري عبارة عن جعل شي ء مرتبطا بأمر آخر. وبهذا المعنى يكون مبدأ للاشتقاقات منه ، كالشارط والمشروط وأمثالهما من المشتقّات من هذه المادّة - وبمعنى الاسم المصدري عبارة عن الشي ء المرتبط بغيره.

هذا هو المتفاهم العرفي ، مضافا إلى أنّه لو كان مطلق الإلزام والالتزام - ولو كانا ابتدائيّين غير مربوطين بشي ء يلزم تخصيص الأكثر في قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » (1) وهو مستهجن جدّا.

فلا بدّ من حمل الشروط في الحديث على الشروط الواقعة في ضمن العقود ، كي لا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن ، لأنّ الشروط الابتدائيّة لا يجب الوفاء بها إجماعا.

فإن قلنا بأنّ الشرط أعمّ من الشروط الابتدائيّة وغيرها ، فيكون استعماله في الحديث عنائيّا مجازيّا ، وهو خلاف ظاهر هذا الكلام.

وأمّا الاستشهاد لكونه أعمّ من الابتدائي وغيره بالأخبار ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « شرط اللّه أحقّ وأوثق ، والولاء لمن أعتق » في قصة بريرة ، فإطلاق الشرط على حكمه تعالى بأنّ الولاء لمن أعتق ، يمكن أن يكون استعمالا عنائيّا مجازيّا ، لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

ويمكن أن يكون على نحو الحقيقة ، باعتبار كون أحكامه تبارك وتعالى مرتبطة بعهده إلى العباد ، وأخذ الميثاق عنهم أن لا يعبدوا الشيطان ، كما يشير قوله تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) (2).

ص: 256


1- تقدّم تخريجه في ص 251.
2- يس (36) : 60.

فهذه الأحكام إلزام على العباد في ضمن ذلك العهد والميثاق ، فإطلاق الشرط على أيّ حكم إلزامي من الأحكام الشرعيّة لا ينافي كون معنى الشرط هو الإلزام والالتزام المرتبط بأمر آخر ، لأنّ جميع الأحكام الالتزاميّة الشرعيّة إلزامات مرتبطة بذلك العهد وفي ضمنه.

وأمّا التوجيه في الحديث الشريف - بأنّ إطلاق الشرط على كون الولاء لمن أعتق من باب المشاكلة على حدّ قول شاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا

- فلا يصحّح الإطلاقات الكثيرة الآخر بالنسبة إلى سائر الأحكام ، كإطلاقه على خيار الحيوان في قوله صلی اللّه علیه و آله : « الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام » (1) ، وكقوله علیه السلام في رواية منصور بن يونس المتقدّمة « فليف للمرأة بشرطها » (2) حيث أطلق الشرط فيها على النذر أو العهد ، ولا مشاكلة في البين.

وعلى كلّ حال لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي من لفظ « الشرط » بالمعنى المصدري هو إلزام المشروط عليه ، أو الالتزام للمشروط له بأمر في ضمن عقد ، أو عهد ، أو أمر آخر ، فالإلزامات أو الالتزامات الابتدائيّة لا يطلق عليها الشرط إلاّ بالعناية ، ولا يجب الوفاء بها إجماعا.

الأمر الثالث : في بيان شرائط صحّة الشروط الواقعة في ضمن العقود.

وهي أمور :

ص: 257


1- « الكافي » ج 5 ، ص 169 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 102 ، باب عقود البيع ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 350 ، أبواب الخيار ، باب 4 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من عقد على امرأة. ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 4.

[ الشرط ] الأوّل : أن يكون مقدورا للمشرط عليه ، بمعنى أنّ الذي يلتزم به المشروط عليه للمشروط له يكون إيجاده داخلا تحت قدرته إن كان الشرط - أي ما التزم به - من الأفعال ، أو كان تسليمه متّصفا بذلك الوصف وتلك الخصوصيّة تحت قدرته إن كان ما التزم به من الأوصاف والحالات.

والمقصود من هذا الشرط أنّ المشروط عليه حيث أنّه بالتزامه فعلا للمشروط له ، أو وصفا وخصوصيّة فيما ينتقل إلى المشروط له ، فكأنّه جعل عهدته مشغولة له بأمر ، فلا بدّ أن يكون ذلك الأمر تحت سلطانه بحسب العادة كي يكون متمكّنا من الوفاء بما التزم به ، وإلاّ يكون مثل ذلك الاشتراط لغوا في نظر العقلاء ، ويكون من قبيل : « وهب الأمير ما لا يملك ».

فمثل اشتراط جعل الزرع سنبلا والبسر رطبا ، أو اشتراط كون الدابّة بحيث تحمل في المستقبل حيث أنّها ليست تحت سلطان المشروط عليه يكون لغوا وباطلا ، بل لو أخذ وصفا للمبيع في البيع أو لغيره في سائر المعاوضات يكون العقد فاسدا ، لكونه غرريّا. لأنّ هذه الأمور بيد اللّه جلّ جلاله ، وتكون أفعال العباد بالنسبة إليها من المقدّمات الإعداديّة ، فيمكن أن تقع ويمكن أن لا تقع ، وقال اللّه تعالى في كتابه العزيز ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) (1) ، وقال تعالى أيضا : ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (2).

فالتزام المشروط عليه بإيجاد هذه الأمور ، أو التزامه بتسليم العين متّصفة بهذه الصفات يكون ممّا لا يعتني به عند العقلاء ، ويرون الملتزم بها مجازفا.

وأمّا اشتراط النتائج ككون مال مثلا ملكا لشخص ، فإن كان ممّا يحصل بنفس الاشتراط ، ولا يحتاج إلى سبب خاصّ ، فلا إشكال فيه ، لحصولها بنفس الاشتراط.

ص: 258


1- الواقعة (56) : 58 - 59.
2- الواقعة (56) : 63 - 64.

وأمّا ما يحتاج إلى سبب خاصّ ، ككون زوجته مطلّقة ، أو أمته أو عبده حرّا فلا يصحّ قطعا ، لامتناع حصولها بصرف الاشتراط.

نعم لا مانع من اشتراط إيجاد أسبابها إن كانت تحت اختياره وقدرته ، وأمّا المرأة لو التزمت في ضمن عقد لازم بأن تكون مطلّقة بطور شرط النتيجة ، أو بطور إيجاد أسباب كونها مطلّقة ، فهذا الشرط باطل مطلقا ، لعدم قدرتها على إيجاد أسباب طلاقها ، لأنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق.

وخلاصة الكلام : أنّ الالتزام بأمر غير مقدور له وإن كان في ضمن عقد لازم باطل ، لا يشمله قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » ، لأنّه لا يمكن الوفاء به ، فلا يجب. ثمَّ إنّه ربما يكون موجبا لصيرورة المعاملة غرريّا وباطلا ، مضافا إلى بطلان نفسه. وذلك فيما إذا كان إنشاء المعاوضة والمبادلة في العقد المعاوضي مبنيّا على هذا الشرط غير المقدور الذي يعلم حصوله في المستقبل.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ اشتراط ما هو لا يجوز شرعا ، كاشتراط أن يصنع تمره خمرا مثلا أيضا باطل ، وذلك لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

[ الشرط ] الثاني : أن يكون سائغا شرعا هكذا ذكره الفقهاء ، ولكن أنت خبير أنّ هذا الشرط داخل في الشرط الأوّل ؛ لأنّه لا فرق في عدم كونه مقدورا بين أن يكون عدم قدرته من جهة المنع الشرعي ، أو لجهات تكوينيّة.

[ الشرط ] الثالث : أن يكون ممّا فيه غرض معتدّ به عند العقلاء وإن لم تكن له ماليّة ، أي العقلاء لا يبذلون بإذائه المال.

والوجه في اشتراط هذا الشرط هو أنّه إن لم يكن كذلك فيكون لغوا ، وأدلّة وجوب الوفاء بالشروط تكون منصرفة عن مثل هذا الشرط.

[ الشرط ] الرابع : أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنّة.

ص: 259

وتوضيح هذا الأمر ببيان أمور :

الأوّل : الفرق بين هذا الأمر والأمر الثاني هو أنّ المراد من كونه سائغا هناك هو أن يكون الشرط بمعنى ما التزم به جائزا شرعا ، أي لا يكون فعل حرام ، أو ترك واجب.

وهاهنا المراد من كونه غير مخالف للكتاب والسنّة ، أو كونه موافقا لهما هو أن لا يكون ما يلتزم به ويجعل على نفسه أو يلزم غيره به مخالفا للجعل الإلهي ، مثلا في الكتاب والسنّة جعل الولاء لمن أعتق ، فإلزام المشتري بأن يكون الولاء للبائع أو التزامه بذلك يكون على خلاف ما جعل في الكتاب ؛ لأنّ الشارع جعل هذا الحقّ للمعتق.

فجعله بواسطة الشرط لشخص آخر يكون على خلاف الكتاب ، أي أحكام اللّه المكتوبة على المكلّفين ، سواء أكانت بواسطة كتاب اللّه الكريم ، أو بواسطة السنّة النبويّة ، أو الروايات المرويّة عن الأئمّة الطاهرين - صلوات اللّه عليهم أجمعين - وكذلك اشتراط رقّية حرّ ، أو توريث من لم يجعله اللّه وارثا.

فالالتزام بهذه الأمور مخالف للكتاب والسنّة ، أي لما هو المجعول فيهما. هكذا قيل.

ولكنّ الإنصاف أنّ الشرط الثاني مندرج في الشرط الرابع ، لأنّ اشتراط فعل محرّم أو ترك واجب يكون مخالفا للكتاب قطعا.

الثاني : في أنّ المستثنى من عموم هذه القاعدة هل هو عنوان المخالف للكتاب ، أو عنوان ما ليس في الكتاب ، أو يشترط نفوذ الشرط بأن يكون موافقا للكتاب؟ فإنّ هذه العناوين الثلاثة كلّها وردت في الروايات.

أقول : بعد الفراغ عن أنّ المراد بالكتاب ليس خصوص القرآن الكريم ، بل المراد منه كلّ ما كتب على المكلّفين من أحكام الدين ، سواء كان في القرآن الكريم ، أم في الأحاديث النبويّة المرويّة عنه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 260

وبعد العلم بأنّ الكتاب بهذا المعنى لم يهمل حكم شي ء ، بل بيّن جميع الأحكام المتعلّقة بجميع الأشياء ، فلا يبقى فرق بين هذه العناوين ، فكلّ شرط مخالف للكتاب بالمعنى الذي ذكرنا له يصدق عليه أنّه ليس في الكتاب ، ويصدق عليه أنّه ليس ممّا وافق الكتاب ، كما أنّه كل شرط لم يكن مخالفا للكتاب فلا محالة يكون موافقا للكتاب ، لعدم الواسطة بينهما.

وإن قلنا بأنّهما أمران وجوديّان ، والتقابل بينهما تقابل التضادّ ، مع أنّ التحقيق أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ففي الموضوع القابل لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما ، كما هو الشأن في جميع موارد تقابل العدم والملكة.

نعم ربما يفرق بين هذه العناوين بالنسبة إلى مجاري الأصول ، فلو كان الشرط - أي شرط صحّة الشرط - عدم مخالفته للكتاب ، فإذا شكّ في شرط أنّه مخالف أم لا ، فيجري استصحاب عدم مخالفته للكتاب بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي في النعوت العدميّة ، كأصالة عدم كون المرأة قرشيّة عند الشكّ في كونها قرشيّة.

فباستصحاب عدم كونه مخالفا قبل وجوده يحرز شرط الصحّة الذي هو عبارة عن عدم كونه مخالفا للكتاب ، وأمّا لو كان الشرط موافقة الكتاب ففي مورد الشكّ لا يمكن إحراز الشرط بالاستصحاب ، لعدم الحالة السابقة للموافقة.

ولكن بناء على ما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (1) من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة إذا كان الأثر للعدم النعتي لا للعدم المحمولي ، وذلك من جهة أنّ العدم النعتي مثل وجوده المقابل له متوقّف على وجود موضوعه ، ففي الرتبة السابقة على وجود موضوعه لا أثر له ولا عين له حتّى يجر بالاستصحاب إلى زمان وجود موضوعه.

والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة أزلا لأنّ جميع الأشياء ما سوى اللّه

ص: 261


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 497.

تعالى كانت معدومة قبل وجودها ، لكن لا أثر له ، بل الأثر للعدم النعتي ، وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي يكون من الأصل المثبت الذي أثبتنا في الأصول عدم حجّيته.

فالنتيجة : أنّه لا فرق بين أن يكون شرط صحّة الشروط عدم مخالفتها للكتاب ، أو كان الشرط موافقته للكتاب حتّى بالنسبة إلى مجاري عدم الأصول وحديث السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع تهويل خال عن التحصيل.

الثالث : في أنّه ما المراد من عدم مخالفة الكتاب أو موافقته، وما هو الضابط لذلك؟ فنقول : الضابط في ذلك هو أن يكون الشرط نافيا لما أثبته الشارع ، أو مثبتا لما نفاه ، فلو شرط عليه ارتكاب حرام أو ترك واجب ، يكون هذا الشرط مخالفا للكتاب والسنّة قطعا ، لأنّ ارتكاب الحرام وترك الواجب ممّا نفاه الشارع ومنع منه.

وأمّا لو شرط عليه فعل ما ليس بواجب ولا حرام ، أو تركه سواء كان مباحا أو مستحبّا أو مكروها ، فلا يكون مخالفا ، لأنّ الشارع لم يمنع من فعل متعلّقات الأحكام غير الإلزامية ، ولا عن تركها ، فليس الشرط نافيا لما أثبته الشرع ، أو مثبتا لما نفاه.

نعم لو شرط عليه أو هو التزم بكون ما أحلّه الشارع حراما ، أو ما حرّمه حلالا وكذلك في سائر الأحكام الخمسة بأن يكون الحكم على خلاف ما جعله الشارع ، فيكون مثل هذا الشرط مخالفا للكتاب والسنّة ، لأنّه مثبت لما نفاه ، وناف لما أثبته.

فيكون مشتملا على أمرين كلّ واحد منهما يكون موجبا لكونه على خلاف الكتاب والسنّة ، بل اشتراط كون الفعل الفلاني حكمه كذلك مطلقا باطل ، سواء كان ذلك الحكم موافقا لما جعله الشارع ، أو كان مخالفا له. أمّا لو كان مخالفا فلأجل مخالفته أوّلا ، ولأجل عدم كونه مقدورا للمشروط عليه ثانيا ، لأنّ وضع الأحكام الشرعيّة ورفعها بيد الشارع وليس ذلك لغيره.

وأمّا لو كان موافقا فلأجل أنّ الشرط يكون حينئذ من قبيل تحصيل الحاصل ،

ص: 262

فيكون لغوا.

هذا بالنسبة إلى الأحكام التكليفيّة ومتعلّقاتها.

وأمّا الأحكام الوضعيّة فما كان منها مجعولا من قبل الشارع بلحاظ حال شخص ولرعايته ، سواء كان ذلك الشخص واحدا أو متعدّدا كباب الحقوق ، فيكون ذلك الشخص مسلّطا عليه ، وهذا اعتبار عقلائي ، وهو أنّ صاحب الحقّ له السلطنة على حقّه.

ولذلك اتّفقوا على أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط حتّى أنّهم عرفوا الحقّ بذلك ، لأنّه خاصّة شاملة ، فشرط وجوده وعدمه ليس مخالفا للكتاب ، لأنّ أمر وضعه ورفعه بيد من له الحقّ وإن كان مجعولا من قبل الشارع ، وذلك كأغلب الخيارات. بل قد يكون جعله أيضا بيد من له ومن عليه مع توافقهما كخيار الشرط.

وأمّا ما ليس جعلها من قبل الشارع برعاية حال أحد ، بل يكون جعلها كسائر الأحكام تبعا للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتها ، فهي على قسمين :

أحدهما : ما لا يكون الشرط من أسباب وجودها ، كالطهارة والنجاسة وغيرهما ، فشرط وجودها أو عدمها باطل على كلّ حال ، لكونه غير مقدور للمشروط عليه أوّلا ، وكونه مخالفا للكتاب ثانيا إن كان مخالفا لما جعله الشارع ، كاشتراط كون الميتة مثلا طاهرا ، أو اشتراط صيرورة ماء الكرّ بصرف ملاقاة النجاسة نجسا ، مع عدم تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة وإن كان موافقا لما جعله الشارع ، فلما ذكرنا من أنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فيكون الشرط لغوا.

بقي شي ء : وهو أنّه لو شرط عليه ترك ما ليس بواجب طول عمرة ، أو هو التزام بذلك ، فهل يكون مثل هذا الشرط باطلا ومخالفا للكتاب ، أم لا؟ وبعبارة أخرى : هذا تحريم للحلال ، أم لا؟

الظاهر أنّ هذا ليس من تحريم الحلال ، من جهة أنّ ترك ما ليس بواجب سواء

ص: 263

كان مباحا بالمعنى الأخصّ ، أو كان مستحبّا ، أو كان مكروها جائز شرعا ، فالالتزام به وإن كان طول العمر ليس مخالفا للكتاب فيأتي السؤال بأنّه فأين مصداق الشرط المحرّم للحلال الذي استثناه علیه السلام من الشرط الصحيح والجائز في الموثق المروي عن أمير المؤمنين علیه السلام : « من شرط لامرأته شرطا ، فليف به لها ، فإنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما » (1)؟

ولكن يمكن الجواب عن هذا السؤال بأنّ ما ذكرنا من أنّ شرط ترك ما ليس بواجب وإن كان الترك طول عمره ليس مخالفا للكتاب ومحرّما للحلال باعتبار مضمون الشرط والمعنى الاسم المصدري له ، أي باعتبار ما التزم به. وأمّا باعتبار المعنى المصدري له - أي نفس الالتزام - فمخالف للكتاب ومحرّم للحلال ، لأنّ الالتزام بترك شي ء طول العمر عرفا عبارة عن تحريمه على نفسه ، كما أنّ إلزامه غيره بذلك أيضا عبارة عن تحريمه عليه ، فيكون تحريم ما أحلّه اللّه عليه. ويشهد بذلك الرواية الواردة في بطلان الحلف على ترك شرب العصير المباح دائما ، معلّلا بأنّه ليس لك أن تحرم ما أحلّه اللّه.

فشرط ترك المباح دائما ، إن كان الالتزام متعلّقا بترك نوع مباح ، لا ببعض أفراده ومصاديقه لخصوصيّة فيه ، يكون تحريما للحلال باعتبار نفس الالتزام لا الملتزم به.

وأمّا شرط ترك بعض أفراد نوع منه ، كأن يشترط ترك شرب فرد من العصير مثلا وإن كان دائما فليس تحريما للحلال.

فصدق كون الشرط تحريما للحلال بنظر العرف - أي نفس الالتزام بذلك ، لا الملتزم به - مشروط بأمرين :

أحدهما : أن يكون المشروط ترك نوع من المباح ، لا فرد ومصداق من

ص: 264


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات في فقه النكاح ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.

مصاديقه.

الثاني : أن يكون الشرط تركه دائما لا موقّتا ، خصوصا إذا كان الوقت قليلا.

وذلك من جهة أنّ الحرام والمنهيّ عنه غالبا يكون النهي متعلّقا بالطبائع ، والمطلوب ترك الطبيعة في جميع الأزمان لا موقّتا أو ترك فرد منها ، فإذا التزم بترك طبيعة دائما فدليل نفوذ الشرط واعتباره يلزمه بالوفاء به ، فيرجع أنّ شرطه هذا صار سببا لتحريم حلال عليه ، وحيث أنّ مثل هذا الشرط استثناه الشارع عن دليل اعتباره الشرط ونفوذه بقوله علیه السلام « المسلمون عند شروطهم ، إلاّ شرطا حرّم حلالا ، أو أحلّ حراما » فلا تشمله أدلّة الاعتبار ونفوذ الشرط.

ثمَّ إنّه بعد الإحاطة على ما ذكرنا يظهر لك حال موارد الخلاف ، وأنّها هل من الشرط المخالف أو ليس منه؟ وذلك مثل شرط رقّية الولد الذي أحد أبويه حرّ ، ومثل شرط إرث المتمتّع بها ، وشرط الضمان في العين المستأجرة ، وشرط اختيار المكان للزوجة ، فما ذكرنا من الضابط في مخالفة الشرط للكتاب والسنّة يجب أن يراعى في جميع الموارد ، إلاّ فيما إذا جاء دليل خاصّ معتبر على بطلان الشرط أو صحّته في ذلك المورد ، فيستكشف عدم مخالفته للكتاب ، وإلاّ فهذا الشرط ليس قابلا للتخصيص.

ثمَّ إنّه إذا حصل الشكّ في مورد أنّه من الشرط المخالف أم لا ، ولم يأت دليل خاصّ على بطلانه أو صحّته ، فلا يصحّ الرجوع إلى عموم « المؤمنون عند شروطهم » فإنّه تمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص ، وقد أثبتنا في الأصول عدم جوازه ، وقد عرفت عدم جريان أصالة عدم مخالفته للكتاب ، فليس أصل منقّح للموضوع في البين ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول الجارية في نفس حكم المسألة.

الرابع : الدليل على هذا الشرط الأخبار الكثيرة المستفيضة ، بل ربما يدّعي بلوغها حدّ التواتر :

فمنها : صحيحة عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول علیه السلام :

ص: 265

« من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه عزّ وجلّ فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ » (1).

ومنها : صحيحته الأخرى عنه أيضا قال علیه السلام : « المسلمون عند شروطهم ، إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فلا يجوز » (2).

ومنها : ما عن ابن سنان عنه علیه السلام أيضا قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا توهب؟ قال : « يجوز ذلك غير الميراث فإنّها تورث ، لأنّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه باطل » (3).

ومنها : مرسلة جميل عن أحدهما علیهماالسلام في رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب ، قال علیه السلام : « يفي بذلك إذا شرط لهم » (4).

ومنها : رسالته الأخرى وزاد : « إلاّ الميراث » (5).

ومنها : موثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة (6).

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا تورث ولا توهب؟ فقال : « يجوز ذلك غير الميراث ، فإنّها تورث ، وكلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو ردّ » (7).

ص: 266


1- تقدّم تخريجه في ص 249 ، رقم (1).
2- تقدّم تخريجه في ص 250 ، رقم (1).
3- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 289 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 3.
4- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 25 ، ح 106 ، باب عقود البيع ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 2.
5- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 373 ، ح 1509 ، باب المهور والأجور ، ح 72 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ذيل ح 2.
6- سبق ذكره في 250 ، رقم (2).
7- « الكافي ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 43 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 1.

ومنها : أخبار أخر كثيرة تركناها لعدم الاحتياج إلى ذكرها ، وحيث أنّ دلالة هذه الأخبار على ما ذكرناه من شرح المراد من هذه القاعدة واضحة ، فلا يحتاج إلى بيان وجه الدلالة وبسط الكلام فيها.

[ الشرط ] الخامس : أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد.

وهذه العبارة يحتمل فيها وجوه من المعاني :

أحدهما : أن يكون المراد منها أن لا يكون الشرط منافيا لما هو مضمون العقد بالمعنى المصدري ،

مثلا عقد البيع بالمعنى المصدري عبارة عن إنشاء تمليك عين متموّل بعوض مالي ، والمنشأ بهذا الإنشاء - أي التمليك المذكور - مضمون العقد ، وهو مقتضى العقد بالمعنى المصدري ، إذ المراد من المقتضى - بالكسر - هو مفيض الأثر ، فالأثر يفاض منه مع اجتماع الشرائط وعدم الموانع.

ولا شكّ في أنّ العقد بالمعنى المصدري يؤثّر في وجود مضمونه عند العرف ، وكذلك عند الشرع مع اجتماع شرائطه وعدم موانعه ، فلو كان الشرط منافيا لمقتضى العقد بهذا المعنى - بأن يقول : بعتك هذه العين المتموّلة بكذا ، بشرط أن لا يتحقّق هذا التمليك الكذائي - فهذا يرجع إلى قصد تحقّق النقيضين ، فيكون مثل هذا العقد باطلا قطعا ، فضلا عن بطلان الشرط. فإذا قال وكيل المرأة : أنكحتك الفلانة بشرط أن لا تصير زوجتك مثلا ، فهذا تناقض وتهافت لا يصدر عن عاقل إن لم يكن هازلا.

الثاني : أن لا يكون الشرط منافيا لجميع آثار ذلك العقد ، كأن يقول وكيل الزوجة : زوّجتك فلانة بشرط أن لا تستمتع منها أيّ استمتاع ، أو يقول : بعتك هذا المال بشرط أن لا تتصرّف فيه أيّ قسم من التصرّفات.

وهذا أيضا يرجع إلى الوجه الأوّل ، لأنّ نفي جميع الآثار مستلزم لنفي المؤثّر ،

ص: 267

خصوصا إذا كان المؤثّر من الأمور الاعتباريّة ، إذ مع نفي جميع الآثار يكون ذلك الاعتبار لغوا.

الثالث : أن يكون منافيا للأثر الظاهر للعقد ، بحيث يكون تمام النظر في العقد والمعاملة إلى ترتيب ذلك الأثر. وذلك كما أنّه لو شرط وكيل المرأة أو نفسها حين إنشاء النكاح الدائم عدم وطيها طول عمر الزوجين ، ولا شكّ في أنّ الأثر الظاهر للنكاح الدائم ، وما هو العمدة في نظر العرف بل الشرع هو الوطي ، فإنّه الغرض الأصلي من النكاح الدائم ، وإن كانت هناك أغراض وآثار أخر.

وكذلك التاجر الذي شغله البيع والشراء أو اشترى أشياء وأجناسا لأن يبيع ويربح كما هو شغل الكسبة والتجّار ، وشرط عليه البائع الأوّل أن لا يبيع تلك الأجناس ، فهذا الشرط مناف لما هو الأثر من الاشتراء الأوّل.

فهل مثل هذا الشرط باطل وحده ، أو المعاملة المشتملة على هذا الشرط باطلة ، أو ليس شي ء منهما بباطل؟

يمكن أن يقال : نفى الأثر الظاهر ملازم عرفا مع نفي ما هو مضمون العقد ، فيستكشف في مقام الإثبات عدم القصد إلى مضمون العقد ، لأنّ قصد الشرط مناف مع قصد المضمون ، فإن لم يقصد الشرط فالشرط باطل ، لعدم كونه مقصودا ، وإن قصده فالمضمون غير مقصود ، لما ذكرنا من التنافي بين قصديهما عرفا ، فالعقد باطل ، لأنّ العقود تابعة للقصود ، فيكون الشرط باطلا ، لأنّه يبقى بلا موضوع.

ولكن يمكن أن يقال : حيث أنّه في مقام الثبوت لا مانع من قصد عدم الأثر الظاهر مع قصد مضمون العقد ، فيؤخذ بظاهر الاثنين ويحكم بصحة العقد والشرط جميعا ، فلا مانع من الحكم بصحّة الشرط من ناحية كونه منافيا لمقتضى العقد ، وإن كان هناك مانع من الحكم بصحّته لا بدّ وأن يكون من جهة أخرى ، ككونه غير سائغ ، أو كونه مخالفا للكتاب والسنّة ، أو غير ذلك من الجهات التي تكون أجنبيّة عن

ص: 268

محلّ الكلام.

الرابع : أن يكون منافيا لبعض الآثار العرفيّة التي للعقد ، ولا يكون من الآثار الظاهرة للعقد بحيث تكون ملازمة عرفيّة بين نفيها ونفي مضمون العقد. وذلك كشرط البائع عليه عدم بيعه من زيد مثلا ، أو هبته لابنه ، أو أحد أصدقائه.

وبعبارة أخرى : إذا شرط البائع على المشتري أن لا يتصرّف في المبيع بعض التصرّفات التي من آثار ملكه عرفا ، فلا مانع من صحّة الشرط من جهة منافاته لمقتضى العقد ، لأنّ عمدة وجه بطلان الشرط ، إذا كان منافيا لمقتضى العقد هو عدم إمكان اجتماع صحّة العقد مع صحّة الشرط ، وإلاّ فلا وجه لبطلان الشرط من هذه الجهة. نعم يمكن أن يكون باطلا لجهة أخرى.

وبعبارة أوضح : وجه كون مخالفة الشرط لمقتضى العقد موجبا لبطلانه ، هو عدم إمكان الأخذ بدليل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) مع الأخذ بدليل وجوب الوفاء بالشرط ، لتنافيهما ، فلا بدّ إمّا من إسقاط كلا الدليلين ، أو إسقاط أحدهما ، وعلى جميع التقادير تكون النتيجة بطلان الشرط.

وفي المقام حيث لا تنافي بينهما في عالم الثبوت ، فلا تعارض بين الدليلين في مرحلة الإثبات ، إذ الشرط في المفروض ليس منافيا لمقتضى ذات العقد ، بل مناف لإطلاق العقد ، فإذا قيّد بواسطة الشرط لا يبقى موضوع لإطلاقه كي يكون الشرط منافيا معه ، فإذا لم يكن في مثل المقام وجه آخر لبطلان الشرط من كونه مخالفا للكتاب والسنّة ، أو كونه غير سائغ ، أو كونه غير مقدور وأمثال ذلك ، فلا يكون باطلا من جهة منافاته لمقتضى العقد.

الخامس : أن يكون منافيا لبعض الآثار الشرعيّة التي جعلها الشارع للعقد بالمعنى الاسم المصدري ، مثل أن تشترط الزوجة في عقد النكاح أن يكون السكنى باختيارها ، أو اشترطت على الزوج أن يسكن في بلد أبويها ، أو اشترطت عليه أن

ص: 269

يجوز لها الخروج من البيت متى شاءت ، وأمثال ذلك ممّا جعلها الشارع من آثار الزوجيّة التي حصلت بالعقد ، وأن يكون الشرط مخالفا لها.

وكذلك الأمر لو باعه مال وشرط على المشتري أن لا يتصدّق به على أحد ، وأمثال ذلك في سائر العقود والمعاملات ، فلا بدّ وأن ينظر إلى دليل ذلك الأثر ، وأنّه يستفاد منه أنّ هذا الأثر من الحقوق القابلة للإسقاط ، أم لا بل حكم شرعي ليس قابلا للإسقاط؟

فإن كان من قبيل الأوّل ، فلا مانع من اشتراط عدمه ، ويرجع إلى إسقاط المشروط عليه حقّه. وذلك مثل أن يشترط بائع الحيوان على المشتري أن لا يكون له خيار الحيوان ، أو يشترط الزوج على الزوجة أن لا يكون لها حقّ المضاجعة ليلة في كلّ أربع ، وعلى هذا النهج في سائر العقود.

وأمّا إن كان من قبيل الثاني ، فاشتراط عدمه يكون من مخالفة الكتاب والسنّة ، فلو شرطت على زوجها جواز الخروج عن بيتها بدون إذن الزوج ، أو المسافرة في غير السفر الواجب بدون إذنه ، يكون من الشرط المخالف للكتاب.

نعم لو شرطت عليه أن يأذن لها الخروج فيما يجوز الخروج مع إذنه ، كالخروج إلى مجالس العزاء لسيّد الشهداء علیه السلام ، أو لزيارة أحد أقاربها ومحارمها ، يجب الوفاء بهذا الشرط وأن يأذن لها.

وأمّا لو كان الخروج إلى مجلس يحرم الحضور فيه ، كذهابها إلى الملاهي فهذا شرط مخالف للكتاب.

وعلى أيّ حال شرط عدم بعض الآثار الشرعيّة للمعقود عليه لا يكون باطلا من جهة مخالفته لمقتضى العقد ، فإن كان مانع من صحّته يكون لجهات أخر.

ثمَّ إنّه صار بعض الفروع هاهنا وفي هذا المقام محلّ الكلام.

منها : أنّ المشهور بينهم عدم صحّة اشتراط الضمان في الإجارة ، وصحّته في

ص: 270

العارية، خلافا للمحقّق المقدّس الأردبيلي (1) ، وجمال المحقّقين (2) 0 فإنّهما قالا بصحّته في الإجارة أيضا. وفصّل شيخنا الأستاذ قدس سره بين الإجارة الواقعة على الأعيان والأموال ، وبين الإجارة الواقعة على الأعمال ، فقال في الأوّل بعدم صحّة شرط الضمان كما ذهب إليه المشهور ، وفي الثاني - أي الإجارة على الأعمال - بالصحّة.

والتحقيق : هو أنّ الإجارة مطلقا - سواء أكان إجارة الأعيان ، أو كان في إجارة الأعمال - تسليم العين إلى المستأجر في الأوّل ، وإلى الأجير في الثاني ، كما إذا أعطى وسلّم ثوبه إلى الخيّاط مثلا ، حيث أنّها أمانة مالكيّة بيد المستأجر في الأوّل ، وبيد الأجير في الثاني ، فتلفه لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط. وقد شرحا المسألة مفصّلا في إحدى قواعد هذا الكتاب (3).

ولكن عدم اقتضاء الأمانة المالكيّة للضمان غير اقتضائه عدم الضمان ، والإجارة مع العارية مشتركان في كونهما أمانة مالكيّة.

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في وجه التفصيل وعدم صحّة اشتراط الضمان في إجارة الأعيان من استحقاق المستأجر على الموجر كون العين المستأجرة تحت يده وتصرّفه ، وهذا الاستحقاق من ناحية عقد الإجارة ، فإنّ إجارة العين عبارة عن تمليك منفعة العين كسكنى الدار مثلا التي هي صفة في العين ، فتسليم هذا الملك إلى مالكه - حيث أنّه ليس له وجود استقلالي - يكون بتسليم العين ، فالمستأجر يستحقّ تسلم العين لاستحقاقه تسلّم المنفعة التي هي ملكه ، ووجود المنفعة مندكّ في وجود العين ، كما هو الحال في كلّ صفة مع موصوفه ، فاستحقاقه للمنفعة بعقد الإجارة عين استحقاقه لتسلّم العين بعقد الإجارة ، فلم يأخذ المستأجر إلاّ ما يستحقّ ، وهذا الاستحقاق ليس مجّانا بل بالعوض المسمّى ، أي ما جعل في العقد عوضا لتمليك المنفعة

ص: 271


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 10 ، ص 69.
2- « الحاشية على الروضة » ص 367 - 368.
3- « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 7 ، قاعدة عدم ضمان الأمين.

المعلومة ، فلا موجب لضمان آخر لأخذه العين وتسلّمها.

ثمَّ أفاد أنّ هذا الوجه لا يأتي في تسلّم الأجير للعين لأجل العمل فيها ، فالخيّاط مثلا الذي يستأجره المالك لأجل خياطة ثوبه لا يستحقّ بعقد الإجارة وبعوض ما يأخذه من أجرة عمله تسلّم العين وأن تكون تحت يده ، إذ من الممكن أن يخيطه وهو في يد مالكه ، فيمكن أن يقال بصحّة شرط الضمان على الأجير بخلاف شرط ضمان العين على المستأجر الذي صار مالكا للمنفعة بعقد الإجارة عوضا لما يأخذه مالك العين.

وما أفاده من الفرق بين تسلّم العين من الأجير لأجل العمل ، وبين تسلّمها من المستأجر لأجل استيفاء المنفعة وإن كان حسنا ، ولكن كونه موجبا لصحّة شرط الضمان في أحدهما دون الآخر لا يخلو من تأمّل.

وذلك من جهة أنّ صرف استحقاق المستأجر لتسلّم العين المستأجرة بعوض معلوم ، لا يوجب عدم صحّة شرط الضمان ، وكون شرط الضمان مخالفا للسنّة ، لأنّ يده واقعة على مال الغير ، وهذه اليد وإن كانت لا توجب الضمان - لأنّه مأذون من قبل المالك ، وما تحت يده أمانة مالكيّة ، وهذه الجهة مشتركة بين العارية وقسمي الإجارة ، أي إجارة الأعيان والأعمال - إلاّ أنّها ليست أيضا مقتضية لعدم الضمان كي يكون شرط الضمان خلاف مقتضاها.

ولا يقاس بالوديعة ؛ لأنّ ذا اليد في الوديعة محسن في حفظ مال الغير ، فليس عليه سبيل بحكم الشارع ، فيكون شرط الضمان هناك مخالف للكتاب ، ولم يحكم الشارع هاهنا بعدم الضمان كي يكون شرطه مخالفا للكتاب.

نعم إن قيل بعدم كون الشرط من أسباب الضمان - مثل اليد غير المأذونة ، والإتلاف ، وغيرهما من أسباب الضمان - فالشرط لا يؤثّر في الضمان.

ولكن هذا الكلام مع بطلانه في نفسه يكون مشتركا بين الإجارة والعارية.

ص: 272

وخلاصة الكلام : أنّ شرط الضمان في باب الإجارة لا مانع من نفوذه إن لم يكن إجماع على الخلاف ، وممّا ذكرنا ظهر الإشكال أيضا فيما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من عدم صحّة شرط الضمان على المرتهن في العين المرهونة ، باعتبار أنّ يد المرتهن على العين المرهونة بحقّ مالكي بواسطة عقد الرهن ، فيقتضي عدم الضمان ، فيكون شرط الضمان مخالفا للكتاب أو لمقتضى العقد الذي هو عدم الضمان.

وقد عرفت الجواب ، وأنّ عقد الإجارة في إجارة الأعيان وكذلك عقد الرهن لا يقتضي الضمان بالنسبة إلى العين المستأجرة ، وكذلك لا يقتضي الضمان بالنسبة إلى العين المرهونة ، لا أنّهما يقتضيان عدم الضمان كي يكون شرط الضمان فيهما منافيا لمقتضى العقد ، أو يكون خلاف الكتاب.

وأمّا حديث استحقاقه بحقّ مالكي ، أي استحقاق المرتهن كون العين المرهونة في يده بعقد الرهن ، لأنّ هذا معنى كونه وثيقة عنده. ويدلّ عليه قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) فقد عرفت أنّه لا يقتضي عدم الضمان ، وأيضا ليس من أحكام هذا الحقّ شرعا عدم الضمان كي يكون شرط الضمان خلاف المشروع.

نعم في الوديعة والوكالة حيث أنّ الوكيل والودعي نائبان عن المالك في حفظ ماله ، فتكون يدهما بمنزلة يد المالك ، فكما أنّه لو تلف في يد مالكه لا يوجب الضمان ، بل لا معنى لأن يكون الشخص ضامنا لنفسه ، فكذلك من هو بمنزلته ، أي الوكيل والودعي. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ.

ولكن التحقيق هو الفرق بين الوكيل والودعي ، وذلك لأنّ الودعي محسن و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2) ، ولا شكّ في أنّ الضمان سبيل. وأمّا الوكيل الذي يعمل بأجرة ، فليس بمحسن كي لا يكون عليه سبيل.

ص: 273


1- البقرة (2) : 283.
2- التوبة (9) : 91.

نعم لو كان الوكيل يعمل مجّانا وقصده الإحسان إلى الموكّل ، فيكون حاله حال الودعي ، ولا يصحّ شرط الضمان عليه.

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا واتّضح حال شرط الضمان في العارية ، وأنّه لا مانع منه وليس هناك ما يوجب بطلان هذا الشرط مثل نفي السبيل على المحسنين ، لأنّ المستعير ليس منهم ، بل المعير الذي هو صاحب المال محسن إليه. وأمّا كونه أمانة مالكيّة فليس مقتضيا لعدم الضمان.

نعم اليد الأمانيّة ليست موجبة للضمان ، لا أنّها موجبة لعدمها كي يكون شرط الضمان مخالفا لمقتضى العقد ، أو يكون مخالفا للكتاب. وأمّا أخذ العين باستحقاق مالكي بالعقد ، فمضافا إلى أنّه لا كبرى لهذا الكلام لا صغرى له في المقام ، فصحّة شرط الضمان في العارية لا إشكال فيه أصلا.

وأمّا قوله علیه السلام : « ليس على مستعير عارية ضمان » (1) فالمراد نفي الضمان من حيث اقتضاء نفس العارية ، لا نفيه مطلقا وإن كان من قبل الشرط.

فقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الأمانات الخمس ، أي العارية ، والإجارة ، والوكالة ، والرهن ، والوديعة ما عدى الأخير يصحّ في كلّها شرط الضمان.

ومنها : أي من الموارد التي صار محلّ الكلام : شرط البائع على المشتري عدم بيع ما اشتراه ، فالمشهور قالوا بعدم صحّة هذا الشرط ، ولكن العلامة قدس سره استشكل في التذكرة (2) ، وبعض من تأخّر عنه قوّى صحّته على ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري (3) قدس سره .

ص: 274


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 182 ، ح 798 ، باب العارية ، ح 1 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 124 ، ح 441 ، باب أنّ العارية غير مضمونة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 237 ، أبواب كتاب العارية ، باب 1 ، ح 6.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 489.
3- « المكاسب » ص 281.

والأقوى صحّة هذا الشرط إن لم يكن الإجماع على بطلانه.

وذلك من جهة أنّ شرط عدم البيع ليس منافيا لمضمون عقد البيع ، ولا منافيا للأثر الظاهر الذي يلازم نفيه عرفا نفي البيع الأوّل ، وأيضا ليس شرط عدم بيعه شرط نفي جميع الآثار كي يكون اعتبار ملكيّته للمشتري في البيع الأوّل لغوا ، ولم يرد دليل من الشرع أنّ عدم جواز بيع ما اشتراه مخالف للكتاب والسنّة حتّى يكون الشرط مخالفا للكتاب.

فلا موجب لبطلان هذا الشرط إلاّ ما ادّعاه الشيخ قدس سره من تحقّق الإجماع على بطلان هذا الشرط ، ثمَّ عقّبه بقوله : فلا إشكال في أصل الحكم (1). نعم ذكرنا فيما تقدّم أنّه قد يكون المشتري شغله البيع والشراء ، فيشتري لأن يبيع ، كما هو الشأن لأغلب الكسبة في القرى والمدن الصغيرة ، فيشترون في المدن الكبيرة من التجّار الكبار للبيع في المدن الصغيرة.

ففي مثل هذه الموارد يمكن أن يدّعي أنّ الأثر الظاهر للبيع الأوّل عرفا جواز بيع ما اشتراه ، فنفيه عرفا مناف لمضمون البيع الأوّل.

ومنها : اشتراط عدم الخسران لأحدهما في عقد الشركة بأن يقول أحدهما للآخر : تشاركنا على أن يكون الربح بيننا والخسران عليك ، فصار محلّ الخلاف في صحّة هذا الشرط وبطلانه. وتدلّ على صحّته صحيحة رفاعة قال : سألت أبا الحسن موسى علیه السلام عن رجل شارك رجلا في جارية له وقال : إن ربحنا فيها فلك نصف الربح ، وإن كانت وضيعة فليس عليك شي ء؟ فقال علیه السلام : « لا أرى بهذا بأسا إذا طابت نفس صاحب الجارية » (2).

ص: 275


1- « المكاسب » ص 281.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 175 ، أبواب كتاب الشركة ، باب 1 ، ح 8.

وذهب ابن إدريس قدس سره إلى بطلانه (1) ، ولم يعمل بالصحيحة ، لعدم حجّية الخبر الواحد عنده.

وقال الشهيد رحمه اللّه في اللمعة : الأظهر هو البطلان (2).

وقال في الشرائع : هذا الشرط - أي كون الخسران على أحدهما - فيه تردّد ، والمرويّ الجواز (3).

وحكى عن الدروس التعدّي إلى مطلق المبيع في بيع الحيوان (4) وفي الصلح تسلم الصحّة بلا إشكال بأن يصطلحا على أن يكون الربح بينهما والخسران على الآخر (5).

وحكي عن التنقيح الاقتصار على مورد النصّ تعبّدا ، (6) أي في خصوص الشركة في الجارية ، وذلك لأنّ النص على خلاف القاعدة عنده فوقف على مورده تعبّدا.

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ متعلّق هذا الشرط لو كان صيرورة الربح الحاصل ببيع مال المشترك ملكا للمشروط له ، وذلك بأن لا يتبع الربح والخسران المال الذي ربح أو خسر في بيعه ، فهذا يقينا خلاف ما تقتضيه الشركة ، وخلاف ما يقتضيه الكتاب.

وذلك من جهة أنّ ارتفاع قيمة مال أو نزولها تابع لذلك المال شرعا وعرفا بل عقلا ، لأنّه من نعوته القائمة به ، فنماء المال متّصلا كانت أو منفصلة ملك لصاحب المال ويتبع المال ، فشرط أن يكون لغير المالك خلاف الكتاب والسنّة ، وخلاف مقتضى الشركة.

ص: 276


1- « السرائر » ج 2 ، ص 349.
2- « اللمعة الدمشقيّة » ج 4 ، ص 201.
3- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 106.
4- « الدروس الشرعية » ج 3 ، ص 223 - 224.
5- « الدروس الشرعية » ج 3 ، ص 333.
6- « التنقيح الرائع » ج 2 ، ص 120.

وأمّا لو كان الشرط انتقال حصّة النفع من أحد الشريكين إلى الآخر كي يكون مجموع الربح له ، أي حصّة نفسه وحصّة شريكه ، فلا مانع منه. نعم يحتاج إلى سبب مملّك ، وهو الشرط الواقع في ضمن العقد اللازم الذي هو البيع أو الصلح ، ولا بدّ وأن تحمل صحيحة رفاعة على هذا المعنى.

وفي كون الخسران على أحدهما دون الآخر أيضا يكون الأمر كذلك ، أي لو كان الشرط عدم تبعيّة الخسارة لحصّة الشريك ، فهذا خلاف الكتاب والسنّة ، وخلاف مقتضى الشركة ، بل غير معقول. وأمّا لو كان هذا الشرط مرجعه إلى جبران خسارته من مال الشريك الآخر ، فلا إشكال فيه ولا مانع منه.

ومنها : اشتراط عدم إخراج الزوجة من بلدها ، فقد صار محلاّ للخلاف.

والتحقيق فيه : أنّ متعلّق الشرط إن كان عدم سلطنة الزوج على إخراجها ، فهذا خلاف الكتاب والسنّة يقينا. وأمّا إن كان مرجعه إلى الالتزام بأن لا يعمل سلطنته ، فلا محذور فيه.

نعم لو كان اختيار السكنى بيد الزوج من الحقوق ، وبعد الفراغ عن أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، فيمكن أن يكون مرجع هذا الشرط إلى إسقاط حقّه ، فلا محذور أيضا.

ومنها : مسألة توارث الزوجين بالعقد المنقطع وعدمه.

فتارة : متعلّق الشرط توارثهما ، أو كون أحدهما يرث دون الآخر ، وأخرى : عدم توارثهما أو عدم كون أحدهما وارثا فصار صحّة هذا الشرط محلّ الكلام. وقال في الشرائع : لا يثبت بهذا العقد ميراث بين الزوجتين ، شرطا سقوطه أو أطلقا (1).

وقال في الجواهر : وفاقا للأكثر بل المشهور ، بل عن الغنية نفي الخلاف. انتهى. (2)

ويدلّ عليه روايات :

ص: 277


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 251.
2- « جواهر الكلام » ج 30 ، ص 190.

منها : صحيح سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة متعة ولم يشترط الميراث؟ قال : « ليس بينهما ميراث ، اشترطا أو لم يشترطا » (1).

والروايات في هذه المسألة مثل الأقوال وإن كانت مختلفة إلاّ أنّ المتحصّل من الجموع بعد الجمع أنّ عقد الانقطاع في حدّ نفسه لم يجعل الشارع بينهما توارث ، ومن هذه الجهة - أي جهة الميراث - هما كالاجنبيّين.

فشرط الإرث فيها - كشرط الإرث للأجنبي - مخالف للكتاب. وإن شئت قلت : إنّه غير مقدور ، لأنّ أمر جعل الأحكام بيد الشارع لا بيد الشارط.

وأمّا قول القائل : إنّه مع الشرط مجعول من قبل الشارع ، استنادا إلى صحيح محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام في حديث : « وإن اشترطا الميراث فهما على شرطهما » (2) ، وإلى صحيح البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : « تزويج المتعة نكاح بميراث ، ونكاح بغير ميراث ، إن اشترطت كان ، وإن لم تشترط لم يكن » (3).

ففيه : أنّ هذا الكلام على تقدير صحّته ، وغضّ النظر عن الإشكالات التي أوردوها عليه ، ووجود المعارض الأقوى ، لا دخل له بما نحن فيه ، لأنّ كلامنا في أنّ الشرط نافذ ويشمله دليل نفوذ الشرط ، أم لا؟ وهذا لو صحّ يرجع إلى أنّ موضوع إرث زوجة المتمتّع بها مركّب من أمرين : أحدهما كونها زوجة منقطعة ، والثاني : شرط

ص: 278


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 264 ، ح 1142 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 67 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 149 ، ح 548 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 3. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 487 ، أبواب المتعة ، باب 32 ، ح 7.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 264 ، ح 1141 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 149 ، ح 547 ، باب أنّه إذا شرط ثبوت الميراث. ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 486 ، أبواب المتعة ، باب 32 ، ح 5.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 465 ، باب الميراث ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 264 ، ح 1140 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 65 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 149 ، ح 546 ، باب أنّه إذا شرط الميراث في المتعة. ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 485 ، أبواب المتعة ، باب 32 ، ح 1.

كونها وارثة ، وهو عجيب.

[ الشرط ] السادس : أن لا يكون الشرط مجهولا إن كان في ضمن عقد البيع ، أو معاملة أخرى يكون الغرر فيه مبطلا ، لأنّ المعاملة التي لا يضرّ بصحّتها الجهالة ، كالصلح حيث أنّ مبناها على الجهالة ، أو المعاملة المحاباتيّة التي يكون البناء فيها على المسامحة والمحاباة ، فالغرر فيهما لا يوجب البطلان ، لأنّ المفروض أنّ البناء في الصلح على التسالم على أمر غير معلوم بعوض مالي ، وفي المحاباة على المساهلة والمسامحة ، فلا يضرّ الجهالة في أصل المعاملة ، فضلا عن شرطها.

وأمّا فيما يكون الغرر مضرّا ومبطلا ، كالبيع الذي يكون من المسلم واتّفاقا من الكلّ مبطليّة الغرر له ، للخبر المشهور : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » (1) وكالإجارة وسائر المعاملات التي يكون الغرر فيها مبطلا على المشهور ، للمرسلة المعروفة : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الغرر » بدون لفظ « البيع » ، فيكون الغرر مطلقا في أيّ معاملة كانت منهيّا.

فالشرط إن كان غرريّا يكون باطلا على كلّ حال ، سواء سرى الغرر إلى نفس المعاملة والعقد أو لم يسر ، وذلك من جهة أنّه لو سرى إليها فتكون المعاملة غرريّة وباطلة ، فيبقى الشرط بلا موضوع ، لأنّ المفروض أنّ موضوع وجوب الوفاء هو الشرط الواقع في ضمن المعاملة الصحيحة والعقد اللازم ، وإذ ليس فلا يجب.

وأمّا إن لم يسر فنفس الشرط حيث أنّه يكون غرريّا يكون باطلا ، للمرسلة المعروفة : « نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الغرر » التي ضعف سندها منجبر بعمل الأصحاب ، ولكن لم يثبت وجود هذه الجملة ، أي جملة « نهى النبيّ عن الغرر » بدون لفظ « البيع » في كتب الروايات والأحاديث ، لا من طرق القوم وكتب أحاديثهم ، ولا من طرق الإماميّة رضوان عليهم أجمعين.

ص: 279


1- « عيون أخبار الرضا علیه السلام » ج 2 ، ص 46 ، ح 168 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 248 ، ح 17.

نعم في غير واحد من الصحاح المعتبرة عندهم يرون عن أبي هريرة : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله نهى عن بيع الغرر ، فإثبات أنّ المنهيّ هو مطلق الغرر مشكل.

فلا طريق إلى الحكم ببطلان المعاملة المشتملة على الشرط المجهول إلاّ أن تكون تلك المعاملة بيعا مع سراية جهل الشرط إلى نفس المعاملة ، إلاّ أن يكون دليل خاصّ من إجماع أو غيره على البطلان ، ولا يصحّ دعوى الإجماع في مسألتنا هذه على البطلان مع اختلاف الأقوال ، إذا كان الشرط من الأمور الخارجة عن العوضين.

فقال الشهيد قدس سره في الدروس فيما لو جعل الحمل جزءا للمبيع : الأقوى الصحّة ، لأنّه بمنزلة الاشتراط ولا يضرّ الجهالة (1).

ويظهر من هذه العبارة أنّ عدم بطلان المعاملة بالشرط المجهول أمر مفروغ عنه عنده. نعم إذا كان الشرط من أوصاف أحد العوضين وكان مجهولا ربما يدّعي اتّفاقهم على البطلان ، لصيرورة العوض بواسطة ذلك الشرط مجهولا.

فالأدلّة الدالّة على لزوم معلوميّة العوضين تدلّ على بطلان تلك المعاملة التي مشروطة بشرط مجهول يكون من أوصاف أحد العوضين.

والتحقيق في هذه المسألة أنّ المعاملة المشتملة على شرط مجهول ، إن سرت جهالة الشرط إلى نفس المعاملة بحيث صارت المعاملة بواسطة ذلك الشرط غرريّا ، فإنّه قد يكون ذلك وكان تلك المعاملة بيعا ، فتلك المعاملة باطلة قطعا ، وذلك لحديث « نهي النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » والضعف منجبر بعمل الأصحاب وإن كانت غير بيع ، فيحتاج الحكم بالبطلان إلى دليل خاصّ ، من إجماع أو غيره.

وأمّا إن لم تسر الجهالة إلى نفس المعاملة ، فلا وجه لبطلان الشرط ، فضلا عن بطلان المعاملة ، إلاّ ما يدّعي من نهيه صلی اللّه علیه و آله عن مطلق الغرر في البيع أو في غيره. وقد

ص: 280


1- « الدروس الشرعية » ج 3 ، ص 246.

عرفت أنّ إثبات هذا مشكل جدّا. أو ما يقال من بناء العقلاء على عدم ترتيب الأثر على المعاملة المشتملة على شرط مجهول ، وإثبات هذا أشكل ، وعلى فرض ثبوته لا يمنع عن لزوم العمل بالشرط ، ووجوب الوفاء بالعقد.

نعم حكى في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام ، إلى أن قال علیه السلام : « هذا كلّه لا يجوز ، لأنّه مجهول غير معروف ، يقلّ ويكثر ، وهو غرر » (1). فعلّل علیه السلام عدم جواز بيع المذكورات في الرواية بأنّه مجهول وغرر.

والإنصاف أنّ المستفاد من مجموع الروايات - الواردة في باب وجوب العلم بقدر المبيع ، وعدم جواز الكيل بمكيال مجهول ، وفي باب عدم جواز بيع ما في الآجام من القصب والسمك والطير مع الجهالة - هو اشتراط صحّة المعاملة بالعلم بالعوضين ومقدارهما وأوصافهما ، وكون الجهل مضرّا ولو كان من قبل الشرط المجهول ، وإن كانت واردة في باب البيع لكن الظاهر عدم اختصاصها به.

[ الشرط ] السابع : أن لا يكون الشرط مستلزما للمحال ، بمعنى أنّ وجود الملتزم به في مقام الامتثال يكون محالا. وذلك كقول الشارط : بعتك بشرط أن تبيعه منّي ، أو يقول بنحو شرط النتيجة : بعتك بشرط أن يكون مبيعا منّي.

وعلّل بطلان هذا الشرط في التذكرة بأنّه مستلزم للدور (2) ، حتّى اشتهر في لسان المتأخّرين عن العلاّمة هذا الدور بدور العلاّمة قدس سره .

وبيان استلزامه للدور هو أنّه تقدّم أنّ الشرط له إطلاقان : أحدهما هو نفس التزام المشروط عليه أو إلزام المشروط له. الثاني هو الملتزم به ، أي ذلك الأمر الذي

ص: 281


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 23 ، ح 42 ، « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 237 ، أبواب عقد البيع ، باب 10 ، ح 1.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.

ألزمه الشارط بإيجاده أو هو التزم بذلك.

ولزوم الدور بناء على المعنى الثاني واضح ، وذلك لأنّ وجود المشروط متوقّف على وجود الشرط ، فوجود البيع متوقّف على وجود ذلك الأمر الذي التزم به المشروط عليه ، أي البيع الثاني فيما نحن فيه ، فوجود البيع الأوّل متوقّف على وجود البيع الثاني توقّف وجود المشروط على وجود شرطه.

والبيع الثاني أيضا وجوده متوقّف على البيع الأوّل لوجهين :

الأوّل : لأنّه لا بيع إلاّ في ملك ، فما دام لا يملكه بالبيع الأوّل لا يمكن أن يتحقّق منه وبصدر البيع الصحيح ، فوجود البيع الثاني الصحيح أيضا متوقّف على البيع الأوّل ، وهذا هو الدور الصريح.

والظاهر أنّ ما أفاده في جامع المقاصد (1) في وجه الدور من أنّ انتقال الملك موقوف على حصول الشرط ، وحصول الشرط موقوف على انتقال الملك هو عين ما ذكرناه ، وذلك من جهة أنّ انتقال الملك أثر البيع الصحيح ، فمراده من توقّف انتقال الملك أي البيع الصحيح ، أي البيع الأوّل ، ومراده من حصول الشرط أي وجود البيع الثاني.

هذا هو الوجه الأوّل لتوقّف البيع الثاني على البيع الأوّل.

والوجه الثاني : عدم معقوليّة البيع على المالك ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فالبيع الثاني متوقّف على الخروج عن ملك المالك الأوّل ، أي على البيع الأوّل ، وقد عرفت أنّ البيع الأوّل أيضا متوقّف على البيع الثاني توقّف المشروط على شرطه.

وجوابه : عدم توقّف البيع الأوّل على وجود البيع الثاني ، بل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني ، لا على نفس البيع ، ولذا لو التزم ولم يبع لا يبطل البيع الأوّل ، بل يكون

ص: 282


1- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 413 و 432.

تخلّف الشرط موجبا للخيار فقط ، لا بطلان المعاملة.

هذا بناء على أن يكون المراد من الشرط هو الملتزم به.

وأمّا لو كان المراد نفس الالتزام ، فما يمكن أن يقال في وجه الدور هو أنّه بناء على هذا البيع الأوّل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني ، والبيع الثاني حيث عرفت أنّه لا يمكن وجوده وتحقّقه إلاّ بعد البيع الأوّل ، والعاقل لا يمكن أن يلتزم جدّا بأمر محال ، فالتزامه جدّا متوقّف على البيع الأوّل ، وهذا هو الدور.

وفيه : أنّ الالتزام جدّا بأمر محال وإن كان لا يصدر من العاقل ، ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّه فيما نحن فيه إيجاد الملتزم به في ظرف الالتزام محال لا مطلقا ، والالتزام بأمر يكون وجوده فعلا محال ولكن يمكن أن يوجد بعد حين لا مانع منه.

وهذا أمر دائر بين العقلاء ، بل أغلب التزاماتهم من هذا القبيل ، فإنّه في حال إنشاء الالتزام لا يقدر على الوفاء بما التزم ، فإنّه في نصف الليل مثلا يلتزم بأشياء لا يمكن إيجادها إلاّ في الغد ، أو يلتزم في السفر بأشياء لا يمكن حصولها إلاّ في الحضر.

والحاصل : أنّ صحّة الالتزام بأمور لا يمكن وجودها إلاّ في الأزمنة المتأخّرة لا يمكن إنكارها ، فبيع المال على مالكه وإن كان لا يمكن ما دام هذا العنوان يكون منطبقا عليه ومتلبّسا بمبدإ اشتقاقه ، أي ما دام وصف مالكيّته لهذا الشي ء ثابت له ، ولكن بيعه عليه باعتبار حال انقضاء المبدإ لا مانع منه ، فلا مانع بأن يلتزم بالبيع على مالك هذا المال حال كونه مالكا له باعتبار حال خروجه عن ملكه ، بمعنى أنّ ظرف التزامه وإن كان في حال كونه مالكا لهذا المال ، ولكن ظرف الملتزم به حال زوال ملكيّته عنه.

والظاهر أنّ عمدة نظر العلاّمة قدس سره في هذا الإشكال - وأنّه لا يجوز اشتراط أن يبيعه المشتري على البائع في البيع الأوّل لا بنحو شرط الفعل ، ولا بنحو شرط النتيجة - هو محاليّة هذا المعنى ، أي البيع على المالك ثانيا ، فيكون البيع عليه متوقّفا على البيع

ص: 283

الأوّل حتّى يخرج عن ملكه ويمكن البيع عليه.

والجواب ما ذكرنا ، فلا نعيد ولا نطول المقام.

والشاهد على أنّه أراد هذا المعنى أنّه قال بجواز اشتراط بيعه على غير المالك لإمكانه ، بأن يكون وكيلا من قبل المالك ، أو بيعه فضولة ثمَّ يمضي المالك ، فوجه توقّف بيع الثاني على الأوّل أنّ البيع على المالك ممتنع ، فلا يمكن الالتزام به ، فبيع الأوّل متوقّف على أمر محال ، فيكون باطلا.

فلا يرد على العلاّمة قدس سره ما ذكروه من أنّه لو كان اشتراط البيع ثانيا على البائع باطلا ومستلزما للدور ، فيكون اشتراط البيع على غيره أيضا كذلك ، أي يكون مستلزما للدور ، وكذلك اشتراط عتقه أو وقفه ، بل اشتراط كلّ تصرّف يكون متوقّفا على كونه ملكا للمتصرّف يكون مستلزما للدور ، لأن ذلك التصرّف على الفرض متوقّف على الملك ، وملكه متوقّف على وقوع البيع الأوّل صحيحا ، ووقوع البيع الأوّل صحيحا متوقّف على وقوع البيع الثاني أو عتقه أو وقفه أو هبته أو غيره من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

فتخصيص العلاّمة قدس سره الإشكال بهذا الفرع ، أي بالبيع على نفس المالك دون غيره يدلّ على أنّ نظره في الإشكال وثبوت الدور على امتناع بيع المال على مالكه ، وتوقّف صحّته على خروجه عن ملكه ، فلا يرد عليه الإيرادات المذكورة في كتبهم والنقوض التي ذكروها ، من صحّة اشتراط البيع على غيره ، أو اشتراط عتقه ، أو وقفه ، أو هبته لغير البائع ، لاشتراك الكلّ في استلزامها للدور.

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا أنّ الجواب عن هذا الدور بأنّ البيع الأوّل متوقّف على الالتزام بالبيع الثاني لا على وقوعه ، ليس كما ينبغي ، لأنّ إشكاله هو أنّ الالتزام بأمر محال - وهو البيع على المالك - لا يمكن إن كان التزاما جدّيا ، فالجواب هو الذي ذكرنا لا ما ذكروه.

ص: 284

[ الشرط ] الثامن : أن يلتزم به في متن العقد.

أقول : بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ، أي الالتزامات غير المربوطة بعقد ، أو ما وقعت في ضمن عقد جائز لا يجب الوفاء بها اتّفاقا - أمّا الأوّل فإمّا لعدم شمول قوله صلی اللّه علیه و آله « المؤمنون عند شروطهم » للشروط الابتدائيّة وضعا أو انصرافا ، وإمّا لتخصيصه بالإجماع. وأمّا الثاني فلأنّه بعد ما كنت نفس العقد غير واجب الوفاء ، فالشرط الواقع في ضمنه بطريق أولى.

فاعلم أنّ الشروط على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون مذكورة في ضمن العقد اللازم.

وهذا القسم هو القدر المتيقّن من قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم ».

الثاني : هي الالتزامات الابتدائيّة ،

والتعهّدات المستقلّة غير المربوطة بعقد المنشأة باللفظ ، ولكن بإنشاء مستقلّ حيث لا عقد في البين أصلا ، أو لا ارتباط بينهما وإن كان.

وهذا القسم هو الذي خارج عن تحت هذه القاعدة تخصّصا أو تخصيصا بالإجماع.

الثالث : هو ما يكون التباني والتوافق عليه خارج العقد ، ووقع العقد مبنيّا عليه من دون ذكرها في متن العقد.

وهذا القسم هو الذي محلّ كلامنا في أنّه هو يجب الوفاء به أم لا ، بل لا بدّ من ذكرها في متن العقد؟

وأمّا القسم الرابع : وهو أن يقع التواطي والتباني عليه قبلا ، ولم يقع العقد مبنيّا عليه ، بل كان حال العقد مغفولا عنه ، فهو في الحقيقة يرجع إلى القسم الثاني من حيث

ص: 285

عدم ارتباطه إلى العقد وعدم كونه مشمولا لهذه القاعدة ، بل حاله أنزل من القسم الثاني ، لعدم إنشائه باللفظ ، بل صرف تبان في خارج العقد.

وخلاصة الكلام : أنّ القسم الأوّل يقينا مشمول للقاعدة ، والقسم الثاني غير مشمول يقينا.

فعمدة الكلام في القسم الثالث ، وهو الذي سمّوه بشروط التباني بعد الفراغ عن أنّ القسم الرابع يرجع إلى القسم الثاني.

وفيه خلاف ،و القائلون بلزوم الوفاء به ذكروا لذلك وجوها :

الأوّل : هو أنّ التباني قبل العقد على التزام أحد المتعاقدين أو كلاهما على أمر -

وإن لم يذكروا في متن العقد - حاله حال الشروط الضمنيّة ، كلزوم تسليم كلّ واحد منهما الذي جعله في العقد عوضا إلى الآخر ، وككون الثمن من نقد البلد وأمثالهما.

وذلك من جهة أنّ الشروط الضمنيّة بواسطة تعاهدها عند العرف والعادة صارت مدلولا التزاميّا للعقد وإن لم يذكر في متنه ، بل وإن كان العاقد غافلا عنها غير ملتفت إليها. ومعلوم أنّ دلالة الالتزام معتبرة في باب الإنشاءات كالدلالة المطابقة ، لأنّها أيضا إحدى طرق الإفادة والاستفادة في محاوراتهم.

فكذلك التباني لأجل هذه العلّة بعينها ، لأنّهم إذا تبانوا قبل العقد على التزام أحدهما أو كليهما على أمر ، ثمَّ وقع العقد مبنيّا على ذلك التباني ، يكون ذلك الالتزام أو الالتزامين مدلولا التزاميّا لذلك العقد ، فيكون حاله حال الشروط الضمنيّة ويجب الوفاء به.

وفيه : أنّ المدلول الالتزامي لكلام لا بدّ وأن يكون من اللوازم العقليّة أو العرفيّة لذلك الكلام كي يدلّ ذلك الكلام عليه بالدلالة الالتزاميّة ، كما أنّ قوله : بعتك هذه الدار بألف دينار ، يدلّ بالدلالة المطابقة على مبادلة الدار بألف دينار ويدلّ بالالتزام على تسليم كلّ واحد منهما ما هو كان له إلى الذي انتقل إليه ، وتساوي العوضين من

ص: 286

حيث الماليّة ، وكون الدينار المذكور في العقد من قسم دينار البلد لا دينار مملكة أخرى.

كلّ هذه الثلاثة وما يماثلها من اللوازم العرفيّة لذلك الكلام ، أي لقوله : بعتك هذه الدار بألف دينار ، فيدلّ عليها بالدلالة الالتزاميّة لو كان إخبارا ، كما أنّه لو كان في مقام الإنشاء تكون منشآت بذلك العقد بالدلالة اللفظيّة الوضعيّة التي هي معتبرة في مقام الإنشاءات كاعتبارها في مقام الإخبار.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الأمر الأجنبي عن مدلول العقد ، كالالتزام بخياطة ثوب بائع الدار مثلا في خارج ، والتباني عليه لا يوجب صيرورته لازما عرفيّا لذلك الكلام - أي ذلك العقد - كي يكون العقد دالاّ عليه بالالتزام ، فقياس أحدهما على الآخر باطل.

وبعبارة أوضح : في الشروط الضمنيّة أيضا يكون إنشاء الشرط باللفظ ، غاية الأمر بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقيّة ، وأمّا في باب التباني فليس إنشاء لفظي في البين ، بل ليس مطلق الإنشاء لا لفظيّا ولا غير لفظي ، بل صرف تبان خارجي ، ومثل هذا التباني لا دليل على وجوب الوفاء به.

الثاني : أنّ وقوع العقد مبنيّا على التواطي والتباني السابق عليه يوجب تقييده بما تبانيا وتواطيا عليه، فيجب الوفاء بذلك العقد المقيّد بما تبانيا عليه ، والوفاء بذلك العقد المقيّد لا يمكن إلاّ بالعمل على طبق ذلك التباني الذي هو المراد من الشرط هاهنا ، فيكون الشرط لازم الوفاء.

وفيه : أنّ وقوع العقد مبنيّا على تواطئهما قبله وإن كان يوجب تقييد الثمن أو المثمن في مقام اللبّ والالتزام النفسي ، ولكن بصرف هذا الأمر النفسي لا يكون مشمولا لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، أو لقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » ، بل لا بدّ من شمولهما له من بلوغه إلى مرتبة الإنشاء القولي أو الفعلي على وجه ،

ص: 287

والمفروض فيما نحن فيه أنّ ما تبانيا عليه لم يقع في حيّز الإنشاء ، بل لا يكون إلاّ أمرا قلبيّا لا أثر له.

وأمّا دعوى انصراف العقد اللفظي ، أو انصراف لفظ الثمن أو المثمن المذكورين فيه إلى ذلك المقيّد - بواسطة التباني فتقع تلك الخصوصيّة التي يدّعي أنّ العقد صارت مقيدة بها تحت الإنشاء اللفظي - فمما لا وجه له أصلا ، لأنّ التقييد المعنوي من دون دليل عليه لا يوجب انصراف المطلق إلى ذلك الفرد الخاصّ المقيّد بذلك القيد المعنوي.

وأمّا سبق ذكر التباني بالمقاولة قبل العقد لا أثر له في ظهور ألفاظ العقد أو مجموع جملته ، ولذلك ذهب المشهور إلى عدم لزوم الوفاء بشروط التباني ، أي ما تواطيا عليه قبل العقد ، بل عن صاحب الرياض قدس سره نقل الإجماع على عدم لزوم الوفاء بها ، وحكاه أيضا عن بعض الأجلّة.

وأمّا ما أورده شيخنا الأستاذ قدس سره على هذا الوجه ، بأنّ القول بالانصراف إلى عقد خاصّ - أي المقيّد - يوجب بطلان العقد عنه تخلّفه أو تعذّره ، مع أنّ بناءهم في باب تخلّف الشروط أو تعذّرها أنّهما يوجبان الخيار لا البطلان. ففيه : أنّ الانصراف بواسطة التباني قبل العقد ليس أمره أعظم من التصريح في اللفظ ، حتّى فيما إذا كان تبانيهما على وجود وصف في أحد العوضين أو في كليهما ، مثلا تبانيهما على كون الجارية المبيعة طبّاخة ، أو العبد المبيع كاتبا - على فرض أنّه كان كالتصريح بذلك في مقام الإنشاء - لا يوجب تخلّفه أو تعذّره بطلان العقد ، بل بناؤهم على أنّ تخلّف الوصف أو تعذّره لا يوجب إلاّ الخيار.

والسرّ في ذلك أنّ هناك التزامان : أحدهما : هو الالتزام بنفس المبادلة بين العوضين. والثاني : هو التزامه بأن يكون أحد العوضين أو كلاهما كذا وكذا. والالتزام الثاني مربوط بالالتزام الأوّل ، فلو لم يعمل بالالتزام الثاني يكون ذاك موجبا للخيار ، لأنّ الالتزام الأوّل كان مشروطا بالالتزام الثاني ، فلا يجب الوفاء به إلاّ في ظرف

ص: 288

العمل بالالتزام الثاني ، فإذا تخلّف أو تعذّر فلا يجب الوفاء كي يكون لازما ، بل هو مخيّر بين أن يعمل بالتزامه العقدي - والمبادلة التي وقعت - وأن لا يعمل. وهذا معنى الخيار.

وبعبارة أخرى : وجوب الوفاء الذي هو منشأ اعتبار اللزوم موضوعه العقد المشروط ، أو العوض والمعوّض الموصوف بكذا ، فعند تخلّف الشرط أو الوصف لا يشمله دليل وجوب الوفاء ، فيكون مخيّرا. وهذا هو الخيار ، ولا وجه لبطلان العقد.

الثالث : أنّ التراضي وقع بين العوضين مبنيّا على العمل بالشرط المذكور قبل العقد الذي تواطيا عليه ، فبدون العمل بذلك الشرط يكون أكلا للمال بالباطل ، فيجب العمل على طبق تبانيهما وتواطئهما ، ويلزم الوفاء به لكي لا يكون أكلا للمال بالباطل.

وفيه أوّلا : لو صحّ هذا الكلام فمقتضاه بطلان العقد ؛ لأنّ ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وثانيا : هو أنّ الرضا المعاملي غير الرضا بمعنى طيب النفس ، ففي بيع المضطرّ ليس طيب النفس مع أنّه صحيح ، فالمراد من قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) هو أن لا تكون المبادلة بين العوضين بإكراه أو إجبار ، وفيما نحن فيه لا شكّ أنّه لا إكراه ولا إجبار ، والمبادلة بين المالين وقعت برضاء منهما ، غاية الأمر حيث كان الالتزام بهذه المبادلة مبنيّا على ما تبانيا عليه ، فإذا لم يعمل الطرف بما تبانيا عليه ، فدليل وجوب الوفاء لا يشمله ، لأنّ موضوعه المبادلة المشروط ، فيكون له الخيار ، لا أن يكون أصل المبادلة باطل ، لأنّها وقعت باختيارهما ، والالتزام - بأن يقف عند هذه المبادلة ولا يحلّ ما عقد عليه - مشروط بوجود هذا الشرط أو هذا الوصف ، فإذا تخلّف أو تعذّر الشرط أو الوصف فلا ملزم له بالوقوف عند هذه المبادلة ، بل له حلّه وفسخه. وهذا معنى الخيار.

ص: 289


1- النساء (4) : 28.

وقد عرفت ممّا ذكرنا عدم صحّة ما أفاده شيخنا الأعظم قدس سره (1) - في آخر هذا الأمر أنّ الشرط من أركان العقد ، بل جزء للثمن أو المثمن ، فلا بدّ من ذكره وإلاّ كان العقد باطلا - وأنّ العقد صحيح ، ذكر الشرط أو لم يذكر ، عمل به أو لم يعمل ، تعذّر أو لم يتعذر. نعم في صورة تخلّف الشرط أو تعذّره يرتفع اللزوم ، لأنّ العقد باطل. وهذا هو ما ذهب إليه المشهور ، بل ادّعي عليه الإجماع.

[ الشرط ] التاسع : ربما يقال إنّه من شرائط صحّة الشروط التنجيز. والكلام في اعتبار هذا الشرط في صحّة الشروط تارة : باعتبار نفس الشرط ، وأنّه هل يعتبر في نفس الشرط - مع قطع النظر عن العقد - التنجيز ، كما أنّه معتبر في نفس العقد ، وأنّ التعليق مبطل ، أم لا؟ وأخرى : باعتبار سارية التعليق إلى العقد ، فيكون العقد باطلا ، فالشرط يبطل بالتبع.

أمّا باعتبار الأوّل ، فتارة المراد من التعليق تعليق الإنشاء ، وأخرى تعليق المنشأ.

أمّا الأوّل ، أي تعليق الإنشاء ، أي كون الجعل والإيجاد معلّقا على أمر ، فهذا غير معقول ، بمعنى تحقّق الإنشاء والإيجاد والجعل معلّقا على أمر غير ممكن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنشاء والجعل تكوينيّا أو كان تشريعيّا.

وبعبارة أخرى : الجعل لا ينفكّ عن المجهول ، والإيجاد عن الوجود ، فبهذا المعنى لا يمكن لا تعليق العقد ولا الشرط ولا غيرهما من الإنشاءات ، والإنشاء في التشريعيّات أيضا أمره دائر بين الوجود والعدم ، فكونه موجودا ومعلّقا غير ممكن.

وأمّا الثاني : - أي تعليق المنشأ - فهو في التكوينيّات كالإنشاء أيضا غير ممكن ، لأنّ المنشأ التكويني أيضا أمره دائر بين الوجود والعدم ، ولا معنى لأن يكون معلّقا على أمر. وأمّا في الأمور الاعتباريّة والتشريعيّة كالأحكام الشرعيّة مطلقا ، تكليفية كانت أم وضعيّة فالتعليق فيها ممكن ، ففي الجعالة يمكن جعل ملكيّة حمل بعير من

ص: 290


1- « المكاسب » ص 283.

الطعام لمن جاء بصواع الملك ، كما يشير إليه قوله تعالى ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (1) والمنشأ والمجعول تشريعا حمل بعير معلقا على مجيئه بصواع الملك ، ولا يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشإ ، لأنّ المنشأ وهي الملكيّة لحمل بعير يوجد في عالم الاعتبار والتشريع حال الإنشاء ، ولم يتأخّر منه آن من الآنات.

وهذا المعنى في الأمور التكوينيّة غير ممكن ، لأنّ الأمور التكوينيّة إن وجدت يكون وجودها بتّية ولا يقبل التعليق ، بخلاف الاعتباريّات فإنّ اعتبار أمر معلّقا على وجود أمر آخر لا مانع منه ، فيعتبر وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة ، فيجوز اعتبار نجاسة ماء العنب على تقدير الغليان من قبل أن يخلق الكرم ، فضلا عن كونه قبل وجود الغليان ، وأمّا مسكريّته فلا يمكن إيجادها في الخارج على تقدير الغليان قبل وجود الغليان.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المنشئات في باب العقود والإيقاعات حيث أنّها أمور اعتباريّة فلا مانع من تعليقها عقلا ، ولكن انعقد الإجماع على عدم جواز التعليق في منشآت العقود ، فالشرط أيضا حيث أنّه من هذه الجهة مثل العقود عبارة عن إنشاء الالتزام بأمر على نفسه لطرفه ، والمنشأ بهذا الإنشاء هو نفس الالتزام بذلك الأمر ، فلا مانع من أن يكون ذلك الأمر الذي التزم به معلّقا على أمر آخر ، مثلا لو التزم في ضمن عقد لازم أن يطبخ له ولكن معلّقا على نزول ضيف عليه ، أو التزم بأن يخيط له ثوبا معلّقا على تزويجه ، وهكذا في سائر الموارد لا يلزم منه - أي من تعليق الشرط - محذور عقلا أصلا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تعليق الشرط وعدم تنجيزه - بمعنى تعليق ما التزم به - لا محذور فيه عقلا أصلا ، مثل تعليق المنشأ في باب العقود ، ولكن الفرق بين الشروط والعقود هو أنّ في باب العقود وإن لم يكن محذور عقلا في تعليق منشآتها إلاّ أنّه ممنوع

ص: 291


1- يوسف (12) : 72.

شرعا ، للإجماع. وأمّا في باب الشروط فلا إجماع ولا محذور شرعا في البين في تعليقها.

وأمّا الثاني ، أي : تعليق الشرط هل يسري إلى العقد كي يكون باطلا فيكون الشرط باطلا بالتبع ، أم لا؟

أقول : إنّ تعليق الأمر الذي التزم به ، كخياطة الثوب مثلا في المثال المذكور لا ربط له بتعليق العقد ، فلو قال : بعتك هذه الدار على أن تخيط ثيابي إن تزوّجت ، يكون بيع الدار منجّزا على كلّ حال ، غاية الأمر إنّ المشروط عليه ملزم بخياطة ثياب البائع على تقدير زواجه. وأمّا إن لم يتزوّج المشتري ، فالدار له ولا شي ء عليه. وهذا واضح جدّا. فظهر أنّ تعليق الشرط لا يضرّ بصحّته.

ص: 292

خاتمة : في بيان أحكام الشروط الصحيحة

اشارة

أقول : الشروط الصحيحة التي هي الآن محلّ الكلام على ثلاثة أقسام :

شرط الصفة ،

وشرط الغاية ،

وشرط الفعل ،

فالأوّل : عبارة : عن اشتراط وجود صفة في المبيع الشخصي ، أو في متعلّق عقد آخر غير البيع. وأمّا اشتراط إيجاد صفة في ما تعلّق العقد به فهو راجع إلى شرط الفعل.

وحكم هذا القسم هو أنّه مع فقد ذلك الوصف يكون الخيار للمشروط له ، فلو باع حيوانا على حامل فلم يكن كذلك ، فيكون الخيار للمشتري ، وذلك من جهة أنّه يلتزم بهذه المعاملة والمبادلة فيما إذا كان المبيع متّصفا بهذه الصفة ، فإذا لم يكن فلا التزام له بالفاقد لهذه الصفة مستقلاّ.

إن قلت : فبناء على هذا تكون المعاملة باطلة ، لا أنّه له الخيار فقط لم قلت من عدم تعهّده والتزامه بالمبادلة مع فاقد الوصف.

قلت : إنّ المعاملة وقعت بين الذاتين ، غاية الأمر أنّ التزامه بهذه المبادلة بين المالين مبنيّ على اتّصاف أحدهما أو كليهما بتلك الصفة ، فالمشروط عليه ملتزم بأن يكون ما التزم بمبادلته مع عوضه المذكور في العقد متّصفا بصفة كذا.

وأمّا الشارط فحيث كان التزامه بالمبادلة مشروطا بوجود صفة كذا في متعلّق العقد ، فإن لم يكن فلا التزام له ، لا أنّه لا مبادلة في البين ، فأصل المبادلة بين المالين

ص: 293

متحقّق على كل حال.

نعم لو كان الوصف المفقود عنوان ذلك العوض وصورته النوعيّة ، ولو كان كذلك عند العرف لا ما هو منوّع عقلا ، فأصل المعاملة لا تتحقّق وتكون باطلة ، وذلك لأنّ المبادلة وقعت بين هذا العنوان والعوض الآخر ، فالفاقد لذلك العنوان ليس ما وقع عليه العقد ، فيصدق عليه أنّ ما قصد لم يقع.

مثلا لو قال : بعتك هذا الفرس ، وكان حمارا ، فهذا البيع باطل ، لأنّ ما وقع عليه عقد البيع هو عنوان الفرس ، والحمار مخالف معه في النوع وليس ذلك العنوان حقيقة. وكذلك لو قال : بعتك هذه الجارية الروميّة ، وكانت حبشيّة. واختلاف كونها روميّة وحبشيّة وإن لم يكن اختلافا نوعيّا عقلا ، ولكن عند العرف هما نوعان وحقيقتان ، فيكون البيع باطلا ، لأنّ ما وقع عليه البيع هي الجارية الروميّة ، وما في الخارج حقيقة أخرى.

وليس هذا من قبيل تعارض العنوان مع الإشارة ، كما قالوا في باب صلاة الجماعة : إنّه إذا اقتدى بهذا الحاضر على أنّه زيد فكان عمروا من صحّة الاقتداء إذا كان عمرو عادلا أيضا ، لأنّ المأموم هناك يقصد الاقتداء بهذا الشخص الحاضر ، غاية الأمر أنّه يخطأ في تطبيقه على زيد.

وأمّا فيما نحن فيه فلا يقع البيع على هذا الشخص بعنوان أنّه هذا الشخص الموجود ، بل يكون عنوان المبيع هو كونها جارية روميّة ، أو الفرس مثلا ، فإذا ظهر أنّها حبشيّة أو أنّه حمار ، فتختلف عنوان المبيع وظهر أنّه عنوان آخر ، فما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وبعبارة أوضح : المبادلة وقعت في موارد تخلّف العنوان بين العنوان المفقود الذي هو المقصود وبين الثمن. وأمّا العنوان الموجود فلم يقع طرفا للمبادلة ، ولذلك لا يصحّ البيع.

ص: 294

وأمّا إذا كان تخلّف الوصف مع بقاء عنوان المبيع ، فما هو طرف المبادلة موجود. نعم الالتزام بالوقوف والثبوت عند هذه المبادلة كان مشروطا بشرط كذا في مسألة تخلّف الشرط ، وعند وجود صفة كذا في مسألة تخلف الوصف ، فإذا تخلّف الشرط أو الوصف المذكوران في متن العقد ، فالمبادلة وإن حصلت ولكن الالتزام بالوقوف والثبوت عند تلك المبادلة يكون بلا موضوع ، لأنّ موضوعه كانت المبادلة الكذائيّة ولم تحصل على الفرض ، فلا تشمله أدلّة وجوب الوفاء بهذه المبادلة ، فمخيّر بين أن يفي بتلك المبادلة وأن لا يفي. وهذا هو معنى خياره في باب تخلّف الشرط والوصف.

لكن لازم هذا الكلام أنّ معنى الخيار في المقام هو عدم الدليل على اللزوم ، لا أنّه حقّ مجعول من طرف الشارع أو من طرف المتعاقدين.

إن قلت : إنّ ما ذكرت في باب تخلّف الشرط صحيح ، ولكن في باب تخلّف الوصف حيث أنّ المبادلة وقعت بين ذات المقيّد بالوصف ، فعند تخلّف الوصف لا مبادلة في البين ، لأنّ الذات العارية عن القيد غير المقيّدة به.

قلت : إنّ العرف يرى أنّ المبادلة وقعت بين ذات الموصوف - أي : هذه العين الخارجيّة - مع العوض الآخر ، غاية الأمر أنّه التزم أن تكون متّصفة بصفة كذا. وبعبارة أوضح : إن قال : بعتك هذا العبد الكاتب بكذا ، بادل هذا العبد الشخصي الخارجي بعوض كذا ، سواء أكان كاتبا أو لم يكن ، لأنّ العين الموجودة في الخارج لا تتغيّر عمّا هي عليه بوجود الوصف وعدمه.

نعم من ظاهر العبارة يستفاد أنّه التزم بأن يكون هذا العبد الذي نقله إلى المشتري كاتبا ، والمشتري أيضا يقبل على هذا الأساس ، ولكنّه لا شكّ في أنّه يقبل انتقال هذا العبد الشخصي إليه ، فينحلّ قبوله إلى أمرين : أحدهما انتقال هذا العبد الخارجي إليه بعوض معين ، ثانيهما أنّ قبوله لهذه المبادلة حيث أنّه كان في ظرف اتّصاف المبيع بهذه الصفة المذكورة في متن العقد ، فإذا لم يكن كذلك فهو ليس ملزما

ص: 295

بقبول الفاقد للوصف المذكور ، بل له الخيار في أن يقبل المبادلة الفاقدة لهذه الصفة وأن لا يقبل ، فالخيار هاهنا ليس حقّا مجعولا من قبل الشارع ، بل من باب عدم ملزم له على الوقوف والثبوت عند هذه المعاملة.

وأمّا القسم الثاني، أي شرط الغاية ، وقد يسمّى بشرط النتيجة ، أي ما هي نتيجة العقود والإيقاعات وما يحصل بها. وذلك كاشتراط كون شي ء ملكا لأحد المتعاقدين ، أو اشتراط كون عبد أحدهما حرّا ، أو اشتراط كون زوجه أحدهما مطلّقة ، فإنّ هذه الأمور - وما يشبهها - له أسباب خاصّة من طرف العرف والعقلاء أمضاها الشارع أو أحدثها ، كما أنّه لا يبعد أن يكون في الطلاق كذلك ، فالكلام في أنّه هل هذه الأمور كما أنّها تحصل بأسبابها الخاصّة المذكورة في أبواب الفقه تحصل بالشرط ، أم لا؟

والتحقيق أنّها ليست على نمط واحد ، بل بعضها لا يحصل إلاّ بأسبابها الخاصّة كالطلاق ، فإنّه لا يحصل بصرف الشرط ، فلو قالت المرأة : زوّجتك نفسي بشرط أن تكون زوجتك التي تكون تحتك مطلّقة ، فلا يحصل الطلاق ، وذلك لأنّ الشارع جعل للطلاق أسبابا خاصّة.

وقد يقال في مطلق الإيقاعات : أنّها كذلك ، أي أنّ لها أسباب خاصّة لا تحصل النتائج بغيرها ، فلو قال : بعتك هذه الدار بكذا بشرط أن يكون عبدك الفلاني حرّا ، لا يحصل العتق ، وعلى كلّ حال تحقيق هذه المسألة وأنّ النتيجة الفلانيّة هل لها سبب خاصّ ، أو يحصل بأيّ سبب كان؟ لا بدّ من المراجعة إلى دليل تلك المعاملة من العقد أو الإيقاع الذي يترتّب عليه تلك النتيجة ، وبعضها يحصل بأيّ سبب كان ، وبعضها يشكّ في أنّه من أيّ واحد من القسمين ، أي : هل له سبب خاصّ لا يحصل بغيره ، أم لا؟

وعمدة الكلام في هذا القسم ، وإلاّ فذانك القسمان حكمهما معلوم ، أي يكون شرط الغاية فيما إذا كانت الغاية لا تحصل إلاّ بأسبابها الخاصة باطل لا أثر له ، وفيما إذا

ص: 296

ليس لها أسباب خاصّة ، بل يحصل بكلّ سبب يكون سببا عند العرف ، أو بكلّ ما يدلّ على التزامه بحصول تلك الغاية ، فيكون الشرط مؤثّرا وصحيحا.

وقد تمسّك شيخنا الأعظم قدس سره في هذا القسم لتأثير الشرط وحصول النتيجة بعموم « المؤمنون عند شروطهم » بل بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، بناء على كون الشرط جزءا للعقد ، ولكن بعد تنقيح الموضوع بأصالة عدم مخالفة هذا الشرط مثلا للكتاب ، كي لا يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة.

وقد عرفت أنّ هذا الأصل من العدم النعتي الذي لا يجري فيه استصحاب العدم لترتيب آثار ذلك العدم ، أي العدم النعتي عليه ، لعدم الحالة السابقة للعدم الذي هو نعت ، والعدم المحمولي - أي عدم وجود الشرط المخالف أزلا - وإن كان له الحالة السابقة ، إذ كلّ حادث مسبوق بالعدم المحمولي ، إلاّ أنّه لا أثر له ، لأنّ الأثر يترتّب على عدم كون هذا الشرط الموجود المشكوك المخالفة مخالفا ، لا على عدم وجود الشرط المخالف بمفاد ليس التامّة ، وإثبات الأوّل - أي عدم كون الشرط الموجود مخالفا - بالثاني - أي بعدم وجود الشرط المخالف - مثبت.

والعجب من شيخنا الأعظم قدس سره - مع أنّه هو الذي أسّس تنبيها في تنبيهات الاستصحاب لعدم جريان هذا الأصل أي : أصالة عدم النعتي - قال هاهنا بجريان هذا الأصل (1).

ولذلك وجّه شيخنا الأستاذ قدس سره كلامه بأنّ مراده أنّ التمسّك بعموم « المؤمنون عند شروطهم » ، وكذلك ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ليس من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة كي يحتاج إلى الأصل المنقّح للموضوع.

وحاصل ما أفاده في هذا المقام - باختصار وتوضيح منّا - هو أنّ عدم حصول

ص: 297


1- « المكاسب » ص 283.
2- المائدة (5) : 1.

هذه الغايات بالشرط إمّا لتصرّف الشارع في ناحية أسبابها ، وإمّا في ناحية نفس المسبّبات.

والمراد من الأوّل أنّه جعل شيئا سببا لحصول هذه الغاية ، ونفي السببيّة عن شي ء آخر ، مثل الطلاق حيث جعل كلمة « أنت » أو « هي طالق » مع وجود سائر الشرائط المقرّرة سببا ، ونفي السببيّة عن سائر الألفاظ التي كانت سببا للطلاق عندهم ، كقولهم : ظهرك كظهر أمّي ، وأمثال ذلك.

والمراد بالثاني : هو جعل المسبّب غير قابل الحصول في حال أو بالنسبة إلى شخص ، وذلك كطلاق الحائض في حال الحيض ، أو في طهر المواقعة ، أو بيع المصحف من الكافر ، وأمثال ما ذكر ، وعلى كلّ واحد من التقديرين ليس الشكّ شكّا في مصداق المخالف للكتاب كي يكون الشكّ من الشكّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، فلا يجوز التمسّك بعموم العامّ لرفع حكم الشكّ موضوعا.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في مصداق المخصّص - بعد الفراغ عن معرفة المخصّص مفهوما - إمّا بالظهور العرفي أو النصوصيّة ، ثمَّ يشكّ في أنّه هل هذا الفرد الموجود مصداق لذلك المفهوم المعيّن المعلوم ، أم لا؟ لجهات خارجيّة ، كما إذا علمنا أنّ مطلق مرتكب الذنب - صغيرة كانت أم كبيرة - فاسق ، ولكن شكّ في أنّه صدر عنه صغيرة ، أم لا؟

وأمّا إذا لم يعلم أنّ مرتكب الصغيرة فاسق شرعا أم لا؟ وارتكب صغيرة قطعا ، فهذا الشكّ ليس شكّا في المصداق ، ويجوز التمسّك بعموم العامّ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، ومرجع الشكّ فيما نحن فيه إلى أنّ الشارع هل حكم بسببيّة كذا ، أو بنفي سببيّة كذا لحصول هذه الغاية أم لا؟ وهل حكم بعدم قابلية وجود هذه الغاية في هذه الحال؟ كحصول الطلاق في حال الحيض أو في طهر المواقعة ، فتكون الشبهة حكميّة ، ويجوز التمسّك بعموم « المؤمنون عند شروطهم » ، بل ب- ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولا يحتاج إلى

ص: 298

أصالة عدم المخالفة ، بل لا تصل النوبة إليها. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره .

ولكن ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدس سره هو التمسّك بأصالة عدم المخالفة لا العمومات ابتداء ، بل الرجوع إليها بعد تنقيح موضوع العامّ بأصالة عدم المخالفة ، وهذه عبارته : فإن لم يحصل له - أي التمييز بين أنّ هذا الحكم الذي يريد أن يشترط في خلافه ممّا يجوز أن يتغيّر بالاشتراط أو لا - بنى على أصالة عدم المخالفة ، فيرجع إلى عموم « المؤمنون عند شروطهم ». انتهى محلّ الحاجة من كلامه ، زيد في علوّ مقامه.

فانظر إلى هذه العبارة ، فإنّه كالصريح في أنّ الشبهة مصداقيّة ، ولكن بواسطة جريان الأصل الموضوعي - وهو أصالة عدم مخالفة هذا الشرط المشكوك للكتاب والسنة - ينقّح موضوع العام ، فيتمسّك به.

فإن قلنا بعدم صحّة جريان هذا الأصل - كما هو المختار - لا يبقى مجال للتمسّك بهذا الأصل لإثبات موضوع العامّ ، ويرد الإشكال عليه.

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره وإن كان صحيحا ومتينا في حدّ نفسه ، ولكن لا يلائم مع عبارة شيخنا الأعظم قدس سره وإن كانت عبارته الأخيرة ربما يشعر بما ذكره شيخنا الأستاذ ، حيث يقول : ومرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم ثبوت هذا الحكم على وجه لا يقبل تغيّره بالشرط ، انتهى.

فبناء على هذه العبارة الأخيرة تكون الشبهة حكميّة ، فيكون المرجع العمومات وإطلاقات أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، بل بالعقد.

وأمّا القسم الثالث ، أي شرط الفعل.

والمراد به أن يتعلّق الشرط بفعل اختياري مقدور للمكلّف ، يكون سائغا ، ويكون فيه غرض معتدّ به عند العقلاء ، ولا يكون مخالفا للكتاب والسنّة ، ولا يكون مخالفا لمقتضى العقد ، وأن لا يكون منافيا لبعض الآثار التي جعلها الشارع للمنشإ بالعقد ، وأن لا يكون مجهولا ، وأن يلتزم به في متن العقد.

ص: 299

ففيه أمور :

الأوّل : إذا كان الفعل المشروط جامعا لهذه الشروط الثمانية ، فهل يجب على المشروط عليه الوفاء بذلك الشرط ، أم لا؟ بل مخيّر بين أن يأتي بالشرط ويفي بالتزامه ، وبين أن لا يأتي به ولا يستحقّ العقاب على ترك العمل بالشرط ، غاية الأمر أنّه مع عدم العمل به يكون للمشروط له الخيار.

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل ، بل ادّعى عليه في التذكرة الإجماع (1) ، وهو الأقوى ، وذلك أوّلا لقوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » بناء على أن يكون الظرف متعلّقا بأفعال العموم ، فيكون التقدير : المؤمنون يثبتون ويقفون عند شروطهم ، فيكون كناية عن أنّهم يعملون بها ولا يتردّدون في ترتيب الأثر عليها ، فضلا عن عدم الاعتناء وترك العمل بها.

وحيث أنّ الظاهر في القضايا الصادرة عند الشارع - وإن كانت بصورة الجملة الخبريّة - هو أنّه في مقام بيان الحكم الشرعي ، وغالبا ينشأ طلب وقوع الشي ء بصورة الإخبار عن وقوعه في الماضي أو المستقبل ، كقوله في الصلاة مثلا « أعاد » أو « يعيد ».

فيكون معنى قوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » - بناء على ذلك التقدير - أنّ المؤمنين والمسلمين يجب عليهم الثبوت والوقوف عند شروطهم والتزاماتهم ، أي يجب عليهم العمل على طبق التزاماتهم ، خصوصا بملاحظة استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام بهذه القضيّة لوجوب الوفاء بما شرط لامرأته في رواية إسحاق بن عمّار التي تقدّم ذكرها (2) في صدر هذه القاعدة ، وكذلك استشهاد أبي الحسن موسى علیه السلام في موثّقة منصور بن

ص: 300


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.
2- تقدّم ذكره في ص 250 ، رقم (2).

يونس التي أيضا تقدّمت (1) في أوّل هذه القاعدة.

وثانيا : قوله علیه السلام في رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة (2) « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به » فقوله علیه السلام « فليف لها به » أمر ، والأمر ظاهر في الوجوب.

وما أحسن ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره في هذا المقام ، وهو أنّ وجوب الوفاء بالشرط تكليفا لم ينكره أحد ، وإنّما الخلاف والبحث في أمر آخر ، وهو أنّه هل الشرط يوجب وثبت حقّا للمشروط له على المشروط عليه كي يكون وجوب الوفاء من آثار ذلك الحقّ ، أم لا يوجب ذلك ، بل أثر الشرط وفائدته قلب العقد اللازم جائزا ، وذلك لإناطة اللزوم بالوفاء بالشرط ، وإيجاد الفعل الملتزم به ، فإن لم يف به فلا لزوم ، وهذا الأخير هو الذي ذهب إليه الشهيد قدس سره .

ومن آثار إثبات الشرط وإيجابه حقّا على المشروط عليه ، هو جواز إجباره على العمل بالشرط ، فهو كسائر الحقوق يكون لمن له الحقّ ، سلطنة على من عليه الحقّ ، وله إجباره على أداء حقّه.

ومن آثار كونه موجبا لحدوث حقّ للمشروط له على المشروط عليه أنّه قابل للإسقاط ، فلو أسقط المشروط له لا يبقى وجوب الوفاء على المشروط عليه قطعا.

وهذا ممّا يدلّ دلالة قطعيّة على أنّ وجوب الوفاء ليس حكما تكليفيا محضا في عرض وجوب الوفاء بالعقد ، وإلاّ لو كان كذلك لما كان قابلا للإسقاط.

فهذا هو الفرق الجلي بين الحقّ والحكم ، وتكون القابليّة للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ ، ولذلك عرف به.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ هذه المسألة ذات قولين :

ص: 301


1- تقدّم ذكره في ص 251 ، رقم (1).
2- تقدّم ذكره في ص 250 ، رقم (2).

أحدهما : أنّ الشرط لا يوجب إلاّ تزلزل العقد وجعله معرضا للزوال ، وذلك من جهة إناطة اللزوم بحصول الشرط ، أي ما التزم به ، فإذا لم يحصل فلا لزوم ، فيكون مخيّرا بين الرضا بفاقد الشرط وبين عدمه ، فلا موجب للإجبار.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بجواز الإجبار أو وجوبه من باب الأمر بالمعروف ، بناء على استفادة وجوب الوفاء تكليفا ممّا ذكرنا من الأدلّة ، وإن لم نقل بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ على المشروط عليه.

ولكن يرد عليه أوّلا : أنّ وجوب الإجبار بناء على هذا وظيفة جميع المسلمين ، ولا اختصاص له بالمشروط له.

وثانيا : لو كان وجوب الوفاء بهذا المعنى ، وكان حكما تكليفيّا في عرض وجوب أداء مال الغير ومثله ، فليس قابلا للإسقاط ، مع أنّ للمشروط له إسقاط هذا الحقّ إجماعا.

ثانيهما : أنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له على المشروط عليه ،

ومن آثاره جواز إجبار المشروط عليه على الوفاء إذا امتنع ، وجواز إسقاطه. وأمّا في مقام الإثبات ، فمن الإجماع على صحّة إسقاطه يستكشف أنّه حقّ مالكي للمشروط له على المشروط عليه.

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا في بيان المراد من كلام الشهيد قدس سره - أنّه أراد أنّ الشرط لا يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له ، وإنّما يوجب تزلزل العقد فقط لإناطة اللزوم بحصول الشرط - أنّ المخالف ليس منحصرا بالشهيد قدس سره بل العلاّمة ، والشيخ في المبسوط (1) أيضا حيث قالا بعدم جواز الإجبار ، فلا بدّ وأن يكون نظرهما إلى عدم حدوث حقّ مالكي بالشرط للمشروط له على المشروط عليه ، واختيارهما مقالة الشهيد قدس سره من أنّ فائدة الشرط وثمرته تزلزل العقد وعدم لزومه ، لا حدوث حقّ

ص: 302


1- « المبسوط » ج 2 ، ص 151.

للمشروط له ، لأنّ حدوث الحقّ مع عدم جواز الإجبار متنافيان ، إذ كلّ ذي حقّ له السلطنة على استيفاء حقّه ولو كان بالقهر والإجبار.

الثاني : في أنّه هل للمشروط له الفسخ مع التمكّن من الإجبار ، أم لا؟

فيه قولان : ذهب إلى الأوّل في التذكرة (1) وجامع المقاصد (2) ، وإلى الثاني في الروضة (3).

والأقوى هو الأوّل ، من جهة أنّ حقّ الخيار موضوعه تخلّف المشروط عليه عن إيجاده ، لا عدم إمكان وجوده ولو بإجباره ، فإن لم يفعل باختياره فيتحقّق موضوع الخيار ، ويوجد هذا الحقّ للمشروط له.

والسرّ في ذلك ما ذكرنا سابقا : أنّ مرجع هذا الخيار - أي خيار تخلّف الشرط - هو أنّ التزام المشروط له بهذه المعاملة في ظرف إيجاد المشروط عليه ما التزم به ، فإن لم يوجده فلا التزام من طرف الشارط ، فيكون مخيّرا بين الفسخ وإنفاذ المعاملة. ولا ينافي وجود هذا الحقّ مع وجود حقّ آخر له ، وهو حقّ إجباره للمشروط عليه بواسطة الاشتراط.

وذلك من جهة أنّ الاشتراط جعله مالكا على المشروط عليه أن يوجد هذا الشرط ، وليس مفاد الشرط صرف الوجوب التكليفي فقط ، كما تقدّم في الأمر الأوّل ، وقلنا : إنّ نتيجة الاشتراط هو حدوث حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، وقلنا : إنّ الدليل على أنّه حقّ لا صرف تكليف جواز إسقاطه ، فللشارط كلا الحقّين في عرض واحد : حقّ الفسخ لتخلّف الشرط ، وحقّ الإجبار لأجل الاشتراط ، فيتخيّر بين الفسخ وإجبار المشروط عليه على إيجاد ما التزم.

ص: 303


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 492.
2- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 422.
3- « الروضة » ج 3 ، ص 506.

وأمّا ادّعاء أنّ اجتماع هذين الحقّين ممّا لا يمكن ، فمما لا وجه له ، إلاّ بناء على أن يكون موضوع الخيار عدم إمكان وجود الشرط ، ولو بالقهر والإجبار. وهذا قول بلا بيّنة ولا برهان.

والذي ذكرنا - من أنّ موضوع الخيار هو عدم وفاء المشروط عليه بالشرط وإن كان من الممكن إجباره - يكون بناء على أن يكون منشأ الخيار عدم التزام الشارط بالوفاء بالعقد في ظرف عدم الوفاء بالشرط من طرف المشروط عليه ، كما تقدّم شرحه وسيأتي تحقيقه في الأمر الثالث.

وأمّا بناء على أن يكون مدركه الإجماع ، أو قاعدة نفي الضرر - كما قالوا - فالقدر المتيقّن من تحقّق الإجماع ، هو فيما إذا كان الشرط متعذّر الوجود ولو بالقهر والإجبار. وكذلك لو كان مدركه قاعدة نفي الضرر ، بناء على ما هو التحقيق عندنا من أنّ المرفوع هو الحكم الذي يكون ضرريّا ، فاللزوم الذي هو حكم وضعي ليس مطلقا ضرريّا حتّى مع إمكان إجبار المشروط عليه على الوفاء بالشرط ، فبناء على أن يكون مدرك الخيار أحد هذين لا يجتمع الحقّان معا وليسا عرضيّين ، بل حقّ الخيار في طول إمكان الإجبار.

لكنّك عرفت أنّ المدرك هو الذي ذكرنا ، ولا يكون هذين. وسنتكلّم فيه في الأمر الثالث الآتي إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : لو تعذّر الشرط فللمشروط له الخيار فقط ، لا الأرش ، ولا فساد المعاملة.

أمّا صحّة المعاملة وعدم فسادها مع كون الخيار له ، فبعد الفراغ عن أنّ مورد البحث هي العين الخارجيّة لا الكلّي ، فنقول : إن قال : بعتك هذه الفرس على أن يكون كذا ، أو هذه الفرس المتّصفة بكذا بعشرين دينار مثلا ، فالمبادلة وقعت بين هذه العين وكذا مقدار من الدينار ، واشتراط كون هذه العين كذا ، أو اتّصافها بكذا لا يخرجها عمّا

ص: 304

هي عليه. نعم هو - أي المشروط عليه - التزم بأمر ، وهو كون العين كذا ، سواء كان بنحو الشرط أو بنحو التوصيف ، والمشروط له قبل هذه المبادلة.

ولكن تعهّده بالوقوف عند هذه المبادلة في صورة وجود هذا الشرط وهذه الصفة ، وإلاّ فنفس المبادلة بين العين والبدل الآخر وقعت وليس فيها قيد أو شرط ، وذلك لما قلنا أنّ العين الخارجيّة لا تتعدّد ولا تتغيّر عمّا هي عليه بواسطة هذا الاشتراط أو هذا التوصيف.

نعم لو كان مورد الشرط أو القيد هو الكلّي ، لكان المقيّد بقيد أو المشروط بشرط - الذي هو أيضا بمنزلة التقييد بل هو هو - غير ذلك الكلّي الفاقد لذلك القيد أو لذلك الشرط. وأمّا في العين الخارجيّة لا يتطرّق هذا الاحتمال.

فأصل المبادلة بين العين والبدل الآخر وقعت مع قبول الطرف الآخر ، وهذا كما في باب خيار العيب أيضا يكون الأمر كذلك ، فإنّ المشتري مثلا اشترى هذه العين الشخصيّة ، ولكن يكون التزامه بالوقوف عند هذه المعاملة والوفاء بها في ما إذا لم يكن فيه عيب ، بل كان صحيحا وسالما ، ولا يكون خارجا عن مقتضى الخلقة الأصليّة بزيادة أو نقيصة عنه ، فإذا لم يكن كذلك فلا التزام له بالوقوف عندها والوفاء بها مع وقوع أصل المبادلة وحصول الرضا المعاملي بها ، فيكون مخيّرا بين الفسخ والالتزام بها.

وأمّا إذا كان ذات المقيد بقيد أو المشروط بشرط - الذي هو أحد العوضين - كلّيا ، فيجبر على إعطاء واجد القيد أو الواجد للشرط ، وإن كان متعذّر الوجود تكون المعاملة باطلة ، لعدم قدرته على التسليم.

فالفرق كثير بين أن يكون المبيع المقيّد بقيد أو المشروط بشرط كلّيا ، أو عينا شخصيّة ، فإنّه إن كان كلّيا وكان مقيّدا أو كان مشروطا ، فالمبيع في صورة وجود القيد والشرط وصورة عدم وجودهما مختلف ، فإذا تعذّر - أي القيد والشرط - فليس قادرا

ص: 305

على تسليم المبيع ، فيبطل البيع.

بخلاف ما إذا كان شخصا خارجيّا ، فإنّه ليس قابلا للتعدّد بواسطة وجود القيد والشرط وعدم وجودهما ، ففي صورة كون المبيع شخصا خارجيّا لا يمكن أن يقال : إنّ هذا الموجود الذي هو فاقد الوصف المذكور في العقد ، أو هو فاقد الشرط كذلك غير ما هو وقع العقد عليه.

وأمّا في صورة كون المبيع كلّيا وقيّد بقيد ، أو اشترط بشرط ، ففي صورة عدمهما يصحّ أن يقال : إنّ هذا الفاقد لم يقع عليه العقد ، فما قصد لم يقع مع أنّ العقود تابعة للقصود ، بل يمكن أن يقال : إنّ ما وقع - أي الفاقد القيد - غير مقصود.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة فيما إذا كان المبيع شخصا في صورة وجود هذين الأمرين ، أي الشرط والقيد ، فالتزامه بالوفاء معلّق ، لا المبادلة كي يكون من قبيل تعليق المنشأ فيكون باطلا إجماعا ، وإن كان ممكنا عقلا.

فالتحقيق : هو الفرق في باب تخلّف الوصف وتعذّره بين أن يكون الموصوف شخصا أو كليّا ، ففي الأوّل لا يوجب البطلان بل يوجب الخيار فقط ، وفي الثاني يوجب البطلان حسب القواعد الأوليّة.

هذا الذي ذكرنا كان بالنسبة إلى صحّة المعاملة وثبوت الخيار.

وأمّا الأرش بمعنى تدارك نقصان المبيع - كما قالوا به في باب خيار العيب من كون المشتري مخيّرا في بعض الصور بين الردّ وأخذ الأرش ، وفي بعضها الآخر يتعيّن أخذ الأرش وعدم جواز الردّ. والتفصيل مذكور في محلّه - فحيث أنّه على خلاف القاعدة ، وثبوته هناك بواسطة الأخبار الواردة في ذلك الباب ، فلا يمكن التعدّي إلى هاهنا ، والقول به في المقام لقصور تلك الأدلّة عن شمولها لمحلّ الكلام.

وبعبارة أخرى : القول بثبوت الأرش في مورد كون المبيع معيبا ليس من جهة أنّ مقدارا من الثمن يكون مقابلا لوصف الصحّة ، أو مقابل ذلك العضو الذي فقد فيه ، فلا

ص: 306

يفسخ المعاملة ، ولكن يستردّ من الثمن ذلك المقدار الذي ليس بإزائه شي ء ، أو يغرمه بقيمة ذلك الوصف المفقود ، أو بمثله ، لكونه في ذمّته ، بل تمام الثمن وقع في هذا العقد مقابل هذه العين الموجودة بما لها من النقص ، غاية الأمر حيث أنّ البائع التزم أن تكون على صفة كذا ، أو بشرط كذا ، فالتزام المشتري وتعهّده بالوفاء بهذه المعاملة يكون في ظرف وجود تلك الصفة ، أو ذلك الشرط وإلاّ فبدون وجودهما ليس ملزم شرعي يلزمه بالوقوف والثبوت عندها ، فهو مخيّر بين أن يفي بها ، وبين حلّ هذا العقد ، فلا موضوع للأرش ، لأنّ المبادلة وقعت بين هذا الموجود بما فيه من الوصف أو الشرط المفقودين.

إن قلت : إنّ هذا الذي ذكرتم ربما يكون صحيحا في الوصف المفقود في المعاملة على العين الشخصيّة ، أو الشرط الذي يكون بنحو شرط النتيجة ، أي ما يكون في حكم الوصف المفقود. وأمّا لو كان الشرط من قبيل شرط الفعل الذي له ماليّة عند العرف ، فليس الأمر كذلك ، بل في نظر العرف والعقلاء يقع مقدار من الثمن المسمّى في العقد بإزاء ذلك العمل الذي صار متعلّقا للشرط.

قلنا : إنّ الشرط وإن كان من قبيل شرط الفعل الذي يكون له عند العرف ماليّة ، كخياطة الثوب الكذائي مثلا ، ولكن مع ذلك كلّه في المعاملة الشخصيّة التي تقع المعاملة بين الثمن مثلا مع العين الخارجيّة الموجودة ، يكون طرف المبادلة نفس تلك العين الخارجيّة ، فإذا قال مثلا : بعتك هذا الفرس الموجود على أن يكون كذا ، أو بشرط أن يكون كذا ، أو بشرط أن أعمل كذا ، أو تعمل لي كذا ، ففي جميع هذه الصور الطرفان - أي : البائع والمشتري - يتعهّدان بوقوع المبادلة بين تلك العين الخارجيّة وتمام الثمن ، ولا يقع شي ء من الثمن بإزاء الوصف والشرط بكلا قسميه - أي : سواء أكان شرط الفعل ، أو شرط النتيجة - غاية الأمر أنّ المشروط عليه يلتزم في ضمن تلك المعاملة وذلك التعهّد بأمر آخر ، أو بأن يعمل له عملا ، فأصل المعاملة والمبادلة بين المالين ليس مربوطا ومعلّقا على أمر ، وإلاّ كان من تعليق المنشأ ، وهو باطل

ص: 307

إجماعا إلاّ في موارد معيّنة ورد الدليل عليه.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة والثبوت والوقوف عندها مربوط بوجود هذا الوصف ، أو هذا الشرط ، أو العمل على طبق هذا الشرط ، فإذا لم يوجد ذلك الشرط وذلك الوصف فلا ملزم في البين.

وأمّا حديث أنّ مقدارا من الثمن وان لم يقع مقابل الشرط في عالم الإنشاء ، ولكن لا شبهة في وقوعه مقابله في عالم اللبّ ، فممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، لأنّ الأغراض والدواعي لا اعتبار بها في أبواب المعاملات ، بل المناط كلّ المناط في تلك الأبواب هو وقوع العقد والإنشاء على أي شي ء ، وأمّا الأغراض والإرادات النفسانيّة فلا أثر لها ما لم تقع تحت الإنشاء.

الرابع : لو تعذّر الشرط بعد خروج العين عن تحت سلطنة المشروط عليه ببيع ،

أو هبة ، أو غير ذلك من التصرّفات الناقلة ، أو بتلف ، أو إتلاف وأمثال ذلك ، فهل للمشروط له فسخ المعاملة واسترجاع العين إن كانت باقية ، والرجوع إلى المثل أو القيمة - كلّ واحد منهما في مورده إن كانت تالفة - أو الرجوع إلى المثل أو القيمة مطلقا؟ وجوه واحتمالات ، بل أقوال. وهناك احتمال آخر وهو بطلان ذلك التصرّف الناقل.

أقول : التحقيق في المقام أنّ التصرّف الناقل من قبل المشروط عليه تارة يكون منافيا لنفس الاشتراط ، مثل أن يكون الشرط مثلا وقف الدار فباعها ، أو بيعها من زيد فباعها من عمرو. وأخرى ليس كذلك ، بل كان الشرط أجنبيّا عن التصرّف الناقل.

فالأوّل : إن قلنا بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له بالنسبة إلى تلك العين التي وقعت عليها المعاملة - من قبيل حقّ الرهانة ، ومنذور الصدقة ، وحقّ الفقراء بالنسبة إلى المال الذي تعلّق به الزكاة ، وحقّ الإمام علیه السلام أو الساداة بالنسبة إلى

ص: 308

المال الذي تعلّق به الخمس ، وحقّ الديّان بالنسبة إلى تركة الميّت في الدين المستوعب ، وأمثال ذلك - فيكون موجبا لقصر سلطنة المالك وعدم قدرته تشريعا على التصرّف الناقل ، فيكون نقله باطلا ، وللمشروط له استرجاع العين ممّن انتقل إليه وإلزام المشروط عليه بالوفاء بالشرط.

وأمّا إن قلنا بأنّ الشرط لا يوجب إلاّ وجوبا تكليفيّا بالوفاء بالشرط والعمل على طبقه ، فالمعاملة وإن كانت منهيّة بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة ، ولكن النهي في باب المعاملات مطلقا لا يوجب الفساد ، بل يوجبه فيما إذا كان متعلّقا بالمسبّب لا السبب ، وبعبارة أخرى : بالمعنى الاسم المصدري لا المصدري.

وفيما نحن فيه وإن كان النهي على تقدير وجوده متعلّقا بالمعنى الاسم المصدري ، ولكن الشأن في وجوده ، لأنّ التصرّف الناقل في المفروض ضدّ للوفاء بالشرط ، وليس نقيضه ، وقد تحقّق في الأصول عدم اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضده ، فلا نهي كي يقال بأنّه متعلّق بالسبب أو المسبّب ، فبناء على هذا لو لم نقل بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له ، فلا مانع من صحّة تصرّفاته الناقلة. هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات ، فالظاهر من قوله صلی اللّه علیه و آله : « المؤمنون عند شروطهم » أو قوله علیه السلام : « كلّ شرط جائز إلاّ ما خالف الكتاب » هو ثبوت حقّ للمشروط له ، فتكون تصرّفات المشروط عليه باطلة ، ولا يحتاج إلى فسخ المشروط له.

هذا كلّه فيما إذا كان تصرّف المشروط عليه منافيا لنفس الاشتراط ، أي كان خلاف ما اشترط عليه.

وأمّا الثاني ، أي التصرّفات التي لا تكون منافية لما اشترط عليه ، بل تكون أجنبيّة عن الشرط ، كما إذا باع داره مثلا واشترط على المشتري أن يخيط ثوبه مثلا ، أو عملا آخر ، فلو تعذّر الشرط في هذه الصورة بعد ذلك التصرّف الناقل ، فلا وجه

ص: 309

للقول ببطلان ذلك التصرّف ، لأنّ الدار مثلا في المفروض صارت ملكا طلقا للمشتري ، وإن قلنا بأنّ الشرط يوجب ثبوت حقّ مالكي للمشروط له على المشروط عليه ، لأنّ بطلان بيعه ليس من آثار ثبوت ذلك الحقّ ، بل غاية ما يمكن أن يقال أنّ أثر ذلك الحقّ تغريم المشروط عليه بقيمة ما شرط وماليّته ، وأمّا منعه عن بيع ماله ، أو أيّ تصرف مشروع آخر فلا وجه له أصلا.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل للمشروط له فسخ المعالة بعد تعذّر ذلك الشرط ، أم لا؟ لعدم بقاء موضوع للفسخ ، لأنّ انتقاله إلى الغير بمنزلة تلفه ، فلا يمكن استرجاعه.

والتحقيق : أنّ له الفسخ ، لم ذكرنا أنّ التزامه بالوفاء بهذه المعاملة ، والثبوت عنده ، وعدم نقضه لها كان مشروطا بوجود ذلك الشرط ، فإذا تعذّر وجوده بأيّ سبب كان فليس له التزام ، فلا يجب الوفاء عليه وله حلّ تلك المعاملة.

وأمّا حديث عدم بقاء موضوع الفسخ فممّا لا أساس له ، حتّى في مورد التلف الحقيقي لما انتقل إلى المشروط عليه ، فضلا عن انتقاله بناقل شرعي إلى غيره ، وذلك لأنّ الفسخ ليس معناه استرجاع العين كما توهّم ، بل معناه حلّ تلك المعاهدة التي وقعت بينهما ، ورفع التزامه. ونتيجة ذلك هو أنّه بعد حلّ المعاهدة وفسخ العقد ، فإن كانت العين باقية في يد المشروط عليه يسترجعها ، وإن كانت تالفة فيرجع إلى مثلها أو قيمتها ، كلّ واحد منها في مورده ، أي المثل في المثلي ، والقيمة في القيمي.

وإن كانت نقلت إلى غيره بالتصرّف الناقل ، فيحتمل بطلان العقود المترتّبة على هذه المعاملة التي فسخها بواسطة تعذّر شرطها ، ويحتمل الرجوع إلى المثل أو القيمة كما في مورد التلف الحقيقي على القولين في المسألة.

وأمّا التفصيل بين العتق وسائر التصرّفات الناقلة - بالرجوع إلى القيمة في العتق ، والبطلان في سائر التصرفات الناقلة - فلا وجه له ، وإن نسب هذا التفصيل إلى

ص: 310

العلاّمة (1) والشهيد الثاني قدس سرهما وذلك لأنّ بطلان العقود المترتّبة من جهة كشف الفسخ عن عدم ورود العتق في مورده ، فإنّ مورده الملك المستقرّ لا الملك المتزلزل.

وأمّا قضيّة بناء العتق على التغليب ، فالمراد منها أنّ العبد لو انعتق شقص منه يسرى إلى البقيّة ، وأين هذا من صدوره عمّن هو ليس أهلا لذلك التزلزل ملكه ، وعدم استقرار مالكيّته ، وكونها في معرض الزوال؟! فإن قلنا بعدم بقاء العقود المترتّبة بعد فسخ المعاملة التي تكون هذه العقود مترتّبة عليها ، فلا فرق بين العتق وسائر العقود.

الخامس : هل للمشروط له إسقاط شرطه ، أم لا؟

أقول : إن كان الشرط من قبيل شرط النتيجة ، وكان الشرط كافيا في تحقّقها وحصولها ، ولم تكن وجودها محتاجا إلى وجود سبب خاصّ - كما رجّحنا ذلك في باب اشتراط كون الشي ء الفلاني ملكا للبائع مثلا أو لغيره - ففي هذه الصورة يحصل الشرط بنفس الاشتراط في ضمن المعاملة بعد تحقّق تلك المعاملة ، فالإسقاط لا معنى له ، لأنّ ما صار ملكا لشخص لا يخرج عن ملكه بإسقاطه ، أو بإسقاط شخص آخر.

وكذا لو كانت النتيجة المشروطة انعتاق عبد المشروط عليه ، وقلنا بأنّ العتق يحصل بنفس الاشتراط ولا يحتاج إلى سبب خاصّ ، فبعد وجود المعاملة التي وقع في ضمنها هذا الشرط يتحقّق الانعتاق ، ولا يبقى مجال لإسقاط الشرط ، كما هو واضح.

ولا فرق فيما قلنا - من عدم تأثير الإسقاط وعدم قابليّته له - بين أن يكون المشروط بطور شرط النتيجة ملكيّة مال شخصي أو مال كلّي في ذمّة المشروط عليه ، لما ذكرنا أنّ الشرط يحصل بعد وجود المعاملة التي وقع هذا الشرط في ضمنها ، فيشغل ذمّة المشروط عليه بذلك المال الكلّي بمحض وجود العقد ، فلا يبقى مجال لإسقاط الشرط.

ص: 311


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 492.

نعم له إبراء ذمّة المشروط عليه عمّا اشتغلت ذمّته به ، وهذا غير إسقاط الشرط.

والحاصل : أنّ الذي قابل للإسقاط هو الحقّ ، وأمّا المال فليس قابلا للإسقاط سواء أكان شخصيّا أو كلّيا بعم المال الكلّي قابل للإبراء.

هذا كلّه في شرط النتيجة ، وأمّا شرط الفعل فبناء على ما اخترنا من أنّه يوجب ثبوت حقّ على المشروط عليه للمشروط له ، فله إسقاط ذلك الحقّ ، لأنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط ، وهذه خاصّة شاملة للحقّ ، حتّى أنّ به عرّف الحقّ ، وجعلوا ذلك هو الفرق بين الحق والحكم.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الشرط - أي شرط الفعل والعمل - ممّا له ماليّة عند العرف كخياطة ثوبة أو بناء داره ، وبين أن لا يكون له ذلك ، كما إذا شرط عليه عتق عبده أو غير ذلك.

نعم في خصوص شرط عتق عبده وقع الخلاف في أنّه هل له إسقاط هذا الشرط ، أم لا؟

فقال جماعة كالعلاّمة (1) والشهيدين وفخر الدين (2) 0 بعدم كون إسقاط هذا الشرط له ، وربما علّل عدم سقوطه بإسقاطه بأنّه اجتمع فيه حقوق ثلاثة : حقّ المشروط له ، وحقّ اللّه ، وحقّ للعبد ، فهو وإن كان قابلا للإسقاط من ناحية حقّ المشروط له ، ولكن ليس قابلا للإسقاط من ناحية الحقّين الآخرين ، لأنّ أمرهما ليس بيد المشروط له ، لأنّه أجنبي منهما.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا كلام عجيب ، من جهة أنّه أيّ حق للعبد ، ومن أين جاء له ذلك؟ نعم العبد ينتفع من وفاء المشروط عليه بهذا الشرط ، وهذا غير كونه صاحب حقّ على البائع أو المشتري.

ص: 312


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 492.
2- « إيضاح الفوائد » ج 1 ، ص 514.

ثمَّ على تقدير حدوث حقّ له بهذا الشرط ليس أمرا مستقلاّ ، بل تابع لحقّ المشروط له وجودا وعدما ، لأنّه من شؤونه ومعلوله ، فلو أسقط المشروط له حقّه فهو ينعدم قهرا وبالتبع.

وأمّا حقّ اللّه المدّعي في المقام ، فليس شي ء في البين إلاّ وجوب الوفاء بهذا الشرط على المشروط عليه ، ومعلوم أنّ وجوب الوفاء تابع لبقاء حقّ المشروط له ، فإذا أسقط لا يبقى موضوع لوجوب الوفاء ، فينعدم أيضا قهرا.

فظهر أنّه لا فرق في شرط الفعل بين أن يكون شرط عتق عبده ، أو غير ذلك من الأفعال والأعمال التي يجوز اشتراطها شرعا ، وأيضا لا فرق بين أن يكون لذلك الفعل والعمل ماليّة أو لا يكون ، ففي جميع ذلك الأمر يدور مدار أنّه هل الشرط يوجب ثبوت حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، أم لا؟ فإن قلنا بثبوته فهو قابل للإسقاط ، وإلاّ فلا.

السادس : في أنّ الثمن هل يقسّط على المبيع ، والشرط في الشرط الواقع في ضمن عقد البيع مثلا ، أم لا؟

والتحقيق - بعد ما عرفت فيما تقدّم أنّ الشرط ليس طرفا للمعاوضة والمبادلة ، ولا يقع شي ء من الثمن في البيع مثلا بإذائه - أنّه على أقسام :

الأوّل : أن يكون خارجا عن حقيقة العوض والمعوّض ، بأن لا يكون من ذاتيّاتهما ، ولا من أوصافهما المتّحد وجودا معهما ، ولا من أجزائها.

وذلك مثل أن يبيع داره بثمن كذا بشرط أن يخيط ثوبه ، أو يعمل له عملا آخر ، فهذا العمل الذي هو الشرط في ضمن عقد البيع ليس من أجزاء تلك الدار ، ولا من أوصافها ، ولا هو عند العرف من قبيل صورتها النوعيّة ، بل صرف التزام من قبل المشتري مثلا بأمر في ضمن تلك المعاوضة ، أي معاوضة الدار بالثمن المذكور ، ففي مثل هذا المورد لم يقع الشرط في مقابل الثمن أصلا ، بل يكون تمام الثمن بإزاء نفس الدار.

ص: 313

والتزام المشتري بأن يعمل له عمل كذا ، التزام آخر في ضمن الالتزام الأوّل وأجنبي عن كلا العوضين ، فلا وجه لأن يكون جزء من الثمن بإذائه.

ومثل شرط العمل اشتراط أن يعطي له عينا متموّلا خارجيّا ، فإنّه في ذلك العقد لم تجعل المبادلة بين ذلك الثمن وتلك العين ، بل جعل المبادلة وأنشأها في المثل المفروض بين نفس الدار والثمن المذكور ، فلا ينبغي أن يشكّ وأن يحتمل وقوع شي ء من الثمن في قبال ذلك الشرط.

الثاني : أن يكون الشرط من أوصاف المبيع مثلا كأن يقول : بعتك هذا العبد الكاتب ، أو هذا العبد بشرط أن يكون كاتبا. وهذا القسم أيضا مثل القسم الأوّل التزام آخر في ضمن الالتزام الأوّل ، والبائع أنشأ المعاوضة والمبادلة بين هذا العبد الشخصي الخارجي والثمن المذكور ، ففي مقام الإنشاء جعل تمام الثمن بدلا وعوضا في مقابل هذا العبد الشخصي.

غاية الأمر أنّه التزم بأن يكون هذا العبد متّصفا بصفة كذا ، ويكون التزامه بالوفاء بتلك المعاملة في ظرف وجود هذا الشرط. فإذا تعذّر ، أو لم يعمل المشروط بما التزم ، فلا يبقى التزام للمشروط له ، فيكون له الخيار.

وأمّا أصل المعاوضة والمبادلة فليست معلّقة ولا مشروطة بأمر ، وإلاّ يكون العقد باطلا ، لمكان التعليق في المنشأ الذي بطلانه إجماعيّ ، فعدم تقسيط الثمن على الشرط في هذا القسم أيضا واضح.

الثالث : أن يكون الشرط عنوان المبيع ، أو ما وقع عليه المعاوضة في سائر المعاوضات غير البيع ، ويكون عند العرف من قبيل صورته النوعيّة وإن لم يكن كذلك حقيقة وواقعا. كما إذا قال للمشتري : بعتك هذه الجارية الروميّة ، ولم تكن كذلك ، بل كانت حبشيّة ، فعند العرف الجارية الحبشيّة مخالفة في النوع مع الروميّة ، ويكون من قبيل الجوز واللوز وإن كانت بحسب الواقع متّحدة معها في النوع ، لأنّ كلتيهما من نوع

ص: 314

واحد وهو الإنسان ، ولكن في أبواب المعاملات المناط هو النظر العرفي لا الدقّة العقليّة ، لأنّ عليه مدار معاملاتهم.

وتخلّف الشرط في هذا القسم موجب لبطلان المعاملة ، لأنّ المعاوضة وقعت بين الثمن والمعوض الذي له تلك الصورة النوعيّة ، فإذا سئل المشتري وقيل له ما اشتريت؟ يقول : الجارية الروميّة وينكر كون المبيع هي الجارية الحبشيّة ، والعرف يصدّقونه في هذا القول.

الرابع : أن يكون للشرط جهتان : جهة جزئيّة وذاتيّة للمبيع مثلا أو لمعوّض آخر في سائر المعاوضات ، وجهة وصفيّة عرضيّة. فبالاعتبار الأوّل يقع في مقابل جزء من الثمن أو من سائر الأعواض ، وبالاعتبار الثاني يكون خارجا عن دائرة المعاوضة والمبادلة ، ولذلك وقع الخلاف والنزاع في هذا القسم ، وأنّه هل يقسّط الثمن عليه أم لا.

ومثال هذا القسم : كما إذا باع صبرة على أنّها عشرين صاعا ، فظهرت أقلّ أو أكثر ، أو باع أرضا على أنّها مائة جريب ، فظهر كونها أقلّ أو أكثر.

وفي هذا القسم من الشرط صور أربع كما ذكرها في التذكرة (1) ، لأنّ المبيع والشرط إمّا يكونان متساوي الأجزاء ، أو يكونان مختلفها ، وفي كلّ واحدة من الصورتين إمّا يظهر النقص عمّا شرط ، أو الزيادة عنه ، فهذه أربعة أقسام.

الأوّل : أن يكون المبيع متساوي الأجزاء ، وظهر النقص عمّا شرط كونه كذا مقدار ، مثلا شرط كون الصبرة التي باعها عشرين صاعا ، فظهر أنّها أقلّ من ذلك. فالمشهور قالوا بالتقسيط.

والعمدة في وجهه أنّ كميّة الشي ء وإن كانت من أعراض الشي ء وأوصافه ، إلاّ أنّ المعاوضة في بعض الأشياء تكون باعتبار الكميّة ، كما أنّ الأمر كذلك في أغلب ما

ص: 315


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 494.

يكون من المكيل أو الموزون ، كالحنطة والشعير والأرز والدهن واللحم وأمثالها.

ولذلك ربما تكون المقاولة بين البائع والمشتري قبل البيع بأنّ كلّ صاع من هذه الصبرة بكذا ، فحين البيع يقول : بعتك هذه الصبرة بكذا بشرط أن يكون عشرين صاعا مثلا ، فلا محالة يكون الثمن بنظر المتعاملين والعرف مقابل عشرين صاعا ، أي كلّ صاع من المبيع يقع في مقابل جزء من الثمن.

فلو فرضنا أنّه باع هذه الصبرة الشخصيّة الموجودة بعشرة دراهم على أنّها عشرين صاعا ، فيكون كلّ صاع منها مقابل نصف درهم ، فلو ظهر بعد وقوع العقد أنّها عشرة صيعان ، له أن يسترجع من الثمن المسمّى نصفه ، أي خمسة دراهم ، لما ذكرنا من أنّ العرف والعقلاء يرون الثمن مقابل الكميّة.

وبعبارة أخرى : يكون حال الكميّة في هذا القسم حال الصورة النوعيّة الحقيقيّة أو العرفيّة في القسم الثالث ، من حيث كونها مناط الماليّة ووقوع الثمن بإزائها ، فتكون جزء المبيع ، لا أنّها من أوصافه ، فيدخل في باب تبعّض الصفقة ، لا في باب تخلّف الوصف الذي لا يوجب إلاّ الخيار ، كما تقدّم تفصيله.

وبعبارة أوضح : يكون تبيّن النقص في المبيع المتساوي الأجزاء كظهور كون بعض المبيع ممّا لا يملك وممّا لا يملكه البائع ، غاية الأمر في باب تبعّض الصفقة بعض المبيع في حكم العدم ، من جهة إلقاء ماليّته شرعا بالنسبة إلى ما لا يملك شرعا ، وإن كان عند العرف له ماليّة ، أو من جهة كونه لغير البائع ، فلا يجوز تصرّف البائع فيه ، وفي هذه الصورة معدوم واقعا ، فيكون المشتري مخيّرا بين الفسخ وعدم إمضاء هذه المعاملة أصلا ، لعدم التزامه بالثبوت عند مبادلة هذا الناقص عمّا شرط ، وبين إمضاء هذه المعاملة بالنسبة إلى المقدار الموجود واسترجاع باقي الثمن.

وأمّا ما ربما يقال ، بل قاله جماعة من الأعاظم : إنّ الموجود الخارجي الشخصي - الذي هو المبيع في المفروض - لا يزيد ولا ينقص ، بل يكون على ما هو عليه من

ص: 316

المقدار ولا يتغيّر بالشرط ، وما وقع عليه العقد - أي تلك العين الخارجيّة - لم يتبيّن فيه نقص كي يكون من قبيل تبعّض الصفقة ، فهو وقع الطرف المعاوضة بدون أدنى تغيّر فيه. نعم البائع وصفه بوصف غير موجود فيه ، أعني الكميّة الكذائيّة ، فليس في البين إلاّ تخلّف ذلك الوصف المذكور ، فلا يوجب إلاّ الخيار. وقد تقدّم تفصيل كونه موجبا للخيار ، فلا نعيد.

ففيه : أنّ الموجود الخارجي في المفروض تعنون بالكميّة الكذائيّة ، فعند المتفاهم العرفي وما هو الظاهر عندهم أنّ المبيع في المفروض عبارة عن تلك الكميّة الكذائيّة ، لا أنّ المبيع تلك العين الخارجيّة ، والكميّة الكذائية وصف له كي يكون تبيّن النقيصة من قبيل تخلّف الوصف لا يوجب إلاّ الخيار ، فإذا كان المبيع تلك الكميّة الكذائيّة وبعضها غير موجود ، يكون من باب تبعّض الصفقة ، فيكون الأمر كما ذهب إليه المشهور.

والحاصل : أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل أن يشير إلى الكتاب الموضوع في قدامه ، ويقول : بعتك هذا الكتاب الموجود الذي هو مجلّدين من كتاب الرياض أو الروضة ، ثمَّ تبيّن أنّه مجلّد واحد من أحد ذينك الكتابين ، فهل ترضى من نفسك أن تقول : إنّ المبيع هو هذا الموجود الخارجي الذي لا يتغيّر ، وليس في البين إلاّ تخلف الوصف؟

ويدلّ على ما ذكرنا أيضا خبر عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل باع أرضا على أنّها عشرة أجربة ، فاشترى المشتري ذلك منه بحدوده ونقد الثمن ووقع صفقة البيع وافترقا ، فلمّا مسح الأرض إذا هي خمسة أجربة ، قال علیه السلام : « إن شاء استرجع فضل ماله وأخذ الأرض ، وإن شاء ردّ المبيع وأخذ ماله كلّه ، إلاّ أن يكون له إلى جنب تلك الأرض أيضا أرضون فليؤخذ ويكون البيع لازما عليه ، وعليه الوفاء بتمام البيع. فإن لم يكن له في ذلك المكان غير الذي باع ، فإن شاء المشتري أخذ الأرض

ص: 317

واسترجع فضل ماله ، وإن شاء ردّ الأرض وأخذ المال كلّه » (1).

وتقريب الاستدلال بهذا الخبر هو أنّ بائع الأرض التزم بكون الأرض التي باعها عشرة أجربة ، فتبيّن نقصها وأنّها خمسة أجربة ، فلو كان مثل سائر موارد تخلّف الوصف لكان جوابه علیه السلام أنّ المشتري بعد تبيّن النقص مخيّر بين الفسخ والإمضاء بتمام الثمن ، لا أنّه مخيّر بين الإمضاء واسترجاع فضل ماله ، وبين ردّ الأرض وأخذ ماله كلّه.

فمن جوابه علیه السلام يستكشف تقسيط الثمن على أجزاء المبيع ، أي الكميّة المذكورة في متن العقد وإن كان بصورة الشرط ، وقد تقدّم أنّه لا تأثير في اختلاف العبارة ، ولا فرق بين أن يكون بصورة الشرط أو يكون بصورة الوصف ، بل المناط كلّ المناط هو أن يكون الوصف عنوانا للمبيع عند العرف ومن قبيل صورته النوعيّة ، فيكون تخلّفه مبطلا ، أو يكون الوصف للمبيع فيكون موجبا للخيار فقط ، سواء أكان بصورة الاشتراط أو التوصيف.

وفي الاشتراط أيضا لا فرق بين أن يكون بأمر خارج عن المبيع ، كخياطة ثوب البائع مثلا ، أو يكون من شؤون المبيع وأوصافه ، أو يكون الشرط كميّة المبيع ، فيكون تخلّفه من قبيل تبعّض الصفقة وتكون المعاملة بالنسبة إلى الكميّة الموجودة صحيحة ، غاية الأمر للمشتري خيار تبعّض الصفقة ، ولذلك لو أمضى المعاملة يسترجع فضل ماله ، كما هو مذكور في الرواية.

وأمّا الإشكال على الاستدلال بالرواية بأنّها في مختلف الأجزاء ، فجوابه أنّه على فرض تسليم أنّه من قبيل مختلف الأجزاء تكون دلالتها على المقام بالأولويّة.

الثاني : أن يكون المبيع مختلف الأجزاء وتبيّن النقص عن الكميّة المذكورة في متن العقد. وفي هذا القسم أيضا ذهب الأكثر إلى التقسيط ، لعين ما ذكرنا في القسم الأوّل

ص: 318


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 239 ، ح 3875 ، باب بيع الكلاء والزرع... ، « تهذيب الأحكام » ج 7. ص 153 ، ح 675 ، باب أحكام الأرضين ، ح 24 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 361 ، أبواب الخيار ، باب 14 ، ح 1.

أي المبيع لمتساوي الأجزاء ، ولرواية عمر بن حنظلة التي هي نصّ في المقام.

ولا يأتي هاهنا الإشكال المتقدّم في القسم الأوّل من أنّ ظاهر الرواية كون هذا الحكم في مختلف الأجزاء ، فلا تشمل صورة كون المبيع متساوي الأجزاء.

فيجاب : أنّ شمولها لمتساوي الاجزاء بالفحوى ، وذلك لأنّ هذا القسم الثاني على الفرض هو المبيع المختلف الأجزاء ، فتكون الرواية نصّا فيه.

وأمّا الإشكال في سند الرواية مع عمل الأكثر على طبقها - خصوصا عمل من لا يعمل إلاّ بالقطعيّات كابن إدريس (1) - فلا مجال له.

نعم ذكر فخر الدين ، ابن العلاّمة قدس سرهما ، إشكالا على التقسيط في المقام (2) حاصله : أنّ التقسيط متوقّف على معرفة قيمة الجزء الفائت بالنسبة إلى قيمة مجموع الأجزاء المذكورة في متن العقد ، كي يمكن استرجاع قيمة مقدار الفائت من أجزاء المبيع من الثمن للمجموع ، وهذا المعنى في متساوي الأجزاء يمكن ؛ لأنّه إذا باع الحنطة مثلا على أنّها عشرين صاعا فتبيّن كونها خمسة عشر صاعا ، فالمقدار الفائت ربع المجموع ، وقيمته أيضا ربع قيمة المجموع ، فيسترجع ربع الثمن ، وذلك من جهة أنّ الأجزاء والأبعاض متساوية في القيمة إن كانت متساوية في المقدار.

وأمّا في مختلف الأجزاء فلا يمكن ذلك ، لأنّه إذا كانت قيمة الأجزاء مختلفة ، فلا يمكن تعيين ما يكون قسطا للمقدار الفائت ممّا ذكر في متن العقد من ثمن المسمّى ، لأنّ المفروض اختلاف الأجزاء في القيمة ، فمن الممكن أن يكون المقدار الفائت وإن كان بحسب المقدار ربع المجموع ولكن يحسب القيمة يكون مساويا مع ثلاثة أرباع الموجودة غير الفائتة.

وليس الفائت موجودا كي يقومه المقوّمون ، ولا له مثل كي يقاس به ، فلا طريق

ص: 319


1- « السرائر » ج 1 ، ص 47.
2- « إيضاح الفوائد » ج 1 ، ص 515.

إلى معرفة قسط الفائت من ثمن المسمّى ، بل تحصيله بطور التحقيق بحيث يعلم بأنّه قسطه محال ، لأنّ المفروض أنّ الأجزاء مختلفة بحسب القيمة.

مثلا هذه الأرض التي اشتراها على أنّها عشرة أمتار ، فظهر أنّها خمسة أمتار ، فالخمسة الفائتة يمكن أن تكون أمتارها كلّها من الغاليات ، ويمكن أن تكون كلّها من الرخيصات ، ويمكن أن تكون من المختلفات ، فبعضها يكون من الغاليات ، وبعضها من الرخيصات على اختلاف مراتب الغاليات والرخيصات أيضا ، وحيث أنّها ليست ولم تكن موجودة أصلا فلا يمكن تشخيصها وتعيينها لنا ، بل ليس لها تعيّن في حاقّ الواقع.

نعم لو كانت موجودة في زمان من الأزمنة ، لكان لها تعيّن في الواقع وإن كانت مجهولة عندنا. وعلى كلّ حال فلا يمكن التقسيط ، لعدم الطريق إلى معرفة قسطها من المسمّى ، فلا بدّ أن يفرق بين المبيع المتساوي الأجزاء من حيث القيمة ، وما هو مختلف الأجزاء من هذه الحيثيّة إذا تبيّن نقصان مقدارها عمّا شرط في متن العقد بالتقسيط في الأوّل دون الثاني ، كما ذهب اليه فخر الدين ابن العلامة 0 وجمع آخر.

ولكن يمكن أن يقال بعد الفراغ عن أنّ البيع وقع على عشرة أجربة ، والموجودة خمسة من الأرض ، المختلفة بحسب القيمة أجزاؤها ، كالأرض الواقعة على الشارع بعضها دون البعض الآخر ، ومعلوم أنّ الواقع منها على الجادّة العموميّة يساوي أضعاف ما هو بعيد عن الجادّة.

والفائت لا يمكن أن يحسب الأرض الواقعة على الجادّة ، ولا بحساب ما هو بعيد عن الجادة ، لأنّه لا يعلم أنّه من أيّ واحد من القسمين ، بل ليس من كلّ واحد من القسمين واقعا ، لأنّه لم يوجد كي يكون من أحدهما ، ففي حاقّ الواقع ليس له قسط أحدهما ، فاستحقاقه معلوم بقيمة خمسة جريان مجهول القيمة من جهة الجهل بكونها من أي قسم ، بل القطع بأنّها ليست من كلّ واحد من القسمين أو الأقسام ، لأنّها غير

ص: 320

موجودة.

فطريق وصول ما يستحقّ من جهة قيمة الفائت هو التصالح القهري ، كما قلنا في درهم الودعي ، أو يعمل بقاعدة العدل والإنصاف ، وذلك بتضاعف كلّ جزء من الموجود فيؤخذ نصف قيمة المجموع للفائت.

وذلك من جهة أنّ مشتري الأرض حيث أنّه يشتري بالمشاهدة فهو رأي الخمسة عشرة ، فكأنّه بنى على تضاعف كلّ جزء ممّا شاهده ، واشترى الأرض مبنيّا على هذا.

وحيث أنّه تقدّم أنّ المسألة في هذا القسم من قبيل تبعّض الصفقة ، وتبعّض الصفقة فيما نحن فيه لا يتصوّر إلاّ بهذا الترتيب ، لأنّه ليس بحسب الواقع صفقة مركّبة من جزئين ، أحدهما موجود والآخر فائت ومعدوم ، بل التركّب في الصفقة خيالي لا واقعيّة له ، فلا بدّ وأن يفرض كلّ جزء ضعف ما هو عليه بحسب الواقع كي تحصل الصفقة المركّبة الخياليّة.

ذكر هذا الطريق شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (1) ولا بأس به - وإن لم يحصل بهذه الطريقة قسط الواقعي للفائت من ثمن المسمّى - لأنّه أقرب إلى العدل والإنصاف.

الثالث : تبيّن الزيادة في المبيع المتساوي الأجزاء من حيث القيمة بالنسبة إلى ما شرطا ، أو أحدهما من كميّة المبيع مثلا لو باع الصبرة من الحنطة على أنّها عشرين صاعا ، فتبيّن أنّها ثلاثين صاعا.

فمقتضى ما ذكرنا في طرف النقيصة - أنّ الجملة ظاهرة في أنّ المبيع مجموع الموجود والفائت ، وأنّ الفائت جزء للمبيع ، ولذلك يقسط عليه الثمن ويكون من باب تبعّض الصفقة يسترجع قسط الفائت ، ويكون له الخيار أيضا بالنسبة إلى الموجود -

ص: 321


1- « المكاسب » ص 287.

هو أن تكون الزيادة ملكا للبائع وأن لا يكون خيار في البين.

أما كون الزيادة باقية على ملك البائع ، فلأنّها خارجة عن المبيع ، لأنّ المبيع بناء على ما ذكرنا في القسمين الأوّلين - أي تبيّن النقيصة في متساوي الأجزاء وفي مختلف الأجزاء - يكون عبارة عن نفس الكميّة المذكورة في متن العقد ، والمفروض في هذا القسم الثالث هو تبيّن الزيادة على الكميّة المذكورة في متن العقد ، فتكون تلك الزيادة خارجة عن المبيع وباقية على ملكيّته للبائع.

وأمّا عدم الخيار ، فلعدم تبعّض الصفقة ، لأنّ الصفقة في المفروض عبارة عن الكميّة المذكورة في متن العقد ، وهي موجودة على الفرض. واحتمال أن يكون المبيع هي الكميّة المذكورة بشرط لا عن الزيادة - بحيث يكون عدم الزيادة عن الكميّة المذكورة وصفا للمبيع ، أو شرطا على البائع أو على المشتري ، فيأتي خيار تخلّف الوصف أو تخلّف الشرط - ملغى في نظر العرف والعقلاء ، أي ليس احتمالا عقلائيا ، فلا يعتنى به.

نعم لو كانت قرينة في البين على أنّ الراد من اشتراط كون المبيع كذا مقدار هو أن لا يكون أقلّ من ذلك المقدار ، وإلاّ فهو نقل إلى المشتري تمام ما هو الموجود ، سواء أكان مساويا لما ذكره في متن العقد ، أو كان أكثر ، فيكون المجموع للمشتري ولا خيار ، لأنّه ليس تخلّف الشرط أو الوصف في البين ، فالمسألة واضحة على جميع التقادير.

نعم لو كان مدرك أخذ ما يقابل الفائت من ثمن المسمّى رواية عمر بن حنظلة ، حيث أنّه كان مفادها أنّ البائع لو لم يكن له بجنب تلك الأرض أرض أخرى يتدارك بها المقدار الفائت عمّا شرطه في متن العقد ، يلزم عليه ردّ ما يقابل الفائت من ثمن المسمّى إلى المشتري.

فهذا الدليل لا يأتي في هذا القسم ، أي فيما إذا تبيّن الزيادة عن المقدار الذي شرطه في متن العقد ، لأنّ الرواية واردة في النقيصة لا في الزيادة ، فيكون الحكم في طرف الزيادة على طبق ما تقتضيه القواعد الأوّلية ، وذلك لعدم شمول الرواية لهذا القسم.

ص: 322

ومقتضى القواعد - بناء على هذا ، أي بناء على أن يكون المدرك في القسمين الأوّلين هي الرواية لا القاعدة - هو أنّ المسألة تكون من باب خيار تخلّف الوصف أو الشرط ، فإذا فسخ يرجع تمام الثمن إلى المشتري ، وتمام المثمن إلى البائع ، وإن أمضى فيكون تمام المبيع حتّى الزيادة ملكا للمشتري ، لأنّ تمام الموجود هو المبيع ولم يتخلّف إلاّ الوصف أو الشرط.

الرابع : تبيّن الزيادة في مختلف الأجزاء، مثلا باع أرضا على أنّها خمسة أجربة ، فلمّا مسحها المشتري أو البائع ظهر أنّها عشرة ، فبناء على القاعدة المتقدّمة وهي أنّ المبيع هي الكميّة المذكورة في متن العقد لا الشخص الموجود في الخارج بجميع تعيّناته ، غاية الأمر وصفه البائع بوصف الكميّة الكذائيّة ، أو شرط المشتري كونه كذا مقدار ، فالزيادة تكون ملكا للبائع.

وحيث أنّ الزيادة مشاعة ، فيكون البائع شريكا مع المشتري ، فيأتي خيار الشركة ويترتّب عليها إن لم يفسخ المشتري آثار الشركة.

وأمّا بناء على أن يكون المدرك لاسترجاع ما يقابل الفائت هناك من ثمن المسمّى هي الرواية لا القاعدة ، وإلاّ فالمبيع تمام الموجود فيكون تمام المبيع للمشتري ولا خيار في البين أصلا.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : الشرط الواقع في ضمن جميع العقود اللازمة - على التفصيل الذي تقدّم - يكون من صغريات هذه القاعدة وموارد تطبيقها ، فإذا كان ذلك الشرط صحيحا يجب الوفاء به.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 323

ص: 324

35 - قاعدة التسامح في أدلّة السنن

اشارة

ص: 325

ص: 326

قاعدة التسامح في أدلة السنن (1)

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة « التسامح في أدلّة السنن » (1). وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في شرح مفهوم هذه القاعدة والمراد منها

فنقول : المراد منها أنّه لو كان هناك خبر ضعيف - لا يكون موثوق الصدور لاختلال في سنده ، وعدم جابر من عمل المشهور به كي يوجب الوثوق بصدوره - فلا يكون مشمولا لدليل حجّية الخبر الواحد.

كما حقّقنا في الأصول من أنّ موضوع الحجيّة هو الخبر الذي يثق الإنسان بصدوره ، سواء حصل الوثوق من صحّة السند وكون الراوي عدلا أو ثقة ، أو حصل من عمل المشهور به ، أو كان مضمونه مطابقا لفتوى المشهور من قدماء الأصحاب.

فإذا لم يكن الخبر كذلك ، فلا يكون مشمولا لدليل الحجّية ، فهل مثل هذا الخبر

ص: 327


1- (*) « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص 164. « عوائد الأيام » ص 269 ، « عناوين الأصول » عنوان 15 ، « الرسائل الفقهية » ص 137 ، « اصطلاحات الأصول » ص 183 ، « القواعد » ص 83 ، « التسامح في أدلة السنن » سيد محمد مهدي آل حكيم ، أكبر آباد هند ، 1307 ق ، « بحث در قاعدة تسامح » سيد على محمد المدرّس الأصفهاني ، مجلّة « كانون وكلاء » العام 8 ، العدد 47 ، « تسامح در أدلة سنن ، بحثي در اخبار من بلغ » سيد أبو الفضل مير محمدي ، نشرة « مقالات وبررسيها » العدد 47 - 48 ، ص 1 - 17 ، والعدد 49 - 50 ، ص 1 - 18.

يثبت به الاستحباب وإن لم يثبت به الوجوب لو كان مضمونه ومفاده وجوب شي ء؟

وذلك لأجل التسامح في دليل الاستحباب ، فلو أثبتنا أنّه يمكن إثبات الاستحباب بمثل ذلك الخبر الذي ليس مشمولا لدليل الحجّية ، فهذا معناه هو التسامح في أدلّة السنن.

وخلاصة الكلام : أنّ الخبر الضعيف قد يكون مفاده الوجوب ، وقد يكون مفاده الاستحباب ، وفي كلتا الصورتين - بعد الفراغ عن أنّ الوجوب لا يثبت به - صار محلاّ للكلام في أنّ الاستحباب هل يثبت به ، أم لا؟ والقول بثبوته به هو التسامح في أدلّة السنن.

ولا شكّ في أنّ غير الحجّة لا يثبت به شي ء ، وفي هذه الجهة لا فرق بين الوجوب والاستحباب ، وثبوت كلّ واحد منهما يحتاج إلى دليل وحجة معتبرة.

ولكن الدعوى أنّ في باب الاستحباب هل ورد دليل معتبر على التسامح في دليله ، وأنّه يثبت ولو كان هناك خبر ضعيف مفاده الاستحباب بل وإن كان مفاده الوجوب ، أم لا؟

الجهة الثانية : في مدركها

وهو الأخبار الكثيرة المعتبرة الواردة في هذا المقام المعروفة بعنوان « أخبار من بلغ » فلنذكر جملة منها :

الأوّل : صحيحة هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من بلغه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله شي ء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (1).

ص: 328


1- « المحاسن » ص 25 ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 60 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 18 ، ح 3.

الثاني : المروي عن صفوان ، عن الصادق علیه السلام قال : « من بلغه شي ء من الثواب على شي ء من الخير فعمل به ، كان له أجر ذلك ، وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (1).

الثالث : خبر محمد بن مروان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من بلغه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله شي ء من الثواب ، ففعل ذلك طلب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان له ذلك الثواب ، وإن كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (2).

الرابع : خبره الآخر ، قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل ، ففعله التماس ذلك الثواب ، أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » (3).إلى غير ذلك من الأخبار.

فنقول : أمّا الاحتمالات التي ذكروها في مفاد هذه الأخبار - أو يمكن أن يحتمل - فكثيرة.

منها : أن يكون مفادها حجّية خبر الضعيف الذي قام على وجوب شي ء ، أو استحبابه ، بالنسبة إلى استحبابه ، فيكون حجّة على استحباب ذلك الشي ء ولو كان ظاهرا في وجوبه.

والمراد من الخبر الضعيف هو الخبر الذي ليس مشمولا لدليل الحجّية في حدّ نفسه لو لا هذه الأخبار ، وهذا الاحتمال هو الظاهر من قولهم بتسامح أدلّة السنن ، وبيان دلالة هذه الأخبار على هذا الاحتمال هو دلالتها على ترتّب الثواب على العمل الذي بلغه أنّ فيه الثواب.

ولا شكّ أنّ ترتّب الثواب على عمل دليل على استحبابه ، والمثبت لهذا

ص: 329


1- « ثواب الأعمال » ص 160 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 59 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 18 ، ح 1.
2- « المحاسن » ص 25 ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 60 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 18 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 2 ، ص 71 ، باب من : بلغه ثواب من اللّه على عمل ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 60 ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب 18 ، ح 7.

الاستحباب هو عنوان البلوغ ، سواء أكان بالخبر الموثّق أو الضعيف ، فيكون خبر الضعيف حجّة على الاستحباب كالخبر الصحيح والموثق.

والإنصاف أنّ خبر الصفوان عن الصادق علیه السلام وصحيحة هشام بن سالم لهما لظهور في هذا المعنى ، حيث رتّب فيهما الأجر على نفس العمل عقيب البلوغ ، وبناء على هذا تكون المسألة أصوليّة ، لأنّ نتيجتها وهي حجّية الخبر الضعيف تقع كبرى في قياس الاستنباط.

ولكن هذا لا يثبت حجّية الخبر الضعيف الذي مفاده الوجوب أو الاستحباب بالنسبة إلى ثبوت الاستحباب به كما ادعاه المدّعي ، بل الدليل على استحباب هذا الفعل الذي بلغه الثواب على عمله هو نفس أخبار من بلغ ، وذلك من جهة أنّ استكشاف الاستحباب بناء على هذا الاحتمال من طريق الإن ، لأنّ كون الأجر والثواب له على عمل معلول استحباب ذلك العمل.

وحيث أنّ استكشاف الاستحباب - بناء على هذا الاحتمال - من ناحية كون الأجر والثواب للعامل الذي بلغه ذلك ، فالدليل على كون الأجر والثواب له هو الدليل على الاستحباب ، لأنّ الدليل على وجود المعلول والأثر دليل على وجود العلّة والمؤثّر.

ولا شكّ في أنّ الدليل على استحقاق الأجر والثواب هو أخبار من بلغ ، فإثبات الاستحباب يكون بأخبار من بلغ ، لا بذلك الخبر الضعيف.

نعم الخبر الضعيف يوجب تحقّق موضوع ما هو حجّة ودليل على استحباب ذلك العمل ، أي يوجب تحقّق موضوع أخبار من بلغ.

فالقول بأنّ أخبار من بلغ يوجب حجّية الخبر الضعيف - الدالّ على استحباب عمل أو وجوبه - لا يخلو عن مسامحة ، بل ليس بصحيح.

وأمّا حجّية نفس أخبار من بلغ فلا احتياج لها إلى البيان ، فإنّها أخبار صحيحة

ص: 330

معتبرة ، بل ربما ادّعي القطع بصدور بعضها بطور الإجمال ، ومرجع هذا الادّعاء إلى تواترها إجمالا.

ومنها : أنّ مفادها أنّ الانقياد في ترتّب الثواب مثل الإطاعة ، غاية الأمر ثواب الإطاعة بالاستحقاق ، وثواب الانقياد بالتفضّل ، بمعنى أنّه ولو لم يأت بما هو واجب أو مستحبّ ، ولكنّه بعد ما عمله عقيب قيام الحجّة التماس ذلك الثواب ، فاللّه تبارك وتعالى يتفضّل عليه بإعطاء الأجر ولو أخطأت الحجّة. وبعبارة أخرى : لا يذهب عمله وتعبه عند خطأ الحجّة سدى.

ولعلّ هذا ظاهر خبر محمّد بن مروان عن أبي جعفر علیه السلام . وبناء على هذا لا ربط لهذه الأخبار بما قالوا من التسامح في أدلّة السنن ، ولا بد لهم من التماس دليل آخر.

ولكن هذا الاحتمال - أي كون الثواب على الانقياد ، والعمل على طبق الحجّة وإن أخطأت - لا مورد له هاهنا ، لأنّ الخبر الضعيف ليس بحجّة على الفرض. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ موضوع الانقياد هو احتمال الوجوب أو الاستحباب وإن لم تقم حجّة عليهما.

والخبر الضعيف الدالّ على وجوب شي ء أو استحبابه موجب لوجود احتمالهما ، ولكن على فرض صدق الانقياد على إتيان محتمل الوجوب أو محتمل الاستحباب لا ربط له بأخبار من بلغ ، لأنّ حسن الانقياد مثل الإطاعة عقليّ ، سواء أكانت أخبار من بلغ أو لم تكن ، وكذلك لا ربط له بالتسامح في أدلّة السنن كما هو واضح ، بل هو حكم عقليّ إرشادي.

وأمّا دلالة هذه الأخبار على أنّه يعطي له الأجر على عمله ، فليس من جهة انقياده ، بل الصحيح أنّه من جهة استحباب العمل الذي تعنون بعنوان أنّه عليه الثواب ، ولا شكّ في اختلاف الأحكام باختلاف العناوين.

مضافا إلى ما ذكرنا أنّه لا انقياد هاهنا ، لأنّه مقابل التجرّي ، فكما أنّ التجرّي عبارة عن مخالفة الحجّة غير المصادفة للواقع ، كذلك الانقياد عبارة عن موافقة الحجّة

ص: 331

غير المصادفة للواقع.

والمفروض هاهنا أنّه ليس حجّة في البين ، لأنّ الخبر الضعيف ليس بحجّة على الفرض ، وليس مشمولا لأدلّة حجّية الخبر الواحد الموثوق الصدور ، فليس مفاد هذه الأخبار إلاّ إعطاء الأجر والثواب على نفس العمل الذي بلغه الثواب على ذلك العمل.

ومنها : أنّ مفادها هو الإرشاد إلى ما حكم به العقل من حسن الاحتياط والترغيب فيه بإتيان محتمل المطلوبيّة ، سواء أكان محتمل الوجوب أو محتمل الاستحباب ، بأنّ في الاحتياط وإتيان محتمل المطلوبيّة مطلقا ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق أجر وثواب إذا أتاه بهذا الداعي.

وبناء على هذا لا تدلّ هذه الأخبار لا على استحباب العمل الذي يأتي به مطلقا - سواء أكان بداعي التماس الثواب وطلب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو لم يكن - ولا على حجّية الخبر الضعيف على الاستحباب.

ويمكن أنّ يستظهر هذا الاحتمال من خبري محمّد بن مروان ، حيث قيّد العمل في أحدهما بطلب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وفي الآخر بالتماس ذلك الثواب.

والذي يبعد هذا الاحتمال أنّ الإرشاد إلى الاحتياط بتوسّط عنوان يكون بينه وبين عنوان الاحتياط عموم من وجه - وهو عنوان « من بلغ » - في غاية البعد ، بل الاستهجاب.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بناء على هذا الاحتمال - أي كون مفاد هذه الأخبار هو الإرشاد إلى حسن الاحتياط بإتيان محتمل المطلوبية ، والترغيب فيه بأنّ فيه الأجر والثواب ، سواء أكان في الواقع مطلوب أو لم يكن - يكون جعل البلوغ موضوعا لهذا الحكم ، أي : إعطاؤه الأجر والثواب ، من جهة أنّ البلوغ محقّق لموضوع الاحتياط الذي هو عبارة عن احتمال كون ذلك العمل مطلوبا وجوبا أو استحبابا ، لأنّه لو لم يكن هذا الخبر الضعيف لم يحتمل الوجوب أو الاستحباب.

ص: 332

فبناء على هذا يكون عنوان البلوغ ملازم عادة مع احتمال المطلوبيّة ، وإن كان بالدقّة بينهما عموم وخصوص من وجه.

ثمَّ إنّ الظاهر من مفاد مجموع هذه الأخبار هو الاحتمال الأوّل ، أي كون العمل الذي أتى به بداعي التماس الثواب مستحبّا.

غاية الأمر إنّما الكلام في معروض هذا الاستحباب هل هو ذات العمل ، أو العمل المعنون بعنوان البالغ عليه الثواب؟ بحيث يكون من قبيل العنوان الثانوي للعمل ، كعنوان الإكراه والاضطرار ، فيكون ذات العمل وحدها غير محكوم بالاستحباب ، بل كان مباحا في حدّ نفسه ، ولكن بواسطة طروّ هذا العنوان وجدت فيه مصلحة صارت سببا لاستحبابه معنونا بهذا العنوان ، بمعنى أنّه واسطة في العروض ، لا أنّه واسطة في الثبوت فقط.

فالدليل على ثبوت الاستحباب - لهذا العمل المعنون بهذا العنوان - هو أخبار من بلغ ، لا الخبر الضعيف. وأخبار من بلغ في غاية القوّة والصحّة ، بل ربما ادّعي قطعيّة صدورها. نعم الخبر الضعيف يوجب تعنون العمل بهذا العنوان ، وبعبارة أخرى : يوجب تحقّق موضوع الحجّة.

فبناء على هذا قول المشهور بالتسامح في أدلّة السنن لا ينطبق على هذا ، وليس كما ينبغي إن كان مرادهم هذا المعنى.

نعم لو قلنا أنّ مفاد هذه الأخبار حجّية خبر الضعيف لإثبات الاستحباب ، وبعبارة أخرى : أنّ شرائط الحجّية في باب الخبر الدالّ على الاستحباب ليست عين الشرائط التي أخذت في باب الأحكام الإلزاميّة ، من لزوم كون الراوي عدلا أو ثقة ، ولم يعرض الأصحاب عن العمل به ، إلى غير ذلك من القيود والشرائط.

بل لو دلّ خبر ضعيف على استحباب عمل ، يكون حجّة ومثبتا لذلك الاستحباب. وعلى هذا ينطبق ما ذكروه من التسامح في أدلّة السنن ، ولكن عرفت أنّ

ص: 333

مفاد هذه الأخبار غير هذا المعنى.

ثمَّ إنّه بناء على دلالة هذه الأخبار على حجّية الخبر الضعيف في باب السنن ، فللفقيه أن يفتي باستحباب العمل الذي دلّ خبر ضعيف على استحبابه ، فيكون حاله حال سائر الأحكام الشرعيّة التي قامت حجّة معتبرة على ثبوتها ، فيكون مستحبّا في حقّه وفي حقّ مقلّديه.

ولكن عرفت أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على حجّية الخبر الضعيف بالنسبة إلى ثبوت الاستحباب ، كي تكون شرائط حجّية الخبر في إثبات الواجبات غير شرائط حجّيته في باب المستحبّاب.

نعم للفقيه أن يفتي باستحباب ما قام على استحبابه أو وجوبه خبر ضعيف ، فيما إذا تعنون بعنوان البلوغ لا بعنوانه الأوّلي ، ولا من جهة أنّ الخبر الضعيف حجّة - كما توهّم - بل من جهة دلالة حجّة معتبرة وهي أخبار من بلغ على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، كما استظهرنا هذا المعنى منها.

وأمّا إذا احتمل الاستحباب أو ظنّ به من فتوى فقيه ، بل من شهرة أو إجماع منقول ، أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّة شرعا ، فليس له أن يفتي بالاستحباب من ناحية أخبار من بلغ ، لعدم صدق البلوغ ، وعدم دلالة هذه الأخبار على حجّية هذه الأمور على الفرض ، بل دلالتها مختصّة بحجّية الخبر الضعيف.

وأمّا بناء على ما استظهرنا منها من أنّ مفادها استحباب العمل الذي بلغ إليه من ناحية المعصوم أنّ عليه الثواب والأجر كي تكون المسألة فقهيّة ، بخلاف الصورة السابقة فإنّها أصوليّة ، لأنّ مفادها حجّية الخبر الضعيف فيقع كبرى في قياس الاستنباط ، وقد تقدّم مرارا أنّه مناط كون المسألة أصوليّة.

فشمولها لفتوى الفقيه والشهرة وإجماع المنقول والاستحسانات وغير ذلك ممّا ليس بحجّية شرعا منوط على صدق البلوغ ، أي صدق بلوغ الأجر والثواب على

ص: 334

ذلك العمل الذي دلّ أحد هذه الأمور على استحبابه ، فإذا صدق البلوغ يكون مستحبا بأخبار من بلغ ، وإذ ليس فليس.

ولا شكّ في عدم صدق بلوغ الثواب والأجر عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمّة علیهم السلام بالنسبة إلى فتوى الفقيه والشهرة ، وذلك لأنّ فتوى الفقيه عبارة عن الإخبار عن رأيه لا عن المعصوم علیه السلام ، والشهرة أيضا كذلك عبارة عن أخبار جمع كثير من الفقهاء 5 عن آرائهم لا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فلا يتحقّق بهما - أي الشهرة وفتوى الفقيه - موضوع الاستحباب المستفاد من أخبار من بلغ.

وأمّا الإجماع المنقول إن قلنا بأنّه حجّة وكاشف عن رأي الإمام علیه السلام فيكون خارجا عن محلّ البحث ، وإن قلنا بعدم حجّيته كما هو كذلك فيكون حاله حال الشهرة ، بل هو هو.

وأمّا بناء على أن يكون مفادها أنّ ثواب الانقياد مثل الإطاعة تفضّلا - بدون أن يكون طلب استحبابي في البين - فلا تدلّ هذه الأخبار على استحباب ما دلّ على استحبابه خبر ضعيف ، فضلا عمّا إذا كان منشأ احتمال الاستحباب شيئا آخر - غير الخبر الضعيف - ممّا ذكرنا من مثل الشهرة وإجماع المنقول وغيرهما.

بل تدلّ على أنّ في كلّ مورد يصدق عنوان بلوغ الثواب - إذا كان البلوغ بسبب حجّة على أحد الاحتمالين ، أو مطلقا على احتمال آخر - ففعله التماس ذلك الثواب ، فاللّه تبارك وتعالى يتفضّل عليه بذلك الأجر والثواب وإن لم يكن البلوغ مطابقا للواقع.

فليس للفقيه أن يفتي - بناء على هذا الاحتمال - بالاستحباب حتّى يقلّده العامي ، ويأتي به بعنوان أنّه مستحب ، وليس له أيضا أن يأتي به بعنوان أنّه مستحبّ ، بل له أن يأتي برجاء الواقع والتماس ذلك الأجر والثواب ، كما أنّ له أن يرشد العاميّ إلى ما

ص: 335

هو مضمون ومفاد هذه الأخبار ، بأن يقول أو يكتب : من بلغه عن المعصوم سلام اللّه عليه ثواب أو أجر على عمل ، فأتى بذلك العمل رجاء ، يكون له أجر ذلك العمل.

وهذا ليس من باب الإفتاء وإظهار الحكم الشرعي ، بل من قبيل الإرشاد إلى أمر يترتّب عليه الثواب.

ثمَّ إنّه بناء على استفادة الاستحباب لا فرق بين أن يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشي ء أو وجوبه ، لاتّحاد المناط فيهما ، وهو بلوغ الثواب والأجر فيهما ، كما أنّه بناء على سائر الاحتمالات أيضا لا فرق في تحقّق الموضوع وصدق البلوغ بينهما.

نعم بناء على استفادة حجّية الخبر الضعيف في باب الاستحباب - كي تكون المسألة أصوليّة كما بيّنّا - فالخبر الضعيف الدالّ على وجوب شي ء لا يثبت به مؤدّاه ، أعني وجوب ذلك الشي ء ، وهل يثبت به الاستحباب؟ بناء على هذا الاحتمال لا يبعد ذلك.

أمّا الأوّل - أي عدم ثبوت الوجوب به - فمن جهة أنّ المفروض دلالة هذه الأخبار على حجّية الخبر الضعيف بالنسبة إلى الاستحباب ، لا فيما إذا كان مفاده الوجوب.

وأمّا الثاني فمن جهة أنّ الخبر الضعيف الذي دلّ على وجوب شي ء ، يدلّ بالدلالة التضمنيّة على مطلوبيّته ورجحانه في ضمن دلالته على وجوبه بالدلالة المطابقيّة.

ويمكن أن يكون حجّة باعتبار دلالته التضمّنية بواسطة هذه الأخبار ، وإن لم يكن حجّة في مدلوله المطابقي ، ولا ملازمة في الحجية بين الدلالتين ولكنّه لا يخلو عن إشكال.

ثمَّ إنّه هل تدلّ هذا الأخبار على كراهة ما دلّ الخبر الضعيف على كراهته أو حرمته؟ فيكون حال الحرمة والكراهة حال الوجوب والاستحباب في التسامح ، بمعنى أنّه تثبت الكراهة بالخبر الضعيف الدالّ على الكراهة أو الحرمة؟

ص: 336

الظاهر عدم دلالتها على ذلك ، فلا يجري التسامح في أدلّة المكروهات ، لأنّ غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام : أنّ الخبر الضعيف الذي قام على كراهة شي ء أو حرمته ، يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنّ في ترك ذلك الشي ء أجر وثواب ، كما هو كذلك في تروك الصوم والإحرام ، فيدلّ على استحباب الترك ورجحانه ، فيكون الفعل مرجوحا.

وهذا معنى الكراهة فيما لا يكون الفعل حراما ، كما هو المفروض في المقام ، لأنّ الخبر الضعيف إذا كان ظاهرا في الكراهة فلا وجه لحرمة الفعل ، وإذا كان ظاهرا في الحرمة فلا تثبت الحرمة به لعدم حجّيته لضعفه.

وأنت خبير : بأنّ هذا الكلام - على فرض تماميّته وصحّته - لا يثبت إلاّ استحباب الترك ، لا كراهة الفعل ، لعدم الملازمة بينهما فعلا وتركا ، فيمكن أن يكون الفعل أو الترك مستحبّا ، ولا يكون الطرف الآخر مكروها ، وكذلك يمكن أن يكون الفعل أو الترك مكروها. ولا يكون الطرف المقابل مستحبّا.

هذا مع أنّه لو كان الفعل حراما أو مكروها معناه أنّ فيه مفسدة ملزمة في الأوّل وحزازة في الثاني ، لا أنّ في الترك مصلحة كي يكون له أجر وثواب.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر هذه الأخبار ترتّب الأجر والثواب على عمل عمله التماس ذلك الأجر ، والعمل ظاهر في الأمر الوجودي ولا يشمل التروك.

نعم ربما يكون مفاد الخبر الضعيف استحباب ترك أو وجوبه ، كما أنّه ربما يقع ذلك في باب الصوم وباب الإحرام ، فحينئذ يمكن التمسّك لا استحباب ذلك الترك بهذه الأخبار ، لكن هذا خارج عن محلّ البحث والكلام.

ثمَّ إنّه بناء على ما استظهرنا من هذه الأخبار من استحباب العمل الذي صار معنونا بعنوان بلوغ الأجر والثواب عليه ، فلا بدّ من صدق البلوغ عرفا لتحقّق موضوع الاستحباب به ، وذلك لا يكون إلاّ بدلالة الخبر الضعيف عليه بإحدى

ص: 337

الدلالات اللفظيّة الوضعيّة حسب الظهور العرفي. فلو كان الخبر الضعيف غير ظاهر في البلوغ فلا يثبت به الاستحباب.

وبناء على هذا لو ورد خبر ضعيف مطلق بالإطلاق الشمولي ، أو كان عامّا أصوليّا على إكرام جميع العلماء وجوبا أو ندبا ، وورد مقيّد أو مخصّص بالنسبة إلى بعض الحالات ، أو بعض الأفراد أو الأصناف ، فإن كان المقيّد أو المخصّص متّصلا ، حيث أنّهما يمنعان عن انعقاد الظهور بالنسبة إلى المقدار الخارج عن تحت العامّ أو المطلق الذي دلّ على عمومه أو إطلاقه خبر الضعيف ، فلا يصدق البلوغ بالنسبة إلى المقدار الخارج ، فلا يمكن إثبات استحباب ذلك المقدار بأخبار من بلغ ، وذلك لعدم تحقّق موضوعه ، أي البلوغ.

وأمّا لو كان التقييد أو التخصيص بالمنفصل ، فحيث أنّ الظهور لا ينثلم بالمنفصل ، يمكن أن يقال حيث أنّ ظهور المطلق في الإطلاق والعامّ في العموم باق بعد ورود المقيّد والمخصّص المنفصلين ، فيصدق البلوغ وتشمله أخبار من بلغ.

هذا فيما إذا كان المقيّد والمخصّص خبرا ضعيفا غير حجّة ، وأمّا إذا كان مشمولا لدليل الحجّية فربما يقال : حيث يسقط ظهور المطلق والعامّ عن الحجّية في تلك القطعة بواسطة تقديم ظهور المقيّد والمخصّص على ظهورهما ، فلا يصدق البلوغ بالنسبة إلى الظهور إلى الذي ليس بحجّة.

ولكن أنت خبير بأنّ بلوغ شي ء عن شخص بواسطة الإخبار عنه ليس إلاّ أن يكون كلام المخبر وإخباره ظاهرا في أنّه قال كذا ، سواء كان صادقا في إخباره أو كاذبا ، وسواء كان خبره حجّة أو لا.

ولذلك يمكن أن يقال في المتعارضين بعد التساقط أيضا ، كما إذا كان أحدهما ظاهرا في الوجوب أو الاستحباب والآخر في نفيهما ، وإن كان يسقط ما هو ظاهر في الوجوب أو الاستحباب عن الحجيّة ، إلاّ أنّ ظهوره في أحدهما باق فبأخبار من بلغ

ص: 338

يثبت استحبابه.

فلا فرق في صدق البلوغ وشمول أخبار من بلغ لتلك القطعة بين أن يكون ظهورهما حجّة فيها ، أو لم يكن. نعم لو كان مفاد دليل المقيّد والمخصص المعتبر حكما تحريميا ، فلا يمكن القول باستحباب تلك القطعة بأخبار من بلغ.

ثمَّ إنّه هل تشمل أخبار من بلغ فتوى الفقيه باستحباب شي ء أو وجوبه ، فيكون حاله حال الخبر الضعيف ، أم لا؟

الظاهر عدم الشمول ، لأنّ الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب ، وربما يكون منشأ رأيه وحدسه شيئا آخر غير الأخبار المرويّة عنهم علیهم السلام من الاستحسانات ، وتنقيح المناطات بنظره ، فلا ربط حينئذ بين الإخبار عن رأيه وفتواه ، وبين البلوغ عن النبي صلی اللّه علیه و آله مع أنّه لو كان منشأ رأيه وفتواه هي الأخبار أيضا لا يفيد ؛ لأنّه فرق بين رأيه المستنبط عن الأخبار وبين نقل ما قاله النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فالأوّل ليس اخبارا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا يصدق عليه البلوغ عن النبيّ بخلاف الثاني كما هو واضح.

ثمَّ إنّه هل تشمل هذه الأخبار مورد الخبر الضعيف الذي مفاده وقوع بعض المصائب لأهل البيت علیهم السلام أو للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن يقال : حيث أنّه من المسلّم والمقطوع أنّ البكاء على مصائبهم علیهم السلام له أجر وثواب عظيم ، فمفاد هذا الخبر الضعيف ينتهي إلى الأجر والثواب على البكاء في هذه المصيبة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام مغالطة عجيبة ، لأنّ كون البكاء على مصائبهم موجبا للأجر والثواب أمر مسلّم مقطوع ، فالمهمّ إثبات الصغرى وهي وقوع هذه المصيبة في الخارج ، وهي حيث أنّها من الموضوعات الخارجيّة فلا يثبت بالخبر الصحيح الواحد ، فضلا عن الخبر الضعيف.

نعم يمكن أن يقال : إذا كان البكاء لظنّ وقوع مصيبة أو احتماله عليهم علیهم السلام يوجب الأجر والثواب ، فكما أنّ الخبر الصحيح موجب لتحقّق موضوع الأجر

ص: 339

والثواب - أي الظنّ أو احتمال وقوع تلك المصيبة - فكذلك الخبر الضعيف.

وهذا لا ربط له بأخبار من بلغ ، وما قلنا جار في جميع الموضوعات الخارجيّة التي دلّ على وجودها خبر ضعيف وإن كان العمل المتعلّق بذلك الموضوع كان له أجر وثواب.

وأمّا جواز نقل ما هو مضمون الخبر الضعيف الوارد في مصائبهم علیهم السلام واستناده إليهم صلوات اللّه عليهم فأجنبيّ عن مقامنا.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً

ص: 340

فهرس الموضوعات

ص: 341

ص: 342

26 - قاعدة : عموم حجية البينة

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى : في بيان المراد من البينة... 9

أدلة عموم حجية البينة :

الأول : رواية مسعدة... 11

الثاني : الاجماع... 15

الثالث : الاخبار... 16

الرابع : الآيات... 19

الخامس : سيرة العقلاء... 21

تخصيص القاعدة بموارد... 22

ذكر الأمور المعتبرة في حجية البينة :

الامر الأول : الموضوع الذي تقوم عليه البينة لا بد وأن يكون له أثر شرعي... 22

الامر الثاني : هل شهادة المرأة خارجة عن موضوع البينة أم لا؟... 25

الامر الثالث : عند قيام البينة على موضوع يجب ترتيب أثر ذلك الموضوع... 27

تتميم

عدم حجية الخبر العدل الواحد في الموضوعات... 29

الجهة الثانية : في نسبة هذه القاعدة مع سائر الأدلة... 36

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة... 39

ص: 343

27 - قاعدة إقرار العقلاء

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو أمور... 45

الأول : اتفاق العقلاء... 45

الثاني : إجماع كافة علماء الاسلام... 46

الثالث : الاخبار... 47

الرابع : الآيات... 48

الجهة الثانية : بيان مفاد القاعدة... 50

التنبيه على أمور :

الامر الأول : بيان مفهوم كلمة الاقرار لغة وعرفا... 57

الامر الثاني : هل نفي الحق عن نفسه بعد إقرار الطرف بأنه له يعد إقرارا على نفسه؟ 58

الامر الثالث : الانكار بعد الاقرار لا أثر له... 60

الامر الرابع : أمارية الاقرار هل مختصة بما إذا كان في قبال من يدعي ما أقر به أو أمارة مطلقا؟ 61

الجهة الثالثة ، في موارد تطبيق هذه القاعدة... 62

28 - قاعدة : البينة على المدعي واليمين على من أنكر

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى : في مدركها :... 71

الأول : الحديث : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر )... 71

الثاني : الاجماع من جميع علماء الاسلام... 72

ص: 344

الجهة الثانية : بيان المراد من هذا الحديث... 73

وجوه في تعريف المدعي... 74

التكلم عن أمور :

الأول : فيما إذا شك في تشخيص المدعي عن المنكر ، فهل يمكن التمسك لاثبات ما يدعيه بالبينة أم لا؟ 81

الثاني : يعتبر في سماع الدعوى عن المدعي أمور :... 84

منها : كونه واجدا لشرائط التكليف... 84

ومنها : أن يكون ما يدعيه على خصمه لنفسه أو لموكله أو لمن له الولاية عليه 86

ومنها : أن يكون ما يدعيه مما يصح تملكه شرعا... 87

ومنها : أن يكون ما يدعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة وجائزا شرعا... 87

ومنها : أن يكون ما يدعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر... 87

ومنها : أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدعي عينا أو مالا أو حقا على المدعى عليه 88

ومنها : أن يكون خصم في مقابله يخاصمه وينكر ما يدعيه... 89

ومنها : كون دعواه عن بت وجزم... 90

ومنها : تعيين المدعى عليه... 93

ومنها : عدم شرط حضور المدعى عليه... 94

الجهة الثالثة : موارد تخصيص هذه القاعدة... 99

تخصيصات جملة « البينة على المدعي » :... 99

منها : ليس على الأمين بينة إذا ادعى التلف لما في يده... 100

ومنها : قبول قول الودعي في رده الوديعة إلى مالكها بدون البينة... 100

ومنها : قبول قول المالك في نفي تعلق الزكاة بماله بلا بينة عليه و

ص: 345

لا يمين... 101

تخصيصات جملة « اليمين على من أنكر »... 104

منها : عدم تخصيص القاعدة بيمين الاستظهار... 104

مدرك هذا الحكم - يمين المدعي على الميت - الاجماع والاخبار... 105

منها : موثقة عبد الرحمن... 105

ومنها : صحيح الصفار... 105

فروع في المسألة بحثها الفقهاء في كتاب القضاء... 106

29 - قاعدة كل مدع يسمع قوله فعليه اليمين

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 111

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعدة... 112

الاستدلال على لزوم الحلف للمدعي بأمور :

الأول : إن الحكم في مقام المخاصمة يكون بالبينة واليمين... 112

الثاني : قول المدعي حجة... 113

الثالث : الاجماع على أن كل مدع يسمع قوله ولا يطالب بالبينة فعليه اليمين 113

الرابع : الاحتياج إلى اليمين عند قبول قول المدعي بدون بينة لمخالفة قوله للحجة الفعلية 114

الخامس : لا يحكم للمدعي بشاهد واحد عادل ، بل لا بد من ضم يمينه إليه ، ويجب عليه اليمين عند فقد الشاهد 115

السادس : أن لقوله صلی اللّه علیه و آله « البينة على المدعي واليمين ... » دلالتين... 116

الجهة الثالثة : بيان موارد هذه القاعدة... 117

ص: 346

الكبريات الأربع :

الأولى : كون المدعي أمينا... 119

الثانية : المدعي بلا معارض... 120

الثالثة : من ملك شيئا ملك الاقرار به... 124

الرابعة : يسمع كل دعوى لا يعلم إلا من قبل مدعيها... 124

واستدلوا لهذه الكبرى بوجوه

الأول : الاجماع... 124

الثاني : إذا كان دعوى المدعي لا يعلم إلا من قبله فلا يمكن إقامة البينة عليه ، ويبقى النزاع بلا حسم 125

الثالث : ورود أخبار بأن الحيض والعدة إلى النساء... 126

الرابع : لا يحكم للمدعي بدون يمين ، لمخالفة قوله للحجة الفعلية... 127

تذييل : لا يسمع دعوى المدعي فيما لو أظهر خلاف ما يدعيه... 129

30 - قاعدة : العقود تابعة للقصود

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 135

الجهة الثانية : في مدرك هذه القاعدة ، وهو أمور :... 141

الأول : الاجماع... 141

الثاني : عدم ترتب الأثر على كل عقد وعهد وإيقاع بمقتضى الأصل الأولي ، إلا بدليل على الصحة وترتيب الأثر 141

الثالث : وقوع المسبب والمنشأ في عالم الاعتبار التشريعي تابع لما قصده المتعاقدان 142

الجهة الثالثة : بيان موارد تطبيق هذه القاعدة... 145

ص: 347

يجب التنبيه على أمور :

الأول : الاخذ بظواهر الألفاظ في مقام الاثبات ، لان هذا الحكم واقعي وفي مقام الثبوت 145

الثاني : صرف الإرادة والقصد لا أثر لهما ما لم يكن طبقهما انشاء... 146

الثالث : الاحكام والآثار المترتبة على المنشأ شرعا ليست تابعة لقصدها... 146

الرابع : صحة عقد المكره الملحوق برضاه ليس نقضا على هذه القاعدة... 146

فمن موارد القاعدة : بيع المعاطاة... 148

ومن موارد القاعدة : بطلان عقد الزواج المنقطع لو نسي ذكر الأصول والمدة... 150

فتوى المشهور بحصول الزوجية الدائمة ليس مخالفا لهذه القاعدة... 152

31 - قاعدة : انحلال العقود

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في بيان المراد منها... 159

أقسام الانحلال الثلاثة... 164

الجهة الثانية : في بيان مدرك هذه القاعدة ، وهو أمور :... 166

الأول : الاجماع... 166

الثاني : بناء العرف والعقلاء في معاملاتهم... 166

الثالث : الانحلال على طبق القواعد الأولية وليس أمرا خارجا عنها... 168

الرابع : عدم خلاف قاعدة الانحلال لقاعدة العقود تابعة للقصود... 169

الجهة الثالثة : موارد تطبيق هذه القاعدة جميع العقود والايقاعات... 171

ص: 348

32 - قاعدة : الالزام

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو أمران :... 179

الأول : إجماع الإمامية... 179

الثاني : الروايات... 179

الجهة الثانية : في بيان مفاد هذه القاعدة... 182

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة... 188

منها : مسألة التعصيب... 188

ومنها : مسألة الطلاق على غير السنة... 189

ومنها : يجوز للشيعي أن يرتب آثار الصحة على طلاق المخالفين وإن لم يكن عنده صحيحا بقاعدة الالزام 195

ومنها : أبواب الضمانات... 198

جملة من موارد الضمانات... 198

33 - قاعدة أصالة عدم تداخل الأسباب ولا المسببات

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في المراد منها... 209

الجهة الثانية : في بيان الأدلة على هذه القاعدة... 214

الأول : الشك في تداخل الأسباب... 214

الثاني : أن البحث مختص بالأسباب الشرعية... 218

الثالث : بطلان التوهم بالتنافي بين قولي المشهور... 221

دليل العلامة على هذه القاعدة من المقدمات الثلاث... 229

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة... 237

ص: 349

أمور لا بد من ذكرها :

الأول : هل هذه القاعدة من القواعد الفقهية أم من القواعد الأصولية؟... 239

الثاني : هل تعدد السبب يوجب تعدد المسبب أم لا؟... 240

الثالث : فيما إذا كان المسبب واحدا بالنوع وكان من الممكن تعدد وجوده بحسب الخصوصيات الفردية 243

الرابع : كفاية مسبب واحد عن الأسباب المتعددة... 244

34 - قاعدة : المؤمنون عند شروطهم

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو أمور :... 249

الأول : الاخبار... 249

الثاني : الاجماع... 253

الثالث : يجب الوفاء بالشروط الواقعة في ضمن العقود باعتبارها تابعة لها ومرتبطة بها 253

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة ، وفيه أمور :... 254

الامر الأول : في شرح ألفاظ القاعدة... 254

الامر الثاني : الفرق بين الشروط الابتدائية والشروط الواقعة في ضمن العقود 255

الامر الثالث : في بيان شرائط صحة الشروط الواقعة في ضمن العقود... 257

الشرط الأول : أن يكون مقدورا للمشروط عليه... 258

الشرط الثاني : أن يكون سائغا شرعا... 259

الشرط الثالث : أن يكون مما فيه غرض يعتد به عند العقلاء... 259

الشرط الرابع : أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة... 259

ص: 350

الشرط الخامس : أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد... 267

الشرط السادس : أن لا يكون الشروط مجهولا... 279

الشرط السابع : أن لا يكون الشرط مستلزما للمحال... 281

الشرط الثامن : أن يلتزم به في متن العقد... 285

الشرط التاسع : من شرائط صحة الشروط التنجيز... 290

خاتمة :

في بيان أحكام الشروط الصحيحة ، وهي ثلاثة أقسام :

الأول : شرط الصفة... 293

الثاني : شرط الغاية أو النتيجة... 296

الثالث : شرط الفعل... 299

فيه أمور :

الأول : يجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط إذا كان الفعل المشروط جامعا للشروط الثمانية 300

الثاني : هل للمشروط له الفسخ مع التمكن من الاجبار أم لا؟... 303

الثالث : لو تعذر الشرط فللمشروط له الخيار فقط... 304

الرابع : هل للمشروط له فسخ المعاملة واسترجاع العين أو الرجوع إلى المثل أو القيمة عند التلف ، لو تعذر الشرط؟... 308

الخامس : هل للمشروط له إسقاط شرطه أم لا؟... 311

السادس : هل يسقط الثمن على المبيع والشرط - في الشرط الواقع في ضمن عقد البيع - أم لا؟ 313

الصور الأربعة للشرط كما في مثال : إذا باع صبرة... 315

ص: 351

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة... 323

35 - قاعد : التسامح في أدلة السنن

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في شرح مفهوم هذه القاعدة والمراد منها... 327

الجهة الثانية : في مدركها : وهو الأخبار المعتبرة... 328

الاحتمالات في مفاد الاخبار :

منها : حجية خبر الضعيف... 329

منها : أن مفادها أن الانقياد في ترتب الثواب مثل الإطاعة... 331

ومنها : أن مفادها هو الارشاد إلى ما حكم به العقل ، من حسن الاحتياط والترغيب فيه بإتيان محتمل المطلوبية 332

ص: 352

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.