القواعد الفقهيّة المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN الدورة: 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الثاني

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

اشارة

ص: 1

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 2

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

ص: 5

فهرس الإجمالي

14 - قاعدة عدم ضمان الأمين ... 6

15 - قاعدة الإتلاف ... 27

16 - قاعدة الاشتراك ... 51

17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض ... 77

18 - قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفساده ... 101

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار ... 129

20 - قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات ... 155

21 - قاعدة : البناء على الاكثر ... 181

22 - قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة ... 263

23 - قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر ... 277

24 - قاعدة لا شك في النافلة ... 315

25 - قاعدة لا شكّ لكثير الشكّ ... 343

ص: 6

ص: 7

14 - قاعدة عدم ضمان الأمين

اشارة

ص: 8

ص: 9

قاعدة عدم ضمان الأمين (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « عدم ضمان الأمين إلاّ مع التعدّي والتفريط ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها

وهي أمور :

الأوّل : عدم وجود السبب لضمانه ، وذلك من جهة أنّ سبب الضمان الواقعي - أي المثل أو القيمة في غير الضمان المعاوضي والعقدي - أمور كلّها ليس فيما إذا تلف مال الغير في يد الأمين بدون تعدّ ولا تفريط ، لأنّ أحد أسباب الضمان الواقعي هو الإتلاف لقاعدة « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » والمفروض في المقام هو التلف لا الإتلاف.

الثاني : هو اليد ، وقد بيّنّا في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في شرح قاعدة اليد (2) أن

ص: 10


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 342 ، « الحق المبين » ص 89 ، « مجموعه رسائل » ش 18 ، ص 48 ، « عناوين الأصول » عنوان 65 ، « خزائن الأحكام » ش 31 ، « دلائل السداد در قواعد فقه واجتهاد » ص 68 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 168 ، « قواعد فقه » ص 95 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 107 ، « القواعد » ص 17 ، « قواعد فقهي » ص 61 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 28 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 251 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 284.
2- « القواعد الفقهية ». ج 2. ص 177.

اليد التي تكون موجبة للضمان إمّا هي اليد المعنونة بعنوان العادية كما قيل ، ومعلوم أنّ يد الأمين - سواء كانت الأمانة مالكيّة كعين المستأجرة ، أو المرهونة عند الملتقط المرتهن ، أو العارية عند المستعير وأمثال ذلك ، أو كانت أمانة شرعيّة كاللقطة عند أيام التعريف ، أو المال المجهول المالك ، أو أموال الغيّب والقصر عند الحاكم الشرعي ، أو المأذون ، أو المنصوب من قبله لأجل ذلك وغير ذلك ممّا هو مثلها - ليست يدا عادية.

وإما هي يد غير المأذونة من قبل المالك أو من قبل اللّه تعالى كما هو الصحيح.

وأيضا معلوم أن يد الأمين إمّا مأذونة من قبل المالك - سواء كان الاستئمان لنفع المالك كما في أنحاء الإجارات ، أو لنفع الأمين كما في باب العارية - وإمّا مأذونة من قبل اللّه تعالى.

الثالث : التغرير ، كما ذكرنا وجهه في قاعدة الغرور في الجزء الأول من هذا الكتاب (1).

ولا شك في أنّه لا تغرير من طرف الأمين للمالك بالنسبة إلى المال الذي في يده ، ولو كان فهو ضامن ولا يضرّ بعموم هذه القاعدة ، لأنّ المراد بها أنّ صرف تلف مال الغير عنده وفي يده لا يكون موجبا للضمان بدون التعدي والتفريط ، أما لو وجد سبب آخر فأجنبي عن المقام.

الثاني : من وجوه عدم الضمان هو الأخبار.

منها : ما في المستدرك عن أمير المؤمنين علیه السلام « ليس على المؤتمن ضمان » (2).

ومنها : ما في الوسائل عن أبان بن عثمان ، عمن حدّثه ، عن أبي جعفر علیه السلام في حديث قال : وسألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال علیه السلام :

ص: 11


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 270.
2- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 16 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 15978.

« ليس عليه غرم بعد ان يكون الرجل أمينا » (1).

وأيضا في الوسائل عن المقنع قال : سئل الصادق علیه السلام عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : « نعم ولا يمين عليه » (2).

ومنها : أيضا في الوسائل عن قرب الإسناد : عبد اللّه بن جعفر ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن ابي عبد اللّه علیه السلام قال : « ليس لك ان تأتمن من خانك ، ولا تتهم من ائتمنت ) (3).

وأيضا عنه ، عن مسعدة بن زياد ، عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبيه علیه السلام ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « ليس لك ان تتهم من قد ائتمنته » (4).

ومنها : الخبر المعروف بينهم : « ليس على الأمين إلا اليمين ».

وفي عدم ضمان الأمين أخبار أخر في كتب الحديث ، في كتاب الوديعة العموم من هذا التعليق لكل أمين ، سواء كان أمينا من طرف المالك ، أو من قبل الشرع.

واما رواية مقنع فتدل على نفي الضمان بطريق أولى ، لأنها تنفي حتى اليمين ، ويحكم علیه السلام بقبول قوله.

وكذلك روايتا قرب الاسناد كلتاهما مفادهما النهي عن اتهام الأمين.

واما الخبر المعروف ، الجاري على الألسنة - إذا ثبت وجوده - فدلالته واضحة ، لأن المراد من نفي غير اليمين هو الضمان.

الثالث : الإجماع ، فإن الفقهاء - رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين - يستندون لعدم الضمان في موارد عديدة بأنه أمين ، ويرسلونه إرسال المسلمات ، من غير إنكار لأحد.

ص: 12


1- « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 228 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 5 ، وج 13 ، ص 237 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 1 ، ح 8.
2- المصدر ، ص 228 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 7.
3- المصدر ، ص 229 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 9.
4- المصدر ، ح 10.

فكأن هذه كبرى مسلمة عند الكل ، وهي ان الأمين لا يضمن.

ونحن استشكلنا على أمثال هذه الإجماعات في هذا الكتاب ، فلا نعيد.

الرابع : ان الأمين المأذون من قبل المالك أو من قبل الشارع لنفع المالك محسن إليه ، وقال تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1) وحيث ان كلمة « سبيل » في الآية الشريفة نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم ، فكل سبيل منفي بالنسبة إلى المحسنين. ولا شك ان كون الضمان على عهدة الأمين سبيل ، فبعد الفراغ عن كونه محسنا يكون الضمان منفيا عنه.

ويمكن تقريب هذا الوجه بشكل يكون من الأحكام العقلية ، بأن يقال :

بعد ما ثبت ان الأمين - بالبيان المتقدم - محسن إلى المالك ، ولم يكن من طرفه تعد ولا تفريط ، والمال هلك بسبب سماوي ، مع كمال التوجه في حفظه من طرف الأمين ، فالعقل في هذه الصورة يستقبح تغريم الأمين. فعدم غرم الأمين وكذلك عدم ضمانه حكم عقلي.

وقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) تقرير وتثبيت لذلك الحكم العقلي.

ولكن هذا الوجه لا يجري في جميع الأمناء والمأذونين ، ففي مثل العارية وإن كان المستعير مأذونا من قبل المالك ولكن لا يعد محسنا إلى المالك ، بل تصرفه في مال المالك لأجل مصلحة نفسه لا المالك.

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة

اشارة

فنقول : اما المراد من « الضمان » هو الضمان الواقعي أي المثل في المثليات ، والقيمة في

ص: 13


1- التوبة (9) : 91.

القيميات.

وإن شئت قلت : إن في موارد اليد غير المأذونة - لا من قبل المالك ولا من قبل الشارع - كل مال وقع تحت اليد اعتبره الشارع في ذمة ذي اليد وفي عهدته. وهذا الأمر الاعتباري ثابت في ذمته وعهدته ، لا يرتفع إلا بأداء نفس المال الذي أخذه ما دام نفس المال موجودا ، وبعد تلفه أيضا ذلك الأمر الاعتباري ثابت وباق في عالم الاعتبار التشريعي ، ولا يرتفع إلا بأداء مثله في المثليات ، وقيمته في القيميات.

واما وجه هذه الأمور : فذكرنا جملة منها في بعض مباحث قاعدة اليد ، (1) وتفصيله مذكور في الفقه في كتاب الغصب ، وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب البيع.

واما المراد من « الأمين » هو ان يكون مال الغير في يده بإذن من المالك أو من اللّه ، من غير خيانة له بالنسبة إلى ذلك المال من فعل أو ترك يوجب تلفه أو نقصا فيه.

فبهذا المعنى إن صدر منه تعد أو تفريط بالنسبة إلى ذلك المال يخرج عن كونه أمينا ، فعدم التعدي والتفريط مأخوذان في حقيقة الأمين ، والاستثناء في القاعدة مستدرك ، لأنه إذا صدر عنه التعدي أو التفريط فهو خائن وليس بأمين ، فإنهما ضدان.

فالائتمان عبارة عن تسليم ماله أو شي ء آخر إليه ، واثقا منه بعدم خيانته في حفظه ، اي يثق به انه لا يفعل فعلا يضر بذلك المال أو ذلك الشي ء ، ومثل هذا الفعل هو التعدي. وأيضا يثق به انه لا يترك امرا وفعلا يكون ترك ذلك الفعل أو ذلك الأمر موجبا لضياعه وتلفه ، أو لورود نقص عليه ، وهذا هو التفريط.

وبناء على هذا يكون الائتمان مقابل الاتهام ، اي الظن بأنه يخون أو خان فعلا.

ويشير إلى هذا المعنى روايتا قرب الإسناد المقدم ذكرهما : « ليس لك ان تتهم من قد ائتمنته ».

ص: 14


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 177.

و « ليس لك ان تأتمن من خانك ، ولا تتهم من ائتمنت ».

فالأمين هو الموثوق به عرفا في إعطاء ماله له ، بحيث يكون عنده محفوظا إلى ان يرده الى صاحبه.

وهذا الإعطاء قد يكون لمصلحة المالك ، وقد يكون لمصلحة الآخذ. فالأول كالوديعة وما يشبهها.

فالوديعة عبارة عن إيداع ماله أو شي ء آخر عند شخص لوثوقه به ، لكي يسترده فيما بعد.

فالأمين هو الذي يثق المودع به في إيداع ماله عنده ، ولذلك كانوا في الجاهلية يخاطبون نبينا صلی اللّه علیه و آله ب- « الأمين » قبل بعثته صلی اللّه علیه و آله ويودعون عنده الودائع لوثوق جميع الناس به.

واما تصرفات الأمين في المال الذي عنده الغير المأذون في تلك التصرفات فتكون موجبة للضمان ، ولو لم تكن موجبة لتلف المال ، بل كانت موجبة لازدياد قيمته بل وعينه ، من جهة خروج اليد عن كونها مأذونة ، فتكون من قبيل الغصب ، وتدخل تحت قاعدة المعروفة « وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه » ، وذلك لأن الخارج عنها هي اليد المأذونة.

واما المراد من « التعدي » و « التفريط » اللذان يوجبان الضمان ، ثمَّ استثنائهما عن قاعدة عدم ضمان الأمين : فلم يرد دليل شرعي لهذين العنوانين كي نتكلم في مفهوم التعدي والتفريط من حيث موضوعيتهما للحكم الشرعي.

بل الذي يستفاد من الأدلة ، والموارد التي حكم الشارع فيها بالضمان كمورد صحيحة أبي ولاد (1) وغيرها ، هو إما خروج ذي اليد عن كونه مأذونا في ذلك الفعل

ص: 15


1- « الكافي » ج 5 ، ص 290 ، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز الحد ... ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 215. ح 943 ، باب الإجارات ، ح 25 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 134 ، ح 483 ، باب من اكترى دابة إلى موضع فجاز ذلك الموضع ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ، ج 13 ، ص 255 ، أبواب الأحكام الإجارة ، باب 17 ، ح 1 ، وج 17 ، ص 313 ، أبواب الغصب ، باب 7 ، ح 1.

أو الترك الذي يصدر عنه بالنسبة إلى ذلك المال ، فإذا كان كذلك فمقتضى قاعدة على اليد هو الضمان ، لأن الخارج عنها هي اليد المأذونة ، والمفروض انها غير مأذونة. وإما صدور فعل أو ترك من ذي اليد على مال الغير بحيث يوجب إتلاف ذلك المال ، فإن الإتلاف سبب مستقل للضمان ، ولا ربط له بقاعدة على اليد.

فإذا كان التعدي والتفريط سببا لخروج اليد عن كونها مأذونه ، أو كانا سببين لإتلاف المال ، فيكونان موجبين للضمان لما ذكرنا.

وما ذكرنا مناسب للمعنى العرفي لهذين اللفظين وذلك لأن المتفاهم العرفي من التعدي هو التجاوز ، ولا شك ان المؤتمن إذا تجاوز عما اذن له في فعل بالنسبة إلى ذلك المال أو ترك فيخرج عن كونه مأذونا ، فلو تلف ذلك المال يكون ضامنا.

وهذا الأمر صريح صحيحة أبي ولاد ، لأنه اكترى البغل إلى مكان معين ، فتجاوز عما اذن له إلى مكان آخر ، ولذا حكم - علیه السلام - بضمانه لو تلف البغل.

والمتفاهم العرفي من التفريط هو التضييع ، ولا شك في ان تضييع مال الغير عبارة أخرى عن إتلافه ، أو إيجاد نقص أو عيب فيه ، وكل ذلك من أسباب الضمان. فالإفراط مثل التعدي عبارة عن التجاوز ، والتفريط عبارة عن التضييع.

ولعل هذا المعنى هو المراد من قوله علیه السلام : « الجاهل إما مفرط أو مفرط » (1). أي إما متجاوز عن الحد أو مضيع.

ثمَّ إن الأمانة بالمعنى الذي تقدم ، وهو ان يكون المال عنده بإذن صاحبه ، أو من يكون إذنه معتبرا كإذن صاحبه ، من كونه وكيلا عنه ، أو وليا عليه.

فهذا الإذن قد يكون من قبل المالك فيسمى ب- « الأمانة المالكية ». والإذن من قبل

ص: 16


1- « نهج البلاغة » ص 479 ، الحكمة 70 : « لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا ».

المالك قد يكون من قبل نفسه ، وقد يكون من قبل وكيله.

فمورد الأمانة المالكية جميع المعاملات التي تصدر من المالك أو وكيله الواقعة على ماله ، بدون نقل عين ماله إلى من يعطي ماله بيده ، سواء كان من جهة تمليك منفعته له ويعطى العين له لاستيفاء تلك المنفعة كباب الإجارات ، أو تمليك الانتفاع مجانا كباب العارية ، أو يعطيه للحفظ بدون تمليك منفعته أو الانتفاع به كباب الوديعة ، أو يعطيه لأن يعامل معه بحصة من الربح كباب المضاربة ، أو لأن يزرع فيه بحصة من الحاصل كباب المزارعة ، أو لأن يسقيه بحصة من الثمرة كباب المساقاة ، أو يعطي ماله لأن يحمل من مكان إلى مكان بأجرة كالحمالين والمكارين.

ففي جميع هذه الموارد سواء صدرت المعاملة من نفسه أو من وكيله يكون المال عند ذي اليد أمانة مالكية ، ولا يوجب تلفه الضمان إلا مع التعدي والتفريط.

وقد يكون الإذن من قبل الشارع ، وإن كان بدون التفات من قبل المالك إلى ان ماله بيد فلان ، وهذه « أمانة شرعية » كالمعاملات التي تقع على أموال للغيب والقصر ، بدون ان يكون فيها نقل العين.

وذلك كجميع ما ذكرنا في الأمانة المالكية من الموارد ، غاية الأمر ان الفرق هو ان في الأمانة المالكية كان الإذن من المالك أو من وكيله ، وفي الأمانة الشرعية من قبل اللّه جل شأنه.

فلو آجر الحاكم الشرعي ، أو من يكون وكيلا أو مأذونا من قبله أموال الغيب والقصر ، أو أودع عند أمين ، أو أعار فيما إذا كان فيها مصلحة الغيب أو القصر أو اعطى أموالهم للحمالين أو المكارين ، أو سائر التصرفات التي يطول المقام بذكرها ، فتلف ذلك المال في يد المأذون من قبلهم ، فلا يكون من وقع في يده التلف ضامنا ، لأنه أمين ومأذون ، غاية الأمر ان الأمانة شرعية لا مالكية.

وكذلك الأمر في اللقطة ، فإن الواجد والملتقط ليس ضامنا لو تلف ما وجده في يده

ص: 17

ما دام مشغولا بالتعريف ، لأنّه مأذون في أن يكون هذا المال الذي وجده عنده إلى أن يتمّ التعريف سنة كاملة ، أو يحصل له اليأس من معرفة صاحبه ، فيتصدّق به عن قبل صاحبه.

والحاصل : أنّ الأمين أي المأذون من قبل المالك أو الشارع في كون مال تحت يده لا يكون ضامنا لذلك المال لو تلف في يده إلاّ مع التعدّي والتفريط بالمعنى المتقدّم ، لما تقدّم.

واستشكل في عموم هذه القاعدة بموارد

منها : حكمهم بالضمان في المقبوض بالسوم ، مع أنّ قبضه ووقوعه تحت يده بإذن المالك.

وفيه : أولا : أنّ هذه المسألة خلافيّة ، وقد ذهب جميع إلى عدم الضمان ، معللا بأنه أمانة مالكية.

وثانيا : على تقدير القول بالضمان يمكن أن يقال بأنه ليس القبض هناك بعنوان الأمانة ، بل بعنوان أن يكون عند اختيار القابض للاشتراء ، مضمونا عليه بالعوض المسمى.

وبعبارة أخرى : أخذه وقبضه يكون بعنوان المقدمية للشراء والضمان بالعوض المسمى ، فهو خارج عن باب الأمانات بكلا قسميه مالكية وشرعية بالتخصص لا بالتخصيص ، فلا تنخرم القاعدة به ، لأنه خارج عن موضوع الأمانة ، لأن موضوعها أما الأمانة المالكية أو الأمانة الشرعية بالمعنى الذي تقدم ، وكلاهما ليسا في المقام.

ومنها : حكمهم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ، فإنهم أجروه مجرى الغصب إلا في الإثم إن كان جاهلا بالفساد ، مع أن القابض مأذون من قبل المالك ، سواء كان المقبوض الثمن بالنسبة إلى البائع ، أو المثمن بالنسبة إلى المشتري.

ص: 18

وفيه : أن الإذن في القبض في المقبوض بالعقد الفاسد ليس باعتبار الإذن في قبض مال المقبوض منه ، بل باعتبار قبض نفس مال القابض وأنه ملك بالعقد ، فهو خارج عن موضوع الأمانات ، لأن الأمانة المالكية هو أن يأذن المالك للقابض في قبض مال المالك الآذن ، لا ما هو مال نفس القابض.

إن قلت : إن ما نحن فيه أي باب المقبوض بالعقد الفاسد أيضا كذلك ، فإن المال واقعا ليس للقابض ، بل صرف تخيل منه أو منهما إذا كان القابض أو كانا جاهلين بالفساد. ولذا لو كان المالك عالما بالفساد فأذن في القبض فقد أذن في قبض ماله ، فيكون ماله عند القابض أمانة مالكية.

قلنا : نعم الأمر كما قلت ، فاذن المالك تعلق واقعا بمال نفس المالك لا القابض ، ولكن حيث أنه جاهل بالفساد يأذن بعنوان أخذ مال نفسه أي نفس القابض ، ومثل هذا الإذن لا تتحقق به الأمانة قطعا ، ولا تدخل يد القابض بمثل هذا الإذن تحت عنوان يد المأذونة.

ولذلك لو قدم ماله إليه باعتقاد أنه ماله أي مال القابض فأتلفه القابض يكون ضامنا ، لإتلافه مال الغير ، أي المعطي. ولا يكون مثل هذا الإذن مانعا عن تحقق الضمان.

وكذلك لو قال لزيد : يا صديقي خذ هذا المال فهو لك حلال ، أو قال : يا صديقي ادخل داري ، كل ذلك باعتقاد أنه صديقه وفي الواقع هو عدوه ، فليس له أن يأخذ ذلك المال ، أو يدخل داره باعتبار ذلك الإذن الذي منشأه الاشتباه وتخيل أنه صديقه.

وإن قيل في هذا المقام : لو خاطب الشخص مثلا وقال : يا زيد ادخل داري ، باعتقاد أنه صديقه ، يجوز له أن يدخل داره وإن لم يكن صديقه ، وكان صاحب الدار مشتبها في أنه صديقه ، لأن الإذن صدر منه وإن كان مشتبها في جهة الصدور.

وأما إن قال : يا صديقي أدخل ، ففيما لم يكن صديقا له في الواقع ليس له أن يدخل ،

ص: 19

لأن الإذن تعلق بعنوان « الصديق » وهو ليس مصداقا لهذا العنوان على الفرض.

وعلى كل حال ، في المقبوض بالعقد الفاسد ليست يد القابض يد أمانة مع جهل المعطي بالفساد ، فتدخل تحت قاعدة « وعلى اليد ما أخذت ».

وليس حكمهم بالضمان هناك تخصيص لهذه القاعدة ، أي قاعدة « عدم ضمان الأمين إلا مع التعدي أو التفريط ».

هذا كله ، مضافا إلى أن إذن المعطي في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ليس بأن يكون في يده بلا عوض ، بل الإذن مقيد بكونه في يده مع العوض ، غاية الأمر العوض المسمى ، لا الضمان الواقعي.

وحيث إن الشارع لم يمض العوض المسمى فيكون عليه العوض الواقعي ، لأنه لم يقدم على الإعطاء مجانا ، ولم يهتك احترام ماله. وقلنا : إن إذنه بكونه في يده مقيد بكونه في يده مضمونا عليه لا مجانا ، فهو أجنبي عن مسألة عدم الضمان على الأمين بكلا قسميه ، أي الأمانة المالكية ، والأمانة الشرعية.

ومنها : حكمهم بضمان المبيع إن تلف في يد البائع قبل أن يقبض المشتري بعد تحقق المعاملة ووقوعها بجميع شرائطها وأركانها ، وإن كان بقاؤه في يد البائع بإذن المالك ، أي المشتري.

وفيه : أن هذا ليس من باب ضمان الأمين ، بل من جهة حكم الشارع بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف ، لكي يقع التلف في ملك البائع ، فليس من باب الضمانات وتلف ملك الغير في يده ، وإلا لو كان كذلك فكان مقتضاه الضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة كل واحد منهما في محله.

والدليل على انفساخ العقد ورجوع كل واحد من العوضين إلى ملك مالكه الأول هي الأخبار الواردة في هذا الباب ، وقد ذكرناها مع سائر ما قيل أو يمكن أن يقال في كونها دليلا على هذا الحكم في شرح قاعدة « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من

ص: 20

مال بائعه » (1).

ومنها : أن المالك إذا رضي أن يكون مال المغصوب باقيا في يد الغاصب ، وأذن له في ذلك أي في كونه أمانة فمع ذلك يكون الغاصب ضامنا لو تلف في يده.

وفيه : أنه لو كان الأمر كذلك ، وكان بهذه الصورة أي قال إنه أمانة عندك والغاصب أراد الرد وهو لم يقبل وجعله أمانة عنده.

فالحق أنه لا ضمان في هذه الصورة ، وإلا فبصرف الرضا بالبقاء لا تخرج يده عن كونها يد الغاصب.

ومنها : أنهم قالوا في باب اللقطة ومجهول المالك : إن له أن يتصدق به عن طرف مالكه ، ويده أمانة شرعية ، فمأذون من قبل الشارع ، ومع ذلك قالوا بالضمان إن وجد صاحبه.

وفيه : أنه فرق بين أن يكون في يده أمانة ويحفظه ، وأن يكون له أن يتصدق عن قبل مالكه.

ففي الصورة الاولى لو تلف لا ضمان عليه ، لأجل هذه القاعدة ، وبل لقاعدة الإحسان ، لقوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2).

وأما في الصورة الثانية فالإذن في التصدق عن قبل صاحبه مشروط بأن يكون ضامنا له إن وجد.

وبعبارة أخرى : جعل الشارع له هذا الحكم مقيد بأن يكون عليه الضمان على تقدير ظهور صاحبه. هذا إن قلنا بالضمان ، وإلا فلا إشكال كي يجاب.

ومنها : الأكل في المخمصة ، فإنهم قالوا بأنها مأذون في هذا التصرف ، ومع ذلك

ص: 21


1- سيأتي في هذه المجلدة ، ص 79 - 100.
2- التوبة (9) : 91.

قالوا بالضمان.

وفيه : أنه لا دخل لهذه المسألة بباب الأمانة ، وأما الإذن من قبل الشارع بالنسبة إلى مثل هذا التصرف وإن كان مسلما ، لكنه من أول الأمر مقيد بالإتلاف بعوض ، لا مجانا.

فهذه المسألة أجنبية عن مسألتنا.

وأما الصانع والحمال والمكاري والأجير وأمثالهم من الذين مأذونون من طرف المالك ، أو من كان بمنزلته كوكيله أو وليه أو الذين هم مأذونون من طرف الشارع بأن يكون المال في يده فليس تلفه موجبا لضمانهم ، لأجل هذه القاعدة التي أثبتناها بالأدلة المتقدمة. وأما إتلافهم لذلك المال فموضوع آخر غير التلف ، والضمان يكون لإتلافه لو قلنا به في بعض المقامات.

فتلخص من مجموع ما ذكرنا من أول القاعدة إلى هاهنا أن قاعدة عدم ضمان الأمين لو تلف ما في يده بدون تعد وتفريط قاعدة فقهية ، ثابتة بالأدلة. والنقوض التي أوردوها لا يرد شي ء منها عليها ، وأن باب ضمان الإتلاف خارج عن مورد هذه القاعدة ، فإن موردها التلف وضمان اليد كما عرفت.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

وموارد تطبيقها وإن ظهرت مما ذكرناه وهو أن كل مورد يكون مال الغير بيد شخص هو مأذون من قبل مالكه ، أو من قبل الشرع في أن يكون ذلك المال بيده ، بغير تضمينه من قبل المالك ، أو بغير اشتراط الإذن من قبل الشارع بكونه ضامنا عند التلف.

ص: 22

وبعبارة أخرى : يكون أمينا من قبل مالكه ، أو من قبل الشارع : ففي مثل هذا المورد ، لو تلف ذلك المال في يده بدون تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.

فالموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن المالك في كونه بيده : ككونه وكيله في أنواع المعاملات من بيع ، أو صلح ، أو إجارة ، أو الأخذ بالشفعة ، أو رهن أو أداء دين ، أو إعطاء قرض ، أو مضاربة ، أو مزارعة ، أو مساقاة ، أو في شراء حاجة من أمور معاشه ، أو في شراء ملك أو دار أو بستان ، أو يعطي ماله للحمالين أو المكارين لحمله ونقله ، وكثير من الموارد الآخر التي تركناها ، لوضوحها بعد معرفة الضابط فيها ، ولان لا تطول المقام.

والموارد التي لا ضمان عليه من جهة إذن الشارع : كاللقطة مدة التعريف ، ومجهول المالك إلى أن يحصل اليأس من معرفة صاحبه ، وأن يتصدق به عن طرف صاحبه بعد حصول شرائط التصدق من وجود الفقير ومعرفته وتحصيل الإذن من الحاكم الشرعي إن لم يكن هو بنفسه متصفا بهذه الصفة.

وكيد الحاكم الشرعي ، أو وكيله ، أو المأذون من قبله على أموال القصر والغيب.

وكيد الأب أو الجد على أموال صغارهما ، أو كيد الوصي أو القيم من قبلهما عليهم.

وكيد صاحب المال الذي تعلق به الخمس أو الزكاة إلى حصول المستحق ووجدان الفقير وإمكان الإيصال بهم عرفا ، أو المال الذي أنقذه من الغرق أو الحرق ، أو أخذه من يد السارق بدون اطلاع المالك في الموارد الثلاثة.

ففي هذه الموارد ، وكثير من الموارد الآخر من أمثالها لو تلف المال في يد الأمين بلا تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه من ناحية يده.

نعم لو تحقق أحد أسباب الضمان الآخر غير اليد فهو يكون على مقتضاه.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 23

15 - قاعدة الإتلاف

اشارة

ص: 24

قاعدة الإتلاف (1)

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة التي تمسك بها الفقهاء في موارد الضمان هي قاعدة « من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن ». والبحث فيها من جهات ثلاث :

[ الجهة ] الأولى

في مداركها

أقول : إن هذه القاعدة مما اتفقت عليه الكل ولا خلاف فيها ، بل يمكن أن يقال إنها مسلمة بين جميع فرق المسلمين ، وربما يقال إنها من ضروريات الدين.

واستدل عليها الشيخ وابن إدريس في المبسوط (2) والسرائر (3) بقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (4).

ولا شك في أن إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه اعتداء عليه ، وتعبيره سبحانه

ص: 25


1- (*) « الحق المبين » ص 87. « عناوين الأصول » عنوان 58 ، « خزائن الأحكام » ش 25 ، « مجموعه رسائل » ش 12 ص 474 ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 94 ، « مجموعه قواعد فقه » ص 143 ، « قواعد فقه » ص 91 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 110 ، « القواعد » ص 19 ، « قواعد فقه » ص 109 ، « قواعد الفقه » ص 137 ، « قواعد فقهي » ص 21 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 45 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 193 ، « قواعد الفقيه » ش 41 ، ص 119 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 378 ، « مجله حقوقي دادگسترى » العام 1 ، ش 4 « ضمان تلف » مصطفى امامى.
2- « المبسوط » ج 13 ، ص 60.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 480.
4- البقرة (2) : 194.

وتعالى عن أخذ المثل في المثليات والقيمة في القيميات الذي هو عبارة عن كونه ضامنا بالاعتداء للمشاكلة ، كقوله تعالى ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ، (1) وكقول الشاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جهة وقميصا

فالآية تدل دلالة واضحة على أن من أتلف مال الغير بدون إذنه ورضاه فهو له ضامن.

وقال الشيخ في المبسوط : روى الأعمش عن أبي وائل ، عن عبد اللّه بن مسعود ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » (2). ولا شك في أن احترام المال وأنه بمنزلة دمه يدل على أنه لو أتلفه متلف لا يذهب هدرا ، بل يكون ضمانه عليه.

وروي الشيخ أيضا في المبسوط عن عبد اللّه بن السائب ، عن أبيه ، عن جده عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا ، من أخذ عصا أخيه فليردها » (3).

وأيضا روي في المبسوط عن الحسين أو حسن ، عن سمرة أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (4).

والرواية الأخيرة ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله « وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي » وفي بعض النسخ « حتى تؤديه » رويت عن طريق الخاصة أيضا (5).

كما أنّ ما رواه ابن مسعود ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » أيضا رواه الخاصة ، (6) وأيضا يدل عليه وقوله علیه السلام : « المغصوب مردود » (7).

ص: 26


1- الشورى (42) : 40.
2- « المبسوط » ج 3 ، ص 59.
3- المصدر.
4- المصدر.
5- « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 7 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 1 ، ح 15944 ، « عوالي اللئالى » ج 1 ، ص 224 ، ح 106 ، وج 2 ، ص 389 ، ح 10 ، وج 3 ، ص 246 و 251 ، ح 2 و 3.
6- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 473 ، ح 4.
7- « الكافي » ج 1 ، ص 539 ، باب ألفي والأنفال و ... ، ح 4 ، « تهذيب الاحكام » ج 4 ، ص 128 ، ح 366 ، باب قسمة الغنائم ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 365 ، أبواب الأنفال وما يختص للإمام علیه السلام ، باب 1 ، ح 4. وفي الكافي والوسائل : « لأنّ الغصب كلّه مردود ». وفي التهذيب : « لأنّ المغصوب كلّه مردود ».

وحكى في المستدرك عن دعائم الإسلام : روينا عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطب يوم النحر بمنى في حجّة الوداع وهو على ناقة العضباء ، فقال : أيّها الناس إنّي خشيت أن لا ألقاكم بعد موقفي هذا ، بعد عامي هذا ، فاسمعوا ما أقول لكم فانتفعوا به ، ثمَّ قال أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا : هذا اليوم يا رسول اللّه. قال : فأي الشهور أعظم حرمة؟ قالوا : هذا الشهر يا رسول اللّه. قال : فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا : هذا البلد يا رسول اللّه. قال : فإنّ حرمة أموالكم عليكم ، وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقوا ربكم فيسئلكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم. قال : « اللّهم أشهد » الحديث. (1)

وأيضا عنه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال في حديث : « فمن نال من رجل شيئا من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك ، والانفصال من كل ما كان منه إليه ، وإن كان قد مات فليتنصّل من المال إلى ورثته ، وليتب إلى اللّه مما أتى إليه حتى يطلع عليه عزّ وجلّ بالندم والتوبة والانفصال. ثمَّ قال : - ولست آخذ بتأويل الوعيد في أموال الناس ، ولكنّي أرى أن أؤدي إليهم إن كانت قائمة في يدي من اغتصابها وينتصّل إليهم منها ، وإن فوّتها المغتصب أعطى العوض منها ، فإن لم يعرف أهلها تصدّق بها عنهم على الفقراء والمساكين ، وتاب إلى اللّه عزّ وجلّ ممّا فعل » (2).

وأيضا في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين علیه السلام : أنّه قضى فيمن قتل دابة عبثا ، أو قطع شجرا ، أو أفسد زرعا ، أو هدم بيتا ، أو عوّر بئرا ، أو نهرا أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد ، وضرب جلدات نكالا. وإن أخطأ ولم يتعمّد ذلك فعليه الغرم

ص: 27


1- « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 87 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 20816.
2- « مستدرك الوسائل » ج 12 ، ص 105 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 78 ، ح 13641 ، وج 17 ، ص 87 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 20817.

ولا حبس ولا أدب. وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها (1).

وأيضا يمكن استفادة هذا الحكم من صحيحة أبي ولاّد التي ذكرها الشيخ الأنصاري قدس سرّه في المكاسب (2).

ودلالة هذه الأخبار على ضمان المتلف لمال الغير بدون إذنه ورضاه في كمال الوضوح ، مضافا إلى ما عرفت من الآية الشريفة.

وأما ما اشتهر في الألسن من قولهم « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » فلم نجده في كتب الحديث ، ولعلّ المتتبّع الخبير يجده أو وجده.

وعلى كلّ حال ثبوت هذا الحكم عند عامّة الفقهاء بدرجة تكون غنيّة عن الفحص والبحث في مداركه.

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة

أقول : الظاهر أنّ التلف بمعنى الهلاك والفناء ، فإتلاف المال عبارة عن إهلاكه وإفنائه ، والإفناء قد يتعلّق بذات المال وقد يتعلق بماليته مع بقاء ذاته ، مثلا لا شكّ في أنّ الثلج له ماليّة في الصيف ، وأمّا في الشتاء فلا ماليّة له ، أي العقلاء لا يبذلون بإزائه المال ، فإذا أفنى ذات ثلج الغير فهذا إتلاف مال الغير.

وأمّا إذا حبسه على صاحبه حتّى دخل الشتاء ، كما لو غصب المثلج أي المكان الذي يذخرون فيه الثلج لبيعه في الصيف فرده على صاحبه مع الثلج الذي فيه في الشتاء ، فهذا إتلاف ماليّة الثلج ، لا نفسه.

ص: 28


1- « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 95 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 9 ، ح 20842 ، وج 18 ، ص 199 ، أبواب الدفاع ، باب 6 ، ح 22495 ، وج 18 ، ص 333 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 34 ، ح 22882.
2- « المكاسب » ص 69.

والأمثلة لهذا القسم من الإتلاف أي إتلاف الماليّة دون نفس المال كثيرة.

والظاهر من إتلاف المال - سواء كان بعبارة « من أتلف مال الغير » كما هو معقد الاتفاق والإجماع ، أو كان هو بعبارة « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » - هو المعنى الأوّل ، أي إفناء نفس المال لا إفناء ماليّته ، وبناء على هذا المعنى فالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال يحتاج إلى التماس دليل آخر.

ويكفي في الحكم بالضمان في موارد إفناء الماليّة دون نفس المال قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) بالتقريب الذي تقدّم.

وأمّا المراد من « المال » فالظاهر هو أنّ كلّ شي ء يكون مطلوبا ومرغوبا عند الناس لأجل قضاء حوائجهم به ، ويكون دخيلا في معاشهم من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب والأشياء التي يتزيّنون بها ، أو شي ء يحصل مطلوبهم به كالنقود ، سواء كانت من ذهب أو فضّة أو يكون من جنس آخر ، فهو المال.

والحاصل : أنّ « المال » عبارة عن كل شي ء يكون للناس احتياج إليه في تدبير أمورهم في حياتهم وعيشتهم ، في حال صحّتهم ومرضهم بل في حال موتهم ، فالأدوية التي يعالج بها المريض مال عند العرف والعقلاء ، والمعول (1) الذي يحتاجون إليه في دفن موتاهم مال ، وأقسام النقود التي يحصلون بها ما يحتاجون إليه مال.

والمال بهذا المعنى قد يكون من قبيل الجواهر الموجودة مستقلا ولا في الموضوع ، وذلك مثل كلية الأجسام التي تستعمل في رفع الحاجات كما أشرنا إلى بعضها ، وقد يكون من قبيل العوارض كركوب الدابّة ، وسكنى الدار ، والتزيّن بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ، أو غيرها.

ويسمّى هذا القسم في اصطلاح الفقهاء تبعا للإطلاقات العرفيّة ب- « المنافع » ، فالمنافع أيضا مال.

ص: 29


1- المعول ج معاول : اداة لحفر الأرض.

فهذه الأمور كلّها ، وأيضا كلّ ما يمكن به تحصيل بعض هذه الأمور مال ، غاية الأمر أنّ نفس هذه الأمور أموال تكوينيّة ليست ماليّتها بجعل في عالم الاعتبار.

وما يحصل به أحد هذه الأمور قد يكون مالا تكوينا وذلك كالمبادلات الجنسيّة ، وقد يكون من الأموال الاعتبارية كالأوراق الماليّة الموجودة في هذه الأعصار ، فإنّها في حدّ نفسها ليست ممّا يستعمل في رفع حوائج الإنسان أو الحيوان ولكن بعد اعتبارها من ناحية من بيده الاعتبار يمكن تحصيل ما يرفع الحوائج بها ، وعليها الآن مدار المعاملات والمعاوضات في الأسواق.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ مدار مالية المال على أحد أمرين :

أحدهما : كون الشي ء بحيث يرفع به إحدى حاجات الإنسان ولو كان علفا لدابّته ، أو بنزينا لسيّارته ، فضلا عن أن يكون مأكولا أو مشروبا أو ملبوسا لنفسه.

والثاني : أن يكون ممّا يحصل به أحد هذه الأمور كالأوراق الماليّة ، والنقود الذهبيّة ، والفضّية ، أو أحد هذه الأمور فيما إذا وقع عوضا في المعاملة لجنس آخر من هذه الأمور.

ومنه تعريف بعضهم البيع بمبادلة مال بمال ، وبهذا المعنى الثاني قد تكون ماليّة المال من الأمور الاعتباريّة وذلك كالأوراق الماليّة ، فهي بالاعتبار تصير مالا ، وكذلك تسقط ماليتها باعتبار آخر ممّن بيده الاعتبار.

فقوله تعالى ( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (1) المراد بالمال المذكور في الآية الشريفة هو هذه الأمور التي تقضي بها الحوائج وأمور المعاش كلّها - كما ذكرنا - أو ما يمكن أن يحصّل تلك الأمور به. والمال بهذا المعنى مدار الغناء والفقر وجودا وعدما.

وأمّا تعريفه كما صدر عن بعضهم بأنّه ما يبذل بإزائه المال ، فهو تعريف لفظي ، وإلاّ ففيه دور واضح.

ص: 30


1- الكهف (18) : 46.

وأمّا الضمان في هذه القاعدة : فالمتفاهم العرفي منه هو كون التالف بوجوده الاعتباري في عهدة من أتلفه ، وهذا هو الضمان الواقعي.

وأما الضمان المسمّى فهو الذي سمّاه الطرفان في العقود المعاوضيّة عوضا عن ما يقابله من الطرف الآخر.

فحاصل معنى القاعدة المتسالم عليها هو أنّه إن أفنى مال الغير بدون إذنه في ذلك الافناء ، يكون ذلك المال على عهدته بوجوده الاعتباري ، وإن لم يكن تحت يده فيجب عليه الخروج عند عهدته بإعطاء ، المثل في المثليّات والقيمة في القيميات.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

وقبل ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة :

وهي أنّ الإتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب.

فالأوّل مثل أن يأكل ماله الذي من المأكولات ، أو يشرب ماله الذي من المشروبات ، أو يحرق أثوابه وأمثال ذلك ممّا يصدر (1) فناء مال الغير ، عن نفسه بدون توسيط فاعل إرادي أو غير إرادي آخر.

والثاني عبارة عن كلّ فعل صار سببا لوقوع التلف ولم يكن علّة تامّة للتلف أو جزء الأخير من العلّة التامّة ، بل يكون بحيث لو لم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف.

ولهذا عرّفوا السبب بأنّه ما لا يلزم من وجوده الوجود ، وإلاّ فهو العلّة التّامة أو الجزء الأخير منها ، ولكن يلزم من عدمه العدم فعلى هذا المعنى للتسبيب فلو حفر بئرا مكشوفة في الطريق فوقع فيها شي ء وتلف

ص: 31


1- الظاهر انه غلط والصحيح : « يوجب » أو « يسبب » وأمثال ذلك.

فهو السبب.

فالقسم الأوّل يقينا إتلاف حقيقة ، فيكون موجبا للضمان قطعا ، لما ذكرنا من الأدلّة وعليه الاتفاق من المسلمين قاطبة ، بل عليه اتّفاق جميع عقلاء العالم من المسلمين وغير المسلمين من ذوي الأديان ، بل ومن غير ذوي الأديان.

وأما القسم الثاني ، أي ما يلزم من عدمه عدم التلف فأيضا يمكن تحصيل الإجماع على كونه موجبا للضمان ، وقد ادّعى في الجواهر (1) نفي الخلاف فيه.

هذا مضافا إلى دلالة الأخبار على هذا المعنى.

فمنها : صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، سألته عن الشي ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال علیه السلام : « كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه » (2).

ومنها : صحيح زرارة عنه علیه السلام أيضا ، قلت له : رجل حفر بئرا في غير ملكه فمرّ عليها رجل فوقع فيها؟ فقال علیه السلام : « عليه الضمان لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان » (3).

ومنها : موثّق سماعة : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يحفر البئر في داره أو ملكه؟ فقال علیه السلام : ما كان حفر في داره أو ملكه فليس عليه ضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها » (4).

ص: 32


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 46.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 349 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 2 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 155 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ... ، ح 5347. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 223 ، ح 878 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 181 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 9 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 907 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 40 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 179 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 8 ، ح 1.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ، ح 4 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 153 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ، ح 5341. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 229 ، ح 903 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 180 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 8 ، ح 3.

ومنها : خبر السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن » (1).

وأيضا هناك روايات معتبرة في باب تغريم شاهد الزور حتى قتله في بعض الصور (2) ، مثلا لو شهد شاهدان عدلان مرضيّان بحسب الظاهر على أنّ فلانا قتل فلانا ، فقتل المشهود عليه بواسطة هذه الشهادة ، ثمَّ رجعا عن شهادتهما. فان قالوا : أخطأنا ، فعليهما دية المقتول. وإن قالوا : تعمّدنا الكذب ، فيقادان.

وخلاصة الكلام أنّ الروايات في باب ضمان المسبب - بالكسر مثل المباشر - للإتلاف كثيرة ، وقد ذكرنا جملة منها في شرح قاعدة « المغرور يرجع إلى من غر » (3).

ثمَّ إنّ ظاهر الروايات التي ذكرناها بعضها فيه الإطلاق بالنسبة إلى قصد موجد السبب الوقوع المسبب وعدم قصده ، بل ظاهرها هو الضمان. ولو كان حفره للبئر في غير ملكه بقصد عدم وقوع أحد فيه وبرجاء ذلك ، فان كان مدرك الضمان في هذه الصورة هو الإجماع يمكن أن يقال بأنّ المتيقّن منه هو فيما إذا قصد بإيجاد السبب وقوع التلف.

ولكن إذا كان المدرك هي الروايات كما هو كذلك ، لما ذكرنا مرارا من أنّ مع وجود دليل معتبر في المقام لا يبقى مجال للإجماع ، لأنّ أحد مقدّمات تحقّق الإجماع المصطلح

ص: 33


1- « الكافي » ج 7 ، ص 350 ، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المارّ ، ح 8 ، « الفقيه » ج 4 ، ص 154 ، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه ... ، ح 2. « تهذيب الأحكام » ج 10 ، ص 230 ، ح 908 ، باب ضمان النفوس وغيرها ، ح 41 ، « وسائل الشيعة » ج 19 ، ص 182 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 11 ، ح 1.
2- راجع : « الكافي » ج 7 ، ص 383 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 2 - 5 ، و « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 238 ، أبواب الشهادات ، باب 11 ، ح 1 و 2 ، وج 19 ، ص 69 ، أبواب القصاص في النفس ، باب 62 ، وج 19 ، ص 194 ، أبواب موجبات الضمان ، باب 24.
3- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 270.

في الأصول - الذي هو من الأدلّة وقلنا بحجيته - هو عدم وجود دليل معتبر يمكن أن يكون هو منشأ ذلك الإطلاق ، فلا شكّ في إطلاقها في كون إيجاد سبب الفناء والهلاك بالمعنى الذي ذكرنا للسبب موجب الضمان ، قصد الموجد للسبب ترتّب المسبّب على فعله أو لم يقصد.

نعم يلزم أن يصدق عليه ما أخذ موضوعا للضمان ، وهو عنوان « من حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها شي ء فهو ضامن » وإن قصد العدم أي حفر برجاء عدم وقوع أحد فيها.

ولو اجتمع السبب والمباشر ، فهل الضمان على المباشر أو السبب أو على كليهما بالاشتراك؟ احتمالات :

قال المحقّق في الشرائع : إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب ، كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها إنسانا ، فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع (1).

وادّعى جمع - على هذا القول - عدم الخلاف والإجماع ، وكان تقديم المباشر على السبب عندهم من المسلّمات.

والأمر في هذه الفرع الذي ذكره المحقّق وإن كان كما ذكره ، لأنّ الجناية مستند عرفا بل عقلا إلى الدافع ، وحفر البئر بالنسبة إلى هذه الجناية من المعدّات التي لا توجب الضمان مع صدور الإتلاف عن الفاعل المختار ، وإلاّ كان صانع السيف ضامنا إذا قتل به المباشر شخصا ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ، ولا يصحّ القول به قطعا.

إلاّ أنّ جميع موارد اجتماع السبب والمباشر ليس من هذا القبيل ، مثلا لو وصف الطبيب دواء وكان سمّا قاتلا ، والممرض أعطاه للمريض فأتلفه ذلك السمّ ، ففي هذا المورد استناد الجناية إلى السبب أي الطبيب أقوى من المباشر ، خصوصا إذا كان

ص: 34


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

المرض جاهلا والطبيب عالما بأنه سمّ قتّال.

نعم إذا كان الممرض عالما بأنه سمّ قتّال فيكون هو الجاني.

وكذلك في باب شهادة الزور التي تصير سببا لإتلاف نفس المشهود عليه أو ماله الضمان على السبب أي الشاهد الزور ، لا على المباشر أي الحاكم أو من يأتمر بأمره وينفذ حكمه.

وخلاصه الكلام في هذا المقام - أي فيما إذا اجتمع السبب والمباشر - أنّ المباشر إذا كان فاعلا مختارا عاقلا ، وكان ملتفتا إلى أنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فلا شكّ في اختصاصه بكونه ضامنا في هذه الصورة ، وليس على ذي السبب ضمان أصلا.

وأمّا لو يكن المباشر ذا إرادة وشعور فالضمان على ذي السبب ، وذلك كمن أجّج نارا في غير ملكه والريح نشر النار فأصابت النار مال غيره فاحترق ، أو حفر بئرا في الطريق فدفعه حيوان أو مجنون إلى البئر ووقع فيها فتلف هو نفسه أو ماله ، ففي مثل هذه الصورة الضمان على ذي السبب ، لأنّه المتلف حقيقة ، والتلف حاصل بسبب فعله بالمعنى الذي ذكرنا للسبب.

وأمّا إن كان عاقلا مختارا في فعله ولكن لم يكن يعلم بأنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فإن لم يكن مغرورا ولا مكرها فأيضا الضمان عليه ، أي على المباشر ، لأنّ هذه القاعدة مفادها أنّ من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، سواء كان عالما بأنّ فعله هذا يترتّب عليه الإتلاف أو لم يعلم ، لأنّ عدم العلم لا يؤثّر في عدم الضمان ، إذ موضوع كون الضمان عليه هو الإتلاف مطلقا ، لا الإتلاف مع العلم بأنّه إتلاف. وأمّا لو كان مغرورا كالممرض الجاهل فيرجع - بما خسره من باب ضمان الإتلاف - إلى الغارّ. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغارّ عالما أو جاهلا بتغريره لهذا التلف.

وأمّا إن كان مكرها فليس عليه ضمان إذا كان الإكراه في غير الدماء ، فإذا أكره على الدفع في البئر فمات فيضمن الدية أو يقاد ، إذا كان الدفع في البئر من الأسباب

ص: 35

العادية للموت ، لأنّه لا تقية في الدماء. وأما إذا أكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره - بالكسر - لا على المتلف الذي هو مكره - بالفتح - لأنّ السبب هنا أقوى من المباشر ، لأنّ المباشر وإن كان فاعلا ولكن ليس بمختار.

ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره من عقوده وإيقاعاته ، والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره - بالكسر - ويسندون إليه ، كما أنّه لو أمر المكره بهدم دار شخص خدّامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته لا ينسب هدم الدار عند العرف إلاّ إلى ذلك المكره ، والناس يقولون إنّ فلانا - الذي هو المكره - هدم دار فلان ، لأنّه أمر غلمانه بذلك.

وبناء على هذا لو أكره إنسانا على حفر البئر في الطريق ، فوقع فيها مال شخص وتلف ماله بذلك الوقوع ليس على الحافر ضمان ، بل الضمان على الآمر المكره.

إذا ظهرت لك هذه المقدّمة ، فنقول : ذكروا هاهنا فروعا كثيرة في كتبهم الفقهيّة ، واختلفوا في الحكم بالضمان وعدمه في بعض الموارد وأنّه على السبب في بعضها وعلى المباشر في موارد آخر ، ونحن نذكر جملة منها إن شاء اللّه تعالى وبتوفيقه :

منها : أنّه قال في الشرائع : لو ألقي صبيا في مسبعة ، أو حيوانا يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع (1).

وهذا كلام حقّ لما ذكرنا من الضابط في كون الضمان على السبب دون المباشر ، وهو أن لا يكون المباشر فاعلا عاقلا ، بل يصدر عنه الفعل بدون تروّ وتفكّر في عواقبه لعدم قدرته على التروّي والتفكّر. وإن شئت عبّر عن هذا بأنّ السبب أقوى من المباشر ، كما عبّر به في الشرائع.

وبناءً على هذا يكون لهذا الفرع نظائر كثيرة تشبهها في هذه العلة ، مثلا لو أعطى سكينا بيد مجنون فجرح أو قتل ، أو فتح باب الحبس على سبع ففرس إنسانا أو

ص: 36


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

حيوانا ، أو ألقى حية على نائم أو من ليس بنائم ولكن لا يقدر على التحرّز عنها بقتلها أو فراره عنها فلدغته ، وأمثال ذلك من النظائر الكثيرة.

ففي جميع هذه الموارد يكون الضمان على السبب ، لما ذكرنا ، ولعدم إمكان كون الضمان على المباشر لعدم العهدة في الحيوان أي السبع أو الحية المباشران للإتلاف حتى يكون الضمان عليهما.

وأما ما ذكر في عنوان المسألة في الشرائع بأنّه لو ألقى صبيّا ، فلعلّه باعتبار ضمان اليد وأنّ الصبي يقع تحت اليد بخلاف الكبير ، أو لعلّ هذا التخصيص بلحاظ عدم قدرة الصبي على الفرار أو الدفاع ، بخلاف الكبير.

فإن كان بلحاظ الوجه الأوّل فهو واضح البطلان ، لأنّ الحرّ لا يقع تحت اليد ، صغيرا كان أو كبيرا ، ولذلك لو أخذ ولدا صغيرا بالقهر عن وليّه ، فمات حتف أنفه بدون أيّ تعدّ أو تفريط في حقّه لم يكن ضامنا ، بخلاف ما لو كان الولد عبدا ومات ولو حتف أنفه وبآفة سماويّة يكون ضامنا.

وان كان بلحاظ الوجه الثاني فليس بمطّرد ولا بمنعكس ، كما هو واضح ولا يحتاج إلى البيان ، فالحقّ أنّه لا فرق في هذه المسألة بين الصغير والكبير ، والحر والعبد ، والإنسان والحيوان ، لأنّ الكلام في ضمان الإتلاف لا ضمان اليد. فالمناط في الضمان إمكان التحرّز بالدفاع أو الفرار وعدمه إمكانه.

ومنها : أيضا ما ذكر في الشرائع من أنّه : لو غصب شاة فمات ولدها جوعا ففي الضمان تردّد ، وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتّفق تلفها ، وكذا التردّد لو غصب دابّة فتبعها الولد (1).

ومنشأ التردّد هو الترديد في صدق التسبيب في هذه الموارد الثلاث ، وفتاوى الفقهاء والأساطين مختلفة في هذه الموارد الثلاث ونظائرها جدّا.

ص: 37


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

فبعضهم يفتي بالضمان ، وبعضهم ينفي ، وبعضهم كصاحب الشرائع يقف عن الفتوى ويظهر التردّد.

وعلى كلّ حال أنت عرفت أنّ كون التسبيب موجبا للضمان مستفاد من تلك الروايات التي ذكرنا ، فلا بدّ من الحكم بالضمان في صدق ما أخذ موضوعا للضمان في تلك الروايات ، من دون أن ينجرّ إلى القياس. والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان :

أحدها : عنوان « كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ».

وهذا العنوان أجنبي عن الموارد الثلاث إلاّ أن يقال إنّ المناط في الضمان هو الإضرار بالمسلمين ، ولا خصوصية لكونه من طريق الطريق ، وهو لا يخلو من تأمّل.

الثاني : عنوان « من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن لما يسقط فيها ».

ولا شكّ في أنّ هذه الموارد الثلاث ونظائرها ليست من مصاديق من حفر بئرا في ملك غيره ، أو من مصاديق من حفر بئرا في الطريق. اللّهمّ إلاّ أن يقال : لا خصوصيّة لحفر البئر ، بل المراد إيجاد ما هو سبب تلف مال الغير في العادة مع وقوع التلف فعلا وترتّبه على السبب ، وليس ببعيد.

الثالث : ما جعل موضوعا للضمان في خبر السكوني عن أبي عبد اللّه علیه السلام من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أخرج ميزابا أو كنيفا » (1) إلى آخر ما ذكره من الأمور الخمسة.

والإنصاف أنّه يستظهر من هذه الرواية قاعدة كليّة ، وهي أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار. وكان سببا في العادة لوقوع تلف في مال المسلمين أو في نفسه ، ولم يتوسّط بين ذلك الفعل والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بحيث يكون التلف

ص: 38


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.

مستندا إليه عند العرف والعقلاء ، فهو - أي فاعل السبب - ضامن. وهذا استظهار لا قياس.

وبناء على هذا يكون تحقق الضمان وثبوته في الموارد الثلاثة هو الحقّ ، ولا وجه للتردّد.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الرواية ضعيفة من حيث السند ، لاشتراك هذا اللقب - أي السكوني - بين من هو موثوق إن كان المراد به إسماعيل بن مهران - وغير موثوق إن كان المراد منه هو إسماعيل بن أبي زياد فإنّه عامّي.

نعم ظهر لك ممّا ذكرنا - من أنّ الضمان يثبت فيما إذا كان الفعل المذكور سببا في العادة للتلف لا بصرف الاتّفاق - أنّ حبس مالك الماشية لو كان سببا في العادة يكون موجبا للضمان ، وإلاّ لو اتّفق ذلك كما هو مفروض الشرائع في هذا الموارد فإيجابه للضمان مشكل ، بل لا ينبغي القول به لعدم إطلاق في الرواية لكي يشمل مثل هذا الفرض.

ومنها : ما قال في الشرائع أيضا من أنّه : لو فكّ القيد عن الدابّة فشرّدت ، أو عن العبد المجنون فأبق ضمن ، لأنّه فعل يقصد به الإتلاف. وكذا لو فتح قفصا عن طائر فطار مبادرا أو بعد مكث (1).

أمّا كون هذه الأمور سببا للضمان واضح ، بناء على استفادة تلك القاعدة الكلّية من الروايات ، وهي أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار - أي غير مكره على ذلك الفعل - وكان سببا لوقوع التلف في العادة والأغلب ، ولم يتوسّط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فهو أي موجد السبب ضامن لذلك التالف. ولا شكّ أنّ فكّ القيد عن الدابّة الشرود ، خصوصا إذا كان حيوانا وحشيا مقيّدا كالغزال من هذا القبيل.

ص: 39


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.

ففكّ القيد عن الظبي المقيّد عادة سبب لأن يشرد ويتلف ولو بلحوقه إلى البرية فيصير حاله حال سائر الظباء الموجودة في البرّ فاعتبار الملكيّة فيها لغو. وهكذا فتح القفص عن الطائر الوحشي ، وهكذا فكّ القيد عن العبد المجنون يوجب شروده ، وهو يوجب تلفه عادة ولم يتوسّط بين فعله والتلف في الموارد الثلاثة فعل فاعل عاقل متعمّد عن اختيار ، لأنّ الدابّة والطائر حال عدم عقلهما معلوم ، والثالث - أي المجنون - كون فعله عن عقل خلاف الفرض.

نعم لو كان العبد المقيّد الذي فكّ القيد عنه عاقلا فلا ضمان ، لأنه توسط بين فعله - أي فكّ القيد عنه وتلفه - فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فيكون هو بنفسه مباشرا لإتلاف نفسه ، وذلك مثل أن فكّ القيد عنه فألقى نفسه عن عمد واختيار عن السطح فمات.

ومنها : أيضا في الشرائع لو فتح بابا على مال فسرق ، أو أزال القيد عن عبد عاقل فأبق ، وكذا لو دلّ السارق على مال فسرق فلا ضمان في الجميع ، (1) لأنّ في جميع هذه الصور توسّط بين فعله والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، فهو المباشر في الإتلاف ، ومعه لا يسند التلف إلى السبب البعيد.

نعم هو بفتح الباب إن كان ملتفتا إلى أنّه يمكن أن يوجب السرقة ، وبدون إذن صاحب الباب ، وكذلك بالنسبة إلى إزالة القيد يكون آثما ، وكذلك في دلالته للسارق آثم قطعا ، للإعانة على الإثم إن دلّه بقصد أن يسرق.

وحكى في الجواهر عن العلاّمة في الإرشاد القول بالضمان فيما لو دل السارق. (2) والظاهر أنّه متفرّد في هذا القول ، ولم يوافقه أحد فيه.

ثمَّ إنّ صاحب الجواهر ذكر هاهنا فرعا (3) وهو أنّه لو وجدت في البئر المذكورة -

ص: 40


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.
2- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 68.
3- المصدر.

أي البئر التي حفرها في الطريق أو في ملك غيره عدوانا وبدون إذن صاحبه - جثة حيوان ميّت ، لا يعلم أنّ سبب موته هل هو وقوعه فيها كي يكون حافر البئر ضامنا له ، أو ألقيت ميتة فيها حتّى لا يكون ضمان في البين؟ وحيث أنّ الضمان موضوعه موته وتلفه بسبب وقوعه فيها ، فإذا شكّ فيه يكون مجرى أصالة البراءة عن الضمان ، واستصحاب حياته إلى زمان وقوعه مثبت.

وأمّا لو علم بأنّ سبب الموت وقوعه فيها ، ولكن يحتمل أن يكون بدفع شخص عن عمد واختيار بحيث يكون موجبا لسقوط الضمان عن ذي السبب ، وذلك لتوسط فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بين ذلك السبب والتلف ، فالضمان يكون على المباشر المختار لا على ذي السبب.

فربما يتوهّم كون الضمان على ذي السبب بتوهّم أصالة عدم دفع أحد له.

ولكن أنت خبير بأنّه مثبت ، لأنّ لازم عدم دفع أحد عقلا هو وقوع التلف والتردي بفعل ذي السبب خاصّة. إلاّ أن يقال : إنّ موضوع الضمان مركّب من كون موته بوقوعه فيها مع عدم دفع أحد ، فأحد جزئيّ الموضوع وهو الوقوع في البئر بالوجدان على الفرض ، والجزء الآخر أي عدم دفع أحد بالأصل ، فتأمّل.

ومنها : ما قال في الشرائع أيضا : ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن إذا لم يكن يحبسه إلاّ الوكاء ، وكذا لو سأل منه ما ألان الأرض تحته فاندفع ما فيه ضمن بلا خلاف ، لأنّ فعله سبب مستقلّ للإتلاف. أمّا لو فتح رأس الظرف فقلّبته الريح أو طائر ، أو ذاب بالشمس ففي الضمان تردّد ، والأشبه أنّه لا يضمن ، لأنّ الريح والشمس كالمباشر فيبطل حكم السبب (1).

أقول : أمّا الأوّل أي إزالة الوكاء الذي هو عبارة عن الرباط الذي يشد به رأس القربة أو غيرها ، فالظاهر أنّه من الإتلاف مباشرة فخارج عن محلّ الكلام ، لأنّ فكّ

ص: 41


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 238.

الرباط عن القربة بحيث يكون موجبا لأسأله ما فيها من دهن ، أو لبن ، أو دبس ، أو غيره من المائعات يكون من قبيل المسبّب التوليدي ، كالإلقاء في النار والإحراق.

ففكّ الرباط بعنوانه الأوّلي فكّ رباط ، وبعنوانه الثانوي هو إسالة المائع الذي في تلك القربة. وإن أنكرت ذلك فلا أقل من أنّه من باب العلّة التامّة والمعلول.

هذا فيما إذا كان سيلان ما في الظرف مترتّبا على إزالة الوكاء كما هو المفروض.

وإلاّ لو لم يكن كذلك ، بل كان سيلان ما فيه متوقّفا على أمر آخر زائدا على إزالة الوكاء ، كأن يقلّبه الريح أو طائر أو على إذابة الشمس له ، فهو الشقّ الآخر الذي ذكره ، وقال فيه بعدم الضمان ، معلّلا بأنّ الريح والشمس كالمباشر فيبطل السبب. وإن كان هذا الكلام أيضا محلّ تأمّل بل إشكال ، لما ذكرنا وتقدّم بأنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار ، وكان عادة سببا لوقوع التلف ، ولم يتوسّط بين ذلك السبب والتلف فعل فاعل عاقل مختار ، وإن توسّط أمر آخر وعلّة أخرى كالريح والطائر والشمس ، فيكون الضمان على ذي السبب. ولا يبطل حكم السبب إلاّ بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الضمان في مسألة إزالة الوكاء يكون من باب الإتلاف بالمباشرة ، وليس من قبيل الضمان بالتسبيب.

وأمّا في مسألة فتح رأس الظرف وإسالة ما فيه من المائع بواسطة إذابة الشمس لما فيه يكون من باب التسبيب.

نعم لو لم يكن فتح رأس الظرف سببا لوقوع التلف عادة ، وإنّما وقع التلف من باب الاتفاق ، كما أنّه فتح رأس الظرف في الغرفة ، ومن باب الاتّفاق دخل فيها طائر وقلّبتها فلا ضمان في هذه الصورة. كما أنّ في صورة تقليب الريح أيضا كذلك لو لم يكن الظرف في مهب الريح ، وعلى خلاف المتعارف والعادة هبت ريح وقلّبته فأيضا لا ضمان ، لما ذكرنا من أنّ في الضمان بالتسبيب لا بدّ وأن يكون فعل ذي السبب سببا لوقوع التلف بحسب العادة لا بصرف الاتّفاق.

ص: 42

وأمّا مسألة إلانة الأرض تحته لأسأله الماء منه بواسطة إزالة الوكاء فهذا من قبيل معلول المعلول ، فإن كان إزالة الوكاء علّة لأسأله الماء منه ، وإسالة الماء منه علّة لإلانة الأرض تحته ، وإلانة الأرض تحته علّة لانقلابه وتلف ما فيه ، فبإيجاد السبب الأوّل تترتّب عليه الأسباب الطوليّة ويكون حالها حال السبب الأوّل ، فيمكن أن يقال إنّ هذا أيضا من الإتلاف مباشرة.

ومنها : أيضا ما هو في الشرائع قال قدس سرّه ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره ، أو أجّج نارا فأحرقته لم يضمن ، ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا مع علمه أو غلبة ظنّه ، إنّ ذلك موجب للتعدّي إلى الإضرار (1).

وفي هذه المسألة صور :

إحديها : هذه التي ذكرها في الشرائع.

الثانية : عين هذه الصورة إلاّ أنّها مع التجاوز عن قدر الحاجة.

الثالثة : أن لا يكون له علم ولا غلبة الظنّ بالتعدّي إلى الإضرار ، مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة.

الرابعة : فيما إذا تجاوز عن قدر الحاجة ولكن لا علم له ولا ظنّ بالتعدّي.

الخامسة : عين هذه الصورة الرابعة ولكن مع العلم بعدم التعدّي.

السادسة : عين هذه الصورة الخامسة ولكن مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة.

وفي جميع هذه الصور الستّ المفروض وقوع التلف ، وإلاّ لم يكن محلّ للبحث في أنّه يضمن أو لا يضمن.

أقول : أقوال الفقهاء المحققين والأساطين في هذه المسألة مختلفة جدا ، فليس في المسألة إجماع على الضمان ولا على عدمه ، فنتكلّم فيما هو مقتضى القواعد

ص: 43


1- « الشرائع » ج 3 ، ص 237.

الأوّليّة ، فنقول :

أمّا الصورة الأولى التي ذكرها في الشرائع ، فمع علمه بالإضرار وأنّ فعله هذا يكون سببا لتلف مال الغير فلا وجه لتخيّل عدم الضمان بصرف إذن الشارع في هذه الفعل ، لأنّ الإذن الشرعي لا يرفع الآثار الوضعيّة ، فلو أذن الشارع في أكل الميتة من باب الاضطرار فلا يرفع هذه الإذن نجاستها.

بل يمكن أن يقال : إن هذه الصورة من مصاديق الإتلاف مباشرة ، وليس من التسبيب ، لأنّه إذا علم أنّه يترتب على فعله هذا غرق مال الغير ، أو احتراقه ، أو جفاف شجر الجار القريب من النار التي أجّجها ولو كانت النار في ملكه ، فهو من مصاديق الإتلاف بالمباشرة حقيقة.

هذا مع أنّ كونه مأذونا في إرسال الماء في ملكه ، أو تأجيج النار فيه في هذه الصورة كلام بيّنّاه في قاعدة لا ضرر.

وأمّا القول بأنّ قاعدة الإتلاف لم ترد بهذه الألفاظ في رواية من طرقنا وإن اشتهرت في الألسنة والأفواه ، فليست دليلا لفظيا كي نتمسّك بإطلاقها ، كما ذكره صاحب الجواهر (1).

ففيه أنّه بيّنّا في صدر البحث عن هذه القاعدة وقلنا إنّنا وإن لم نجد رواية بهذه الألفاظ ، لا من طرقنا ولا من طرق الجمهور ، ولكن مضمون هذه القاعدة مروية بالسنة مختلفة ، فتكون من القواعد المصطادة من الموارد المختلفة من الروايات. مضافا إلى كونها بهذه الألفاظ من المسلّمات بين الخاصّة والعامّة ، ولا يزال يستدل الفقهاء عموما بهذه القاعدة على الضمان في الموارد الجزئيّة المشكوكة.

فلو سلّمنا أنّ مدركها الإجماع فقط يكون معقده مطلق ، فيكون حالها حال الدليل اللفظي فيتمسّك بإطلاقها.

ص: 44


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 60.

والإنصاف أنّ هذه الفتوى من مثل المحقق قدس سرّه شيخ الفقهاء لا يخلو من غرابة ، وإن أسند هذا القول في المسالك إلى العلاّمة في القواعد والإرشاد أيضا (1).

وأمّا الصورة الثانية فتكون سببا للضمان بطريق أولى ، ولا يحتاج إلى التوضيح والبيان.

وأمّا الصورة الثالثة أي فيما لا يعلم بالتعدّي ولا يظنّ ولم يتجاوز قدر الحاجة ، فهذه الصورة على قسمين :

فتارة ترتّب التلف على هذا الفعل ليس غالبيّا وبحسب العادة ، وإنّما قد يقع اتّفاقا لعارض ، كما أنّه من باب الاتّفاق هبت ريح بخلاف العادة والمتعارف فأثرت النار في مال الجار.

فالظاهر عدم الضمان في هذه الصورة ، لا لأنّه مأذون في هذا الفعل ، لما ذكرنا من أنّ الإذن لا يرفع الضمان ، بل لما اشترطنا من أنّ الضمان لا يكون إلاّ فيما إذا كان الفعل الصادر عن ذي السبب سببا في الأغلب وبحسب العادة.

وأخرى يكون غالبيّا وبحسب العادة.

فالظاهر أنّه يضمن ، لأنّ فعله سبب غالبيّ لوقوع التلف ، كما أنّه في يوم هبوب الريح لو أجّج نارا ولكن لم يحصل له علم ولا ظن بالتعدّي إلى الإضرار بالجار لغفلته أو بلاهته ، مع أنّ التعدّي في مثل ذلك اليوم لم يكن اتفاقيّا ، بل كان أمرا عاديا متعارفا ، ففعله هذا سبب عادي للتلف ، ولم يتوسّط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار ، الذي هو الضابط في استناد التلف إلى السبب.

وأمّا الصورة الرابعة فيضمن بطريق أولى ، لأنّ المفروض أنّه تجاوز عن قدر الحاجة.

ص: 45


1- « مسالك الافهام » ص 257.

وأمّا الصورة الخامسة فعمدة الوجه في القول بعدم الضمان فيها هو العلم بعدم التعدّي. ولكن هذا العلم ليس له أثر ، لأنّه على الفرض أوجد سبب التلف الذي هو سبب الضمان ولكن باعتقاد انّه لا يتلف ، وقد تبيّن خطأ اعتقاده وأنّه جهل مركّب ، فما ذكرنا من الضابط في استناد التلف إلى فعله تحقق فيكون ضامنا.

وأمّا الصورة السادسة وهي أن لا يتجاوز قدر الحاجة مع علمه بعدم التعدّي ، فإذا كان وقوع التلف اتّفاقيّا وليس فعله سببا غالبيا لوقوع التلف فلا يضمن ، لما بيّنّا من اشتراط الضمان يكون فعل ذي السبب سببا غالبيا ، وإذ ليس فليس. وأمّا لو كان سببا غالبيا وهو علم بعدم التعدّي لغفلته أو بلاهته فيضمن ، لما ذكرنا في القسم الثاني من الصورة الثالثة.

ومنها : ما في التذكرة من انّه : لو فتح القفص ، أو حلّ قيد الفرس ، أو العبد المجنون فبقيا واقفين ، فجاء إنسان ونفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما ، لأنّ سببه أخصّ فاختصّ الضمان به ، كالدافع والحافر (1).

ولعلّ مراده بقوله : « لأنّ سببه أخصّ » أنّ فعل المنفرد لا ينفكّ عن فرارهما ، بخلاف فتح القفص بالنسبة إلى الطائر ، وحل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون فإنّه يمكن أن لا يتعقّب بفرار الطائر في فتح القفص ، وأن لا يتعقّب بفرار الفرس والعبد المجنون بالنسبة إلى حلّ قيدهما ، فكأنّه أراد بذلك أنّ النفر جزء الأخير من العلّة التامّة لفرارهما.

وأمّا فتح القفص بالنسبة إلى الطائر الواقف بعد الفتح ، وكذلك حل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون الواقفين بعد حلّ القيد من قبيل المعدّ.

ولا شكّ في أنّ استناد المسبّب إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أولى من استناده إلى المعدّ ، كما أنّ في مسألة الحافر والدافع يكون الأمر كذلك أيضا ، فالاستناد

ص: 46


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 375.

إلى الدافع الذي هو الجزء الأخير من علّة التلف أولى من استناده إلى المعدّ الذي هو حفر الحافر.

هذا ما قاله في التذكرة مع ما فسرنا به كلامه قدس سره .

ولكن أنت عرفت ممّا ذكرنا في مقدّمة هذه الفروع أنّ من شرائط كون الضمان على السبب هو أن لا يتوسّط بين فعل ذي السبب وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار ، وإلاّ ينسب إلى ذلك الفاعل لا إلى السبب ، وذلك واضح جدّا.

وفيما نحن فيه وقع ذلك التوسّط بين السبب الذي هو عبارة عن فتح القفص وعن حلّ القيد ، وبين الفرار فعل الفاعل والعاقل المختار ، وهو تنفير ذلك الإنسان ، فينسب الفرار إليه لا إلى فتح القفص أو حلّ القيد.

ومنها : أيضا ما في التذكرة من أنّه : لو حلّ رباط سفينة فذهبت أو غرقت بالحل ضمن ، لأنّه سبب في الإتلاف ، سواء كان يعقّب فعله أو تراخي (1).

ونظير هذا الفرع تقدّم من أنّه لو فكّ القيد عن الدابّة فشردت ، أو عن العبد المجنون فأبق ، وقلنا : يستفاد من الروايات قاعدة كلية ، وهي أنّ كلّ فعل صدر عن الفاعل العاقل المختار ، وكان سببا لتلف شي ء ، ولم يتوسّط بينه وبين المسبّب - أي التلف - فعل فاعل عاقل مختار ، فيكون التلف مستندا إلى ذي السبب والضمان عليه.

فبناء على هذا حيث أنّ حلّ رباط السفينة يكون سببا لذهابها إلى عرض البحر ، فيوجب غرقها أو ضياعها.

فبمقتضى تلك القاعدة يكون الضمان على الذي حلّ الرباط ، ولا فرق بين حدوث حادث آخر كهبوب الرياح الشديدة والعواصف الموجبة لغرقها ، وبين عدم حدوث حادث آخر يوجب ذلك ، وذلك لما بيّنّا من الضابط في الاستناد إلى السبب ، فإنّه حاصل ولا يفرق في كلا المقامين. نعم ، لو لم يكن هذا الفعل - أي حلّ رباط السفينة -

ص: 47


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 375.

سببا للغرق أو الضياع في العادة ، بل حدث عاصفة شديدة من باب الاتّفاق ، فيمكن أن يقال بعدم الضمان في مثل هذه الصورة ، وقد تقدّم جميع ذلك.

ومنها : ما ذكر في التذكرة أيضا من أنّه : لو وثبت هرة حال فتح القفص ودخلته وقتلت الطائر لزمه الضمان ، لأنّ الفتح يشتمل على إغراء الهرّة ، كما في تنفير الطائر (1).

والتشبيه بالتنفير لا يخلو من تأمّل ، لأنّ التنفير في حال انفتاح القفص من قبل العلّة التامّة بالنسبة إلى طيرانه وفراره. بخلاف فتح القفص فيما إذا لم تكن هرّة هناك ، ولكن من باب الاتّفاق وجدت هرّة حال الفتح.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ فرض المسألة في صورة وجود الهرّة هناك قبل الفتح ، وهي بحيث لا مانع من وثوبها على الطائر إلاّ انسداد باب القفص ، فيكون التشبيه في محله.

وأمّا الضمان : ففي المفروض على فاتح القفص على كلّ حال ، لما ذكرنا من الضابط.

إلاّ أن يقال : إنّ فتح باب القفص ليس سببا غالبيّا لوثوب الهرة.

وجوابه : أنّ المفروض حضور الهرة حال فتح القفص ، وفي مثل هذه الصورة سببية الفتح لوثوبها وإتلاف الطائر غالبي.

ومنها : أيضا ما في التذكرة من انّه لو كان شعير في جراب وبجنبه حمار ، ففتح فاتح رأسه ، فأكله الحمار في الحال لزمه الضمان (2). وهذا الفرع من جميع الجهات التي ذكرناها مثل الفرع السابق ، فلا نعيد. ولا أرى وجها لذكره بعد ذكر الفرع السابق ، كما لا أرى وجها لتقييد قوله : « فأكله الحمار » بكلمة « في الحال » إلاّ تخيّل أنّه لو لم يكن أكله في الحال فليس الأكل مستندا إلى فتح رأسه ، وإنما هو مستند إلى التفات الحمار بعد غفلته عنه ، أو إلى حدوث اشتهائه ، وهو غريب.

ص: 48


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 375.
2- المصدر.

ومنها : ما ذكره في التذكرة أيضا وهو أنه : لو نقل صبيّا حرّا إلى مضيعة فاتّفق أن افترسه سبع فلا ضمان عليه (1). وذلك أنّ النقل إلى المضيعة ليس مثل النقل إلى المسبعة ، لأنّ النقل إلى المسبعة - أي محلّ السباع - سبب غالبي لافتراسه.

وأمّا النقل إلى المضيعة فليس سببا غالبيا ، ولو افتراسه السبع كان من باب الاتّفاق وقد اشترطنا في السبب الموجب للضمان أن يكون سببا غالبيّا للتلف ، لأنّ المضيعة عبارة عن محلّ الضياع ، وعدم الاعتناء بشأن من يسكنه ، وأن تهمل شؤونه.

ومنها : ما ذكره في جامع المقاصد من أنّه لو منع المالك من إمساك دابّته المرسلة حيث يتوقّع تلفها مع بقائها مرسلة. كما أنّه لو أرسلت في الليل في بريّة ، ولا تكون تلك الدابّة من الحيوانات القويّة التي تقدر على حفظ نفسها من السباع ، أو لم تكن الأرض مأمونة من الأخطار ، فحينئذ يكون إمساك المالك سببا لبقائها مرسلة ، وبقاؤها مرسلة ربما ينتهي إلى افتراسها أو تلفها من جهة أخرى (2).

هذه جملة ممّا ذكره أساطين الفنّ من فروع الضمان بالتسبيب ، سواء لم يكن إتلاف بالمباشرة في البين أصلا ، أو كان ولكن كان ضعيفا.

ولكن كل هذه الفروع كانت فيما إذا كان السبب واحدا. أمّا إذا تعدّد السبب سواء كانا اثنين أو أكثر ، فإمّا يكونا وجدا في عرض واحد ، وإمّا مترتّبان في الوجود.

أمّا الأوّل : فهما أو كلّهم إن كانوا أكثر من اثنين يشتركون في الضمان ، وذلك كما أنّه لو حفر جماعة بئرا في الطريق ، فوقع فيها دابّة أو مال آخر ، لأنّ اختصاص بعضهم بالضمان دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

وأمّا الثاني : أي فيما إذا كان مترتّبين في الوجود ، فحوالة الضمان على أوّلهما وجودا ، وذلك لأنّ مع وجود أوّلهما تحقّق ما هو سبب الضمان ، ولا يرفع حكمه - أي كونه سببا

ص: 49


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 376.
2- « جامع المقاصد » ج 6 ، ص 219.

للضمان - إلاّ بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار بينه وبين التلف ، والمفروض أنّه ليس في المقام.

فلو حفر أحدهما بئرا في الطريق ، أو في ملك غيره بدون إذنه ورضاه ، فوضع بعد ذلك شخص آخر حجرا في حافة تلك البئر ، فعثرت دابّة بواسطة ذلك الحجر ووقعت في تلك البئر فالضمان على الحافر ، لما ذكرنا من الضابط.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 50

16 - قاعدة الاشتراك

اشارة

ص: 51

ص: 52

قاعدة الاشتراك (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « اشتراك المكلّفين في الحكم رجالا ونساء إلى قيام يوم القيامة » أي ما دام بقاء هذه الشريعة المقدّسة.

وبعبارة أخرى : إذا ثبت حكم لأحد المكلّفين أو لطائفة منهم - سواء كان ثبوته بخطاب لفظي أو دليل لبّي ، من إجماع أو غيره - فيكون شاملا لجميع المكلّفين في جميع الأزمنة إلى قيام يوم القيامة ، إلاّ أن تكون مأخوذا في الموضوع خصوصية وقيد لا ينطبق إلاّ على شخص خاص ، أو طائفة خاصّة ، أو في زمان خاصّ كزمان حضور الإمام علیه السلام مثلا. وفي هذه القاعدة جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها

وهي أمور :

الأوّل : الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل بين الحاضرين في زمان التكليف بمعنى أنّ الشارع إذا أمر شخصا أو طائفة بفعل من الأفعال ، أو نهى عن ارتكاب أمر

ص: 53


1- (*) « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعية » ص 310. « عناوين الأصول » عنوان 1 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 115 ، « القواعد » ص 41 ، « قواعد فقهي » ص 227 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ص 295 ، « قواعد الفقهية » ش 32 ، ص 61.

كذلك ، فجميع الموجودين في ذلك الزمان محكومون بذلك الحكم.

فإذا قال الراوي السائل عن الإمام علیه السلام : نسيت أنّ في ثوبي أو بدني نجاسة ، وبعد الفراغ ذكرت ذلك؟ فقال علیه السلام : اغسل ثوبك أو بدنك وأعد الصلاة ، نعلم بأنّ جميع الموجودين في زمان جواب الإمام علیه السلام محكومون بهذا الحكم ، وليس مختصّا بنفس السائل.

فإذا تبيّن اتّحاد الموجودين في زمان صدور ذلك الحكم بالقطع واليقين الوجداني ، فإن حصل شكّ في بقاء ذلك الحكم في الأزمنة المتأخّرة وبالنسبة إلى الموجودين بعد ذلك الزمان يستصحب ، فيثبت بقاؤه تعبّدا وبحكم الشارع.

وفيه : أوّلا : أنّ الخطاب إذا كان متوجّها إلى شخص خاصّ ، أو طائفة مخصوصة ، فمن أين نعلم باتّحاد الموجودين في هذا الحكم وهو أوّل الكلام ومصادرة على المطلوب.

وثانيا : إذا علمنا اتّحاد الموجودين في ذلك الحكم مع من توجّه إليه الخطاب ، فنعلم باتّحاد الجميع أي سواء كانوا موجودين أو معدومين ، لأنّه لا خصوصيّة لوجودهم في ذلك الزمان ، فلا يبقى مجال ومورد للاستصحاب ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء ، وأمّا مع القطع بالبقاء فلا موضوع له حتى يجري.

وثالثا : أدلّة اللفظيّة على بقاء أحكام هذه الشريعة إلى قيام يوم القيامة حاكمة على هذا الاستصحاب.

الثاني : الاتّفاق القطعي من الأصحاب على اشتراك الجميع في جميع الأعصار والأمصار في الحكم المتوجّه إلى بعض آحاد المكلّفين ، فإنّهم - رضوان اللّه تعالى عليهم - يستدلّون من الصدر الأوّل وأوّل زمان تأليف الفقه في كتبهم ، ككتب ابن الجنيد وابن أبي عقيل القديمين ، إلى زماننا هذا على الحكم الشرعي لكلّ واحد من آحاد المكلفين وفي أيّ زمان كانوا ، بالخطابات الخاصّة المتوجّهة إلى شخص خاصّ

ص: 54

كقوله علیه السلام لزرارة أو محمد بن مسلم أو غيرهما في مورد خاصّ : « اغسل » أو « أعد الصلاة » وأمثال ذلك.

والإنصاف أنّه يستكشف من هذا كشفا قطعيّا بأنّه كان من المسلّم المقطوع عندهم اتّحاد جميع المكلّفين في جميع الأحكام ، إلاّ أن يكون موضوع ذلك الحكم مقيّدا بقيد حاصل في البعض دون البعض ، كقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) فإنّ موضوع وجوب الحج قيّد بقيد ، وهو أن يكون الشخص مستطيعا ، فمن لم يكن كذلك لا يجب عليه الحج. ولكن بعد وجود موضوعه أي الإنسان العاقل البالغ الحرّ المستطيع ، يشترك في هذا الحكم جميع أفراد هذا الموضوع ومصاديقه في أي عصر ، ومن أيّ مصر كانوا.

فليس المراد من الاشتراك إلاّ أنّ كلّ من ينطبق عليه عنوان « موضوع الحكم » فهو محكوم بذلك الحكم ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقال : إنّ من لا يكون من مصاديق موضوع الحكم يثبت له هذا الحكم؟ وهل هذا إلاّ خلف ومناقضة؟!

ومثل هذا الاتّفاق القطعي كاشف قطعي عن اتّحاد حكم الجميع عندهم علیهم السلام .

ولذلك ترى لم يناقش أحد في استدلالهم بالقضايا والخطابات الشخصيّة لحكم الجميع ، بل تلقّوه بالقبول. نعم ربما يناقشون في أدلّتهم من جهات أخر ، كما هو المتعارف في الأبحاث الفقهيّة.

الثالث : ارتكاز عامّة المسلمين حتّى العوام بأنّ حكم اللّه في هذه الواقعة واحد للجميع.

ولذلك ترى أنّ أحدهم لو سئل عن الإمام علیه السلام ، أو عن مقلّده حكما شرعيّا لموضوع أو لفعل من الأفعال ، وسمع ذلك الحكم غيره ممن هو مثله ، لا يتأمّل ولا يتردّد في ثبوته في حقّه ، ولا يحتمل أن يكون حكم اللّه في حقّ ذلك السائل غير حكم اللّه

ص: 55


1- آل عمران (3) : 97.

في حقّه فهذا المعنى أي وحدة التكليف واشتراكه بين جميع المكلفين شي ء مرتكز في أذهان جميعهم ، ولا يمكن ذلك إلاّ بوصوله إليهم من مبدإ الوحي والرسالة ، ثمَّ من هؤلاء إلى من بعدهم ، وهكذا إلى زماننا.

ولعلّ إلى هذا ينظر كلام بعض المحققين حيث يقول : والقول بأنّ الكون في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله دخيل في اتّحاد الصنف الذي هو شرط شمول الخطابات ، هدم لأساس الشريعة ، وذلك من جهة أنّ الأحكام إن كانت مخصوصة بالحاضرين في مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله المخاطبين ، أو مطلق الموجودين في ذلك الزمان فقط ، فانتهى أمر الدين - العياذ باللّه - وتكون الناس بعد ذلك كالبهائم والمجانين. وهذا أمر باطل بالضرورة ، لأنّه يوجب هدم أساس الدين.

فادّعاء الضرورة على اشتراك الجميع في التكاليف لا بد فيه ، بل هو كذلك.

وهذا لا ينافي اختصاص بعض التكاليف ببعض الطوائف دون بعض ، بل ببعض الأشخاص دون سائرين ، لأنّ المراد من الاشتراك عدم اختصاص التكليف بمن توجّه الخطاب اليه ، كما أشرنا إلى ذلك وقلنا : إنّ قوله علیه السلام لزرارة أو محمّد بن مسلم مثلا « أعد » أو « اغسل » أو « لا يعيد » مثلا ، ليس من جهة اختصاص ذلك الحكم بهما وأمثالهما من الرواة ونقله الأحاديث ، بل توجيه الخطاب إليهما أو إلى غيرهما من باب أنّهم من مصاديق طبيعة المكلّفين ويبيّنون حكم المسألة بهذه الصورة.

وهذا لا ينافي كون موضوع الحكم - أي المكلف - مقيدا ببعض القيود ، أو متّصفا ببعض الصفات ، أو كونه من طائفة خاصّة من الطوائف ، أو كونه من النساء أو من الرجال ، وأمثال هذه الاختلافات ، بل لا بدّ منها لعدم كونه الأحكام جزافيّة ، بل تابعة للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتها وموضوعاتها.

والموضوعات والمتعلّقات تختلف من حيث المصلحة والمفسدة باعتبار اختلاف قيودها وأوصافها وحالاتها ، كالحريّة والرقيّة والاستطاعة وعدمها ، والسفر والحضر ،

ص: 56

وغير ذلك من العوارض والحالات الطارئة على المكلّفين.

فباعتبار وجود صفة الاستطاعة مثلا يكون صدور الحجّ من المكلّف له مصلحة ملزومة ، فهذه الصفة توجب وجوب الحجّ على المكلّف ، فلا بدّ من تقييد الموضوع بهذا القيد ، ولذلك قيّد وجوب الحجّ في الآية الشريفة بهذا القيد ، وقال اللّه تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1).

وخلاصة الكلام في المقام أنّ اختلاف الأحكام بالنسبة إلى المكلّفين باختلاف القيود ، والصفات ، والحالات الطارئة على الموضوعات من أوضح الواضحات.

فليس المراد من قاعدة الاشتراك أنّ جميع المكلّفين سواء كانوا واجدين لقيود موضوع الحكم أم لم يكونوا واجدين ، حكمهم سواء ، لأنّ بطلان هذا الكلام ضروري.

بل المراد أنّ الحكم الذي رتّب على موضوع يشمل جميع من هو ينطبق عليه الموضوع؟ أم مختصّ بمن توجّه إليه الخطاب؟ أو بمن يكون موجودا في زمان الخطاب؟ وكذلك القضايا الشخصية التي يسأل الراوي الفلاني عن حكمها هل يكون جواب الإمام علیه السلام مختصّا بنفس السائل؟ أو يكون عاما لكلّ من ينطبق عليه موضوع الحكم الذي صدر عنه علیه السلام في مقام الجواب؟

وبعبارة أخرى : يكون الخطاب إلى السائل بعنوان أنّه أحد مصاديق موضوع الحكم ، لا بعنوانه الشخصي.

الرابع : الأخبار الواردة في هذا الباب ، الدالة على أنّ حكم اللّه تعالى مشترك بين الكلّ ، وخصوصية الأشخاص - أي العوارض المشخصة لهم - لا دخل لها في كونهم موضوعا للأحكام ، ككونه ابن فلان ، أو لونه كذا ، أو من الطائفة الفلانيّة وأمثال ذلك.

وبعبارة أخرى : الدين الإسلامي عبارة عن مجموع الأحكام المكتوبة في الكتب الفقهية ، من الطهارات إلى الديات التي أساسها في القرآن الكريم ، مع شرح وإيضاح

ص: 57


1- آل عمران (3) : 97.

وبيان من الأحاديث النبويّة أو التفاسير التي صدرت عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وهذه الأحكام لم يجعل لشخص خاصّ أو لطائفة خاصّة ، بل مجعولة لكافّة المسلمين ، بل لجميع ولد آدم من زمان بعثته صلی اللّه علیه و آله إلى يوم القيامة ، وليس مخصوصا بزمان دون زمان. وهذا لا ينافي اختصاص النبي صلی اللّه علیه و آله ببعض الأحكام : لأنّ الأحكام - كما قلنا - تابعة للمصالح والمفاسد ، وذلك الموجود المقدّس لامتيازه عن سائر البشر ، وبلوغه إلى أعلى مراتب الكمال صار موضوعا للأحكام الخاصّة به صلی اللّه علیه و آله .

بل يمكن أن يقال : إنّ تلك الأحكام الخاصّة أيضا ليس موضوعها شخص النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل لعنوان كلي ، وهو من بلغ إلى هذه المرتبة من الكمال ، غاية الأمر أنّ الكلي منحصر في الفرد ، إذ غيره صلی اللّه علیه و آله لم يصل إلى هذه المرتبة ولن يصل إلى آخر الدهر.

وها هنا تحقيق دقيق في معنى الخاتمية وأنّها ليست قابلة للتعدّد ، ليس المقام مقام ذكره.

وعلى كلّ حال كان كلامنا في ذكر الأخبار التي تدلّ على اشتراك الأحكام بين جميع المكلّفين ، وعدم اختصاصها بالمخاطبين أو الموجودين في زمان الخطاب :

فمنها : ما رواه في الوسائل عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القسم بن يزيد الزبيدي ، عن أبي عمرو الزهري ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث طويل في كتاب الجهاد ، في باب من يجوز له جمع العساكر والخروج بها إلى الجهاد ، قال علیه السلام فيه بعد كلام طويل في شرائط من يتصدّى لجمع العساكر للجهاد : « لأنّ حكم اللّه عزّ وجلّ في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء ، إلاّ من علّة أو حادث يكون ، والأوّلون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء ، والفرائض عليهم واحدة ، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه

ص: 58

الأوّلون ، ويحاسبون عمّا به يحاسبون » (1).

وظهور هذه الجملات والكلمات في اشتراك جميع المكلّفين من الأوّلين والآخرين في أحكام اللّه وفرائضه واضح ، لأنّ كلمة « الأوّلين والآخرين » جميع معرف بالألف واللام يفيد العموم ، فمعنى الحديث عبارة عن أنّ كلّ واحد من الأوّلين سواء في حكم اللّه عزّ وجلّ مع كلّ واحد من الآخرين ، وجميع الفرائض عليهم - أي على جميع الأوّلين والآخرين - واحدة. وهذا أفصح وأوضح عبارة لاتّحاد حكم جميع الأمّة من الأوّلين والآخرين.

نعم المراد من الاتّحاد أو الاشتراك ، اشتراك من كان من مصاديق موضوع الحكم ، كما تقدّم شرحه.

والظاهر أنّ هذا مراد من اعتبر في الاشتراك اتّحاد الصنف.

ومنها : النبوي المشهور ، قال صلی اللّه علیه و آله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (2).

فإنّ ظاهر هذه الجملة أنّ حكمي الذي هو حكم اللّه على أحدكم حكمي على الجميع ، بمعنى أنّه ما أخصّ أحدا بالحكم ، بل كلّكم في حكمي سواء.

هذا هو المتفاهم العرفي والظاهر من هذا الحديث الشريف ، ولا شكّ في حجّية ظواهر الألفاظ والجمل ، فيدلّ هذا الحديث المبارك على المطلوب ، وهو المطلوب.

ومنها : قوله علیه السلام في الخبر المشهور : « حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة » (3).

تقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّ بقاء الحلال والحرام إلى آخر الأزمنة من حياة

ص: 59


1- « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 23 ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب 9 ، ح 1.
2- « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 272 ، باب ما يمكن ان يستنبط من الآيات والأخبار ... ، ح 4. وج 80 ، ص 199 ، باب آداب الاستنجاء والاستبراء ، ح 4.
3- « الكافي » ج 1 ، ص 58 ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح 19 ، وج 2 ، ص 17 ، باب الشرائع ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 124 ، أبواب صفات القاضي ، باب 12 ، ح 47.

البشر معناه أنّ الناس في جميع الأزمنة سواء في أنّ حلاله على أهل الزمان المتقدم حلال على أهل الزمان المتأخر ، وكذلك حرامه صلی اللّه علیه و آله .

فإذا كان مفاد الرواية وظاهرا اتّحاد أهالي أزمنة المتأخّرة مع أهالي أزمنة المتقدمة في الحكم ، فتدلّ على اتّحاد أهالي الزمان الواحد في الحكم بطريق أولى ، إذ مرجع مفاد الرواية إلى أنّ خصوصيات الشخصيّة لأفراد المكلّفين ليست دخيلة فيما هو الموضوع بعد اتّحادهم في الصنف بالمعنى الذي تقدّم.

وأمّا احتمال أن يكون مفاد الرواية هو الاتّحاد في خصوص الحلّية والحرمة ، لا في جميع الأحكام فعجيب ، إذ الحلال والحرام كناية عن مطلق الأحكام ، مضافا إلى أنّ مئال جميع الأحكام ومرجعها إلى الحلال والحرام ، لأنّ الواجب تركه حرام وفعله حلال بالمعنى الأعم ، كما أنّ المستحبّ والمكروه فعلهما وتركهما حلال بالمعنى الأعم ، كما أنّ الحلال بالمعنى الأخصّ أيضا كذلك مثل المستحبّ والمكروه. فالحلال والحرام يستوعبان جميع الأحكام التكليفيّة كما أنّ الأحكام الوضعيّة أيضا تنتهي من حيث العمل إلى الحلال والحرام بالمعنى الذي ذكرنا لهما ، فافهم.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله : « فليبلغ الشاهد الغائب » (1).

ولا شكّ في دلالة هذا الحديث الشريف على اشتراك الغائبين مع الحاضرين ، وإلاّ لو كان الحكم خاصّا بالحاضرين لما كان وجه لتبليغهم ، لأنّه كان من تبليغ حكم غيرهم إليهم ، فلا بدّ وأن يكون الحكم مشتركا بينهم حتّى يأمر صلی اللّه علیه و آله الحاضرين بتبليغه إلى الغائبين.

وأمّا احتمال أن يكون مخصوصا بجماعة خاصّة من الغائبين مع الحاضرين ، لا عموم الغائبين.

ص: 60


1- « الكافي » ج 1 ، ص 187 ، باب فرض طاعة الأئمّة ، ح 10 ، وج 1 ، ص 291 ، باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ على الأئمّة علیهم السلام واحدا فواحدا ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 143 ، ح 399 ، باب الزيادات ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 435 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 36 ، ح 9.

يدفعه : أنّ ظاهر هذا الكلام هو الأمر بتبليغ الحكم إلى عموم الغائبين ، بل وحتّى المعدومين في ذلك الزمان الذين يوجدون فيما بعد ، فضلا عن الغائبين الموجودين في أماكن مختلفة ، ومن بلاد متعدّدة بعيدة أو قريبة.

والحاصل : أنّ المتفاهم العرفي من أمثال هذه العبارة أن الحاضر والغائب ، بل الموجود فعلا ومن يوجد فيما بعد سواء ، وهو المطلوب.

ومنها : قوله صلی اللّه علیه و آله : « أوصي الشاهد من أمّتي ، والغائب منهم ، ومن في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء إلى يوم القيامة أو يصلوا الرحم » (1).

وهذا الحديث نصّ في العموم ، ولكن ربما يستشكل بأنّه لا يدلّ إلاّ على اشتراك الأمّة جميعا في هذا الحكم فقط ، أي وجوب أو استحباب صلة الرحم. وأمّا الاشتراك في سائر الأحكام فساكت عنه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : لا خصوصيّة لصلة الرحم من بين سائر الفرائض ، أو يقال : هذا اللسان - أي لسان الوصيّة إلى الأمّة في حكم من الأحكام - هو لسان اشتراك الأمّة في الأحكام الشرعيّة ، وكلهم في ذلك سواء. ويمكن أن يستدلّ للمطلب ببعض الآيات ، مثل قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (2) ومثل قوله تعالى ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3) ، وكذلك بكثير من الروايات الواردة من أخذ معالم الدين من يونس بن عبد الرحمن (4) ، وزكريا بن آدم (5) وأمثالهما من الثقات ، وإرجاعهم الناس إلى هؤلاء من الرواة ونقلة الحديث ، ولا شكّ في أنّ هؤلاء لم يتعلّموا من الإمام علیه السلام في كلّ موضوع إلاّ حكما واحدا متعلّقا بالجميع ، وكانوا يذكرون ذلك

ص: 61


1- « الكافي » ج 2 ، ص 151 ، باب صلة الرحم ، ح 5.
2- « النساء (4) : 11.
3- « التوبة (9) : 122.
4- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 107 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 33 ، 34 و 35.
5- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 106 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 27.

الحكم الواحد لكلّ من يسأل عن ذلك الموضوع أو عن تلك الواقعة ، ومع ذلك أرجع الإمام علیه السلام جمع الشيعة إليهم في أخذ أحكامهم الشرعيّة.

وهذه الروايات يمكن ادعاء القطع بصدور بعضها منهم علیهم السلام ، فما نسب إلى بعض المحقّقين من ادّعاء تواتر الأخبار على الاشتراك ، بالمعنى الذي هو الآن محلّ الكلام ليس بكل البعيد ، بل المتتبّع يجد ذلك من ملاحظة جميع الأخبار الواردة في هذا الباب.

الخامس : وهو الوجه الوجيه ، وما هو التحقيق عندنا : أنّ جعل الأحكام من الأزل على الموضوعات المقدّرة الوجود على نحو القضايا الحقيقيّة ، وليس من قبيل القضايا الخارجيّة حتّى يكون تسريته إلى غير الحاضرين في مجلس الخطاب أو غير الموجودين في ذلك الزمان بدليل الاشتراك ، بل شموله للحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين على نسق واحد.

وهذا هو شأن القضيّة الحقيقيّة الكلّية ، سواء كان إخبارا أو إنشاء ، فإذا قلت : « كلّ إنسان ضاحك بالقوّة » لا فرق في شمول هذا الحكم لأفراد الإنسان بين من كان قبلا موجودا من زمان آدم علیه السلام ، أو فعلا يكون موجودا ، أو من يوجد بعد إلى انقضاء زمان حياة البشر ونفخ الصور ويوم البعث والنشور.

فكذلك في القضيّة الحقيقيّة الإنشائيّة ، فقول اللّه تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) الذي في قوّة أن يقال بصورة الجملة الخبريّة : « كلّ إنسان مستطيع يجب عليه الحجّ » يشتمل الموجودين والمعدومين في عرض واحد لأنّ الحكم أي وجوب الحج ثابت على كل إنسان مستطيع بمعنى أنّ كلّ شخص إذا وجد في الخارج وكان مصداقا للإنسان المستطيع يكون الحج واجبا عليه فالحكم على الطبيعة السارية إلى جميع الأفراد.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ اللّه تعالى عالم في الأزل بوجود المصلحة الملزمة في الفعل

ص: 62


1- آل عمران (3) : 97.

الفلاني الصادر من شخص متّصف بكذا وكذا - وهذا العلم علّة لجعل الوجوب المتعلّق بذلك الفعل على ذلك الشخص المتّصف بكذا وكذا - فلا محالة يحصل الجعل ، فيكون الفعل الكذائي واجبا على كلّ شخص كان مصداقا لذلك العنوان مع القيود المأخوذة فيه ، ونسبة الحكم إلى جميع المصاديق في عرض واحد ، ولو كان بين أفراد ذلك الموضوع تقدّم وتأخّر بحسب الوجود.

فأفراد الإنسان المستطيع وإن لم تكن بحسب الوجود في عرض واحد بل كان بينها تقدّم وتأخّر ، بل وإن كان بينها عليّة ومعلوليّة ، ولكن مع ذلك كلّه شمول الحكم للجميع في عرض واحد ، لأنّ الحكم على نفس الطبيعة المقدّرة الوجود ، ولا نظر له بالنسبة إلى الأفراد الموجودة فعلا في الخارج.

ومعلوم أنّ نسبة الطبيعة إلى أفراد الموجودة فعلا ، والتي كانت موجودة في الماضي ، والأفراد التي يوجد فيما بعد على حدّ سواء ، فإذا كان موضوع الحكم تلك الطبيعة السارية المقدّرة الوجود فقهرا يشمل الحكم جميع الأفراد الذي يكون من مصاديق ذلك العنوان الذي أخذ موضوعا في القضية الحقيقيّة في عرض واحد. فلا يبقى محلّ ومجال لدليل الاشتراك.

وفي الحقيقة هذا الوجه الخامس يوجب هدم هذه القاعدة ، ولا يبقى معه احتياج إلى تلك القاعدة.

الجهة الثانية : في المراد من هذه القاعدة

فنقول : قد تبيّن من تضاعيف ما ذكرناه في الجهة الأولى أنّه ما المراد منها ، ولكن مع ذلك نقول : إنّ المراد منها : أنّ الحكم المتوجّه إلى شخص أو طائفة خاصّة بحيث أنّ دليل ذلك الحكم لا يشمل غير ذلك الشخص أو غير تلك الطائفة ، فدليل الاشتراك

ص: 63

يوجب إثباته لكلّ من كان مصداقا لما أخذ موضوعا لذلك الحكم ، أي كان متّحد الصنف مع ذلك الشخص أو تلك الطائفة فيما إذا توجّه الخطاب إليهما.

مثلا : يسأل الراوي عن الإمام علیه السلام أنّ فلانا صلّى وبعد الفراغ علم أنّه صلّى في النجس نسيانا لا جهلا؟ فيقول علیه السلام : « يعيد صلاته » (1) فهذا الحكم حسب الدليل لذلك الشخص الذي سأل الراوي عن فعله ، ولكن بدليل الاشتراك يثبت لكلّ من كان مصداقا لذلك العنوان ، أي علم بعد الفراغ أنّه صلّى في النجس نسيانا ، وهكذا الأمر في سائر الأحكام.

وكذلك يسأل الراوي مثلا أنّ رجلا شرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي؟ قال علیه السلام : « لا بأس ». وأمثال ذلك كثيرة في جميع أبواب الفقه من أنّ مورد الحكم شخص خاص أو طائفة خاصة ، فلشمول الحكم للسائرين لا بدّ من التمسّك بدليل الاشتراك.

وهذا فيما إذا لم نقل بأنّ جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ، وإلاّ فلا حاجة في تلك الموارد إلى التمسّك بدليل الاشتراك ، بل شمول الحكم لجميع من ينطبق عليه عنوان الموضوع في عرض واحد وبمناط واحد ، وهو ورود الحكم على الطبيعة المرسلة السارية إلى جميع وجوداتها.

ففي جميع تلك الموارد التي توجّه الخطاب إلى شخص خاصّ ، أو طائفة خاصّة يكون من باب أنّه أحد مصاديق العامّ الذي هو موضوع الحكم في الحقيقة ، لا أنّه بخصوصه موضوع كي يحتاج ثبوته لغيره ممّن هو مثله إلى دليل الاشتراك.

ولذلك قلنا إنّ الوجه الخامس الذي هو المعتمد عندنا يوجب هدم أساس دليل الاشتراك ، إذ دليل الاشتراك في مورد اختصاص الحكم من حيث دلالة دليله بنفس المورد ، وجعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة معناه أنّ الحكم عامّ يشمل المورد وما هو مثله في عرض واحد ، فلا يبقى محلّ ومجال لإعمال دليل الاشتراك ، بل لا

ص: 64


1- راجع : « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1062 ، أبواب النجاسات ، باب 42.

موضوع له.

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

فنقول : موارد تطبيقها كثيرة جدّا من أوّل أبواب الفقه - أي من كتاب الطهارات - إلى كتاب الديات ، فما من مسألة إلاّ ويكون مورد الدليل مختصّا بشخص أو بطائفة فيحتاج إثبات ذلك الحكم للآخرين إلى دليل الاشتراك.

مثلا : في أوّل كتاب الطهارة في فصل المياه وأقسامها ، وأوّل مسألة من هذا الفصل وهو أنّ الماء الراكد القليل غير البالغ كرّا ينفعل بملاقاة النجس أو المتنجّس ، وإن بلغ كرّا فلا. فأدلّة هذه المسألة عبارة عن أجوبة الإمام علیه السلام عن أسئلة عن أشخاص في موارد خاصّة ، فإثبات ذلك لأشخاص آخرين يحتاج إلى دليل الاشتراك.

وأيضا في مسألة تغيّر الماء بالنجاسة ونجاسته ، وعدم جواز التوضّي به - وأمّا لو لم يتغير وغلب على النجس يجوز التوضي به - الدليل عليه رواية حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء وتغير الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (1).

فترى أنّه علیه السلام جوّز الوضوء والشرب لذلك الشخص الخاصّ كما أنّ في مورد التغيّر نهى ذلك الشخص عن الوضوء والشرب ، فلا بدّ من إثبات الحكم للآخرين من التمسّك بدليل الاشتراك.

ص: 65


1- « الكافي » ج 3 ، ص 4 ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة والماء ... » ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 216 ، ح 625 ، باب المياه وأحكامها وما يجوز التظهر به وما لا يجوز ، ح 8 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 12 ، ح 19 ، باب حكم الماء الكثير إذا تغيّر أحد أوصافه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 102 ، أبواب الماء المطلق ، باب 3 ، ح 1.

وأمّا إذا قلنا إنّ هذا الحكم - أي جواز التوضّي والشرب من الماء غير المتغيّر وعدم جوازهما من الماء المتغيّر - مجعول على نهج القضايا الحقيقيّة ، فشموله لذلك الشخص المخاطب وآخرين في عرض واحد ، فلا يبقى موضوع لدليل الاشتراك.

وفي مسألة عدم تنجّس ماء المطر بملاقاة البول واختلاطه به حين ينزل المطر روى عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في ميزابين سالا ، أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا ، فأصاب ثوب رجل « لم يضرّه ذلك » (1). فإسراء هذا الحكم إلى غير ذلك الرجل يحتاج إلى قاعدة الاشتراك ، لو لم نقل بجعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة. وما ذكرنا كان من باب النموذج ، وإلاّ فالاستقصاء في موارد تطبيق هذه القاعدة معناه أن نذكر أغلب دورة الفقه مع مداركها من الروايات ، إذ كما ذكرنا في جميع أبواب الفقه من الطهارات إلى الديات أغلب مسائلها من هذا القبيل.

وهم ودفع

امّا الأوّل : هو أنّ هذه القاعدة ليس لها اطّراد وانخرمت في مواضع عديدة :

منها : مسألة الجهر والإخفات ، فالمرأة والرجل مختلفان في هذه الحكم في الصلوات الجهريّة ولا اشتراك بينهما ، لأنّ فيها يتعيّن على الرجل الجهر ، وعلى المرأة الإخفات.

وفي مسألة الوضوء يتعيّن على الرجل صبّ الماء ابتداء على ظهر اليد استحبابا ، وعلى المرأة بالعكس ، لما رواه محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبى الحسن الرضا علیه السلام قال : « فرض اللّه على النساء في الوضوء للصلاة أن يبدأن بباطن أذرعهنّ ، وفي

ص: 66


1- « الكافي » ج 3 ، ص 12 ، باب اختلاط ماء المطر بالبول. ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 411 ، ح 1295 ، باب المياه وأحكامها ، ح 14 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 109 ، أبواب الماء المطلق ، باب 6 ، ح 4.

الرجال بظاهر الذراع » (1).

وفي الستر في الصلاة يجب على الرجل ستر العورتين فقط أي القبل والدبر ، وعلى المرأة ستر تمام البدن ، ما عدا الوجه والكفين وظاهر القدمين.

وأيضا هما مختلفا فيجوز ليس الذهب والحرير في الصلاة وفي غيرها للمرأة ، ولا يجوز ان مطلقا لا في الصلاة ولا في غيرها للرجل.

وأيضا هما مختلفان في كيفية العقود في الصلاة ، كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

وأيضا هما مختلفان في حال الإحرام ، فيجوز لبس المخيط للمرأة دون الرجل.

وأيضا هما مختلفان في الجهاد وصلاة الجمعة ، فيجبان على الرجل مع وجود شرائطهما ، ولا يجبان على المرأة مطلقا.

وأيضا هما مختلفان بالنسبة إلى قبول التوبة إذا ارتدّ كلّ واحد منهما عن فطرة ، فتوبة الرجل لا تقبل من الجهات الثلاث - أي من جهة لزوم قتله ، وتقسيم أمواله على الورثة ، وإبانة زوجته - وأمّا توبة المرأة فتقبل.

وكذلك مختلفان في حكم الزنا ، فعلى الرجل الجزّ والتغريب مدّة عامّ ، وليس على المرأة شي ء من هذين.

وأيضا هما مختلفان في أنّ الرجل يجوز إمامته للنساء ، والمرأة لا يجوز إمامتها للرجال.

وأيضا يحرم التظليل حال الإحرام على الرجل دون المرأة.

وخلاصة الكلام أنّ الفرق بين الرجل والمرأة في الأحكام الشرعية وعدم اشتراكهما كثير ، واستقصاء الجميع ممّا يطول المقام ولا أثر له. والمقصود من ذكر ما

ص: 67


1- « الكافي » ج 3 ، ص 28 ، باب حدّ الوجه الذي يغسل والذراعين وكيف يغسل ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 76 ، ح 193 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة والفضيلة فيه ، ح 42 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 328 ، أبواب الوضوء ، باب 40 ، ح 1.

ذكرنا من الموارد هو النقض على اطّراد هذه القاعدة وانخرامها بهذه الموارد ، ويكفي لإثبات ذلك ما ذكرنا.

وامّا الثاني أي دفع هذا الوهم : أنّ خروج هذه الموارد عن تحت هذه القاعدة ليس من باب التخصيص وانخرامها ، بل من قبيل التخصّص ، فلا يضرّ باطّراد القاعدة ولا يوجب انخرامها.

بيان ذلك : أنّ المراد من قاعدة الاشتراك ليس أنّ حكم كلّ واحد من أفراد البشر متّحد مع السائرين متّصفا بأيّ صفة كانت وفي أي حال من الأحوال كان ، لأنّ هذا باطل بالضرورة ، إذ لا شكّ في أنّ حكم المسافر الإفطار والتقصير بخلاف غير المسافر ، وهكذا حكم المضطر إلى أكل الميتة مثلا أو المكره إليه الجواز واقعا - كما هو نصّ القرآن في المضطر - ولكن لا يجوز لغيرهما وحرام ، وهكذا حكم المستطيع وغير المستطيع فالأوّل يجب عليه الحجّ دون الثاني ، وهكذا حكم الفقير والغني في وجوب زكاة الفطرة مثلا.

وخلاصة الكلام : أنّ اختلاف الأحكام باختلاف حالات المكلّفين - من العسر واليسر ، والسفر والحضر ، والضرر وعدمه ، والحرج وعدمه ، والاضطرار وعدمه ، والإكراه وعدمه ، والحيض والاستحاضة وعدمهما ، والجنابة وعدمها ، إلى غير ذلك من الاختلافات الكثيرة - ممّا لا يمكن أن ينكر ومن القطعيّات ، بل من الضروريات.

بل المراد أنّه في مورد اتّحاد الصنف بالمعنى الذي ذكرنا له أي فيما إذا كان موضوع الحكم المذكور في القضيّة ينطبق على من هو مورد الحكم ، رجلا كان أو امرأة ، واحدا كان أو متعدّدا أو كان طائفة ، وعلى غير المورد من الآخرين ، ففي مثل هذا الحكم ، المورد وغير المورد يشتركان.

كما أنّه في أغلب الأحكام يسأل الراوي عن حكم موضوع ، فيقول مثلا : رجل أو امرأة شكّ في عدد ركعات صلاته فيقول علیه السلام مثلا : يبني على الأكثر. فليس موضوع

ص: 68

وجوب البناء على الأكثر هو ذلك الرجل أو تلك المرأة ، بل الموضوع هو الشاكّ في عدد الركعات ، وذكر الرجل أو المرأة واحدا كان أو متعددا لبيان مصداق القضية الواقعة ، فحينئذ احتمال اختصاص هذا الحكم بذلك المورد - أي بذلك الرجل أو بتلك المرأة - مدفوع بقاعدة الاشتراك.

وأين هذا ممّا جعل الشارع موضوع حكمه خصوص الرجل أو خصوص المرأة ، وكيف يمكن أن يدّعي عاقل أنّ الحكم مع أنّ موضوعه خصوص الرجل مثلا ومع ذلك هو مشترك بين الرجل والمرأة. وهل هذا إلاّ تخلف الحكم عن موضوعه ، وهو محال. وما الفرق بين أن يكون اختلاف موضوع الحكم بالذكورة والأنوثة ، وبين أن يكون اختلافهما بالاستطاعة وعدمها ، أو بالسفر والحضر ، أو بغير ذلك من العناوين الكثيرة التي توجب اختلاف الأحكام.

وحاصل الكلام : أنّ القيود المأخوذة في جانب موضوع الحكم يوجب عدم اتّحاد الصنف ، ويكون خارجا عن موضوع قاعدة الاشتراك بالتخصّص لا بالتخصيص ، فلا يكون موجبا لعدم اطّراد القاعدة. فظهر أنّ موارد النقوض المذكورة في اختلاف الرجل والمرأة كلّها خارجة عن موضوع القاعدة ، ولا يكون نقضا عليها.

ثمَّ إنّ هاهنا كلام في الخنثى المشكل هل له حكم النساء ، أو ما هو المخصوص بالرجال ، أو ليس له شي ء منهما؟

فنقول : إنّ الخنثى على قسمين : مشكل وغير المشكل. والثاني عبارة عمن يحكم عليه بأنّه من الرجال بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع أمارة التشخيص ، أو يحكم عليها بأنّها من النساء أيضا بواسطة الأمارات التي جعلها الشارع أمارة كونها مرأة ، فهذا ليس بمشكل ، لأنّه بالتشخيص بواسطة الأمارات يرتفع الإشكال.

فهذا القسم لا إشكال فيه ، لأنّه ملحق بذلك القسم الذي حكم عليه أنّه منهم فيكون من ذلك القسم ، فإن كان ملحقا بالرجال بواسطة الأمارات فعليه أن يجهر في

ص: 69

الصلوات الجهريّة وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام المختصّة بالرجال ، وإن كانت ملحقة بواسطة تلك الأمارات بالنساء فعليها أن تخفت في صلاتها ، وهكذا في سائر الأحكام المختصّة بالنساء.

وأمّا الأوّل : أي المشكل الذي لا يحكم بأنّه رجل ، وكذلك لا يحكم عليه بأنّه امرأة لفقد أمارات الطرفين أو لتعارضها ، ففيه كلام وهو أنّه إمّا أن نقول بأنّ الإشكال إنّما هو في مقام الإثبات وإلاّ ففي مقام الثبوت فلا إشكال ، إذ هو إمّا في الواقع رجل أو امرأة ، وإنّما اشتبه الأمر لفقد الأمارة على تشخيصها ، أو لتعارضها وتساقطها. وذلك من جهة أنّ أفراد الإنسان وطبيعة البشر لا تخلو من أحد هذين : إمّا رجل أو امرأة ، وليس طبيعة أخرى وصنف ثالث في البين.

والدليل على ذلك قوله تعالى ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) (1) وقوله تعالى ( خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (2) والظاهر من الآيتين حصر الموهوب والمخلوق فيهما.

ومن جملة ما يؤيّد أنّه ليس طبيعة ثالثة بل إمّا ذكر أو أنثى قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (3) ولو كان هناك طبيعة ثالثة فيرجع إلى أنّ اللّه تبارك وتعالى أهمل قسما وصنفا من الأولاد ولم يبين حكمه ، مع أنّ صدر الآية أي قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) يدلّ على أنّ الوصية من قبل اللّه على عموم الأولاد ، فإنّ جمع المضاف يفيد العموم ، فإهمال قسم من الأولاد في كمال الاستبعاد.

ثمَّ إنّ وجود خنثى المشكل مبني على فقد الأمارات أو تعارضها كما ذكرنا ، ولكن ورد في الأخبار المرويّة عنهم علیهم السلام أمارتان : إحديهما خروج البول من أيّ واحد من

ص: 70


1- الشورى (42) : 49.
2- النجم (53) : 45.
3- النساء (4) : 11.

الفرجين. ثمَّ على تقدير خروجه من كليهما ينظر إلى أنّ الأوّل خروجا منه أيّ واحد منهما ، فيحكم بالذكوريّة على تقدير خروجه من فرج الرجال ، وبالأنوثة على تقدير خروجه من فرج النساء. وعلى تقدير خروجه من كليهما ينظر إلى الأوّل خروجا منه أيّ واحد منهما ، فان كان فرج الرجال فرجل ، وإن كان فرج النساء فامرأة. وعلى تقدير مقارنتها في الخروج والانقطاع فيعدّ أضلاعه في الأيمن والأيسر. فإن نقص الأيسر فرجل ، وإن لم ينقص فامرأة.

وبناء على هذه الروايات لا يبقى خنثى مشكل ، لأنّ هذه الأمارات مترتّبة ودائرة بين النفي والإثبات ، فلا يتصوّر فقد جميع هذه الأمارات بحيث لا يكون أحدها ولا معارضها ، لأنّ هذه الأمارات مترتّبة ليست في عرض واحد كي يقع بينهما التعارض.

اللّهم إلاّ أن يقال : لو كان البول يخرج من فرج النساء ولكن أضلاع طرف الأيسر أنقص بواحد من الطرف الأيمن ، فيقع التعارض بين الأمارتين. فمقتضى الأولى أنّها امراة ، ومقتضى الثانية أنه رجل. ولكن هذا مبني على عدم ترتّب الأمارات ، وهو خلاف ظاهر الروايات.

أمّا إن قلنا بأنه يمكن أن لا يكون رجلا ولا امرأة ، فحينئذ ليس علم إجمالي في البين بأنّه إمّا رجل وإمّا امرأة ، فليس مكلّفا بما يختصّ بكلّ واحد منهما ، فتجري البراءة عن الاثنين إلاّ فيما لا يمكن ارتفاعهما كالجهر والإخفات ، فقهرا في هذا القسم يكون مخيّرا بينهما.

وأمّا بناء على الأوّل أي بناء على العلم الإجمالي فيجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما أي العمل على وفق تكليف النساء تارة ، وعلى طبق تكليف الرجال مرّة أخرى.

وقد عرفت أنّه في مقام الثبوت إمّا رجل أو امرأة ، وليس هناك قسم آخر أي طبيعة ثالثة في البين ، فالعلم الإجمالي محقّق ويجب الاحتياط.

هذا فيما إذا لم نقل بالرجوع إلى الأمارات ، وإلاّ لا يبقى شكّ وإعضال كي تصل

ص: 71

النوبة إلى العلم الإجمالي والعمل بالاحتياط ، بل الأمارات تعيّن أنّه رجل أو امرأة ، فيلحقه حكم ما عيّنته من كونه رجلا أو امرأة.

ولكن التحقيق أنّ الأخبار الواردة في مسألة الخنثى طائفتان :

الأولى : أنّه يورث على الفرج الذي يبول منه ، فإن بال منهما فمن حيث سبق البول ، وإن جاء منهما دفعة فيورث على ما انقطع أخيرا ، وإن تساويا في الشروع والانقطاع يعطي نصف ميراث الرجل ونصف ميراث المرأة.

وذلك مثل رواية هشام بن سالم عن أبى عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : المولود يولد ، له ما للرجال ، وله ما للنساء؟ قال : « يورث من حيث يبول من حيث سبق بوله ، فان خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث ، فإن كانا سواء ورث ميراث الرجال وميراث النساء » (1).

ورواية إسحاق بن عمّار عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن أبيه علیه السلام أن عليا علیه السلام كان يقول : « الخنثى يورث من حيث يبول ، فإن بال منهما جميعا فمن أيّهما سبق البول ورث منه ، فإن مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل » (2).

ومعلوم أنّ المراد من قوله علیه السلام « ورث ميراث الرجال وميراث النساء » في رواية هشام ليس تمام ميراث الرجال وتمام ميراث النساء ، بحيث يكون إرثه كإرث اثنين : أحدهما رجل والأخرى امرأة من حيث اشتماله لأمرين أي الذكورة والأنوثة ( وذلك ) من جهة أنّ الإرث للأشخاص باعتبار كون كلّ واحد منهم مذكّرا أو مؤنّثا ، والخنثى شخص واحد لا شخصين ، فالمراد أنّه يرث نصف مجموع الإرثين ، وهو فتوى المشهور

ص: 72


1- « الكافي » ج 7 ، ص 157 ، باب ميراث الخنثى ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1269 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 574 ، أبواب ميراث الخنثى ، باب 2 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 4 ، ص 326 ، باب ميراث الخنثى ، ح 5701 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1270 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 575 ، أبواب ميراث الخنثى ، باب 2 ، ح 2.

في إرث الخنثى بعد تساوي المبالين خروجا وانقطاعا.

وأيضا هذا المعنى صريح رواية إسحاق بن عمّار حيث يقول علیه السلام : « فإن مات ولم يبل - أي عند فقد الأمارة على التعيين - فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل » والمراد بالعقل هو الميراث وإن كان في الأصل الدية. وأيضا هذا المعنى موافق لقاعدة العدل والإنصاف بعد فقد أمارات التمييز والتعيين ، كما في سائر الموارد من العلم الإجمالي في الماليّات.

الثانية : بعد تساوي المبال من جميع الجهات - أي شروعا وانقطاعا - يعد أضلاعه ، فإن كان الطرف الأيسر أنقص من الطرف الأيمن فهو رجل ، وإلاّ فامرأة.

ولكن المشهور أعرضوا عن هذه الرواية ولم يعملوا بها ، فالمتعيّن هو الأخذ بقول المشهور من توريثه بالمبال ، وعند تساوي المبالين من جميع تلك الجهات المذكورة في الرواية يعطى نصف مجموع حقّ الرجل وحقّ المرأة.

وقال بعضهم بالقرعة بعد الاعتبار بالمبال وتساويهما من تلك الجهات المذكورة في الروايات.

ولكن أنت خبير بأنّ القرعة أمارة في مورد العلم الإجمالي في الشبهة الموضوعية إذا كانت الشبهة من المعضلات ، لما حقّقنا في شرح قاعدة القرعة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب من أنّ القرعة أمارة حيث لا دليل لحلّ المشكلة وكان من المعضلات (1).

فما ذكره الشيخ قدس سرّه في الخلاف من العمل بالقرعة مدّعيا عليه الإجماع والأخبار (2) ، لا وجه له. أمّا عدم الإجماع فلذهاب المشهور إلى خلافه لما قلنا أنّهم يقولون عند تساوي المبالين أخذا وانقطاعا أنّ له نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة.

وأما الأخبار فلا تدلّ إلاّ على أماريّة القرعة في المعضلات من الشبهات

ص: 73


1- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 65.
2- « الخلاف » ج 4 ، ص 106 ، كتاب الفرائض ، مسألة 116.

الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند المشهور كرواية هشام بن سالم ، ورواية إسحاق بن عمّار اللتين تقدّمتا على أنّه يرث عند تساوي المبالين نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة ، فلا يبقى إعضال وإشكال حتّى تصل النوبة إلى القرعة ، ففي مثل هذا المورد لا مجال للعمل بالقرعة.

نعم هاهنا قول آخر للمفيد والمرتضى - 0 - والحلّي في السرائر وهو عدّ أضلاعه فإن كان الطرف الأيسر أقلّ من الطرف الآخر فرجل وإلاّ فامرأة (1).

وبه رواية حاكية قضاء أمير المؤمنين علیه السلام بذلك (2) ولكن الرواية ضعيفة ، والمشهور أعرضوا عن العمل بها. فالمعتمد هو القول المشهور وإن احتجّوا هؤلاء بالإجماع ولكن ادّعاء الإجماع مع مخالفة المشهور لا يخلو من غرابة.

وما استشكل على هذا القول بعدم إمكان تميّز الأضلاع غالبا بحيث تطمئنّ النفس به خصوصا في السمين كما في الجواهر (3) ، أغرب.

فخلاصة الكلام : أنّ الأخبار الواردة في باب ميراث الخنثى مفاد بعضها : أنّ الخنثى يرث على المبال ، وساكت عمّا إذا تساوى المبالان من حيث الشروع والانقطاع ، بل ساكت عمّا إذا خرج البول من كليهما.

وذلك كرواية داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه علیه السلام التي ينقلها عنه في الكافي قال : سئل عن مولود ولد ، له قبل وذكر كيف يورث؟ قال علیه السلام : « إن كان يبول من ذكره فله ميراث الذكر ، وإن كان يبول من القبل فله ميراث الأنثى » (4).

ورواها الشيخ بإسناده عن الفضل بن شاذان مثله (5).

ص: 74


1- « السرائر » ج 3 ، ص 279 - 280.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1271 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 575 ، أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ، باب 2 ، ح 3.
3- « جواهر الكلام » ج 39 ، ص 284.
4- « الكافي » ج 7 ، ص 156 ، باب ميراث الخنثى ، ح 1.
5- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 353 ، ح 1267 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 1.

وأيضا روى الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « كان أمير المؤمنين علیه السلام يورّث الخنثى من حيث يبول » (1).

وعن الكافي أيضا عن طلحة بن زيد مثله (2).

ولا يخفى أنّ هذا القسم من الروايات التي ساكتة عن صورة الجريان عن الاثنين مع تساوي المبالين من حيث الأخذ والانقطاع أو اختلافهما ، لا تعارض الروايات التي تبيّن حكم صورة تساويهما أو اختلافهما من حيث الأخذ والانقطاع مع الجريان عن الاثنين ، ومفاد بعضها بيان حكم صورة الاختلاف في الشروع والانقطاع وأنّه يورث بأسبقهما ، فإن كانا متساويين في الشروع فبأبعدهما انقطاعا.

مثل ما رواه الكليني في رواية أخرى عن أبي عبد اللّه في المولود ، له ما للرجال وله ما للنساء ، يبول منهما جميعا؟ قال علیه السلام : « من أيّهما سبق » قيل : فان خرج منهما جميعا قال علیه السلام : « فمن أيّهما استدرّ » قيل فإن استدرّا جميعا؟ قال علیه السلام : « فمن أبعدهما » (3).

ومفاد بعضها في صورة التساوي في المبال من جميع الجهات المذكورة هو عدّ الأضلاع ، فإن نقص طرف الأيسر عن الأيمن بواحدة فيعطى نصيب الرجل ، وإلاّ فنصيب المرأة.

وذلك مثل رواية رواها في التهذيب (4) والفقيه (5) في قضية مجي ء خنثى إلى شريح القاضي وبيان حاله له ، والرواية طويلة مذكورة في الوافي نقلا عن التهذيب والفقيه ، وموضع الحاجة منها أنّه بعد مراجعة شريح إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال علیه السلام : « على بدينار الخصى - وكان معدلا - وبامرأتين » فأوتى بهم ، فقال علیه السلام لهم : « خذوا هذه المرأة

ص: 75


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 353 ، ح 1268 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 2.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 156 ، باب ميراث الخنثى ، ح 2.
3- « الكافي » ج 7 ، ص 157 ، باب ميراث الخنثى ، ح 5.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 354 ، ح 1271 ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره من الناس ، ح 5.
5- « الفقيه » ج 4 ، ص 327 ، باب ميراث الخنثى ، ح 5704.

إن كانت امرأة فأدخلوها بيتا ، وألبسوها نقابا ، وجرّدوها من ثيابها ، وعدّوا أضلاعها » ففعلوا ، ثمَّ خروجها إليه فقالوا له : عدد الجنب الأيمن إثنا عشر ضلعا ، والجنب الأيسر أحد عشر ضلعا. فقال علي علیه السلام : « اللّه أكبر ، ايتوني بحجام » فأخذ من شعرها فأعطاها رداء وحذاء وألحقها بالرجال (1).

ومفاد بعضها انّه بعد تساوي المبالين يعطى نصف نصيب الرجل ونصف نصيب المرأة.

وذلك مثل رواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : المولود يولد ، له ما للرجال وله ما للنساء؟ قال : « يورث من حيث يبول من حيث سبق بوله ، فإن خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث ، فإن كانا سواء ورث ميراث الرجال وميراث النساء » (2).

ورواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر بن محمّد علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام : « إنّ عليّا علیه السلام كان يقول : الخنثى يورث من حيث يبول ، فإن باب منهما جميعا فمن أيّهما سبق البول ورث منه ، فإن مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف عقل الرجل » (3).

وهذان القسمان الأخيران بينهما تعارض ، وقد ذكرنا أنّه يجب الأخذ بهذه الطائفة الأخيرة أي روايات التي مفادها أنّ له نصف نصيب الرجل ونصف نصيب المرأة ، لعمل المشهور بها وإعراضهم عن الطائفة الأولى أي التي يأمر فيها بعدّ الأضلاع ، وجعل نقصانها في الطرف الأيسر أمارة الذكوريّة والرجوليّة ، وإن كانت تلك الروايات مروية بطرق متعدّدة حاكية لقضاء أمير المؤمنين علیه السلام في تلك الواقعة العجيبة.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا

ص: 76


1- « الوافي » ج 2 ، ص 141 ، أبواب المواريث ، باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره
2- سبق تخريجه في ص 72 ، رقم (1).
3- سبق تخريجه في ص 72 ، رقم (2).

17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض

اشارة

ص: 77

ص: 78

قاعدة تلف المبيع قبل القبض (1)

ومن القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ». والكلام فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها ،

وهو أمور

الأوّل : الروايات

منها : الحديث النبوي الشريف المشهور ، الذي حكاه في المستدرك عن عوالي اللئالي : « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه (2).

منها : رواية عقبة بن خالد التي رواها في الوسائل عنه عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبه ، غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إن شاء اللّه ، فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال علیه السلام : « من مال صاحب

ص: 79


1- (*) « خزائن الأحكام » ش 26. « بلغة الفقيه » ج 1 ، ص 149 و 209 ، « القواعد » ص 105 ، « قواعد فقه » ص 189 ، « قواعد فقهية » ص 287 ، « القواعد الفقهية ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 351 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 266 « مجله كانون وكلاء » العام 2 ، ش 16 ، ص 9 - 14 ، محمد اعتضاد البروجردي.
2- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 303 ، أبواب الخيار ، باب 9 ، ح 15430.

المتاع الذي هو في بيته حتّى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يرد ماله إليه » (1).

ودلالة الحديث الشريف على هذه القاعدة واضحة ، من جهة أنّها مدلوله المطابقي.

وبعبارة أخرى : الحديث نصّ في هذه القاعدة ، إذ مضمونه ومفاده عين هذه القاعدة وليس هناك - حسب قانون المحاورة وبناء العقلاء في مقام الإفادة والاستفادة ، من استكشاف المراد بظواهر الألفاظ والهيئة التركيبية للجملة - احتمال آخر غير هذه القاعدة كي يكون هو المراد.

وأمّا حجيّة هذا الحديث : فهو وإن كان مرسلا ليس له سند معتبر لكن تلقّى الأصحاب له بالقبول ، واتّفاقهم على الفتوى بمضمونه ، وكون مفاده من المسلّمات عندهم يوجب الوثوق بصدوره الذي هو موضوع الحجية ، لا كونه خبر عدل أو ثقة.

وقد تكلّمنا فيه وأثبتناه في كتابنا « منتهى الأصول » في مبحث حجيّة الخبر (2) ، فراجع.

فإذن كان الحديث الشريف من الجهتين - أي جهة الدلالة والحجية - لا قصور فيه ، فيثبت به المطلوب وهو اعتبار هذه القاعدة وصحّتها.

وأمّا الرواية : فهي أيضا من حيث السند لا احتياج لها إلى البحث عنها لما ذكرنا في الحديث المبارك. وأمّا من حيث الدلالة فأيضا حالها حال الحديث الشريف ، لأنّ الحكم في كليهما على المبيع التالف عند البائع قبل أن يقبض المشتري بأنّه من مال البائع. نعم في الرواية هذا الحكم معنى بالقبض والإخراج من بيته ، وهذا أمر مسلّم لا يوجب فرقا في المقام ، بل التلف عند البائع قبل قبض المشتري يرجع إلى هذا المعنى بل هو عينه.

وعلى كلّ حال الحكم في كليهما بأنّ التلف من مال البائع فيه احتمالات ثلاث :

ص: 80


1- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 358 ، أبواب الخيار ، باب 10 ، ح 1.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 112.

أحدها : أن يكون المراد منه أنّ القبض دخيل في حصول ملكيّة المبيع للمشتري ، وإلاّ فهو باق على ملك البائع ، كما أنّه كذلك في بيع الصرف ، فإنّ القبض في المجلس دخيل وشرط لحصول ملكيّة العوضين وصحّة العقد.

ولكن هذا الاحتمال معلوم البطلان إجماعا.

الثاني : أن تكون يد البائع يد ضامن ، فيكون الضمان بالمثل أو القيمة كسائر أبواب الغرامات وأيدي العادية.

ولكن هذا الاحتمال أيضا باطل ، لأنّ المفروض أنّ اليد ليست يد ضمان بل أمانة مالكيّة ، وإلاّ لو كانت اليد يد ضمان ، أو أتلف البائع أو نفس المشتري مع عدم قبضه - إن لم تكن الإتلاف قبضا - فليس مربوطا بهذه القاعدة ، بل في الأوّل يكون ضمان البائع ضمانا واقعيّا بالمثل أو للقيمة وبقاعدة « على اليد » ، وفي الثاني أيضا ضمانا واقعيا وبقاعدة « الإتلاف » ، وفي الثالث هو أتلف ماله فلا ضمان على البائع بهذه القاعدة ، لعدم تحقق موضوعها وهو التلف قبل القبض ، لأنّه إتلاف من قبل نفس المالك ، لا التلف عند البائع قبل أن يقبض المشتري.

الثالث : انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف ليكون التلف في ملك البائع ، فيكون معنى الضمان رجوع الثمن إلى ملك المشتري ، لا الضمان الواقعي.

وهذا الاحتمال - أي انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف - لا محذور فيه بعد وجود الدليل عليه أي الملكيّة آنا ما للبائع من طرف الشارع ، فإنّ الأمر بيده ، وله نظائر في الشرع.

منها : لو باع داره مثلا ببيع الخياري ففسخه وكان فسخه بأن باعها من غير المشتري الأوّل أو وقفها فبناء على صحّة البيع أو الوقف لا بدّ وأن نلتزم بدخوله آنا ما في ملك الفاسخ ثمَّ يتحقّق البيع أو الوقف ، لأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

ومنها : قوله أعتق عبدك عنّي بناء على صحّة العتق ووقوعه عنه بصرف هذا

ص: 81

الكلام وذلك من جهة أنّه لا يمكن وقوعه عنه إلاّ بأن يصير ملكا له آنا ما قبل وقوع العتق عنه.

ومنها : فيما إذا اشترى من ينعتق عليه ، فلا بدّ من الالتزام بملكيّة المشتري آنا ما كي يصحّ البيع فينعتق عليه ، وهذا مقتضى الجمع بين دليلي صحّة البيع وانعتاقه عليه.

ومنها : ما قيل في باب المعاطاة بناء على القول بالإباحة وجواز عتق من اشتراه بالمعاطاة أو وقفه أو تعلّق الزكاة والخمس به فإنّ مقتضى الجمع بين أدلّة هذه الأقوال هو الالتزام بملكيّة آنا ما. والحاصل أنه بعد ورود الدليل على رجوع الثمن إلى المشتري إذا تلف المبيع قبل القبض فلا بدّ من الالتزام بانفساخ العقد ورجوع المبيع إلى ملك البائع آنا ما ، فوقوع التلف كان في ملكه.

الثاني : الإجماع على هذا الحكم ، وقد ادّعاه صريحا في التذكرة ، وحكى أيضا عن جماعة (1). والظاهر عدم الخلاف واتّفاق الأصحاب على هذا الحكم.

ولكن قد ذكرنا مرارا من أنّ مثل هذا الاتّفاق والإجماع - الذي من المحتمل بل المظنون بالظنّ القوي أن يكون مدركه الروايات الواردة في هذا الباب ، أو الاعتماد على ما سنذكره من بناء العقلاء - ليس من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجيّته.

الثالث : بناء العقلاء على انفساخ العقد لو وقع التلف قبل القبض ورجوع الثمن إلى المشتري ، وذلك من جهة أنّ العقلاء في باب العقود المعاوضيّة وإن كانوا ينشأون المبادلة بين المالين - بمعنى أنّهم في عالم الاعتبار يملكون أحد العوضين لصاحب العوض الآخر - ولكن بعنوان المعاوضية وكون العوض الآخر عوضا وبدلا ، وليس من قبيل الهبة تمليكا مجّانيا وبلا عوض وبلا بدل ، فما دام كلّ واحد من العوضين باق ويكون قابلا لأن يعطي للآخر بدل ماله الذي أخذ منه هذا العقد باق.

ص: 82


1- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 473.

وأمّا إن سقط عن قابليّة الإعطاء ، أو عن كونه بدلا فقهرا ينفسخ العقد ويرجع ما هو باق إلى صاحبه. والذي وقع عليه التلف وذهب من البين ، أو سقط ماليّته في عالم الاعتبار - فيما كان ماليّته بصرف الاعتبار كالأوراق الماليّة التي تسقط عن الاعتبار - يذهب من كيس صاحبه ، أي صاحبه قبل المعاوضة ، وهذا من لوازم انفساخ العقد.

ولكن يرد على هذا الدليل أنّه بناء عليه يكون الانفساخ في الرتبة المتأخّرة من التلف ، إذ التلف صار سببا للانفساخ ، ولازم ذلك أنّ التلف وقع في ملك من هو صاحبه بعد العقد ، لا من كان صاحبه قبل العقد ، وهو خلاف مفاد القاعدة ومضمونها ، كما سيأتي في بيان مفاد القاعدة ، أي في الجهة الثانية. وأيضا خلاف ما هو ظاهر الروايات وما هو المسلم بين الأصحاب ، لأنّ ما هو المسلّم بينهم في المفروض أنّ تلف المبيع يكون من مال صاحبه قبل العقد الذي هو البائع في المقام.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ أصل انفساخ العقد ورجوع ما هو من العوضين باق ولم يتلف إلى ملك من كان صاحبه قبل العقد يكون على القاعدة ، ومقتضى طبع المعاوضة وبناء العقلاء في أبواب المعاملات المعاوضيّة والمبادلات الماليّة ، ولكن كونه آنا ما قبل التلف ليكون التلف في ملك المالك قبل العقد حكم تعبّدي ، ودليله الإجماع أو الروايات.

فبناء على هذا هذه القاعدة لا تعبّدي محض ولا أنّها تكون مقتضى قواعد المعاوضات فقط ، بل تكون مركّبة من أمرين ، أي أصل الانفساخ فيما إذا وقع التلف على أحد العوضين ليس تعبّديّا بل هو مقتضى طبع المعاوضات والمبادلات المالية كما بيّنّا مفصّلا ، وأمّا كونه آنا ما قبل التلف فتعبّدي صرف.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ، وما هو المراد منها ، وشرح ألفاظها

فنقول : أمّا « المبيع » و « التلف » فمعناهما معلومان ، ولا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

ص: 83

وأمّا ما يقال من أنّ المبيع في القاعدة هل يشمل الثمن أم لا فليس من جهة الترديد في معنى لفظ المبيع ، لأنّه من الواضح ظهوره عرفا في المثمن ، بل وكذلك لغة وإنّما احتمال شموله له من ناحية وحدة المناط والملاك ، خصوصا بناء على ما قلنا في الدليل الثالث على هذه القاعدة من بناء العقلاء في باب المعاوضات على أن يكون الأخذ والإعطاء الخارجين بعنوان العوضية حالهما فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قابلا للإعطاء إلى زمان حصول التقابض من الطرفين ، فلو تلف أحدهما سواء كان هو المثمن أو الثمن قبل أن يقبض فلا يمكن التقابض ، فقهرا يتفسخ المعاملة. ولا فرق في حصول الانفساخ من هذه الجهة بين أن يقع التلف قبل القبض على الثمن أو المثمن.

نعم لو كان هذا الحكم صرف تعبد من حيث دلالة النبوي عليه فلا مجال للترديد ، لأنّ لفظ المبيع لا يشمل الثمن قطعا.

وأمّا ما يقال من أنّ التلف هل يشمل ما يجب إتلافه شرعا ، كمورد القصاص في العبد الجاني ، أو مورد ارتداده الفطري حيث انّه محكوم شرعا بالإتلاف والقتل ، ولا تقبل توبته من هذه الجهة وإن كان الأصحّ قبول توبته من غير الجهات الثلاث أي القتل وتقسيم أمواله بين ورثته وإبانة زوجته عنه ، أو مورد صيرورته مقعدا. والحاصل أنّ كلّ مورد يكون شرعا محكوما بالتلف أو بوجوب الإتلاف مع بقاء العين تكوينا ووجدانا فليس هذا أيضا ترديدا في معنى التلف ، لأنّ التلف عبارة عن انعدام الشي ء تكوينا إن كان من التكوينيّات بل مرادهم أنّ هذه الأمور مشمولة للتلف حكما لا موضوعا أم لا؟

وبعبارة أخرى : مناط التلف وهو عدم إمكان التقابض الذي قلنا إنّه من مقتضيات ذوات عقود المعاوضيّة فيها موجود وإلاّ فإنّ الشي ء الموجود بعينه كيف يمكن أن يطلق التلف عليه حقيقة.

نعم لا مانع من إطلاق التلف عليه مجازا وبالعناية باعتبار سلب الآثار ونفيها عنه

ص: 84

أو نفي الأثر المطلوب.

وأمّا لفظ « القبض » الوارد في هذه القاعدة فهو بالمعنى الذي يذكره الفقهاء في باب البيع ، أي استيلاء البائع على الثمن مثلا ووقوعه تحت يده بحيث لو أتى من يدّعيه يكون هو المدّعي ويكون القابض هو المنكر ، لأنّه يكون هو ذا اليد.

وأمّا كلمة « من مال بائعه » المذكورة في هذه القاعدة ففيها احتمالان :

الأوّل : أن يكون المراد منه أنّ التلف وقع في مال البائع ، وذلك بأن يكون مرجع ضمير « هو » هو التلف المعلوم من كلمة تلف المذكورة في هذه القاعدة بصورة الفعل الماضي. ولا شكّ في أنّ ظاهر هذا الكلام بناء على هذا أنّ التلف من مال البائع لا من المشتري ، فلا بدّ من القول بانفساخ المعاملة قبل التلف آنا ما حتى يمكن أن يكون التلف من مال البائع ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكون التلف الواقع في ملك المشتري من مال البائع.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ المراد من كون التلف من مال البائع مع وقوعه في ملك المشتري هو أنّ خسارته وضمانه الواقعي عليه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا خلاف ما هو ظاهر الكلام جدّا ، نعم لو كان بدل كلمة « من مال » لفظة « على بائعه » كان لهذا الاحتمال وجه.

وقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون المراد من هذه الكلمة أي كلمة « من مال بائعه » أنّ خسارة التالف وغرامته على البائع ، لا أنّ أصل وقوعه في ملك البائع حتّى يكون ملازما مع انفساخ العقد آنا ما قبل التلف وقوع التلف في ملك البائع ، إلاّ أن يقال بعدم حصول الملكيّة لكلّ واحد من المتبايعين قبل وقوع القبض من الطرفين ، كما أنّه نسب ذلك إلى شيخ الطائفة قدس سره .

ولكن أنت خبير بعدم صحّة هذا الكلام ، لما هو المذكور في محلّه ، واتّفاق الكلّ على خلافه.

ص: 85

فإذا ظهر لك ما ذكرنا من المراد من ألفاظ هذه القاعدة فتقول : إنّ معنى هذه الجملة ومفاد هذه القاعدة في كمال الوضوح ، وهو عبارة عن أنّ كلّ مبيع من أيّ سنخ من الأموال ، إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا لو وقع عليه التلف قبل أن يقبضه المشتري يوجب انفساخ البيع آنا ما قبل التلف ، فيكون من مال بائعه ، فيرجع الثمن إلى المشتري.

وأمّا بناء على ذلك الاحتمال الآخر الذي قلنا إنّه خلاف الظاهر وخلاف فتوى المشهور بل خلاف الإجماع فيكون مفاد القاعدة أنّ كلّ مبيع تلف قبل قبضه أي قبل استيلاء المشتري عليه يكون خسارته وضمانه على البائع ، فيكون البائع يعطي مثله للمشتري إن كان مثليّا ومثله موجودا ، ويعطي قيمته له إن كان قيميّا أو كان مثليّا ولكن مثله ليس بموجود أو تحصيله متعذّر أو متعسّر وإن كان موجودا.

ثمَّ إنّه تختلف النتيجة في سعة انطباق القاعدة وفي ضيقه بحسب اختلاف المدرك.

فلو كان المدرك هو الروايات فالظاهر المستفاد منها هو الذي تقدّم من انفساخ البيع لو تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري ، ورجوع الثمن إلى ملك المشتري.

وأمّا شموله للثمن - أي لو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع فيكون موجبا لانفساخ العقد - في غاية الإشكال ، لأنّ لفظ المبيع لا يشمل الثمن لا بحسب الوضع اللغوي ولا بحسب المتفاهم العرفي ، ولا لفظ البائع يشمل المشتري.

وأمّا شموله لما لو كان التالف بعض المبيع فسنتكلّم فيه في الجهة الثالثة إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع فأيضا يكون الحكم مثل ما إذا كان المدرك الروايات ، إذا كان معقد الإجماع هو مفاد هذه القاعدة كما هو كذلك. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه أوسع بناء على انعقاده في الثمن أيضا مثل المبيع.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء في باب المعاوضات على أنّ إنشاء المبادلة

ص: 86

والمعاوضة بين العوضين مبني على الأخذ والإعطاء خارجا ، بحيث يكون هذا المعنى أي التعاطي والتقابض من الطرفين من مقوّمات المعاملة والعقود المعاوضية وداخلا في حقيقتها. ومن هذه الجهة لو تلف أحد العوضين قبل أن يقبضه الذي صار صاحبه بعدم وقوع المعاوضة فينفسخ المعاوضة قهرا لعدم إمكان تحقّق مثل هذا المعنى بعد تلف أحدهما.

وبناء على هذا لا اختصاص لهذه القاعدة بالبيع ، بل تجري في جميع العقود المعاوضيّة وفي تلف كلّ واحد من العوضين إذا كانت المعاوضة والمعاملة واقعة على الشخصيين ، لأنّه لا معنى لتلف الكلّيين. نعم لو كان أحد العوضين كليا والآخر شخصيا فالقاعدة تجري في تلك المعاملة لإمكان وقوع التلف على ذلك العوض الشخصي.

الجهة الثالثة : في موارد انطباق هذه القاعدة

اشارة

وعرفت في الجهة الثانية أنّها تختلف سعة وضيقا باعتبار اختلاف مدركها ، فنقول : أمّا جريانها فيما إذا وقع التلف على تمام المبيع الشخصي قبل أن يقبضه المشتري ، أو قبل ما كان في حكم القبض وهو كما إذا أتلفه المشتري مثلا فهو القدر المسلم على جميع الاحتمالات ، أي سواء كان مدركها الروايات أو الإجماع أو مقتضى القواعد الأولية.

وأمّا إذا وقع التلف على بعض المبيع ، فهل تشمله هذه القاعدة وينفسخ البيع ويرجع تمام الثمن إلى المشتري ، أو لا ينفسخ أصلا ، أو يفصّل بين ما إذا كان المبيع يقسّط عليه الثمن باعتبار الأجزاء وليس لهيئة الاجتماع أثر في مقدار السعر ، كما إذا باع شاتين بعقد واحد ، أو منين من طعام متّحد الجنس من حيث نوع الطعام ومن حيث الجودة والرداءة ، فإذا تلف أحد الغنمين أو أحد المنّين من الحنطة أو الأرز مثلا

ص: 87

فينفسخ العقد بالنسبة إلى ذلك المقدار ويرجع ثمن ذلك المقدار إلى البائع ، وبين ما إذا كان لهيئة الاجتماع أثر في ازدياد السعر أو في أصل السعر ، كزوج حذاء تلف أحد فرديه احتمالات.

والأقوى هو الأخير ، سواء كان المدرك هو الروايات أو الاجتماع أو ما ذكرنا من بناء العقلاء ، وذلك من جهة أنّه كما يصدق المبيع على الكلّ كذلك يصدق على جميع الأجزاء ، ولذلك يقولون بصحّة البيع بالنسبة إلى الجزء الذي مملوك إذا كان المبيع مركّبا ممّا يملكه وممّا لا يملك ، أو كان مركبا ممّا يملك وممّا لا يملك ، لأنّه لا معنى لكون الشي ء مبيعا إلاّ تمليكه للغير بعوض مال ، ولا شكّ في أنّ البائع ملك كلّ جزء من أجزاء المثمن في الصورتين المتقدّمتين بمقدار من ذلك الثمن والعوض المذكور المسمى في العقد ، فيصدق عليه أنّه مبيع ، نعم لا يصدق عليه أنّه مبيع مستقلّ ، بل هو مبيع في ضمن كون الكلّ مبيعا ولكن نفي المقيد لا يستلزم منه نفي المطلق.

هذا بناء على أن يكون مدرك هذه القاعدة هو النبوي المشهور أو الرواية فواضح ، لما ذكرنا من صدق المبيع على ذلك الجزء التالف ، نعم ينفسخ العقد بالنسبة إلى ذلك الجزء التالف فقط لا بالنسبة إلى الجميع.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فإن كان معقد الإجماع ما هو الموضوع في القاعدة أي « كلّ مبيع تلف » فالأمر أيضا كما ذكرنا. وأمّا لو كان معقده مهملا لا إطلاق فيه فلا بدّ وأن يؤخذ بالقدر المتيقّن ، وهو تلف تمام المبيع قبل القبض لا بعضه ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى الإجماع على الجزء أيضا.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء فشموله للجزء أوضح ، لأنّ بناء العقلاء في المعاملات المعاوضيّة كما بيّنّا هو إنشاء المبادلة بين المالين لأجل الأخذ والإعطاء والتقابض الخارجي ، فإذا خرج أحد العوضين أو كلاهما عن قابليّة القبض والإقباض ، والأخذ والإعطاء ولو كان بواسطة تلف بعض أحدهما فقهرا ينفسخ

ص: 88

المعاملة. ويمكن أن يقال باختصاص الانفساخ بالنسبة إلى ذلك المقدار التالف من العوضين أو أحدهما.

هذا فيما إذا كان وقوع التلف على المبيع كلا أو بعضا.

وأمّا لو وقع التلف على الثمن ، فان كان مدركها النبوي المشهور فلا تشمل الثمن ، لظهور المبيع فيما هو مقابل الثمن ، وما هو حجّة في باب الألفاظ والجمل الصادرة عن الشارع في مقام بيان الأحكام ليس إلاّ ظهورات تلك الألفاظ والجمل التي هي كاشفات عن مرادات المتكلم ، إذ طريقته في مقام بيان الأحكام ليس إلاّ طريقة أهل المحاورة ، ولا بدّ لشمول هذا الحكم للثمن من التماس دليل آخر من نقل أو إجماع أو بناء العقلاء ، وسنتكلّم فيها.

وأمّا إن كان مدركها رواية عقبة بن خالد ، فصدر الرواية وإن كان ظاهرا في خصوص المبيع ولا يشمل الثمن - لأنه علیه السلام في مقام سرقة المتاع الذي هو المبيع يحكم بأنّ التلف من مال صاحبه الذي هو في بينه أي البائع ، فلا ربط له بتلف الثمن قبل أن يقبضه البائع - ولكن ذيلها ، أي قوله علیه السلام : « فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يردّ إليه ».

ولا شكّ في أنّ ظاهر هذا الكلام أنّ البائع بعد ما أخرج المبيع من بيته ، أي أقبضه وسلّمه إلى المبتاع أي المشتري فيكون المبتاع أي المشتري ضامن لحقّه أي البائع ، لأنّ المفروض أنّه أي المبتاع قبض المبيع فيكون ضامنا بالضمان المعاوضي لا الواقعي ، لأنّه قبض المبيع بضمان المعاوضي ، المسمّى بضمان المسمّى أي الثمن ، فلا يمكن له أداء حق البائع أي عوض المبيع الذي هو عبارة عن الثمن ، فلا يمكن له إتمام المعاوضة والعمل بها فقهرا يرجع المبيع إلى البائع إن كان موجودا. وهذا معنى انفساخ العقد.

هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سرّه في هذا المقام ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ ما أفاده بأنّ معنى جملة « فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يردّ ماله إليه » وإن كان كما ذكره وبيّنّاه ، أي مفاد

ص: 89

هذه الجملة والمتفاهم العرفي منها هو أنّ المشتري بعد قبض المبيع ضامن للبائع بما هو المسمى في عقد المعاوضة ، أي الثمن المعين في ذلك العقد ، ولكن بعد ما وقع التلف على ذلك الثمن لا ملزم لرجوع المبيع إلى البائع وانفساخ العقد ، بل من الممكن أن يقال : ذهب الثمن من كيس البائع بلا عوض ، لأنّ يد المشتري يد أمانة بعد قبض المبيع ، ولا إتلاف في البين حتّى يكون موجبا للضمان أو ينتقل ضمان المسمّى إلى الضمان الواقعي ، أي المثل إن كان مثليا ، أو القيمة إن كان قيميا إن كانت يده يد ضمان. اللّهمّ إلاّ أن يدلّ دليل آخر على انفساخ العقد وسنذكره إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا إن كان مدركها الإجماع فلا بدّ وأن ينظر إلى معقد الإجماع وأنّه هل في خصوص تلف المبيع قبل قبضه قالوا بالانفساخ ، أو لا فرق في قولهم بالانفساخ بين تلف المبيع قبل قبضه أو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع؟

والظاهر عدم الفرق في هذا الحكم بين المبيع والثمن ، والشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه استظهر نفي الخلاف من عبارات الأصحاب في هذا المقام بالنسبة إلى الثمن أيضا (1).

وأمّا لو كان مدركها بناء العقلاء بالبيان المتقدّم فلا فرق بين المبيع والثمن أصلا لوجود ما هو مناط الانفساخ في تلف الثمن أيضا إذا كان الثمن شخصيا لأنّ المبيع والثمن الكليين لا معنى لوقوع التلف عليهما ، نعم في المبيع الكلّي أو الثمن الكلّى يمكن أن يكون فردا منحصرا به الكلّي بحيث لا يكون مصداقا آخر للكلّي غيره وتلف ذلك المصداق. ولكن هذا أيضا ليس من تلف المبيع أو الثمن ، بل يكون من قبيل عدم وجود المصداق لذلك الكلّي الذي هو الثمن أو المثمن.

وعلى كلّ حال عرفت أنّ مناط الانفساخ بناء على هذا الوجه عدم إمكان التقابض والتعاطي الذي هو من مقتضيات ذات العقد ، بل لا يتحقّق حقيقة المعاملات المعاوضيّة إلاّ به كما بيّنّا مفصّلا. وفي تحقّق هذا المعنى أي إمكان التقابض والأخذ

ص: 90


1- « المكاسب » ص 314.

والإعطاء لا فرق بين تلف المبيع ، وبين تلف الثمن ، بل وبين تلف بعضه.

ثمَّ إنّه هل تختصّ هذه القاعدة بالبيع ، أو تشمل سائر العقود المعاوضية؟ فيه تفصيل : وهو أنّه لو كان مدركها الحديث الشريف أي النبوي المشهور ، أو رواية عقبة بن خالد فالظاهر اختصاصها بالبيع ، وعدم شمولها لسائر المعاملات المعاوضيّة ، لأنّ موضوع الحكم فيها عنوان المبيع ، وهو عنوان مختصّ بالمثمن في خصوص البيع ، ولا يشمل العوض ولا المعوّض في سائر العقود والمعاملات ، وحينئذ التعدّي إلى سائر المعاملات المعاوضيّة يحتاج إلى دليل أو تنقيح مناط ، وإذ ليس في البين شي ء منها فالقول بشمولها لها في غاية الإشكال.

وأمّا لو كان مدركها الإجماع ، فقد حكى الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه عن التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلمات (1) ، ولكن إثبات عموم الحكم لجميع المعاوضات بالإجماع المصطلح الأصولي في غاية الإشكال ، لعدم تحقّقه أوّلا بادّعاء البعض ، خصوصا إذا كان بالاستظهار من كلام ذلك البعض من دون تصريحه بذلك ، وعدم حجيّة مثل هذا الإجماع ثانيا على فرض تحققه ، لما ذكرنا مرارا من أنّ حجّية الإجماع من باب الحدس القطعي برأيه علیه السلام من اتّفاق الكلّ وكشفه عنه ، وكون الاتّفاق مسبّبا عن تلقّيهم منه علیه السلام وذلك لا يكون إلاّ فيما إذا لا يكون معتمد ومدرك آخر في البين يمكن أن يكون اتّفاقهم مستندا إليه من بناء العقلاء على التفصيل الذي ذكرنا ، والنبوي المشهور (2) ، ورواية عقبة بن خالد (3).

والإنصاف أنّ الإجماع على شمول الحكم لجميع المعاملات المعاوضيّة كالإجارة ، والصلح بعوض ، والدين بل الهبة المعوّضة ممنوع صغرى وكبرى ، كما بيّنّا.

وأمّا لو كان مدركها ما ذكرنا من بناء العقلاء والعرف والعادة على أنّ إنشاء العقود

ص: 91


1- « المكاسب » ص 314.
2- سبق تخريجه في ص 79 ، رقم (1).
3- سبق تخريجه في ص 80 ، رقم (1).

المعاوضية والمبادلة في عالم الاعتبار والتشريع مبني على الأخذ والإعطاء الخارجي ، بحيث لو لم يكن قابلا للأخذ والإعطاء الخارجي يكون المبادلة في عالم الاعتبار والتشريع لغوا وعملا غير عقلائي ، فقابليّة الأخذ والإعطاء الخارجي للعوضين مأخوذة في حقيقة العقد حدوثا وبقاء ، أي حدوثها في حدوث العقد وبقاؤها في بقائه ، فإذا سقط عن هذه القابليّة بعد العقد وقبل القبض فقهرا ينفسخ العقد.

وأنت خبير بأنّ مثل هذا المعنى ليس مختصا بالبيع ، بل يجري في جميع المعاوضات. ولعلّ من هذه الجهة جعل التلف قبل القبض في التذكرة في باب الإجارة موجبا لانفساخ العقد وقال إنّه من المسلّمات (1).

هذا كلّه فيما إذا وقع التلف على أحد العوضين كلاّ أو بعضا.

وأمّا لو وقع التلف على صفة أحدهما قبل قبضه ، سواء كانت - تلك الصفة - فقدانها موجبا لحدوث عيب في ذلك العوض أو لا ، بل كانت القاعدة صفة كمال بحيث لا يقال لفاقد تلك الصفة أنه معيب. وعلى كلّ حال هل تجري القاعدة في هذه الصورة أم لا؟

أقول : أمّا جريان القاعدة بناء على أن يكون مدركها الروايات أو الإجماع فلا وجه له أصلا ، لأنّه لا يصدق على فوات الوصف - بكلا قسميه ، أي سواء كانت الصفة صفة كمال فقط وإن لم يكن فقدانها موجبا لحدوث عيب في المبيع ، أو كان كذلك - أنّه تلف المبيع الذي جعل موضوع الحكم في الروايات أو انعقد عليه الإجماع.

وأمّا بناء على أن يكون مدركها بناء العقلاء بالبيان المتقدّم فأيضا لا وجه لجريانها ، إذ المناط في جريانها بناء على ذلك المدرك عدم إمكان التقابض الخارجي بالنسبة إلى العوضين بما هما عوضان ، لأنّ فوات الوصف لا يخرج الموصوف عن كونه عوضا. ولا يقاس بتلف الجزء ، أي بعض أحد العوضين ، لأنّ الجزء التالف

ص: 92


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ص 322.

عوض وبدل عن مقدار من العوض الآخر ، فلا يمكن التقابض والأخذ والإعطاء بالنسبة إلى ذلك الجزء التالف ومقابله من العوض الآخر ، بخلاف الوصف فإنّه لا يقابل بحصّة من العوض الآخر وإن كان ربما يوجب زيادة قيمة الموصوف به.

نعم يبقى فرع آخر وهو أنّ العيب الحادث قبل القبض هل هو مثل الحادث بعد القبض حتّى لا يكون فيه الخيار ولا الأرش ، أو مثل الحادث قبل العقد حتّى يأتيان أي الخيار أو الأرش؟

والحقّ فيه هو ثبوت الخيار دون الأرش ، وذلك لأنّ الأرش حكم تعبّدي على خلاف مقتضى القواعد ، إذ مقتضى القواعد - حتى فيما إذا كان العيب قبل العقد - هو كون من انتقل إليه المعيب مخيّرا بين إبرام المعاملة أو حلّها ، لأجل أنّ التزامه بهذه المبادلة والمعاوضة كان فيما إذا لم يكن ما انتقل إليه فاقدا لوصف الصحّة فلا التزام له بهذا الموجود ، فهو مخيّر بين أن يقبل ما انتقل إليه بنفس العوض المسمّى في العقد وتمامه ، أو يفسخ.

وأمّا أخذ الأرش فهذا شي ء دلّت عليه الروايات ، وربما يقال في مورد عدم إمكان الردّ للتصرّف المانع منه كوطي الجارية المعيبة التي صارت حبلى وأمّ ولد.

والحاصل أنّ أخذ الأرش حكم تعبّدي في خصوص العيب الحادث قبل العقد وفي ملك صاحبه الأولي ، فيجب الوقوف في مورده ولا يجوز أسراؤه إلى العيب الحادث بعد العقد وإن كان قبل القبض ، إلاّ أن يدلّ دليل على الإسراء واشتراك العيب الحادث قبل العقد مع الحادث بعده إذا كان قبل القبض ، وإذا ليس فليس له أخذ الأرش ، بل له الخيار فقط.

هذا كلّه بناء على أن يكون هذا الحكم - أي تلف المبيع قبل القبض من مال البائع - من باب بناء العقلاء ، وإلاّ لو كان من باب الروايات أو الإجماع فقد عرفت عدم جريانه في تخلّف الوصف بكلام قسميه ، أي سواء كان الوصف الفاقد وصف كمال ، أو

ص: 93

كان وصف الصحّة ، فلا يوجب إلاّ الخيار.

ينبغي التنبيه على أمور

الأوّل : في أنّ النماء الحاصل للمبيع التالف ما بين العقد والتلف هل يرجع مثل المبيع التالف إلى ملك من انتقل عنه ، أو يبقى على ملك من انتقل إليه قبل التلف وبعد العقد؟

وكذلك يرجع العوض الذي للتالف نفسه إلى ملك من انتقل عنه لا نمائه بمعنى أن يتلف أحد العوضين يرجع نفس العوض الآخر إلى مالكه قبل العقد آنا ما لا نماؤه؟

والحقّ في هذا المقام بعد أن قلنا بحصول الملكيّة بنفس العقد وليس حصولها متوقّفا على القبض كما نسب إلى الشيخ قدس سرّه وقلنا إنّ التلف يوجب انحلال العقد آنا ما قبل التلف لا من أوّل الأمر كما هو الصحيح والمختار ، فلا يبقى وجه لرجوع النماء والمنفصل إلى المالك قبل العقد ، لأنّ النماء حصلت في ملك من انتقل إليه ، وليس سبب ناقل في البين حتّى نقول برجوعه ثانيا إليه.

الثاني : إنّ ضمان البائع بالنسبة إلى الثمن لو تلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري هل يسقط بإسقاط المشتري؟ وكذلك ضمان المشتري للمبيع لو تلف الثمن قبل أن يقبضه البائع هل يسقط بإسقاط البائع أم لا؟ في كلتا الصورتين ، أي في صورة إسقاط المشتري ضمان البائع للمبيع ، وفي صورة إسقاط البائع ضمان المشتري للثمن.

الظاهر عدم الإسقاط في كلتا الصورتين ، وذلك من جهة أنّ انحلال العقد ورجوع العوض الموجود بعد تلف عوض الآخر إلى مالكه قبل العقد أمر قهري ، بناء على أن يكون مدرك القاعدة هو بناء العقلاء الذي تقدّم الكلام فيه ، وليس من فعل أحد المتعاقدين حتّى يكون من قبيل الخيار الذي هو حقّ حلّ العقد وإبرامه كي يكون قابلا للإسقاط كسائر الحقوق القابلة للإسقاط.

وبعبارة أخرى ليس انفساخ العقد آنا ما قبل التلف من آثار حقّ المشتري على

ص: 94

حلّ العقد في تلف المبيع قبل القبض ، ولا من آثار حقّ البائع في تلف الثمن قبله ، حيث أنّ بقاء العقد منوط عند العقلاء ببقاء قابليّة كلّ واحد من العوضين على الأخذ والإعطاء - كما ذكرنا مفصّلا - وفي أيّ وقت خرج عن هذه القابليّة ينحلّ العقد قهرا ، فلا معنى لأن يكون قابلا للإسقاط.

الثالث : أن لا يكون التلف المذكور في هذه القاعدة مسبّبا عن إتلاف شخص ، سواء كان هو مالك أحد العوضين أو أجنبيّ عن هذه المعاملة ، لأنه إن كان المتلف هو الذي انتقل إليه هذا التالف في هذه المعاملة فليس هذا من قبيل التلف قبل القبض ، لأنّ هذا الإتلاف من مالكه وهو بنفسه يكون قبضا ، نعم لو كان جاهلا بأنّه ماله وأوهمه آخر بأنّه هبة لك أو مباح عليك فأكله مثلا فيدخل في قاعدة الغرور ويرجع إلى من غرّه بضمانه الواقعي من المثل أو القيمة ، كلّ في محلّه. ولا ينافي ذلك تماميّة المعاملة وكون هذا الإتلاف قبضا.

وأمّا لو كان الإتلاف من قبل غير المالك بعد العقد ، سواء كان هو المالك قبل العقد أي الطرف الآخر للمعاملة أو كان من قبل ثالث أجنبي ، فبناء على المختار من كون مدرك القاعدة هو بناء العقلاء ينحلّ العقد لا محالة ، ويرجع عوضه إلى مالكه قبل العقد ، لعدم إمكان التقابض.

وأمّا بالنسبة إلى ضمان التالف فإن كان المتلف هو مالكه قبل العقد فلا ضمان في البين أصلا لأنّ الإنسان لا يضمن لإتلاف مال نفسه ، لأنّه بعد فرض انحلال العقد آنا ما قبل التلف يرجع التالف إلى ملكه ، فيكون إتلافه واقعا على ملكه ، فلا ضمان. وأمّا إن كان المتلف هو الأجنبي ، فيرجع المالك بعد الانحلال إلى ذلك المتلف الأجنبي بضمانه الواقعي ، من المثل أو القيمة كلّ في محلّه.

الرابع : لو كان شخص وكيلا عن البائع والمشتري ، أو وليا عليهما والثمن والمثمن كلاهما تحت يده ، أو كان هو البائع مثلا ولكن كان وليّا على المشتري ففي جميع هذه

ص: 95

الصور لو تلف أحد العوضين بمحض وقوع العقد يكون من التلف بعد القبض لا قبله ، لأنّ المفروض أنّ العوضين كلاهما في يده وأيضا المفروض أنّ يده يد الطرفين إذا كان وكيلا عنهما أو وليّا عليهما ، ويده يد الطرف الآخر إذا كان هو البائع وكان وليّا على المشتري أو بالعكس أي كان هو المشتري وكان وليّا على البائع فلا يحتاج إلى قبض جديد ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل.

نعم الشي ء الذي يمكن أن يقال هو أنّه هل يحتاج في حصول القبض إلى قصد جديد ونيّة جديدة بمعنى أنّ الثمن مثلا كان عنده وفي يده باعتبار أنّه ملك لهذا المولى عليه ، وبعد وقوع العقد ينوي أن يكون عنده وتحت يده باعتبار صيرورته ملكا لذلك المولى عليه الآخر ، وكذلك الأمر في باقي الصور؟ أم لا يحتاج إلى تجديد القصد والنيّة؟

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ في ما يده بالنسبة إلى نفسه قبض بلا إشكال ، بمعنى أنّه نفسه لو كان أحد طرفي المعاملة ، سواء كان الطرف الآخر موكّله أو المولى عليه له ، والمفروض أنّ المال المتعلّق بأيّ واحد منهما في يده ، فالقبض حاصل ولا يحتاج إلى قصد ونيّة جديدة ، وذلك لعدم اعتبار القصد والنية في صدق الأفعال ، ولم يؤخذ لا في مادّتها ولا في هيأتها ، فالذي خطى خطوات يصدق أنّه مشى سواء قصد المشي أو لم يقصد.

نعم لو كان وكيلا عن شخص في كونه طرفا في معاملة أو وليّا عليه فصدق القبض عن قبله بدون القصد مشكل ، من جهة أنّ استناد فعل صادر من شخص إلى شخص آخر إن لم يكن بتسبيبه وتحريكه فلا بدّ وأن يكون بقصد النيابة عنه ، وإلاّ فكيف يستند إلى شخص أجنبي آخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ صدور القبض عن الوكيل أو عن الولي فيما إذا كان البيع أو الشراء لهما يكفي ، من دون الاحتياج إلى استناد القبض إليهما.

وربما يشهد لذلك ما روى في الصحيح عن الصادق علیه السلام في رجل تصدّق على ولد

ص: 96

له قد أدركوا فقال علیه السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » (1).

فمفاد هذه الرواية هو عدم الاحتياج إلى القبض إن كان الواهب وليّا على الموهب له ، وإطلاقه يشمل صورتي القصد وعدم القصد ، فيدلّ على أنّ قبضه يكفي مطلقا سواء قصد كونه عن طرف المولى عليه أم لا.

وعموم التعليل يوجب عدم الفرق بين الهبة وسائر أقسام التمليك فإنّ قوله علیه السلام : « لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » لا اختصاص بمورد التمليك بالهبة ، ويستفاد منه أنّ التصرّف في جميع أموره راجع إلى الولي أبا كان أو جدا.

الخامس : لو فرّط وكيل البائع في الإقباض بدون أيّ عذر فتلف المبيع فلا شكّ في انفساخ العقد ورجوع المبيع إلى البائع آنا ما قبل التلف ، بناء على ما هو المختار في مدرك هذه القاعدة ، لعدم إمكان التقابض بين العوضين بعد التلف بأيّ سبب كان التلف ، بل ولو كان بالإتلاف إذا لم يكن من قبل من انتقل إليه بالعقد ، لما ذكرنا من أنّ الإتلاف من قبله قبض ، فليس من التلف قبل القبض بل يكون من التلف بنفس القبض.

نعم يبقى الكلام في رجوع البائع إلى الوكيل المفرّط بناء على انحلال العقد ورجوع المبيع آنا ما قبل التلف إلى ملك البائع فوقع التلف في ملك البائع بتفريط من الوكيل فيكون ضامنا للبائع من جهة الإتلاف أو اليد؟ والصحيح هو الثاني ، لأنّه لم يتلف ولكن بسبب تأخيره وتفريطه في الإقباض صارت يده يد ضامن وخرج عن كونه يدا أمانيّة ، فالضمان - أي ضمان الوكيل للبائع - يكون ضمانا واقعيا أي بالمثل أو القيمة ، كل في مورده لا ضمان المسمّى. ولا وجه لاحتماله أصلا.

ص: 97


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 247 ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح 5585 ، « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 137 ، ح 577 ، باب الوقوف والصدقات ، ح 24 ، « الاستبصار » ج 4 ، ص 102 ، ح 390 ، باب من تصدّق على ولده الصغار ... ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 299 ، أبواب الوقف والصدقات ، باب 4 ، ح 5.

نعم فيما إذا كان قيمة المسمّى أزيد من الضمان الواقعي للتالف يمكن أن يقال بتضمين الوكيل المفرّط بالنسبة إلى تلك الزيادة ، وهذا الأمر ليس مختصّا بالموكّل المفرط بل يأتي في كلّ متلف أجنبي عن المعاملة فينحل العقد ، لأجل عدم إمكان التقابض الذي هو شرط بقاء العقد ، ويقع التلف في ملك من انتقل عنه التالف آنا ما قبل التالف ، ويرجع عوضه إلى الطرف الآخر. والمالك آنا ما قبل التلف يرجع إلى المتلف الأجنبي بالضمان الواقعي من المثل والقيمة.

ولو كان المسمّى له زيادة على الضمان الواقعي يمكن أن يقال بالرجوع إليه في تلك الزيادة لأجل تفويته تلك الزيادة على المالك.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كان مال تحت يده ، سواء كانت يده يد أمانة أو يد عادية فاشتراه من مالكه لا يحتاج إلى قبض جديد ، ولا يكون تلفه بعد وقوع العقد وبمحض وجوده إلاّ التلف بعد القبض ، لما ذكرنا من أنّ القبض عبارة عن اليد والسيطرة الخارجيّة على شي ء ، وهذا المعنى حاصل قبل وقوع العقد على الفرض.

السادس : فيما إذا تعارض هذه القاعدة مع قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » كما إذا وقع التلف قبل قبض المشتري للمبيع ولكن كان في زمان خيار البائع دون المشتري ، فبمقتضى هذه القاعدة ينحلّ العقد ويكون تلف المبيع من مال البائع بأن يدخل في ملكه آنا ما قبل التلف ، فيقع التلف في ملكه ، وقهرا يرجع ثمن المسمّى إلى المشتري.

ومقتضى قاعدة « التلف في زمان الخيار من مال من لا خيار له » هو أن يكون التلف في ملك المشتري ولا يرجع الثمن إليه. ولا يمكن الجمع بين مفادهما في عالم الجعل والتشريع ، وهذا معنى التعارض بين الدليلين ، وحيث أنّ بينهما عموم من وجه فمقتضى القاعدة تساقطهما في مورد الاجتماع والرجوع إلى الأصول العملية إن لم تكن أمارة أخرى في البين.

ص: 98

وقد يقال بعدم كون النسبة بينهما عموم من وجه ، لأنّ قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » مورد تشريعه بعد القبض ، فالتلف إذا كان قبل القبض يكون من مال البائع وان كان في زمان خيار البائع ولم يكن للمشتري خيار.

ويستشهد لذلك بقوله علیه السلام في مورد خيار الشرط للمشتري دون البائع في صحيحة ابن سنان : « وإن كان بينهما شرط أيّاما معدودة فهلك في يد المشتري فهو مال البائع » (1). ففرّع علیه السلام ضمان البائع على الهلاك في يد المشتري الذي هو عبارة أخرى عن كون التلف بعد القبض.

وكذلك قول الراوي في رواية عبد الرحمن « فماتت عنده » أي بعد أن قبضها المشتري ، فجواب الإمام علیه السلام بأنّه « ليس على الذي اشترى ضمان حتّى يمضي بشرطه » (2) ظاهر في أنّه في نفس المورد أي بعد القبض ، وإذا كان هناك بين الأخبار الدالّة على هذه القاعدة مطلق فيقيّد بهذين الخبرين ، والنتيجة أنّ التلف إذا كان بعد القبض يكون من مال من لا خيار له فلا يقع تصادم ولا تعارض بين القاعدتين.

وذكروا وجوها أخر لتقديم قاعدة « التلف قبل القبض » على قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » تركنا ذكرها لئلاّ يطول المقام.

والأحسن بل التحقيق في هذا المقام أن يقال : بناء على ما هو التحقيق في مدرك هذه القاعدة ، أي قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » من أنّ انحلال العقد بتلف أحد العوضين أو كلاهما قهري لبناء المعاوضة على القبض والإقباض الخارجي ، فإذا خرج أحدهما أو كلاهما عن هذه القابلية تكون المعاوضة لغوا وغير عقلاني.

فمتى لم يكن العوضان قبل أن يحصل القبض والإقباض قابلين للأخذ والإعطاء ،

ص: 99


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 103 ، باب عقود البيع ، ح 20.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 171 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 104 ، باب عقود البيع ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 351 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 1.

العقلاء يرون مثل هذه المعاملة منحلّة وباطلة ، فالتلف قبل القبض - سواء أكان لكلا العوضين أو لأحدهما - موجب وعلّة لانحلال العقد قهرا ، ويترتّب الانحلال على التلف قبل القبض ترتّب المعلول على علّته.

ويكون في زمان التلف ، وإلاّ يلزم الانفكاك الباطل بالضرورة ، فلا يبقى موضوع لتلك القاعدة ، لأنّ موضوع تلك القاعدة ، أي قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » هو زمن الخيار المتوقّف على وجود العقد ، وإلاّ فلا معنى للخيار مع انحلال العقد وانعدامه ، والمفروض أنّ موضوع هذه القاعدة أي قاعدة « كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه » الذي هو التلف قبل القبض معدم لموضوع تلك القاعدة ، فلا يبقى مجال للتعارض ، لأنّ التعارض فرع وجود الموضوع ثمَّ وجود حكمه كي يتعارضان ، ولذلك اتّفقوا على أنّه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم.

بل في المقام يمكن أن يقال بورود هذه القاعدة على تلك القاعدة ، لانحلال العقد بالتلف قبل القبض واقعا لا تعبّدا فقط. بل يمكن القول بالتخصّص ، لأنّ الانحلال ليس بتصرّف من قبل الشارع بالتعبّد به ، بل هو أمر تكويني.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

ص: 100

18 - قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفساده

اشارة

ص: 101

ص: 102

قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده (1)

ومن القواعد الفقهية المعروفة المشهورة قاعدة « كلّ ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها ومستندها

فنقول : وهو أمور ذكرها الفقهاء :

الأوّل : قاعدة الإقدام.

الثاني : قاعدة الاحترام.

الثالث : قاعدة اليد.

والرابع : الإجماع.

امّا الأوّل أي قاعدة الإقدام ، فالمراد بها أنّ كلا المتعاقدين أقدما على أن يكون مال

ص: 103


1- (*) « الحق المبين » ص 88 و 138. « عناوين الأصول » عنوان 63 ، « بلغة الفقيه » ج 1 ، ص 67 و 116 ، « مجموع قواعد فقه » ص 71 ، « قواعد فقه » ص 90 ، « القواعد » ص 209 ، « قواعد فقه » ص 191 ، « قواعد الفقهية » ص 98 ، « قواعد فقهية » ص 105 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 213 ، « قواعد الفقهية » ص 74 ، « مجله حقوقي » العام 2 ، ش 17 ، قاعدة كل عقد يضمن بصحيحه ، « فصل نامه حق » دفتر 11 و 12 ، العام 1366 ، قاعدة ما يضمن ، « بررسى فقهي حقوقي قاعدة ما يضمن » ماجستير ، مجيد فرخي مقدم ، مدرسة الشهيد مطهري العالية.

الآخر له بضمان لا مجّانا وبلا عوض ، ولذلك لو كانت المعاملة صحيحة كان كلّ واحد منهما ضامنا للمسمّى حسب إقدامه والتزامه ، فالبائع مثلا يكون ضامنا للمبيع المسمّى بمعنى أنه في عهدته ويجب عليه تفريغ ما في ذمّته بإعطاء المبيع المسمى في العقد للمشتري ، وكذلك الأمر في طرف المشتري.

واستشكل على هذا الوجه أوّلا بأنّ إقدام المتعاملين على أن يكون أخذ مال صاحبه وإن كان مبنيّا على أن يكون بعوض أي ما هو المسمّى في العقد من الطرفين ، ولكن كان هذا الإقدام والالتزام بالمسمّى - والمفروض عدم إمضاء الشارع ما التزما به وأقدما عليه - وهو أن يكون أخذ كلّ واحد منهما مال صاحبه بالعوض المسمّى ، فضمان كلّ واحد منهما لمال الآخر إذا تلف ولم يكن إتلاف في البين يحتاج إلى دليل آخر غير الإقدام ، لعدم إقدامهما على ضمان المثل والقيمة.

ثانيا : أنّه ما الدليل على أنّ إقدامه هذا ملزم له على ضمانه بالمثل أو القيمة ، فإنّ ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ليس في البين ، لأنّ المفروض فساد العقد وعدم إلزام من طرف الشارع على الوفاء بهذه المعاملة والعقد ، فلو فرضنا أنّه أقدم على أصل الضمان وعينه في المسمّى والشارع لم يمض لزوم إعطاء المسمّى مع التزامه هو بذلك وقلنا إنّ التزامه بأصل الضمان باق ، غاية الأمر لم يلزمه الشارع بإعطاء تلك الخصوصيّة وجوّز له عدم إعطائه لها لكن عليه العمل على طبق إقدامه فيما عدا تلك الخصوصية ، فيبقى السؤال - بعد التسليم على أنّ إقدامه على أصل الضمان غير الإقدام على الخصوصيّة ، وهناك إقدامان - عن أنّه ما هو الملزم لوجوب العمل على طبق هذا الإقدام.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا التزام ابتدائي لا يجب العمل به تكليفا ، ولا يوجب اشتغال الذمّة والعهدة وضعا الذي يسمّى بالضمان.

وإن شئت قلت : إنّ الالتزامات التي تقع بين الناس بصورة المعاوضة والمبادلة إن

ص: 104


1- المائدة (5) : 1.

أمضاها الشارع وحكم بلزوم الوفاء بها فيجب الوفاء ، وإلاّ فهو مخيّر بين الوفاء بها وبين عدم الوفاء إن لم تكن المعاملة والوفاء بها محرّما ، وإلاّ فإن كان محرّما شرعا كبيع الخمر أو البيع الربوي فلا يجوز الوفاء به ، والمفروض في المقام فساد العقد والمعاملة وعدم إمضاء الشارع لها ، فلا قيمة لهذا الالتزام والإقدام.

ولكن يمكن أن يقال : إن العقلاء بناؤهم في أبواب معاملاتهم على أنّه إذا أخذ شيئا من الطرف بعنوان أن يعطي بدله وعوضه فإن تراضيا على عوض معين وسمياه - وهو الذي نسمّيه بالمسمّى - فإن تعذّر ذلك المسمّى فيرون المأخوذ مضمونا على الأخذ بالضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة. فلو تلف المأخوذ في يده يرونه ضامنا ، فإذا حكم الشارع بفساد معاملة وعدم لزوم أداء المسمّى لذلك الآخر فيرونه ضامنا بالضمان الواقعي ، ولم يصدر ردع عن هذا البناء ، فيكون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف عند القابض على القاعدة ، ودليله بناء العقلاء مع عدم ردع الشارع الذي هو كاشف عن الإمضاء. فهذا يكون دليلا خامسا لهذه القاعدة.

وحاصل الكلام أنّ بناء العقلاء في معاملاتهم على أنّ الذي يأخذ ويقبض مال الغير بعنوان المعاوضة والمبادلة بإعطائه له ما يساويه - وإن كان الأخذ بهذا القصد في المعاملة غير الصحيحة عندهم لفقد ما هو مانع عندهم - لا يذهب ما أخذه هدرا ولا يكون مجّانا ، بل يرونه ضامنا لما أخذ ومشغولا ذمّته بما قبض. نعم حيث أنّ المعاملة الكذائية باطلة عندهم فلا يرون ذمّته مشغولة بالمسمّى.

وأما أصل اشتغال ذمّته وكون ضمان ما قبض على عهدته فشي ء مفروغ عنه ، ولعلّ نظر شيخ الطائفة (1) أبو جعفر الطوسي قدس سرّه في استدلاله للضمان في المقبوض بالعقد الفاسد وأمثاله من المتقدمين بأنّه أقدم على الأخذ والقبض بالضمان إلى ما قلناه ، وإلاّ فهذا الكلام بظاهره ظاهر الخلل.

ص: 105


1- انظر : « المبسوط » ج 3 ، ص 64.

وأمّا الثاني : أي قاعدة الاحترام ، وهي عبارة عن احترام مال المؤمن وأنّ حرمته كحرمة دمه.

فتقريب دلالتها في المقام هو أنّه بعد ما حكم الشارع بفساد هذه المعاملة وعدم دخول كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر لخلل في نفس العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين فقبض كلّ واحد من المتعاملين لمال الآخر بدون اشتغال ذمّته بشي ء في قباله ، معناه أنه لا احترام لهذا المال ويذهب هدرا لو تلف بدون إتلاف من طرف القابض ، وهذا مناف مع جعل الشارع حرمته كحرمة دم مالكه ، فكونه محترما معناه أنّ القابض إذا لم يكن مالكا له لفساد المعاملة يكون ضامنا لدركه ، بمعنى أنّه لو تلف فعليه غرامته بالمثل أو القيمة ، لا أنّه يجب عليه الردّ فقط فصرف تكليف ولا ضمان في البين. هذا ما ذكروه.

ولكنّ الإنصاف أنّ صرف كون المال محترما لا يدلّ على أنّه بمحض القبض يكون ضامنا ويكون المال في عهدته ، بل قضيّة احترامه عدم جواز التصرّف فيه بدون إذنه ، وأنّه لو تصرّف فيه وأتلف أو نقص شي ء منه بسبب تصرّفه بدون إذن صاحبه فيكون ضامنا لذلك التلف أو ذلك النقص وعليه غرامته إلاّ أن تكون يده يد ضمان. وسنتكلّم عنها ونقول إنّها دليل مستقلّ ، بل هي العمدة في هذا الباب.

والحاصل : أنّ مفاد قاعدة الاحترام هو أنّ مال المؤمن محترم مثل دمه ، فكما أنّه لو جاء ضيف إليه فمات حتف أنفه عنده ليس على المضيف شي ء ، فكذلك لو قبض ماله لا بالقهر والغلبة - حتّى تكون يده عادية - لا شي ء عليه لو تلف بالتلف السماوي من دون ارتباط إلى القابض ، لا مباشرة ولا تسبيبا.

ولا منافاة بين عدم الضمان والاحترام ولذلك قال الشيخ الأعظم (1) وشيخنا

ص: 106


1- « المكاسب » ص 103.

الأستاذ (1) - 0 - أنّ الضمان في المقام مستند إلى اليد ، والمقصود من ذكر قاعدة الإقدام وكذلك الاحترام عدم ما يوجب تخصيص قاعدة اليد ، بمعنى أنّ اليد على مال الغير موجبة للضمان إلاّ في المال الذي لا احترام له كمال الكافر غير الذمّي ، وأيضا إلاّ فيما إذا أقدم على إعطائه مجّانا وبلا عوض. فقاعدة الاحترام لأجل عدم وجود المخصص وهو عدم احترام المال ، والإقدام كذلك أيضا لأنّ إقدامه على الإعطاء مجّانا وبلا عوض يوجب تخصيص قاعدة اليد بل تخصّصه.

وامّا الثالث : أي قاعدة اليد ، والمراد به النبوي المشهور ، أعني قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » (2).

وهذا الحديث الشريف من ناحية السند من جهة شهرته بين الفريقين غنيّ عن البحث والتكلّم فيه ، من جهة أنّ هذه الشهرة توجب الوثوق بصدوره منه صلی اللّه علیه و آله ، وقد تقرّر في الأصول أنّ موضوع الحجّية الخبر الموثوق الصدور.

وأمّا من ناحية الدلالة فنقول : الظاهر أنّ الظرف ظرف مستقر ، أي يكون عامله من أفعال العموم ك « مستقر » أو « ثابت » وأمثال ذلك ، لا أنّه ظرف لغو كي يكون عامله من أفعال الخصوص مثل « يجب » و « يلزم » وأمثالهما.

وذلك لجهات :

الأولى : من جهة أنّه لو كان متعلّقا بأحد أفعال الخصوص فلا بدّ من تقدير كلمة « الردّ » أو « الأداء » وأمثال ذلك ، لأنّ الموصول كناية عن المال المأخوذ. ويجب أن يلزم ويحتم على اليد المال المأخوذ لا معنى له ، لأنّ الوجوب واللزوم لا بدّ وأن يتعلّق بالأفعال لا بالذوات ، فلا بدّ وأن يقدّر كلمة « الردّ » وما يشبهه حتّى يكون معنى الحديث يجب أو يلزم على اليد - أي على المسيطر - ردّ المال الذي أخذه ، أو أداؤه ، أو

ص: 107


1- « منية الطالب » ج 1 ، ص 118.
2- « مستدرك الوسائل » ج 14 ، ص 7 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 1 ، ح 15944.

إعطاءه وأمثال ذلك حتّى يستقيم المعنى ، ولا شكّ في أنّ التقدير خلاف الأصل.

الثانية : أنّه لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلّقا ب- « يجب » أو « يلزم » فيكون الحكم معنى في لسان دليله بإتيان متعلّقه وامتثاله ، وهذا ركيك إلى الغاية ، لأنّ المعنى بناء على هذا يصير هكذا : يجب ردّ ما أخذه المسيطر وأداؤه حتى يردّ ويؤدّي. ومثل هذا الكلام لا ينبغي أن ينسب إلى سوقيّ وهو من عامّة النّاس ، فضلا عمّن هو ربّ الفصاحة والبلاغة وأفصح من نطق بالعناد.

الثالثة : أنّ ظاهر الكلام أنّ نفس ما أخذته اليد عليها لا ردّها وأدائها ، ولا يمكن أخذ هذا الظاهر إلاّ بأن يكون العامل من أفعال العموم ، لأنّه حينئذ يصير المعنى أنّ ما أخذته اليد أي المال الذي وقع تحت سيطرة القابض يستقر ويثبت عليه ، وهذا عبارة أخرى عن أنّ القابض ضامن لما قبضه ، لأنّ الضمان في المقام عبارة عن كون المال المقبوض على عهدة القابض بوجوده الاعتباري ، لأنّ وجوده التكويني تحت اليد ويكون القابض مسيطرا عليه.

فالشارع اعتبر هذا المال الذي وقع تحت يد القابض وسيطرته على عهدته ، فالوجود التكويني لذلك المال تحت اليد ، والوجود الاعتباري فوق اليد عهدته مشغولة به ، ولا يرتفع عن العهدة إلاّ بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري ويحمل عليه بالحمل الشائع.

وهذا الذي ذكرناه من كون ذلك الوجود الاعتباري فوق اليد ومستقرّ وثابت في العهدة يستفاد من ظهور كلمة « على » في الاستعلاء.

ومن الواضح البيّن أنّ ما أخذته أي المال المقبوض حيث أنّه لا يمكن أن يكون بوجوده الخارجي في العهدة - لأنّ العهدة وعاء الموجودات في عالم الاعتبار ، بل هو نفس تلك الموجودات الاعتبارية ، كما أنّ الذهن عبارة عن نفس تلك الموجودات الذهنيّة ، لا أنّه هناك ظرف ومظروف متغايران - فلا بدّ وأن يكون في العهدة بذلك

ص: 108

الوجود الاعتباري.

وهذا الاعتبار سواء أكان من طرف الشارع أو من طرف العقلاء لا يزول ولا ينعدم إلاّ بأداء ما هو مصداق لذلك الوجود الاعتباري بالحمل الشائع ، وهذا هو عين الضمان إذا العرف لا يفهم من الضمان إلاّ هذا المعنى.

ولا شكّ في أنّه ما دامت العين - أي نفس المال المقبوض الذي هو تحت اليد - موجودة فيكون المصداق الحقيقي لذلك الوجود الاعتباري هو نفس المال الخارجي ، إذ هو واجد للجهات الثلاث أي المقوّمات النوعيّة ، والصفات الصنفيّة ، والمشخصات الخارجيّة ، وذلك كما أنّ صورة الذهنيّة لذلك المال الشخصي مصداقها الحقيقي أوّلا وبالذات بدون عناية هو نفس ذلك المال الخارجي. وأمّا إذا تلف المال فمصداقه المثل مع وجوده وعدم تعذّره بل وعدم تعسّره ، لأنّ المثل واجد لجهات نوعيّته وصنفيّته ، وإن كان فاقدا لجهات شخصيّة المال.

نعم مع فقد المثل لا يمكن أداء التالف إلاّ من جهة ماليّته وهذه الجهات الثلاث مترتّبة وطولية في مقام تفريغ الذمة عما ثبتت واستقرّت على عهدته بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى المثل إلاّ بعد تعذّر الشخص ، ولا إلى القيمة والمالية إلاّ بعد تعذّر المثل. وهذا المعنى الذي ذكرنا للضمان هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب الضمان.

وخلاصة الكلام أنّ الحديث الشريف يدلّ على أنّ مال الغير إذا وقع تحت يد شخص وسيطرته يكون مستقرّا وثابتا في عهدته حتّى يؤدّيه على بعض النسخ ، أو حتّى يؤدّي بدون الهاء في بعض النسخ الأخر.

وهذا الاختلاف في النسخ لا يؤثر في معنى الحديث وإن احتمل بعض أنّ كلمة « يؤديه » مع الهاء يؤيّد أنّ الظرف ظرف مستقرّ ، لا أنّه ظرف لغو حتّى يكون عامله من أفعال الخصوص مثل « يجب » و « يلزم » لأنّ هذه الكلمة مع الهاء معناه أنّه يؤدّي ذلك الذي أخذه ونفس ما وقع تحت اليد ، ووجوب ردّ نفس ما وقع تحت اليد بعد

ص: 109

التلف غير معقول ، بل المعنى المعقول منه هو أنّ ذلك المأخوذ على عهدته ولا يفرغ ذمّته إلاّ بأداء ذلك الأمر الاعتباري الذي على عهدته بالترتيب الذي ذكرنا.

ولكن أنت خبير بأنّه لا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الظرف لغوا أو مستقرّا ، ومتعلّقه من أفعال العموم أو الخصوص ، إذ بناء على الأخير أيضا لا مانع من أن يكون المراد أنّه يجب ردّ نفس ذلك الشي ء الذي أخذ بأحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

كما أنّ ما احتمله بعض آخر - من أنّ مفاد الحديث بقرينة وجود هذا الضمير عبارة عن وجوب الردّ تكليفا ما دامت العين موجودة وقبل التلف ، إذ بعد التلف لا يمكن ردّه فلا ربط له بباب الضمان أصلا - لا وجه له لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث وظاهره المتفاهم عرفا هو كون المأخوذ وما هو تحت اليد والسيطرة على عهدته مستقرّا وثابتا إلى أن يفرغ ذمّته ويؤدّي ذلك الشي ء بأحد الوجوه الثلاثة المترتّبة الطوليّة المتقدّمة.

وامّا الرابع أي الإجماع ، فقد ادّعاه جمع من أساتذة الفقه وأساطين هذا الفنّ وأرسلوه إرسال المسلّمات ، ولكن مع ذلك كلّه ليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي بنينا على حجيته ، إذ الذي سلّمنا حجّيته كان عبارة عن اتّفاق الكلّ أو الجلّ مع عدم مستند في البين ، فحينئذ يكون مثل ذلك الاتّفاق كاشفا عن تلقّيهم الحكم عن الإمام المعصوم. وفيما نحن فيه على فرض تسليم الاتّفاق حيث أنّ بعضهم تمسّكوا بقاعدة الإقدام ، وبعض آخر بقاعدة الاحترام ، وجمع آخر بحديث على اليد فيسقط اتفاقهم عن الاعتبار ولا بدّ من المراجعة إلى نفس المدارك.

وقد حكى الشيخ الأعظم عن شيخ الطائفة وفقيه عصره في شرح القواعد وابن إدريس في السرائر - قدس أسرارهم - الإجماع على هذا الحكم (1). ولكن عرفت ما في التمسّك بالإجماع في هذا المقام.

ص: 110


1- « المكاسب » ص 101.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومعناها

فنقول : تارة يعبّر عن هذه القاعدة بما جعلناه عنوان هذه الكلية في أوّل هذه المسألة ، وهو « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » وأخرى يعبّر عنها ب- « كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ». ولا شكّ في أنّ الأوّل أشمل من الثاني لشموله الإيقاعات أيضا ، بخلاف الثاني فإنّه مخصوص بالعقود ، وذلك من جهة ظهور لفظة « ما » الموصولة في الأعمّ من العقد والإيقاع ، بخلاف لفظ « العقد » المذكور في الجملة الأخيرة فإنّه لا يمكن أن يكون أعمّ من نفسه ومن غيره.

فبناء على كون القاعدة الكليّة هو الأوّل فيشمل الجعالة والخلع أيضا ، وبناء على الثاني تكون مختصّة بالعقود ، أعمّ من أن يكون لازما أو جائزا.

وأمّا الضمان فقد ذكرنا أنّ المتفاهم العرفي منه أنّ الشي ء بماليّته يكون على العهدة ، وبيّنّا معنى كون الشي ء في العهدة وأنّه بوجوده الاعتباري هناك لا بوجوده الخارجي فإنّه غير معقول ، وهذا المعنى هو الجامع بين ضمان المسمّى والضمان الواقعي ، غاية الأمر في ضمان المسمّى يعيّنون ماليّة ذلك في مقدار معيّن من النقود أو في عين من الأعيان المتمولة وأمّا مع عدم تعيين ماليّة الشي ء في نقد أو جنس من الطرفين - أي الضامن والمضمون - فقهرا يكون الضمان عبارة عن اشتغال ذمّته بذلك الشي ء بواقع ماليّته ، على الترتيب الذي تقدّم من الجهات الثلاث. فليس الضمان في الضمان الواقعي مغايرا بحسب المفهوم والمعنى مع ضمان المسمّى ، بل كلاهما بمعنى واحد ، غاية الأمر في الضمان المسمّى برضائه الطرفين بل بالتزامهما تعيّن في شي ء ، فمع إمضاء العقلاء والشارع يجب عليهما العمل بما التزما.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه بناء على تماميّة هذه القاعدة واعتبارها فالضمان في الصحيح

ص: 111

والفاسد بمعنى واحد ، غاية الأمر في الصحيح حيث أنّ المتعاملين عيّنا ضمان كلّ واحد من العوضين في الآخر والتزما بذلك ، وأمضى الشارع هذه المعاوضة والالتزام من الطرفين فيجب على كلّ واحد منهما الوفاء بالتزامه.

وأمّا في الفاسد حيث أنّ الشارع لم يمض تلك المبادلة وذلك الالتزام الذي التزم به الطرفان فلا يجب الوفاء ، فلا يبقى محلّ ومجال لضمان المسمّى. فإن دلّت هذه القاعدة - كما هو مفادها - أنّ في الفاسد أيضا ضمان فلا بدّ وأن يكون هو الضمان الواقعي أي المثل أو القيمة بعد تعذّر المثل أو تعسّره ، فالضمان في الفاسد على تقدير ثبوته بعد تلف المقبوض بالعقد الفاسد بالمثل أو القيمة يكون على طبق القاعدة.

وخلاصة الكلام أنّ مفاد هذه القاعدة هو أنّ المقبوض بالعقد الفاسد أو بالإيقاع الفاسد بناء على التعميم لا يذهب هدرا ، بل مضمون على القابض بمعنى أنّ نفس المقبوض والمأخوذ بوجوده الاعتباري في عهدة القابض وفي ذمّته ولا يفرغ إلاّ بأدائه إلى صاحبه ، وأداؤه ما دام كان المال المأخوذ موجودا يكون بأداء نفس العين المأخوذة ، ومع تلفه فبالمثل إن كان مثليّا وبالقيمة إن كان قيميّا.

فما ذكره ابن إدريس من أنّ المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصّلين إلاّ في الإثم (1) لا يخلوا من وجه.

ومدرك هذا الحكم الكلّي هي قاعدة على اليد ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » وفي بعض النسخ « حتى تؤدّيه » وقد تقدّم في الجهة الأولى كيفيّة دلالة الحديث الشريف على الضمان ، نعم فيما إذا كان صاحب المال المقبوض أعطاه مجّانا بحيث لو كان هذا العقد الفاسد فعلا صحيحا لما كان على القابض شي ء ولم يكن ضامنا لا بالمسمّى ، لأنّه ليس مسمّى في البين على الفرض ، ولا بالضمان الواقعي ، لأنّه لا سبب للضمان إلاّ ما ربما يتخيّل من كونه هي اليد التي جعلها صلی اللّه علیه و آله في الحديث سببا

ص: 112


1- « السرائر » ج 2 ، ص 326 وص 488.

للضمان ، ولكن المورد - أي فيما إذا لم يكن الإعطاء بعنوان العوض والمبادلة ، بل كان تمليكا أو إباحة بلا عوض - خارج عن موضوع الحديث ، أي عن تحت قاعدة « وعلى اليد » تخصيصا أو تخصّصا ، بمعنى أنّه لو أخذنا بظاهر عموم على اليد ، وقلنا بأنّ لهذه الجملة إطلاق شمولي يشمل كلّ يد ، سواء كانت مأذونة من قبل المالك أو من قبل اللّه أو كانت غير مأذونة فالمورد خارج تخصيصا ، لأنّه لا شكّ في خروج اليد المأذونة عن هذا العموم ، وعدم شمول هذا الحكم أي الضمان لها.

وأمّا لو قلنا بأنّ المراد من « اليد » التي جعلت في الحديث الشريف موضوعا للضمان خصوص اليد العادية أو غير المأذونة فخارج بالتخصّص وهو واضح.

ومن هنا يستخرج كليّة أخرى عكس الكلّية الأولى ، وهي « كلّ ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده » ، وذلك من جهة أنّ العقد الذي لا يضمن بصحيحه - كالهبة غير المعوّضة ، والعارية غير المضمونة في غير الدرهم والدينار وأمثال المذكورات ممّا لا ضمان في صحيحها - لا بدّ وأن يكون بناء المتعاقدين على الأخذ والإعطاء مجّانا وبلا عوض ، فأمّا قاعدة على اليد فلا تشملها ، لما ذكرنا من خروج المذكورات عن عمومها تخصيصا أو تخصّصا. ولا إتلاف في البين ، لأنّ المفروض هو تلف المقبوض لا إتلافه ، فليس موجب ضمان في البين ، أمّا الضمان الواقعي فقد عرفت أنّه لا إتلاف على الفرض ولا تشمله عموم على اليد ، وأمّا ضمان المسمّى فعدمه من جهة عدم المسمّى إذ المفروض أنّه لو كان صحيحا فلا ضمان فكيف يعقل أن يكون في فاسده ضمان المسمّى ، مع أنّه بلا مسمّى.

فتلخّص أنّ مدرك الضمان هي قاعدة على اليد وهي جارية في الكلّية الأولى ، أي ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، لذلك نقول بالضمان. وأمّا في الكلّية الثانية فلا تجري ، ولذلك نقول بعدم الضمان فيما لا يضمن بصحيحه ، فظهر صحّة كلتا الكلّيتين أصلا وعكسا.

ص: 113

وأمّا البحث في أنّ الباء في هذه الكلّية هل للسببيّة أو الظرفيّة لا أثر له بعد وضوح المراد ، وقد بيّنّا المراد ومفاد الكلّيتين. ولا شكّ في استعمال الباء في كلا المعنيين في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الذين يستشهد بكلامهم على صحّة الاستعمال ، ولا ظهور في خصوص أحد المعنيين إلاّ بالقرينة ، وفي المقام يصحّ بكلا المعنيين.

أمّا الظرفية فواضح ، لأنّه بناء عليها يكون المعنى كلّ عقد أو إيقاع يكون في صحيحه ضمان ففي فاسده أيضا كذلك. وفي الكلّية السلبيّة أيضا كذلك ، أي يكون مفادها : كلّ ما ليس في صحيحة ضمان ففي فاسده أيضا ليس ضمان.

وأمّا السببيّة فليس المراد السبب التامّ ، أي العلّة التامّة بحيث يكون المؤثّر في الضمان هو العقد فقط ، ولا يكون لشي ء آخر دخل فيه أصلا ، لأنّ مثل هذا المعنى لا يمكن الالتزام به حتّى في الصحيح فضلا عن الفاسد ، إذ لا شكّ في مدخليّة القبض فيه أيضا في الضمان لما تقرّر في محلّه من أنّ تلف المبيع بل الثمن أيضا قبل القبض من مال صاحبه الذي كان له قبل وقوع المعاملة ، فالعقد في الصحيح أيضا ليس تمام الموضوع لضمان كلّ واحد من المتعاملين لمال صاحبه ، بل الموضوع هو العقد مع القبض ، وفي الفاسد أيضا العقد باعتبار كونه مصداقا للإقدام مع القبض باعتبار كونه مصداقا لليد.

وأمّا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سرّه في هذا المقام من أنّ شرطيّة القبض لكون العقد سببا للضمان (1) لا ينافي استناد الضمان إلى العقد ، إن كان مراده أنّ شرطيّة القبض لا ينافي كون العقد تمام الموضوع وسببا تامّا للضمان فلا يخلو من غرابة. وإن كان مراده أنّها لا ينافي اقتضاء العقد للضمان ومدخليّته فيه فهذا شي ء واضح ، ليس قابلا للإنكار.

ولكن الطرف يدّعى أنّ العقد الفاسد أيضا له تأثير ومدخلية في الضمان باعتبار كونه مصداقا للإقدام كما بيّنّا وتقدّم.

ثمَّ إنّ العموم في هذه الكليّة أصلا وعكسا - سواء كان الأصل كلّ عقد يضمن أو

ص: 114


1- « منية الطالب » ج 1 ، ص 120.

كلّ ما يضمن - هل هو باعتبار الأنواع ، أو الأصناف ، أو الأشخاص؟

الظاهر هو الأخير.

والإشكال عليه - بأنّ الشخص لا يمكن أن يكون مقسما للصحيح والفاسد ، بل إذا كان صحيحا فهو صحيح دائما وإلى الأبد ، ولا يتغيّر عمّا هو عليه وإلاّ يصير شخصا آخر ، وكذلك في العكس أي إذا كان فاسد فهو لا يتغيّر عمّا هو عليه - لا يرد ، لأنّه ليس المراد أنّ هذا الشخص الخارجي الذي صحيح وفاسد ، صحيحه كذا وفاسده كذا ، بل المراد أنّ كلّ عقد أو إيقاع كان بحيث أنّه على تقدير أن يكون صحيحا فيكون فيه الضمان فهو على تقدير فساده أيضا يكون فيه الضمان أي بعد القبض ، وكلّ عقد أو إيقاع على تقدير صحّته لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على أن يكون مجّانا وبلا عوض فهو على تقدير فساده أيضا لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على أن يكون بلا عوض ومجّانا فيكون بواسطة هذا الإقدام خارجا عن تحت عموم على اليد تخصيصا أو تخصصا. وهذا الحكم عامّ يشمل جميع أشخاص طبيعة العقد أو الإيقاع.

إن قلت : إنّ ظاهر الكلّيّة هو أنّ كلّ شخص من أشخاص العقد بناء على أن يكون العموم بلحاظ الأشخاص والأفراد لا الأنواع والأصناف فعلا يكون مقسما للقسمين ، أي كلّ واحد منهما فعلا واجد للصحّة والفساد. وهذا محال لاجتماع الضدّين أو النقيضين ، وكيف يكون عقد شخصي واحد متّصفا بالصحّة والفساد معا.

قلنا : ليست هذه الجملة بهذه الصورة وهذه الألفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتّى تقول يجب الأخذ بظاهرها وظاهرها كذا وكذا بل لا بدّ من الأخذ بها بمقدار ما يدلّ عليه مدركها. ولا شكّ في أنّ مدركها بناء على ما تقدّم أنّه قاعدة على اليد بضميمة عدم الإقدام مجّانا كي يكون من باب تخصيص القاعدة أو تخصصها به ، بل دخل في المعاملة وأقدم على الإعطاء بعنوان المبادلة والمعاوضة لا مجّانا ، فكلّ مورد انطبق عليه أحد هذين الضابطين يحكم بحكمه ، بمعنى أنّ كل عقد لا يكون بعنوان

ص: 115

المبادلة والمعاوضة بحيث لو كان صحيحا واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة فيه شرعا وعرفا ولا يكون فيه مانع من الموانع ، فمع ذلك لا يوجب الضمان لأنّه أقدم على إعطاء ماله مجّانا وبلا عوض فلا تؤثّر اليد في الضمان ، فيكون فاسده أيضا كذلك. وكلّ مورد يكون صحيحه موجبا للضمان لعدم إقدامه مجانا ففاسده أيضا كذلك.

وذلك من جهة أنّ الصحّة والفساد لا دخل لها في الضمان وعدمه ، بل المناط كلّ المناط هو وقوع اليد على مال الغير مع إقدام ذلك الغير على الإعطاء بعنوان المعاوضة والمبادلة فيكون فيه الضمان ، أو بلا تعويض فليس فيه ضمان.

وأنت خبير بأنّ هذا حكم تقديري يشمل جميع أشخاص العقود ، كسائر القضايا الحقيقيّة المقدّرة الوجود. ولا خصوصية لهذه القضية من بين سائر القضايا الحقيقيّة حتّى يقع مورد البحث والاحتمالات والنقض والإبرام.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة وقد عرفت جريانها في جميع العقود المعاوضيّة.

فمنها : البيع ففي صحيحة ضمان ، لأنّه عبارة عن تمليك عين متمول بعوض مالي. وكذلك في فاسده لما ذكرنا مفصلا فلا نعيد.

نعم لو قال : بعتك بلا ثمن ، وقبض الطرف فهذه القاعدة تقتضي عدم الضمان ، لأنّ مثل هذا البيع على تقدير صحّته لا ضمان فيه لأنّه أقدم مجّانا وبلا عوض.

ومنها : الإجارة ، ومعلوم أنّ صحيح الإجارة موجب للضمان بالنسبة إلى منافع العين المستأجرة ، سواء استوفى المنافع أو لم يستوفها ولكن بعد قبض العين المستأجرة ، فكذلك في فاسدها يكون ضامنا للمنافع بعد قبض العين التي استأجرها ، سواء

ص: 116

استوفى تلك المنافع أم لم يستوفها.

لا يقال : تلك المنافع غير المستوفاة لم تقع تحت اليد كي يكون ضامنها ضمان اليد ، ولا استوفاها كي يكون ضمان الاستيفاء لقاعدة احترام مال المؤمن ، ولا العقد صحيح كي يكون ضمان المسمّى بواسطة لزوم الوفاء بالعقد ، فبأي وجه يكون ضامنا للمنافع غير المستوفاة.

لأنّا نقول : الضمان ضمان اليد ، لأنّ اليد على العين يد على المنافع لأنه لا شكّ في أنّ المراد من اليد ليس هي الجارحة المخصوصة حتّى يقال إنّ المنافع غير المستوفاة معدومة فكيف تقع تلك الأشياء المعدومة تحت الجارحة المخصوصة ، بل المراد من اليد هو الاستيلاء ، ولا شكّ في أنّ المستولي على العين المستأجرة مستول على منافعه الموجودة وغير الموجودة التي يمكن استيفاؤها.

هذا كلّه بالنسبة إلى المنافع ، وأمّا بالنسبة إلى نفس العين فالأقوال فيها مختلفة ، وبعضهم قالوا بالضمان مع عدم الضمان في الصحيح منها لو تلفت العين المستأجرة بدون تعدّ وتفريط ، لأنّها أمانة مالكيّة سلّمها إلى المستأجر لاستيفاء حقّه من تلك العين ، ويجب على الموجر التسليم للزوم الوفاء بالعقد ، فيد المستأجر في الإجارة الصحيحة يد مأذونة من قبل المالك ، ويد استحقاق لا يوجب الضمان. وأمّا في الفاسدة فليست يد مأذونة واستحقاق ، بل تسليمها إلى المستأجر ليس إلاّ من جهة تخيّل الموجر استحقاقه وهو في الواقع ليس بمستحق ، فتكون يده يد غصب وعدوان فيضمن المقبوض.

ونسب هذا القول في الرياض إلى جمع الفائدة للأردبيلي مدّعيا أنّه المفهوم من كلمات الأصحاب (1) ، فبناء على هذا يكون هذا نقضا على الكليّة السلبية ، أي جملة « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » لأنّ الإجارة الصحيحة لا يضمن فيها العين

ص: 117


1- راجع : « رياض المسائل » ج 2 ، ص 8.

بالتلف السماوي بدون تعدّ وتفريط مع أنّه في فاسدها ضمان بناء على هذا القول.

وبعض آخر قالوا بعدم الضمان. وبه صرّح العلاّمة قدس سرّه في التذكرة (1) ، وأيضا في جامع المقاصد استظهر القول بعدم الضمان من كلمات الأصحاب حيث قال في باب الغصب : إنّ الذي يلوح من كلامهم هو عدم ضمان العين المستأجرة فاسدة. لكنّه هو نفسه قال : والذي ينساق إليه النظر هو الضمان ، لأنّ التصرّف فيه حرام لأنّه غصب فيضمنه (2).

والتحقيق في هذا المقام هو أن يقال : إن كانت العين داخلة في مصبّ الإجارة فلا ضمان ، لا في صحيحها ولا في فاسدها ، وذلك أمّا في صحيحها فمن جهة أنّ مالك العين المستأجرة يلزم عليه تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر ، فتكون يد المستأجر يد مأذونة من قبل المالك ويد استحقاق ، فلا موجب للضمان وهو واضح. وأمّا في فاسدها فمن جهة أنّ العين حيث أنّها مصبّ الإجارة فدخل المالك على عدم الضمان بهذا الاستيلاء.

وقد عرفت أنّ إقدام المالك على تسليم ماله إلى الطرف بعنوان عدم الضمان يوجب عدم تأثير اليد في الضمان ، بل يوجب تخصيصه أو تخصّصه.

وأمّا إن لم تكن داخلة في مصبّ الإجارة بمعنى أنّ الإجارة تتعلّق بالمنفعة لا بالعين ، ففي الصحيح منها وإن كان أيضا لا ضمان بالنسبة إلى العين من جهة أنّ استيفاء المنفعة حيث أنّه متوقّف على تسليم العين في مثل إجارة الدار للسكنى والدكان للاشتغال فيه ، فيجب على المؤجر إعطائها وتسليمها إلى المستأجر من باب كونه مقدّمة لتسليم المنفعة إليه ، حيث أنّه بدونه لا يمكن ، فليس يد المستأجر القابض يد ضامن.

ولكن عدم الضمان ليس من جهة أنّ هذا العقد ليس فيه ضمان حتّى يقال في فاسده أيضا لا ضمان بحكم الكليّة الثانية ، أي الكلية السلبية ، لأنّه أمر خارج عن

ص: 118


1- « تذكرة الفقهاء » ج 2 ، ص 318.
2- « جامع المقاصد » ج 1 ، ص 216.

مصبّ العقد.

وأمّا في الفاسدة فالضمان فيها بناء على هذا - أي بناء على عدم دخول العين في مصبّ الإجارة - يكون على طبق القواعد الأولية ، لأنّ يده وقعت على مال الغير من دون كونه مقدّما على إعطاء ماله لاستحقاق الطرف ، لأنّ المفروض أنّ الإجارة باطلة ولا استحقاق للطرف أصلا. هذا على حسب كلّ واحد من الاحتمالين. ولكن الظاهر في إجارة الأعيان أنّ العين داخلة في مصبّ الإجارة ، وحقيقة الإجارة في إجارة الأعيان وإن كان عبارة عن تمليك منفعة العين بعوض مالي معلوم ، ولكن تمليك المنفعة ليس بعنوانها مستقلّة بل بعنوان أنّها من صفات العين وعوارضها ، فالإجارة متعلّقة بالعين ومعنى إجارة العين تمليك منفعتها المعلومة بعوض معلوم ، ولذلك يقول المؤجر في مقام إنشاء الإجارة « آجرت هذه الدار أو هذا الدكان مثلا بكذا » ويفهم العرف من هذه العبارة أنّه ملك منفعة الدار ، أو الدكان ، أو الانتفاع بهما للمستأجر ، فالإجارة المتعلّقة بالعين تفيد هذا المعنى حتّى فيما تكون المنفعة من الأعيان ، كالثمرة التي على الشجرة ، وكالحليب في الشاة المنحة تلاحظ في إجارة الشجرة والشاة المنحة بوجودها التبعي أي الوصفي العرضي ، وإلاّ يكون بيعا للثمرة والحليب لا إجارة.

وحاصل الكلام أنّ الإجارة تتعلّق أوّلا وبالذات بالعين ، غاية الأمر باعتبار وصفها وعرضها الكذائي.

ويمكن أن يقال في باب الأجير أيضا يكون الأمر كذلك وإن كان الأجير حرا ، أي تعلّق الإجارة بنفس الحرّ باعتبار الانتفاع بعمله الكذائي. والشاهد على ذلك أنّ في عقد الإجارة ، الأجير يقول « آجرتك نفسي لعمل كذا » فتكون العين دائما في جميع أقسام الإجارات داخلة في مصبّ الإجارة ومتعلّقة لها ففي جميع أقسام الإجارات الفاسدة يكون الضمان بالنسبة إلى العين تابعا للضمان في الصحيحة ، وحيث لا ضمان في

ص: 119

الصحيحة منها لما ذكرنا من أنّ يد المستأجر يد مأذونة ويد استحقاق فتكون يده عليها بتسليم المالك لها إليه بواسطة لزوم الوفاء بالعقد فلا موجب للضمان ، وهذا الحكم جار حتّى في الأجير إذا كان عبدا أو أمة ، ففي جميعها تكون اليد يد أمانة مالكيّة ، ولا ضمان للعين لو لم يكن تعدّ ولا تفريط في البين ، فالكلّيتان إيجابا وسلبا ، أي قولهم « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » لا انتقاض فيهما.

وأمّا الأجير إذا كان حرّا فلا معنى للضمان ، لا في الصحيح ولا في الفاسد.

ومنها : العارية ، فإنّ في صحيحها في غير المضمونة وفي غير الذهب والفضة لا ضمان ، وكذلك في فاسدها في غير ذينك الموردين ، لعين ما ذكرنا في الإجارة من أنّ اليد والاستيلاء وقعت بإذن المالك مجّانا وبلا تعويض ، فلا تكون اليد يد ضمان لإقدام المالك على المجّانية وعدم التعويض بخلاف العقود المعاوضيّة فإنّ تسليم المالك ماله إلى الطرف هناك بعنوان التعويض وأخذ البدل.

وأمّا في فاسدها فيما إذا كانت مضمونة ، كما إذا شرط المعير ضامنها أو كانت عارية الذهب والفضة ، فمقتضى الكليّة الإيجابية أي « كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » هو الضمان في المذكورات ، ولكن بناء على ما ذكرنا في وجه الضمان من وقوع اليد على مال الغير وعدم إقدامه على المجّانية وعدم التعويض ففي القسم الأوّل من المذكورات - أي فيما إذا اشترط الضمان - لا بدّ وأن نقول بالضمان لو تلف بعد قبض المستعير كما هو المفروض ، لأنّ المالك لم يقدم على المجّانية وعدم التعويض بل اشترط العوض.

وأمّا في الثاني - أي فيما إذا كانت عارية الذهب والفضّة - فإنّ قلنا بأنّ الضمان حكم تعبّدي من قبل الشارع وإلاّ فالمالك لم يقصد التعويض بل قصد إعطاء ماله للمستعير مجّانا وبلا عوض ، فتكون يد المتعير يد أمانة ولا ضمان. وهذا هو الصحيح كما هو واضح.

ومنها : الهبة ، وهي على قسمين : معوضة ، وغير معوّضة.

ص: 120

أمّا الثاني - أي غير المعوضة - فمن أوضح وأجلى مصاديق الكليّة السلبية أي « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » لإقدام المالك على المجّانية ، وكون الإعطاء بلا قصد تعويض ، فيد القابض يد مأذونة فلا ضمان.

وأمّا الأوّل - أي المعوّضة - فإن كان العوض بإزاء الموهوب ففي الصحيح والفاسد في كليهما الضمان ، لأنّ المالك لم يقدم على الإعطاء مجّانا ، فلا مخصّص لعموم « على اليد ».

وإن كان العوض بإزاء هبة الآخر الشي ء الفلاني ، بمعنى أنّه هبة بإزاء هبة ، لا الموهوب بإزاء الموهوب فلا ضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد ، لأنّه لم يقصد بإعطائه المال الموهوب المبادلة والتعويض ، فهو في الحقيقة يرجع إلى أنّه أعطاه مجّانا وبلا عوض ، غاية الأمر اشترط عليه أن يهبه الشي ء الفلاني ، فإن لم يفعل يكون للواهب خيار تخلّف الشرط.

ومنها : الصلح ، وهو أيضا على قسمين : بلا عوض ، ومع العوض.

فالأوّل حاله حال الهبة غير المعوّضة ، أي لا ضمان فيه لا في الصحيح منه ولا في الفاسد.

وأمّا الثاني - أي الصلح مع العوض - فحكمه حكم البيع فيكون مشمولا لكلتا القاعدتين ، أي الأصل والعكس.

أمّا الأصل : فلأنّ المفروض أنّ صلح المال الفلاني بعوض مسمّى معناه تضمينه بذلك المسمّى وتبديله به ، ولذلك ربما يقال إنّ الصلح الواقع على الأعيان المتموّلة بعوض مالي هو عين البيع وإن كان هذا غير صحيح ، لأنّ المنشأ بعقد الصلح هو عنوان التسالم ابتداء ، غاية الأمر التسالم على مثل هذه المبادلة ، وأمّا المنشأ بعقد البيع ابتداء هو نفس المبادلة ، فالنتيجة أنّ إقدام المالك في مثل هذا الصلح ليس مجانا وبلا عوض ، ففي صحيحة وفاسده الضمان.

ص: 121

ومنها : الرهن ، فإنّ صحيحه لا يوجب الضمان ، لأنّ الراهن يسلم المال المرهون إلى المرتهن ليكون وثيقة لدينه ، ولا يقصد بذلك الإعطاء والتسليم المعاوضة والمبادلة فتكون أمانة مالكية عند المرتهن ، فيد المرتهن على ذلك المال يد مأذونة ولا يوجب الضمان ، وتكون خارجة عن مفاد « على اليد » تخصّصا أو تخصيصا.

فكذلك فاسده أيضا لا يوجب الضمان ، وذلك لوحدة السبب فيهما ، وهي إقدامه في إعطائه وتسليمه إلى المرتهن على عدم الضمان في كلتا الصورتين.

ومنها : عقد السبق ففي الصحيح منه يستحقّ السابق السبق ، فالعمل الذي يصدر من السابق فيه ضمان المسمّى أي السبق المعيّن. وهذا ممّا لا شكّ فيه إذ ليس المراد من الصحّة إلاّ هذا المعنى ، فمقتضى هذه القاعدة أي قاعدة كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أن يكون في فاسده أيضا ضمان ، غاية الأمر ليس الضمان ضمان المسمّى لأنّه منوط بالصحّة ، فلا بدّ وأن يكون أجرة مثل عمله ، لأنّ عمله محترم ولم يقدم على إيجاده بدون عوض ، بل كان إقدامه على هذا العمل بعنوان أخذ السبق.

إن قلت : في هذا المورد ليست يد في البين كي تكون سببا للضمان.

قلنا : إنّ سبب الضمان هنا قاعدة احترام عمل المسلم ، حيث أنّ هذا العمل صدر منه بسبب التزام الطرف بإعطاء السبق له لو كان سابقا ، فعمله محترم وإن كان من جهة فساد هذا العقد لا يستحقّ مال الذي عيّن للسابق أي المسمّى ، ولكن عمله لا يكون هدرا ولغوا ، إلاّ أن يكون من الأعمال المحرّمة التي ألغى الشارع ماليّتها ، أو من أعمال السفهاء الذي لا اعتبار لها عند العقلاء كبعض ألاعيب السفهاء والصبيان.

وخلاصة الكلام هو أنّه في كلّ عقد أو إيقاع كان في صحيحه الضمان - سواء كان ضمان المسمّى بدل المال الذي يسلمه إليه الطرف ، أو العمل الذي يعمله كعمل الأجير في عقد الإجارة ، أو عمل العامل في الجعالة ، أو عمله في عقد السبق والرماية - ففي فاسده الضمان أيضا ، إمّا من جهة اليد على مال الغير مع عدم الإقدام على المجّانية من

ص: 122

قبل صاحب المال ، حتّى تكون يده يد مأذونة ولا تكون سببا للضمان بل تكون خارجة عن عموم على اليد تخصيصا أو تخصّصا كما تقدّم ، وإمّا من جهة احترام عمل المؤمن مع عدم إقدام العامل مجّانا.

وأمّا لو لم يكن في صحيحه الضمان من جهة عدم قصد المبادلة والمعاوضة في إعطاء ماله ، أو عدم قصد التعويض في عمله ففي فاسده لا ضمان أيضا ، لعدم تحقّق سبب الضمان لا قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّه » ولا قاعدة « الاحترام ». وقد تقدّم شرحهما مفصّلا.

ثمَّ إنّ هاهنا نقوض أوردوها على الكلّية السلبيّة والإيجابية ، ولذلك قالوا بعدم اطّراد هاتين الكلّيتين في موارد :

منها : فيما إذا استعار المحرم صيدا من المحلّ ، فقالوا : إنّه يجب على المحرم المستعير إرساله فورا ويكون ضامنا لصاحب الصيد بالقيمة.

وهذا النقض مبني على فساد هذه العارية ووجوب إرساله ، لا وجوب ردّه إليه ، فحينئذ يقال إنّ العارية لا يضمن بصحيحها في غير المضمونة وغير الذهب والفضة ، ومع ذلك حكموا هاهنا في فاسدها بالضمان.

وأجيب عن هذا النقض بأنّ الضمان ليس هاهنا مستندا إلى العقد ، بل من جهة الإتلاف ، والإتلاف في العارية الصحيحة أيضا موجب للضمان. وأمّا كون الضمان من جهة الإتلاف لا التلف السماوي فلما قالوا بخروج الصيد عن ملك مالكه بمحض قبض المحرم وأخذه إيّاه من يد المالك ، فيكون بناء على هذا نفس الأخذ والقبض إتلافا ، ويكون خارجا عن مورد القاعدة.

وفي هذه المسألة وجوه واحتمالات أخر ليس هاهنا محلّ ذكرها والنقض والإبرام فيها.

ومنها : النقض على الكليّة الإيجابيّة - أي الأصل لا العكس - وهي « كلّ ما يضمن

ص: 123

بصحيحه يضمن بفاسده » بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة ، فإنّها غير مضمونة في البيع الصحيح ومضمونة في الفاسد.

وفيه : أنّ الضمان في الصحيح عبارة عن المسمّى ، والمسمّى في الصحيح موجود بدل العين ، فبعوض ملكيّة العين يشتغل ذمّته بالمسمّى ، والمنافع مطلقا سواء كانت مستوفاة أو غير مستوفاة من توابع العين ، فإذا كانت العين مضمونة فالمنافع أيضا مضمونة ، كما هو الظاهر من قوله صلی اللّه علیه و آله : « الخراج بالضمان » (1) أي المنافع التي للعين تكون لمن انتقل إليه العين بواسطة ضمان المسمى ، فكان المسمّى في البيع الصحيح عوض العين ومنافعه ، فلا نقض.

ومنها : تلف الأوصاف ، فليس في العقد الصحيح لها ضمان ، لأنه الضمان فيه بإزاء العين ، ولم يجعل شي ء من الثمن المسمّى مقابل الأوصاف. وأمّا في الفاسد لو تلف جميعها أو بعضها يكون القابض ضامنا لقاعدة « على اليد » بضميمة عدم كونه مأذونا فتكون اليد يد ضمان.

ويمكن أن يقال هاهنا أيضا مثل ما قلنا في المنافع غير المستوفاة من أنّها تابعة للعين ، فكان ضمان العين ضمانها أيضا ، فهكذا صفات العين في الضمان تابعة للعين ، ولو أنّه ليس لها ضمان مستقلّ مقابل ضمان العين لكن ضمان العين ضمانها أيضا. فبناء على هذا في الصحيح أيضا لها ضمان ، فلا ينخرم القاعدة.

ومنها : فيما إذا كان المبيع حاملا فتلف الحمل في يد المشتري ففي الصحيح لا ضمان ، لأنّ ضمان المسمّى وقع مقابل نفس المبيع ، والحمل مملوك بالتبع بناء على كونه مملوكا للمشتري ، وإلاّ فبناء على بقائه على ملك البائع كما هو المشهور إلاّ مع شرط الدخول فهو خارج عن محلّ كلامنا. وأمّا في الفاسد فللحمل ضمان غير ضمان نفس الحاصل.

وفيه : أنّه إن قلنا بأنّ الحمل ليس داخلا في المبيع وباق على ملك البائع فهو

ص: 124


1- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 302 ، أبواب الخيار ، باب 7 ، ح 15428 .

خارج عن مصبّ العقد وأجنبي عن المعاملة ، ولا ضمان له في الصحيح ولا في الفاسد.

أمّا في الصحيح لانّه كما قلنا أجنبي عن المعاملة ، فلا ربط له بالعقد حتّى يشمله ضمان المسمّى. وأمّا في الفاسد فلا ضمان له ، لأنّه أمانة مالكيّة عنده لا يضمنه إلاّ بالتعدّي والتفريط.

وهذا كما لو اشترى البستان مع أشجاره المثمرة التي ثمرتها موجودة عليها ، فلو قلنا بأنّ الثمرة الموجودة ليست داخلة في المبيع وخارجة عنه انصرافا أو بواسطة تقييد البائع ففي الصحيح والفاسد من هذه المعاملة لا ضمان للثمرة الموجودة على الشجرة ، أمّا الصحيح لأنّها خارجة عن المعاملة ومصبّ العقد فلا يكون شي ء من المسمّى بإزائها ، وأمّا الفاسد لأنّها أمانة مالكيّة وقد تلفت بدون تعدّ وتفريط على الفرض.

وأمّا إن قلنا بأنّ الحمل وكذلك الثمرة الموجودة على الشجرة داخل في المبيع ففي الصحيح والفاسد كلاهما ضمان ، أمّا في الصحيح فلأنّ المسمّى وقع بإزاء المجموع من الحامل وحمله ، وأيضا في المثال الثاني بإزاء مجموع الشجرة وثمرتها. وأمّا في الفاسد فلوقوع اليد على كليهما أي الحامل والحمل وكذلك على الشجرة والثمرة ، والمفروض أنّ اليد ليست مأذونة ويد ضمان ، لأنّ الكلام بعد الفراغ عن ضمان أصل الحامل ، فكذلك الشجرة في المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا نقض على اطّراد القاعدتين أي الكلّية الإيجابيّة والسلبيّة.

وهذا الحكم الذي ذكرنا إشكالا وجوابا جار في مطلق توابع المبيع كالحليب وغيره ، فإن قلنا بدخولها في المبيع فحالها حال نفس المبيع بالنسبة إلى الضمان في الصحيح والفاسد ، وإن قلنا بخروجها فلا ضمان لا في الصحيح ولا في الفاسد إلاّ بسبب آخر. وأمّا تحقيق أنّ أيّا منها داخل في المبيع وأنّ أيّا منها خارج فله محلّ آخر ، وهو كتاب البيع في فصل ما يدخل في المبيع وما لا يدخل.

ص: 125

ثمَّ إنّ شيخنا الأعظم قدس سرّه ذكر في هذا المقام أنه يمكن النقض أيضا بالشركة (1). والظاهر أنّ مراده شركة الأموال بعقد الشركة ، فيكون النقض عبارة عن أنّ أحد الشريكين مثلا في الشركة الصحيحة لو تصرّف في المشترك وصار تحت يده - كما هو المتعارف عند الشركاء - فتلف ذلك المال من دون تعدّ وتفريط لا يكون ذلك الشريك ضامنا لحصّة شريكه الآخر ، وهذا مقتضى صحّة عقد الشركة. وأمّا لو لم يكن العقد صحيحا وكانت الشركة فاسدة فيكون ذلك الشريك ضامنا ، لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ولا بدّ من فرض التلف في صورة عدم إذن ذلك الشريك الآخر في التصرّف ، فلا إذن من طرف المالك ، ولا أنّ جواز التصرّف مقتضى عقد الشركة ، فلا يكون المال لا أمانة مالكيّة ولا أمانة شرعيّة ، فتكون اليد يد ضمان.

وهذا بخلاف الصحيح فإنّه وإن لم يكن إذن من طرف الشريك حتّى يكون المال عنده أمانة مالكيّة ولكن الإذن من طرف الشارع بمقتضى صحّة عقد الشركة ، فيكون من قبيل الأمانة الشرعيّة ، فلا ضمان ، فلا تكون القاعدة مطّردة.

وفيه : أنّ هذا مبني على جواز التصرّف بصرف حصول الشركة الصحيحة وإن كان بدون إذن الشريك الآخر ، وهو لا يخلو من إشكال.

وممّا يمكن أن يكون نقضا على الكلّية الإيجابيّة التي نسمّيها بالأصل مقابل الكلّية السلبيّة التي نسميها بالعكس هو النكاح الدائم أو المتعة الفاسدين إذا كان الزوج جاهلا بالفساد من جهة الموضوع وكانت المرأة عالمة به ، فقالوا إنّ الزوج في مثل المفروض لا يضمن المهر ، مع أنّه لو كان العقد صحيحا كان يضمن قطعا.

وقد يجاب أوّلا : عن هذا النقض بأنّ هذا المفروض خارج عن محلّ البحث ومورد القاعدة ، لأنّ موردها العقود المعاوضيّة التي يقع العوض فيها تحت اليد ، وما نحن فيه من مورد النقض ليس كذلك وليس من العقود المعاوضيّة أوّلا ، وعلى

ص: 126


1- « المكاسب » ص 103.

الفرض لا تقع المرأة تحت اليد ثانيا.

وفيه : أنّ ظاهر هذه القاعدة عامّ يشمل كلّ عقد سواء كان ممّا ذكر أو لم يكن.

وثانيا : بأنّ عدم الضمان لدليل خارجي ولكونها بغيا لا ينافي اقتضاء العقد للضمان في حدّ ذاته ونفسه ، ولذلك لو كانت المرأة أيضا جاهلة بالفساد فلها حق على الزوج.

وفيه : أنّ ظاهر الكلّية أنّ كلّ عقد صحيح يكون فيه الضمان ففي فاسده بالفعل ضمان ، لا أنّ في فاسده اقتضاء الضمان إلاّ أن يمنع مانع عنه ، أو يأتي دليل على عدمه ، فلا يمكن الموافقة مع شيخنا الأستاذ قدس سره في كلا الجوابين (1).

ومما يتوهم أن يكون نقضا على الكلّية الإيجابيّة بيع الغاصب مال الغير ، فلو تلف المبيع عند البائع الغاصب قالوا بعدم ضمان الغاصب الثمن للمشتري لو تلف الثمن عنده ، لأنّه أي المشتري سلّط البائع الغاصب على الثمن مجّانا إن كان عالما بأن البائع غاصب مع أنّه في البيع الصحيح لو تلف الثمن عند البائع بعد تلف المبيع عنده يكون ضامنا للمشتري بالثمن.

وفيه أوّلا : أنّ مثل هذه المعاملة ليست فاسدة ، بل فضولي موقوف على إجازة المالك أي المغصوب منه ، فإذا أجاز تعدّ من المعاملات الصحيحة ، يترتّب عليها جميع آثار البيع الصحيح.

وثانيا : طرف المعاملة أي البائع في هذه المعاملة ليس هو الغاصب ، بل هو أجنبي ، والثمن الذي أعطاه المشتري ليس ثمنا للمبيع مع علمه بأنّه غاصب ، بل يكون مال له أعطاه للغاصب مجّانا وبلا عوض ، فلا يترتّب على تلفه آثار تلف الثمن ، فلا يكون نقضا على هذه الكلّية أصلا.

وممّا توهّم أنّه نقض على هذه الكلّية بيع الشخص ماله من سفيه محجور عليه فتلف المبيع عند السفيه ، فقالوا بعدم ضمان السفيه للمبيع ، مع أنّ تلف المبيع عند

ص: 127


1- . « منية الطالب » ج 1. ص 129.

المشتري بعد قبضه ، وعدم خيار للمشتري فقط دون البائع يوجب ضمانه للبائع في البيع الصحيح.

وفيه : أنّه بعد ما علم البائع أنّ المشتري محجور عليه ليس له التصرف في أمواله مطلقا ولو بناقل شرعي فإعطاؤه المبيع لمثل هذا الشخص يكون إقداما منه على تلف ماله وهتك احترامه ، فيكون إعطاؤه للسفيه ، وإن كان بعنوان البيع ، من قبيل إلقائه في البحر وإتلافه ، فلو كان عين ماله - أي المبيع - موجودا يمكن أن يقال بجواز استرداده ، وأمّا مع تلفه فلا ضمان في البين.

ومن جميع ما ذكرنا من أوّل هاتين القاعدتين - أي الكلّيتين الإيجابيّة والسلبيّة - يظهر صحة كلتيهما ، واطّرادهما ، وعدم ورود النقوض التي ذكروها في هذا المقام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ص: 128

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار

اشارة

ص: 129

ص: 130

قاعدة التلف في زمن الخيار (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة المسلّمة عند الأصحاب قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها

وهو أمور :

الأوّل : الأخبار :

منها : صحيحة ابن سنان عن الرجل يشتري الدابّة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين ، فيموت العبد أو الدابّة أو يحدث فيه حديث ، على من ضمان ذلك؟ فقال : « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ، ويصير المبيع للمشتري ، شرط له أم لم يشترط. وإن كان بينهما شرط أيّاما معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع » (2).

ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري مولى بنى شيبان قال : سألت

ص: 131


1- (*) « الحق المبين » ص 1. « القواعد » ص 101 و 105 ، « قواعد فقه » ص 278 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 391 ، « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 268.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 103 ، باب عقود البيع ، ج 20 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 2.

أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل اشترى أمة يشرط من رجل يوما أو يومين ، فماتت عنده ، وقد قطع الثمن ، على من يكون ضمان ذلك؟ قال : « ليس على الذي اشترى ضمان حتّى يمضي بشرطه » (1).

ومنها : النبوي المروي في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن جعفر بن محمد علیهماالسلام قال علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رجل اشترى عبدا بشرط ثلاثة أيّام فمات العبد في الشرط؟ قال : يستحلف باللّه ما رضيه ثمَّ هو برئ من الضمان » (2).

ومنها : ما عن الوسائل عن الصدوق بإسناده عن ابن فضّال ، عن الحسن بن رباط ، عن من رواه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إن حدث بالحيوان حدث قبل ثلاثة أيّام فهو من مال البائع » (3).

وظاهر هذه الأخبار - كما هو واضح - أنّ تلف المبيع في يد المشتري - وهي عبارة أخرى عن قبضه للمبيع إذا كان الخيار للمشتري فقط دون البائع - يكون من كيس البائع أي : ممن ليس له الخيار ، وهذا هو مفاد القاعدة أي : التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار الذي هاهنا هو البائع.

نعم لا يدلّ على هذه القاعدة بطور الكلّية ، بل فيما إذا كان من له الخيار هو المشتري دون البائع ، ولا يدلّ فيما إذا كان بالعكس أي : كان الخيار للبائع دون المشتري.

هذا أوّلا : وثانيا : لا يدلّ فيما إذا كان الخيار غير خيار الشرط والحيوان إلاّ بتنقيح المناط وإلقاء خصوصيّة خياري الحيوان والشرط.

وهو في غاية الإشكال ، لأنّ هذا حكم مخالف للقواعد ورد التعبد به ، فيجب الوقوف على مورده ، ومورده خصوص هذين الخيارين وبالنسبة إلى المشتري فقط ،

ص: 132


1- « الكافي » ج 5 ، ص 171 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 104 ، باب عقود البيع ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 351 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 1.
2- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 4. وفيه : « عن عبد اللّه بن الحسن ... ».
3- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 352 ، أبواب الخيار ، باب 5 ، ح 5.

فلا يشمل غيرهما ، وكذلك لا يشمل فيما إذا كان ذو الخيار غير المشتري.

الثاني : الإجماع - وقد ادّعاه غير واحد كصاحب الرياض (1) ومفتاح الكرامة (2) - 0 - ونفى الخلاف في الأخير في هذه القاعدة.

ولكن أنت خبير أنّه على فرض تسليم وجود الاتّفاق وتحقّقه على هذا الحكم - أي كون التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له - لا اعتبار بهذا الاتّفاق ، لاستناد كثير منهم إلى هذه الروايات ، فلا يكون من الإجماع المصطلح الذي يكون مسبّبا عن تلقّيه من المعصوم علیه السلام ، أو يكون مسبّبا عن وجود دليل معتبر عند الكلّ وقد ضاع عندنا ، مع أنّ هذا الأخير لا يخلو عن إشكال.

فالعمدة في مستند هذه القاعدة هو هذه الروايات التي ذكرناها ، فلا بدّ من ملاحظتها ومقدار دلالتها.

الثالث : كون هذا الحكم مقتضى القواعد الأوّليّة ، إذ من له الخيار فقط من المتعاملين وليس للآخر يكون خروج العوض عن ملكه ودخول المقابل متزلزلا ، إذ له أن يفسخ ويرجع ما خرج إليه بسبب فسخه ، فكان التلف يقوم مقام الفسخ فيرجع ما خرج عن ملكه إليه ثانيا ، فالتلف يذهب من كيس من ليس له الخيار ، وهو مفاد هذا القاعدة.

وأمّا كون التلف بمنزلة الفسخ فمن جهة أنّ العقلاء يرون في موارد ثبوت الخيار - خصوصا في خيار الشرط وخيار الحيوان - أنّ ذا الخيار يتأمّل وينظر في أنّه هل إبقاء هذه المعاملة من صلاحه ، أو لا بل صلاحه حلّه وفسخه؟ فإذا تلف أحد العوضين فيما إذا كان التالف ما انتقل إلى ذي الخيار كما إذا كان الشرط للمشتري فقط وتلف المبيع ، وكما في خيار الحيوان إذا كان المبيع حيوانا ووقع التلف عليه عند

ص: 133


1- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 528.
2- « مفتاح الكرامة » ج 4 ، ص 599.

المشتري كما هو مورد الروايات بناء على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري فيما إذا كان المبيع حيوانا كما هو المشهور فلا يبقى مجال للتأمّل والنظر وقهرا تنفسخ المعاملة ، ويرجع الثمن إلى ملك من له الخيار أي المشتري ، ويذهب الثمن من كيس من ليس له الخيار أي البائع.

وحاصل ما ذكرنا : أنّ ملكيّة ذي الخيار لما دخل في ملكه بسبب المعاملة متزلزل ، وكذلك خروج ما خرج متزلزل متوقّف على بقاء ما دخل في ملكه ، فإذا وقع عليه التلف فقهرا تنفسخ المعاملة ، ولا يبقى مورد للتأمّل والنظر حتّى يختار الفسخ أو الإبرام ، فحكمة جعل الخيار في الحيوان ثلاثة أيّام ، أو جعل الخيار والشرط من نفس المتعاقدين تقتضي أن يكون الضمان - أي المسمّى - ينتقل ثانيا ممّن ليس له الخيار إلى الذي له الخيار.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان لا يمكن أن يكون منشأ للحكم الشرعي. ومقتضى القواعد الأوّليّة - حيث أنّ المعاملة بالقبض تمّت وصار المبيع ملكا تامّا للمشتري وتلف في يده - أن لا يكون ضمان في البين أصلا ، ولا يكون المشتري ولا غيره ضامنا ، أمّا المشتري فلأنّ ماله تلف في يده على الفرض ، والإنسان لا معنى لأن يكون ضامنا لنفسه بواسطة تلف ماله عنده. وأمّا غيره - أي البائع - لأنّ غيره أجنبي هاهنا فمن جهة أنّ المعاملة والمعاوضة تمّت ومال كلّ واحد منهما انتقل إلى الآخر بعوض مال الآخر وما انتقل إلى المشتري تلف في يده فالبائع أجنبي عنه ، فلا وجه لأن يكون ضامنا لتلف مال شخص آخر في يد نفس ذلك الشخص.

نعم كان لذلك الشخص الآخر - أي المشتري مثلا وفي المفروض - خيار الفسخ لو كان يعمله وكان يفسخ لكان الثمن يرجع إليه ، وأين هذا من ضمان البائع بصرف التلف ومن دون الفسخ.

ص: 134

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومقدار دلالتها من حيث العموم والخصوص

اشارة

فنقول : لو كانت هذه الجملة والكليّة أي جملة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » بهذه الألفاظ واردة ومنصوصة ، أو كانت معقد إجماع لكانت شاملة للثمن والمبيع ، وأيضا كانت تشمل ذا الخيار مطلقا سواء كان خيار الحيوان أو الشرط أو غيرهما ، وذلك من جهة أنّ لفظ « الخيار » يشمل جميع الخيارات ، ولفظ « من لا خيار له » يشمل البائع والمشتري ، ولفظ « التلف في زمن الخيار » يشمل المبيع والثمن.

ولكن الأمر ليس كذلك ، أي هذه الجملة بهذه الألفاظ ليست مرويّة في خبر أو حديث ولا ممّا انعقد الإجماع على هذا العنوان بحيث يكون معقد الإجماع هذه الجملة بألفاظها حتّى يمكن التمسّك بإطلاق تلك الألفاظ ، بل المدرك لهذه القاعدة ليس إلاّ تلك الأخبار التي تقدّمت ، فلا بدّ من النظر والتأمّل في ظهورها وتشخيص ما هو المراد منها حتّى يعرف مقدار سعة دلالتها وشمولها.

فالبحث فيها من جهات :

الأولى : في أنّه هل مفادها ثبوت هذا الحكم مطلقا وفي أيّ خيار كان ، أو في خصوص خيار الحيوان وخيار الشرط؟

أقول : أمّا صحيحة ابن سنان فقوله علیه السلام في صدرها « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ، ويصير المبيع للمشتري ، شرط له أم لم يشترط » ظاهر في خيار الحيوان فقط. وأمّا ذيلها ، أي قوله علیه السلام « وإن كان بينهما شرط أيّام معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع » ظاهر في خيار الشرط ، فالصحيحة صدرا وذيلا لا تدلّ على ثبوت هذا الحكم إلاّ في خيار الحيوان وخيار الشرط. وكذلك الأمر في سائر الروايات الواردة في هذا الباب لا تدلّ على ثبوت هذا الحكم إلاّ في خيار الشرط أو خيار الحيوان ، فإثباته في غيرهما من الخيارات يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

ص: 135

وأمّا تسرية الحكم منهما إلى غيرهما من الخيارات بتنقيح المناط فأشبه بالقياس ، فالحقّ أنّ هذا الحكم مختصّ بخياري الحيوان والشرط لا يشمل غيرهما ، وذلك من جهة ما قلنا إنّ هذا الحكم تعبّدي ومخالف للقواعد الأوّلية ، ولا بدّ من الوقوف على مورد النص وما هو الظاهر منه ، وقد عرفت أنّ ظاهر الروايات هو ثبوت هذا الحكم في خياري الشرط والحيوان دون سائر الخيارات ، وأيضا فيما إذا كان التلف عند المشتري والخيار له ، فيضمن البائع الذي ليس له الخيار.

وبعبارة أخرى : هذا الحكم في تلف المبيع عند المشتري لا تلف الثمن عند البائع ، كلّ ذلك من أجل ظهور الروايات التي وردت في هذا المقام فيما ذكرنا من حصر مورد القاعدة في خصوص خيار الحيوان أو الشرط بالنسبة إلى تلف المبيع عند المشتري لا تلف الثمن عند البائع.

والحاصل : أنّ الخيار إمّا خيار شرط وحيوان وإمّا سائر الخيارات ، وهذه القاعدة تجري فيهما دون سائر الخيارات ، وفي تلف المبيع عند المشتري دون تلف الثمن عند البائع ، كلّ ذلك لأجل ظهور الروايات فيما ذكرنا بعد الفراغ عن عدم كون هذا الحكم على مقتضى القواعد الأوّلية.

نعم ربما يقال بثبوت هذا الحكم ، أي شمول هذا القاعدة لخيار المجلس خصوصا إذا كان للمشتري دون البائع ، كما إذا أسقط البائع خياره ، لأنّه لو كان الخيار لكلاهما - أي البيّعان - فلا موضوع لهذه القاعدة ، لأنه ليس هناك من ليس له الخيار حتّى يكون ضمان التالف عليه ، فإتيان هذه القاعدة وشمولها لخيار المجلس - مع أنّه مجعول في أصل الشرع لكلا المتعاقدين - منوط بسقوط خيار أحدهما ، وهذا واضح معلوم.

فإذا فرضنا سقوط خيار البائع في خيار المجلس وبقاء خيار المشتري فقط فلو قبض المشتري المبيع في المجلس وتلف في يده في نفس المجلس فلو قلنا بشمول هذه القاعدة لخيار المجلس يكون الضمان على البائع ، لأنّه ليس له الخيار على الفرض

ص: 136

فيرجع الثمن إلى المشتري بدون رجوع شي ء إلى البائع.

واستظهر شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره من قوله علیه السلام في ذيل صحيحة ابن سنان « حتى ينقضي شرطه ويصير المبيع للمشتري » شمولها لخيار المجلس إذا كان للمشتري فقط دون البائع (1).

وتقريب استظهاره من هذه الفقرة هو أن ظاهر لفظ « الشرط » في الأخبار هو خيار المجلس ، فيكون مفاد الصحيحة أنّ ضمان المبيع على البائع حقّ ينقضي الشرط ، أي خيار المجلس الذي للمشتري ، فحينئذ أي بعد انقضاء خيار المجلس يخرج البائع عن الضمان ، أمّا قبله فيكون الضمان عليه وإن قبض المشتري المبيع في المجلس.

فالمناط في خروج البائع عن الضمان هو انقضاء خيار المشتري لا القبض ، بل قوله علیه السلام بعد ذلك « ويصير المبيع للمشتري » يظهر منه أنّ المناط في سقوط ضمان البائع هو صيرورة المبيع ملكا مستقرّا للمشتري بحيث لا يمكن له الفسخ ، ولو كان هذا هو مناط سقوط ضمان البائع وخروجه عنه فتشتمل القاعدة جميع الخيارات إذا كان للمشتري ، ولا اختصاص لهذا الحكم بخياري الحيوان والشرط وخيار المجلس ، لأنّ العلّة سارية في الجميع.

بل يمكن أن يقال بعدم الفرق بين البائع والمشتري في شمول هذا الحكم للبائع أيضا بواسطة هذا التعليل والمناط ، وهو صيرورته ملكا مستقرّا للمشتري بحيث لا يمكن سلبه عن نفسه بفسخ المعاملة ، نعم لا بدّ وأن يلغى خصوصيّة المشتري وكون التالف هو المثمن ، بل لو كان التالف هو الثمن بعد قبض البائع ولكن كان الخيار للبائع فقط فالضمان أيضا على من ليس له الخيار أي المشتري لأجل هذا التعليل أي عدم استقرار ملكيّة الثمن للبائع بحيث لا يمكن سلبه عن نفسه بواسطة فسخ المعاملة ، إذ المفروض أنّ خيار البائع موجود وله أن يفسخ ، فذلك الملاك والمناط - الذي كان في

ص: 137


1- « المكاسب » ص 300.

صورة خيار المشتري فقط مع تلف المبيع عنده وفي يده موجودا في هذه الصورة أي فيما إذا كان الخيار للبائع فقط مع تلف الثمن في يده موجود أيضا ، لأنّ الثمن التالف في يده وإن كان قبضه ولكن حيث أنّ خياره باق يمكن له الفسخ وسلبه عن نفسه ، فذلك التعليل آت هنا أيضا.

وبعبارة أخرى : سقوط ضمان البائع في تلك الصورة كان منوطا بانقضاء الخيار وصيرورة المبيع ملكا مستقرّا للمشتري بحيث لا يمكن أن يسلب عن نفسه بالفسخ ، وهذا المعنى متوقّف على انقضاء الخيار ، فقبل انقضائه لا يسقط ضمان البائع للمثمن ولو تلف في يد المشتري ، بل يكون في ضمانه ، فليكن سقوط ضمان المشتري أيضا إذا تلف الثمن في يد البائع منوطا بانقضاء خيار البائع ، ويكون قبل انقضاء زمان خياره في ضمان المشتري.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا قياس محض.

واستشكل شيخنا الأستاذ قدس سرّه على هذا الوجه لتعميم هذه القاعدة وشمولها لجميع الخيارات ، سواء أكان أحد هذه الثلاثة - أي خيار الحيوان ، أو خيار الشرط ، أو خيار المجلس - أو كان غيرها من الخيارات ، بأنّ كلمة « حتّى » قلّما تستعمل في العلّية ، بل يكون معناها غالبا هي الغاية ، فلا تكون ظاهرة في العلّية لكي تكون القاعدة شاملة لجميع الخيارات ، بل وللثمن والمثمن (1).

ولكنّك خبير بأنّ معنى « حتّى » وإن كان غالبا هو انتهاء الغاية - كما صرّح بذلك ابن هشام في المغني (2) - ولكن هاهنا قرينة التعليل موجودة ، وهو قوله علیه السلام « ويصير المبيع للمشتري » ، وفي الحقيقة جملة « حتّى تنقضي الشرط » توطئة لذكر العلّة التي هي في الحقيقة قوله علیه السلام « ويصير المبيع للمشتري » المترتب على انقضاء الخيار ، ولمّا كان

ص: 138


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 177.
2- « مغني اللبيب » ج 2 ، ص 166.

صيرورة المبيع ملكا للمشتري ليس متوقّفا على انقضاء الخيار أيّ خيار كان فلا بدّ وأن يحمل على الملك المستقرّ الذي لا يمكنه أن يسلبه عن نفسه بأن يفسخ المعاملة.

ومعلوم أنّ مثل هذا الملك موقوف ومترتّب على انقضاء الخيار ، ففي الواقع علّل علیه السلام سقوط الضمان عن البائع بصيرورة المبيع ملكا مستقرا للمشتري.

والشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه أيضا يشير إلى هذا المعنى بأن يقول - بعد قوله : بناء على أنّ المناط انقضاء الشرط الذي تقدّم أنّه يطلق على خيار المجلس - بل ظاهره أنّ المناط في رفع ضمان البائع صيرورة المبيع للمشتري واختصاصه به ، بحيث لا يقدر على سلبه عن نفسه (1).

ثمَّ إنّه قدس سرّه يستشهد بكلام السرائر بما يؤيّد ما ذكرنا ، من أنّ العلّة استقرار الملك لا انقضاء الشرط ، وإنّما ذكر هو توطئة لذكر العلّة ، فافهم.

ثمَّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس سرّه استشكل بإشكالين آخرين على تعميم هذه القاعدة بالنسبة إلى جميع الخيارات بواسطة هذا التعليل :

أولا : بأنّ هذه الجملة على فرض كونها علّة لهذا الحكم تقيّد التعميم لو كان علّة للمجعول لا للجعل والتشريع.

وثانيا : أنّ ظاهر قوله علیه السلام « وإن كان الشرط أيّاما معدودة » أن يكون الشرط محدودا مضبوطا ، ففي هذه الصورة يأتي هذا الحكم. ومعلوم أنّ هذا المعنى لا ينطبق على غير خياري الحيوان والشرط ، إذ فيهما فقط الشرط يكون محدودا مضبوطا ، فخيار الحيوان محدود بثلاثة أيّام من طرف الشارع ، وخيار الشرط محدود من طرف المشروط له والمشروط عليه ، وما عداهما حتّى خيار المجلس ليس محدودا ، لأنّ أمد المجلس غير معيّن ، والمجالس تختلف قصرا وطولا ، فلا تشمل القاعدة خيار المجلس

ص: 139


1- « المكاسب » ص 300.

فضلا عن سائر الخيارات (1).

ولكنّك خبير بما فيهما :

أمّا في إشكاله الأوّل بأنّه لا شكّ في أنّ عدم صيرورة المبيع ملكا مستقرّا للمشتري وإمكان سلبه عن نفسه علّة للمجعول ، أي كون الضمان على البائع وإن كان تلف عند المشتري ، كما أنّ صيرورته كذلك علّة لسقوط الضمان ورفعه عن البائع ، ولا ينبغي التوهّم لكونها علّة لجعل الشارع هذا الحكم ، بل لم نفهم معنى محصلا لكونها علّة للجعل.

وأما في إشكاله الثاني : فإنّ قوله علیه السلام « وإن كان الشرط أيّاما معدودة » في مقام بيان ثبوت هذا الحكم في خيار الشرط ، ولا شكّ في أنّ خيار الشرط محدود مضبوط ، ولا ينافي كونه بصدد بيان خيار الشرط مع تسرية هذا الحكم إلى سائر الخيارات بواسطة عموم التعليل والمناط.

ثمَّ إنّ شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سرّه استشكل على هذا الوجه الذي استظهره من ذيل صحيحة ابن سنان على التعميم لجميع الخيارات بقوله : وفي الاعتماد على هذا الاستظهار تأمّل في مقابلة القواعد ، مع أنّه يمكن منع دلالة هذا المناط المستنبط عليه ، لأنّ ظاهر الصحيحة الاختصاص بما إذا كان التزلزل وعدم كون المبيع لازما على المشتري ثابتا من أوّل الأمر ، كما يظهر من لفظة « حتّى » الظاهرة في الابتداء (2).

ومراده من هذا الكلام :

أوّلا أنّ هذا الاستظهار من جهة مقابلته للقواعد الأوّلية المستفادة من أدلّة الأحكام - مع أنّه مخالف لها - لا يمكن الركون إليه ، إذ مقتضى القواعد الأوّلية أنّ مال شخص لو تلف في يده وعند نفسه لا يكون ضمانه على غيره ، ففي ما نحن فيه مثلا إذا

ص: 140


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 177.
2- « المكاسب » ص 301.

تلف المبيع عند المشتري وبعد قبضه إيّاه لا وجه لأن يكون ضمانه على البائع ولو كان للمشتري الخيار فقط دون البائع ، فهذا الحكم - أي كون الضمان على البائع - مخالف للقواعد المستفادة من الأدلّة الأوّلية ، والخروج عن تلك القواعد المسلمة الثابتة بالأدلّة القطعيّة بمثل هذا الاستظهار مشكل.

وفيه : إن صح هذا الظهور فهذا حكم تعبّدي مخالف للقواعد ، ودليله هذا الظهور كما أنّه في خياري الحيوان والشرط ثبت هذا الحكم ، مع أنّه هناك أيضا مخالف للقواعد. اللّهمّ إلاّ أن ينكر مثل هذا الظهور ، فحينئذ لا يثبت هذا الحكم وإن لم يكن مخالفا للقواعد ، لأنّ ثبوت كلّ حكم يحتاج إلى دليل.

وثانيا : مراده من قوله « إنّ ظاهر الصحيحة هو اختصاص هذا الحكم بما لو كان التزلزل من أول الأمر » أنّ خياري الحيوان والشرط يوجب تزلزل المعاملة من أوّل وجوده إلى انقضاء الخيار ، وسائر الخيارات ليس كذلك ، ولفظة « حتّى » الغائية ظاهرة في استمرار ما قبلها من أوّل وجوده إلى حصول تلك الغاية ، مثلا سرت حتّى دخلت البصرة ، أي سيري كان مستمرّا من أوّل وجوده إلى حصول الغاية أي دخول البصرة.

وفيما نحن فيه هذا المعنى متحقّق بالنسبة إلى خياري الحيوان والشرط ، أي تزلزل ملكيّة المشتري للمبيع متحقّق من أوّل وجوده إلى انقضاء الخيار في هذين الخيارين دون سائر الخيارات ، فلا عموم في البين كي يشمل سائر الخيارات ، أي خيار الغبن والعيب والرؤية وغيرها.

وفيه : أنّ قوله علیه السلام في صحيحة ابن سنان « وعلى البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ويصير المبيع للمشتري » مفاده كما هو الظاهر منه أنّ ضمان المبيع على البائع من أوّل وجود المعاملة إلى انقضاء الشرط ثلاثة أيّام أي خيار الحيوان ، وصيرورته المبيع للمشتري بحيث لا يمكن له أن يسلبه عن نفسه بالفسخ ، فيكون كناية عن اللزوم.

ص: 141

وهذا المعنى - أي كون المبيع مثلا في ضمان البائع من أوّل وجود المعاملة مستمرّا إلى انقضاء الخيار وحصول اللزوم - لا مانع من الالتزام به في جميع الخيارات ، فالالتزام بهذا الحكم في جميع الخيارات لا يكون مخالفا لما هو ظاهر كلمة « حتّى » وان قلنا بظهورها في استمرار وجود ما قبلها أي الحكم المغيى بها إلى حصول تلك الغاية.

وبعبارة أخرى : في غير هذين الخيارين - أي خياري الحيوان والشرط - كخيار الغبن والعيب أيضا الخيار وعدم استقرار الملك بحيث يمكن أن يسلب عن نفسه من أوّل وقوع العقد ، ووجوده موجود غاية الأمر لا يعلم بوجوده وبعد الاطلاع على أنّ المبيع معيب أو لا يساوي الثمن الذي اشتراه بذلك الثمن أي بعد ظهور العيب والغبن يعلم بوجود الخيار ، فظهور العيب أو الغبن كاشف عن وجود الخيار من أوّل الأمر ، لا أنّه سبب لحدوث الخيار ، فالتزلزل وعدم كون الملكية مستقرّا حاصل من أوّل وجود العقد ، ومستمرّ إلى انقضاء زمان الخيار.

نعم لو كان هناك قائل بأنّ ظهور العيب أو العلم بالغبن الفاحش موجب لحدوث الخيار من حين العلم والظهور فلا بدّ له من القول بعدم التعميم ، بناء على أن يكون هذا التعليل علة للتعميم وشمول القاعدة لسائر الخيارات.

وحاصل الكلام : أنّه بناء على أنّ ظهور الغبن والعيب كاشف عقلي من ثبوت الخيار لا أنّه شرط شرعي لحدوثه ، فلا يبقى مجال لإشكال شيخنا الأعظم قدس سرّه وتأمّله في استظهاره.

نعم هناك أمر آخر يوجب التأمّل في استفادة العموم من التعليل ، وهو أنّ جعل الضمان على البائع في خيار الحيوان مع قبض المشتري للمبيع وتلفه في يده من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان وأنّه قبل مضي ثلاثة أيّام يمكن أن يخفى عليه بعض نقائص المبيع ، فجعل القبض كالعدم ، وجعل مناط سقوط الضمان انقضاء الشرط وحصول الملكية المستقرّة بحيث لا يمكن أن يسلبه عن نفسه بالفسخ. ومع هذا

ص: 142

الاحتمال كيف يمكن أن يقال بتعميم المناط.

وأمّا خيار الشرط فشريك مع خيار الحيوان في هذه الجهة والنكتة ، ولذلك أطلق على كليهما الشرط في الأخبار ، غاية الأمر أنّ الشرط في خيار الحيوان من قبل الشارع ، وفي خيار الشرط من قبل المتعاملين. وهذا ليس بفارق فيها هو المهمّ في المقام من أنّ المناط لجعل الضمان في عهدة من ليس له الخيار حتّى بعد قبض من له الخيار من جهة مراعاة من انتقل إليه الحيوان ، أو المشروط له في خيار الشرط ، فيكون التعليل مختصّا بهذين الخيارين ، ولا يسري إلى خيار المجلس فضلا عن سائر الخيارات.

وأمّا ما ربما يقال - في وجه عدم التعميم واختصاص هذه القاعدة بهذين الخيارين دون غيرهما من أنّ قولهم : « التلف في زمن الخيار » يدلّ على أنّ الخيار المذكور في هذه القاعدة لا بدّ وأن يكون من الخيارات الزمانية ، أي ما كان لها زمان محدود من طرف الشارع كخيار الحيوان المحدود بثلاثة أيّام ، أو من طرف المتعاملين كخيار الشرط ، وليس في سائر الخيارات تحديد بحسب الزمان لا من طرف الشارع ولا من طرف غيره ، فهذه القاعدة بقرينة كلمة « زمن الخيار » لا تشمل الخيارات غير الزمانية - فعجيب.

وذلك من جهة أنّ كلّ حادث زماني لا بدّ وأن يكون لوجوده زمان يمتدّ بامتداد وجوده ، وكما أنّ لكلّ جسم مكان يحيط به كذلك لكلّ حادث في سلسلة الزمان وفي وعائه زمان يحيط به ، وهذا الزمان هو عمر ذلك الشي ء ، فكلّ شي ء كان امتداد وجوده في وعاء الزمان أكثر يكون عمره أطول ، وكلّ خيار سواء كان أحد هذين الخيارين أو غيرهما حيث أنّه حادث زماني فله زمان يحيط به من أوّل وجود هذا الحقّ إلى آخره وانتهائه ، فقولهم : « التلف في زمن الخيار » أي ذلك الزمان المحيط بالخيار ، لا الخيارات الزمانية كما توهّم.

ص: 143

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ مدرك هذه القاعدة هو الأخبار الواردة في خياري الحيوان والشرط ، والظاهر اختصاصها بذينك الخيارين وعدم شمولها لسائر الخيارات حتّى خيار المجلس ، فافهم. وذلك لعدم تنقيح المناط الذي ذكره شيخنا الأعظم قدس سرّه بطور يوجب الاطمئنان حتّى نحكم بالتعميم.

وأمّا شمولها لخيار المجلس - باعتبار إطلاق الشرط عليه في الأخبار مع اختصاص مورد الروايات الواردة في هذا الباب بخياري الحيوان والشرط - فلا يخلو من نظر وتأمّل.

وأمّا شمولها للثمن والمثمن بالنسبة إلى التالف ، وللبائع والمشتري بالنسبة إلى من لا خيار له ، فنقول :

إنّ صور المسألة أربع ، لأنّ التلف المفروض أنّه بعد القبض - وإلاّ يكون من مصاديق قاعدة تلف المبيع قبل القبض ، ويكون خارجا عن دائرة انطباق هذه القاعدة - إمّا يكون في يد البائع أو المشتري ، وفي كلّ واحدة من الصورتين إمّا أن يكون الخيار للذي وقع التلف في يده فقط ، أو يكون للآخر الذي لم يقع التلف في يده.

الصورة الأولى : أن يكون التلف في يد البائع ، فقهرا يكون التالف هو الثمن ، لأنّ المفروض أنّه بعد القبض ، ويكون الخيار للآخر أي المشتري فلا ضمان لأحد ، لأنّ ملك البائع تلف في يده ويكون كسائر أمواله. ولا وجه لأن يكون تلفه موجبا لضمان شخص آخر إلاّ بأحد أسباب الضمان المعروفة ، وليس شي ء منها في البين.

الصورة الثانية : أن يكون التلف أيضا في يد البائع ، ولكن كان الخيار للبائع فقط. وهذه هي الصورة التي يكون الضمان على المشتري إن قلنا بتعميم القاعدة بالنسبة إلى البائع والمشتري ، لأنّ الضمان يكون على من لا خيار له وهو هاهنا المشتري ، كما هو المفروض.

الصورة الثالثة : أن يكون التلف في يد المشتري وكان الخيار للبائع فقط ، ولا شكّ

ص: 144

في أنّ الضمان لا يكون على أحد أصلا ، وذلك لأنّ مال المشتري تلف في يده ، ولا وجه لأن يكون في ضمان شخص آخر إلاّ بأحد أسباب الضمان من إتلاف ذلك الآخر ، أو كون يده يد ضمان ، أو غير ذلك من أسباب الضمان ، والمفروض أنّه ليس شي ء آخر في البين.

الصورة الرابعة : أن يكون التلف في يد المشتري والخيار له فقط وهذه الصورة هي التي مشمولة لهذه القاعدة نصّا وفتوى إجماعا ، ويكون من المسلّمات أنّ ضمان التالف على البائع الذي ليس له الخيار فيما إذا كان الخيار الذي للمشتري خيار الحيوان أو خيار الشرط ، وأمّا فيما عداهما من الخيارات فيأتي ذلك الكلام الطويل الذي تقدّم.

بقي الكلام في أنّ الضمان المذكور في هذه القاعدة - وأنّه من مال من لا خيار له - هل هو ضمان المسمّى الذي هو أحد العوضين في المعاملة ، أو هو عبارة عن الضمان الواقعي أي المثل والقيمة كلّ واحد منهما في محلّه ومورده؟

فنقول : مبنى المسألة على أنّه جعل الشارع قبض ذي الخيار في المفروض كالعدم ، فالضمان الثابت قبل القبض باق لعدم ما يوجب رفعه ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من القول بأنّ الضمان ضمان المسمى ، لعدم الشكّ في كون الضمان السابق على القبض ضمان المسمّى.

وأمّا إن قلنا بأنّ الضمان إذا تلف في يد ذي الخيار بعد القبض حكم تعبّدي ، لا من جهة أنّ الشارع جعل القبض كلا قبض ، بل يقبض المشتري مثلا خرج المبيع عن عهدة البائع ، وحصل القبض والإقباض الذي كان من مقتضيات العقد.

فقوله علیه السلام فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد القبض في زمن خيار الحيوان أو الشرط « فهو من مال البائع » حكم تعبّدي لا ربط له بضمان البائع قبل القبض الذي كان عبارة عن اشتغال ذمّته بتسليم المبيع المعيّن المسمّى إلى المشتري ، لأنّ المفروض أنّ ذلك حصل وتمَّ ، ولا معنى للزوم حصوله ثانيا ، فلا معنى لبقائه بعد القبض

ص: 145

والتسليم ، فحينئذ لا طريق لمعرفة نوع الضمان إلاّ الاستظهار من هذه الجملة ، أي قوله علیه السلام : « فهو من مال بايعه ».

فنقول : يمكن أن يكون المراد من هذه الجملة أنّ خسارته وغرامته على البائع ، سواء فسخ المعاملة أم لم يفسخ ، بناء على أنّ تلف المبيع لا يكون مانعا عن جواز فسخ المشتري في زمان خياره. نعم لو فسخ المشتري يستردّ عين الثمن إن كان شخصيّا وكان باقيا ، وإن كان تالفا فمثله أو قيمته ، كلّ واحد منهما في مورده ، وإن كان كلّيا فيأخذ أحد مصاديقه. وإن لم يفسخ فيكون البائع ضامنا للمبيع التالف في يد المشتري بالضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة كلّ واحد في مورده ، لأنّه معنى كون غرامة التالف وخسارته على البائع هو أنّ ضمانه الواقعي عليه.

ويمكن أن يكون المراد منها أنّ التلف يقع من مال بائعه ، بمعنى أنّه ينتقل إلى البائع آنا ما فيتلف ، ولا شكّ في أنّه لا ينتقل إلى البائع مجّانا وبلا عوض ، فلا بدّ وأن يكون انتقاله إلى البائع إمّا ببدله الواقعي من المثل والقيمة كلّ في محلّه ، أو يكون بانفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف حتّى يرجع كلّ واحد من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل ، أي إلى مالكه قبل وقوع المعاوضة ، كما قلنا في مسألة تلف قبل القبض. ونتيجة الانفساخ القهري هو نتيجة الفسخ الاختياري - كما بيّنّاه - فيرجع عين الثمن إلى المشتري لو كان باقيا وإلاّ فعلى التفصيل الذي تقدّم في صورة الفسخ.

هذه الاحتمالات كلّها في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات : فالظاهر هو انفساخ المعاملة آنا ما قبل التلف ، وذلك من جهة أنّ قوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه » ظاهر في أنّ التلف يقع في مال البائع ، أي التالف يكون من أمواله لا أنّ خسارة التالف وغرامته عليه. وهذا أي كون التلف واقعا على ماله لا يمكن إلا بالانفساخ آنا ما قبل التلف حتّى يرجع التالف إلى ملك البائع ، فيكون التلف واقعا في ملكه.

ص: 146

فالصواب هو أنّ الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمّى لا الضمان الواقعي أي المثل والقيمة.

وبعبارة أخرى : التلف بعد القبض - إذا كان التلف في يد من له الخيار فقط دون صاحبه - في حكم التلف قبل القبض ، أي يكون ذلك الضمان الذي قبل القبض موجود وفي عهدة البائع باقيا بعد القبض أيضا ، ومعلوم أنّه كان ضمان المسمّى. وبهذا صرّح جمع من المحققين كالمحقق والشهيد الثانيين (1) ، ويظهر أيضا من الشهيد قدس سرّه في الدروس (2) حيث قال : وبالقبض ينتقل الضمان إلى القابض ما لم يكن له خيار. من جهة أنّ مفهوم هذا الكلام هو أنّه لو كان للقابض الذي هو المشتري في المفروض خيار فلا ينتقل الضمان إليه ، بل يبقى على حاله.

وخلاصة الكلام : أنّ لفظ « الضمان » وإن كان ظاهرا في الضمان الواقعي ، أي كون الشي ء بوجوده الاعتباري في العهدة وارتفاعه عن العهدة ورفع اشتغال الذمّة بأداء ذلك الشي ء ، وحيث أنّ الشي ء بعد تلفه لا يمكن أداؤه بخصوصيّته الشخصيّة ، فلا بدّ وأن يطبق ما في الذمّة على ما هو أقرب إليه من غيره ، وهو مثله وإن كان له المثل أي كان من المثليّات ، وقيمته وماليّته إن كان من القيميّات ، وذلك من جهة أنّ نظر العقلاء في مقام تفريغ الذمّة في الماليّات والغرامات بعد تعذّر الخصوصيّات الشخصيّة اعتبار وجود الجهات النوعيّة والمماثلات ، وبعد تعذّر هذه الجهات أيضا لا يرون الخروج عن العهدة إلاّ بأداء القيمة.

وبعبارة أخرى : لا فرق فيما هو المراد من الضمان بين باب التلف والإتلاف ، فإذا حكم الشارع بالضمان في مورد من موارد التلف - كما فيما نحن فيه - يكون المراد منه هو الضمان في باب الإتلاف.

ص: 147


1- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 308 ، « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 181.
2- « الدروس » ج 3 ، ص 210.

ولكن في المقام لم يقل الشارع إنّ من ليس له الخيار من المتعاملين ضامن لما تلف في يد ذي الخيار ، وأيضا لم يقل إنّ التلف في يد ذي الخيار يكون بحكم إتلاف من ليس له الخيار ، بل قال : التلف في زمن الخيار من مال من ليس له الخيار ، أو من مال بائعه. وأنت خبير بأنّ هذه العبارات غير التعبير بأنّه ضامن ، ولا تفيد ذلك المعنى الذي يستفاد من لفظة « الضمان ».

نعم أورد شيخنا الأستاذ قدس سرّه هاهنا إشكالين على كون الضمان في هذه القاعدة هو ضمان المسمّى :

الأوّل : هو أنّ في صحيحة ابن سنان حكم بضمان البائع لو تلف المبيع في يد المشتري الذي له الخيار فقط دون البائع ، سواء كان التالف نفس المبيع أو صفة من أوصافها ، حيث قال الراوي ، فيموت العبد أو الدابّة ، أو يحدث فيه حدث ، على من يكون ضمان ذلك؟ فقال علیه السلام : « على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام ». ولا شكّ في أن الوصف لا يقابل بشي ء من المسمّى ، وتمام الثمن بإزاء نفس العين.

نعم الأوصاف ربما توجب زيادة قيمة العين المتصفة بها ، وإلاّ فلا يقع شي ء من الثمن بإزاء الوصف ، ولذلك تخلّف الوصف لا يوجب تبعّض الصفقة ، بل يوجب الخيار بقبول المعاملة بنفس الثمن أو يفسخ ويستردّ الثمن تماما ، لا أنّه يقبل ولا يردّ المعاملة ويستردّ مقدارا من الثمن بإزاء فقدان الوصف.

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يمكن أن يكون الضمان الذي حكم الإمام علیه السلام في مورد حدوث الحدث بالعبد أو الدابّة ضمان المسمّى ، لأنه بالنسبة إلى الوصف ليس مسمّى في البين حتّى يكون ضمانه ضمان المسمّى ، فلا بدّ وأن يحمل قوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه » على الضمان الواقعي حتى يشمل ضمان العين والوصف جميعا وإلاّ يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

والثاني : هو أنّ ضمان المسمّى ارتفع بالقبض ، لأنّ ضمان المسمّى عبارة عن اشتغال

ص: 148

ذمّته بالمثمن إن كان بائعا ، وبالثمن إن كان مشتريا ، والمفروض في المقام أنّ البائع سلّم المثمن إلى المشتري وقبض المشتري ، فلا يبقى مورد ومجال لاشتغال ذمّته ثانيا بإعطاء المثمن ، بل هو من تحصيل الحاصل المحال. فلو تجدّد ضمان بواسطة كون التلف في زمن الخيار لا بدّ وأن يكون هو الضمان الواقعي ، أي المثل أو القيمة ، لأنّه الظاهر من لفظ « الضمان » (1).

والجواب : أمّا عن الإشكال الأوّل :

فأوّلا : أنّ المراد من حدوث الحدث في المبيع ليس هو فوات الوصف كما زعمه المستشكل ، بل المراد به أيضا التلف والموت ، فهو من قبيل التفنّن في العبارة ، أو المراد به موت خاصّ كالفجأة مثل ، فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، وكم له من نظير ، وقد ورد في الأخبار بهذا المعنى.

وثانيا : فبأنّ الضمان الواقعي أيضا لا يمكن أن يكون جامعا ، لأنّ الإنسان لا يضمن بالمثل أو القيمة لتلف ماله في يده ، فلا بدّ من حمل كلامه علیه السلام على معنى يلائم مع الانفساخ وغيره ، وهو أن يقال : إنّ المراد من قوله علیه السلام « فهو من مال بائعه » هو أنّه خسارته على البائع ويذهب من كيسه ، سواء أكانت الخسارة التي عليه من جهة انفساخ المعاملة ورجوع الثمن إلى المشتري من دون مقابل يرجع إلى البائع لأنّ المفروض أنّ مقابل الثمن تلف في يد المشتري بدون أن يكون عليه شي ء ، أو كانت من جهة فسخ المشتري ورجوع الثمن بتمامه إليه ورجوع العين الناقصة إلى البائع ، ففقدان الوصف خسارة واردة على البائع من غير تدارك.

وأمّا عن الإشكال الثاني : فبأنّ شخص ذلك الضمان وإن ارتفع بالإعطاء والإقباض وتسليم المثمن إلى المشتري ولكن لا مانع من إتيان الدليل على حدوث فرد آخر من ضمان المسمّى بواسطة التلف عند ذي الخيار تعبّدا ، كما هو كذلك وجاء الدليل ، أي

ص: 149


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 180.

قوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه ».

ثمَّ إنّه هل يجري استصحاب بقاء الكلى الجامع بين الفردين الذين أحدهما ضمان المسمّى قبل القبض ، وثانيهما هو الفرد الآخر الذي بعد القبض إذا شككنا في بقاء الضمان بعد القبض أي بقاء الجامع بين الفردين ، وإلاّ فالفرد منه الذي يقينا كان موجودا ارتفع بالقبض يقينا ، ولكن حيث أنّه من المحتمل حدوث فرد آخر منه أي من ضمان المسمّى بعد القبض في نفس زمان ارتفاع ذلك الفرد بواسطة الإقباض والتسليم ، فيكون الكلّي الموجود يقينا في ضمن الفرد الزائل قطعا ، موجودا بقاء احتمالا في ضمن فرد آخر محتمل الحدوث؟ فيه إشكال ، فإنّه من القسم الأوّل من الأقسام التي للقسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي بنينا تبعا لأكثر المحقّقين على عدم جريانه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه ليس هاهنا وجودين من ضمان المسمّى وأن يكون انعدام أحدهما وحدث وجود آخر ، بل هناك وجود واحد من ضمان المسمّى ، ممتدّ من أوّل المعاملة إلى ما بعد تلف المبيع في يد المشتري في زمان خياره الخاصّ به ، حتّى يخرج عن عهدته بإرجاع الثمن إلى المشتري بدون مقابل.

هذا في مفروض المسألة والمقام ، غاية الأمر بسببين ، حدوث هذا الضمان بسبب ، وبقاؤه بسبب آخر ، فحدوثه بسبب التزام المعاملي إلى زمان القبض ، وبعد حصول القبض ووفائه بالتزامه لا تأثير للالتزام المعاملي ، لأنّه كما ذكرنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل ولكن بقاؤه بعد القبض يكون بالتعبد من قبل الشارع ، والدليل على هذا التعبد هو الاستصحاب.

لا يقال : بعد زوال العلّة ينعدم المعلول ، فإذا جائت علّة أخرى لذلك الشي ء فلا بدّ وأن يكون معلولة موجودا بوجود آخر ، فيعود الإشكال.

وذلك من جهة أنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من السببين في حدّ نفسه لو كان

ص: 150

وحده كاف في تأثيره في وجود المعلول ، غاية الأمر عند اجتماعهما يتداخلان ، فإذا انعدم أحدهما يؤثّر الآخر مستقلا كالخيمة القائمة بعمودين ولكن كلّ واحد منهما لو انفرد كاف في قيام الخيمة به ، فإذا انعدم أحدهما يكون قيام الخيمة بقاء بذلك العمود الباقي ، كما أنّه هو كذلك بالوجدان.

فلو فرضنا قيام الخيمة حدوثا بأحد العمودين ، ثمَّ في زمان ارتفاع ذلك العمود قام عمود آخر مقامه ، فالحدوث مستند إلى علّة ، وبقاء الخيمة إلى علة أخرى ، لا أنّ تلك الخيمة بواسطة ارتفاع العمود الأوّل تنعدم وتوجد خيمة أخرى ، وفي الاعتباريات تصويره وإمكان وقوعه أسهل وأوضح ، كما أنّ في باب الخيارات يمكن أن يكون حدوث الخيار بموجب وبقاؤه بموجب آخر.

« والحاصل » أنّه لا مانع من كون حدوث شي ء بعلّة وبقائه بعلّة أخرى ، ولا يخرج ذلك الشي ء بواسطة تعدّد العلّة من حيث علّة الحدوث والبقاء عن الوحدة.

ثمَّ إنّه على تقدير جريان هذا الاستصحاب هل يعارضه استصحاب عدم الانفساخ - أي الأصل العدمي مقابل هذا الأصل الوجودي - أم لا ، فإنّهما إذا تعارضا يتساقطان ، فلا يبقى استصحاب حتّى يقال ببقاء الضمان حتّى بعد القبض؟

الظاهر عدم تعارض هذين الأصلين ، أي الأصل الوجودي والعدمي ، وذلك من جهة حكومة الأصل الوجودي هاهنا على الأصل العدمي ، لأنّ الشكّ في الانفساخ مسبّب شرعا عن الشكّ في بقاء الضمان ، وذلك من جهة أنّ بقاء ضمان المسمّى تعبّدا من إثارة الشرعي انفساخ المعاملة حتّى يرجع الثمن إلى المشتري الذي له الخيار وحده دون البائع ، ومعلوم أنّ الاستصحاب في جانب السبب يرفع موضوع استصحاب المسبّب تعبّدا وفي عالم التشريع.

تذييل : وهو أنّ هذه القاعدة هل تختصّ بالمبيع والثمن الشخصيّين ، أو تشمل الكليّين منهما؟

ص: 151

مثلا لو باع عبدا أو حيوانا ورفع الغرر بذكر الأوصاف بكذا درهم أو دينار أيضا كليّين ، لا الدرهم أو الدينار الشخصيّين ، فالبائع سلّم إلى المشتري مصداقا من مصاديق ذلك الكلّي وأقبضه إيّاه ، فتلف ذلك المصداق في يد المشتري في زمان خياره المخصوص به.

فهل تشمل هذه القاعدة مثل هذه المورد ، فتجب على البائع ردّ مصداق الثمن الكلّي إن كان قبضه ، أو لا تشمل فلا تنفسخ المعاملة ، بل مال المشتري تلف في يده ، ولا ضمان على أحد لا على المشتري ولا على غيره ، لأنّ مال شخص تلف عند نفسه فلا وجه للضمان ، لا المسمّى ولا الواقعي؟

فنقول : الظاهر عدم شمولها للثمن أو المبيع الكليّين.

أمّا أوّلا : فمن جهة ظهور قوله علیه السلام في صحيحة ابن سنان « فهلك في يد المشتري » في أن يكون التالف في يد المشتري هو نفس المبيع ، لا الفرد المنطبق عليه المبيع الكلّي. وقد عرفت أنّ العمدة في دليل هذه القاعدة هي الروايات ، وهي لا تدلّ على أزيد ممّا كان المبيع شخصيّا ، ففي المبيع الكلّي يحتاج إتيان هذه القاعدة إلى دليل ، وهو مفقود في المقام.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ المبيع إذا كان شخصيّا فبعد قبض المشتري له وتلفه في يده فإنّ حكم الشارع بأنّه - أي التلف من مال البائع - معناه أنّ التلف وقع في ملك البائع وماله ، وهذا لا يمكن إلاّ بانفساخ العقد آنا ما قبل التلف حتّى يكون التلف في ملك البائع ، وإلاّ فمال المشتري تلف في يده ولا معنى لأن يكون شخص آخر ضامنا له.

وأمّا إذا كان المبيع كليا ، وأعطى البائع مصداقا من ذلك الكلّي للمشتري ، وتلف ذلك الفرد المنطبق عليه الكلّي في يده فلا يلزم منه انفساخ العقد إن حكم الشارع بأنّ التلف وقع في ملك البائع ، من جهة أنّ ذلك الفرد ليس هو المبيع حتّى يكون العقد برجوعه إلى البائع منفسخا ، بل العقد باق ويعطي فردا آخر للمشتري مع أنّ ظاهر

ص: 152

القاعدة في موارد انطباقها هو الانفساخ.

وأمّا القول بأنّ ذلك الفرد المنطبق عليه الكلّي بعد انطباقه عليه يكون بالحمل الشائع هو المبيع - فرجوعه إلى البائع معناه الانفساخ والانحلال - فعجيب ، لأنّ المدار في الانفساخ عدم إمكان تسليم البائع للمبيع إلى المشتري بعد تلف ما هو المبيع في يد المشتري ، والمفروض ليس كذلك.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : القدر المسلّم منها هو فيما إذا تلف المبيع في يد المشتري بعد قبضه إيّاه في خيار الحيوان وخيار الشرط ، وأمّا فيما عداهما ، أمّا خيار المجلس فيظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه الميل إلى شموله له ، وإن قال : « على إشكال » (1). وأمّا سائر الخيارات المتّصلة بالعقد فجريانها فيها في خصوص المثمن لا يخلو من وجه ، وهو عبارة عن عموم التعليل في صحيحة ابن سنان المستفاد من قوله علیه السلام : « حتّى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري » وان تأمّل الشيخ الأعظم في هذه الاستفادة (2) ، وعلى أيّ حال تقدّم تفصيل الكلام فيه في الجهة الثانية.

وأمّا الخيارات المنفصلة عن العقد ، كخيار الشرط إذا كان الشرط أي الخيار المجعول منفصلا عن العقد ، فقد تقدّم الإشكال

في جريان القاعدة ، لظهور كلمة « حتّى ينقضي الشرط » في كونه من ابتداء المعاملة إلى انقضائه - أي الشرط - على كلام وإشكال منّا ، تقدّم في الجهة الثانية.

وأمّا شمولها للثمن فقد تقدّم أنّه تابع لأن يكون هذا الحكم الكلّي - أي التلف في

ص: 153


1- « المكاسب » ص 301.
2- المصدر.

زمن الخيار من مال من لا خيار له - على طبق القواعد الأوّلية أم لا بل حكم تعبّدي مستنده الإجماع والأخبار. فبناء على الأوّل تشمل ، وبناء على الثاني فقوله علیه السلام : « فهو من مال بائعه » أي تلف المثمن في أيّام خيار المشتري في يده من مال البائع ، فإسراء هذا الحكم إلى الثمن وتلفه في يد البائع في أيّام خياره المختصّ به من مال المشتري أشبه بالقياس ، بل هو نفسه. وقد تقدّم كلّ ذلك فلا نطول المقام.

وأما جريانها في المبيع الكلي فيما إذا طبق البائع على فرد ومصداق وأعطاه وسلّمه إلى المشتري ، فقد تقدّم الكلام والإشكال في شمولها له فلا نعيد.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 154

20 - قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات

ص: 155

ص: 156

قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات (1)

ومن القواعد الفقهيّة المعروفة بين الفقهاء أنّه « يحرم أخذ الأجرة على كلّ ما هو واجب عليه ».

فنقول : اختلف الفقهاء في أنّه هل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات أم لا؟

فالمشهور ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا ، بل ادعى جماعة الإجماع عليه ، كما في الرياض (2) ، وجامع المقاصد (3) في بعض فروع المسألة ، وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا ، وبعضهم فصّل بين التعبّدي والتوصّلي ، فقال بالجواز في خصوص الثاني ، وفصّل آخرون بين التعييني والتخييري ، وجماعة أخرى بين الكفائي والعيني ، وبعضهم فصّل بين الكفائي والتوصّلي فقال بالجواز ومنع في سائر الأقسام ، إلى سائر التفاصيل التي يجدها المتتبّع في كلام القول لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة ، ويعلم منه قهرا حال سائر الأقوال.

فنقول : إنّ الحقّ في المقام هو عدم جواز أخذ الأجرة بل مطلق العوض - بأيّ عنوان كان ، سواء أكان من باب الإجارة أو من باب سائر العقود المعاوضيّة - على مطلق ما هو واجب على الإنسان فعله ، سواء أكان واجبا عينيّا أو كفائيّا ، أو تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبّديّا أو توصّليّا ، إلاّ على احتمال في التخيير الشرعي.

ص: 157


1- (*) « بلغة الفقيه » ج 2. ص 3 - 44 ، « رسالة في حرمة أخذ الأجرة على الواجبات » ( اصفهانى ) مع « الحاشية على المكاسب » ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 119 ، « قواعد فقهي » ص 149 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ص 510.
2- « رياض المسائل » ج 1 ، ص 505.
3- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 36.

نعم هناك شي ء يجب التنبيه عليه وهو أنّ هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشي ء واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، وأمّا إذا كان واجبا بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الأجرة عليه ، وسيأتي تفصيل هذا الكلام وتحقيقه عند التكلّم في الواجبات النظاميّة إن شاء اللّه تعالى.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا بدّ في تحقيق المقام من تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه يشترط في صحّة عقد الإجارة - بل في سائر العقود المعاوضيّة التي تقع على الأعمال - أمور :

الأوّل : أن لا يكون سفهيّا ، أي يكون في العمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء تعود إلى المستأجر ، وإلاّ يكون أكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل وهذا واضح جدا.

الثاني : أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر لأنّ حقيقة الإجارة هي تمليك العمل للمستأجر بعوض مالي معلوم في إجارة الأعمال ، فإذا لم يكن هذا العمل قابلا لأن يملكه المستأجر فتكون هذه المعاوضة باطلة ، لأنّ حقيقة المعاوضة بين شيئين لا يتحقّق إلاّ بعد إمكان أن يدخل كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر ، وهذا أمر زائد على الشرط الأوّل ، لأنّه من الممكن أن تعود منفعة العمل إلى شخص بدون دخول العمل في ملكه.

الثالث : أن يكون العمل مقدورا للعامل تكوينا وتشريعا ، وفعلا وتركا.

أمّا اشتراط القدرة التكوينيّة في العمل المستأجر عليه بالنسبة إلى العامل فمعلوم ، لأنّه لو كان عاجزا عن العمل - والمفروض أنّ الإجارة وقعت على عمله مباشرة - فلا يقدر على تسليم العمل الذي استؤجر عليه ، ومعلوم أنّ مثل هذه المعاملة لغو في نظر العقلاء ، ويكون من قبيل « وهب الأمير ما لا يملكه ».

وأمّا اشتراط القدرة التشريعيّة فلأنّ الشارع لو سلب القدرة في عالم التشريع عن مثل هذا العمل فيرى العامل في عالم اعتباره التشريعي عاجزا فيرى المعاملة باطلة.

فظهر أنّ صحّة المعاملة في باب إجارة الأعمال متوقّفة على أن يكون الأجير قادرا

ص: 158

على فعل العمل وتركه تكوينا وتشريعا.

إن قلت : عرفنا لزوم القدرة على الفعل ، ولكن لما ذا يلزم القدرة على الترك؟

قلنا : لأنّ معنى مقدوريّة فعل من الأفعال هو أن يكون الفعل والترك بإرادته وتحت اختياره ، وإلاّ لو كان الفعل ضروريّا ، كحركة الارتعاش في اليد مثلا ، لا يقال إنّ هذا الفعل مقدور له.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إن الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييري الشرعي التوصلي - على احتمال سيأتي - لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري - أي يكون المطلوب منه العمل الصادر ، لا جهة إصدار العمل ، لأنّ في العمل جهتين : إحداهما نفس الصادر ، والثانية جهة إصداره ، أي فاعليّة العامل لهذا العمل. وربما يكون هذا هو المراد من قولهم : جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر ، بخلاف اسم المصدر - فلا يمكن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ الفعل والعمل بواسطة الإيجاب خرج عن تحت قدرته واختياره تشريعا ، لأنّ الشارع في عالم تشريعه يرى العمل ضروري الوجود وأنّه ليس للمكلف تركه ، فكما أنّ في الحركة الارتعاشيّة في عالم التكوين ليس له تركه وخارج عن تحت قدرته تكوينا ، كذلك في جميع الواجبات في باب الأعمال إذا كانت واجبة بالمعنى الاسم المصدري تخرج عن تحت قدرة المكلف تشريعا ، فليس بقادر على العمل تشريعا.

وقد ذكرنا في المقدّمة إناطة صحّة الإجارة على أن يكون العمل مقدورا تكوينا وتشريعا ، ولذا قلنا بعدم صحّة الإجارة على الفعل المحرّم.

فالحاصل أنّ العمدة في عدم صحّة أخذ الأجرة على الواجبات بحيث يكون وافيا بجميع أقسام الواجب - من التعبّدي والتوصّلي ، والعيني والكفائي ، والتعييني والتخييري ، والنفسي والغيري - هو هذا الوجه ، وإلاّ سائر الوجوه التي ذكروها إمّا غير تامّ في حدّ نفسه ، أو أخصّ من المدعى.

ص: 159

ومن جملة الوجوه التي ذكروها في المقام هو الإجماع على عدم الصحّة.

ولكن أنت خبير أوّلا بأنّ الإجماع في أمثال هذه المسائل التي مدرك المجمعين ومستند المتّفقين معلوم ليس من الإجماع المصطلح عند المتأخرين الذي بنينا على حجيّته ، بل لا بدّ من الرجوع إلى مداركهم والنظر فيها ، وأنّها هل صحيحة هي أم لا؟

وثانيا : كيف يمكن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة التي اختلاف الأقوال فيها بهذه الكثرة.

ومن جملتها منافاة أخذ الأجرة لقصد الإخلاص والقربة.

وأجاب عن هذا صاحب الجواهر قدس سرّه بأنّ الإجارة توجب تأكّد الإخلاص ، لأنّ الوجوب يتضاعف بسبب الإجارة (1).

وأورد عليه شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه ، بأنّ العمل الذي ليس فيه أجر دنيوي ، وكون الداعي على إتيانه فقط هو امتثال أمر اللّه تعالى ، قطعا أخلص من العمل الذي فيه أجر دنيوي ، ويكون تمام الداعي أو بعضه على الإتيان ذلك الأجر ، بل إذا كان تمام الداعي ذلك الأجر الدنيوي فلا إخلاص فيه أصلا ، لا أنّ العمل المجرّد أخلص فقط (2).

فالإنصاف أنّ أخذ الأجرة في العباديات ينافي الإخلاص وقصد القربة ، وإنكاره مكابرة.

ولكن هذا الدليل كما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرّه أخصّ من المدّعى ، من جهة عدم شموله للتوصّليّات ، بل أعمّ من المدّعى من وجه ، لجريانه في المندوبات التعبّديّة التي هي مندوبة ومستحبّة على نفس الأجير (3).

إن قلت : إن كان أخذ الأجرة ينافي الإخلاص فما تقول في العبادات المستأجرة

ص: 160


1- « جواهر الكلام » ج 22 ، ص 117.
2- « المكاسب » ص 62.
3- المصدر.

التي كانت واجبة على المنوب عنه ، وذلك كإجارته للحج عن قبل الميّت أو للصلاة عن قبله ، فإنّ جواز الإجارة مع وقوع العمل والعبادة صحيحا إجماعي ، فلو كان أخذ الأجرة ينافي العباديّة ووقوع العمل متقرّبا لما وقع صحيحا.

قلت : أجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها : أنّ أخذ الأجرة من قبيل الداعي على الداعي ، أي يصير داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره ، كما أنّ في باب الأمر بالمعروف رهبة وخوفا من الآمر بالمعروف لكن يكون خوفه داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره ، وإلاّ لا يكاد يتحقّق الأمر بالمعروف إذا كان عبادة ، لأنّه لو أنكرنا مسألة الداعي على الداعي فلا يقدر على إتيان المعروف بعد ما كان الداعي على الإتيان هو الخوف عن الآمر بالمعروف.

وهكذا مورد إتيان العمل العبادي رغبة في أمور دنيويّة مترتّبة على العبادة ، كسعة الرزق ، أو طول العمر ، أو الصحّة والعافية وأمثال ذلك ، فلو لم تكن هذه الأمور دواع على إتيان العمل بداعي أمره ، وكان لا يعقل لما كان العمل صحيحا والعبادة واقعة إذا أتى بأحد هذه الدواعي الدنيويّة ، مع أنّ صحّتها ووقوعها على الظاهر من المسلّمات ، بل ورد في بعض الروايات أنّه أفعل كذا إذا أردت قضاء حاجتك الفلانيّة مثلا.

وهذا الوجه لو تمَّ لا اختصاص له باب أخذ الأجرة في النيابيّات ، بل يجري أيضا في محلّ البحث ، أي في العبادات الواجبة على نفس الأجير.

ولكن أنت خبير بأنّ حديث الداعي على الداعي ليس إلاّ صرف عبارة. لسنا نقول إنّ الداعي على الداعي لا يمكن ، كيف وإن الداعي على الداعي في الدواعي الطوليّة أمر ضروري ، مثلا يحفر القناة لأجل الماء ، ويريد الماء لأجل الزرع ، ويزرع لأجل تحصيل الحنطة ، ويريد تحصيل الحنطة لأجل قوته وقوت عياله ، ففي الحقيقة العلّة المحرّكة لحفر القناة ليس إلاّ قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلا لم يقدم على الحفر أصلا.

ص: 161

وبعبارة أخرى : في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلّة الأصليّة للعمل هو الداعي الأوّل ، فإنّه هو المحرّك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلا. فإن اعترفت هاهنا أيضا بأنّه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقّق الإخلاص. ولعمري هذا واضح جليّ ، اللّهمّ إلاّ أن يراد بقصد الإخلاص صرف الخطور بالبال ، وما أظنّ أن يلتزم به هذا القائل.

وأمّا حديث الأمر بالمعروف ، فنقول : في الفرض الذي فرضت ، إذا كان الداعي على العمل ليس إلاّ الخوف فهذا العمل لا يقع عبادة البتّة ، وإنّما الأمر إليه وجب في الواجبات واستحبّ في المستحبات ، إمّا لأجل أنّ نفس هذه الصورة محبوبة عند اللّه تعالى لحكم ومصالح ، وإمّا من جهة أنّه يتمرن ويتعود حتّى يسهل عليه العمل فيأتي بداعي أمره بعد هذا ، كما أنّه المعروف من بعض أكابر العلماء في البلاد ، حيث كان يجبرهم على صلاة الجماعة لأجل أن يتعوّدوا فيعملوا فيما بعد بداعي أمره.

وأمّا إتيان العبادة بداعي الأثر الدنيوي المترتّب عليه فقياسه على المقام فاسد ، لأنّ الآثار الدنيويّة المترتّبة على امتثال الأمر ، قصدها لا ينافي قصد الأمر وقصد القربة.

بيان ذلك : أنّ حقيقة قصد القربة وإتيان العمل بقصد الإخلاص معناه إتيانه لمحبوبيّته عند اللّه تعالى ، وذلك يحصل بأحد الأمور الثلاثة :

إمّا أن يكون محرّكه على الإتيان هو نفس أمره تعالى ولا شكّ أنّ هذا المعنى محبوب له تعالى ومثل هذا العمل تعبّد له.

وإمّا أن يكون الداعي له على إيجاد العمل ما هو واقع في سلسلة علل الأمر ، كالمصلحة الموجبة للأمر ، فلو أوجد العمل بداعي المصلحة التي هي موجبة للأمر لكان متقرّبا ، لأنّ مثل هذا المعنى محبوب له تعالى ، ولذلك أمر به.

وقد أجيب عمّا استشكل به البهائي قدس سرّه - في مبحث الضدّ من إنكاره الثمرة بأنّ العبادة باطلة على كلّ حال سواء قلنا بالاقتضاء أم لا ، لعدم الأمر واحتياج العبادة

ص: 162

إلى الأمر ، لأنّ التقرّب المعتبر في العبادة لا يحصل إلاّ بقصد الأمر بأنّ قصد المصلحة كاف في تحقّق العبادة.

وإمّا أن يكون الداعي ما هو واقع في سلسلة معاليل الأمر ، سواء أكان من الأمور الأخرويّة ، كتحصيل الدرجات المترتّبة على العبادة ، أو الفرار عن الدركات المترتّبة على عدمها ، أو كان من الأمور الدنيوية ، كسعة الرزق ، أو برئ مرض وأمثال ذلك.

وأمّا إن كان المحرّك لا يرجع إلى أحد هذه الثلاثة - بل كان أمرا دنيويّا أجنبيّا عن العبادة بالمرّة - فلا يمكن تحقّق الإخلاص والعبادة بمثل هذا الداعي ، فتصحيح أخذ الأجرة على الواجب العبادي على الأجير وعدم منافاته للإخلاص - بأنّه من قبيل الداعي على الداعي - ممّا لا يمكن المساعدة عليه. ويقول شيخنا الأستاذ قدس سرّه : عدّ هذا إشكالا أولى من عدّه جوابا عن الإشكال (1).

ومنها : أنّ فعل النائب والأجير فعل تسبيبي للمستأجر ، وبعبارة أخرى : العمل الصادر من الأجير له نسبتان : نسبة إلى الأجير باعتبار أنّه مباشر له ، ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنّه مسبّب له ، فيصحّ إسناد العمل إلى كلّ واحد منهما وأن يقال لكلّ واحد منهما : أنّه فاعل لهذا العمل ، فله فاعلان : فاعل تسبيبي ، وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل ، وهاهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد الفاعل الآخر ، أي الفاعل المسبّب أعني المستأجر.

وهذا الجواب أيضا لو صحّ لا اختصاص له بباب النيابة ، بل يجري فيما إذا كان العمل المستأجر عليه هو الواجب على نفس الأجير.

وفيه : أنّ حديث وقوع العمل الصادر عن الأجير بصفة العبادية بواسطة صدور قصد القربة من المستأجر من أعجب الأعاجيب ، لأنّ العمل الذي يصدر من الفاعل

ص: 163


1- « منية الطالب » ج 1 ، ص 17.

المباشر بداع شهواني مثلا ، كيف يعقل أن يصير عباديّا بواسطة قصد القربة من شخص آخر.

وأمّا حديث بناء المسجد الذي يصدر من البنّاء بداعي أخذ الأجرة وهو الفاعل المباشر - ومع ذلك يصير قربيّا بواسطة صدور قصد القربة من الفاعل التسبيبي ، أي الذي يعطي الأجرة - فهو أجنبي عن المقام ، لأنّ العبادة هناك عبارة عن نفس التسبيب وصرف الدراهم والدنانير لأجل بناء المسجد ، فلو فعل هذه الأشياء بداع شهواني كالشهرة والسمعة ، أو الرياء وأمثالها لا يقع عمله عبادة ، لا عمل الأجير البناء فإنّ عمله لا يقع عبادة إذا كان بداعي أخذ الأجرة ، سواء أكان معطي الأجرة قاصدا للقربة في بذله أم لا.

وبعبارة أخرى : لو كان عمل الأجير في نفس المثل فرضا من العباديّات وقد أتى به بقصد أخذ الأجرة لا يقع صحيحا ، سواء قصد باذل الأجرة القربة أم لا. وحيث أنّه لا دليل على لزوم أن يكون البنّاء الصادر من البناء الذي يبنى المسجد قربيّا وعباديّا بل يكفي قصد القربة من الواقف لأنّ فعله - أي الوقف - عبادي ، لا فعل البنّاء ، فلا مانع للبناء الأجير أن يأخذ الأجرة ، لأنّ فعله ليس بعبادة ، ولا فرق بين أن يشتغل في بناء خان ، أو دكان ، أو مسجد من جهة عدم كون عمله عبادة في الجميع.

ومنها : أنّ أخذ الأجرة في باب العبادات المستأجرة على إهداء الثواب إلى المنوب عنه.

وهذا أعجب من سابقة وإن كان صادرا عن بعض الأعاظم 5 لأنّ المفروض صحّة الإجارة على العبادة الواجبة على الغير بحيث يشتغل ذمّة الأجير بما كان مشغول ذمّة المنوب عنه بعد الإجارة. ومسألة إهداء الثواب أجنبيّة عن هذا الباب بالمرّة ، فهو في الحقيقة اعتراف بالإشكال ، وعدم إمكان دفعة.

والصواب في الجواب هو ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه في الجواب عن هذا

ص: 164

الإشكال بإبداء الفرق بين المقامين ، أي باب أخذ الأجرة على الواجب على غير الأجير كما في باب النيابات ، وبين ما كان العمل المستأجر عليه واجبا على نفس الأجير (1).

بيان ذلك وتوضيحه : أنّ في باب الإجارة على ما هو الواجب على نفس الأجير ، كما إذا آجر نفسه على أن يصلّي صلاة الظهر لنفسه ، فمتعلّق الأمر الإجاري ليس إلاّ ذات العمل ، غاية الأمر مقيّدا بإتيانه بقصد القربة ، وكذلك متعلّق الأمر العبادي ليس إلاّ ذات العمل ، إمّا وحده إذا قلنا بأنّ قصد الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر ، لا بأمر واحد ولا بأمرين بل يكون بحكم العقل ، وإمّا مقيّدا بقصد الأمر بناء على ما هو التحقيق عندنا من إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه بأمرين وجعلين ، يكون أحدهما متمّما للآخر.

وعلى كلّ فمتعلّق كلا الأمرين - أي العبادي والإجاري - واحد بالنسبة إلى ذات العمل ، أعني نفس المقيّد غاية الأمر بناء على ما هو التحقيق يكون المتعلّق واحدا في مجموع القيد والمقيّد ، وبناء على القول الآخر في خصوص نفس المقيد ، أي ذات العمل وكلا الأمرين متوجهان إلى الأجير. وهذا واضح.

وأمّا في باب النيابات : فهما مختلفان من كلتا الجهتين : أمّا من جهة التوجه والمخاطب - فالأمر العبادي متوجّه إلى المنوب عنه ، والأمر الإجاري مخاطبة الأجير ويكون متوجّها إليه. وأمّا من جهة المتعلّق فالأمر العبادي المتوجّه إلى المنوب عنه بالأعمّ من المباشرة والنيابة متعلّق بذات العمل ، إمّا وحده وإمّا مقيّدا بقصد الأمر على القولين. والأمر الإجاري متعلّق بجعل نفسه نائبا عن الميّت أو عن الحيّ الذي ناب عنه في إتيانه هذا العمل بقصد الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه لا المتوجّه إلى نفسه.

وهذا الفرق أوجب صحّة الإجارة في باب النيابيّات وعدم الصحّة فيما هو واجب

ص: 165


1- « المكاسب » ص 65.

على نفس الأجير.

بيان ذلك : أنّ الأجير إذا أخذ الأجرة على إتيان ذات العمل بقصد الأمر المتوجّه إلى نفسه - كما هو المفروض في باب إجارة ما هو الواجب على نفس الأجير - فلا يمكن أن يكون صدور هذا العمل منه بداعي الأمر المتوجّه إليه ، لأنّ المفروض أنّ المحرّك له إلى العمل هو الأمر الإجاري التوصّلي.

وبعبارة أخرى : يكون صدور العمل لأجل الوفاء بالإجارة وإعطاء حقّ الغير.

إن قلت : من الممكن أنّه لا يعتني بأمر الإجاري ، بل ليس غرضه من إيجاد العمل إلاّ امتثال الأمر العبادي المتوجّه اليه ، بحيث لو لم يكن ذلك الأمر العبادي في البين لم يقدم على الإتيان أصلا ، بل كان يعصي الأمر الإجاري التوصّلي.

قلنا : نعم إنّ هذا أمر ممكن في بعض الأحيان ، ولكنّه لا بدّ في الأمر الإجاري أن يكون المكلّف بحيث لو أراد أن يوجد العمل المستأجر عليه بقصد الوفاء بذلك الأمر الإجاري لكان له ممكنا.

وبعبارة أخرى : لا بدّ أن يكون ممكنا للأجير إتيان العمل بقصد تفريغ ذمّته وإعطاء حقّ الغير ، ومعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يمكن بالنسبة إلى ما هو الواجب على نفس الأجير تعبديا لمنافاته للإخلاص.

وأمّا إذا أخذ الأجرة على جعل نفسه نائبا عن قبل الغير في إتيان عمل عبادي كان واجبا عليه - أي على ذلك الغير لا على نفسه - فلا ينافي ذلك الإخلاص ، لأنّ أخذ الأجرة على جعل نفسه نائبا ، لا على إتيان العمل بقصد أمره حتّى تقول إنّ المحرّك إلى العمل في الحقيقة هو أخذ الأجرة ، وجعل نفسه نائبا ليس أمرا عباديّا ، بل توصّلي يقع بقصدها بأي داع كان.

وبعبارة أخرى : هاهنا أمران عرضيان ليس أحدهما في طول الآخر حتّى يكون من قبيل الداعي على الداعي :

ص: 166

أحدهما : جعل نفسه نائبا الذي قد يفعله تبرّعا ، وهذا أمر توصّلي يقع بأيّ داع كان ، وهذا الأمر يقع متعلّقا للإجارة ولا يلزم منه محذور أصلا.

والثاني : إتيان العمل الذي كان واجبا على المنوب عنه ، وهذا أمر عبادي لكن لم تقع الإجارة عليه ، فما وقعت الإجارة عليه ليس بعبادي ، وما هو عبادي لم تقع الإجارة عليه.

إن قلت : إذا كانت الإجارة على صرف جعل نفسه نائبا فيستحقّ الأجرة بصرف هذا الجعل ولو لم يعمل ، وإن كان يشمل العمل أيضا فيعود المحذور.

قلنا : الإجارة على صرف جعل نفسه نائبا ، لكن في إتيان العمل الفلاني ، ومعلوم أنّ تحقّق عنوان النيابة في العمل الفلاني مثل كونه نائبا عن شخص في الحجّ مثلا لا يمكن وغير معقول بدون وجود العمل الفلاني ، فوجود العمل الذي جعل نفسه نائبا عنه في إتيان ذلك العمل عنه مقدّمة لتحقّق عنوان النيابة التي استؤجر عليها ، لا أنّه بنفسه متعلّق للإجارة أو قيد لمتعلّقها.

قال الشيخ : الذي ينساق إليه النظر أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الأجرة على كلّ عمل كان له منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء ، وإن كان ذلك العمل واجبا على الأجير. ثمَّ قال رحمه اللّه : إنّ ذلك العمل بعد وقوعه متعلّقا للإجارة إمّا صالح لأن يمتثل به الواجب المذكور ، أو كان ممّا يسقط الواجب به أو عنده فقد حصل الأمران ، أي برأيه ذمّته عن الواجب واستحقاقه للأجرة ، وإلاّ يستحقّ الأجرة فقط ، ويبقى الواجب في ذمّته لو بقي له وقت يمكن إتيانه فيه ، أو كان ممّا له القضاء فيقضيه ، وإلاّ يكون متعاقبا على تركه وعصيانه عن عمد (1).

وبعبارة أخرى : صرف وجوب الشي ء ليس بمانع عن أخذ الأجرة عليه ، بل هاهنا تفصيل وهو أنّ الواجب على الأجير إمّا من قبيل الواجب العيني التعييني ، أم لا.

ص: 167


1- « المكاسب » ص 63.

فالأوّل لا يصحّ أخذ الأجرة عليه ولو كان للعمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء.

وحاصل ما أفاد في وجه المنع أنّ مثل هذا العمل ليس بمحترم ، فأكل المال بإزائه أكل بالباطل ، لأنّه مقهور على إيجاده ، وليس له أن يتركه في عالم التشريع ، بل لو أراد أن يتركه يجبر على الإتيان من باب الأمر بالمعروف ، طاب نفسه على الإتيان أم لا ، وما هذا شأنه خارج عن تحت قدرته واختياره في عالم التشريع ، فلا يصحّ أخذ الأجرة عليه ، لما ذكرنا في المقدّمة من اشتراط صحّة الإجارة بأمور ثلاثة :

أحدها : أن يكون الأجير قادرا على إتيان العمل الذي يوجر نفسه عليه ، ولا فرق بين عدم القدرة التكوينيّة والتشريعيّة. ثمَّ يقول : لا فرق في هذا بين التعبّدي والتوصّلي ، غاية الأمر الواجب التعبّدي إذا كان عينيّا تعيينيّا يختصّ بوجه آخر.

مضافا إلى هذا الوجه وهو منافاة أخذ الأجرة مع الإخلاص وقصد القربة كما تقدّم.

ثمَّ يجيب عن النقض الوارد عليه بجواز أخذ الأجرة للوصي على عمله بعد أن أوقعه وعمل - مع أنّ العمل واجب عيني تعييني على الوصي بعد أن قبل الوصيّة ، أو وصل الخبر اليه بعد موت الموصي - بأنّه ليس من باب أخذ الأجرة وتحقّق المعاملة الخاصّة ، بل حكم شرعي أجاز الشارع أن يأخذ الوصي بدل عمله ، ولا ربط له بباب الإجارة أصلا.

هذا حاصل ما ذكره قدس سرّه في الواجب العيني التعييني ، وأمّا سائر شقوق الواجب وأقسامه فسننقل كلامه مع ما فيه إن شاء اللّه.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه في هذا المقام ، الذي نقلناه بطور الخلاصة والمعنى إلى هاهنا ، فيه مواقع للنظر.

أمّا أوّلا : قوله : إنّ كلّ ما له منفعة محللة عقلائيّة يجوز أخذ الأجرة عليه نقول : صرف هذا المعنى لا يكفي في صحة الإجارة ، بل يحتاج إلى أمرين آخرين :

ص: 168

أحدهما : أن يكون العمل تحت اختياره وقدرته ، بمعنى أن يكون الأجير قادرا على الفعل والترك تكوينا وتشريعا ، فلو كان عاجزا عن الفعل أو الترك تكوينا أو تشريعا ، كما أنّ المكلّف عاجز عن الفعل تشريعا في المحرّمات ، وعن الترك في الواجبات ، فلا يصحّ أخذ الأجرة على مثل هذا العمل لأنّه بواسطة الوجوب مقهور على الفعل وليس له أن يترك.

ثانيهما : أن يكون العمل قابلا للتمليك ، بحيث يمكن أن يصير ملكا للمستأجر ، لأنّ حقيقة الإجارة هو تمليك منفعة أو عمل بعوض مالي معلوم.

إذا تبيّن هذا فنقول : إنّ قوله قدس سرّه : إنّ كل ما له منفعة محلّلة عقلائية يجوز أخذ الأجرة عليه - ولو كان واجبا وصرف الوجوب ليس مانعا عن جواز أخذ الأجرة - ليس كما ينبغي ، لأنّ صرف الوجوب وطبيعته ، كان متخصّصا بأيّ خصوصيّة وتحقّق في ضمن أيّ قسم من أقسامها ، أي سواء كان عينيّا أم كفائيّا ، وسواء أكان تعيينيّا أم تخييريا ، وسواء أكان نفسيّا أم غيريّا.

وكلّ واحد من هذه الأقسام تعبديّا كان أم توصليا ، أصليّا كان في مقام الإثبات أم تبعيّا مانع عن صحّة الإجارة على نفس الواجب الذي هو محلّ الكلام ، وأمّا تعلّق الإجارة بأمر خارج عمّا هو متعلّق الوجوب فخارج عن محلّ الكلام.

والحاصل : أنّ ما تعلّق به الوجوب خرج عن تحت قدرة الأجير على فعله وتركه في عالم الاعتبار التشريعي ، ويراه الشارع في عالم اعتباره التشريعي واجب الوجود ولا يرضى بتركه ، ويرى المكلّف الأجير ملزما بفعله ، فنفس طبيعة الوجوب منافية لأخذ الأجرة ، غاية الأمر إذا كان تعبديّا تنضمّ إليه جهة أخرى أيضا ، وهي منافاته مع قصد القربة.

وأمّا ثانيا : ما يقول في استحقاق الأجير الأجرة على كلّ حال ، غاية الأمر إذا كان العمل الواجب ممّا يمتثل به الواجب أو يسقط الواجب به أو عنده ، فيبرأ ذمته عن

ص: 169

الواجب أيضا علاوة على استحقاق للأجرة ، وإلاّ يبقى الواجب في ذمّته لو بقي وقته ، وإلاّ عوقب على تركه ، فتصوير استحقاق الأجير للأجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الإشكال ، لأنّ الإجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه ، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحقّ الأجرة بناء على الجواز ، وإلاّ لم يستحقّ الأجرة أيضا. فالتفكيك بينهما لا نعقله ، بل لو كان توصليّا وقلنا ببطلان الإجارة كما هو التحقيق يسقط الواجب ولا يستحقّ الأجرة.

نعم إذا كان تعبديّا ، وقلنا بأن قصد القربة لا يتحقّق منه فلا يحصل كلا الأمرين ، أي لا يسقط الواجب ولا يستحقّ الأجرة ، مع أنّه هناك أيضا مقتضي بطلان الإجارة وإمكان تحقق قصد القربة سقوط الواجب بالامتثال وعدم استحقاقه للأجرة. وعلى كلّ تقدير استحقاقه للأجرة مع عدم سقوط الوجوب شي ء لا نعقله.

وأمّا ما ذكره من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب العيني التعييني فحقّ لا محيص عنه ، وقد أجاد فيما أفاد في وجه ذلك ، فجزاه اللّه خير الجزاء.

وأمّا ما ذكره أخيرا من جواب النقض عليه بجواز أخذ الوصي أجرة عمله بأنّه حكم شرعي فعجيب ، لأنّ ما يأخذه بعنوان أجرة عمله لا بعنوان التعبّد وأنّه إلزام من قبل الشرع بإعطائه مجّانا ، فلو كان عمله غير محترم كما هو اعتراف شيخنا قدس سره في هذا المقام فليس له أخذ شي ء بعنوان بدل عمله ، فإنّه أكل بالباطل كما هو مصرّح به في كلامه (1).

والثاني ، أي ما ليس من قبيل الواجب العيني التعييني ، فهو إمّا من قبيل التخييري ولو كان عينيّا ، أو من قبيل الكفائي ولو كان تعيينيّا.

أمّا التخييري فهو إمّا توصّلي أو تعبّدي ، فإن كان توصّليّا قال شيخنا الأعظم قدس سرّه : لا أجد مانعا عن جواز أخذ الأجرة على أحد فرديه بالخصوص ، ثمَّ يمثّل لذلك بما إذا

ص: 170


1- « المكاسب » ص 63.

تعيّن دفن ميّت على شخص وتردّد الأمر بين حفر أحد موضعين يكون أحدهما راجحا عند الولي لغرض من الأغراض فيستأجره على حفر ذلك الموضع الخاصّ ، لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجبا عليه مقدمة للدفن (1).

وأنت خبير بأنّه فرق واضح بين أن يستأجره لإيجاد الخصوصيّة فقط - التي هي خارجة عن متعلّق الوجوب ، ولا يتحقّق إلاّ فيما كان للخصوصيّة وجود مستقلّ ، ولو كان ملازما ومنضمّا إلى الطبيعة دائما بحيث لا تنفكّ عنها - وبين أن يستأجره لإيجاد الطبيعة المتخصصة كما هو المفروض في مثال الشيخ.

ولا شكّ في أنّ في القسم الثاني الذي هو ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدس سرّه يتّحد متعلّق الوجوب والإجارة في نفس الطبيعة ، وهذا موجب لبطلان الإجارة بعين البرهان الذي تقدّم في الواجب التعييني ، بل هو عين التعييني ، لأنّه ليس هناك واجب تعييني لا يتطرّق فيه التخيير العقلي إلاّ فيما شذّ وندر ، أي فيما إذا تعلّق الوجوب بشخص فعل ممتنع الصدق على كثيرين ، كالصوم في شهر رمضان ، أو النذر المعيّن ، مع أنّه بالنسبة إلى صوم شهر رمضان أيضا يعقل التخيير بالنسبة إلى الأمكنة. نعم في نذر المعيّن لو عيّن جميع جهاته من الزمان والمكان وسائر الجهات يمكن فرض عدم مجي ء التخيير العقلي في البين أصلا.

نعم في القسم الأوّل لا مانع من أخذ الأجرة ، لكنّه خارج عن موضوع البحث ، لأنّ كلامنا في أخذ الأجرة على الواجبات وفي ذلك الفرض الواجب شي ء ومتعلّق الإجارة شي ء آخر.

وبعبارة أخرى : موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلّق الإجارة شيئا واحدا ، بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للأجير أمران : أحدهما : سقوط الواجب عن ذمّته.

ص: 171


1- المصدر.

والثاني : استحقاقه للأجرة.

وقد تقدّم الإشكال على شيخنا قدس سرّه حيث أنّه قال بإمكان التفكيك بين الاستحقاق للأجرة وسقوط الواجب عن عهدة الأجير.

هذا كلّه فيما إذا كان توصّليّا ، وأما إذا كان تعبّديّا - وذلك كغسل الميّت إذا تعيّن على شخص وتردّد الأمر بين أن يكون بماء الفرات أو بماء آخر مثلا - قال شيخنا قدس سرّه في هذا المقام أيضا : إن قلنا بكفاية الإخلاص في القدر المشترك ولو كان إيجاد الخصوصيّة لداع آخر فيجوز أخذ الأجرة على الخصوصيّة ، وإلاّ فلا (1).

وأنت خبير بأنّه لا وجه لعدم كفاية الإخلاص في القدر المشترك ، أترى أنّ أحدا يمكن أن يستشكل فيما إذا اختار المصلّي مكانا خاصّا لصلاته من جهة برودة الهواء وحسنها ، أو لداع آخر عقلائي فليس في المسألة إشكال من هذه الناحية أصلا ، بل الإشكال من الجهة التي تقدّمت في التوصّلي ، لأنّ ذلك الإشكال مشترك بين التوصّلي والتعبدي.

والحاصل أنّ اتّحاد الطبيعة مع الخصوصيّة في الوجود الخارجي لا يمنع من أن يكون قصدها للإخلاص وقصد الخصوصيّة لغرض آخر.

هذا كلّه كان في التخيير العقلي ، وأمّا التخيير الشرعي كخصال الكفّارة فهل يجوز أخذ الأجرة على اختيار أحد الأفراد ، أم لا؟

وليس في كلام شيخنا قدس سرّه تعرّض لهذا القسم أصلا.

والتحقيق فيه : أنّه إن قلنا بأنّ في التخيير الشرعي أيضا متعلّق الوجوب هو الجامع ، لامتناع قيام غرض واحد بالمتعدّد بما هو متعدّد - كما قيل - فمرجع التخيير الشرعي حينئذ إلى العقلي ، بل هو هو ، ويكون تسميته بالتخيير الشرعي من جهة خفاء الجامع عن نظر العرف وتصريح الشارع بالمصاديق ، فحاله حال التخيير العقلي

ص: 172


1- « المكاسب » ص 63.

- كما عرفت مفصّلا - بل هو هو.

ولكن هذا القول بمعزل عن التحقيق ، كما حقّق في محلّه في الأصول.

وإن قلنا بأنّ الواجب التخييري بالتخيير الشرعي عبارة عن تقييد إطلاق الواجب بعدم الاشتغال بعدله بمعنى أنّ كلّ واحد من الأفراد حقيقة متعلّق الوجوب ، غاية الأمر ليس وجوبه مطلقا بل مقيّد بصورة عدم الاشتغال بسائر الأفراد ، مثلا يجب إطعام ستّين مسكين أمّا لا مطلقا حتّى في صورة الاشتغال بأحد عدليه من صيام شهرين متتابعين أو تحرير رقبة ، بل مقيّد بصورة عدم الاشتغال بأحدهما ، فليس ملزما بإتيان أحد الأفراد بالخصوص ، ولا جامع في البين حتّى نقول ملزم بإتيان ذلك كما قلنا في التخيير العقلي ، فإذا لم يكن إلزام مطلق في البين فيبقى احترام عمله على حاله ، ولا يسقط بواسطة المقهوريّة.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ الشارع لم يلزم المكلّف بخصوص أحد الأفراد بل جوّز الانتقال إلى بدله واختيار عدله ، فاختيار أيّ واحد من الأفراد والعدول يبقى على احترامه ، ويجوز أخذ الأجرة عليه.

وأمّا الواجب الكفائي إن كان تعبّديّا فالأمر فيه واضح أنّ أخذ الأجرة مناف للإخلاص - كما بيّنّا وعرفت - وإن كان توصّليّا قال الشيخ قدس سرّه : لا مانع من أخذ الأجرة ويقع العمل لباذل الأجرة لا للعامل (1).

ولكن أنت خبير بأنّ الكلام في أخذ الأجرة على ما هو الواجب على نفس الأجير ، يعني يأتي بما هو الواجب على نفسه ويأخذ الأجرة عليه ، فوقوع العمل لغيره - أي المستأجر - مع أنّه أتى بما هو واجب على نفسه خلف.

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يملك المستأجر العمل الذي واجب على الأجير ولو كان الوجوب كفائيّا بعين البرهان الذي تقدّم في الواجب العيني التعييني ، من أنّ

ص: 173


1- « المكاسب » ص 63.

المكلّف ملزم بهذا الفعل ولا يجوز له تركه إلاّ في صورة اشتغال الغير ، وأمّا في صورة عدم اشتغال الغير - كما هو المفروض في المقام - فهو مقهور في الفعل وليس له الترك ، حتّى أنّه لو ترك يجبر من باب الأمر بالمعروف ، فلا يبقى لعمله احترام على مذاق شيخنا الأعظم قدس سرّه كما أفاده في مكاسبه (1) ، أو ليس بقادر على الفعل والترك في عالم التشريع وهو الملاك في عدم صحّة الإجارة عندنا.

والحاصل : أنّ كلّما كان واجبا على المكلّف سواء أكان وجوبه عينيّا أو كفائيّا ، تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبديّا أو توصليّا لا يجوز أخذ الأجرة عليه إلاّ في بعض أقسام التخييري ، أي التخيير الشرعي ، كما تقدّم. وما قلنا من جواز أخذ الأجرة في التخيير الشرعي هو فيما إذا لم يكن تعبّديّا ، وأمّا التعبّدي فلا يجوز مطلقا.

إذا عرفت ما ذكرنا - من عدم صحّة أخذ الأجرة على جميع أقسام الواجبات - فيرد الاشكال المشهور ، وهو أنّه لا شكّ في جواز أخذ الأجرة على الصناعات التي تجب كفاية على جميع المسلمين ، لاختلال سوقهم ونظام معاشهم بدون ذلك ، فكيف التفصّي عن هذا الإشكال مع قولكم بعدم جواز أخذ الأجرة على جميع أقسام الواجب؟

وقد تفصّى عنه بوجوه :

منها : خروج هذه الواجبات عن تحت تلك القاعدة بالإجماع والسيرة.

وفيه : استبعاد أن يكون أخذ الأجرة حكما تعبديّا من طرف الشارع ، مخالفا لقواعد باب الإجارة بل المعاملات جميعا.

منها : أن نقول في أصل المسألة بالفرق بين التعبّدي والتوصّلي بأنّه يجوز أخذ الأجرة في التوصّلي دون التعبّدي ، كما هو مسلك جماعة. والواجبات النظامية كلّها - إلاّ ما شذّ وندر - توصّلي ، فلا مانع من أخذ الأجرة عليها أصلا ، ونلتزم فيما إذا كانت

ص: 174


1- المصدر.

تعبّديّة بالعدم على فرض وجود التعبّدي فيها.

وفيه : أنّ هذا الإشكال يجري ويرد على ما اخترناه من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب مطلقا ، فلا بدّ من التماس جواب آخر بالنسبة إلى من يختار مثل ما اخترناه.

منها : اختصاص الجواز بصورة قيام من به الكفاية ، وفي تلك الصورة ليس بواجب.

والجواب عنه أنّه أوّلا : بقيام شخص آخر لا يسقط الوجوب ما لم يفعل ، فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتّى يتكلّم في أنه يجوز أخذ الأجرة عليه أم لا ، ففي ظرف جواز أخذ الأجرة الذي هو ظرف عدم وجود الواجب من قبل ذلك الغير القائم به الوجوب باق ولم يسقط عن الأجير ، فيأتي الإشكال.

مضافا إلى أنّه من المسلمات جواز أخذ الأجرة على هذه الواجبات ولو لم يكن أحد قائما بها ، ولو تعين عليه بواسطة عدم وجود من به الكفاية.

منها : الفرق بين الواجبات التي مطلوبة لذاتها لوجود مصالح فيها فلا يجوز ، وذلك مثل دفن الميّت وغسله ، وكفنه حيث أنّ في نفس هذه الأفعال مصالح ملزمة أوجبت مطلوبيّتها من قاطبة المكلّفين كفاية ، وبين ما يكون مطلوبيّتها لأجل عدم تحقّق اختلال النظام وعدم قيام السوق للمسلمين.

والجواب : أنّ هذا الفرق دعوى بلا برهان ، بل ظاهر الدليل الذي يمنع عن جواز أخذ الأجرة على الواجبات عدم الفرق بين هذين القسمين من الواجب الكفائي. هذا مع أنّ نفس هذا التقسيم لا يخلو عن مناقشة.

ومنها : أنّ الوجوب في هذه الأمور مشروط بالعوض ، بمعنى أنّه يجب على الخيّاط مثلا الخياطة بشرط إعطاء العوض على عمله ، وهكذا بالنسبة إلى الصنائع الآخر ، ولا شكّ أنّ الواجب المشروط ليس بواجب عند عدم شرطه ، وعند تحقّق شرطه -

ص: 175

أي : إعطاء العوض بإجارة أو جعالة أو غيرهما - فرض عدم جواز أخذ الأجرة خلف.

والجواب عنه : أنّه كيف يمكن أن يكون الوجوب مشروطا بما ينافيه ويضادّه؟

فلا بدّ من رفع المنافاة والمضادّة بينهما أوّلا ، ثمَّ القول باشتراط الوجوب بالعوض بإجارة أو غيرها.

والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو أنّ الوجوب تارة يتعلق بفعل المكلف بالمعنى المصدري ، وأخرى يتعلّق به بالمعنى الاسم المصدري.

بيان ذلك : أنّه لو تعلّق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلّف لا بما هو الصادر - أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وأن لا يمتنع عن الاشتغال به ، وإلاّ فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه - فلا يمنع عن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ المفروض أنّ المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلّف بالفعل وعدم امتناعه عنه ، وهذا هو الذي ألزم به ، فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلاّ صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل ، وأمّا نفس العمل الصادر فليس بمطلوب ، فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه ، فيكون وجوب هذا القسم من الأعمال في باب الأعمال كوجوب بيع الحنطة مثلا وعدم جواز احتكاره في باب الأموال ، فكما أنّه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه ، فكذلك هاهنا وجوب صدور العمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه ، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر ، لا على جهة الإصدار.

فما هو الواجب شي ء - أي جهة الإصدار والمعنى المصدري - وما هو يؤخذ العوض عليه شي ء آخر ، أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري.

هذا كلّه فيما إذا تعلّق الوجوب بالمعنى المصدري ، كجميع الواجبات النظاميّة التي

ص: 176

بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقّق اختلال النظام.

وأمّا لو تعلّق الوجوب بما هو الصادر ، أي تعلّق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعا ، ويكون ملزوما بإتيانه ، وليس له أن يتركه ولا يأتي به ، بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الأمر بالمعروف. وقد بيّنّا سابقا أنّ من شرائط صحّة الإجارة - بل كلّ معاوضة في باب الأعمال - أن يكون العمل تحت سلطانه وقدرته تكوينا وتشريعا ، فلو خرج عن ذلك لا يجوز أخذ الأجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاملات المعاوضيّة.

فظهر ممّا ذكرنا وجه جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظاميّة.

ولا يرد هذا الإشكال على القائل بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات مطلقا ، لما عرفت من أنّ جهة الوجوب في الواجبات النظاميّة غير جهة أخذ الأجرة ، ومسألة وجوب بذل المال للمضطرّ ووجوب الإرضاع أيضا من هذا القبيل ، أي الواجب في الموردين هو العمل بالمعنى المصدري ، فلا ينافي وجوبهما جواز أخذ عوض المال المبذول في الأوّل ، وجواز أخذ الأجرة في الثاني ، كما هو صريح قوله تعالى ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1) ولا يردان نقضا على ما قلنا أيضا.

والحاصل : أنّ أخذ الأجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاوضة لا يجوز بالنسبة إلى العمل الذي يكون واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، سواء أكان وجوبه تعبديّا أم توصّليّا ، عينيّا أم كفائيّا ، تعيينيّا أم تخييريّا ، نفسيّا أم غيريّا ، إلاّ فيما إذا كان الواجب واجبا تخييريّا شرعيّا ، على احتمال أبديناه سابقا.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى أخذ العوض في باب الواجبات.

وأمّا المحرّمات : فقد سبق الكلام في عدم جواز أخذ الأجرة عليها ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا ، فالعمل المحرّم غير مقدور شرعا ، فلا يجوز أخذ الأجرة بل كلّ

ص: 177


1- الطلاق (65) : 6.

قسم من أقسام المعاوضة ، وأمّا المباح والمكروه فلا مانع من التكسّب بهما أصلا.

وأمّا المستحب : فالتحقيق فيه أنّه إن كان تعبديّا بالمعنى الأخصّ - يعني كان تحقّقه وامتثاله متوقّفا على إتيانه بقصد القربة - فلا يجوز أخذ العوض أيضا عليه ، لما ذكرنا في الواجب من منافاته مع الإخلاص المعتبر فيه فلا نعيد.

وأمّا إن لم يكن كذلك ، بل كان توصّليّا يمكن أن يؤتى به بدون قصد القربة فلا وجه لعدم جواز المعاوضة عليه ، وذلك كمسألة نيابة شخص عن غيره في عمل مستحبّ أو واجب على ذلك الغير فيما إذا كانت النيابة عن الغير في تلك الأعمال مستحبّة ولكن لا يكون تعبّديّا ، بل كان يمكن أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في عمل بدون قصد القربة وإن كان يمكن أن يقصد القربة ويستحقّ الثواب ، لكن ذلك ليس بلازم ، بل ذلك بأيّ داع كان سواء أكان بداعي التقرب أو بداعي أخذ الأجرة ، فحينئذ لا وجه للقول بعدم جواز أخذ الأجرة عليه ، لأنّ المفروض أنّه ليس تعبّديّا حتّى يكون أخذ الأجرة منافيا للإخلاص ، ولا بواجب كي يكون مقهورا ومجبورا بالإتيان في عالم التشريع فيكون خارجا عن تحت قدرته تشريعا ، فلا يكون واجدا لأحد شروط صحّة الإجارة كما تقدّم الكلام فيه في الإجارة على الواجبات مفصّلا.

نعم ربما يتوهّم في باب النيابة في العبادات إذا استؤجر عليها إشكال آخر لا ربط له بمسألة أخذ الأجرة على المستحبّات التوصّليّة ، وهو أنّ النيابة في العمل العبادي إذ وقعت متعلّقة للإجارة ، فقهرا يكون نفس العمل العبادي أيضا داخلا في المستأجر عليه باعتبار كونه قيدا ومتعلّقا للنيابة الخاصّة ، فيكون أخذ الأجرة عليه منافيا للإخلاص.

ونحن دفعنا هذا الإشكال فيما تقدّم في الفرق بين أخذ الأجرة على ما هو واجب على نفس الأجير ، وبين ما هو كان واجبا على الغير وهو يأتي بالعمل بعنوان النيابة عنه ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني فلا نعيد.

ص: 178

والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد

وأهل بيته الطاهرين المعصومين.

ص: 179

ص: 180

21 - قاعدة البناء على الأكثر

اشارة

ص: 181

ص: 182

قاعدة البناء على الأكثر (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات إن كان الشكّ في الرباعيّة الواجبة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو عبارة عن الروايات المعتبرة الواردة في هذا المقام :

منها : موثّقة عمّار الواردة في حكم الشك عن الصادق علیه السلام قال علیه السلام : « كلّما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر قال علیه السلام : « كلّما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر قال علیه السلام : فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » (2).

ومنها : موثّقته الأخرى ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شي ء من السهو في الصلاة؟ فقال : « ألا أعلّمك شيئا إذا فعلته ثمَّ ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شي ء؟ » قلت : بلى ، قال علیه السلام : « إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت ، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه

ص: 183


1- (*) « القواعد » ص 71. « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 248.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 193 ، ح 762 ، باب أحكام السهو في - الصلاة ... ، ح 63. « الاستبصار » ج 1 ، ص 376 ، ح 1426 ، باب من شكّ فلا يدري صلّى اثنتين أو ثلاثا ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 318 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 4.

شي ء ، وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت » (1).

ومنها : موثّقة ثالثة عن عمّار أيضا قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « يا عمّار أجمع لك السهو كله في كلمتين : متى ما شككت فخذ بالأكثر ، فإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » (2).

ثمَّ إنّ المراد من السهو - في الموثّقتين الأخيرتين - هو الشكّ لا السهو بمعناه الحقيقي ، أي النسيان وذلك أنّ الناسي إذا لم يلتفت إلى نسيانه لا في الصلاة ولا بعدها فلا يتوجّه إليه حكم بالنسبة إلى نسيانه ، وإن التفت إليه فإن كان في حال الصلاة والمفروض أنّ متعلّق النسيان هو ركعات الصلاة فإن كان ما أتى به ناقص فيجب أن يأتي بالباقي متّصلا لا منفصلا كما في صلاة الاحتياط ، وظاهر هذه الروايات وإن كان ما أتى به من الركعات زائدا على الفريضة فتكون الصلاة باطلة ويجب إعادتها.

فالمراد بقرينة هذا الحكم - أي : قوله علیه السلام « فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت انّك نقصت » إلى آخره - هو الشكّ وإطلاق السهو على الشكّ بعلاقة السببيّة جائز لا ضير فيه ، إذ المجاز بعلاقة السببيّة متعارف ومعهود في اللغة.

وأمّا كون السهو سببا للشك فأمر معلوم غني عن البيان ، ودلالة الموثّقات الثلاث على هذا الحكم - أي البناء على الأكثر - واضح لا يحتاج إلى التكلّم فيه.

الجهة الثانية : في شرح مفاد هذه القاعدة

اشارة

وهو يتوقّف على بيان أمور :

ص: 184


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 349 ، ح 1448 ، باب أحكام السهو ، ح 36 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 318 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 3.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 340 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 992 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 317 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 1.

[ الأمر ] الأوّل : أنّ الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع هذه المسألة قد يكون في النافلة ، وقد يكون في الفريضة.

والأوّل خارج عن محلّ كلامنا ، لورود أدلّة خاصّة على نفي الشّك في النافلة ، كقوله علیه السلام « ليس في النافلة سهو » (1). وقد تكلّمنا في هذه القاعدة - أي قاعدة نفي الشكّ في النافلة - في هذا الكتاب (2) ، وقلنا بأنه مخيّر بين البناء على الأقلّ والبناء على الأكثر.

والثاني قد يكون في الفريضة الثانيّة مثل أن يكون الشكّ في فريضة الصبح بين الواحد والاثنين أو غيرها من الصور ، وقد يكون في الثلاثيّة مثل أن يشكّ في المغرب بين الواحد أو الاثنين والثلاث أو غيرها من الصور ، وقد يكون في الرباعيّة.

وهذا على قسمين : لأنّ الشكّ قد يكون قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، وقد يكون بعده.

فالأوّل مثل أن يشكّ بين الاثنين والثلاث مثلا ، ولكن قبل إكمال السجدتين ، مثل أن يكون شكّه هذا في حال القيام أو في حال السجدة الأولى من الركعة التي بيده.

والثاني مثل أن يكون شكّه أيضا بين الاثنين والثلاث مثلا ، ولكن بعد إكمال السجدتين من الركعة التي بيده.

وبعبارة أخرى : الشكّ في الفريضة الرباعيّة تارة يكون طرف الأقلّ من الشكّ أقلّ من الركعتين التامّتين وأخرى لا يكون كذلك ، بل يكون طرف الأقلّ هو حصول الركعتين التامّتين فما زاد ، كالشك بين الثلاث والأربع في أيّ حال كان من الحالات. وأما الشكّ بين الاثنين فما زاد فلا بدّ وأن يكون بعد تماميّة السجدة الثانية ، وإلاّ ليس

ص: 185


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ولم يدر ... ، ح 5 و 9. « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 54 ، ح 187 ، باب أحكام الجماعة وأقل الجماعة ... ، ح 99. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 8.
2- سيأتي في هذه المجلّدة ، ص 317.

الشكّ بعد إكمال السجدتين.

فالشكّ في الثنائيّة والثلاثيّة خارج عن تحت هذه القاعدة مطلقا وفي أيّ حال من الأحوال كان ، والشكّ في الرباعيّة أيضا خارج إن كان قبل إكمال السجدتين بالمعنى الذي عرفت ، أي كون طرف الأقلّ من الشكّ أقلّ من الركعتين التامّتين ، وذلك لما دلّ على بطلان الصلاة بهذه الشكوك ، وتلك الأدلّة أخصّ من الموثّقات فتخصّص بها.

فبناء على هذا ، لو شكّ في الثلاثيّة أو في الثنائيّة الواجبة - كصلاة المغرب ، أو الصبح ، وفي السفر ، سواء أكانت ثنائيّة بالأصل أو صارت ثنائيّة بواسطة وجوب التقصير في السفر ، وكصلاة الجمعة ، وصلاة الكسوف ، بل وصلاة العيدين بناء على عدم شمول حكم النافلة لهما في عصر الغيبة ، وإلاّ تكون خارجة عن محلّ البحث - تكون صلاته باطلة وليست مشمولة لهذه الموثّقات.

والدليل على بطلانها - وتخصيص هذه الموثّقات به - قوله علیه السلام في مصحّح حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إذا شككت في المغرب فأعد ، وإذا شككت في الفجر فأعد » (1).

وصحيح العلاء عن الصادق علیه السلام سألته عن الرجل يشكّ في الفجر؟ قال علیه السلام : « يعيد ». قلت : المغرب؟ قال علیه السلام : « نعم والوتر والجمعة » من غير أن أسأله (2).

وقوله علیه السلام في هذه الرواية « والوتر والجمعة » مبني على أن يكون الوتر ثلاثة ركعات ، أي مجموع الشفع والوتر ، وإلاّ لو كان الوتر عبارة عن الركعة الواحدة مقابل

ص: 186


1- « الكافي » ج 3 ، ص 350 ، باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 178 ، ح 714 ، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة ، ح 15 و 24 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 365 ، ح 1390 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 1 و 7 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 304 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 1 و 5.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 180 ، ح 722 ، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه اعادة الصلاة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 305 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 7 ، وص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 3.

الشفع فتصوير الشكّ في عدد الركعات لا يخلو من نظر.

نعم يمكن الشكّ فيه بمعنى الشكّ في وجوده وعدمه.

وموثق سماعة قال : سألته عن السهو في صلاة الغداة؟ فقال علیه السلام : « إذا لم تدر واحدة صلّيت أم ثنتين فأعد الصلاة من أوّلها ، والجمعة أيضا إذا سها فيه الإمام فعليه أن يعيد الصلاة لأنّها ركعتان ، والمغرب إذا سها فيها فلم يدر كم ركعة صلّى فعليه أن يعيد الصلاة » (1).

ومصحّح ابن مسلم ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يصلّي ولا يدري واحدة صلّى أم ثنتين؟ قال : « يستقبل حتّى يستيقن أنّه قد أتم » (2).

ويظهر من موثق سماعة أنّ كون الصلاة التي وقع فيها الشكّ ركعتين موجب للبطلان ، وذلك من جهة تعليله علیه السلام إعادة الجمعة التي وقع فيها السهو - أي الشكّ - بقوله علیه السلام : « لأنّها ركعتان » ، فيستفاد حكم كلّ فريضة ثنائيّة منها سواء أكانت ثنائيّة بالأصل كالصبح والجمعة والعيدين وصلاة الآيات ، أو صارت ثنائيّة بواسطة السفر كالتقصير في الرباعيّات في السفر.

وعلى كلّ حال يظهر من هذه الروايات بطلان الصلاة في ثلاثة أقسام : أحدها الثنائيّة الواجبة. الثاني : الثلاثيّة الواجبة. الثالث : أن يكون الشكّ بين الواحدة وما زاد.

وأمّا ما ذهب إليه الصدوق قدس سرّه (3) من التخيير بين الإعادة والبناء على الأقلّ فيما إذا

ص: 187


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 179 ، ح 720 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 21. « الاستبصار » ج 1 ، ص 366 ، ح 1394 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 305 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 8.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 179 ، ح 715 ، باب أحكام السهو في الصلاة و ... ، ح 16. « الاستبصار » ج 1 ، ص 365 ، ح 1391 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 304 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 2.
3- حكى عنه العلامة في « المنتهى » ج 1 ، ص 410 ، وراجع : « الفقيه » ج 1 ، ص 351 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ذيل ح 1024.

شكّ بين الواحدة والاثنين ، للجمع بين الروايات المتقدّمة ورواية الحسين بن أبي العلاء عن الرجل لا يدري أركعتين صلّى أم واحدة؟ قال علیه السلام : « يتمّ » (1).

ففيه : بأنّ هذا الجمع لا شاهد له وليس جمعا عرفيّا كما في الخاصّ والعامّ ، والحاكم والمحكوم ، والظاهر والأظهر ، ومضافا إلى أنّ هذه الرواية لم يعمل بها أحد ، حتّى أنّ الوحيد وصاحب الحدائق (2) - قدس سرّهما - أنكرا نقل هذا القول عن الصدوق.

وكذلك رواية عمّار - عن رجل لم يدر صلّى الفجر ركعتين أو ركعة؟ قال علیه السلام : « يتشهّد وينصرف ثمَّ يقوم فيصلي ركعة ، فإن كان قد صلّى ركعتين كانت هذه تطوّعا ، وإن كان قد صلّى ركعة كانت هذه تمام الصلاة ». قلت : فصلّى المغرب فلم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثا؟ قال علیه السلام : « يتشهّد وينصرف ثمَّ يقوم فيصلّي ركعة ، فإن كان صلّى ثلاثا كانت هذه تطوّعا ، وإن كان صلّى اثنتين كانت هذه تمام الصلاة » (3) - لم يعمل به أحد وأعرض عنه الجميع.

وخلاصة الكلام أنّ بطلان الصلاة في الموارد الثلاثة المذكورة اتّفاقي لم ينكره أحد إلاّ الصدوق قدس سرّه فيما تقدّم ، وقد عرفت الحال فيه.

وأمّا الشكّ في الرباعيّة قبل إكمال السجدتين : فيدلّ على بطلانها صحيح زرارة : روى الصدوق بإسناده عن زرارة بن أعين قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « كان الذي فرض اللّه على العباد عشر ركعات ، وفيهنّ القراءة وليس فيهنّ وهم - يعني سهو - فزاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبعا وفيهنّ الوهم وليس فيهن قراءة ، فمن شكّ في الأوّلتين أعاد

ص: 188


1- « تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 177 ، ح 710 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 11. « الاستبصار » ج 1 ، ص 364 ، ح 1387 ، باب السهو في الركعتين الأولتين ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 303 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 20.
2- « الحدائق الناضرة » ج 9 ، ص 193.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 182 ، ح 728 ، باب أحكام السهو في الصلاة و ... ، ح 29. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 306 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 2 ، ح 12.

حتّى يحفظ ويكون على يقين ، ومن شكّ في الأخيرتين عمل بالوهم » (1).

وأيضا روى بإسناده عن عامر بن جذاعة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا سلمت الركعتان الأولتان سلمت الصلاة » (2).

وأيضا بإسناده عن إبراهيم بن هاشم في نوادره ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : « ليس في الركعتين الأوّلتين من كلّ صلاة سهو » (3).

وما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا سهوت في الأوّلتين فأعدهما » (4).

ورواية موسى بن بكر قال : سأله الفضيل عن السهو؟ فقال : « إذا شككت في الأوّلتين فأعد » (5).

هذه جملة ممّا يدلّ على بطلان الصلاة إذا كان الشك في الأوّلتين وبهذا المضمون روايات كثيرة فوق حد الاستفاضة.

وحاصل مفاد جميعها هو بطلان الصلاة ولزوم الإعادة مع احتمال نقص في الأوّلتين ، بل لا بدّ في الحكم بصحّة الصلاة من حفظ الأوليين بتمامهما وكمالهما ، ولازم هذا المعنى هو أن يكون الشكّ بعد إكمال السجدتين ، فالشكّ في الموارد الأربعة المذكورة موجب للبطلان وخارج عن مفاد أخبار البناء على الأكثر حكومة

ص: 189


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 201 ، باب فرض الصلاة ، ح 605 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 299 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 1.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 346 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1010 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 299 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 3.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 352 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1028 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 300 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 177 ، ح 706 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 7. « الاستبصار » ج 1 ، ص 364 ، ح 1383 ، باب السهو في الركعتين الأوّلتين ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 302 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 15.
5- « الاستبصار » ج 1 ، ص 364 ، ح 1381 ، باب السهو في الركعتين الأوّلتين ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 302 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 19.

أو تخصيصا.

ثمَّ إنّه من موارد بطلان الصلاة بالشكّ في عدد ركعاتها - وعدم شمول هذه القاعدة له - هو الشكّ بين الاثنتين والخمس أو الأكثر وإن كان بعد إكمال السجدتين ، وذلك من جهة أنّه لا طريق إلى تفريغ الذمّة ممّا اشتغل به يقينا ، لا وجدانا ولا تعبّدا.

أمّا وجدانا فواضح ، لأنّ المفروض أنّه شاكّ في أنّ ما أتى به اثنتين أو الخمس أو الأكثر ، فإن سلّم ولم يأت بشي ء فاحتمال النقيصة والزيادة كلاهما موجود ، وليس دليل تعبدي في البين يدلّ على عدم مضرّية هذه الزيادة أو النقيصة على تقدير وجودهما. ولو أتى بما يحتمل نقصانه فيبقى احتمال الزيادة ، وليس شي ء يدلّ على عدم مضرّية هذا الاحتمال وتفريغ الذمّة.

وأمّا تعبّدا فمن جهة عدم شمول روايات البناء على الأكثر للمقام ، لأنّها واردة فيما إذا كان الأكثر صحيحا ، كي يكون موجبا لتفريغ الذمّة.

وأمّا إذا كان البناء على الأكثر موجبا لفساد الصلاة فهو خارج عن محطّ نظر هذه الأخبار.

وبعبارة أخرى : هذه الروايات كلّها ناظرة إلى علاج العمل وكيفيّة تصحيحه ، فلا يشمل الأمر الذي يوجب بطلان العمل ، فليس هذا المورد مشمولا لتلك الأخبار العلاجيّة ، أي البناء على الأكثر وإتمام ما نقص منفصلا بصلاة الاحتياط.

وأمّا أخبار البناء على اليقين فأيضا لا تشمل المقام ، لأنّ الظاهر منها أيضا هو البناء على الأكثر وتتميم ما نقص بصلاة الاحتياط كي يحصل اليقين بالبراءة على كلّ واحد من التقديرين ، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لأنّه على تقدير كونه في الواقع هو الأقلّ يمكن التدارك بصلاة الاحتياط وتحصيل اليقين بتفريغ الذمّة. وأمّا على تقدير كونه هو الأكثر تكون الصلاة باطلة ، ولم يرد دليل بالخصوص على عدم كون الزيادة على تقدير وقوعها مضرّة.

ص: 190

وأمّا استصحاب عدم تحقّق الزيادة على المقدار المعلوم وهو الاثنتين ففيه أوّلا : أنّه طرح الشارع إجراء الاستصحاب في باب الشكّ في عدد الركعات لحكمه بالبناء على الأكثر. وثانيا أنّ الاستصحاب لا يثبت أنّ ما أتمّه هي الركعة الثانية حتّى يتشهد فيها ، ولا الثاني من الركعتين التاليتين اللتين يأتي بهما بعد الاستصحاب أنّها الرابعة فيأتي فيها بالتشهد الأخير ، إلاّ على القول بالأصل المثبت.

مع أنّ صريح الأخبار أنّ ظرف التشهّد الأوّل هو بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية في الركعة الثانية ، والتشهّد الثاني هو بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية من الركعة الرابعة ، فلا طريق إلى تصحيح العمل وتفريغ ما في الذمّة بالاستصحاب ، فلا بدّ من الإعادة.

وهذا معنى كون الشكّ موجبا للبطلان.

فظهر أنّ مورد الخامس من الشكوك المبطلة أيضا خارج عن عموم هذه القاعدة ، وعلى هذا المنوال المورد السادس والسابع من موارد الشكوك المبطلة - أي الشكّ بين الثلاث والستّ أو الأزيد ، أو الشكّ بين الأربع والستّ أو الأزيد - يكونان خارجين عن عموم هذه القاعدة ، أي البناء على الأكثر.

أمّا المورد السادس فلعين ما ذكرنا في المورد الخامس حرفا بحرف.

وأمّا المورد السابع - أي : الشكّ بين الأربع والستّ أو الأزيد فقد قاسه بعضهم - وهو ابن أبي عقيل (1) - بالشكّ بين الأربع والخمس فقال بالصحّة قياسا على الشكّ بين الأربع والخمس.

ولكن أنت خبير بأنّ الصحّة هناك لدليل خاصّ لا يشمل المقام ، فإنّ قوله علیه السلام في صحيح عبد اللّه بن سنان - « إذا كنت لا تدري أربعا صلّيت أم خمسا فاسجد سجدتي

ص: 191


1- « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 390.

السهو بعد تسليمك » (1) - حكم خاصّ في موضوع خاصّ ، أي الشكّ بين الأربع والخمس ، فإسراء هذا الحكم إلى موضوع آخر وهو الشكّ بين الأربع والستّ يشبه القياس ، أو هو هو.

وأمّا كون المراد هو الشكّ بين ما هو تمام العدد الصحيح وما هو الزائد عليه - وذكر الخمس في الرواية من باب أحد المصاديق - دعوى بلا بيّنة ، بل خلاف ظاهر الرواية.

وأمّا التمسّك لصحّته باستصحاب عدم تحقّق الزائد على الأربع ، فقد بيّنّا أنّه لا يثبت أنّ ما أتمّه هي الركعة الرابعة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت. مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ الشارع لم يعتن بالاستصحاب في تعيين عدد ركعات الصلاة ، بل أسقطه عن الاعتبار بجعل البناء على الأكثر فيما إذا شكّ في أعداد الرباعيّة بعد إكمال الركعتين الأوّلتين.

وأمّا المورد الثامن من الشكوك المبطلة - وهو أن يكون شكّه بحيث لا يدري أنّه كم صلّى - فهو أيضا خارج عن عموم هذه الموثّقات ، للإجماع على بطلان الصلاة ولزوم الإعادة ، وللروايات المعتبرة الواردة في لزوم الإعادة إذا اتفق كون شكّه هكذا ، أي كان بحيث لا يدري أنّه كم صلّى ، واحدة أم اثنتين ، أم ثلاثا ، أم أربع.

منها : رواية صفوان عن أبي الحسن علیه السلام : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع ووهمك على شي ء فأعد الصلاة » (2).

هذا ، مضافا إلى أنّ مرجع هذا الشكّ إلى عدم حفظ الأوليين ، وقد تقدّم أنّه يبطل الصلاة عند عدم حفظهما.

ص: 192


1- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 195 ، ح 767 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 68. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 314 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 5 ، ح 2 ، وباب 14 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 744 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 45. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1419 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة أو اثنتين ... ، ح 2. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 327 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 1.

وخلاصة الكلام أنّ جميع الصور الثمانية التي تكون للشكوك المبطلة خارج عن عموم هذه القاعدة ، وذلك من جهة أنّ أخبار البناء على الأكثر وردت في مقام علاج الشكّ في عدد الركعات ، فإذا كان الشكّ غير قابل للعلاج - ولا بدّ فيه من إعادة الصلاة ، أو جاء دليل خاصّ على بطلان الصلاة بشكّ - فيكون خارجا عن عموم هذه الموثّقات.

وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الشكوك المبطلة لا تخلو من أحد هذين الأمرين : إمّا لا يمكن العلاج فيها ، وإمّا دلّ دليل خاصّ على بطلان الصلاة بها.

هذا حال الشكوك المبطلة.

وأمّا الشكوك التي لا اعتبار بها كشكّ كثير الشكّ ، وشكّ كلّ واحد من الإمام والمأموم مع حفظ الآخر ، والشكّ في النافلة ، والشكّ في صلاة الاحتياط ، فكلّها خارجة عن تحت هذه القاعدة وعموم هذه الموثّقات حكومة أو تخصيصا.

وأمّا الشكوك التسعة الصحيحة فكلّها مشمولة لهذه الموثّقات كما سنبيّن فيما سيأتي إنّ شاء تعالى.

الأمر الثاني : في أنّه علیه السلام بصدد علاج الشكّ بقوله : « إذا سهوت فابن على الأكثر » أو قوله : « كلّما دخل عليك من الشكّ في صلاتك فاعمل على الأكثر ، فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » أو غيرهما ممّا هو بهذا المضمون.

ومعلوم أنّ هذا العلاج لا يتمّ فيما إذا كان الأكثر من طرفي الشكّ أو أطرافه زائدا على الأربع.

فإذا كان الشكّ في الرباعيّة قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية تكون الصلاة باطلة لما تقدّم ، وتكون هذه الصورة خارجة عن عموم هذه الأخبار لما تقدّم أيضا.

وأمّا إن كان بعد تماميّة الركعتين وسلامتهما ، فلو كان أحد طرفي الشكّ أو أحد أطرافه زائدا على الأربع ، فالصلاة أيضا باطلة ، لعدم تطرّق هذا العلاج وليس

ص: 193

علاج آخر.

نعم في خصوص الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين جاء الدليل على الصحة بالبناء على الأقلّ الذي هو الأربع - وسجدتي السهو للزيادة المحتملة - أو كان هذا الشك في حال القيام حتّى بهدمه يرجع الشكّ إلى الثلاث والأربع كي لا يكون البناء على الأكثر مبطلا ، وهذا يجري في كلّ مورد كان طرف الأكثر هو الخمس وكان في حال القيام كي يرجع بالهدم إلى الأقلّ من الأربع والأربع ، فيمكن تطرّق هذا العلاج فتشمله هذه الأخبار.

الأمر الثالث : في صور الشكّ في الرباعيّة ، وهو على قسمين : مركّب وبسيط.

والمراد بالشكّ البسيط هو أن يكون للشكّ طرفان فقط : الأقلّ والأكثر ، كالشكّ بين الاثنين والأربع ، أو الثلاث والأربع.

والمراد بالمركّب هو أن يكون أطراف الشكّ أكثر من الاثنين ، كالشكّ بين الاثنين والثلاث والأربع.

وفي كلّ واحد من القسمين - أي البسيط والمركّب - إمّا أن لا يكون طرف الأكثر أكثر من الأربع أو يكون ، والقسم الثالث هو أن يكون كلا طرفي الشكّ أكثر من الأربع.

وإن شئت قلت : تارة لا يكون كلا طرفي الشكّ أكثر من الأربع. وأخرى يكون كلاهما أكثر من الأربع. وثالثة يكون أحد طرفيه أكثر دون الآخر.

أمّا الأوّل كالشكّ بين الثلاث والأربع. وأمّا الثاني كالشكّ بين الخمس والستّ.

وأمّا الثالث كالشكّ بين الأربع والخمس.

فمجموع الأقسام يصير ستّة : اثنان منها البسيط والمركب في نفس الرباعيّة ، بمعنى أنّ طرف الأكثر ليس زائدا على الأربعة ، أو كلاهما - أي طرفا الشكّ في البسيط والمركب - في الزائد على الأربعة ، أو كلاهما - أي البسيط والمركب - فيما إذا كان أحد

ص: 194

طرفي الشكّ في الأربعة والطرف الآخر في الزائد عليها.

أمّا القسم الأوّل ، أي الشكّ البسيط في نفس الأربعة صورة ثلاث : وهي الشكّ بين الاثنين والثلاث ، والشكّ بين الاثنين والأربع ، والشكّ بين الثلاث والأربع.

أمّا القسم الثاني ، أي : الشكّ المركّب في نفس الأربعة فصورة واحدة ، وهي الشكّ بين الاثنين والثلاث والأربع.

فهذه أربع صور للشكّ البسيط والمركب في نفس الأربعة ، أي ليس طرف الأكثر زائدا على الأربعة.

وأمّا القسم الثالث ، أي الشكّ البسيط فيما إذا كان طرفا الشكّ زائدا على الأربعة ، كالشكّ بين الخمس والستّ.

وأمّا القسم الرابع ، أي الشكّ المركّب في الزائد على الأربعة بحيث تكون أطراف الشكّ زائدة على الأربعة ، كالشكّ بين الخمس والستّ والسبع.

وأمّا القسم الخامس ، أي الشكّ البسيط بحيث يكون أحد طرفيه في الأربعة والطرف الآخر فيما زاد عليها ، كالشكّ بين الأربع والخمس.

وأمّا القسم السادس ، أي الشكّ المركّب فيما إذا كان طرف الأقلّ داخلا في الأربعة وطرف الأكثر زائدا عليها ، كالشكّ بين الثلاث والأربع والخمس ، أو بين الأربع والخمس والستّ.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا حكم القسم الأوّل والثاني أي تلك الصور الأربع فواضح ، أي يجب البناء على الأكثر وتتميم ما يحتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، كما هو صريح موثّقات عمّار.

ص: 195

نعم هاهنا أمران يجب أن يذكر :

[ الأمر ] الأوّل : أنّ مقتضى قوله علیه السلام - « فابن على الأكثر » لو لم يكن قوله علیه السلام : « فإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » - هو المضي وعدم وجوب صلاة الاحتياط لأنّ معنى البناء على الأكثر عدم الاعتناء باحتمال الأقلّ عملا ، بل يجب عليه أن يجعل عمله على طبق احتمال الأكثر.

لست أقول إنّه - أي البناء على الأكثر - أمارة ومن باب تتميم الكشف ، لأنّ الشكّ مأخوذ في موضوعه ، ومثل ذلك لا يمكن أن يكون أمارة ، لأنّ مفاد الأمارة إلغاء الشكّ ، والموضوع لا بدّ وأن يكون محفوظا حتّى يأتي الحكم ، وتخلّفه عن الموضوع خلف محال ، بل ولا نقول بأنّه من الأصول المحرزة ، لأنّ الأصل المحرز عبارة عن لزوم العمل على طبق أحد طرفي الشكّ عمل المتيقن به ولذلك يكون حاكما على الأصل غير المحرز لرفع موضوعه به تعبّدا ، وليس في أخبار الباب ما يدلّ على أنّ العمل بالأكثر والبناء عليه باعتبار أنّه عمل المتيقّن بالأكثر.

وعلى كلّ حال فيكون معنى البناء على الأكثر ترتيب آثار الأكثر شرعا من حيث العمل ، ومن آثار الأكثر أنّه ليس عليه شي ء ، لا صلاة الاحتياط ولا غيرها ، فتشريع صلاة الاحتياط بملاحظة احتمال الأقلّ وتداركه ، ولذلك ربما يقال بأنّ جعل صلاة الاحتياط مرجعه إلى البناء على الأقلّ لا البناء على الأكثر ، وقوله علیه السلام « ابن على الأكثر » يكون باعتبار تصحيح محلّ التشهّد والتسليم ، وإلاّ فبحسب أصل كمّيّة صلاة الفريضة يكون البناء على الأقلّ.

ولذلك قال بعضهم : إنّ البناء على الأكثر في الصلاة ليس مخالفا للاستصحاب ، بل وجوب صلاة الاحتياط يكون نتيجة استصحاب عدم إتيان ما يحتمل عدم إتيانه ، وإلاّ لم يكن وجه لوجوب الإتيان بصلاة الاحتياط.

الأمر الثاني : في أنّ طرف الأقلّ من الشكّ في الرباعيّة إذا كان الاثنتين لا بدّ وأن

ص: 196

يكون بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، لما تقدّم من دلالة الروايات على لزوم حفظ الأوليين بتمامهما وكمالهما ، وأنّ الشكّ في أي جزء منهما ما لم يكن دليل شرعي أو عقلي على تماميّتهما مبطل للصلاة ، فيقع الكلام في أنّه ما المدار في إكمال السجدتين؟ هل هو الدخول في السجدة الثانية مع الاستقرار فيها ، أو بعد الإتيان بذكر الواجب فيها ، أو بعد رفع الرأس عنها؟ ونسب الأخير إلى المشهور.

ولكنّ الظاهر أنّ المدار في إكمالها هو الإتيان بالذكر الواجب في السجدة الثانية من الركعة الثانية ، وذلك من جهة أنّ وجود المركّب بوجود تمام أجزائه ، فإذا وجد الجزء الأخير منه مع كونه مسبوقا بوجود سائر الأجزاء في المركّب التدريجي الوجود يصدق أنّه وجد بتمامه وكماله ، وأمّا الخروج عنه فليس جزء له كما هو واضح.

ومعلوم أنّ الركعة عبارة عن القيام والذكر الواجب فيه من القراءة أو التسبيح والركوع والسجدتين ، فإذا وجد هذه الأمور فقد وجد الركعة بتمامها واحتمال أن يكون رفع الرأس من السجدة الثانية أيضا جزء للركعة بعيد بل مقطوع العدم ، لعدم الدليل عليه وإنما هو مقدّمة للدخول في الركعة التي بعدها ، أو للتشهد والتسليم.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

فنقول :

إذا عرفت هذه الأمور فلنرجع إلى التكلّم في الشكوك الأربعة للقسم الأوّل والثاني ، أي الشكّ البسيط والمركّب ، من الشكّ في نفس الرباعيّة من دون أن يكون طرف الأكثر زائدا على الأربعة.

[ الصورة ] الأولى : أي الشك بين الاثنتين والثلاث بعد إكمال السجدتين فهو يبنى على الثلاث على المشهور ، بل ادّعى عليه الإجماع ، بل عن الأمالي : أنّه من دين

ص: 197

الإماميّة (1).

والدليل عليه هي الموثّقات العمّار الثلاث التي تقدّمت (2).

هذا هو الحكم الأوّل في هذا الشكّ والحكم الثاني هو الإتيان بصلاة الاحتياط ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بعد إتمام صلاته ، أي بعد إتيان الرابعة والتشهّد والتسليم.

والدليل على وجوب صلاة الاحتياط قبل الإجماع - لما قلنا مكررا من أنّ الإجماع في أمثال هذه الموارد ممّا لها مدرك من الأخبار الصحيحة المعمول بها عند الأصحاب لا وجه له - هو ذيل الموثقات الثلاث للعمّار ، أي قوله علیه السلام : « فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » ، وما هو بمضمونه في الموثّقتين الأخيرين ، فإنّ ذيل هذه الموثّقات صريح في أنّ إتمام مظنون النقصان إنّما هو بعد الفراغ من الصلاة والانصراف عنها ، فيكون بصلاة مستقلّ وهو الذي نسمّيه بصلاة الاحتياط.

ثمَّ إنّ هاهنا أمران :

[ الأمر ] الأول : إنّ في هذه المسألة أقوال أخر : البناء على الأقل وهو المحكي عن الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه في الفقيه (3) ، والتخيير بين البناء على الأقلّ والأكثر وهو المحكي عن والده علي بن بابويه (4) ، والإعادة وهو المحكي عن المقنع (5). ومنشأ هذه الأقوال هو اختلاف الأخبار الواردة في هذا المقام ، فلنذكرها كي نرى ما هو المحصّل منها ، فنقول :

ص: 198


1- « أمالي الصدوق » ص 513.
2- تقدّم في ص 183 و 184.
3- حكى عنه في « مدارك الأحكام » ج 4 ، ص 256.
4- « فقه الرضا » ص 117 - 118.
5- « المقنع » ص 101.

منها : مصحّح زرارة - أو حسنته - عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : قلت له : رجل لا يدري واحدة صلّى أم اثنتين؟ قال : « يعيد ». قلت : رجل لم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثا؟ قال : « إن دخله الشكّ بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثمَّ صلّى الأخرى ولا شي ء عليه ويسلّم » (1).

فربما يقال : بأنّ هذه الرواية دليل على قول الصدوق قدس سرّه أي البناء على الأقلّ ، وذلك من جهة أنّ قوله علیه السلام « مضى في الثالثة ثمَّ صلّى الأخرى » معناه أنّ ما أتى به هو اثنين ، وهذا الذي بيده هو الثالثة ويصلّى الأخرى ، أي الركعة الرابعة الباقية متّصلة ويسلّم ولا شي ء عليه ، لا الإعادة ولا صلاة الاحتياط ، وهذا هو البناء على الأقلّ.

وبعبارة أخرى : ظاهرها أنّ الركعة التي يشكّ في أنّها الثانية أو الثالثة هي التي فرغ عنها ودخل في الثالثة ، فالأمر بالمضي في الثالثة وقوله علیه السلام بعد ذلك « ثمَّ صلّى الأخرى - أي الرابعة - ويسلّم » صريح في أنّه أمر بالبناء على أنّ الركعة المشكوكة التي فرغ عنها بالدخول في الثالثة هي الثانية ، وهذا هو البناء على الأقلّ ، فيخصّص بها موثّقات عمّار المتقدّمة ، لأنّها أخصّ منها. والنتيجة هي قول الصدوق قدس سرّه أي البناء على الأقلّ.

هذا أحد الاحتمالين في الرواية الذي موافق لما نسب إلى الصدوق وحكي أيضا عن السيّد - قدّس سرهما - في المسائل الناصريات (2).

والاحتمال الآخر - الذي موافق لمذهب المشهور ، أي : البناء على الأكثر وأصرّ عليه صاحب الحدائق (3) واستظهره من هذه الرواية - هو أن يكون اللام في قوله « إن

ص: 199


1- « الكافي » ج 3 ، ص 350 ، باب السهو في الركعتين الأوّلتين ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 192 ، ح 759 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 60. « الاستبصار » ج 1 ، ص 375 ، ح 1423 ، باب من شكّ فلا يدري صلّى اثنتين أو ثلاثا ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 300 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 6 ، وباب 9 ، ح 1.
2- « الناصريات » ضمن الجوامع الفقهيّة ، ص 237.
3- « الحدائق الناضرة » ج 9 ، ص 212.

دخله الشكّ » للعهد ، أي الشكّ المسؤول عنه إن عرض له بعد الدخول في الثالثة ، أي الركعة التي قطعا ليس أقلّ من الثالثة ، وإن كان من المحتمل أن تكون هي الرابعة.

وقوله علیه السلام بعد ذلك « مضى في الثالثة » أي ، يمضي في صلاته مع بنائه على أنّ تلك الركعة المشكوكة المحتملة أن تكون الثانية أو تكون الثالثة هي الثالثة ، فتكون الركعة التي بيده هي الرابعة فيكون المراد بقوله « ثمَّ صلّى الأخرى » هو أن يأتي بركعة منفصلة ، أعني صلاة الاحتياط ، وبعد أن أتم ما ظنّ نقصه بصلاة الاحتياط يسلّم. وهذا كما ترى هو البناء على الأكثر في الركعة المشكوكة.

وممّا يؤيّد أنّ المراد بقوله علیه السلام « ثمَّ صلّى الأخرى » هي الركعة المنفصلة لا الموصولة هي كلمة « ثمَّ » التي للترتيب بانفصال ، وإلاّ لو كان المراد هي الركعة الموصولة لكان ينبغي أن يقول علیه السلام « مضى في الثالثة ويصلي الأخرى » بالواو لا بثمّ.

ثمَّ إنّه على تقدير أن لا يكون هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل لكن يكون موجبا لإجمال الرواية ، فلا يكون دليل على البناء على الأقلّ كما توهّم.

ولكن الإنصاف أنّ الاحتمال الأوّل - أي كون الأمر بالمضي في الثالثة بمعنى أنّه يبنى على أنّ ما بيده الذي هو كان ظرف وجود الشك في أنّ الركعة التي خرج منه ودخل في الثالثة هل هي الثانية أو الثالثة هي الثالثة - أظهر ، وذلك من جهة ظهور قوله علیه السلام « ثمَّ صلّى الأخرى ولا شي ء عليه ويسلّم » في الركعة الموصولة.

ويؤيّد هذا الظهور وقوع « يسلّم » بعد هذه الجملة ، ولو كان المراد هي الركعة المنفصلة وصلاة الاحتياط كان ينبغي أن يقدّم هذه الكلمة ويقول « يسلّم ثمَّ صلّى الأخرى ».

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا التعبير منه علیه السلام إيهام إلى البناء على الأقلّ تقيّة ، وفي أخبار الباب يوجد كثيرا مثل هذا الخبر ممّا ظاهرها يوهم البناء على الأقلّ وظاهر عليها أمارات التقيّة والتورية ، وقد أشرنا إليها في بعض روايات باب الاستصحاب.

ص: 200

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ هذه الرواية مجملة لا تدلّ على قول المشهور ، ولا على ما حكي عن الفقيه وعن السيّد من البناء على الأقلّ.

ومنها : رواية العلاء قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال علیه السلام : « يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهد وقام قائما فصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » (1) بناء على أنّ المراد من البناء على اليقين هو البناء على الأقلّ ، لأنّه هو المتيقّن.

ولكن أنت خبير بأنّه ينفي هذا الاحتمال قوله علیه السلام : « فإذا فرغ تشهّد وقام قائما فصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » لأنّ هذا ظاهر في صلاة الاحتياط أوّلا لتعيينه علیه السلام فاتحة الكتاب في القراءة ، وثانيا بقرينة قوله علیه السلام « فإذا فرغ تشهّد » لظهور هذا التشهّد في التشهّد الثاني ، أي ما هو في الركعة الرابعة ، فأمره علیه السلام - بعد هذا التشهّد بالقيام وصلاة ركعة بفاتحة الكتاب - صريح في صلاة الاحتياط ، لأنّه لا مورد للركعة الموصولة بعد التشهّد الثاني كما هو واضح. وصلاة الاحتياط ركعة واحدة في مفروض المسألة لا يلائم إلاّ على البناء على الأكثر.

هذا ، مضافا إلى أنّ مصطلح الأخبار هو تسمية البناء على الأكثر بالبناء على اليقين ، فهذه الرواية أيضا لا تدلّ على البناء على الأقلّ كما توهّم.

ومنها : صحيحة عبيد عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن رجل لم يدر ركعتين صلّى أم ثلاثا؟ قال علیه السلام : « يعيد ». قلت : أليس يقال : لا يعيد الصلاة فقيه »؟ فقال علیه السلام : « إنّما ذلك في الثلاث والأربع » (2).

وبعد ما عرفت من الإجماع والروايات على عدم وجوب الإعادة وعدم بطلان

ص: 201


1- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 319 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 9 ، ح 2 ، « قرب الإسناد » ص 30 ، ح 99.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 193 ، ح 760 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 61. « الاستبصار » ج 1 ، ص 375 ، ح 1424 ، باب من شكّ فلا يدري صلّى اثنتين أو ثلاثا ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 320 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 9 ، ح 3.

الصلاة بالشكّ بين الاثنتين والثلاث إذا كان بعد إكمال السجدتين ، فلا بدّ من حمل هذه الصحيحة على وقوع الشكّ المذكور قبل إكمال السجدتين.

وأمّا الاستدلال للبناء على الأقلّ بموثّقة إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّل علیه السلام قال : « إذا شككت فابن على اليقين » قال : قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم » (1). وبما هو بهذا المضمون من البناء على اليقين في أخبار كثيرة ، فالظاهر أنّه ليس المراد من البناء على اليقين البناء على القدر المتيقّن الذي هو الأقلّ ، بل المراد اليقين بالامتثال الذي هو البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط إتماما لما ظنّه من النقصان.

وقد عبّر في الأخبار عن هذا بالبناء على اليقين ، كما في خبر قرب الإسناد في رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال : « يبني على اليقين فإذا فرغ تشهّد وقام وصلّى ركعة بفاتحة الكتاب ».

وأنت خبير بأنّ قوله علیه السلام وقام وصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » المراد به صلاة الاحتياط ، وعدم ذكر التسليم بعد قوله علیه السلام « فإذا فرغ وتشهّد » للنكتة التي نبّهنا عليها وهي الإيهام للتقيّة وصلاة الاحتياط معناها البناء على الأكثر ، فعبّر عن البناء على الأكثر بالبناء على اليقين ، أي اليقين بالامتثال.

والحاصل : أنّ هذه الطائفة من الروايات إن لم تكن دليلا على البناء على الأكثر فليست دليلا على البناء على الأقلّ.

وأمّا سائر الروايات التي ظاهرها البناء على الأقلّ - على تقدير وجودها وعدم الإشكال في دلالتها - لا بدّ من طرحها ، أو تأويلها بضرب من التأويل ، لإعراض الأصحاب عنها ، بل انعقاد الإجماع على خلافها ، إذ لم ينقل الخلاف إلاّ عن السيّد والصدوق - 0 - في الناصريّات (2) وفي الفقيه (3) ، على إشكال في الأوّل ، إذ

ص: 202


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 351 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1025 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 381 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 8 ، ح 2.
2- « الناصريات » ضمن الجوامع الفقهية ، ص 237.
3- حكى عنهما في « مدارك الأحكام » ج 4 ، ص 256.

المنقول عن انتصاره موافقته للمشهور (1). وأمّا الصدوق فالمنقول عنه تجويز البناء على الأقلّ لا تعيينه ، مع أنّ المنقول عن مقنعة بطلان الصلاة ووجوب إعادتها (2).

ثمَّ إنّه استدلّ للقول المشهور أيضا بصحيحة محمّد بن مسلم قال : « إنّما السهو بين الثلاث والأربع ، وفي الاثنتين بتلك المنزلة ومن سها فلم يدر ثلاثا صلّى أو أربعا واعتدل شكّه قال : يقوم فيتمّ ثمَّ يجلس ويتشهّد ويسلّم ويصلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس ، وإن كان أكثر وهمه إلى الأربع تشهّد وسلّم ثمَّ قرأ فاتحة الكتاب وركع وسجد ، ثمَّ قرأ وسجد سجدتين ، ثمَّ تشهّد وسلّم. وإن كان أكثر وهمه اثنتين نهض فصلّى ركعتين وتشهّد وسلّم » (3).

ودلالتها على المطلوب - أي البناء على الأكثر - متوقّف على أن يكون المراد بقوله « فلم يدر ثلاثا صلّى أو أربعا » هي الركعة التي على وشك الشروع فيها ولم يشرع بعد بأن يكون جالسا ويشكّ في أنّ الركعة التي يجب أن يقوم بإتيانها هل هي الثالثة أو الرابعة؟ فيقول علیه السلام في مقام الجواب عن هذا السؤال « يقوم ويتمّ » أي يبني على أنّ هذه الركعة التي يريد أن يأتي بها هي الرابعة ، فيأتي بها بهذا العنوان ويجلس ويتشهّد ويسلّم ، فهذا معنى قوله « يقوم فيتمّ » وبيان له.

ثمَّ يقول علیه السلام في علاج تدارك ما احتمل نقصه بعد البناء على الأكثر الذي هو الأربع في المقام « ويصلّي ركعتين » إلى آخر ما قال علیه السلام ، فيعالج الشكّ بركعتين من جلوس بدل ركعة من قيام ، كما هو المذكور في سائر أخبار صلاة الاحتياط.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا خلاف ظاهر جملة « فلم يدر ثلاثا صلّى أو أربعا » جدّا ، بل ظاهرها أنّ ما أتى به لم يدر أنّه ثلاث أو أربع؟ فقوله علیه السلام « يقوم فيتمّ » ظاهره

ص: 203


1- « الانتصار » ص 156.
2- « المقنع » ص 101.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 352 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 4.

البناء على الأقلّ ، أي يبنى على أنّ ما أتى به ثلاث فيقوم فيتمّ ، أي يأتي بالرابعة وهذا ظاهرها جدّا.

لكنّ هذا الظاهر لا يلائم مع قوله علیه السلام فيما بعد هذه الجملة « ويصلّى ركعتين » لأنّه بناء على أنّ ما أتى به ثلاث ، فقام وأتى بالرابعة فلا يبقى مجال لصلاة الاحتياط ، لعدم احتمال النقيصة بناء على هذا كي يحتاط.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ وجوب ركعتين من جلوس في المفروض حكم تعبّدي وليس من باب تدارك ما نقص ، وهو بعيد إلى الغاية.

وعلى كلّ حال إثبات البناء على الأكثر أو الأقلّ بهذه الرواية مشكل جدّا ، لإجمالها.

ولكنّ هذا الحكم - أي البناء على الأكثر في الشكّ بين الاثنتين والثلاث - إجماعي ، ومدلول الروايات العامّة التي مفادها البناء على الأكثر في أي شكّ في أعداد الركعات في الفريضة الرباعيّة إذا لم يكن البناء على الأكثر موجبا لفسادها ولبطلان الصلاة ، وليس في البين ما يخصّصها.

وقد عرفت حال سائر الأقوال من البناء على الأقلّ ، والقول بالتخيير ، والقول بالبطلان ولزوم الإعادة.

هذا ، مضافا إلى الأدلة الخاصّة ، أي الروايات الواردة في خصوص الشكّ بين الاثنتين والثلاث التي مفادها البناء على الأكثر ، كحسنة زرارة التي تقدّمت (1) ، ورواية قرب الإسناد في رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال : « يبني على اليقين » بناء على ما تقدّم من أنّ المراد بالبناء على اليقين هو اليقين بالامتثال أي : البناء على الأكثر ، وتدارك ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط.

الأمر الثاني : هو بيان مدرك التخيير في صلاة الاحتياط في هذه الصورة بين إتيانها

ص: 204


1- سبق ذكره في ص 199 ، رقم (1).

ركعتين من جلوس أو ركعة من قيام ، فنقول :

ذكروا لذلك وجوها :

الأوّل : قوله علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم : « ويصلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » ظاهر في أنّ تدارك ركعة محتمل الفوت بركعتين من جلوس. وفي رواية قرب الإسناد بركعة من قيام.

ومقتضى الجمع الدلالي العرفي - الذي يرفع التعارض بينهما - هو الحمل على التخيير ، وهذا ليس من التخيير الذي هو مفاد أدلّة التخيير في باب تعارض الخبرين حتّى يتكلّم فيه أنّه تخيير في المسألة الأصوليّة أو الفرعية ، بل العرف يجمع بينهما بالتخيير فيرتفع التعارض من البين.

وفيه : أنّه لو كانت هاتان الروايتان واردتين في مورد الشكّ بين الاثنتين والثلاث لكان لهذا الكلام وجه وجيه ، ولكن موردهما مختلف ، لأنّ مورد الصحيحة هو الشكّ بين الثلاث والأربع ، ومورد رواية قرب الإسناد هو الشكّ بين الاثنتين والثلاث ، فيحتاج إلى تنقيح المناط.

وهذا وجه آخر سنتكلّم فيه إن شاء اللّه.

الثاني : أنّ هذا الشكّ بعد البناء على الثلاث والقيام للركعة الرابعة مستلزم لشكّ آخر وهو أنّ هذه الركعة التي قام إليها - أعني الرابعة البنائية - يشكّ وجدانا أنّها ثالثة أو رابعة ، فكلّ شكّ بين الاثنتين والثلاث ينتهي بالأخرة إلى الشكّ بين الثلاث والأربعة ، وحكم صلاة الاحتياط فيه - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - هو التخيير المذكور لمرسل جميل الآتي إن شاء اللّه ، فمدرك التخيير في صلاة الاحتياط في الشكّ بين الاثنتين والثلاث هو نفس مدرك التخيير في الشكّ بين الثلاث والأربع.

وفيه : أنّ ظاهر أدلّة البناء على الأكثر هو باعتبار أوّل شكّ يحصل له ، لا باعتبار الشكوك اللازمة لهذا الشكّ ، غاية الأمر بشرط استقراره وعدم انقلابه الى شكّ آخر.

ص: 205

وأمّا مسألة تتالي الشكوك الذي قاس شيخنا الأستاذ قدس سرّه المقام به (1) فليس من قبيل ما نحن فيه ، لأنّها من قبيل تبدّل الشكّ الأوّل وانقلابه إلى شكّ آخر بعد زوال الشكّ الأوّل ، وما نحن فيه الشك الأوّل موجود ، وهذا الشكّ الثاني من لوازم الشكّ الأوّل.

والإنصاف أنّ هذه المقايسة من شيخنا الأستاذ قدس سرّه غريب.

الثالث : تنقيح المناط ، بمعنى العلم بأنّ المقصود من صلاة الاحتياط هو تدارك ما فات على تقدير فوته بعد البناء على الأكثر ، لكونه في الواقع هو الأقلّ.

وقد جوّز الشارع وخيّر المكلّف بين تدارك كلّ ركعة بركعة من قيام مثل ما فات ، وبين تدارك كلّ ركعة بركعتين من جلوس.

فإذا صرّح الشارع في مورد بمثل هذا التخيير - كما أنّه صرّح في الشكّ بين الثلاث والأربع في مرسل جميل - نعلم بعدم خصوصيّة لذلك المورد ، بل طريق تدارك ما فات أحد الأمرين.

ومرسل جميل عن الصادق علیه السلام هو هذا : قال فيمن لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا ووهمه في ذلك سواء؟ قال علیه السلام : « إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار ، إن شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء صلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » (2).

فبناء على هذا لا فرق في التخيير في صلاة الاحتياط بين ركعتين من جلوس وبين ركعة من قيام ، بين أن يكون الشكّ بين الثلاث والأربع وبين أن يكون بين الاثنتين والثلاث ، لوحدة المناط والملاك.

ولكن أنت خبير بأنّ تنقيح المناط لا يفيد إلاّ في مورد القطع بالمناط والملاك ، وإلاّ لا يخرج عن كونه قياسا باطلا.

ص: 206


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 92.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 9 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 184 ، ح 734 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 35. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 320 ، أبواب الخلل في الصلاة ، باب 10 ، ح 2.

الرابع : الإجماع ، وهو العمدة ، واعتمد عليه في هذا الحكم جميع كثير.

ولكن أنت خبير بأنّ الإجماع الاصطلاحي الذي قلنا بحجّيته في الأصول هو فيما إذا لم يكن للمتّفقين مستند معلوم ، وأمّا في أمثال المقام ممّا ذكروا له مستندات فليس من قبيل ذلك الإجماع الذي قلنا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى نفس المدارك ، وقد عرفت الحال فيها فلا ينبغي ترك الاحتياط في المقام بأن يأتي بركعة من القيام والأحوط منه أن يجمع بينهما وأحوط من ذلك إعادة الصلاة أيضا مضافا إلى ذلك الاحتياط.

والوجه في هذه الاحتياطات الثلاث واضح بعد الإحاطة على ما ذكرنا.

الصورة الثانية : من الصور الأربعة التي للشكّ البسيط والمركّب في نفس الأربعة ، بمعنى عدم خروج طرف الأكثر عن الأربعة ، أي لا يكون زائدا عليها ، وهي عبارة عن الشكّ بين الثلاث والأربع في أي حال من الحالات ، كان في حال القيام أو الركوع أو السجود يبني على الأكثر - أي الأربع - ويتمّ ويسلّم بعد أن تشهّد ، ثمَّ يأتي بصلاة الاحتياط مخيّرا بين ركعتين من جلوس وبين ركعة من قيام.

أمّا البناء على الأكثر : فأوّلا لما مرّ من الأدلّة العامّة ، كموثّقات الثلاث العمّار (1) الدالّة على البناء على الأكثر في كلّ فريضة رباعيّة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية فيما إذا لم يكن البناء على الأكثر موجبا للفساد والبطلان ، كما أنّه فيما نحن كذلك ، أي ليس موجبا للفساد والبطلان.

وثانيا للأخبار الخاصّة في نفس المورد ، أي في الشكّ بين الثلاث والأربع :

فمنها : صحيحة عبد الرحمن بن سيابة وأبي العباس البقباق ، جميعا عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا لم تدر ثلاثا صلّيت أو أربعا ووقع رأيك على الثلاث فابن على الثلاث ، وان وقع رأيك على الأربع فابن على الأربع ، فسلّم وانصرف ، وإن اعتدل

ص: 207


1- سبق ذكرها في ص 183 و 184.

ووهمك فانصرف وصلّ ركعتين وأنت جالس » الحديث (1).

ومنها : مرسلة جميل عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : فيمن لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا ووهمه في ذلك سواء؟ قال : فقال علیه السلام : « إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار ، إنّ شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء صلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » الحديث (2).

ومنها : صحيحة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام في حديث قال : « إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شي ء عليه ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (3).

ومنها : مصحّح الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال علیه السلام : « وإنّ كنت لا تدري ثلاثا صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ثمَّ صلّ ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأمّ الكتاب ، فإن ذهب وهمك إلى الثلاث فقم فصلّ الركعة الرابعة ولا تسجد سجدتي السهو ، وإن ذهب وهمك إلى الأربع فتشهّد وسلّم ثمَّ اسجد سجدتي السهو » (4).

ومنها : حسن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إن استوى وهمه في الثلاث والأربع سلّم وصلّى ركعتين وأربع سجدات بفاتحة الكتاب وهو جالس يقصر

ص: 208


1- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 7 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 184 ، ح 733 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 34. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 316 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 7 ، ح 1.
2- سبق تخريجه في ص 206 ، رقم (2).
3- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 186 ، ح 740 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 41. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1416 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 5.

في التشهّد » (1).

ومنها : موثق أبي بصير فيمن لا يدري في الثالثة هو أم في الرابعة ، قال علیه السلام : « فما ذهب وهمه إليه إن رأى أنّه في الثالثة وفي قلبه من الرابعة شي ء ، سلّم بينه وبين نفسه ، ثمَّ يصلّي ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب » (2).

وروايات أخر ذكرها في الوسائل في باب الذي عقده لهذه المسألة (3) ، وإن شئت فراجع.

فهذه الأخبار مضافا إلى الأخبار العامّة دلالتها على البناء على الأكثر في هذه الصورة من الشكّ - أي الشكّ بين الثلاث والأربع وإتمام ما نقص بصلاة الاحتياط - واضحة لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

نعم في صحيحة زرارة ربما يقال بأنّها تدل على البناء على الأقل ، لأنّ قوله علیه السلام « قام فأضاف إليها أخرى ولا شي ء عليه » ظاهرها هي الركعة الموصولة فيكون عبارة عن أنّه ابن على الثلاث الذي هو الأقلّ في المقام وقم وائت بالرابعة ولا شي ء عليك.

ويؤيّد هذا المعنى أيضا تطبيقه علیه السلام هذا الحكم على الاستصحاب بقوله « ولا ينقض اليقين بالشكّ » أي اليقين بعدم الرابعة بالشكّ في وجوده ، بل يجب عليه أن يبني على العدم ويقوم ويأتي بالرابعة ، وهذا هو البناء على الأقلّ.

ولكنّ أنت خبير بأنّ ظاهر هذه الجملة وإن كان كما توهّمه المتوهّم ولكن ظاهر

ص: 209


1- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 185 ، ح 736 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 37. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 6.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 185 ، ح 735 ، باب احكام السهو في الصلاة ... ، ح 36. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 322 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10 ، ح 7.
3- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 320 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 10.

الجملات الأخر الستّ ما عدا قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشكّ » أنّ المراد باليقين هو اليقين بالامتثال وهو أن يبني على الأكثر ثمَّ يأتي بصلاة الاحتياط لتدارك ما فات على تقدير فوته منفصلا ، وإلاّ لو كان المراد هي الركعة الموصولة والتطبيق على الاستصحاب لما كان لهذه التأكيدات وجه ، فمن هذه التأكيدات يستكشف أنّه علیه السلام بصدد بيان البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط للتدارك منفصلا ، ولكن بصورة البناء على الأقلّ كي لا يكون مخالفا للتقيّة ولرأي الجمهور.

والشاهد الآخر : أنّه علیه السلام في صدر هذه الصحيحة يقول في جواز قول السائل : قلت له : من لم يدر أنّه في أربع هو أو ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب » (1).

ولا شكّ في أنّ جوابه علیه السلام بقوله « يركع ركعتين » إلى آخره ظاهر بل صريح في البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط منفصلا ، وبعيد إلى الغاية أنّه علیه السلام يحكم في الصدر بالبناء على الأكثر وفي الذيل بالبناء على الأقلّ ، وإن كان هو في الشكّ بين الاثنتين والأربع وهذا في الشكّ بين الثلاث والأربع.

ثمَّ إنّ في هذه الصحيحة ناقشوا بعض المناقشات ليس مربوطا بمسألتنا ، وقد فصّلنا الكلام فيها في كتابنا « منتهى الأصول » (2).

وخلاصة الكلام : أنّ حمل الصحيحة على الركعة الموصولة بعيد وخلاف ظاهر الفقرات الستّ ، وأمّا ما رجّحنا في كتابنا « منتهى الأصول » (3) من دلالة هذه الصحيحة على حجّية الاستصحاب فلا ينافي البناء على الأكثر ، لما ذكرنا هناك.

ص: 210


1- « الكافي » ج 3 ، ص 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 3 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1416 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 323 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 3.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 427.
3- المصدر.

ثمَّ إنّ في هذه الروايات في بعض فقراتها وجملها وإن كان ما يقتضي شرحها والتكلّم عنها ولكن أصل المطلب وما نحن بصدد إثباته حيث أنّه معلوم - وبعبارة أخرى : دلالتها على كلا الأمرين ، أي البناء على الأكثر ووجوب التدارك بصلاة الاحتياط حيث أنّها واضحة - فلا يهمّنا بيان سائر ما فيها والإشكالات التي أوردوها عليها والجواب عنها.

نعم بقي أمر : وهو أنّ صلاة الاحتياط هاهنا هل الواجب هو ركعة من قيام ، أو ركعتين من جلوس ، أو التخيير بينهما؟

ظاهر العمّاني (1) والجعفي (2) على المحكي عنهما تعيين ركعتين من جلوس (3) ، كما أنّ المحكي عن بعض القدماء هو تعيين ركعة من قيام ، ولكن فتوى المشهور هو التخيير ، وهو الصحيح.

أمّا أولا : فلمرسلة جميل التي تقدّمت حيث يقول علیه السلام فيها : « إذا اعتدل الوهم في الثلاث والأربع فهو بالخيار إن شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » (4).

وضعفها منجبر بعمل الأصحاب.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ ظاهر موثّقات عمّار هو أن يكون الاحتياط بركعة من قيام ،

ص: 211


1- هو الحسن بن على بن ابى عقيل أبو محمد العماني الحذاء ، من فقهاء الشيعة في ابتداء الغيبة وهو من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه. تطلب ترجمته من : رجال النجاشي : ص 1. تنقيح المقال : ج 1 ، ص 291. معجم رجال الحديث : ج 5. ص 22.
2- هو محمد بن احمد بن إبراهيم أبو الفضل الجعفي الكوفي ثمَّ المصري كان من أفاضل قدماء أصحابنا الإمامية ممن أدرك الغيبتين له كتب كثيرة في الفقه وغيره منها كتاب الفاخر وكتاب تفاسير معاني القرآن وكتاب التوحيد والايمان الى غير ذلك يروى عنه الشيخ والنجاشي بواسطتين وابن قولويه بلا واسطة. « الكنى والألقاب » ج 2. ص 363. تطلب ترجمته من : رجال النجاشي : ص 264. تنقيح المقال : ج 2 ، ص 65 ، معجم رجال الحديث : ج 14 ، ص 311.
3- حكى عنهما الشهيد في « ذكري الشيعة » ص 227 ، مضافا : حكى عن العمّاني في « مختلف الشيعة » ج 2 ص 384.
4- تقدم تخريجه في ص 206 ، رقم (2).

لأنّ ذلك مقتضى إطلاق قوله علیه السلام : « وأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » (1) ، وخصوصا قوله علیه السلام في موثّقة الأخرى للعمّار : « إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت » (2). فأمره علیه السلام بالقيام وصلاة الاحتياط بعد الفراغ والتسليم للصلاة الأصليّة له ظهور تامّ في أنّ صلاة الاحتياط لا بدّ وأن تكون عن قيام.

وظاهر هذه الروايات الخاصّة بل صريح جميعها هو كونها ركعتين من جلوس ، ومقتضى الجمع الدلالي العرفي بين الطائفتين هو التخيير. مضافا إلى ادّعاء الإجماع من بعض في المسألة والشهرة المحقّقة ، لأنّه لا مخالف من القدماء إلاّ العمّاني والجعفي.

نعم الأحوط هو الأخذ في مقام العمل بركعتين من جلوس خروجا عن خلاف العمّاني والجعفي ، ولأنّ الروايات الواردة في نفس المسألة أغلبها - إن لم يكن جميعها - مفادها تعيين ركعتين من جلوس.

ولو احتاط بالجمع فالأحوط تقديم ركعتين من جلوس ، لأنّه بناء على تعيّن ركعتين من جلوس الذي احتماله ليس بعيدا فإن قدّم الركعة من قيام يكون فاصلا بين الصلاة الأصليّة وبين صلاة الاحتياط ، وهذا لا يجوز.

وأمّا القائلون بالتخيير بين البناء على الأقلّ والأكثر ، كالصدوق (3) من القدماء وبعض المتأخّرين ، فاستدلّوا بأخبار الاستصحاب وقالوا بأنّ مقتضاها هو البناء على الأقلّ ، ومقتضى موثّقات عمّار وهذه الأخبار الخاصّة هو البناء على الأكثر ، فمقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو التخيير.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأخبار بل وموثّقات عمّار أخصّ من أخبار الاستصحاب فتخصّص بها أخبار الاستصحاب ، ولا موجب لرفع اليد عن ظهور

ص: 212


1- تقدّم تخريجه في ص 183 و 184.
2- تقدّم تخريجه في ص 184 ، رقم (1).
3- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 384.

كليهما بالجمع بالتخيير.

وأمّا استدلالهم بصحيحة زرارة فقد عرفت الحال فيها وأنّها لا تدلّ على البناء على الأقلّ كما توهّموا ، وعلى تقدير دلالتها يكون من باب التقيّة فلا حجّية لها.

الصورة الثالثة : من الصور الأربع ، هو الشكّ بين الاثنتين والأربع بعد إكمال السجدتين. فأيضا المشهور هو البناء على الأكثر - أي الأربع - والاحتياط بركعتين منفصلتين عن الصلاة الأصليّة قائما.

ويدلّ على قول المشهور :

أوّلا : موثّقات عمار الثلاث المتقدّمة (1).

وثانيا : الأخبار الخاصّة في نفس المسألة :

منها : صحيح محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : « عن رجل صلّى ركعتين فلا يدري ركعتان هي أو أربع؟ قال علیه السلام : « يسلّم ثمَّ يقوم فيصلّي ركعتين بفاتحة الكتاب فيشهد وينصرف وليس عليه شي ء » (2).

ومنها : صحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام ، قال علیه السلام : « إذا لم تدر اثنتين صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ، ثمَّ صلّ ركعتين وأربع سجدات ، تقرأ فيهما بأمّ القرآن ثمَّ تشهّد وسلّم ، فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع ، وإن كنت صلّيت الأربع كانتا هاتان نافلة » (3).

ومنها : صحيح زرارة الذي تقدّم ذكره ، حيث إنّ في صدره : من لم يدر في أربع هو أو ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال علیه السلام : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة

ص: 213


1- تقدّم في ص 183 و 184.
2- « الاستبصار » ج 1 ، ص 372 ، ح 1314 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 324 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 6.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 8 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 349 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1015 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 322 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 1.

الكتاب ويتشهّد ولا شي ء عليه » (1).

ومنها : خبر ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل لا يدري ركعتين صلى أم أربعا؟ قال علیه السلام : « يتشهّد ويسلّم ، ثمَّ يقوم فيصلّي ركعتين وأربع سجدات يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ، ثمَّ يتشهّد ويسلّم ، فإن كان صلّى أربعا كانت هاتان نافلة ، وإن كان صلّى ركعتين كانت هاتان تمام الأربع ، وإن تكلّم فليسجد سجدتي السهو » (2).

فهذه الأخبار الخاصّة بالشكّ بين الاثنتين والأربع ، مضافا إلى الأخبار العامّة تدلّ دلالة واضحة في هذه الصورة على البناء على الأكثر ، أي الأربع. وكذا تدل على أنّ صلاة الاحتياط فيها ركعتين من قيام ، وهذه الأخبار كلّها متفق في هذا الحكم ، ولذلك لا خلاف بين القائلين بالبناء على الأكثر في هذه الصورة في هذا الحكم ، أي في أنّ صلاة الاحتياط هاهنا ركعتان من قيام.

نعم ذهب بعض إلى البناء على الأقلّ ومستندهم في ذلك أخبار ربما يشعر بذلك ، ولكن لا بدّ من حملها على التقيّة أو طرحها ، من جهة مخالفتها لهذه الأخبار الصحيحة الخاصّة والعامّة ، وإعراض المشهور عنها ، بل ربما ادّعى الإجماع على خلافها ، مضافا إلى موافقتها للعامّة ، ولذلك أخبار البناء على الأقلّ يجب أن تطرح أو يؤول.

وأمّا صحيح محمّد بن مسلم - قال : سألته عن الرجل لا يدري صلّى ركعتين أم أربعا؟ قال علیه السلام : « يعيد الصلاة » (3) - فلم يفت أحد بمضمونه إلاّ ما حكي عن الصدوق قدس سرّه في المقنع (4) على كلام فيه ، لأنّه حكى عنه أيضا أنّه قال : وروى أنّه يسلّم

ص: 214


1- تقدّم تخريجه في ص 210 ، رقم (1).
2- « الكافي » ج 3 ، ص 352 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 186 ، ح 739 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 40. « الاستبصار » ج 1 ، ص 372 ، ح 1315 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 323 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 186 ، ح 741 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 2. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1417 ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 324 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 11 ، ح 7.
4- « المقنع » ص 102.

فيقوم فيصلّي ركعتين (1). فلعلّه يقول بالتخيير بين البناء على الأكثر والإعادة ، بل يمكن استظهاره من هذا الكلام بناء على ما يقال : إنّ نقله لرواية علامة للعمل بها.

وللقول بالتخيير بين البناء على الأكثر والإعادة وجه ، وهو أنّ البناء على الأكثر على وجه الترخيص للعلاج وتصحيح العمل تخفيفا على المكلّف. وحكي ذلك عن الشهيد في الذكرى وعن العلاّمة أيضا (2) ، فإذا كان الأمر كذلك فالإعادة مجزية بطريق أولى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حرمة قطع العمل وإبطاله مانع عن جواز الإعادة ، لا البناء على الأكثر.

ولكن يمكن أن يقال : بأنّه بناء على قول المشهور - أي البناء على الأكثر - أيضا يجب أن يسلم ويخرج من الصلاة.

فهذه الرواية التي مفادها الإعادة متّفقة مع روايات البناء على الأكثر في الخروج عن الصلاة ، غاية الأمر أنّ مفاد روايات البناء على الأكثر هو العلاج بإتمام ما نقص بصلاة الاحتياط تخفيفا على المكلّف ، وهذه الرواية مفادها تفريغ الذمة بالإعادة ، فالنتيجة هو التخيير بين الأمرين. وعلى كلّ ، هذه الرواية بمعنى وجوب الإعادة تعيينا معرض عنها للجميع ، فلا بدّ من تأويلها أو طرحها.

الصورة الرابعة : هو الشكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، والصور الثلاث التي تقدّمت كانت من الشكّ البسيط في نفس الرباعيّة ، بمعنى أنّ طرف الأكثر من الشكّ لم يكن زائدا على الأربع ، وهذه الصورة تكون من الشكّ المركّب أيضا في نفس الرباعيّة بالمعنى المذكور.

وقد تقدّم المراد من الشكّ المركّب والبسيط ، ونقول :

ص: 215


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 349 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1015 و 1021 ، و « المقنع » ص 102.
2- « ذكري الشيعة » ص 225.

إنّ هذا الشكّ مركّب أي في الحقيقة ليس شكّا واحدا بل مركّب من شكّين فما زاد ، كما أنّ هذا الشكّ مركّب من ثلاثة شكوك ، الأوّل : بين الاثنين والأربع. والثاني : بين الاثنين والثلاث. والثالث : بين الثلاث والأربع.

والحكم في هذه الصورة أيضا البناء على الأكثر - أي الأربع - وصلاة الاحتياط يقرأ ركعتين من قيام لاحتمال أن يكون الاثنين ، وركعتين من جلوس ، لاحتمال أن يكون ثلاثا. وأمّا احتمال أن يكون أربعا فلا يحتاج إلى تدارك ، لأنه تامّ فيكون ما صلّى احتياطا ، نافلة على هذا التقدير. والاحتمالات منحصرة فيما ذكرنا.

ومستند هذا الحكم - مضافا إلى ادّعاء الإجماع عن الانتصار (1) والغنية (2) ، والروايات العامّة ، أي الموثّقات الثلاث المتقدّمة للعمّار (3) - الروايات الخاصّة الواردة في خصوص هذه الصورة :

منها : صحيح ابن أبي عمير ، عن الصادق علیه السلام في رجل صلّى فلم يدر اثنتين صلّى ، أم ثلاثا ، أم أربعا؟ قال علیه السلام : « يقوم فيصلّي ركعتين من قيام ويسلّم ، ثمَّ يصلّي ركعتين من جلوس ويسلم ، فإن كان أربع ركعات كانت الركعتان نافلة وإلاّ تمّت الأربع » (4).

ومنها : صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن الكاظم علیه السلام : قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل لا يدري اثنتين صلّى ، أم ثلاثا ، أم أربعا؟ فقال : « يصلّي ركعة من قيام - على بعض نسخ الفقيه - وركعتين - على بعض نسخ الآخر - ثمَّ يصلّي ركعتين وهو جالس » (5).

ص: 216


1- « الانتصار » ص 156.
2- « الغنية » ضمن الجوامع الفقهية ، ص 504.
3- تقدّم ذكره في ص 183 و 184.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 353 ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 742 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 43. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 326 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 13 ، ح 4.
5- « الفقيه » ج 1 ، ص 350 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1021 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 325 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 13 ، ح 1.

ودلالة هذه الروايات على أصل الحكم - أي البناء على الأكثر ، أي الأربع هاهنا - واضحة ، ولا خلاف فيه أيضا إلاّ من ابن الجنيد (1) فإنّه جوّز البناء على الأقلّ ، وليس له دليل على هذا التخيير إلاّ تخيّل أنّه مقتضى الجمع بين الأخبار الدالّة على البناء على الأقلّ والأخبار التي تدلّ على البناء على الأكثر.

وأنت خبير بما في هذا الكلام ، وأنّ أخبار البناء على الأقلّ محمولة على التقيّة ، ومعرض عنها عند المشهور ، بل عرفت ادّعاء الإجماع عن الغنية والانتصار على خلافها في خصوص هذا المورد.

فالإنصاف أنّ أصل الحكم - أي : البناء على الأكثر وتدارك ما احتمل فوته بصلاة الاحتياط - ممّا لا ينبغي أن يشكّ فيه.

نعم وقع الخلاف في كيفيّة صلاة الاحتياط من حيث الكميّة ، ومن حيث الترتيب بين الركعتين قائما والركعتين جالسا.

أمّا الأوّل أي الاختلاف من حيث الكميّة ، فقد عرفت أنّ المشهور هو ركعتين من قيام وركعتين من جلوس.

ومقابل هذا القول ما عن الصدوق (2) ووالده (3) - قدس سرّهما - وقوّاه الشهيد قدس سرّه أيضا في الذكرى (4) من حيث الاعتبار ركعة من قيام بدل ركعتين.

ودليلهم على هذا القول أمران :

الأوّل : موافقته للاعتبار ، ومن هذه الجهة قوّاه الشهيد ، وهو أنّه كما أشرنا إليه أنّ الاحتمالات في هذا الشكّ منحصرة في الثلاثة ، لأنّه إمّا صلّى اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، فإن صلّى أربعا فصلاته من حيث عدد الركعات تامّة لا يحتاج إلى التدارك وصلاة

ص: 217


1- « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 382.
2- حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج 2 ، ص 384.
3- « فقه الرضا » ص 118.
4- « ذكري الشيعة » ص 226.

الاحتياط أصلا ، وإن كان ما صلّى ثلاثا فيكفي في التدارك ركعة واحدة قائما ولا يحتاج إلى الاثنتين قائما ، بل هو مضرّ كما هو واضح ، وإن كان اثنتين فمع انضمام تلك الركعة الواحدة إلى الركعتين من جلوس يكفي في تدارك الاثنتين الفائتتين ، لأنّ الركعتين من جلوس تحسبان ركعة من قيام ، فلا يحتاج إلى ركعتين من قيام.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الاعتبار لا يقاوم تلك الأدلّة الدالّة على وجوب ركعتين من قيام ، ويكون اجتهادا مقابل النصّ.

الثاني : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج بناء على أن يكون متن الرواية ركعة من قيام ، لا ركعتين ، أي بناء على إحدى نسختي الفقيه.

وفيه أوّلا : أنّ اختلاف النسخة لا يوجب تعدّد الرواية كي يدخل في باب تعارض الخبرين ، فيشمله أخبار التخيير عند فقد المرجّحات أو مطلقا بناء على حمل أخبار الترجيح بالمزايا على الاستحباب أو على وجه آخر ، بل كلّ واحد من محتملي الصدور يسقط عن الحجية للشكّ في موضوع الحجّة.

وثانيا : الظاهر من نفس كلام الفقيه هو أنّ عبارة صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج « ويصلّي ركعتين من قيام لا ركعة من قيام » كما في بعض النسخ ، وذلك من جهة أنّه بعد نقله هذه الصحيحة عن عبد الرحمن بن الحجّاج وفيها على النسخة المخطوطة التي عندي « يصلّي ركعتين من قيام » يروى عن علي بن حمزة رواية ، وعن سهل بن اليسع رواية ثمَّ يقول بلا فصل : وقد روى أنّه يصلّي ركعة من قيام وركعتين وهو جالس.

فلو كان في صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج « يصلّي ركعة واحدة من قيام » على نقله ، لم يكن محلّ لأن يقول : وقد روى أنّه يصلى ركعة من قيام. فنقل هذه المرسلة يوجب الاطمئنان بأنّ ما في صحيحة عبد الرحمن هو « ويصلّي ركعتين من قيام ».

فيبقى مرسلة صدوق فقط ، وهو مع إعراض المشهور لا يصحّ أن تكون مستندا لفتواهم ، فالصحيح ما هو عليه المشهور.

ص: 218

وأمّا تقديم ركعتين من قيام على ركعتين من جلوس فهو ظاهر هذه الأخبار ، حيث أنّه علیه السلام يقول فيها بعد الأمر بصلاة ركعتين من قيام : « ثمَّ يصلى ركعتين من جلوس » ومعلوم أنّ كلمة « ثمَّ » يفيد الترتيب والبعديّة.

فما حكى من القول بالتخيير عن المرتضى في الانتصار (1) ، أو القول بوجوب تقديم ركعتين من جلوس كما نسب القول به إلى بعض الأصحاب ، لا وجه له.

وأضعف من هذين القولين القول بلزوم تقديم ركعة من ركعتي القيام دون كليهما إن كان له قائل ، وقد نسبه الفقيه الهمداني إلى المفيد (2) - قدس سرّهما.

وذلك لأنّ الوجه الاعتباري المتوهّم - وهو أن الفائت لو كانت ركعة واحدة تكون تلك الركعة الواحدة تداركا لها ، ولو كانت اثنتين تكون هي والركعتين من جلوس اللتان تحسبان ركعة واحدة من قيام ، أو مع الركعة الواحدة الأخرى من قيام تداركا للاثنتين الفائتين - لا يأتي هاهنا. وفيه ما لا يخفى.

والذي ذكرنا من أقسام الشكوك الأربعة كان من أقسام الشكّ في نفس الأربعة ، بمعنى أنّ طرف الأقلّ والأكثر كانا من نفس الأربعة وبعد إكمال السجدة الثانية من الركعة الثانية ، سواء كان الشكّ بسيطا أو مركّبا على التفسير المتقدّم.

فهذه الشكوك الأربعة التي تقدّم ذكرها قسمان من الأقسام الستّة التي قسّمنا الشكوك إليها ، أي الشكّ البسيط والمركّب في نفس الأربعة.

وأمّا لو كان طرف الأكثر من الشك زائدا على الأربعة ، فالصور كثيرة في قسميه ، أي البسيط والمركب بحسب إمكان الوقوع ، وإن كان وقوعه نادرا.

وقد ذكر الشهيد الثاني في شرح الألفيّة (3) : أنّ جميع صور الشكّ إمّا ثنائيّة أي

ص: 219


1- « الانتصار » ص 156.
2- « مصباح الفقيه » كتاب الصلاة ، ص 568.
3- « مقاصد العلية في شرح الألفية » ص 193.

للشكّ طرفين فقط ، أو ثلاثية ، أي : له ثلاثة أطراف ، أو رباعية أي له أربع أطراف. وهذه الشكوك إمّا في الأربعة أو بزيادة الخامسة.

فالثنائيّة : ستّ صور. وهي :

الأوّل : الشكّ بين الاثنتين والثلاث.

والثاني : بين الاثنتين والأربع.

والثالث : بين الاثنتين والخمس.

والرابع : بين الثلاث والأربع.

والخامس : بين الثلاث والخمس.

والسادس : بين الأربع والخمس.

والثلاثية : أربع صور :

الأوّل : بين الاثنتين والثلاث والأربع. الثاني : بين الاثنتين والثلاث والخمس.

الثالث : بين الاثنتين والأربع والخمس. الرابع : بين الثلاث والأربع والخمس ، فمجموعهما عشرة.

والرباعيّة واحدة ، وهي بين الاثنتين والثلاث والأربع والخمس.

فهذه كلّها أحد عشر ، وباعتبار حال عروض الشكّ في الركعة ينقسم إلى تسعة أقسام :

الأوّل : بعد الأخذ في القيام. الثاني : بعد استيفائه وقبل الشروع في القراءة.

الثالث : أثناء القراءة.

الرابع : بعدها قبل الركوع. الخامس : بعد الانحناء وقبل رفع الرأس. السادس : بعد رفع الرأس وقبل السجود. السابع : في السجود قبل الفراغ من ذكره الواجب. الثامن

ص: 220

بعد الفراغ عن الذكر وقبل الفراغ عن نفس السجدة.

التاسع : بعد الفراغ ، فهذه تسعة حالات في كلّ ركعة يمكن عروض الشكّ في كلّ واحد منها. وحيث أنّ الشكوك البالغة أحد عشر التي تقدّم ذكرها يمكن وقوع كلّ واحد منها في كلّ واحد من هذه الحالات التسع ، فيكون مجموع صور الشكّ في الرباعية تسع وتسعين ، حاصل من ضرب أقسام الشكوك الأحد عشر في الحالات التسع.

فإذا كانت السادسة أيضا طرفا للشكّ فيصير مجموع الشكوك ستّة وعشرين ، لأنّ بزيادة السادسة طرفا للشكّ يزيد على عدد الشكوك خمسة عشر ، فبانضمامه إلى تلك الأحد عشر يصير المجموع ستّة وعشرين.

ومن ضرب هذا المجموع في الحالات التسع يحصل مائتين وأربع وثلاثين صورة وكلّما زاد في أطراف الشكّ يزيد في عدد صور الشكّ ، وربما يبلغ إلى ما لا تحصى كثرة ، ولكن صرف فرض لا تحقّق لأغلبها في الخارج ، وبعضها وإن كان ممكنا وقوعه في الخارج ولكن في غاية الشذوذ والندرة.

ونحن نذكر منها خصوص الشكوك الصحيحة :

أقول : خمسة منهما وردت الروايات في موردها بالخصوص على صحّتها ، مضافا إلى الأدلّة العامّة قد تقدّم أربعة منها وذكرناها ، وبقي واحد منها وهو الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، وحكمه البناء على الأربع ثمَّ يتشهّد ويسلّم ، ثمَّ بعد التسليم يسجد سجدتي السهو ويسلّم بعدهما.

ويدلّ على هذا الحكم أخبار :

منها : صحيح عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام ، قال علیه السلام : « إذا كنت لا تدري أربعا صلّيت أو خمسا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك ، ثمَّ سلّم بعدهما » (1).

ص: 221


1- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 195 ، ح 767 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 68. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 314 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 5 ، ح 2.

ومنها : صحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام أيضا : « إذا لم تدر أربعا صلّيت أم خمسا أم نقصت أم زدت فتشهّد وسلّم واسجد سجدتين بغير ركوع ولا قراءة تتشهّد فيهما تشهّدا خفيفا (1).

ومنها : موثّق أبي بصير عن الصادق علیه السلام أيضا قال : « إذا لم تدر خمسا صلّيت أم أربعا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك وأنت جالس ، ثمَّ سلّم بعدهما » (2).

ومنها : صحيحة زرارة - أو حسنته - قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر زاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ، وسمّاهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المرغمتين » (3) لأنّهما يرغمان الشيطان ، أي يغضبانه ، أو يرغمان أنفه.

ودلالة هذه الأخبار على هذا الحكم في هذا الشكّ واضحة لا يحتاج إلى الشرح والبيان ، فكلّ واحدة منها يدلّ على البناء على الأربع وإتمام الصلاة ، وبعد التسليم والفراغ عن الصلاة على وجوب الإتيان بسجدتي السهو وهو جالس.

والظاهر من التقييد بكونه بعد الصلاة إتيانهما قبل أن يقوم من مكانه ، وأمّا دلالتها على أنّ مورد هذا الحكم بعد إكمال السجدتين هو التعبير بلفظ الماضي في قوله علیه السلام « إذا لم تدر أربعا صلّيت أم خمسا » ولا يصدق مضيّ الأربع إلاّ برفع الرأس عن الركعة

ص: 222


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 350 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1019 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 196 ، ح 772 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 73. « الاستبصار » ج 1 ، ص 380 ، ح 1441 ، باب التسبيح والتشهد في سجدتي السهو ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 327 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 14 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 326 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 14 ، ح 3.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 354 ، باب من سها في الأربع والخمس ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 326 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 14 ، ح 2.

الرابعة ، وهذا واضح جدّا.

نعم ظاهر صحيحة زرارة أو حسنته ، وكذلك ظاهر صحيح الحلبي عدم اختصاص هذا الحكم بهذا الشكّ ، بل يأتي في كلّ مورد احتمل الزيادة على الأربع أو النقيصة عنه ، فلا بدّ من تقييدها بالأدلّة الخاصّة الواردة في مورد كلّ شكّ بالنسبة إلى النقيصة ، وبأدلّة البطلان بالنسبة إلى الزيادة على الخمسة.

وأمّا الأربعة الهدميّة من الشكوك الصحيحة الباقية فلم يرد فيها شي ء من الروايات ، وإنّما يستدلّ على صحّتها بالقواعد العامّة.

نعم زاد شيخنا الأستاذ قدس سرّه صورة أخرى على الشكوك المنصوصة فيصير مجموع الشكوك المنصوصة عنده ستّة ، وهي عبارة عن الشكّ بين الأربع والخمس والستّ بعد إكمال السجدتين (1).

واستدلّ على صحّته بمفهوم خبر زيد الشحّام وفيه : سألته عن رجل صلّى العصر ستّ ركعات أو خمس ركعات قال علیه السلام : « إن استيقن أنّه صلّى خمسا أو ستّا فليعد » (2).

ومفهومه أنّه إذا لم يستيقن أنّه صلّى خمسا أو ستّا فلا تجب الإعادة.

وأمّا أنّ مورده الشكّ بعد إكمال السجدتين ، فلما تقدّم من التعبير بلفظ الماضي.

وفيه : أنّ الأخذ بظاهر هذه الرواية مستلزم للقول بصحّة الصلاة التي يشكّ فيها بين الأربع والستّ بدون أن يأتي بسجدتي السهو بعد التسليم ، وهو بعيد.

وأمّا الشكوك الهدميّة الأربعة التي قالوا فيها بهدم القيام كي يرجع إلى الشكوك المنصوصة فيعمل بها عملها وهي الشكّ بين الأربع والخمس حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والخمس حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والأربع والخمس حال القيام ، و

ص: 223


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 115.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 352 ، ح 1461 ، باب أحكام السهو ، ح 49 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 311 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ج 17.

الشكّ بين الخمس والستّ حال القيام.

فهذه الأربعة وإن كانت ترجع إلى الشكوك المنصوصة بعد هدم القيام فيها ، إلاّ أنّ الشأن في هدم القيام وأنّه ما الوجه فيها؟

والظاهر أنّ الهدم فيها بملاحظة كون الركعة التي فيها محكومة بالزيادة ، فقبل أن يدخل في الركن - كي لا تتحقّق زيادة الركن وهو الركوع ، والقيام المتّصل بالركوع الذي لا يحصل إلاّ بالدخول في الركوع - لو التفت الى هذه الزيادة يجب عليه أن يهدم هذا القيام ويتمّ الصلاة على عدد الصحيح الذي هو الأربع.

والدليل على ذلك : أنّه لو علم تفصيلا بأنّ الركعة التي هو فيها هي الخامسة ، فلو كان علمه هذا بعد الدخول في الركوع تكون صلاته هذه باطلة لزيادة ركنين : أحدهما الركوع ، والثاني : قيام المتّصل بالركوع.

وأمّا لو كان حصول علمه قبل الدخول في الركوع يجب هدم قيامه وإتمام صلاته ، لزيادة هذا القيام وهو زيادة غير ركنيّة عن نسيان ، فلا تكون مضرّة.

فإذا كان الأمر في مورد العلم الوجداني كذلك يقينا فكذلك الأمر فيما إذا حكم الشارع بالزيادة ، لوحدة الملاك فيهما ، وهي زيادة الركعة التي بيده.

وأمّا كونها محكومة بالزيادة شرعا فمن جهة أنّ الشكّ في أنّ ما بيده هي الخامسة مستلزم للشكّ في أنّ الركعة السابقة على هذه التي بيده هل هي الثالثة أو الرابعة؟

فهاهنا في الحقيقة شكّان بالفعل : أحدهما : بالنسبة إلى ما بيده ، وهي بين الرابعة والخامسة. والثاني : بالنسبة إلى السابقة هذه الركعة ، وهي بين الثلاث والأربع.

والشكّ الأوّل وإن لم يكن فيه حكم إذا كان في حال القيام ، إذ ليس فيه نصّ ، ولكن الشكّ الثاني ، أي الشكّ بين الثلاث والأربع من الشكوك المنصوصة ، ومشمول للنصوص العامة. مضافا إلى أنّ فيه نصّ خاصّ ، ومفاد تلك النصوص العامّة هو البناء على الأكثر ، فإذا بنى على الأكثر فقهرا ما بيده يكون خارجا عن الأربعة ، و

ص: 224

يكون زائدا ، فيجب هدمه ، كما إذا علم وجدانا بأنّها زائدة.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا بالنسبة إلى ثلاث صور من الشكوك الهدميّة فالأمر في كمال الوضوح ، وهي الشكّ بين الأربع والخمس في حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والخمس في حال القيام ، والشكّ بين الثلاث والأربع والخمس في حال القيام.

وأمّا الصورة الرابعة ، أي الشكّ بين الخمس والستّ في حال القيام فيعلم تفصيلا بزيادة هذا القيام سواء أكان خمسا أو ستّا ، فيجب هدم القيام والجلوس ، فيرجع شكّه إلى أنّ ما صلّى هل هو أربع أو خمس؟ وهذا هو الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، وهو من الشكوك المنصوصة ، وحكمه البناء على الأربع وأن يسجد سجدتي السهو.

وبعبارة أخرى : هاهنا شكوك فعليّة موجودة قبل الهدم ، لا أنّها تحصل بالهدم حتّى تقول ما هو مجوّز الهدم؟ كي يرجع الشكّ إلى الشكوك المنصوصة ، فليس تلك الشكوك مسبّبة عن الهدم ومعلولة له ، بل الأمر بالعكس ، أي يكون الهدم معلوم لتلك الشكوك ، لأنّه بواسطة حكم تلك الشكوك يحكم بزيادة ذلك القيام وخروجه عن الصلاة ، وواقعا في وسط الصلاة فيجب هدمه.

فهذه الشكوك الأربعة في الحقيقة ترجع إلى الشكوك المنصوصة.

ثمَّ لا يخفى أنما ذكرنا من رجوع هذه الشكوك الأربعة الهدمية إلى الشكوك المنصوصة ليس معناه انقلاب الشكّ غير المنصوص إلى المنصوص كما يوهمه ظاهر عبارة الرجوع ، بل المراد ما ذكرنا سابقا من أنّ الشكّ المنصوص موجود قبل الهدم وهو بحكمه موجب للهدم.

إن قلت : إن ما ذكرت من أنّ البناء على الأكثر في هذه الشكوك الهدميّة الأربعة بالنسبة إلى الشكّ السابق على هذا الشكّ الأخير موجب للحكم بزيادة هذه الركعة

ص: 225

الأخيرة التي بيده وبنيت جواز الهدم على هذا ، هو من الأصل المثبت الذي ليس بحجّة ، لأنّ موضوع البناء على الأكثر هو الشكّ في عدد الركعات ، فالخطاب متوجّه إلى الشاكّ ، وهذا أي أخذ الشكّ في الموضوع وكون الخطاب إلى الشاكّ هو المراد بالأصل العملي.

قلنا أوّلا : إنّه ربما يقال بأنّه ليس بأصل عملي كي يكون هذا الحكم ظاهريّا ، بل هو حكم واقعي جعل للشاكّ في عدد الركعات ، ولذلك لو بنى على الأكثر وأتى بصلاة الاحتياط ثمَّ تبيّن الخطأ وأنّ ما أتى به كان هو الأقلّ لا تجب الإعادة.

وإن كانت هذه المقالة لا تخلو من نظر وإشكال وسيأتي ما هو التحقيق في الأمر الثالث.

وثانيا : ليس الحكم بزيادة الركعة المشكوكة من اللوازم العقلية للبناء على الأكثر بل معنى البناء على الأربع الذي هو الأكثر في المسائل المذكورة أنّ ركعات الصلاة تمّت وليس ما وراء هذه الركعة المبنيّة على كونها رابعة ركعة صلاتيّة ، وهذا عبارة أخرى عن زيادتها ، لا أنه زيادتها من لوازم البناء على الأكثر.

وينبغي التنبيه على أمور

[ الأمر ] الأوّل : في أنّه إذا كان الشكّ بين التمام والزيادة من الستّ فما فوق كالشكّ بين الأربع والستّ أو السبع بعد الإكمال ، فهل يمكن تصحيحه باستصحاب عدم الزيادة ويجري الاستصحاب ، أم لا لخلل فيه؟

فنقول : قد يقال في تقريب عدم جريان الاستصحاب : أنّ الشارع ألغى جريان الاستصحاب في باب عدد الركعات.

أمّا في الأوليين فلجهة حكمه بلزوم كون الأوليين محفوظا وسالما بقوله : « إذا

ص: 226

سلمت الركعتان الأوليان سلمت الصلاة » (1) وبالاستصحاب لا يمكن إثبات عنوان الحفظ والسلامة إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، لأنّ السلامة والحفظ من اللوازم العقليّة لعدم الركعة المشكوكة.

وأمّا في الأخيرتين فلعدم اعتناء الشارع بالاستصحاب ، وحكمه بالبناء على الأكثر على خلاف الاستصحاب.

وأمّا في الزائد على الأخيرتين فلأنّ الشارع لمّا جعل البناء على الأكثر في الأخيرتين علمنا أنّ احتمال الزيادة في الصلاة مضرّ بالصحّة ، ولذلك ألغى الاستصحاب ، لأنّ في الاستصحاب لا محالة احتمال الزيادة موجود في أيّ صورة من الصور ، ولذا حكم بالبناء على الأكثر وسدّ احتمال الزيادة بهذا البناء ، وسدّ احتمال النقيصة بصلاة الاحتياط.

وحاصل الكلام : أنّ احتمال الزيادة والنقيصة كلاهما موجب للإعادة ، للشكّ في الامتثال وتحصيل الملاك ، فمن جهة سدّ احتمال الزيادة سدّ باب الاستصحاب ، وسدّ احتمال النقيصة بجعل صلاة الاحتياط ، فمناط سدّ باب الاستصحاب في الأخيرتين هو بعينه موجود في جميع صور الشكّ فيما إذا كان أحد طرفي الشكّ هو احتمال الزيادة على الأربعة.

غاية الأمر في خصوص الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين جاء الدليل على الصحّة ، وعدم مضرّية احتمال الزيادة في هذا المورد بالخصوص ، وتداركه بسجدتي السهو وأمّا فيما عداه فالإشكال بحاله ، فلا بدّ من الإعادة إلاّ في بعض الصور الذي يمكن استظهار صحّته من مفهوم رواية زيد الشحّام ، وقد تقدّم تفصيله (2).

وفيه : أنّ كون مناط إلغاء الشارع للاستصحاب في الركعتين هو خصوص احتمال

ص: 227


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 346 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1010 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 299 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 1 ، ح 3.
2- تقدّم في ص 223 ، رقم (2).

الزيادة غير معلوم ، وتنقيح المناط ظنّا قياس ، باطل عندنا.

والشاهد على عدم كون المناط هو احتمال الزيادة هو أنّه حكم في بعض الموارد بالبناء على الأربع مع احتمال الزيادة ، كما في الشكّ بين الأربع والخمس مع احتمال كون الركعات زائدة على الأربع ، وكذلك في الشكّ بين الأربع والخمس والستّ بناء على الأخذ بمفهوم خبر زيد الشحّام ، وأيضا فيما إذا شكّ في إتيان الركوع مع عدم تجاوز محلّه حكم بالبناء على العدم ، مع أنّه لو أتى به بعد هذا العدم يحتمل زيادة الركوع.

ولا فرق بين زيادة الركوع وبين زيادة الركعة لو كان احتمال زيادتها مضرا ، إذ لو كانت زيادة الركعة مضرّة يكون باعتبار زيادة الركن ، أي الركوع فيها ، وإلاّ فزيادة أجزائها غير الركنية عن غير عمد فليس بمضرّ قطعا.

وقد يقال بعدم جريان الاستصحاب لأنّه لا أثر له ، إلاّ بناء على اعتبار الأصل المثبت وهو مما نقّحنا بطلانه في كتابنا « منتهى الأصول » (1).

بيان ذلك : أنّه إمّا أن يستصحب رابعيّة هذه الركعة التي بيده - التي هي مورد الشكّ بين كونها رابعة أو زائد ، فهذه ليست لها حالة سابقة متيقّنة لأنّها من أوّل وجودها مشكوك الرباعيّة - وإمّا أن يستصحب عدم وجود الزائد على الأربعة.

فهذا الاستصحاب وإن كان له مجرى من حيث تماميّة أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، ولكن إن كان المراد منه صرف عدم تحقّق الزائد على الأربع فلا أثر له ، لأنّه ليس لعدمه أثر شرعي. وإن كان المراد منه إثبات أنّ ما بيده رابعة فيتشهّد ويسلّم فهذا مثبت ، لأنّ كون ما بيده رابعة من اللوازم العقليّة لعدم تحقّق الزائد على الأربع.

والحاصل : أنّه وإن يعلم بالوجدان أنّ الأربع لا بشرط عن وجود ركعة بعده وعدم وجودها موجود ، ولكن الأثر للأربع بشرط لا ، وانطباقه على هذه الركعة التي

ص: 228


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 477.

بيده مشكوك ، وباستصحاب عدم الزائد على الأربع وإن كان يثبت أنّه أي : الرابع بشرط لا هو هذه الأخير لكنه مثبت ، لأنّ كون الأخيرة كذلك من اللوازم العقلية لعدم الزائد على الأربع ، لا من الآثار الشرعيّة له ، كما هو واضح.

فظهر ممّا ذكرنا بطلان الصلاة في جميع صور احتمال الزيادة على الأربع ولزوم إعادتها ، إلاّ في ما إذا جاء دليل بالخصوص على الصحّة ، كما أنّه جاء في الشكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين. وادّعى في الشكّ بين الأربع والخمس والستّ بعد إكمال السجدتين بمفهوم رواية زيد الشحّام.

وأمّا بعض صور الشكّ في الزيادة واحتمال السادس إذا كان الشكّ في حال القيام إن قلنا بصحّتها فذلك من جهة هدم القيام ، ورجوع الشك إلى الشكوك المنصوصة ، كما مرّ تفصيلا ، وليس من جهة استصحاب عدم الزائد.

وقد أجاب عن هذا الإشكال شيخنا الأستاذ قدس سرّه بأنّ أجزاء الصلاة المترتّبة في الوجود يجب أن يوجد الجزء التالي بعد تحقّق الجزء السابق عليه وعدم وجود الجزء اللاحق ، فالركعة الرابعة يجب أن توجد بعد تحقّق الثالثة وعدم وجود الخامسة ، ولا يلزم أن تتّصف الركعة بالثالثة.

ففي المقام يجب التشهد والتسليم بعد إحراز وجود الرابعة وعدم وجود الخامسة ، ولا يلزم أن يتّصف الركعة التي بعد رفع الرأس عن سجدتها الثانية ، يتشهّد ويسلّم بكونها رابعة ، بل يكفي في صحّة إتيان التشهّد والتسليم إحراز وجود الرابعة وإحراز عدم الخامسة ، وفي المفروض إحراز وجود الرابعة بالوجدان ، وإحراز عدم الخامسة بالأصل (1) هذا ما ذكره قدس سرّه.

ولكن ظاهر أدلّة التشهّد والتسليم في الرباعيّة هو أن يتشهّد في الرابعة ، وهذا يقتضي أن يكون التشهد الثاني في الركعة التي أحرز أنّها رابعة ، والتشهّد الأوّل في

ص: 229


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 106.

الركعة التي أحرز أنّها الثانية ، ففي رواية أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « إذا جلست في الركعة الثانية فقل بسم اللّه » إلى آخر ما قال علیه السلام ، إلى أن قال علیه السلام : « فإذا جلست في الرابعة قلت بسم اللّه وباللّه » إلى آخر ما قال علیه السلام (1) فما ذكره قدس سرّه لا يخلو من غرابة وأغرب منه قوله بأنّ استصحاب عدم الزيادة وإن كان تامّا من ناحية تماميّة أركانه وتأثيره في صحّة الصلاة التي يشكّ في زيادتها إلاّ أنّه لا يجري لانصراف أدلّة الاستصحاب عن أمثال هذه الموارد.

الأمر الثاني : في أنّه يجب التروّي والفحص عند الشكّ في عدد الركعات أم لا ، بل يبني على الأكثر بمحض حدوث الشكّ؟

فنقول : التروّي والفحص عمّا في خزانة النفس قد يكون من جهة استعلام حال الشكّ وأنّه يدوم أو يزول - وبعبارة أخرى : شكّ مستقرّ وثابت ، أم ليس له قرار وثبات ، بل يزول - وقد يكون الاستعلام حال الترديد الذي في خزانة النفس وأنّه هل لأحد طرفي المحتمل ترجيح كي يكون ظنّا ، أم لا حتّى يكون شكا مقابل الظنّ والوهم.

فإن كان بمعنى الأوّل : فالظاهر عدم لزومه في الموارد التي حكم الشارع بالبناء على الأكثر ، وذلك من جهة أنّ موضوع هذا الحكم هو الشكّ في الركعتين الأخيرتين من الرباعيّة ، فمتى تحقّق موضوعه يتحقّق ذلك الحكم ، نعم لا بدّ من الصدق العرفي. ولا يبعد أن يكون التروّي واجبا إذا كان بأدنى التفات والرجوع إلى خزانة النفس يتبيّن الحال ، ولعلّه لعدم صدق الشكّ حينئذ عرفا.

وأمّا التروّي بالمعنى الثاني : فالظاهر لزومه بناء على أنّ الظنّ حجّة وأمارة في

ص: 230


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 99 ، ح 373 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ... ، ح 141. « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 989 ، أبواب التشهّد ، باب 3 ، ح 2.

معرفة عدد الركعات ، وذلك من جهة أنّ الظنّ والشكّ بناء على هذا مختلفان موضوعا وحكما ، أمّا موضوعا فواضح ، وأمّا حكما فلأنّ حكم الشكّ هو البناء على الأكثر ، وحكم الظنّ هو الجري على طبق المظنون وعدم الاعتناء بالاحتمال المرجوح ، ولا فرق في لزوم الجري على طبق المظنون أن يكون هو الأقلّ أو يكون هو الأكثر.

فلا بدّ أن يفحص عمّا في خزانة نفسه ويفتّش حتّى يتبيّن الحال وأنّ وظيفته هل هو البناء على الأكثر أو الجري على طبق الظنون؟ سواء أكان هو الأقلّ أو الأكثر ، لأنّه لا معنى لترتّب الحكم بدون معرفة الموضوع. هذا في الركعتين الأخيرتين ، وأمّا في الركعتين الأوليين حيث أنّ الشكّ فيهما مبطل.

ومن المعلوم أنّ مبطليّته ليس بمحض حدوثه ، بل يكون مراعى ببقائه فإن زال وانقلب إلى العلم أو إلى الظنّ - بناء على حجيّة الظنّ في عدد الركعات حتّى في الأوليين - فليست الصلاة باطلة ، فالشكّ في زواله يكون شكّا في القدرة على الإتمام ، كما أنّه لو علم بزواله يعلم بأنّه قادر على الإتمام فيمضي في صلاته وكما أنّه لو كان عالما بعدم الزوال فتكون باطلة ولا يجب الفحص ، بل لا معنى للفحص مع العلم في الصورتين ، أي في كلتا صورتي العلم بالزوال والعلم بعدم الزوال.

وأمّا في صورة عدم العلم بكلا الأمرين واحتماله للزوال وعدمه ، فهو شاكّ في أنّه قادر على الإتمام أم لا. وفي باب الشكّ في القدرة لا بدّ وأن يشتغل بالمأمور به ويفخص حتّى يتبيّن الحال. وهذا حكم العقل في باب الشكّ في القدرة.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه فرق في لزوم التروّي وعدمه بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين ، وأنّ للتروّي معنيين ، وأنّه لازم بمقدار الصدق العرفي وهو أن لا يكون سريع الزوال بل يحتاج في الصدق العرفي إلى استقراره ، وأنّ التروّي بمعنى الفحص عن أنّ ما في خزانة نفسه هل هو ظنّ أو شكّ هو لازم إلى أن يحصل له أحد الأمرين ، أي كونه ظنّا أو شكّا ليرتّب عليه حكمه من البناء على الأكثر أو الجري على طبق

ص: 231

المظنون ، كان المظنون هو الأقلّ أو كان هو الأكثر.

الأمر الثالث : في أنّ البناء على الأكثر حكم ظاهري موضوعه الشكّ في عدد الركعات في الفريضة الرباعيّة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، وقد حقّقنا في مبحث الإجزاء أنّ الحكم الظاهري امتثاله وإتيان متعلّقه لا يكون مجزيا عن الواقع لو انكشف الخلاف ، وأنّ القول بالإجزاء ملازم مع القول بالتصويب ، ففي المقام بعد البناء على الأكثر لو تبيّن الخلاف وعلم أنّ ما صلّى كان هو الأقلّ فمقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة وعدم الاعتناء بما صلّى مع البناء على الأكثر.

ولكن فتوى المشهور هو أنّه بعد البناء على الأكثر وإتمام الصلاة والإتيان بصلاة الاحتياط لا تجب الإعادة ، مع أنّ جلّهم قائلون بعدم إجزاء الأمر الظاهري.

والسّر في ذلك : هو أنّ الشارع لم يكتف بصرف البناء على الأكثر ، بل أمر بعد الإتمام بصلاة الاحتياط لتكون تداركا لما فات على تقدير كون ما صلّى هو الأقل وبعبارة أخرى : هاهنا حكمان : أحدهما البناء على الأكثر ، والثاني : وجوب الإتيان بصلاة الاحتياط ، وليس الثاني من مقتضيات الأوّل ، بل مقتضى الأوّل هو إتمام الصلاة مع البناء على الأكثر وعدم وجوب شي ء آخر عليه.

فالحكم الثاني هو حكم مستقلّ لتتميم ما ظنّه من النقص ، فعدم وجوب الإعادة مستند إلى امتثال هذا الحكم ، أي الإتيان بصلاة الاحتياط لا إلي البناء على الأكثر ولذلك لو علم قبل الإتيان بصلاة الاحتياط أنّ الواقع هو الأكثر فلا تجب صلاة الاحتياط قطعا ، كما أنّه لو علم قبل السلام بأنّ ما صلّى هو الأقلّ يجب عليه أن يأتي بالمقدار الذي يحتمل نقصه متّصلة.

وأمّا لو علم بالنقص وأن ما صلّى هو الأقلّ بعد السلام وقبل الإتيان بصلاة الاحتياط هل تجب عليه الإعادة ، أو له أن يكتفي بصلاة الاحتياط ، أو يأتي بالنقيصة متّصلة؟ لأنّ السلام وقع في غير محلّه فليس بمخرج فيسجد سجدتي السهو للسلام

ص: 232

الواقع في غير محله بعد إتمام الصلاة. هذا فيما إذا لم يصدر منه بعد ذلك السلام الواقع في غير محلّه ، ما هو المنافي عمدا وسهوا وإلاّ يتعيّن عليه الإعادة.

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأخير ، أي لزوم الإتيان بالنقيصة متّصلة وسجدتي السهو للسلام الواقع في غير محلّه فيما إذا لم يصدر منه ما هو المنافي عمدا أو سهوا ، وذلك من جهة أنّ حكم البناء على الأكثر موضوعه الشكّ ، فإذا زال الشكّ يزول حكمه ويجب عليه العمل على طبق علمه ، وهو كما ذكرنا عبارة عن إتيان مقدار النقيصة متّصلة وسجدتي السهو للسلام الواقع في غير محلّه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الاكتفاء بصلاة الاحتياط لو انكشف الخلاف بعد البناء على الأكثر وبعد صلاة الاحتياط ليس من جهة أنّ امتثال الأمر الظاهري مفيد للإجزاء ، بل يكون من جهة أنّ الشارع جعل صلاة الاحتياط متمّما لما نقص على تقدير نقصانه ، وإلاّ فهي نافلة.

الأمر الرابع : لو شكّ المصلّي جالسا لعجزه عن القيام ، فلا ينبغي أن يشكّ في شمول عمومات البناء على الأكثر له ، وإنّما الكلام في أنّه من كان وظيفته التخيير بين ركعتين جالسا أو ركعة من قيام فهذا التخيير في حقّه لا مورد له لعجزه عن أحد طرفي التخيير ، أي عن إتيان ركعة قائما فهل يتعيّن عليه الطرف الآخر - أي الركعتين من جلوس ، كما هو قانون باب التخيير - أو ركعة جالسا؟ لأنّ القيام ساقط في حقّه.

والظاهر هو الثاني ، لأنّ المقام ليس من قبيل الواجبات التخييريّة بالأصل ، لوجود الملاك المطلوب في كلّ واحد من الطرفين واستوائهما في ذلك كي يقال إن تعذر أحد الطرفين فيتعيّن الطرف الآخر ، بل المقصود الأصلي تدارك الركعة الفائتة على تقدير فوتها وتدارك تلك الركعة بشكلين : أحدهما مثلها ركعة من قيام ، والثاني : ركعتين من جلوس ، وكان الشارع الأقدس جعل زيادة كمّيّة الركعة في مقام التدارك بدلا عن نقصان كيفيّتها. وإن شئت قلت : بدلا عن تبدّل وضعها - كما أنّ جعله في صلاة

ص: 233

النافلة أيضا كذلك ، أي جعل ركعتين جالسا بدل ركعة قائما.

ومعلوم أنّ هذا إنّما يجري فيما إذا كان المبدل منه ركعة قائما ، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّ الفائتة وما هو المبدل منه ليس إلاّ ركعة جالسا ، فبدلها أيضا يكون مثلها ركعة واحدة جالسا ، ولا وجه للتعدّد.

نعم لو قدر على القيام قبل الإتيان بصلاة الاحتياط وبعد السلام فعليه أن يأتي بها قائما متّصلة ، كما تقدّم شرحه مفصّلا.

الأمر الخامس : في أنّه هل يجوز في الشكوك الصحيحة أن يرفع اليد عن صلاته ويستأنف من جديد ، أم لا بل يجب البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط؟

ربما يقال بعدم جواز القطع والاستئناف ، لحرمة القطع.

وبناء على هذا هل يمكن الفرق في حرمة القطع بين القطع حال حال عروض الشكّ وفي الأثناء ، وبين القطع بعد التسليم أم لا؟

أقول : أمّا القطع والاستئناف قبل التسليم فالظاهر عدم جوازه ، لادّعاء الإجماع على الحرمة ، وأمّا بعد التسليم وقبل صلاة الاحتياط فإن قلنا إنّ التسليم الواقع في غير محلّه ليس بمخرج ولو كان في محلّه البنائي فيكون مثل القطع في الأثناء ، لأنّه على تقدير النقصان وكون صلاة الاحتياط جزء للصلاة الأصلي يكون بعد في الصلاة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ كونه قطعا مشكوك فتجري البراءة. والحاصل أنّ الحكم بحرمة القطع بعد التسليم مشكل جدّا.

وأمّا صحّة الصلاة الأولى والثانية أو بطلانهما لو استأنف في الأثناء ، فالظاهر بطلان الصلاة الأولى ، لأنّه بعد استئنافها ، إمّا أن يأتي بصلاة الاحتياط أم لا. فإن لم يأت فتكون الصلاة مشكوك التمام ومعلوم البطلان ، وأمّا إن أتى بصلاة الاحتياط بعد الصلاة المستأنفة ، فلفوات الموالاة التي شرط في صحّة الصلاة.

ص: 234

وأمّا الصلاة المستأنفة ، فقيل في وجه بطلانها وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّها علّة لإبطال الأولى وهو حرام ، وعلّة الحرام حرام فتكون باطلة لتعلّق النهي بنفس العبادة ، وقد تقرّر في محلّه بطلان مثل هذه العبادة المنهي عن نفسها.

وفيه : أنّ هذا مبني على مقدّمتين ، وهما :

أوّلا : أن يكون الإبطال حراما ولو كان بعد التسليم ، باعتبار كون صلاة الاحتياط جزء من الصلاة.

وفيه نظر واضح ، فلو استأنف بعد التسليم وقبل صلاة الاحتياط لا يأتي هذا الوجه.

وثانيا : أن يكون الاستئناف علّة تامّة أو كان هو جزء الأخير من العلّة التامّة للحرام الذي هو الإبطال.

وفيه أيضا نظر ، لأنّ الإبطال قد يكون لعدم المقتضي للإتمام ، أي إرادة الإتمام ، فالإبطال مستند إلى عدم إرادة الإتمام ، لا إلى وجود ضدّه ، أي الصلاة المستأنفة.

الوجه الثاني : سقوط الأمر عن الأجزاء التي أتى بها ، وإلاّ يكون من قبيل طلب الحاصل ، فتكون الصلاة المستأنفة بالنسبة إلى تلك الأجزاء بدون الأمر ، فلا تقع عبادة.

وفيه : أنّ الأمر بالطبيعة باق ما لم يأت بالمجموع ، مضافا إلى ما قلنا من جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر.

الوجه الثالث : ظهور أدلّة الشكوك الصحيحة في أنّ وظيفة الشاكّ هو العمل بالوظيفة المعيّنة من البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط بعد التسليم ، وليس له العمل بغير هذه الوظيفة.

ص: 235

وفيه : أنّ مرجع هذا الوجه إلى أنّ التكليف الواقعي انقلب في حقّ الشاكّ من الأربعة الموصولة إلى الأربعة الملفّقة من الثلاثة أو الاثنتين الموصولة وصلاة الاحتياط ، وهذا لا يخلو من غرابة ، إذ الوظيفة المجعولة للشاكّ علاج للعلم بإتيان الأربعة الواقعيّة بلا زيادة ولا نقصان ، من جهة التسهيل على المكلّف الشاكّ لئلا يقع في كلفة الإعادة ، لا أنّ التكليف الواقعي انقلب إلى هذه الوظيفة ، كما توهّم.

والحاصل : أنّ الصلاة المستأنفة خصوصا بعد السلام وقبل صلاة الاحتياط لا وجه لبطلانها ، وبناء على هذا لا يبقى وجه لإتيان صلاة الاحتياط بعدها.

هذا كلّه فيما لو استأنف قبل إتيان المنافي ، أمّا لو استأنف بعد إتيان ما هو المنافي - سواء أكان في الأثناء أو بعد التسليم ولكن قبل صلاة الاحتياط - فلا وجه لبطلان المستأنفة ، بل يجب الاستئناف إن كان وجود المنافي في الأثناء ، بل وكذلك إن قلنا بلزوم عدم وجود المنافي بين الصلاة المبنيّة وصلاة الاحتياط ، والوجه واضح.

الأمر السادس : في أنّه لو غفل عن شكّه واستمرّ في الصلاة وأتمها فتبيّن مطابقة ما أتى به للواقع ، فهذا إمّا في موارد الشكوك الصحيحة أو في موارد الشكوك الباطلة.

فإن كان من قبيل الأوّل - فبناء على ما قلنا في الأمر السابق من عدم انقلاب التكليف الواقعي إلى ما هو وظيفة الشاك ، فغاية الأمر أنّ هذه الوظيفة التي عيّنت للشاكّ علاج في مقام امتثال ذلك التكليف الواقعي بأنّه أتى به ، وفي المفروض قاطع بأنّه أتى به بدون أن يعمل بوظيفة الشاكّ بدون أيّ خلل في المأتي به ، وبعبارة أخرى أوجد المأمور به تامّ الأجزاء والشرائط وفاقدا لجميع الموانع متقرّبا - فيسقط الأمر ويحصل الامتثال القطعي.

وأمّا إن كان من الشكوك الباطلة فمرجع الأمر إلى أنّه هل حدوث الشكّ فيها مثل حدوث الحدث أو سائر القواطع المبطل؟ أو معنى البطلان فيها أنّه لا تشملها أدلّة العلاج من البناء على الأكثر وسجدتي السهو وصلاة الاحتياط؟

ص: 236

فإن كان الأوّل فواضح أنّه لا يمكن القول بصحّتها ولو انكشف بعد الإتمام أنّ ما أتى به تامّ المطابقة مع الواقع.

ولكن هذا المعنى واضح الفساد ، نعم الذي يمكن أن يقال : إنّه إذا اعتبر في صحّتها الحفظ واليقين من أوّلها إلى آخرها ، فإذا حصل الشكّ يفقد الشرط فتكون باطلة بمحض حدوث الشكّ وتجب الإعادة ، وأمّا إنّ كانت جهة البطلان عدم شمول أدلّة العلاج لها فتكون صحيحة في المفروض لأنّها صحيحة وتامّ الأجزاء والشرائط.

وهذه الاحتمالات في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات : فالظاهر أنّ الشكوك الباطلة على قسمين :

فالثنائية والثلاثية والأوليين من الثلاثيّة والرباعية اعتبر فيها الحفظ واليقين في جميع الحالات ، ولذلك بمحض حدوث الشكّ ووجوده عرفا - أي بعد استقراره - تكون باطلة وحكم بالإعادة ، كما في صحيحة ابن أبي يعفور : « إذا شككت فلم تدر أفي ثلاث أنت أم في اثنتين ، أم في واحدة ، أم في أربع ، فأعد ولا تمض على الشكّ » (1).

وأمّا القسم الآخر : فالظاهر أنّ بطلانها من جهة عدم شمول أخبار العلاج لها ، كالشكّ بين الأربع وما فوق الستّ ، حيث أنّ بطلانها من جهة عدم العلاج.

ففي مثل هذا القسم لا وجه للبطلان بعد تبيّن أنّها مطابق للواقع ، ولا يحتاج إلى العلاج حتّى تقول لا تشملها أخبار العلاج.

فالحقّ هو التفصيل بين هذين القسمين من الشكوك الباطلة.

الأمر السابع : المسافر في أحد أماكن التخيير لو نوى قصرا فشكّ بين الاثنتين والثلاث مثلا أو أحد الشكوك الصحيحة الآخر لو كانت الصلاة رباعيّة ، فحيث أنّ

ص: 237


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 3. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 743 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 44 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1418 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة أو ... ، ح 1. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 328 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 15 ، ح 2.

الشكّ في الصلاة الثنائيّة مبطل فهل له أن يعدل بعد حدوث الشكّ إلى الإتمام فيبني على الأكثر ويتمّم صلاته ويأتي بعد أن أتمّ بصلاة الاحتياط فيكون قد عالج بذلك شكّه وصحّح صلاته ، أم لا وليس له ذلك؟

وعلى تقدير أن يكون له ذلك ، فهل يجب عليه العدول ، أم لا بل يجوز فقط وهو مخيّر بين العدول ورفع اليد عن صلاته لبطلانه على تقدير عدم العدول؟

فنقول : بعد الفراغ عن اشتراط العدول بأن يكون المعدول عنه صلاة صحيحة ، بحيث لو لا العدول وكان يتمّ تلك الصلاة التي يريد أن يعدل عنها لكانت تقع صحيحة.

فالمسألة بناء على هذا مبنيّة على أنّ الشكّ في الصلوات التي يكون الشك مبطلا لها موجب للبطلان بمحض حدوثه ، ويكون من قبيل القواطع ، أم لا بد معنى مبطليّة الشكّ عدم شمول أدلة العلاج لها؟

فإن كان من قبيل الأوّل فلا يبقى محلّ للعدول ، لأنّ ما مضى من صلاته صار باطلا وليس قابلا لأن ينضمّ إليه ركعة أخرى حتّى يصير المجموع صلاة رباعيّة صحيحة.

ولا أثر لكون صلاة القصر والإتمام حقيقة واحدة أو حقيقتين مختلفتين ، لأنّ العدول ليس متوقّفا على أن يكون المعدول عنه والمعدول إليه حقيقة واحدة ، إذ يصحّ العدول من الظهر إلى العصر وكذلك العكس ، مع أنّهما ليستا حقيقة واحدة قطعا بل حقيقتين مختلفتين.

ولكنّ الظاهر جواز العدول ، لعدم كون الشكّ بمحض حدوثه مبطلا كالقواطع ، بل مبطليّته من جهة اشتراط صحّة الأوليين باليقين ، واستصحاب عدم الزيادة في ظرف الشكّ ممّا يقوم مقام اليقين الذي أخذ في موضوع الصحّة.

إن قلت : إنّكم في الأمر السابق بنيتم على بطلان الصلاة الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين من الرباعيّة بمحض حدوث الشكّ.

ص: 238

قلنا : هناك بنينا على البطلان من جهة عدم جريان أصالة عدم الزيادة في الثنائيّة والثلاثيّة للأدلّة الخاصّة التي مفادها الإعادة ، وأمّا هاهنا فلا مانع من جريان استصحاب عدم الزيادة ، لأنّه لسنا نثبت باستصحاب عدم الزيادة صحّة الصلاة الثنائيّة ، بل نريد إثبات صحّته من جهة شرطيّته للعدول فقط ، لا صحّته من حيث ترتيب آثار الصحّة عليه مطلقا وسقوط أمره ، والممنوع بالأدلّة الخاصّة هو المعنى الثاني من الاستصحاب ، لا المعنى الأوّل. ومع ذلك كلّه صحّة العدول لا تخلو من نظر وتأمّل.

وأما الشق الثاني من المسألة : وهو أنّه على تقدير صحّة العدول والبناء على الأكثر ، هل يجب العدول أو يجوز فقط؟

ربما يقال بوجوبه من جهة حرمة الإبطال.

وفيه : أنّ حرمة الإبطال متوقّف على صحّة العمل في حدّ نفسه ، فيكون إبطاله حراما ، وهاهنا العمل في حدّ نفسه باطل ويريد أن يصحّح العمل بالعدول ، فعدم العدول وتركه ليس إبطالا ، بل هو عدم التصحيح مع إمكانه ، ولا دليل على وجوب التصحيح وعلاج الشكّ مع إمكانه ، وأدلّة وجوب العلاج ، أي وجوب البناء على الأكثر مع تعقيبه بصلاة الاحتياط موضوعه الشكوك الصحيحة ، وهاهنا كون الشكّ من الشكوك الصحيحة متوقّف على العدول ، فكيف يمكن أن يكون وجوب العدول مستندا إلى تلك الأدلة؟ وهل هذا إلاّ تقدّم الشي ء على نفسه.

فالإنصاف ، أنّ وجوب العدول لا دليل عليه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : قوله علیه السلام « لا يعيد الصلاة فقيه » (1) نهى عن الإعادة مع إمكان العلاج ، وهاهنا حيث يمكن العلاج بالعدول فيجب.

ص: 239


1- تقدّم تخريجه في ص 201 ، رقم (2). وليس هذا نصّ كلام الإمام علیه السلام ، بل يكون من كلام الراوي والسائل وليكن الإمام يقرّر هذا الكلام ويبيّنه.

الأمر الثامن : فيما إذا انقلب شكّه بعد الفراغ إلى شكّ آخر ، مثلا كان في الصلاة شاكّا بين الاثنتين والثلاث ، وبعد البناء على الثلاث وإتمام الصلاة بإتيان ركعة أخرى والفراغ عنها ، تبدّل هذا الشكّ بشكّ آخر - وهو الشكّ بين الثلاث والأربع قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط - فليس عليه شي ء ، أي لا يجب عليه صلاة الاحتياط ، أعني ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بدل الركعة الفائتة على تقدير فوتها.

وذلك من جهة أنّ الشكّ الأوّل زال ، لأنّه انقلب إلى شكّ آخر ، وصرف حدوثه لا يكفي في وجوب عمل الاحتياط. وأمّا الشكّ الثاني وإن كان باقيا ولكنّه لا أثر له ، لأنّه شكّ بعد الفراغ ، وهو لا اعتبار به ويكون من الشكوك التي ألغى الشارع اعتبارها. ولكن وهذا الذي ذكرنا من عدم الأثر بعد الانقلاب فيما إذا لم يكن عدم العمل بالاحتياط وعدم الاعتناء بالشكّ موجبا للعلم بالزيادة أو النقيصة.

وإلاّ فقاعدة الفراغ لا أثر لها مع العلم بالإخلال زيادة أو نقيصة ، لأنّها قاعدة مجعولة للشاكّ ، وأنّ شكّه في إتيان جزء أو ركعة لا اعتبار به.

وأمّا قاعدة « لا تعاد » فلا تشمل الأركان ، لأنّها داخلة في عقد المستثنى ، مثلا لو شكّ بين الاثنتين والأربع في حال الصلاة فبنى على الأربع وأتمّ الصلاة ، ثمَّ بعد الصلاة انقلب شكّه إلى الاثنتين والثلاث فيعلم بالنقيصة ، لأنّه يعلم بعدم الرابعة ، فإنّه في الشكّ الأوّل وإن كان يحتمل وجود الأربعة لأنّها أحد المحتملين ولكنّه زال ، وفي الشكّ الثاني يعلم بعدمها ، فهذا هو العلم بالنقيصة.

وأمّا العلم بالزيادة فكما لو شكّ بين الاثنتين والثلاث فبنى على الثلاث وأتى بركعة وأتمّ الصلاة وبعد الفراغ انقلب شكّه إلى الأربع والخمس بعد الإكمال ، فيعلم بزيادة ركعة. وفي هذه الصور التي يعلم بالزيادة أو النقيصة يجب أن يعمل على طبق الشكّ الأخير إن كان العلم بالنقيصة ، بمعنى أنّه يعلم بأنّ السلام وقع في الصلاة فليس بمخرج ، فيجب أن يقوم ويأتي بالنقيصة ويأتي بسجدتي السهو للسلام في غير محلّه ،

ص: 240

من جهة سهوه في الركعات.

وأمّا إذا كان العلم بالزيادة بواسطة. انقلاب الشكّ كما مثّلنا له فتجب إعادة الصلاة لعدم علاج آخر ، وأمّا الشكّ الأوّل فلا أثر له على كلّ حال لأنّه زال وانعدم ، وبقاء الموضوع شرط عقلي لترتّب حكمه.

وأما إذا علم إجمالا بعد الانقلاب بالزيادة أو النقيصة ، كما إذا شكّ بين الثلاث والأربع في حال الصلاة فبنى على الأربع وأتمّ الصلاة ، ثمَّ بعد الفراغ انقلب شكّه إلى الثلاث أو الخمس ، فلا يخلو الأمر حسب الشكّ الأخير أنّ ما صلّى إمّا الثلاث - فتكون ناقصة - وإمّا تكون الصلاة التي صلاها خمس فتكون زائدة فيها ركعة ، ولا طريق إلى العلم بالامتثال والفراغ اليقيني إلاّ بالإعادة فتجب.

الأمر التاسع : لو مات الشاكّ في الشكوك الصحيحة بعد أن بنى على الأكثر أو على ما هو وظيفته ، كما إذا كان شاكّا بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، فبنى على الأربع - كما تقدّم وجهه - قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط في الشقّ الأوّل ، وقبل أن يأتي بسجدتي السهو في الثاني ، فهل يجب أن يقضى عنه الصلاة ، أم لا بل يجب صلاة الاحتياط في الفرض الأوّل ، وسجدتي السهو في الفرض الثاني؟ أو يفصّل بين الفرضين بأن يقضي الصلاة في الفرض الأوّل ويقضى عنه سجدتا السهو فقط في الفرض الثاني؟ وكذلك الأمر لو كان المنسي بعض أجزاء الركعة التي لها قضاء كالتشهّد والسجدة الواحدة ، فإنّه يجب قضاؤها دون أصل الصلاة ، وجوه :

الأقوى : هو التفصيل بين الفرضين ، ففيما إذا كان الفراغ والتسليم من جهة البناء على الأكثر وكانت الوظيفة وجوب الإتيان بصلاة الاحتياط فاللازم أن يقضى عنه أصل الصلاة ، لأنّ ما أتى به - على تقدير كونه الأقل - بعض الصلاة ، ويكون كما لو مات في أثناء الصلاة ، وحيث أنّ الصلاة واجب ارتباطي فإذا لم يتعقّب البعض الأوّل ببعضها الباقي يبطل ذلك البعض الأوّل ، فيجب أن يقضى عنه مجموع الصلاة ، لأنّ ما

ص: 241

أتى به بمنزلة العدم.

هذا ، مضافا إلى تشريع القضاء في بعض الواجب الارتباطي غير معهود من الشرع ولم يرد دليل عليه.

هذا بالنسبة إلى الفرض الأوّل ، وأمّا في الفرض الثاني فقد أتى بتمام الصلاة وسقط الأمر ، ووجوب سجدتي السهو تكليف آخر وليس من أجزاء الصلاة ، فلا وجه لأن يقتضي عنه أصل الصلاة والقضاء تابع لفوت الفريضة ، والمفروض أنّ الفريضة لم تلفت عنه ، وإنّما الفائت هو سجدتا السهو ، وهو ليس من أجزاء الفريضة ، بل هو واجب مستقلّ فيجب قضائه ، لأنّه فريضة فاتت.

الأمر العاشر : في أنّ في قاعدة البناء على الأكثر حيث أنّ روايات الباب كانت مشتملة على حكمين :

أحدهما : هو البناء على الأكثر فيما كان موجبا لصحة الصلاة ، ولذلك سمّيت مثل هذه الشكوك بالشكوك الصحيحة.

والثاني : هو تتميم ما احتمل نقصانه بصلاة مستقلّة منفصلة ، تسمّى بصلاة الاحتياط.

ولمّا كانت صلاة الاحتياط من لواحق البناء على الأكثر فالمناسبة تقتضي أن نذكر هاهنا شطرا من أحكام صلاة الاحتياط وكيفيتها وشرائطها وغير ذلك من خصوصيّاتها حتّى تكون القاعدة تامّة الفائدة.

فنقول : وتوضيح هذه المسألة وبيان كيفيّتها وأحكامها وشرائطها وموانعها متوقّف على بيان أمور :

[ الأمر ] الأوّل : يشترط فيها جميع يشترط في الصلاة من الشرائط العامّة ، كطهارة البدن ، واللباس ، والستر ، والاستقبال ، وعدم غصبيّة المكان ، أي إباحته إلى غير ذلك من شرائطها.

ص: 242

والدليل على ذلك أنّها صلاة ، غاية الأمر مردّد أمرها بين أن تقع نافلة أو متمّما للصلاة الأصليّة ، فكلّ أمر دلّ الدليل على اعتبار وجوده أو عدمه في الصلاة من حيث صلاتيّتة فهو معتبر وجودا أو عدما في صلاة الاحتياط.

وحيث أنّ الدليل دلّ على اعتبار النيّة في الصلاة بما أنّها صلاة فتكون معتبرة في صلاة الاحتياط لعين تلك الجهة ، أي أنّها عبادة. ولا يمكن تحقّق العبادة بدون قصد القربة والنيّة ، وكذلك تكبيرة الإحرام ، فإنّ الدليل دلّ على أنّ الصلاة لها افتتاح واختتام ، افتتاحها بالتكبير واختتامها بالتسليم وهذه الأمور التي ذكرناها بإضافة الطهارة الحدثيّة من شرائط طبيعة الصلاة ، وكلّ ما صحّ على الطبيعة صحّ على جميع الأفراد والأصناف ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على عدم اعتباره في فرد خاصّ ، أو صنف مخصوص.

فمقتضى القاعدة الأوّليّة وجود هذه الأمور وغيرها ممّا اعتبر في طبيعة الصلاة في صلاة الاحتياط ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الموانع والقواطع ، ولا يحتاج إلى وجود دليل خاصّ على اعتبار الوجود أو العدم.

ولكن ربما يستشكل في لزوم تكبيرة الإحرام بل في جوازها ، وذلك من جهة أنّ صلاة الاحتياط ذات احتمالين وتقديرين.

فعلى تقدير عدم النقصان تقع نافلة ، وعلى هذا التقدير تكون تكبيرة الإحرام لازمة ، لأنّ الصلاة ولو كانت نافلة غير معهود وقوعها بدون تكبيرة الإحرام.

وأمّا على تقدير النقصان يكون جزء للصلاة الأصليّة ، فتكون تكبيرة الإحرام وجودها مضرّا للصلاة الأصليّة ، فيكون أمرها من قبيل دوران الأمر بين محذورين ، لأنّ عدم تكبيرة الإحرام مناف مع كونها نافلة مستقلّة على تقدير عدم النقصان ، ووجودها مناف مع جزئيّتها على تقدير النقصان ، لأنّها زيادة ركن في الصلاة.

ولكنّ الذي يدفع هذا الإشكال أنّ وجوب تكبيرة الإحرام في صلاة الاحتياط

ص: 243

إجماعي ، فيكون الإجماع دليلا على عدم مضرّية هذه الزيادة على تقدير الجزئيّة. أو يقال : بأنّه يستكشف من هذا الإجماع أنّه صلاة مستقلّة حتّى على تقدير النقصان ، غاية الأمر يحصل بها ذلك المقدار الذي فات من المصلحة بواسطة النقصان.

ويمكن أن يستشهد لوجوب تكبيرة الإحرام في صلاة الاحتياط برواية زيد الشّحام التي تقدّمت ، وفيها قال علیه السلام : « وإن كان لا يدري أزاد أم نقص فليكبّر وهو جالس ، ثمَّ ليركع ركعتين بفاتحة الكتاب في آخر صلاته ثمَّ يتشهّد » (1).

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا من اعتبار جميع ما اعتبر في الصلاة فيها تعيّن قراءة فاتحة الكتاب فيها ، لأنّها صلاة ، ولا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب.

مضافا إلى ورود أخبار تدلّ عليها ، كرواية العلاء ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل صلّى ركعتين وشكّ في الثالثة؟ قال علیه السلام : « يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهّد وقام قائما فصلّى ركعة بفاتحة الكتاب » (2).

وكصحيحة الحلبي : « إن كنت لا تدري ثلاثا صلّيت أم أربعا ، ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ثمَّ صلى ركعتين وأنت جالس تقرأ فيهما بأمّ الكتاب » (3).

وكصحيحة زرارة ، قال علیه السلام في ذيلها في بيان حكم من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين قال : « يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب » (4).

فهذه الأخبار وغيرها ممّا هو مثلها تدلّ على وجوب قراءة فاتحة الكتاب وتعيّنها في صلاة الاحتياط.

ثمَّ إنّه هل يجب الإخفات فيها أو يجوز الجهر بها؟

ص: 244


1- تقدّم تخريجه في ص 223 ، رقم (2).
2- تقدّم تخريجه في ص 201 ، رقم (1).
3- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (4).
4- تقدّم تخريجه في ص 210 ، رقم (1).

وقال جماعة كما حكى عن الشهيد قدس سرّه (1) وغيره بالأوّل.

ولعلّ مستندهم أنّها على تقدير النقصان تقوم مقام الركعتين الأخيرتين والحكم فيهما الإخفات في القراءة لو اختارها دون التسبيح ، فكذلك فيما يقوم مقامهما ، بل في الحقيقة صلاة الاحتياط هي الأخيرتين فيما كانت ركعتين ، أو إحديهما فيما كان النقصان بواحد.

ولكن ظاهر الأخبار أنّها صلاة مستقلّة منفردة يتدارك بها المقدار الفائت من مصلحة الصلاة الأصليّة على تقدير النقصان.

وبناء على هذا حيث أنّه لم يرد دليل على وجوب الإخفات أو الجهر فمقتضى القاعدة هو التخيير ، وإن كان الإخفات أحوط.

الأمر الثاني : في أنّه لا أذان ولا إقامة ولا سورة ولا قنوت فيها.

أمّا الأوّلان - أي عدم الأذان والإقامة فيها - فلأنّ أمرها دائر بين أن تكون نافلة فليس فيها الأذان والإقامة ، أو تكون جزءا للفريضة الأصلية ولم يشرعا في جزء الفريضة. نعم لو قلنا بأنّ صلاة الاحتياط صلاة واجبة مستقلّة وسبب وجوبها تدارك مصلحة الفائتة بها على تقدير النقصان ، فيمكن أن يقال بشمول إطلاقات أدلّتهما لهذا المورد أيضا.

وفيه : أنّه وإن ورد في موثّقة سماعة « لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة » (2) ولكن لا يمكن الأخذ بهذا الإطلاق ، وذلك للاتّفاق على عدم مشروعيّتهما في غير اليوميّة ، فلو كانت صلاة الاحتياط صلاة مستقلّة ، ولم تكن من متممات اليوميّة ، فتشريع الأذان والإقامة فيها غير معلوم ، ومقتضى الأصل عدم جوازهما.

ص: 245


1- « الدروس » ج 1 ، 372 ، « البيان » ص 255.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 282 ، ص 1123 ، باب الأذان والإقامة ، ح 25 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 300 ، ح 1109 ، باب الأذان والإقامة في صلاة المغرب ... ، ح 6. « وسائل الشيعة » ج 4 ، أبواب الأذان والإقامة ، باب 35 ، ح 2.

نعم لو كانت مع أنّها صلاة مستقلّة جزء لليوميّة وبحكمها لكانا مشروعين فيها ، ولكن إثبات ذلك مشكل ، مع أنّها لو كانت كذلك فأيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الفريضة اليوميّة منصرفة عن مثل هذه الصلاة فالأصحّ أنّ الأذان والإقامة لم يشرعا فيها.

وأمّا السورة والقنوت فللاتّفاق على عدم وجوبهما فيها ولا استحبابهما ، وأيضا لو كانا فيها واجبين أو كان خصوص السورة واجبا لكان علیه السلام ذكره في عداد الواجبات ، ونصوص الباب خالية عنهما مع ذكر سائر الواجبات فيها.

وأمّا القول بوجوب السورة بلحاظ وجوبها في سائر الصلوات الواجبة فلو قلنا بأنّ صلاة الاحتياط صلاة واجبة مستقلّة يتدارك بها ما فات من مصلحة الفريضة ، فالدليل على وجوبها في سائر الصلوات الواجبة دليل على وجوبها فيها.

وفيه : أنّ وجوب هذه الصلاة وإن كان من المسلّم ، ولكن ليس وجوبا مستقلا كسائر الواجبات لوجود ملاك ومصلحة في نفسها ، بل وجوبها باعتبار تتميم ما نقص من الفريضة الأصليّة ، ولذلك لو تنبّه في أثنائها بتماميّة الفريضة الأصليّة لا يجب عليها إتمامها ، ويجوز بل يجب العدول إلى النافلة لأنّه لا موضوع بعد ذلك الالتفات لإتيانها بصفة الوجوب ، لأنّ موضوعها احتمال النقص في الصلاة الأصليّة.

الأمر الثالث : فيما إذا صدر منه ما يبطل الصلاة قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط ، كما إذا صدر منه أحد القواطع فهل تبطل الصلاة ويجب إعادتها؟ إذ لا تأثير بعد ذلك في صلاة الاحتياط ، إذ بناء على أنّ صلاة الاحتياط متمّمة للنقص الذي حصل في الصلاة الأصلية ، فالقاطع كالحدث مثلا وقع في الأثناء ، فليست صلاة الاحتياط باعتبار أنّها متمّمة للصلاة الأصليّة قابلة لأن تنضمّ إلى الصلاة الأصليّة ، لأنّ القاطع قطع حبل الاتّصال.

وبعبارة أخرى : القاطع قطع صورة الصلاتيّة ، وبهذا الاعتبار يطلق عليه القاطع ،

ص: 246

فالجزء الصوري الذي يكون المراد به الهيئة الصلاتيّة انعدمت بواسطة القاطع ، فليست الأجزاء الباقية بعد وجود القاطع قابلا لتشكيل الهيئة الصلاتيّة بواسطة انضمامها إلى الأجزاء السابقة ، فقهرا تبطل الصلاة ويجب إعادتها.

ولكن هذا بناء على كون صلاة الاحتياط جزءا متمّما للصلاة الأصليّة على تقدير النقصان.

وأمّا لو قلنا بأنّها صلاة مستقلّة شرعت لأجل تدارك ما فات من مصلحة الصلاة الأصليّة على تقدير النقصان ، وهذا الأمر من قبيل حكمة تشريعها ، كما ورد في حكمة تشريع النوافل التي هي رواتب الفرائض اليوميّة أنّها شرعت لأجل جبران النقص الذي ربما يقع في الفرائض الخمس ، بحيث يكون المجموع من الرواتب والفرائض الناقصة وافيا بمصالح الفرائض الواقعيّة التامّة ، فوقوع الحدث مثلا قبل صلاة الاحتياط وبعد الصلاة الأصليّة لا يؤثّر في بطلان الصلاة الأصليّة ، لأنّه وقع قبلها لا في أثنائها.

ولكن التحقيق : أنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة هو أنّ هذه الصلاة لا مستقلة تماما ، ولا جزء متمّم ، بل فيها جهة الاستقلال باعتبار قوله علیه السلام في مرسل جميل : « إن شاء صلّى ركعة وهو قائم ، وإن شاء صلّى ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » (1).

وأيضا قوله علیه السلام : في صحيحة الحلبي : « ثمَّ صلّ ركعتين وأنت جالس » (2).

وفيها جهة الجزئيّة.

وإنّها متمّم لنقص الصلاة الأصليّة لقوله علیه السلام في موثّقة عمّار « وأتم ما ظنت أنّك نقصت » (3) فهي معنى متوسط بين الاستقلال والجزئيّة وليست أجنبيّة عن كليهما.

ص: 247


1- تقدّم تخريجه في ص 206 ، رقم (2).
2- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (4).
3- تقدّم تخريجه في ص 183 و 184.

وبناء على هذا - من حيث أنّها صلاة مستقلّة ، وتشريعها لأجل تدارك المصلحة الفائتة على تقدير النقصان ، وليست جزء من الصلاة الأصليّة - فالصلاة الأولية تمّت بواسطة البناء على الأكثر ، والفراغ منها بواسطة التسليم حصل ، فلم يقع القاطع في أثنائها كي تبطل ، والمصلحة الفائتة يتدارك فيما بعد بواسطة صلاة الاحتياط ، فلا يبقى وجه للبطلان والإعادة.

ومن حيث أنّ فيها جهة كونها متمّما للصلاة الأصليّة تكون بحكم الجزء ، فكان القاطع وقع في الأثناء فتكون فاسدة ، فيكون حدوث القاطع موجبا للبطلان ولزوم الإعادة.

ولكن أنت خبير بأنّ ما قلنا : إنّ فيه جهة الجزئية ، ليس المراد منه أنّها جزء الصلاة الأصليّة ، بل المراد أنّها جزء متمّم لما هو ذو المصلحة ، فالصلاة الأصليّة وصلاة الاحتياط كلاهما مجموعا دخيلان في حصول المصلحة لا أنّ أحدهما جزء للآخر ، فوقوع الحدث بينهما لا يضرّ بكلّ واحد منهما.

الأمر الرابع : فيما إذا تذكر بعد الفراغ عن الصلاة الأصليّة والبناء على الأكثر أنّ ما صلّى كان كذلك من الركعة ، وارتفع الشكّ وحصل له اليقين.

فهذا لا يخلو حاله : إمّا أن يحصل له اليقين بالتمام أو بالنقصان.

فإن كان الأوّل وكان بعد الإتيان بصلاة الاحتياط فتكون صلاة الاحتياط نافلة ، كما هو مفاد بعض الأخبار.

وإن كان قبل صلاة الاحتياط فلا يجب إتيانها ، لأنّ وجوبها كان باعتبار تتميم ما نقص ، وبعد اليقين بالتمام وتذكّره وارتفاع الشكّ الذي كان موضوع وجوب صلاة الاحتياط لا يبقى مورد ومحلّ لوجوب إتيانها.

وإن كان التذكّر في أثناء الاحتياط فله أن يقطع ويرفع اليد عنها ، لتبيّن عدم وجوبها فلا مانع من قطعها. وله أن يتمّها نافلة ، فإن كان الاحتياط ركعة يضمّ إليها

ص: 248

ركعة أخرى ويتمّها نافلة.

ولا يكتفي في جعلها نافلة بتلك الركعة الواحدة ، وذلك من جهة عدم معهوديّة كون صلاة النافلة ركعة واحدة في غير الوتر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الدليل الذي مفاده جعل صلاة الاحتياط نافلة على تقدير كون الصلاة الأصلية تامّة يشمل بإطلاقه ما إذا كان صلاة الاحتياط ركعة واحدة ، فيدلّ على صحّة كون النافلة ركعة واحدة.

وإن كان الثاني ، ( تذكر نقصان الصلاة الأصليّة ) ، فلها صور :

الصورة الأولى : أن يكون تذكّره بعد الإتيان بصلاة الاحتياط ، وكان النقص المنكشف مطابقا مع صلاة الاحتياط كمّا وكيفا فلا شي ء عليه ، وقد أتى بما هو وظيفته ، وصحّت صلاته ، لما تقدّم من قوله علیه السلام في موثّقة عمّار : « وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت » (1).

الصورة الثانية : هي عين الصورة الأولى لكن مع الاختلاف في الكمّ مثل أن يكون النقص المنكشف ركعتين والاحتياط ركعة واحدة ، كما إذا شكّ بين الثلاث والأربع ، فبعد استقرار الشكّ بنى على الأربع وصلّى الاحتياط ركعة واحدة ، وبعد الفراغ عنها تذكر أنّ صلاته الأصليّة كانت ركعتين ، ففي مثل هذا المورد من المحتمل القول بأنّه يضيف على الاحتياط ركعة أخرى كي يتمّ بها النقص المنكشف.

وهناك احتمالان آخران :

أحدهما : كفاية صلاة الاحتياط التي أتى بها وإن كانت مخالفة مع النقص المنكشف في الكمّ.

واختار شيخنا الأستاذ قدس سرّه هذا الاحتمال تمسّكا بإطلاق قوله علیه السلام : « وإن ذكرت

ص: 249


1- تقدّم تخريجه في ص 184 ، رقم (1).

أنّك نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت » (1).

ولكنّ الظاهر أنّه علیه السلام في مقام أنّ صلاة الاحتياط لا تذهب هدرا على كلّ تقدير ، بل إمّا أن تكون متمّما للنقصان على تقدير النقص ، وإمّا أن تكون نافلة على تقدير التمام. وليس في مقام بيان أنّه متمّم على كلّ حال ولا يحتاج إلى شي ء آخر ، فلا مجال للتمسّك بإطلاقه من هذه الجهة.

الثاني : بطلان الصلاة ووجوب الإعادة باعتبار عدم إمكان العلاج ، والشكّ في الامتثال بإتيان ركعة أخرى وتتميم ما نقص.

أمّا عدم إمكان العلاج فمن جهة عدم كون صلاة الاحتياط جابرة للنقص ، لكونها أقلّ منه.

وأمّا تتميمها بركعة أخرى منفصلة فليس عليه دليل ، إذ صلاة الاحتياط في مورد الشكّ ، والشكّ ارتفع ، فلو أتى بركعة أخرى مضافا إلى صلاة الاحتياط وإن كان يتمّ بها النقص من حيث عدد الركعات ولكن الانفصال والخروج عن الصلاة بالتسليم لا علاج له.

ولا يقاس بصلاة الاحتياط ، فإنّها وإن كانت منفصلة وبعد التسليم ، إلاّ أنّ عليها دليل كموثقات عمّار وغيرها. وتلك الأدلة لا تشمل المقام ، لأنّ موضوع الحكم بالاحتياط فيها هو الشكّ ، والمفروض أنّ الشكّ ارتفع فيما نحن فيه ، فيكون شكّا في الامتثال فتجب الإعادة لتحصيل القطع بالامتثال.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّه لا وجه للقول بأنّه يعمل عمل المحتمل لهذا النقص المنكشف ، والشاكّ فيه مثلا في المفروض أليس أنّه انكشف أنّ صلاته التي صلاّها كانت ركعتين والنقص بركعتين ، فيعمل عمل الشكّ بين الاثنتين والأربع ، أي يأتي بركعتين من قيام ويصرف النظر عن الاحتياط الذي عمل به.

ص: 250


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 198.

وهو احتمال غريب ، لأنّه لم يشكّ مثل هذا الشكّ بل ليس له شكّ أصلا ، لأنّ شكّه الذي كان بين الثلاث والأربع ارتفع ، وليس له شكّ آخر فيكون حكما بلا موضوع ، فالأظهر بل الأرجح هو الإعادة في صورة الاختلاف في الكمّ.

وأمّا إن كان اختلافهما في الكيف ، مثلا شكّ بين الاثنتين والثلاث فبنى على الثلاث وأتمّ الصلاة ، ثمَّ صلّى صلاة الاحتياط ركعتين من جلوس ، فتذكر أنّ صلاته كانت اثنتين ، فالظاهر أنّه أتى بوظيفته. وركعتين من جلوس وإن كانتا مخالفتين في الكيف مع الركعة من قيام ، لكنّ الشارع جعلهما بدلا عن الركعة من قيام ، فحصل الامتثال وسقط الأمر.

هذا كلّه فيما إذا كان تذكره بعد صلاة الاحتياط.

وأمّا لو كان قبلها ، أي تذكر النقص وأنّه بركعة مثلا أو بركعتين قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط ، فهذه الصورة الثالثة من تذكّر النقص.

وهنا احتمالات :

الأوّل : وهو الصحيح أن يأتي بالنقص المتيقن ، وذلك من جهة وقوع السلام في غير محلّه فلم يخرج عن الصلاة بصرف السلام ، والمفروض أنّه لم يأت بمناف ، أي أحد القواطع من الحدث ، أو الاستدبار ، أو السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، أو غيرها من القواطع ، وإلاّ فمعلوم أنّه فيما إذا أتى بأحد القواطع فالصلاة باطلة وتجب إعادتها.

فمقتضى القاعدة أنّ سلامة مثل السلام السهوي ، فبعد أن تذكّر السهو يجب عليه أن يقوم ويأتي بالبقيّة.

وهناك احتمالان آخران :

الأوّل : بطلان الصلاة ووجوب إعادتها ، وذلك من جهة أنّه خرج عن الصلاة بالتسليم ، وعلم بنقصان صلاته بركعة أو ركعتين ، والركعة مشتملة على الأركان ،

ص: 251

ونقيصة الركن غير مغتفر في الصلاة ، عمدا كانت أو سهوا.

وفيه : أنّ نقيصة الأركان وإن كانت موجبة للبطلان ، ولكن النقيصة لا يتحقّق إلاّ بأحد أمرين : إمّا بخروجه عن الصلاة بإيقاع السلام في محلّه ، أو بوجود أحد القواطع ، وإلاّ بصرف عدم وجود شرط أو جزء ركني مع بقاء محلّه لا يصدق النقيصة.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات معتبرة على أنّه لو تذكّر نقص صلاته بعد التسليم وقبل صدور المنافي يجب عليه أن يأتي به.

منها : خبر محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام في نقصان ركعتين في رجل صلّى ركعتين من المكتوبة فسلّم وهو يرى أنّه قد أتم الصلاة وتكلّم ، ثمَّ ذكر أنّه لم يصلّ غير ركعتين؟ فقال علیه السلام : « يتمّ ما بقي من صلاته ولا شي ء عليه » (1).

والفرق بين المقام وبين ذاك بأنّ مورد الرواية هو السلام باعتقاد الفراغ هناك ، وهاهنا بحكم الشارع غير فارق فيما هو المناط وهو كون في غير محلّه.

وقد شرحنا هذه المسألة ، أي تذكر النقص بعد السلام في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، في شرح قاعدة « لا تعاد » (2) وإن شئت فراجع.

وخلاصة الكلام : أنّ بطلان الصلاة بنقص ركعة أو ركعتين أن تذكّر وانكشف له بعد التسليم قبل إتيان ما هو المبطل لا وجه له ، بل يجب عليه التدارك وإتيان ما نقص بعنوان تتمّة الصلاة ، لا صلاة الاحتياط.

الثاني : هو أنّه يجب عليه الصلاة الاحتياط ، كما أنّه لو كان شكّه باقيا ولم يتذكّر النقص فصلاته الأصلية مع صلاة الاحتياط موجبة للقطع بالامتثال ، وتوجب براءة الذمّة وإسقاط الأمر.

ص: 252


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 757 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 58. « الاستبصار » ج 1 ، ص 378 ، ح 1436 ، باب من تكلّم في الصلاة ساهيا أو عامدا ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 309 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ح 9.
2- « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 116.

وهذا احتمال غريب وبعيد إلى الغاية ، وذلك من جهة أنّ صلاة الاحتياط موضوعها الشاكّ ، فإذا ارتفع الشكّ وتذكّر النقص يخرج عن موضوع خطاب صلاة الاحتياط.

وأمّا إذا كان تذكره للنقص في أثناء صلاة الاحتياط ، فهذه هي الصورة الرابعة.

وفي هذه الصورة صور ، ربما يختلف حكمها ، فنقول :

الأولى : أن تكون صلاة الاحتياط مطابقة مع النقص الذي تذكره كمّا وكيفا ، مثلا شكّ بين الاثنين والثلاث وبنى على الثلاث ، ثمَّ تذكّر أنّ صلاته ناقصة بركعة في أثناء صلاة الاحتياط التي هي عبارة عن ركعة من قيام.

فهاهنا يجب عليه إتمام صلاة الاحتياط ، وليس عليه شي ء.

والوجه واضح بعد اغتفار زيادة تكبيرة الإحرام ، فإنّ المأمور به في حال الشكّ بعد التسليم هي الركعة الواحدة من قيام ، غاية الأمر بزيادة التكبير ، وبعد تذكّر النقص وأنّه ركعة واحدة أيضا يكون المأمور به هو نفس ما كان حال الشكّ فلا وجه لرفع اليد عنها وتجديدها ثانيا.

الثانية : أن تكون مخالفة مع النقص الذي تذكّره في الكمّ والكيف أو في أحدهما. فهذه الصورة الثانية تنقسم إلى ثلاث :

فالأوّل ، أي المخالف في الكمّ والكيف كما إذا شكّ بين الثلاث والأربع فبنى على الأربع وشرع في صلاة الاحتياط واختار ركعتين من جلوس ، فتذكّر في أثنائها أنّ النقص ركعة واحدة ، فصلاة الاحتياط في هذا الفرض مخالف مع النقص المذكور كمّا ، لأنّه ركعة واحدة وصلاة الاحتياط ركعتين ، وكيفا ، من جهة أنّه من قيام وصلاة الاحتياط من جلوس.

فهنا احتمالات بل أقوال ثلاث :

الأوّل : بطلان الصلاة ولزوم الإعادة ، لأنّ النقص فيها معلوم وليس له علاج ، ولا

ص: 253

يمكن تداركه ، لأنّ التدارك إمّا بصلاة الاحتياط ، ولا يمكن بهذه التي هو فيها ، لمخالفتها مع النقص المعلوم كمّا وكيفا ، أو برفع اليد عن الاحتياط والصلاة قائما بمقدار النقص الذي تذكره أي يتمّها لا بعنوان صلاة الاحتياط ، وهذا لا يمكن ، للفصل بين المتمّم - بالكسر - والمتمم - بالفتح - أوّلا ، ولزيادة الأركان المتعدّدة بناء على جزئيّة صلاة الاحتياط للصلاة الأصليّة ثانيا ، ومن جهة الخروج عن الصلاة بالتسليم ثالثا.

وأيضا لا يمكن تداركه بصلاة احتياط أخرى مطابقا للنقص المذكور ، لأنّ صلاة الاحتياط موضوعها الشكّ ، فإذا ارتفع - كما هو المفروض في المقام - لا يبقى مجال لصلاة الاحتياط مطابقة للنقص الذي تذكّره مرة أخرى ، فلا بدّ من الإعادة.

الثاني : إتمام صلاة الاحتياط والاكتفاء بها وإن كانت مخالفة للنقص المعلوم كمّا وكيفا ، لإطلاق أدلّة صلاة الاحتياط.

وفساد هذا الاحتمال واضح ، لما ذكرنا أنّ جابريّة صلاة الاحتياط للنقص المعلوم فيما إذا كانت مطابقة للنقص المعلوم ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فكونه جابرا مع ارتفاع الشكّ لا وجه له أصلا.

الثالث : إدخال هذه المسألة فيمن تذكّر النقص بركعة أو ركعتين بعد التسليم سهوا ، حيث أنّ في تلك المسألة دلّت الأخبار على إتمام الصلاة بالمقدار الذي علم بالنقص.

وقد تقدّم خبر محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام وأنّه علیه السلام قال : « يتمّ ما بقي من صلاته ولا شي ء عليه » (1) ، وقلنا هناك : إنّ الفرق بين المسألتين بأنّه هناك - أي في مورد الرواية - صدور السلام يكون سهوا ، وفيما نحن فيه عمدي وبحكم الشارع ليس بفارق فيما هو مناط الحكم وهو وقوع السلام في غير محلّه.

والأرجح من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأخير ، كما ظهر ممّا تقدّم وجهه.

الثالثة : أن تكون مخالفة للشكّ المحتمل وإن كانت موافقة للنقص المعلوم كمّا وكيفا.

ص: 254


1- تقدّم ذكره في ص 252 ، رقم (1).

والظاهر أنّه مثل الصورة الأولى من الصورة الرابعة ، أي يمضي في الاحتياط ولا شي ء عليه ، إذ ما دام تكون صلاة الاحتياط موافقة مع النقص المعلوم لا أثر لمخالفتها لحكم الشكّ المحتمل ، إذ الشكّ ارتفع وجاء مكانه القطع بالنقص ، فلا بدّ من ملاحظة آثار هذا القطع الموجود لا الشكّ الزائل ، كما أنّه لو كانت موافقة للشكّ المحتمل ، ولكن كانت مخالفة للنقص المعلوم لا أثر لموافقتها للشكّ المحتمل.

الصورة الخامسة : أن يكون تذكّره للنقص بين الاحتياطين. وذلك كما أنّه في الشكّ المركّب ، كالشكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع مثلا ، بنى على الأربع فهاهنا - كما تقدم في أحكام الشكوك الصحيحة - يجب عليه الاحتياط بصلاتين : إحديهما ركعة واحدة من قيام أو ركعتين من جلوس. الثانية : ركعتين من قيام.

فلو حصل له اليقين بمقدار النقص بعد أن أتى بأحد الاحتياطين دون الآخر ، فإن كان الاحتياط الذي أتى به موافقا مع النقص المعلوم ، مثلا علم بأنّ النقص ركعة إذ تذكر أنّه صلّى ثلاث ركعات ، وهو أوّلا أتى بوظيفة الشكّ بين الثلاث والأربع أي صلّى صلاة الاحتياط ركعة من قيام ، أو ركعتين من جلوس ، فإن كان مختاره ركعة من قيام ، فتمّ عمله وليس عليه شي ء قطعا. وهذا واضح جدا.

وإن كان مختاره ركعتين من جلوس ، فالظاهر أنّه أيضا كذلك ، لأنّ جعل ركعتين من جلوس في ظرف الشكّ بمنزلة ركعة من قيام ومجزيتين عنها كان مفاد الأدلّة.

والحاصل : أنّه إن كان الاحتياط الأوّل الذي أتى به موافقا مع النقص الذي تذكره ، فصلاته صحيحة ولا شي ء عليه ، لما ذكرنا فلا نعيد.

وأمّا إن كان مخالفا له في الكيف والكمّ ، أو الكمّ وحده فواضح أنّه لا يجوز الاكتفاء به ، لزيادتها إن كان الاحتياط الأوّل الذي أتى به أزيد من النقص الذي تذكره ، أو لبقاء مقدار من النقيصة إن كان أقلّ. وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن تكون صلاة الاحتياط الأولى جابرة للنقص المعلوم.

ص: 255

فلا بدّ إمّا من صرف النظر عما أتى به من باب صلاة الاحتياط ، والإتيان بمقدار النقص المعلوم من باب إدخال المسألة في مسألة تذكّر نقص الصلاة بركعة أو ركعتين بعد السلام بزعم الفراغ ، أو إعادة أصل الصلاة.

وقد تقدّم الكلام فيما تقدّم من نظير هذه المسألة إن تذكّر في أثناء الإتيان بصلاة الاحتياط إذا كان احتياطا واحدا كما في الشكّ البسيط.

وأمّا إن كان مخالفا في الكيف فقط ، فيمكن أن يقال بالاكتفاء بذلك الاحتياط ، لجعله الشارع بدلا عمّا هو النقص الواقعي ، مثلا لو شكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع فهنا له وظيفتان : إحديهما : وظيفة الشكّ بين الثلاث والأربع ، وهي ركعتان من جلوس. وأخرى : وظيفة الشكّ بين الاثنتين والأربع ، وهي ركعتان من قيام.

فلو قدّم إتيان الوظيفة الأولى - أي الشكّ بين الثلاث والأربع - واختار ركعتين من جلوس ، فتذكّر بعد الإتيان بهذه الوظيفة وقبل الإتيان بالوظيفة الأخرى ، أنّ صلاته التي صلاّها كانت ثلاث ركعات والنقص بواحدة ، فحيث أنّ الشارع جعل ركعتين من جلوس في ظرف الشكّ بدلا عن الركعة من قيام ، وقد أتى هو بها في ظرف الشكّ ، فيكون مجزيا وليس عليه شي ء. فالاختلاف في الكيف إذا أتى بها في ظرف الشكّ لا أثر له إذا كان مطابقا في الكمّ.

وخلاصة ما ذكرنا في هذا الأمر الرابع - أي فيما تذكر النقص وارتفع الشك الذي كان موضوعا لصلاة الاحتياط - أنّ تذكّره وارتفاع شكّه إمّا أن يكون قبل صلاة الاحتياط ، أو بعدها ، أو في أثنائها ، أو في أثناء الاحتياطين.

أمّا الأوّل أي فيما إذا كان قبل صلاة الاحتياط ، فالأظهر هو الإتيان بالنقص المعلوم ، لا البطلان وإعادة الصلاة ، ولا التدارك بصلاة الاحتياط ، لارتفاع موضوعها وهو الشكّ.

وأمّا في الشقوق الثلاثة الأخيرة فإن كان ما أتى به بعنوان الاحتياط أو دخل فيه

ص: 256

كذلك موافقا في الكمّ والكيف ، أو في الكمّ فقط مع النقص المعلوم فيمضي في احتياطه ولا شي ء عليه ، وإلاّ فيجب إعادة صلاته.

وأمّا موافقة صلاة الاحتياط لحكم الشكّ المحتمل وعدم موافقتها له فلا أثر له بعد بيان الواقع وكشفه وارتفاع الشكّ وحصول اليقين ، فالمناط كلّ المناط مطابقة صلاة الاحتياط للنقص المعلوم وعدم مطابقتها.

ثمَّ إنّه كان جميع ما ذكرنا فيما إذا تذكّر نقص الصلاة التي أتى بها ، وأمّا لو تذكّر زيادتها على ما هو الفرض بركعة أو أزيد ، فواضح بطلانها ، ولزوم إعادتها ، لعدم علاج لزيادة الأركان وأنّها موجبة للبطلان ، عمدا كان أو سهوا.

الأمر الخامس : لو شكّ في إتيان صلاة الاحتياط بعد وجوبها وتنجّزها عليه ، فإن كان الشكّ بعد خروج الوقت فهذا من الشكّ بعد الوقت ولا اعتبار به ، لأنّ حال الصلاة الاحتياط حال سائر أجزاء الصلاة الأصليّة ، فيبني على الإتيان.

وأمّا لو كان حدوث الشكّ في الوقت ، فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بها ، إلاّ فيما يكون مجرى لقاعدة الفراغ أو قاعدة التجاوز ، فإذا كان جالسا في محلّ الصلاة ولم يأت بما هو مناف ومبطل للصلاة ، حتّى السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، ولم يدخل في فعل آخر ، فلا مورد لجريان كلتا القاعدتين.

أمّا عدم إحراز مجرى قاعدة الفراغ فلأجل أنّ مجراها هو الشكّ في تماميّة الموجود ، وهاهنا يكون الشكّ في أصل الوجود.

وأمّا قاعدة التجاوز فلأجل عدم التجاوز عن المحلّ الشرعي لصلاة الاحتياط ، بل ولا العرفي.

أمّا لو أتى بالمنافي والمبطل أو دخل في فعل آخر فهل يكون داخلا في مجرى القاعدتين أو إحديهما أو لا؟ فيه كلام.

وتفصيله عبارة عن أنّه هل يصدق الفراغ بإيجاد المنافي أم لا؟ وكذلك التجاوز؟

ص: 257

والظاهر أنّ المنافي إذا كان مثل الاستدبار أو السكوت الطويل ممّا يكون غالبا بعد الفراغ عن الصلاة يصدق الفراغ به عرفا.

وأمّا الدخول في فعل آخر فلا شك في صدق الفراغ معه ، مضافا إلى أنّ موضوع الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ ليس هو عنوان الفراغ ، بل عنوان المضي والتجاوز والخروج عن الشي ء والدخول في غيره ، وهذه العناوين تصدق قطعا مع الدخول في فعل آخر مناف للصلاة حتّى مثل التعقيب.

فلو كان جالسا ويشتغل بالتعقيب ، وقلنا بوجوب صلاة الاحتياط عقيب التسليم بلا فصل - كما هو مقتضي الجزئية على تقدير النقصان - فمع دخوله في التعقيب يصدق التجاوز عن محلّ صلاة الاحتياط والفراغ عنها وعن الصلاة الأصليّة ، ومع ذلك كلّه لا ينبغي ترك الاحتياط بإتيان صلاة الاحتياط ، لأنّه وإن كانت هاتان القاعدتان حاكمتين على قاعدة الاشتغال ، بل وكذلك على استصحاب عدم الإتيان بها إلاّ أنّ الشأن في جريانهما فإنّه لا يخلو من إشكال وإن رجّحنا جريانهما في بعض صور المسألة ، خصوصا إذا حصل الشكّ بعد دخوله في فعل مناف للصلاة.

الأمر السادس : في أنّه لا سهو في سهو.

ويدلّ على هذا الحكم روايات :

منها : ما عن الشيخ في الصحيح - أو الحسن - عن حفص البختري ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام سهو ، ولا على السهو سهو ، ولا على الإعادة إعادة » (1).

ومنها : ما عن الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن هاشم في نوادره أنّه سئل أبا عبد اللّه علیه السلام عن إمام يصلّي بأربع نفر أو بخمس فيسبّح اثنان على أنّهم صلّوا ثلاثا ، ويسبّح ثلاثة على أنّهم صلّوا أربعا ، يقول هؤلاء : قوموا ، ويقول هؤلاء : أقعدوا ،

ص: 258


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1428 ، باب أحكام السهو ، ح 16.

والإمام مائل مع أحدهما أو معتدل الوهم ، فما يجب عليهم؟ قال علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلف سهوه باتّفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام ، ولا سهو في سهو » الحديث (1).

وعن الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام نحوه (2).

فلا إشكال في هذه الجملة من حيث اعتبار السند والصدور ، خصوصا مع تلقّيها الأصحاب بالقبول ، فالعمدة فهم المراد منها.

فنقول : الظاهر من قوله علیه السلام : « لا سهو » ، أنّ السهو - أي : السهو المنفي - بمعنى الشكّ ، بقرينة نظائره في قوله علیه السلام « ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام سهو ، ولا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين في كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة ».

فإنّ كلمة « السهو » في جميع هذه الموارد المراد به الشكّ كما هو واضح ، وإن كان في حدّ نفسه مع قطع النظر عن هذه القرينة فيها احتمالات ثلاث : خصوص الشكّ ، وخصوص النسيان ، والأعم منهما. والمراد من السهو الثاني ، أي : ما هو الظرف للسهو المنفي ، صلاة الاحتياط التي هي حكم الشكّ في عدد الركعات ، فيكون هذه الجملة نظير « لا شكّ لكثير الشك » من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فمعناه أنّ حكم الشكّ ليس في حكم الشكّ أي البناء على الأكثر ، وصلاة الاحتياط ليس في صلاة الاحتياط إذا شكّ في عدد ركعاتها ، فالسهو الأوّل والثاني - أي الظرف والمظروف - بمعنى واحد.

ويمكن أن يكون المراد من السهو في كلا المقامين - أي الظرف والمظروف - أعمّ من

ص: 259


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 352 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 1028.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ولم يدر زاد أو نقص ... ، ح 5.

الشكّ والنسيان ، أي حكم الشكّ الذي هو عبارة عن صلاة الاحتياط ، وحكم النسيان الذي هو عبارة عن سجدتي السهو فقط في بعض الموارد ، ومع القضاء في البعض الآخر ، ليس في حكم الشكّ وفي حكم النسيان فيكون معناه أن الشكّ في عدد ركعات صلاة الاحتياط ليس فيه البناء على الأكثر وصلاة الاحتياط ، وكذلك في سجدتي السهو وقضاء بعض الأجزاء المنسيّة ليس سجدتي السهو ، ولا قضاء إذا نسي شيئا منها.

ولكن هذا المعنى لا يناسب مع وحدة السياق ، فالظاهر تعيّن المعنى الأوّل ، وإلاّ فبحسب الاحتمال تكون الاحتمالات تسعة ، حاصلة من ضرب ثلاثة احتمالات للسهو المظروف في ثلاثة احتمالات السهو الذي هو ظرف ويكون مدخولا لحرف الجر ، سواء كان هو « في » كما في بعض الروايات ، أو « على » كما في البعض الآخر.

ولا يتوهّم أنّ المراد من السهو الأوّل وإن كان هو حكم الشكّ أي البناء على الأكثر وصلاة الاحتياط ، لأنّه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ولكن لا دليل على أن يكون المراد من السهو الثاني الذي هو ظرف للسهو الأوّل أيضا حكم الشكّ ، وذلك لعدم جريان دليل الأوّل - الذي هو عبارة عن نفي الحكم بلسان نفي الموضع - فيه ، لأنّه هناك ليس مقام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فإنّه لا نفي هناك أصلا ، لا نفي الحكم ، ولا نفي الموضوع ، وذلك من جهة أنه لا يمكن أن يكون المراد منه نفس الشكّ ، لأنّه حينئذ يكون المعنى : ليس حكم الشكّ في الشكّ. اللّهمّ إلاّ أن يكون متعلّق الشكّ هو عدد ركعات صلاة الاحتياط ، فيكون نفس المعنى ، وكرّ على ما فرّ.

ثمَّ إنّ حكم الشكّ وان لم يكن منحصرا بالبناء على الأكثر ولا متعلّقه منحصر بعدد الركعات بل قد يتعلّق بأفعال الصلاة أي إتيان أجزائها وشرائطها ، وترك موانعها وقواطعها ، كما أنّ حكمه قد يكون إبطال الصلاة التي وقع فيها الشكّ كالفريضة الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين من الرباعية ، وقد يكون عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في المشكوك كالشكّ في النافلة ، وبعد الفراغ وبعد الوقت ، ولكن ظهور نفي حكم الشكّ بنفي

ص: 260

موضوعه وإن كان بواسطة غلبة الوجود وأنس الذهن في نفي البناء على الأكثر ونفي صلاة الاحتياط التي من آثار البناء على الأكثر لا يمكن أن ينكر.

الأمر السابع : لو شكّ في عدد ركعاتها ، فهل عليه البناء على الأكثر أو لا يجري هذا الحكم في حقه؟

وقد عرفت في الأمر السابق أنّ قوله علیه السلام : « لا سهو في سهو » ظاهر في أنّ حكم الشكّ الذي هو البناء على الأكثر ليس في السهو ، أي فيما هو مسبّب عن السهو أي صلاة الاحتياط ، فالبناء على الأكثر لا وجه له ، لحكومة هذه الجملة على عمومات البناء على الأكثر على فرض شمولها لصلاة الاحتياط.

فيبقى الكلام حينئذ في أنّه هل يبنى على الأقلّ لاستصحاب عدم الزائد عليه؟ أو الاستصحاب ألغاه الشارع في باب عدد الركعات ، فيكون أصل الصلاة باطلة لعدم إمكان العلاج فتجب الإعادة لقاعدة الاشتغال؟

والظاهر عدم مانع من جريان الاستصحاب ، فيجب البناء على الأقلّ. ولكن الاحتياط بالإعادة لا ينبغي تركه ، لاحتمال إلغاء الشارع اعتبار الاستصحاب في باب عدد الركعات في الفرائض اليوميّة.

الأمر الثامن : لو نسي صلاة الاحتياط وشرع في صلاة أخرى فتذكّرها في أثنائها ، فهل يجب عليه العدول إليها فيما لم يجز عن محلّ العدول؟ أو يجب قطعها والشروع في صلاة الاحتياط؟ أو يشرع في صلاة الاحتياط بدون قطع تلك الصلاة ، بمعنى أنّه بعد صلاة الاحتياط يبني على ما كان من صلاته؟ أو يتم ما فيها ثمَّ يشرع في صلاة الاحتياط؟ وجوه واحتمالات :

أقول : إنّ الصلاة التي دخل فيها بعد أن نسي الاحتياط إمّا مرتّبة على الصلاة التي وجب الاحتياط لأجل الشكّ فيها ، وإمّا لا. وعلى التقدير الثاني إمّا فريضة أو نافلة. وعلى جميع التقادير إمّا جاز عن محلّ العدول أم لا.

ص: 261

والمراد من التجاوز عن محلّ العدول كون ركعات ما صلّى في الصلاة الثانية أزيد من صلاة الاحتياط ، مثلا صلاة الاحتياط ركعتين وهو تذكّر نسيان صلاة الاحتياط بعد أن دخل في الثالثة ، وأتى بالركوع فلا يمكن العدول فإذا أمكن العدول وقلنا بأنّ العدول موافق للقاعدة فيجب العدول.

وأمّا إن قلنا بعدم كونه على القاعدة ، أو لا يمكن العدول وقلنا بفوريّة الاحتياط وعدم جواز تأخيره ، فإن قلنا بجواز الصلاة في الصلاة وأنّها على القاعدة ، فيشرع في صلاة الاحتياط في أثناء تلك الصلاة ، ثمَّ بعد أن فرغ عن صلاة الاحتياط يبني على تلك الصلاة ويتمّها ، وإلاّ فيقطع تلك الصلاة ويشرع في صلاة الاحتياط ، ثمَّ بعد إتمامها يستأنف تلك الصلاة. وأمّا إن كانت تلك الصلاة نافلة فلا محذور في القطع على كلّ حال.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 262

22 - قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة

اشارة

ص: 263

ص: 264

قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة (1)

ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة « حجيّة الظنّ في الصلاة ». والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في مدركها

وهو أوّلا : الإجماع ، وقد ادّعاه في الجملة جماعة ، وإن قلنا مرارا إنّ دعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل ممّا لها مدارك نقليّة لا وجه له أصلا ، وليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي أثبتناه هناك حجّيته.

وثانيا : الأخبار المستفيضة ، وفيها صحاح :

فمنها : النبوي العامي « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أيّ ذلك أحرى إلى الصواب فليبن عليه » (2).

والنبوي الآخر « إذا شكّ أحدكم فليتحرّ » (3).

والاحتمالات في هذا الحديث أربعة :

ص: 265


1- (*) « القواعد » ص 111.
2- « صحيح مسلم » ج 1 ، ص 401 ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب 19 ، ح 90 ، « سنن النسائي » ج 3 ، ص 28 ، باب التحري ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 383 ، كتاب الإمامة ، باب 133 ، ح 1211.
3- « سنن البيهقي » ج 2 ، ص 330 ، باب لا تبطل صلاة المرء بالسهو فيها ، « سنن النسائي » ج 3 ، ص 28 ، باب التحري ، مع تفاوت يسير.

الأوّل : أن يكون المراد من الشكّ في الصلاة هو الشكّ في إتيان الصلاة وامتثال أمرها.

الثاني : أن يكون المراد منه الشكّ في عدد الركعات.

الثالث : أن يكون المراد منه هو الشكّ في أفعال الصلاة وأجزائها.

الرابع : أن يكون المراد الأعمّ من الأفعال ومن الركعات.

والإنصاف أنّ الظاهر من النبوي الأوّل هو هذا المعنى. وأمّا النبوي الآخر على فرض أن يكون حديثا آخر فالظاهر هو أن يكون المراد منه أيضا هذا المعنى ، أي إذا شكّ في عدد الركعات أو الأفعال فيجب التحرّي عن المشكوك.

هذا بناء على أن يكون متعلّق الشك فيه أيضا هو الصلاة ، وإلاّ فلا يخلو عن إجمال. وأمّا الاحتمال الأوّل - وهو أن يكون المراد من الشكّ في الصلاة هو الشكّ في أصل إتيان الصلاة وامتثال أمرها - وإن كان موجبا للخروج عن محلّ البحث ، ويكون الحديث بناء عليه غير مرتبط بالمقام ، ولكن الاحتمال بعيد ، وذلك لعدم حجّية الظنّ في مقام الامتثال ، وهذا واضح جدا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ الشارع جعل الظنّ حجيّة في مقام الامتثال ، كما أنّه قيل بناء على الكشف وتماميّة مقدّمات الانسداد ، ولكن هذا يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

ومنها : صحيحة صفوان عن أبي الحسن علیه السلام ، قال علیه السلام : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ، ولم يقع وهمك على شي ء فأعد الصلاة » (1).

ومفهوم هذه الصحيحة هو أنّه لو وقع وهمك على شي ء أي وقع ظنّك على أحد طرفي المحتملين ، فلا تجب الإعادة.

ص: 266


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 187 ، ح 744 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 45. « الاستبصار » ج 1 ، ص 373 ، ح 1419 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة أو ... ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 327 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 15 ، ح 1

وذلك من جهة أنّ المراد من الوهم لا بدّ وأن يكون هو الظنّ ، أي : المحتمل الراجح ، لأنّ العلم أوّلا لا يعبّر عنه بالوهم ، وثانيا حجّية العلم ذاتي ومعلوم ، فلا يحتاج إلى التفصيل.

ولا يمكن أن يكون المراد هو الشكّ المتساوي الطرفين ، لأنه موضوع التفصيل والسؤال والوهم بمعنى مرجوحيّة المحتمل لا يناسب هذا التفصيل الظاهر من المنطوق والمفهوم قطعا ، فلا بدّ وأن يكون المراد منه الظنّ وهو يناسب المقام وهذا التفصيل ، لأنّ معنى الصحيحة وما يحصل منها بناء على هذا هو أنّه إن كان الشكّ والترديد متساوي الطرفين ، ولم يحصل ترجيح لأحد المحتملين فتجب الإعادة. وأمّا إن كان أحد المحتملين مظنونا ، وحصل ترجيحه على الطرف الآخر فلا تجب الإعادة ، بل يبني على ما ظنّه ، وهذا عين حجية الظنّ في عدد الركعات ، لأنّ متعلّق عدم الدراية هو عدد الركعات في المنطوق ، والمفهوم تابع له في الموضوع والمورد ، فهذه الصحيحة لا إطلاق لها يشمل حجّية الظنّ في الأفعال.

ومنها : خبر عبد الرحمن بن سيابة ، وأبي العباس : « إذا لم تدر ثلاثا صلّيت أو أربعا ووقع رأيك على الثلاث فابن على الثلاث ، وإن وقع رأيك على الأربع فسلّم وانصرف ، وإن اعتدل وهمك فانصرف وصلى ركعتين وأنت جالس » (1).

ولا شكّ في أنّ قوله علیه السلام : « ووقع رأيك على الثلاث » وهكذا قوله علیه السلام : « وإن وقع رأيك على الأربع » المراد بوقوع الرأي على الثلاث ووقوع الرأي على الأربع هو الظنّ لا العلم ، بقرينة قوله علیه السلام مقابل هذين القسمين « وإن اعتدل وهمك » لأنّ مقابل الاعتدال ، عدم الاعتدال ، وعدم الاعتدال حسب المتفاهم العرفي هو عبارة عن ترجيح أحد الطرفين لا البتّ في طرف.

فلو كان وقوع الرأي قابلا في حدّ نفسه لانطباقه على العلم ، ولكن بهذه القرينة

ص: 267


1- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (1).

لا بدّ من حمله على الظنّ ، ثمَّ إنّه من الواضح أنّه لا خصوصية للمورد في هذه الرواية ، فأيّة خصوصيّة يحتملها المستنبط في مقام الاستنباط للشكّ بين الثلاث والأربع ، فالحكم عامّ في أيّ شكّ كان ، بل في أيّ صلاة كان.

وحاصل الكلام : أنّ مفاد هذه الرواية هو أنّ الشكّ إذا لم يكن متساوي الطرفين وكان خارجا عن الاعتدال بأن وقع ظنّه على أحد طرفي الشكّ كان ذلك ثلاثا أم أربعا يبني عليه ، وهذا معناه حجّية الظنّ ، وبإلغاء خصوصية المورد يجري في كلّ شكّ في كلّ صلاة ، ثنائيّة كانت أو ثلاثيّة أو رباعيّة ، وفي الرباعيّة ، كان في الأوليين أو كان في الأخيرتين.

ومنها : خبر الحلبي : « وإن كنت لا تدري ثلاثا صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ، ثمَّ صلّ ركعتين وأنت جالس » (1).

وتقريب دلالته على حجية الظنّ في عدد الركعات مثل تقريب دلالة خبر عبد الرحمن بن سيابة وأبي العباس البقباق ، وأيضا بإلغاء الخصوصيّة يكون الحكم عامّا.

ومنها : صحيحة الحلبي « إذا لم تدر اثنتين صلّيت أم أربعا ولم يذهب وهمك إلى شي ء فسلّم ، ثمَّ صلّ ركعتين » (2).

وهذا الأخبار بعد إلغاء خصوصيّة المورد ، دلالتها على اعتبار الظنّ في عدد الركعات في الجملة واضحة.

وأمّا سند النبوي وهو إن كان عاميا ولكن اشتهاره بين فقهائنا - رضوان اللّه عليهم - وذكره في كتبهم وفي مدارك فتاويهم يوجب جبر ضعفه والوثوق بصدوره الذي هو موضوع الحجّية.

ص: 268


1- تقدّم تخريجه في ص 208 ، رقم (4).
2- تقدّم تخريجه في ص 213 ، رقم (3).

وأمّا الروايات المرويّة عن الأئمّة الأطهار فمعتبرة ، وقد عمل بها الأصحاب وقد عرفت أنّ بعضها صحيحة ، فإذا كان لها إطلاق يجب الأخذ به حتّى يثبت التقييد.

الجهة الثانية : في أنّ الظنّ هل هو معتبر في الأوليين ،

أم يختصّ اعتباره بالأخيرتين من الرباعيّة

والحقّ اعتباره مطلقا ، سواء أكان في الثنائيّة أو الثلاثيّة أو الرباعية ، وفي الأخير سواء كان في الأوليين أو كان في الأخيرتين.

وذلك من جهة أنّ ما قيل في وجه عدم اعتباره في الأوليين هو أنّه لا بدّ فيهما من الحفظ واليقين والدراية والسلامة ، وهذه العناوين الأربعة المأخوذة في لسان الدليل لا يمكن تحصيلها بالظنّ ولا تتحقق به.

وفيه : أنّ المراد بهذه الأربعة معنى واحد ، وكلّها يرجع إليه ، وهو اليقين.

وبعبارة أخرى : الحكم بصحّة الصلاة في أيّة صلاة موقوف على اليقين بسلامة الأوليين ، ولكن الظاهر أنّ اليقين المأخوذ في موضوع الحكم بالصحّة مأخوذ على وجه الطريقيّة لا الصفتيّة ، بل قلنا في مبحث حجّية القطع من كتابنا « المنتهى » أنّه لا يوجد في الشرعيّات مورد يكون القطع مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي على نحو الصفتيّة حتّى في الشهادة.

فإنّ اليقين المأخوذ في موضوع وجوب أو جواز أدائها هو على نحو الطريقية لا الصفتيّة ، ولذا يقوم مقام الاستصحاب. وقد بيّنّا هناك - أي في مبحث حجية القطع - أنّ الأمارات والأصول التنزيليّة تقوم مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة لا الصفتيّة.

ص: 269

فإذا كان اليقين المأخوذ في موضوع الحكم بالصحة على نحو الطريقيّة ، وكان المراد من قوله علیه السلام « إذا سلّمت الأوليان سلّمت الصلاة » هو اليقين وإحراز سلامتهما ، وكذا المراد من الدراية والحافظ هو اليقين بتحقّق الأوليين ، وكان اعتبار الظنّ من جهة أنّ الشارع جعله أمارة على وجود المظنون فيقوم مقام ذلك القطع المأخوذ في موضوع الحكم بالصحّة.

ويدلّ على أماريّته قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أيّ ذلك أحرى إلى الصواب فليبن عليه ».

وكذلك النبوي الآخر : « إذا شكّ أحدكم فليتحرّ » ظاهر في أنّ الأحرى إلى الصواب طريق إلى ما هو الصواب ، وهكذا الأمر بالتحرّي لا يبعد أن يكون من جهة تحصيل الظنّ بالعدد ، لأنّ تحصيل العلم غالبا في مورد الشكّ غير ممكن ، فهو صلی اللّه علیه و آله جعل طريقا لرفع الشكّ تعبّدا.

فتكون هذه الأدلّة التي تدلّ على حجّية الظنّ حاكمة على الأدلّة التي مفادها إعادة الصلاة في الثنائية مطلقا ، سواء كانت مستقلّة كفريضة الصبح ، أو كانت الأوليين من الرباعيّة وكذلك الثلاثية كصلاة المغرب.

والحاصل : أنّه يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ الشارع الأقدس جعل الظنّ أمارة لعدد الركعات.

وأمّا الضعف في سند الحديث فقد تكلّمنا فيه فلا نعيد ، وكذلك الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام تدلّ على أماريّته ، كما هو يظهر بأدنى تأمّل ، فحكمه علیه السلام - بالأربع بذهاب الوهم إليه وكذلك بالثلاث بذهاب الوهم إليه - دليل واضح على أنّه جعل الظنّ بالثلاث أو الأربع أمارة عليهما ، ومعلوم أنّ الظنّ إذا كان أمارة يقوم مقام اليقين الذي أخذ موضوعا للحكم بالصحّة في الأوليين من الرباعيّة ، وكذلك في الثنائيّة المستقلّة كصلاة الصبح ، والثلاثيّة كصلاة المغرب.

ص: 270

هذا ، مضافا إلى أنّه لم ينقل خلاف في هذا الحكم إلاّ من ابن إدريس (1) قدس سرّه وحكى صاحب الجواهر دعوى إجماعات من جمع (2) ، وهو رحمه اللّه أصرّ إصرارا بليغا على قيام الظنّ في هذا المورد - أي في عدد الركعات - مقام العلم حتّى أنّه حكى عن نفس ابن إدريس الذي كان مخالفا في هذه المسألة الاعتراف بقيام الظن مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّره (3).

والحاصل : أنّه ينبغي أن يعدّ حجّية الظنّ في عدد الركعات مطلقا في الرباعيّة وفي الثنائيّة من المسلّمات.

[ الجهة ] الثالثة : في أنّ الظنّ هل هو حجّة في الأفعال أيضا ، كما هو حجّة في عدد الركعات أم لا؟

فنقول : المشهور بل ادّعى المحقّق الثاني نفي الخلاف عن قيامه مقام العلم بالنسبة إلى الأفعال أيضا والروايات المتقدمة المرويّة عن أهل البيت علیهم السلام كانت مخصوصة بالظنّ في عدد الركعات.

وأمّا النبوي العامي فعامّ ، لأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أي ذلك أحرى إلى الصواب » يشمل الأفعال والركعات جميعا ، فبضميمة دعوى نفي الخلاف من المحقّق الثاني ، والوجوه الاستحسانية التي ذكروها في هذا المقام التي سنذكرها إن شاء اللّه تعالى ربما يوجب الاطمئنان بحجيّة الظنّ في الأفعال أيضا ، بمعنى أنّه لو تعلّق بوجود جزء أو شرط أو مانع تكون حجّة على وجودها ، فلا تجب

ص: 271


1- « السرائر » ج 1 ، ص 245.
2- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 362.
3- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 365.

إعادة ذلك الجزء أو الشرط ، ولو كان في صورة عدم تجاوز محلّهما فيكون حاكما أو مخصّصا لمفهوم قاعدة التجاوز وكذلك حجّة إذا تعلّق بعدمها فتجب الإعادة حتّى مع التجاوز عن محلّهما ، وبعبارة أخرى : يكون حاله حال العلم. وأمّا الوجوه الاستحسانيّة التي ذكروها :

فمنها : أنّ الظن إن كان حجّة في إثبات الركعة وفي نفيها ، فبطريق أولى يكون حجّة في أبعاض الركعة ، لأنّها مشتملة على ذلك البعض والأبعاض الآخر ، فما يكون طريقا إلى الكلّ فهو طريق إلى جزء ذلك الكلّ بطريق أولى لأنّ مئونة طريقيّة الشي ء إلى الكلّ أزيد من مئونة الطريقية إلى الجزء.

وفيه : المنع أوّلا من الملازمة بين كون الشي ء طريقا إلى الكلّ مع كونه طريقا إلى جزئه مستقلا لا في ضمن الكلّ. نعم طريقيّة شي ء إلى الكلّ ووجوده ملازم مع كونه طريقا إلى وجود كلّ جزء في ضمن الكلّ ، لا إلى وجوده مستقلا ، فإنّه واضح البطلان.

وثانيا : على فرض كونه طريقا إلى وجود جزئه مستقلا فالأولويّة ممنوعة ولا وجه لها أصلا ، لأنّه من الممكن أن يكون في شي ء ملاك الطريقيّة إلى وجود مركّب ولا يكون فيه ملاك الطريقيّة إلى وجود بعض أجزائه وجودا مستقلا.

وبهذا يندفع ما توهّمه بعض من دلالة اللفظ الذي يدلّ على طريقيّة الظنّ في الركعة على طريقيّته إلى أجزائها بمفهوم الموافقة.

ومنها : أنّ الشك في الأوليين موجب للبطلان [ فإذا جعل الشارع الظن حجة فيهما فيكون حجة في الأجزاء بطريق أولى ] لأنّهما فرض اللّه ، فأهميّتهما صارت سببا لاعتبار العلم والحفظ والسلامة فيهما ، فإذا جعل الشارع الظنّ حجّة فيهما - كما هو المفروض - فيكون حجّة في الأجزاء - وخصوصا غير الركنية منها - بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذا صرف استحسان لا يصحّ أن يجعل مناط الحكم الشرعي ، والحجّية في الأجزاء يحتاج إلى دليل معتبر يدلّ عليه ، وتنقيح المناط القطعي لا يمكن ، والظني لا يفيد.

ص: 272

ومنها ، أنّ الصلاة عمل كثير الأجزاء والشرائط ، فلو لم يعتبر الشارع الظنّ فيها يلزم الحرج ، وهو ينافي الآية والمستفيض من الرواية من نفي جعل الأحكام الحرجيّة في الدين.

وفيه : أنّ أدلّة نفي الحرج لا شك في حكومتها على إطلاقات وعمومات الأوّليّة ويرفع الحكم الحرجي ، ولكن ليس من شأنها إثبات الحكم ووضعه ، كما أنّ الأمر في قاعدة نفي الضرر أيضا كذلك ، فإنّها تنفي الحكم الضروري ولا تثبت حكما يلزم من عدم جعله الضرر. وشرحنا هذه المسألة مفصّلا في شرح هاتين القاعدتين في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

نعم ربما يكون الحرج النوعي علّة لجعل الحكم كالتيمّم لمن لا يقدر على استعمال الماء لفقده أو لمرض وكالتقصير المسافر ، ولكن ذلك يحتاج إثباته على وجود دليل لمثل هذا الجعل ، وبصرف وجود حرج النوعي لا يمكن إثبات ذلك الحكم.

هذا ، مضافا إلى عدم تسليم الصغرى وأنّه يلزم الحرج من عدم اعتبار الظنّ في الأفعال ، وأيّ حرج يلزم مع وجود قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز من عدم حجّية الظنّ في أفعال الصلاة.

ومنها : أنّه لا يجتمع اعتبار الظنّ في الركعة مع عدم اعتباره في أجزائها ، ويلزم التناقض.

بيان ذلك : أنّ الركعة ليست إلاّ مجموع أجزائها ، وليست من المركّبات الحقيقيّة بحيث يحصل من اجتماع الأجزاء وامتزاجها صورة نوعيّة ووحدة حقيقية ، بل ليست الركعة إلاّ مجموع الأجزاء المترتّبة في الوجود ، فعدم اعتباره في هذه الأجزاء باعتبار الجزئيّة ، واعتباره فيها باعتبار كونها ركعة متناقضان.

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون هذه الأجزاء بشرط الاجتماع على الترتيب المعيّن موضوعا لاعتبار الظنّ فيها ، وبشرط عدم اجتماع الجميع على ذلك الترتيب تكون

ص: 273

موضوعا لعدم الاعتبار ، فلم يتّحد الموضوعان ، فلا تناقض في البين.

ومنها : أنّه كيف يعتبر الظنّ في الركعة التي لا تسقط بحال ، ولا يعتبر في السورة التي تسقط بمجرّد الاستعجال لقضاء حاجة.

وفيه : أنّه ليس ملاك الاعتبار أهميّة المظنون حتّى يستدلّ على اعتباره بمثل هذه الاستحسانات التي تشبه القياس ، بل هو هو.

ومنها : أنّه لو فرضنا أنّ المصلّي شاكّ بين الاثنتين والثلاث ، وكان شاكّا في إتيان السجدة من الركعة المشكوكة ولكنّه ظانّ أنّه على تقدير الإتيان بتلك السجدة تكون الركعة المشكوكة هي الثالثة مثلا فظنّ بإتيان السجدة فيظن بأنّ الركعة المشكوكة هي الثالثة ، ولازم ذلك - أي عدم اعتبار الظنّ في الأفعال واعتباره في الركعات - هو الأخذ بظنّه في الركعة والبناء على أنّها ثالثة وعدم الأخذ بظنّه في الجزء ، فيبني على عدمه ويلزم أن يأتي بها.

وفيه : أنّه ليست أدري أيّ مانع في أن يأخذ بالظنّ في الركعات ويبني على الثلاث ولا يعتني بالظنّ في وجود السجدة ويأتي بها ، لأنّه شكّ في المحلّ وأيّ محذور يلزم من ذلك؟

وأمّا ما ذكره المستدلّ بهذا الوجه من أنّه يلزم في بعض موارد التفكيك بين اعتبار الظنّ في الركعات واعتباره في الأفعال بأن يقال بعدم اعتباره في الأفعال فساد الصلاة للعلم الإجمالي بزيادة الركن أو نقيصته.

ففيه : أنّه على فرض لزوم ذلك في بعض الموارد ليس هذا محذورا ، بل يعمل في ذلك المورد بمقتضى العلم الإجمالي ويعيد الصلاة.

ومنها : أنّ كلّ واحد من الإمام والمأموم يجب عليه متابعة الآخر في ظنّه في الأفعال ، فكيف يمكن أن يكون ظنّ شخص آخر حجّة عليه في فعله ، ولا يكون ظنّ نفسه في فعله حجّة.

ص: 274

وفيه : أنّه إن قلنا إنّ الظنّ أيضا حفظ وفي مورد ظنّ كلّ واحد منهما بالنسبة إلى الأفعال أيضا يجب على كلّ واحد منهما الرجوع إلى الآخر كموارد علم كلّ واحد منهما فالفارق هو النصّ ، إذا جاء الدليل - أي النصّ - هناك ، ولم يأت هاهنا دليل على اعتبار ظنّ نفسه في أفعال الصلاة.

نعم لو قلنا بأنّ اعتبار ظنّ كلّ واحد منهما في حقّ الآخر من جهة كونه سببا لحصول الظنّ لذلك الآخر ، فهذا يدلّ على حجّية ظنّ نفسه ابتداء ، لكن كون الاعتبار لأجل هذه الجهة ممنوع.

وخلاصة الكلام في هذا المقام : أنّ هذه الوجوه الكثيرة التي ذكروها لاعتبار الظنّ في أفعال الصلاة ، كلّ واحد منها في حدّ نفسه ليس إلاّ استحسانا ، ولا يمكن أن يكون مناطا للحكم الشرعي بالاعتبار.

نعم كما ذكرنا هذه الوجوه مؤيّدات ، فبضميمتها إلى إطلاق النبوي الذي تقدّم ذكره يحصل الاطمئنان وركون النفس باعتبار الظنّ في الأفعال.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 275

ص: 276

23 - قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر

اشارة

ص: 277

ص: 278

قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة أنّه « لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم » وكذلك بالعكس ، أي لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام. وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها

وهو أمران :

الأوّل : الروايات :

فمنها : مرسلة يونس عن الصادق علیه السلام المروية في الكافي والتهذيب عن يونس ، عن رجل ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام سألته عن الإمام يصلّي بأربعة أنفس أو خمسة ، فيسبّح اثنان على أنّهم صلّوا ثلاثة ، ويسبّح ثلاثة على أنّهم صلّوا أربعا ، ويقول هؤلاء : قوموا ، ويقول هؤلاء : اقعدوا والإمام مائل مع أحدهما أو معتدل الوهم ، فما يجب عليه؟ قال علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه باتفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام ، ولا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة ، فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط ، الإعادة والأخذ بالجزم » (2).

ص: 279


1- (*) « القواعد » ص 241.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ولم يدر زاد أو نقص ... ، ح 5. « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 54 ، ح 187 ، باب أحكام الجماعة ... ، ح 99. وفيهما : « بإيقان منهم » بدل « باتّفاق منهم ».

وخبر حفص بن البختري في الصحيح أو الحسن عنه أيضا ، قال علیه السلام : « ليس على الإمام سهو ، ولا على من خلف الإمام ، ولا على السهو سهو ، ولا على الإعادة إعادة » (1).

وهاهنا أخبار كثيرة ذكرها في الوسائل (2) ، ولكن أغلبها يفيد معنى آخر غير ما نحن بصدده وإن ذكرها صاحب الوسائل في هذا الباب.

وفيما ذكرناه خصوصا مرسلة يونس غنى وكفاية ، فإنّها صريحة في أنّ المورد مورد شكّ الإمام إمّا متساوي الطرفين أو الإمام مائل إلى أحد الطرفين فأجاب الإمام علیه السلام بأنّه « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه باتفاق منهم » فهذه الجملة تدلّ على عدم الاعتبار والاعتناء بشكّ الإمام مع حفظ المأموم سهوه عليه ، فنزل علیه السلام حفظ المأموم سهو الإمام عليه منزلة حفظ نفس الإمام سهوه. والجملة الثانية - أي قوله علیه السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » تدلّ على أنّه لا اعتبار بشكّ المأموم مع حفظ الإمام سهوه عليه.

فالجملتان تدلاّن دلالة واضحة على طرفي هذه القاعدة ، أي : عدم الاعتناء بشكّ الإمام مع حفظ المأموم ، وعدم الاعتناء بشكّ المأموم مع حفظ الإمام. وحيث أنّ العمل بهذه الرواية متّفق عليه بين الأصحاب ، ولم يخالف أحد منهم فلا مجال للقول بأنّها مرسلة وضعيف السند.

الثانية : الإجماع ، فإنّه لم يخالف في هذا الحكم أحد من الأصحاب رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين. وقد تكرّر الإشكال في مثل هذه الإجماعات التي لها مدارك

ص: 280


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته ولم يدر زاد أو نقص ... ، ح 7. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1428 ، باب أحكام السهو ، ح 16 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 3.
2- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 - 341 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، : باب 24 : باب عدم وجوب شي ء بسهو الإمام مع حفظ المأموم.

معيّنة ، فلا نعيد.

وقد يقال بوجه آخر لاعتبار هذه القاعدة من الطرفين ، وهو أنّه يستفاد من مجموع أخبار هذا الباب أنّ صلاة الإمام مع صلاة المأموم كأنّهما صلاة واحدة وصادرة من شخص واحد ، وبعبارة أخرى : كان المصلّي واحد ، ولذلك تكون قراءة الإمام بدلا عن قراءة المأموم ، فكأنّه هو قرأ ، فبناء على هذا يكون حفظ أحدهما حفظ الآخر ، فيجب على كلّ واحد منهما آثار حفظ نفسه - وإن كان شاكّا - عند حفظ الآخر ، لما ذكرنا من أنّ حفظ كلّ واحد منهما يكون بمنزلة حفظ الآخر ، فيجب على كلّ واحد منهما إلغاء شكّ نفسه وعدم الاعتناء بشكّه إذا كان الآخر حافظا ، فيرتّب آثار الحفظ مع أنّه شاكّ ويلغى آثار الشكّ.

فلو شكّ أحدهما في الأوليين يلغى أثر الشكّ الذي هو البطلان ، ويراجع إلى حفظ الآخر فيبني على صحّة صلاته ، مع أنّه شكّ في الأوليين.

ولو شكّ في الأخيرتين يلغى أثر الشكّ ، وهو البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط منفصلة ومستقلّة ، بل يرجع إلى حفظ الآخر ويتمّ صلاته ولا شي ء عليه ، لما ذكرنا من أنّ حفظ الآخر يحسب حفظه ، فكأنّه ليس بشاكّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان استحسانا حسنا ولكن صرف الاستحسان والظنّ بالملاك لا يمكن أن يكون مدركا للحكم الشرعي ، ويحتاج إلي ورود دليل على ذلك وأنّ حفظ كلّ واحد منهما يحسب حفظا للآخر. نعم هذا الحكم في الجملة مورد الاتّفاق وظاهر الروايات المعتبرة التي ذكرنا بعضها.

[ الجهة ] الثانية : في مفادها وتوضيح المراد منها

وهو يتوقف على ذكر أمور :

ص: 281

الأوّل : في أنّه هل يعتبر في رجوع الإمام إلى المأموم أن يكون المأموم عادلا ، أو يجب الرجوع إليه وإلغاء شكّه إن كان حافظا وان لم يكن عادلا؟

وكذلك يعتبر في الرجوع إليه في شكّه مع حفظه أن يكون رجلا ، أو يجب وإن كان امرأة؟

وكذلك يعتبر في الرجوع إليه أن يكون بالغا ، أو يجب الرجوع إليه وإن كان صبيّا؟

وحيث أنّ العمدة في دليل هذه القاعدة ، الأخبار الواردة في هذا الباب فلا بدّ من ملاحظتها أنّه هل لها إطلاق يشمل الشقوق المذكورة الثلاثة ، أي كون المأموم فاسقا أو امرأة أو صبيا ، أم لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجميع ، أولها إطلاق بالنسبة إلى بعضها دون بعض؟

فنقول : لا شك في أنّ قوله علیه السلام في مرسلة يونس : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه » له إطلاق في حدّ نفسه يشمل الأقسام الثلاث ، أي الفاسق والصبي والامرأة ، لأنّ عنوان « من خلفه » عنوان عامّ ينطبق على الأصناف الثلاث نحو انطباقه على ما يقابل هذه الأصناف.

فشمول « من خلفه » للعادل وغير العادل ، وللبالغ وغير البالغ إذا كان مميّزا خصوصا إذا قلنا بشرعيّة عباداته ، وللرجل والامرأة على نسق واحد ، ولا طريق لإنكار الإطلاق إلاّ دعوى الانصراف - في الموصول في من خلفه - إلى غير هذه الأصناف الثلاثة. وهو كما ترى ، خصوصا الانصراف إلى المأموم العادل ، مع أنّ الغلبة في المأمومين في أغلب الأعصار والأمصار لغير العدول.

وأمّا ادعاء أنّ اشتراط كونهم عدول في رجوع الإمام إليهم لأجل حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم - وغير العادل لا يحصل الوثوق من قوله - ففيه : أنّ الرجوع إلى المأمومين ليس من باب الشهادة ، ولا من باب حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم ، ولذلك لو كانوا عدولا وكانوا حافظين على الإمام سهوه يجب الرجوع إليهم ولو لم

ص: 282

يحصل الوثوق والاطمئنان من قولهم ، بل ولو لم يحصل الظنّ من قولهم ، كما سيجي ء ونتكلّم فيه إن شاء اللّه ، بل حكم تعبّدي يمكن أن يكون حكمته ما تقدّم من أنّ صلاتهما كأنّهما صدرت من شخص واحد ، ولذلك قراءة الإمام تكون بدلا عن قراءته ، فمن هذه الجهة جعل حفظ أحدهما بمنزلة حفظ الآخر ولو لم يحصل له ظنّ ، فضلا عن الوثوق والاطمئنان.

والحاصل ، أنّ ادّعاء الانصراف إلى العدول ، أو كون مناط اشتراط كونهم عدولا في الرجوع إليهم حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم بعيد عن الصواب.

وأمّا الانصراف إلى البالغين وعدم شمول الموصول في « من خلفه » لغير البالغين ، فإن قلنا بعدم شرعيّة عبادات الصبي وان كان مميّزا عاقلا كاملا بل كان مجتهدا فهو كلام حقّ لا محيص عنه ، لعدم كون صلاته صلاة حقيقيّة ، بل هو صرف صورة الصلاة لأجل التمرين ، فليس بمأموم حقيقة حتّى يرجع الإمام إليه.

نعم لو كان المناط حصول الوثوق ، ربما يحصل الوثوق من قول بعض الصبيان أكثر ، ولكن عرفت أنّه ليس بمناط ، فادّعاء الانصراف عن غير البالغين - خصوصا إذا كان أقلّ من زمان البلوغ بمدة قليلة ، مثل ساعة بل ومثل يوم - فلا شاهد له إنصافا.

وأمّا الانصراف عن المرأة فالظاهر أنّه لا وجه له إلاّ غلبة الوجود ، بمعنى أنّ المأمومين غالبا هم الرجال ، والنساء قليلون.

وهو كما ترى ، لأنّ غلبة الوجود ليس موجبا للانصراف ، كما حقّق في محلّه.

فالحقّ شمول القاعدة للمأموم مطلقا ، عادلا كان أم غير عادل ، رجلا كان أو امرأة ، صبيان كان أو بالغا ، فالمراد ب- « من خلفه » أعمّ من جميع ذلك.

الثاني : أنّه ما المراد من السهو في قوله علیه السلام : « لا سهو للإمام » أو قوله : « لا سهو للمأموم » المستفاد من روايات الباب.

فنقول : الظاهر من قوله علیه السلام « ليس على الإمام سهو إذا حفظ من خلفه عليه

ص: 283

سهوه » في مرسلة يونس ، المراد به الشكّ يقينا ، لأنّ الراوي سأل عن الإمام المعتدل الوهم بالنسبة إلى مقالة كلتا الطائفتين من المأمومين ، حيث أنّ طائفة منهم يقولون : قوموا ، أي يدّعون أنّ ما بيدهم هي الركعة الثالثة ولذلك يقولون : قوموا ، والطائفة الأخرى يقولون : أقعدوا ، أي يدّعون أنّ ما بيدهم هي الرابعة ، والإمام إمّا مائل إلى إحدى الطائفتين ، أو معتدل الوهم. ومعلوم أنّ هذا فرض شكّ الإمام لا فرض نسيانه ، هذا أولا.

وثانيا : أنّه لو كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ ، فيكون مفاد « لا سهو » أي لا حكم لسهوه ، أي إذا نسي جزء أو شرطا ، ركنا كان أو غيره فتذكر في المحلّ فلا يجب عليه أن يأتي به ، أو إذا كان له القضاء فلا يجب قضائه ، أو إذا كان موجبا لسجدتي السهو فلا يجب على الإمام ، وهكذا سائر أحكام النسيان ، وهذه الأمور ممّا لا يمكن الالتزام بها.

هذا مضافا إلى أنّ تعليق رفع حكم النسيان على حفظ المأمومين عليه نسيانه لا بدّ وأن يكون المراد منه أنّ الناسي يرجع إلى حفظ المأمومين ، كما أنّه لو كان المراد من السهو هو الشكّ معناه أنّه لا يعتني بشكّه بأن يعمل بحكم الشاكّ ويبني على الأكثر ، بل يرجع إلى حفظ المأمومين ويعمل على طبق حفظ المأمومين ، سواء كانوا قاطعين أو ظانّين ، على تقدير صدق الحفظ على الظنّ.

فلو كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعمّ من الشكّ والنسيان ، فمعنى التعليق على حفظ المأمومين أنّه يرجع فيما نسيه إلى حفظهم.

وهذا بالنسبة إلى الناسي غير معقول ، لأنّ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه بخلاف الشاكّ فإنّه يلتفت إلى كونه شاكّا فيبني على حفظ المأمومين ، أي على ما اعتقدوا من عدد الركعات.

وخلاصة الكلام : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ المراد من السهو في هذه القاعدة هو

ص: 284

الشكّ ، فتكون هذه القاعدة حاكمة على أدلّة البناء على الأكثر في الشكوك الصحيحة ، أي يخرج شكّ الإمام مع حفظ المأموم ، أو شكّ المأموم مع حفظ الإمام عن موضوع البناء على الأكثر تعبّدا ، فيجب البناء من كلّ واحد من الإمام والمأموم على حفظ الآخر ، سواء كان المحفوظ طرف الأقلّ من شكّه أو طرف الأكثر.

الثالث : أنّ المراد بالحفظ هل هو خصوص اليقين أو يشمل الظنّ أيضا؟ فلو شكّ الإمام أو المأموم في عدد الركعات ، وظنّ الآخر قدرا معيّنا كالثلاث أو الأربع مثلا فيجب رجوع الشاكّ منهما إلى الآخر الظانّ ، لا يبعد أن يكون المراد منه ما هو الأعمّ من اليقين والظنّ ، وذلك من جهة حجّية الظنّ في عدد الركعات إذا كان متعلّقا بإحدى الأخيرتين ، فإذا كان فالظنّ يقوم مقام العلم في إثبات متعلّقه ، فيخرج في عالم الإثبات عن الترديد ويثبت عنده ما تعلّق به الظنّ من العدد ، وهذا هو الحفظ ، لأنّ المراد من الحفظ بالنسبة إلى عدد الركعات هو أن يكون العدد محفوظا عنده ، لا يحتمل أن يكون أقلّ منه ولا أكثر منه.

وهذا المعنى في العلم وجداني وتكويني ، وفي الظنّ تعبّدي وجعلي ، فهو - أي الظنّ - أيضا مصداق للحفظ تعبّدا ، فبناء على هذا فلو شكّ الإمام أو المأموم في أنّه كم صلّى يجب أن يرجع إلى ظنّ الآخر.

الرابع : في أنّه هل هذه القاعدة تجري في الشكّ في الأفعال ، أو مخصوصة بالشكّ في عدد الركعات؟

قال في الجواهر : ويظهر من صاحب المدارك بل هو المنقول عن جدّه أيضا ، بل ربما تبعه عليه بعض من تأخّر عنه أنه لا فرق في الحكم بين الأفعال والركعات. بل نسبه في المدارك إلى الأصحاب ، وهو لا يخلو من تأمّل ، للشكّ في شمول الأدلة لها انتهى (1).

ومراده قدس سرّه من الأدلة الإجماع والأخبار الواردة في هذا الباب.

ص: 285


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 411.

أمّا الإجماع على تقدير صحّة الاستدلال به والإغماض عمّا استشكلنا عليه فغير معلوم التحقّق في الشكّ في الأفعال ، والقدر المتيقّن على تقدير وجوده هو في الشكّ في الركعات.

وأمّا الأخبار فعمدة الدليل منها على هذه القاعدة هو مرسلة يونس ، وصحيحة عليّ بن جعفر ، ومورد كليهما خصوص مورد الشكّ في عدد الركعات ، لا الشكّ في الأفعال.

إن قلت : إنّ الجواب في المرسلة الذي هو مدرك استفادة هذا الحكم عامّ يشمل الركعات والأفعال ، لأنّ قوله علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه سهوه » وكذلك في طرف المأموم قوله علیه السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » (1) لم يذكر متعلّق السهو أنّه خصوص الركعات أو الأعمّ منها ومن الأفعال ، فلفظ السهو مطلق ، سواء أكان متعلّقه الركعات أو الأفعال.

فمعنى رفع السهو - أي الشكّ - بناء على ما تقدّم من معناه ، هو رفع الحكم المترتّب شرعا على الشكّ ، والحكم المترتّب شرعا على الشكّ إن كان متعلّق الشك هو الركعات هو البناء على الأكثر ، إن كان الشكّ من الشكوك الصحيحة والخمسة المعروفة.

فحفظ كلّ واحد منهما موجب لرفع وجوب البناء على الأكثر عن شك الآخر إذا كان شكّه متعلّقا بعدد الركعات. والحكم المترتّب شرعا على الشك في وجود جزء أو شرط إذا كان الشكّ في المحلّ إتيان ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، فحفظ كلّ واحد منهما يرفع هذا الأثر عن شكّ الآخر ، فلا يجب الإتيان به ، ولو كان الشكّ في المحلّ فلا قصور في دلالة المرسلة على العموم وشمولها للشكّ في الأفعال أيضا.

ص: 286


1- تقدّم تخريجه في ص 279 ، رقم (1).

نعم لا يستفاد العموم من صحيحة علي بن جعفر (1) ، لأنّ السائل سأل عن مورد خاصّ وأنّه هل هناك في مفروضه أثر لشكّه؟ فأجابه علیه السلام بقوله : « لا » فلا عموم في البين.

قلنا : إنّ ما ذكرت صحيح ، ولكن وحدة السياق قرينة على الأخذ بخصوصيّة المورد ، وموجبة لعدم ظهوره في الإطلاق ، لأنّ قوله علیه السلام بعد هذه الجملة : « لا سهو في سهو ، وليس في المغرب سهو ، ولا في الركعتين الأوليين من كلّ صلاة سهو ، ولا سهو في نافلة » كلّها راجع إلى نفي حكم الشكّ في عدد الركعات ، أي صلاة الاحتياط ولا ربط لها بحكم الشكّ في الأفعال أي الإتيان بالجزء أو بالشرط الذين شكّ في إتيانهما ، فليس دليل على رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما في الأفعال.

وهذا ، أي عدم الدليل على رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما في الأفعال هي العمدة في اختصاص الرجوع بالشكّ في الركعات ، لأنّه لا يصحّ الرجوع إلى شخص آخر ورفع حكم الشكّ عن نفسه مع شمول عموم ما دلّ على لزوم إتيان ما شكّ في وجوده إذا كان شكّه لم يتجاوز المحلّ ، إلا بدليل يكون حاكما على تلك القاعدة أو مخصّصا ، فلو لم يكن دليل في البين لا بدّ من الأخذ بذلك العموم.

وأمّا ما ربما يقال من الفرق بين الركعات والأفعال بأنّ رجوع الشاكّ إلى الحافظ في الأوّل موافق مع الاعتبار ، دون الثاني ، وذلك من جهة اتّحاد الركعة بين الإمام والمأموم لأنّ الركعة التي هي للإمام هي بعينها ركعة المأموم ، وكذلك العكس ، فحفظ أحدهما لركعته حفظ للآخر ، لأنّ هذه الركعة كما تكون له كذلك تكون للآخر.

وبعبارة أخرى : هذه الركعة التي بيد الإمام وبيد المأموم المقتدي بذلك الإمام يحسب ركعة لكل منهما ، فهذه الركعة يصحّ أن ينسب إلى كلّ واحد منهما ، فحفظ كلّ

ص: 287


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 350 ، ح 1453 ، باب أحكام السهو ، ح 41 ، وج 3 ، ص 279 ، ح 818 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 138. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 1.

واحد منهما لها يكون حفظا للآخر ، وهذا بخلاف الأفعال ، فإنّه بناء على عدم لزوم المتابعة في الأقوال والأفعال مع بقاء الاقتداء والجماعة فيمكن أن تكون السجدة الأولى لأحدهما والثانية للآخر.

وفيه : أنّ المراد بوحدة الركعة التي يقتدي فيها المأموم مع الركعة التي يوجدها الإمام إن كان أنّ ما يصدر من الإمام واحد مع ما يصدر من المأموم بصرف أنّه يتبعه في القيام والركوع فهذا واضح البطلان.

وإن كان المراد وحدتهما من حيث مرتبة العدد مثلا ثالثة الإمام وثالثة المأموم ، فهذا قد يكون وقد لا يكون ، لأنّه قد يكون ثالثة الإمام أو رابعته والثانية أو الأولى من المأموم ، كما أنّه لو اقتدى به والإمام في الثالثة ، فيكون الأولى للمأموم والثالثة للإمام ، وما بعدها الرابعة للإمام والثانية للمأموم ، فلا يمكن التفرقة بين الركعات والأفعال من هذه الجهة والقول بالرجوع في الأوّل دون الثاني.

كما أنّه لا وجه للاستدلال للعموم وشمول الأفعال كالركعات بوحدة الملاك والمناط فيهما بأن يقال : مناط الرجوع في الركعات هو محفوظيّة الركعات عند الآخر فكأنّه حفظ الآخر علّة لرجوع الشاك منهما إليه ، والعبرة بعموم العلة لا بسعة الموضوع وضيقه.

لأنّ هذا الكلام صحيح فيما إذا كان الكبرى المجعول والملقى إلى المكلّف هي العلّة ، وإنّما يلقى إليه الأعمّ أو الأخصّ من العلّة لنكتة ، إمّا لأهميّة ذلك الفرد أو الصنف الملقى ، أو لخفاء مصداقيّته للعلّة ، أو لنكتة أخرى ، فقوله : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ففي الحقيقة الكبرى الملقى إلى الطرف لا تشرب المسكر ، وهذا في مقام الإثبات لا بدّ وأن يكون إمّا منصوص العلّة بقوله « لأنّه » أو قوله « فإنّه » ، أو كان تنقيح المناط قطعيا الذي يقال له المستنبط العلّة ، وفيما نحن فيه ليس إلاّ صرف استحسان.

وبعبارة أخرى : يكون من باب تخريج المناط الظنّي ، فيكون حاله حال القياس ،

ص: 288

بل هو هو. فلا طريق إلى إثبات العموم والشمول للأفعال مثل الركعات إلاّ إطلاق الأدلّة - أي الروايات - أو إطلاق معقد الإجماع ، وقد عرفت أنّ كليهما مفقودان.

الخامس : في أنّه هل تجري هذه القاعدة في الركعتين الأوليين ، أم مختصّة بالأخيرتين؟

الظاهر جريانها فيهما أيضا كالأخيرتين ، ولا وجه للمنع إلاّ ما ربما يتخيل من لزوم سلامتهما وأنهما لو سلمتا سلمت الصلاة وأنّ الشكّ فيهما يوجب البطلان.

ولكن أنت خبير بأنّه بعد حكم الشارع برجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما فيكون حفظه حفظا للشاكّ ، وبعبارة أخرى : يكون حاكما على الأدلّة التي تعتبر سلامتهما وأنّ الشكّ فيهما يوجب البطلان.

وأمّا الدليل على جريانها في الأوليين فهي الإطلاقات ، فإنّ قوله علیه السلام : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام » فيه إطلاق بالنسبة إلى الشكّ في الأوليين والأخيرتين.

ولا فرق بينهما في كون الشكّ من الإمام أو المأموم مرفوع حكمه عن كلّ واحد منهما مع حفظ الآخر ، غاية الأمر أنّ الحكم المرفوع في الركعتين الأخيرتين هو البناء على الأكثر ، وفي الأوليين هو بطلان الصلاة وفي كلتا الصورتين يبني الشاكّ منهما على ما حفظه الآخر.

السادس : هل يعتبر في رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما حصول الظنّ للشاكّ بما أخبر به الآخر الحافظ ، أو يجب الرجوع إليه سواء حصل له الظنّ أم لا ، بل بقي بعد الرجوع أيضا على شكّه؟

الظاهر ، بل المسلم عدم اعتبار حصول الظنّ من قوله ، لأنّ موضوع وجوب الرجوع هو كونه شاكّا وكان هو الآخر حافظا ، ولم يعتبر الشارع شيئا آخر في موضوع حكمه.

ص: 289

هذا ، مضافا إلى أنّه لو حصل له الظنّ وارتفع شكّه فنفس الظنّ بعدد الركعات حجّة ، وليس من باب رجوع الشاكّ إلى من هو حافظ للعدد.

وحاصل الكلام : أنّ أخبار الباب مطلقات من هذه الجهة مفادها وجوب رجوع الشاكّ منهما إلى الآخر الذي هو حافظ للعدد ، سواء حصل له من رجوعه إليه الظنّ أم لا.

السابع : هل إذا كان أحدهما ظانّا والآخر متيقنا يجب رجوع الظانّ إلى المتيقن كرجوع الشاك إليه ، أم لا؟

الظاهر عدم جواز الرجوع ، لأنّ الظانّ هو بنفسه حافظ بواسطة حجية الظنّ في عدد الركعات ، فرجوعه إلى غيره وإن كان ذلك الغير متيقنا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة حاكمة على قاعدة البناء على الأكثر ، فجريانها يكون في مورد لو لم تكن هذه القاعدة تكون وظيفته البناء على الأكثر.

وهاهنا ليس الأمر كذلك ، لأنّ ظنّه حجّة ، ولو لم تكن هذه القاعدة لم تكن وظيفته البناء على الأكثر ، بل كان يجب أن يعمل بظنّه.

وأمّا احتمال أن يكون الحفظ منصرفا إلى الحفظ القطعي لا الظني مضافا إلى أنّ هذا الادعاء باطل - لما تقدم في الأمر الثالث - لا ربط لها بالمقام ، لأنّ هذا الكلام على فرض صحته تكون نتيجته عدم جواز الرجوع إلى الظانّ ، لا وجوب رجوع الظانّ إلى المتيقن الذي هو المدعى في المقام.

الثامن : لو كان كلّ واحد من الإمام والمأموم شاكا وقامت البينة على التعيين عند أحدهما فهل يجب عليه البناء على ما قامت عليه البينة أم لا؟ ثمَّ على تقدير وجوب بنائه على طبق البينة ، فهل يجب على الآخر الشاكّ الرجوع إلى من قامت عنده البينة أم لا؟

ص: 290

أقول : أمّا الأوّل - أي وجوب البناء على طبق البينة بالنسبة إلى من قامت البينة عنده - فممّا لا إشكال فيه أصلا ، وذلك لأنّ دليل اعتبار البينة يخرجه عن كونه شاكّا تعبدا ، ويجعله عالما وحافظا.

وهذا معنى حكومة البينة على الأدلّة المتكفلة لبيان أحكام الشاكّ ، فالشاكّ بعد قيام البينة عنده على تعيين عدد ليس بشاكّ في عالم التشريع ، بل يكون عالما وحافظا للعدد ، فيجب البناء على ما علم بتوسط قيام البينة.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه يجب على الآخر الشاكّ الرجوع إليه ، لأنّه بواسطة قيام البينة عنده صار حافظا ، والمفروض أنّ مفاد الأدلة هو رجوع الشاكّ منهما إلى الحافظ منهما.

التاسع : أنّه بعد الفراغ عن حجية الظنّ في عدد الركعات إذا قامت بينة عند الظانّ منهما على خلاف ظنّه ، هل له أن يعمل على طبق البينة ويترك العمل على طبق ظنّه ، أو لا يجوز ، بل يجب عليه العمل على طبق ظنّه ، أو لا هذا ولا ذاك؟ لأنّه من باب تعارض الأمارتين ، كما أنّه إذا قامت عنده بينتان مختلفتان ، إحديهما تقول إنّ ما بيدك هي الثالثة ، والأخرى تقول بأنّها رابعة فيتساقطان ، وحينئذ إمّا يرجع إلى أمارة أخرى إن كانت ، وإلاّ يعمل عمل الشاكّ فيبني على الأكثر؟ وجوه واحتمالات.

ولكن الظاهر منها هو التساقط ، لأنّه حصل عنده أمارتان متعارضتان كان يجب عليه العمل على طبق كلّ واحد منهما لو لا التعارض ، فيتساقطان بعد عدم إمكان الجمع بينهما وعدم جواز الترجيح بلا مرجح ، فالنتيجة أنّه يبقى على شكّه فيعمل عمل الشاك.

هذا فيما إذا كان الذي هو ظانّ تقوم أمارة عنده على خلاف ظنّه.

وأمّا لو كان أحدهما ظانّا والآخر قامت عنده بينة على خلاف ما ظنّه صاحبه ، فليس لكلّ واحد منهما أن يرجع إلى الآخر ، بل كلّ واحد يعمل على طبق الأمارة التي عنده ، لأنّه بناء على هذا كلاهما حافظان ، فلا معنى لوجوب الرجوع إلى الحافظ ،

ص: 291

فيكون حالهما كما إذا قطع كلّ واحد منهما على خلاف الآخر فيعمل كلّ واحد منهما بقطعه.

العاشر : لا شك في وجوب رجوع الإمام إلى المأمومين إن كانوا متفقين في الحفظ ، بمعنى أنّ كلهم متفقون على أن ما بيدهم هي الركعة الثالثة أو الرابعة مثلا ، سواء كان منشأ اتفاقهم هو القطع ، أو الظنّ ، أو البينة.

وأمّا إذا كانوا مختلفين ، فإن كان بعضهم شاكّا وبعضهم الآخر قاطعا فلا شبهة في وجوب رجوعه إلى القاطعين ، لأنّهم الحافظون ، وأمّا الشاكون فحالهم مثل حاله ، لا حفظ لهم.

وما في ذيل مرسلة يونس من قوله علیه السلام « فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم » (1) ليس المراد من الاختلاف هذا المعنى ، بل المراد اختلافهم في الحفظ ، بمعنى أنّ طائفة منهم قاطعون أو ظانون - بناء على أنّ الظنّ أيضا حفظ - على أنّ الركعة التي بيدهم مثلا هي الثالثة ، وطائفة أخرى قاطعون أو ظانون بأنّ ما في يدهم مثلا هي الرابعة ، وإن كانوا كلهم حافظين ولكنهم مختلفون في الحفظ ، فهل له الرجوع إلى إحدى الطائفتين مخيرا ، أو ليس له الرجوع إليهم أصلا؟

أمّا الرجوع إلى إحديهما معينا ، أي خصوص الطائفة التي يعتقد بالأقلّ ، أو خصوص الطائفة التي يعتقد بالأكثر فواضح البطلان لأنّه ترجيح بلا مرجح.

الظاهر هو الثاني ، أمّا أوّلا : فلأنهم إذا كانوا مختلفين في الحفظ فكلّ طائفة كما أنّه يثبت ما اعتقده تنفي ما اعتقده الأخرى ، فبدلالة المطابقة إخباره بكون ما بيدهم مثلا هي الثالثة يثبت كونه ثالثة ، وبدلالة الالتزام ينفي قول الطائفة الأخرى ، فكلّ واحدة من الطائفتين لو كان حفظه وإخباره حجّة ، فتحصل عند الإمام حجّة على نفي الثالثة

ص: 292


1- تقدم تخريجه في ص 279 ، رقم (1).

من قول طائفة ، وحجّة أخرى على نفي الرابعة من طائفة أخرى ، والواقع لا يخلو من أحدهما فيتكاذبان في النفي والإثبات فيتساقطان.

وأمّا ثانيا : فلما في مرسلة يونس من تقييد الرجوع إليهم بكونهم متفقين في الحفظ ، ومع اختلافهم فعلى الإمام وعلى المأمومين في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم حيث يقول علیه السلام فيها : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه باتفاق منهم ، وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الإمام - إلى أن يقول علیه السلام - فإذا اختلف على الإمام من خلفه فعليه وعليهم في الاحتياط الإعادة والأخذ بالجزم » (1).

فإنّ هذه الرواية صريحة بأنّ رجوع الإمام إلى المأمومين الحافظين على الإمام مقيد بصورة اتفاقهم في الحفظ ، أي فيما قطعوا أو فيما ظنوا - بناء على أن الظن أيضا هو حفظ ، وهو كذلك كما تقدم - وأما إذا اختلفوا فليس رجوع في البين ، بل على الإمام والمأمومين جميعا غير القاطعين الإعادة من باب الاحتياط وأخذا بالجزم أي الامتثال اليقيني.

ثمَّ إنه بعد ما ظهر مما تقدم أن المأمومين لو كان بعضهم متيقنين والآخرون شاكون فالإمام يرجع إلى المتيقنين منهم ، فهل بعد رجوع الإمام إليهم وأن صار حافظا بحفظهم فالشاكون عليهم الرجوع إلى الامام ، لأنه صار حافظا بواسطة رجوعه إلى الحافظين منهم - أي المتيقنين منهم - أو يجب على الشاكين الرجوع إلى نفس المتيقنين ، أو لا هذا ولا ذاك؟ احتمالات :

أما الوجه الأول : أي الرجوع إلى الإمام ، فلأن مفاد الروايات كما تقدم رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الحافظ للعدد فقد يقال : إن الإمام في المفروض وإن كان شاكا من قبل نفسه فهو مثل المأموم الشاك ، فكيف يرجع المأموم الشاك إليه ، ولكن بعد رجوعه إلى تلك الطائفة المتيقنين من المأمومين يصير حافظا بواسطة الرجوع

ص: 293


1- تقدم تخريجه في ص 279 ، رقم (1).

إليهم ، فيوجد موضوع رجوع المأموم الشاك إلى الإمام الحافظ.

ولكن أنت خبير بأن ظاهر المرسلة هو نفي الشك عن المأموم إذا لم يسه الإمام ، لقوله علیه السلام : « وليس على من خلف الإمام سهو إذا لم يسه الامام » وهاهنا المفروض أن الإمام أيضا سهى مثل المأموم. اللّهم إلا أن يقال : إن الشارع بعد أن حكم برجوعه إلى المتيقنين من المأمومين فكأنه ألغى سهوه ، وجعله في عالم التشريع غير شاك وحافظا ، فتحقق موضوع الرجوع إليه.

وأما الوجه الثاني : أي رجوع المأمومين الشاكين إلى الطائفة الأخرى الذين هم متيقنون هو أن مناط الرجوع كون ذلك الشخص منهم الذي يرجع إليه حافظا مع اشتراكه مع الشاك في الركعة التي بيدهما ، ولا خصوصية لكون من يرجع إليه المأموم هو الإمام ، فإذا كان مناط الرجوع هو الذي ذكرنا فهو موجود في المأمومين المتيقنين ، فيجب رجوع الشاكين منهم إليهم.

وفيه : أنه بعد ما كان المصلي شاكا في عدد ركعات صلاته وقد جعل الشارع له حكما وهو البناء على الأكثر وتدارك ما يحتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، فرفع اليد عن هذا الحكم وصرف النظر عنه لا بد وأن يكون بدليل حاكم عليه ، أو مخصص له.

والدليل الحاكم هاهنا عبارة عن هذه الروايات التي عرفت أن مفادها رفع السهو والشك عن الإمام مع حفظ المأموم ، وعن المأموم مع حفظ الإمام ، وليس هاهنا دليل يكون مفاده رفع الشك عن المأموم مع حفظ المأموم الآخر.

وبعبارة أخرى : رجوع المأموم إلى المأموم لا دليل عليه وإن كان أحدهما شاكا والآخر متيقنا.

وأما وجه احتمال الثالث : هو عدم الدليل على رجوع المأموم الشاك إلى المأموم الآخر ، وأيضا عدم الدليل على رجوعه إلى الإمام الذي هو في حد نفسه شاك ، ويجب عليه الرجوع إلى الغير ، فلا يجوز له الرجوع لا إلى الإمام ولا إلى المأمومين المتيقنين.

ص: 294

والأوفق بالقواعد هو الاحتمال الثالث ، لأن الدليل على رجوع كل واحد من الامام والمأموم إلى الآخر هذه الروايات ، لأن الإجماع أيضا كما بينا بالأخرة ينتهي إلى هذه الروايات ، وهي لا تدل إلا على رجوع المأموم الشاك إلى الإمام ، لا إلى المأموم الآخر المتيقن ، ولا إلى الإمام الشاك ولو بعد رجوعه إلى المتيقنين من المأمومين كما شرحنا.

ولكن مع ذلك كله ، الاحتمال الأول لا يخلو عن قوة ، لأنه بعد رجوع الإمام الشاك إلى المأموم المتيقن الحافظ لعدد الركعات ، وحكم الشارع بأنه صار بمنزلة المتيقن وألغى شكه فموضوع الرجوع إليه يوجد بحكم الشارع.

وأما الاحتمال الثاني - أي رجوع المأموم الشاك إلى المأموم المتيقن - فخارج عن مدلول هذه الروايات قطعا ، لأن مدلولها رجوع الإمام إلى المأموم ورجوع المأموم إلى الإمام ، لكن في صورة كون الذي يرجع إليه إماما كان ، أو مأموما ، حافظا لعدد الركعات ، وأما رجوع المأموم إلى المأموم فلا أثر له في هذه الأخبار.

وليس هاهنا دليل آخر يدل على رجوع المأموم إلى المأموم ، وما ذكرنا في وجه هذا الاحتمال ليس إلا استحسانا شبيها بالقياس.

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما إذا قامت بينة على تعيين الركعات عند بعض المأمومين دون بعضهم الآخر ، وأيضا قامت بينة عند الإمام ، فهل المأموم الشاك الذي لم تقم عنده بينة يرجع إلى الإمام لأنه صار حافظا بواسطة قيام البينة ، أو يرجع إلى المأموم الذي قامت عنده لأنه أيضا صار حافظا بواسطة قيام البينة ، أو لا إلى هذا ولا إلى ذاك؟

وقد عرفت أن رجوع المأموم إلى المأموم لا دليل عليه إلا ما هو من قبيل الاستحسان الذي هو شبيه بالقياس.

وأما احتمال الرجوع إلى الإمام في هذا الفرض أقوى من الفرض السابق ، لأن الإمام بواسطة قيام البينة عنده يصير حافظا واقعا ، لأن البينة من الأمارات وتقوم

ص: 295

مقام العلم ، ويجوز أن يشهد على طبق مؤداها وأن يحلف على طبق مؤداها ، مع أن الشهادة لا تجوز إلا عن علم ، والحلف أيضا هكذا لا بد وأن يكون عن بت.

فالإمام في هذا الفرض يصير حافظا بواسطة قيام البينة بلا كلام ، وموضوع الرجوع إلى الإمام هو أن يكون المأموم شاكا والإمام حافظا ، والمفروض حصول كلا الأمرين ، لأن المأموم شاك على الفرض والإمام في حكم العالم بواسطة قيام البينة.

نعم لو قلنا بأن يقين المأموم بالعدد أمارة للإمام على العدد فتصير الصورة المتقدمة أيضا مثل هذه الصورة.

الحادي عشر : فيما إذا كان واحد منهما - أي الإمام والمأموم - شاكا من دون أن يكون الآخر حافظا ، فإن كان الإمام وجميع المأمومين متفقين في الشك مثلا يكون شك كلهم بين الثلاث والأربع ، فجميعهم يعملون عمل الشك ، أي يبنون على الأكثر أي الأربع ويتممون الصلاة جماعة بمعنى أن الجماعة والاقتداء يبقى ولا يبطل لعدم اختلاف بينهما.

نعم بعد أن أتموا الصلاة وسلموا ووصلت النوبة إلى صلاة الاحتياط هل يأتون بها أيضا جماعة أو فرادى؟ فهي مسألة أخرى لا نتكلم عنها الآن ، وعلى كل تقدير لا رجوع في هذه الصورة لأحدهما إلى الآخر كما هو واضح.

وأما إن كانوا مختلفين ، مثلا كان شك الإمام بين الاثنتين والثلاث وكان شك المأمومين بين الثلاث والأربع.

والاختلاف على قسمين : تارة : تكون بينهما رابطة ، وأخرى : لا تكون.

فالأول : أي ما كان بينهما رابطة أي قدر مشترك في البين أي الأكثر في أحد الشكين يكون من مراتب الأقل في الشك الآخر ، مثل أن يشك الإمام مثلا بين الثلاث والأربع ، والمأموم بين الأربع والخمس ، فالمأموم قاطع بوجود الأربع ولكن يحتمل الزيادة.

ص: 296

والإمام شاك في وجود الأربع فيرجع في ذلك إلى المأموم ، والإمام قاطع بعدم الخمسة والمأموم شاك فيه ، فيرجع إلى الإمام فيبني على عدمه. والنتيجة أن كلاهما بعد رجوع كل واحد منهما فيما شك إلى ما تيقن به الآخر ، يبنون على الأربع ويتمون الصلاة جماعة ولا شي ء عليهما ، لا حكم شك الإمام وهو صلاة الاحتياط ، ولا حكم شك المأموم وهو سجدتا السهو إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين.

وأما الثاني : أي ما لم يكن بينهما رابطة أي قدر مشترك ، مثل أن يشك الإمام مثلا بين الاثنتين والثلاث ، والمأموم بين الأربع والخمس ، فكل واحد منهما قاطع ببطلان شك الآخر وعدم مطابقته للواقع في طرفي شكه ، ففي هذه الصورة حيث أن الشكين لا رابطة بينهما ، أي ليس قدر مشترك بينهما ، بل كل واحد منهما أجنبي عن الآخر ، فكل واحد منهما يرتب حكم الشك على شكه ، فالإمام في المثل المفروض يبني على الثلاث إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين ، وإلا فصلاته باطلة ، والمأموم يبني على الأربع ويسجد سجدتي السهو إذا كان شكه بعد إكمال السجدتين ، وقهرا ينفردان فالإمام يرتب حكم شكه في صلاة منفردا ، والمأموم أيضا كذلك.

ثمَّ إن الانفراد وترتيب كل واحد منهما حكم الشك على شكه في هذا القسم من المختلفين - أي ما لا رابطة بينهما ، بمعنى عدم قدر مشترك في البين - مسلم لا كلام فيه ، إنما الكلام في القسم الأول - أي ما كان بينهما رابطة وقدر مشترك في البين - وأنه هل يرجع كل واحد منهما إلى ما تيقن به الآخر كما ذكرنا في المثال المتقدم ، أم لا بل لا رجوع في البين ، أو يفصل بين ما يرتفع الشك بواسطة وجود الرابط والقدر المشترك بين الشكين - كالمثال المذكور في القسم الأول من المختلفين وهو أن يكون الإمام مثلا شاكا بين الثلاث والأربع والمأموم بين الأربع والخمس ، فالأربع قدر مشترك بين الشكين أي هو الطرف الأكثر من شك ، والأقل من شك آخر ، ففي هذا المثال بعد رجوع كل واحد منهما إلى ما تيقن به الآخر لا يبقى شك في البين ، ففي مثل هذه الصورة يقال بالرجوع - وبين ما لا يرتفع الشك بواسطة وجود الرابط أي القدر

ص: 297

المشترك في البين ، كما إذا شكّ أحدهما بين الاثنتين والثلاث والأربع ، والآخر بين الثلاث والأربع ، فالثلاث هو المتيقن في الشكّ الثاني ، فإذا رجع إليه وبنى على الثلاث لا يذهب شكّه من البين بالمرّة.

نعم معنى رجوعه إلى المتيقن الذي هو الثلاث في المفروض إلغاء احتمال الاثنتين ، وأمّا احتمال الأربع لم يلغ وموجود ، فبعد الرجوع إلى قدر المتيقن من الشكّ الثاني يصير الشكّ الأوّل مثل الشكّ الثاني بين الثلاث والأربع ، فيصير الشكّان من المتوافقين ، ففي مثل هذه الصورة يقال بعدم الرجوع.

أمّا وجه هذا التفصيل فمن جهة أنّ المقصود من رجوع الشاكّ إلى الحافظ هو ارتفاع حكم الشاكّ وإلغائه ، وهذا إنما يكون فيما يرتفع الشكّ بالرجوع تعبدا حتّى يرتفع حكمه بارتفاع موضوعه.

وأمّا فيما لا يرتفع الشكّ ويبقى قهرا حكمه أيضا فلا أثر للرجوع ، ويكون لغوا مثلا في المثال الذي ذكرنا ، وهو أن يكون أحدهما شكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع ، والآخر بين الثلاث والأربع ، فإذا رجع الأوّل إلى الثاني وألغى احتمال الاثنتين فعليه أن يبني على الأربع مثل الثاني ، ويعمل عمل الشاكّ بين الثلاث والأربع ، أي يأتي بصلاة الاحتياط ، فلم يترتّب أثر على الرجوع وصار لغوا ، ولهذا فصل بين صورة بقاء الشكّ بعد الرجوع ، فقيل بعدم الرجوع ، وصورة ارتفاع الشكّ فقيل بالرجوع.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان هذا علّة التفصيل فلا وجه له ، لأنّ أثر الرجوع يظهر في صلاة الاحتياط ، فبناء على الرجوع تكون صلاة الاحتياط عبارة عن ركعة واحدة عن قيام ، وبناء على عدم الرجوع تكون عبارة عن صلاتين ، إحديهما ركعة عن قيام والأخرى ركعتان عن قيام ، فلا يكون الرجوع لغوا وبلا فائدة.

نعم ، يبقى الكلام في أصل الرجوع ، وإن كان فيما يرتفع الشكّ بالرجوع فنقول :

مبنى هذه المسألة على أنّ المدار في رجوع الشاكّ منهما - أي الإمام والمأموم إلى

ص: 298

الآخر ، كان حسب أخبار الباب - هو حفظ الآخر سهو الشاكّ عليه ، والظاهر أنّ المراد من حفظ سهوه عليه هو اليقين فيما شكّ فيه.

فإذا شكّ شخص بين عددين مثل الثلاث والأربع ، أي يحتمل أن يكون المعدود ثلاثا ، ويحتمل أن يكون أربعا ، فإذا كان الشاكّ تروى ولم يجزم بأحد المحتملين ، أي بقي على احتماليه ، فإذا كان هناك من يعلم بأنّ ما أتى به هو المحتمل الفلاني مثلا هو الثلاث أو هو الأربع جزما ولا ترديد عنده ، فهذا معنى حفظ سهوه عليه ، بحيث لو كان إخباره حجّة للشاكّ يخرج عن ترديده ويجزم جزما تعبديا بأحد المحتملين.

وبعبارة أخرى ، الشكّ عبارة عن عدم الجزم بثبوت النسبة التي بين المحمول والموضوع في القضيّة ، سواء أكانت القضيّة سالبة أو موجبة ، فمعنى الشكّ في عدد الركعة التي بيد المصلي مثلا في أنّها رابعة أي غير جازم بأنّها رابعة ويحتمل أن يكون خامسة ، فيكون الشكّ بين الأربع والخمس ، أو يحتمل أن تكون ثالثة فيكون الشكّ بين الثلاث والأربع ، وإذا احتمل أن تكون خامسة أو ثالثة فيكون الشكّ بين الثلاث والأربع والخمس ، وهكذا صعودا ونزولا.

ومعنى حفظ هذا الشكّ على صاحبه هو الجزم بأحد طرفيه ، أو أحد أطرافه ، ففي المثل الذي ذكرنا أنّ الإمام مثلا إذا شكّ بين الثلاث والأربع فمعنى حفظ شكّه عليه أنّ الحافظ يجزم بأحد محتمليه ، أي يجزم بأنّه مثلا ثلاث أو يجزم بأنّه أربع بحيث أنّه لو كان اعتقاده في هذه القضيّة اعتقاد الحافظ كان يجزم بأحد المحتملين ويذهب شكّه.

والحاصل : أنّ معنى حفظ سهوه عليه هو الجزم بتلك النسبة التي كان هو مرددا فيها ، وأين هذا من أن يشكّ في المثل المذكور ، أي فيما إذا شكّ الإمام بين الثلاث والأربع والمأموم بين الأربع والخمس فيقال بأنّه يعلم بأنها - أي الركعة المشكوكة - ليست ثالثة ، والإمام يعلم بأنّها ليست خامسة ، فكلّ واحد منهما يرجع في أحد محتمليه إلى الآخر كي يثبت بواسطة رجوع كلّ واحد منهما إلى الآخر أنّ الركعة

ص: 299

المشكوكة هي الرابعة.

والإنصاف أنّه لا يصدق على مثل هذين الشاكين أنّ كلّ واحد منهما حافظ لشكّ الآخر كي يكونا مشمولين للروايات ، ويكون رجوع كلّ واحد منهما إلى الآخر واجبا لإثبات القدر المشترك.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن المأمومون مختلفين في شكوكهم.

وأمّا لو اختلفوا فتارة يكون بين شكوكهم وشكّ الإمام رابطة ، وأخرى لا يكون قدر مشترك بين شكوكهم وشكّ الإمام.

فعلى الأول أي بناء على أن يكون بين شكوكهم وشكّ الإمام رابطة أي قدر مشترك كما إذا شكّ الإمام بين الاثنتين والثلاث ، وبعض المأمومين شكّ بين الثلاث والأربع وبعضهم الآخر شكّ بين الثلاث والخمس ، فالثلاث رابطة أي قدر مشترك بين الشكوك الثلاثة.

فبناء على الرجوع والإغماض عمّا استشكلنا على صدق الحفظ على أمثال هذه الموارد فكلّ واحد من المأمومين يرجع إلى الإمام ، أحدهما في نفي الرابعة والآخر في نفي الخامسة ، فقهرا يبقى لهما الثالثة ، وذلك لأنّ الإمام يعلم بعدم الرابعة والخامسة في المفروض ، ومن ذلك الطرف كلّ واحد منهما يعلم بعدم كون الركعة المشكوكة هي الثانية فالإمام يرجع إليهما في نفي الثانية.

والنتيجة أنّ كلهم يبنون على الثلاث ، ويتممون الصلاة مع بقاء القدوة ومن دون الاحتياج إلى صلاة الاحتياط.

وأمّا على الثاني ، أي بناء على عدم الرابطة بين شكوكهم وشكّ الإمام ، وحينئذ إن كان شكهم جميعهم موافقا للإمام فكلهم يعملون عمل الشكّ من البناء والإتيان بصلاة الاحتياط ، أو إتيان سجدتي السهو فيما فيه السجدتان ، ويبقى القدوة أيضا إلى إتمام الصلاة.

ص: 300

وأمّا إتيان صلاة الاحتياط جماعة أيضا فمبني على جواز الاقتداء والجماعة فيها ، ولا يستبعد خصوصا بناء على أنّها ليست صلاة مستقلّة بل جزء للصلاة التي وقع فيها الشكّ.

وإن كان بعضهم موافقا دون بعض فيبقى القدوة مع بعض الموافق ، وأمّا البعض المخالف فينفرد ويعمل عمل الشكّ كالمنفرد ، وإن كانوا كلهم مخالفين في الشكّ مع الإمام والمفروض أنّه لا رابطة أيضا بين شكهم وشكّ الإمام ، فالجماعة تنحلّ من حين الشكّ قهرا ، لعدم التوافق بينهم وكلهم يعملون عمل الشكّ من البناء وصلاة الاحتياط. أو سجدتا السهو ، كلّ في محلّه المقرّر له.

وخلاصة مجموع ما ذكرنا في هذا الأمر الحادي عشر هو أنّه إذا شكّ كلّ واحد من الإمام والمأموم ، فإذا كان بين شكيهما رابطة - أي قدر مشترك - فكل واحد منهما يرجع إلى ذلك القدر المشترك ، كما إذا كان ذلك القدر المشترك هو الأقل في أحد الشكين ، والأكثر في الشك الآخر ، وتبقى القدوة ويتمون الصلاة جماعة.

وأما إذا لم يكن قدر مشترك بين الشكين إلا لبعض المأمومين دون جميعهم فالإمام يرجع إلى ذلك البعض ، وبعد رجوعه إلى ذلك البعض وصيرورته حافظا بواسطة الرجوع إلى ذلك البعض يرجع إليه البعض الآخر ويتمون الصلاة ، لكن مع إشكال قوى في رجوع الإمام إلى ذلك البعض ورجوع البعض الآخر إليه.

وأما إن لم يكن بين شكوك المأمومين وشك الإمام قدر مشترك ورابطة فحينئذ إما أن تكون شكوكهم كلهم موافقة للإمام من دون أن يكون قدر مشترك في البين ، فكل واحد منهم من الإمام والمأموم يعمل عمل الشك مع بقاء القدوة حتى في صلاة الاحتياط على الأصح.

وإما أن تكون مخالفة معه كلهم ، ففي هذه الصورة ينفردون كلهم ويعملون عمل الشك.

ص: 301

وإما أن يكون شك بعضهم مخالفا معه دون بعضهم الآخر ، فبالنسبة إلى الموافقين تبقى الجماعة ، وأما المخالفون فينفردون ، ولكن كلهم الإمام والمأمومون ، جميعهم الموافق في شكه مع الإمام والمخالف له يعملون عمل الشاك.

واعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا من أحكام شك الإمام والمأموم بين أن يكونا من الشكوك المبطلة أو كانا من الصحيحة أو كانا مختلفين. مثلا كان شك الإمام من الشكوك الصحيحة وشك المأموم من الشكوك المبطلة ، أو كان بالعكس ، والوجه واضح.

تذييل

هذا الذي ذكرنا من أول القاعدة إلى هنا كان حكم شك الإمام والمأموم. وأما سهوه ، أو سهو المأموم - بمعنى النسيان لا بمعنى الشك - فيه صور ثلاث :

سهو الإمام وحده دون المأموم ، مثل أن ينسى الإمام القراءة أو الركوع أو السجود مثلا والمأموم أتى بها.

وسهو المأموم وحده من دون الإمام ، كما إذا نسي المأموم أن يأتي بالمذكورات أو ببعضها وقد أتى الإمام بها.

وسهوهما معا ، كما إذا نسيا معا بعض المذكورات مثلا.

أما الصورة الأولى : أي فيما إذا كان السهو مخصوصا بالإمام فعليه أن يعمل بما هو وظيفة الناسي لو كان منفردا ، لأنه لا فرق في شمول حكم الناسي للمصلي بين أن يكون إماما أو منفردا.

وأما قوله علیه السلام : « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » تقدم أن المراد من السهو هو الشك لا النسيان ، فأن مورد الجواب بهذه العبارة هو السؤال عن حكم الشك وأن

ص: 302

الإمام مائل مع إحدى الطائفتين من المأمومين المختلفين في أن الركعة التي بيدهم هي الثالثة أو الرابعة ، أو يكون معتدل الوهم.

مضافا إلى أن تقييد النفي بحفظ من خلفه عليه يلائم مع كون المراد من السهو هو الشك لا النسيان.

فالأدلة التي مفادها لزوم إتيان الناسي بعد تذكره الجزء أو الشرط المنسيان لو لم يتجاوز المحل - أي لم يدخل في الركن الذي بعد ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، وإن كان تجاوز محل التدارك ، فإن كان له القضاء كالتشهد يقضيه ، وإن لم يكن له القضاء وكان له سجدة السهو يسجد سجدتي السهو - تشمله.

والحاصل : أنه بعد ما عرفت أن هذه الجملة التي صدرت عن الإمام علیه السلام أي : « لا سهو للإمام مع حفظ من خلفه عليه » (1) لا ربط لها بالنسيان ، بل المراد منها حكم شك الإمام ، فلا فرق بين أن يكون الناسي إماما أو منفردا ، وتشمل العمومات كلاهما على نسق واحد ، وقد عرفت أن حكم الناسي هو الإتيان بالمنسي إذا كان تذكره قبل تجاوز المحل ، وأما بعده فإن كان له قضاء أو سجدتا السهو فيجب عليه أن يأتي بهما ، وإلا فلا شي ء عليه ، لصحيحة : « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » (2).

ثمَّ إن المأموم الذي لم يسه هو بنفسه ، هل يجب عليه متابعة الإمام الناسي حين ما يريد أن يتدارك المنسي ، أو يأتي بقضاء المنسي ، أو يأتي بسجدتي السهو أم لا؟

فنقول : أما تدارك المنسي أو قضائه فلا موضوع لهما في حق المأموم الغير الناسي ، ولم يقل به أحد. وأما الإتيان بسجدتي السهو فربما يتوهم لزوم متابعة الإمام في مقام

ص: 303


1- تقدم تخريجه في ص 279 ، رقم (1). وفيه : « ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه ».
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 279 ، باب القبلة ، ح 857 ، وص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 991 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 152 ، ح 597 ، باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة ، ح 55 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 260 ، أبواب الوضوء ، باب 3 ، ح 8.

الإتيان بهما ، لقوله علیه السلام : « وعلى المأموم أن يتبع الإمام في الركوع والسجود » (1).

ولكن أنت خبير بأن المراد من هذا الكلام وما هو الظاهر منه هو أنه يجب على المأموم متابعته فيما يجب على نفس المأموم من ركوعه وسجوده ، بمعنى أنه لا يأتي بما يجب عليه مستقلا ومن دون تبعيته للإمام ، وذلك من جهة أن هذا مقتضى طبع الاقتداء والائتمام ، لأن معنى الائتمام والاقتداء به في صلاته هو الإتيان بصلاته حال كونه تابعا في أفعاله التي من هذه الصلاة للإمام لا مستقلا ومن دون تبعية ، وليس معناه أنه يجب عليه أن يأتي بكل ما يأتي به الإمام ، ألا ترى لو أنه اقتدى في صلاته المغرب بصلاة العشاء لا يجب عليه أن يأتي بالرابعة تبعا للإمام ، بل لو أتى بها كانت صلاته باطلة يقينا.

لا يقال : إن أمثال هذا المورد يكون من باب التخصيص بدليل خاص ، وإلا فمقتضى دليل تبعية المأموم للإمام أن يأتي بكل ما يأتي به الإمام.

وذلك لما ذكرنا من أن المتفاهم العرفي من دليل التبعية وعنوان الائتمام والاقتداء هو أن ما يجب عليه من أفعال صلاته - أي أجزائها - يأتي بها تبعا للإمام ، لا مستقلا ومن دون تبعيته للإمام.

وبعبارة أخرى : لا يفهم العرف من دليل التبعية إلا كونه تابعا فيما يجب على نفسه ، لا فيما يجب على الإمام. ولعمري أن هذا في كمال الوضوح ، بل ينبغي أن يعد القول بمتابعة المأموم للإمام في الموارد الثلاثة - أي إعادة المنسي إذا كان تذكر الإمام في المحل ، وقضاء المنسي إذا كان المنسي مما له القضاء ، وسجدتا السهو فيما يجب فيه ذلك مع عدم نسيان للمأموم - من المضحكات أو يذكر بعنوان المزاح.

وإلا فكيف يمكن أن يقال : إنه وجب عليه قضاء ما لم يفت منه ، أو إعادة ما لم ينسه وأتي به بعنوان أنه المنسي ، أو بوجوب سجدتا السهو عليه مع أنه لم يسه ما يوجبهما.

ص: 304


1- لم نجدها في الكتب الأربعة ووسائل الشيعة وبحار الأنوار ومستدرك الوسائل.

نعم لا مانع من وجوب هذه الأمور تعبدا لا بعنوان المنسي والمسهو ، ولكن يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وليس شي ء في البين.

وأما التمسك لوجوبهما على المأموم بسبب سهو الإمام بموثق عمار عن الرجل يدخل مع الإمام وقد سبقه الإمام بركعة أو أكثر ، فسهى الإمام كيف يصنع؟ فقال علیه السلام : « إذا سلم الإمام فسجد سجدتي السهو فلا يسجد الرجل الذي دخل معه ، وإذا قام وبنى على صلاته وأتمها وسلم سجد الرجل سجدتي السهو » إلى آخره (1).

وتقريب الاستدلال به واضح ، فإنه بظاهره يدل على وجوب سجدتي السهو على الرجل بسبب سهو الإمام ، ولكن يمكن حمله على ما إذا كان الرجل أيضا سها تبعا لسهو الإمام ، وإن أبيت عن حمله على اشتراك المأموم مع الإمام في السهو وقلت إن ظاهر نسبة السهو إلى الإمام اختصاصه به ، فلا بد من طرحه ، لإعراض المشهور عنه وعدم أخذهم بمضمونه.

هذا كله فيما إذا كان السهو مختصا بالإمام دون المأموم ، وقد عرفت أنه لا يجب على المأموم متابعة الإمام الساهي في إتيانه المنسي بعد تذكره في المحل ، ولا في قضائه للمنسي إذا كان مما فيه القضاء ، ولا في سجوده للسهو إذا كان مما فيه سجود السهو.

أما الصورة الثانية : أي فيما إذا كان السهو مختصا بالمأموم ، فتارة نتكلم في وجوب سجدتي السهو عليه أم لا وأخرى في وجوب تدارك الأجزاء المنسية إذا تذكرها قبل تجاوز محلها ، وثالثة في قضائها إن تذكرها بعد تجاوز محلها إن كانت مما لها القضاء.

أما الأول : أي وجوب سجدتي السهو عليه فيما يوجبهما عليه لو كان منفردا ، ففيه قولان :

الأول عدم الوجوب. وبه قال جمع من أعاظم الفقهاء ، والشيخ ادعى الإجماع

ص: 305


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 354 ، ح 1466 ، باب أحكام السهو ، ح 54 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 7.

عليه (1).

وتدل عليه عدة من الأخبار :

منها : موثقة عمار عن الصادق علیه السلام عن الرجل سها خلف الإمام بعد ما افتتح الصلاة ، فلم يقل شيئا ولم يكبر ولم يسبح ولم يتشهد حتى سلم؟ فقال علیه السلام : « قد جازت صلاته وليس عليه شي ء إذا سها خلف الإمام ولا سجدتا السهو ، لأن الإمام ضامن لصلاة من خلفه » (2).

ومنها : موثقته الأخرى ، عنه علیه السلام أيضا عن الرجل ينسي وهو خلف الإمام أن يسبح في السجود أو في الركوع ، أو نسي أن يقول شيئا بين السجدتين؟ فقال علیه السلام : « ليس عليه شي ء » (3).

ومنها : خبر محمد بن سهل عن الرضا علیه السلام : « الإمام يحمل أوهام من خلفه إلا تكبيرة الإحرام » (4).

وفي رواية الكليني بدل تكبيرة الإحرام « تكبيرة الافتتاح » (5).

هذا هو مستند القائلين بعدم الوجوب.

وأما القائلون بالوجوب فأيضا مستندهم أخبار كثيرة :

ص: 306


1- « الخلاف » ج 1 ، ص 463 ، مسألة 206.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 206 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1205 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 278 ، ح 817 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 137 ، « الاستبصار » ج 1 ، ص 439 ، ح 1693 ، باب الإمام إذا سلم ينبغي له أن لا يبرح من مكانه ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 5.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 405 ، باب صلاة الجماعة ، ص 1203 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 278 ، ح 816 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 136 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 4.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 347 ، باب السهو في افتتاح الصلاة ، ح 3 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 406 ، باب الصلاة الجماعة ، ح 1206 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 144 ، ح 563 ، باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة ، ح 21 ، « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 716 ، أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 6.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 247 ، باب السهو في افتتاح الصلاة ، ح 3.

منها : صحيحة زرارة عن الصادق علیه السلام في السؤال عن الإمام يضمن صلاة القوم؟ قال علیه السلام : « لا » (1).

ومنها : صحيحته الأخرى عن أحدهما علیهماالسلام وفيها : « ليس على الإمام ضمان » (2).

ومنها : صحيح أبى بصير عن الصادق علیه السلام في السؤال عن ضمان الإمام الصلاة؟ قال علیه السلام : « لا ليس بضامن » (3).

ومنها : ما رواه في التهذيب والفقيه عن الصادق علیه السلام في السؤال عن القراءة خلف الإمام؟ قال علیه السلام : « لا ، إن الإمام ضامن للقراءة ، وليس يضمن الإمام صلاة من خلفه ، إنما يضمن القراءة » (4).

ومنها : صحيح معاوية بن وهب عن الصادق علیه السلام قال : قلت له علیه السلام : يضمن الإمام صلاة الفريضة فإن هؤلاء يزعمون أنه يضمن فقال علیه السلام : « لا يضمن ، أي شي ء يضمن إلا أن يصلي بهم جنبا أو على غير طهر » (5).

ومنها : صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق علیه السلام عن الرجل يتكلم ناسيا

ص: 307


1- « الكافي » ج 3 ، ص 377 ، باب الصلاة خلف من يقتدى به ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 269 ، ح 769 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، ح 89 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 421 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 30 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 378 ، باب الرجل يصلى بالقوم ، ح 3 ، « الفقيه » ج 1 ، ص 406 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1208 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 269 ، ح 772 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 92. « الاستبصار » ج 1 ، ص 440 ، ح 1695 ، باب الإمام إذا سلم ينبغي له ... ، ح 4. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 433 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 36 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 406 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1207 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 279 ، ح 819 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 139. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 421 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 30 ، ح 2.
4- « الفقيه » ج 1 ، ص 378 ، باب صلاة الجماعة ، ح 1103 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 279 ، ح 820 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 140.
5- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 277 ، ح 813 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ... ، ح 133. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 434 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 36 ، ح 6.

في الصلاة يقول : أقيموا صفوفكم؟ قال علیه السلام : « يتمّ صلاته ثمَّ يسجد سجدتين » (1).

ومنها : خبر منهال القصّاب عن الصادق علیه السلام قال : قلت له علیه السلام : أسهو في الصلاة وأنا خلف الإمام. فقال علیه السلام : « إذا سلّم فاسجد سجدتين ولا تهب » (2).

والظاهر أنّ قوله علیه السلام « ولا تهب » أي لا تخف لأنّ إتيانهما مخالف لما هو المشهور عند المخالفين.

هذا بناء على أن يكون من هابه أي خافه واتّقاه ، ويحتمل أن يكون من « هب » ، فيكون معناه : لا تسرع بالحركة والقيام عن مكانك.

ثمَّ إنّه لا ينبغي أن يشكّ في أنّ الأقوى هو وجوب الإتيان بسجدتي السهو على المأموم إذا سهما فيما إذا كان سهوه ممّا كان موجبا لإتيانهما لو كان منفردا ، أمّا أوّلا لقوّة مستند هذا القول من الروايات الصحيحة ، لأنّ خمسة من الروايات التي ذكرنا في مستند هذا القول من الصحاح ، وهي : صحيحتا زرارة ، وصحيح أبي بصير ، وصحيح معاوية بن وهب ، وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج.

وثانيا : من جهة موافقتها للمشهور. وثالثا : من جهة مخالفتها للعامّة.

وقد عرفت ممّا ظهر من هذه الروايات حال تدارك أجزاء المنسيّة إذا تذكر قبل تجاوز المحل ، وهكذا حال قضائها بعد السلام إذا كان المنسي مما له القضاء ، وذلك من جهة أن عمدة مدرك القائلين بعدم التدارك - إذا كان التذكر قبل التجاوز عن المحل ، أو عدم وجوب القضاء فيما له القضاء إذا كان التذكر بعد التجاوز عن المحل - هو أن الإمام ضامن لما لم يأت بها المأموم ، فلا يبقى موضوع للتدارك ولا القضاء ، بل ولا

ص: 308


1- « الكافي » ج 3 ، ص 356 ، باب من تكلم في صلاته أو انصراف ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 755 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 56. « الاستبصار » ج 1 ، ص 378 ، ح 1433 ، باب من تكلم في الصلاة ساهيا أو عامدا ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 313 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 4 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ح 2 ، ص 353 ، ح 1464 ، باب أحكام السهو ، ح 52 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 339 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 6.

لسجدتي السهو.

ولكن كان مفاد هذه الروايات الصحيحة عدم ضمان الإمام ، فانظر إلى صحيحتي زرارة وصحيح أبي بصير فإنها تصرح بعدم ضمان الإمام ، فلا بد وأن تحمل الطائفة الأولى من الروايات - التي كان مفادها ضمان الإمام أو أن الإمام يحمل أوهام المأموم ، أو أن المأموم ليس عليه شي ء - على التقية.

كما هو صريح صحيح معاوية بن وهب : أنه سأل عن الصادق علیه السلام وقال : إن هؤلاء يزعمون أنه يضمن - أي الإمام ، ومعلوم أن المراد من « إن هؤلاء يزعمون » هم المخالفون - فقال علیه السلام : « لا يضمن » الى آخره.

فإذا قدمنا هذه الروايات للجهات التي تقدمت لا يبقى وجه للقول بعدم وجوب هذه الأمور الثلاثة ، أي : التدارك إذا كان تذكره قبل تجاوز المحل ، والقضاء فيما له القضاء إذا كان التذكر بعد التجاوز عن المحل ، وسجدتا السهو في نسيان ما يوجب نسيانه سجدتي السهو.

وأما الإجماع الذي ادعاه الشيخ قدس سره على عدم وجوب هذه الأمور الثلاثة على المأموم فموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

أما الصورة الثالثة : أي فيما إذا كان السهو مشتركا بينهما ، بمعنى أنهما معا سهوا عن جزء من أجزاء الصلاة.

والكلام فيما في مقامين : أحدهما : في وظيفة كل واحد منهما بالنسبة إلى سهوه.

والثاني : بقاء القدوة وعدمه.

وأما الأول : أي وظيفة كل واحد منهما بالنسبة إلى سهوه ، فيجب على كل واحد منهما أن يعمل بوظيفة الساهي لو كان منفردا ، من التدارك في المحل ، والقضاء فيما إذا كان تذكره بعد تجاوز المحل فيما له القضاء ، وسجود السهو فيما له سجدتا السهو.

ص: 309

ولا وجه لتوهم عدم وجوب الأمور الثلاثة على المأموم في هذه الصورة ، لأنه على فرض كون الإمام ضامنا لما يفوت من المأموم من الأجزاء - وكان لا يجب عليه التدارك إذا كان تذكره قبل تجاوز المحل ، ولا القضاء إذا كان بعد تجاوز المحل ، ولا سجدتا السهو إذا كان المنسي مما له سجدتا السهو - يكون مورد ضمانه فيما إذا أتى الإمام بذلك المسني ، وأما إذا لم يأت به كما هو المفروض في المقام فالقول بكونه ضامنا مع أنه يجب عليه نفسه هذه الأمور الثلاثة كل في محله ، لا يخلو من غرابة.

وأما الثاني : أي بقاء الجماعة والقدوة ، فإن كان بالنسبة إلى الأجزاء المنسية قبل تجاوز محل تداركها فيرجعان ويأتيان بها جماعة. ولا وجه لتوهم بطلان الجماعة وعدم بقائها ، لعدم وجود شي ء يكون مضرا بهذه الجماعة في هذه الصلاة ، مثلا إذا نسيا آية من آيات فاتحة الكتاب فيرجعان ويقرءان تلك الآية وما بعدها لحصول الترتيب.

وأما إن كان بعد تجاوز المحل ففيما له القضاء إذا أرادا قضاءه بعد الصلاة ، أو فيما إذا أرادا سجدتي السهو إذا كان المنسي مما له سجدتا السهو فهل يجوز فيهما - أي في القضاء وفي سجدتي السهو - أن يأتيا بهما جماعة أم لا؟ كما أن هذا الكلام جار في صلاة الاحتياط أيضا في مورد اشتراك شكهما ، أي : هل يجوز أن يأتيا بها جماعة أم لا؟

فنقول : في جواز الإتيان بهذه الثلاثة جماعة وعدمه ، وفي التفصيل بين صلاة الاحتياط وبين الأجزاء المنسية وسجدتي السهو ، فالجواز في الأول والعدم في الآخرين أو بالعكس ، أو التفصيل بين الأجزاء المنسية ، فيقال فيها بالجواز والعدم بالنسبة إلى سجدتي السهو وصلاة الاحتياط ، أو التفصيل بين صلاة الاحتياط فيقال فيها بالجواز والآخرين فيقال فيها بالعدم وجوه وأقوال.

فلنذكر كل واحد من هذه الثلاثة منفردا ، فنقول :

ص: 310

أما قضاء الأجزاء المنسية من هذه الصلاة التي صلاها جماعة ، واشتراك هو في السهو في هذه الصلاة مع هذا الإمام فالأقوى هو جواز إتيانها جماعة مع هذا الإمام ، لأنه في الحقيقة من تتمة هذه الصلاة وهذه الجماعة ، لا أنه واجب آخر وجماعة أخرى.

غاية الأمر بواسطة السهو تبدل مكان الجزء المنسي ويجب الإتيان به خارج الصلاة ، وبهذه الجهة سمي إتيانه بعد السلام بالقضاء ، فكما أن في فوت الوقت وإتيان الواجب في خارج وقته يسمى بالقضاء ففي فوت محله الذي عين له الشارع وإتيانه في خارج محله ومكانه أيضا سمي بالقضاء.

نعم لو كان قضاء هذا الجزء من صلاة أخرى صلاها منفردا أو جماعة مع إمام آخر ، أو مع هذا الإمام في جماعة أخرى لا يبعد عدم جواز إتيانه جماعة في هذه الجماعة.

وأما سجدتا السهو فالظاهر عدم جواز إتيانهما جماعة مطلقا ، سواء كان في هذه الجماعة مع هذا الإمام أو في جماعة أخرى مع هذا الإمام ، أو مع إمام آخر ، وسواء كان سببهما سهو في هذه الصلاة أو في صلاة أخرى.

وذلك من جهة أن سجدتي السهو ليستا من أجزاء هذه الصلاة كي تعد الجماعة فيهما من تبعات الجماعة في هذه الصلاة.

والقول بأنهما من لواحق هذه الصلاة أشبه بالخطابة ، وليس لأدلة الجماعة إطلاق يدل على تشريعها في كل ما هو من لواحق الصلاة وتبعاتها ، بل الأدلة قامت على استحباب الجماعة في الصلوات الواجبة.

وأما صلاة الاحتياط فالإتيان بها جماعة ابتدأ - بمعنى أن عليه ركعتين مثلا لأنه شك بين الاثنتين والأربع بعد إكمال السجدتين ، ففي مقام أداء صلاة الاحتياط يقتدي بإمام يصلي فريضة - لا يخلو عن إشكال ، لعدم إطلاق في أدلة الجماعة يتمسك به لجوازه.

ص: 311

وأما ما يقال : من أن قوله علیه السلام في صحيحة زرارة والفضيل : « الصلوات فريضة وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها ولكنها سنة » (1) وأمثاله يدل على استحباب في جميع الصلوات كلها إلا ما خرج بالدليل وهي النافلة.

ففيه أولا : أن هذه الصحيحة المراد من الصلوات فيها خصوص الفرائض اليومية ، وإن كانت في حد نفسها من ألفاظ العموم ، لأنه جمع معرف بالألف واللام لقوله علیه السلام في صدر الحديث « الصلوات فريضة ».

ومعلوم أن المراد بها فرائض اليومية ، لأن جميع الصلوات ليست بفريضة قطعا ، فالمراد بها في قوله علیه السلام : « وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها » أيضا هي اليومية.

ومعلوم أن الاستدراك بكلمة « ولكنه سنة » بعد نفي الوجوب عن الاجتماع في اليومية إثبات كونه سنة فيما نفى عنه الوجوب ، وقد عرفت أنها اليومية.

وثانيا : أن الإطلاقات ، سواء أكانت في هذه الرواية أو في غيرها - كما في صحيحة ابن سنان : « الصلاة في جماعة تفضل على كل صلاة الفرد بأربعة وعشرين درجة » (2). مسوقة لبيان تشريع الجماعة وفضلها وكثرة ثوابها ، وليس في مقام بيان أنها في أي نوع من الصلاة مشروعة.

وثالثا : لا شك في ورود روايات معتبرة مستفيضة على عدم مشروعية الجماعة في النافلة ، وصلاة الاحتياط - على تقدير عدم النقص في الصلاة الأصلية - نافلة ، ووجوب الإتيان بها ليس لأنها واجبة على كل حال ، بل لتحصيل اليقين بامتثال ذلك الواجب الأصلي ، ولذلك عبر عنها في الأخبار بالبناء على اليقين.

ص: 312


1- « الكافي » ج 3 ، ص 372 ، باب فضل الصلاة في الجماعة ، ح 6 ، « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 24 ، ح 83 ، باب فضل الجماعة ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 371 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 1 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 25 ، ح 85 ، باب فضل الجماعة ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 370 ، أبواب صلاة الجماعة ، باب 1 ، ح 1.

والحاصل : أنه لا شك في أنه مقتضى الأصل عدم جواز ترتيب آثار الجماعة على صلاة إلا بعد إحراز تشريع الجماعة فيها ، وإحراز تشريع الجماعة في صلاة الاحتياط مشكل ، فمقتضى الأصل عدم جواز ترتيب آثار الجماعة.

ثمَّ إنه لا يخفى أنه بناء على ما رجحنا من عدم مشروعية الجماعة في صلاة الاحتياط لا فرق بين ائتمام الاحتياط بالفريضة أو بالاحتياط.

وأما اقتداء الفريضة اليومية كاقتداء صلاة الصبح بصلاة الاحتياط فيما إذا كانت صلاة الاحتياط أيضا مثل صلاة الصبح ركعتين فهل يجوز أم لا؟

يمكن أن يقال بالجواز ، وذلك لتشريع الجماعة في فريضة اليومية يقينا.

ولكن وفيه : أن ظاهر أدلة تشريع الجماعة في الفريضة بعد انصرافها إلى اليومية لما ذكرنا في بيان المراد من الصلوات في صحيحة زرارة وفضيل ، أن يكون كلاهما من اليومية أي صلاة الإمام وصلاة المأموم ومع الشك تجري أصالة عدم التشريع.

ولا فرق فيما ذكرنا من عدم جواز الجماعة في صلاة الاحتياط بين أن نقول بأنها صلاة مستقلة يتدارك بها نقصان ملاك صلاة الأصلية على تقدير النقصان أو أصل الملاك بضميمة صلاة الاحتياط إلى الأصلية ، أو نقول بأنها جزء للصلاة الأصلية على تقدير النقصان ، وذلك من جهة عدم إحراز النقصان وكونها جزء منها واحتمال كونها زائدة ونافلة.

هذا كله في الاقتداء ابتداء ، أما لو كان مقتديا وكان شكه مطابقا لشك الإمام فبنى الاثنان على الأكثر وأراد الإمام أن يأتي بصلاة الاحتياط ، فلا يبعد الجواز في هذه الصورة ، على إشكال أيضا.

ص: 313

الجهة الثالثة : في موارد تطبيقها

وقد عرفت جميعها مما تقدم ، فلا نعيد.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

ص: 314

24 - قاعدة لا شك في النافلة

اشارة

ص: 315

ص: 316

قاعدة لا شك في النافلة

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة هو أنه « لا شك في النافلة ». وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها

وهو أمران :

الأول : الروايات :

فمنها : قوله علیه السلام في حسنة البختري : « لا سهو في نافلة » (1) بعد الفراغ عن أن المراد من السهو بقرينة سائر الفقرات هو الشك.

ومعلوم أن المراد من نفي الشك في النافلة هو نفيه تشريعا لا تكوينا ، والنفي التشريعي للأمور التكوينية لا بد وأن يكون بلحاظ الآثار التشريعية لذلك الشي ء ، وإلا فالشي ء التكويني لا يمكن رفعه حقيقة في عالم الاعتبار ، كما أنه لا يمكن أن يوجد في عالم الاعتبار والتشريع وإلا ينقلب الاعتبار تكوينا ، وهو خلف محال.

والأثر المجعول للشك في عدد الركعات في عالم التشريع هو البطلان في الثنائية

ص: 317


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شك في صلاته كلها ولم يدر ... ، ح 5. « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 54 ، ح 187 ، باب أحكام الجماعة ... ، ح 99. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24 ، ح 8.

والثلاثية ، والبناء على الأكثر في الرباعية ، فإذا كانت صلاة النافلة أربع ركعات - كما في صلاة الأعرابي وبعض الموارد الأخر المنصوصة - فمعنى نفي الشك فيها هو عدم وجوب البناء على الأكثر ، بل إما البناء على الأقل بحكم الاستصحاب بعد سقوط حكم الشك - أي البناء على الأكثر - بواسطة هذه الروايات وغيرها من الأدلة ، وإما التخيير بين الأقل والأكثر بعد البناء على عدم حجية الاستصحاب في عدد ركعات الصلاة إجماعا.

وإذا كانت أقل من أربع ركعات فحكم الشك هو البطلان ، للروايات المستفيضة الواردة في هذا الباب ، فإذا ارتفع البطلان فالحكم إما البناء على الأقل لو قلنا بحجية الاستصحاب في عدد الركعات ، أو التخيير بناء على عدم حجيته.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال : سألته عن السهو في النافلة؟ فقال علیه السلام : « ليس عليك شي ء - وفي بعض النسخ - سهو » (1) وعلى كلتا النسختين ، النتيجة واحدة وهي صحة الصلاة وعدم وجوب البناء على الأكثر.

ومنها : ما رواه في الكافي مرسلة وقال : وروى : « إذا سها في النافلة بنى على الأقل » (2).

وظاهر هذه المرسلة هو تعين البناء على الأقل ، وبناء على ما قلنا - من عدم دلالة الصحيحة على وجوب البناء على الأكثر بل لها دلالة على عدم البناء على الأكثر ، كما أنه يجب ذلك أي البناء على الأكثر ، في الرباعيات من الفريضة فإنه حكم الشك فيها ومرفوع في النافلة - فلا تعارض بينها وبين المرسلة التي رواها الكليني ، فتكون النتيجة هو البناء على الأقل.

ص: 318


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شك في صلاته كلها ... ، ح 1. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 343 ، ح 1422 ، باب أحكام السهو ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 395 ، باب من شك في صلاته كلها ... ، ح 6.

ولكن لما تحقق الإجماع على التخير ، بل قال في الأمالي : إنه من دين الإمامية ، فلا يمكن الالتزام بالبناء على الأقل.

وبعبارة أخرى : مقتضى الصحيحة هو المضي في الصلاة التي كانت نافلة وعدم الاعتناء بالشك ، فيلاحظ المصلي ما هو صرفته فيبني عليه ، سواء كان هو الأقل أو الأكثر ، فربما يكون صرفته في البناء على الأكثر ، فله أن يبني عليه ، كما أنه إذا كان صرفته في البناء على الأقل له أن يبني عليه.

وهذا المعنى خلاف التخيير ، بل معناه لزوم البناء على الأقل في صورة ، ولزوم البناء على الأكثر في صورة أخرى ، وظاهر المرسلة هو تعين البناء على الأقل مطلقا.

ولكن بواسطة هذا الإجماع المحقق لا بد وأن يرفع اليد عن ظهور كل واحد في تعين خصوص الأقل أو الأكثر ، أي يجمع بين الصحيحة والمرسلة هكذا.

وربما يقال : بأن ظاهر الصحيحة هو التخيير ، لأن ظاهر قوله علیه السلام « ليس عليك شي ء » هو أنك لست ملزما بشي ء ، فلو كان الواجب هو البناء على الأقل أو كان هو البناء على الأكثر فيلزم أن يكون عليه شي ء ، وهو وجوب البناء على خصوص الأقل أو خصوص الأكثر ، فمقتضى نفي الشي ء عليه هو التخيير.

هذا ، ولكن الظاهر من نفي الشي ء هو صلاة الاحتياط ، أو سجود السهو ، إن كان المراد من السهو خصوص النسيان ، أو الأعم منه ومن الشك.

والتحقيق : هو أنه لو لم يكن هذا الإجماع لكان مقتضى قوله علیه السلام : « لا سهو في النافلة » بناء على أن يكون المراد من السهو هو الشك - نفي حكم الشك الذي هو البطلان في الثنائية والثلاثية ، والبناء على الأكثر في الرباعية ، وبعد نفي هذين الاثنين ، فإما التخيير لو قلنا بعدم حجية الاستصحاب في الركعات كما أنه قيل ، أو البناء على الأقل بناء على حجيته.

وأما خصوص البناء على الأكثر فلا يستفاد من هذه الرواية أصلا ، وأما الصحيحة

ص: 319

فقد عرفت أن ظاهرها هو البناء على الصرفة. وأما المرسلة فقد عرفت أن ظاهرها تعين البناء على الأقل ، وأما تعين البناء على الأكثر فليس له أثر في الأخبار إلا إذا كان فيه الصرفة.

والإنصاف : أنه لو لم يكن هذا الإجماع على التخيير كان المتعين هو الأخذ بالصرفة الذي هو مفاد الصحيحة ، لأن المرسلة وإن كان لا ينكر ظهورها في تعين البناء على الأقل ، إلا أن مخالفتها للشهرة بل الإجماع المحقق توجبها ضعفا على ضعف ، فلا يمكن الالتزام بمؤداها.

وأما قوله علیه السلام في حسنة البختري « لا سهو في النافلة » فلا تعارض له مع مفاد الصحيحة ، أي الأخذ بالصرفة ، لأنه في مقام نفي حكم الشك لا البناء على خصوص الأقل أو الأكثر. ولكن هذا الإجماع المحقق على التخيير يمنع عن تعين الأخذ بالأقل أو الأكثر وإن كان فيه الصرفة.

وربما يقال : إن المراد من « لا سهو في النافلة » أو قوله علیه السلام « ليس عليه شي ء » أي ليس عليه الإعادة - من جهة الحكم بالبطلان ، كما هو كذلك في جملة من موارد الشك في الفريضة التي حكم فيها ، ببطلان ما وقع الشك فيها كفريضة الصبح والمغرب ، أو الذي لا يدري أنه كم صلى - أو أنه ليس عليه جبر مع البناء على الأكثر ، أي يبني على الأكثر وليس عليه صلاة الاحتياط ، مثلا لو شك بين الواحد والاثنين فيبني على الاثنين بدون تدارك ما احتمل فوته ، أي الركعة الثانية بالركعة المنفصلة احتياطا ، كما أنه كان يجب الاحتياط في الفريضة.

واحتمل أن الكليني قدس سره فهم - من صحيحة محمد بن مسلم - عن أحدهما قال : سألته عن السهو في النافلة؟ قال علیه السلام : « ليس عليه شي ء أو في نسخة أخرى : ليس عليه سهو » هذا المعنى ، أي ليس عليه الجبر بصلاة الاحتياط ويجب البناء على الأكثر فقط ، بخلاف الفريضة ، لأن فيها الجبر ويجب فيها البناء على الأكثر أيضا.

ص: 320

فمفاد الصحيحة بناء على هذا هو ، أنّ النافلة والفريضة مشتركان في البناء على الأكثر ، والفرق بينهما هو أنّه ليس في النافلة جبر ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، بخلاف الفريضة فإنّ فيها الجبر. وحيث فهم من الصحيحة هذا المعنى ، أي البناء على الأكثر مع عدم الجبر ذكر بعد ذلك تلك المرسلة التي تدلّ على البناء على الأقلّ كي يجمع بينهما وبين الصحيحة بإرادة التخيير.

ولكن أنت خبير بما في هذا الاحتمال من الضعف والخلل ، وقد عرفت أن الظاهر من الصحيحة هو البناء على الصرفة ، لأن الظاهر من كلمة « لا شي ء عليه » أي يمضي في صلاته بدون أن يكون عليه شي ء من الإعادة أو الجبر بصلاة الاحتياط ، ولازم هذا المعنى هو الأخذ بالصرفة التي قلنا بها في معنى الحديث.

الثاني : الإجماع ، وقد ادعاه جمع من الأعاظم كما في المعتبر (1) ، والرياض (2) ، والمصابيح ، والتهذيب (3) ، وعن مفتاح الكرامة نقلا عن الأمالي أنه من دين الإمامية (4) ، وعن الغنية والخلاف كما في الجواهر نقلا عنه حيث قال : لا سهو في النافلة ، وبه قال ابن سيرين. وقال باقي الفقهاء : حكم النافلة حكم الفريضة فيما يوجب السهو. دليلنا : إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل البراءة ، فمن أوجب حكما فعليه الدليل ، وأخبارنا في ذلك أكثر من أن تحصى (5).

وقد عرفت مرارا ما في الاستدلال بالإجماع في هذه الموارد فلا نعيد. نعم هذه الإجماعات المدعاة في أمثال المقام توجب الوثوق بصدور الرواية التي مفادها مفاد هذه الإجماعات.

ص: 321


1- « المعتبر » ج 2 ، ص 395.
2- « الرياض » ج 1 ، ص 222.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 178 ، ذيل ح 713.
4- « مفتاح الكرامة » ج 3 ، ص 345.
5- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 424.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة وبيان المراد منها

فنقول : إن توضيح هذا المطلب يتوقف على بيان أمور :

الأول : أن التخيير المدعى في المقام بين الأقل والأكثر من جهة الإجماع والقدر المتيقن منه هو ، أن لا يكون البناء على الأكثر موجبا لفساد الصلاة ، وذلك لأنه بمناسبة الحكم والموضوع يفهم أن هذا الحكم - أي التخيير - توسعة في مقام امتثال النوافل ، ومن باب المسامحة فيها وأن الاهتمام في حفظ النوافل وحدودها ليس مثل الاهتمام بالفرائض وحدودها ، وكذلك الاهتمام بفرض اللّه أزيد من الاهتمام بفرض النبي ، ويتسامح فيه بما لا يتسامح في فرض اللّه.

وبعبارة أخرى : التخيير للتسهيل ، فهو ينافي ما إذا كان موجبا لبطلان العمل ولزوم الإعادة ، فظهر أن التخيير فيما إذا كان الشك بين الواحد والاثنين فيما إذا كانت النافلة ثنائية كما هو كذلك في أكثر النوافل ، أو كان بين الاثنين والثلاث كما في نافلة الوتر بناء على أن الشفع والوتر صلاة واحدة ، أو بين الثلاث والأربع كصلاة الأعرابي بناء على أنها أربع ركعات متصلة.

والحاصل : أن لا يكون طرف الأكثر من شكه أزيد من الصلاة المشكوك فيها ، ففي مثل هذه الموارد مخير بين البناء على الأقل والأكثر ، لأن البناء على كل واحد منهما لا ينافي مع صحة الصلاة ، فالقول بالتخيير مطلقا لا وجه له.

وأما إذا كان الشك بين الاثنين والثلاث فما زاد في الثنائية ، أو الثلاث والأربع فما زاد في الثلاثية ، أو الأربع والخمس فما زاد في الرباعية ، كل ذلك بعد إكمال السجدتين وفي حال الجلوس ، فليس له البناء على الأكثر ، بل يتعين عليه البناء على الأقل كي تكون صلاته صحيحة.

وهذا معنى قوله علیه السلام : « لا شي ء عليه » لأنه بناء على هذا لا اعادة عليه ، ولا عليه

ص: 322

صلاة الاحتياط بل إن كان طرف الأقل آخر ركعة ، صلاته صحيحة فيتشهد ويسلم وينصرف ، وإن كان غيرها فيقوم ويأتي بالباقي ركعة أو ركعات متصلة - لا مثل صلاة الاحتياط منفصلة - ويتشهد ويسلم ، ولا يضر هاهنا زيادة ركعة أو ركعات واقعا ، كما كان مضرا في الفريضة ، وذلك لما ذكرنا من عدم اهتمام الشارع بحفظ حدود النوافل ، مثل اهتمامه بحفظ حدود الفرائض ، كل ذلك من جهة اختلاف المصالح الواقعية فيها.

الثاني : في أنه ما هو مقتضى الأصل لو شك في ثبوت هذا الحكم في مورد ، مثلا لو شك في النافلة المنذورة ، كما إذا نذر أن يصلي صلاة الليل أو صلاة جعفر وأنه هل يشملها هذا الحكم أم لا؟ ومعلوم أنه لو كان إطلاق لدليل إلغاء الشك في النافلة بحيث يشمل مورد الشك فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي مطلقا ، تنزيليا كان أم غير تنزيلي لحكومة الإطلاقات اللفظية على الأصول العملية ، فإن شك في شمول الإطلاقات لمورد ربما يتوهم الرجوع إلى استصحاب عدم تحقق الأكثر من طرفي الشك فتكون النتيجة البناء على الأقل ووجوب الإتيان بالباقي ، فمقتضى الأصل صحة الصلاة ووجوب إتيان ما يحتمل عدم الإتيان به من ركعات الصلاة المنذورة. وهذا هو عين البناء على الأقل عملا.

وفيه : أنه لا شك في أن الصلاة إما نافلة ، بمعنى أنها مصداق حقيقي لمفهوم النافلة ، وإما ليست بنافلة. والثاني إما رباعية أو غير رباعية ، فهذه ثلاثة أقسام.

أما غير الرباعية سواء كانت ثنائية أو ثلائية ، وكذلك الرباعية إذا كان الشك في تحقق الأوليين ، بمعنى أنه شك مثلا بين الواحد والاثنين ، ففي هذه الصور الثلاث ، الأدلة تدل على بطلان الصلاة ، فلا مورد ولا مجال للاستصحاب.

وأما إذا كان الشك في الرباعية في الأخيرتين بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فالأدلة تدل على وجوب البناء على الأكثر ، فأيضا لا يبقى مورد

ص: 323

للاستصحاب ، لحكومة تلك الأدلة على الاستصحاب.

وأما إذا كان الشك في النافلة فألغي الشك بحكم الشارع ، فلا يبقى مورد للاستصحاب في عدد الركعات مطلقا.

وبعد ما ظهر لك أنه لا مجال للاستصحاب في عدد الركعات فنقول :

إن أدلة الشكوك في الصلاة تدل على بطلان الصلاة في بعض الموارد ، وعلى البناء على الأكثر في بعض الموارد الآخر ، ودليل « لا شك في النافلة » خصص هذين الحكمين - أي البطلان في البعض ، والبناء على الأكثر في بعض آخر - بلسان الحكومة بغير النافلة ، أي أخرج النافلة عن تحت هذين الحكمين لكن لا بلسان التخصيص بل بلسان الحكومة.

وحيث أن لفظ النافلة مجمل مفهوما في هذا المقام كما هو المفروض ، ولا يعلم أن المراد منه أن تكون نافلة بالذات وبالفعل - بمعنى أنها تكون نافلة بحسب الجعل الأولي ولم يطرأ عليها ما يوجب صيرورتها واجبة بالعرض ، كأمر السيد أو الوالدين ، أو بنذر ، أو حلف ، أو ما شابه ذلك - أو يكفي كونها نافلة بالعرض ولو لم تكن نافلة بالذات ، أو يكفي كونها نافلة بالذات ولو لم تكن نافلة بالفعل وصارت واجبا بالعرض؟

وخلاصة الكلام : أنه إذا حصل الشك ولم يكن استظهار في البين فالمرجع هو العام ، لإجمال المخصص مفهوما ، كما هو محرر في الأصول. والعام هاهنا أدلة الشكوك التي مفادها إما بطلان الصلاة إذا كانت ثنائية أو ثلاثية أو كانت في الركعتين الأوليين من الرباعية ، وإما البناء على الأكثر إن كانت الصلاة التي الشك فيها رباعية ، وكان الشك بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، لحكومة الإطلاقات عليها.

الثالث : ما هو الذي يستظهر من الأدلة ، وهل نفي الشك عن النافلة ، يشمل

ص: 324

الأقسام الثلاثة للنافلة ، أو ظاهر في بعضها دون بعض؟

فنقول : أما الأقسام الثلاثة : فالأول : هو أن تكون نفلا بالذات وبالفعل ، كصلاة الليل التي لم يطرأ عليها عنوان الوجوب بسبب من الأسباب ، وهذا هو القدر المتيقن من مورد النفي.

والثاني : أن تكون نفلا بالذات ولكن صارت واجبة بالعرض.

والثالث : أن تكون واجبة بالذات ولكن صارت نفلا بالعرض.

وفي هذين القسمين - الأخيرين ، أي ما كان نفلا بالذات ولكن صار واجبا بالعرض ، أو كان واجبا بالذات ولكن صار نفلا بالعرض - وقع الخلاف ، وأن المدار في هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشك وإلغاؤه - هل هو فعلية النفل وإن كان عرضيا ، المدار فيه على كونها نفلا بالذات وإن لم يكن نفلا فعلا ، أو المدار على اجتماع الأمرين أي يكون نفلا بالذات وبالفعل؟

اختار صاحب الجواهر قدس سره كونها نفلا بالذات وإن صارت واجبة بالعرض (1). فبناء على قوله لو نذر أن يصلي صلاة جعفر حيث أنها بالذات نافلة ، لو شك مثلا بين الواحد والاثنين فيشمله قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » ، ويكون الشك ملغا ولا تكون باطلة.

وقال آخرون : المدار على النافلة الفعلية سواء كانت بحسب الجعل الأولى أيضا نافلة ، أو لم تكن بل كانت فريضة بالذات ولكن طرأ عليها أمر صارت نافلة ، كصلاة العيدين في عصر عدم حضور الإمام علیه السلام أو عدم بسط يده ، وكصلاة المعادة جماعة استحبابا ، أو كصلاة المعادة احتياطا استحبابيا ، ففي مثل هذه المذكورات لو حصل الشك ففي مورد البطلان - لو لا طرو هذا الاستصحاب - لا تكون باطلة ، وفي مورد البناء على الأكثر يكون مخيرا ، لأنه فعلا نافلة وظاهر الدليل هو نفي الشك عما هو

ص: 325


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 427.

نافلة فعلا.

واستدل صاحب الجواهر قدس سره على ما اختاره (1) من أن المدار على كونه نفلا بالذات بوجهين :

الأول : أن عنوان النافلة الذي جعل موضوعا لهذا الحكم إشارة إلى الذوات التي تكون بحسب الجعل الأولى نافلة ، وليس لوصف النفل مدخلية في الحكم ، والقول بانتفاء هذا الحكم عند انتفاء هذا الوصف استدلال بمفهوم الوصف ، وقد ثبت في محله عدم مفهوم للوصف ، خصوصا في الوصف الغالبي ، والوصف الذي ليس متعمدا على الموصوف كما في المقام ، لأن قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » ليس من قبيل الوصف المعتمد على الموصوف وأيضا الوصف غالبي ، لأن تلك الذوات غالبا متصفة بالنفل ، وقد يعرض عليها الوجوب بواسطة طرو عنوان آخر كالنذر ، أو أمر الوالدين ، أو الإجارة أو غير ذلك من موجبات الوجوب.

وفيه : إننا لا نريد أن نستدل على نفي هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشك عن النافلة التي طرأ عليها الوجوب - بمفهوم الوصف ، حتى تقول بأنه لا مفهوم للوصف ، خصوصا في الوصف الغالبي ، والوصف غير المعتمد على الموصوف ، بل نقول بأن ظاهر كل عنوان أخذ موضوعا لحكم هو أن يكون ذلك العنوان فعليا ، لا أنه كان كذلك أو يكون فيما بعد.

هذا ، مضافا إلى أنه ثبت في محله أن المشتق مجاز فيما انقضى عنه المبدأ ، فيصح سلب مفهوم النافلة عن النافلة التي طرأ عليها الوجوب ، فيكون من قبيل انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ، لا من قبيل الاستدلال بالمفهوم.

الثاني : الاستصحاب ، وبيانه أن صلاة جعفر مثلا قبل نذرها كان الشك فيها ملغا لا يعتنى به ، وبعد أن نذرها يشك في بقاء هذا الحكم فيستصحب. وكذلك في العكس ،

ص: 326


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 427 - 428.

أي صلاة الظهر التي صلاها فرادى ، فيعيدها جماعة استحبابا نقول هذه الصلاة قبل أن تكون معادة كان الشك فيها أي في الركعتين الأخيرتين بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية موجبا للبناء على الأكثر ، وبعد أن طرأ عليها الاستحباب يشك في بقاء هذا الحكم فيستصحب.

وفيه : بعد الإغماض عن عدم اتحاد القضيتين بحسب الموضوع حتى عرفا ، أن الاستصحاب فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي في البين ، وهاهنا إطلاق دليل « لا سهو في النافلة » لو شمل النافلة بالعرض فلا يبقى مجال للاستصحاب ، كما أنه لو لم يشمل وكان مفهوم النافلة منصرفا عن مثل هذه الاستحبابات العرضية يكون مشمولا لإطلاقات أدلة البناء على الأكثر في بعض الموارد ، ولأدلة البطلان في البعض الآخر ، وعلى كل حال لا يبقى مجال ومحل للاستصحاب.

وخلاصة الكلام في المقام : هو أنه لا بد وأن يرجع إلى العرف في تعيين مفهوم النافلة وأنه عبارة عن النوافل الأصلية التي جعلها الشارع نافلة بعنوانه الأولي - ولو طرأ عليها عنوان الوجوب بعد ذلك لجهة أخرى وخرج عن كونه نافلة وصار واجبا بالعرض كما يدعيه صاحب الجواهر قدس سره - أولا؟ بل الظاهر والمتفاهم العرفي هو أن يكون بالفعل متلبسا بمبدإ الاشتقاق كما هو الحال في سائر المشتقات ، فإن كل ذات كان متلبسا بمبدإ الاشتقاق فإطلاق المشتق عليه حال تلبسه حقيقي ، سواء كان بحسب الجعل الأولي كذلك أو لم يكن. اللّهم إلا أن يدعي الانصراف إلى النوافل الأصلية ، أو كان مفهوم النافلة عنوانا مشيرا إلى تلك النوافل الأصلية التي جعلها الشارع نافلة بعنوانها الأولي.

أو يقال بأن مفهوم النافلة غير مفهوم المستحب ، فإن مفهوم المستحب مقابل مفهوم الواجب ، فإن الواجب هو المطلوب الذي لم يرخص الشارع في تركه ، والمستحب هو المطلوب الذي رخص في تركه. وأما مفهوم النافلة عبارة عن الأفعال التي لها - بعناوينها الأولية - ملاكات ومصالح غير ملزمة ، فبناء على هذا إطلاق

ص: 327

النافلة على هذه المستحبات التي صارت مطلوبة بواسطة طرو بعض العناوين عليها غير صحيح.

ولكن أنت خبير بأن هذه الدعاوي كلها خالية عن البينة والبرهان ، بل ظاهر اللفظ هو أن يكون مستحبا فعلا خصوصا بمناسبة الحكم والموضوع ، لأن عدم الاعتناء بالشك والمسامحة يناسب المستحب الذي يسامح فيه بأشياء لا يسامح في الواجب ، كما أنه لم يعتبر القيام والسورة والاستقبال والاستقرار وغير ذلك.

فالأولى أن يقال : إن في ثبوت هذا الحكم - أي إلغاء الشك وعدم الاعتناء به - لا بد من اجتماع كلا الأمرين : أي يكون نافلة في الأصل أي بالذات ، وبالفعل أيضا أي لم يطرأ عليه الوجوب.

أما لزوم كونها بالفعل نافلة ولم يطرأ عليه لما عرفت من أن ظاهر كل عنوان أخذ موضوعا للحكم هو أن يكون بالفعل كذلك ، أي متصفا بذلك العنوان ، وأما ما يصح سلبه عنه ومع ذلك يكون موضوعا فهو في غاية الركاكة ، فموضوع هذا الحكم في لسان الدليل هو عنوان النافلة فقوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » شموله لما ليس بنافلة فعلا وما يصح سلب هذا المفهوم عنه في غاية البعد ، فلا بد في شموله من كونه نافلة بالفعل.

وأما لزوم كونها نافلة في الأصل وبالذات فمن جهة الشك في شمول قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » للفريضة التي طرأ عليها النفل لاحتمال أن يكون عنوان النافلة في الرواية عنوانا مشيرا إلى تلك النوافل الأصلية التي بالذات - أي بعنوانها الأولي - جعلها الشارع نافلة ، وهذا الاحتمال يكون موجبا لعدم ظهور لفظ النافلة في مطلق النافلة ، سواء كان نفلها بالذات أو بالعرض ، فإذا سقطت هذه الرواية عن ظهورها في الإطلاق لأجل هذا الاحتمال يكون المرجع عموم أو إطلاق أدلة البناء على الأكثر في بعض الموارد ، أو أدلة بطلان الصلاة بالشك في بعض الموارد الأخر. ولا تصل النوبة

ص: 328

إلى الاستصحاب ، وذلك لحكومة الإطلاقات والعمومات التي هي أمارة على الاستصحاب. وقد تقدم تفصيل ذلك.

وخلاصة الكلام ، أن ثبوت هذا الحكم ، أي التخيير بين البناء على الأقل والأكثر ، وإلغاء الشك وعدم الاعتناء به مختص بما إذا كانت الصلاة التي وقع الشك فيها نافلة بالفعل وبالذات ، وأما إذا كانت نافلة بالذات وطرأ عليها الوجوب كالنافلة المنذورة ، أو كانت فريضة بالذات ولكن طرأ عليها النفل كالمعادة جماعة بعد ما أتى بها فرادى فلا يشملهما هذا الحكم.

ثمَّ إنهم ذكروا أمثلة وموارد للنفل بالذات والنفل بالعرض ، وكذلك الفرض بالذات والفرض بالعرض لا يخلو بعضها عن المناقشة والخلط ، فها نحن نذكرها لتميز الصحيح منها عن غير الصحيح.

وبعد ما عرفت واقع الأمر تعرف أن حكمهم بعدم الاعتناء بالشك والتخيير بين الأقل والأكثر في بعض الموارد والأمثلة ، وكذلك حكمهم بالاعتناء بالشك والبطلان أو البناء على الأكثر في بعض الموارد والأمثلة الأخر لا وجه له ، بل خلط واشتباه.

فمن القسم الأول : وقولهم بجريان حكم النفل - أي عدم الاعتناء بالشك والتخيير بين الأقل والأكثر - هو صلاة الطواف لمن اعتمر استحبابا بزعم أن الصلاة فيها نفل بالذات عرض عليها الفرض.

وهذا الزعم باطل ، لأن صلاة الطواف في العمرة المستحبة ليس مستحبة كي يقال بأنها نافلة طرأ عليها الفرض ، بل هي واجبة فيها وإن كانت العمرة في أصل شروعها مستحبة. ولكنه حيث يجب إتمامها بعد أن دخل فيها استحبابا فكل فعل يصدر من المعتمر بعد الشروع فيها يقع بصفة الوجوب ، فصلاة الطواف فيها بهذا القيد - أي بعد الشروع فيها وان كان أصل الشروع فيها غير واجب - تكون أزلا وأبدا واجبة ، ولم تكن في آن من الآنات نفلا كي يقال بأنها نفل بالذات عرض عليها الوجوب ، بل هي

ص: 329

فريضة بالذات دائما.

ومن القسم الثاني : صلاة العيدين في عصر الغيبة حيث أنّهم يقولون بأنّها كانتا فريضتين بالذات فصارتا بواسطة غيبة الإمام - عجل اللّه تعالى فرجه - نافلة بالعرض ، فبناء على كون المدار في ثبوت هذا الحكم وعدمه هو النفل والفرض الأصلي ، وإن تغيّرا بالعرض بواسطة طروّ عنوان عليهما يقولون بالاعتناء بالشكّ فيهما ، لأنّهما بالذات من الفرائض ، فيحكمون ببطلانهما بوقوع الشكّ فيهما لأنّهما ثنائيّة.

ولكن أنت خبير بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وهي تختلف بحسب اختلاف الحالات ، فيمكن أن تكون لصلاة العيدين في حال الحضور مصلحة ملزمة ، وفي حال الغيبة لا تكون مصلحتهما ملزمة ، فيكون من قبيل التنويع فنوع منها - أي في حال الحضور - واجب بالذات ، ونوع آخر منها - أي في حال الغيبة - تكون نافلة بالذات ، فيكون الحكم فيهما في حال الغيبة هو التخيير بين البناء على الأقلّ أو الأكثر ، لأنّهما في هذا الحال نافلتين بالذات.

وكذلك نقول في عبادة الصبي - بناء على شرعيّتها - أنّها نافلة بالأصل ، وليس مما هو واجب بالأصل فصار نافلة بالعرض ، لما ذكرنا من اختلاف المصالح والمفاسد باختلاف الحالات بل الأزمنة ، وأيضا بطروّ العناوين للأفعال كالقيام بعنوان تعظيم المؤمن له مصلحة ، وبعنوان إهانته والاستهزاء به يصير ذا مفسدة. فصلاة الظهر مثلا في حال الكبر لها مصلحة ملزمة وتكون واجبة. وفي حال الصغر ليست لها مصلحة ملزمة ولذا لا تكون واجبة ، فإنّها في تلك الحال إمّا ليس لها مصلحة أصلا فلا تكون عبادته شرعيّة وهذا مبنى القول بعدم شرعيّة عبادات الصبي ، وإمّا لها مصلحة ولكن ليست ملزمة فتكون نفلا وهذا مبنى القول بمشروعيّتها.

وعلى كلّ حال : بناء على شرعيّة عباداته تكون عباداته نفلا بالذات وبالأصل ، لا أنّ صلاة الظهر مثلا كانت واجبة بالأصل مطلقا فصارت بواسطة الصغر نفلا

ص: 330

بالعرض.

وهذا ليس بأولى من أن يقال : كانت صلاة الظهر نفلا بالذات فلمّا وصل إلى حدّ البلوغ صارت فرضا بالعرض.

نعم فيما إذا كان فعل في حدّ نفسه وبعنوانه الأوّلي له مصلحة غير الملزمة ، أو الملزمة فصار بعنوان ثانوي ما ليس له مصلحة ملزمة ذا مصلحة ملزمة أو بالعكس صحّ أن يقال في الأوّل كان نفلا بالذات فصار فرضا بالعرض ، كصلاة الليل أو صلاة جعفر حيث أنّها بعنوانها الأوّلي ليست لها مصلحة ملزمة من أيّ شخص وفي أيّ زمان أو مكان كانت ، ولكن لمّا تعنونت بعنوان الحلف أو النذر أو العهد تصير ذا مصلحة ملزمة فيصحّ أن يقال كانت صلاة الليل أو صلاة جعفر مثلا أو سائر النوافل نفلا بالذات وبالأصل ، وبواسطة النذر أو العهد أو الحلف صارت فرضا بالعرض. وصحّ أن يقال في الثاني - أي فيما له المصلحة الملزمة - كانت فرضا بالذات فصارت نفلا بالعرض.

ولكن ليس من هذا القبيل صلاة المعادة جماعة لمن صلاّها فرادى ، وذلك من جهة أنّ المعادة أيضا فرض مثل المبتدئة فرادى ، ولذلك يجب عليه أن ينوي أنّه يريد أن يأتي بما هو واجب عليه أي بالصلاة الواجبة ، غاية الأمر بمصداق آخر لتلك الطبيعة التي تعلّق بها الأمر الوجوبي فيختار اللّه أحبّهما إليه.

وكذلك الأمر في صلاة المتبرّع بها عن الغير ، فليست من الفرض الذي عرض له النفل ، بل المتبرّع يأتي بما هو واجب على غيره ، ولذلك يجب عليه أن يأتي بها بقصد الأمر الوجوبي المتوجّه إلى ذلك الغير في حياته ولم يمتثله قصورا أو تقصيرا.

وكذلك النوافل المستأجرة عليها ليست من النفل الذي عرض عليها الفرض بواسطة الإجارة ، بل هي باقية على نفليّتها حتّى بعد الإجارة. والأمر الذي يأتي من قبل الإجارة وإن كان أمرا وجوبيّا - أي يجب على المستأجر إتيان ما هو متعلّق

ص: 331

الإجارة - ولكن ذلك الأمر الوجوبي لم يتعلّق بالصلاة بعنوان كونها صلاة ، مثلا لو استأجر على صلاة جعفر فليس الأمر الآتي من قبل هذه الإجارة متعلّقا بصلاة جعفر بعنوان صلاة جعفر ، بل هي باقية على استحبابه ، وإنّما الأمر الوجوبي الآتي من قبل الإجارة متعلّق بالوفاء بهذا العقد.

وإن شئت قلت : إنّ المستأجر ملك على ذمّة الأجير هذا العمل ، ويجب على الأجير تسليم ما ملكه المستأجر في ذمّته إليه.

وربما يقال في النفل المنذور أيضا إنّ لله تعالى بواسطة النذر يتعلّق حقّ بالمنذور ، فيجب على الناذر إيصال ذلك الحقّ إليه تبارك وتعالى بالوفاء بنذره ، ولا تجب نفس الصلاة المنذورة.

ولكن ما ذكرنا في باب النذر والحلف والعهد هو الصحيح ، وهو أنّ هذه الأمور عناوين ثانويّة توجب تغيير المصلحة في نفس الفعل ، فيطرأ عليه الوجوب ، ولذلك لو نذر إتيان مستحبّ عبادي فهناك يتعلّق بذلك الفعل أمران : أحدهما : واجب توصّلي ، وهو الأمر الذي يأتي من قبل النذر. والآخر : مستحبّ تعبّدي. وكلّ واحد من الأمرين يكتسب لونا من الآخر ويتّحدان ، فالأمر الاستحبابي العبادي يكتسب الوجوب من الأمر النذري ، والأمر النذري يكتسب العباديّة من الأمر الاستحبابي العبادي.

والنتيجة : أنّه بعد كسب كلّ واحد منهما من الآخر ما قلنا يكون الفعل واجبا عباديّا.

والسرّ في ذلك : أنّ الأمر النذري يتعلّق بعين ما تعلّق به الأمر الندبي ، ويكون الأمران عرضيّين لا طوليّة بينهما فقهرا يتّحدان ، وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين أي الوجوب والاستحباب.

وبعبارة أخرى : الأمر الندبي يلغي حدّ الاستحبابي ويتلبّس حدّ الوجوبي ، والأمر

ص: 332

الوجوبي حيث توصّلي يكتسب لون التعبّدي من الأمر الندبي ، فتصير النتيجة هو أن يكون الفعل واجبا تعبديّا ، فهاهنا من الموارد التي يطرأ الوجوب على النفل الأصلي.

وأمّا أمر السيّد عبده بإتيان صلاة النافلة ، أو أمر أحد الوالدين بها ، أو الاستئجار عليها فليس من هذا القبيل.

بيان ذلك : أنّ متعلّق الوجوب في هذه الأمور ليس ذات العمل ، بل متعلّق الوجوب في أمر الوالدين وأمر السيّد هو عنوان الإطاعة ، أو في أمر الوالدين ليس وجوب في البين ، بل يحرم مخالفتهما - أي العقوق - وعلى كلّ حال تحصل الإطاعة أو يمتثل حرمة المخالفة بإتيان ذلك المستحبّ الذي أمر كلّ واحد من السيّد والوالدين به ، ولم يتعلّق أمر من قبل اللّه تبارك وتعالى بذات العمل ، لا ابتداء ولا من قبل أمر هؤلاء.

فالنفل الأصلي باق على ما كان ولم يطرأ عليه وجوب أصلا ، وكذلك في باب الإجارة المأمور به هو الوفاء بعقد الإجارة ، والوفاء يتحقّق بإتيان هذا العمل المستحبّ.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره وأنّ الأمر الآتي من قبل أمر الوالدين أو من قبل الإجارة في طول الأمر الندبي المتعلق بذات العمل ، وأنّ الأمر الآتي من قبل النذر في عرض الأمر الندبي المتعلّق بذات العمل ، ففي مورد النذر يطرأ الوجوب على ما هو نافلة بالأصل دون هذه الموارد الثلاث ، أي أمر السيّد ، وأمر الوالدين ، وأمر الآتي من قبل الإجارة (1).

ولكن أنت خبير بأنّ الفرق لا يخلو من مناقشة بل تحكّم ، وخلاصة الكلام أنّ الأمر الآتي من قبل هذه الأمور لم يتعلّق بالفعل بعنوان أنّها صلاة ، بل بعنوان الوفاء بالعقد أو العهد أو النذر أو الإطاعة كلّ في مورده ، وهذه العناوين أجنبيّة عن الصلاة.

ص: 333


1- « كتاب الصلاة » ج 3 ، ص 187.

فالإنصاف أنّ الصغرى لهاتين الكبريين - أي النفل الأصلي الذي طرأ عليه الفرض ، أو بالعكس - إمّا لا توجد أو في غاية القلّة ، فهذا البحث - أي أنّ موضوع هذا الحكم هل هو اجتماع الأمرين أي يكون نفلا ذاتا وبالفعل ، أو يكفي كونها ذاتا وان لم يكن بالفعل ، أو يكفي كونها نفلا بالفعل وإن لم يكن كذلك ذاتا - قليل الجدوى أو لا جدوى فيه أصلا.

الرابع : الظاهر أنّ هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشكّ وإلغائه في النافلة - فيما إذا كان في عدد الركعات ، لا فيما إذا تعلّق الشكّ بأفعال الصلاة ، فلو شكّ في أنّه كبّر تكبيرة الافتتاح ، أو قرأ فاتحة الكتاب ، أو ركع ، أو سجد ، أو تشهّد ، أو سلّم أو لا فحال النافلة من هذه الجهة حال الفريضة ، فإذا كان شكّه قبل تجاوز المحلّ يأتي به ، لأصالة عدم الإتيان به. وإذا كان بعد تجاوز المحلّ فيمضي ، لقاعدة التجاوز.

وذلك من جهة أنّ المراد بالسهو في قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » هو خصوص الشكّ ، من جهة وحدة السياق مع سائر الفقرات التي في الرواية. والرفع تعبدي ، لأنّ الرفع التكويني أوّلا ليس من وظيفة الشارع في عالم التشريع ، وثانيا رفع التكويني يحتاج إلى أسباب تكوينيّة ولا يتحقّق بصرف النفي ، كما أنّه لم يتحقّق وموجود كثيرا ، والرفع التشريعي مرجعه إلى رفع الآثار الشرعيّة التي للشي ء.

والآثار الشرعيّة للشك المجعولة له من قبل الشارع هو البطلان لو كان الشكّ في الثنائيّة أو الثلاثيّة ، أو كان في الرباعيّة ولكن في الأوليين قبل إكمال السجدتين ، أو البناء على الأكثر لو كان في الرباعيّة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانيّة منها ، وكلا الأمرين في الشكّ في عدد الركعات ولا ربط لهما بالشكّ في أفعال الصلاة ، ولم يجعل الشارع للشكّ في أفعال الصلاة إذا كان الشكّ في المحلّ حكم كي يرفع بقوله « ليس في النافلة سهو » بل وجوب إتيانه لأصالة العدم ، ولو لم تكن أصالة العدم لكان وجوب الإتيان بمقتضى قاعدة الشغل.

ص: 334

وأمّا إذا كان بعد التجاوز عن المحلّ فحينئذ وإن حكم الشارع بعدم الاعتناء والمضيّ فيها ، ولكن ارتفاع هذا الحكم معناه الاعتناء بالشكّ فيكون نقيض ما هو المراد من القاعدة ، لأنّ الظاهر من القاعدة بمناسبة الحكم والموضوع هو المسامحة والتسهيل وعدم الاهتمام بحفظ حدود النافلة كثيرا مثل الاهتمام بالواجبات والفرائض ، وإلغاء الشكّ ، وفرضه كالعدم فيها ، فرفع حكم عدم الاعتناء بالشكّ إذا كان بعد التجاوز عن المحلّ معناه عدم إلغائه والاعتناء به ، وهذا نقيض ما يستفاد من ظاهر هذه القاعدة ، فاتّضح عدم شمول هذه القاعدة للشكّ في الأفعال.

الخامس : لا فرق في جريان هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشكّ ورفع حكمه من الإبطال أو تعيّن البناء على الأكثر وتدارك ما احتمل نقصانه بصلاة الاحتياط ، أي بالركعة أو الركعات المنفصلة ، والتخيير - بين أن تكون صلاة النافلة ثنائيّة - كما هو الغالب ، بل دائما إلاّ في موردين - وبين أن تكون ثلاثيّة أو رباعيّة.

أمّا النافلة الثلاثيّة كصلاة الوتر بناء على أنّ الشفع والوتر صلاة واحدة وليس بينهما تسليم بل يقوم بعد أن تشهّد في الثانية ويأتي بالوتر. والشاهد على ذلك بعض الروايات الذي مفاده أنّ القنوت في الوتر في الثالثة.

وأمّا النافلة الرباعيّة فكصلاة الأعرابي مثلا ، فلو شكّ فيها بين الاثنين والثلاث ، أو الثلاث والأربع أو غير ذلك من الأقسام الشكّ المتصوّر فيها فهو مخيّر بين البناء على الأكثر أو الأقلّ ، فكذلك في صلاة الوتر لو شكّ بين ما هو الأقلّ وبين ما هو الأكثر فهو مخيّر بين الأقلّ والأكثر.

ولكن تقدّم أنّ هذا التخيير فيما إذا لم يكن البناء على الأكثر موجبا لبطلانه وإلاّ ليس له التخيير ، وكذلك إذا شكّ في الثنائيّة التي كونها نافلة هو الغالب ، بل وكذلك لو شكّ في الوتر بناء على أنّها ركعة واحدة ، فلو شكّ في أنّه أتى بالوتر ركعة واحدة أو اثنتين لم تبطل صلاته ، ولكن ليس له هاهنا التخيير ، بل يتعين عليه البناء على الأقلّ ،

ص: 335

لأنّ البناء على الأكثر موجب لفساده وبطلانه.

ودليل عدم الفرق بين أقسام الثلاثة من النافلة إطلاق قوله علیه السلام « ليس في النافلة سهو » فيشمل بإطلاقه النافلة مطلقا ، ثنائيّة كانت أو ثلاثيّة أو رباعيّة ، وليس مقيّدا يقيّده أو يخصّصه بقسم خاصّ منها.

نعم ، روى الشيخ قدس سره في الصحيح عن العلاء ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يشكّ في الفجر؟ قال : « يعيد ». قلت : المغرب؟ قال : « نعم ، والوتر والجمعة » من غير أن أسأله (1).

وعن الخصال في حديث الأربعمائة قال : « لا يكون السهو في الخمس : في الوتر ، والجمعة ، والركعتين الأوليين من كلّ صلاة مكتوبة ، وفي الصبح ، والمغرب » (2).

وظاهر الصحيح أنّه تجب إعادة الوتر إذا شك فيه ، كما أنّ ظاهر رواية الخصال أيضا ذلك من باب وحدة السياق ، لأنّ المراد من نفي السهو في غير الوتر من الأربعة التي يذكرها بعده هو البطلان ، فلا بدّ وأن يكون المراد من نفي السهو في الوتر أيضا هو البطلان بحكم وحدة السياق.

وقد يقال في توجيه الروايتين - بناء على قول المشهور من عدم بطلان الوتر - بأنّهما منزلان على الغالب ، وهو أن يكون في أصل وجود الوتر لا الشكّ في عدد ركعاته.

وهو توجيه بعيد ، خصوصا بملاحظة وحدة السياق ، وقد حمل صاحب الوسائل إعادة الوتر مع الشكّ في الصحيح على الاستحباب ، وهو حسن.

السادس : في أنّ هذا الحكم - أي عدم الاعتناء بالشك في عدد الركعات والمضي في الصلاة ، وكونه مخيّرا بين البناء على الأقلّ أو الأكثر - هل يختصّ بالشكّ أم يجري في

ص: 336


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 180 ، ح 722 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 23. « الاستبصار » ج 1 ، ص 366 ، ح 1395 ، باب الشكّ في فريضة الغداة ، ح 6.
2- « الخصال » ص 828 ، أبواب الثمانين وما فوقه.

نسيان الركعة أو نسيان فعل من أفعال الصلاة؟ فيكون المراد من السهو هو الغفلة كي يكون أعمّ من الشكّ والنسيان كما احتمله الوحيد البهبهاني قدس سرّه في قوله علیه السلام « ليس سهو في النافلة » (1) فرفع النسيان ونفيه تشريعا عبارة عن عدم ترتّب الأثر على النسيان ، فيكون نفيه عبارة عن عدم بطلانها بالنسيان ، ونتيجته عدم لزوم الإعادة وإن كان المنسي ركنا من الأركان؟

أقول : بعد ما عرفت أنّ المراد من السهو بقرينة وحدة السياق هو الشكّ ، - لا خصوص النسيان ولا الأعمّ منه ومن الشكّ - فلا وجه لإسراء هذا الحكم إلى النسيان.

وأمّا القول بأنّ مناط هذا الحكم في باب الشكّ - أي المسامحة والتسهيل في أمر النافلة - موجود في النسيان أيضا ، فهو أشبه بالقياس ما لم يكن مدلولا لدليل لفظي.

السابع : يغتفر زيادة الركن في النافلة.

ويدلّ عليه خبر الحلبي : سألته عن الرجل سها في ركعتين من النافلة ، فلم يجلس بينهما حتّى قام فركع في الثالثة؟ قال علیه السلام : « يدع ركعة ويجلس ويتشهّد ويسلّم ثمَّ يستأنف الصلاة » (2). وخبر الصيقل عن الصادق علیه السلام في الرجل يصلّي الركعتين من الوتر ، ثمَّ يقوم فينسى التشهّد حتّى يركع ، ويذكر وهو راكع؟ قال : « يجلس من ركوعه فيتشهّد ثمَّ يقوم فيتمّ » قال : قلت : أليس قلت في الفريضة إذا ذكره بعد ما يركع مضى ثمَّ يسجد سجدتين بعد ما ينصرف فيتشهد فيهما؟ قال علیه السلام : « ليس النافلة مثل الفريضة » (3). هذا ما قيل.

ص: 337


1- لم نجد هذه العبارة في الكتب الروائيّة والموجود هكذا : « سالته عن السهو في النافلة فقال ليس عليك شي ء ». « الكافي » ج 3. ص 359 ، ح 6 ، « التهذيب » ج 2 ، ص 343 ، ح 10 ، باب 13 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 189 ، ح 750 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 51. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 331 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 18 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 448 ، باب صلاة النوافل ، ح 22 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 189 ، ح 751 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 52. « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 997 ، أبواب التشهّد ، باب 8 ، ح 1.

ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر خبر الحلبي أنّه يريد أن يأتي بنافلة الظهر مثلا ثمانية ركعات ، ركعتين ركعتين ، وبعد كلّ ركعتين يجلس ويتشهّد ويسلّم ، ثمَّ يقوم ويشرع في الركعتين الأخريين ، وهكذا يجلس ويتشهّد ويسلّم ، ثمَّ يقوم في الركعتين الأخريين حتّى يتمّ الصلاة ، أي نافلة الظهر التي هي ثماني ركعات. فعلى هذا لم يزد ركنا في النافلة ، وإنّما أبطل صلاته الثاني لعدم إتمام الأوّل ، فالمراد بقوله علیه السلام « ثمَّ يستأنف الصلاة » أي الصلاة الثانية من النافلة.

وبعبارة أخرى : نافلة الظهر مثلا عبارة عن أربع صلوات ، كلّ واحدة منها ركعتين مثل فريضة الصبح أو نافلته ، فإذا سها أي نسي التشهّد والتسليم من إحديهما وقام للصلاة الأخرى وكبّر وقرأ وركع ، ثمَّ بعد أن ذكر بعد الركوع فيقول علیه السلام : يجلس ويتشهّد ويسلم ، ثمَّ يستأنف أي يشتغل بصلاة أخرى من تلك الصلوات الأربع التي هي نافلة الظهر فلم يزد في النافلة شي ء ، لأنّه دخل في صلاة أخرى لنسيان التشهّد والتسليم ، لا أنّه مثلا كبّر وقرأ وركع بعنوان أنّه في الركعتين الأوليين من النافلة حتّى تكون زيادة الركن فيها وتكون مغتفرة.

والشاهد على ذلك أنّ قوله : « فلم يجلس بينهما » ليس المراد من ضمير التثنية هو الركعتين ، أي عدم الجلوس بين نفس الركعتين حتّى يكون معناه عدم الجلوس بين الركعة الأولى والثانية ، إذ لا ارتباط بين عدم الجلوس بين نفس الركعتين والقيام للثالثة.

فالمراد من « بينهما » أي بين الركعتين الأوليين وبين الركعتين الثانيتين أي النافلتين ، وحينئذ يكون الأمر كما وجّهنا أي ليس ما زاد على الركعتين زيادة فيها ، بل من جهة شروعه في نافلة أخرى لنسيان التشهّد والتسليم في النافلة الأولى ، فلا ربط لهذه الرواية باغتفار زيادة الركن في النافلة.

ص: 338

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر قوله : « حتّى قام فركع في الثالثة » أي بدون تكبيرة الإحرام وبعنوان أنّه يأتي بتتمّة النافلة التي كان مشغولا بها وسها عن أنّ هذه هي الركعة الثالثة ، بل يأتي بها بزعم أنّها الثانية ، ثمَّ بعد أن ركع التفت بأنّها ثالثة ، فقوله علیه السلام : « يجلس ويتشهّد ويسلّم » صريح في أنّ زيادة الركوع ليس بمضرّ.

نعم هذه الرواية لا تدلّ على أنّ زيادة غير الركوع من سائر الأركان أيضا ليس بمضرّ إلاّ على سبيل القياس الباطل ، وأيضا لا تدلّ على عدم بطلان النافلة بنقيصة الأركان بطريق أولى.

وأمّا خبر الصيقل : فعلى تقدير انفصال صلاة الوتر عن الشفع - كما هو المعروف - وكونهما صلاتين مستقلّتين فلا يدلّ على المطلوب ، لأنّ معنى قوله : « ثمَّ يقوم فينسى التشهّد حتّى يركع ويذكر وهو راكع » اشتغاله بصلاة الوتر بزعم إتمام صلاة الشفع لنسيانه التشهّد والتسليم ، ثمَّ تذكر بعد أن ركع للوتر فقوله علیه السلام : « يجلس من ركوعه » - إلى آخر ما قال علیه السلام - معناه أنّه يرفع اليد عن الوتر ويتمّ الشفع ، ثمَّ يقوم ويتمّ الوتر ، فلم تقع زيادة في نافلة الشفع ولا في نافلة الوتر ، لأنّه يرفع اليد عن المقدار الذي أتى بنافلة الوتر ، ويأتي بالتشهّد والتسليم لإتمام الشفع ، ثمَّ يأتي بالوتر من أوّله ويستأنف أو يبني على ما أتى ، وعلى كلّ حال ، لم يأت بزيادة لا في الشفع ولا في الوتر.

وأمّا لو قلنا بأنّهما - أي الشفع والوتر - صلاة واحدة ولا بدّ أن يأتي بالوتر متّصلة فلا محالة يكون من زيادة الركوع في النافلة ، كما هو واضح.

ويشهد على ذلك أيضا قوله علیه السلام : « ليس النافلة مثل الفريضة » بعد سؤال الراوي ، وقوله : « أليس قلت في الفريضة إذا ذكر بعد ما يركع مضى ثمَّ يسجد سجدتين بعد ما ينصرف فيتشهّد فيهما ».

فكلامه قدس سره يدلّ على أنّ زيادة الركوع في الفريضة توجب بطلان الصلاة ، ولذلك بعد أن دخل في الركوع ليس له أن يرجع ويتشهّد ، أي يرجع ويأتي بالمنسي ، لأنّه بعد

ص: 339

أن يأتي بالتشهّد المنسي إمّا أن يأتي بما بعده ممّا أتى به وقت النسيان ، وإمّا أن لا يأتي. ففي الصورة الأولى يلزم زيادة الركوع الذي هو ركن ، وفي الصورة الثانية يلزم ترك جملة من أجزاء الصلاة عمدا ، وفيها الركن أعني الركوع.

وأمّا في النافلة وإن لزم أيضا من إتيان المنسي زيادة الركوع الذي هو ركن ، ولكن يفهم من هذه الرواية أنّ زيادة الركوع في النافلة ليس بمضرّ.

ثمَّ إنّ المذكور في الروايتين وان كان زيادة الركوع من جهة نسيان التشهّد ، فهل يشمل لو كانت الزيادة في غير الركوع من الأركان؟ لا يخلو من إشكال.

وأيضا هل يشمل ما إذا كان المنسي ابتداء هو نفس الركوع مثلا في الركعة السابقة فيرجع ويأتي به ، ثمَّ يأتي بما بعده وفيه الركوع؟

والإنصاف أنّه لا يخلو من إشكال وإن كان التعليل بعدم كون النافلة كالفريضة يشعر بشمول كلتا الصورتين أيضا ، نعم لا يشمل النقيصة قطعا.

الثامن : أنّه لا تجب سجدتا السهو في النافلة إذا طرأ عليها ما يوجبهما في الفريضة ، ولا القضاء فيما فيه القضاء في الفريضة كنسيان السجدة والتشهّد في النافلة ، وذلك لاختصاص دليلها أي دليل القضاء بالفريضة اليوميّة ، فلا تجب في سائر الواجبات فضلا عن النافلة. وإن شئت راجع أخبار الباب فإنّ موردها فريضة اليوميّة ، وليس لها إطلاق يتمسّك به لوجوب القضاء في غير الفريضة اليوميّة.

الجهة الثالثة : في نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوّلية التي دلّت على ثبوت أحكام الشكّ وفي موارد تطبيقها

أمّا الأوّل : فدليل هذه القاعدة ، أي قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » له حكومة

ص: 340

على الأدلّة التي مفادها بيان حكم الشكّ في عدد ركعات الصلاة ، والحكومة هاهنا حكومة واقعيّة في جانب الموضوع بالتضييق. وقد شرحنا الحكومة وأقسامها الثمانية في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وإن شئت فراجع. وذلك من جهة أنّ الشكّ جعل موضوعا للبناء على الأكثر في الصلوات الرباعيّة إذا كان في الركعتين الأخيرتين منها ، أو جعل موضوعا للبطلان في الثنائيّة والثلاثيّة ، أو في الرباعيّة إن كان قبل إكمال السجدتين من الركعة الثانية ، فدليل هذه القاعدة - الذي هو عبارة عن قوله علیه السلام : « ليس في النافلة سهو » أي الشكّ - يرفع الشكّ تعبّدا ، وهذا معنى تضييق الموضوع تعبّدا.

وأمّا الثاني : أي موارد تطبيق هذه القاعدة : فقد عرفت كثيرا منها ولا يحتاج إلى ذكرها وإعادتها ، وبطور الإجمال : إذا كان الشكّ في عدد ركعات النافلة ، أيّ نافلة كانت ، ثنائيّة أو ثلاثيّة أو رباعيّة مخيّر بين البناء على الأقلّ والأكثر ، إلاّ إذا كان البناء على الأكثر موجبا لبطلانها فيتعيّن البناء على الأقلّ.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

ص: 341


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 535.

ص: 342

25 - قاعدة لا شكّ لكثير الشكّ

اشارة

ص: 343

ص: 344

قاعدة لا شك لكثير الشك (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « نفي الشكّ وعدم اعتباره من كثير الشكّ في الصلاة » : أي حكمه ، ولذلك قد يعبّر عن هذه القاعدة بأنّه : « لا حكم للسهو مع كثرته ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها

وهو الأخبار والإجماع.

أمّا الإجماع : فقد تكرّر منّا في هذا الكتاب أنّه لا اعتبار بها في مثل هذا الموارد التي وردت فيها أخبار معتبرة ، للظنّ بل العلم بأنّ مدرك المجمعين هو هذه الأخبار ، فلا بدّ من الرجوع إليها وأنّها هل تدلّ على هذه القاعدة أم لا؟

وأمّا الأخبار : فمنها : صحيحة محمد بن مسلّم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك فإنّه يوشك أن يدعك ، إنّما هو من الشيطان » (2).

ص: 345


1- (*) « القواعد » ص 243. « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 251.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 8. « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 989 ، « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 343 ، ح 1422 ، باب أحكام السهو ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 1.

ومنها : صحيحة زرارة وأبي بصير - أو حسنتهما - قالا : قلنا له : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته حتّى لا يدري كم صلّى ولا ما بقي عليه؟ قال علیه السلام : « يعيد ». قلنا : فإنّه يكثر عليه ذلك كلّما أعاد شكّه؟ قال علیه السلام : « يمضي في شكّه » ، ثمَّ قال علیه السلام : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عود ، فليمض أحدكم في الوهم ، ولا يكثرن نقض الصلاة ، فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يعد إليه الشكّ ». قال زرارة : ثمَّ قال علیه السلام : « إنّما يريد الخبيث أن يطاع ، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم » (1).

محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن يعقوب مثله (2).

ومنها : بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن ابن سنان ، عن غير واحد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » (3).

ومنها : موثّق عمّار عن أبي عبد اللّه علیه السلام في الرجل يكثر عليه الوهم في الصلاة ، فيشكّ في الركوع فلا يدري أركع أم لا. ويشكّ في السجود فلا يدري أسجد أم لا؟

فقال علیه السلام : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتّى يستيقن يقينا » الحديث (4).

ومنها : مرسلة الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين ، قال : قال الرضا علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو في الصلاة فامض على صلاتك ولا تعد » (5).

ص: 346


1- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته ولم يدر زاد أو نقص ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 188 ، ح 747 ، باب أحكام السهو في الصلاة ... ، ح 48. « الاستبصار » ج 1 ، ص 374 ، ح 1422 ، باب من شكّ فلم يدر صلّى ركعة ... ، ح 5.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 343 ، ح 1423 ، باب أحكام السهو ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 3.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 604 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ... ، ح 62. « الاستبصار » ج 1 ، ص 362 ، ح 1372 ، باب من شكّ فلم يدر واحدة سجد أم اثنتين ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 5.
5- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 998 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 6.

ومنها : ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن الصادق علیه السلام قال : « إذا كان الرجل ممّن يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن كثر عليه السهو » (1).

ومنها : ما روى ابن إدريس في آخر السرائر منتهيا إلى أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « لا سهو على من أقرّ على نفسه بسهو » (2).

هذه هي الأخبار الواردة في هذا الباب.

فنقول : أمّا دلالة صحيحة محمّد بن مسلم على عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه واضح بناء على أن يكون المراد من السهو هو الشكّ في قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » وهو كذلك إذ لو كان المراد منه النسيان - بمعنى أنّه يعلم بنسيان الجزء الفلاني كالركوع أو السجود - فلا يمكن ردعه ، لأنّ حجّية العلم ذاتيّة ليس قابلا للردع ، فلا بدّ وأن يكون المراد منه الشكّ واحتمال عدم الإتيان لا القطع بعدمه ، فالمراد من قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » هو أنّه إذا كنت شكّاكا فلا تعتن بشكّك ، واحتمال النقيصة فيما إذا كان شكّك بالنسبة إلى عدم الإتيان بجزء أو شرط ، ولا تعتن باحتمال الزيادة إذا كان شكّك بالنسبة إلى وجود مانع ، وامض في صلاتك والق احتمال عدم وجود شرط أو جزء ، أو احتمال وجود مانع في صلاتك ، أي ابن على تماميّة ما أتيت به ، وعدم خلل فيه من حيث الزيادة والنقيصة.

والفرق بينها وبين أصالة الصحّة أنّ الثانية تجري بعد الفراغ عن العمل وهذه القاعدة في الأثناء ، وبينها وبين قاعدة التجاوز هو أنّ الثانية تجري بعد التجاوز عن المحلّ وهذه تجري ولو كان في المحلّ.

وأمّا صحيحة زرارة وأبي بصير : فصدر الرواية ربما يوهم خلاف المقصود ، لأنّ جوابه علیه السلام بقوله « يعيد » - عن قولهما : الرجل يشكّ كثيرا في صلاته - يدلّ على

ص: 347


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 990 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 7.
2- « كتاب السرائر » ج 3 ، ص 614.

الاعتناء بالشكّ ولو كان كثير الشكّ ، بل الحكم بالاعتناء والإعادة في نفس مورد كثير الشكّ.

لكنّه ليس كذلك ، إذ المراد بهذه الجملة يمكن أن يكون أنّ الرجل ليس ممن يحفظ عدد الركعات دائما ، بل يشكّ كثيرا باعتبار الوقائع المتعدّدة ، مثلا في كلّ أسبوع يشكّ في عدد ركعات صلاته مرّتين وإن كان لا يصل إلى حدّ يتّصف بعنوان أنّه كثير الشك عرفا ، وأنّه يشكّ في صلاة واحدة ثلاث مرّات ، أو يشكّ في ثلاث صلوات متواليات في كلّ واحد منها مرّة واحدة.

فإذا كانت الكثرة في صدر الرواية بهذا المعنى فلا تنافي بين صدر الصحيحة وذيلها حيث يحكم علیه السلام في الصدر بوجوب الإعادة في موضوع كثير الشكّ ، ويحكم في الذيل بعدم الاعتناء بالشكّ والمضيّ في صلاته أيضا في هذا الموضوع ، أي موضوع كثير الشكّ ، لأنّه كما عرفت ليس كثرة الشكّ في المقامين بمعنى واحد.

واحتمل بعضهم أن يكون المراد بكثرة الشكّ في الصدر باعتبار تعدّد المتعلّق في تلك الواقعة الواحدة ، أي تعدّد احتمالاته ، مثلا يحتمل أن يكون ما بيده هي الركعة الأولى وبعد لم يتمها ، ويحتمل أن تكون هي الثانية ، ويحتمل أن تكون هي الثالثة وهكذا كثرة الاحتمالات بواسطة كثرة المحتمل ، مع أنّه شكّ واحد في واقعة واحدة.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر قوله : « الرجل يشكّ كثيرا ».

واستظهر المقدّس الأردبيلي قدس سره من هذه الصحيحة التخيير (1) ، بمعنى أنّ كثير الشكّ مخيّر بين أن يعتني بشكّه ويبني على عدم إيجاد المشكوك ويعيد الصلاة ، وبين أن لا يعتني بشكّه ويبني على وجود المشكوك ويمضي في صلاته. فمفاد الصدر هو الشقّ الأوّل من شقّي التخيير ، ومفاد الذيل هو الشقّ الثاني.

وحكى في الجواهر عن المحقّق الثاني أيضا التخيير بين البناء على وجود المشكوك

ص: 348


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 3 ، ص 142.

ووقوعه ، والبناء على الأقلّ بمعنى عدم الإتيان بالمشكوك (1).

وحكى عن الشهيد في ذكري أيضا أنّ عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه رخصة فيجوز أن يعمل على مقتضى الشكّ فيتلافى إن كان في المحلّ مثلا (2).

ولكن أنت خبير بأنّ التخيير ينافي ظاهر هذه الروايات ، حيث أنّه علیه السلام أمر بالمضي في صلاته ، والأمر ظاهر في الوجوب ، خصوصا مع هذا التعليل وأنّ المضي وعدم الاعتناء بالشكّ رغما لأنف الشيطان وعصيان له وإذا عصى لا يعود ، ونهيه علیه السلام عن تعويده بالاعتناء بالشكّ وأنّه إذا عصى لا يعود لأنّ الخبيث يريد أن يطاع فلا يعود إذا عصى ، ونهيه علیه السلام عن الإتيان بالمشكوك بقوله : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتّى يستيقن يقينا » في خبر ابن سنان.

والحاصل : أنّ هذه الروايات لها ظهور تامّ في تعيّن المضي ووجوب عدم الاعتناء بالشكّ ، وآبية عن التخيير بأيّ معنى كان ممّا ذكرنا ، فما أفاده المقدّس الأردبيلي - ونسب إلى الشهيد في ذكري وإلى المحقّق الثاني في رسالته السهويّة - ممّا لا يمكن الموافقة معهم ، وليس كما ينبغي. والإنصاف أنّه لا إشكال ولا غبار في دلالة هذه الروايات على هذه القاعدة ، أي عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ.

ثمَّ إنّه بناء على وجوب المضي وعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ لو أراد أن يتلافى المشكوك المحتمل العدم وأتى به ، فالظاهر بطلان صلاته ، لأنّه زيادة منهيّة عنها في الصلاة ، إلاّ أن يكون المشكوك المحتمل العدم من الأشياء التي يجوز فعله في الصلاة لكن لا بقصد الجزئيّة ، بل يأتي بها بقصد القربة المطلقة ، فالمتعيّن هو عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في الصلاة بأن يبني على وجود المشكوك إن كان من الأجزاء والشرائط ، وعلى عدمه إنّ كان من الموانع ، لأنّ هذا المعنى هو المتفاهم العرفي وما هو

ص: 349


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 417.
2- « ذكري الشيعة » ص 223.

الظاهر من كلمة « يمضي » سواء كان بصورة الجملة الخبريّة ، أو بصورة الإنشاء كقوله امض.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة على تقدير اعتبارها

اشارة

فنقول : إنّ بيان هذه الجهة منوط بذكر أمور :

الأوّل : أنّه قد تقدّم أنّه المراد من السهو - في الروايات أو في كلامهم في مقام التعبير عن هذه القاعدة ، كما في عبارة الشرائع « لا حكم للسهو مع كثرته » (1) - هو الشكّ لا خصوص معناه الحقيقي أي النسيان ، ولا الأعمّ منه ومن الشكّ ، إذ لو كان المراد منه أحد هذين المعنيين يلزم أن لا يكون اعتبار بنسيان كثير النسيان ، بمعنى أنّه مثلا لو سها في صلاة واحدة - أي نسي الركوع والسجود كلّ واحد من ركعة ونسي أيضا الركعة الأخيرة من تلك الصلاة بعينها - لا يكون عليه بأس وتكون تلك الصلاة صحيحة مع العلم بفقدان المذكورات ، ولا يمكن الفقيه أن يتفوّه بمثل هذا ، بل ينبغي أن يعدّ مثل هذا الكلام من الأعاجيب.

والحاصل : أنّه فرق كثير بين الحكم بعدم الاعتناء باحتمال عدم الإتيان بالجزء أو الشرط ، أو الحكم بعدم الاعتناء باحتمال وجود المانع الذي هو عبارة عن الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، وبين الحكم بعدم الاعتناء بالعلم بعدم وجود الجزء أو الشرط أو العلم بوجود المانع ، ولو كان ترك ذلك الجزء أو الشرط أو إيجاد ذلك المانع سهوا ، لرجوع الأوّل إلى كفاية الامتثال الاحتمالي لمثل هذا الشخص - أي كثير الشكّ - والثاني إلى كفاية الإتيان بما أتى مع العلم بعدم الإتيان بالمأمور به بتمامه.

إن قلت : أيّ إشكال في هذا ، أليس مفاد « لا تعاد » هو هذا في سهو غير الأركان

ص: 350


1- « الشرائع » ج 1 ، ص 118.

ونسيانها ، فإنّ مفاد صحيحة « لا تعاد » هو صحّة الصلاة مع القطع بعدم الإتيان بتمام الأجزاء والشرائط ومع القطع بإيجاد الموانع ، ولكن كلّ ذلك في غير الأركان ، لدلالة عقد المستثنى على ذلك.

قلنا : إنّ صحيحة « لا تعاد » كما تقول توسعة في مقام الامتثال ، بمعنى أنّ ما وقع فيه الخلل - من عدم جزء أو شرط أو وجود مانع - يقبل بدل التامّ ، أو مفادها نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال السهو والنسيان ، ولكن كلّ ذلك في غير الأركان كما هو مفاد عقد المستثنى. ولكن في موضوع كثير الشكّ لو قلنا بأنّ المراد من السهو خصوص معناه الحقيقي - وهو النسيان أو المراد أعمّ منه ومن الشكّ - فيشمل الأركان وغيرها لا استثناء هاهنا ، والالتزام بهذا للفقيه ممّا لا يمكن.

ان قلت : تقع المعارضة بين قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » وبين عقد المستثنى في صحيحة « لا تعاد » حيث أنّ عقد المستثنى في تلك الصحيحة أخصّ من هذه الروايات ، فتخصّص هذه الروايات به ، فيصير مفادها مفاد صحيحة « لا تعاد » بعينه ، فلا يبقى إشكال ، لأنّ الصحيحة معمول بها عند كلّ الفقهاء.

قلنا : مرجع هذا الكلام إلى إلقاء خصوصيّة كثير الشكّ ، لأنّ مفاد الصحيحة حكم مشترك بين كثير الشكّ وغيره ، وهذا لا يلائم مع ظاهر هذه الأخبار مع هذا التعليل الوارد فيها لعدم الاعتناء بالسهو ، وهو أنّه لا تعودوا الخبيث ، أي الشيطان وهو يريد أن يطاع ، فإذا عصى لا يعود ، وأمثال هذه العبارات ، والإنصاف : أنّ الالتزام بأنّ السهو في هذه الأخبار هو خصوص النسيان ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ ممّا هو مردود عند الذوق الفقهي.

وأمّا احتمال أن يكون المراد من نفي السهو في هذه الأخبار هو نفي الأثر الشرعي الذي جعله الشارع لنفس السهو أعني سجدتي السهو - حتّى يرجع معنى قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو فليس عليك سجدتا السهو » وجوب سجدتي السهو على غير

ص: 351

كثير السهو ، لا أن يكون المراد من نفي السهو هو عدم الاعتناء باحتمال عدم السهو أو باليقين بعدمه.

فيدفعه أنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر هذه الأخبار ، لأنّ قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » ظاهره أنّ كثرة السهو علّة لعدم الاعتناء بعدم وجود المسهو ، وأنّه يجب عليه المضي ، لا أنّ حكم نفس السهو والأثر المترتّب عليه ساقط عنه ، وهذا واضح جدا.

الثاني : الظاهر أنّ المراد من المضيّ في صلاته - بعد أن التفت إلى أنّه كثير الشكّ - عدم الاعتناء بالخلل الوارد على صلاته من ناحية هذا الشكّ ، سواء كان احتمال الخلل من جهة احتمال عدم وجود ما يكون عدمه مضرّا كالجزء والشرط ، أو احتمال وجود ما يكون وجوده مضرّا كالمانع ، فإنّ هذا المعنى هو المناسب للتعليل بالنهي عن تعويد الشيطان.

وحاصل معنى هذه الروايات أنّ كثير الشكّ يجب عليه أن لا يعتني باحتمال الخلل مطلقا ، سواء كان ترك ركن أو الأجزاء والشرائط غير الركنيّة ، أو كان احتمال الخلل لاحتمال وجود مانع حتّى يصير الشيطان مأيوسا ، ويرى أنّ وسوسته لغو لا أثر له فلا يعود ، وإلاّ لو رأى أنّ الشاكّ يرتّب الأثر على شكّه واحتماله - أي إذا كان احتمال عدم وجود جزء أو شرط ولم يتجاوز المحلّ يأتي به ، وإذا كان بعد تجاوز المحلّ ، أو كان شكّه واحتماله احتمال وجود المانع يعيد الصلاة - فيطمع عدو اللّه فيه ويصرّ على الوسوسة كي يوقعه في التعب الكثير حتّى ينتهي بالآخرة إلى ترك الصلاة ، أو الاستخفاف بها لعجزه عن العمل بكلّ ما يحتمل.

الثالث : أنّ هذا الحكم تعييني لا تخييري ، كما نسب إلى المقدّس الأردبيلي (1) ،

ص: 352


1- « مجمع الفائدة والبرهان » ج 3 ، ص 142.

والشهيد (1) ، والمحقّق الثاني (2) - قدّس أسرارهم - لكمال منافرة التعليل لوجوب المضيّ - بأنّه من باب إرغام أنف الشيطان كي لا يعود إلى وسوسته وإيقاعه في الشكّ - مع التخيير فإنّ مناسبة الوجوب التعييني مع هذا التعليل في كمال الوضوح ، مضافا إلى أنّ ظاهر الوجوب المستفاد من قوله : « يمضي في صلاته » هو الوجوب التعييني ، لأنّه مقتضى إطلاق الوجوب.

وقد تقدّم منشأ قول هؤلاء الأكابر بالتخيير والجواب عنه فلا نعيد. والإنصاف أنّ ذهاب هؤلاء الأعاظم إلى التخيير عجيب.

الرابع : أنّ هذا الحكم - أي عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه - هل مختصّ بالصلاة أم يجري في سائر العبادات أيضا؟ وعلى تقدير اختصاصه بالصلاة هل يجري في مقدّماتها الخارجيّة أم يختصّ بنفس الصلاة؟

ربما يقال بعدم اختصاصه بنفس الصلاة ، بل يجري في مقدّماتها الخارجيّة كالوضوء والغسل والتيمم ، بل يجري في سائر العبادات المركبة كالحجّ وأمثاله لوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : لدليل نفي العسر والحرج الثابت بالكتاب والسنّة ، إذ ترتيب كثير الشكّ أثر الشكّ على شكّه والاعتناء به حرج شديد عليه ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها من العبادات خصوصا في مثل الحجّ ، مثلا لو شكّ في رمي الجمرات أو في السعي أو في الطواف وكان كثير الشكّ ، فترتيب أثر الشكّ وتكرار هذه الأفعال ثانيا وثالثا ورابعا مثلا في غاية الصعوبة ، وخصوصا إذا كان شكّه ممّا يوجب إعادة العمل في السنة المقبلة مع بعد بلد الشاكّ ، فهو يقينا من الحرج المنفي في الشريعة.

وفيه : أنّ الحرج ليس مختصّا بكثير الشكّ ، بل يمكن أن يتحقّق في غير كثير الشكّ أيضا ، وعلى كلّ الحرج الشخصي الرافع للحكم الإلزامي إذا وجد وتحقّق يرفع الحكم ،

ص: 353


1- « ذكري الشيعة » ص 223.
2- « وسائل المحقق الكركي » ج 2 ، ص 142.

سواء كان كثير الشكّ أو قليله ، وسواء كان في الصلاة أو في غيرها من العبادات ، وسواء كان في أجزاء الصلاة أو في مقدّماتها الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الحرج النوعي الذي هو حكمة التشريع للتسهيل على المكلفين - كما هو كذلك في جعل وجوب الإفطار ، والتقصير على المسافر ، والطهارة الترابيّة على فاقد الماء وأمثال ذلك - فلا يطّرد اطّراد علّة الحكم بحيث يستدلّ بوجوده لثبوت الحكم في موضوع آخر ، بل يكون من قبيل القياس المنهي عنه في الدين ، وأنّه يوجب محقة.

ففي هذا القسم ، أي فيما هو من قبيل حكمة التشريع لا بدّ من إتيان الدليل على الحكم ، وأنّ حكمته التسهيل وعدم لزوم الحرج ، وهذا هو الفرق بين أن يكون الحرج علّة للحكم أو يكون من قبيل حكمة التشريع.

ففي القسم الأوّل : يكون هو مناط الحكم أين ما وجد ، ويكون من قبيل منصوص العلّة أو تنقيح المناط القطعي.

وفي القسم الثاني : إسراء الحكم إلى موضوع آخر لأجل وجود ذلك الحرج النوعي من قبيل القياس المردود غير المقبول.

ولا شكّ أنّ ما نحن فيه من القسم الثاني ، فلا يصحّ إثبات الحكم بالحرج النوعي في غير الصلاة من سائر العبادات.

الوجه الثاني : هو التعليل الذي في صحيحة زرارة وأبي بصير بعدم الاعتناء بالشكّ بقوله علیه السلام : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه » (1) إلى آخر ما قال علیه السلام لعدم اختصاص هذه العلّة بالصلاة ، بل تجري في جميع العبادات المركّبة بل في المعاملات أيضا.

ويؤيّد ما ذكرنا من عموم التعليل ، وعدم اختصاصه بالصلاة وأجزائها ومقدّماتها

ص: 354


1- سبق تخريجه في ص 346 ، رقم (1).

الداخلية - صحيح ابن سنان عن الصادق علیه السلام قال : قلت له : رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟ » فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال علیه السلام : « سله هذا الذي يأتيه من أيّ شي ء هو؟ فإنّه يقول لك : من عمل الشيطان » (1).

والظاهر أنّ قول القائل « رجل مبتلى بالوضوء » أي كثير الشكّ وشبيه بالوسواسي ، فقول الإمام علیه السلام : « إنّه يطيع الشيطان » تعليل لعدم عقله بالاعتناء بشكّه وسمّاه بإطاعة الشيطان ، فهو علیه السلام يشنع عليه الاعتناء بشكّه وترتيب الأثر عليه ، فيستفاد لزوم عدم الاعتناء بشكّه ، مع أنّه في الوضوء وهو من مقدّمات الخارجيّة للصلاة لا نفس الصلاة ، فالحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ليس مختصّا بالصلاة وأجزائها ومقدّماتها الداخليّة.

وفيه : أيضا أنّ هذا التعليل من قبيل حكمة التشريع ، فلا يكون مطّردا اطرّاد العلّة.

[ الوجه ] الثالث : الإجماع على جريان حكم كثير الشكّ أي عدم الاعتناء بشكّه في الوضوء.

وفيه : أوّلا : عدم تسليم اتّفاق الكلّ. وثانيا : لو كان فليس هو الإجماع المصطلح الذي قلنا بحجيته في الأصول ، لأنّ المظنون استناد المتفقين إلى الوجوه المذكورة فلا أثر لهذا الاتّفاق ، ولا بدّ من الرجوع إلى نفس المدارك ، وقد عرفت حالها فلا نعيد.

فظهر أنّ جريان هذه القاعدة في غير الصلاة في غاية الإشكال ، لورود الروايات في مورد الصلاة فقوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » لا يشمل غير الصلاة وأجزاء وشرائطها الداخليّة ، كالقبلة والستر والطمأنينة وأمثال ذلك.

وأمّا المقدّمات الخارجيّة كالطهارات الثلاث ، فشمول القاعدة لها - مع أنّ موارد

ص: 355


1- « الكافي » ج 1 ، ص 12 ، كتاب العقل والجهل ، ح 10 ، « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 46 ، أبواب مقدمة العبادات ، باب 10 ، ح 9.

الروايات هو عدم الاعتناء بالشكّ والمضي في الصلاة - لا يخلو عن إشكال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاعتناء بالشكّ فيها - إذا حصل الشكّ في أثناء الصلاة - عدم المضي في الصلاة والشارع أمر بالمضي فيها ، فالمقدّمات الخارجيّة حيث أنّ الشكّ فيها ينتهي إلى الشك في إتيان الصلاة جامعة للأجزاء والشرائط ، فأمره علیه السلام بالمضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشكّ يشملها من هذه الجهة.

ثمَّ إنّه لا فرق في الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، وفي شمول هذه القاعدة بين أن يكون شكّه في عدد الركعات أو الأفعال وتشمل الجميع ، وذلك لأنّ قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » مطلق يشمل بإطلاقه الشكّ في الأفعال وفي عدد الركعات.

هذا ، مضافا إلى أنّ موثّق عمّار نصّ في الأفعال ، لقوله علیه السلام في جواب لا يدري أركع أم لا؟ وهكذا في جواب لا يدري أسجد أم لا : « لا يركع ولا يسجد ويمضي في صلاته ».

وصحيحة زرارة وأبي بصير ظاهرة في عدد الركعات ، لأنّ قوله علیه السلام « يمضي في شكّه » في جواب ما سئلا عنه علیه السلام وهو أنّه يشكّ كثيرا الظاهر أنّه في عدد الركعات كلّما أعاد الشكّ ، فالدليل - في جريان القاعدة في كلا الموردين - موجود ولا يحتاج إلى التمسّك بالإطلاق.

الخامس : في أنّه لو كان كثير الشكّ في بعض أفعال الصلاة ، مثلا كان كثير الشكّ في خصوص الركوع أو السجود أو تكبيرة الإحرام ، فهل إذا شكّ في جزء آخر غير الجزء الذي هو كثير الشكّ فيه ، أو غير كثير الشكّ في ذلك الشرط يجري فيه حكم كثير الشك - أي عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وقوعه ، إذا كان المشكوك من الأجزاء والشرائط ، والبناء على عدمه إذا كان من الموانع - أم لا يلحقه حكم كثير الشكّ؟ وكذلك لو كان كثير الشكّ في خصوص عدد الركعات دون الأجزاء والشرائط

ص: 356

والموانع ، أو كان بالعكس كثير الشكّ في الأجزاء والشرائط والموانع دون عدد الركعات فهل يسري حكم كثير الشكّ ممّا هو فيه كثير الشكّ إلى ما ليس فيه كذلك ، فلو كان كثير الشكّ في الأجزاء دون عدد الركعات ، فهل يسري هذا الحكم إلى عدد الركعات أو بالعكس ، أم لا يسري فيه؟

وجهان ، بل قولان :

والأوجه هو عدم السراية ممّا هو كثير الشكّ فيه إلى غيره ممّا ليس فيه كثير الشكّ ، فلو كان كثير الشكّ في خصوص تكبيرة الإحرام ولم يدخل بعد في القراءة أي يكون الشكّ في المحلّ ، فبحكم هذه القاعدة يبني على وقوع تكبيرة الإحرام وإيجاده ، فلو شكّ بعد ذلك قبل أن يركع في أنّه هل قرأ السورة أم لا؟ ولكنه شكّ بدوي غير مسبوق بالشكّ فيه أصلا ، فلا تجري القاعدة في السورة ، بل يجب عليه أن يأتي بها ، لأنّ عمدة ما يمكن أن يتمسّك به للسراية ، صحيح ابن سنان عن الصادق علیه السلام قال : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » (1) ، فإنّه مطلق لم يذكر فيه متعلّقا لكثرة السهو ، بل رتّب حكم المضي في صلاة على كون المصلّي كثير السهو ، فيمكن أن يستفاد منها عدم الاعتناء بشكّه في أيّ جزء من أجزاء الصلاة بمحض كون المصلّي من مصاديق مفهوم كثير الشكّ ، فإذا صحّ أن يقال : إنّ هذا المصلّي كثير الشكّ فلا عبرة بشكّه في أي جزء أو شرط وقع الشك فيه ، بل ولا فرق بين أن يكون شكّه في عدد الركعات أو في أفعال الصلاة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الاستفادة خلاف ظاهر الرواية ، لأنّه ليس المراد من قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو » أنّ كثرة السهو في أيّ شي ء كان ، سواء أكان ممّا هو متعلّق بالصلاة كالأفعال وعدد الركعات ، أو كان متعلّقا بشي ء آخر ممّا هو أجنبي عن الصلاة فامض في صلاتك ، يقينا وخصوصا مع ذلك التعليل المذكور في سائر الروايات

ص: 357


1- تقدّم تخريجه في ص 346 ، رقم (3).

من النهي عن تعويد الشيطان ، فلا بدّ وأن يكون المراد أنّه إذا كثر عليك السهو في شي ء من صلاتك فامض في صلاتك ولا تعتن بشكك في ذلك الشي ء.

فالظاهر من هذه العبارة حسب المتفاهم العرفي أنّ متعلّق الشكّ الذي حكم الشارع بإلقائه وعدم الاعتناء به مع متعلّق الشكّ الذي في « كثر عليك الوهم » شي ء واحد ، فيكون ظاهر صحيح ابن سنان كظاهر سائر الروايات إذا كثر شكّك في شي ء من صلاتك سواء كان هو من الأفعال أو كان عدد الركعات فلا تعتني بذلك الشي ء.

ويؤيّد هذا الاستظهار تعليل هذا الحكم بعدم تعويد الشيطان على العود إلى الوسوسة ، وإرغام أنفه بعصيانه وعدم اطاعته.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يسري الحكم ممّا هو كثير الشكّ فيه إلى غيره ، سواء كان ذلك الغير هو أحد الأفعال من الأجزاء والشرائط أو عدد الركعات.

السادس : في أنّه ما المراد من كثير الشكّ وكثير السهو؟

أقول : لا شكّ في أنّ الألفاظ المستعملة في كلام الشارع تحمل على المعاني العرفيّة ، إلاّ أن يرد تصرّف من قبل الشارع من نقل أو تحديد ، أمّا النقل فكالصلاة والصوم والحجّ وأمثالها ، وأمّا التحديد فكالإقامة والسفر فإنّ الشارع أو المتشرّعة نقلوا ألفاظ القسم الأوّل من المعاني العرفيّة إلى ماهيّات مخترعة شرعيّة تعيينا أو تعيّنا ، وفي القسم الثاني حدّد السفر بثمانية فراسخ والإقامة بعشرة أيّام.

وأمّا لو لم يكن نقل ولا تحديد في البين فلا بدّ وأن يحمل على ما هو معناه عرفا ، وهذا واضح جدّا.

ومن جملة تلك الألفاظ والجمل التي جعلت موضوعا للحكم الشرعي في لسان الشارع كلمة « كثير الشك » أو « كثير الوهم » وقد تقدّم أنّهما بمعنى واحد في هذا المقام ، فلو لم يكن تصرّف من قبل الشارع لا بدّ من الرجوع إلى العرف في فهم المراد منه وما هو معناه.

ص: 358

وعند العرف يحتمل أن يكون من حالات النفس وخلقا لها ، لا صرف كثرة وجود الشكّ ، فحينئذ تعيينه بثلاث مرّات في صلاة واحدة ، أو في ثلاث صلوات متواليات لا أساس له ، بل لا بدّ من وجود تلك الحالة والخلق في النفس ، سواء أكان حصولها بنفس ذلك العدد المذكور ، أو بأقلّ أو بأكثر منه. وطريق تشخيصه هو حكم العرف من الآثار كالوسواسي والقطّاع.

وأمّا إن كان عبارة عن كثرة وجود الشكّ والسهو بدون أن يكون من حالات النفس ، فلا بدّ من مراجعة العرف في حدّ الكثرة.

هذا كلّه إذا لم يكن تحديد من قبل الشرع ، وإلاّ فيجب الرجوع إلى ذلك الدليل الذي يحدّد موضوع حكمه ، لأنّ تعيين موضوع حكمه بيده ونظره لا بنظر العرف.

وما يمكن أن يكون تحديدا من قبل الشارع هو ما رواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن أبي عمير ، عن محمّد بن أبي حمزة عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن يكثر عليه السهو » (1).

والاحتمالات في هذه الرواية أربعة :

أحدها : أن يكون ما أضاف إليه لفظة « كلّ » هو لفظة الصلاة مقدّرة ، فيكون المعنى والتقدير أنّه : إذا كان الرجل يسهو في كلّ صلاة ثلاث ، فلو شكّ في كلّ صلاة مرّتين لا يكون كثير الشكّ ، بل لو شكّ في أغلب الصلوات ثلاث ولكن في بعضها القليل لم يشكّ أصلا ، أو كان شكّه أقلّ من ثلاث لا يكون كثير الشكّ.

وهذا الوجه مستبعد جدّا ، ولم يقل به أحد.

ثانيها : أن يكون المحذوف أو المقدّر هو الذي أضاف إليه لفظة « ثلاث » ، لا لفظة « كلّ » كي يكون التقدير هكذا : إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث صلوات ، أي يسهو

ص: 359


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 990 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 7.

في الثالث والسادس والتاسع وهكذا فهو كثير الوهم. وهذا هو حدّ الأقلّ ، فلو كان يسهو في كلّ اثنين منها فيكون كثير الشكّ بطريق أولى. ولا شكّ أنّ كلّ ثلاث بناء على هذا المعنى من قبيل العامّ الاستغراقي أو الأصولي ، أي الحكم بكونه كثير الشكّ موضوعه هو أن يشكّ في كلّ ثلاث من صلواته ، فلو شكّ في إحدى الصلوات الثلاث الأولى مثلا - أي في الصلاة الأولى أو الثانية أو الثالثة - فهو كثير الشكّ ولم يشكّ بعد ذلك في الرابعة والخامسة والسادسة ، فيخرج عن كونه كثير الشكّ. وبعد ذلك لو شكّ في أحد الثلاث الآتية يدخل في كثير الشكّ ، وهكذا على هذا النسق خروجا ودخولا.

ثالثها : أن يكون المراد من كلّ أحد ثلاث من الصلوات الخمس ، وذلك بتقدير لفظة « الأحد » المضاف إلى ثلاث ، وبتقدير من الصلوات الخمس اليومية بعد لفظة « ثلاث » كي يكون كلمة « من الصلوات الخمس » متعلّقا بثلاث ، فتكون النتيجة أنّه لو شكّ في إحدى صلوات الثلاث من الخمسة اليوميّة ، أي إمّا في الصبح ، أو في الظهر ، أو في العصر.

هذا إذا جعلنا المبدأ صبحا ، وأمّا إذا جعلنا المبدأ ظهرا فيشكّ إمّا في الظهر ، أو العصر ، أو المغرب. وإن جعلنا المبدأ عصرا فيشك إمّا في العصر ، أو في المغرب ، أو في العشاء.

رابعها : أن يكون المراد أن يشكّ في كلّ ثلاث من الخمسة في كلّ يوم ولو كان الثلاث غير متواليات ، فلو شكّ مثلا في الصبح والعصر والعشاء يكون كثير الشك ، أمّا لو شكّ في الاثنتين منها ولو كانتا متواليتين كالظهر والعصر ، أو العصر والمغرب ، أو المغرب والعشاء فليس بكثير الشكّ. فالمدار في كونه كثير الشكّ بناء على هذا هو أن يشكّ كلّ يوم وليلة في أكثر الفرائض اليوميّة ، سواء كانت الصلوات التي وقع فيها الشكّ متواليات أو منفصلات ، وأوّل مراتب الأكثر في الخمسة هي ثلاث صلوات منها.

ص: 360

والفرق بين هذا المعنى والمعنى الثاني هو أوّلا : أنّ المراد من الثلاث صلوات في الثاني المتواليات ، وهاهنا أعمّ من أن يكون متواليات أو منفصلات.

وثانيا : أنّ المراد من الثلاث ثلاث من جميع الصلوات ، سواء كانت من يوم واحد كالصبح والظهر والعصر من يوم واحد ، أو كانت من يومين كالعشاء من هذا اليوم مع الصبح والظهر من غده ، غاية الأمر متواليات ، وهاهنا الثلاث من الخمسة في يوم واحد وإن لم يكن متواليات كما شرحنا وذكرنا.

والإنصاف أنّ الرواية لا تخلو من هذه الجهة - أي من جهة تعدّد الاحتمالات - من إجمال ، مضافا إلى أنّه من المحتمل قريبا أن لا يكون قوله علیه السلام « إذا كان الرجل يسهو في كلّ ثلاث فهو ممّن كثر عليه السهو » في مقام تحديد مفهوم كثير السهو ، بل بصدد بيان بعض مصاديقه العرفيّة.

فإذا لم يكن تحديد من قبل الشارع لأحد الوجهين المذكورين - أي لإجمال الرواية ، أو من جهة كونه علیه السلام بصدد بيان أحد مصاديقه العرفيّة - فلا بدّ من الرجوع إلى فهم العرف من هذه الجملة ، أي جملة « كثر عليك السهو ».

ولا يبعد أن يكون المراد منها حسب المتفاهم العرفي هو كون الشخص له حالة وخلق يوجب شكّه كثيرا ، فكما أنّ الوسواسي هو كونه ذا حالة توجب الوسوسة ، فكذلك كونه كثير الوهم وشكّاكا. بل يمكن أن تكون كثرة الشكّ مرتبة نازلة من الوسوسة وإذا كان هذا معنى كونه كثير الشكّ فلو عرض له حالة فجائيّة أوجب كثرة الشك لاغتشاش حواسّه لمصيبة ، أو لسرور زائد ، أو لاشتغال فكره بأمر مهمّ فلا يكون من كثير الشكّ لأنّه ليس خلقا له ، بل عارض يرتفع بسرعة.

والحاصل : أنّك عرفت الاحتمالات وهي أربعة في الرواية.

وأمّا احتمال الخامس : بأن يكون المراد وقوع الشكّ في كلّ صلاة ثلاث مرّات فلا تساعده قواعد النحو ، إذ مقتضاها أن يكتب ثلاثا بالألف كي يكون منصوبا وتمييزا ،

ص: 361

ومعلوم أنّه لو كان ثلاثا بالألف كان هذا الاحتمال أظهر الاحتمالات وإن لم يكن على طبقه قول في الفقه ، لأنّ معنى هذه الجملة بناء على هذا الاحتمال هو أن يسهو في كلّ صلاة ثلاث مرّات بنحو العامّ الاستغراقي.

ومثل هذا المعنى إمّا لا يوجد أصلا أو نادر الوجود ، إذ معناه أن يشكّ طول عمره في كلّ صلاة من الصلوات التي يأتي بها ثلاث مرّات ، لأنّ هذا هو المعنى الذي يستفاد من العامّ الاستغراقي. وما ذكرنا هو احتمالات الرواية.

وأمّا الأقوال في الفقه أيضا كالاحتمالات أربعة :

الأوّل : قول المشهور ، وهو إيكاله إلى العرف. وهو الصحيح عندنا ، لما ذكرنا من إجمال الرواية ، أو لكونها بصدد بيان بعض مصاديقها الشائعة والأكثر وجودا.

الثاني : عروض الشكّ عليه ثلاث مرّات متواليات ، سواء أكان في صلاة واحدة ، أو كان في ثلاث صلوات متواليات.

الثالث : تعيّن هذه الثلاثة في صلاة واحدة.

الرابع : أن يسهو في كلّ ثلاث صلوات مرّة واحدة بنحو العامّ الأصولي. وهذا القول هو مختار شيخنا الأستاذ قدس سره وقد حمل الرواية على هذا المعنى ، وجعله أظهر الاحتمالات فيها.

ثمَّ إنّه بناء على المختار من كونه عبارة عن حالة وخلق نفساني يوجب كثرة وقوع الشكّ ، فلو حصل الشكّ في وجود مثل هذه الحالة في نفسه ، فيجري استصحاب عدم وجودها ، لأنّ هذه الحالة ليست من ذاتيّات الإنسان ، ولا من عوارضه اللازمة غير المفارقة كي لا يكون لعدمها النعتي حالة سابقة. وعدمها المحمولي وإن كان له حالة سابقة ولكن لا أثر له ، لأنّ الأثر - أي إلقاء حكم الشكّ وهو البناء على الأكثر إذا كان الشكّ في عدد الركعات ، ولزوم الإتيان بالمشكوك إذا كان الشكّ في الأفعال وقبل تجاوز المحلّ - مترتّب على وجودها النعتي لا الوجود المحمولي ، فعدمها النعتي له الأثر ،

ص: 362

أي ثبوت هذين الحكمين كلّ في محلّه.

والحاصل : حيث أنّ هذه الحالة من العوارض المفارقة فلا مانع من استصحاب عدمها ، فيكون حالها حال سائر الحالات والملكات كالعدالة والاجتهاد يستصحب عدمها عند الشكّ في وجودها.

وأمّا لو كان عبارة عن كثرة وجود الشكّ وكان منشأ الشكّ هي الأمور الخارجيّة فأيضا يجري استصحاب عدم ذلك المقدار.

وأمّا إن كان منشأ الشكّ هو ترديد المفهوم بين الأقلّ والأكثر فلا يجري الاستصحاب ، لعدم الحالة السابقة لذلك المفهوم المردّد ، وعلى تقدير وجود الحالة السابقة لا يثبت أنّه الأقلّ أو الأكثر ، فلا بدّ من الرجوع إلى العامّ ، لأنّ المخصّص المنفصل المجمل مفهوما لا يمنع ولا يضرّ بالتمسّك بعموم العامّ.

والمسألة محرّرة مشروحة في الأصول وقد حقّقنا وأوضحناها في كتابنا « منتهى الأصول » (1) وإن شئت فراجع ، والعموم هنا في الشكّ في عدد الركعات هو البناء على الأكثر ، وفي الشكّ في الأفعال هو لزوم الإتيان بالمشكوك إذا كان الشكّ قبل تجاوز المحلّ.

السابع : في أنّ كثير الشكّ لو شكّ بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، فلو لم يكن كثير الشكّ فالحكم هو البناء على الأربع والإتيان بسجدتي السهو ، وأمّا أنّه حيث يكون كثير الشكّ فيبني على الأربع بدون أن يأتي بسجدتي السهو. فإنّ هذا معنى المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ ، وكذلك الحكم لو كان شكّه بين الأربع والخمس قبل إكمال السجدتين لعين الدليل.

وأمّا لو عرض له هذا الشكّ في حال القيام ، فلو لم يكن كثير الشكّ كانت وظيفته هدم القيام حتّى يرجع الشكّ إلى الثلاث والأربع ، فيبني على الأربع فيأتي بصلاة

ص: 363


1- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 449 - 457.

الاحتياط. وأمّا لو كان كثير الشكّ - كما هو المفروض - فهل يجب عليه أن يبني على الأربع ويتمّ وليس عليه صلاة الاحتياط؟ كما هو مقتضى عدم الاعتناء بشكّه بحكم هذه الأخبار ، فإنّ مفادها كما ذكرنا عدم الاعتناء باحتمال العدم إذا كان العدم مضرّا ومفسدا ، وباحتمال الوجود أنّ كان الوجود مفسدا ومضرّا. والمقام من الأخير ، لأنّ وجود الخامسة مضرّ ، فإذا احتمل وجودها يبني على العدم ، أو لا بل يجب عليه أن يهدم القيام حتّى يرجع شكّه إلى الشكّ بين الثلاث والأربع.

حكى عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره الثاني ، ولكنّ الأوّل هو الصحيح ، وذلك لما سنذكر من حكومة دليل عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ على أدلّة البناء على الأكثر إذا كان الشكّ في عدد الركعات ، فإذا شكّ في الركعات بين الأربع والخمس فلا يأتي دليل البناء على الأكثر ، لأنّ دليل البناء على الأكثر إنّما ورد لتصحيح الصلاة لا لإفسادها ، ولذلك لا تشمل هذا الشكّ ، فالحكم بصحّة الصلاة والبناء على الأربع لدليل خاصّ إذا كان بعد إكمال السجدتين.

وأمّا إذا كان في حال القيام فليس دليل خاصّ في البين ، فمقتضى القاعدة ابتداء هو الفساد بالنظر البدوي ، وذلك لعدم شمول دليل البناء على الأكثر له لما ذكرنا ، ولا دليل على عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ لعدم حكم له كي يكون حاكما عليه ، وليس دليل خاصّ في البين ، كما هو المفروض.

هذا ، ولكنّ عند التأمّل هذا الشكّ مستلزم لشكّ آخر ، وهو أنّ الركعة السابقة مردّدة بين الثلاث والأربع ، وله حكم وهو البناء على الأربع ، وحيث أنّه كثير الشكّ ويجب عليه عدم الاعتناء بشكّه ، أي يلغي احتمال كونها رابعة والبناء على كونها ثالثة ، فإذا بني على كونها ثالثة فيكون ما بيده - المحتمل كونها خامسة وجدانا - حسب الحكم الشرعي هي الرابعة ، فيتمّها من دون وجوب هدم القيام ، بل لا يجوز ذلك ، لحكم الشارع بأنّها رابعة ، فيتمّها ولا شي ء عليه حتّى سجدة السهو ، لأنّها منصوصة في مورد خاصّ.

ص: 364

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حكم الشارع بالمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في نفس المورد الذي وقع الشكّ لا ما يلازم هذا الشكّ ، ففي نفس المورد لا بدّ وأن يكون للشكّ حكم حتّى يرفعه دليل عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ ووجوب المضي في الصلاة. وهاهنا ليس في نفس المورد حكم في البين كي يكون دليل وجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه حاكما عليه.

فلا بدّ من هدم القيام حتّى يرجع الشكّ إلى الشكّ بين الثلاث والأربع ، فيبني على الأربع ويتمّ الصلاة وليس عليه صلاة الاحتياط ، لأنّ الشارع ألغى احتمال عدم وجود الرابعة ، لأنّه كثير الشكّ.

وفيه : أنّ وجود الشكّ بين الثلاث والأربع في الركعة السابقة على ما بيده وجداني وتكويني ، وحكم ذلك الشكّ مع قطع النظر عن دليل عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه هو أنّ السابقة رابعة ، وهذه التي بيده خامسة فيجب هدمها.

ولكن حيث أنّ المفروض أنّه كثير الشكّ فلا يأتي هذا الحكم - أي كون هذه التي بيده خامسة - في المقام ، بل يجب عليه المضي في صلاته وإلغاء احتمال الخامسة ، لما ذكرنا أنّ مفاد أدلّة عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه والمضي في صلاته هو عدم الاعتناء باحتمال العدم فيما يكون عدمه مضرّا ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود فيما يكون وجوده مضرّا.

وإن شئت قلت : بأنّ مفاد أخبار الباب هو الحكم بالصرفة وإرغام أنف الشيطان ، ولا شكّ في أنّ الصرفة في المقام تقتضي عدم الاعتناء باحتمال وجود الخامسة ، فلا يجوز الهدم بل يجب البناء على الأربع وإتمام الصلاة بدون أن يكون عليه شي ء من صلاة الاحتياط أو غيرها ، فلا يبقى وجه لما حكى عن الشيخ الأعظم قدس سرّه من وجوب هدم ما بيده.

الثامن : في أنّه هل يلحق كثير الظنّ بكثير الشكّ في هذا الحكم أم لا؟ بعد الفراغ

ص: 365

عن عدم إلحاق كثير القطع به يقينا ، بل عدم إمكانه ، لعدم إمكان سلب الحجّية عن القطع ولو كان قطّاعا ، أي كثيرا ما يحصل له القطع من أسباب لا توجب القطع عند أهل العرف والمتعارف من الناس ، بخلاف الظنّ فإنّه يمكن تقييد حجّيته بما إذا كان حاصلا من أسباب متعارفة عند أغلب الناس.

فالدليل الذي يدلّ على حجّية الظنّ في عدد الركعات أو في أفعال الصلاة وإن قلنا بأنّه يمكن أن يقيد بالظنّ المتعارف لا مطلق الظنّ ، ولكن صرف الإمكان لا يثبت كونه - أي كثير الظنّ - مثل كثير الشكّ وأن لا يعتني بظنّه ، مثلا لو كان كثير الظنّ وظنّ بعدم الركوع مع عدم التجاوز عن المحلّ فيحكم بعدم اعتبار هذا الظنّ ويقال بوجود الركوع وصحّة الصلاة ، بل يحتاج اتّحاد كثير الظنّ مع كثير الشكّ في هذا الحكم - أي عدم الاعتناء باحتمال العدم إذا كان العدم مضرّا بالصحّة ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود إذا كان الوجود مضرّا بالصحّة - إلى دليل على ذلك. والأخبار المتقدّمة - التي كانت دالّة على عدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ - لا تدلّ على ذلك ، لخروج كثير الظنّ عن موضوع كثير الشكّ.

هذا إذا كان الظنّ حجّة ، وأمّا إذا لم يكن حجّة فهو في حكم الشكّ بل هو هو ، لأنّه ليس المراد من الشكّ تساوي الاحتمالين كي لا يشمل الظنّ ، فإنّه معنى اصطلاحي عند المنطقيين والأصوليين ، وإلاّ ففي العرف الشكّ خلاف اليقين فيشمل الظنّ والوهم.

فبناء على هذا لو قلنا بعدم حجّية الظنّ في أفعال الصلاة ، فلو ظنّ بعدم القراءة مثلا وكان في المحلّ أي كان قبل الدخول في قراءة السورة ظنّ بعدم قراءة فاتحة الكتاب ، أو ظنّ بعدم قراءة السورة قبل الدخول في الركوع ، فلو لم يكن كثير الظنّ فمقتضى الشكّ في المحلّ أن يأتي بالمشكوك ، وأمّا لو كان كثير الظنّ والمفروض عدم حجّية الظن في الأفعال فيجب المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالظنّ بالعدم ، لشمول قوله علیه السلام : « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك ».

ص: 366

نعم ، إذا قلنا بحجّية الظنّ في أفعال الصلاة - كحجّيته في عدد الركعات - قامت الحجّة على العدم في المثل المذكور ، فكيف يمكن أن يقال بعدم الاعتناء بمثل هذه الحجّة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دليل وجوب المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشكّ في مورد كثير الشكّ حاكم على دليل اعتبار الظنّ في أفعال الصلاة ، أي يخرج كثير الظنّ عن تحت دليل اعتبار الظنّ وحجّيته تعبّدا ، فكأنّه قيد دليل اعتبار الظنّ بعدم كونه من كثير الظنّ.

وننكر ما اعتذرنا سابقا لعدم الحكومة بخروج كثير الظنّ عن موضوع كثير الشكّ ، وهذا الإنكار في محلّه وصحيح ، لما قلنا من أنّ الشكّ لغة وعرفا يشمل الظنّ والوهم ، لأنّه خلاف اليقين.

التاسع : في أنّه لو كان كثير الشكّ في أصل وجود الصلاة - بمعنى أنّه كثيرا يشكّ مثلا في أنّه صلى صلاة الظهر أم لا ، وهكذا في سائر الصلوات - فهل تجري هذه القاعدة ، أي يحكم بوجود تلك الصلاة أم لا؟

الظاهر عدم الجريان ، لأنّ قوله علیه السلام « إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك » أنّ كثرة الشكّ تكون في صلاته ، لا في أصل وجود الصلاة. وهذا بقرينة الحكم المترتّب على هذا الموضوع ، لأنّ الحكم قد يضيّق الموضوع مع سعته في حدّ نفسه ، مثل « لا تمش مع أحد » فإنّ لفظ « أحد » بحسب مفهومه اللغوي والعرفي يشمل الأحياء والأموات ، ولكن بقرينة الحكم - أي لا تمش - يختصّ في المثل المذكور بالأحياء. وهاهنا جملة « إذا كثر عليك السهو » حيث لم يذكر فيها متعلّق السهو ففيه إطلاق يشمل السهو في أفعال الصلاة وعدد ركعاتها وأصل وجود الصلاة ، ولكن حكمه علیه السلام بقوله : « فامض في صلاتك » يخصّصه بأفعال الصلاة وركعاتها ، لأنّه إذا شكّ في أصل الصلاة فلا يبقى مورد لقوله علیه السلام : « امض في صلاتك » وهذا واضح جدا.

ص: 367

وأمّا مسألة عموم التعليل فالتمسّك به لا مجال له ، لما ذكرنا من أنّه حكمة التشريع وليس من قبيل علّة الحكم ، وإلاّ فكان الواجب إجراءها في كلّ مركّب ، عبادة كانت أو معاملة ، في أجزائها وشرائطها ومقدّماتها الخارجيّة. وأصل وجود كلّ شي ء يكون للحكم بوجوده أثر شرعي مركّبا كان أو بسيطا ، وليس الأمر كذلك قطعا.

وتقدّم الكلام في هذا الموضوع عند ما تكلّمنا في جريان هذه القاعدة وعدمه في سائر المركّبات غير الصلاة والمقدّمات الخارجيّة للصلاة ، واخترنا عدم الجريان.

العاشر : في أنّه وردت روايات فيها الأمر بالإدراج ، أي التخفيف في الصلاة كي لا يقع في الشكّ كثيرا ، وكذلك الأمر بالإحصاء بالحصى لأجل هذه الجهة ، وكذلك استحسان التخفيف في الصلاة من أجل السهو ، فهل هذه الأمور واجبة أم لا؟

فالأوّل : أي الأمر بالإدراج كما في خبر الحلبي قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن السهو؟ قلت : فإنّه يكثر عليّ ، فقال علیه السلام : « أدرج صلاتك إدراجا » قلت : وأي شي ء الإدراج؟ قال : « ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود » (1).

وأمّا الثاني : فكما في خبر حبيب الخثعمي قال : شكوت إلى أبي عبد اللّه علیه السلام كثرة السهو في الصلاة ، فقال : « أحص صلاتك بالحصى » أو قال : « احفظها بالحصى » (2).

والثالث : كما عن الحلبي أيضا في خبره الآخر عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ينبغي تخفيف الصلاة من أجل السهو » (3).

والاحتمالات في هذه الروايات إمّا الحمل على الإرشاد من دون أن يكون أمر

ص: 368


1- « الكافي » ج 3 ، ص 359 ، باب من شكّ في صلاته كلّها ... ، ح 9. « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1425 ، باب أحكام السهو ، ح 13 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 335 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 22 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 348 ، ح 1444 ، باب أحكام السهو ، ح 32 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 343 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 28 ، ح 1.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 567 ، باب نوادر الصلوات ، ح 1566 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 335 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 22 ، ح 2.

مولوي في البين ولو استحبابيّا ، أو الحمل على الاستحباب ، أو الحمل على بعض مراتب الشكّ النازلة عن مرتبة كثير الشكّ المأمور بعدم الاعتناء بذلك الشك ، وذلك لأنّ الإحصاء والتخفيف نوع اعتناء.

أمّا الحمل على الوجوب المولوي فلا يلائم مع قوله علیه السلام في رواية الحلبي الثانية « ينبغي » ، لأنّ كلمة « ينبغي » ظاهرة في عدم الوجوب ، بل وكذلك كلمة « لا بأس » في خبر المعلى ، سأل أبا عبد اللّه علیه السلام فقال له : إنّي رجل كثير السهو ، فما أحفظ صلاتي إلاّ بخاتمي أحوّله من مكان إلى مكان؟ فقال علیه السلام : « لا بأس » (1).

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الإرشاد إلى طريق تسلّم صلاته من وقوع الخلل والنقصان فيها.

الجهة الثالثة : في بيان نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوليّة ، وموارد تطبيقها

اشارة

فنقول : أمّا نسبتها مع الأدلّة الأوليّة فهي الحكومة ، من جهة أنّ المراد من الأدلّة الأوّليّة في المقام هي الأدلّة التي مفادها ترتّب حكم على الشكّ ، ففي الشكّ في عدد الركعات عبارة عن الأدلّة التي مفادها البناء على الأكثر ثمَّ تدارك ما احتمل نقصه بصلاة الاحتياط ، وفي الشكّ في أفعال الصلاة من الأجزاء والشرائط عبارة عن الأدلّة التي مفادها إتيان المشكوك إذا كان الشكّ في المحلّ.

ودليل القاعدة لو كان نفي الشكّ عن كثير الشكّ كما هو المشهور والمتداول في الألسنة لكانت حكومته على الأدلّة الأوّليّة في جانب الموضوع واضحة ، لأنّ موضوع الأدلّة الواقعيّة هو الشكّ ، إمّا الشكّ في عدد الركعات ، أو الشكّ في الأفعال لكن قبل

ص: 369


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 255 ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّي فيه من الثياب ... ، ح 781. « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 343 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 28 ، ح 2.

تجاوز المحلّ ، ودليل القاعدة يرفع الشكّ تعبّدا ، وهو معنى الحكومة بالتضييق في جانب الموضوع من الأقسام الثمانية للحكومة.

وقد شرحنا الحكومة وأقسامها في كتابنا « منتهى الأصول » (1) ومن أراد فيراجع.

ولكن لم نجد في أدلّة القاعدة وأخبار الباب ما يكون لسانه نفي الشكّ عن كثير الشكّ صريحا ، وإنّما الموجود في أخبار الباب التي هي أدلّة عدم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ ثلاث عبارات : أحدها : « يمضي في شكّه ». ثانيهما : « امض في صلاتك » أو « فليمض في صلاته » بصورة أمر الحاضر تارة ، وأمر الغائب أخرى. ثالثها : « يمضي في صلاته » بصورة الجملة الخبريّة.

والفرق بين الثالث والأوّل هو أنّ الأوّل كانت العبارة « يمضي في شكّه » والثالث « يمضي في صلاته » وإلاّ فالاثنان بصورة الجملة الخبريّة ، والمستفاد من العبارات الثلاث هو المضي وعدم الاعتناء بالشكّ إذا كان كثير الشكّ ، فإذا كان معنى المضي وعدم الاعتناء بالشكّ هو نفي الشكّ ورفعه في عالم التشريع فتكون هذه الأخبار - التي هي أدلّة القاعدة - حاكمة على الأدلّة الأوّليّة.

وأمّا إذا كان معناه رفع حكم الشكّ عن كثير الشكّ بدون تصرّف في كونه شاكّا ولو تعبّدا فيكون تخصيصا لا حكومة. والظاهر هو الأوّل.

وأمّا موارد تطبيقها : أمّا بطور الإجمال : ففي كلّ مورد شكّ في أيّ جزء من أجزاء الصلاة ، أو شرائطها ، أو أيّ مقدّمة من مقدّماتها الداخليّة وكان الشكّ قبل تجاوز المحلّ الذي مقتضي القواعد الأوّليّة لزوم تداركها ، فإذن كان كثير الشكّ لا يعتني بشكّه ويمضي في شكّه. وكذلك في عدد الركعات لا يعتني بشكّه ويمضي في صلاته ، بمعنى ما ذكرنا من أنّه يبني على عدم ما يضرّ وجوده بالصحّة ، وعلى وجود ما يضرّ عدمه بها ، فهذا هو معنى المضي في صلاته ، وهذا هو البناء على الصرفة.

ص: 370


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 535.

وأمّا بطور التفصيل : فقد يكون الشكّ في عدد الركعات ، وقد يكون في الأفعال.

أمّا الأوّل [ أي الشك في عدد الركعات ] فلو شكّ في صلاة الصبح مثلا بين الواحد والاثنين بمعنى أنّ ما بيده هل هي الركعة الأولى أو الثانية ، وحيث أنّ مرجع هذا الشكّ إلى احتمال عدم الإتيان بالثانية ، وأيضا حكم الشكّ في الثنائيّة والثلاثيّة كالصبح والمغرب هو البطلان ، فمعنى عدم اعتنائه بشكّه لأنّه كثير الشكّ فرض الشكّ كالعدم ، فبطلان الصلاة الذي كان حكم الشكّ يرتفع بارتفاع موضوعه في عالم التشريع.

وأيضا معنى رفع هذا الشكّ تعبّدا وفي عالم التشريع يرجع إلى رفع احتمال عدم الثانيّة ، وهذا معناه وجود الثانيّة تعبّدا ، فلو شكّ في صلاة الصبح بين الواحد والاثنين فالصلاة ليست باطلة ، بل يجب عليه أن يبني على الاثنتين ويتمّ الصلاة.

ولا فرق في كون حدوث هذا الشكّ في حال الجلوس ، أي بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية ، أو كان في حال القيام.

ولو كان هذا الشكّ - أي الشكّ بين الواحد والاثنتين - في صلاة المغرب أيضا يكون الأمر كما ذكرنا في صلاة الصبح ، أي هذه القاعدة ترفع البطلان واحتمال عدم الثانية ، فيجب عليه البناء على صحّة الصلاة والاثنتين.

وأمّا لو كان هذا الشكّ في غير صلاة الصبح وغير المغرب ، أي كان في الرباعيّات وحيث أنّ حكم الشكّ أيضا فيها البطلان - لأنّ الشكوك الصحيحة في الرباعيّات بعد إحراز الاثنتين وبعد إكمال السجدتين - فالأمر كما في صلاة الصبح والمغرب ، أي ترفع هذه القاعدة كلا الأمرين من البطلان واحتمال عدم الثانية ، فالصلاة صحيحة ويبني على الاثنتين.

هذا كلّه فيما إذا كان شكّ كثير الشكّ بين الواحد والاثنين.

وأمّا لو كان بين الاثنين والثلاثة فإن كان في صلاة الصبح فيبني على الاثنين ، بناء على ما ذكرنا من أنّ مفاد القاعدة رفع احتمال العدم إذا كان العدم مضرّا ، ورفع احتمال

ص: 371

الوجود إذا كان الوجود مضرّا لأنّ هذا معنى المضي وعدم الاعتناء بالشكّ ، وحيث أنّ في صلاة الصبح وجود الثالثة مضرّ فهذا الاحتمال ملغا فيبني على الاثنين والصحة ، أمّا الاثنين لما ذكرنا من أنّ احتمال وجود الثالثة حيث أنّه مضر فملغى. وأمّا الصحّة فلأنّ حكم الشكّ في الثنائيّة - أي صلاة الصبح - والثلاثيّة - أي صلاة المغرب - هو البطلان ، فهذه القاعدة ترفع هذا الحكم برفع موضوعه تعبّدا وفي عالم التشريع.

وأمّا إن كان هذا الشكّ - أي بين الاثنين والثلاث - في صلاة المغرب فيبني على الثلاث والصحّة ، أمّا الصحّة فلما ذكرنا في صلاة الصبح عينا. وأمّا البناء على الثلاث فلأنّ هاهنا احتمال العدم مضرّ فيبني على وجودها ، فهذا الشكّ في صلاة المغرب يكون بعكس صلاة الصبح ، لأنّه كان في الصبح يبني على الاثنين ، وفي المغرب يجب البناء على الثلاث ، لما ذكرنا من أنّه يجب البناء على الصرفة لأنّ المتفاهم العرفي من « يمضي في صلاته » أو « يمضي في شكّه » هو هذا المعنى.

وأمّا لو كان هذا الشكّ - أي بين الاثنتين والثلاث - بعد إكمال السجدتين في الرباعيّات كالظهر والعصر والعشاء ، فحيث أنّ حكم الشك ليس فيها البطلان فهذه القاعدة لا تثبت الصحّة ، لأنّها صحيحة مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، وأيضا ليس أثر هذه القاعدة في هذه الصورة هو البناء على الثلاث فقط ، لأنّ هذا أيضا كان مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، فالمرفوع بهذه القاعدة في هذه الصورة هو وجوب صلاة الاحتياط ، لأنّه كان أثر هذا الشكّ لو لم يكن كثير الشكّ فيرتفع هذا الأثر بهذه القاعدة.

وأمّا إذا شكّ بين الثلاث والأربع ، فإن كان في صلاة الصبح وكان بعد الدخول في الركوع فهي باطلة ، لزيادة الركوع بل الركعة يقينا. وأمّا إنّ كان قبل الدخول في الركوع ، فيجب عليه هدم القيام ، لعدم كون هذا القيام من الصلاة قطعا ، وإنّما هو زيادة سهويّة فلا يضرّ من هذه الجهة ، وبعد هدمه القيام يرجع شكّه إلى ما بين الاثنتين والثلاث بعد إكمال السجدتين ، وحكم هذا الشكّ وإن كان في حدّ نفسه هو البطلان ،

ص: 372

لأنّه شكّ في الثنائيّة - أي صلاة الصبح - ولكن حيث أنّه كثير الشكّ فيرتفع الحكم ببطلان هذه الصلاة لحكومة هذا القاعدة على ذلك الدليل.

ولمّا ارتفع الحكم بالبطلان فاحتمال الثلاثة أيضا يرتفع بهذه القاعدة ، لأنّ وجودها مضرّ لصلاة الصبح ، فإذا ارتفع احتمال الثلاثة بحكم الشارع فالنتيجة صحّة الصلاة والبناء على الاثنتين.

وأمّا إذا كان هذا الشكّ في صلاة المغرب ، ولمّا كان حكم الشكّ فيها هو البطلان كصلاة الصبح فيرتفع بهذه القاعدة ، ولمّا كان احتمال الأربعة مضرّا فهو أيضا يرتفع ، فالنتيجة صحّة الصلاة والبناء على الثلاث.

وأمّا لو كان هذا الشكّ في الرباعيّات - أي صلاة الظهر أو العصر أو العشاء - فحيث أنّ حكم الشكّ في نفسه مع قطع النظر عن كونه كثير الشكّ هي الصحّة فمن هذه الجهة لا أثر لكونه كثير الشكّ ، كما أنّ حكم الشكّ في هذه الصورة هو البناء على الأربع ، فمن هذه الجهة أيضا غير كثير الشكّ وكثير الشكّ متوافقان ، لما قلنا أنّ معنى عدم الاعتناء بالشكّ والمضي فيه هو البناء على وجود ما يكون عدمه مضرّا ، فاللازم البناء على وجود الرابعة ، فمن هاتين الجهتين لا فرق بينهما ، وهما متوافقان.

نعم الفرق بينهما أنّ في الشكّ المتعارف يجب أن يأتي بصلاة الاحتياط منفصلا ومستقلاّ لتدارك ما احتمل فوته ، وهذا كمال الاعتناء بالشكّ ، ففي كثير الشكّ الذي حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ لا يجب عليه شي ء أصلا ، وهذا الحكم - أي وجوب صلاة الاحتياط - مرفوع عنه.

وأمّا الشكّ بين الأربع والخمس ، ففي صلاة الصبح والمغرب موجب للبطلان قطعا ، ووجهه واضح في الشكّ المتعارف وكثير الشكّ. نعم لو كان في حال القيام يمكن أن يقال بوجوب هدم القيام في صلاة المغرب ، لأنّ هذا القيام ليس من الصلاة قطعا ، فإذا هدم يرجع الشكّ إلى ما بين الثلاث والأربع ، فيبني في كثير الشكّ على الثلاث ويلغا

ص: 373

احتمال الرابعة ، لأنّ وجودها مضرّ كما تقدّم شرحه. وأمّا في الشكّ المتعارف فالصلاة باطلة ووجهه معلوم.

وممّا ذكرنا عرفت أنّه لو كان أحد طرفي الشكّ ، أو أحد أطرافه هو الأربع والطرف الآخر أيّ عدد كان زائدا على الأربع وكان في حال القيام ، فالعلاج هدم القيام وتصحيح الصلاة إذا كان كثير الشكّ في صلاة المغرب ، وأمّا في الرباعيّات فيبني على الأربع في أيّ حال كان إذا كان كثير الشكّ. وأمّا في الشك المتعارف فقد تقدّم الكلام فيه في قاعدة البناء على الأكثر.

هذا كلّه في الشكّ في عدد الركعات.

وأمّا الثاني : أي الشكّ في الأفعال : فكذلك أيضا يجب عليه عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وجود المشكوك إن كان عدمه مضرّا ، والبناء على عدمه إن كان وجوده مضرّا ، فلو شكّ في أنّه كبّر وكان كثير الشكّ يبني على أنّه كبّر تكبيرة الإحرام ، ولا يجوز له أن يكبّر ثانيا بقصد تكبيرة الإحرام ، لأنّها زيادة عمديّة مبطلة. نعم لو أتى بها من باب الاحتياط وبرجاء إدراك الواقع ثمَّ تبيّن أنّه لم يأت بها ، فالظاهر أنّ صلاته صحيحة ، ولا تجب الإعادة.

ولو شكّ في أنّه قرأ فاتحة الكتاب أو السورة ، فإن كان الشكّ في فاتحة الكتاب قبل الدخول في السورة ، والشكّ في السورة كان قبل الدخول في الركوع في الركعة الأولى أو قبل الدخول في القنوت في الركعة الثانية - وبعبارة أخرى كان قبل تجاوز المحلّ - فيبني على وجود المشكوك ، إذ عدمه مضرّ بالصحّة ، فيبني على وجوده وإن كان الشكّ في المحلّ.

ولو شكّ في الركوع فيبني على إتيانه وإن كان في المحلّ ، لعين ما ذكرنا من وجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه ، مضافا إلى ورود النصّ في المقام وفي الشكّ في السجود بقوله علیه السلام في موثّق عمّار عن الصادق علیه السلام : « لا يسجد ولا يركع ويمضي في صلاته حتى

ص: 374

يستيقن يقينا » (1).

ولو شكّ في السجود سواء أكان المشكوك سجدة واحدة أو سجدتين يبني على الإتيان. وقد عرفت آنفا النهي عن الإتيان بها أو بهما ثانيا في خبر عمّار ، وهكذا الحال لو شكّ في التشهّد والتسليم أو في جزء منهما بعين ذلك الدليل.

ولو شكّ في وجود مانع كالتكلّم بكلام الآدمي ، أو تنجّس بدنه أو لباسه مثلا ، أو وجود حدث أو استدبار مثلا وكان كثير الشكّ فيبني على عدمه ، لأنّ هذا معنى عدم الاعتناء بالشكّ والمضيّ فيه حسب المتفاهم العرفي ، لأنّ العرف يفهم من عدم الاعتناء بالشكّ والمضي فيه أنّ ما هو مشكوك الوجود إذا كان شي ء مضرّ وجوده ، يبنى على عدمه ، وإذا كان مضرّا عدمه يبنى على وجوده ، وبعبارة أخرى : معنى عدم الاعتناء إلغاء احتمال المضرّ.

هذا في الأجزاء والموانع والقواطع.

أمّا الشرائط : فالداخلية منها حالها حال الأجزاء ، فلو شكّ كثير الشكّ في الستر ، أو طهارة البدن ، أو اللباس ، أو الاستقبال ، أو الجهر في الجهرية ، أو الإخفات في الإخفاتيّة ، أو الموالاة ، أو الترتيب ، أو غير ذلك من الشرائط الداخلية ، فيبني على وجودها ، فإنّ هذا معنى المضي في الصلاة وعدم اعتنائه بشكّه.

وأمّا الشرائط الخارجيّة : والمراد بها ما يكون لها وجود مستقلّ في خارج الصلاة كالوضوء والغسل والتيمم ، مقابل الشرائط الداخليّة التي ليس لها وجود مستقلّ خارج الصلاة ، مثلا الوقت الذي من شرائط الصلاة عبارة عن كون صلاة الظهر والعصر بين الحدّين ، أي بين زوال الشمس عن دائرة نصف النهار وبين استتارها في الأفق أو ارتفاع الحمرة المشرقيّة إلى ما فوق الرأس ، وهذا المعنى لا يمكن أن يوجد

ص: 375


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 604 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ... ، ح 62. « الاستبصار » ج 1 ، ص 362 ، ح 1372 ، باب من شكّ فلم يدر واحدة سجد أم اثنتين ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 330 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16 ، ح 5.

إلاّ في نفس الصلاة.

فإن قلنا بعدم شمول هذه القاعدة لها فلا كلام ، وإن قلنا بشمولها لها إذا كان الشكّ فيها في حال الصلاة ، مثلا إذا شكّ أنّه تطهّر عن الحدث الأكبر بالغسل أو التيمّم ، كلّ واحد منهما في محلّه ، أو تطهّر عن الحدث الأصغر بالوضوء أو التيمّم ، كلّ في محلّه أيضا وكان شكّه هذا في حال اشتغاله بالصلاة فيبني على وجودها ، لشمول قوله علیه السلام : « يمضي في صلاته » أو « يمضي في شكّه » لمثل هذه الشروط الخارجيّة ، لكن في حال الصلاة ، لأنّه في ذلك الحال يشبه الشروط والمقدّمات الداخليّة ، ولها بالنسبة إلى الصلاة وجود تبعي.

وبعبارة أخرى : الشروط الخارجيّة بالمعنى الذي ذكرنا لها في حال الصلاة ترجع تقريبا إلى الشروط الداخليّة فيلحقها حكمها تبعا ، لأنّ معنى شكّه في الوضوء في حال الصلاة هو أنّ صلاته مع الطهارة أم لا ، غاية الأمر أنّه من أوصاف المصلّي مثل ستر العورة والاستقبال. نعم لو شكّ قبل الصلاة في أنّه تطهّر من الحدث الأكبر أو الأصغر فلا تشمله القاعدة ، كما تقدّم الكلام فيها فلا نعيد.

تنبيهان

[ التنبيه ] الأوّل : هو أنّ هذا الحكم - أي حكم الشارع بوجوب عدم اعتناء كثير الشكّ بشكّه والمضي في صلاته بمعنى أنّه لو شك في وجود جزء أو شرط يبني على وجوده ولا يعتني باحتمال عدمه ، وأنّه لو شكّ في وجود مانع أو قاطع يبني على عدمه ولا يعتني باحتمال وجوده - حكم ظاهري ، فإذا بنى على الوجود فظهر وتبيّن عدم وجوده ، أو بنى على العدم فتبيّن وجوده ، فيعمل بمقتضى ما ظهر وتبيّن.

فإن كان ما بنى على وجوده وظهر خلافه ركنا من الأركان ولم يبق محلّ تداركه ، فصلاته باطلة ، لأنّ نقيصة الركن عمدا وسهوا موجبة للبطلان.

ص: 376

وأمّا إن لم يكن ركنا ، فإن كان محلّ تداركه باقيا يجب عليه إن يتدارك ما فات ، وإن لم يكن باقيا فإن كان ممّا فيه القضاء فيجب عليه القضاء ، وإن كان ممّا فيه سجدة السهو فيجب عليه سجدتا السهو ، وإلاّ فلا شي ء عليه ، ولا إعادة لحديث « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » (1).

وأمّا إن بنى على العدم فبان وجوده يعمل بمقتضى وجوده ، كلّ ذلك من جهة أنّ مفاد هذه القاعدة حكم ظاهري ، والحكم الظاهري - كما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (2) - حكم إثباتي ، لا ثبوت ولا واقع له ، وهو كسراب يحسبه الجاهل حكما ، ولذلك قلنا في مبحث الإجزاء أنّه لا يفيد الإجزاء. والحقّ ما أفاده الشيخ الشهيد قدس سره أنّ القول بالإجزاء ملازم مع القول بالتصويب.

التنبيه الثاني : إذا كان كثير الشكّ في شي ء لا حكم له ، إمّا من جهة كون الشكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، وإمّا من جهة قيام أمارة على لزوم عدم الاعتناء بذلك الشكّ ، فالأوّل : كما إذا كان شكّه وكثرته في السجدة الثانية دائما بعد الدخول في التشهّد. والثاني : كما لو كانت كثرة شكّ الإمام أو المأموم في جزء مثلا مع حفظ الآخر ، فاتّفق في الأوّل وقوع شكّه في ذلك الشي ء - أي السجدة الثانية مثلا قبل التشهّد - وفي الثاني لو شكّ الإمام مثلا من باب الاتّفاق في جزء مع عدم حفظ من خلفه عليه فهل يجب الاعتناء بهذا الشكّ - لعدم كونه كثير الشكّ في هذا الشكّ بالخصوص ، وما كان فيه كثير الشكّ لم يكن له حكم - أم لا يجب الالتفات والاعتناء بهذا الشكّ؟ لكونه كثير الشك في هذا الجزء ولو في غير هذا الحال ، أي في غير حال عدم التجاوز في الأوّل ، وفي حال عدم الحفظ في الثاني وجوه وأقوال.

قول بالالتفات مطلقا ، وقول بالعدم مطلقا ، وقول بالتفصيل بين القسمين ، ففيما كان

ص: 377


1- تقدّم تخريجه في ص 303 ، رقم (2).
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 535.

من قبيل القسم الأوّل ، أي لا حكم له في حدّ نفسه يجب الالتفات ، فإذا اتّفق وقوع الشكّ لكثير الشكّ في ذلك الجزء قبل تجاوز المحلّ يجب عليه أن يأتي به.

وأمّا فيما إذا كان من القسم الثاني ، أي فيما إذا كانت أمارة على إلغاء الشكّ وعدم الاعتناء به فلا يجب الالتفات إليه.

واختار شيخنا الأستاذ قدس سره هذا التفصيل - معلّلا بأنّ الشكّ في القسم الأوّل نوعان بخلاف القسم الثاني - وهو عجيب ، والظاهر هو عدم الاعتناء مطلقا لكونه كثير الشكّ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ص: 378

فهرس الموضوعات

ص: 379

ص: 380

14 - قاعدة عدم ضمان الأمين

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها وهي أمور : ... 9

الأوّل : عدم وجود السبب لضمانه ... 9

الثاني : اليد ... 9

الثالث : التغرير ... 10

الرابع : الاخبار ... 12

الخامس : الاجماع ... 11

السادس : الأمين محسن والضمان منفيا عنه ... 12

الجهة الثانية : في شرح المراد من هذه القاعدة ... 12

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 21

15 - قاعدة الإتلاف

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في مداركها ... 25

الجهة الثانية : في بيان المراد من هذه القاعدة ... 28

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 31

الاتلاف بالمباشرة والاتلاف بالتسبيب ... 31

ص: 381

إذا اجتمع السبب والمباشر قدم المباشر في الضمان ... 34

ليس على المكره ضمان في غير الدماء ... 35

مسائل الضمان فيها على السبب ، لأنه أقوى من المباشر ... 36

مسائل فيها تردد بالضمان ... 37

والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان : ... 38

أحدها : كل شئ يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن ... 38

الثاني : من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن ... 38

الثالث : قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : من أخرج ميزابا أو كنيفا ... 38

أمثله من « الشرائع » بضمان الفاعل العاقل المختار المسبب للتلف ... 39

لو ارسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا ، وفي هذه المسألة ست صور 43

مسائل من « التذكرة » تسند السبب إلى الجزء الأخير من علة التلف ... 46

16 - قاعدة الاشتراك

وفي هذه القاعدة جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مداركها وهي أُمور : ... 53

الأوّل : الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل بين الحاضرين في زمان التكليف 53

الثاني : اتفاق الأصحاب على اشتراك جميع المكلفين في الاحكام ... 54

الثالث : ارتكاز عامة المسلمين بان حكم اللّه في أي واقعة واحد ... 55

الرابع : الاخبار ... 57

الخامس : الاحكام من الأزل جعلت على نهج القضايا الحقيقية ... 62

الجهة الثانية : في المراد من هذه القاعدة ... 63

ص: 382

الجهة الثالثة : في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة ... 65

وهم ودفع ... 66

امّا الأوّل : وهم : عدم اطراد القاعدة وانحرافها في مواضع عديدة ... 66

وامّا الثاني : دفع والوهم : التخصص لا يضر باطراد القاعدة ... 68

كلام في الخنثى المشكل ... 69

17 - قاعدة تلف المبيع قبل القبض

والكلام فيها من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها ، وهو أُمور : ... 79

الأوّل : الروايات ... 79

الثاني : الاجماع على هذا الحكم ... 82

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ، وما هو المراد منها ، وشرح ألفاظها ... 83

الجهة الثالثة : في موارد انطباق هذه القاعدة ... 87

هل تختص هذه القاعدة بالبيع أو تشمل سائر العقود المعاوضية؟ ... 79

ينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل: في مرجوعية النماء الحاصل للمبيع التالف ما بين العقد والتلف... 94

الثاني : في عدم سقوط ضمان البائع للثمن لو تلف البيع قبل قبض المشتري ، وعدم سقوط ضمان المشتري للمبيع لو تلف الثمن قبل قبض البائع باسقاط كل منهما ... 94

الثالث : أن لا يكون التلف مسببا عن إتلاف شخص ... 95

الرابع : لو كان شخص وكيلا عن البائع والمشتري أو وليا عليهما ، فبمحض وقوع العقد يعد التلف بعد القبض 95

ص: 383

الخامس : لو فرط وكيل البائع في الاقباض فتلف المبيع انفسخ العقد ورجع المبيع إلى البائع 97

السادس : في حالة تعارض هذه القاعدة مع قاعدة « التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له » 98

18 - قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفساده

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها ومستندها ، وهو أُمور ... 103

الأوّل : قاعدة الاقدام ... 103

الثاني : قاعدة الاحترام ... 103

الثالث : قاعدة اليد ... 103

الرابع : الاجماع ... 103

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومعناها ... 111

في معنى الضمان ... 111

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 116

جريانها في جميع العقود المعاوضيّة :

فمنها : البيع ... 116

ومنها : الإجارة ... 116

ومنها : الهبة ... 120

ومنها : الصلح ... 121

ومنها : الرهن ... 122

ومنها : عقد السبق ... 122

ص: 384

نقوض أوردوها على القاعدة والإجابة عليها ... 123

19 - قاعدة التلف في زمن الخيار

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى في مستندها ، وهو أُمور : ... 131

الأوّل : الأخبار ... 131

الثاني : الإجماع ... 133

الثالث : كون هذا الحكم مقتضى القواعد الأولية ... 133

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومقدار دلالتها ... 135

هل هذا الحكم ثابت مطلقا أو مخصوص بخيار الحيوان وخيار الشرط؟... 135

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 153

20 - قاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات

عدم جواز أخذ الأجرة على مطلق ما هو واجب على الانسان فعله... 157

شروط صحة عقد الإجارة وسائر العقود المعاوضية التي تقع على الأعمال... 158

عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات إذا كانت بمعنى الاسم المصدري ، وبالجواز إذا كانت بالمعنى المصدري 159

ادعاء الاجماع على عدم الصحة بأخذ الأجرة على الواجبات ... 160

منافاة أخذ الأجرة لقصد الاخلاص والقربة ... 162

إشكال على صحة الإجارة في العبادات ، والإجابة عليه ... 162

إتيان العبارة بداعي الأثر الدنيوي لا ينافي قصد الامر والقربة ... 162

ص: 385

الإجابة عما استشكل به البهائي في مبحث الضد ... 162

بيان : إن أخذ الأجرة في باب العبادات المستأجرة على اهداء الثواب إلى المنوب عنه 164

في باب النيابات في الإجارة ، وبيان ذلك ... 165

ما أفاده الشيخ الأنصاري قدس سره بجواز أخذ الأجرة في التخيير العقلي... 716

النظر في قول الشيخ الأنصاري قدس سره ... 168

جواز أخذ الأجرة في التخيير الشرعي كخصال الكفارة ... 172

جواز أخذ الأجرة على الواجب الكفائي إن كان توصليا ... 173

اشكال : جواز أخذ الأجرة على الصناعات التي تجب كفاية ومخالفته لمنطوق القاعدة 174

21 - قاعدة : البناء على الاكثر

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها - الروايات - ... 183

الجهة الثانية : في شرح مفاد هذه القاعدة ... 184

الشك في الثلاثية والثنائية بالأصل أو بسبب مبطل للصلاة ... 186

بطلان الصلاة بالشك بين الاثنين والخمس أو الأكثر في الرباعية ... 190

بطلان الصلاة بالشك بين الثلاث والست أو الأكثر ، والأربع والست أو الأكثر 191

القاعدة تشمل الشكوك التسعة الصحيحة ... 193

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 197

الصورة الأولى : الشك بين الاثنين والثلاث بعد إكمال السجدتين ... 197

الصورة الثانية : الشك بين الثلاث والأربع يبنى على الأكثر ... 207

ص: 386

الصورة الثالثة : الشك بين الاثنتين والأربع بعد إكمال السجدتين ... 213

الصورة الرابعة : لاشك بين الاثنتين والثلاث والأربع بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية 215

أقسام الشكوك ... 221

وينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأوّل : عدم جريان الاستصحاب في باب عدد الركعات ... 226

الأمر الثاني: هل يجب التروي والفحص عند الشك في عدد الركعات؟... 230

الأمر الثالث : في أن البناء على الأكثر حكم ظاهري ... 232

الأمر الرابع : المصلي العاجز عن القيام يتعين عليه في التخيير الركعتين من جلوس أو ركعة جالسا 233

الأمر الخامس : هل يجوز في الشكوك الصحيحة أن يرفع اليد عن صلاته ويستأنف من جديد؟ 234

الأمر السادس : لو غفل عن شكه وأتم صلاته فتبين مطابقة ما أتى به للواقع... 236

الأمر السابع : الشك في الصلوات التي يكون الشك مبطلا لها موجب للبطلان بمحض حدوثه أم لا؟ 237

الأمر الثامن : فيما إذا انقلب شكه بعد الفراغ إلى شك آخر ... 240

الأمر التاسع : لو مات الشاك في الشكوك الصحيحة بعد أن بنى على ما هو وظيفته ، فهل يجب ان يقتضى عنه الصلاة أم لا؟ 241

الأمر العاشر : أحكام صلاة الاحتياط وكيفيتها وشرائطها ... 242

الأمر الأوّل : يشترط فيها جميع ما يشترط في الصلاة من الشرائط العامة... 242

ص: 387

الأمر الثاني : لا أذان ولا إقامة ولا سورة ولا قنوت فيها ... 245

الأمر الثالث : فيما إذا صدر منه ما يبطل الصلاة قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط ، فهل تبطل الصلاة ويجب إعادتها؟ 246

الأمر الرابع : لو حصل له اليقين بعد الفراغ عن الصلاة الأصلية والبناء على الأكثر 248

الأمر الخامس : لو شك في إتيان صلاة الاحتياط بعد وجوبها ... 257

الأمر السادس : لا سهو في سهو ... 258

الأمر السابع : لو شك في عدد ركعاتها فهل عليه البناء على الأكثر؟... 261

الأمر الثامن : لو نسي صلاة الاحتياط وشرع في صلاة أخرى ... 261

22 - قاعدة حجيّة الظنّ في الصلاة

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في مدركها : ... 265

أولا : الاجماع ... 265

ثانيا : الاخبار ... 265

الجهة الثانية : حجية الظن في عدد الركعات مطلقا ... 269

[ الجهة ] الثالثة : في أنّ الظنّ هل هو حجّة في الأفعال أيضا ... 271

وجوه استحسانيّة :

منها : الظن إن كان حجه في إثبات الركعة ونفيها فبطريق أولى يكون حجة في ابعاض الركعة 272

ومنها : عدم اعتبار الظن من الشارع في الصلاة يلزم الحرج ... 273

ومنها : لا يجتمع اعتبار الظن في الركعة مع عدم اعتباره في أجزائها ويلزم

ص: 388

التناقض ... 273

23 - قاعدة لا شكّ للإمام والمأموم مع حفظ الآخر

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مدركها ... 279

الأوّل : الروايات ... 279

الثانية : الإجماع ... 280

الجهة الثانية : في مفادها وتوضيح المراد منها ، وفيه أمور : ... 281

الأوّل : عدم اعتبار العدالة في المأموم عند رجوع الامام إليه ... 282

الثاني : في المراد من السهو في قوله علیه السلام : « لا سهو للامام ... » ... 283

الثالث : هل المراد بالحفظ هو خصوص اليقين أو يشمل الظن أيضا؟... 285

الرابع : هل هذه القاعدة تجري في الشك في الافعال أو مخصوصة بالشك في عدد الركعات؟ 285

الخامس : جريان القاعدة في الركعتين الأوليين ولم تختص بالأخيرتين... 289

السادس : هل يعتبر في رجوع الشاك منهما إلى الحافظ حصول الظن؟... 289

السابع : عدم جواز رجوع الظان إلى المتيقن ... 290

الثامن : لو كان الإمام والمأموم شاكين وقامت البينة على التعيين عند أحدهما فيجب البناء عليها ورجوع الشاك إليه 290

التاسع : إذا قامت بينة عند الظان منهما على خلاف ظنه ، هل يعمل على طبقها ويترك ظنه أو لا؟ 291

العاشر : وجوب رجوع الامام إلى المأمومين إن كانوا متفقين في الحفظ... 292

الحادي عشر : فيما إذا كان أحدهما شاكا ولم يكن الاخر حافظا ... 296

أما السهو - النسيان - فيه ثلاث صور : ... 302

ص: 389

الصورة الأولى : إذا كان السهو مخصوصا بالامام ... 302

الصورة الثانية : إذا كان السهو مختصا بالمأموم ... 305

الصورة الثالثة : إذا كان السهو مشتركا بينهما ... 309

24 - قاعدة لا شك في النافلة

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها : ... 317

الأول : الروايات : ... 317

الثاني : الإجماع ... 321

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة وبيان المراد منها ، وفيه أُمور : ... 322

الأول : التخيير للتسهيل وينافي ما إذا كان موجبا لبطلان العمل ولزوم الإعادة 322

الثاني : ما هو مقتضى الأصل لو شك في ثبوت هذا الحكم في مورد؟... 323

الثالث : هل نفي الشك عن النافلة يشمل الأقسام الثلاثة للنافلة أو ظاهر في بعضها دون بعض 324

الرابع : إن هذا الحكم - الغاء الشك في النافلة - مخصوص في عدد الركعات ولا يشمل باقي أفعال الصلاة 334

الخامس : جريان هذا الحكم في كل نافلة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ... 335

السادس : هل ان هذا الحكم يختص بالشك أم يجري في النسيان والغفلة؟... 336

السابع : غفران زيادة الركن في النافلة ... 337

الثامن : لا تجب سجدتا السهو في النافلة ... 340

الجهة الثالثة : في نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوّلية التي دلّت على ثبوت أحكام

ص: 390

الشكّ وفي موارد تطبيقها ... 340

25 - قاعدة لا شكّ لكثير الشكّ

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : في مدركها ، وهو : الاخبار والاجماع ... 345

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ، وفيه أمور : ... 350

الأوّل : المراد من السهو في هذه القاعدة هو الشك لا خصوص معناه الحقيقي 350

الثاني : في المراد من المضي في صلاته ... 352

الثالث : أن هذا الحكم تعييني لا تخييري ... 352

الرابع : هل هذا الحكم مختص بالصلاة أم يجري في سائر العبادات أيضا... 353

الخامس : لو كان كثير الشك في بعض أفعال الصلاة وشك في جزء آخر ، هل يجري فيه حكم كثير الشك أم لا؟ 356

السادس : في المراد من كثير الشك وكثير السهو ... 358

السابع : لو شك كثير الشك بين الأربع والخمس يبنى على الأربع بدون أن يأتي بسجدتي السهو 363

الثامن : هل يلحق كثير الظن بكثير الشك في هذا الحكم أم لا؟ ... 365

التاسع : عدم جريان القاعدة في الشك في أصل وجود الصلاة ... 367

العاشر : هل الامر بالتخفيف في الصلاة والاحصاء بالحصى لكثير الشك واجب أم لا؟ 368

الجهة الثالثة : في بيان نسبة هذه القاعدة مع الأدلّة الأوليّة ، وموارد تطبيقها... 369

ص: 391

تنبيهان

الأول : أن هذا الحكم - عدم اعتناء كثير الشك بشكه - حكم ظاهري... 376

الثاني : إذا كان كثير الشك في شئ لا حكم له ، فهل يجب الاعتناء بهذا الشك أم لا؟ 377

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.