القواعد الفقهيّة المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه السيّد محمّد حسن البجنوردي

المحقق: مهدي المهريزي

الناشر: نشر الهادي

المطبعة: مطبعة الهادي

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-400-030-7

المكتبة الإسلامية

القواعد الفقهية

الجزء الأول

آية اللّه العظمی السيد محمد حسن البجنوردي

تحقيق: مهدي المهريزي - محمد حسن الدرايتي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بمساعدة معاونية الشؤن الثقافية

وزارت الثقافة والارشاد الاسلامي

القواعد الفقهية / ج 1

المؤلف: آيةا... العظمى السيد محمد حسن البجنوردی :المحققان محمد حسين الدرايتي - مهدى المهريزى

الناشر: نشر الهادي

الطبع: مطبعة الهادي

الطبعة الأولى: 1419 ه_ ق _ 1377 ه_ ش

الكمية: 1000 نسخة

شابك (ردمك) 7 - 030 - 400 - 964 ISBN

ایران ،قم، شارع الشهداء ، پلاك 759، هاتف: 737001

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

ص: 5

فهرس الإجمالي

مقدمة التحقيق ...9-23

1 - قاعدة من ملك ...3

2 - قاعدة الإمكان...16

٣ - قاعدة الإسلام يجب ما قبله ...43

٤ - قاعدة القرعة ...55

٥ - قاعدة لاتعاد ...74

٦ - قاعدة اليد ...127

7 - قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين ...185

8 - قاعدة لاضرر ولا ضرار ...208

9 - قاعدة نفى العسر والحرج ...246

10 - قاعدة الغرور ...265

-١١ - قاعدة أصالة الصحة ...279

12 - قاعدتى الفراغ والتجاوز ...306

13 - قاعدة الإعانة على الإثم والعدوان ...349

ص: 6

مقدمة التحقيق

اشارة

• مراحل تطوّر القواعد الفقهية

• الحياة العلمية للمؤلّف

• منهجنا في التحقيق

ص: 7

ص: 8

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مقدّمة التحقيق : مراحل تطوّر القواعد الفقهية في الفقه الإمامي

يعتبر علم الفقه من أوسع العلوم الإسلامية و أشهرها، و هذا العلم الوسيع كان قد نشأ وترعرع في أحضان الكتاب و السنة، وقد تمخض علم الفقه عن ولادة علوم أخر، مثل علم الرجال علم أصول الفقه و القواعد الفقهية.

و على الرغم من نشوء القواعد الفقهية فى أحضان علم الفقه، لكنّها كان لها الدور الكبير في نمو و ازدهاد هذا العلم، و لها سابقة طويلة في تطوّر الفقه الإسلامي الشيعي و العامي.

فقد كان كتاب القواعد الفقهية عند الحنفيين من أهل السنة أوّل كتاب جُمعت فيه بعض القواعد الفقهية، فقد جمع مؤلّفه أبوطاهر الدبّاس - من أئمة الحنفية في بلاد ما وراء النهر - سبعة عشر قاعدة فقهية على مذهب أبي حنيفة، فكان القرن الرابع بداية تدوين القواعد الفقهية لدى العامة.

و أمّا فى الوسط الشيعي فيعتبر كتاب الشهيد الأوّل (م (778) القواعد والفوائد أقدم كتاب دوّنَ فيه مصنّفه القواعد الفقهية وفقاً لمذهب أهل بيت عليهم السلام.

و يمكننا إرجاع سبب سبق سبب سبق العامة في تدوين القواعد إلى عاملين:

ص: 9

الأوّل: و يرجع إلى ماهية فقه العامة حيث قُطعت الرابطة مع نص المعصوم بعد ارتحال النبي الأعظم صلی اللّه عليه وآله، و طبيعي أن انفصال الفقه عن نص المعصوم يجعل الفقه يتبلور ضمن ضوابط معيّنة، كما شهدنا هذا لدى الفقه الإمامي في عصر الغيبة الكبرى.

و الثاني: استخدامهم لأدوات خاصة بهم في عملية الاستنباط الفقهي كالقياس و الاستحسان و غيرهما.

أمّا المنطلق فى تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة، فهو أنّ الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولاً كلية و أمروا الفقهاء بالتفريع عليها علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(1).

و يعتبر هذا الأمر واضحاً في الآثار الفقهية الإمامية. و قد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية و استخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري، عند ما صنّف الشهيد الأوّل قدّس سرّه كتاب القواعد و الفوائد.

و قد سبق الشهيد الأوّل في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلّي (٦٠١ - ٦٩٨) في تصنيف الأشباه والنظائر، و أسمى كتابه نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه و النظائر. هذا إذا قلنا بدخول الأشباه والنظائر في حقل القواعد الفقهية.

قال الشهيد الأوّل في إجازته لابن الخازن:

فما صنعته كتاب القواعد و الفوائد مختصر يشتمل على ضوابط كلية أصولية و فرعية، تستنبط منها الأحكام الشرعية، لم يعمل الأصحاب مثله. (2)

و نظراً لامتياز كتاب الشهيد هذا بالتبويب المنظم و البيان الجيد، فقد ص__ار محل اهتمام المحافل العلمية، فتناولوه بالشرح و البيان، حتى وصل عدد الشروح و الحواشى اثنى عشر كتاباً .

ص: 10


1- «مستطرفات السرائر» ج 3، ص 575: «وسائل الشيعة» ج 27 ، ص 62 .
2- «بحار الأنوار» ج 4، ص 187؛ «روضات الجنّات» ج 7، ص 8.

و قد قام عدّة من الفقهاء بتنقيح هذا الكتاب و تهذيبه منهم المقدمة .

1 - أبو عبد اللّه الفاضل المقداد السيوري (م (82٦) و يُعدُّ من أبرز تلامذة الشهيد، فقد عمل - للوهلة الأولى - على تهذيب القواعد و حذف الزيادات منه أسماه جامع الفوائد في تلخيص القواعد ثم رتبه على نسق الفروع الفقهية، و أسماه نضد القواعد الفقهية على مذهب أهل البيت.

2 _ تقى الدين إبراهيم بن علي الحارثي الكفعمي(1) (م 900) له كتاب مختصر قواعد الشهيد.

٣ - زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (م ٩٦٥) له كتاب تمهيد القواعد الأصولية و العربية لتفريع فوائد الأحكام الشرعية.

على أن تصنيف القواعد الفقهية وجمعها استمرّ بعد الشهيد من قِبَل جمع من الفقهاء، و من المصنّفات في هذا المجال :

1 - الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، تأليف محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف ب_ «ابن أبي جمهور» المتوفّى في حدود ٩٠١ ه_ . و قد طبع هذا الكتاب من قِبَل مكتبة آية اللّه المرعشي في قم.

2 - القواعد الستة عشر، تأليف الشيخ جعفر كاشف الغطاء (م 1227)، و قد طبع مع كتاب «الحق المبين» لنفس المؤلّف سنة ١٣٠٦ في قم.

3 - الأصول الأصلية و القواعد الشرعية، تأليف السيد عبداللّه شبّر، و الكتاب مطبوع.

4 - عوائد الأيام من مهمات أدلة الأحكام، تأليف المولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني (م١٢٤٥) و قد اشتمل هذا الكتاب على 88 عائدة، وكلّ عائدة تُعدُّ قاعدة فقهية تركّز عليها البحث و الاستدلال، و قد تم قريباً تحقيق هذا

ص: 11


1- «القواعد و الفوائد» ج 1، ص 12 - 13: «قواعد فقه» بخش مدني ج 2، ص 16 - 17 .

الكتاب و إصداره من قبل مركز الأبحاث و الدراسات الإسلامية التابع لمكتب الإعلام الإسلامي.

5 - المقاليد الجعفرية في القواعد الاثني عشرية، تأليف محمد جعفر الإسترآبادي المعروف ب_ «شریعتمدار» المتوفّى سنة ١٢٦٣. و توجد لهذا الكتب أربع نسخ خطية في مكتبة آية اللّه مرعشى و أرقامها (3857) (3858) (3882) (3883).

6 - عناوين الأصول، تأليف سيد عبدالفتاح بن علي الحسيني المراغي (م ١٢٧٤) كتبه مؤلّفه بعد سنة واحدة من كتابة «عوائد الأيام» و يشتمل على 93 قاعدة فقهية.

7 - خزائن الأحكام، تأليف آغا بن عابد الشيروانى الدربندي (م 1285).

8 - مناط الأحكام، تأليف ملا نظر على الطالقاني (م ١٣٠٦).

9 - بلغة الفقيه، تأليف السيد محمد بحر العلوم الطباطبائي (م ١٣٢٦) و قد طُبع على الحجر مرّتين، و في الثالثة بالطباعة الحديثة و نُشر في النجف الأشرف فى أربع مجلدات.

10 _ مستقصى قواعد المدارك و منتهى ضوابط الفوائد، تأليف ملاً حبيب الكاشاني (م ١٣٤٠) اشتمل على خمسمائة قاعدة فقهية مع شرح مختصر لكلّ منها .

11 - القواعد الفقهية، تأليف مهدي بن حسين بن عزيز الخالصي الكاظمي (م1343) طبع هذا الكتاب في مجلدين.

١٢ _ تحرير المجلة، تأليف الشيخ محمد حسين محمد حسين كاشف الغطاء (١٢٩٤ - 1373).

١٣ _ القواعد المحسنية، تأليف سيد حسن القمي الحائري، و هو تقريرات لدرس الميرزا الشيرازي في إطار بعض القواعد الفقهية.

14 - القواعد الفقهية، و هو هذا الكتاب الماثل بين يدي القارىء الكريم، تأليف

ص: 12

السيد محمد حسن الموسوى البجنوردي (١٣١٦ - ١٣٩٦) و قد بلغ فيه تدوين القواعد الفقهية أوج كمالها بالنسبة إلى الفقه الإمامي، و على رغم كثرة ما كتب حول القواعد الفقهية بعد السيد البجنوردي، إلا أنه لم يصل إلى مستوى ما كتبه السيد، ذلك لشمولية مباحثه و استيعابه لمعظم القواعد سنداً و دلالة و مقارنةً.

و قد شرح المصنّف قدّس سرّه مفصَّلاً ٦٤ قاعدة فقهية، وناقش كل قاعدة من جوانب شتي:

١ - البحث عن الأساس التشريعي للقاعدة كتاباً وسنّة و إجماعاً و سيرةً، و عالجها بأسلوب فقهي استدلالي عميق.

2 - بیان مفاد كل قاعدة.

3 - الموارد التطبيقية لكلّ قاعدة.

و قد يستطرد و يتوسع في بحثه ليضيف إلى الأمور الثلاث المتقدّمة جوانب أخرى من قبيل: هل أنّ هذه القاعدة أصولية أم فقهية، كما تعرّض لذلك في قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» و أحياناً يبحث في دليليّة القاعدة من جهة هل هي أصل عملي أو أمارة؟ و تارة يذكر النسبة بينها و بين القواعد الأخرى، كما تعرّض لذلك في قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» و نسبتها إلى قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» أو «نافذ» إلى غير هذه المباحث.

و قد أشار المصنّف في مقدّمته الموجزة على هذا الكتاب لذلك وقال:

و بعد، فإنّي من سالف لما رأيت أن القواعد الفقهية المتفرقة في أبواب العبادات و المعاملات و الأحكام لم تُجمع في كتاب مشروحاً شرحاً يذلل صعابها، و يكشف الغطاء و اللثام عن معضلاتها، فأحببت أن أجمعها و أشرحها؛ لإيضاح تلك القواعد، دلالة وسنداً و مورداً، و أبين النسبة بينها، و أعيّن الحاكم والمحكوم و الوارد و المورود منها.....

ص: 13

و الحق يمكن القول إنّه إذا كان تدوين القواعد الفقهية قد مرّ بمرحلتين:

أوّليّة و تكميلية، وإنّ القرنين الثامن والتاسع قرنا التدوين الأولى، و القرنين الثالث عشر و الرابع عشر قرنا التدوين التكميلي، فإنّ كتاب «القواعد الففهية» قد تصدّر جميع المصنفات في هذا المجال و في مرحلة التدوين الثانية.

و تجدد الإشارة إلى أنّ هناك كتباً صدرت لبعض الأعلام بعد كتاب «القواعد الفقهية» و بحثت في تلك القواعد إلا لم تَرْقَ الى مستوى ما كتبه البجنوردي من حيث العمق و الشمولية، ونذكر منها:

1 - قواعد الفقه، تأليف محمود الشهابي الخراساني، و قد طبع من قبل مؤسسة النشر في جامعة طهران.

2 _ قواعد الفقه، تأليف علي بابا الفيروز كوهي، وقد طبع مراراً.

3 - مجموعه قواعد فقه، تأليف محسن شفائي.

4 - القواعد الفقهية، تأليف آية اللّه ناصر مكارم الشيرازي، مطبوع في أربع مجلّدات.

5 - القواعد الفقهية، تأليف آية اللّه محمد فاضل اللنكراني، ص_در م_ن_ه م_جلد واحد.

6 - القواعد الفقهية، تأليف محمد تقى الفقيه، طُبع مرتين في لبنان.

7 _ لمحات على القواعد الفقهية في الأحاديث الكاظمية، تأليف السيد محمد الخامنئي، كتبه بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثالث للإمام علي بن موسى الرضا، و يشتمل على 23 قاعدة فقهية مستلة من أحاديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.

8 - القواعد الفقهية، تأليف السيد محمد الموسوى البجنوردي، و الكتاب مطبوع باللغة الفارسية .

9 - القواعد، تأليف السيد محمد جواد المصطفوي و يشتمل على مائة قاعدة

ص: 14

فقهية باللغة العربية.

10 - قواعد الفقه، تأليف السيد مصطفى المحقق الداماد، صدر في مجلدين.

هذه نبذة مختصرة عن مراحل نشوء القواعد الفقهية وتطوّرها، ولكن تبقى هناك بعض الأمور التي يجدر الاهتمام بها و دراستها و لم يكن محل اهتمام و هي:

أوّلاً: قلّة الأبحاث والدراسات النظرية حول القواعد الفقهية، وبعبارة أخرى:

إن الموضوعات التي ينبغى أن تعطينا صورة واضحة عن القواعد الفقهية و موقعها في الاستنباط لم يُحدّد إطارها و لم تُرسم حدودها، و من تلك الموضوعات:

١ - هل للقواعد الفقهية دور فى عملية الاستنباط ؟ وهل تختص في حدود تجميع الموارد الفقهية المختلفة أو تتسع دائرتها فيمكن الاستفادة منها في كيفية الاستنباط ؟

2 - هل القواعد الفقهية من الأمور التوقيفية أو يمكن التوفّر على قواعد جديدة و مستحدثة ؟ و على الثاني ما هو السبيل للحصول على تلك القواعد و اكتشافها؟

٣ - ما هو التفاعل المتبادل في سياق تطور القواعد الفقهية بين فقه أهل البيت و فقه أهل السنّة ؟

٤ _ ما هو سبب تأخّر وضع قواعد فقهية مستحدثة في الفقه الإمامي؟

الى غير ذلك من الأبحاث التي تحتاج الى دراسة عميقة وشاملة.

ثانياً: تصنيف القواعد الفقهية، بمعنى أنّ تلك القواعد تُصنف على أساس موقعها في الفقه، و في أي مجال يُستفاد منها، و ما هي القواعد التي يستفاد منها في أبواب العبادات، و ما هي التي يستفاد منها في أبواب المعاملات و سائر أقسام الفقه المتنوعة ؟

و من المعلوم أنّ هناك جهوداً بُذلت في هذا المضمار، إلا أنها لازالت ناقصة.

ص: 15

ثالثاً: تدوين القواعد الفقهية الحيوية من قبيل قاعدة العدالة، قاعدة السهولة، قاعدة المهم و الأهم، قاعدة الحرية ، و... .

و على رغم كثرة ما كتب حول القواعد الفقهية و أشير لمعظمها، لكن يمكننا دعوى أنّ هناك كثيراً من القواعد الفقهية - التي لم تقرّر على أنها قاعدة مستقلة برأسها _ قد استفيد منها في ثنايا الاستدلالات و الفتاوى الفقهية، إلا أنها لم تدوّن كقاعدة مستقلة و لم تُبيّن حدودها ومعالمها .

و في هذا المجال يقول الأستاذ الفقيه الشهيد مرتضى المطهري:

إنّه قد غفل عن قاعدة العدالة الاجتماعية مع مالها من أهمية في الفقه، في الوقت الذي يُستفاد العمومات من بعض الآيات مثل (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(1) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) و مع تأكيد القرآن الكريم على قضية العدالة الاجتماعية، إلا أنها لم يُستنبط لها أصل أو قاعدة في الفقه الإسلامي. و هذا الأمر صار سبباً لجمود الفكر الاجتماعي لدى فقهائنا (3) .

و من هنا يجدر بالأبحاث الجديدة أن تركّز على الأمور الثلاثة المتقدمة وتوليها اهتماماً متزايداً .

ص: 16


1- البقرة :(2): 83؛ النساء (4): 36 .
2- المائدة (5): 1 .
3- «مبانی اقتصاد اسلامی» ص 27، وقد نقلنا النص من اللغة الفارسية إلى العربية.

الحياة العلمية للمؤلّف

اشارة

ولد آية اللّه الميرزا السيد حسن الموسوى البجنوردي سنة ١٣١٦(1) في احدى قری بجنورد، و يتصل نسبه بالسيد ابراهيم المجاب - من أحفاد الامام موسى بن جعفر عليه السلام.

أنهى البجنوردى دراسته الابتدائية في ،بجنورد، ثمّ انتقل إلى مدينة مشهد، و درس آداب اللغة العربية على الميرزا عبد الجواد المعروف ب_ «الأديب النيشابوري»، ثم تتلمذ الفلسفة على الحاج فاضل الخراساني و آقا بزرگ الشهيدي، و في الاصول علی آقا محمد آقا زاده ابن الآخوند الخراساني، و في الفقه على الحاج آقا حسين القمّي و في التفسير على الحاج فاضل الخراساني، ثمّ صار بعد ذلك من أساتذة حوزة مشهد المعروفين بتدريس الفلسفة و الأصول.

و في سنة ١٣٤٠ _ و بناءاً على وصية أستاذه الحاج فاضل الخراساني - توجه صوب النجف الأشرف؛ لإكمال دراساته العليا، وقد استخار اللّه تعالى في أمر سفره عند أستاذه الفاضل الخراساني، فكان قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (2).

استفاد في النجف من دروس فقهاء و أصوليي هذه الحوزة من أمثال آقا ضياء العراقي و الميرزا محمد حسين النائيني و بعد لحوق آقا ضياء بالرفيق الأعلى ،

ص: 17


1- اختُلِف في تاريخ ولادته، فذهب بعض إلى أنها في 1310، و بعض 1315 و أشار ولده آية اللّه سید محمد البجنوردي إلى أن تاريخ ولادته 1310 .
2- مریم (19): 52 .

صار البجنوردي استاذاً للدراسات العليا - البحث الخارج _ في مادة علم أصول الفقه، ثم تصدّى لتدريس الأبحاث العالية في الفقه بعد رحيل السيد أبي الحسن الاصفهاني.

و كان يلقي دروسه باللغة العربية، وقد حضر لديه جمع من الطلاب الإيرانيين و الناطقين باللغة العربية.

لبي نداء ربّه فى 20 جمادي الثاني سنة ١٣٩٦ في جوار أمير المؤمنين عليه السلام النجف و دفن في مقبرة أستاذه السيد الاصفهاني.

كان البجنوردي رحمه اللّه - مضافاً إلى تضلّعه فى الفقه والأصول - معروفاً بسعة اطلاعه و طول باعه في العلوم الأخرى، مثل آداب اللغة و الفلسفة و العلوم التاريخية والجغرافية.

و كان يرتاد المحافل العلمية في العالم الإسلامى، فله روابط و علاقات مع جامعات بغداد و الأزهر و تونس و المغرب.

أما قوّة حافظته و ذكائه فهو أمر شائع و معروف، حيث كان يحفظ الكثير من الأحاديث، وكذا شعر كبار الشعراء و فطاحلهم. (1)

لم يرتض البجنوردي الأسلوب المتداول في تدريس الأبحاث العالية في الحوزة العلمية، حيث كان يعتمد فيه الأستاذ على كتاب الفتاوى مادّة لدرسه، فيأخذ مسألة مسألة و يطرحها للبحث، ويقيم الدليل على إثباتها أو نفيها، ثمّ يقرر رأيه في المسألة. إنّه كان يعتقد أنّ هذا الأسلوب لا يعلّم التلميذ القواعد الرئيسية للاجتهاد حتى يتمكن من تطبيق القاعدة في المورد المشابه؛ و لذا فإنّ التلميذ غالباً ما تطول مدة حضوره في دورس الأبحاث العالية لكي تحصل له ملكة الاستنباط .

ص: 18


1- قال ولد المصنّف آية اللّه السيد محمد: إن والدي كان يحفظ القرآن و نهج البلاغة و الصحيفة السجادية و المعلقات السبع و مقامات الحريري و مثنوي و شاهنامه فردوسی و گلستان سعدی و دیوان حافظ و جامى و شبستري. وكان يقول كل قصيدة إذا قرأتها مرتين حفظتها.

و لهذا كان يعتقد أنّ الأستاذ إذا اهتم بطرح القواعد الكلية للفقه، ثم طبقها على مصاديقها؛ فإنّ ذلك له أثر كبير فى اختزال المسافة و الإسراع في تنمية قابلية التلميذ في القدرة على استنباط الأحكام.

و على هذا الأساس صاغ المؤلف رحمه اللّه «القواعد الفقهية» و استعرض فيه ٦٤ قاعدة وناقشها دلالة وسنداً و ذكر الأمثلة التطبيقية لها.

مؤلّفاته:

١ - القواعد الفقهية مطبوع.

2 - منتهى الأصول، مطبوع.

٣ - حاشية على العروة الوثقى.

٤ - ذخيرة المعاد رسالة عملية».

ه - رسالة في الرضا عليه السلام.

٦ - رسالة في اجتماع الأمر والنهي.

7 - كتاب في الحكمة أو قولنا في الحكمة، و هو شرح على الأسفار الأربعة.

كان رحمه اللّه من أهل التهجد، يتلو أربعة أجزاء من القرآن الكريم في كلّ يوم، جزءان منه قبل صلاة الصبح و الاخران قبل الغروب، و كان يستيقظ قبل أذان الصبح بساعتين و نصف يتلو فيها جزءاً من القرآن، و يطالع ساعة ثم يشتغل بأداء صلاة الليل.

أما ذرّيته فكانوا ستة، أسماؤهم: مهدي، جواد (م ١٣٦٢ ه_ . ش) كاظم، محمد، فاطمة ، طاهرة.

و أمّا تلامذته باستثناء أولاده سيد مهدي و سيد محمد فهم:

ص: 19

آية اللّه يوسف الحكيم.

آية اللّه الشيخ جواد الرازي.

آية اللّه الشيخ محمد طاهر الرازي.

آية اللّه الشيخ محمد رضا المظفّر.

آية اللّه السيد محمد علي القاضي الطباطبائي.

آية اللّه السيد جلال الدين الاشتياني .(1)

ص: 20


1- اعتمدنا في ترجمة السيد البجنوردي و ذكر أحواله على المصادر التالية: ماضي النجف و حاضرها ص 302 - 303؛ معجم رجال الفكر و الأدب في النجف ص 52 - 53؛ طبقات أعلام الشيعة ج 1، ص 385 - 386؛ گنجینه دانشمندان ج 3، ص 184؛ مشاهیر جهان ص 248؛ دانشنامۀ جهان اسلام، حرف ب، جزوه سه، ص 919 - 920؛ مجله معارف اسلامی، شماره 6، ص 31 - 33: مصاحبه با آیة اللّه سید محمد موسوی بجنوردی .

منهجنا في التحقيق

اشارة

نظراً لعدم توفّرنا على النسخ الخطية لهذه المجموعة النفيسة، و لعدم طباعتها أكثر من مرة، فكان اعتمادنا في التحقيق على المطبوع من هذا الكتاب، الذي طبع بعض منه في النجف، و البعض الآخر في ايران.

أما ما قمنا به من عمل فهو:

1 - تقويم النصّ الذي اشتمل على تصحيح الأخطاء و وضع علائم الترقيم و ضبط النص.

٢ - تخريج الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة.

٣ - تخريج الأقوال الفقهية و الأصولية و غيرها و إرجاعها الى مصادرها الرئيسية.

٤ - التعرّف على مصادر القواعد الفقهية : في البداية تَمَّ تعريف مأخذ كلّ قاعدة من هذه القواعد المدوَّنة، و روعي التسلسل الزمني في تثبيت المآخذ و بالنسبة الى الكتب التي مؤلّفوها أحياء فقد رُتِّبت حسب الترتيب الألفبائي.

كما تم التعريف بالمقالات و الأطروحات - حسب الإمكان _ التي بحثت في القواعد الفقهية.

و جدير بالذكر أنّ بعض القواعد الفقهية كأصالة الطهارة و أصالة عدم التذكية لم يُشَرْ إليها في فهرس المآخذ ؛ نظراً الى أنها بحثت في الكتب الأصولية و حدّد

ص: 21

موقعها.

5 - إعداد الفهارس: فقد وضعنا فهارس إجمالية و تفصيلية لكل مجلد، و في نهاية المجلد السابع قمنا بصياغة الفهارس الفنية التي اشتملت على: فهرس الآيات القرآنية، فهرس أسماء المعصومين عليهم السلام ، فهرس الأعلام، فهرس الكتب الواردة في المتن و فهرس مصادر التحقيق.

كلمة شكر وتقدير

و في نهاية المطاف نتقدم بخالص شكرنا لكلّ الفضلاء الذين أسهموا معنا و شاركونا في إنجاز هذا المشروع، و هم:

1 - الإخوة سيّد أبو نوفل العميدي و السيد عبدالعزيز الكريمي، و عبدالحليم الحلّي، و عبدالحكيم الضياء، الذين ساعدونا في تخريج الآيات و الروايات و الأقوال و إعداد الفهارس.

2 - الأخ علي رضا شالباف الذي قام بتصحيح الأخطاء المطبعية.

3 _ الإخوة سيّد احمد العلوي، و سيّد على العلوي و عماد الكمالي في الإخراج الفنّى للكتاب.

٤ - الأخ يداللّه السعدي مدير مكتب نشر الهادي الذي أثمرت متابعته في تعجيل تحقيق الكتاب، كما أنه المتصدّي لطبع هذا الكتاب.

و نرى لزاماً علينا ان نقدم الشكر والثناء للسادة الأجلاء أولاد المصنّف، آية اللّه سید محمد الموسوى البجنوردي و السيد الكاظم الموسوي البجنوردي، و كذلك للأخ احمد مسجد جامعي معاون وزير الثقافة و الإرشاد الإسلامي، و للأخ على رفيعي علامرودشتي اللذين أسهموا في تحقيق الكتاب و طبعه.

ص: 22

نأمل من اللّه تعالى أن يتقبل بلطفه وكرمه هذا العمل القليل، و له الحمد أوّلاً و آخراً.

مهدي مهريزي - محمد حسين درايتي

جمادي الثانية سنة 1419

ص: 23

ص: 24

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وبعد ، فإنّي من سالف الزمان لمّا رأيت أن القواعد الفقهيّة المتفرّقة في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام لم تجمع في كتاب مشروحا شرحا يذلّل صعابها ، ويكشف الغطاء واللثام عن معضلاتها ، فأحببت أن أجمعها وأشرحها لإيضاح تلك القواعد دلالة وسندا وموردا ، وأبيّن النسبة بينها ، وأعيّن الحاكم والمحكوم ، والوارد والمورد منها.

وأسأل اللّه تعالى التوفيق لإتمام هذا العمل ، فإنّه وليّ التوفيق وخير معين ورفيق ، وأسأل اللّه تبارك وتعالى أن يهديني إلى ما هو الحقّ من الوجوه والاحتمالات فإنّه الهاديّ إلى الرشاد ، وأرجو منه تعالى أن يهيّئ الأسباب لطبع جميع مجلّداتها تباعا ، وعليه التكلان.

ص: 1

ص: 2

1 - قاعدة من ملك

اشارة

ص: 3

ص: 4

قاعدة من ملك (1)

ومن القواعد الفقهيّة القاعدة المشهورة المعروفة المتداولة في ألسنة الفقهاء ويتمسّكون بها في موارد عديدة من المسائل الفقهيّة وهي قاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ». وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في أنّها على فرض تماميّتها هل هي من المسائل الفقهيّة وقواعدها ، أو من المسائل الأصوليّة؟

وقد بيّنّا في موارد متعدّدة في كتابنا « منتهى الأصول » الفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الأصوليّة ، وأنّ المناط في كون المسألة أصوليّة وقوعها كبرى في قياس يستنتج منه حكم كلّي فرعي إلهي (2).

وحيث أنّ هذه القاعدة ليست كذلك ، ولا تقع كبرى في قياس الاستنباط ، بل هي بنفسها حكم كلّي فرعي تنطبق على مواردها الجزئيّة الكثيرة في أبواب مختلفة ، كنفوذ إقراره في بيعه وشرائه وهبته وصلحه وعاريته وإجارته وتزويجه وطلاقه

ص: 5


1- (*) « الحقّ المبين » ص1. 100 ؛ « خزائن الأحكام » ش 48 ؛ « الرسائل الفقهية » ( الشيخ الأنصاري ) ص 179 ؛ « مناط الأحكام » ص 20 ؛ « مجموعه رسائل » العدد 22 ؛ « القواعد » ص 293 ؛ « قواعد فقهية » ص 9 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 199 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 401.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 5 - 6.

وعتقه وسائر عقوده وإيقاعاته ومعاملاته ؛ فحال هذه القاعدة حال سائر القواعد الفقهيّة التي بعد أن أفتى الفقيه بمضمونها واستنبطها من أدلّتها يكون المجتهد والمقلّد في مقام تطبيقها على حدّ سواء ، فتكون كقاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة وغير تلك من القواعد الفقهيّة الكثيرة.

نعم في بعض الأحيان تشخيص الموضوع وتعيينه بيد الفقيه والمجتهد ، ولا يمكن للعامي والمقلّد تشخيصه وتعيينه ، ولا حظّ له في ذلك أصلا مثل أنّ الصبيّ المميّز مالك وقادر على الوقف وأن يتصدّق وأن يوصي ، فإذا أفتى المجتهد بصحّة صدور هذه الأمور عن الصبي المذكور ، وأقرّ الصبيّ المذكور بأحد هذه الأمور أو بجميعها ، فللمقلّد والعامي حينئذ تطبيق هذه القاعدة والحكم بصدور الأمور المذكورة صحيحة عن الصبي المذكور ، بأن يقول : الصبي مالك للأمر الفلاني حسب فتوى الفقيه ، وكلّ من ملك شيئا ملك الإقرار به ، وهذا أيضا حسب فتوى الفقيه ، فيكون إقراره بالوقف أو الصدقة أو الوصيّة مثلا نافذ وجائز.

وهذا هو الفرق بين المسألة الأصوليّة والقاعدة الفقهيّة.

وأمّا الفرق بين القاعدة الفقهيّة ومسألتها : هو أنّ القاعدة الفقهيّة موضوعها أوسع من موضوع المسألة ، بأن تكون المسائل المتعدّدة الفقهيّة مندرجة تحت تلك القاعدة الفقهيّة ، ويمكن تطبيق تلك القاعدة على جميع تلك المسائل ، مثلا هذه القاعدة - التي الآن محلّ الكلام - مندرجة تحتها مسائل كثيرة فقهيّة في أبواب مختلفة من مسائل أبواب المعاملات ، وتنطبق على جميع تلك المسائل كما تقدّم الإشارة إليها.

والقواعد الفقهية في هذا الأمر - أي في سعة دائرة انطباقها على المسائل المختلفة المتشتّته في أبواب الفقه وضيقها - مختلفة جدّا.

فأصالة الصحّة في فعل الغير أو في فعل نفسه بناء على كونها غير قاعدة الفراغ ، أو قاعدة الفراغ مثلا وسيعة جدا ، وتجري في أبواب العبادات من الطهارات الثلاث

ص: 6

والصلاة والصوم والحج ، وفي أبواب المعاملات ، أي في جميع العقود والإيقاعات.

فقد ظهر لك من جميع ما ذكرنا الفرق بين القاعدة الفقهيّة وبين المسألة الأصوليّة وبين القاعدة الفقهيّة ومسألتها.

الجهة الثانية : في الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ ، أو جائز »

وهو أنّ مفاد هذه القاعدة أوسع وأشمل من قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ؛ لأنّ مورد الإقرار في تلك القاعدة - أي المقرّ به - لا بدّ وأن يكون على ضرر المقرّ ، أمّا إذا كان على نفعه فغير جائز قطعا من جهة إقراره.

نعم يمكن أن يكون لنفوذه وجوازه جهة أخرى غير جهة نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم وبعبارة أخرى : موضوع حكم الشارع بالجواز والنفوذ في تلك القاعدة هو الإقرار الخاصّ - أي الإقرار على ضرر نفسه - لا مطلق الإقرار ولو كان له نفع فيه ، وأمّا في هذه القاعدة فعامّ ، سواء أكان له أو عليه.

وأيضا تشمل هذه القاعدة إقرار الصبي فيما له أن يفعله ، كتصرّفه في ما ملكه بالوقف أو الصدقة أو الوصية به ، بخلاف قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ » فإنّها لا تشمله ؛ لانصراف العقلاء فيها إلى البالغين. ولذلك لو أقرّ الصبي بما هو ضرر عليه فيما ليس له أن يفعله ويتصرّف فيه ولا يملكه كالبيع وهبة ماله لغيره لا ينفذ في حقّه ، ويكون ذلك الإقرار في حكم العدم.

فلا وجه لاحتمال أن يكون مفاد كلتا القاعدتين واحدا ، حتّى يكون النصّ الوارد في قاعدة إقرار العقلاء دليلا على هذه القاعدة أيضا.

ص: 7

واعترض على هذا الفرق الأخير أستاذنا المحقّق العراقي قدس سره بعدم انصراف العقلاء في تلك القاعدة إلى البالغين ؛ إذ لا فرق في نظر العرف بين من يكون عمره أقلّ من خمسة عشر سنة - بمقدار يسير كيوم بل كساعة ، وبين من يكون عمره هذا المقدار تماما بدون نقيصة. فالجملة بحسب المتفاهم العرفي تشمل كلتا الصورتين ، أي التامّ وغير التامّ إذا كان النقص قليلا ، وبعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

وأمّا ادّعاء الإجماع على عدم شموله لغير البالغين ، ففيه : أنّ القدر المتيقّن منه على تقدير ثبوته وكونه من الإجماع المصطلح - أي : ما هو كاشف عن رأي المعصومين علیهم السلام - هو فيما إذا كان تصرّفه ممنوعا ، وأمّا في الأشياء التي شرع له جواز التصرّف - كالمذكورات أي الوصيّة والوقف والصدقة - فلا إجماع في البين ، بمعنى أنّه ليس اتّفاق على عدم نفوذ إقراره على نفسه.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ عموم كونه مسلوب العبارة خصّص بجواز هذه التصرّفات الثلاث ، وأمّا إقراره بوقوع هذه التصرّفات فهو باق تحت عموم العامّ ، فليس بنافذ.

ففيه : أنّه لو صحّ هذا فحال قاعدة من ملك أيضا من هذه الجهة حال قاعدة الإقرار لا بدّ وأن يخصّص. انتهى ما ذكره أستاذنا المحقّق قدس سره في هذا المقام.

ولكن أنت خبير بأنّه لا شكّ في أنّ المتفاهم العرفي من هذه الجملة ، أي جملة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » هو خصوص البالغين ، لا الأعمّ منهم ومن غيرهم.

وأمّا ما ذكره قدس سره من عدم الفرق في نظر العرف بين البالغ وغيره ممّن كان عمره أقلّ منه بقليل كاليوم والساعة ، ففيه : أنّ العرف يفهم من هذه الجملة خصوص البالغين ، وأمّا تطبيق هذا المفهوم على المصداق فليس بنظر العرف ، فإذا حدّد الشارع هذا المفهوم فيكون تطبيق هذا المفهوم على مصاديقه بالدّقة ، والاّ فهذا الإشكال متّحد الورود على جميع المفاهيم المحدّدة من قبل الشارع ، كمفهوم الكرّ والمسافة وسائر الأوزان والمقادير. فالعرف لا يفرق بين ما هو من مصاديق المفهوم المحدّد من قبل

ص: 8

الشرع حقيقة وبالدّقة ، وبين ما هو أقلّ منه بقليل.

ولذلك لو انقطع الدم في الحيض قبل الثلاثة ولو بساعة ، أو نوى الإقامة عشرة أيّام إلاّ ساعة فليس ولا يتحقّق حيض ولا إقامة ، مع أنّ العرف لا يرى الفرق في إطلاق الثلاثة والعشرة أيّام في الثاني بين التامّ والناقص بقليل.

وفي كلامه قدس سره مواضع أخر للنظر تركناها خوفا من التطويل.

والحاصل أنّ القول بوحدة القاعدتين بعيد عن الصواب.

الجهة الثالثة : في الدليل على هذه القاعدة

الأول : ما أفاده أستاذنا المحقّق قدس سره من ثبوت الملازمة بين السلطنة على ثبوت الشي ء والسلطنة على إثباته ، بمعنى أنّ القدرة على وجود الشي ء واقعا ملازم مع القدرة على إيصاله إلى مرتبة الإظهار والإثبات ، مثلا لو كانت له السلطنة على بيع داره ، أو وقفه ، أو هبته ، أو غير ذلك من التصرفات فلا بدّ وأن تكون له السلطنة على إثبات هذا العمل والفعل.

وهذا الكلام بظاهره واضح الإشكال ، لأنّه لو كان المراد من السلطنة على إثباته بحيث أنّه يكون ثابتا في مرحلة الظاهر بمحض إظهاره وإقراره ، كي يترتّب عليه جميع آثار وجود ذلك الشي ء ، سواء أكان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير ، فهذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ؛ إذ ربما يكون الإنسان قادرا على شي ء - أي فعل وعمل - ولكن ليس قادرا على إثبات ذلك الشي ء بمحض إخباره وإقراره ، والاّ كان إخبار كلّ مخبر عن صدور فعل يكون حجّة على وجود ذلك الفعل وذلك العمل وإن أنكره من يتعلّق به العمل ، مثل إنّه لو استأجر البناء على أن يبني له الحائط أو شيئا آخر في داره أو في مكان آخر ، أو استأجر الخيّاط على أن يخيط له كذا ، فأخبر بوقوع ذلك البناء

ص: 9

أو تلك الخياطة تكون أخبار البناء أو الخياط حجّة ، مع أنّه ليس كذلك قطعا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من الملازمة بين السلطنة على إيجاد الشي ء والسلطنة على إثباته هو أنّ الشارع إن جعل سلطانا على أمر ، كما أنّه جعل الحاكم الشرعي سلطانا على نصب القيّم مثلا على القصر ، أو على جعل المتولّي للوقف الذي لم يجعل الواقف له متولّ ، فجعله الحاكم سلطانا على هذه الأمور ملازم مع جعل إخباره عن هذه الأمور وإقراره بها حجة على إثباتها ، فكلّ عمل وفعل تحت سلطنته شرعا - لا تكوينا فقط - يكون إقراره بوقوعه حجّة ، سواء أكان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير.

وفيه : أنّ هذه دعوى بلا برهان أيضا ، من جهة عدم لزوم لغويّة الجعل الأوّل ، أي كونه سلطانا على تلك الأمور من دون كون إخباره عن وقوعها حجّة - كما ربما يتوهّم - لإمكان الإشهاد على صدورها منه حتّى في مثل الرجوع إلى زوجته المطلقة رجعة في العدّة ، فيشهد عدلين على أنّه رجع إليها في العدّة.

نعم لو كان قوله : رجعت إليها في حال عدم انقضاء العدّة إنشاء - لا إخبارا عن صدور الفعل عنه - فهو بنفسه رجوع قوليّ ، ويترتّب عليه الأثر.

ويمكن أيضا أن يكون من قبيل إثبات الرجوع بإقراره ومن مصاديق هذه القاعدة.

وليس الجعل الثاني - أي جعل إقراره حجّة على وقوع ذلك الأمر الذي له السلطنة على إيقاعه - من لوازم الجعل الأوّل ، حتّى يكون الدليل الذي يدلّ على سلطنته على إيقاع ذلك الأمر يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على سلطنته شرعا على إثباته ، فيكون إخباره عن وقوعه حجّة على وقوعه ؛ لأنّه لا ملازمة بينهما ، لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا.

أمّا عدم الملازمة عقلا وشرعا فواضح ، وأمّا عرفا فمن جهة أنّ العرف لا يفهم

ص: 10

من قوله علیه السلام « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (1) أنّ إخبار الزوج بطلاق زوجته حجّة على وقوعه.

الثاني : الإجماع ، وتقريبه أنّ هذه القضيّة الكلّيّة ، أي قولهم : « من ملك شيئا ملك الإقرار به » كأنّها من القضايا المسلّمة عندهم ، ويستدلّون بها على فتاويهم كما يستدلّون بالآية والرواية المعتبرة.

وقد صرّح العلاّمة قدس سره في التذكرة بسماع دعوى المسلم إن أمّن الحربي في زمان يملك أمانه وهو قبل الأسر ، وادّعى الإجماع على سماع هذه الدعوى. (2).

ولا شكّ في أنّ هذا الإجماع الذي ادّعاه العلاّمة قدس سره إجماع على مورد من موارد هذه القاعدة ، ولا يثبت به الكلّيّة المذكورة ، ولكنّه يدلّ على أنّ هذه القضيّة في الجملة إجماعي.

وأنت إذا تتبّعت كلمات القوم ترى أنّ جلّ الأكابر والمحقّقين تمسّكوا بهذه الكلّيّة في موارد جزئيّة ، كأنّها دليل معتبر عندهم ، وأرسلوها إرسال المسلّمات كأنّها آية أو رواية.

وقد ذكر جملة من تلك الموارد شيخنا الأنصاري قدس سره في ملحقات المكاسب (3) في مقام شرح هذه القاعدة ، فراجع. ولا يخفى أنّ مرادنا من تمسّكهم بهذه الكلّيّة في الموارد الجزئيّة ، أي في غير ما إذا كان على نفسه ، وإلاّ فيما إذا كان الإقرار على نفسه فذلك نافذ يقينا ؛ بدليل معتبر وهو قوله علیه السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (4) من دون احتياج إلى هذه القاعدة أصلا.

ص: 11


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 234 ، ح 137 ؛ « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 673 ، ح 2081 ، باب طلاق العبد.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 416.
3- « المكاسب » ص 368.
4- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 111 ، أبواب الإقرار ، باب 3 ، ح 2 ؛ « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، ج 2 ، ص 257 ، ح 5.

وعمدة الكلام في إثبات هذه القاعدة والكلّيّة هو فيما إذا كان إقراره وإخباره بوقوع ما يملك شرعا إيقاعه في غير موارد الإقرار على النفس ممّا كان له ، أو لغيره ، أو على غيره.

وما أحسن ما أفاد شيخنا الأعظم قدس سره في هذا المقام بقوله ولكن الإنصاف أنّ القضيّة المذكورة في الجملة إجماعيّة ، بمعنى أنّه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلينا كلامهم إلاّ وقد عمل بهذه القضيّة في بعض الموارد ، بحيث نعلم أنّه لا مستند سواها ، فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضيّة ، وعملوا بها في مورد آخر انتهى. (1)

ثمَّ يذكر بعض موارد خلاف بعضهم ، وموارد عمل ذلك البعض بهذه القاعدة. ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ خلاف بعضهم في بعض المصاديق لا يضرّ بتحقّق الإجماع على اعتبار هذه القاعدة ، لأنّ معنى الإجماع على اعتبار دليل وقاعدة هو أن يستند الجميع إلى ذلك الدليل وتلك القاعدة ولو في مورد واحد ، لا أنّهم لا يختلفون ولو كان في واحد من صغرياته وموارده ؛ ولذلك قالوا : لو تحقّق الإجماع على عنوان مطلق ، يتمسّك بإطلاق ذلك العنوان لمورد الشكّ ، ولو كان ذلك المورد محلّ الخلاف. وذلك من جهة أنّ اعتبار القضيّة الكلّيّة إذا ثبت بدليل - وإن كان ذلك الدليل هو الإجماع - يطبق على جميع الموارد وإن كان بعضها محلّ خلاف.

الجهة الرابعة : في بيان ما هو المراد من هذه القاعدة وهذه القضية الكلية؟

أي ما هو الظاهر منها حسب متفاهم العرف حتّى يستكشف المراد.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفهوم « الشي ء » عامّ ، يشمل الأعيان والأفعال ، وهذه

ص: 12


1- « المكاسب » ص 370.

القضيّة الكلّيّة الشرطيّة مركّبة من جملتين : إحديهما شرط ، والأخرى جزاء ، والقضيّة الشرطيّة المتكفّلة لبيان الحكم الشرعي يكون الشرط موضوعا للجزاء. فمعنى « من استطاع يجب عليه الحج » أنّ المستطيع يجب عليه الحج ، فالجملة الأولى من هذه الكليّة - أي من ملك شيئا - موضوع للجملة الثانية ، فيرجع مفاد هذه الكلّيّة ، إلى أنّ المالك لشي ء سواء أكان ذلك الشي ء عينا من الأعيان الخارجية ، أو فعلا من الأفعال - مالك للإقرار به. ولكن حيث أنّ نفس العين الخارجي ليست قابلة لتعلّق الإقرار بها إلاّ باعتبار تعلّق فعل من أفعاله بها ، فيرجع معنى هذه الكلّيّة إلى أنّ المالك لفعل من الأفعال يملك الإقرار بذلك الفعل ، وظاهر كون الإنسان مالكا لفعل - حيث أنّه في مقام التشريع - هو أن يكون سلطانا على ذلك الفعل شرعا ، أي كان له شرعا إيجاده وإيقاعه ، لا صرف القدرة التكوينية.

مثلا لو كان شرعا مالكا لبيع مال - أو شرائه أو هبته أو وقفه أو عتقه أو غير ما ذكر من أنحاء التصرّفات أو تزويج امرأة أو طلاقها ، أو أيّ تصرّف كان مشروعا له أي كان مجعولا له من طرف الشارع - متعلّقا بأيّ عين من الأعيان ، أو لم يكن متعلّقا بعين أصلا ، ففي جميع ذلك يملك الإقرار به ، سواء أكان له هذه السلطنة أوّلا وبالذات ، أو كانت آتية من قبل موكله أو من جهة ولايته.

فلو سلّمنا وجود الدليل على اعتبار هذه الجملة وهذه الكلّيّة لكان يجب الأخذ بهذه الظاهر ، وتطبيقه على جميع موارده ، إلاّ أن يأتي في مورد من موارده دليل من إجماع أو غيره على التخصيص وعدم نفوذ إقراره.

وحيث أنّ العمدة في دليلها الإجماع فلا بدّ وأن يلاحظ معقد الإجماع هل هو مطلق الأفعال التي يملكها ، سواء أكان له أو عليه. وكذلك بالنسبة إلى الآثار التي لذلك الفعل لغيره ، سواء أكان له أو عليه ، أو مخصوص نفوذه بالنسبة إلى الآثار التي لنفسه لا لغيره؟

ص: 13

وبعد ، إن قيل باختصاصه بالنسبة إلى نفسه ، فهل مطلق بالنسبة إلى ماله أو عليه أو مخصوص نفوذ إقراره بما عليه ، لا بما له؟

والإنصاف أنّ كلمات الفقهاء وعباراتهم في هذا المقام مختلفة جدّا ، والذي يظهر من مجموع كلماتهم وعباراتهم في مختلف أبواب الفقه أنّه لا اختصاص له بخصوص الآثار التي له بالنسبة إلى نفسه ، وتكون عليه لا له حتّى يكون مفاد هذه القاعدة مفاد قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ ، أو جائز » فإنّهم متّفقون على سماع إقرار الولي الإجباري فيما يملكه ولو كان على ضرر المولى عليه.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا - من نفوذ إقراره حتّى وإن كان بالنسبة إلى ضرر الغير - هو فيما إذا كان ذلك الأثر الذي ضرر على الغير أثرا لنفس فعله ، من دون مدخليّة فعل شخص آخر في ترتيب ذلك الأثر ، وإلاّ فهو مالك لإقرار فعل نفسه الذي يملكه ، لا لفعل غيره. فاذا كان موضوع الأثر مركّبا من فعل نفسه وفعل غيره ، فبإقراره لفعل نفسه لا يثبت الأثر.

ومما ذكرنا ظهر الفرق بين العقود والإيقاعات ، فإذا كان مالكا لإيقاع كطلاق أو عتق أو غيرهما ، فبإقراره يثبت وقوع ذلك الإيقاع. وأمّا إن كان مالكا لعقد من بيع أو هبة أو إجارة أو غير ذلك من العقود ، فبإقراره لصدور ذلك العنوان لا يثبت ذلك العنوان بالنسبة إلى الجزء الآخر الذي يملكه غيره.

الجهة الخامسة

في أنّ نفوذ إقراره بالنسبة إلى فعل يملكه شرعا مشروط بأن يكون مالكا حال الإقرار وفي زمانه ، أو يكفي كونه مالكا في زمان وقوع الفعل ولو لم يكن مالكا لذلك الفعل في زمان الإقرار؟ مثلا بعد أن بلغ الصبي يقر من كان وليا عليه بأنّه باع ماله الفلاني بكذا ، أو اشترى له بكذا في الزمن الذي كان وليّا عليه ، أو بعد انقضاء العدّة

ص: 14

يقرّ بالرجوع في زمان العدّة وهكذا في سائر الموارد ممّا يشاكل هذين المثلين.

والفروع الفقهيّة المترتبة على هذا الأمر كثيرة ، ويترتّب عليها نتائج مهمّة ، مثلا يقرّ وكيل شخص بعد عزله بصدور أفعال فيها ضرر على موكّله ، حين وكالته عنه في تلك الأفعال ، وكذلك مثلا يقرّ وليّ البنت بعد كبرها وصيرورتها مالكة أمرها بتزويجها من شخص معيّن في حال صغرها وكونها مولى عليها.

ومرجع هذه الجهة الخامسة إلى أنّه هل المراد من معقد الإجماع في هذه المسألة هو مالكيّته للفعل على تقدير وجوده - بمعنى أنّه لو فرضنا كونه صادقا في إقراره هذا ، كان صدور الفعل عن سلطنة شرعيّة عليه - أو أنّ المراد من مالكيّته لهذا الفعل الذي أقرّ بصدوره عنه هو أنّه لو لم يكن صادرا إلى حين الإقرار تكون لها السلطنة في تلك الحال على إيجاده؟

فبناء على احتمال الأوّل يكفي كونه مالكا حين وقوع الفعل الذي يدّعي وقوعه في ذلك الحين ، وأمّا بناء على احتمال الثاني فلا بدّ من كونه مالكا وقادرا وسلطانا على إيجاد الفعل حال إقراره.

ولا شكّ في أنّ المتيقّن من مورد انعقاد الإجماع - على تقدير تحقّقه كما رجحنا ذلك - هو الاحتمال الثاني. وأمّا الأوّل فلا مجال لإثباته بالإجماع وليس دليل لفظي من آية ، أو رواية معتبرة حتّى يتمسّك بإطلاقها.

نعم ربما يتوهّم جريان استصحاب بقاء السلطنة - التي كانت له حال وقوع الفعل الذي يقرّ بوقوعه - في الزمان المتقدّم وفي ذلك الزمان.

ولكن أنت خبير بأنّ موضوع تلك السلطنة المتيقّنة هو القادر والمالك لإيجاد الفعل في زمان إقراره ، والموضوع بهذا المعنى تبدّل يقينا ؛ لأنّه في المقام ليس قادرا شرعا على إيجاد ذلك الفعل حال الإقرار ، كما هو المفروض.

ولا يتوهّم أنّ مالكيّة إيجاد الفعل شرعا في القضيّة المتيقّنة ، وعدمها في المشكوكة

ص: 15

ليست من مقوّمات الموضوع في نظر العرف ؛ فوحدة القضيّتين بحسب الموضوع - التي شرط في جريان الاستصحاب - محفوظة عرفا.

وقد حقّق في محلّه أنّ المناط في الاتّحاد بين القضيّتين هو النظر العرفي وذلك من جهة أنّ العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرون القدرة على إيجاد الفعل شرعا حال إقراره وفي زمانه من مقوّمات موضوع السلطنة على الإقرار بوقوعه ، فلا يبقى مجال لجريان هذا الاستصحاب.

فالنتيجة : أنّ هذه القاعدة لا تجري ، ولا يكون إقراره نافذا إلاّ فيما إذا كان قادرا لإيجاد الفعل حال إقراره فبناء على هذا لا ينفذ إقراره على الموكل بعد عزله أو انعزاله ولو كان زمان وقوع الفعل الذي أقرّ به قبل عزله أو انعزاله ، وكذا في سائر الفروع وباقي المقامات ، كما لو أقرّ بالرجوع في العدّة بعد انقضائها ، أو أقرّ الولي بعقد الصغيرة في صغرها بعد بلوغها ، وصيرورتها مالكة أمرها.

ص: 16

2 - قاعدة الإمكان

اشارة

ص: 17

ص: 18

قاعدة الإمكان (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة هي القاعدة المعروفة عندهم بقاعدة الإمكان وهي قولهم : « إنّ كلّ ما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض ». والبحث فيه عن جهات ثلاث :

الأولى : في معنى هذه الجملة والكليّة ، وأنّه ما المراد منها.

الثانية : في الدليل على هذه الكلية وانه ما هو.

الثالثة : في مواردها والفروع التي تنطبق هذه القاعدة عليها : فنقول :

أمّا الجهة الأولى : أي المراد من هذه الجملة وما هو معناها

فالعمدة فيها من الألفاظ هو لفظ « الإمكان » وأنّه ما المراد منه ، وإلاّ فلفظ « الحيض » معلوم أنّه عبارة : عن الدم السائل الذي يقذفه الرحم المتّصف بصفة كذا ، وله شروط وقيود باعتبار سنّ المرأة التي منها سيلان ذلك الدم ، وتوالي الدم ، واتّصافه بأوصاف مخصوصة ، ولا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام متوالية ولا أكثر من عشرة ، ويكون بينه وبين الحيضة السابقة فصل أقلّ الطهر وهي عشرة أيّام متوالية وسائر القيود والشرائط المذكورة في الفقه في باب الحيض.

ص: 19


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 211 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 22 ؛ « مجموعه رسائل » العدد 10 ، ص 471 ، « القواعد » ص 27 ؛ « ما وراء الفقه » ج 1 ، ص 155.

فنقول : الإمكان وإن كان في حدّ نفسه له معان متعدّدة ، من الإمكان العامّ والخاصّ والأخصّ والاستقبالي والاستعدادي والوقوعي والاحتمالي وبالقياس إلى الغير ، ولكن الظاهر أنّ المراد منه هاهنا هو الإمكان الوقوعي ، أي ما لا يترتّب على وقوعه وثبوته محذور عقلي ولا شرعي. كما قلنا في أنّ المراد من إمكان حجيّة الظن - مقابل قول ابن قبة حيث قال بامتناعها (1) هو إمكان وقوعا ، أي لا يلزم من حجيته محذور ، لا عقلا ولا شرعا.

فيكون مفاد الجملة بناء على هذا المعنى كل دم لا يلزم من كونه حيضا محذور لا عقلا ولا شرعا في عالم الإثبات لا بحسب الواقع فهو عند الشارع محكوم بالحيضيّة.

وهذا المعنى من الإمكان هو الدائر في المحاورات العرفيّة ، فإذا يقولون بأنّ الشّي ء الفلاني ممكن أن يقع ، يريدون به أنّه لا يلزم من وجوده محذور ، ولا شكّ في أنّ الفقهاء في ذكر هذه الجملة يتكلّمون على طريقة أهل المحاورة ، لا أنّهم يتكلّمون باصطلاح أو بمعنى غير جار استعمال اللفظ بذلك المعنى في محاوراتهم. ولعمري هذا واضح جدّا.

وأمّا الإمكان بالقياس إلى الغير الذي ذكره صاحب الكفاية قدس سره في هذا المقام ، وقال بأنّ الإمكان في القاعدة بهذا المعنى فأجنبي عن المقام ؛ لأنّ الإمكان بالقياس إلى الغير معناه أنّه إذا قاسيناه بذلك الغير فهو - أي ذلك الغير - لا يوجب ضرورة وجوده ولا ضرورة عدمه ، وبعبارة أخرى : لا يستلزم وجوده ولا عدمه ، كما إذا فرضنا واجبين فكلّ واحد منهما لا علّة لوجود الآخر ولا لعدمه ، بل كلّ واحد منهما أجنبي عن الآخر.

فالقول بأنّ الحيض ممكن أي بالقياس إلى القيود والأدلّة الشرعيّة وهذا هو المراد منه فعجيب ؛ لأنّ الأدلّة الشرعيّة لا تخلو من أحد الأمرين : إمّا يقتضي الحكم

ص: 20


1- حكى عنه في « فرائد الأصول » ج 1 ، ص 40.

بحيضيّته ، وإمّا يقتضي الحكم بعدم حيضيّته لفقد قيد أو شرط من شروطه في الشبهة الحكمية.

وأمّا إذا شكّ في اعتبار أمر في حيضيّته ممّا هو مفقود في هذا الدم الخارجي ، كتوالي الدم في ثلاثة أيام فلا يمكن أن يقال إنّه بالقياس إلى الأدلّة الشرعيّة ممكن أن يكون حيضا بالمعنى الذي ذكرنا للإمكان بالقياس إلى الغير ؛ لأنّ الأدلّة الشرعيّة بالأخرة إمّا يقتضي بالحيضيّة أو يقتضي عدمه بحيث لو لم تكن هذه القاعدة موجودة لكان الفقيه حسب الأدلّة الشرعيّة يحكم إمّا بالحيضيّة وإمّا بعدمها.

نعم لا بأس بأنّ يقال بأنّ المراد من الإمكان في المقام هو الاحتمال بحسب الأدلّة الشرعيّة ، ففي مورد الشكّ في شرط أو قيد في الشبهة الحكميّة ، وكذلك في احتمال وجود مانع كالحمل مثلا ، يحتمل أن يكون الدم حيضا ، فيحكم بحيضيّته بقاعدة الإمكان.

ومرادنا من الإمكان الوقوعي هو هذا المعنى ، أي لا يلزم من جعله حيضا محذور شرعا أو عقلا في عالم الإثبات ، لا عدم محذور في عالم الثبوت ؛ لأنّه بذلك المعنى يكون وجوده واجبا ولو بالغير ؛ لأنّه أيّ محذور لوقوعه أعظم من عدم علّة وجوده يكون واجبا بالغير.

فالمراد بالإمكان الوقوعي هاهنا عدم وجود محذور من وقوعه في عالم الإثبات وبناء على هذا المعنى المختار تشمل القاعدة كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية جميعا ، فكلّما لم يكن دليل شرعي أو عقلي على عدم حيضيّته فهو حيض ، فتكون قاعدة ظاهريّة في مورد الشكّ والشبهة ، سواء كانت حكميّة أو موضوعيّة. وبعبارة أخرى : تكون كقاعدة الطهارة وقاعدة الحلّ أصلا غير تنزيلي. وقد عبّر بعضهم عن هذا المعنى بالإمكان الشرعي ، أي كلّما كان دم يمكن شرعا أن يكون حيضا - بمعنى عدم قيام دليل شرعا على أنّه ليس بحيض - فالشارع حكم بحيضيّته ظاهرا وترتيب آثار

ص: 21

الحيض عليه ما لم ينكشف الخلاف.

فإذا سال دم من خنثى المشكل وشكّ في أنّه حيض أم لا ، فتارة يكون الشكّ من جهة الشكّ في أنّه رجل أو امرأة ، وأخرى من جهة أنّه على تقدير كونها امرأة يشكّ في أنّه حيض لاحتمال شرطيّة شرط ، أو قيدية قيد مفقود ، أو مانع موجود.

فإذا كان الشكّ من الجهة الثانية - أي لاحتمال فقد قيد أو شرط مما اعتبره الشارع في حيضية الدم أو وجود مانع كالحمل مثلا - فتجري هذه القاعدة لأنّه لم يدلّ دليل من طرف الشرع أو العقل على عدم حيضيّته فاحتمال الحيضية موجود مع عدم دليل على نفيه في عالم الإثبات.

وأمّا الشكّ من الجهة الأولى ، أي من ناحية أنّه رجل أو امرأة - فإن قلنا إنّ مورد هذه القاعدة هو فيما إذا أحرز أنّ هذا الدم سال من رحم المرأة وشكّ في أنّه هل هو الدم الطبيعي الذي يقذفه رحم المرأة المسمى بالحيض ، أو من سائر الدماء التي تخرج من الرحم أو الفرج لأسباب خاصة - فلا تجري القاعدة ؛ لعدم إحراز كونها امرأة ، وإلاّ أي إن لم نقل بلزوم إحراز كونها امرأة ، بل المناط في جريان القاعدة هو الشكّ في الحيضيّة من أيّ سبب وجهة حصل ، ولو كان الشكّ من جهة قابلية المحلّ فتجري.

والتحقيق في المقام : أنّه لا بدّ وأن ينظر إلى دليل القاعدة وأنّ مفاده هل هو أنّ الدم الخارج عن المحل القابل إذا كان ممكن الحيضيّة ، أي لم يكن دليل على نفي حيضيّته فهو حيض؟ فبناء على هذا في الدم الذي قذفه رحم التي يشكّ في أنّها صغيرة أو يائسة لا تجري قاعدة الإمكان أيضا مثل الخنثى المشكل ، وأمّا إن كان مفاد الأدلّة صرف الاحتمال ، وعدم وجود دليل على الخلاف شرعا أو عقلا فتجري القاعدة في المذكورات. والظاهر هو الثاني ، كما سيأتي في بيان الأدلّة.

وخلاصة الكلام : أنّ المراد بهذا الإمكان على ما يستظهر من مقاعد إجماعاتهم

ص: 22

وكلماتهم وأقوالهم هو أنّه كلّ دم يمكن أن يكون حيضا أي يحتمل أن يكون بحسب الواقع حيضا - وهذا بناء على أنّ للحيض واقعا محفوظا ، لا أنّ الشارع اعتبر في الدم الذي يخرج من الرحم قيودا وجوديّة وعدميّة وسمّاه حيضا - فإذا لم يدلّ دليل على أنّه ليس بحيض لا عقلا ولا شرعا فهو في عالم الإثبات حيض ، ويجب ترتيب آثار الحيض على ذلك الدم ما لم ينكشف الخلاف.

فتكون هذه قاعدة ظاهريّة مجعولة للشاكّ ، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، فلا تجري في الدم المشكوك فيه في حال الصغر أو اليأس أو الحمل بناء على كونه مانعا ، وغير ذلك مما اعتبره الشارع وجاء الدليل على اعتباره وجودا أو عدما ؛ لأنّ الدليل الدالّ على اعتبار هذه القيود الوجوديّة أو العدميّة رافع للشكّ الذي أخذ موضوعا في القاعدة ، فيكون حاكما على القاعدة شأن كلّ أمارة بالنسبة إلى الأصل.

فمرادنا بالإمكان الوقوعي ليس أنّه لا يلزم محذور في حاقّ الواقع من وقوعه حتّى يكون الحكم به حكما واقعيّا ، بل المراد كما شرحناه عدم دليل على نفيه في مقام الإثبات ، فحكم الشارع بوقوعه إثباتا لا ثبوتا ، ولزوم ترتيب آثار الحيض على ذلك الدم في عالم الإثبات ما لم ينكشف الخلاف ؛ ولذلك قلنا أنّها قاعدة ظاهريّة في مورد الشكّ ، لا قاعدة متكفلة لبيان الحكم الواقعي ، بل حالها حال سائر الأصول العمليّة غير التنزيليّة.

ثمَّ إنّه يظهر من كلام الشيخ الأنصاري قدس سره (1) أنّ المراد من الإمكان في هذه القاعدة هو الإمكان بالقياس إلى جميع ما اعتبره الشارع من القيود الوجودية والعدمية ، أو يحتمل دخله فيه وجودا أو عدما فيه أي في الحيض عنده أي عند الشارع ما لم يكن دليل على نفيه. فبناء على هذا لو حصل الشكّ في مدخلية شي ء وجودا أو عدما في

ص: 23


1- « كتاب الطهارة » ص 184.

كون الدم حيضا كتوالي ثلاثة أيام مثلا فلا يمكن التمسّك لكونه حيضا بقاعدة الإمكان ؛ لما قلنا من أنّ المراد من الإمكان هو إمكان كونه حيضا حتّى بالقياس إلى ما يحتمل دخله وجودا أو عدما في كونه حيضا عند الشارع إن لم يكن دليل على عدم اعتباره ، وبناء على هذا لا تجري القاعدة في الشبهة الحكميّة وتكون مختصّة بالشبهة الموضوعيّة.

ثمَّ إنّه بناء على هذا المعنى الأخير الذي اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من أنّ الإمكان بلحاظ كلّ ما اعتبره الشارع من القيود الوجودية أو العدمية ، أو ما احتمل اعتباره من طرفه فبعد إحراز الجميع يكون مجرى قاعدة الإمكان ، وإلاّ مع الشكّ في تحقّق أحد القيود الوجوديّة أو العدميّة التي متيقّن اعتبارها أو يكون محتمل الاعتبار فلا تجري ؛ ولذلك قلنا تختصّ بالشبهات الموضوعيّة ، ويكفي لإحراز تلك القيود الوجوديّة أو العدميّة - المتيقّنة أو المحتملة - الأصول الجارية لإثبات الشرط كاستصحاب بقائه ، أو لعدم المانع كما في الشكّ في طروّ اليأس ، فأصالة عدم حصول اليأس كافية في إحراز شرطيّة عدم اليأس إن قلنا بأنّه شرط ، كما أنّها كافية في إحراز عدم مانعيّة اليأس إن قلنا بأنّ اليأس مانع.

هذا كلّه كان في بيان ما هو المراد من الإمكان في القاعدة من المعنيين المذكورين ، وقد عرفت أنّه بأحد المعنيين تجري القاعدة في الشبهات الحكميّة ، وبالمعنى الثاني هو مختار الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره لا تجري إلاّ في الشبهات الموضوعية.

أما الجهة الثانية : أي الدليل على هذه القاعدة

وهو الذي يوجب تعيين معنى الإمكان من بين المعاني المحتملة ، وهل المعنى الأوّل الذي بيّنّاه للإمكان هو الذي تنطبق عليه الأدلّة ، أو المعنى الثاني الذي اختاره الشيخ

ص: 24

الأعظم الأنصاري قدس سره ؟

فنقول استدلوا عليها بأدلّة :

الأوّل : الأصل ، وتقريبه من وجوه : الأوّل أنّ الظاهر أنّ الدّم الذي يقذفه الرحم من غير علّة هو دم الحيض ، فيكون من قبيل ظهور الألفاظ بالنسبة إلى مرادات المتكلّمين بها.

وفيه : أنّ حجيّة الظهورات في باب الألفاظ من جهة بناء العقلاء في محاوراتهم على بيان مراداتهم بما هو ظاهر اللفظ وترتيب الأثر عليه ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة ، بل سلك هو أيضا في محاوراته هذا المسلك ولم يخترع طريقا آخر بل حاله حال أهل المحاورة والعرف في مقام الإفادة والاستفادة. فباب ظواهر الألفاظ أجنبي عن المقام ؛ إذ أنّ الحيض أمر تكويني خاصّ كسائر ما يترشّح من الإنسان بل مطلق الحيوان ، فحمله على ترشّح خاصّ يحتاج إلى دليل وأمارة عليه ، ولا ظهور لذلك في حدّ نفسه أصلا وعلى فرض أن كان ، يحتاج إلى دليل على حجية هذا الظهور وليس شي ء في البين.

وأمّا إن كان المراد به الغلبة فصغرى وكبرى ممنوعة ؛ لأنّه قلّ من امرأة لا تبتلى بالاستحاضة ، مضافا إلى وجود دماء آخر في الرحم غير الحيض والاستحاضة ، وعلى فرض وجود الغلبة لا دليل على اعتبارها.

وأمّا إن كان المراد به أنّ مقتضى أصالة السلامة هو أنّ الدم الذي يقذفه الرحم السالم حيض.

ففيه أنّه لا دليل أوّلا على أنّ مقتضى السلامة أنّ الدم الخارج من الرحم السالم حيض ، إذ الدم الخارج منه يمكن أن يكون حيضا ويمكن أن لا يكون ، إذ كثيرا ما يخرج من الرحم السالم غير الحيض من سائر الدماء كما هو واضح بالعيان.

وثانيا على فرض كونها مقتضيا لذلك فليس من قبيل العلة التامّة بحيث يقطع

ص: 25

الإنسان أنّ كل دم يقذفه يكون حيضا ؛ إذ من الواضح أنّ الرحم السالم ربما يقذف الدم قبل البلوغ أو بعد اليأس بزمان يسير أو ربما يزيد على العشرة ، وكلّ هذه ليس بحيض بحكم الشارع.

نعم يمكن أن يقال إنّ الدم الخارج من الرحم السالم في غير ما دلّ الدليل على عدم كونه حيضا يظنّ أنه حيض ، ولكن لا دليل على اعتبار هذا الظنّ ، فمقتضى أصالة حرمة العمل بالظنّ عدم جواز العمل بهذا الظنّ.

وأمّا ما ربما يدّعي من أنّ ما عدا الحيض من الدماء التي يقذفها الرحم خلاف مقتضى الفطرة الأوليّة للنساء وخلقتها الأصليّة لهنّ ولا بدّ وأن يكون من جهة علّة وآفة في الرحم ، ومقتضى أصالة السلامة نفي هذه الاحتمالات ، فلا بدّ وأن يحمل على أنّه حيض.

فليست هذه الدعاوي إلاّ من موجبات الظنّ بأنّ الدم الخارج حيض ، وقلنا أنّه لا دليل على اعتبار مثل هذا الظنّ في المقام.

وأمّا إن كان المراد من الأصل استصحاب عدم كون هذا الدم الخارج من العرق العاذل حتى يكون حيضا ، لعدم احتمال دم ثالث في البين ، أو استصحاب عدم كون هذا الدم استحاضة بالعدم الأزلي وبطور السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع.

ففيه أولا : بأنّ هذا الاستصحاب استصحاب العدم النعتي وليس هذا العدم حالة سابقة ، وقد أبطلنا استصحاب العدم الأزلي لإثبات عدم النعت في الأصول ، فراجع.

وثانيا : أنّه معارض باستصحاب عدم كونه حيضا على فرض تسليم جريان استصحاب العدم الأزلي لإثبات عدم النعت.

وثالثا : أنّ استصحاب عدم كونه استحاضة أو عدم كونه من عرق العاذل لإثبات كون هذا الدم المشكوك حيضا من أردء أقسام المثبتات.

الثاني : بناء العرف على أنّ ما رأت المرأة التي هي في سنّ من تحيض من الدم

ص: 26

الخارج من الرحم أنّه حيض ، إلا إذا علم عدم كونه حيضا بواسطة الأدلّة والأمارات.

ومرجع هذا الدليل إلى مراجعة العرف في تشخيص مصاديق مفهوم الذي جعله الشارع موضوعا لحكمه ، مثلا جعل الشارع مفهوم « الغناء » موضوعا للحرمة ، فإذا شكّ في صوت أنّه من مصاديق الغناء فالمرجع في تشخيص المصداق لذلك المفهوم هو العرف ، فإذا كان بناء العرف مثلا على أنّ كل صوت شكّ في أنّه غناء فهو غناء ، فهذا البناء من أهل العرف حجّة على كونه غناء.

وفيما نحن فيه أيضا كذلك ، إذا كان بناء عرف النساء أنّ كلّ دم لم يعلم أنّه استحاضة أو دم آخر غير دم الحيض فهو من مصاديق مفهوم الحيض الذي هو مفهوم عرفي ، لا أنّه من مخترعات الشارع الأقدس.

وفيه أولا : أن أمر تطبيق المفهوم على المصاديق ليس بيد العرف ، وإنّما المرجع هو العرف في تعيين المفاهيم وفهم المراد منها ، وأمّا تطبيق المفهوم على المصداق فهو دقي وبيد العقل. نعم قد يكون الشكّ في الصدق من جهة عدم معرفة حدود المفهوم من حيث السعة والضيق ، ويسمّى بالشك في الصدق مقابل الشبهة المصداقيّة ، ففي مثل هذا المورد لا بأس بمراجعة العرف ؛ لأنّه في الحقيقة يرجع إلى تعيين حدود المفهوم ، ويكون المناط فيه فهم العرف.

وأمّا في مثل المقام - من أنّ منشأ الشكّ أمور خارجيّة أو احتمال فقدان شرط شرعي أو قيد أو وجود مانع كذلك بناء على جريان هذه القاعدة في الشبهة الحكميّة - فليس من تلك الجهة ، أي من جهة الشبهة المصداقية قطعا.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر هذه القاعدة - كما تقدّم بيان حكم الشكّ - في الحيض وأنّ الوظيفة العمليّة في ظرف الشكّ ما هو؟ وبناء العرف في هذا المقام لا أثر له ، ولو صحّ ما ذكرنا من مراجعة العرف في مقام تشخيص مصاديق المشتبهة للمفاهيم فيكون بناؤهم رافعا للشكّ وأمارة على الحيض إن كانت الشبهة موضوعية. وأمّا لو

ص: 27

كان المراد من بناء العرف بنائهم على ترتيب آثار الحيض على دم المشكوك الحيضيّة عملا ، فيحتاج حجيّة هذه البناء منهم على إمضاء الشارع على فرض تحقّق هذا البناء منهم ، مع أنّ تحقّق مثل هذا البناء في غير مورد الأمارات الشرعيّة كالعادة ووجود الصفات وغيرهما لا يخلو من تأمّل وإشكال.

وأمّا في موارد العادة ، أو فيما إذا كان الدم بصفات الحيض فإرجاع الشارع إليهما وإن كان مسلّما ، ولكن لا ربط له بقاعدة الإمكان ، بل إرجاعه إليهما يكون رادعا لقاعدة الإمكان. وأيضا لا أثر في أخبار الباب من الإرجاع إلى قاعدة الإمكان عند فقد العادة وعدم الصفات ، مع أنّه لو كانت القاعدة بمعنى بناء العرف المذكور ممضاة من قبل الشارع لكان يقتضي الإرجاع إليها أيضا ، خصوصا عند فقدهما.

والحاصل أنّ عدم إرجاع الشارع إليها - في مورد الشكّ في حيضيّة الدم الخارج من مدخل الرحم خصوصا بعد فقد العادة والصفات - دليل على عدم إمضائه لهذه البناء على تقدير تسليم وجودها.

الثالث : سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة لا بما هم عقلاء على ترتيب آثار الحيض على الدم المشكوك كونه حيضا ، ولا شكّ في أنّ السيرة العمليّة من المتشرّعة بما هم متشرّعة ، مثل الإجماع والاتّفاق القولي كاشف قطعي عن رأي الإمام علیه السلام لأنّها في الحقيقة إجماع عملي من المتشرّعة أعمّ من أن يكونوا فقهاء مجتهدين أم كانوا من العوام. وملاك الحجيّة وهو الاستناد وكونه مسببا عن رأي المعصوم في كليهما واحد.

وفيه : مضافا إلى عدم معلوميّة هذا الاتّفاق منهم بمجرّد كون الدم مشكوك الحيضيّة ، وعلى تقدير تحقّقه فلعلّه من جهة وجود أمارة من العادة أو الصفات أو غيرهما احتياطا فيما يمكن الاحتياط.

وثانيا : كاشفيّة السيرة عن رأي الإمام علیه السلام منوطة باتّصالها إلى زمان المعصوم ، ولا طريق إلى إثبات ذلك. نعم لو تحقّقت السيرة من المتشرّعة بما هم متشرّعة من

ص: 28

دون استناد إلى الأدلّة الشرعية من الصفات والعادة والروايات الواردة في هذا الباب ، ومن دون كون ترتيب آثار الحيضيّة من باب الاحتياط ، وكانت متّصلة بزمان المعصوم ولم يردع عنها فتكون دليلا على هذه القاعدة. ولكن في جميع مقدّمات هذا الدليل إشكال.

الرابع : ما أفاده كاشف اللثام من أنّه لو لم يعتبر قاعدة الإمكان عند الشكّ في كون الدم حيضا لما أمكن الحكم بحيضيّة دم ؛ لعدم اليقين بها غالبا ، وعدم دليل آخر من أصل أو أمارة يدلّ على كونه حيضا (1).

وفيه : أنّه جعل الشارع أمارات لإثبات كونه حيضا :

منها : كونه في العادة وقتا وعددا أو أحدهما وإن لم يكن بصفات الحيض.

ومنها : ما إذا كان الدم بصفات الحيض وإن لم يكن في العادة ، كما في قوله علیه السلام في مرسل يونس : « دم الحيض أسود يعرف » (2). وكقوله علیه السلام في خبر حفص قال : دخلت على أبي عبد اللّه علیه السلام امرأة سألته عن المرأة يستمرّ بها الدم ، فلا تدري حيض هو أم غيره؟ قال علیه السلام لها : « إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود ، له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة بارد رقيق ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة ». قال : فخرجت وهي تقول : لو كان امرأة ما زاد على هذا (3).

منها : عن العلاّمة في التذكرة (4) ، عن الصادق علیه السلام . « إنّ دم الحيض ليس به خفاء ، وهو دم حار محتدم ، له حرقة » إلى آخره (5). والأخبار في معرفة الحيض بالصفات

ص: 29


1- « كشف اللثام » ج 1 ، ص 88.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 86 ، باب جامع في الحائض والمستحاضة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 538 ، أبواب الحيض ، باب 3 ، ح 4.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 91 ، باب معرفة دم الحيض من دم الاستحاضة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 151 ، ح 429 ، باب حكم الحيض والاستحاضة. ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2. ص 537 ، أبواب الحيض ، باب 3 ، ح 2.
4- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 294.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 92 ، باب معرفة دم الحيض من دم الاستحاضة ، ح 3 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 151 ح 431، باب حكم الحيض والاستحاضة. ، ح 3.

كثيرة فراجع محلّها ، أي باب علائم دم الحيض من كتاب جامع أحاديث الشيعة في أحكام الشريعة (1).

منها : الروايات التي تدلّ على الحكم بكونه حيضا مع التوالي ثلاثة أيّام والانقطاع على ما دون العشرة وان لم يكن بصفات الحيض وغير ذلك من الامارات ، فلا بأس في الرجوع إلى أصالة العدم فيما لم يكن يقين وإحدى هذه الأمارات ، ولا يلزم من عدم اعتبار قاعدة الإمكان محذور أصلا.

الخامس : الروايات الكثيرة التي يستظهر منها حكم الشارع بأنّ الدم الذي لم تدلّ الأدلّة الشرعيّة على عدم كونه حيضا فهو حيض ، بمعنى أنّ ما اعتبره الشارع في الحيضيّة من القيود الوجوديّة والعدميّة موجودة فيه ، فبالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة لا مانع من كونه حيضا.

فمفاد تلك الأخبار الكثيرة في الموارد المختلفة أنّ مثل هذا الدم حيض ؛ ولذلك عبّر جماعة عن الإمكان في هذه القاعدة بالإمكان القياسي ، أي بالقياس إلى الأدلّة الشرعيّة.

وقد عرفت أنّ هذا المعنى لا ينافي ما ذكرنا من أنّ المراد بالإمكان المذكور في القاعدة هو الإمكان الوقوعي شرعا ، أي لا يلزم من وقوعه شرعا محذور.

فإذا كان عمر المرأة أقلّ من تسع ، أو أكثر من خمسين في غير القرشية ، أو من ستين فيها فلا يمكن أن يكون حيضا بالإمكان الوقوعي عند الشارع ؛ لأنّه يلزم من كونه حيضا محذور شرعا بعد ما اعتبر كون عمر المرأة التي تحيض تسع فما زاد ، وأن لا يكون أكثر من خمسين أو ستّين.

منها : الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ ما تراه المرأة قبل العشرة - أي عشرة

ص: 30


1- « جامع أحاديث الشيعة » ج 2 ، ص 478 ، باب علائم دم الحيض والاستحاضة والعذرة والقرحة.

الطهر الفاصلة بين الحيضتين - فهو من الحيضة الأولى ، وما تراه بعدها فهو من الحيضة المستقبلة.

ومنها : رواية يونس عن الصادق علیه السلام قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام المرأة ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أيّام ، قال علیه السلام : « تدع الصلاة ». قلت : فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة ، قال : « تصلّي ». قلت : فإنّها ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أيّام ، قال علیه السلام : « تدع الصلاة ». قلت : فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيّام ، أو أربعة أيّام قال علیه السلام « تصلّي » قلت : فإنّها ترى الدم ثلاثة أيّام ، أو أربعة أيّام قال علیه السلام : « تدع الصلاة تصنع ما بينها وبين الشهر ، فإن انقطع عنها وإلاّ فهي بمنزلة المستحاضة » (1).

ومنها : رواية أخرى عن يونس بن يعقوب عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة ترى الدم خمسة أيّام والطهر خمسة أيام ، وترى الدم أربعة أيّام ، وترى الطهر ستّة أيّام ، فقال علیه السلام : « إن رأت الدم لم تصلّ ، وإن رأت الطهر صلّت ما بينها وبين ثلاثين يوما ، فإذا تمّت ثلاثون يوما فرأت الدم دما صبيبا اغتسلت واستثفرت واحتشّت بالكرسف في وقت كلّ صلاة ، فإذا رأت صفرة توضّأت » (2).

ومنها : رواية سماعة قال : سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها ، فقال علیه السلام : « إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة ، فإنّه ربما تعجل بها الوقت » الحديث. (3)

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه سأل عن الحلبي ترى

ص: 31


1- « الكافي » ج 3 ، ص 79 : باب أوّل ما تحيض المرأة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 544 ، أبواب الحيض ، باب 6 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 380 ، ح 1180 ، باب الحيض والاستحاضة. ح 3 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 132 ، ح 454 ، باب أقلّ الطهر ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 544 ، أبواب الحيض ، باب 6 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 77 ، باب المرأة ترى الدم قبل أيّامها أو بعد طهرها ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 158 ، ح 453 ، باب حكم الحيض والاستحاضة. ، ح 25 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2. ص 556 ، أبواب الحيض ، باب 13 ، ح 1.

الدم أتترك الصلاة؟ فقال : « نعم ، إنّ الحبلى ربما قذفت بالدم » (1).

ومنها : رواية صفوان قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أتصلي؟ قال علیه السلام : « تمسك عن الصلاة » (2).

ومنها : رواية منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال علیه السلام : « أيّ ساعة رأت المرأة الدم فهي تفطر » الحديث (3).

وأيضا هناك روايات أخر تمسكوا بها أيضا لإثبات هذه القاعدة تركناها لكي لا يطول المقام ، وما ذكرنا منها أظهر في المقصود ممّا لم نذكر.

ومع ذلك كلّه يمكن المناقشة في دلالة هذه الروايات على اعتبار هذه القاعدة بطور الكلية في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة بصرف احتمال كون الدم حيضا مع عدم محذور شرعا من الحكم بحيضيّته ، بمعنى عدم دليل شرعي على عدم كونه حيضا.

أمّا الطائفة الأولى : فالظاهر منها كون الدم حيضا على أيّ حال ، بلا اشتباه في كونه حيضا أم لا ، وأنّما الشكّ في كونه من الحيضة الأولى أم الثانية ، فيقول علیه السلام بأنّ الدم الذي قبل العشرة من الحيضة الأولى وما بعدها من الثانية. وذلك من جهة أنّ النقاء المتخلّل بين الدمين إذا لم يزد مع ما في طرفيه على العشرة فالمجموع حيضة واحدة ، وإلاّ - كما في المقام - فالدم الأوّل من حيضة والثاني من حيضة أخرى ، وإلاّ يلزم أن يكون أكثر الحيض أكثر من العشرة ، وهو معلوم العدم ؛ فليس في مقام الحكم بكونه حيضا فيما إذا تردّد بين كونه حيضا وبين عدمه.

ص: 32


1- « الكافي » ج 3 ، ص 97 ، باب الحبلى ترى الدم ، ح 5 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 386 ، ح 1187 ، باب الحيض والاستحاضة و. ح 10 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 138 ، ح 474 ، باب الحبلى ترى الدم ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 576 ، أبواب الحيض ، باب 30 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 387 ، باب الحيض والاستحاضة و... ح 16. « الاستبصار » ج 1 ، ص 139 ، ح 478 ، باب الحبلى ترى الدم ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 577 ، أبواب الحيض ، باب 30 ، ح 4.
3- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 394 ، ح 1218 ، باب الحيض والاستحاضة و. ح 41 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 146 ، ح 499 ، باب المرأة تحيض في يوم من أيّام شهر رمضان ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 601 ، أبواب الحيض ، باب 50 ، ح 3.

وأمّا روايتان يونس بن يعقوب الأولى والثانية فالظاهر أنّهما في المرأة التي استدام بها الدم واختلط عليها عادتها ، فتعمل عمل الحائض عند رؤية كلّ دم لاحتمال كونه هو الحيض ، وعمل الطهر عند كلّ طهر حتّى يتبيّن حالها فيما بعد وترجع إلى عادتها وإلاّ فالحكم بحيضيّة كلّ دم من تلك الدماء معلوم العدم ؛ لعدم الفصل بين الدمين بالنقاء العشرة التي هي أقلّ الطهر ، وكون مجموع الدمين مع النقاء المتخلّل بينهما أكثر من عشرة في بعض الصور منها ، فلا يمكن تطبيقها على قاعدة الإمكان ، كما هو واضح.

وأمّا رواية سماعة : فقوله علیه السلام : « فإنّه ربما تعجل بها الوقت » ظاهر في أنّ تقدّم الدم قليلا من الزمان - مثل يوم أو يومين على الوقت - لا يخرجها عن كونها ذات العادة الوقتيّة ، لأنّه ربما تعجل بها الوقت ، فيكون الحكم بحيضيّته من جهة كونه في الوقت وهي ذات العادة الوقتيّة ، وهي أمارة.

وبعبارة أخرى : يكون قوله علیه السلام : « ربما تعجل بها الوقت » نحو توسعة في الوقت ، فلا ربط لها بقاعدة الإمكان.

وبهذا المضمون - أي الحكم بكون الدم الذي قبل الحيض بيوم أو يومين فهو حيض وإن كان ذا صفرة - روايات كثيرة ، فهي صريحة في أنّ التقدّم بيوم أو يومين على وقت العادة لا يخرجها عن كونها ذات العادة الوقتية بالنسبة إلى هذا الدم المتقدم على الوقت ، وإلاّ فبمقتضى صفة كونه ذا صفرة يجب أن يحكم عليه بأنّه استحاضة ولكنّه حيث أنّ أماريّة الوقت والعادة مقدّمة على الصفات فيحكم بحيضيّته ؛ ولذا وردت في الروايات أنّ الصفرة في أيّام الحيض حيض وفي غيرها استحاضة (1).

وأمّا رواية عبد اللّه بن سنان وصفوان : ففي مقام أنّ الحيض يجتمع مع الحبل ، ولا فرق بين الحبل وغيره في إمكان تحقّق الحيض معه ، وهذا لا ينافي أنّ إثباته يحتاج إلى أمارات وعلائم التي جعلها الشارع طريقا إلى معرفة الحيض ؛ فلا ربط لهما بقاعدة

ص: 33


1- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 539 ، أبواب الحيض ، باب 4.

الإمكان.

وأما رواية منصور بن حازم : فالظاهر منها أنّ الحيض بمحض وجوده في نهار رمضان يوجب الإفطار ، سواء أكان في أوّل النهار أو في آخر النهار بعد الفراغ عن كونه حيضا ، لا أنّه في مورد الشكّ في حيضيّته يحكم بكونه حيضا ؛ فلا ربط لها بقاعدة الإمكان.

وأمّا الروايات الواردة في باب تميّز دم الحيض عن دم العذرة - بأنّها تستدخل قطنة ، فإن خرجت والدم فيها مطوّق فهو دم العذرة ، وإن خرجت والدم فيها منغمس فدم الحيض (1). فمن جهة جعل الشارع الانغماس في القطنة أمارة للحيض ، والتطوق أمارة للعذرة ، فإن عمل بها فتكون من باب قيام الأمارة على الحيض مقابل الاشتباه بالعذرة لا مطلقا ، وإن لم يعمل بها فلا يدلّ على شي ء وعلى كلّ حال - لا ربط لها بقاعدة الإمكان.

وكذلك الرواية الواردة في تميّز الحيض عن القرحة - بالخروج عن الجانب الأيسر فحيض ، وإن كان خروج الدم عن الجانب الأيمن فقرحة (2) - ظاهرها جعل الخروج من كلّ واحد من الطرفين أمارة لأحدهما مع انحصار الاحتمال فيهما ، ولا يكون احتمال كون الدم دما آخر كالاستحاضة مثلا ، فان عمل بها يكون إثبات الحيض بالأمارة لا بقاعدة الإمكان وإلاّ فلا يدل على شي ء.

هذا مع اختلاف النسخ ، ففي بعضها جعل الأيسر علامة الحيض ، وفي بعضها الأيمن.

وأمّا روايات الاستظهار بيوم أو يومين (3) ، فليس إلاّ من جهة الاحتياط حتّى يتبيّن الحال ، كما هو ظاهر لفظ الاستظهار.

ص: 34


1- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 535 ، أبواب الحيض ، باب 2.
2- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 560 ، أبواب الحيض ، باب 16.
3- « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 556 ، أبواب الحيض ، باب 13.

وفي بعض الروايات أنّ المرأة إذا تجاوز الدم عن عادتها فهي تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة أيّام كصحيح البزنطي عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ، سألته عن الطامث كم تستظهر؟ قال علیه السلام : « تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة » (1).

وفي موثّق يونس بن يعقوب ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : امرأة رأت الدم في حيضها حتى تجاوز وقتها ، قال علیه السلام : « تنظر عادتها التي كانت تجلس ، ثمَّ تستظهر بعشرة أيّام » (2). والحاصل أن أخبار الاستظهار مختلفة جدّا من حيث تعيين مقدار الاستظهار بين يوم واحد ، ويومين ، وثلاثة أيّام ، وعشرة أيّام ، وثلثي أيّامها في النفساء ؛ ولذلك حملوها على الاستحباب.

وعلى كلّ حال المقصود من الاستظهار تبيّن حال الدم وأنّه بعد تجاوزه عن مقدار عادتها العدديّة هل ينقطع على العشرة أو ما دونها حتى يكون المجموع حيضا ، أو يتجاوز عن العشرة حتى تأخذ بعادتها؟ فلا ربط لها بقاعدة الإمكان.

السادس : الإجماع ، وقد ادّعاه جماعة من الأصحاب كالمحقّق في المعتبر (3) ، والعلامة في المنتهى (4).

وقال في القواعد : وكلّ دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض. (5) وأرسله إرسال المسلّمات.

ص: 35


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 171 ، ح 489 ، باب حكم الحيض والاستحاضة و. ح 61 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 149 ، ح 514 ، باب الاستظهار للمستحاضة ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 557 ، أبواب الحيض ، باب 13 ، ح 9.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 402 ، ح 1259 ، باب الحيض والاستحاضة والنفاس ، ح 82 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 149 ، ح 516 ، باب الاستظهار للمستحاضة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 558 ، أبواب الحيض ، باب 13 ، ح 12.
3- « المعتبر » ج 1 ، ص 203.
4- « المنتهى » ج 1 ، ص 98.
5- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 213.

وفي جامع المقاصد : هذا الحكم ذكره الأصحاب. (1)

وعن نهاية الأحكام : كلّ دم يمكن أن يكون حيضا وينقطع على العشرة فإنّه حيض ، سواء اتّفق لونه أو اختلف ، ضعيف أو قوي إجماعا (2).

وعن الخلاف : إنّ الصفرة والكدرة في أيّام الحيض حيض ، وفي أيّام الطهر طهر ، سواء كان أيّام العادة أو الأيّام التي يمكن أن تكون حائضا فيها. ثمَّ قال : دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه إجماع الفرقة (3).

وقال في مفتاح الكرامة ، في شرح قول العلاّمة في القواعد : وكلّ دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض إجماعا ، كما في المعتبر ، والمنتهى ، ونهاية الأحكام ذكره في مبحث الاستحاضة ، ومجمع البرهان ، وفي جامع المقاصد نسبه إلى الأصحاب ، وفي شرح المفاتيح : أنّه المعروف من مذهب الأصحاب. وذكره الشهيد في اللمعة فيكون مشهورا بناء على ما ذكره في آخرها وقال في جامع المقاصد : لو لا الإجماع لكان الحكم به مشكلا من حيث ترك المعلوم ثبوته بمجرد الإمكان (4).

وقال أيضا في مفتاح الكرامة : وفي حاشية المدارك : إنّهم لم يعوّلوا على الإمكان ، وإنّما عوّلوا على الإجماع ، والمجمعون اطلعوا على المستند. انتهى ما في مفتاح الكرامة (5).

ولا شكّ في أنّ هذه الكلمات من هؤلاء الأكابر والأعاظم تكشف عن تسلّمهم على هذه القاعدة.

ولكن الكلام في أنّه هل من الإجماع المصطلح الأصولي الذي قلنا بحجيّته واستكشاف رأي المعصوم علیه السلام منه أم لا ، بل اتّفاقهم مستند إلى ما ذكرنا من الأدلّة

ص: 36


1- « جامع المقاصد » ج 1 ، ص 288.
2- « نهاية الأحكام » ج 1 ، ص 134.
3- « الخلاف » ج 1 ، ص 235 ، المسألة 201.
4- « مفتاح الكرامة » ج 1 ، ص 345.
5- « المصدر.

الخمسة المتقدّمة؟

والظاهر أنّ مستند المتّفقين مختلفة ، فبعضهم لا يستندون إلاّ إلى نفس الاتّفاق والإجماع ، من دون أن يكون لهم مستند آخر عقليّا أو نقليّا ، وبعضهم الآخر يستندون إلى الأدلّة المتقدّمة ، وهم أيضا مختلفون فبعضهم يستندون إلى أصالة السلامة ، وبعضهم يستندون إلى الأخبار ، وهكذا.

ومعلوم أنّ مثل هذا الإجماع لا يفيد لإثبات قاعدة كلّية ظاهريّة في مقام الشكّ ، خصوصا في الشبهات الحكمية.

وعلى كلّ حال الأقوال في هذه القاعدة مختلفة : فقول باعتبارها في الشبهة الحكميّة والموضوعية جميعا ، وآخر بعدم اعتبارها مطلقا ، وقول بالتفصيل بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، بعدم اعتبارها في الأولى واعتبارها في الثانية.

الجهة الثالثة : في بيان موارد جريان القاعدة على تقدير اعتبارها

اشارة

ولا بدّ في تعيين ذلك من النظر إلى دليل اعتبارها ، وأنّه هل يدلّ على اعتبارها في كلّ مورد لم يعلم بعدم كونه حيضا بحسب الأدلّة الشرعيّة وإن احتمل ذلك ، فتدلّ هذه القاعدة بناء على هذا كون كلّ دم مشكوك - ولم يرد دليل على عدم حيضيّته - أنّه حيض أم لا ، بل دائرة اعتبارها أضيق ممّا ذكر؟

وبعبارة أخرى : المناط في سعة دائرة موارد جريانها هو دلالة دليل اعتبارها سعة وضيقا ، فلو كان الدليل على اعتبارها هو الدليل الأوّل - أي الأصل - فبأيّ معنى من معانيه التي ذكرناها يكون موردها عامّا يشمل الشبهة الحكميّة والموضوعيّة جميعا.

ص: 37

ولكن عرفت عدم صحّة ذلك الدليل.

وأمّا بناء على أن يكون دليلها هو بناء العرف - الذي هو الدليل الثاني ممّا ذكرنا - فلا يدلّ على فرض تحقّقه وحجيّة ذلك البناء على أكثر من كون الدم المشكوك من جهة الشبهة الموضوعيّة والأمور الخارجيّة حيضا ، فلا يشمل الشكّ في كونه من جهة الشبهة الحكميّة ؛ لأنّه مع احتمال اعتبار الشارع قيد وجودي أو عدمي لا يبقى مجال لدلالة بناء العرف والعقلاء على حيضية الدم المشكوك.

وبعبارة أخرى : بناء العرف والعقلاء يحتاج حجيته إلى إمضاء الشارع ، ومع احتمال اعتبار الشارع وجود قيد مفقود في الدم المشكوك ، أو عدم قيد موجود فيه لا إمضاء في البين.

وقد عرفت الإشكالات الواردة على هذا الوجه.

وأمّا بناء على الوجه الثالث أي السيرة المتشرّعة فعلى فرض تحقّقها عندهم بما هم متشرّعة واتّصالها بزمان المعصوم ولم يكن استنادهم إلى الروايات ، وإلاّ فيكون المدرك هي الروايات. وسنتكلّم فيها ولم يكن حكمهم بالحيضيّة من باب الأدلّة الشرعيّة والصفات والعلامات والعادة ، ولم يكن ردع عن قبل الشارع ، فلا بدّ وأن يلاحظ معقد السيرة هل هو خصوص الشبهة الموضوعيّة أو الأعمّ منها ومن الحكمية؟

وأما بناء على الوجه الرابع مع وضوح بطلانه في نفسه لا يفيد إلاّ فيما لا يكون مثبتا للحيضيّة ، وإن كان ذلك الدليل أصلا غير تنزيلي.

وأما بناء على الوجه الخامس - أي الأخبار التي استدلّوا بها على هذه القاعدة ، فلو قلنا بدلالتها على اعتبار هذه القاعدة وأغمضنا النظر عن الإشكالات التي أوردناها على دلالة تلك الأخبار على اعتبارها - فالإنصاف أن في دلالتها على اعتبار هذه القاعدة حتّى في الشبهات الحكميّة نظر بل إشكال.

ص: 38

بيان ذلك : أنّ ظاهر هذه التعليلات - مثل قوله علیه السلام في رواية عبد اللّه بن سنان « إنّ الحبلى ربما قذفت » (1) أو قوله علیه السلام في رواية سماعة « فإنّه ربما تعجل بها الوقت » (2) - أنّ كونها حبلى ، أو وجود الدم قبل وقت العادة ليس ممّا يمنع عن كون هذا الدم الخارجي حيضا ، فتدلّ على أنّ هذا الدم الخارجي إذا شككت في أنّه حيض من جهة احتمال كون الحبلى أو وجوده قبل وقت العادة مانعا خارجيا عن كونه حيضا فهو حيض ؛ لأنّه لا منافاة بين الحبل والحيض ، لأنّ الحبلى أيضا مثل غيرها ربما تقذف الدم وأيضا لا منافاة خارجا وتكوينا بين تقدّم الدم على الوقت وبين كونه حيضا ؛ لأنّه قد يعجل بها الوقت ، لا أنّه علیه السلام بصدد بيان أنّه عند الشكّ في مانعيّة الحمل أو مانعيّة وجود الدم قبل الوقت يكون حيضا حتّى يكون حكمه بالحيضيّة في مورد الشبهة الحكميّة.

ودلالة الروايات على هذه القاعدة لو ثبتت تكون من ناحية هذه التعليلات ، وقد عرفت أنّ هذه التعليلات على دلالتها على القاعدة المذكورة لا تدلّ على أكثر من أنّ الدم المشكوك الحيضيّة - من ناحية الأمور الخارجيّة ، ككون المرأة حبلى ، أو تقدّم الدم على العادة وأمثال ذلك - حيض.

وأما بناء على الوجه السادس - أي الإجماع - فلا بدّ وأن يلاحظ معقد الإجماع ، وهل انعقد الإجماع على فرض تحققه على اعتبارها مطلقا؟ سواء أكانت الشبهة حكميّة - أي كان منشأ الشكّ احتمال اعتبار قيد وجودي من طرف الشارع ، وهو مفقود كالتوالي مثلا ، أو احتمال اعتبار قيد عدمي في دم الحيض ، وهو موجود كاحتمال اعتبار عدم كون عمرها أكثر من خمسين مثلا وهو أكثر ، أو اعتبار عدم كونها حاملا وهي حامل مثلا - أو كانت موضوعيّة فقط ، منشأ الشكّ هي الأمور الخارجيّة ، أو لا بل انعقد على اعتبارها في الشبهات الموضوعيّة فقط ، أو يكون معقد الإجماع في بعض

ص: 39


1- تقدم تخريجه في ص 32.
2- تقدم تخريجه في ص 31.

الشبهات الموضوعية لا جميعا وهو خصوص مورد الروايات فقط دون سائر الشبهات الموضوعيّة؟

والإنصاف أنّه لو أغمضنا عن الإشكال الذي أوردنا على الإجماع فالذي يستظهر من معاقد إجماعاتهم واتّفاقاتهم هو المعنى الوسط ، أي اعتبارها في جميع الشبهات الموضوعيّة دون الشبهات الحكمية. وتحقّق مثل هذا الإجماع ليس ببعيد ، وهو الوجه في حجيّة هذه القاعدة.

ثمَّ أنّه لمّا كانت هذه القاعدة مجعولة للشاكّ في حيضيّة الدم فيكون حكما ظاهريّا ، وأصلا عمليّا غير تنزيلي. فإذا كانت هناك أمارة على أنّ الدم الكذائي حيض أو ليس بحيض ، أو أصل تنزيلي كاستصحاب الحيضيّة أو عدمها فلا يبقى مجال لجريان هذه القاعدة.

نعم بناء على بعض الوجوه المتقدّمة - مثل ما لو كان المدرك لهذه القاعدة هي السيرة وهكذا أصالة السلامة - تكون من قبيل الأصول التنزيليّة ، فتتعارض مع سائر الأصول التنزيليّة كالاستصحاب مثلا ، إلاّ أن يكون مرجّح في البين يوجب تقديم أحدهما ، وإلاّ فمقتضى القاعدة التساقط.

فتلخّص ممّا ذكرنا عدم الاحتياج إلى هذه القاعدة في جميع الموارد التي دلّ الدليل على كونه حيضا أو ليس بحيض من نصّ أو إجماع ، بل لا مورد لها ؛ لأنّها أصل عملي ، فمع وجود الأمارة المعتبرة من نصّ أو إجماع ، على الحيضيّة يرتفع موضوعها تعبّدا وفي عالم التشريع ، أي لا يبقى شكّ وتحيّر حتّى تصل النوبة إلى جريانها ولا فرق في حكومة الأمارات عليها بين أن يكون مؤدّاها موافقا للقاعدة أو مخالفا لها.

وكذلك الأصول التنزيليّة على تقدير كونها أصلا غير تنزيلي ، ففي أيّام العادة التي حكم الشارع بحيضيّة الدم - سواء أكانت واجدة للصفات أم لا - لا مجال لجريان القاعدة ، كما أنّه لو كان في غير أيّام العادة ولكن كان بصفات الحيض أيضا كذلك ، لأنّ

ص: 40

الشارع جعل الصفات أمارة على الحيضيّة ولو لم يكن في أيّام العادة. وكذلك في غير أيّام العادة لو كان بصفات الاستحاضة من كونه أصفرا باردا رقيقا فلا تجري القاعدة ؛ لأنّ الشارع جعل هذه الصفات في غير أيّام العادة أمارة الاستحاضة ، وكذلك فيما زاد على العشرة حكم الشارع بعدم حيضيّة ما زاد على العشرة ؛ لأنّ أكثر الحيض عشرة ، وكذلك ما زاد على العادة بشرط تجاوز الدم عن العشرة لحكم الشارع بأنّ ما زاد على العادة إن لم ينقطع على العشرة ليس بحيض.

وكذا لو كان التطويق أمارة كون الدم دم العذرة عند اشتباه دم الحيض بدم العذرة فلا تجري القاعدة إذا كان الدم مطوقة في القطنة. وكذلك إذا كان الخروج من جانب الأيمن كان أمارة على كونه دم القرحة ، أو خروجه من جانب الأيسر كان أمارة الحيضيّة ، ففي كلا الموردين لا مجال لجريان القاعدة ، وكذا في كلّ مورد كان الشكّ من جهة احتمال اعتبار قيد وجودي مفقود في الدم ، أو احتمال اعتبار قيد عدمي موجود فيه.

وبعبارة أخرى : في الشبهات الحكميّة لا تجري القاعدة ، وكذلك في مستدامة الدم بناء على رجوعها إلى الروايات بأن تأخذ في شهر ثلاثة وفي شهر سبعة ، أو ترجع إلى عادة أهلها وأقاربها أو ترجع إلى التميّز بالصفات إن كانت ولم يكن الدم لونا واحدا ، ففي جميع ذلك لا مجال لجريان القاعدة : وبناء على كون القاعدة أصلا غير تنزيلي في كلّ مورد كان استصحاب الحيضية واستصحاب عدمها أيضا لا مجال لجريان القاعدة ؛ كلّ ذلك لأجل حكومة الأمارات والروايات على الأصول مطلقا ، والأصول التنزيلية على غير التنزيلية.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ موارد جريان القاعدة في خصوص الشبهات الموضوعيّة فيما إذا لم يكن أمارة أو أصل تنزيلي ، إذا قلنا بأنّها أصل غير تنزيلي ، سواء أكانت موافقة للقاعدة أو كانت مخالفة لها.

ص: 41

تذييل :

ربما يقال : بأنّه بعد القطع في دم يخرج من النساء بأنّه ليس بحيض - إمّا من جهة عدم فصل أقلّ الطهر بين هذا الدم والحيض السابق عليه ، أو من جهة تجاوزه عن العشرة ، أو من جهة كونه أقلّ من الثلاثة ، أو لأيّ جهة من الجهات المذكورة في محلّها ممّا لا يمكن أن يكون حيضا حسب القواعد المقرّرة في الشرع - إذا دار أمره بين أن يكون استحاضة أو دم آخر غير الحيض فيحكم بأنه استحاضة.

وكأنّهم بناءهم على أنّ الأصل في الدم الخارج عن فرج المرأة بعد القطع بعدم كونه حيضا أنّه استحاضة ، فهذا أصل ثانوي بعد عدم جريان قاعدة الإمكان وعدم أمارة كونه دم عذرة من تطويقه في القطنة التي تستدخلها في مخرج الدم.

وما قالوا في مقام الاستدلال على هذا الأصل الثانوي والقاعدة الطولية لتلك القاعدة أمور :

منها : أنّ الاستحاضة دم طبيعي بالنسبة إلى سائر الدماء بعد عدم كونه حيضا يقينا لخروجه عن العرق العاذل وتكوّنه في أغلب الأمزجة.

وفيه : أنّ كلّ حادث لا بدّ وأن يكون حدوثه من أجل وجود علّة ، وخروجه من العرق العاذل إن كان صحيحا لا بدّ وأن يكون لحدوث علّة قد توجد فتنعدم ، وإلاّ فلا بدّ وأن يدوم الخروج وتكون المرأة مستدام الدم ، فإذا شككنا في وجود تلك العلّة كيف يمكن الحكم بأنّ معلولها موجود؟

إلاّ أن يأتي دليل تعبّدي على أن المحتمل استحاضة ، وهذا أوّل الكلام.

وأمّا تكونه في أغلب الأمزجة لا يوجب إلاّ الظنّ بكونه استحاضة من باب الحمل على الأكثر ، ولا دليل على حجيّة مثل هذا الظنّ.

ص: 42

منها : أنّ دم الاستحاضة أغلب من سائر الدماء.

وفيه : أنّه على فرض تسليم الصغرى يأتي فيه ما ذكرنا في جواب الوجه الأوّل ، من عدم الدليل على حجيّة مثل هذا الظنّ.

ومنها : أصالة عدم حدوث علة أخرى غير علّة الاستحاضة من الدماء الآخر.

وفيه : أوّلا معارضتها بأصالة عدم حدوث علّة الاستحاضة. ولا يمكن أن يقال في مقام دفع المعارضة بأنّ علّة الاستحاضة دائما موجودة فلا مجرى لأصالة عدمها ، وذلك من جهة أنّه لو كان الأمر كذلك لكان دم الاستحاضة دائميّا ، لعدم إمكان تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وإن قيل : بأنّ ما هو موجود دائما من قبيل المقتضى لا العلّة التامّة ، ولذلك قد يتخلّف ولا يجري دم الاستحاضة لعدم وجود سائر أجزاء العلّة التامّة من الشرائط وإعدام الموانع.

فنقول : تعود المعارضة وتجري أصالة العدم بالنسبة إلى تلك الشرائط وإعدام الموانع. هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات كون الدم بأنّه دم استحاضة باستصحاب عدم حدوث علّة سائر الدماء عجيب كما هو واضح ، إلاّ على القول بصحّة الأصول المثبتة.

ثمَّ إنّه لا يخفى على فرض صحّة هذه القاعدة وأن يكون لها أصل فعند الشكّ يرتّب آثار الاستحاضة ، إمّا الكثرة أو القليلة أو المتوسّطة في موارد كثيرة من موارد الاشتباه ، كلّ واحدة من هذه الأقسام الثلاثة بالعلامات المعيّنة لها.

ص: 43

ص: 44

3 - قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله

ص: 45

ص: 46

قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله (1)

والكلام فيها تارة : في سندها ، وأخرى : في دلالتها وموارد جريانها.

أما الأوّل : فالأصل فيه الخبر المشهور المعروف المروي عند العامّة والخاصّة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وهو قوله : « الإسلام يجبّ ما قبله » (2).

وفي مجمع البحرين بزيادة قوله صلی اللّه علیه و آله : « والتوبة تجبّ ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب » (3) وفي المحكى عن أبي الفرج الأصبهاني ، وأيضا في المحكي عن سيرة ابن هشام - في حكاية إسلام مغيرة بن شعبة - أنّه وفد مع جماعة من بني مالك على مقوقس ملك مصر ، فلمّا رجعوا قتلهم المغيرة في الطريق وفرّ إلى المدينة مسلما ، وعرض خمس أموالهم على النبي صلی اللّه علیه و آله فلم يقبله ، وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لا خير في غدر ». فخاف المغيرة على نفسه ، وصار يحتمل ما قرب وما بعد فقال صلی اللّه علیه و آله : « الإسلام يجبّ ما قبله » (4).

وأيضا ذكر ابن سعد في كتابه « الطبقات الكبير » قصة إسلام مغيرة بن شعبة وغدره برفقائه من بني مالك ، وقتلهم وسلبهم أموالهم وفراره إلى المدينة وعرضه

ص: 47


1- (*) « الحق المبين » ص 93 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 67 ؛ « خزائن الاحكام » العدد 34 ؛ « مجموعه رسائل » ص 48 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 123 ؛ « القواعد » ص 37 ؛ « القواعد فقهي » ص 225 ؛ « القواعد الفقهية » ص 215 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1. ص 257 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 171 ؛ « قواعد الفقهية » العدد 40 ، ص 114.
2- 2 « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 54 ، ح 145 ؛ وص 224 ، ح 38 ؛ « مستند احمد بن حنبل » ج 4 ، ص 199 و 204 و 205 ؛ « جامع الصغير للسيوطي » ج 1 ، ص 123.
3- « مجمع البحرين » ج 1 ، ص 336 « جبّ ».
4- « الأغاني » ج 16 ، ص 82 ، « السيرة النبويّة » ، ج 3 ، ص 328.

أموالهم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وآبائه عن أخذه ، وقال : « لا خير في غدر » ولكن قبل إسلامه ، وقال : « الإسلام يجبّ ما قبله ». (1)

وروى في البحار في ذكر قضايا أمير المؤمنين علیه السلام أنّه جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إنّي طلّقت امرأتي في الشرك تطليقة ، وفي الإسلام تطليقتين فما ترى؟ فسكت عمر ، فقال له الرجل : ما تقول؟ قال : كما أنت حتّى يجي ء علي بن أبي طالب ، فجاء عليّ علیه السلام فقال : قصّ عليه قصّتك ، فقصّ عليه القصة فقال علي علیه السلام : « هدم الإسلام ما كان قبله هي عندك على واحدة » (2).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي قدس سره في تفسير قوله تعالى ( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) إلى آخره (3) ، فإنّها نزلت في عبد اللّه بن أبي أميّة أخي أمّ سلمة - رحمة اللّه عليها - وذلك أنّه قال هذا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكّة قبل الهجرة ، فلمّا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى فتح مكّة استقبله عبد اللّه بن أبي أميّة ، فسلم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يرد علیه السلام ، فأعرض عنه ولم يجبه بشي ء ، وكانت أخته أمّ سلمة مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدخل إليها وقال : يا أختي إنّ رسول اللّه قبل إسلام الناس كلّهم وردّ عليّ إسلامي وليس يقبلني كما قبل غيري. فلمّا دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أمّ سلمة قالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه سعد بك جميع الناس إلاّ أخي من بين قريش والعرب رددت إسلامه وقبلت الناس كلّهم؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : يا أمّ سلمة ، إنّ أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذّبني أحد من الناس ، هو الذي قال لي ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ ) - إلى آخر الآيات - قالت أمّ سلمة : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألم تقل : إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم » فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إسلامه (4).

ص: 48


1- « الطبقات الكبرى » ج 4 ، ص 285 - 286.
2- « بحار الأنوار » ج 40 ، ص 230 ، باب قضاياه صلوات اللّه عليه. ، ذيل ح 9.
3- الاسراء (17) : 90.
4- « تفسير القمّي » ج 2 ، ص 26.

وفي السيرة الحلبيّة في المجلّد الثالث صفحة مائة وخمسة : أنّ عثمان لمّا شفّع في أخيه ابن أبي سرح قال صلی اللّه علیه و آله : « أما بايعته وآمنته؟ » قال : بلى ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح ويستحي ، قال صلی اللّه علیه و آله : « الإسلام يجبّ ما قبله » (1).

وأيضا فيها في صفحة مائة وستّة ، في المجلّد المذكور ، في إسلام هبار : قال صلی اللّه علیه و آله « الإسلام يجبّ ما قبله » (2).

وعن الطبراني : « الإسلام يجبّ ما قبله والهجرة تجبّ ما قبلها » (3).

وممّا ذكرنا ، ومن شهرة هذا الحديث بين الفريقين ، يثق الإنسان بصدوره عن النّبي صلی اللّه علیه و آله الذي هو موضوع الحجيّة ، فلا إشكال فيه من ناحية السند.

وأمّا الكلام فيه من ناحية الدلالة ، فما هو الظاهر المتفاهم العرفي من هذه الجملة هو أنّ ما صدر عن الكافر في حال كفره من قول أو فعل بل ما كان له من اعتقاد يترتّب على ذلك الفعل أو القول أو الاعتقاد ضرر أو عقوبة عليه ، بحيث يكون ذلك الضرر من آثار ما ذكر في الإسلام لا في حال الكفر ، فالإسلام يقطع بقاء ذلك الفعل أو القول أو الاعتقاد ، ويجعله كالعدم وبلا أثر.

فباب الضمانات والديون في حال الكفر خارج عن مفاد الحديث : لأنّ تلك الأمور ثابتة في حال الكفر ، وليست من الآثار التي تثبت في حال الإسلام لتلك الأمور دون حال الكفر.

وبعبارة أخرى : هذا الكلام صدر عنه صلی اللّه علیه و آله في مقام الامتنان على من يسلم ، وأيضا لترغيبه في قبول الإسلام ، وأن لا يخاف من الأقوال أو الأفعال التي صدرت عنه في حال كفره ، كما يشهد بذلك وروده خوف هبار بن أسود ، ومغيرة بن شعبة ممّا

ص: 49


1- « السيرة الحلبيّة » ج 3 ، ص 105.
2- المصدر ، ص 106.
3- نقله عن الطبراني في « جامع الصغير » ص 36.

فعلاه في حال الكفر. وأيضا من قضية شفاعة عثمان لأخيه من الرضاعة ابن أبي السرح. وأيضا من استدلال أمّ سلمة - رضي اللّه عنها - لأخيها عبد اللّه بن أبي أميّة بقولها لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أمّا قلت إنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

وحاصل الكلام : أنّ الأفعال أو الأقوال التي تصدر من الكافر في حال كفره إن كانت يترتّب على ذلك الفعل أو القول الصادر عنه في حال كفره أثر في الإسلام يكون ضررا عليه ، بمعنى أنّه ذلك الفعل أو ذلك القول لو كان يصدر عنه في حال الإسلام لكان يعاقب ، كما أنه لو زنى أو شرب الخمر أو قتل مسلما وكذا في غير ما ذكر من الأفعال المحرمة شرعا التي على من يرتكبها عقاب من تعزير أو حدّ أو قصاص أو دية فالإسلام يقطع ما قبله ويجعله كالعدم ، بمعنى رفع آثاره.

فلو سرق في حال الكفر لا يقطع يده ، أو قتل مسلما لا يقاد ، أو زنى محصنا لا يرجم ، أو سبّ النبي صلی اللّه علیه و آله أو اللّه جلّ جلاله لا يقتل ؛ كلّ ذلك لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

وحيث أنّ الحديث في مقام الامتنان لا بدّ وأن يكون الرفع وجعل الفعل والقول كالعدم بالنسبة إلى الآثار التي في رفعها امتنان.

وما ذكرنا جار بالنسبة إلى التروك أيضا ، أي مفاد الحديث أنّ ترك الفعل الذي له أثر في الإسلام لا في حال الكفر ، بمعنى أنّه لو كان على تركه أمرا في حال الكفر يترتّب أثر عليه في الإسلام ، أي لو كان هذا الترك منه في حال الإسلام كان عليه كذا فالإسلام أيضا يرفع أثر ذلك الترك إذا كان في رفعه امتنان. مثلا بناء على أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع - كما هو الصحيح - فتركهم للعبادات كالصلاة والصوم والزكاة لو كان في حال الإسلام كان يجب عليه قضاء ما فات ، وبالنسبة إلى الصوم كان يجب عليه الكفّارات أيضا ؛ لأنّه تعمد الإفطار في نهار شهر رمضان من غير عذر ، ولكن حيث صدرت هذه التروك عنه في حال الكفر فهذه الآثار التي في رفعها امتنان

ص: 50

مرفوعة.

ومن أوضح الواضحات أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكلّف أحدا من أصحابه الذين تركوها بقضاء عبادات التي فاتت عنهم أيّام كفرهم ، وكذلك الزكاة مع أنّ العين الزكويّة كانت موجودة عندهم لم يطلب من أحد منهم من الذين آمنوا بعد تشريع الزكاة زكاة السنين التي كانوا على الكفر بعد تشريع الزكاة.

نعم لو كان حلول الحول بعد إسلامه فلا يسقط ويجب عليه ، لأنّ توجيه الخطاب بإيتاء الزكاة إليه في حال الإسلام ، فلا وجه لسقوطها. وأما لو كان زمان التعلّق قبل أن يسلم فالإسلام يجعل هذا التعلّق وثبوت هذا الحقّ للفقراء كالعدم.

وبعبارة أخرى : سقوط هذا الحقّ بأحد أمرين : إمّا بالأداء ، أو بالإسلام.

وأمّا الإشكال على ما ذكرنا في معنى الحديث بأنّه يلزم منه تخصيص الأكثر ، إذ لا ريب في بقاء عقوده وإيقاعاته.

ففيه : أنّ هذه الأمور خارجة عن مجرى الحديث ومصبّه بالتخصّص ، لا بالتخصيص حتّى يلزم تخصيص الأكثر ؛ وذلك من جهة ما ذكرنا أنّ هذا الحديث حيث أنّه في مقام الامتنان وترغيب الناس إلى الإسلام فالظاهر من مفاده هو أنّ كلّ فعل أو قول أو اعتقاد يكون من آثاره في الإسلام ضرر عليه فالإسلام يجعله كالعدم ، وكذلك لو ترك أمرا وكان من آثار تركه ذلك الأمر في الإسلام لزوم تداركه بقضائه أو أدائه فالإسلام يرفع لزوم تداركه قضاء أو أداء ، كقضاء العبادات الفائتة عنه ، وأيضا كأداء زكاة ماله مع بقاء عينه ولكن بشرط توجّه الخطاب إليه حال الكفر ، لا حال الإسلام. بمعنى كون زمان تعلّق الزكاة وحصول شرائطها بتمامها حال الكفر ، بحيث لو كان مكلّفا الآن في حال الإسلام يكون منشأ تكليفه ذلك الخطاب المتوجّه إليه حال كفره.

وأنت خبير بأنّ مثل هذا المعنى للحديث إمّا لم يرد عليه تخصيص أصلا - فضلا

ص: 51

عن أن يكون تخصيص الأكثر - وإمّا أن يكون في غاية القلّة.

وأمّا مسألة عقوده وإيقاعاته وديونه وجميع ضماناته في حال كفره لو كان فيها ضرر أو حرج أو ضيق أو مؤاخذة فليس من ناحية الإسلام ، بل تلك الآثار كانت ثابتة عليه مع قطع النظر عن الإسلام ، فهي خارجة عن مفاد الحديث بالتخصّص.

وعلى هذا يدلّ أيضا ما ذكره في البحار في قضايا أمير المؤمنين علیه السلام في رجل طلّق امرأته في الكفر مرّة واحدة ، وفي الإسلام تطليقتين ، فقال علیه السلام في جوابه : « إنّك على واحدة هدم الإسلام ما قبله » (1) وذلك من جهة أنّ حرمة المطلّقة ثلاثا حكم ثابت في الإسلام ، فإن أوجد السبب في الإسلام يترتّب هذا الحكم عليه ، وأمّا إن أوجد تمام السبب أو بعضه في حال الشرك فلا يترتّب عليه ، بل لا بدّ من إيجاد تمام السبب في حال الإسلام ، فإن أوجد بعض السبب في حال الشرك وبعضه في حال الإسلام فلا بدّ من إتمام ذلك البعض في حال الإسلام كي يترتّب عليه الأثر ؛ ولذا قال علیه السلام : « هي عندك على واحدة » لأنّ التطليقة الواقعة في حال الشرك لا أثر لها بالنسبة إلى هذا الحكم الثابت في الإسلام.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ مفاد الحديث بحسب المتفاهم العرفي مؤيّدا بحكم أمير المؤمنين علیه السلام في المورد المذكور - أي في تطليقة حال الشرك وتطليقتين في حال الإسلام - بعدم ترتّب الأثر على الطلاق الواقع في حال الكفر بالنسبة إلى هذا الأثر الذي له في الإسلام أنّ الإسلام يجبّ ما قبله ممّا لو كان مسلما لكان هذا الأثر يترتّب على فعله أو قوله أو عقيدته ، فينتج أنّ الكافر لو أسلم وكانت ذمّته مشغولة بشي ء - من طرف ما ارتكبه في حال الكفر ، وكان اشتغال ذمّته من ناحية الإسلام لا من ناحية كفره - فإسلامه موجب لسقوط ما في ذمّته.

وبناء على هذا جميع العبادات التي فاتت منه في حال كفره وشركه من الصلاة

ص: 52


1- « بحار الأنوار » ج 40 ، ص 230 ، باب قضاياه صلوات اللّه عليه. ، ذيل ح 9.

والزكاة والخمس والصيام حتّى الحجّ فيما إذا كان مستطيعا حال كفره واستقرّ عليه ولم يؤدّه فصار غير مستطيع وبعد ذلك أسلم فإذا أسلم يسقط جميع ذلك عنه بسبب جبّ الإسلام ما قبله.

فظهر أنّه بناء على ما ذكرنا في معنى الحديث أنّ ما هو من حقوق اللّه تعالى مطلقا - سواء أكان بدنيّا فقط ، أو ماليا فقط ، أو كان مركّبا منهما ، فالأوّل كالصلاة ، والثاني كالزكاة ، والثالث كالحجّ وليس للمخلوقين مدخل وحقّ فيه إذا لم يكن معتقدا به في حال الكفر بل اعتقاده به يكون من ناحية إسلامه وبعده - فكلّها تسقط بالإسلام ، ولا يكون عليه شي ء ، ولا قضاء فيما فيه القضاء لو كان الفوت في حال الإسلام لجبّ الإسلام ما قبله.

هذا فيما إذا لم يكن هذا الحكم من معتقداتهم في دينهم قبل أن يسلموا.

وأمّا لو كان كذلك ، أي كانوا معتقدين به حال كفرهم لكونه من دينهم أيضا ، فيكون ذلك الحكم مشتركا بين دينهم والإسلام ، وذلك قد يكون في العبادات ، وقد يكون في غيرها. أمّا في العبادات كما لو كان في حال كفره نذر أن يصوم يوما ، أو يتصدّق بكذا قربة إلى اللّه ، فخالف ولم يفعل ، وفرضنا أنّ الوفاء بالنذر واجب في دينه أيضا ، وكذا يجب القضاء في دينهم لو لم يأت بالنذر المعيّن الموقّت ، فهل الإسلام يجبّ وجوب القضاء أو الأداء عليه أم لا؟

فبناء على ما استظهرنا وذكرنا في معنى الحديث من أنّ المراد منه أنّ ما كانت ذمّته مشغولة حال كفره بحكم الإسلام لا بحكم دينه فالإسلام يجبّ ذلك الاشتغال ، وأمّا لو كان اشتغال ذمّته من ناحية دينه - وإن كان الإسلام أيضا في هذا الحكم موافقا مع دينه - فلا يشمله الحديث ، فلا يجبّ الإسلام مثل ذلك الحكم.

اللّهمّ إلاّ أن يقال :

إنّ لزوم إتيانه الآن بعد أن أسلم قضاء أو أداء مستند إلى ثبوت وجوب الأداء

ص: 53

أو القضاء عليه من ناحية الإسلام ، وإلاّ فهو بعد أن أسلم يرى ذلك الحكم باطلا لو لا أنّ الإسلام يقرّه ويمضيه ، فيكون الآن اشتغال ذمّته به حتّى في ذلك الوقت بحكم الإسلام في نظره واعتقاده ، لا من جهة دينه السابق ؛ لأنّه الآن يرى أنّ ذلك الدين كان باطلا من أصل أو كان منسوخا.

وأمّا في غير العبادات - كما لو كان دية قتل الخطأ ، أو الجرح والجناية على أعضاء الغير ولو كان عن عمد ، فيما إذا رضي المجني عليه بالدية ثابتا في دينه السابق قبل أن يسلم - فشمول الحديث لمثل هذا المورد مشكل جدّا.

أمّا أوّلا : لما ذكرنا في استظهار المراد من الحديث أنّه عبارة عن أنّ ما صدر عنه من قول أو فعل أو كان له عقيدة كلّ ذلك إن كان قبل أن يسلم وكان من أحكام الإسلام - ترتّب ضرر أو مشقة أو عقوبة على ذلك القول أو على ذلك الفعل أو على تلك العقيدة - فالإسلام يرفع ذلك الأثر والضرر.

والمفروض أنّ في المفروض والمورد ليس من هذا القبيل ، بل كان هذا الأثر والضرر يترتّب على قوله أو فعله حتّى في دينه ، وما احتملناه ووجّهنا به الجبّ في نظيره في العبادات لا يخلو من نظر وإشكال ، كما هو غير خفيّ على الناقد البصير.

وثانيا : قلنا إنّ هذا الحديث في مقام الامتنان ، والجبّ في المفروض وإن كان امتنانا على الفاعل لكنّه خلاف الامتنان في حقّ المجني عليه.

ولكن ورد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ كلّ دم كان في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين » (1) مع أنّهم كانوا معتقدين بالقصاص والدية في الجاهليّة. غاية الأمر كان دية الأشخاص مختلفة عندهم ، حتّى أنّ دية بعض الطبقات كان ألف بعير ؛ فمع أنّهم كانوا معتقدين بها أسقطها صلی اللّه علیه و آله بعد الإسلام وقال صلی اللّه علیه و آله : « تحت قدمي هاتين ».

وأيضا يظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله لمغيرة بن شعبة - بعد أن غدر بأصحابه وقتلهم وأخذ

ص: 54


1- « الكافي » ج 8 ، ص 246 ، ح 342 ؛ « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 1023 ، كتاب المناسك ، باب 84 ، ح 3074.

أموالهم : « إنّ الإسلام يجبّ ما قبله » فخاف فاطمأنّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الكلام - أنّ الإسلام يجبّ ما قبله من آثار فعله الذي صدر عنه حال الكفر ، ولو كانوا معتقدين بترتّب ذلك الأثر حال الكفر (1).

وهذا المعنى أيضا يناسب ما قيل في وجه صدور هذا الحديث عنه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن مع ذلك كلّه لا يمكن الالتزام بهذا المعنى في جميع التزاماتهم ، من عقودهم وإيقاعاتهم وسائر معاملاتهم ولو كان موافقا للامتنان.

فالأولى أن يقال في أمثال هذه الموارد التي ذكرناها أنّ عدم القصاص والدية لدليل خاصّ ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ دم كان في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين ».

والحاصل : أنّ مقتضى ما ذكرنا واستظهرناه في معنى الحديث أنّه لو وطأ امرأة ذات بعل في حال الكفر ، أو وطأها في عدتها في تلك الحال أنّه ترفع حرمة نكاحها للواطئ بإسلامه. وكذا لو زنى بامرأة فحرمة بنتها وأمّها ترتفع بإسلامه لو كان وقوع الزنا في حال الكفر. وكذا لو أوقب غلاما في حال الكفر ترتفع حرمة نكاح أمّه وأخته وبنته بإسلامه ؛ كلّ ذلك لأنّ « الإسلام يجبّ ما قبله ». وكذلك كلّ ما هو موجب لحدّ أو تعزير إذا صدر عنه في حال الكفر فالإسلام يجبّ ذلك الفعل أو القول الذي كان موجبا للحدّ لو لم يسلم ، كما إذا زنى أو لاط أو سرق أو غير ذلك من الجرائم التي توجب الحدّ أو التعزير.

وأمّا مسألة الأحداث الموجبة للحدث الأكبر كالجماع ، أو الحيض ، أو النفاس فحيث أنّ الشارع جعل الطهارة شرطا لأشياء كالصلاة والطواف ومس المصحف مثلا ، فتلك الأحداث التي صارت سببا لصيرورته محدثا حيث أنّ آثارها لا ترتفع إلا بالغسل أو الوضوء أو التيمم كلّ في محلّه ومع شرائطه ، فبعد إسلامه - إذا أراد إيجاد ما هو مشروط بالطهارة - لا بدّ وأن يتطهّر من ذلك الحدث بأحد الطهارات الثلاث ، أي

ص: 55


1- « الطبقات الكبرى » ج 4 ، ص 285 - 286.

الغسل والوضوء والتيمم كلّ في محلّه ومع شرائطه ؛ وذلك لعدم إمكان امتثال ما هو مشروط بالطهارة بدونها ، ولا وجه لإجراء قاعدة « الإسلام يجبّ ما قبله » في هذا المقام أصلا ، ولا أثر لها لإثبات الشرط ووجوده ، كما أنّ الرضاع الحاصل في حال الكفر يوجب حصول أحد العناوين المحرّمة كالأمومة والبنتيّة والأختيّة وغير ذلك من العناوين المذكورة في الآية الشريفة ، وإذا حصل أحد هذه العناوين فأسلم فإسلامه لا يمكن أن يرفع الحرمة عن أخته الرضاعي أو أمّه كذلك ، وكذلك في سائر العناوين المحرّمة المذكورة في الآية.

كما أنّه لم يتوهّم أحد أنّ هذه العناوين إذا حصلت في حال الكفر عن النسب فأسلم لا يوجب رفع التحريم ، فكذلك الأمر فيما إذا حصل من الرضاع.

والسرّ في ذلك أنّ هذه العناوين إضافات تكوينيّة قد تحصل بواسطة الولادة ، وقد تحصل بواسطة الرضاع ، وقد جعلها الشارع موضوعا لحرمة نكاحهنّ على من اتّصف بأنّهنّ أمّا أمّه أو أخته أو بنته أو عمّته أو خالته إلى غير ذلك ، وإذا وجد الموضوع وأحرز وجوده وجدانا أو تعبّدا فيترتّب عليه الحكم قهرا.

نعم لو كان معنى الحديث أنّ الفعل الصادر في حال الكفر بمنزلة العدم حتّى بالنسبة إلى آثاره التكوينيّة ، فحينئذ كان من الممكن أن يقال إنّ الرضاع الواقع في حال الكفر أو الولادة أو أسبابها الواقعة في تلك الحال لا أثر لها ، كما أنّه قيل في الولادة من الزنا كذلك.

وخلاصة الكلام في المقام أنّه بعد ما ثبت صدور هذا الحديث بواسطة الوثوق الحاصل من نقل هؤلاء يجب الأخذ بما هو مفاده ، أي ما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي ، إلاّ أن يأتي دليل من إجماع أو رواية معمول بها يكون مخصّصا له في مورد ، أو يكون حاكما عليه في ذلك المورد.

وقد عرفت ما هو الظاهر من الحديث بحسب المتفاهم العرفي وذكرناه ، فلا نعيد.

ص: 56

4 - قاعدة القرعة

اشارة

ص: 57

ص: 58

قاعدة القرعة (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة هي قاعدة « القرعة » ، فلا بدّ وأن نبحث فيها من جهات حتّى يتبيّن الحال.

الجهة الأولى : في بيان أدلة القرعة من الكتاب والإجماع والسنة

أمّا الكتاب :

فمنها : قوله تعالى في قضيّة النبي يونس علیه السلام ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (2).

ومنها : قوله تعالى في قصّة مخاصمتهم في تكفّل مريم واقتراعهم لذلك ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (3). والقصّتان وشرحهما مذكورتان في التفاسير فراجعها.

فالأوّل المراد من المساهمة هو الاقتراع ، أعني أنّ النبي يونس علیه السلام اقترع معهم فكان من المغلوبين.

ص: 59


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 22 و 184 ؛ « الحق المبين » ص 102 ؛ « عوائد الأيام » ص 224 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 11 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 5 ؛ « مجموعه رسائل » ش 20 ، ص 481 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 194 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 106 ؛ « القواعد » ص 195 ؛ « قواعد فقهي » ص 97 ؛ « قواعد فقهية » ص 187 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 421 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 324 ؛ « قواعد الفقيه » العدد 39 ، ص 110.
2- الصافات (37) : 141.
3- آل عمران (3) : 44.

والثاني في بيان كيفية اقتراعهم - في أنّه من هو أحقّ بأن يتكفّل مريم ، وذلك أنّ زكريّا علیه السلام قال لهم : أنا أحقّ بها ، عندي خالتها فقالوا : لا حتّى نقرع عليها ، فانطلقوا إلى نهر الأردن فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي على أنّ من ارتفع قلمه فوق الماء فهو أحقّ بها. وقيل : إنّ أقلامهم كانت من الحديد ، فألقوا أقلامهم ثلاث مرّات ، وفي كلّ مرة يرتفع قلم زكريّا علیه السلام وترسب أقلامهم.

وأمّا الأخبار الواردة في هذه القاعدة عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام ، فادّعى تواترها ، ولا يبعد أن يكون التواتر المعنوي ثابتة فيها ؛ لكثرة ما ورد فيها من الأخبار العامّة التي لا اختصاص لها بمورد خاصّ ، بل مطلق تشمل جميع الموارد المجهولة أو المشتبهة أو المشكلة على اختلاف ألسنتها ، من الأخبار الخاصّة الواردة في موارد خاصّة.

ونذكر جملة من الطائفتين :

فمن الطائفة الأولى : رواية محمد بن حكيم المروي في الفقيه والتهذيب ، قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن القرعة في أي شي ء؟ فقال لي : « كلّ مجهول ففيه القرعة ». قلت له : إنّ القرعة تخطئ وتصيب ، قال : « كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » (1).

ومنها : أيضا المرسل في الفقيه : « ما تقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج بهم المحقّق » ، وقال علیه السلام : « أيّ قضيّة أعدل من القرعة ، إذا فوّض الأمر إلى اللّه أليس اللّه تعالى يقول ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) » (2).

منها : ما في دعائم الإسلام ، عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه علیهم السلام أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل.

ص: 60


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 92 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3389 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 240 ، ح 593 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 24 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1. ص 189 ، أبواب كيفية الحكم الدعاوي ، باب 13 ، ح 11.
2- « الفقيه » ج 3 ، ص 92 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3391 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 190 ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوي ، باب 13 ، ح 13.

وأيضا في دعائم الإسلام : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « وأيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة ، أليس هو التفويض إلى اللّه جلّ ذكره ». ثمَّ قال في دعائم الإسلام : ذكر أبو عبد اللّه قصّة يونس النبي علیه السلام في قوله جلّ ذكره ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) وقصّة زكريا علیه السلام وقوله جلّ وعلا ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ) وذكر قصّة عبد المطلب لمّا نذر أن يذبح من يولد له ، فولد له عبد اللّه أبو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فألقى اللّه عليه محبّته ، وألقى السهام على إبل ينحرها يتقرّب بها مكانه ، فلم تزل السهام تقع عليه وهو يزيد حتّى بلغت مائة ، فوقعت السهام على الإبل فأعاد السهام مرارا وهي تقع على الإبل ، فقال : الآن علمت أنّ ربّي قد رضي إلى آخره (1).

ومنها : ما في الوسائل ، في ذيل خبر محمّد بن الحسن الطوسي ، بإسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه بعد ما حكم بالقرعة في الفرع المذكور في تلك الرواية ، قال علیه السلام : « القرعة سنة » (2).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عنه ، أي محمّد بن الحسن الطوسي بإسناده عن أبي جعفر علیه السلام قال : « بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليا علیه السلام إلى اليمن فقال له حين قدم : حدّثني بأعجب ما ورد عليك ، فقال : يا رسول اللّه أتاني قوم قد تبايعوا جارية ، فوطئها جميعهم في طهر واحد فولدت غلاما واحتجّوا كلّهم يدّعيه ، فأسهمت بينهم فجعلته للذي خرج سهمه وضمنته نصيبهم. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ليس من قوم تنازعوا ، ثمَّ فوضّوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم الحقّ » (3).

ورواه الصدوق بإسناده عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر علیه السلام

ص: 61


1- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 522 ، ح 184.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 239 ، باب البيّنتين يتقابلان أو. ح 20 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 187 ، أبواب كيفيّة الحكم واحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 238 ، ح 585 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 16 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 188 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 5.

نحوه ، إلاّ أنّه قال : « تقارعوا » ، أي في مكان « تنازعوا » (1).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عن محاسن البرقي ، عن ابن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن منصور بن حازم قال : سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه علیه السلام عن مسألة ، فقال : « هذه تخرج في القرعة - ثمَّ قال : - فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّ وجلّ ، أليس اللّه يقول ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (2). وعلى هذا النمط ممّا يمكن أن يستخرج منها كبرى كليّة.

وأمّا الطائفة الثانية : أي حكمهم علیهم السلام بالقرعة في موارد خاصّة فكثيرة جدّا ، نذكر جملة منها :

فمنها ما في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نجران ، عن أبي المغراء ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد وادعوا الولد أقرع بينهم ، وكان الولد للذي يقرع » (3).

ومنها : أيضا في الوسائل عنه بإسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام : في رجل قال أوّل مملوك أملكه حرّ فورث ثلاثة قال : « يقرع بينهم ، فمن أصابه القرعة أعتق » (4).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عنه أيضا عن حمّاد ، عن المختار قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه علیه السلام فقال له أبو عبد اللّه : « ما تقول في بيت سقط على قوم ، فبقي منهم صبيّان ، أحدهما حرّ والآخر مملوك لصاحبه ، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ » فقال أبو حنيفة : يعتق نصف هذا أو نصف هذا فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « ليس كذلك ، ولكنّه يقرع

ص: 62


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 94 ، باب الحكم بالقرعة ، ح 3399 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 188 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 6.
2- « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 191 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 17 ؛ « المحاسن » ص 603 ، ح 30.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 240 ، ح 595 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 26 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 187 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 239 ، ح 589 ، باب البينتين يتقابلان أو. ح 20 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 187 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 2.

بينهما فمن أصابته القرعة فهو الحرّ ويعتق هذا ويجعل مولى لهذا » (1).

ومنها : أيضا ما في الوسائل عنه أيضا ، عن حريز ، عمّن أخبره ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى أمير المؤمنين علیه السلام باليمن في قوم انهدمت عليهم دارهم وبقي صبيّان : أحدهما حرّ ، والآخر مملوك ، فأسهم أمير المؤمنين علیه السلام بينهما ، فخرج السهم على أحدهما ، فجعل له المال وأعتق الآخر » (2). إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي جمعها في الوسائل في الباب الثالث عشر من أبواب كيفيّة الحكم بعنوان « باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة وجملة من مواقعها وكيفيّتها » وإذا أردت فراجع ذلك الباب.

وأيضا ذكر في الوسائل في باب تحريم لحم البهيمة التي ينكحها الآدمي ولبنها ، فإن اشتبهت استخرجت بالقرعة : محمّد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى ، عن الرجل علیه السلام أنّه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة قال : « إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبدا حتّى يقع السهم بها ، فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها » (3).

وقد حكى أيضا في الوسائل عن الشيخ بطريق آخر (4) ، وعن تحف العقول ما هو بهذا المضمون أو قريب منه (5).

وفي المستدرك : أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره ، عن عثمان بن عيسى ، عن

ص: 63


1- « الكافي » ج 7 ، ص 138 ، باب ميراث الغرقى وأصحاب الهدم ، ح 7 ؛ « الفقيه » ج 4 ، ص 308 ، باب ميراث الغرقى والذين. ، ح 5660 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 361 ، ح 1290 ، باب ميراث الغرقى ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 592 ، أبواب ميراث الغرقى و. ، باب 4. ح 1 ، مع تفاوت يسير في المتن.
2- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 239 ، ح 587 ، باب البينتين يتقابلان أو. ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18. ص 189 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 13 ، ح 8.
3- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 43 ، ح 182 ، باب الصيد والذكاة ، ح 182 ؛ « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 358 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 30 ، ح 1.
4- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 359 ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، باب 30 ، ح 4.
5- « تحف العقول » ص 359.

بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى موسى علیه السلام أنّ بعض أصحابك ينمّ عليك فاحذره ، فقال : يا ربّ لا أعرفه أخبرني حتّى أعرفه ، فقال : يا موسى عبت عليه النميمة وتكلّفني أن أكون نمّاما ، فقال : يا ربّ وكيف أصنع؟ قال اللّه تعالى : فرّق أصحابك عشرة عشرة ، ثمَّ تقرع بينهم ، فإنّ السهم يقع على العشرة التي هو فيهم ، ثمَّ تفرّقهم وتقرع بينهم ، فإنّ السهم يقع عليه. قال : فلما رأى الرجل أنّ السهام تقرع قام فقال : يا رسول اللّه أنا صاحبك لا واللّه لا أعود » (1).

وقد ذكر في البحار روايتين عن أبي جعفر علیه السلام ، حاصل مضمونهما أنّ عليا علیه السلام إذا لم يجد من الكتاب والسنّة رجم ، أي ساهم ، فقال أبو جعفر علیه السلام : « تلك في المعضلات » (2).

والحاصل : أنّ الروايات في اعتبار القرعة في الموارد الخاصّة كثيرة متفرّقة في أبواب الفقه ، وينبغي أن يعدّ دلالة الآيات والأخبار على اعتبارها من القطعيات.

وأمّا الإجماع : فالظاهر أنّه أحد من الإماميّة الاثنى عشريّة ما ادّعى عدم اعتباره بنحو السلب الكلّي ، فهذا الشهيد قدس سره في كتابه « القواعد » في باب التعادل والتراجيح من مقدّمته في اشتباه القبلة يقول : ذهب السيد رضي الدين بن طاوس هنا إلى الرجوع إلى القرعة ، استضعافا لمستند وجوب الصلاة إلى الأربع ؛ وهو حسن. إلى أن يقول : فيرجع إلى القرعة الواردة لكل أمر مشتبه (3).

وقال ابن إدريس في كتاب القضاء من السرائر : وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء أقرع عليه ، فإن خرج سهم الرجال ألحق بهم وورث ميراثهم ، وإن خرج سهم النساء ألحق بهنّ وورث ميراثهنّ ، وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه

ص: 64


1- « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 375 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 11 ، ح 5.
2- « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 177 ، باب أنّهم علیهم السلام عندهم موادّ العلم و. ح 20 و 21.
3- « السرائر » ج 2 ، ص 173.

الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ؛ لما روى عن الأئمّة علیهم السلام ، وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإماميّة ، انتهى (1).

وحكي عن الشيخ أيضا ما ظاهره الإجماع على اعتبارها ولا أظنّ أنّ أحدا من الإماميّة ينكر اعتبارها في الجملة لكن هذا الاتّفاق ليس هو الإجماع المصطلح الأصولي الذي هو حجّة على الحكم الشرعي ؛ لأنّه من المحتمل القريب بل من المقطوع أنّ مستند المتّفقين هو هذه الأخبار والآيات ، وعلى كل حال لا ينبغي الارتياب في اعتبار القرعة وتشريعه.

الجهة الثانية : في بيان مقدار دلالة هذه الأخبار والآيات

وهل تدلّ على جريانها في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة جميعا سواء كانتا بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجمالي ، أو لا تدلّ إلاّ على جريانها في الشبهات الموضوعيّة؟

لا شبهة في عدم جريانها في الشبهات الحكميّة ، وأنّما الكلام في أنّ خروجها من باب التخصيص أو التخصّص ، وإلاّ فالقول بشمولها للشبهات البدويّة الحكميّة ينبغي أن يعد من المضحكات.

أقول : العناوين العامّة الواردة في أدلّة القرعة أربعة : عنوان المجهول ، وعنوان المشتبه ، وعنوان المشكل ، وعنوان الملتبس ، وفي بعض الروايات عنوان المعضلات.

والأوّلان أي عنوان « المجهول » و « المشتبه » ولو كان لهما عموم بحسب المفهوم بحيث أنّ مفهوميهما يشمل الشبهة بصورها الأربع : الحكميّة والموضوعية ، سواء كانتا

ص: 65


1- « تمهيد القواعد » الشهيد الثاني ، ص 238 ، المقصد السادس في التعادل والتراجيح.

بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجمالي ، ولكن التتبّع في موارد تلك الروايات والتأمّل في العلّة التي ذكرها الامام علیه السلام - وهو قوله علیه السلام : « فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوضّوا أمرهم إلى اللّه » - يوجب الاطمئنان بأنّ المراد من هذه العناوين الأربعة أو الخمسة هو المجهول والمشتبه الذي في الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي إذا كان من المشكلات والمعضلات التي لا طريق إلى إثباتها ، وكان الاحتياط إما ليس بممكن ، أو يوجب العسر والحرج ، أو نعلم بأنّ الشارع ما أوجب الاحتياط فيها ، ففي مثل هذا المورد شرّع القرعة ، ولا فرق بين أن يكون المشتبه من حقوق اللّه أو من حقوق الناس ، ولا بين أن يكون له واقع معيّن في عالم الثبوت وتكون القرعة واسطة ودليلا في عالم الإثبات ، أو لم يكن له واقع معيّن في عالم الثبوت والقرعة واسطة في الثبوت ، كما في قوله : إحدى زوجاتي طالق ، أو أحد عبيدي حرّ بناء على صحّة مثل هذا الطلاق ومثل هذا العتق.

ففي مثل الغنم الموطوء المشتبه في قطيع الغنم وإن كان مقتضى القاعدة الأوّلية هو الاجتناب عن جميع أفراده إن لم تكن الشبهة غير محصورة ، ولكن حيث نعلم بأنّ الشارع لم يوجب الاحتياط لأنّه تضييع المال الكثير الذي لا يتحمّل عادة ، والمفروض أنّه لا يمكن تعيين الموطوء وما هو موضوع الحكم بحرمة لحمه وسائر ما يتفرّع عليه ووجوب إحراقه ، فصار من المشكلات والمعضلات في الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي التي هي مورد تشريع القرعة ؛ لأنّ تضمين الواطئ ليس إلاّ في خصوص الموطوء ، لا في سائر أفراد القطيع ، فالاحتياط يكون ضررا عظيما على صاحب القطيع ؛ ولذلك لا مورد للاحتياط ، ولذلك صار مشكلا ومعضلا حلّه بالقرعة.

ثمَّ إنّ غالب موارد القرعة أي الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي التي لا يجب ولا يجوز فيها الاحتياط - وإن كان ممّا يمكن وقوع النزاع والمخاصمة فيه ، ولذلك ترى أنّ الفقهاء تعرّضوا لذكر القرعة في كتاب القضاء في مسألة تعارض البيّنات مع

ص: 66

عدم مرجّح لإحديهما ، وحكموا بالقرعة بعد التساوي وفقد المرجّح ، بل ادّعى جماعة منهم الإجماع على الرجوع إلى القرعة حينئذ ، ولكن هذا لا يدلّ على اختصاص القرعة بمورد وقوع المخاصمة والنزاع ، بل لو لم يكن هناك نزاع وخصومة في البين كما إذا قال : إحدى عبيدي حرّ ، أو إحدى زوجاتي طالق ، أو هو صاحب القطيع من الغنم وطأ إحدى شياته فيريد تعيين وظيفة نفسه بالاقتراع - فالأدلّة تشمله مع عدم خصومة في البين.

والحاصل : أنّ الذي يستفاد من مجموع الأدلّة أنّ مورد القرعة هي الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي الذي لا يمكن فيه الاحتياط ، أو لا يجوز وإن كان ممكنا ، أو لا يجب وليس هناك أصل أو أمارة موافق للمعلوم بالإجمال كي يكون موجبا لانحلاله ، وبعبارة أخرى : يكون من المعضلات ، ففي مثل هذا المورد شرّعت القرعة لحلّ المعضلة والمشكلة.

وقد أشار إلى ذلك أبو جعفر الباقر علیه السلام فيما روى المحدّث المجلسي قدس سره عن عبد الرحيم القصير ، عن أبي جعفر علیه السلام في المجلّد الأوّل في كتابه « بحار الأنوار » في باب أنّهم علیهم السلام عندهم مواد العلم ، قال علیه السلام : « كان عليّ علیه السلام إذا ورد أمر ما نزل به كتاب ولا سنة قال : رجم فأصاب ، قال أبو جعفر : وهي المعضلات » (1). وفي رواية أخرى ، أو طريق لنفس تلك الرواية قال علیه السلام : « وتلك المعضلات » (2).

ومعلوم أنّ المراد هو الموضوع المشتبه الذي ما نزل بالخصوص حكم لا في الكتاب ولا في السنّة ، وإلاّ فالموضوعات الكلّية حكمها في الكتاب والسنّة موجودة ، كما أنّه لا يمكن أن يكون المراد الشبهة البدويّة ؛ لأنّها أيضا حكمها في الكتاب والسنّة موجودة وليست بمعضلة ، لأنّ القواعد المجعولة للشكّ مستوعب لجميع الشكوك البدويّة ، فلا بدّ وأن يكون المراد ما ذكرناه من الضابط لمورد القرعة حتّى تكون من

ص: 67


1- « بحار الأنوار » ج 2 ، ص 176 ، باب إنّهم علیهم السلام عندهم موادّ العلم و. ، ح 19.
2- المصدر ، ح 20.

المعضلات.

وأمّا ما ذكره استاذنا المحقق قدس سره (1) من الوجه لعدم شمول كلّ أمر مجهول للشبهة الحكميّة من أنّ ظاهر كلمة « أمر مجهول » هو أن يكون نفس الشي ء وذاته مجهول لا حكمه ، فيختصّ بالشبهات الموضوعيّة - فعجيب لأنّ لفظ « الأمر » مثل لفظ « الشي ء » مفهوم عامّ يشمل الأحكام والموضوعات ، فالحكم المجهول مثل الموضوع المجهول كلاهما يصدق عليهما أنّه أمر مجهول.

وقد ذكر المحدّث القمّي قدس سره في سفينة البحار موارد استعمال القرعة في الأخبار المذكورة في كتاب البحار كلّها ، من مصاديق الضابط الذي ذكرنا لمورد استعمال القرعة. (2) فلا نطول المقام وأنت راجع إذا أحببت.

الجهة الثالثة : في أنّها أصل أو امارة؟

اشارة

والفرق بين الأمارة والأصل قد تقدّم في هذا الكتاب مرارا ، وقد بيّنا أنّ الأمارة ما تكون فيها جهة كشف ، والشارع يجعلها حجّة لجهة كشفها ، بمعنى أنّه يعتبرها كشفا تامّا في عالم اعتباره التشريعي.

فالاماريّة لشي ء متقوّم بأمرين : الأوّل : أن يكون فيه جهة كشف. والثاني : أن يعتبره كشفا تامّا في عالم اعتباره التشريعي.

وجهة الكاشفيّة في شي ء إمّا تامّ لا نقص فيه - فذلك يسمّى « القطع » ، حيث أنّ كاشفيّته تامّ لا يحتمل الخلاف. وهذا لا يحتاج إلى جعل الحجيّة له ، بل يكون جعل الحجيّة له محال ؛ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، بل أسوء منه ؛ لأنّه من قبيل تحصيل

ص: 68


1- « نهاية الأفكار » ج 4 ، ص 105.
2- « سفينة البحار » ج 7 ، ص 288.

ما هو الحاصل بالوجدان بالتعبّد - وإمّا ناقص ويحتمل الخلاف ، فحينئذ إن جعله الشارع حجّة بتتميم كشفه في عالم الاعتبار بأنّ يعتبر هذا الكشف الناقص تامّا فهذا يصير امارة فإذا كان في شي ء هاتان الجهتان نسمّيه بالأمارة.

وجهة الكشف قد يكون من جهة الملازمة بين الكاشف والمنكشف - بأن يكون أحدهما علّة والآخر معلول ، أو يكونان معلولي علّة ثالثة. وهذا القسم من الكشف يكون كشفا تامّا لا يحتمل الخلاف ، وإلاّ يلزم تخلّف العلّة عن المعلول أو المعلول عن العلّة - وقد يكون من جهة أخرى ليست موجبة لدوام المطابقة ولكنّها موجبة لكون ذلك الشي ء غالب المطابقة. وهذا القسم يكون كشفا ناقصا يحتمل الخلاف ويسمّى بالظنّ ، كما أنّ القسم الأوّل يسمّى بالقطع.

ولا شكّ في أنّه بعد ملاحظة قوله صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : « ليس من قوم تنازعوا ثمَّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم الحق » (1) وبعد ملاحظة قول أبي الحسن الكاظم علیه السلام في ذيل رواية محمّد بن حكيم : « كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » (2) بعد قول الراوي أي محمّد بن حكيم - : « إنّ القرعة تخطي وتصيب » يطمئن الإنسان بأنّها غالب المطابقة ، إن لم نقل بأنّ هذا الكلام وأمثاله ممّا يوجب القطع بدوام المطابقة.

وذلك كما في الاستخارة أقوالهم علیهم السلام « ما خاب من استخار » يوجب الاطمئنان بإصابتها للواقع ، ولذلك نقل لي عن بعض الأعاظم ( قده ) أنّ الاستخارة من أقوى الأمارات وأقوى الحج على إثبات الصانع ؛ لأنّه لو لم يكن صانع كان أيّ ارتباط بين عدد الزوج أو الفرد ، وبين ما فيه المصلحة والمفسدة؟ ولكن اللّه تعالى شأنه هو الذي يجعل ما فيه المصلحة أو المفسدة زوجا أو فردا بعد تفويض الأمر إليه تعالى ، وكذلك الأمر في القرعة.

ص: 69


1- تقدّم تخريجه في ص 61 ، رقم (3).
2- تقدّم تخريجه في ص 60 ، رقم (1).

فالإنصاف أنّه بعد ملاحظة هذه الروايات إنكار أنّ القرعة لا يوجب الظنّ بإصابة الواقع ليس في محلّه ، كما أنّ الأمر في الاستخارة أيضا كذلك ، بل هي أيضا في الحقيقة نوع من الاقتراع ، خصوصا في استخارة ذات الرقاع التي هي من أعظم الاستخارات.

وأمّا كون حجيّتها من باب تتميم الكشف فيكفي فيه قول أبي الحسن موسى علیه السلام : « كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ » في مقام ردع الراوي حينما يقول « إنّ القرعة تخطي وتصيب ».

وهم ودفع

أمّا الأوّل : فهو أنّه ربما يتوهّم منافاة قوله تعالى ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) (1) مع مشروعيّة الاستخارة ؛ وذلك من جهة نصوصيّة الآية في أنّ الاستقسام بالأزلام فسق ، مع أنّه عبارة عن الاستخارة التي كانت متعارفة عندهم في الجاهليّة. فقد حكى الطبري في تفسيره (2) ، والزمخشري في الكشاف (3) ، وجمع آخر في تفسير هذه الآية أنّ العرب في الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام ، أي يطلبون الخير وقسمة الأرزاق بالقداح ، أي السهام ؛ لأنّ أزلام جمع الزلم وهو السهم لا ريش عليه ، فكانوا يتفأّلون بها في أمورهم ، ويطلبون ما هو الخير من فعل أو ترك بتلك السهام والأزلام في جميع أمورهم التي يريدون أن يبتدءوا بها من أسفارهم ، ومساكنهم ومراكبهم ، ومتاجرهم ، ومناكحهم إلى غير ذلك من مهمّاتهم ؛ وذلك بمراجعتهم إلى تلك السهام المعيّنة التي كانت عند شخص كان بمنزلة السادن لتلك السهام المحترمة عندهم ، وكانت تلك السهام مكتوبة على بعضها : « أمرني ربّي » وعلى بعضها الآخر : « نهاني ربّي » وبعضها

ص: 70


1- المائدة (5) : 3.
2- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 6 ، ص 49.
3- « الكشّاف » ج 1 ، ص 604.

غفل ، لم يكتب عليه شي ء.

فإذا أرادوا سفرا أو أمرا آخر يهتمّون به ، ضربوا على تلك السهام فإن خرج السهم الذي مكتوب عليه « أمرني ربي » يمضي في حاجته ويقدم على ذلك الأمر ، وإن خرج السهم الذي كتب عليه « نهاني ربّي » لم يقدم على ذلك الأمر ، وإن خرج السهم لم يكتب عليه شي ء وهو غفل أعادوا العمل حتى يخرج أحد السهمين الّذين كتب على أحدهما الأمر ، وعلى الآخر النهي ، فيعمل على طبقه.

فالمتوهّم يقول : إنّ هذا العمل عين الاستخارة التي عند الإماميّة الاثنى عشريّة - زاد اللّه في عزّهم وشرفهم - فتكون المشي على طبق الاستخارة ، ونفس هذا العمل - أي الاستخارة - حراما وفسقا ؛ لقوله تعالى بعد هذه الجملة ، أي جملة ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ( ذلِكُمْ فِسْقٌ ) لأنّه إمّا مخصوص بهذه الجملة أو يشملها في ضمن الجميع.

وأمّا الثاني : أي الدفع ، فجوابه أنّ هذا الاحتمال في تفسير الآية باطل قطعا ؛ لأنّه من الواضح الجلي أنّ الآية الشريفة في مقام بيان كيفيّة أكل اللحوم في الجاهليّة ، وتميّز ما هو حلال منها وما هو حرام أي المذكى وغير المذكّى ؛ لأنّه تبارك وتعالى يقول : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) (1).

وكانوا في الجاهلية إذا أجدبت سنة وصارت سنة قحط فالأغنياء من العشيرة يشترون جزورا ويجزونه أجزاء ، وكانت عندهم سهام وهي الأزلام ، أي القداح لا ريش لها وكانت تلك القداح بيد أمين لهم ، وهي عشرة سهام أسماؤها : الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلى ، والوغد ، والسفيح ، والمنيح.

ص: 71


1- المائدة (5) : 3.

فالفذّ له سهم واحد ، والتوأم له سهمان ، والرقيب له ثلاثة أسهم ، والحلس له أربعة أسهم ، والنافس له خمسة أسهم ، والمسبل له ستّة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم ، أي النصيب الأوفر ، ومجموع السهام ثمانية وعشرون سهما ، والوغد والسفيح والمنيح لم تكن لها سهم ، فهذه الثلاثة كانت مهملة ، أي لا نصيب لها.

فذلك الأمين يجعل السهام في خريطة ويخرج كلّ واحدة من تلك السهام باسم واحد من العشرة المقامرين ، فمن خرج باسمه « الفذّ » يأخذ سهما من الجزور ، و « التوأم » سهمان ، وهكذا إلى « المعلى » الذي له نصيب الأوفر. ومن خرج باسمه أحد الثلاثة المهملة - أي الوغد والسفيح والمنيح - فعليه ثمن الجزور ولا سهم له من الجزور. ونقلوا أنّ السبعة الذين كانت تخرج لهم السهام كانوا يقسمون سهامهم على الفقراء من عشيرتهم.

فاللّه تبارك وتعالى نهى عن أكل مثل هذا اللحم ؛ لأنّه مأخوذ بالقمار فيكون أكله حراما.

والشاهد على أنّه قمار أنّهم يسمّون تلك السهام « قداح الميسر » وقد نظّمه بعضهم فقال :

هي فذّ وتوأم ورقيب *** ثمَّ حلس ونافس ثمَّ مسبل

والمعلى والوغد ثمَّ سفيح *** ومنيح وذي الثلاثة تهمل

ولكلّ ممّا عداها نصيب *** مثله أن تعدّ أول أول

ويظهر من هذا النظم أنّ « الرقيب » له ثلاثة أسهم و « مسبل » له ستّة أسهم ، ولكن من تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي (1) قدس سره وبعض التفاسير عكس هذا ، أي للرقيب ستّة أسهم وللمسبل ثلاثة أسهم.

ص: 72


1- « تفسير القمّي » ج 1 ، ص 161.

وعلى كلّ حال ظاهر الجملة المذكورة في الآية الشريفة هو هذا المعنى ، فلا ربط لها بالاستخارة والنهي عنها.

ثمَّ إنّه على تقدير كون معنى الجملة ما ذكروه فالمراد بها ما حكاه الطبري في تفسيره في الجزء السادس عن ابن إسحاق قال : كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكّة وكانت على بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة ، وكانت عند هبل سبعة أقداح ، كلّ قدح فيه كتاب ، قدح فيه « الغفل » إذا اختلفوا في الغفل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة :

قدح فيه « نعم » للأمر إذا أرادوه يضرب به ، فإن خرج قدح « نعم » عملوا به. وقدح فيه « لا » فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه « منكم » ، وقدح فيه « ملصق » وقدح فيه « من غيركم » ، وقدح فيه « المياه » إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح ، فحيثما خرج عملوا به.

وكانوا إذا أرادوا أن يجتنبوا غلاما ، أو أن ينكحوا منكحا ، أو أن يدفنوا ميّتا ، أو يشكّوا في نسب واحد منهم ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وبجزور ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثمَّ قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثمَّ قالوا : يا إلهنا هذا فلان بن فلان أردنا به كذا وكذا فاخرج الحقّ فيه. ثمَّ يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فيضرب فإن خرج عليه « من غيركم » كان حليفا ، وإن خرج « ملصق » كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حلف ، وإن خرج شي ء سوى هذا ممّا يعملون به « نعم » عملوا به ، وإن خرج « لا » أخّروه عامهم ذلك حتّى يأتوا به مرّة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك ممّا خرجت به القداح (1).

فلو فرضنا أنّ هذا هو المراد بالاستقسام بالأزلام في الآية الشريفة - وليس

ص: 73


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 6 ، ص 50.

كذلك قطعا - فاللّه تبارك وتعالى نهى عن إيكال الأمر إلى هبل وطلب الخير منه ، لأنّ هذا شرك صريح.

وأين هذا من الاستخارة التي هي إيكال الأمر إلى اللّه وتفويضه إليه. وكيف يمكن أن يقاس المقام - أي الاستخارة التي هي اطاعة وعبادة وإيكال إلى اللّه تعالى وتفويض الأمر إليه تعالى - مع عبادة الأوثان وطلب الخير والرزق من هبل الذي هو صخرة لا يضرّ ولا ينفع؟

وهل هذا إلاّ مقايسة الشرك بالتوحيد وعبادة اللّه والخضوع له وتفويض الأمور إليه بعبادة الأوثان وتفويض الأمر إليها؟

وكيف يمكن إنكار طلب الخير وإخراج الحقّ من اللّه وهو تبارك وتعالى ينقل في قصّة كفالة مريم ابنة عمران أنّ زكريا علیه السلام مع سائر القوم من عبّاد بني إسرائيل طلبوا إخراج الحقّ من اللّه تبارك وتعالى بإلقاء أقلامهم في نهر الأردن أيّهم يكفل مريم ، حين يقول عزّ من قائل ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (1).

وإنّما طولنا المقام وأطنبنا الكلام لما حكي لنا من وقوع شبهة في أذهان جماعة من الشبان الذين تطرّقت في نفوسهم وساوس الشيطان ، فاللّه هو الهادي إلى سواء السبيل.

وممّا ذكرنا يظهر لك عدم صحّة ما ذكره المقدس الأردبيلي قدس سره في آيات أحكامه في تفسير قوله تعالى ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) : وعلى هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها ، ويدلّ عليه الروايات ، إلى آخر ما قال (2).

ص: 74


1- آل عمران (3) : 44.
2- « زبدة البيان في أحكام القرآن » ص 625.

أقول : وهذا الكلام من مثله عجيب فسبحان من لا يخطئ ، وكيف يمكن أن يكون طلب الخير من اللّه جلّ جلاله الذي هو حقيقة الاستخارة من مصاديق الاستقسام بالأزلام؟ فالأوّل عبادة وإيكال أمره وتفويضه إلى اللّه ، والثاني شرك وطلب الخير من هبل أو من الأزلام.

الجهة الرابعة : في بيان أنّ الاستصحاب مقدّم عليها ، أو هي مقدّم عليه عند تعارضهما

فنقول : البحث عن هذا فرع وقوع التعارض بينهما. والظاهر عدم وقوع ذلك ؛ لأنّه بناء على ما بيّنّاه من اختصاص القرعة بالشبهات الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري في ثلاثة أقسام من صور الشبهة الحكميّة بكلا قسميها البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي ، والموضوعية البدويّة. وأمّا الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي - التي هي مورد القرعة على الشرط المتقدّم وهو أن لا يجب أو لا يجوز فيها الاحتياط - وإن كانت في حدّ نفسها ممّا يمكن جريان الاستصحاب فيها ، لكنّها غالبا يسقط فيها الاستصحاب بالمعارضة ولو كان بين شخصين أو أشخاص ، مثلا في باب تعارض البيّنات الذي هي العمدة في كون الحقّ بين شخصين أو أشخاص الاستصحابات متعارضة.

ثمَّ إنّه لو فرضنا وجود مورد يكون مجرى لكليهما بدون سقوط أحدهما فيكون الاستصحاب حاكما على القرعة ، وذلك من جهة أنّ القرعة إنّما شرّعت في مورد لا حيلة ولا علاج لحلّ المشكل والملتبس ؛ ولذلك قال علیه السلام - كما تقدّم - : « وتلك المعضلات » (1). ولذلك قيّدنا موضوعها بأنّها لا يكون مجرى للاحتياط الواجب ، وإلاّ

ص: 75


1- سبق ذكره في ص 67 ، رقم (2).

فيقدّم عليها مع أنّه من أضعف الأصول ، فضلا من الاستصحاب الذي هو من أقوى الأصول.

فلا تتعجّب أنّه كيف يقدّم الأصل - أي الاستصحاب - على الأمارة ، أي القرعة؟ مع أنّه تقدّم مرارا حكومة الامارات جميعا على الأصول ؛ وذلك من جهة أنّ ما ذكر إنّما كان فيما إذا تحقّق موضوع الأمارة وكانت المعارضة في مؤدّاها ، وأمّا لو كان الأصل رافعا لموضوع الأمارة تعبّدا كما في المقام فلا ؛ حيث أنّ الاستصحاب على تقدير عدم سقوطه بالمعارضة رافع لموضوع القرعة ، أي كونه مشكلا ومعضلا.

ص: 76

5 - قاعدة لا تعاد

اشارة

ص: 77

ص: 78

قاعدة لا تعاد (1)

ومن القواعد الفقهيّة قاعدة « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس » التي تنطبق على فروع كثيرة مذكورة في الفقه ، في أبواب الخلل من كتاب الصلاة.

ومدرك هذه القاعدة هي الرواية المرويّة الصحيحة عن أبي جعفر الباقر علیه السلام ، رواها الفقيه بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال علیه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس : الظهور ، والوقت ، والقبلة والركوع ، والسجود - ثمَّ قال : - القراءة سنّة ، والتشهد سنة ، ولا تنقض السنّة الفريضة » (2).

ولا يمكن الخدشة فيها من حيث السند والصدور ؛ لصحّة سندها وعمل الأصحاب بها ، فالعمدة بيان مقدار دلالتها.

وتوضيحها في ضمن مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في أنّه هل تشمل إخلال العامد العالم بالحكم ، بمعنى أنّه لو أخلّ بشرط أو بجزء بسبب عدم إتيانه بهما عمدا عالما ، أو أتى بمانع عمدا مع علمه بأنّه مانع ، فعقد المستثنى منه - أي قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة » - يدلّ على عدم لزوم الإعادة وكفاية ما أتى به أم لا؟

ص: 79


1- « القواعد » ص 232 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي » ج 3 ، ص 509 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 244.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 339 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 991 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 770 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 29 ، ح 5.

أقول : لا ينبغي صدور هذا الاحتمال من أحد في هذا الحديث الشريف ؛ لأنّه مخالف لأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ؛ إذ معنى جعل شي ء جزءا أو شرطا للصلاة أنّ الصلاة لا تتحقّق بدونه ، كما أنّ معنى جعل شي ء مانعا هو عدم تحقّقها وعدم امتثال الأمر الصلاتي مع وجوده فلو كانت الصلاة صحيحة مع الإخلال بأجزائها وشرائطها عمدا مع العلم بالحكم فيلزم الخلف ؛ إذ معناه أنّ ما هو جزء أو شرط أو مانع بأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ليس بجزء ولا بشرط ولا بمانع ، وهذا عين الخلف والمناقضة.

فنفس أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع مناقضة مع هذا الاحتمال مطابقة أو التزاما ؛ إذ ما كان منها يثبت الجزئيّة أو الشرطيّة بلسان « يعيد فيما إذا أخلّ بها » يكون مناقضا مع هذا الحديث بناء على هذا الاحتمال بالمطابقة. وما كان منها بلسان نفي الصلاة بعدمها كقوله علیه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة » (1) يكون مناقضا معه بالالتزام ، فمن المقطوع المسلّم عدم شمول الحديث للعامد العالم بالحكم.

وقد تكلّف البعض وهو العالم المدقّق المتّقي الميرزا محمّد تقي الشيرازي قدس سره لإمكان ذلك بالالتزام بأمرين : أحدهما متعلّق بالخمسة المستثناة وغيرها ممّا ثبت ركنيّته والآخر بإتيان باقي الأجزاء والشرائط معها ، فلو أتى بالخمسة وغيرها ممّا ثبت ركنيّته وترك الباقي عمدا مع العلم بوجوب إتيانها فالأمر المتعلّق بنفس الخمسة وغيرها ممّا ثبت ركنيّته يسقط بالامتثال ، والأمر المتعلّق بإتيان باقي الأجزاء والشرائط أيضا يسقط بواسطة عدم بقاء المحلّ والموضوع له ؛ إذ محلّه وموضوعه كان إتيان باقي الأجزاء والشرائط مع الخمسة ، والمفروض أنّه أتى بالخمسة وسقط أمرها.

وهذا كما قلنا في الإتيان بالجهر في موضع الإخفات أو بالعكس مع الجهل تقصيرا أنّه تعلّق أمر بذات الصلاة الجامع بين الجهر والإخفات ، وأمر آخر بإتيانها

ص: 80


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 196 ، ح 2 ؛ وج 2 ، ص 218 ، ح 13 ؛ وج 3 ، ص 82 ، ح 65.

جهرا في الجهريّة وإخفاتا في الإخفاتيّة ، فإذا أتى بالجهر في موضع الإخفات أو بالعكس ، أو أتى بالإتمام في موضع القصر فقد أتى بما هو المأمور به بأحد الأمرين ، فيسقط ذلك الأمر بالامتثال ، والأمر الآخر أيضا بعدم الموضوع والمحلّ ؛ لأنّ محلّ الجهر أو الإخفات أو القصر في صلاة المسافر هو المأمور به بالأمر الذي سقط بالامتثال.

وكذلك فيما نذر أن يأتي بصلاته الواجبة مقرونة بخصوصيّة مستحبّة ؛ وذلك كما لو نذر بصلاة الظهر مثلا جماعة ، أو في المسجد فأتي بها منفردا أو في الدار ، فالأمر الأوّل العبادي يسقط بإتيان الفريضة بدون تلك الخصوصيّة لإتيانه بما هو متعلّقة وإلاّ يلزم طلب الحاصل. والأمر النذري أيضا يسقط ، لعدم بقاء المحلّ والموضوع له ، لأنّ متعلّقه كان خصوصيّة في متعلّق الأمر الأوّل ، ومع الإتيان به لا يبقى محلّ لتلك الخصوصيّة حتّى يأتي بها.

نعم الالتزام بالأمرين بالبيان المتقدّم لازمه استحقاق العقاب فيما إذا كان عالما بالحكم أو جاهلا مقصرا ، لتفويته للواجب بإتيانه المأمور به بذلك الأمر بدون الخصوصيّة في مورد النذر ، وبدون أن يقصر في مورد المسافر ، وبدون الجهر في مورد الجهر ، وبدون الإخفات في مورد الإخفات.

ولا بأس بالالتزام بذلك بأن يقال بصحّة صلاته وعدم وجوب الإعادة إذا أتى بالمستثنى - أي الخمسة - وغيرها ممّا ثبت ركنيّته وكان مع ذلك مستحقّا للعقاب من ناحية تفويته الواجب الآخر ، أي سائر الأجزاء والشرائط.

هذا حاصل ما أفاد في إمكان شمول « لا تعاد » مورد العلم بالحكم.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف فرض ، وإلاّ فهو أمر مخالف للواقع ، والمسلّم المقطوع أنّه ليس للصلاة إلاّ أمر واحد متعلّق بمجموع هذه الأجزاء والشرائط وإعدام تلك الموانع ، بأنّ ما هو داخل تحت ذلك الأمر قيدا وتقييدا نسمّيه الجزء ، وما هو

ص: 81

داخل تحت ذلك الأمر تقييدا لا قيدا فإن كان التقييد الداخل تحت الأمر هو التقييد بوجود شي ء فنسمي ذلك الشي ء بالشرط ، وإن كان هو التقييد بعدم شي ء نسمّي ذلك الشي ء بالمانع.

فمرادنا من عدم إمكان شمول صحيحة « لا تعاد » لمورد العلم بأجزاء الصلاة وشرائطه وموانعه ولزومه للخلف والمناقضة ، هو بعد الفراغ عن أنّه ليس للصلاة إلاّ أمر واحد متعلق بالمجموع. ولا ينافي وحدته في مقام الثبوت بيانه بصورة القطعات في مقام الإثبات والتبليغ إلى المكلّفين ، فتارة يبيّن جزئيّة شي ء للصلاة بصورة عدمها بعدمه ، كقوله « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) و « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) و « لا صلاة لمن يقم صلبه » (3) وأمثال ذلك. وتارة بالأمر به فيها ، كقوله : فكبّر واقرأ سورة من سور القرآن ، واغسل ثوبك ، واستقبل ، وأمثال ذلك. وتارة بصورة أخرى كالنهي عن الصلاة في غير المأكول وأمثاله.

وعلى كلّ حال الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ليست إلاّ أوامر غيريّة مولويّة ، أو إرشادية إلى أنّ المركّب المأمور به حصوله و- وجوده موقوف على وجود هذا الشي ء في الأجزاء والشرائط ، وعلى عدمه في الموانع.

وأمّا نقضه ببعض أفعال الحجّ بأنّ الحجّ صحيح لا يجب إعادته مع ترك ذلك الفعل عمدا مع العلم بحكم ذلك الفعل أي بوجوبه في الحجّ.

فجوابه أنّه لو دلّ دليل على مثل ذلك من إجماع أو رواية معتبرة فلا بدّ من حمله على كونه من قبيل الواجب في الواجب ، أو من قبيل تعدّد المطلوب ، وإلاّ يكون من

ص: 82


1- سبق ذكره في ص 80.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 33 ، باب وقت وجوب الطهور ، ح 67 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 49 ، ح 144 ، باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ، ج 83 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 222 ، أبواب أحكام الخلوة ، باب 9 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 320 ، باب الركوع وما يقال فيه من التسبيح و. ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 78 ، ح 290 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح 58 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 939 ، أبواب الركوع ، باب 16 ، ح 2.

قبيل الخلف والمناقضة ، وعلى كلّ حال لا ينبغي الارتياب في عدم شمول الصحيحة لحال العمد مع العلم بالحكم.

[ المبحث ] الثاني : في أنّها هل تشمل الإخلال العمدي مع الجهل بالحكم ، سواء كان الجهل عن تقصير ، أو عن قصور مطلقا ، أو يفرق بينهما بشمولها لمورد الجهل عن قصور دون ما إذا كان عن تقصير ، أو لا تشمل مطلقا؟ وجوه بل أقوال.

ذهب المشهور إلى عدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقا ، قصورا كان أو تقصيرا. وفرّق الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره بين الجهل عن قصور فقال بالشمول ، وبين الجهل عن تقصير فقال بعدم الشمول. (1)

ثمَّ إنّ ما ذهب إليه المشهور من القول بعدم الشمول مطلقا لم يفرّقوا بين أن يكون الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا من أوّل الأمر ولم يكن مسبوقا بالعلم ، أو كان مسبوقا به. وبعبارة أخرى : لم يفرّقوا بين نسيان الحكم والجهل به من أوّل الأمر.

فالمشهور يقولون بعدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقا ، سواء كان منشأ جهله نسيان الحكم أو كان من أوّل الأمر جاهلا ، وأيضا سواء كان جهله عن قصور أو عن تقصير.

وربما يستدلّ للقول المشهور بعدم شمول الصحيحة للإخلال العمدي مطلقا - سواء كان عن قصور أو تقصير ، وسواء كان الجهل بالحكم مسبوقا بالعلم به أو لم يكن كذلك - بأنّ الظاهر والمستفاد من الحديث هو نفي الإعادة في مورد لو لا هذا الحديث لكان مأمورا بالإعادة ، ونفيه للإعادة في مثل المورد المذكور يكون في غير الخمسة المذكورة كما هو صريح المستثنى فيكون العقد المستثنى منه من الحديث الشريف مفاده الذي هو عبارة عن عدم الإعادة مختصّا بمورد السهو ونسيان الموضوع ، لا نسيان الحكم الذي هو عبارة عن الجهل المسبوق بالعلم وما هو من قبيل

ص: 83


1- انظر : « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 495.

السهو والنسيان ، مثل الاضطرار وغيره ممّا يوجب سقوط الأمر بالمركّب التامّ الأجزاء والشرائط ، بحيث لو كانت الإعادة واجبة ويكون الإتيان بالتامّ الكامل لازما لا بدّ وأن يكون بصورة الأمر بالإعادة بقوله « أعد ».

وأمّا لو كان الأمر الأوّل المتعلّق بالمركّب التامّ الأجزاء والشرائط باقيا ولم يسقط ، فلا معنى لمجي ء أمر جديد من قبل المولى يأمر بالإعادة. وقد عرفت أنّ مجرى حديث « لا تعاد » هو فيما إذا كان الأمر الأوّل ساقطا بواسطة السهو والنسيان والاضطرار وأمثال ذلك.

فالعامد إلى الإخلال - ولو كان من جهة الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا أو من جهة نسيان الحكم - حيث أنّ الأمر الأوّل لم يسقط عنه لأنّ الجهل بالحكم لا يوجب سقوط الأمر مطلقا ، قصورا كان أو تقصيرا أو نسيانا ، وذلك للإجماع على اشتراك التكاليف بين العالم والجاهل بها ، وبعضهم ادّعى تواتر الأخبار على ذلك ، ولا فرق في ذلك بين الجهل قصورا أو تقصيرا وإنّما الفرق بينهما في أنّ الجاهل المقصّر يستحقّ العقاب دون القاصر - فلا يكون له خطاب جديد بعنوان « أعد » بل المحرّك له نحو الإتيان بالمأمور به الكامل التّام الأجزاء والشرائط هو الأمر الباقي إلى زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه ، وأيضا إلى زمان ارتفاع نسيان الحكم وحصول العلم به.

فإذا كان معنى الحديث كما استظهرنا نفي الإعادة عن مورد لو لا هذا الحديث كان مخاطبا بالإعادة فلا يشمل مورد العمد مطلقا ، سواء كان عالما بالحكم ، أو جاهلا قصورا أو تقصيرا ، أو ناسيا للحكم ؛ لعدم الأمر بالإعادة في هذه الموارد ولو لم يكن هذا الحديث ، بل كان وجوب الإتيان بالتامّ بعد رفع الجهل بنفس الأمر الأوّل لبقائه وعدم سقوطه بواسطة الجهل ولو كان عن قصور أو كان بواسطة نسيان الحكم.

وبهذا البيان قال شيخنا الأستاذ قدس سره بعدم شمول الحديث للعامد الجاهل مطلقا (1).

ص: 84


1- « كتاب الصلاة » ج 2 ، ص 406 ، رسالة في صحيحة لا تعاد.

ولكن أنت خبير بأنّ مفهوم الإعادة عبارة عن إيجاد الشي ء بعد إيجاده ثانيا أو ثالثا ، وهكذا مقابل الإيجاد ابتداء من غير سبق إيجاده ، غاية الأمر أنّ الإعادة بالمعنى المذكور قد تكون إعادة بالدّقة بحيث يكون الوجود الثاني مثل الوجود الأوّل بالدّقة - وأمّا كون الوجود الثاني نفس الوجود الأوّل بالدقّة فمحال بالضرورة - وقد تكون إعادة عرفا ولو كان المعاد لا يكون على طبق الوجود الأوّل تماما وطابق النعل بالنعل.

وفي الإعادة عرفا قد يكون الوجود الأوّل مشتملا على زيادات ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكون إعادة ادّعاء من حيث ترتيب الآثار.

وبناء على هذا ففي موارد الإخلال العمدي - من جهة الجهل بالحكم بكلا قسميه ، أو نسيانه - ولو كان لزوم الإتيان بالصلاة التامّ الأجزاء والشرائط بعد الالتفات إلى أنّه أخلّ بإتيانها كما هي من جهة ترك جزء أو شرط أو ارتكاب مانع يكون بالأمر الأوّل ، ولكن هذا الوجود التامّ حيث أنّه يكون بعد ذلك الوجود الناقص الذي أتى به يصدق عليه أنّه إعادة ، فلو لم يكن هذا الحديث كان مقتضى الأمر الأوّل الباقي أن يأتي به ويعيده تامّ الأجزاء ، ولكن هذا الحديث ينفي إعادته ثانيا تامّا ويقول بكفاية ذلك الناقص الذي أتى به.

فالإنصاف أنّه لا قصور في شمول الحديث لموارد الجهل والنسيان للحكم ، من جهة صدق الإعادة على الإتيان بها ثانيا تامّ الأجزاء والشرائط.

والشاهد على ما ذكرنا ورود لفظ « يعيد » في جملة من الأخبار مع عدم سقوط الأمر الأوّل.

منها : ما ورد فيمن أجهر في موضع الإخفات متعمّدا أو بالعكس كذلك « أنّه نقض صلاته وعليه الإعادة » (1).

ص: 85


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 344 ، باب احكام السهو في الصلاة ، ح 1003 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 162 ، ح 635 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ح 93 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 313 ، ح 1163 ، باب وجوب الجهر بالقراءة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 766 ، أبواب القراءة ، باب 26 ، ح 1.

ومنها : قوله علیه السلام فيمن صلّى أربعا في السفر « أنّه إن قرأ عليه آية التقصير وفسرت له فصلّى أربعا أعاد » (1).

والحاصل أنّ إنكار شمول حديث « لا تعاد » لموارد الإخلال العمدي الصادر عن الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا ، أو الناشئ عن نسيان الحكم استنادا إلى عدم صدق الإعادة على الإتيان بالصلاة التامّ لأنّه بالأمر الأوّل ، لا بخطاب « أعد » ممّا لا أساس له ولا يمكن الركون إليه.

نعم يمكن أن يستدلّ للمشهور بأنّ شمول الحديث للإخلال العمدي في مورد الجهل بالحكم - مطلقا ، قصورا أو تقصيرا ، وكذلك في مورد نسيان الحكم الذي هو أيضا عبارة عن الجهل بالحكم غاية الأمر جهل مسبوق بالعلم وإلاّ في حال النسيان لا شكّ في أنّه جهل - يرجع إلى إبطال الأدلّة الدالّة على أنّ ما عدا الخمسة من الأجزاء والشرائط والموانع أيضا لها دخل في الصلاة ، إمّا بوجودها كالأوّلين أي الجزء والشرط ، أو بعدمها كالموانع.

وذلك من جهة ما ذكرنا مرارا أنّ الأحكام الشرعيّة - وإن لم تكن لها إطلاق - يشمل حال الجهل بها ؛ وذلك لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، لا تقابل السلب والإيجاب.

وقد شرحنا المسألة في باب المطلق والمقيّد في كتابنا « منتهى الأصول » (2) فالدليل على عدم إمكان التقييد بقيد هو بنفسه دليل على عدم إمكان الإطلاق اللحاظي بالنسبة إلى ذلك القيد ، ولا شكّ في عدم إمكان تقييد الحكم بحال الجهل أو العلم به ؛ لأنّ هاتين الصفتين متأخّران عن الحكم المتعلّق بهما ، ومعنى التقييد بهما جعلهما جزءا

ص: 86


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 435 ، باب الصلاة في السفر ، ح 1265 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 226 ، ح 571 ، باب الصلاة في السفر ، ح 80 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 531 ، أبواب صلاة المسافر ، باب 17 ، ح 4.
2- « منتهى الأصول » ج 1 ، ص 468.

لموضوع فيكون مقدّما على الحكم باعتبار كون كلّ واحد منهما جزء لموضوعه ، ومتأخّرا عنه باعتبار كون الحكم متعلّقا لكل واحد منهما ، فيلزم تقدّم الشي ء على نفسه. فإذا كان التقييد بهما - أي العلم والجهل - غير ممكن فيكون الإطلاق أيضا كذلك ؛ لما ذكرنا من أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

ولكن هذا في الإطلاق اللحاظي ، والإطلاق بنتيجة الإطلاق لا مانع منه كما أنّ التقييد بنتيجة التقييد أيضا لا مانع منه. ونتيجة الإطلاق في المقام يثبت بادعاء الاتّفاق على اشتراك الجاهل والعالم في التكاليف ، فلو شمل هذا الحديث مورد الإخلال العمدي جهلا بكلا قسميه - أي قصورا أو تقصيرا - فيكون معارضا مع تلك الأدلّة الكثيرة الدالّة على جزئيّة ما عدا الخمسة من أجزاء الصلاة ، وكذلك بالنسبة إلى ما تدلّ على شرائطها وموانعها : لأنّ مفاد « لا تعاد » بناء على شموله لحال الجهل ونسيان الحكم نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة عن جميع أجزاء الصلاة وشرائطها وموانعها ما عدا هذه الخمسة المذكورة في الحديث.

وذلك من جهة أنّ لازم جزئيّة شي ء أو شرطيّته أو مانعيّته للصلاة في حال الجهل بكلا قسميه لزوم إعادته بعد الالتفات إلى الإخلال به ، خصوصا إذا كان الالتفات مع بقاء الوقت. ونفي لازم هذه الأمور بالحديث - كما هو المدّعى بناء على شموله لحال الجهل - مستلزم لنفي هذه الأمور ، أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال الجهل.

فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر تلك الأدلّة الدالّة على الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال الجهل ، وبين حملها على حال العلم فتكون جزئيّة تلك الأجزاء وكذلك شرطيّتها ومانعيّتها مخصوصة بحال العلم - وهذا خلاف الإجماع ، بل خلاف ما ادّعى من تواتر الأخبار ، بل الضرورة على اشتراك الجاهل والعالم - وبين حمل « لا تعاد » على مورد السهو والنسيان ، أي لا تجب الإعادة فيما إذا كان الإخلال صدر عن سهو أو عن نسيان الموضوع ، حتّى لا يشمل مورد الجهل مطلقا.

ص: 87

ولا محذور في هذا الحمل ، بل هو المتعيّن ، فيكون من قبيل دليل نفي الضرر والحرج حاكما على الأدلّة الأوليّة ، أي يدلّ على تضييق دائرة الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، ورفعها ونفيها في حال السهو والنسيان.

وذلك مع أنّ سياق الحديث من أول الأمر ليس إلاّ في مقام التعرّض لحال السهو والخطأ ونسيان الموضوع.

والانصاف أنّ القول بشمول الحديث لحال الجهل ، خصوصا إذا كان عن تقصير لا ينبغي أن يصدر عن فقيه ، بل لا يتصوّر تقصير بناء على نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من غير هذه الخمسة في حال الجهل ؛ إذ ليس في تلك الحال جزء أو شرط أو مانع حتّى يجب عليه التعلّم ، حتّى يكون تركه تقصيرا.

نعم لو قلنا بأنّ توجيه التكليف إلى الجاهل القاصر قبيح لعجزه عن الامتثال - كما ربما يخطر بالبال - فيكون مثل السهو والخطأ ونسيان الموضوع مشمولا للحديث ، كما أنّه ليس ببعيد إن لم يكن إجماع على الخلاف.

وأمّا شموله للجاهل المقصّر مع الالتفات في الوقت وبقاء الوقت لأداء الصلاة لا يخلو من غرابة.

وأمّا ما نقل عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من التفصيل بين الجهل قصورا وقال بشموله له ، وبين الجهل عن تقصير وقال بعدم الشمول. (1) فإن كان وجهه ما احتملناه من عدم صحّة توجيه الأمر إلى الجاهل القاصر لعجزه عن الامتثال فله وجه ، وإن كان أيضا لا يخلو من إشكال. وأمّا إن كان وجهه - كما حكى عنه - أنّ هذه الصحيحة في مقام بيان حكم من كان له تكليف واقعا ، فتكليفه في زمان الجهل بالناقص ، وعدم وجوب الصلاة التامّ الأجزاء والشرائط عليه ، فلا يشمل الجاهل المقصر ؛ لأنّه بسبب تقصيره استحقّ العقاب فسقط أمره بالتامّ بواسطة العصيان ،

ص: 88


1- انظر : « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 495.

فليس أمر بالتامّ متوجّه إليه حتّى يشمله الحديث ، ويكون مفاده أيّها الجاهل الذي أنت مأمور بإتيان المركّب التامّ إتيانك بالناقص يكفي ويجزي ، ولا يجب عليك الإعادة ، لأنّه ليس مأمورا به بعد العصيان واستحقاق العقاب.

فهذا كلام عجيب لا ينبغي أن يسند إلى مثل شيخنا الأعظم الأنصاري ، وحيث أنّ مواقع الخلل فيه واضح ولذلك لا نتعرّض لما فيه.

[ المبحث ] الثالث : في بيان ما هو المستفاد من ظاهر الصحيحة ، أي فيما تدلّ عليه بالدلالة التصديقيّة :

فتارة : نتكلّم في عقد المستثنى منه ، أي قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة ».

وأخرى : في عقد المستثنى ، أي قوله علیه السلام « إلاّ من خمس ». أمّا الأوّل :

فالكلام فيه من جهات

[ الجهة ] الأولى : ظاهر هذه الجملة أنّ كلّ إخلال وقع في الصلاة إذا لم يكن ذلك الإخلال من قبل الخمسة ، ولم يكن عن عمد مع العلم بالحكم أو مع الجهل به مطلقا سواء كان عن قصور أو عن تقصير فلا يوجب الإعادة ؛ فينتج رفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة عن جزء أو شرط تركهما خطأ أو نسيانا ، أو أتى بمانع كذلك.

وبعبارة أخرى : في كلّ مورد سقط الأمر بالصلاة الكاملة التامّة بواسطة العذر العقلي أو الشرعي ، وكان بمقتضى إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط يجب عليه الإعادة في الوقت ، بل القضاء في خارج الوقت بعد رفع العذر ؛ فحديث « لا تعاد » يرفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وينفيها بنفي الإعادة ، فيكون الحديث حاكما على إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ، بحيث لو لم يكن حديث « لا تعاد » لكان مقتضى تلك الإطلاقات ثبوت الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة حتّى في حال السهو والنسيان ؛ ولازمه وجوب الإعادة في الوقت بعد رفع العذر.

ص: 89

فالحديث يضيق دائرة الإطلاقات ، ويخصّص هذه الأمور - أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة - بغير حال السهو والنسيان ، بل بغير الاضطرار. وأمّا في هذه الموارد فينفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة بل ينفي هذه الأمور في كلّ مورد سقط الأمر ، ولو بواسطة التزاحم والإكراه.

والسرّ في ذلك أنّه لو كان أمر بالصلاة التامّ الأجزاء والشرائط فيعارض الحديث ؛ لأنّ مقتضى ذلك الأمر يكون الإعادة بعد الالتفات ، خصوصا إذا كان رفع العذر في الوقت مع بقائه لأدائه ، ولا حكومة لدليل « لا تعاد » على دليل ذلك الأمر ، بخلاف ما إذا سقط الأمر ولو كان سقوطه بواسطة التزاحم أو الإكراه أو الاضطرار ، فليس شي ء في البين يعارض هذه الصحيحة إلاّ دليل الأجزاء والشرائط ، وقد تقدّم أنّها محكومة بلا تعاد ، ويكون حال لا تعاد بالنسبة إليها حال أدلّة نفي الضرر والحرج بالنسبة إلى العمومات وإطلاقات الأدلّة الأوّليّة ، فلا تبقى معارضة في البين.

[ الجهة ] الثانية : في أنّ هذا الحكم ، أي عدم وجوب الإعادة في الموارد المذكورة من السهو والنسيان والخطأ والاضطرار وغيرها عند الإخلال بها هل يختصّ بالنقيصة ، أو يشمل الزيادة أيضا فيما إذا كانت الزيادة موجبة للإعادة؟

الأقوى هو الشمول ؛ وذلك من جهة أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من هذه الجملة أنّ الخلل الواقع من غير ناحية هذه الخمسة لا يكون موجبا للإعادة ، سواء كان سبب وقوع الخلل نقيصة شي ء من الأشياء التي لها دخل في الصلاة وجودا أو عدما ، أو زيادته.

فلا يرد عليه أنّ التقدير في طرف المستثنى منه إمّا أن يكون وجود الشي ء ، فيلزم أن يكون مفاد الحديث عدم وجوب الإعادة من وجود كلّ ما اعتبر في الصلاة إلاّ من وجود هذه الخمسة. وهذا المعنى واضح البطلان. وإمّا أن يكون عدم الشي ء ، فيكون مفاد الحديث لا تجب الإعادة من عدم كلّ ما اعتبر في الصلاة إلاّ من عدم هذه

ص: 90

الخمسة. وهذا المعنى وإن كان في حدّ نفسه صحيحا ولكن خلاف ظاهر الحديث ؛ إذ ظاهره عدم وجوب إعادة الصلاة مطلقا ، ومن أيّ جهة كانت إلاّ من ناحية هذه الخمسة.

إذ الظاهر من كلمة « لا تعاد الصلاة » نفي طبيعة إعادة الصلاة ، لا خصوص نفي إعادتها من قبل شي ء. دون شي ء ولو كان معنى الحديث عدم إعادتها من ناحية خصوص عدم كلّ شي ء معتبر وجوده في الصلاة لم تشمل الإعادة من قبل وجود بعض القواطع ، كالتكلّم فيها سهوا مثلا ، وقد عرفت أنّ ظاهره العموم ، خصوصا بقرينة الاستثناء. والمستثنى ممّا يكون زيادتها ونقيصتها موجبة للإعادة ، فبحكم وحدة السياق لا بدّ وأن يكون المستثنى منه أيضا زيادتها ونقيصتها لا توجب الإعادة.

فالإنصاف أنّه لا ينبغي أن يشكّ في أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي في معنى الحديث نفي الإعادة مطلقا ، من أيّ سبب وناحية كانت موجبة للإعادة لو لا هذا الحديث ، سواء كان الإخلال من ناحية زيادة شي ء فيما إذا كانت الزيادة لو لا هذا الحديث موجبة للإعادة ، أو كان من ناحية نقيصة شي ء وجوده أو عدمه معتبر في الصلاة.

[ الجهة ] الثالثة : في أنّه بعد ما عرفت ما ذكرنا من معنى الحديث يظهر لك أنّه لا فرق في عدم وجوب الإعادة بين أن يكون الخلل من ناحية فقد جزء - كما لو ترك فاتحة الكتاب مثلا في الركعتين الأوليين ، أو في إحديهما ما لم يكن ذلك الجزء من الخمسة المستثناة - أو كان من ناحية ترك شرط سهوا ونسيانا ما لم يكن من الخمسة المستثناة ، كالطمأنينة والاستقرار مثلا ، أو كان من ناحية وجود مانع أو قاطع ما لم يكن من الخمسة ، كالتكلّم سهوا أو نسيانا ، أو صلّى في غير المأكول سهوا أو نسيانا.

وأمّا ما ربما يقال من أنّ للشي ء - المقدّر في قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة » أي من شي ء - عموم أفرادي وإطلاق أحوالي ، فباعتبار العموم الأفرادي حيث أنّه نكرة

ص: 91

واقعة في سياق النفي يشمل كلّ فرد من أفراد الشي ء بنحو العامّ الاستغراقي ، وباعتبار إطلاقه يشمل حالة كون ذلك الشي ء جزء أو شرطا أو مانعا ، فلو شمل الجميع بالإطلاق فبالعموم الأفرادي يشمل كلّ فرد من أفراد الجزء ، وكذلك بالنسبة إلى الشرط والمانع. فشموله للموانع والشروط مضافا إلى الأجزاء يحتاج إلى ثبوت إطلاق للشي ء مضافا إلى عمومه الأفرادي ، والدليل على عموم الشي ء بنحو الاستغراقي موجود ولكن لا دليل في الحديث على ثبوت الإطلاق له بحيث يشمل الثلاثة - أي الأجزاء والشرائط والموانع - ولكن حيث أن الخمسة المستثناة مشتملة على الأجزاء والشرائط دون الموانع ، فبحكم وحدة السياق لا بدّ وأن يكون المراد في طرف المستثنى منه أيضا أعمّ من الأجزاء والشرائط ، ولا دليل على شموله للموانع.

ففيه أوّلا : أنّ المقدّر هو الإخلال لا الشي ء ، بمعنى أنّ العرف يفهم من قوله علیه السلام في عقد المستثنى منه « لا تعاد الصلاة » أي لا تعاد الصلاة من الإخلال بها ، فيكون الإخلال له عموم حسب التفاهم العرفي باعتبار سببه أيّ إخلال ، من أيّ ناحية وأيّ سبب إلاّ من ناحية هذه الخمسة ، فيشمل الموانع بنفس العموم من دون احتياج إلى العموم.

وثانيا : أنّ مصبّ العموم لكلمة « الشي ء » - على تقدير أن يكون هو المقدّر - هو الأجزاء والشرائط والموانع ، وذلك من جهة أنّ المراد من عدم وجوب إعادة الصلاة ومن الخلل الوارد عليها من ناحية كلّ شي ء أي كلّ شي ء من الأشياء التي لها دخل في تحقّق حقيقة الصلاة ، إمّا وجودا أو عدما ، فما هو دخيل وجودا قيدا وتقييدا فهو الجزء ، وتقيدا لا قيدا فهو الشرط ، وما هو دخيل عدمه أي الصلاة مقيّدة بعدمه بنحو يكون التقييد داخلا دون القيد فهو المانع ؛ فالحديث يشمل بعمومه الأجزاء والشرائط والموانع.

ولكن هذا العموم ليس عموما عقليّا لا يكون قابلا للتخصيص ، بل يمكن أن يرد الدليل بالنسبة إلى بعض الموانع ، أو بعض الشرائط ، بل بعض الأجزاء غير

ص: 92

الأجزاء المذكورة في عداد الخمسة المستثناة ، أعني الركوع والسجود بأنّ الخلل من ناحيتها سهوا أيضا توجب الإعادة ، كما أنّه ورد بالنسبة إلى القيام المتّصل بالركوع ، وتكبيرة الإحرام من الأجزاء.

ولذلك قالوا إنّ الأركان ليست منحصرة بالخمسة المذكورة ، إن كان معنى الركن هو الذي يكون تركه عمدا أو سهوا موجبا للإعادة.

فلو سلّمنا أنّ وقوع الصلاة في غير المأكول يكون موجبا للإعادة ولو سهوا ، فهذا لا يدلّ على عدم شمول الحديث للموانع بناء على عدم كون المأكوليّة شرطا إذا كان لباس المصلي من الحيوان ، بل كان مالا يؤكل مانعا كما هو ظاهر موثّقة ابن بكير ، إذ من الممكن أن يكون فتواهم بالإعادة من جهة وجود دليل خاصّ عندهم.

[ الجهة ] الرابعة : في شمول الحديث للإعادة والقضاء جميعا ، بمعنى أنّه يدلّ على نفي الإعادة في الوقت ونفي القضاء في خارج الوقت.

بيان ذلك : أنّ المراد من نفي الإعادة في عقد المستثنى منه إن كان هو المعنى اللغوي للإعادة ، فيكون معناه نفي لزوم إيجادها ثانيا بعد ذلك الإيجاد الأوّل الذي سها عن إيجاد جزء أو شرط ، أو سها عن ترك مانع ، سواء كان الإيجاد الثاني في الوقت الذي نسمّيه بالإعادة اصطلاحا ، أو كان في خارج الوقت الذي نسمّيه بالقضاء ؛ لأجل شمول الإعادة بهذا المعنى اللغوي لكليهما بدون فرق أصلا.

وأما إن كان المراد منه نفي الإعادة بالمعنى الاصطلاحي للإعادة - أي إيجادها ثانيا في الوقت - فأيضا يدلّ على نفي القضاء بالدلالة الالتزاميّة ، بل يدلّ على نفيها بطريق أولى ؛ لأنّ لازم عدم لزوم الإعادة في الوقت سقوط الأمر عن الكامل التامّ وكفاية ما أتى به من الفاقد للجزء أو الشرط أو الواجد للمانع ، وإيفائه للغرض ؛ فلم يفت شي ء منه ، لا الواجب لسقوط الأمر بالامتثال بما أتى به من الناقص ، ولا الملاك لإيفاء ما أتى به للغرض ، فلا يبقى موضوع لوجوب القضاء.

ص: 93

و أما المقام الثاني : أي التكلّم في عقد المستثنى من هذا الحديث

اشارة

أي قوله علیه السلام « إلاّ من خمس : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود » أيضا من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في شرح الخمسة المذكورة فيه ، وأنّه ما المراد منها؟

فنقول :

الأوّل منها « الطهور ». وهذه اللفظة وإن كانت لها احتمالات :

منها : أن تكون بضم الطاء اسم مصدر مأخوذ من تطهّر ، كالوضوء من توضّأ.

ومنها : أن تكون صفة مشبّه بمعنى الطاهر ، كالعجوز بمعنى العاجز.

ومنها : أن تكون صيغة مبالغة ، وهذا الوزن في صيغ المبالغة معروفة مشهورة بخلاف الاحتمالين الأوّلين فإنّ فيهما كلام.

ومنها : أن تكون اسم لما يتطهّر به ، كالوضوء والسحور ، والفطور ، لما يتوضأ وما يتسحّر وما يفطر به.

ومنها : أن تكون مصدرا من طهر.

وكلّ هذه الاحتمالات ما عدا الاحتمال الأوّل فيما إذا قرأت بفتح الطاء.

وعلى كل الظاهر منها في هذا الحديث أن يكون إمّا مصدرا من طهر بضم الهاء ، ويكون بمعنى الطهارة ، فيكون معنى الحديث أنه لا تعاد الصلاة إلاّ من أشياء أحدها الطهارة. وإمّا اسم لما يتطهّر به ، ويكون معنى الحديث أنّه لا تعاد الصلاة الاّ من أشياء أحدها ما يتطهّر به - أي الماء أو التراب - فيكون كناية عن الطهارة الحاصلة عن أحدهما حسب المتفاهم العرفي. وهذا المعنى يناسب قوله علیه السلام « فاقد الطهورين لا

ص: 94

صلاة له » (1).

وعلى كلّ لا شكّ في أنّ الظاهر من هذه الكلمة هي الطهارة في الحديث الشريف ؛ لأنّها إن كانت مصدر الطهر بضم الهاء فهو مرادف للطهارة ، لأنّ كليهما مصدران لطهر بتنصيص أهل اللغة ، وإن كانت بمعنى ما يتطهّر به كالوضوء بفتح الواو فأيضا لا بدّ وأن يكون المراد منها هي الطهارة ؛ إذ لا معنى لإعادة الصلاة بواسطة السهو عن الماء والتراب إلاّ أن يكون المراد الطهارة الحاصلة منها ، فكأنّه قال علیه السلام : لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة أشياء أحدها الطهارة.

ثمَّ إنّ الطهارة وإن كانت أعمّ من الطهارة الحدثيّة والخبثيّة جميعا لكن الظاهر أنّ المراد منها في الحديث خصوص الطهارة الحدثيّة لأنّه لا شكّ في أنّ الحديث في مقام أهميّة هذه الخمسة التي ثلاثة منها من الشرائط واثنان منها من الأجزاء من بين سائر الأجزاء والشرائط ، فبتركها وإن كان سهوا لا تتحقّق الصلاة ولا توجد ، ومن هذه الجهة اصطلح الفقهاء على تسمية هذه الأمور ركنا ، وعرّفوا الركن بأنّه ما كان زيادته ونقيصته أو خصوص نقيصته سهوا وعمدا موجبا للبطلان. وحيث أنّه من مجموع الأخبار في الموارد المختلفة يفهم أهميّة الطهارة الحدثية حتّى اشتهر عنهم علیهم السلام أنّ فاقد الطهورين لا صلاة له ، وأيضا قوله علیه السلام « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) فمن باب مناسبة الحكم والموضوع وأهميّة الطهارة الحدثيّة في الصلاة يقطع الفقيه بأنّ المراد منها هي الطهارة الحدثية ، فالطهارة الخبثيّة للثوب والبدن داخلة في عقد المستثنى منه لا المستثنى ، فلو أخلّ بها سهوا ونسيانا لا يوجب الإعادة.

الثاني : « الوقت » ولا شكّ في أنّ المراد به هو الزمان الذي عيّن الشارع لكلّ واحدة من الفرائض الخمس ، وذلك الزمان لكلّ واحدة منها مذكور في الفقه في باب أوقات الفرائض الخمس ، وهي مشهورة معروفة عند أغلب المسلمين فلا حاجة إلى

ص: 95


1- لم نجد هذه الرواية في الكتب الأربعة ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل وبحار الأنوار.
2- تقدم تخريجه في ص 82 ، رقم (2).

ذكر تلك الأوقات وبيانها.

ومقتضى هذه الصحيحة أنّه لو أتى بها خارج الوقت مقدما عليه ، أو مؤخّرا عنه عمدا أو سهوا تكون صلواته باطلة.

ولكن وجوب القضاء في خارج الوقت الذي هو من المسلمات - بل الضروريّات - يدلّ على صحتها إذا أتى بعنوان القضاء لا الأداء ، ولكنّه لا شكّ في أنّه لو أتى بها بتمامها قبل الوقت تكون صلاته باطلة ، سواء أكان الإتيان بها قبل الوقت عمدا علما ، أو جهلا قصورا أو تقصيرا ، أو كان سهوا ونسيانا.

نعم لو دخل فيها قبل الوقت مع قيام الحجّة عنده على دخول الوقت ، ودخل الوقت قبل أن يفرغ عنها فالمشهور حكموا بالصحّة ، اعتمادا على رواية وردت بهذا المضمون ، وإلاّ فمقتضى هذه الصحيحة هو بطلانها ، لأنّ ظاهرها لزوم وقوع الصلاة بتمامها في الوقت ، فلو خرج شي ء منها عن الوقت - سواء كان المقدار الخارج قبل الوقت أو بعد الوقت - يكون داخلا في المستثنى لا في المستثنى منه.

ولكن إذا كان المقدار الخارج قبل الوقت مع قيام الحجّة عنده على دخول الوقت « فيدلّ » على صحّتها وعدم بطلانها رواية ابن أبي عمير ، عن إسماعيل بن رياح : « إذا صلّيت وأنت ترى أنّك في وقت ولم يدخل الوقت ، فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنك » (1).

والإشكال في الرواية بضعف إسماعيل بن رياح مع أنّ الراوي عنه محمّد بن أبي عمير لا وجه له ، والمشهور عملوا بها. وعلى كلّ تقدير الحكم بالصحّة بواسطة الدليل الخاصّ أعني هذه الرواية ، وإلا مقتضى الصحيحة بطلانها كما ذكرنا. وأمّا إذا كان

ص: 96


1- « الكافي » ج 3 ، ص 286 ، باب وقت الصلاة في يوم الغيم والريح. ، ح 11 ؛ « الفقيه » ج 1. ص 222 ، باب مواقيت الصلاة ، ح 667 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 35 ، ح 110 ، باب أوقات الصلاة وعلامة كلّ وقت منها ، ح 61 ؛ وص 141 ، ح 550 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة. ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3. ص 150 ، أبواب المواقيت ، باب 25 ، ح 1.

مقدار الخارج بعد الوقت فإن أدرك من الوقت مقدار ركعة كان كمن أدرك الوقت جميعا ، وهذا أيضا بالأدلّة الخاصّة الواردة في هذا المقام ، وإلاّ فمقتضى عقد المستثنى لزوم إعادتها وإن كان إتيانها في خارج الوقت سهوا إن كان بعنوان الأداء. وتفصيل المسألة في الفقه في باب أوقات الفرائض.

الثالث : « القبلة » وهي معلومة معروفة عند جميع المسلمين ، حتّى صار أهل القبلة عنوانا لهم ، وهي عبارة عمّا أمر اللّه تعالى بتولية الوجه إليها في الصلاة بقوله تعالى ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) أي المسجد الحرام.

نعم وقع الخلاف في أنّها للبعيد عن الكعبة أو سمتها وجانبها؟ وعلى أيّ التقادير وأيّ قول اخترناه يكون مفاد عقد المستثنى بطلان الصلاة لو وقعت إلى غير القبلة وإن كان سهوا ونسيانا.

نعم - كما قلنا في الوقت - هناك أدلّة خاصّة تدلّ في بعض الصور والفروض على صحّة الصلاة وإن وقعت إلى غير القبلة من باب تخصيص الحديث أو الحكومة بالتوسعة فيها تعبّدا ، كقوله علیه السلام : « ما بين المشرق والمغرب كلّه قبلة » (2) ومعلوم أنّ مقتضى عقد المستثنى كان لزوم الإعادة إذا صلّى سهوا أو نسيانا إلى غير القبلة ، لكن هذه الرواية حاكمة على عقد المستثنى ؛ لأنّ مفادها توسعة القبلة إلى ما بين المشرق والمغرب ، كما أنّه في الثاني من الخمسة التي مذكورة في عقد المستثنى - أو الوقت - أيضا قوله علیه السلام : « من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فقد أدرك الوقت » (3) يكون حاكما على عقد المستثنى بسبب توسعة في الوقت تعبّدا.

ولا يخفى أنّ التوجّه إلى القبلة حيث أنّه شرط في جميع حالات الصلاة

ص: 97


1- البقرة (2) : 150.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 278 ، باب القبلة ، ح 855 ، « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 217 ، أبواب القبلة ، باب 12 ، ح 9.
3- « الاستبصار » ج 1 ، ص 275 ، ح 999 ، باب وقت صلاة الفجر ، ح 10 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 158 ، أبواب المواقيت ، باب 30 ، ح 4.

والاشتغال بها من أوّل الدخول فيها إلى آخرها ، فإذا خرج جزء صغير منها عن القبلة ولم يأت به إليها تكون الصلاة فاقدة لهذا الشرط ، وتكون داخلة في عقد المستثنى لا المستثنى منه. فلا فرق بين خروجها بتمامها عن القبلة وبين خروج مقدار منها عنه وان كان ذلك المقدار يسيرا.

الرابع : « الركوع » والخامس « السجود » وهما من مقولة الوضع ، وكلّ واحد منهما عبارة عن هيئة خاصّة حاصلة لجسم الإنسان من نسبة أجزاء جسمه بعضها إلى بعض ومجموعها إلى الخارج ، فيكونان كالقيام والقعود والانبطاح والاستلقاء ، فهذه كلّها أوضاع للجسم الإنساني.

وهذه المفاهيم كلّها مفاهيم عرفيّة ، يحمل ما يفهم العرف منها ، إلاّ إذا أتى دليل على أنّ الشارع تصرّف فيها في عالم موضوعيّتها لأحكامه بالزيادة أو النقيصة ممّا يفهمه العرف ، وأمّا إذا أطلق فيحمل على ذلك المعنى العرفي. فالركوع عند العرف له مصاديق بل مراتب ، فمن أوّل خفض الرأس من أوّل مرتبة من انحناء البدن إلى الانحناء والنفوس التامّ يسمّى عند العرف بالركوع ، فإن أطلق الشارع في حكمه عليه وقال مثلا : « اركع في كل ركعة من صلاتك » فإذا أتى بأيّ مصداق من مصاديقه العرفيّة وأيّة مرتبة من مراتبه فقد امتثل ، ما لم يكن انصراف أو قرينة على إرادة أحد المصاديق أو المراتب بالخصوص.

نعم إذا جاء تحديد من قبل الشارع في عالم موضوعيّته لحكمه ، فلا بدّ من أن ينظر إلى مقدار دلالة ذلك الدليل.

وقد وقع الخلاف في ما يستفاد من أدلّة تحديد الركوع.

فقال بعضهم : إنّه عبارة عن الانحناء إلى حدّ تصل يداه إلى ركبتيه وصولا لو أراد وضع شي ء منهما عليهما لوضعه.

وفي المنتهى : ويجب فيه الانحناء بلا خلاف ، وقدره أن تكون بحيث تبلغ يداه إلى

ص: 98

ركبتيه ، وهو قول أهل العلم كافّة إلاّ أبا حنيفة (1).

وقال في التذكرة : ويجب فيه الانحناء إلى أن تبلغ راحتاه إلى ركبتيه إجماعا ، إلاّ من أبي حنيفة ، انتهى (2).

والظاهر من العبارة التي في المنتهى - كما هو الصريح فيما حكينا عن التذكرة - ادّعاء الإجماع على هذا التحديد من العامّة والخاصّة ما عدا أبي حنيفة ، والظاهر أنّ أبي حنيفة في قوله : « بأنّ الركوع عبارة عن مطلق الانحناء » ناظر إلى مفهومه العرفي.

وبعضهم اعتبر الوضع الفعلي للكفّين على الركبتين.

وبعضهم اكتفى بإمكان وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين. ومنشأ اختلاف تفاسيرهم اختلاف تعابير الأخبار.

وعلى كلّ حال لسنا في مقام تحقيق هذه المسألة الفقهيّة - وإن كان الأقرب بنظري ممّا يستفاد من الأخبار بلوغ الانحناء إلى حدّ وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين ؛ لصحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام : « فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحبّ إليّ أن تمكّن كفّيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرّج بينها » (3) وأخبار أخر بهذا المضمون - بل المقصود ما هو المراد من الركوع في عقد المستثنى؟

فنقول : إنّ الظاهر المراد أنّه إذا وقع خلل في الصلاة من ناحية الركوع فتجب الإعادة سواء أكان بالنقيصة أو بالزيادة ، فلو فات منه الركوع وصلّى بلا ركوع في جميع الركعات ، أو في بعضها يجب عليه الإعادة ، لا كلام في ذلك.

ص: 99


1- « منتهى المطلب » ج 1 ، ص 281.
2- « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 118.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 335 ، باب القيام والقعود في الصلاة ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 83 ، ح 308 ، باب كيفية الصلاة وصفتها ، ح 76 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 675 ، أبواب أفعال الصلاة ، باب 1 ، ح 3.

وإنما الكلام في جهات أخر :

منها : أنّه هل وجوب الإعادة فيما إذا ترك الركوع بجميع مراتبها بحيث لم يأت به أصلا ، أو فيما إذا لم يأت بالمرتبة الكاملة وإن أتى بسائر المراتب؟

والصحيح هو أنّه وجوب الإعادة يكون فيما إذا لم يأت بما حدّده الشارع وإن أتى بما دون ذلك من المراتب ؛ لأنّ الحكم الشرعي إذا كان موضوعه الركوع فيكون ثبوت ذلك الحكم في ظرف وجود ما يراه الشارع ركوعا ، لا ما يراه العرف ركوعا.

نعم لو لم يكن تصرّف من قبل الشارع ، بمعنى أنّه لم يكن تحديد من قبل الشارع لكان حينئذ المرجع في تعيين الموضوع هو العرف ، لكن الأمر ليس كذلك ، فإنّ الشارع حدّد الركوع المعتبر في الصلاة ، فإذا ركع في صلاته ولم يصل إلى حدّ الذي حدّده الشارع به فيصدق أنّه فات منه الركوع وإن أتى به ببعض مراتب المعني العرفي ، ولكن ذلك لا يفيد ؛ لأنّه ليس موضوعا للحكم الشرعي ، فيدخل في المستثنى مع صدق الركوع العرفي على ما أتى به ، فتجب عليه الإعادة.

ثمَّ إنّه مقتضى هذا الحديث لزوم إعادة الصلاة عند عدم الإتيان وفوته وعدم إمكان تداركه في نفس الصلاة ، ومقتضى القاعدة الأوليّة صدق الفوت بعدم الإتيان به في محلّه الذي عيّن الشارع له ، فلو تجاوز عن ذلك المحلّ ولم يأت به يصدق أنّه فات منه ، إلاّ أنّ الشارع تصرّف في المستفاد عرفا عن مفهوم تجاوز المحلّ ، وفرّق في إمكان التدارك بين احتمال عدم الإتيان والقطع به في أجزاء الصلاة ، فجعل محلّ تدارك احتمال العدم عدم المضي عن الشي ء والتجاوز عنه أو عدم الدخول في غيره ، ومحلّ تدارك القطع بالعدم عدم الدخول في الركن الذي بعده.

وبعبارة أخرى : محلّ التجاوز في الجزء المنسي وعدم إمكان التدارك - بعد ما التفت إلى نسيانه وعدم الإتيان به قطعا سواء أكان ذلك الجزء المنسي ركنا أو لم يكن بركن - هو الدخول في الركن الذي بعده ؛ لأنّه ان لم يدخل فيه فيرجع ويعيد ولا يلزم

ص: 100

محذور.

أمّا إن كان غير ركن ، كما لو نسي فاتحة الكتاب وتذكر قبل أن يدخل في الركوع بعد قراءة السورة أو بعد القنوت في الركعة الثانية مثلا فيرجع ويتدارك ، ثمَّ يأتي بما بعدها ؛ كلّ ذلك امتثالا لأوامرها المتعلّقة بالأجزاء والشرائط.

ولا يتوهّم أنّه يلزم زيادة بعض الأجزاء غير الركني إذا أتى بما بعد المنسي ممّا أتى بها قبلا في حال نسيان فاتحة الكتاب في المفروض ، ويلزم النقيصة إن لم يأت بها ثانيا ؛ لوقوع ما أتى بها قبلا في غير محلّها.

لأنّه يجب عليه أن يأتي بها ثانيا ولا يلزم محذور أصلا ؛ لأنّ الإتيان بها ثانيا بواسطة بقاء أمرها وعدم سقوطه بالإتيان السابق لعدم إتيانها في محالّها ، فلم يحصل الامتثال ، ولم يسقط الأمر ، فيجب أن يأتي بها ثانيا. وأمّا ما أتى بها أوّلا فلا يضرّ زيادتها ؛ لأنّها زيادة سهويّة ومشمول للعقد المستثنى منه ، فالتدارك لا يوجب الإعادة فلم يفت منه شي ء.

وأما بعد الدخول في الركن فيلزم أحد المحذورين : أمّا نقيصة الركن إن لم يأت به بعد تدارك المنسي ، ومعلوم أنّه يوجب البطلان ، أو زيادته إن أتى به ثانيا. ولا يمكن أن يقال في هذا الفرض ما قلنا في الفرض الأوّل أنّ ما أتى به زيادة سهويّة فيشمله الحديث ولا يجب الإعادة ؛ لأنّ المفروض أنّ ما أتى به أوّلا ركن فداخل في عقد المستثنى لا المستثنى منه ، فعلى كلا التقديرين تبطل الصلاة.

وهكذا الكلام فيما إذا كان الجزء المنسي ركنا ، فلو تذكر قبل الدخول في الركن الذي بعده يأتي بالركن المنسي ، فلو نسي السجدتين من الركعة الثانية وتذكر قبل أن يدخل في ركوع الركعة الثالثة يأتي بهما وبما بعدهما ، ولا يلزم محذور كما عرفت في الجزء غير الركني حرفا بحرف.

وأمّا إن تذكر بعد الدخول في الركن الذي بعده ، كما أنّه في المثال المذكور لو تذكر

ص: 101

نسيان السجدتين من الركعة الثانية بعد الدخول في ركوع الركعة الثالثة ، فتدارك السجدتين موجب للبطلان على كلّ حال ؛ لأنّه إن لم يأت بركوع الركعة الثالثة بعد إتيانه بالسجدتين فيكون من نقيصة الركن ؛ لأنّ ما أتى به كان في غير محله فهو في حكم العدم. وإن أتى به يكون من زيادة الركن ، وزيادة الركن ولو كان سهوا موجب للبطلان كما عرفت.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ نسيان الجزء ، ركنا كان أو غيره يكون مشمولا لحديث « لا تعاد » بالدخول في ركن آخر ، غاية الأمر إن كان الجزء المنسي ركنا يكون داخلا في المستثنى ، وإن كان غير ركن يكون داخلا في المستثنى منه.

وأمّا نسيان الجزء مطلقا - ركنا أو غير ركن مع عدم الدخول في الركن الذي بعده - فليس مشمولا لحديث « لا تعاد » بل يجب تداركه ، وليس بداخل في المستثنى منه إن كان غير ركن حتّى لا يوجب الإعادة ولا يجب تداركه ، ولا في عقد المستثنى إن كان ركنا حتّى توجب الإعادة. نعم بعد تجاوز المحلّ أي الدخول في الركن الذي بعده لا يمكن التدارك ، فإن كان ركنا يكون داخلا في المستثنى وتجب الإعادة ، وإن كان غير ركن لا تجب الإعادة بل لا يجب شي ء أصلا ، ووجوب القضاء أو سجدة السهو لنسيان بعض الأجزاء شي ء آخر بدليل آخر.

والحاصل : أنّ الركوع والسجود وإن كانا من الخمسة المستثناة ولكن لا يشملها عقد المستثنى إذا نسي المصلّي عنهما ، إلاّ إذا كان تذكره لنسيانهما بعد الصلاة أو بعد الدخول في الركن المتأخر عنهما.

ثمَّ لا يخفى أنّه لو كان المنسي هو الركوع فالدخول في الركن المتأخّر عنه الذي هو عبارة عن السجدتين ليس بالدخول في السجدة الأولى ؛ لأنّ المحذور الذي ذكرناه لا يلزم في هذا الفرض ، والمحذور كان عبارة عن أحد أمرين : إمّا نقيصة الركن عمدا ، أو زيادته سهوا. وكلاهما موجب للبطلان ؛ لأنّ السجدة الواحدة لا زيادتها زيادة

ص: 102

الركن ، ولا نقيصتها نقيصة الركن ، فلا يحصل الدخول في الركن إلاّ بالدخول في السجدة الثانية ، فحينئذ يكون التدارك مستلزما لأحد المحذورين.

ومنها : أنّ كون الركوع والسجود من الخمسة المستثناة باعتبار نفس الركوع والسجود وحقيقتهما وماهيّتهما ، وأمّا شرائطهما - والواجبات التي فيهما الخارجة عن حقيقتهما وماهيّتها - فهي داخلة في المستثنى منه كسائر الأجزاء والشرائط للصلاة ؛ وذلك من جهة أنّ الحكم في جانب عقد المستثنى على نفس هذه العناوين الخمسة ، فلا يشمل ما هو خارج عن حقيقتهما إلاّ بدليل خاصّ آخر.

وأمّا عقد المستثنى منه فهو عامّ يشمل كلّ ما هو من أجزاء الصلاة أو شرائطها إذا لم يكن من هذه الخمسة ، فواجبات الركوع أو السجود والشرائط التي لهما ما لم يكن لها دخل في تحقّق حقيقتهما تكون خارجة عن عقد المستثنى وداخلة في عقد المستثنى منه.

مثلا لو قلنا بأنّ وضع الكفّين على الركبتين واجب في الركوع وليس من محقّقاته ومتمّماته ، فإذا نسي المصلي ولم يضع كفه على ركبتيه فلا تجب عليه الإعادة بحكم « لا تعاد » وكذلك الأمر في سائر الواجبات ، كالذكر الواجب ، والطمأنينة ، بل ورفع الرأس ، والانتصاب بعده.

وكذلك الأمر في السجود ، فما هو محقّق لحقيقة السجدة كوضع الجبهة مثلا حاله في الركنيّة حال أصل السجود ؛ لأنّ السجود كما بيّنّا عبارة عن الهيئة الحاصلة لجسم الإنسان بواسطة نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ونسبة المجموع إلى الخارج ، فإذا لم يكن بذلك الوضع الخاصّ لا يتحقّق السجود.

وأمّا سائر واجباته التي ليست داخلة في حقيقة السجدة كوضع اليدين والركبتين وأنامل إبهامي الرجلين فهي أمور واجبة في حال السجود ، وهي خارجة عن حقيقته وليست بركن.

ص: 103

وصرّح بذلك السيد الطباطبائي بحر العلوم قدس سره في منظومته :

وواجب السجود وضع الجبهة *** وأنّه الركن بغير شبهة

ووضعه للستّة الأطراف *** فإنّه فرض بلا خلاف (1)

ولا يخفى أنّ في قوله : « وواجب السجود وضع الجبهة » نحو تسامح ، حيث يظهر منه عدم وجوب باقي السبعة. وعلى كلّ حال فمثل الذكر الواجب فيه والطمأنينة والجلوس بعده مطمئنا كلّها لو نسيها المصلّي تكون داخلة في عقد المستثنى منه لا المستثنى ، فلا تجب الإعادة بتركها سهوا ونسيانا ، وقد عرفت وجهه.

[ الجهة ] الثانية : في أنّ الظاهر من عقد المستثنى انحصار الأركان في هذه الخمسة ، وأنّها فقط هي التي توجب تركها أو زيادتها - وإن كان سهوا - الإعادة.

ولكن هناك أركان أخر وهي من المسلّمات عند الفقهاء ، وهي النيّة ، وتكبيرة الإحرام ، والقيام حالها ، والقيام المتّصل بالركوع ؛ فهذه الأربعة أيضا عندهم أركان يوجب الإخلال بها الإعادة ولو كان سهوا ، فيكون الدليل الدالّ على ركنيّة هذه الأربعة مخصّصا آخر - مثل استثناء الخمسة - لعموم عقد المستثنى منه ؛ لأنّ مفاد العموم - كما - تقدّم - عدم وجوب الإعادة بوقوع الإخلال سهوا من ناحية جميع أجزاء الصلاة وشرائطها ، وكما خصّص هذا العموم بواسطة استثناء الخمسة بما عداها ، كذلك خصّص بواسطة تلك الأدلّة الدالّة على ركنيّة هذه الأربعة بما عداها ، فالخارج عن تحت عموم المستثنى منه تسعة لا خمسة : الخمسة المستثناة وهذه الأربعة ، فخروج هذه الأربعة بدليل خاصّ ومخصّص آخر ، كما هو الشأن في أغلب العمومات حيث ترد عليها مخصّصات متعدّدة.

مع أنّه يمكن أن يقال بالنسبة إلى القيام المتّصل بالركوع لا يحتاج إثبات وجوب الإعادة بتركه مطلقا - ولو كان سهوا - إلى دليل منفصل ؛ لأنّ تركه ولو كان سهوا

ص: 104


1- « الدرّة النجفيّة » ص 126.

موجب لترك الركوع ؛ لما قيل من أنّ حقيقة الركوع عبارة عن الانحناء عن القيام ، وبعبارة أخرى : الهوى من القيام إلى حدّ الركوع داخل في حقيقة الركوع ، فعدم القيام ملازم مع عدم الركوع.

ولكن قد عرفت أنّ الركوع والسجود هما هيئتان حاصلتان للجسم بواسطة الوضع الخاصّ ، كالقيام والقعود ، فالهوى من القيام واجب آخر ويكون من مقدّمات الركوع وليس داخلا في حقيقته ، فلو دلّ دليل على أنّ القيام المتّصل بالركوع ركن فهو ، وإلاّ فالاستثناء في الحديث لا يشمله.

فالحقّ في المقام أن يقال : بأنّ أركان الصلاة - أي الأجزاء والشرائط التي تكون تركها سهوا أيضا توجب بطلان الصلاة - تسعه ، خمسة منها هي الخمسة المستثناة في هذا الحديث ، وأربعة منها وهي النية وتكبيرة الإحرام والقيام حال التكبيرة والقيام المتصل بالركوع ، تستفاد ركنيّتها من أدلّة أخرى.

[ الجهة ] الثالثة : فيما إذا كان المنسي هو الركوع ، فدخل في السجدة الثانية فلا شكّ في أنّه إذا تذكر بعد الدخول في السجدة الثانية فتجاوز عن محلّ التدارك ولا يمكن تداركه ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين : إمّا زيادة الركن إن أتى بالسجدتين بعد تدارك الركوع ، وإمّا نقيصته إن لم يأت بهما ؛ لأنّ إتيانهما قبل تدارك الركوع حيث كان في غير محلّه كان لغوا وبلا فائدة.

وأمّا لو تذكر قبل أن يدخل في السجدة الثانية فمحلّ التدارك باق وإن تمّت السجدة الأولى ؛ وذلك لعدم محذور في أن يتدارك الركوع ثمَّ يأتي بالسجدتين ، ولا يلزم منه إلاّ زيادة سجدة واحدة ولا يضرّ ذلك ؛ لعدم كون السجدة الواحدة ركنا ، وإن كان ظاهر الاستثناء ركنيّتها ؛ وذلك من جهة حكومة لا تعاد الصغير ، أعني قوله علیه السلام في خبر منصور بن حازم ، عن الصادق علیه السلام في رجل استيقن أنّه زاد سجدة ،

ص: 105

قال علیه السلام : « لا يعيد الصلاة من سجدة ، ويعيدها من ركعة » (1) فيقيّد لا يعيد عن السجدة الواحدة - الذي في هذا الخبر وجوب الإعادة عن السجود الذي هو مستفاد من الاستثناء في الحديث - بغير السجدة الواحدة ، أي يكون المراد ممّا في الاستثناء وجوب الإعادة عن السجدتين لا السجدة الواحدة.

وسمّي هذا الخبر ب- « لا تعاد الصغير » لأنّ الحكم بعدم وجوب الإعادة فيه مخصوص بالخلل في السجدة الواحدة ولا يشمل غيرها ، بخلاف « لا تعاد الكبير » فإنّ الحكم بعدم وجوب الإعادة عامّ يشمل جميع أجزاء الصلاة وشرائطها بل وموانعها ، ما عدا الخمسة المستثناة.

وربّما يقال : بأنّ مورد هذا الخبر ومفاده عدم وجوب الإعادة عن نسيان سجدة واحدة فيما إذا كان نفس السجدة الواحدة متعلّقة للسهو والنسيان ابتداء ، لا أنّ السهو تعلّق بشي ء آخر ابتداء وأوّلا بالذات كما في المقام ، فإنّ المفروض أنّ المصلّي سها عن الركوع ابتداء ، وأتى بالسجدة الواحدة عمدا واختيارا ، فإذا قلنا أتى بها سهوا ونسيانا في غير محلّه يكون معناه أنّ إتيانه بها في غير محلّها الذي هو عبارة عن لزوم كونها بعد الركوع بواسطة نسيان الركوع ، فإسناد السهو والنسيان إلى السجدة في المفروض من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف ويكون إسنادا مجازيّا فلا يشمله الخبر الذي نسمّيه ب- « لا تعاد الصغير » حتّى يكون حاكما أو مخصّصا للعموم الذي يستفاد من المستثنى في « لا تعاد الكبير » فبناء على هذا تجب الإعادة في المفروض كما ذهب إليها المشهور.

وفيه : أنّ سهو الركوع في المفروض من قبيل الواسطة في الثبوت لا الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ سهو الركوع صار سببا لنسيان محلّ السجدة ؛ لأنّ محلّها بعد الركوع ، وحيث أنّه غافل عن إتيان الركوع ، أو تخيّل إتيانه فيتخيّل أنّه محلّ إتيان

ص: 106


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 346 ، باب أحكام السهو والشكّ ، ح 1009 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 156 ، ح 610 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 68 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 983 ، أبواب الركوع ، باب 14 ، ح 2.

السجدة ، وهذا هو السهو والنسيان عن محلّ السجدة حقيقة وواقعا. نعم ذات السجدة في هذا الفرض ليست منسيّة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ رواية منصور بن حازم ظاهرها أن تكون ذات السجدة منسيّة لا محلّها ، فيكون فتوى المشهور بلزوم الإعادة في محلّها فتأمّل.

[ الجهة ] الرابعة : وقع الخلاف في أنّه لو سجد على أرض نجسة نسيانا وسهوا ، هل تجب عليه إعادة الصلاة لعدم إتيانه بالسجدة الصحيحة لأنّها مشروطة بطهارة محلّها ، أو لا تجب لأنّ طهارة المحلّ من شرائط صحة السجدة وليست من مقوّماتها ، فليست داخلة في المستثنى ، فيشملها عموم المستثنى منه؟

والأظهر عدم وجوب الإعادة بناء على كون المراد من الطهور في عقد المستثنى هي الطهارة الحدثيّة ، لا الأعمّ منها ومن الطهارة الخبثيّة ؛ إذ حينئذ تكون طهارة محلّ السجدة من شرائط الركن الذي هو عبارة في المقام عن السجدتين ، وحال شرائط الركن حال شرائط نفس الصلاة التي تقدّم أنّها داخلة في عموم المستثنى منه في الحديث ما لم تكن من الخمسة ، فلا تجب إعادة الصلاة.

وإن شئت قلت : إنّ شرائط الأركان على قسمين : ركنيّ ، بمعنى أنّ بتركها ينعدم الركن ، إذ هي من مقوّمات الركن ، أو جاء الدليل على بطلان ذلك الركن بترك ذلك الشرط. وقسم آخر : غير ركنيّ ، فلا ينعدم الركن بانعدامه.

والقسم الأوّل حيث أنّ الخلل فيه موجب لوقوع الخلل في نفس الركن ، فلا يكون مشمولا لعموم المستثنى منه في الحديث.

وأمّا القسم الثاني فلا مانع من شمول العقد المستثنى منه له ؛ إذا ليس داخلا في المستثنى ولا من مقوّمات ما هو داخل في المستثنى ، فلا مانع من شمول المستثنى منه له.

وما نحن فيه - أي طهارة محلّ السجدة - من القسم الثاني ، وهذا أمر واضح.

[ الجهة ] الخامسة : في ذكر بعض الفروعات ، والموارد التي ينطبق الحديث عليها

ص: 107

بحسب عقد المستثنى منه أو المستثنى ، واستخراج حكمها منه.

فنقول : بعد ما عرفت أنّ مفاد الحديث هو عدم وجوب الإعادة بوقوع خلل فيها من ناحية جميع الأجزاء والشرائط والموانع سهوا ، ما لم يكن من الخمسة المذكورة في المستثنى ، ووجوب الإعادة بوقوع الخلل من ناحية تلك الخمسة وإن كان الخلل بالزيادة أو النقيصة سهوا ، أنّ :

ها هنا فروع كثيرة نذكر جملة منها

اشارة

الأوّل : أنّ الخلل العمدي وان كان بسبب عدم إخراج حرف من مخرجها ، بحيث يكون الخارج حرفا آخر في نظر عرف العرب ، مثل أن ينطق بالضاد زاء أو ذالا أو ظاء ، أو كان بتبديل حركة من الأعاريب إلى غيرها ولم يكن على طبقها قراءة من القراءات السبعة.

كلّ ذلك في قراءة فاتحة الكتاب ، بل وفي قراءة السورة الواجبة ، بل في الأذكار الواجبة يكون مبطلا.

وذلك من جهة أنّ امتثال المركّب بإتيانه بجميع أجزائه وشرائطه تامّة كاملة كما أخذت فيه ، فإن وقع إخلال عمدي في بعض تلك الأجزاء أو الشرائط - سواء كانت شرائط نفس الصلاة ، أو شرائط أجزائها ، أو شرائط شرائطها - فلا يقع الامتثال ، وتجب الإعادة بمقتضى أدلّة اعتبار تلك الأجزاء والشرائط.

وحديث « لا تعاد » تقدّم أنّه لا يشمل الإخلال العمدي ، بل قلنا أنّه لا يعقل أن يشمل بعد الفراغ عن كونها أجزاء وشرائط. ولا فرق في البطلان بين أن يكون إخلال العمدي بالنسبة إلى الأركان ، أو كان بالنسبة إلى غيرها.

الثاني : إذا ترك جزء من الصلاة ، أو أتى به بوجه غير صحيح لوجود خلل فيه ، وإن كان الخلل بسبب عدم خروج حروف ذلك الجزء من مخارجها إذا كان ذلك

ص: 108

الجزء قراءة أو ذكرا واجبا ، أو كان الخلل بسبب لحن في الأعاريب - أي الحركات والسكنات - فيما إذا كانت خارجة عن موازين اللغة العربيّة ، أو ترك شرطا من شرائط الصلاة ، أو شرائط أجزائها ، أو شرائط شروطها على أنواعها وأقسامها ، سواء كانت الأجزاء والشرائط ركنا كالأركان التسعة - أي الخمسة المستثناة في الحديث مع النية ، وتكبيرة الإحرام ، والقيام حالهما ، والقيام المتّصل بالركوع - أو أتى بمانع من الموانع ، كأن صلّى في الذهب أو الحرير أو غير المأكول جهلا بالحكم قصورا أو تقصيرا ، على كلام تقدّم في الجاهل القاصر ، ففي جميع ذلك تبطل الصلاة وتجب الإعادة.

وأيضا لا فرق في البطلان بالإخلال جهلا بالحكم قصورا أو تقصيرا بين أن يكون الإخلال بالزيادة أو كان بالنقيصة ؛ ووجه ذلك أنّ حديث « لا تعاد » لا تشمل موارد الجهل بالحكم بكلا قسميه ، على كلام في الجهل قصورا وقد تقدّم جميع ذلك.

ومقتضى أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع وجوب الإعادة بفقد أيّ جزء أو شرط ، وبوجود أيّ مانع. وحيث أنّ الجهل ليس مانعا عن توجّه الخطاب ، بل هو مانع عن تنجّزه إذا كان بعد الفحص أو كان عن قصور ، وإلاّ فليس بمانع حتّى عن التنجز واستحقاق العقاب على مخالفة الواقع وإن كان جاهلا ، فتجب الإعادة.

نعم إذا جاء دليل خاصّ أو عامّ على الأجزاء ، وعدم وجوب الإعادة فيما إذا وقع الإخلال جهلا بالحكم قصورا أو تقصيرا بنحو يكون حاكما أو مخصصا يؤخذ به ، والمفروض أنّ حديث « لا تعاد » لا يشمل صورة الجهل لما ذكرنا مفصلا وليس هناك دليل آخر إلاّ في بعض الموارد ، كباب الجهر والإخفات والإتمام في موضع القصر ، وكذلك في بعض الأجزاء والشرائط في الحجّ ممّا هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

الثالث : لو أخلّ بالصلاة سهوا ونسيانا فالإخلال إمّا بالزيادة أو بالنقيصة ، وكلّ واحدة منهما إمّا في الأجزاء والشرائط الركنيّة وإمّا في غيرها مما ليس بركن.

ص: 109

فإن كان بالنقيصة وكان من الأجزاء أو الشرائط الركنيّة فإمّا أن يلتفت إلى سهوه بعد الفراغ من الصلاة وإتيان المنافي فتجب عليه الإعادة قطعا بمقتضى الأدلّة الأوّليّة التي يبيّن الأجزاء والشرائط ، وبالنسبة إلى الخمسة المذكورة في المستثنى نفس عقد المستثنى يدلّ على وجوب الإعادة ، مضافا إلى أدلّة الأجزاء والشرائط.

هذا إذا كان التفاته إلى جزئيّة المسهو أو شرطيّته بعد الفراغ عن الصلاة.

وأمّا إن كان التفاته في أثناء الصلاة فإن لم يتجاوز محلّ المنسي يأتي به بعد الالتفات وبالإجزاء التي بعده وكان قد أتى بها نسيانا ، فلا شي ء عليه ، لما ذكرنا مفصّلا. وأمّا إن كان تجاوز المحلّ بدخوله في الركن الذي بعد المنسي ، فيكون حاله حال الالتفات إليه بعد الصلاة فتجب عليه الإعادة لأنّه لا يمكن التدارك ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين : إمّا نقص الركن ، وإمّا زيادته ، وكلاهما مبطلان.

فبناء على هذا لو نسي النيّة بناء على إمكان نسيانها حتّى كبّر تكبيرة الإحرام. فالتفت إلى نسيانها بعد تكبيرة الإحرام يجب عليه الإعادة ؛ لأنّ التدارك لا يمكن للزوم أحد المحذورين.

وكذلك لو نسي التكبيرة حتّى دخل في الركوع يجب عليه الإعادة أيضا لعين ما ذكرنا.

وكذلك يجب عليه الإعادة لو نسي القيام حال التكبيرة بناء على كونه ركنا ؛ لعين ما ذكرنا لأنّ تداركه مستلزم لزيادة التكبيرة.

ولا يخفي أنّ نسيان تكبيرة الإحرام والنيّة يرجع إلى عدم دخوله في الصلاة ، فعلى فرض إمكان نسيان النيّة - بناء على أنّها عبارة عن الخطور بالبال - لو نسي النية فلم تنعقد الصلاة ؛ لأنّه لا فرق بين الصلاة وبين سائر الحركات اللغويّة والألعاب إلاّ بها.

وأمّا بالنسبة إلى التكبيرة فلقول الصادق علیه السلام في رجل سها خلف الإمام ، فلم

ص: 110

يفتتح الصلاة قال علیه السلام : « يعيد الصلاة ولا صلاة بغير افتتاح » (1).

وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ النيّة ركن من أركان الصلاة ، فإن أمكن وقوع السهو فيها فتجب الإعادة ، ولا تشملها عقد المستثنى منه من حديث « لا تعاد » لأنّها وإن لم تكن مذكورة في عقد المستثنى إلاّ أنّها داخلة حكما ؛ للأدلّة الدالّة على ركنيّتها ، فتخصّص تلك الأدلّة عقد المستثنى منه كالاستثناء.

وكذلك تكبيرة الافتتاح وإن لم تكن مذكورة في الحديث في عقد المستثنى إلاّ أنّ أدلّة ركنيّتها تجعلها بحكم المستثنى في تخصيصها لعقد المستثنى منه.

والحاصل أنّه لو نسي النيّة والتكبيرة يجب عليه استئناف الصلاة متى تذكر ، سواء دخل في الركن الذي بعدهما أي الركوع أم لا ، والقيام حال التكبيرة بحكم التكبيرة ، وأمّا القيام حال النيّة فتابع للقول بركنيّته وعدمه.

وأمّا لو نسي الركوع قبل تجاوز المحلّ - أي قبل الدخول في السجدة الثانية - فيرجع ويأتي به وبما بعده ؛ لما ذكرنا من عدم لزوم محذور في البين. وإن نسيه بعد تجاوز محلّه - وبيّنّا أنّ تجاوز محلّه بدخول السجدة الثانية لما ذكرنا من أنّ زيادة سجدة واحدة سهوا لا توجب الإعادة ، كما تدلّ عليه رواية منصور بن حازم ، فإنّ فيها قول الصادق علیه السلام : « لا يعيد الصلاة من سجدة ويعيدها من ركعة » (2) فلا يلزم محذور من تدارك الركوع ما لم يدخل في السجدة الثانية وإن أتمّ السجدة الأولى ورفع رأسه عنها واستقرّ.

وعلى كلّ حال فلو تذكر نسيان الركوع بعد تجاوز محلّه الذي لا يمكن تداركه فيجب عليه الإعادة ، كما أنّه لو تذكر بعد الصلاة. والمناط فيهما واحد وهو عدم إمكان التدارك في الصورتين.

ص: 111


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 353 ، ح 1466 ، باب أحكام السهو ، ح 54 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 716 ، أبواب تكبيرة الإحرام ، باب 2 ، ح 7.
2- تقدّم تخريجه في ص 106.

نعم ها هنا روايات :

منها : صحيح ابن مسلم يدلّ على عدم بطلان الصلاة بترك الركوع نسيانا ولو تذكر بعد تجاوز المحلّ أي بعد الفراغ عن السجدتين ، والصحيح هو المروي عن أحدهما علیهماالسلام في رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع قال علیه السلام : « فإن استيقن فليلق السجدتين اللتين لا ركعة لهما فيبني على صلاته على التمام ، وإن كان لم يستيقن إلاّ بعد ما فرغ وانصرف فليقم وليصلّ ركعة وسجدتين ولا شي ء عليه » (1).

ومن جهة اختلاف الأخبار نشأت في المسألة أقوال وتفاصيل مذكورة في الكتب الفقهيّة لا حاجة إلى ذكرها بعد ما عرفت أنّ حديث « لا تعاد » وأخبار أخر تدلّ على وجوب الإعادة ، وقد عمل بها الأصحاب ، وعليه فتوى المشهور ؛ فالصحيح هو ما ذكرنا من التدارك بإتيان الركوع وما بعده ممّا أتى به لو لم يدخل في السجدة الثانية وإن كان أتمّ السجدة الأولى. وأمّا إن كان تذكره بعد الفراغ من الصلاة ، أو بعد تجاوز المحلّ بأن يكون دخل في السجدة الثانية فيجب عليه الإعادة.

وأمّا لو كان المنسي قيام المتّصل بالركوع - وقد عرفت أنّه ركن - وحيث أنّه لا يمكن تداركه إلاّ بإتيان الركوع ثانيا ، وإلاّ لا يكون قيام المتّصل بالركوع فيكون مبطلا مطلقا ، سواء تذكر قبل تجاوز محلّ تدارك الركوع - أي قبل الدخول في السجدة الثانية - أو بعده ، أو بعد الفراغ عن الصلاة ؛ لأنّه في جميع الأحوال تداركه مستلزم لزيادة الركن أي الركوع.

ولا يخفي أنّ في جميع موارد إمكان تدارك ما فات سهوا إذا كان مستلزما للزيادة السهويّة يجب سجدة السهو لكل زيادة.

هذا كلّه في نسيان الركوع ، أو القيام المتّصل بالركوع.

ص: 112


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 149 ، ح 585 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 43 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 356 ، ح 1348 ، باب من نسي الركوع ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 934 ، أبواب الركوع ، باب 11 ، ح 2.

وأمّا لو نسي السجدتين فإمّا أن يكون تذكره بعد تجاوز محلّهما أي بعد الدخول في ركوع الركعة التالية ، وإمّا أن يتذكّر قبله ، أي يكون تذكره قبل الدخول في ركوع الركعة التالية.

فإن كان الأوّل فتكون صلاته باطلة وتجب عليه الإعادة ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين في التدارك ، ومع عدم التدارك بطلانها وفسادها واضحة لفوات الركن.

وإن كان الثاني - أي كان تذكره قبل الدخول في ركوع الركعة - فيرجع ويأتي بهما وبما بعدهما مما أتى بها في غير محلّها ؛ لأنّ إتيانها قبلا حيث كان في غير محلّها كان في حكم العدم ، والزيادة التي تحصل في الصلاة من إتيان تلك الأجزاء مرّتين لا تضرّ بصحّة الصلاة ؛ لأنّها زيادة سهوية في غير الأركان.

نعم يجب عليه لكلّ زيادة من تلك الزيادات السهويّة سجدتان للسهو عنها ، بناء على وجوب سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة. ولا يكون وجوبهما مخصوصا بالستّة المعروفة ، أي : الكلام سهوا بكلام الآدميين ، والسّلام في غير محلّه ، ونسيان سجدة واحدة ، ونسيان التشهّد ، والشك بين الأربع والخمس بعد إكمال السجدتين ، والقيام في موضع القعود وبالعكس.

وأمّا إن كان نسيان السجدتين من الركعة الأخيرة حيث لا ركن بعدهما حتّى يأتي هذا التقسيم ، أي التذكّر والالتفات إلى سهوه قبل الدخول في الركن الذي بعدهما أو بعد دخوله فيه.

فنقول : تارة يكون الالتفات إلى سهوه وتذكره بعد السّلام وإتيان ما هو المنافي عمدا وسهوا ، فصلاته باطلة يجب عليه الإعادة ؛ ويدلّ عليه عقد المستثنى من هذا الحديث ، لأنّه ؛ ترك الركن ولا يمكن تداركه ؛ لأنّ تذكره بعد السّلام وبعد إتيان ما هو المنافي عمدا وسهوا.

وأمّا لو كان تركه قبل السّلام فلا إشكال في إمكان تداركه ؛ لأنّه ما دخل في

ص: 113

ركن إذ ليس ركن بعدهما حتّى يستلزم أحد المحذورين الذين تقدّم ذكرهما ، من زيادة الركن أو نقيصته وكلاهما موجب للبطلان ، فيأتي بهما ويعيد ما أتى ممّا بعدهما حسب الجعل الشرعي من الترتيب بين الأجزاء ، ويسجد سجدتي السهو لكلّ جزء من الأجزاء التي أتى بها سهوا في غير محلّها ، بناء على وجوب الإتيان بهما لكل زيادة ونقيصة كما تقدم.

وأمّا لو كان تذكره لنسيانهما بعد السّلام وقبل إتيان المنافي والمبطل ، فالأمر يدور مدار أنّ السّلام مخرج تعبّدا ولو لم يقع في محلّه - لأنّ محلّه بعد إتيان الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها ، وفي المفروض لم يأت بالركعة الأخيرة بتمامها ؛ إذ المفروض أنّه سهل عن إتيان السجدتين - أولا ، بل إنّه مخرج لأنّه الجزء الأخير ، فليس تعبّد من حيث مخرجيّته في البين ، بل كلّ مركّب كان بين أجزائه ترتيب في عالم الإيجاد فإذا أتى بجميع أجزائه على الترتيب المقرّر ، فبإتيان جزئه الأخير قهرا يخرج عن ذلك المركّب.

فإن قلنا بالأوّل فإذا تذكر بعد السّلام تكون صلاته باطلة ، وتجب الإعادة لترك الركن وعدم إمكان التدارك ؛ لأنّ كلّ ما يأتي به بعد السّلام لا يحسب منها ولو كان السّلام في غير محلّه ؛ لأنّه مخرج تعبّدي.

وأمّا إن قلنا بالثاني - أي أنّه مخرج لأنّه الجزء الأخير - فيمكن التدارك ؛ لأنّه لم يخرج عن الصلاة بعد لعدم وقوع السّلام في محلّه الذي هو مناط الخروج ، فلا تكون الصلاة باطلة ، بل يأتي بالسجدتين وبما بعدهما ممّا أتى بها ويسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة سهويّة صدرت منه قبل أن يتذكّر ، أو لخصوص التشهّد والتسليم ، على التفصيل المتقدّم.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فظاهر قوله علیه السلام في صحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام : « وإن قلت السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فقد

ص: 114

انصرفت ». (1) وقوله علیه السلام أيضا في خبر أبي كهمس هو هيثم بن عبد اللّه أو عبيد : « إذا قلت السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فهو الانصراف » وإن كان أنّه خرجت بهذه التسليمة عن الصلاة ولكن هذا الظهور متوقّف على إطلاق هذه الجملة ، أي قوله علیه السلام « انصرفت » أو قوله علیه السلام « فهو الانصراف » أي سواء وقعت هذه التسليمة في محلّه أو لم تقع ، ومن أين يثبت هذا الإطلاق.

فالإنصاف أنّ الفتوى في هذا المفروض - أي فيما إذا كان تذكره لنسيان السجدتين بعد السّلام الواجب وقبل صدور المبطل ببطلان الصلاة ولزوم الإعادة - مشكل جدا ، بل لا بأس بأن يقال بلزوم التدارك بإتيان السجدتين ثمَّ يأتي بجميع ما أتى بها حتّى التسليمة ؛ لوقوع ما أتى بها أوّلا في غير محلّها فهو في حكم العدم. نعم يجب عليه سجدتا السهو لكلّ زيادة سهويّة من تلك الزيادات على التفصيل المتقدّم ، ولا أقلّ من الاحتياط بالجمع بين التدارك على التفصيل المذكور والإعادة ، لا الحكم بالبطلان والإعادة فقط.

هذا كلّه فيما إذا نسي السجدتين من الركعة الأخيرة.

وأمّا لو نسي تمام الركعة الأخيرة من القيام وذكرها وركوعها وسجدتيها فأيضا له صور ثلاث :

الأولى : أن يتذكّر ويلتفت إلى نسيانه قبل التسليم وبعد التشهّد.

الثانية : أن يكون تذكّره بعد التسليم ولكن قبل إتيان المنافي المبطل.

الثالثة : أن يكون تذكّره بعد إتيان المنافي المبطل.

أمّا الصورة الأولى : فالأمر فيها واضح ، فإنّه يقوم ويأتي بها ويسجد سجدتي السهو للتشهّد الذي صدر عنه سهوا في غير محلّه الذي يكون ذلك الإتيان بحكم

ص: 115


1- « الكافي » ج 3 ، ص 337 ، باب التشهّد في الركعتين الأولتين و. ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 316 ، ح 1293 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح 149 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1012 ، أبواب التسليم ، باب 4 ، ح 1.

العدم ، ويجب عليه أن يعيد التشهّد.

وأمّا الصورة الثانية : أي لو تذكر بعد التسليم الواجب وقبل فعل المنافي المبطل ، فيأتي فيها جميع ما ذكرنا في الفرع السابق ، أي فيما إذا نسي السجدتين من الركعة الأخيرة من القولين من لزوم التدارك ومن لزوم الإعادة وبطلان ما أتى به ، وبيّنّا احتمال وجوب الاحتياط بالجمع.

هذا بحسب القواعد الأوّليّة ، ولكن وردت روايات تدلّ على عدم بطلان الصلاة بل يقوم ويأتي بالركعة :

كصحيح العيص : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل نسي ركعة من صلاته حتّى فرغ منها ، ثمَّ ذكر أنّه لم يركع ، قال علیه السلام : « يقوم فيركع ويسجد سجدتين » (1).

والمراد من قول السائل « ثمَّ ذكر أنّه لم يركع » أي لم يأت بالركعة ، والتعبير عن عدمها بعدم الركوع من جهة أنّ الركوع هو الجزء المقوّم للركعة في نظر العرف ، ولأجل ذلك سمّيت بالركعة ؛ وأيضا لو كان المراد به عدم الركوع فقط وإتيان البقيّة فيكون قوله علیه السلام « ويسجد سجدتين » تكرار للسجدتين ، ولا شكّ في أنّ زيادتهما ولو سهوا مبطل ، فهذه أيضا قرينة أخرى على أنّ المراد بقول السائل « لم يركع » عدم الإتيان بالركعة لا الركوع فقط.

وكخبر محمّد بن مسلم في نقصان الركعتين ، عن الباقر علیه السلام في رجل صلّى ركعتين من المكتوبة ، فسلّم وهو يرى أنّه قد أتمّ الصلاة وتكلّم ، ثمَّ ذكر أنّه لم يصلّ غير ركعتين ، فقال علیه السلام : « يتمّ ما بقي من صلاته ولا شي ء عليه » (2). وهذه الرواية بإطلاقها

ص: 116


1- « تهذيب الأحكام » ج 3 ، ص 350 ، ح 1451 ، باب أحكام السهو ، ح 39 ؛ وص 149 ، ح 586 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ح 44 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1. ص 309 ، أبواب الخلل في الصلاة باب 3 ، ح 8.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 757 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 58 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 379 ، ح 1436 ، باب من تكلّم في الصلاة ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 309 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ح 9.

تشمل نقصان ركعة أو ركعتين.

وكصحيح زرارة عن الباقر علیه السلام أيضا في الرجل يسهو في الركعتين ويتكلّم ، فقال علیه السلام : « يتمّ ما بقي من صلاته ، تكلّم أو لم يتكلّم » (1). بناء على أنّ السّلام في غير محلّه كلام لا يضرّ بالصلاة لو وقع سهوا ، لا أنّه مخرج حتّى لا يمكن التدارك ويكون ما بقي من صلاة من ركعة أو ركعتين خارجا عن الصلاة لو أتى به.

وحاصل الكلام في نقصان الركعة فما زاد أنّه إن قلنا بأنّ السّلام الواقع سهوا في غير محلّه ليس بمخرج - كما أنّه هو الصحيح - فإن كان تذكر النقصان بعد السّلام ولكن قبل إتيان المبطل - أي ما هو المنافي عمدا وسهوا - فمقتضى القاعدة هو تدارك ما فات من الركعة أو الركعتين ، ولا شي ء عليه إلاّ سجدات السهو لما زاد سهوا من التشهّد والتسليم. وأمّا إن قلنا بأنّه - أي السّلام - مخرج ، فأيضا يجب تدارك الركعة فما زاد ، لكن للروايات لا للقواعد الأوّليّة.

وأمّا الصورة الثالثة : أي إن كان تذكر النقصان بعد فعل المبطل وما هو المنافي عمدا وسهوا ، كما أنّه لو أحدث وتذكر النقصان ، فلا شكّ في وجوب الإعادة.

والكلام إلى هنا كان في نقيصة الأركان سهوا ، أو نقصان الركعة فما زاد المشتمل على الأركان.

وبعبارة أخرى : كان الكلام في نسيان النيّة بناء على إمكان نسيانها ، أو نسيان تكبيرة الإحرام ، أو القيام حالهما ، أو نسيان الركوع ، أو القيام المتّصل به ، أو نسيان السجدتين ، أو نسيان الركعة أو ما زاد.

وأمّا لو كان المنسي غير الأركان - من أجزاء الصلاة وشرائطها - فلا تبطل

ص: 117


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 191 ، ح 756 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 57 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 378 ، ح 1434 ، باب من تكلّم في الصلاة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 308 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 3 ، ح 5.

الصلاة على كلّ حال من هذه الجهة ، أي من جهة سهو غير الأركان ، وذلك مفاد صحيحة « لا تعاد » وإن كان هناك أخبار خاصّة أيضا تدلّ على عدم وجوب الإعادة في بعضها ، لكن هذه الصحيحة بمنزلة كبرى كلّيّة في كلا عقديها ، أي عقد المستثنى منه وعقد المستثنى ، لحكم نسيان الأركان الخمسة ، ولحكم ما عدا الأركان الخمسة إذا وقع السهو فيها زيادة ونقيصة.

فنقول : لو نسي جزءا أو شرطا ما عدا الأركان فإمّا أن يكون محلّ تداركه باقيا ، فيجب أن يتدارك ويأتي به وبجميع ما أتى بها سهوا في غير محلّها ممّا هي متأخّرة عن ذلك المنسي ، وقد بيّنّا أنّ بقاء محلّ التدارك في الأجزاء بعدم دخوله في الركن الذي بعد ذلك الجزء المنسي ؛ بعد دخوله فيه يلزم من التدارك أحد المحذورين : إمّا ترك الركن لو لم يأت به بعد تدارك ذلك الجزء المنسي ؛ لأنّ الإتيان به قبلا يكون في حكم العدم لعدم كونه في محلّه ، وإمّا زيادة الركن إن أتى به بعد تدارك المنسي ، وهي مضرّة ولو كانت سهوا.

وإمّا لو لم يكن محلّ تداركه باقيا فالصلاة صحيحة من ناحية سهو ما عدا الأركان على أيّ حال.

نعم المنسي إذا كان ممّا عدا الأركان وفات محلّ تداركه يكون على ثلاثة أقسام :

قسم يجري فيه « لا تعاد » وبعض الروايات الخاصّة - إن كانت - وليس عليه شي ء مطلقا ، لا سجدة السهو ولا القضاء.

وقسم منها عليه سجدة السهو فقط.

وقسم عليه القضاء أيضا مضافا إلى سجدة السهو.

والقسم الأوّل الذي قلنا أنّه ليس عليه شي ء مطلقا لا السجدة ولا القضاء مبني على عدم وجوب سجدة السهو إلاّ للخمسة أو الستّة التي تقدّم ذكرها ، وإلاّ لو قلنا بوجوبهما لكلّ زيادة ونقيصة سهويّتان فليس إلاّ قسمين فقط : أحدهما : ما فيه سجدة

ص: 118

السهو فقط ، والثاني : قضاؤه أيضا مضافا إلى وجوب سجدة السهو. فنتعرّض لأجزاء غير الركنيّة على الترتيب.

الأوّل : نسيان القراءة : فإذا تذكر بعد فوات محلّ التدارك ، إمّا لفراغه عن الصلاة ، وإمّا لدخوله في الركن المتأخّر عنها - أي الركوع - فصلاته صحيحة على كلّ حال من طرف هذا النسيان ، ولا تكون باطلة إلاّ أن يكون فيها خلل آخر ، ولا شي ء عليه بناء على اختصاص وجوب سجدتي السهو بسهو الستّة المذكورة ، لا أنّهما تكونان واجبتين لكلّ زيادة ونقيصة.

هذا ، ووردت أخبار خاصّة مضافا إلى صحيحة « لا تعاد » :

كصحيح زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام : « من ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ، ومن نسي فلا شي ء عليه ». (1) وخبر محمّد بن مسلم ، عن الباقر علیه السلام : « من نسي القراءة فقد تمّت صلاته ولا شي ء عليه » (2) وغيرهما مما هو بهذا المضمون.

ولا يخفى أنّ قولهما علیهماالسلام في هاتين الروايتين وأمثالهما « فلا شي ء عليه » أو « ولا شي ء عليه » ظاهر بإطلاقه في نفي وجوب سجدتي السهو أيضا ، مضافا إلى نفي وجوب الإعادة للصلاة ونفي وجوب قضاء القراءة بعد الصلاة ، فتكون هذه الروايات معارضة مع الرواية التي مفادها وجوب سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة بناء على عدم حملها على الاستحباب ، والنسبة بينهما عموم من وجه فيتساقطان ، والمرجع هي البراءة ، أو يجمع بينهما بحمل تلك الطائفة على استحباب سجدتي السهو لكلّ زيادة ونقيصة. ولعلّ هذا هو الجمع العرفي في أمثال المقام.

وأمّا ما تكلّفوا لإثبات أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق - وهذه

ص: 119


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 345 ، باب أحكام السهو والشك ، ح 1005 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 146 ، ح 569 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره ، ح 27 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 766 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 27 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 3 ، ص 347 ، باب السهو في القراءة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 767 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 27 ، ح 2.

الروايات أخصّ من تلك الطائفة فتخصّصها بغير القراءة - فممّا يأباه الذوق السليم ، ولذلك تركنا ذكره.

وحاصل ما ذكرنا : أنّه إن تذكر لنسيان القراءة قبل أن يركع يأتي بها ، وإن كان تذكره بعد الدخول والوصول إلى حدّ الركوع فيتمّ صلاته ولا شي ء عليه ، لا إعادة الصلاة ولا قضاء القراءة بعدها ولا سجدتي السهو. أمّا نفي القضاء وسجدتي السهو فبهذه الروايات ، وأمّا نفي إعادة الصلاة فأيضا بها وبحديث « لا تعاد ».

هذا كلّه فيما إذا كان المنسي نفس القراءة.

وأمّا لو كان المنسي هو الجهر فيها في صلوات الجهريّة ، أو الإخفات فيها في الصلوات الإخفاتيّة ، فبناء على كون كلّ واحد منهما في موضعه شرطا لنفس القراءة لا للصلاة حال القراءة - كما هو الظاهر بل الصحيح - فحالهما في صدق تجاوز المحلّ وعدم إمكان تداركه ، أو عدم تجاوز المحلّ وإمكان تداركه حال نفس القراءة ؛ وذلك من جهة انعدام المشروط بانعدام شرطه فنسيان كلّ واحد منهما في محلّه يرجع إلى نسيان نفس القراءة وقد عرفت الحال فيه.

وأمّا بناء على كونهما شرطا للصلاة في حال القراءة فالتجاوز عن محلّهما بالتجاوز عن نفس القراءة وان لم يدخل في الركوع المتأخّر عنها ؛ وذلك من جهة أنّه بعد إتيانه القراءة وإن كانت إخفاتا في الجهريّة ، أو كانت جهرا في الإخفاتيّة فقد أتى بها صحيحة ؛ لأنّ الجهر والإخفات لم يكن كلّ واحد منهما في موضعه شرطا لها حتّى تنتفي بانتفائهما ، وبعد الإتيان بها صحيحة لا يبقى محل لتدارك الجهر والإخفات ؛ لأنّه مستلزم للزيادة العمديّة في القراءة لو أعاد القراءة ، وبدون إعادتها لا يمكن تداركهما ؛ هذا بحسب القواعد.

وربما يدلّ على هذا صحيح زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفي فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال علیه السلام : « أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد

ص: 120

نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي ء عليه وقد تمّت صلاته » (1).

والضابط الكلّي في نسيان الواجبات في حال الإتيان بأجزاء الصلاة أنّها إن كانت شرطا لتحقّق ذلك الجزء ، فحيث أنّ بنسيانها ينعدم ذلك الجزء - لأنّه بانعدام الشرط ينعدم المشروط - فيكون حال نسيان ذلك الواجب في حال إتيان ذلك الجزء حال نسيان نفس ذلك الجزء ، فإن كان قبل تجاوز محلّ ذلك الجزء يتدارك بالإعادة ، وإلاّ فتكون صلاته باطلة لو كان المنسي ركنا ؛ لما ذكرنا من لزوم أحد المحذورين. وأمّا لو لم يكن المنسي ركنا فلا تبطل الصلاة ، بل تجب سجدة السهو لكلّ نقيصة على التفصيل المتقدّم ، وفي خصوص نسيان التشهّد والسجدة الواحدة مضافا إلى سجدتي السهو يجب قضائهما أيضا.

أمّا في التشهّد فلصحيح محمّد عن أحدهما علیهماالسلام في الرجل يفرغ من صلاته وقد نسي التشهّد حتّى ينصرف ، فقال علیه السلام : « إن كان قريبا رجع إلى مكانه فتشهّد ، وإلاّ طلب مكانا نظيفا فتشهد فيه » (2).

وخبر عليّ بن أبي حمزة ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « إذا قمت في الركعتين الأوّلتين ولم تتشهّد فذكرت قبل أن تركع فاقعد وتشهّد ، وإن لم تذكر حتّى تركع فامض في صلاتك كما أنت ، فإذا انصرفت سجدت سجدتين لا ركوع فيهما ، ثمَّ تشهّد التشهّد الذي فاتك » (3).

ص: 121


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 344 ، باب أحكام السهو والشكّ ، ح 1003 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 162 ، ح 635 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 93 ؛ « الاستبصار » ج 1. ص 313 ، ح 1163 ، باب وجوب الجهر بالقراءة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 766 ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب 26 ، ح 1.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 157 ، ح 617 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ، ح 75 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 995 ، أبواب التشهّد ، باب 7 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 357 ، باب من تكلّم في صلاته أو انصرف. ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 344 ، ح 1430 ، باب أحكام السهو ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 341 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 26 ، ح 2.

وأما قضاء السجدة الواحدة فيدلّ عليها صحيح ابن جابر ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل نسي أن يسجد السجدة الثانية حتّى قام فذكر - وهو قائم - أنّه لم يسجد ، قال علیه السلام : « فليسجد ما لم يركع ، فإذا ركع فذكر بعد ركوعه أنّه لم يسجد فليمض على صلاته حتّى يسلم ثمَّ يسجدها ، فإنّها قضاء » (1).

هناك تفاصيل في المسألة ومعارضات لهذا الخبر وما يشابهه من الحكم بقضاء السجدة إن تجاوز عن محلّ تداركها إمّا بالدخول في الركن الذي واقع بعدها ، وإمّا أن يكون تذكره بعد إتيان السّلام الواجب. ولكن محلّ هذه التفاصيل والنقض والإبرام فيها هو باب الخلل في كتاب الصلاة.

وأمّا إن كانت تلك الواجبات في حال الاشتغال بالأجزاء شرطا لأصل الصلاة لا لتلك الأجزاء ، فالتجاوز عن محلّها وعدم إمكان تداركها بالتجاوز عن نفس ذلك الجزء ، لأنّ ذلك الجزء يقع صحيحا بعد ما لم يكن مشروطا بوجود ذلك الواجب ، فلا يبقى محلّ لتدارك ذلك الواجب ؛ لأنّه مع إعادة ذلك الجزء تلزم الزيادة العمديّة ، ومع عدم إعادته يبقى المظروف بلا ظرف.

فإن كان ذلك الواجب من الأركان كالقيام حال تكبيرة الإحرام تبطل الصلاة لو نسيه ، ولا يشمله حديث « لا تعاد » من جهة تخصيص عقد المستثنى منه فيه بأدلّة ركنيّة القيام في حال تكبيرة الإحرام.

وأمّا إن لم يكن من الأركان كذكر الواجب في الركوع مثلا ، وكنسيان القيام حال القراءة ، أو الطمأنينة حال الأجزاء والأذكار كالطمأنينة حال التشهّد والسجود وغير ذلك ، فإذا نسيها وفات محلّ تداركها على الفرض ، أي بناء على كون هذه الأشياء شرطا للصلاة لا لنفس الجزء فحيث أنّه أتى بالجزء صحيحا فات محلّ تدارك ذلك

ص: 122


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 602 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح 60 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 359 ، ح 1361 ، باب من ترك سجدة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 968 ، أبواب السجود ، باب 14 ، ح 1.

الواجب.

فعدم بطلان الصلاة بنسيان الواجبات حال الأجزاء متوقّف على أمرين :

أحدهما أن لا يكون ذلك الواجب ركنا ، كالقيام المتّصل بالركوع ، وكالقيام حال تكبيرة الإحرام.

وثانيهما : أن يكون شرطا للصلاة ويكون ظرف إتيانه حال الاشتغال بذلك الجزء لا شرطا لنفس الجزء ، فحينئذ لا يجوز اعادة ذلك الجزء وتكون صلاته صحيحة ، وإلاّ لو كان ذلك الواجب ركنا ولم يكن شرطا لتحقّق ذلك الجزء كالقيام حال التكبيرة فالصلاة باطلة على كلّ حال. وكذلك لو كان شرطا لنفس الجزء ولم يعد ذلك الجزء تكون صلاته باطلة.

نعم لو لم يفت محلّ تدارك ذلك الجزء : بأن لم يدخل بعد في الركن المتأخّر عنه ، أو لم يسلم سلام الواجب يجب عليه إتيان ذلك الجزء مع ذلك الواجب ، وتكون صلاته صحيحة.

وأنت تقدر بعد التأمّل فيما ذكرنا استخراج جميع فروع الخلل ، فلا حاجة إلى تطويل المقام.

وأمّا لو كان المنسي هو السّلام الواجب فإن تذكر قبل الإتيان بما هو مناف مطلقا ، سواء صدر عمدا أو سهوا فيأتي به ويتمّ صلاته.

وأمّا إن تذكر بعد إتيان ذلك المنافي المذكور فالتدارك لا يمكن ؛ لأنّ المفروض بطلان الصلاة بوجود المنافي المذكور ، لأنّه لا يخلو الحال من أحد أمرين : إمّا أن وقع هذا المنافي في الصلاة فيبطل الصلاة ، فإتيان السّلام المنسي وتداركه بعد بطلان الصلاة لا معنى له. وإمّا أن وقع في خارج الصلاة ، مع أنّه خلاف المفروض أيضا لا معنى لتدارك السّلام ؛ لأنّه في خارج الصلاة. ولكن مع عدم إمكان تداركه وعدم دخوله في عقد المستثنى لا تشمله صحيحة « لا تعاد » وذلك لما قلنا مرارا إنّ مفاد الصحيحة عدم

ص: 123

وجوب إعادة الصلاة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط التي سها المصلّي عنها إذا لم يكن من الخمسة المستثناة ، وكانت بحيث لو لم تكن هذه الصحيحة كان يجب الإعادة وكان بطلان الصلاة مستندا إليها.

وأمّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك ؛ لأنّ البطلان ليس مستندا إلى ترك التسليم بل إلى وجود ذلك المنافي ، وإلاّ كان التدارك ممكنا وكان يجب عليه التسليم ، وهو خلاف المفروض أي وجود المنافي المطلق أي سواء كان عمدا أو سهوا.

وبعبارة أخرى : نسيان التسليم بمحض وقوعه لا يوجب سقوطه عن الجزئيّة بحديث « لا تعاد » قطعا ، ولذا لو تذكر قبل وجود المنافي المطلق أي سواء كان عمدا أو سهوا يجب عليه أدائه ، فلا يكون موردا لشمول حديث « لا تعاد » إلاّ بعد وجود ذلك المنافي.

وقد عرفت أنّ بعد وجود المنافي أيضا لا يشمله ؛ لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث هو أنّ الجزء أو الشرط الذي نسي عنه الذي كان كلّ واحد منهما كان موجبا للإعادة لنسيانه بحيث تكون الإعادة معلولة لنسيانه فلا تجب الإعادة ، فتكون جزئيّة ذلك الجزء وشرطيّة ذلك الشرط ساقطة لكن موضوع الحكم بسقوطهما نسيان المتّصف بكذا ، أي النسيان الذي لو لا « لا تعاد » كان موجبا للإعادة وبطلان الصلاة ، فبلا تعاد يرتفع البطلان ووجوب الإعادة.

وفيما نحن فيه من الواضح الجليّ أنّه لو لم يكن « لا تعاد » أصلا في البين لم يكن البطلان مستندا إلى التسليم ، بل كان مستندا إلى الحدث ؛ لوقوعه في أثناء الصلاة قطعا ، فاستناد البطلان إلى نسيان التسليم لو لا « لا تعاد » متوقف على شمول « لا تعاد » لهذا المورد حتّى لا يكون التسليم جزءا ، فلا يكون البطلان ووجوب الإعادة مستندا إلى الحدث لعدم وقوعه في الأثناء لنفي الجزئيّة ، وإلاّ فبدون جريان « لا تعاد » وعدم شموله للمورد يكون السّلام جزءا ويكون الحدث واقعا في الأثناء ، فيكون البطلان

ص: 124

مستندا إليه.

فظهر من مجموع ما ذكرنا : أنّ شمول « لا تعاد » لنسيان التسليم ، والحكم بعدم وجوب الإعادة في مورده متوقف على أن يكون بطلان الصلاة ووجوب الإعادة مستندا إليه ، لا إلى الحدث لو لا « لا تعاد » ، واستناد البطلان ووجوب الإعادة إليه لا إلى الحدث متوقف على شمول « لا تعاد » للمورد ، وهذا دور واضح.

وإن شئت عبّر بأنّ شمول « لا تعاد » للمورد موقوف على شموله للمورد.

وحاصل الكلام في المقام : أنّ صرف نسيان الجزء أو الشرط بمحض وجوده وتحقّقه لا يوجب سقوط الجزئيّة والشرطيّة عن المنسي بواسطة حديث « لا تعاد » ، وإلاّ لو صار متذكّرا قبل التجاوز عن محلّه لم يكن التدارك واجبا ، مع أنّه ليس كذلك قطعا ولا يمكن الالتزام به ، فشمول الحديث في المفروض متوقف على مجي ء المبطل حتّى لا يمكن التدارك ، وإلاّ يجب أن يسلم ويتدارك ، ومع مجي ء المبطل - أي الحدث - وإن كان التدارك لا يمكن وقد تجاوز عن محلّ التدارك ولكن لا يبقى محلّ لمجي ء قاعدة « لا تعاد » ؛ لأنّ مفاد قاعدة « لا تعاد » تصحيح العمل وسقوط الإعادة وعدم وجوبها.

وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ؛ لأنّ شمول قاعدة « لا تعاد » موقوف على بطلان العمل ، فيرجع إلى أنّ صحّة العمل متوقف على بطلان العمل ، وهذا ممّا ينبغي أن يضحك عليه لا أن يصغى إليه.

نعم وردت هاهنا أخبار تدلّ على صحّة الصلاة إذا نسي السّلام وأحدث فلعلّ من يفتي بصحّة الصلاة نظره إلى هذه الأخبار ، لا إلى قاعدة « لا تعاد » لما ذكرنا من عدم صحّة التمسّك بها في هذه الصورة ، أي في نسيان السّلام.

وهذه الأخبار هي :

منها : ما في صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام ، سأله عن الرجل يصلّي ثمَّ

ص: 125

يجلس فيحدث قبل أن يسلم ، قال علیه السلام : « تمّت صلاته » (1).

ومنها : خبر حسن بن جهم قال : سألته - يعني أبا الحسن علیه السلام - عن رجل صلّى بالظهر أو العصر فأحدث حين جلس في الرابعة ، قال علیه السلام : « إن كان قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فلا يعد ، وإن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فليعد » (2).

ومنها : صحيح الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا ، وإن كنت قد تشهّدت فلا تعد » (3).

ومنها : موثّق غالب بن عثمان عنه علیه السلام عن الرجل يصلّي المكتوبة فيقضي صلاته ويتشهّد ثمَّ ينام قبل أن يسلم ، قال علیه السلام : « تمّت صلاته وإن كان رعافا فأغسله ثمَّ ارجع فسلّم » (4) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون.

ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر هذا الأخبار عدم جزئيّة السّلام إمّا مطلقا وإمّا في حال عدم الاختيار والاضطرار إلى وجود المنافي والمبطل ، فلا ربط لها بمسألة نسيان السّلام بعد الفراغ عن جزئيّته ، فيكون معرضا عنها عند المشهور فتسقط عن الحجيّة. وأمّا عدم مبطليّة الحدث لو صدر اضطرارا كما ذهب إليه بعض وهذا القول شاذ لا ينبغي الالتفات إليه.

ص: 126


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 320 ، ح 1306 ، باب كيفية الصلاة وصفتها ، ح 162 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 345 ، ح 1301 ، باب أنّ التسليم ليس بفرض ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1011 ، أبواب التسليم ، باب 3 ، ح 2.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 205 ، ح 596 ، باب التيمّم وأحكامه ، ح 70 ؛ وج 2 ، ص 354 ، ح 1467 ، باب أحكام السهو ، ح 55 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 401 ، ح 1531 ، باب أنّ البول والغائط والريح يقطع الصلاة ... ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4. ص 1241 ، أبواب قواطع الصلاة ، باب 1 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 323 ، ح 1322 ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح 179 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 405 ، ح 1547 ، باب الالتفات في الصلاة ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1011 ، أبواب التسليم ، باب 3 ، ح 4.
4- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 319 ، ح 1304 ، باب كيفيّة الصلاة ، ح 160 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 1021 ، أبواب التسليم ، باب 13 ، ح 6.

واحتمل بعض صدور هذه الروايات - وأمثالها ممّا تدلّ على عدم بطلان الصلاة بوقوع الحدث قبل التسليم في صورة نسيان التسليم - وخروجها مخرج التقيّة.

قال صاحب الجواهر قدس سره ذكرنا هناك - أي في أوّل مبحث القواطع في أوّل الخاتمة - ما يقتضي القطع ببطلان الصلاة بذلك ، وأنّ هذه النصوص وما شابهها مع تعارضها في نفسها واحتمالها احتمالات متعدّدة قد خرجت مخرج التقيّة (1).

هذا كلّه كان في نقصان الصلاة من حيث ترك جزء ، أو شرط ، أو إتيان مانع ممّا عدا الأركان سهوا.

وأمّا الزيادة فيها فان كان من الخمسة المستثناة فتجب الإعادة ؛ لما ذكرنا من شمول حديث « لا تعاد » الخلل الواقع من ناحية الزيادة مثل النقيصة ، وأمّا إن كان من غير الأركان فعقد المستثنى منه من هذا الحديث يدلّ على عدم البطلان ويكون مخصّصا للعمومات التي تدلّ على بطلان الصلاة بالزيادة مطلقا ، عمدا كان أو سهوا ، وتخرج الزيادة السهويّة في غير الأركان عن تحتها ، فيقيّد به إطلاق قول الباقر علیه السلام « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها » (2). وقول الصادق علیه السلام « من زاد في صلاته فعليه الإعادة ». (3)

والحمد لله أولا وآخرا ، والصلاة والسّلام على

سيّدنا محمّد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ص: 127


1- « جواهر الكلام » ج 12 ، ص 272.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 194 ، ح 763 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 64 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 376 ، ح 1428 ، باب من تيقّن أنّه زاد في الصلاة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 332 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 19 ، ح 1.
3- « الكافي » ج 3 ، ص 355 ، باب من سها في الأربع والخمس ولم يدر. ، ح 5 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 194 ، ح 764 ، باب أحكام السهو في الصلاة ، ح 65 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 376 ، ح 1429 ، باب من تيقّن أنّه زاد في الصلاة ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 332 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 19 ، ح 2.

ص: 128

6 - قاعدة اليد

اشارة

ص: 129

ص: 130

قاعدة اليد (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة « قاعدة اليد ». وفيها جهات من الكلام :

الأولى : في أنّها ليست من المسائل الأصوليّة ، بل هي قاعدة فقهيّة.

الثانية : في أنّه ما المراد من كلمة « اليد »؟

الثالثة : في بيان دليل اعتبارها.

الرابعة : في أنّها من الأمارات أو من الأصول التنزيلية؟ وأمّا احتمال كونها من الأصول غير التنزيليّة فساقط جدّا.

الخامسة : في مقدار سعة دلالتها وهل أنّها مخصوصة بإثبات الملكيّة لذي اليد بالنسبة إلى فيما تحت يده ، أو عامّ تشمل أشياء أخر كالتولية فيما هو وقف وتحت يده ، والزوجيّة للمرأة التي تحت يده ، والولديّة للطفل الذي تحت يده ، وهكذا إلى غير ذلك من التوسعة في اعتبارها؟

ص: 131


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 190 ؛ « الأقطاب الفقهية » قطب 44 ؛ « الحق المبين » ص 86 ؛ « عوائد الأيام » ص 254 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 57 ؛ « خزائن الاحكام » ش 2 ؛ « مناط الاحكام » ص 18 ؛ « بلغة الفقهية » ج 3 ، ص 291 - 369 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 52 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 206 ؛ « الفوائد العلمية » ص 225 ؛ « القواعد » ص 429 ؛ « قواعد فقه » ص 29 ؛ « قواعد فقهي » ص 193 ؛ « قواعد فقهية » ص 23 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 357 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 279 ؛ « يد امارة مالكيت » شيدا شكوايى ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1369 ؛ « يد مالكي ويد ضماني » مجلة « حق » فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366 ؛ « دو قاعدة فقهي ( قاعدة يد ولا ضرر ) ؛ مجلّة « حق » فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366.

السادسة : في تعارضها مع سائر الأدلّة من الأصول والأمارات.

أمّا الجهة الأولى

فقد تكرّر منّا في موارد كثيرة أنّ المناط في كون المسألة أصوليّة هو وقوع نتيجة البحث عنها كبرى في قياس الاستنباط ، ولا شكّ أنّ نتيجة البحث عن هذه القاعدة - وهي حجيّتها وإثبات الملكيّة مثلا لذي اليد - لا تقع كبرى في قياس الاستنتاج الحكم الشرعي الكلي الفرعي ، بل لا يستنتج منها إلاّ الملكيّات الشخصيّة أو ما شابهها من سائر الأمور الجزئيّة التي تثبت بها لذوي الأيدي ؛ فهذه قاعدة فقهيّة يستنبطها الفقيه عن أدلّتها التفصيليّة ويفتي بحجيّة اليد ، مثلا بالنسبة إلى ملكيّة ذي اليد لما في يده. ويكون أمر تطبيقها بيد المقلّدين أنفسهم ، بمعنى أنّه في مقام تطبيق هذه الكبرى على مصاديقها المقلّد والمجتهد سواء ، فإذا طبق المقلّد في مورد وأثبت الملكيّة بها لذي اليد عند الشكّ في ملكيّته ، فيجوز له أن يشتري منه ، ويشهد له بالملكيّة ، وهكذا بالنسبة إلى سائر آثار ثبوت الملكيّة له ، أي لذي اليد.

فهذه القاعدة كسائر القواعد الفقهيّة - المستعملة في الموضوعات الخارجيّة ، أو الأحكام الجزئيّة كالبيّنة ، وأصالة الصحّة ، وقاعدة الفراغ ، وقاعدة التجاوز - يستنبطها الفقيه ويفتي بمضمونها ، فيعمل المقلّد على طبقها.

وظهر مما ذكرنا : أنّه لا فرق في عدم كون هذه القاعدة من المسائل الأصوليّة ، أو كونها من القواعد الفقهيّة بين كون المناط في تميّز المسألة الأصوليّة عن الفقهيّة ما ذكرنا ، وبين ما ذكروه من أنّ المسألة الأصوليّة هي التي لا حظّ للمقلّد في مقام تطبيقها بل يكون أمر تطبيقها بيد المجتهد ، أو ما ذكروه ميزانا للفرق بينهما من أنّ المسألة الأصوليّة ما لم تكن متعلّقا بكيفيّة العمل بلا واسطة بل تكون تعلّقها بكيفيّة العمل مع الواسطة ، بخلاف المسألة الفقهيّة فإنّها متعلّقة بكيفيّة العمل بلا واسطة ؛ لما ذكرنا من

ص: 132

أنّ أمر تطبيق هذه القاعدة كما أنّه بيد المجتهد كذلك يكون بيد المقلّد أيضا ، وهما بعد إفتاء المجتهد بمضمونها في مقام التطبيق سواء. وأيضا من الواضح الجليّ أنّه بعد إفتاء المجتهد بمضمونها يكون ذلك المضمون متعلّقا بكيفيّة العمل بلا واسطة.

وأمّا الجهة الثانية

فقد ذكر اللغويّون لها معاني متعدّدة ، ولا يهمّنا أنّها حقيقة في الجميع ، أو مجاز في الجميع ، أو حقيقة في البعض ومجاز في البعض الآخر ، وإنّما المهمّ أنّه ما المراد والمتفاهم العرفي منها في محل البحث؟

فنقول : الظاهر أنّ المراد منها في محلّ البحث هو الاستيلاء والسيطرة الخارجيّة ، بحيث يكون زمام ما تحت يده بيده يتصرّف فيه كيف ما يشاء من التصرّفات العقلائيّة المتعارفة ، ولا يخفى أنّه بصرف التمكّن من تحصيل مثل هذه السيطرة والاستيلاء الخارجي لا يقال أنّه ذو اليد ، بل كونه كذلك يحتاج إلى فعليّة الاستيلاء والسيطرة الخارجيّة.

وأمّا ما توهّم : من أنّ اليد بهذا المعنى قد تكون مسبّبا عن الملكية كما في موارد النواقل الشرعية ، اختيارية كانت كما في أبواب المعاوضات ، أو قهريّة كما في باب الإرث ؛ وقد تكون سببا لحصول الملكيّة ، كما في باب حيازة المباحات إذا كان الاستيلاء بقصد التملّك.

ففيه : أنّ ما يفهم عرفا من اليد في المقام هي السيطرة الخارجيّة ، وهي أمر خارجي لا تحصل إلاّ بأسبابها الخارجيّة ، من وجود المقتضى لها كإرادة الاستيلاء والسيطرة ، ومن وجود شرائطها ، ومن فقد موانعها. والملكيّة الاعتباريّة لا أثر لها في هذا الأمر الخارجي.

نعم الملكيّة له أو كونه مأذونا من قبل المالك تؤثّر في عدم كونها يدا عادية ، ثمَّ

ص: 133

إنّ المرجع في حصول هذا الاستيلاء أيضا هو العرف ؛ لأنّ الاستيلاء والسيطرة أمر عرفي فلا بدّ في تعيين مفادهما من الرجوع إلى العرف ، وهو يختلف في نظرهم بحسب ما استولى عليه ، مثلا الاستيلاء على الدار والدكان والخان وأمثالها فهو بأن يكون ساكنا في الدار ومشغولا بكسبه في الدكان والخان ، وإمّا بأن تكون أبوابها مغلقة والمفتاح في يده ، وفي الأراضي بالزرع والغرس وأمثال ذلك ، وفي الدوّابّ بربطها في اصطبله أو ركوبها أو كون زمامها بيده.

نعم ربما يتزاحم هذه الجهات بعضها مع بعض ، مثلا لو كان أحد الشخصين راكبا على الدابة وبيد الآخر زمامها ، وكلّ واحد منهما ادّعى ملكيّة تمامها ، ففي مثل هذا الفرض إذا حكم العرف بتقديم احدى الجهتين وأنّها المناط في تحقّق الاستيلاء فهو ، وإلاّ فإن حكم بوجود الاستيلاء وتحققه بالنسبة إلى كلّ واحد منهما فيدخل في مسألة تحقّق يدين على مال واحد كشريكين في دار أو دكان أو غيرهما ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. وإلاّ فإن لم يحكم بشي ء منهما فتسقط كلتا الجهتين عن الاعتبار ، ولا يحكم بتحقّق اليد لكلّ واحد منهما.

ولا يخفى أنّه من الممكن أن يكون الاستيلاء على شي ء لشخصين أو أكثر كما في الشريكين أو الشركاء ، فبناء على اعتبار اليد وحجيّته يثبت الملكيّة لجميعهم. وإلى هذا يرجع ما اشتهر بين الفقهاء من أنّ تحقّق اليدين على مال واحد يرجع إلى ثبوت يد واحدة تامّة مستقلّة على نصف ذلك المال ، والثلاث إلى الثلث ، والأربع إلى الربع وهكذا.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ يد الودعي والمستأجر والمستعير والوكيل يد المودع والموجر والمعير والموكل مع اعترافهم بهذه العناوين. وبعبارة أخرى : كلّ أمين من طرف المالك إذا اعترف بأنّه أمين من قبله فيكون يده يد ذلك الشخص.

ص: 134

الجهة الثالثة : في الدليل على اعتبارها ، وهو من وجوه

الأوّل : الروايات.

فمنها : رواية حفص بن غياث المرويّة في الكتب الثلاثة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، وفيها : أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال علیه السلام : « نعم ». فقال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ، ثمَّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك » ، ثمَّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (1).

ومنها : المروي عن الصادق علیه السلام في حديث فدك : « إن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه تعالى في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إيّاك كنت أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين. قال علیه السلام : فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعده ولم تسأل البيّنة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟! إلى أن قال : وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر » (2).

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : « كلّ

ص: 135


1- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، باب ( من كتاب الشهادات ) ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 51 ، باب من يجب ردّ شهادته ومن يجب قبول شهادته ، ح 3307 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 695 ، باب البيّنات ، ح 100 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 25 ، ح 2.
2- « علل الشرائع » ص 190 ، ح 1 ؛ « تفسير القمّي » ج 2 ، ص 156 ؛ « الاحتجاج » ، ص 92 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفيّة الحكم. باب 25. ح 3.

شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة » (1).

ومنها : رواية حمزة بن حمران : أدخل السوق فأريد أن أشتري جارية تقول إنّي حرّة ، فقال علیه السلام : « اشترها ، إلاّ أن تكون لها بيّنة » (2).

ومنها : صحيحة العيص ، عن مملوك ادّعى أنّه حرّ ولم يأت بيّنة على ذلك ، أشتريه؟ قال : « نعم » (3).

ومنها : موثّقة يونس بن يعقوب ، في المرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة ، قال علیه السلام : « ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شي ء منه فهو له » (4).

ومنها : ما في الوسائل عن العباس بن هلال ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ذكر أنّه لو أقضي إليه الحكم لأقرّ الناس على ما في أيديهم ، ولم ينظر في شي ء إلاّ بما حدث في سلطانه ، وذكر أن النبي صلی اللّه علیه و آله لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون ، وأنّ من أسلم أقر على ما في يده (5).

ص: 136


1- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ، ح 40 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 211 ، باب شراء الرقيق ، ح 13 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 222 ، باب البيوع ، ح 3824 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 74 ، ح 318 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 32 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 31 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 5 ، ح 2.
3- « الفقيه » ج 3 ، ص 222 ، باب البيوع ، ح 3825 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 74 ، ح 317 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 31 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 30 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 5 ، ح 1.
4- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 302 ، ح 1079 ، باب ميراث الأزواج ، ح 39 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 525 ، أبواب ميراث الأزواج ، باب 8 ، ح 3.
5- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 295 ، ح 824 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 31 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 214 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 25 ، ح 1.

ولا شكّ في دلالة هذه الروايات على اعتبار اليد دلالة واضحة.

وأمّا الإشكال في الرواية الأولى - بأنّ محطّ نظر السائل في سؤاله إلى جواز الشهادة بالملكيّة لذي اليد بصرف كون شي ء تحت يده أم لا ، وهذا غير إثبات الملكيّة لما تحت اليد باليد حتّى تكون اليد حجّة - واضح الفساد ؛ لأنّ حكمه علیه السلام بجواز الشهادة مستندا إلى اليد يدلّ بالالتزام على إثبات الملكيّة بها أيضا ، خصوصا بعد ما استدلّ علیه السلام على صحّة هذا الحكم وجواز الشهادة بجواز الشراء ممّا في يده.

مضافا إلى أنّ احتمال أن يكون جواز الشهادة بملكيّة ما في يده له حكما تعبّديّا من دون ثبوتها عند الشاهد في غاية البعد ، وينكره الطبع السليم.

وأمّا الإشكال عليها بأنّ ظاهر هذه الرواية جواز الشهادة مستندا إلى اليد من دون حصول العلم للشاهد ، وهذا أمر مستنكر ؛ لأنّ العلم مأخوذ في موضوع جواز أو وجوب أداء الشهادة ، فلا يجوز مستندا إلى الأصول أو الأمارات ، فظاهر هذه الرواية ممّا لم يعمل به فساقط عن الاعتبار.

فلا يرد أصلا ؛ لما ذكرنا أوّلا في محلّه من قيام الأمارات والأصول التنزيليّة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقيّة - خلافا لصاحب الكفاية قدس سره (1) - دون ما أخذ فيه على نحو الصفتيّة.

ومن المعلوم أنّ القطع المأخوذ في موضوع أداء الشهادة جوازا أو وجوبا هو من حيث كونه طريقا وكاشفا عن متعلّقه ، لا بما أنّه صفة كذائية ، بل ذكرنا في مبحث القطع أنّه لم يوجد في الشرعيّات موردا يكون القطع فيه مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتيّة. نعم في بعض الموارد أخذ الاطمئنان موضوعا أو جزئه ، ولكن ذلك غير أخذ القطع في الموضوع على نحو الصفتيّة.

وثانيا : لو لم نقل بجواز الشهادة مستندا إلى اليد ، وترتيب آثار الملكيّة على ما

ص: 137


1- « كفاية الأصول » ص 263.

تحت اليد ، يختلّ النظام ولا يستقرّ حجر على حجر ، فكيف يمكن أن يقال إنّ الأصحاب لم يعملوا بمضمون هذه الرواية؟ فهذا الإشكال ساقط على كلّ تقدير.

وأما الإشكال على الرواية الثانية بأنّها لا تدلّ على أكثر من أنّ البينة ليست على ذي اليد - أي المنكر - بل يكون على المدّعي ، وهذا لا ربط له بكون اليد حجّة على الملكيّة ، وقضيّة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » شبه المتواتر بين المسلمين ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1). وقد قضى صلی اللّه علیه و آله على هذا النحو في موارد عديدة وهذا من المسلّمات ، ولا شكّ أنّ المتفاهم العرفي من « المنكر » ذو اليد ومن « المدعي » من هو مقابل ذي اليد ، وهو من يطرح الدعوى إلى المنكر ويوجّهها إليه. ففي هذه الرواية يحتجّ بهذا الأمر المسلّم بين المسلمين ؛ فلا ربط لها بإثبات الملكية باليد الذي هو محلّ الكلام.

فالجواب عنه : أوّلاّ : أنّ قوله علیه السلام « فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه » (2) يدلّ على أنّ اليد أمارة الملكيّة ، وإنّ الملكيّة في هذا الكلام ملكيّة إثباتيّة ، وإلاّ لو كان المفروض أمرين - أحدهما كونه تحت يدهم ، والثاني كونهم يملكونه - فلا يبقى بعد هذا الفرض مجال للدعوى ومطالبة البيّنة.

وثانيا : لا يفهم العرف من كون طرف ذي اليد مدّعيا وأنّه يطالب منه البيّنة إلاّ كون ذي اليد مالكا ، فيحتاج طرفه إلى الدليل على إثبات ما يدّعيه.

وأمّا الرواية الثالثة - أعني رواية مسعدة - فلا دلالة لها على هذا المطلب أصلا ، بل مضمونه حليّة مشتبه الحرمة ، حتّى يثبت خلاف ذلك بالبيّنة أو العلم.

وأمّا رواية حمزة بن حمران ، وصحيحة العيص فدلالتهما على هذا المطلب أوضح

ص: 138


1- « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبينات والأيمان ، ح 1 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 3 ؛ « معاني الأخبار » ص 279 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 2 ، ح 1.
2- تقدّم تخريجه ، ص 135 ، رقم (2).

من أن يخفى.

وأمّا قوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » فلا إشكال في دلالته على اعتبار اليد إلاّ تخيّل أنّ ضمير « منه » راجع إلى متاع البيت ، فلا يدلّ إلاّ على أماريّتها في هذا المورد الخاصّ أعني الزوج والزوجة ، لا مطلقا.

ولكن أنت خبير بأنّه لا خصوصيّة لهذا المورد ، مضافا إلى أنّ كلامنا الآن في اعتبارها في الجملة ، وسنتكلم في التفاصيل فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا رواية عباس بن هلال ، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام فمن المحتمل جدّا أن يكون مراده علیه السلام إمضاء جميع ما تقع من المعاملات في زمان انعزالهم عن الحكم ، فإذا وصل إليهم الحكم يقرون الناس على ما في أيديهم ، كما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع المشركين بالنسبة إلى ما كان في أيديهم في زمان الجاهليّة.

وعلى كلّ حال لا ينبغي الارتياب في دلالة جملة من هذه الروايات على اعتبار اليد ، بل على كونها أمارة الملك. وهاهنا روايات أخر ذكروها ، لبعضها دلالة على اعتبار اليد ، تركناها للاستغناء عنها وكفاية ما ذكرنا منها لإثبات هذا المطلب.

الثاني من وجوه اعتبار اليد : الإجماع والاتّفاق على أنّ من كان في يده شي ء من الأموال يكون له.

ولا شكّ في تحقّق هذا المعنى بالنسبة إلى الأعيان المتموّلة ولا خلاف فيه أصلا ، وإن كان خلاف ففي التفاصيل الآتية ، ولكن هذا المقدار لا يكفي في صدق الإجماع المصطلح الذي هو أحد الأدلّة الشرعيّة ؛ لأنّ الإجماع المصطلح الاتّفاق الذي يكون مسبّبا عن رأي المعصوم علیه السلام ، أو دليل معتبر عند الكلّ في مقام الثبوت وإن كان سببا وكاشفا عن أحدهما في مقام الإثبات. ولا شكّ أنّ مثل هذا المعنى لا يجتمع مع وجود مدرك بل مدارك في المسألة كما في مسئلتنا ؛ لأنّه حينئذ من الممكن بل من المحتمل جدّا اتّكاء المجمعين واعتماد المتّفقين على ذلك المدرك أو تلك المدارك ، فلا يبقى مجال

ص: 139

لاستكشاف رأيهم علیهم السلام من مثل هذا الاتّفاق ، ولا ريب في وجود مدارك عديدة من الأخبار الكثيرة وبناء العقلاء.

الثالث من وجوه اعتبارها : بناء العقلاء من جميع الملل والأمم ، سواء أكانوا من أهل الأديان أم لا ، حتّى الملحدين والمنكرين للصانع - خذلهم اللّه - على اعتبارها وكونها أمارة لملكيّة المال لمن في يده ، فإنّهم لا يتوقّفون في ترتيب آثار الملكيّة على ما في أيدي الناس ، ولا يفتشون عن أنّ هذا الذي بيده هل له أو لغيره أو مسروق أو مغصوب مثلا ، والشارع المقدّس لم يردع عن هذه السيرة والبناء بل أمضاها ، كما هو مفاد جملة من الروايات المتقدّمة ، مثل قوله علیه السلام في ما رواه حفص بن غياث « ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (1) ، وقوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب « ومن استولى على شي ء منه فهو له » (2).

فالإنصاف أنّ اعتبار اليد في الجملة من المسلّمات ، ولا يحتاج إلى البحث والتكلّم أكثر من هذا.

الجهة الرابعة : في أنّها أصل أو أمارة؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّه لو كان المدرك لها هو الإجماع أو هذه الأخبار فلا يمكن إثبات أماريّتها.

أمّا الإجماع فليس إلاّ على ترتيب آثار الملكيّة لما تحت يد شخص ، من دون تعرّضه إلى أنّ اليد طريق إلى الملكيّة أم لا.

وأمّا الأخبار فمفادها إمّا جواز الشراء والشهادة مستندا إلى اليد ، كما في رواية

ص: 140


1- تقدّم تخريجه في ص 135 ، رقم (1).
2- تقدّم تخريجه في ص 136 ، رقم (4).

حفص بن غياث ، وهذا المعنى أعمّ من الأماريّة والأصليّة ، ويجتمع مع كلّ واحد منهما ، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها ، حتّى أنّ جواز الحلف والشهادة الذي أخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقيّة مستندا إليها لا ينافي أصليّتها ؛ لأنّه قد حقّقنا في محلّه أنّ الأصول التنزيليّة أيضا مثل الأمارات تقوم مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ، فمن هذه الجهة أيضا لا فرق بينهما.

نعم هذه الجهة تنافي كونها من الأصول غير التنزيليّة ، ونحن قلنا إنّ احتمال كونها من الأصول غير التنزيليّة ساقط جدّا.

وأمّا رواية حمزة ابن حمران وصحيحة العيص ، فليس مفادهما إلاّ جواز الشراء من ذي اليد وعدم الاعتناء بقول الجارية والعبد ما لم يأتيا ببيّنة ، وقد عرفت أنّ جواز الشراء أعمّ من الأماريّة والأصليّة ، ويجتمع مع كل واحد منهما.

وأمّا رواية مسعدة ، فقد عرفت أنّها لا تدلّ على أصل اعتبارها ، فضلا عن أماريّتها أو أصليّتها.

وأمّا قوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب « ومن استولى على شي ء منه فهو له » لا يدلّ إلاّ على ترتيب آثار الملكيّة على ما استولى عليه ، وقد بيّنّا أنّ مثل هذا المعنى أعمّ من خصوص أحد هذين الأمرين.

فقد ظهر ممّا ذكرنا قصور هذه الأخبار عن الدلالة على إثبات أحد هذين الأمرين ، ومعلوم أنّه عند الشكّ في الأماريّة والأصليّة نتيجة العمليّة توافق الأصليّة ، لأنّ إثبات اللوازم شي ء زائد على إثبات أصل المؤدّى الذي هو المسلّم من هذه الأخبار ، كما أنّ الشكّ في أنّ الأصل تنزيلي أو غير تنزيلي نتيجته غير التنزيليّة بعين البيان المتقدّم.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء - كما هو كذلك ، حيث قلنا إنّ الأخبار إمضاء للبناء والسيرة العقلائيّة - فالحقّ أماريّتها ؛ لأنّه لا شكّ أن بناء العقلاء ليس من جهة

ص: 141

التعبّد بترتيب آثار الملكيّة عند الشكّ فيها ، بل من جهة كشفها عن الملكيّة الحاصل من غلبة كون ما تحت اليد ملكا لذي اليد عند عدم اعترافه بأنّه لغيره ، فيرون اليد طريقا وكاشفا عن ملكيّة ذي اليد ما لم يعترف بأنّه ليس له كسائر الظنون النوعيّة والطرق والأمارات العقلائية.

وبعبارة أخرى : الشي ء تارة معلوم وجوده أو عدمه سواء أكان ذلك الشي ء أمرا تكوينيّا أو اعتباريّا ، فالعقل يحكم بوجوب ترتيب آثاره عليه.

وهذا معنى حجّية العلم ؛ فليست حجّية العلم من المجعولات الاعتباريّة ، بل هي عبارة إمّا عن نفس هذا الحكم العقلي ، فيكون من لوازم العلم ، ويكون من قبيل الذاتي في كتاب البرهان. أو هي عبارة عن ملزوم هذا الحكم العقلي ، أي نفس الانكشاف والظهور ، فيكون من قبيل الذاتي الايساغوجي ؛ لأنّ العلم عبارة عن نفس الانكشاف والظهور ، وعلى كلا التقديرين ليست من المجعولات الاعتبارية ، بل هي غنيّة عن الجعل المستقل.

وأخرى مظنون أحدهما - أي وجود الشي ء أو عدمه - وحينئذ لا شكّ في أنّ العقل لا يحكم بصرف الظنّ بوجود الشي ء أو عدمه بوجوب ترتيب آثار وجوده في الأوّل ، وآثار عدمه في الثاني إلاّ أن يجعل طريقا في عالم الاعتبار بأن يعتبره العقلاء أو الشارع المقدّس طريقا وكاشفا ، سواء أكان اعتبار الشارع إحداثيّا أو إمضائيّا لما يكون طريقا عند العقلاء ، كما هو الحال في أغلب الطرق والأمارات الشرعيّة بل جميعها ؛ لأنّه لم نجد في الأمارات الشرعيّة ما لم تكن هي عند العقلاء أمارة.

نعم ربما يتصرّف الشارع في موضوع ما يراه العقلاء أمارة ، بازدياد قيد ، مثل عدالة الشاهدين في ثبوت ما أخبرا به مثلا ، أو حذف قيد ممّا هو موضوع الحجيّة عند العقلاء. ولا شكّ في أنّ الحجيّة في هذا القسم من المجعولات الاعتباريّة من طرف العقلاء ، أو الشارع ، أو من طرف كليهما بأن يكون مثلا من طرف العقلاء إحداثا ومن طرف الشارع إمضاء.

ص: 142

فلا بأس بأن تقول أنّ الظنّ ممكن الحجّية ، كما أنّ لك أن تقول إنّ العلم واجب الحجيّة ، كما أنّ الشكّ في شي ء لا يمكن أن يجعل طريقا وكاشفا ولو كان في عالم الاعتبار العقلائي أو عالم الاعتبار الشرعي ؛ لأنّ الحجيّة المجعولة في عالم الاعتبار لا بدّ وأن تكون في محل قابل ، والشكّ والتحيّر ليسا قابلين لأن يجعلا طريقا وكاشفا ، فإذا حكم الشارع في مورده بشي ء يكون صرف وظيفة عملية من دون أن يكون طريقا إلى وجود المشكوك أو طريقا إلى عدمه ، فلا بأس بأن نقول الشكّ ممتنع الحجيّة.

ثمَّ لا يخفى أنّه في مورد الظن بشي ء يمكن أن يجعل وظيفة عمليّة ، ولا يلاحظ جهة كشفه الناقص وتتميمه في عالم الاعتبار كي تكون أمارة ، بل المجعول صرف الوظيفة العمليّة بإلقاء جهة الكشف الناقص الموجود فيه وعدم رعايته أصلا ، فيكون أصلا عمليّا.

ثمَّ إنّ تلك الوظيفة العمليّة المجعولة في هذه الصورة إن كانت بلسان أنّه هو الواقع فيكون أصلا تنزيليا - وإن شئت سمه : أصلا محرزا - وان لم يكن بهذا اللسان فهو أصل غير تنزيلي وإن شئت سمه : الأصل غير المحرز.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في حصول الظنّ النوعي من اليد غير المعترفة ، بأنّ ما استولت عليه ليس لها بملكيّة ما تحتها لها ، وبناء العقلاء على طريقيّة هذا الظنّ وحجيّته لا على صرف العمل على طبق المظنون مع إلقاء جهة كشفه حتّى يكون أصلا عمليا ، والشارع أمضى بناء العقلاء كما هو مفاد هذه الأخبار ، فتكون اليد أمارة وحاكمة على الاستصحاب كما تقدّم وجهها.

الجهة الخامسة : في سعة دلالتها ومقدار حجيتها وموارد جريانها

اشارة

قد وقع الخلاف في كثير من الموارد بعد الاتّفاق على حجيّتها في الجملة.

ص: 143

فنقول : أمّا حجيّتها بالنسبة إلى ملكيّة الأعيان المتمولة هو فيما إذا كانت تلك العين في حدّ نفسها قابلة للنقل والانتقال من غير احتياج إلى طروّ أمر يكون موجبا لجواز النقل والانتقال - أي لا تكون من قبيل الأعيان الموقوفة ، بل ولا تكون من الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح ، فإنّها أيضا لا يجوز نقلها إلاّ فيما إذا رأى المصلحة في نقلها وليّ المسلمين ، وفيما إذا كانت اليد من أوّل حدوثها مجهولة العنوان ، بمعنى أنّها من أوّل حدوثها لا يعلم أنّها يد مالكه ، أو يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة كاللقطة ، أو أمانة مالكيّة كالإجارة والعارية والوديعة وأمثال ذلك من أمانات المالكية - ولم يكن معترفا ذو اليد بأنّه ليس له ، ففي مثل هذه الصورة حجيّة من المسلّمات ، ولا خلاف بينهم في ذلك بالنسبة إلى الغير.

وأمّا بالنسبة إلى نفسه إذا شكّ أنّ ما في يده هل ملك له أو لغيره ، فحجيّة اليد في هذه الصورة أيضا وإثباتها ملكيّة ما في يده لنفسه لا يخلو من كلام ، وإن كان الصحيح عندنا أنّها تثبت لاتّحاد ما هو المناط في الإثبات بين نفسه وغيره.

فموارد البحث والخلاف أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إذا كان حال حدوثها معلوم العنوان ، بأن كانت يد عادية ، أو أمانة مالكيّة أو شرعيّة ، فقد أفاد شيخنا الأستاد قدس سره حكومة استصحاب حال اليد - من كونها عادية أو أمانة - على نفس اليد (1).

لا يقال : إنّ اليد أثبتنا أماريّته ، والأمارات طرّا لها حكومة على الاستصحاب ، فكيف تقول إنّ الاستصحاب حاكم على قاعدة اليد؟

لأنّه يقال في جوابه : إنّ ما قلت صحيح لو كان التعارض بين المؤدّيين ، فلا شكّ في أنّ اليد حيث أنّها أمارة - وبناء على ما هو المختار من تتميم الكشف في جعل حجية الأمارات - ترفع الشكّ عن مؤدّاه ، فيذهب بموضوع الاستصحاب حيث أنّه أخذ فيه

ص: 144


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 604.

الشكّ ، ولكن كلّ ذلك ، فيما إذا جرت اليد ، وكان موضوعها ، أي كونها مجهولة العنوان ومشكوك الحال ، أي لا يعلم أنّها يد مالكة أو يد عادية أو يد أمانة.

وفيما نحن فيه أيضا حال ادّعائه الملكيّة وإن كان لا يعلم حال اليد ويحتمل أن يكون يده يد مالكة بواسطة انتقاله بناقل شرعي إليه ، ولكن الاستصحاب يرفع هذا الجهل تعبّدا ، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد حتّى تجري وتكون حاكمة على الاستصحاب.

وأورد عليه أستادنا المحقق (1) قدس سره بأنّ هذا الكلام له وجه لو قلنا بأنّ الجهل بالحالة السابقة مأخوذ في موضوع دليل اعتبار اليد وحجيته ، لا أن يكون الجهل بالحالة السابقة موردا للقاعدة - كما هو كذلك - وإلاّ لو كان الجهل موضوعا للقاعدة يلزم أن تكون القاعدة أصلا عمليّا ؛ وذلك لما تقدّم في أوّل البحث عن الأصول العمليّة أنّ الفرق بين الأصل والأمارة هو أنّ الشكّ والجهل مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة. نعم حجيّة الأمارة واعتبارها في مورد الجهل واستتار الواقع ، وإلاّ فمع العلم على وفاقه أو خلافه لا يبقى مورد لجعل الأمارة.

ثمَّ إنّه يقول بعدم حجيّة اليد في مثل هذه الصور - أي فيما إذا كانت في أوّل حدوثها معلوم العنوان بأن كانت يد عادية أو أمانة - ولكن لا من جهة استصحاب حال اليد ، بل لأجل عدم شمول بناء العقلاء لمثل هذه الصورة ، ولا أقل من الشكّ. وأيضا النتيجة عدم اعتباره في هذه الصورة.

ولكن يمكن أن يقال :

إنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد لا يثبت الملكيّة شرعا إلاّ بإمضاء الشارع لذلك البناء ، فإذا قال الشارع : لا تنقض اليقين بكونها يد عادية أو يد أمانة مالكية أو شرعية بالشكّ في بقاء تلك الحالة السابقة وابن على بقاء تلك الحالة السابقة من

ص: 145


1- الحاشية على « فوائد الأصول » للعراقي ج 4 ، ص 605.

كونها عادية أو أمانة ، فهذا ردع لتلك السيرة وذلك البناء.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كانت الحالة السابقة لما في يده عدم جواز نقله وانتقاله في حدّ نفسه إلاّ بطروّ أحد الأمور التي يجوز معها النقل والانتقال كالوقف وفعلا انتقاله إليه بسبب يحتمل طروّ أحد تلك الأمور ، فأيضا لا تكون اليد في هذه الصورة أمارة على كون ما في يده ملكا له.

وذلك أيضا لما ذكرنا من استصحاب حال اليد ، وإن شئت قلت : استصحاب عدم طروّ ما يجوز معه النقل والانتقال ، ففي هذه الصورة أيضا مثل الصورة السابقة لأماريّة اليد وكشفها عن ملكيّة ما تحت اليد لا يبقى موضوع : لأنّ موضوع الأمارة اليد على مال قابل للنقل والانتقال ، فباستصحاب عدم طروّ ما معه قابل للنقل والانتقال يرتفع موضوع ما هي الأمارة.

نعم لو احتملنا أنّ ما تحت اليد كان قبل حدوث اليد قابلا للنقل والانتقال - بواسطة احتمال طروّ أحد المجوّزات للبيع مثلا بحيث - لا يبقى مجال لاستصحاب حال اليد ؛ لأنّها من أوّل حدوثها من هذه الجهة مجهول الحال.

وأمّا لو كان ما تحت اليد عن أراضي المفتوحة عنوة وحصل الشكّ في ملكيّتها لذي اليد بواسطة احتمال انتقالها إلى ذي اليد بناقل شرعي ، فالظاهر كون اليد أمارة الملك ، ولا يقاس بالوقف ؛ لأنّ الأراضي المفتوحة عنوة قابلة للنقل والانتقال ، وليست مثل الوقف محبوسة لا يجوز نقلها إلاّ بعد طروّ أحد مجوّزات نقلها ، غاية الأمر أنّ أمر نقلها بيد وليّ المسلمين حسبما يرى مصلحة المسلمين من النقل أو الإبقاء على ملك المسلمين وأخذ الخراج ممّن بيده.

هذا ، ولكن ظاهر بعض الأخبار أنّ الأراضي المفتوحة عنوة موقوفة محبوسة في أيديهم لا يجوز بيعها وشرائها ، ويأخذ الخراج وليّ المسلمين ممّن بيده تلك الأراضي ، وبناء على هذا تكون حالها حال الوقف ليست قابلة للنقل والانتقال إلاّ ضرورة

ص: 146

وحاجة مهمّة في أمور المسلمين.

الأمر الثاني : إذا كان في مقابل ذي اليد من يدّعي الملكيّة لما في يده ، فتارة : له بيّنة طبق ما يدّعي ، فيؤخذ المال من ذي اليد ويعطي للمدّعي. وأخرى : ليس له بيّنة ولكن ذو اليد يعترف بأنّه له ، فكذلك أيضا. وتارة : يعترف بأنّه كان له ولكن انتقل إليه بناقل شرعي ، وعلى هذا تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدّعيا بعد ما كان منكرا ، والمدعي صار منكرا أيضا بواسطة هذا الاعتراف ؛ لأنّ قول ذلك المدّعي بعد هذا الاعتراف يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال ، فتنقلب منكرا ولا كلام في هذا.

وإنّما الكلام في أنّ المال يؤخذ منه ويعطي لمن كان مدّعيا ، فصار منكرا بواسطة إقرار ذي اليد ، أو يبقى عنده بواسطة أماريّة اليد؟

لا يقال : أماريّة اليد للملكيّة سقطت بواسطة اعترافه بأنّ المال كان له ، وذلك لأنّ اعترافه بأنّ المال كان له لا ينافي كون اليد أمارة على الملك الفعلي ، من جهة أنّه في أغلب الموارد معلوم أنّ ما في اليد كان لشخص آخر ، فحال اعترافه حال العلم بأنّه كان لغيره. فكما أنّ في مورد العلم بأنّه كان لغير ذي اليد لا يسقط عن الاعتبار والأماريّة ، فكذلك فليكن في مورد الاعتراف.

وبعبارة أخرى : لا فرق بين أن يثبت أنّ ما في يده كان ملكا لمن يدّعى الآن بحكم الحاكم ، أو بالبينة أو بالعلم الوجداني ، أو بإقرار ذي اليد ؛ لأنّ ثبوت الملكيّة السابقة بأحد هذه الأمور لا ينافي مع الملكيّة حال الدعوى لذي اليد. وحيث أنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد لملكيّة ما في اليد لذي اليد وقد أمضاها الشارع ، فيحكم بالملكيّة الفعليّة لذي اليد ، إلاّ أن يأتي ببيّنة طبق دعواه.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عمّا ذكر بأنّ انقلاب الدعوى من آثار نفس الإقرار ، وليس من آثار الواقع كي لا يكون فرق بين العلم والبيّنة والإقرار ، فإذا أقرّ فهو

ص: 147

مأخوذ بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع (1).

ولكن هذا كلام عجيب.

أما أوّلا : لعدم حجيّة الإقرار مع العلم التفصيلي بمخالفته للواقع.

وأمّا ثانيا : معنى أخذه بإقراره ترتيب آثار الملكيّة السابقة لا عدم أماريّة اليد للملكيّة الفعليّة ، نعم لو انضمّ إلى اعترافه بالملكيّة السابقة للمدّعي دعوى الانتقال منه إليه بناقل شرعي ، فمن حيث هذه الدعوى يكون ذو اليد مدّعيا للانتقال ، وقول ذلك المدّعي المقابل لذي اليد يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال ، فتنقلب الدعوى ويصير منكرا.

فكأنّه هناك دعويان : أحدهما : أن يدّعي الملكيّة طرف ذي اليد ، فبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد منكرا ، وطرفه يكون مدّعيا.

الثاني : دعوى ذي اليد الانتقال إليه من طرفه ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد مدّعيا وطرفه يكون منكرا ؛ لمطابقة قوله مع أصالة عدم الانتقال.

وأعجب ممّا ذكره شيخنا الأستاد قدس سره ما ذكره أستاذنا المحقّق (2) قدس سره في وجه انقلاب الدعوى هو حجيّة استصحاب عدم الانتقال مع وجود اليد الفعلي على المال ، فمقتضى اليد هو كون هذا المال ملكا لذي اليد وانتقاله من الطرف إليه ، ومقتضى استصحاب عدم الانتقال عدم كونه ملكا لذي اليد وبقاؤه على ملك الطرف ، فأماريّة اليد هاهنا مع حجيّة استصحاب عدم الانتقال من المدّعي الذي هو الطرف لذي اليد ممّا لا يجتمعان ، فبناء على حجيّة هذا الاستصحاب لا يبقى مجال لأماريّة هذه اليد ؛ لما ذكرنا من أنّ مؤدّى الاستصحاب - أي التعبّد بعدم الانتقال - عدم ملكيّة ذي اليد ، فمع حجيّة هذا الاستصحاب لا يمكن أن تكون اليد في هذا المقام أمارة.

ص: 148


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 613.
2- الحاشية على « فوائد الأصول » للعراقي ج 4 ، ص 614.

وفيه : أنّ غاية ما يستفاد من هذا البيان تعارض هذا الاستصحاب مع هذه اليد ، فبناء على أن اليد أمارة - كما هو نفسه جزم بذلك - تكون اليد حاكما على الاستصحاب ؛ لما تقدّم من حكومة الأمارات على الأصول.

وأورد شيخنا الأستاذ قدس سره على نفسه بعد ما قال بالانقلاب في الصورة المذكورة - وهي الصورة التي يعترف ذو اليد بأنّ ما في يده كان سابقا للمدّعي وادّعى الانتقال إليه بناقل شرعي - بمخالفة هذا القول ، أي انقلاب الدعوى لما احتجّ به أمير المؤمنين علیه السلام على أبي بكر بأنّ الصديقة الطاهرة علیهاالسلام ذات يد على فدك ، فلم تسأل البيّنة عنها؟ والحال أنّها صلوات اللّه عليها اعترفت بأنّ فدك كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نحلها إيّاها فادّعت الانتقال إليها منه صلی اللّه علیه و آله بعد اعترافها أنّها له صلی اللّه علیه و آله ، فبمقتضى تلك القاعدة انقلبت الصدّيقة الطاهرة مدّعية فتكون البيّنة عليها ، مع أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ينفى في هذا الخبر - أي خبر الاحتجاج - كون البيّنة عليها علیهاالسلام ، فتدلّ هذه الرواية دلالة صريحة على عدم انقلاب الدعوى (1).

ثمَّ أجاب قدس سره عن هذا الاعتراض بما لا يخلو عن قصور وإشكال ؛ لأنّ جوابه مبتن على مبان في الملكيّة وأنواع انتقالاته غير مقبولة.

فالأحسن أن يقال على تقدير تسليم دعوى الانقلاب مع ما فيها من النظر والتأمّل : إنّ هاهنا كما قلنا آنفا دعويان :

إحديهما : دعوى الانتقال ، وبالنسبة إلى هذه الدعوى هي سلام اللّه عليها مدّعية وعليها البيّنة.

والأخرى : دعوى الملكية وبالنسبة إلى هذه الدعوى حيث أنّها سلام اللّه عليها كانت ذات يد كانت البيّنة على طرفها - أي أبي بكر - لأنّه بزعمه كان وليّ المسلمين ، فكان أمير المؤمنين علیه السلام احتجّ على أبي بكر بالنسبة إلى هذه الدعوى الأخيرة إن كانت

ص: 149


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 614.

الدعوى الأولى مسكوتا عنها.

ثمَّ إنّ في هذه المسألة صور كثيرة ما استوفينا حقّها ؛ لأنّ محلّها كتاب القضاء من الفقه.

الأمر الثالث : من تلك الأمور التي صار محلاّ للكلام والبحث : أنّه هل حجيّتها مخصوصة بالأعيان المتموّلة أم تجري في المنافع أيضا؟

فنقول : التحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما كان المدّعي هو المالك باعتراف ذي اليد - بأن يقول مثلا : يا زيد المدّعي ، هذه الدار التي الآن في يدي ملكك ولكن في إجارتي إلى سنة مثلا - وبين أن يكون المدعي أجنبيّا أي ليس بمالك ، وذلك مثل أن يدّعي شخص آخر ويقول : في إجارتي لا في إجارتك ، بأن تكون اليد حجّة في الثاني - أي مقابل الأجنبي - لا الأوّل ، أي مقابل المالك.

والسرّ في ذلك : أنّ المنفعة أمر معدوم بالنسبة إلى ما سيأتي في زمان النزاع ، بل غالبا يكون أمرا غير قار لا يوجد جزء منه إلاّ بعد انعدام الجزء الآخر ، فلا يمكن وقوعها استقلالا تحت اليد التي عرفت أنّها سيطرة واستيلاء خارجي ، سواء أكان هناك معتبر في العالم أو لا يكون ؛ إذ اليد بالمعنى المذكور من الأمور التكوينيّة الخارجيّة ، وليست من الأمور الاعتباريّة ؛ ولذلك يتحقّق اليد من الغاصب مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء.

وأمّا القول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام ؛ لأنّه لو اعتبر نفسه مالكا أو مستوليا ومسيطرا ألف مرّة بدون أن يكون له سيطرة وتسلّط في الخارج لا يقال أنّه ذو اليد ، فمعنى كون المنفعة تحت اليد ليس أنّها استقلالا وبنفسها تحت اليد بل معناه أنّها تحت اليد بتبع العين ؛ لأنّ المنفعة من شئون العين ، ونسبتها إلى العين كنسبة العرض إلى موضوعه ، فالاستيلاء والسيطرة على العين استيلاء على منافعها.

وبعبارة أخرى : اليد على العين يد على منافعها ، لا بمعنى أنّه هناك استيلاء ان

ص: 150

وسيطرتان في الخارج : أحدهما على العين ، والأخرى على المنفعة ، بل ليس في الخارج إلاّ الاستيلاء على العين ، وهذا الاستيلاء الواحد كما يصحّ أن ينسب إلى العين يصح أن ينسب إلى المنفعة. وبعبارة أخرى : المنفعة غالبا أمر غير قارّ لا توجد إلاّ تدريجا.

نعم هناك عند العرف قد تطلق المنفعة على بعض الأعيان الخارجيّة ، كاللبن في الضرع ، والثمرة على الشجرة. فهذه وأمثالها خارجة عن محلّ الكلام ، ولا شكّ في إمكان وقوعها مستقلا تحت اليد ، فكلامنا في ما هو من قبيل الأوّل - أي المنافع التي لا وجود لها استقلالا - بل هي حال النزاع كما قلنا معدومة ولا توجد إلاّ تدريجا ، فليس حال النزاع شي ء موجود حتّى نقول بأنّه تحت اليد مستقلا ، نعم إنّها تحت اليد بتبع العين ، بمعنى أنّ اليد على العين يد أيضا عليها ؛ وبهذا صحّحنا الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة من باب ضمان اليد.

والحاصل : أن اليد على العين يد على المنافع غير القارّة حقيقة وواقعا ، وليس من قبيل الوصف بحال متعلّق الموصوف ، أي ليس العين واسطة في العروض بل واسطة في الثبوت ، فإذا استولى على العين لا يصحّ سلب السلطنة واستيلائه على المنفعة.

وبعد ما ظهر ما قلنا فنقول : فلو كان المدّعي هو المالك فحيث أنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أماني ومن قبل المالك ، ففي الحقيقة يده يد المالك ، كما بيّنّا سابقا أنّ يد كلّ أمين مالكي يد المالك ، فلا يبقى مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد ؛ لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالنسبة إلى المالك باعترافه أنّ يده أمانيّة.

وأمّا بالنسبة إلى الأجنبي فلا ، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض ، ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريّتها بالنسبة إلى الأجنبي.

نعم يبقى مطالبة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعي ، فنقول : لو كان المدرك لهذه القاعدة هو الأخبار فالإنصاف أنّ إثبات حجيّتها حتّى فيما إذا كان المدّعي غير المالك مشكل ؛ لأنّ أغلب الأخبار موردها الأعيان ، والخروج عنها إلى المنفعة يحتاج

ص: 151

إلى دليل.

وأمّا قوله علیه السلام في موثقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » (1). وإن كان فيه عموم بالنسبة إلى المنفعة والعين باعتبار لفظ « شي ء » ولكن ضمير « منه » الراجع إلى متاع البيت يقيّد هذا الإطلاق ، فتأمّل.

وأمّا رواية عباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا علیه السلام وإن كان فيه عموم باعتبار جملة « لأقرّ الناس على ما في أيديهم » (2) لكنّك عرفت عدم دلالتها على أصل المطلب ، بل هي بصدد بيان مطلب آخر لا ربط له بما نحن فيه أصلا.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فمعلوم أنّه لا حجيّة له في محلّ الخلاف.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء كما هو الصحيح عندنا وقلنا إن هذه الأخبار إمضاء لما عندهم ، فالأظهر بل الأقوى والمتعيّن هو التفصيل المتقدّم ؛ لأنّه من الواضح أنّ العقلاء يفرقون بين أن يكون المدعي هو المالك أو الأجنبي.

الأمر الرابع : أنّها تجري في الحقوق أم لا؟

فنقول : الحقوق المتعلّقة بالأعيان على اختلاف أنحائها ، سواء أكانت الأعيان متموّلة كحقّ الرهانة وحقّ التولية وغيرهما ، أو غير متموّلة كحقّ الاختصاص المتعلّقة بالعذرة والخمر والميتة ، لا يمكن وقوعها تحت اليد ابتداء ، بل تقع تحتها بتبع العين ، وحالها من هذه الجهة حال المنافع بل انزل ؛ لأنّ الحقّ أمر اعتباري ، إذ ليس هو إلاّ سلطنة اعتباريّة مجعولة في عالم الاعتبار من طرف العقلاء أو الشارع على شي ء أو شخص.

ومن آثاره أنّه يسقط بإسقاطه بخلاف المنفعة ، فإنّها من الأمور الواقعيّة المحمولة بالضميمة. فالتفصيل الذي بيّنّاه في باب المنافع آت هنا بطريق أولى ، فاليد هاهنا على

ص: 152


1- تقدّم تخريجه في ص 136 ، رقم (4).
2- تقدّم تخريجه في ص 136 ، رقم (4).

تقدير حجيّتها مخصوصة بالنسبة إلى الأجنبي ، لا بالنسبة إلى المالك.

وأمّا الدليل على اعتبارها بالنسبة إلى الأجنبي فكما بيّنّا في باب المنافع حرفا بحرف : لو كان مدرك هذه القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فلا دليل في المقام أصلا ، أما لو كان المدرك بناء العقلاء فالظاهر استقرار بنائهم بثبوت هذه الحقوق إذا كان المدعي غير مالك العين.

الأمر الخامس : في أنّه هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا؟ كما لو تنازع شخص مع آخر في زوجة تحت يد أحدهما ، أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوج مع زوجته ، أو في صبي تحت يد أحدهما.

والأقوال في المسألة مضطربة ، ولكن الأقوى - بناء على ما ذكرنا من أنّ مدرك هذه القاعدة هو بناء العقلاء - استقرار بنائهم على أماريّة اليد في هذه المواضع ؛ لأنّ الظنّ الحاصل من الغلبة هاهنا أقوى بمراتب من الظنّ الحاصل في باب الأملاك ؛ لأنّ الغصب في باب الأملاك كثير ، بخلافه هاهنا فإنّ غصب أحدهم زوجة الآخر أو ولده في غاية القلّة بل الندرة.

نعم لو كان مدرك القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فشمولهما لمثل المقام في غاية الإشكال ؛ لعدم شمول الإجماع لمورد الخلاف واختصاص الأخبار حسب ظهورها العرفي بأعيان الأملاك.

الأمر السادس : في أنّه هل هذه القاعدة تجري في حقّ نفس ذي اليد إذا شك في أنّ ما بيده ملك له أو لغيره فيما إذا لم يكن مدّع في قباله ، أم لا؟

ربما يقال بجريانها في حقه وان لم يكن في قباله مدّع يزاحمه ؛ مستندا إلى رواية مسعدة بن صدقة ، فإنّه علیه السلام قال فيها بحلّيّة ما تحت يده ، ولو احتمل ذو اليد كونه سرقة أو غير ذلك من الاحتمالات المنافية لملكيّة ذي اليد ، سواء أكان هناك مدّع أو لم يكن.

ص: 153

ولكنّك عرفت أنّ مساق تلك الرواية في بيان قاعدة الحلّ ولا ربط لها بباب اليد أصلا.

وربما يستند لإثبات هذا المطلب بعموم قوله علیه السلام في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » حيث أنّه علیه السلام لم يقيد هذا الحكم بأنّه فيما إذا كان في قباله مدع ، فالحكم بكونه له مطلق من هذه الجهة.

وفيه : أنّ الظاهر من هذه الرواية أنّه علیه السلام في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حكم بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستوليا على شي ء من متاع البيت فهو له ، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدّع في البين.

واستدلّ أيضا لهذا المطلب - أي حجيّة اليد لملكيّة ما في يده لنفسه عند الشكّ ، ولو لم يكن مدّع في البين - بصحيحة جميل بن صالح ، عن الصادق علیه السلام ، رجل وجد في بيته دينارا ، قال علیه السلام : « يدخل منزله غيره؟ » قلت : نعم كثير ، قال علیه السلام : « هذه لقطة » قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا قال علیه السلام : « فيدخل أحد يده في صندوقه غيره ، أو يضع فيه شيئا؟ » قلت : لا ، قال : « فهو له » (1). حيث حكم علیه السلام بكون الدينار الذي وجده في صندوقه له مع كونه شاكّا أنّه له ، ولم يفرق علیه السلام بين أن يكون هناك مدّع يدّعيه أم لا ، فالرواية بإطلاقها يشمل المقام.

ولكنّه من المحتمل جدّا أن يكون حكمه علیه السلام بكونه له - بعد السؤال عنه بأنّه هل يدخل أحد فيه غيره أو يضع فيه شي ء وجوابه بالعدم - من جهة حصول القطع العادي ، أي ركون النفس والاطمئنان بأنّه له في مثل هذه الصورة ، فكأنّه علیه السلام نبّهه على أنّ احتمال كونه لغيره في الفرض وهم محض ، فلا ربط له بباب اليد ، بل نفس هذا الاطمئنان معتبر سواء أكان هناك يد أم لا.

ص: 154


1- « الكافي » ج 5 ، ص 137 ، باب اللقطة والضالة ، ح 3 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 293 ، باب اللقطة والضالّة ، ح 4050 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 390 ، ح 1168 ، باب اللقطة والضالة ، ح 8 « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 353 ، أبواب اللقطة ، باب 3 ، ح 1.

والشاهد على ذلك أنّه علیه السلام حكم في صدر هذه الرواية بأنّ الدرهم الذي وجده في الدار لقطة ، وليس له بعد السؤال عنه أيضا بمثل هذا السؤال وأنّه هل يدخل ذلك المنزل غيره وجوابه ب- « نعم ، كثير » مع وجود اليد في كلا الموردين ، ولا فارق بينهما إلاّ ما ذكرنا. ولو كان يجيب في ما وجده في صندوقه أيضا ب- « نعم ، كثير » مثل ما أجاب في منزله لكان حكمه علیه السلام أيضا بأنّه لقطة.

واحتمال أن يكون الفرق من جهة أنّه في الصورة الأولى كثرة الداخلين في ذلك المنزل كما هو المفروض ، واحتمال أن يكون الدينار الذي وجده من أحدهم مانعة من حجية اليد فيها ، بخلاف الصورة الثانية فإنّ الفرض فيها عدم وضع غيره شيئا فيه ، فليس شي ء مانعا عن حجيّتها.

وبعبارة أوضح : اليد في الصورة الأولى سقطت عن الحجيّة بواسطة الأمارة على الخلاف ، وهي كثرة الداخلين في ذلك المنزل غيره ، فيكون احتمال أن يكون لهم أقوى من احتمال أن يكون له ؛ لأنّه أحدهم وفي عرض أحدهم ، فهذا احتمال مرجوح بل خلاف المتفاهم العرفي. وعلى فرض تساوي هذين الاحتمالين أيضا تسقط عن الدلالة على اعتبارها في المقام.

وأمّا القول بمعارضة هذه الصحيحة بموثّقة إسحاق بن عمّار ، عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة ، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة ، فلم يزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال علیه السلام : « يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها ». قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال علیه السلام « يتصدق بها » (1). حيث حكم الإمام علیه السلام بالتصدّق بها في صورة عدم معرفتهم إيّاها ، الشاملة بإطلاقها ، ما إذا كانوا شاكّين أنّها لهم أم لا ، فليس بشي ء ؛ من جهة أنّه :

ص: 155


1- « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 391 ، ح 1171 ، باب اللقطة والضالة ، ح 11 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 355 ، أبواب اللقطة ، باب 5 ، ح 3.

أولا : عدم معرفة أهل المنزل لها ملازم عادة مع العلم بالعدم ، لا صرف عدم العلم. واحتمال أن يكون لأبيهم أو جدّهم - مع عدم اطّلاعهم - في غاية البعد.

وثانيا : صدق اليد على الدراهم المدفونة خصوصا في تلك المنازل المعدّة للايجار كما في الفرض لا يخلو عن إشكال ، فيكون من قبيل مجهول المالك الذي تعريفه بالنسبة إلى صاحب الدار ممكن ، وبالنسبة إلى غيرهم غير ممكن. فحكم علیه السلام أوّلا بتعريفهم إيّاها فإذا لم يعرفوها يتصدّق بها.

وأمّا القول باعتبار اليد في حق صاحب اليد لو لم يكن مدّع يدّعيه ويزاحمه - حتّى مع علمه بعدم كونه له لأنّه رزق ساقه اللّه إليه - فدعوى بلا برهان وبعيد عن مذاق الفقه والفقاهة. كما أنّ انضمام كونه مدّعيا أنّه له في هذه الصورة - أيّ : فيما إذا كان شاكّا مع عدم وجود مزاحم يزاحمه ومدّع في البين إلى اليد في الحكم بأنّه له ، وإلاّ لو كان ذو اليد شاكّا وساكتا فما بيده ليس له - عجيب لا ينبغي التكلّم فيه.

هذا كلّه لو كان المدرك لهذه القاعدة هي الأخبار ، أمّا لو كان بناء العقلاء - كما ذكرنا - فالإنصاف أنّه لا فرق عندهم في اعتبارها بين أن يكون مدّع في البين أم لا.

الأمر السابع : في أنّه هل يد المسلم أمارة على التذكية والحلّية أم لا؟

فنقول : لا كلام في أماريّة سوق المسلم ويده على التذكية والحلّية إجماعا ونصّا ، وإنّما الكلام وقع في محلّ آخر ، وهو أنّه هل كما أنّ يد المسلم أمارة التذكية ، يد الكافر تكون أمارة الميتية أم لا؟

فذهب جمع إلى أنّها أمارة ، وبعض آخر إلى عدمها.

نعم ما كان في يد الكافر حيث أنّه ليس عليه أمارة التذكية فاستصحاب عدمها يجري ، ويجعله في حكم الميتة أو يدخله في موضوعها ، على القولين في معنى الميتة ، وهذا غير كونها أمارة الميتيّة.

واستدل للقول الأوّل برواية إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح علیه السلام : « لا بأس في

ص: 156

الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام » ، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال علیه السلام : « إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية : أنّها تدلّ بمفهوم الشرط على ثبوت البأس إذا لم تكن الغلبة للمسلمين في تلك الأرض أو ذلك البلد ، ولو كان ذو اليد مشكوك الكفر فضلا عن أن يكون معلوم الكفر.

ولكنّك خبير بأنّ الرواية في مقام بيان المراد من سوق الإسلام وأرضهم ، وأنّ المدار في كون السوق سوق الإسلام هو أن يكون إمّا جميعهم مسلمين أو غالبهم ، فإذا لم يكن كذلك فليس أمارة على التذكية والحلية ، فقهرا يكون فيه البأس بحكم أصالة الحرمة في اللحوم ما لم تكن امارة على التذكية. وذلك لجريان استصحاب عدم التذكية بدون أن يكون حاكم عليه في البين ، فلا ربط لها بأماريّة يد الكافر على الميتيّة أصلا ، ولا بأماريّة سوقهم وأرضهم ، كما أنّ الظاهر من صاحب الجواهر قدس سره استفادة ذلك (2). من جهة أنّه علیه السلام حكم بالبأس عند عدم غلبة المسلمين ، وعند عدم تحقّق سوقهم.

وذلك من جهة أنّ حكمه علیه السلام بالبأس في الصورة المذكورة أعمّ من كون سوقهم أمارة على العدم ومن عدم كونه أمارة ، فكيف يستكشف منه الملزوم الخاص؟

مضافا إلى أنّ إطلاق عدم الغلبة يشمل صورة تساويهما من حيث العدد ، فيكون في هذه الصورة أيضا بأس بحكم المفهوم. ولا وجه حينئذ لعدّها من سوق الكفّار وأرضهم مع تساوي الطائفتين من حيث العدد.

واستدلّ أيضا لذلك القول برواية إسماعيل بن موسى ، عن أبيه : سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال علیه السلام : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا

ص: 157


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 368 ، ح 1532 ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ، ح 64 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 5 ؛ وج 3 ، ص 332 ، أبواب لباس المصلّى ، باب 55 ، ح 3.
2- « جواهر الكلام » ج 6 ، ص 347 ، وج 8 ، ص 54.

رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنّه علیه السلام أمر بالسؤال إذا كان البائع مسلما غير عارف بأنّ ما باعه ميتة أم لا ، وكان هناك في البلد والسوق مشركون يبيعون ذلك ، ومن المحتمل أن يكون هذا المسلم اشترى منهم. ونتيجة السؤال هو أنّه لو تبيّن أنّ البائع الأوّل مشرك ، وهذا البائع الثاني المسلم اشترى من ذلك المشرك يجب الاجتناب عنه ، وإلاّ يلزم أن يكون الأمر بالسؤال لغوا ومعلوم أنّ معنى هذا أنّ يد الكافر أمارة عدم التذكية ؛ وتعارض يد المسلم التي هي أمارة التذكية وتكون مقدّمة عليها ، فيدلّ على اختصاص أماريّة يد المسلم على التذكية بما لا يعلم تقدّم يد الكافر عليها.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان الأمر كذلك فحينئذ ( يمكن أن يقال ) أن حكمة السؤال هو أنّه هل أمارة التذكية هاهنا موجودة أم لا؟ لأنّه على فرض سبق يد الكافر لا أماريّة لهذه اليد التي اشترى منها ، لا أنّ الحكمة وجدان الامارة على الميتيّة كما توهّم.

إن قلت : أيّ داع كان على الفحص مع أنّ اليد يد مسلم ، ولم يعلم الانتقال إليها من يد الكافر.

قلنا : علّق السؤال على رؤيته بيع المشركين لذلك ، وبعبارة أخرى : الظاهر أنّ المراد من هذه الرواية أنّ يد المسلم وسوقهم أمارة إذا لم يكن هناك جماعة من الكفّار يتناولون بيعها وشرائها ، وإلاّ يجب السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف ، أمّا إذا رأيته يصلي فيه فلا يجب السؤال. فما عن الجواهر في هذا المقام - حيث يقول : بل لعلّ

ص: 158


1- « الفقيه » ج 1 ، ص 258 ، باب فيما يصلّي فيه وما لا يصلّي ، ح 792 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 371 ، ح 1544 ، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس ، ح 76 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1072 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 7. وفي السند : « عن سعد بن إسماعيل ، عن أبيه إسماعيل بن عيسى » بدل : إسماعيل بن موسى عن أبيه.

من خبر إسحاق بن عمّار مع خبر إسماعيل يستفاد كون يد الكافر وأرضه أمارة على عدم التذكية (1) - غريب.

هذا أحد الاحتمالات في معنى الرواية ، لكنّه انصافا بعيد.

والصحيح في معناها : أنّ الراوي سأل عن لزوم السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف ، وغير العارف يحتمل له معنيان : أحدهما أنّه غير عارف بالولاية ، ثانيهما أنّه غير عارف بالأحكام ، والإمام علیه السلام يجيبه بأنّه يجب السؤال إذا كان البائع مشركا ، فكأنّه علیه السلام جعل حجيّة يد المسلم مفروغا عنه ، سواء أكان عارفا أو غير عارف ، وأنّه هناك لا يحتاج إلى السؤال عن البائع ، وأثبت السؤال في مورد آخر وهو كون البائع مشركا وكافرا.

ووجه الاستدلال - بناء على هذا المعنى للرواية - هو أنّ السوق مع أنّه سوق المسلم كما أنّه المفروض في صدر الرواية ، حيث يقول الراوي « يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل » وأنّه أمارة على التذكية وحاكم على استصحاب عدم التذكية ، فلا يجب السؤال ومع ذلك أمر علیه السلام بلزوم السؤال إذا كان البائع مشركا ، وليس هذا إلاّ من جهة أماريّة يد الكافر على عدم التذكية ، وتقديمها على سوق المسلم عند التعارض.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان الأمر كذلك فلا معنى لوجوب السؤال بعد قيام الحجّة على العدم ، فنفس الأمر بالسؤال يبطل هذا الاحتمال ، مضافا إلى أنّه لا وجه لتوهّم أماريّة سوق المسلم مع أنّ اليد يد كافر ، بل أماريّتها في مورد كون اليد مشكوكا.

نعم الذي يمكن أن يستدلّ بهذه الرواية عليه بناء على هذا الاحتمال أمران :

أحدهما : حجية اليد ولو كان من غير العارف بالولاية.

ص: 159


1- « جواهر الكلام » ج 8 ، ص 54.

والثاني : حجيّة إخبار ذي اليد في ثبوت التذكية وآثارها ولو كان ذو اليد كافرا ؛ وذلك لأنّه لو لا حجيّته يلزم أن يكون السؤال لغوا ، بل يمكن أن يدّعي الملازمة العرفيّة بين وجوب السؤال وحجيّة قوله خصوصا وأنّ الوجوب وجوب طريقي.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّه لو كان هناك يدان : أحدهما للمسلم ، والأخرى للكافر على مشكوك التذكية ، فبناء على أنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية تتعارض اليدان ، وبعد التساقط يرجع إلى استصحاب عدم التذكية. وأمّا بناء على المختار فيحكم على طبق يد المسلم ولا تعارض أصلا ، فتكون يد المسلم حاكمة على الاستصحاب.

الأمر الثامن : هل يقبل قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أم لا؟ المشهور هو القبول خصوصا بين المتأخّرين ، بل عن الحدائق : ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه ، ولذلك استدل عليه بعضهم بالإجماع (1).

وقد عرفت حال الإجماع في أمثال هذه المقامات ممّا يكون مستند المجمعين معلوما ، وهو تارة سيرة المتشرّعة كما في لسان بعض ، وأخرى أخبار ذكروها في هذا الباب.

ولكن عمدة المستند في هذا الباب هي الأخبار ، كصحيح معاوية بن عمّار ، عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج ، ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعرفه أنّه يشربه على النصف ، فاشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال علیه السلام : « لا تشربه ». قلت : رجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه أنّه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبر أنّ عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال علیه السلام : « نعم » (2). ولا شكّ في أنّ ظاهر هذه الرواية هو حجيّة إخبار ذي اليد

ص: 160


1- « الحدائق الناضرة » ج 5 ، ص 252.
2- « الكافي » ج 6 ، ص 421 ، باب الطلاء ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 122 ، ح 526 ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح 261. « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 234 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 7 ، ح 4.

ولو كان من غير أهل المعرفة إذا لم يكن في البين ما يوهن صحّة إخباره ، ولا يعارضها ما في صدر الرواية من قوله علیه السلام « لا تشربه » لأنّ شربه على النصف كما - هو مفروض السؤال - أسقط إخباره عن الحجيّة والاعتبار ، ولا يدلّ على أنّ إخباره من حيث أنّه إخبار ذي اليد ليس بحجّة حتّى يكون منافيا للذيل.

نعم صحيح معاوية بن وهب - عن البختج « إذا كان هو يخضب الإناء وقال صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فاشربه » (1) - ظاهره أنّه يحتاج إلى ضمّ أمارة أخرى إلى الأخبار حتّى تكون حجّة وهي كونه بحيث يخضب الإناء.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التقييد أيضا يرجع إلى ما ذكرنا في صحيح معاوية بن عمّار من عدم كون موهن لإخباره ، ولا شكّ في أنّ عدم خضبه للإناء موهن لإخباره بذهاب الثلاثين ؛ لوجود ملازمة عاديّة بين ذهاب الثلاثين وبين خضبه للإناء.

نعم يدلّ موثّق عمّار فيمن يأتي بالشراب ويقول هو مطبوخ على الثلث ، فقال علیه السلام : « إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب » (2). وهكذا صحيح ابن جعفر : « لا يصدّق إلاّ أن يكون مسلما عارفا » (3). على اختصاص الاعتبار بما إذا كان ذو اليد من أهل الإيمان ، بل الأوّل منهما زائدا على ذلك بما إذا كان ورعا.

ولكن الإنصاف أن الصحيحة صريحة ونص في اعتبار قول من ليس من أهل المعرفة فلا مناص إلاّ من حمل هاتين الروايتين على كراهة تصديقه والعمل على طبق إخباره فيما إذا لم يكن ذو اليد مؤمنا ورعا.

ولا يخفى أنّ دلالة هذه الأخبار على حجيّة إخبار ذي اليد في الطهارة والنجاسة

ص: 161


1- « الكافي » ج 6 ، ص 420 ، باب الطلاء ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 121 ، ح 523 ، باب الذبائح والأطعمة ومار كلّ من ذلك. ، ح 358 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17. ص 234 ، أبواب الأشربة المحرمة ، باب 7 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 116 ، ح 502 ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح 237 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17. ص 235 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 7 ، ح 6.
3- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 122 ، ح 528 ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح 263 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17. ص 235 ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب 7 ، ح 7.

مبني على نجاسة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلاثين ، وإلاّ فلا يدلّ إلاّ على حجيّة إخباره بالنسبة إلى الحليّة ، لا بالنسبة إلى الطهارة التي هي محلّ الكلام.

هذا الذي ذكرنا من الأخبار في حجيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى طهارة ما في يده ، مضافا إلى ما ذكرناه في خبر إسماعيل بن موسى عن أبيه ، سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ فقال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (1). من أنّه ربما يدلّ حجيّة إخبار ذي اليد ولو كان كافرا ، فضلا عن أن يكون مسلما.

وأمّا الاستدلال على اعتبار إخبار ذي اليد بالسيرة العمليّة من المسلمين المتديّنين الملتزمين بالشريعة - لا من العوام الذين لا يبالون بمخالفة الشريعة والدين ويتّبعون كلّ ناعق - فإنّه في محلّه.

ولا شكّ في أنّ المتديّنين إذا أخبر ذو اليد بطهارة طعام يأكلونه ولو كان مستصحب النجاسة ، وكذلك يجتنبون عن أكله بعد إخباره بالنجاسة ولو كان مستصحب الطهارة ، أو مجرى قاعدة الطهارة.

ومعلوم أنّ مثل هذه السيرة والبناء العملي من المتديّنين بما هم متديّنون كاشفة عن الحكم الشرعي ورضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى زمان المعصوم علیه السلام ، ومن المستبعد جدّا استقرار سيرتهم بدون أخذ ذلك منهم علیهم السلام ، وعلى فرض وقوع ذلك يجب عليه الردع إظهارا للحقّ وإزاحة للباطل ، وحيث لا ردع في المقام فتدلّ على اعتباره.

الأمر التاسع : في قبول ذي اليد وإقراره لأحد المتنازعين بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد ويجعل الطرف الآخر مدّعيا.

ص: 162


1- تقدّم تخريجه في ص 158.

وهذا الحكم مسلّم بين الفقهاء ، وإنّما الكلام في وجهه.

فقال بعض : من جهة القاعدة المعروفة ، وهي « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فإذا أقرّ الغاصب أو غيره ممّن يكون المال بيده لشخص آخر فحيث أنّ هذا الإقرار عليه ، أنفذه الشارع عليه.

ولكن أنت خبير بأنّ مفاد هذه القاعدة ليس إلاّ نفوذ الإقرار على نفس المقرّ لا على غيره ، فإذا أقرّ ذو اليد لشخص بما في يده فهذا الإقرار له جهتان : جهة نفي كون المال لنفسه - وهي عليه ونافذ ، ويؤخذ المال منه - وجهة إثبات للمقرّ له ، وهذه ليست عليه ، بل على ذلك الطرف الآخر فلا يمكن إنفاذها بهذه القاعدة.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظرف لو كان متعلّقا بالإقرار يكون معنى القاعدة أنّ الإقرار الذي صدر من المقرّ وكان عليه فهو جائز ونافذ مطلقا ، سواء أكان بالنسبة إلى الغير له أو عليه. فلو أقرّ ذو اليد بأنّ ما في يده ملك لفلان الذي هو أحد المتنازعين ، فهذا الإقرار نافذ على ذلك الطرف الآخر ولو كان عليه ، لا له ؛ لأنّه إقرار على المقرّ فيكون نافذا وجائزا.

فجوابه أوّلا : أنّ الظاهر من هذا الكلام أنّ الظرف متعلّق بجائز لا بالإقرار ، ووجه تقديمه عليه إفادة الحصر ، لأنّ تقديم ما هو حقّه التأخير يفيد الحصر ، بمعنى أنّ نفوذ إقرار العقلاء وجوازه يكون على أنفسهم لا على غيرهم ، فتأمّل.

وثانيا : على فرض أن يكون متعلّقا بالإقرار لا شكّ في أنّه يضيق الموضوع ويخصّصه ، فيكون حكم الشارع بالنفوذ في إحدى الحصّتين من الإقرار لا على الطبيعة المطلقة ، فتكون النتيجة أنّ الإقرار الذي على المقرّ بما أنّه عليه نافذ وجائز ، فحينئذ إذا كان في الإقرار جهتان : جهة على المقرّ وجهة أخرى ليس عليه ، فالذي يكون نافذا هي الجهة الأولى.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ العاقل لا يقرّ على ضرر نفسه بلا جهة وكذبا ، فإذا أقرّ

ص: 163

كذلك لا بدّ وأن يكون بداعي بيان الواقع وإظهار الحقّ هذا بالنسبة إلى الجهة التي عليه واضح ، وأمّا بالنسبة إلى الجهة التي ليست عليه ربما يكون الإقرار لدواعي عقلائيّة غير بيان الواقع والإخبار عنه ، فليس في الإقرار أماريّة من هذه الجهة.

وثالثا : قيل إنّ الإقرار لا يطلق عرفا إلاّ على ما يكون على المقرّ ، وأمّا الإخبار الذي ليس على المقرّ سواء أكان له أو لم يكن له ولا عليه لا يسمّى إقرارا ، فبناء على هذا لا يبقى مجال لإرجاع الظرف إلى الإقرار ؛ لأنّه مأخوذ في ماهيّته فيكون التقييد به من قبيل تقييد الشي ء بما هو ذاتي له ، كتقييد الإنسان مثلا بكونه ناطقا فلا مناص إلاّ عن تعلّقه بجائز لا بالإقرار.

وقال بعض آخر : من جهة قاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

بيان ذلك أنّ ذا اليد مالك لأن يملك هذا المال الذي في يده للمقرّ له ، ببيع أو صلح أو هبة أو نحو ذلك ، فيملك الإقرار بأنّه له بهذه القاعدة.

قلت : هذه مغالطة واضحة لأنّه فرق واضح بين أن يقرّ بتمليكه إيّاه ، وبين أن يعترف أنّه له ، والذي هو - أي ذو اليد - مالك هو تمليكه إيّاه ويكون مستوليا عليه ، لا على أنّ هذا المال له.

وهنا وجه ثالث : وهو أنّ اليد أمارة على أنّ هذا الذي في يده له بالدلالة المطابقيّة ، وأيضا أمارة على نفي كونه لغيره بالدلالة الالتزاميّة ، وأماريّتها تسقط بالنسبة إلى المدلول المطابقي إذا أقرّ لشخص آخر ، وكذا تسقط أماريّتها على نفي الملكية للمقرّ له بسبب إقراره له. وأمّا بالنسبة إلى ما عدا هذين فأماريّتها باقية على حالها ، فإذا أقرّ ذو اليد لأحد المتنازعين المدّعيين لما في يده يسقط اعتبار اليد بالنسبة إلى نفسه والمقرّ له بواسطة إقراره ؛ لأنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد فيما إذا لم يكن إقرار من ذي اليد على خلاف أماريّة يده. وأمّا بالنسبة إلى غيرهما تبقى أماريّته على النفي ، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكيّة عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقرّ له ، ومعلوم أنّ المال لا يبقى

ص: 164

بلا مالك.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقينا ، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له فلا بدّ وأن يكون له ، فيكون هو المنكر وطرفه المدّعي وهو المدّعى في المقام ، وكون المقرّ له هو المنكر وطرفه المدعي يكون هكذا بناء على ما هو التحقيق من أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا للحجّة الفعلية.

هذا ما أفاده أستاذنا المحقق العراقي قدس سره وهو وإن كان في غاية اللطافة والدقة والمتانة ، لكن يرد عليه : أنّ دلالة اليد على نفي الملكيّة عمّن عدا ذي اليد كان من باب دلالة الالتزام ؛ لأنّ مدلولها ابتداء وبالمطابقة ملكيّة ما في اليد لذيها ، ولازم كونه ملكا لذي اليد نفيه عن غيره أيّ شخص كان ، فإذا بطل أماريّتها بالنسبة إلى الملزوم والمعنى المطابقي لا يبقى مجال لدلالتها على المعنى الالتزامي.

وقياسه بالخبرين المتعارضين في غير محلّه لأنّه هناك في الحقيقة أخبار متعدّدة ، فكما أخبر بالمعنى المطابقي كذلك أخبر بالمعنى الالتزامي. فدليل « صدّق العادل » يشملها جميعا في عرض واحد. ولو كان طوليّة في البين فبين الموضوعات لدليل حجيّة الأخبار ، فبعد تحقق الموضوع - ولو كان في طول إخبار الملزوم وبعد تحقّقه - يكون مشمولا لدليل الحجيّة في عرض مشموليّة الإخبار بالملزوم.

وأمّا في ما نحن فيه فلا يجري هذا الكلام أصلا ؛ لأنّه ليس هنا أمارات متعدّدة طوليّة حتّى تكون مشمولة لدليل الحجيّة في عرض واحد ، ويكون سقوط حجيّة بعضها غير مضرّ بحجيّة البعض الآخر ، بل ليس هاهنا إلاّ أمارة واحدة ، وهي اليد التي تكون أمارة على ملكية ما فيها لذيها. غاية الأمر حيث أنّ مثبتات الأمارات حجّية فكما أنّ اليد تدلّ على ملكيّة ما فيها لذيها ، كذلك تدلّ بالالتزام على نفيها عن غير ذي اليد ، فإذا بطلت هذه الدلالة المطابقيّة بإقراره لغيره لا يبقى مجال للدلالة التابعة

ص: 165

لها. وأين هذا من باب تعارض الخبرين ، وحجيّتهما في نفي الثالث بعد سقوط كليهما عن الحجيّة في مدلولهما المطابقي بواسطة المعارضة؟

وحاصل الفرق بين المقامين أنّ العامّ المشمول لحكم من الأحكام الانحلاليّة لو كان بعض أفراده علّة لوجود فرد آخر من ذلك العامّ ؛ فشمول الحكم لذلك الفرد المعلول في عرض شموله لعلّته ، ولذلك لو خصّص العامّ بالنسبة إلى العلّة لا ينتفي الحكم عن المعلول. نعم لو انتفى ذات العلّة ينتفي ذات المعلول ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وفرضنا أنّ وجود زيد العالم علّة لوجود عمرو العالم ، وأخرج زيد العالم عن تحت عموم « أكرم العلماء » بالتخصيص ، فخروجه غير مضرّ بشمول عموم الحكم لعمرو العالم الذي هو المعلول. وباب الخبرين المتعارضين من هذا القبيل ؛ لأنّ الخبرين علّة لوجود خبر آخر الذي هو لازم لهما ، وهو الاخبار بنفي الثالث ؛ فسقوطهما عن الحجيّة بواسطة المعارضة لا يوجب سقوط الخبر المعلول لهما عن الحجيّة.

لكن كلّ ذلك تبعيد للمسافة ، مضافا إلى أنّها دعا وبلا بيّنة ولا برهان ؛ لأنّ أماريّة اليد من باب بناء العقلاء ، فإن كان بناء العقلاء في مورد إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين على إثبات الملكيّة له ، فلا يحتاج إلى هذه الدعاوي من سقوط اليد عن الحجيّة في مدلولها المطابقي بواسطة ذلك الإقرار ، وبقاء حجيّتها بالنسبة إلى مدلولها الالتزامي ، أي نفي الملكيّة عن غير المقر له. وإن لم يكن مثل هذا البناء من طرفهم فلا يفيد هذه الدعاوي ، بل تكون دعاوي بلا دليل على إثباتها.

فالأحسن أن يقال : إنّ الدليل على هذا الفتوى المسلّمة بين الأصحاب هو بناء العقلاء على أنّه لو أقرّ ذو اليد على أنّ هذا المال لزيد مثلا يكون له ، سواء أكان منازع ومن يدّعيه في مقابله أم لم يكن.

الأمر العاشر : فيما إذا اعترف ذو اليد لشخص بتمام ما في يده ، ثمَّ اعترف لشخص آخر أيضا كذلك ، والمفروض أنّ ما في يده عين شخصي وقع الإقرار عليها من ذي

ص: 166

اليد مرّتين لشخصين ، فنقول :

تارة : يكون الإقرار الثاني بعد الإقرار الأوّل وفي كلام منفصل عن الإقرار الأوّل بمعنى أنّ الإقرار الأوّل تمَّ وخلص ، ثمَّ بعد زمان وفي كلام آخر بل وفي مجلس آخر أقر لشخص آخر بعين ذلك المال.

وأخرى : يعقب الإقرار الأوّل بالإقرار الثاني في كلام واحد وبصورة الإضراب ، كما أنّه لو قال : هذه العين الشخصي لزيد بل لعمرو.

أمّا في الصورة الأولى فالظاهر عدم نفوذ الإقرار الثاني ؛ لأنه وقع على مال الغير ، ولا تجري فيه قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » لأنّها - أي تلك العين - بواسطة الإقرار الأوّل صار ملكا للغير - أي المقرّ له فالإقرار الثاني إقرار من الأجنبي بالنسبة إلى مال ، فلا أثر لهذا الإقرار.

ولكن يمكن أن يقال : فرق بين المقامين ؛ لأنّ الأجنبي إذا أقرّ بما هو تحت يد شخص لشخص آخر لا يشمله قاعدة الإقرار ؛ لأنّه ليس عليه بل على غيره الذي هو ذو اليد ، بخلاف ما نحن فيه ؛ لأنّ إقراره الثاني أيضا يكون على ضرره ، من جهة دلالته بالالتزام على أنّه أتلف على المقرّ له الثاني هذا المال بإقراره الأوّل ، فتشمله قاعدة الإقرار. غاية الأمر لا يمكن أخذه بإقراره بالنسبة إلى نفس العين ، لأنّه من هذه الجهة ليس عليه بل على المقرّ له الأوّل ، فليس بنافذ. وأمّا من جهة ماليّته - أي مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميا - فيكون إقراره عليه ويؤخذ به. ومعنى هذا أنّه يغرم للثاني بمثله أو بقيمته لأجل وقوع يده على مال الغير ثمَّ إتلافه عليه بإقراره الأوّل.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه في الصورة الثانية أيضا يعطي العين للمقرّ له الأوّل ، ويغرم للثاني بالمثل القيمة بطريق أولى كما هو المشهور ، بل ادّعى جماعة أنّه لا خلاف فيه.

وذلك لأنّه بالإضراب عدل عن إقراره الأوّل ولا يسمع منه ؛ لأنّه إنكار بعد

ص: 167

الإقرار ، فلا بدّ من ترتيب آثار الإقرار الأوّل بحكم قاعدة الإقرار ، ويعطي العين للمقرّ له الأوّل ، والغرامة بالمثل أو القيمة للثاني ؛ لما ذكرنا في الصورة الأولى عينا.

ووجه الأولويّة ها هنا : أنّه هناك كان يمكن أن يقال : إنّه بعد إخراج المال عن تحت يده بإقراره للمقرّ له الأوّل في كلام منفصل عن هذا الإقرار الثاني ، يكون الإقرار الثاني من قبيل إقرار الأجنبي ولغوا ، أمّا ها هنا فلا يمكن أن يقال مثل هذه المقالة ؛ لأنّ المفروض أنّ المال بعد في يده ، والكلام متّصل وله أن يلحق بكلامه ما شاء من إضراب أو غير ذلك.

وأمّا ما في الدروس (1) من العلم بانحصار الحقّ فيهما - أي المقرّ له الأوّل والثاني ، وحيث أنّ ذا اليد أقرّ لكلّ واحد منهما فأسقط يده عن الاعتبار - فيدخل في مسألة التداعي والتحالف.

فقد أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بأنّ احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبّد بظاهر قوله ؛ لقوله علیه السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (2) فيكون كلا الإقرارين نافذين ، غاية الأمر يعطي العين لأحدهما أي الأوّل لما ذكرنا ، والمثل أو القيمة للثاني (3).

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّه لو لم يكن إجماع في البين يمكن أن يقال : إن حال هذين الإقرارين حال سائر الأمارتين المتعارضتين ، فيتساقطان للعلم بكذب أحدهما ، اللّهمّ إلاّ أن يقال في خصوص الإقرار بالسببيّة والموضوعية ، وهو بعيد غاية البعد. فالنتيجة كما قال في الدروس هو العلم بانحصار الحقّ فيهما بعد تساقط الإقرارين ، للعلم بكذب أحدهما وسقوط اليد عن الاعتبار ، فيكون من باب التداعي والنتيجة التحالف والتنصيف ، إلاّ أن نقول بالموضوعيّة في باب الإقرار ما لم يكن العلم التفصيلي

ص: 168


1- « الدروس » ج 3 ، ص 132 ، كتاب الإقرار ، درس (223).
2- « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 111 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 2 ؛ « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ؛ وج 2 ، ص 257 ، ح 5 ؛ وج 3 ، ص 442 ، ح 5.
3- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 131.

على خلاف شخص الإقرار. وأمّا العلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين لا ينافي مع الأخذ بكلّ واحد منهما. وهذا القول لا يخلو من الغرابة.

ثمَّ إنّه من فروع هذه المسألة أنّه لو قال : إنّ هذا المال لزيد بل لعمرو بل لخالد ، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لعمرو واخرى كذلك لخالد.

ولو قال : لزيد بل لعمرو وخالد ، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لهما أي لعمرو وخالد بحيث يشتركان في تلك القيمة أو المثل.

ولو قال : لزيد وعمرو بل لخالد ، يعطي العين لزيد وعمرو ويشتركان فيها ، والقيمة أو المثل لخالد وحده.

ولو قال : لزيد وعمرو وبل لخالد ، قال صاحب الجواهر قدس سره يعطي لخالد الثلث ويحتمل النصف ؛ لأنّ « بل » للإضراب ، والعطف يقتضي التشريك مع أحدهما ، والأوّل ، أظهر (1).

وفي ما أفاده كلام يطول ذكره.

ثمَّ إنّه لو أقرّ أوّلا بأنّي غصبته من زيد ، ثمَّ عقّبه بقوله : بل من عمرو في كلام متّصل ، كان بصورة الإضراب أم لا ، فالمشهور لم يفرّقوا بين هذه الصورة وبين الصورة السابقة ، أي فيما لم تكن بصورة الغصبيّة ، بل كان الإقرار أنّه له ، وحكموا في كلّ واحدة من الصورتين بإعطاء العين للمقرّ له الأوّل وقيمتها أو مثلها للثاني.

نعم استشكل العلاّمة قدس سره في القواعد على هذا الحكم بأنّه فرق بينهما بأنّ الغصب لازم أعمّ بالنسبة إلى الملكيّة ؛ لأنّه يمكن أن يكون من المالك ويمكن أن يكون ممّن عنده أمانة من قبل المالك ، كالمستأجر والمستعير والودعي وأمثالهم. والإقرار باللازم الأعمّ لا يثبت الملزوم الخاصّ ، فليس إقرارا بالملكيّة حتّى يترتّب عليه آثارها ، من إعطاء العين للأوّل والغرامة للثاني ، نعم في الإقرار الأوّل حيث أنّه لا معارض ولا

ص: 169


1- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 132.

منافي له فيلزم بإقراره ويعطي العين للمقرّ له وأمّا الإقرار الثاني حيث أنّه بعد إتلاف العين بالإقرار الأوّل لو كان إقرارا بالملكيّة فحينئذ حيث أنّ مرجعه إلى الإقرار بإتلاف مال الغير فيضمن ، أمّا لو لم يكن إقرارا بالملكيّة فلما ذا يضمن؟ (1).

واستشكل عليه صاحب الجواهر قدس سره بأنّ مثل هذا الإقرار لو يثبت الملكيّة فلا بدّ من إعطاء الغرامة للثاني ، وإلاّ لا وجه لإعطاء العين للأوّل (2).

ولكن أنت خبير بأنّ الفرق بينهما في غاية الوضوح ؛ لأنّه في الإقرار الأوّل كما بيّنّا لا يخلو الأمر إمّا يكون من المالك أو من المأذون من قبل المالك ، وعلى كلّ واحد من التقديرين يجب ردّ العين - ما دامت باقية - إلى المقرّ له. وأمّا في الإقرار الثاني فلا أثر له إلى إعطاء الغرامة والضمان - أي البدل الواقعي في التلف الواقعي - والحيلولة والغرامة والضمان لا معنى لهما لغير المالك ، والمفروض أنّه في الإقرار الثاني ما أقرّ بمالكيّة المقرّ له ، بل اللازم الأعمّ الذي هو الغصب ، فلا يثبت به الملزوم الخاصّ الذي هي الملكيّة ، فما ذكره العلاّمة قدس سره في القواعد في غاية الجودة والمتانة.

الأمر الحادي عشر : هل يجوز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد أم لا؟

فنقول : تارة نتكلّم في هذا الأمر باعتبار القواعد الأوّليّة ، وأخرى باعتبار الأخبار الواردة في هذا الباب.

أمّا الأوّل فحيث تقدّم منا في مبحث حجيّة القطع قيام الأمارات والأصول التنزيليّة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ، وفي موضوع جواز الحلف ووجوب أداء الشهادة القطع مأخوذ على نحو الطريقيّة ، والكاشفيّة لا الصفتيّة ، بل قلنا إنّنا لم نجد في الشرعيّات موردا يكون القطع مأخوذا في موضوعه على نحو الصفتية ، وقد بيّنا أنّ اليد أمارة فيجوز الحلف والشهادة بالملكيّة مستندا إلى اليد التي هي من الأمارات ، هذا بحسب القواعد الأوّليّة.

ص: 170


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 286.
2- « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 133.

وأمّا بحسب الأخبار الواردة في هذا المقام ، فمن جملة ما يدلّ على الجواز رواية حفص بن غياث ، وفيها : أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن اشهد له؟ قال : « نعم ». فقال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره. فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال علیه السلام : « لعله لغيره ، فمن أين جائز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثمَّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه؟ ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك - ثمَّ قال علیه السلام : - ولو لم يجز هذا لما قام للمسلمين سوق » (1). حيث أنّ هذه الرواية صريحة في جواز الشهادة مستندا إلى اليد ، بل وتدلّ على جواز الحلف أيضا مستندا إليها ، بل يستنكر عدم جواز الشهادة مستندا الى اليد ، وأنّه يلزم منه عدم قيام سوق للمسلمين واختلال النظام.

وأمّا الإشكال على الرواية من ناحية ضعف السند.

ففيه أوّلا : أنّ بعض المشايخ ذكر أنّ كتاب حفص بن غياث القاضي الكوفي معتمد ولو هو عامي.

وثانيا : ضعفها منجبر بالشهرة العظيمة ، حتّى ادّعى بعضهم الإجماع في المسألة ، وإن كان الاستدلال في مثل هذه المسألة التي لها مدارك من الروايات وغيرها بالإجماع لا وجه.

وقد ذكرنا هذا الإشكال على الإجماعات المنقولة في موارد متعدّدة ، وسائر في أغلب الإجماعات.

ثمَّ إنّه ذكر بعض السادة قدس سره وجه آخر لجواز الشهادة مستندا إلى اليد ، حاصله : أنّ الملكيّة أمر ينتزعها العقلاء من الاستيلاء الخارجي لشخص على مال والشارع امضى هذه الطريقة ، ولا شكّ في أنّ الأمر الانتزاعي معلوميّة بمعلوميّة منشأ انتزاعه ،

ص: 171


1- « الكافي » ج 7 ، ص 387 ، باب ( من كتاب الشهادات ) ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 51 ، باب فيمن يجب ردّ شهادته. ، ح 3307 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 261 ، ح 695 ، باب البيّنات ، ح 100 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 215 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 25 ، ح 2.

فإذا كان منشأ انتزاعه من الأمور المحسوسة كما فيما نحن فيه ، فإنّ الاستيلاء الخارجي الذي هو سبب لانتزاع الملكيّة التي هي إضافة خاصّة بين المالك والمملوك أمر محسوس ، فإذا أدرك السبب حسّا يجوز أن يشهد بالمسبّب.

كما أنّه في سائر الموارد إذا أدرك بالحسّ آثار العدالة أو الاجتهاد - وهما من الحالات والملكات النفسانيّة - يجوز أن يشهد بهما بواسطة العلم بهذا الأثر المحسوس ، فليكن الأمر في الملكيّة ومنشأ انتزاعها - أي الاستيلاء الخارجي - أيضا كذلك.

وبعبارة أخرى : الملكيّة تنتزع عن إحاطة ذي اليد بالشي ء خارجا ، لأنّها عبارة عن إضافة اعتباريّة بين المالك والمملوك ، حاصلة عن استيلاء الشخص وإحاطته خارجا على شي ء قابل لأن يتملّك ، فإذا كان منشأ انتزاعه محسوسا ومشاهدا فقهرا يترتّب المنتزع على منشأ انتزاعه ، فيجوز الشهادة بمقتضى إحساسه ومشاهدته سبب ذلك الأمر الانتزاعي ، أي تلك الإضافة الاعتباريّة ، ضرورة معلوميّة الأمر الانتزاعي بمعلوميّة منشأ انتزاعه.

ولذلك يجوز الشهادة بالملك المطلق ، بمشاهدة أسبابه الشرعيّة كالبيع ونحوه ، مع أنّه من الممكن أن لا يكون ملكا للبائع ، فلا يكون ملكا للمشتري.

والسرّ في ذلك كلّه : هو أنّ السبب في الجميع محسوس ومعلوم بالمشاهدة ، وترتّب المسبّب على السبب علمي.

إن قلت : إحاطة ذي اليد موجب لاختصاص المحاط به فيما إذا لم تكن تلك الإحاطة واقعة على مال الغير ، وإلاّ إذا وقعت على مال الغير فلا يكون سببا لانتزاع الملكيّة ، وذلك الاختصاص الخاصّ ، بل تكون الإحاطة لأحد أمرين : إمّا كونه غاصبا أو كونه أمينا من قبل اللّه أو من قبل المالك.

قلنا : هذا الاحتمال مدفوع بالأصل. هذا حاصل ما أفاده قدس سره .

ولكن أنت خبير بأنّ اليد ليست سببا للملكية ، لا عند العرف ، ولا عند الشرع.

ص: 172

نعم هو سبب إثباتي إذا قلنا بحجيّتها وأماريّتها ، وهذا المعنى موجود في كلّ أمارة عند العقلاء أو الشرع ، ولا اختصاص له باليد أصلا.

والحاصل : أنّ الملكيّة مجعولة في عالم الاعتبار بجعل إمضائي أو إحداثي من قبل الشارع حسب اختلاف الموارد ، فالسبب الموجد لها هو الشارع ، أو العرف والعقلاء وهذا المعنى سار في كلّ أمر اعتباري.

نعم قد يطلق السبب والشرط عند الفقهاء مسامحة على بعض قيود الموضوع ، أو على تمام ما هو الموضوع ، كقولهم : إنّ الاستطاعة سبب أو شرط لوجوب الحجّ ، والعقد الكذائي سبب للملكيّة أو الزوجية ، والإفطار أو الظهار سبب لوجوب الكفّارة ، وهكذا.

ولكن هذا مع أنّه أيضا ليس صحيحا في حدّ نفسه - لأنّ هذه الأمور إمّا من قيود موضوع ذلك الحكم الذي يسمّى بالمسبّب ، أو تمام موضوعه ، وليست من باب الأسباب والمسبّبات - لا ربط له أيضا بمقامنا ؛ لأنّ اليد ليست من قيود موضوع الملكيّة ولا تمام موضوعها ، بل هي سبب إثباتي لها بواسطة الغلبة عند العرف والعقلاء ، والشارع أمضى طريقيّته ، وأين هذا المعنى من كونها موجبة لانتزاع الملكيّة في موردها؟!

فقد ظهر ممّا ذكرنا جواز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد ، لقيامها مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ولا فرق بين اليد وسائر الأمارات من هذه الجهة ، لا لما ذكره من أنّ اليد منشأ انتزاع الملكيّة فاحساسها كأنّه إحساس الملكيّة.

الجهة السادسة : في تعارضها مع الأمارات والأصول

وحيث تقدّم أنّها أمارة ، وأيضا تقدّم أنّ كلّ أمارة مقدّم على كلّ أصل من

ص: 173

الأصول بالحكومة ، وإن كانت الأمارة من أضعف الأمارات ، والأصل من أقوى الأصول وكان تنزيليّا كالاستصحاب.

وذكرنا ما هو السرّ في ذلك وأنّه حيث أخذ الشكّ في موضوع كلّ أصل ولو كان محرزا وتنزيليّا مثل الاستصحاب ، وحجيّة الأمارات - بناء على ما هو التحقيق - من باب تتميم الكشف ، فلا محالة يرفع موضوع الأصل تعبّدا ، وهذا معنى الحكومة كما شرحناها في محلّها مفصلا ، (1) فتقديم اليد على الأصول من جهة كونها أمارة ، وهذا واضح.

وأمّا بالنسبة إلى سائر الأمارات غير البيّنة والإقرار فلا بدّ وأن يلاحظ أوّلا أنّ أماريّتها عند العقلاء هل هي في ظرف عدم كون تلك الأمارات على خلافها أم لا؟

فان كانت مقيّدة بعدمها على خلافها فتسقط عن الأماريّة عند وجود تلك الأمارة الأخرى ، مثلا لو كان الشياع على وقفيّة دار أو دكّان أو محلّ آخر ، ولكن ذو اليد يدّعي الملكيّة ، فبناء على أماريّة الشياع فإن كانت أماريّة اليد على الملكيّة عند العقلاء مقيّدة بعدم الشياع على خلافه ، فقهرا تسقط عن الحجيّة.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فقهرا يتعارضان ويؤخذ بأقواهما كشفا ، وإلاّ فيتساقطان.

وأمّا بالنسبة إلى إقراره على خلاف مقتضى يده ، كما إذا أقرّ بأنّ هذا المال في يدي ليس لي ، أو أقرّ بأنّه لفلان ، فلا شكّ في أنّ إقراره على نفسه نافذ وتسقط يده عن الاعتبار بالنسبة إلى ملكيّة نفسه ، وقد تقدّم شطر من الكلام في هذا الباب.

وأمّا بالنسبة إلى البيّنة فمن المقطوع تقدّم البيّنة على اليد ، بل حجيّة البيّنة في قبال ذي اليد خصوصا في باب الدعاوي من المسلّمات عند جميع المسلمين ؛ لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (2) ، وعمله صلی اللّه علیه و آله ، وعمل أصحابه ، وعمل

ص: 174


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.
2- تقدّم تخريجه في ص 138 ، رقم (1).

جميع المسلمين على هذا من أقدم العصور.

الجهة السابعة

في أنّه إذا تعدّدت الأيدي على مال واحد فهل أنّها أيضا أمارة على الملكيّة أم لا ، بل أماريّتها مخصوصة بما إذا كانت واحدة ، وإلاّ إذا تعدّدت فكلّ واحدة منها تنفي اعتبار الآخر ؛ لأنّ كلّ واحدة منها تكشف عن ملكيّة تمام ما فيها لذيها ، فيتعارضان ويتساقطان؟

والمشهور بين الفقهاء أنّه إذا تعددت الأيدي على مال واحد فتكون أمارة على ملكيّة كسر من ذلك المال الذي تحت أيديهم بنسبة تلك الأيدي على ذلك المال ، مثلا لو كان ذو اليد اثنين فكلّ يد أمارة على النصف ، ولو كانوا ثلاثة تكون كلّ واحدة من تلك الأيدي أمارة على الثلث ، وهكذا.

وقد استشكل على هذا بأنّ مقتضى حجيّة اليد وأماريّتها إثبات ملكيّة تمام ما في يده ، فالنتيجة كما ذكرنا هي التعارض والتساقط والرجوع إلى الأصول العمليّة إن لم تكن أمارة أخرى في البين ، فلا وجه لإثباتها كسرا ممّا في يده على الترتيب المذكور.

وإن لم تكن حجّة في الفرض المذكور ، أي في صورة تعدّد الأيدي فأيضا لا معنى لإثباتها الكسر المذكور ، فعلى كلّ حال الذي تقتضيه القواعد الأوّليّة خلاف فتوى المشهور.

وقد تخلص بعض عن هذا الإشكال بأنّه : إذا تعدّدت الأيدي على مال واحد فلا يمكن أن يكون كلّ واحدة منها يدا تامّة مستقلّة على جميع ذلك المال ؛ لأنّ اليد كما ذكرنا عبارة عن الاستيلاء الخارجي ، والاستيلاء الخارجي التامّ لا يمكن مع التعدّد ؛ لأنّ الاستيلاء التامّ المستقلّ هي السلطنة على جميع التصرّفات ومنع الغير أيضا عن جميع التصرّفات ، ومعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يمكن تحقّقه بالنسبة إلى المتعدّد ، لأنّه

ص: 175

لازم ثبوته لكلّ واحد منهما رفعه عن الآخر.

ففي صورة تعدّد الأيدي لا بدّ وأن نقول بأحد أمرين :

أحدهما : أنّ كلّ يد من تلك الأيدي يد تامّة مستقلّة ولكن على الكسر المشاع بنسبة تعدّد الأيدي ، فإن كانا اثنين فالكسر المشاع لكلّ واحد منهما النصف ، وإن كانوا ثلاثة فالثلث ، وهكذا.

ثانيهما : أنّ اليد لكلّ واحد من الأيدي وإن كانت على المجموع ولكن ليست يدا تامة مستقلّة ، بل يد ناقصة على المجموع ، ولكن عند العقلاء يحسب كاليد التامّة المستقلّة على الكسر المشاع ، ولكن الذي يظهر من بناء العقلاء في مثل هذه الموارد أنّهم يرونهم شركاء شركة قهريّة أو اختياريّة ، ويحكمون لكلّ واحد منهم بالكسر المشاع ، فكأنّه يرون أنّ كل واحد من تلك الأيدي يد تامّة مستقلّة على الكسر المشاع.

وأمّا حديث أنّ اليد عبارة عن الاستيلاء الخارجي - وهو إمّا يكون على مجموع هذا المال الخارجي ، أو على جزء معيّن من أجزائه ، وأمّا الجزء المشاع الذي عبّرنا عنه بالكسر المشاع فلا معنى لوقوعه تحتها إلاّ في ضمن وقوع الكل - فلا أساس له ؛ لما ذكرنا من أنّ العقلاء يرون أنّ الشركاء ذوي الأيدي على مال معين كدار ، أو دكّان ، أو خان ، أو حمام ، أو غير ذلك كلّ واحد منهم زائد وسلطان على الكسر المشاع على ذلك المال ، فتكون يده أمارة على ملكيّة ذاك الكسر المشاع ، ولذلك إذا كانا اثنين وتصرّف أحدهما في النصف المشاع بالبيع أو الهبة أو غير ذلك لا يرونه متعدّيا ، ويقولون بأنّه تصرّف في ماله.

وأمّا لو باع أو وهب أكثر من النصف يرونه متعدّيا ، إلاّ أن يثبت أنّ ملكه أكثر بإقرار من الشريك أو ببيّنة أو بنحو ذلك من الأدلّة ، وكذلك يرونه متعدّيا لو باع أو وهب نصفه المعيّن ، وكلّ ذلك آية أنّ اليد والاستيلاء على الكسر المشاع ، لا على

ص: 176

الجزء المعيّن ، ولا على المجموع ؛ فإذن كانت الأيدي متعدّدة.

وأمّا الفرق بين الكسر المشاع والكلّي في المعيّن ، والآثار المترتّبة على كلّ واحد منهما ، وأنّه هل يتوقّف على إنكار الجزء الذي لا يتجزى أم لا؟ فليس هاهنا ، محلّ بحثه ، وله مقام آخر.

الجهة الثامنة : في أنّ اليد أحد موجبات الضمان إذا كانت على مال الغير بدون أن يكون مأذونا من قبله ، أو من قبل اللّه ، أو يكون وليّا على صاحب المال

والأصل في ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدي » (1). وشهرته بين الفريقين نقلا وعملا يغني عن التكلّم في سنده.

وأمّا دلالتها على الضمان : فمن جهة أنّ الظاهر من هذا الكلام الشريف أنّ الظرف ظرف مستقرّ أعني عامله من أفعال العموم ، لا أنّه ظرف لغو حتّى يكون متعلّقا بأفعال الخصوص ، مثل « يجب » و « يلزم » في المقام ؛ وذلك لجهات :

أمّا أوّلا : فمن جهة أنّه لو كان متعلّقا بأحد هذين الفعلين فلا بدّ من التقدير بمثل الرد والأداء ؛ لأنّه لا معنى لوجوب نفس ما أخذت ولزومها ، لأنّ الحكم التكليفي لا بدّ وأن يتعلّق بأحد أفعال المكلّفين ولا معنى لتعلّقه بالذوات ، ومعلوم أنّ التقدير خلاف الأصل.

وثانيا : لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلّقا ب- « يجب » كان يلزم أن يكون

ص: 177


1- « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 224 ، ح 106 وص 389 ، ح 22 ؛ وج 2 ، ص 345 ، ح 10 ؛ وج 3 ، ص 246 ، ح 2 وص 251 ، ح 3 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 88 ، أبواب كتاب الغصب ، باب 1 ، ح 4 ؛ « تفسير أبو الفتوح الرازي » ج 1 ، ص 784 ؛ « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 95 ، باب ردّ المغضوب إذا كان باقيا ؛ « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، كتاب الصدقات ، باب العارية ، ح 2400.

الحكم مغيى في لسان دليله بإتيان متعلّقه وأمثاله ، وهذا ركيك إلى الغاية.

أنظر هل ترضى من نفسك بأن تقول : يجب عليك إكرامي حتّى تكرمني؟ فكيف ترضى أن تقول : بأنّ معنى الحديث الشريف أنّه يجب على اليد ردّ ما أخذته وأدائه حتّى تؤدّى؟!

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ ظاهر الحديث أنّ نفس ما أخذت على عهدة اليد ، أي المال المأخوذ الذي صار تحت اليد والاستيلاء على عهدة اليد والذي أخذه ، وهذا هو عين الضمان.

وفي معنى الضمان أقوال ، ولكن التحقيق هو أن يقال : إنّ الضمان عبارة : عن كون ما له الماليّة في عهدة الضامن وذمّته ، وحيث أنّ وجود الشي ء في العهدة يكون وجودا اعتباريا ؛ لأنّ معنى كونه في العهدة اعتبار العقلاء ذلك فيها ، فكما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن ينتقل إلى الذهن وإلاّ يلزم الانقلاب المحال ، كذلك لا يمكن أن ينتقل إلى عالم الاعتبار لعين ذلك المحذور ، بل بطريق أولى.

فالظاهر من معنى الحديث أنّ المال الذي وقع تحت اليد العادية على احتمال ، أو يد غير المأذونة على احتمال آخر ، مع أنّه موجود خارجي يعتبر في عهدة الآخذ ومستقرّ وثابت في ذمّته بوجوده الاعتباري ، إلى أن يؤدّي. وغاية الأمر أنّ أداءه ما دام العين موجودة يكون بأداء نفسها ، وبعد التلف إن كان لها مثل فأداؤها بأداء مثلها ، وإن لم يكن لها مثل أو كان ولكنّه متعذّر الأداء ، أو كان لقلّته وغلاء قيمته عند العرف والعقلاء بمنزلة المعدوم ، فأداءه بأداء قيمته.

وممّا ذكرنا يظهر المناط والضابط في المثليّة والقيميّة.

وبعد ما عرفت أنّ ما يقع تحت اليد من الأموال بوجوده الخارجي يعتبر على العهدة بوجوده الاعتباري ؛ لأنّ هذا المعنى هو الظاهر من الحديث الشريف ، فنقول : إنّ ما هو تحت اليد يعتبر فوق اليد بما له من الشؤون والأوصاف والعوارض والألوان ،

ص: 178

كانت تلك الشؤون والأوصاف من الأمور التكوينيّة الخارجيّة أو من الأمور الاعتباريّة ، فكلّ صفة أو لو كان فيما تحت اليد يثبت ويستقرّ على العهدة وما فوق اليد. ولا فرق في ذلك بين أن تكون خصوصيّات العين المغصوبة مثلا من الأمور التكوينيّة الواقعيّة المحمولة بالضميمة. أو من الأمور الاعتباريّة التي لا وجود لها في غير عالم الاعتبار.

وبعبارة أخرى : كما أنّ الأوصاف الخارجيّة للعين تقع تحت اليد يتبع اليد على العين ، ويضمن الغاصب تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين ، كذلك الأوصاف الاعتباريّة التي للعين أيضا تقع تحت اليد ، ويضمن ذو اليد تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين.

إذا عرفت ذلك فنقول : في باب تعاقب الأيدي الذي يقع تحت اليد الأولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها الخارجية التكوينيّة ، ولذلك لا يضمن الآخذ الغاصب مثلا إلاّ نفس العين بتلك الصفات الخارجيّة للمالك ، ولا يضمن لشخص آخر ، ولذلك لا يرجع إليه إلاّ المالك.

وأمّا اليد الثانية فالذي يقع تحت يده ليس هو العين بصفاتها التكوينيّة الخارجيّة فقط ، بل بزيادة صفة اعتبارية ، وهي أنّها مضمونة على اليد الأولى ؛ ولذلك يضمن ذو اليد الثانية لشخصين : أحدهما المالك ، والثاني ذو اليد الأولى ، بمعنى أنّ المالك لو رجع إلى ذي اليد الأولى فله أن يرجع إلى اليد الثانية ، وهكذا يكون الأمر في اليد الثالثة والرابعة ولو إلى الألف.

إن قلت : كيف يمكن أن يكون الشخص بالنسبة إلى مال واحد ضامنا لشخصين؟ وأن يكون لذلك الواحد بدلان؟

ولعله لذلك التجأ بعض المحقّقين إلى إنكار تعدّد الضمان في مورد تعاقب الأيدي ، وقال : إنّ الضمان يكون على من بيده التلف ، وأمّا في سائر الأيدي فليس إلاّ حكم

ص: 179

تكليفي فقط ، ولا ضمان في البين.

وبعض آخر التزم بأنّ للأيدي المتعدّدة لجميعها ضمان واحد ، وأنّ البدل الواحد له إضافة إلى الكلّ كما يقولون : بأنّ الكلّي الطبيعي وجوده بالنسبة إلى وجود الأفراد ، نسبة أب واحد إلى أبناء متعدّدة ، وإن كان هذا القول مردود هناك وهاهنا.

قلت : إنّ ضمانه لشخصين أو أكثر ليس ضمانا عرضيّا حتّى ترد هذه الإشكالات ، بل هو طولي في كلّ واحد منها.

بيان ذلك : بعد ما عرفت أنّ العين تقع تحت اليد بجميع خصوصيّاتها وأوصافها الواقعيّة التكوينيّة والاعتباريّة ، فاليد الأولى - كما ذكرنا - لا يقع تحتها إلاّ العين بصفاتها وخصوصيّاتها التكوينيّة ، وأمّا اليد الثانية فالواقع تحتها هي العين بتلك الصفات الخارجيّة والخصوصيّات التكوينيّة ، بإضافة أنّها مضمونة على اليد الأولى ، فهي ضامنة للمالك بالنسبة إلى العين وصفاتها الخارجيّة ، ولليد الأولى بالنسبة إلى ضمانها وخسارتها للمالك ، بمعنى أنّ المالك لو رجع إلى اليد الأولى وأخذ منها البدل ، فاليد الثانية عليها تلك الخسارة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الضمان ليس في عرض ذلك الضمان الأوّل ؛ لأنّ ضمان ضمان الشي ء ليس في عرض ضمان الشي ء ، بل هو متأخّر عنه فلا يبقى مجال لذلك الإشكال ، أي إشكال الضمان لشخصين بالنسبة إلى مال واحد ؛ لأنّه ليس ضمانان لمال واحد مرّتين : مرّة لهذا الشخص ، ومرّة أخرى لشخص آخر ، بل أحدهما ضمان نفس المال ، والآخر ضمان ذلك الضمان الأوّل ؛ فاليد الأولى ضامنة لنفس العين المأخوذة فقط ، واليد الثانية ضامنة للعين المأخوذة.

ومن هذه الجهة للمالك أن يرجع إليه وضامنة لضمان اليد الأولى ، ومن هذه الجهة لليد الأولى أن يرجع إليه إذا رجع المالك إليها وخسرت للمالك.

فليس لنفس العين إلا ضمان واحد على البدل ، بمعنى أنّ المالك له أن يرجع إلى

ص: 180

أيّ واحد من الآخذين لما له على البدل ، وإلاّ فليس له أن يرجع إلى الاثنين معا ويأخذ بدلين ، كي يكون الإشكال المذكور واردا.

وأمّا ضمانه لغير المالك من الأيدي المتقدّمة عليه فليس ضمان نفس المال حتّى يلزم ضمانه للمال الواحد مرّة أو مرّات ، أي مرة للمالك ، وأخرى لكل يد متقدّمة عليه ، بل كلّ من عدا المالك من تلك الأيدي المتقدّمة فالضمان له يكون ضمان الضمان ، أي الخسارة اليد السابقة عليه للمالك. فليس من قبيل ضمان الشخصين لمال واحد مرّتين ؛ لأنّه بالنسبة إلى المالك ونفس العين وان كان بحسب تعدّد الأيدي متعدّدا ، ولكن ليس في عرض واحد بل على البدل. وأمّا بالنسبة إلى الأيدي السابقة فليس الضمان ضمان العين ، وهذا الحكم جار ولو إلى ألف يد ، ولا يلزم محذور ؛ لطوليّة الضمانات.

ثمَّ إنّ ها هنا فروع كثيرة ، ومطالب جليلة - ذكرها الفقهاء والمحقّقون في كتاب الغصب وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد - يطول ذكرها والنقض والإبرام فيها.

الجهة التاسعة : في كون اليد سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت لا أنّها سبب إثباتي فقط

وذلك كما في حيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش وأمثال ذلك ، ولا شكّ في أنّ اليد على المباحات الأصليّة والاستيلاء عليها بقصد التملّك تكون سببا لحصول الملكيّة ، وإنّما الكلام في كفاية صرف الاستيلاء ولو لم يكن بقصد التملّك ، بل كان لغرض آخر.

ربما يقال بكفاية هذا الاستيلاء الخارجي ولو لم يكن قاصدا للتملّك ، مستندا إلى

ص: 181

قوله صلی اللّه علیه و آله : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به » (1) المنجبر ضعف سنده بالاشتهار عند الكلّ واستناد الجميع إليه.

ولكن الاستيلاء على الشي ء بدون قصد التملّك وإن كان يصدق عليه السبق إلى الشي ء ، ولكن السبق إلى المباحات الأصليّة لا يوجب حسب مضمون الحديث إلاّ الأحقيّة من الآخرين ، والأحقّية غير الملكيّة ؛ لأنّها تجري فيما لا يقبل التملّك ، كالأوقاف العامّة مثل المساجد والمشاهد المشرفة والرّبط وخانات الوقف ، فالذي سبق إلى مكان من هذه الأماكن ، وأخذ لنفسه وعياله محلاّ منها فليس لأحد مزاحمته ، بل يكون هو أحقّ من جميع الناس بذلك المكان ، مع أنّ تلك الأماكن غير قابلة لأنّ تصير ملكا لأحد.

فهذا الحديث الشريف لا يدلّ إلاّ على حصول حقّ السبق بالنسبة إلى الأمكنة التي هي وقف عامّ كالموارد التي ذكرناها ، أو بالنسبة إلى المباحات الأصليّة إذا استولى عليها لا يقصد التملّك. وأمّا إذا استولى عليها بقصد تملّكها فيصير ملكا قطعا ، لبناء العقلاء والسيرة القطعيّة عند المتديّنين على حصول الملكيّة في المباحات الأصليّة إذا كان الاستيلاء بقصد التملّك ، وذلك كالاحتطاب والاعتشاب.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مطلق الأحقّية وإن كان غير ملازم للملكيّة ؛ لما ذكرنا من أنّها قد توجد فيما ليس بقابل لأن يصير ملكا لأحد كالأوقاف العامّة ، ولكن الأحقّية المطلقة مساوقة مع الملكيّة ولا تنفكّ عنها ؛ لأنّ الأحقيّة المطلقة عبارة كون صاحبها أحقّ من جميع من عداه بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، ومنع غيره عن جميع التقلّبات. ومثل هذا المعنى في نظر العرف والشرع عين الملكيّة ؛ وذلك من جهة أنّ الملكيّة اعتبار عقلائي بلحاظ هذه الآثار ، فإذا حكم الشرع أو العقلاء بترتّب هذه الآثار على شي ء ، وفي مورد معناه أنّه أو أنّهم اعتبروا ملكيّة ذلك الشي ء ، فإذا دلّ الحديث الشريف على

ص: 182


1- « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 48 ، ح 4 ؛ « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 142 ، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد.

أنّ من سبق إلى شي ء من المباحات الأصليّة - فيما إذا لم يسبق إليه أحد من المسلمين - فهو أحقّ به بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، حتّى التصرّفات المتوقّفة على الملك - فيدلّ على حصول الملكيّة بالسبق والاستيلاء ، ولو كان خاليا عن قصد التملّك ، ولكن الشأن في استفادة هذا المعنى من الحديث.

ويمكن أن يقال : إنّ إطلاق الأحقيّة يقتضي أحقّية المطلقة ؛ لأنّ ما عداها من مراتب الأحقّية ، وبالنسبة إلى بعض التصرّفات دون بعض يحتاج إلى البيان ، ففيما ليس بقابل لأن يكون ملكا - كالأوقاف العامّة - نعلم بالأدلّة الخارجيّة عدم جواز بعض التصرّفات ، مثل بيعها وهبتها وسائر الانتقالات المتعلّقة بأعيانها ، بأيّ عنوان وأيّ عقد كانت.

وأمّا فيما يقبل التملّك فنأخذ بإطلاق الأحقّية ونقول : بأنّ الاستيلاء على المباحات الأصليّة - ولو لم يكن بقصد التملّك بل كان لغرض عقلائي آخر - يوجب الأحقّية المطلقة المساوقة للملكية.

ثمَّ إنّه ربما يستدلّ على حصول الملكيّة بصرف الاستيلاء واليد من غير قصد التملّك بقوله علیه السلام ، في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي ء منه فهو له » (1). بأن يقال : لا شكّ في أنّ قوله علیه السلام « فهو له » ظاهر في أنّه ملك له ، وقد رتّب هذا الحكم على عنوان « من استولى » من دون مدخليّة أيّ شي ء.

وقد بيّنّا أنّ هذا العنوان - أي عنوان الاستيلاء - عين عنوان اليد ، ولكن الاستدلال بهذه الفقرة متوقّف على أن تكون هذه الجملة كبرى كليّة ، لا أن يكون المراد منها أنّ استيلاء أيّ واحد من الرجل والمرأة على أيّ متاع من أمتعة البيت موجب لكونه له ، وإلاّ إن كان كذلك فهذا حكم خاصّ ، لخصوص الرجل والمرأة في

ص: 183


1- « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 302 ، ح 1079 ، باب ميراث الأزواج ، ح 39 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 525 ، أبواب ميراث الأزواج ، باب 8 ، ح 3.

خصوص متاع البيت ولا يشمل سائر الموارد.

ولكن الإنصاف أنّ كون خصوصيّة متاع البيت ، وكذلك خصوصيّة الزوج والزوجة دخيلا في هذا الحكم بعيد وإن كان الظاهر من تقييد الشي ء بقوله علیه السلام « منه » هو ذلك. هذا أوّلا.

وثانيا : ظاهر هذه الجملة على فرض إلقاء الخصوصيّة وكونها كبرى كلّيّة ، هو أنّ الاستيلاء على شي ء أمارة الملكيّة في عالم الإثبات للمستولي بعد الفراغ أنّ له مالك في مقام الثبوت ، وكلامنا في أنّ صرف الاستيلاء بدون قصد التملّك هل يكون سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت أم لا؟ فالمقامان كلّ واحد منهما أجنبي عن الآخر.

وأمّا الاستدلال على هذا المطلب بأدلّة إحياء الموات ، وأنّ الأرض الميتة تصير ملكا بالإحياء ، سواء قصد التملّك أم لا ، والإحياء عبارة عن وضع اليد عليها.

ففيه : أنّ الإحياء وإن كان سببا لحصول الملكيّة لقوله علیه السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (1) ولكنّه ليس عبارة عن الاستيلاء فقط ، وصرف وضع اليد على أرض ميتة ، بل يحتاج إلى عمل من طرف المحيي من اجراء نهر ، أو كريه حتّى يجري عليها الماء ، أو غرس أشجار ، أو زرع ، أو بناء بأن يجعله خانا أو دارا أو حمّاما أو مقهى أو غير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في كتاب إحياء الأراضي الميتة. وعلى كلّ حال الإحياء غير صرف اليد.

ص: 184


1- « الكافي » ج 5 ، ص 279 ، باب في إحياء أرض الموات ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 152 ، ح 673 ، باب أحكام الأرضين ، ح 22 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 108 ، ح 382 ، باب من أحيا أرضا ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 327 ، أبواب إحياء الموات ، باب 1 ، ح 5.

7 - قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين

اشارة

ص: 185

ص: 186

7 - قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين (1)

ومن القواعد الفقهيّة ، التي عمل بها الأصحاب ، وطبقوها على موارد كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام ، القاعدة المعروفة المشهورة ، أي « نفي السبيل للكافرين على المسلمين ».

وبهذه القاعدة تمسّك شيخنا الأعظم قدس سره في عدم صحّة بيع العبد المسلم على الكافر (2).

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى : في مستندها

وهو أمور

الأوّل : قوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (3).

والظاهر من معنى الآية الشريفة أن اللّه تبارك وتعالى لم يجعل ولن يجعل في عالم

ص: 187


1- (*) « الحقّ المبين » ص 92 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 49 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 22 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 127 ؛ « القواعد » ص 1. « قواعد فقهية » ص 224 ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 244 ؛ « قاعدة نفي سبيل در حقوق إسلامي » مهدي شاملو احمدى ، ماجستير مدرسة الشهيد مطهّرى العالية.
2- « المكاسب » ص 158.
3- النساء (4) : 141.

التشريع حكما يكون موجبا لكونه سبيلا وسلطانا للكافرين على المؤمنين. وتشريع جواز بيع عبد المسلم من الكافر ونفوذه وصحّته ، موجب لسلطنة الكافر على المسلم ، منفيّ بهذه الآية ، وكذلك إجازته وإعارته له. ونذكر إن شاء اللّه تعالى تطبيق هذه القاعدة على مواردها مفصلا.

ولا شكّ في أنّ ظاهر الآية الشريفة لو كان في مقام التشريع هو الذي ذكرنا ، ويكون المراد من الجعل المنفي فيها هو الجعل التشريعي لا التكويني ، فتكون قاعدة حاكمة على الأدلّة المتكلّفة لبيان الأحكام الواقعيّة.

مثلا الأدلّة الأوّليّة مفادها ولاية كلّ أب أو جدّ من طرف الأب على أولاده الصغار ، أبناء كانوا أو بناتا ، ومفاد هذه الآية - بناء على المعنى المذكور - نفي الولاية إذا كان الأب أو الجدّ من طرف الأب كافرا ، والابن أو البنت كانا مسلمين ، وهكذا في سائر موارد تطبيق الآية ، فتكون هذه قاعدة حاكمة بالحكومة الواقعيّة على الأدلّة الأوّليّة ، مساقها في ذلك مساق حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (1) وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2).

هذا ، ولكن ربما يقال - بقرينة قوله تعالى قبله ( فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) - إنّ المراد من السبيل هي الحجّة في يوم القيامة ، أي لا حجّة للكافرين على المؤمنين يوم القيامة ، بل تكون الحجّة للمؤمنين عليهم في ذلك اليوم.

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه الطبري في تفسيره ، عن ابن ركيع ، بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، قال رجل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول اللّه ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ علیه السلام : « ادنه ادنه » ثمَّ قال علیه السلام : فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ( وَلَنْ يَجْعَلَ

ص: 188


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718 ، « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 376 ، أبواب موانع الإرث ، باب 1 ، ح 10.
2- الحجّ (22) : 78.

اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) يوم القيامة ».

وروي أيضا عن آخرين عن عليّ أمير المؤمنين مثله.

وروي أيضا بإسناده عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) قال : ذاك يوم القيامة ، وأمّا السبيل في هذا الموضع فالحجّة ، وروي أيضا عن السدي إنّه الحجّة (1).

ولكن أنت خبير أنّ تفسير الإمام علیه السلام ببعض مصاديق ما هو المتفاهم العرفي من اللفظ لا ينافي عموم المراد ، ولا يقتضي الخروج عمّا هو ظاهر اللفظ ، بل يكون الظهور باقيا على حجيّته فيؤخذ بظاهر اللفظ الذي هو عبارة عن نفي غلبة الكافر على المؤمن ، سواء أكان بالحجّة يوم القيامة ، أو في الدنيا بالنسبة إلى عالم التشريع.

نعم تفسيره علیه السلام بالحجّة في يوم القيامة حيث أنّه في مقام أنّه ليس المراد من نفي السبيل نفي القهر والغلبة الخارجية التكوينيّة ، فتكون تلك الغلبة خارجة عن عموم نفي السبيل ، وخروج مثل هذه الغلبة عن العموم أمر واضح محسوس في الخارج ، فقد قال اللّه تبارك وتعالى في قضيّة انكسار المسلمين في غزوة أحد ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ ) (2).

والحاصل : أنّ الإمام علیه السلام بصدد بيان أنّ هذا العموم ليس عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وأنّ الغلبة الخارجيّة خارجة عن تحت العموم.

ثمَّ إنّه علیه السلام بيّن بعض مصاديق المراد الذي هو قريب إلى فهمهم ، وهو الغلبة بالبرهان والحجّة في يوم القيامة.

هذا كلّه فيما إذا كان المراد من السبيل المنفي هي الغلبة ، وأمّا بناء على ما استظهرنا من أنّ المراد منه الحكم الشرعي والغلبة في عالم التشريع فلا إشكال حتّى يحتاج إلى

ص: 189


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 5 ، ص 214.
2- آل عمران (3) : 140.

جواب.

ولا ينافي تفسيره علیه السلام بالحجّة في يوم القيامة ما استظهرناه ؛ لأنّه تفسير لا ظاهر الكلام ، وللقرآن سبعة أبطن.

مضافا إلى أنّ كلّ هذه الأمور - أي الغلبة في عالم تشريع الأحكام ، والغلبة بالحجّة والبرهان في يوم القيامة ، والغلبة التكوينيّة الخارجيّة كلّها - من مصاديق مفهوم الغلبة والسبيل حقيقة وبالحمل الشائع ، وإن كان الظاهر كما استظهرناه أنّ المراد بالجعل المنفي هو الجعل التشريعي لا التكويني.

الثاني : قوله علیه السلام : « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون ».

والخبر مشهور معروف ، ذكره في الفقيه عن النبي صلی اللّه علیه و آله في المجلّد الرابع في باب ميراث أهل الملل (1) ، فعمدة الكلام دلالته ، وإلاّ فمن حيث السند موثوق الصدور عن النبي صلی اللّه علیه و آله لاشتهاره بين الفقهاء وعملهم به.

والظاهر من هذا الحديث الشريف بقرينة ظاهر الحال أنّه في مقام التشريع ، وأنّ الإسلام يكون موجبا لعلوّ المسلم على غيره في مقام تشريع أحكامه وبالنسبة إلى تلك الأحكام.

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يكون الحكم الإسلامي وتشريعه سببا وموجبا لعلوّ الكافر على المسلم ، ففي هذا الحديث الشريف جملتان : إحداهما موجبة ، والأخرى سالبة ، ومفاد الجملة الأولى الموجبة هو أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام فيما يرجع إلى الأمور التي بين المسلمين والكفّار روعي فيها علوّ جانب المسلمين على الكفّار ، ومفاد الجملة السالبة عدم علوّ الكافر على المسلمين من ناحية تلك الأحكام المجعولة.

وممّا ذكرنا ظهر جواب أنّ علوّ الإسلام لا دخل له بعلوّ المسلمين ؛ إذ معنى علوّ

ص: 190


1- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5719.

الإسلام ازدياد شوكته وانتشاره في أنحاء الأرض ، إذ بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف - من أنّ معنى الجملة الأولى الموجبة أي : الإسلام يعلو هو أنّ أحكام الإسلام توجب علوّ المسلم على الكافر في الأمور الواقعة بينهما من المعاملات ، وغيرها كالولايات والمعاهدات والأنكحة ، ولا توجب علوّ الكافر على المسلم ، فليس في الإسلام حكم يكون موجبا لعلوّ الكافر على المسلم - لا يبقى مجال ووقع لهذا الكلام ، ويكون علوّ الإسلام عبارة أخرى عن علوّ المسلمين.

وحاصل الكلام : أنّه بعد الفراغ عن أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام التشريع لا الإخبار عن أمر خارجي - وهو أنّ الإسلام له علوّ وشرف لأنّه موجب للنجاة وسعادة الدنيا والآخرة - لا شكّ في أنّ الظاهر من هذا الكلام في هذا المقام أنّ الإسلام وهذا الدين والشرع يعلو بالمتديّنين بهذا الدين على غيرهم ، ولا يكون موجبا لعلوّ الكفّار على المتديّنين بهذا الدين.

الثالث : هو الإجماع المحصّل القطعي على أنّه ليس هناك حكم مجعول في الإسلام يكون موجبا لتسلّط الكافر على المسلم ، بل جميع الأحكام المجعولة فيه روعي فيها علوّ المسلمين على غيرهم ، كمسألة عدم جواز تزويج المؤمنة للكافر ، وعدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر ، وعدم صحّة جعل الكافر واليا ووليّا على المسلم ، وأمثال ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّ الاتّفاق على هذا الأمر - أي عدم كون الأحكام الشرعية موجبة لعلوّ الكافر على المسلم - وإن كان في الجملة مسلّما ، ولكن كونه من الإجماع المصطلح - عند الأصولي الذي أثبتنا حجيّته - في غاية الإشكال بل معلوم العدم ؛ لأنّ الظاهر أنّ المتّفقين يعتمدون على هذه الأدلّة المذكورة.

وقد حقّقنا في الأصول أنّ مثل هذا الإجماع لا يوجب الحدس القطعي برأي الإمام علیه السلام ، وليس مثل هذا الاتّفاق مسبّبا عن رأيه ورضاه علیه السلام حتّى يستكشف من

ص: 191

وجوده وجود سببه ، بل هو مسبّب من الاستظهار من هذه الأدلّة ، فلا بدّ وأن يراجع الفقيه إلى نفس هذه الأدلّة وأنّها هل تدلّ على هذه القاعدة أم لا؟

الرابع : مناسبة الحكم والموضوع ، بمعنى أنّ شرف الإسلام وعزّته مقتض بل علّة تامّة لأنّ لا يجعل في أحكامه وشرائعه ما يوجب ذلّ المسلم وهوانه ، وقد قال اللّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز ( وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) فكيف يمكن أن يجعل اللّه حكما ويشرعه يكون سببا لعلوّ الكفّار على المسلمين ، ويلزم المسلم على الامتثال بذلك الحكم؟ فيكون الكفّار هم الأعزّة ، ويكون المسلمون هم الأذلّة الصاغرون ، مع أنّه تبارك وتعالى حصر العزّة لنفسه ، ولرسوله ، وللمؤمنين في الآية الشريفة التي تقدّم ذكرها.

والإنصاف أنّ الفقيه يقطع بعد التأمّل فيما ذكرناه بعدم إمكان جعل مثل ذلك الحكم الذي يكون سببا لهوان المسلم وذلّة بالنسبة إلى الكافر الذي لا احترام له ، وهو كالأنعام بل أضل سبيلا. وليس هذا الكلام من باب استخراج الحكم الشرعي بالظنّ والتخمين كي يكون مشمولا للأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ والقول بغير علم والافتراء على اللّه ، بل هو من قبيل تنقيح المناط القطعي بل يكون استظهارا من الأدلّة اللفظيّة القطعيّة كما تقدّم شرحه.

وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال على هذه القاعدة ؛ لأنّه ممّا يركن النفس إليه ويطمئنّ الفقيه به. نعم ربما يكون هناك مصلحة أهمّ للإسلام أو المسلمين يكون سببا لجعل حكم يكون موجبا لعلوّ الكافر على المسلم في بعض الأحيان ، كما أنّه ربما يجعل حكما يكون موجبا لا فناء جماعة من المسلمين ، كما في مورد تترس الكفّار بالمسلمين ، والمسألة مذكورة في كتاب الجهاد مشروحا مفصّلا ، وسنذكر إن شاء اللّه تعالى بعض موارد الاستثناء عن هذه القاعدة لمصلحة وملاك أهمّ.

ص: 192


1- المنافقون (63) : 8.

الجهة الثانية : في بيان مضمون هذه القاعدة ومفادها ، وما هو المراد منها

أقول : المراد من هذه القاعدة - كما تقدّم شرحه في الجهة الأولى في مقام الاستدلال عليها - هو أنّه لم يجعل اللّه تبارك وتعالى في التشريع الإسلامي حكما يكون من ناحية ذلك الحكم سبيلا وعلوّا للكافر على المسلم ، ففيما حكينا ونقلنا عن الفقيه من قوله صلی اللّه علیه و آله « والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون » دلالة صريحة على عدم الاعتناء بشأنهم ، وتنزيلهم منزلة الأموات في عدم استحقاقهم الإرث من المورث المسلم ، فعلى فرض ثبوت هذه القاعدة بتلك الأدلّة المذكورة تكون حاكمة على العمومات الأوّليّة وإطلاقاتها.

فقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1) أو سائر آيات الإرث مثلا عام يشمل الوارث الكافر والمسلم ، وهذه القاعدة حاكمة على تلك العمومات ؛ لما ذكرنا من قوله صلی اللّه علیه و آله وجعلهم بمنزلة الموتى ، فتكون نتيجة هذه الحكومة تخصيص الإرث بالوارث المسلم وحرمان الكافر ، وعلى هذا فقس في موارد سائر العمومات والإطلاقات.

الجهة الثالثة : في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة

فمنها : عدم جواز تملّكه - أي الكافر - للمسلم بأيّ نحو من أنحاء التملّك الاختياري ، سواء أكان بالشراء ، أو كان بالصلح ، أو بالهبة ، أو بأيّ ناقل شرعي ؛

ص: 193


1- النساء (4) : 11.

وذلك من جهة أنّه على تقدير ثبوت هذه القاعدة فما ذكر أى عدم جواز انتقال العبد المسلم إلى الكافر ، يكون من أوضح مصاديق هذه القاعدة ؛ لأنّه أيّ سبيل وعلوّ يكون أعظم من كون المسلم عبدا مملوكا للكافر ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ) ؟

ولذلك لو تملّكه بالملك القهري - كالإرث فيما إذا كان المورث أيضا كافرا ، أو أسلم في ملك الكافر - يجبر على البيع ولا يقرّ يده عليه ، بل يباع عليه ، ولا يعتنى بمولاة ، كما هو صريح ما قاله أمير المؤمنين علیه السلام في عبد كافر أسلم وهو في ملك مولاه الكافر :

في المرسل عن حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « إنّ أمير المؤمنين علیه السلام أتي بعبد ذمّي قد أسلم ، فقال علیه السلام : اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولا تقرّوه عنده » (1).

وأمّا ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في هذا المقام - من معارضة هذه القاعدة بعموم أدلّة صحّة البيع ، ووجوب الوفاء بالعقود ، وحلّ أكل المال بالتجارة عن تراض ، وعموم « الناس مسلطون على أموالهم ». (2) فيدفع بما ذكرنا في الجهة الثانية من حكومة هذه القاعدة على العمومات الأوّليّة وإطلاقاتها ؛ لأنّه صلی اللّه علیه و آله جعلهم بمنزلة الموتى في قوله صلی اللّه علیه و آله : « والكفّار بمنزلة الموتى » ، فالكفّار خارجون عن تحت تلك العمومات والإطلاقات خروجا تعبّديّا ، وهذا معنى حكومة القاعدة عليها.

وسائر المناقشات التي أوردها في هذا المقام واضح الدفع ، ولذلك تركنا ذكرها والإيراد عليها.

ص: 194


1- « الكافي » ج 7 ، ص 432 ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ، ح 19 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 287 ، ح 795 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 282 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 28 ، ح 1. وفي الكافي والتهذيب : « أتي بعبد لذمّي قد أسلم ».
2- « المكاسب » ص 159.

فما قربه من تفسير السبيل بما لا يشمل الملكيّة - بأن يراد منه السلطنة ، فيحكم بتحقّق الملك وعدم تحقّق السلطنة ، بل يكون محجورا عليه مجبورا على بيعه - لا يخلو من خلل ؛ لما تقدّم منّا من أنّ نفس المملوكيّة للكافر سبيل له عليه ، وإن كان محجورا عن التصرف فيه ومجبورا على بيعه.

نعم ظاهر قوله علیه السلام « اذهبوا فبيعوه من المسلمين ولا تقروه عنده » أنّ ما هو المنفي استقرار الملك لا أصل الملك ، وإلاّ لا معنى لدفع الثمن إليه ، أي إلى مولاه الكافر بعد بيعه ، بل لا معنى لبيعه ، لأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكافر مالك لماليّته لا لنفس العبد ، نظير ما قيل في إرث الزوجة بالنسبة إلى الأبنية الموجودة في دار زوجها الميّت.

وبناء على هذا المعنى لا يبقى إشكال في شراء الكافر العبد المسلم الذي ينعتق عليه ، أو الأمة المسلمة التي تنعتق عليه ؛ لأنّ الملكيّة المتعقّبة بالانعتاق فورا ليست ملكيّة مستقرّة حتّى تكون منفيّة ، ولا يحتاج إلى التكلّف والقول بأنّ المراد من السبيل المنفي هي السلطنة لا الملكيّة.

لأنّ مرادهم إن كان أنّ الملكيّة التي حجر على المالك من التصرّف في المملوك ليست سبيلا للكافر على العبد المسلم ، وتكون خارجة عن تحت هذا المفهوم ، وليست مصداقا له.

فهذا هو الذي بيّنّا فساده وقلنا إنّ نفس الملكيّة أعظم سبيل مضافا إلى أنّه على فرض تسليم أنّها ليست من مصاديق السبيل - لأنّ المراد من السبيل هي السلطنة - فلا يمكن إنكار كونها علوّا منفيّا بقوله صلی اللّه علیه و آله .

وإن كان مرادهم أنّ مثل هذه الملكيّة خارجة عن تحت السبيل المنفي في الآية حكما ، لا موضوعا كي يكون تخصيصا لا أن يكون تخصّصا ، كما أنّه كذلك في الفرض الأوّل.

ص: 195

ففيه : أنّ هذا التخصيص المنافي لأصالة العموم يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

والإنصاف أنّ القدر المتيقّن من الخروج عن عموم الآية تخصيصا أو تخصّصا وكذلك عن عموم الحديث الشريف ، هو خصوص الملكيّة غير المستقرّة ، لا مطلق الملكيّة التي حجر على مالكها.

ثمَّ إنّه لا يتوهّم أنّ أمره علیه السلام ببيع العبد الذمّي الذي أسلم عند مولاه الكافر من المسلمين يدلّ على عدم سقوط الملكيّة المستقرّة ، وإلاّ كان ينعتق على مولاه الكافر ، فلم يكن مجال لبيعه وإعطاء ثمنه له ، لأنّك قد عرفت أنّ هذا المقدار من الملكيّة الموقّتة - أي بقاء إلى زمان تحقّق البيع - قد خرج عن تحت العموم تخصيصا ، والمخصّص هو هذه الرواية ، أي رواية حمّاد بن عيسى ، فلا يبقى إشكال في البين.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت ما ذكرنا يظهر لك أنّه لا فرق في شمول الآية والحديث الشريف بين أنواع الانتقالات بالأسباب الاختياريّة إلى الكافر ، فكما لا يجوز بيعه منه كذلك لا يجوز سائر الانتقالات الاختياريّة بأيّ سبب كان ، من النواقل الشرعيّة الاختياريّة من صلح أو هبة أو وصيّة أو غيرها.

وأيضا ظهر لك ممّا ذكرنا أنّه لا مجال لاستصحاب الصحّة فيما إذا كان كفر المشترى مسبوقا بالإسلام ، أو إسلام العبد كان مسبوقا بالكفر ؛ لأنّه مضافا إلى أنّ هذا الاستصحاب تعليقي - وقد بيّنّا عدم صحة استصحاب التعليقي في كتابنا « منتهى الأصول » (1) - لا مورد للاستصحاب ولو لم يكن من الاستصحاب التعليقي ؛ لعدم مجال لجريان الاستصحاب الذي هو أصل عملي وإن كان تنزيليا ، لوجود الأمارة على خلافه ، وهي الآية والرواية.

وأمّا على تقدير عدم دلالة الآية والرواية على فساد البيع ، أو الشكّ فيها ، فأيضا لا مجال لاستصحاب الصحّة ؛ لحكومة أدلّة عمومات صحّة العقود وإطلاقاتها على هذا

ص: 196


1- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 463.

الاستصحاب.

بقي الكلام في أنّه هل يجوز إجارة العبد المسلم ، أو أمة المسلمة على الكافر ، أو لا تصحّ؟

فيه أقوال :

قول بعدم الجواز مطلقا.

وقول بالجواز مطلقا.

وقول بالتفصيل بين أن يكون وقوع الإجارة على الذمّة فلا تصح - وإلى هذا ذهب جامع المقاصد (1) والمسالك (2) - وبين أن يكون وقوعها على العمل الخارجي فلا تصح.

وهناك تفصيل بين الحرّ والعبد ، فتصح في الأوّل دون الثاني.

وحكي هذا التفصيل عن الدروس (3).

ومنشأ هذه التفاصيل والأقوال هو صدق العلوّ والسبيل في بعض الصور دون بعض.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الوجوه والأقوال في هذه المسألة كلّها ليس كما ينبغي.

أمّا القول الأوّل : فلأنّه ربما تكون إجارة العبد المسلم للخدمة عند الكافر موجبا لسلطنة الكافر عليه ، ولا شكّ في أنّ سلطنة الكافر عليه سبيل وعلوّ عليه بالمعنى الذي ذكرنا للسبيل والعلو ، فلا يمكن القول بصحّتها مطلقا.

كما أنّ القول الثاني - أي : بطلانها مطلقا - أيضا لا وجه له ، كما أنّ الكافر لو

ص: 197


1- « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 63.
2- « مسالك الأفهام » ج 3 ، ص 167.
3- « الدروس » ج 3 ، ص 199 ، كتاب البيع ، في شرائط المتعاقدين ، درس (239).

استأجره للتعلّم عنده فليس هناك علوّ أو سبيل للمستأجر الكافر على المسلم قطعا. وصرف استحقاقه التعليم عليه بواسطة عقد الإجارة ليس علوّا عليه قطعا ، وإلاّ ينسدّ باب جملة من المعاملات بين الكافر وبين المسلم إن لم نقل بانسداد أبواب جميعها ، بل ربما يكون بعض الإجارات الواقعة بينهما عزّا وعلوّا للمسلم عليه كما هو واضح.

كما أنّ القول الثالث ، أي التفصيل بين الوقوع على الذمّة فتصحّ ، والوقوع على العمل الخارجي فلا تصحّ ؛ من جهة أنّ اشتغال ذمّة المسلم للكافر علوّ وسبيل له على المسلم.

ففيه : أنّه ليس كلّ اشتغال ذمّة علو وسبيل من الذي اشتغلت الذمّة له على من اشتغلت ذمّته ، بل ربما يكون بالعكس ، كما ذكرنا في مسألة الإجارة على التعليم. هذا ، مضافا إلى القطع بوقوع معاملات بين المسلمين وبين الكفّار مع اشتغال ذمّة المسلمين لهم من زمان صاحب الشريعة صلی اللّه علیه و آله إلى زماننا هذا ، بل ربما كان يقع مثل هذه المعاملة بين نفسه صلی اللّه علیه و آله وبينهم.

وأمّا القول الرابع : أي التفصيل بين الحرّ والعبد وإن كان له وجه ، من جهة أنّ العبد مملوك ويقع تحت اليد ، فبعد أن استأجره الكافر من مولاه وتسلمه للعمل عنده خصوصا إذا كان للخدمة بل يكون خادما عنده - فلا شكّ في صدق السبيل والعلوّ لأنّ معنى اليد هي السيطرة والسلطنة الخارجيّة على الشي ء ولو كان غاصبا ، فضلا عمّا إذا كانت يده عليه بحقّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يختصّ بإجارة العبد ، بل ربما تحصل السيطرة والسلطنة العرفيّة وإن لم يكن عبدا ، كما لو آجر الولي الطفل غير البائع على الكافر ، خصوصا إذا كان للخدمة عنده. بل ربما يحصل هذا المعنى - أي السيطرة الخارجية - ولو كان حرّا بالغا ، كما لو كانت الحرّة امرأة استأجرها الكافر لأن تكون خادمة في

ص: 198

بيته.

هذا ، مضافا إلى أنّه ليس المناط في عدم الجواز سيطرة الكافر على المسلم ، بل المناط كلّ المناط في عدم صحّة الإجارة هو حصول العلوّ والسبيل للكافر على المسلم.

ولا شكّ في أنّ في بعض الموارد يحصل العلوّ والسبيل للكافر على المسلم ، سواء أكان الأجير حرّا أو عبدا ، كما لو كان المسلم خادما أو خادمة عنده.

وكذلك أيضا لا شكّ في عدم حصول هذين الأمرين مطلقا ، أي سواء أكان الأجير حرّا أو عبدا ، كما أنّه لو استأجر الكافر مسلما لتعليم نفسه أو أولاده ، أو طبيبا مسلما لمعالجة نفسه أو مرضاة ، بل ربما يكون في بعض الموارد عزّا وعلوّا للمسلم الأجير عليه.

فلا بدّ وأن ينظر إلى موارد الإجارات وأنّه هل يحصل من كون المسلم أجيرا للكافر ذلاّ وهوانا له بحيث يكون الكافر علوّا عليه من ناحية هذه الإجارة أم لا؟

ففي الأوّل لا تصحّ الإجارة دون الثاني. ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد ، ولا بين أن يكون وقوع الإجارة على ما في الذمّة أو على العمل الخارجي.

وأمّا الإعارة ، فحيث أنّه لا بدّ وأن يكون المعار مملوكا ، فالتفصيل الذي كان في الإجارة - بين الحرّ والعبد - لا مجال هاهنا. وكذلك التفصيل الذي كان في الإجارة بين أن يكون واقعا على الذمّة أو واقعا على العمل الخارجي ، لعدم اشتغال ذمّة المعير بشي ء.

وعلى كلّ فالحقّ في إعارة العبد المسلم للكافر - أيضا مثل الإجارة - هو أنّه لو كانت مستلزمة لذلّ المسلم وهوانا بالنسبة إلى الكافر ، أو كانت موجبة لعلوّ الكافر فلا تصحّ ، كما أنّه لو أعاره عبده المسلم أو أمته المسلمة ليكون خادما أو خادمة في بيته ، أو شغل آخر من الأشغال الذي يكون موجبا لعلوّ الكافر عليه.

ص: 199

وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل ربما كانت موجبة لعزّ المسلم وعلوّه على الكافر ، كما أنّه لو أعار عبده المسلم لتعليمه ، أو معالجته ، أو معالجة مرضاة فلا إشكال فيه ، وتكون من هذه الجهة حال الإعارة حال الإجارة.

نعم الإشكال الذي ذكرناه في الإجارة - من أنّ الأجير إذا كان عبدا فيقع تحت يد الكافر وسيطرته فيكون علوّا للكافر على المسلم - يأتي هاهنا أيضا ، ولكن الجواب هو الذي ذكرنا في الإجارة.

نعم ذكروا أنّ العارية تسليط المستعير على العين المملوكة للانتفاع بها ، فتكون نتيجتها علوّ المستعير على تلك العين ، وسبيل للكافر عليها إذا كانت عين المستعارة عبدا مسلما أو أمة مسلمة.

وأمّا الارتهان عنده ، فقد منع عنه في القواعد (1) والإيضاح (2) مطلقا ، وجوّز بعض مطلقا ، وفصّل الشيخ الأعظم قدس سره بين أن يكون العبد المسلم المرهون عند مسلم حسب رضاء الطرفين ، وبين أن يكون تحت يد الكافر فجوّز في الأوّل ، ومنع في الثاني (3).

ولكن الظاهر هو الجواز مطلقا ؛ لما ذكرنا في إجارة وإعارته بأنّ صرف كونه تحت يد الكافر ليس علوّا وسبيلا للكافر عليه ، بل صرف وثيقة لاستيفاء دينه منه عند عدم أداء الراهن ، والمباشر للبيع ليس هو الكافر كي يكون هذا سبيلا عليه ، بل هو المالك أو الحاكم عند امتناعه.

وأمّا الاستيداع عنده ، فالظاهر عدم الإشكال فيه ؛ لأنّ صرف تسليطه على حفظه ليس علوّا وسبيلا عليه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تسلّطه عليه بكونه في مكان خاصّ وعدم خروجه عنه

ص: 200


1- « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 158.
2- « إيضاح الفوائد » ج 2 ، ص 11.
3- « المكاسب » ص 159.

مثلا - وان كان هذا التسلّط بجعل المالك المسلم - يكون علوّا وسبيلا عليه.

وأمّا وقف العبد المسلم على الكافر ، فقد يقال بأنّ حال الوقف حال الإجارة فيما ذكرنا من الأقوال ، من المنع مطلقا ، والجواز كذلك ، والتفصيل الذي ذكرنا. واخترنا من المنع فيما يوجب الذلّ والهوان وعلوّ الكافر وسبيله على المسلم ، والجواز فيما عدا ذلك.

ولكنّ الظاهر أنّه بناء على القول يكون العين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم فلا تصحّ مطلقا ؛ لأنّ نفس كون المسلم ملكا للكافر علوّ للكافر عليه ، وأي علوّ أعظم من كونه مالكا والمسلم مملوكا له ، وقد تقدّم هذا الكلام.

نعم لو قلنا بعدم كون عين الموقوفة ملكا للموقوف عليهم فلا بأس بما اخترناه من التفصيل ، كما أنّه لو وقف عبده المسلم على تعليم أقاربه الكفّار أو معالجة مرضاهم فلا منع وأمّا لو وقف على خدمتهم بأن يكون خادما أو خادمة في بيتهم مثلا فلا يجوز.

ثمَّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا من موارد الجواز والمنع بين فرق المسلمين ممّن يقرّون ويعترفون بنبوّة نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله وأنّ كلّما جاء به من الأحكام الشرعيّة حق.

وبعبارة أخرى : الإسلام والإيمان هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمدا رسول اللّه ، والاعتراف بوجوب الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، وبهذا تحقن الدماء ، وعليها جرت المواريث وجاز النكاح.

ويدلّ على هذا ما رواه حمران بن أعين - كما في الكافي - عن أبي جعفر علیه السلام قال : سمعته يقول : « الإيمان ما استقرّ في القلب ، وأفضى به إلى اللّه عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان ، إلى أن قال : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شي ء من الفضائل

ص: 201

والأحكام وغير ذلك؟ فقال : لا ، هما يجريان في ذلك مجرى واحد » الحديث (1).

ولا يخفى أنّ ما ذكره في هذا الحديث من الفرق بين المؤمن والمسلم لا يدلّ على عدم اتّحادهما ، بل المراد من الإيمان الذي وصفه علیه السلام بما ذكره من الاستقرار في القلب ، والعمل بالطاعة لله عزّ وجلّ ، والتسليم لأمره هو أعلى مراتب الإيمان والإسلام ، ولا شكّ في أنّه كان للإسلام والإيمان في زمان نزول هذه الآية معنى واحد ، وفي كثير من الموارد من القرآن العظيم استعملا بمعنى واحد ؛ فالمؤمن في قوله تعالى : ( لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (2) يشمل جميع فرق المسلمين.

وأمّا عموم هذا الحكم لأطفال الكفّار والمسلمين ، بمعنى أنّ بيع عبد المسلم من أطفال الكفّار أو بيع طفل المسلم الذي هو عبد من الكفّار هل يجوز أم لا؟

الظاهر هو الشمول من الطرفين ، أي لا يجوز بيع أطفال المسلمين الذين هم عبيد من الكفّار ، ولو كان المشتري الكافر طفلا ؛ لوحدة الملاك والمناط ولو قلنا بعدم شمول لفظة « الكافرين » و « المؤمنين » لأطفال الطرفين ، مع أنّه لا وجه للقول بعدم الشمول ؛ لأنّه أيّ فرق في نظر العرف بين من كان عمره أقلّ بساعة عن حدّ البلوغ وبين من لا يكون.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعي أنّ الشارع استعمل لفظ « المسلم » فيمن كان بالغا وأظهر الاعتقاد بما ذكرنا ، ولفظ « الكافر » في البالغ غير المعتقد.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الادّعاء لا يخلو من غرابة.

ثمَّ إنّهم استثنوا من عدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر موارد :

منها : فيما إذا كان الشراء سببا للانعتاق ، أي كان العبد أو الأمة ممّن ينعتق على المشتري الكافر ، لكونه من أقاربه الذين شرع هذا الحكم في حقّهم.

ص: 202


1- « الكافي » ج 2 ، ص 26 ، باب أنّ الإيمان يشترك الإسلام و. ، ح 5.
2- النساء (4) : 141.

ولكن أنت خبير أنّ خروج هذا المورد عن تحت عموم الآية والحديث الشريف بالتخصّص لا بالتخصيص ، ويكون خروجا موضوعيّا ؛ لما ذكرنا من أنّ المراد من السبيل نفي الملكيّة المستقرّة ، فالملكيّة غير المستقرّة التي هي موضوع للانعتاق لقوله علیه السلام « إذا ملكوا أعتقوا » ، أو قوله علیه السلام « إذا ملكن أعتقن » (1).

ولا شكّ في أنّ نسبة الحكم والموضوع كنسبة العلّة والمعلول التقدّم والتأخر بينهما رتبي ، وإلاّ فحسب الزمان لا بدّ وأن يكونا متّحدين ، فمثل هذه الملكيّة لا يعدّ سبيلا وتكون خارجة عن مفهوم السبيل بل العلوّ قطعا.

ولا يتوهّم أنّ الشي ء لا يمكن أن يكون علّة انعدام نفسه ، فكيف صارت الملكيّة سببا للانعتاق؟

وذلك من جهة ما قلنا إنّ الملكيّة موضوع للانعتاق ، بمعنى أنّ الشارع حكم على ما صار ملكا له بالانعتاق ، ولعلّه هذا هو المراد من قولهم بالملكيّة آنا مّا ، وإن كان لا يخلو عن مسامحة ما.

فبناء على ما ذكرنا لا يبقى مجال لعدّ هذا المورد من موارد الاستثناء.

ومنها : من أقرّ بحرية مسلم ثمَّ اشتراه ، وأنّه يؤخذ بإقراره ويصير حرّا ظاهرا ، وإن كان بحسب الواقع عبدا.

نعم يردها هنا إشكال ، وهو العلم بفساد البيع إمّا لكونه حرّا ، وإمّا لكفر المشتري.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه على تقدير كونه واقعا عبدا فالبيع صحيح وليس كفر المشتري مانعا عن صحّة مثل هذا البيع ، لعدم صدق السبيل مع الأخذ بإقراره وصيرورته حرّا ولو ظاهرا.

ص: 203


1- « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 243 ، ح 877 ، باب العتق وأحكامه ، ح 110 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 29 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 4 ، ح 1.

منها : فيما إذا قال الكافر لمالك العبد المسلم : أعتق عبدك عنّي ؛ لأنّه لا يمكن العتق عن الكافر إلاّ بالدخول في ملكه ، إذ لا عتق إلاّ في ملك. فالبناء على صحّة عتق عبده المسلم عن قبل الكافر - كما هو المشهور - وتوقّف العتق عن قبل شخص على كون ذلك الشخص مالكا ، لا بدّ وأن يقال باستثناء هذا المورد أيضا عن عموم عدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا أيضا يرجع إلى ملكيّة غير المستقرّة ؛ لأنّه بإنشاء العتق يجعله ملكا للكافر ويعتق عن قبله ، فالعتق عن قبل الكافر بالدلالة المطابقة ، وجعله مالكا بالالتزام. وقد عرفت أنّ خروج الملكيّة غير المستقرّة عن تحت هذه القاعدة يكون بالتخصيص لا بالتخصّص ، فلا مورد للاستثناء.

ومنها : فيما إذا اشترط البائع العبد المسلم على الكافر عتقه. فقال في الدروس (1) والروضة (2) بالاستثناء عن عموم الآية والرواية.

ولكن أنت خبير بأنّ صرف الشرط لا يوجب الخروج عن تحت عموم السبيل ، وإلاّ فبدون الشرط أيضا يجب أن يبيعه من مسلم بل يباع عليه. والحقّ في المقام أنّه إن كان الشرط بنحو شرط النتيجة فخارج عن العموم ؛ لأنّه بمحض البيع على الكافر تقع النتيجة ويصير حرّا ، فليس إلاّ من الملكيّة غير المستقرّة ، وقد عرفت خروجه عن تحت العموم بالتخصّص.

ومنها : أي من الأمور المترتّبة على هذه القاعدة ومن موارد تطبيقها عدم ثبوت الولاية للكافر على المسلم وأن يكون له تحكّم عليه ، فلا يجوز جعله قيّما على صغار المسلمين وسفهائهم ، بل ومجانينهم ، وكما لو كان الميّت المسلم له أولاد كفّار ، فليس لهم الولاية في تجهيزه ودفنه وكفنه ، فلا تتوقّف هذه الأمور على إذنهم ، بل يكون الأمر

ص: 204


1- « الدروس » ج 3 ، ص 199 ، كتاب البيع ، في شرائط المتعاقدين ، درس (239).
2- « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 244.

راجعا إلى سائر المسلمين. كلّ ذلك لأجل نفي السبيل للكافرين على المؤمنين في الآية الشريفة ، ولا شكّ في أنّ الولاية والتأمّر والتحكّم على المسلمين سبيل وعلوّ من الكفّار عليهم فمنفيّ بالآية والرواية.

ومنها : عدم توقّف صحّة نذر الولد المسلم على إذن أبيه الكافر ، بناء على توقف صحّة نذر الولد على اذن الوالد المسلم ، وعدم تمكّن الوالد الكافر من حلّ نذر ولده المسلم ، وإن قلنا بأنّ للوالد المسلم حلّ نذر ولده ؛ وذلك من جهة أنّ تمكّنه من حلّ نذره أو توقّف صحّة نذره على إذن والده الكافر سبيل للكافر على المسلم.

ومنها : عدم جواز جعله متولّيا على الوقف الذي راجع الى المسلمين ، كالمدارس الدينيّة التي وقف على طلاّب العلوم الدينيّة ، فكون الكافر متوليّا عليها يرجع إلى أنّ دخول الطلاّب فيها وبقائهم فيها يكون بإذن ذلك الكافر المتولّي ، وفي أيّ وقت له حقّ أن يخرج الطالب عن المدرسة.

وكذلك كون الكافر متوليّا على المستشفى الذي يكون وقفا على مرضى المسلمين ، ومعلوم أنّ جعل الكافر متولّيا على ذلك المستشفى أو تلك المدارس يرجع إلى أن يكون له السبيل على المسلمين ، فلا يجوز بحيث يكون الخروج والدخول فيها بإذن ذلك المتولّي سبيل للكافر على المسلم وعلوّ له عليه ، المنفيّان بالآية والرواية.

وهكذا الحال والكلام في المدارس التي توقّف على أولاد المسلمين لتربيتهم وتعليمهم ، بل الكلّيات كذلك ، فلا يجوز جعل الكافر عميدا لها.

فالمراد من عدم الجواز في هذه الموارد عدم الصحّة ، لا الحرمة التكليفية فقط ؛ لأنّ جعل الصحّة من طرف الشارع في هذه الموارد يلزم منه السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، وقد بيّنّا في معنى الآية أنّ ظاهرها عدم تشريع الشارع حكما يلزم من ذلك التشريع والجعل سبيل للكافر على المسلم.

ومنها : عدم ثبوت حق الشفعة والأخذ بها للكافر فيما إذا كان المشتري مسلما

ص: 205

ولو كان البائع كافرا ؛ وذلك من جهة أنّ جعل هذا الحقّ له يلزم منه أن يكون للكافر حق انتزاع ملكه ، أي المشتري المسلم من يده قهرا عليه ورغما على أنفه ، فهذا الجعل يلزم منه السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، فمنفي بالآية والرواية.

ولا فرق في لزوم هذا الأمر بين أن يكون البائع مسلما أو كافرا ؛ لأنّ الشفيع يتلقّى الملك من المشتري ، ولا علاقة له بالبائع أصلا.

ومنها : أنّ نكاح الكافر تبطل بإسلامها إن لم يسلم الزوج الكافر في العدّة ، إذ بقاء الزوجيّة مع كفر الزوج يرجع إلى علوّ الكافر على الزوجة المسلمة وأن يكون له سبيل عليها ؛ لأنّ ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (1). وقد قال بعض المفسّرين في شأن نزول هذه الآية : أنّها نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو ، وكان من النقباء وفي امرأته حيبة بنت زيد بن أبي وقّاص ، وهما من الأنصار ، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لتقتص من زوجها وانصرفت » فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « ارجعوا ، هذا جبرئيل أتاني وأنزل. هذه الآية » فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا ، والذي أراد اللّه خير » ورفع القصاص.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا النقل لا يخلو عن إشكال ، فإنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لا يفتي بغير ما أراد اللّه ، وعلى كلّ حال تدلّ الآية على علوّ الرّجال على النساء ، وعليهن أن ينهين بنهيهنّ ، ولا يخالفن أزواجهنّ فيما إذا أرادوا منهنّ البضع.

وقد روى الطبري في تفسيره روايات عن أشخاص متعدّدة في تفسير هذه الآية الشريفة ، كلّها يظهر منها أنّ الرجل له حقّ تأديب زوجته ، حتّى أنّه حكي عن الزهري أنّه كان يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس ، فمثل هذه السلطنة التي موضوعها الزوجيّة لا يمكن أن يكون مجعولا للكافر ، فيدور الأمر بين أن

ص: 206


1- النساء (4) : 34.

يخصّص إحدى هاتين الآيتين ، ولا مخصّص في البين وكلتيهما آبيتان عن التخصيص ، فلا بدّ وأن يقال بارتفاع منشأ هذه السلطة حدوثا وبقاء ، أي حدوث الزوجيّة بينهما ابتداء واستدامة.

ومنها : عدم اعتبار التقاطة الطفل المحكوم بإسلامه ، لعدم مجي ء ذلك الطفل تحت يده ، فتكون يده عليه شبه اليد العادية ؛ لأنّ الإسلام لا يعلى عليه ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1).

ومنها : عدم جعل حقّ القصاص للكافر على المسلم ، مثلا لو قتل مسلم مسلما عمدا وكان للمسلم المقتول ولدا كافرا ، سواء أكان وحده أو معه أولاد مسلمين ، فإذا كان غيره وارث مسلم فيختصّ ذلك الوارث المسلم بحقّ القصاص ، وإن لم يكن وارث آخر وكان وحده يسقط حقّ القصاص بالمرة ، أو يرجع أمره إلى الحاكم.

هذه جملة من الموارد التي تنطبق هذه القاعدة عليها ، والفقيه المتتبع يجد موارد كثيرة تركنا ذكرها ، والعمدة تنقيح هذه الكبرى من حيث مفادها وتحصيل الدليل لإثباتها ، وإلاّ فبعد تمامية هذين الأمرين لا يستصعب على الفقيه المتتبّع تعيين مواردها وتطبيقها عليها.

والحمد لله أوّلا وآخراً.

ص: 207


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 5 ، ص 37.

ص: 208

8 - قاعدة لا ضرر ولا ضرار

اشارة

ص: 209

ص: 210

قاعدة لا ضرر ولا ضرار (1)

في شرح القاعدة الفقهيّة المشهورة المعروفة ؛ ب- « قاعدة لا ضرر ». والكلام فيها في مقامات :

المقام الأول : في مدركها

وهو عبارة من روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي بمنزلة كبرى كلّيّة يطبقها صلی اللّه علیه و آله في موارد عديدة :

منها : ما رواه في الكافي في قضيّة سمرة بن جندب المشهورة عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام ، بعد نقل القضيّة أنّه صلی اللّه علیه و آله قال للأنصاري : « اذهب فاقلعها

ص: 211


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 141 ؛ « الأقطاب الفقهيّة » ص 47 ؛ « الحقّ المبين » ص 152 ؛ « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص 311 ؛ « عوائد الأيّام » ص 15 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 10 ؛ « الرسائل الفقهيّة » ص 109 ؛ « مجموعه رسائل » ص 454 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 40 ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص 190 ؛ « قواعد فقه » ص 97 ؛ « بدائع الدرر في قاعدة نفى الضرر » الامام الخميني ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 195 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 95 ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » السيستاني ؛ « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » السبحاني ؛ « القواعد » ص 245 ؛ « قواعد فقه » ص 144 ؛ « قواعد الفقه » ص 8 ؛ « قواعد فقهي » ص 169 ؛ « قواعد فقهية » ص 51 ؛ « قواعد الفقهية » ص 44 - 45 و 134 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 270 ؛ « ترجمه وتحقيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » زهرا شرف الدين ، ماجستير ، جامعه طهران ، 1371 ؛ « تصحيح وتحقيق قاعدة لا ضرر از عوائد الأيّام » محمد على اليثربى ، ماجستير ، جامعة طهران ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » أحمد مولا ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1339 ؛ « حديث لا ضرر از ديدگاه امام راحل » محمد هادي معرفت ، مجله حضور ، العدد 4 ؛ « دو قاعدة فقهي قاعدة يد ولا ضرر » مجلة « حقّ » - فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366.

وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار » (1) وفي بعض طرق هذا الحديث كطريق عبد اللّه بن مسكان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر حكاية قوله صلی اللّه علیه و آله هكذا قال صلی اللّه علیه و آله : « إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن » (2) ففي هذا الطريق زيد على تلك الجملة المعروفة كلمة « على مؤمن ».

ومنها : ما رواه الفقيه مرسلا في باب ميراث أهل الملل : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » بزيادة كلمة « في الإسلام » (3).

ومنها : ما رواه الكليني عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في أنّه قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي ء ، وقضى صلی اللّه علیه و آله بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال : « لا ضرر ولا ضرار » (4).

ومنها : تطبيق هذه الكبرى في باب الشفعة ، كما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال علیه السلام : « قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين وقال : لا ضرر ولا ضرار ». (5).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام في مسألة جدار الجار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنه لو هدم جدار داره ولم يقسط هو ، أو أراد أن يهدمه ، قال علیه السلام : « لا يترك وذلك أن رسول اللّه علیه السلام قال : لا ضرر ولا ضرار » (6).

والإنصاف أنّ الفقيه بعد ملاحظة هذه الروايات الكثيرة من طرقنا ، بضميمة ما رواه مخالفونا في كتبهم عنه صلی اللّه علیه و آله ، ربما يقطع بصدور هذه الجملة - أي جملة « لا ضرر

ص: 212


1- « الكافي » ج 5 ، ص 292 ، باب الضرار ، ح 2.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 294 ، باب الضرار ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 341 ، أبواب إحياء الموات ، باب 12 ، ح 4.
3- « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 293 ، باب الضرار ، ح 6.
5- « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 4.
6- « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 504 ، ح 1805 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 118 ، أبواب إحياء الموات ، باب 9 ، ح 1.

ولا ضرار » - عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولذلك ادّعى بعضهم (1) التواتر في هذا الحديث ، فلا حاجة إلى التكلّم في سنده مع عمل الأصحاب به وإرساله إرسال المسلمات ، مضافا إلى صحّة سند بعض هذه الروايات. نعم في ثبوت الكلمتين ، أي كلمة « في الإسلام » وكلمة « على مؤمن » إشكال ؛ لأنّ في قضيّة سمرة بن جندب التي قضيّة واحدة ، روي في بعض الطرق الصحيحة بدون كلمة « على مؤمن » وفي بعض آخر معها. ولكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لبناء العقلاء على ذلك ، وعدم ذكر الراوي في ذلك الطريق لعدم احتياجه إلى نقله ، أو لجهة أخرى.

وأمّا كلمة « في الإسلام » فيمكن أن يقال فيها بعدم الإشكال أيضا ، لاحتمال صدورها وعدم معارض لها. وأمّا إرسالها من الفقيه فلا يضرّ مع تلقّي الأصحاب لها بالقبول.

المقام الثاني : في فقه الحديث

اشارة

أي ما هو مفاد الحديث ومضمونه ، وهو العمدة في المقام ؛ لأنّ المقصود من ذكر هذه القاعدة الفقهيّة وشرحها وإيضاحها هو أن يكون الفقيه ذا بصيرة في مقام تطبيق هذه القاعدة على الفروع المتفرّعة عليه ، ولا يتوقّف ولا يشتبه في شي ء منها.

فأقول : أمّا ألفاظ هذه الجملة ، أعني كلمة « الضرر » و « الضرار » وإلاّ ما عداهما ، أعني كلمتي « على مؤمن » و « في الإسلام » على فرض ثبوتهما في الحديث لا يحتاج إلى البحث والتكلّم فيهما لوضوح المراد منهما.

ص: 213


1- « إيضاح الفوائد » ج 2 : ص 48.

أمّا كلمة « الضرر » : فقال بعض : إنّه أمر وجودي ضد النفع. وقال آخرون : إنّ التقابل بينه وبين النفع تقابل العدم والملكة ، فيكون معناه عدم النفع في موضوع قابل له. والظاهر أنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ لا العدم والملكة ؛ لأنّه في الموضوع القابل يرجع إلى النقيضين لا يمكن ارتفاعهما ، وفيهما يمكن الارتفاع حتّى في الموضوع القابل ، فالمبيع الذي بيع برأس المال مثلا مع أنّ تلك المعاملة قابلة للنفع والضرر يصدق أنّ هذه المعاملة لا نفع فيها ولا ضرر.

وعلى كلّ حال الظاهر من لفظ الضرر عرفا هو النقص في ماله ، أو عرضه ، أو نفسه ، أو في شي ء من شؤونه بعد وجوده أو بعد وجود المقتضى القريب له بحيث يراه العرف موجودا.

وأمّا كلمة « الضرار » : فقيل بأنّه مصدر باب المفاعلة ، وحينئذ بناء على أن تكون المفاعلة من الطرفين ، يكون معناه الضرر على الغير في مقابل ضرره عليه. وبناء على أن يكون بمعنى تكرار صدور المبدأ من الفاعل سواء أكان الفاعل شخصا واحدا أو شخصين وإن كان يستعمل غالبا فيما كان الفاعل شخصين ، ولعلّ لأجل هذه الغلبة يتبادر بدوا إلى الذهن المشاركة من الطرفين ، وإن كان محطّ النظر فاعليّة أحدهما ومفعوليّة الآخر ، كما يقال : ضارب زيد عمرا.

وهذا هو الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل بعد اشتراكهما في المشاركة ، حيث أنّ النظر في باب التفاعل إلى فاعليّة الاثنين ، ولذا يقال : تضارب زيد وعمرو برفع الاثنين ، بخلاف باب المفاعلة حيث أنّه برفع أحدهما ونصب الآخر كما ذكرنا يكون معناه تكرار صدور الضرر.

وهذا المعنى مناسب في المقام ؛ لأنّ قوله صلی اللّه علیه و آله لسمرة « أنت رجل مضارّ » ليس بمعنى صدور الضرر من الطرفين ، لأنّ الأنصاري ما أضرّ بسمرة ، وكون إطلاق لفظة « مضارّ » عليه بلحاظ موارد الآخر بعيد عن مساق الحديث ، بل الظاهر أنّه صلی اللّه علیه و آله في

ص: 214

مقام بيان أنّ سمرة كثير الضرر ومصرّ عليه.

وأمّا احتمال أن يكون اسما بمعنى الضرر ، لا مصدر باب المفاعلة ففي غاية البعد ؛ لأنّه تكرار أوّلا بدون أيّ نكتة وفائدة فيه. وثانيا هو خلاف ظاهر هذه الكلمة ؛ لأنّه ظاهر في كونه مصدر باب المفاعلة.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه واخترناه في معنى الضرار ورود باب المفاعلة في كثير من الموارد بهذا المعنى ، أي كثرة صدور المبدء من شخص وتكراره ، كقوله تعالى :

( يُخادِعُونَ اللّهَ ) (1) وقوله تعالى ( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) (2) وأمثال ذلك ممّا في القرآن الشريف أو في غيره.

والحاصل : أنّ لفظ « الضرر » له مفهوم واضح عند العرف ، بحيث كلّ تفسير وشرح له ليس أوضح من نفسه ، ومثل هذه المفاهيم ليست قابلة للتعريف الحقيقي ، فكلّ ما يذكر في شرحه يكون تعريفا لفظيّا هو أخفى منه.

وأمّا لفظة « الضرار » فهو أيضا كذلك ، وهو مصدر باب المفاعلة من نفس المادة ، فلا حاجة إلى إيراد ما ذكره اللغويّون في المقام والنقض والإبرام فيها.

وأمّا كلمة « لا » فلا شكّ في أنّها لنفي الجنس إذا كان ما بعدها نكرة ، نحو : لا رجل في الدار. فتكون ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة ، إلاّ أن يثبت أنّ النفي ادّعائي.

هذه شرح كلمات المفردة التي في الحديث.

وأمّا شرح هذه الجملة ومفادها ، أعني : « لا ضرر ولا ضرار » فالأقوال المعروفة المشهورة التي ذكرها الفقهاء أربعة :

الأوّل : أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير ، أو مطلقا حتّى على النفس ،

ص: 215


1- البقرة (2) : 9 ؛ النساء (4) : 142.
2- البقرة (2) : 233.

فيكون مساقها مساق قوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (1) حيث أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الأمور في الحجّ. ونظائرها كثيرة في الأخبار ، حيث يكون ظاهر الكلام نفي ولكن أريد منه النهي ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل » (2) وغير ذلك من الموارد العديدة.

ولقد أصرّ شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره على هذا القول ، وتعيّن هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربع (3).

الثاني : أن يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ونظائرها كثيرة في الأخبار ، كقولهم : - المتصيّدة من الروايات - لا شكّ لكثير الشكّ (4) ، وقوله علیه السلام : « لا سهو في السهو » (5) وقوله علیه السلام : « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (6) وغيرها من الموارد الكثيرة ، فيكون المراد من هذه الجملة بناء على هذا القول أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارت ضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر يرتفع ذلك الحكم عن ذلك الموضوع ، فتكون هذه القاعدة بناء على هذا حاكما على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب الموضوع.

وإلى هذا القول ذهب صاحب الكفاية قدس سره واختاره (7).

الثالث : أن تكون مفادها نفي الحكم الضرري ، بمعنى أنّ كلّ حكم صدر من الشارع فان استلزم ضرر أو حصل من قبل جعله ضرر على العباد - سواء أكان

ص: 216


1- البقرة (2) : 197.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 50 ، باب فضل ارتباط الخيل ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 348 ، أبواب كتاب السبق والرماية ، باب 3 ، ح 1.
3- « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » 24 - 27.
4- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 25 ، ح 2.
6- « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24.
7- « كفاية الأصول » ص 381.

الضرر على نفس المكلّف أو على غيره ، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر مالي أو بدني على المكلّف ، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله ضرر على المغبون - مرفوع.

ولا يخفى أنّه بناء على هذا القول استعمل كلمة « لا » في معناها الحقيقي ، لأنّ معناها الحقيقي - كما ذكرنا - نفي جنس مدخولة حقيقة لا ادّعاء ، ولا شكّ في أنّ رفع الحكم الضرري من الشارع رفع حقيقي ؛ لأنّه لا وجود للحكم الضرري - لو كان - إلاّ في عالم التشريع ، والمفروض أنّه رفعه بهذه الجملة بناء على هذا القول.

والفرق بين هذا القول والقول الثاني ، أي ما ذهب اليه صاحب الكفاية قدس سره لا يكاد يخفى ، لأنّ المرفوع ابتداء في القول السابق هو متعلق الحكم ، وفي هذا القول نفس الحكم.

ويترتّب على هذا الفرق آثار ، وقد ذكرنا في دليل الانسداد أنّ لزوم الاحتياط بالجمع بين المحتملات - في حال الانسداد في أطراف المعلوم بالإجمال - بحكم العقل.

فإذا كان الاحتياط بالمعنى المذكور حرجيّا أو ضرريّا فإن قلنا بالقول الثاني - أي ما ذهب إليه صاحب الكفاية في قاعدتي الضرر والحرج - فلا يمكن رفع وجوب الاحتياط بكلّ واحدة من القاعدتين ؛ لأنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة ليس فيها حرج ولا ضرر حتّى يرتفع برفعها الأحكام ، والاحتياط ، أي الجمع بين المحتملات.

وإن كان حرجيّا أو ضرريّا ولكن وجوبه عقلي ، ليس من المجعولات الشرعيّة حتّى يرتفع برفع موضوعه في عالم التشريع ، وهو قدس سره اعترف في الكفاية بذلك.

وأمّا لو قلنا بالقول الثالث ، أي كون المرفوع نفس الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيمكن أن يقال : إنّ الضرر نشأ من قبل الأحكام المجعولة فترتفع ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط ، فيكون الاحتياط لو كان واجبا شرعيّا لا عقليّا بالمقدار الذي يرفع الخروج من الدين.

ص: 217

وخلاصة الكلام : أنّه تظهر الثمرة بين القولين - أي الثاني والثالث - في كلّ مورد لا يكون موضوع الحكم ضرريّا ، ولكن نفس الحكم يكون ضرريا. وبعبارة أخرى : يكون الضرر مسبّبا عن نفس الحكم كما ربما تكون المعاملة الغبنيّة كذلك ، فإنّ الضرر يأتي من قبل لزوم المعاملة ، لا من نفس المعاملة ، وللزوم حكم شرعي ؛ ففي جميع هذه الموارد بناء على القول الثاني لا حكومة لقاعدة لا ضرر على الأدلّة الأوليّة ، بخلاف القول الثالث فإنّها بناء عليه تكون حاكمة عليها ، فظهر الفرق بين القولين بحسب الماهيّة والآثار.

الرابع : أنّ مفادها نفي الضرر غير المتدارك ، بمعنى أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.

وتقريبه بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم ولا يراه الشارع ضرر ، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء ، فنفي الضرر المطلق بناء على هذا الفرض يرجع إلى نفي الضرر غير المتدارك ، والظاهر حينئذ من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع لزوم التدارك ؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم ، فإذا كان النفي بمعنى النهي فيكون الضرر غير المتدارك منهيّا إيجاده ، وهكذا كناية عن وجوب تداركه. كما أنّه إذا قال : لا تقبل هدية بلا عوض ، فيكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هدية فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك ، بل يجب عليك تداركها بإهداء شي ء إلى المهدي في مقابلها. إذا عرفت هذه الوجوه والأقوال فنقول :

الصحيح من هذه الاحتمالات والأقوال هو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (1) وشيخنا الأستاذ (2) 0 وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه صلی اللّه علیه و آله في مقام

ص: 218


1- « المكاسب » ص 372.
2- « منية الطالب » ج 2 ، ص 201.

التشريع ، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتناني على الأمّة ؛ فالحديث ظاهر سياقا في أمرين :

أحدهما : أنّ الرفع رفع تشريعي ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع التكويني ، لأنّه أولا المناسب لمقام الشارعيّة هو أن يكون رفعه وضعه رفعا ووضعا تشريعيّا لا تكوينيّا ، لخروج ذلك عن وظيفته وليس من شئونه. وثانيا : أنّ الرفع التكويني لا يمكن أن يحصل بإنشاء الرفع ، بل لا بدّ له من أسبابه التكوينيّة.

وأمّا احتمال أن يكون إخبارا عن الرفع التكويني ، ففي غاية السقوط ؛ لأنّه كذب أوّلا ؛ وثانيا لا ربط له بمقام الشارعيّة.

وأمّا كونه في مقام الامتنان يدلّ عليه مضافا إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاويهم ، سوق الكلام لذلك ، حيث يخاطب سمرة بقوله صلی اللّه علیه و آله : « أنت رجل مضارّ » أي مصرّ على الضرر ، كما استظهرنا من هذه اللفظة ، ثمَّ يقول صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار ».

فإذا ظهر ظهور الحديث الشريف في هذين الأمرين ، من دون الاحتياج إلى كلمة « على مؤمن » أو كلمة « في الإسلام » فنقول : لا شكّ في أنّ الرفع التشريعي ظاهره أنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ رفعها يكون رفعا حقيقيا لا ادّعائيا ، لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلاّ في عالم التشريع ، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقة وبقول مطلق ، وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة « لا » ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقة إذا كان المدخول نكرة.

وأمّا إذا كان المرفوع أمرا تكوينيا فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّا لا حقيقيّا ، فتكون النتيجة رفع الحكم حقيقة برفع الموضوع ادّعاء ، كقوله المتصيّدة من الروايات : « لا شكّ لكثير الشكّ ».

ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر هذه الجملة ، لا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان رفع المدخول لكلمة « لا » حقيقة. وفيما نحن فيه يمكن ذلك ، أي الرفع الحقيقي لمدخول « لا ».

ص: 219

بيان ذلك : أنّ الضرر الناشئ من قبل الأحكام الشرعيّة ويكون مسبّبا عنها يمكن رفعه حقيقة من عالم الوجود برفع أسبابه التشريعيّة ، أي رفع ذلك الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، فالمرفوع حقيقة هذا القسم من الضرر لا بتقييد في لفظ الضرر ، أو بتجوّز ، أو إضمار ، أو تقدير أو غير ذلك ؛ بل الرفع التشريعي في مقام الامتنان على الأمّة يقتضي ذلك وقاصر عن شموله لأزيد من هذا ، إذ رفع سائر الإضرار - أي الإضرار الخارجية - لا ربط لها بالشارع في هذا المقام.

نعم لا ننكر أنّ الشارع قد يدعي رفع موضوع خارجي بلحاظ رفع حكمه ، ولكن هذا فيما لا يمكن رفعه حقيقة في عالم التشريع ، فمقتضى ظاهر هذه الجملة هو رفع الضرر الذي منشأه الحكم الشرعي برفع نفس الحكم ، فيكون الحديث حاكما على إطلاقات وعمومات الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول.

وهذا من هذه الجهة أيضا يفارق قول صاحب الكفاية قدس سره من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ؛ لأنّ ما قاله تكون نتيجة الحكومة في جانب الموضوع ، وهذا القول تكون نتيجة الحكومة في جانب المحمول.

ثمَّ أنّه ظهر ممّا ذكرنا فساد سائر الأقوال :

أمّا القول الأوّل : وهو أن يكون النفي بمعنى النهي ، فلأجل أنّه خلاف الظاهر ؛ لما ذكرنا من ظهور الجملة في الرفع التشريعي ، فلا ربط له بالضرر الخارجي التكويني كي يتوهم أنّ النفي بمعنى النهي ، وإلاّ يلزم الكذب ، أو يقال إنّ نفيه ادّعائي من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهذان القولان متوقّفان على أن يكون الرفع رفع الضرر التكويني ، حتّى يؤول بأحد الوجهين كي لا يلزم الكذب ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : ذكرنا ظهور الحديث وسوقه في مقام الامتنان ، وأيّ امتنان في إلزام المكلّف بلزوم ترك الإضرار ، بل هذا تحميل وتكليف ، فتأمل.

وثالثا : حمل الجملة الخبريّة على الإنشاء خلاف ظاهر اللفظ ، فيحتاج إلى قرينة

ص: 220

صارفة مفقودة في المقام. والعجب ممّن يصرّ على ذلك المعنى وظاهر الحديث أجنبي عنه.

وأمّا القول الثاني : - أي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، الذي ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره فقد ظهر - فساده أيضا ممّا ذكرنا من توقفه على أن يكون المراد من الضرر هو الضرر الخارجي التكويني ، حتّى تخرج عن ظاهر الجملة ، « من جهة لزوم الكذب بأنّه ليس رفعا حقيقيا ، وإنّما هو رفع ادّعائي باعتبار رفع حكم الموضوع الضرري.

وقد عرفت أنّ الضرر الخارجي يرجع إلى ادّعاء الرفع باعتبار رفع حكمه ، وهذا خلاف ظاهر كلمة « لا » ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان الرفع الحقيقي ، وفي المقام ممكن كما عرفت ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : مرجع رفع الحكم برفع الموضوع في المقام إلى رفع حكم المجعول على نفس عنوان الضرر حتّى يصير من مصاديق رفع الحكم برفع الموضوع ، وحكم المجعول للضرر بمعناه المصدري - أي الإضرار - ليس إلاّ الحرمة التكليفيّة ؛ إذ بمعناه الاسم المصدري - أي الضرر الحاصل من الإضرار - لا حكم له ، لا تكليفا ولا وضعا. أمّا تكليفا فمعلوم ؛ لأنّه بهذا المعنى ليس من فعل المكلّف حتّى يكون مركزا ومحلّ تعلّق التكليف.

وأمّا وضعا فمن جهة أنّ نفس الضرر بالمعنى الاسم المصدري ليس من أسباب الضمان ، فلا بدّ وأن يكون حكمه المرفوع بناء على هذا القول حرمة الإضرار ، وهذا ينتج عكس ما أراده صلی اللّه علیه و آله من هذه الجملة تماما.

إن قلت : إنّ هذا يلزم لو كان المرفوع نفس عنوان الضرر ، وأمّا لو كان الفعل المعنون بهذا العنوان - وبعبارة أخرى : يكون المراد من الضرر ما هو المضرّ - فلا يرد هذا الإشكال ، بل يكون حاكما على العمومات والإطلاقات التي تثبت الأحكام للافعال بعناوينها الأوّليّة بتقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بصورة

ص: 221

عدم تعنون تلك الأفعال بعنوان الضرر. غاية الأمر ذلك التقييد والتخصيص اللبي بلسان الحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول ، وهذا عين الغرض والمقصود من هذه الجملة ، فما أنتج هذا القول خلاف المقصود.

قلت : إنّ إرادة الفعل الذي صار سببا للضرر من الضرر مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة ؛ لأنّه من استعمال المسبّب وإرادة السبب. نعم هذا صحيح فيما إذا لا يمكن ارادة نفس المسبب ، فلا بدّ من أن يحمل على إرادة السبب ، أو محملا آخر صونا للكلام عن الكذبيّة أو محذور آخر.

وقد عرفت أنّه في المقام يمكن إرادة نفي نفس الضرر حقيقة بالبيان المتقدّم ، فلا يقاس ما نحن فيه بحديث الرفع بالنسبة إلى رفع الخطأ والنسيان ، حيث حملوها على رفع الفعل الذي صدر عن خطأ ونسيان ؛ لأنّ الرفع هناك لا يمكن أن يستند إلى نفس الخطأ والنسيان وإرادة نفيهما ، لا تكوينا لأنّه كذب ، ولا تشريعا لأنّه يلزم منه أن يكون الفعل الذي صدر خطأ بحكم العمد ؛ لأنّ حكم الخطأ مرفوع على الفرض ، وهذا عكس ما هو المقصود من حديث الرفع ، من كونه في مقام الامتنان على الأمّة ويكون ضد الامتنان ، ومن إيقاعهم في غاية الكلفة والمشقّة ، فلا بدّ من حملهما على الفعل الذي صدر نسيانا أو خطأ.

إن قلت : بناء على ما اخترت من كون مفاد الحديث نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، أيضا كذلك يلزم أن يكون استعمال الضرر مجازا ؛ لأنّه أريد منه أيضا سببه ، أي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، فيكون أيضا من استعمال المسبّب وإرادة السبب.

قلت : بين المقامين فرق واضح ، فإنّه في الأوّل - أي فيما إذا كان المراد من الضرر الضرر الخارجي - لا يمكن أن يكون المراد نفي الضرر ؛ لأنّه كذب ، فلا بدّ أن يراد منه سببه ، وهذا هو المجاز.

ص: 222

وأمّا في المقام فحيث إنّ المراد من الضرر الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم ، يمكن رفعه حقيقة بالرفع التشريعي ، وبرفع منشأه ، أي الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيصح أن يكون المراد نفي الضرر الكذائي من دون تجوّز ولا تقدير ولا غير ذلك ، فبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على نفي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، لا أنّه أريد من لفظ الضرر وهذا المعنى كي يكون مجازا.

وأمّا القول الرابع : ففيه أولا : أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم - على فرض صحّته وتماميّة - يكون ذلك فيما إذا تحقّق التدارك في الخارج ، لا بصرف حكم الشارع بوجوب التدارك ، خصوصا إذا كان حكمه تكليفا لا وضعا ، فإذا كان المراد من نفي الضرر نفي غير المتدارك منه ، بمعنى أنّه كلّ ضرر يجب تداركه ، فالضرر الذي لا يجب تداركه منفي في الإسلام.

فهذه الدعوى مركبة من أمرين :

أحدهما : أن الضرر الذي يجب تداركه نازل منزلة العدم.

وهذا هو الذي أشكلنا عليه بأنّه بصرف الحكم الشرعي بوجوب تداركه لا يراه العرف والعقلاء منزلة العدم ، خصوصا إذا كان حكمه هذا حكما تكليفيا.

والثاني : أن يكون نفي الضرر غير المتدارك كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر بجعل الجملة الخبرية بمعنى الإنشائية ، أي النهي عن الضرر غير المتدارك ، كي يكون هذا النهي كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر تكليفا بل وضعا.

وفي هذه الدعوى الثانية أنّه إذا كان المراد من وجوب تداركه الحكم الوضعي بضمانه ، فهذا غير ثابت في الشريعة ، وليس الضرر من أسباب الضمان ، وقد عدها الفقهاء من الإتلاف واليد والعقود المعاوضية الفاسدة والتغرير وغير ذلك ، ولم يذكروا في جملتها الضرر ، وإذا كان المراد صرف الوجوب التكليفي ، فهذا أيضا غير معلوم في جملة من الموارد ، مضافا إلى أنّه لا يوجب كونه نازل منزلة العدم ، كما ذكرنا ؛ هذا أوّلا.

ص: 223

وأمّا ثانيا ، فيرد عليه كلّ ما أوردنا عليه في القول الأوّل من كون النفي بمعنى النهي ، بناء على أن يكون مبنى هذا القول أيضا كون النفي بمعنى النهي ، كما شرحناه مفصلا.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يجوز الخروج عمّا هو ظاهر الجملة إلاّ من جهة ملزمة لذلك ، وقد عرفت ما هو الظاهر منها وعدم جهة ملزمة للخروج عن ذلك الظاهر ، فلا مناص إلاّ عن اختيار ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره من أنّ ظاهر الحديث هو الاحتمال الثالث الذي ذكرناه من نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر. (1)

والحاصل : أنّ هذه الاحتمالات الأربع كلّها ممكنة في عالم الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات بينها طوليّة وترتيب.

فالمراتب كعدد الاحتمالات أربع مراتب ، لا تصل النوبة إلى الثاني إلاّ بعد تعذّر الأوّل ، وهكذا على حسب الترتيب.

الأوّل : هو رفع الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم الشرعي حقيقة وواقعا برفع سببه أي الحكم ، وهذا هو المعنى الظاهر من هذه الجملة ، والظاهر من معنى كلمة « لا » الموضوعة لنفي الجنس بالنفي البسيط مقابل الجعل البسيط ، والمراد من البسيط - في كليهما - أن يكون المنفي والمجعول نفس وجود الشي ء. ويشهد لما ذكرنا - من ظهور كلمة « لا » لذلك - أنّهم اتّفقوا على أنّ خبر « لا » النافية للجنس هو مفهوم « موجود ». ودائما محذوف لمعلوميّته.

فإذا تعذّر هذا المعنى - أي النفي الحقيقي لا ادّعاء - فتصل النوبة إلى الثاني ، أي نفى الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا النفي نفي تركيبي ، مقابل الجعل التركيبي ، أي نفي الحكم عن هذا الموضوع. فقول الفقهاء « لا شكّ لكثير الشكّ » في الحقيقة عبارة عن نفي حكم الشكّ - وهو البناء على الأكثر - عن شكّ كثير الشكّ. وإن شئت قلت :

ص: 224


1- « المكاسب » ص 372.

إنّه نفي بسيط أمّا ادّعاء.

وإذا تعذّر هذا المعنى تصل النوبة إلى احتمال الثالث الذي هو عبارة عن كون النفي بمعنى النهي الذي هو خروج عن الظاهر ، أى المعنيين الحقيقيّين التحقيقي والادّعائي وان كان بينهما أيضا طوليّة ، كما ذكرنا.

ولكن مع أنّه خروج عن ظاهر مقدّم على احتمال الرابع ، وهو أن يكون كناية عن لزوم تدارك الضرر باشتغال ذمّة الذي أوقع الضرر ، لا بصرف وجوبه تكليفا كما شرحنا ؛ لأنّه خلاف الظاهر من جهتين :

الأولى : كون النفي بمعنى النهي ، وقلنا إنّه خروج عن الظاهر ، وإن أصرّ عليه النراقي (1). وشيخ الشريعة الأصفهاني 0 (2).

الثانية : تنزيل الضرر المتدارك منزلة المعدوم ، وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك منه.

وينبغي التنبيه على أمور

الأوّل : في الإشكالات على تطبيق هذه الجملة على مواردها التي طبق صلی اللّه علیه و آله عليها.

فمنها : في قضية سمرة بن جندب التي تقدّم ذكرها مفصّلا ، وأشكل عليه أوّلا : بأنّها لا تنطبق على أمره صلی اللّه علیه و آله بقلع العذق والرمي بها وجهه ؛ لأنّ

ص: 225


1- ليس هذا مختار النراقي ، فراجع : « عوائد الأيام » ص 18 - 19.
2- « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » ص 24 - 27.

حقّ سمرة في ذلك البستان من حيث بقاء عذقه فيه ليس ضرريّا ، بل الضرر في جواز دخوله فيه بلا استيذان ، فيلزم تخصيص المورد وهو مستهجن ، فيلزم إجمال العام.

وأجيب على هذا الإشكال بأنّه صلی اللّه علیه و آله لم يطبق الجملة على هذه القضيّة من هذه الجهة ، وإنّما كان حكمه بقلع عذقه من جهة ولايته صلی اللّه علیه و آله على النفوس والأموال تأديبا وحسما لمادّة الفساد بعد أن تمرّد من قبول الحكم الشرعي ، أي وجوب الاستيذان ، أو عدم إباحة دخوله بغير الإذن الذي هو مفاد « لا ضرر ولا ضرار » ، فتطبيقه كبرى لا ضرر بلحاظ هذا المعنى لا بلحاظ أمره بقلع العذق ، فليس من باب تخصيص المورد - كي يكون مستهجنا ويكون موجبا لسقوط حجيّة العام وإجماله.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عن هذا الإشكال بأنّ ضرر الأنصاري ولو كان مستندا إلى جواز الدخول بغير إذنه وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر ، ولكن جواز الدخول من غير استيذان بالأخرة ينتهي إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان ، فذلك الحقّ الذي هو حكم شرعي وضعي نشأ من قبله الضرر ، فيكون الضرر عنوانا ثانويّا لذلك الحقّ ، فيرتفع بارتفاع الضرر بالمطابقة أو بالالتزام ، فلا يرد إشكال حتّى بناء على تطبيقه على مسألة العذق (1).

وفيه أوّلا : أنّ صرف كون منشأ الضرر - أي جواز الدخول بغير الاستيذان من آثار الحقّ - لا يوجب تعنون الحقّ بعنوان الضرر وأن يكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فإذا كان الضرر عنوانا ثانويّا للدخول بغير الإذن يرتفع نفس جواز الدخول بغير الإذن من دون تأثير في ارتفاع الحق.

هذا مضافا إلى ما بيّنّا سابقا أنّ سوق لا ضرر في مقام الامتنان فلا يجري فيما إذا كان موجبا لضرر الغير ؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ السمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاري لو سلّمنا أنّه منشأ للضرر كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه ،

ص: 226


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 209 - 210.

فيدخل في باب تعارض الضررين بل تزاحم الحقّين.

فالصواب في الجواب أن يقال ؛ إنّ تقديم حقّ الأنصاري لحفظ عرضه من جهة أهميّته في نظر الشارع ، كما هو الشأن في باب التزاحم من تقديم الأهمّ على المهمّ ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم بل أهمّها.

ومنها : تطبيقه صلی اللّه علیه و آله هذه الجملة على عدم جواز منع فضل الماء لمنع الكلاء لأهل البادية.

وأشكل على ذلك أيضا بأنّ هذا التطبيق خلاف الامتنان بالنسبة إلى مالك الماء ، بل يكون ضررا عليه لسلب سلطنته ومنعه عن حقّه ، وهكذا الأمر في تطبيقه صلی اللّه علیه و آله على الشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين ، فيشكل على هذا التطبيق بعين الإشكال المتقدّم.

وكذلك في مسألة جدار حائط الجار إذا سقط من عند نفسه فلا يجب عليه أن يبنيه ، وأمّا إذا هدمه هو أي الجار صاحب الجدار فلا يترك ويجب عليه أن يبنيه ، فذلك الإشكال - أي منع المالك عن التصرّف في ماله - موجود.

والجواب عن الجميع أمّا في مسألة عدم جواز منع الماء فلعلّه من جهة أنّ عدم جواز منعهم ليس من جهة حرمة المنع ، بل نهي تنزيهي ومثل هذا النهي ليس منافيا لحقّ المالك أو الحقّ الأولويّة التي للمانع.

ولكن هذا التوجيه بعيد ؛ لعدم ملائمته مع كونه من قضائه صلی اللّه علیه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي ء ، وبين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلاء.

فالأولى أن يقال : قدم رفع ضرر أهل البادية ومشارب النخل لأهل المدينة لأهميّته ، فإنّ عدم تلف حيوانات أهل البادية وعدم تلف نخيل أهل المدينة كان أهمّ من حفظ حقّ الأولويّة الذي كان لصاحب الماء ومالكه أو من كان أولى به ، وهذا

ص: 227

واضح جدا.

وأمّا مسألة الشفعة فليس جعل حقّ الشفعة ضررا لا على البائع ولا على المشتري ، أمّا على البائع فمعلوم ؛ لعدم الفرق له بين أن يكون المبيع بعد انتقاله عنه ملكا للشفيع بواسطة أخذه بحقّ الشفعة ، أو يكون ملكا للمشتري.

وأمّا المشتري فلأنّه من أوّل الأمر أقدم على اشتراء مال يصير متعلّقا لحقّ الغير بمحض اشترائه.

وأمّا مسألة الجدار فعدم جواز هدمه ووجوب بنائه عليه لو هدمه وأنّه لا يترك ، فمن جهة أهميّة حقّ المهدوم عليه من حقّ الهادم ، خصوصا إذا كان مستلزما لهتك عرضه وتلف أمواله.

التنبيه الثاني : أشكل شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره على تماميّة هذه القاعدة المستفادة من قوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » بلزوم تخصيص الأكثر (1).

بيان ذلك : أنّه بعد ما كان المراد من قوله صلی اللّه علیه و آله - كما استفدناه - نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر وأنّه لم يجعل في الدين مثل هذا الحكم نرى أنّه في كثير من أبواب الفقه مثل هذا الحكم مجعول ، كأبواب الحج ، والزكاة ، والخمس ، وأبواب الجهاد ، والضمانات بواسطة اليد أو الإتلاف ، إلى غير ذلك.

ثمَّ أجاب عنه : بأنّه من الممكن أن يكون بين الأفراد الخارجة عن تحت هذا العموم جامع ، والتخصيص يكون بعنوان إخراج ذلك الجامع الواحد ، وقال : إذا كان كذلك فإخراج عنوان واحد عن تحت عموم العام من العناوين التي يتعنون العام بها ليس بمستهجن ، وإن كان أفراد العنوان الخارج أكثر من الأفراد الباقي تحت العام.

واعترض عليه صاحب الكفاية قدس سره بأنّ خروج عنوان واحد عن العام ليس بمستهجن ، ولو كان أفراده أكثر من الأفراد الباقي تحت العام إذا كان عموم العام

ص: 228


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 537.

أنواعيا وكان محطّ العموم الأصناف التي للعام. وأمّا لو كان محطّ العموم والنظر إلى الأشخاص ومصاديقه ، فلا فرق في استهجان تخصيص أكثر الأفراد بين أن يكون بعنوان واحد وتحت جامع واحد. (1)

فلو كان عنوانا واحدا ولكن محطّ العموم هو المصاديق والأفراد مثل « أكرم كلّ عالم » فلو كان المخصّص عنوانا واحدا مثل « إلاّ أن يكون فاسقا » وكان أفراد الخاصّ أكثر من الباقي بعد الإخراج ، يكون هذا التخصيص مستهجنا وإن كان بعنوان واحد.

وأمّا إن كان محطّ العموم أنواع العالم ، من الصرفي والنحوي والأصولي والمنطقي والفقهاء إلى غير ذلك من الأنواع ، وكان المخصّص عنوان النحويين مثلا ، وفرضنا أفراده كان أكثر من مجموع الأنواع الآخر ، فهذا التخصيص ليس بمستهجن.

والسرّ في ذلك هو أنّ إلقاء ما ليس بعام عند العرف بحسب مراده بصورة العموم خروج عن طريقة الإفادة والاستفادة عندهم ، فيكون ركيكا مستهجنا عندهم ، فلا بدّ وأن يلاحظ مصبّ العموم ، فإن كان الأنواع فخروج المتكلّم عن طريقة العرف وأهل المحاورة بإخراج أكثر الأنواع ، وإن كان مصبّه الأفراد فخروجه عن طريقتهم هو إخراج أكثر الأفراد ، سواء أكان بعنوان واحد جامع لتلك الأفراد المختلفة ، أم كان بعناوين متعدّدة.

والشاهد على ذلك الوجدان ، ومراجعة أرباب المحاورة. ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون العام من قبيل القضيّة الخارجيّة أو القضية الحقيقية.

نعم تصوير العموم الأنواعي في القضية الخارجيّة لا يخلو عن إشكال ، بخلاف القضيّة الحقيقيّة فإنّه قد يكون الحكم فيها على العام بلحاظ جميع وجوداته ومصاديقه وأفراده - كما هو الحال في أغلب المسائل التي لجميع العلوم والفنون ، والقضايا التي تجعل كبرى في الشكل الأوّل - وقد يكون الحكم فيها بلحاظ جميع أنواعه وأصنافه ،

ص: 229


1- « درر الفوائد في حاشية على الفرائد » ص 284.

ولا نظر للحاكم إلى قلّة الأفراد وكثرتها.

ففي القسم الأوّل من القضيّة الحقيقيّة تخصيص أكثر الأفراد مستهجن ولو كان بعنوان واحد ، وفي القسم الثاني تخصيص أكثر الأنواع مستهجن ولو كان أفراد أكثر الأنواع الخارج بالتخصيص أقلّ بكثير من أفراد ذلك النوع الواحد الباقي تحت العام.

فالمناط كلّ المناط في الاستهجان هو تخصيص الأكثر ممّا هو مصبّ العموم ، سواء أكان هو الأنواع أو كان هو الأفراد ، وسواء أكان الخارج هو بعنوان واحد أو بعناوين.

فإشكال صاحب الكفاية ( قده ) وارد على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره .

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من الفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة ، وجعله تحقيقا في المقام (1) لا يخلو عن الخلل كما عرفت وجهه.

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا بحسب الصغرى فلا شكّ أنّ مصبّ العموم في القاعدة هي الأفراد ، إذا مفادها كما استظهرنا من أدلّتها هو نفي كلّ حكم ضرري ، أي ينشأ من قبله الضرر. وليس مفادها نفي كلّ نوع من أنواع الأحكام الضرريّة حتّى لا يكون خروج نوع واحد موجبا للاستهجان ، ولو كان أفراده أكثر ممّا بقي تحت العام.

هذا ، مضافا إلى أنّ الخارج من هذا العموم - على فرض تسليم التخصيص - ليس عنوان واحد ، وإنّما هو صرف فرض شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره ، لأنّ الأحكام الضرريّة مجعولة بعناوين موضوعاتها ، كعنوان الحجّ والجهاد والخمس والزكاة ، وعنوان من أتلف واليد والمقبوض بالعقد الفاسد ، إلى غير ذلك من العناوين التي يجدها الفقيه المتتبع ، بل موضوع الأحكام الضرريّة موضوعات مسائل هذه الأبواب.

فالصواب في الجواب عن أصل إشكال تخصيص الأكثر : أنّ خروج هذه المذكورات عن تحت القاعدة بالتخصّص ، وليس تخصيص في البين أصلا.

ص: 230


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 210 - 211.

بيان ذلك : أنّ قاعدة نفي الضرر ، وكذلك قاعدة نفى الحرج بناء - على ما استظهرناه من أنّ مفادهما نفي الأحكام الضرريّة والحرجيّة - يكون حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّليّة ، بمعنى أنّ الأدلّة الأوّليّة لها إطلاق أو عموم يشمل كلتا حالتي الحكم ، من كونه ضرريّا وغير ضرري ، فالقاعدة تخرج حالة كونه ضرريّا عن مفاد الإطلاق أو العموم ، فنتيجة هذه الحكومة لبّا تقييد ذلك الإطلاق ، أو تخصيص ذلك العموم بغير حالة كون ذلك الحكم ضرريا.

وأمّا إذا كان الحكم المجعول على موضوع ضرري دائما كوجوب الجهاد وإعطاء الخمس والزكاة مثلا ، أو كان نفس الحكم دائما ضرريّا كحكمه بضمان اليد في مورد التلف ، فخارج عن مصبّ هذه القاعدة. وليس من باب التخصيص حتّى يكون مستهجنا لكونه تخصيص الأكثر ، نعم لو اتّفق لهذه الأحكام الضرريّة ومن قبلها ترتّب ضرر آخر غير ما يقتضي طبع نفس هذه الأحكام أو موضوعاتها ، فحينئذ يكون مشمولا لهذه القاعدة ، ولا محذور فيه أصلا. وذلك من جهة شمول الحكومة لمثل هذا المورد ؛ لأنّه بالنسبة إلى مثل هذا الضرر الذي اتّفاقي وليس من مقتضيات طبع نفس الحكم أو موضوعه ، يكون من مداليل الإطلاق أو العموم للأدلّة الأوّلية ، فالقاعدة تقيد ذلك الإطلاق ، أو يخصّص ذلك العموم بغير مورد ترتّب هذا الضرر على ذلك الحكم ، فيكون تقييدا أو تخصيصا لدليل ذلك الحكم لبّا بلسان الحكومة.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة ناظرة إلى تضييق المجعول الأوّلي وتخصيصه بإحدى حالتيه ، أي حالة عدم كونه ضرريّا فلا بدّ وأن يكون لذلك المجعول الأوّلي حالتان ، حتّى يكون داخلا في موضوع القاعدة ، وإلاّ لو لم يكن له إلاّ حالة واحدة يكون خارجا عن موضوع القاعدة ، وليس من باب التخصيص. وحيث أنّ في الموارد المذكورة للتخصيص إمّا يكون الموضوع موضوعا ضرريّا دائما ، أو نفس الحكم كذلك ، فيكون خروجها بالتخصّص لا بالتخصيص.

التنبيه الثالث : في بيان وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلّة الأوليّة القائمة على

ص: 231

ثبوت الأحكام الواقعيّة لموضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

أقول : لا شكّ في أنّ النسبة بين دليل هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه ، مثلا دليل وجوب الغسل عام من حيث كونه ضرريّا أو غير ضرري ، ولا ضرر أعمّ منه ؛ لشموله لغير وجوب الغسل من الأحكام الضرريّة ، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين ، فبأيّ وجه أخذوا بدليل لا ضرر وقدّموه على تلك الأدلّة ، مع أنّ مقتضى القاعدة تساقط الدليلين المتعارضين في مورد الاجتماع إذا كان بينهما عموم من وجه.

وقد ذكروا لذلك وجوها نذكر منها ما هو المختار في وجه الجمع ونترك الباقي ؛ إذ لا فائدة في ذكرها والإشكال عليها مع وضوح بطلانها.

فنقول : وجه تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلّة حكومته عليها بالحكومة الواقعيّة بالتضييق في جانب المحمول ، فدليل لا ضرر يضيق المحمول في تلك الأدلّة برفعه رفعا تشريعيّا في إحدى الحالتين ، أي حالة كونه ضرريّا سواء أكان المحمول حكما تكليفيّا أو وضعيّا ، بلا تصرّف وتضييق في النسبة التي بين الموضوع والمحمول حتّى يكون تخصيصا.

نعم ينتج نتيجة التخصيص ، فإذا قسنا دليل لا ضرر مع دليل وجوب الغسل أو الوضوء على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، يكون مفاد لا ضرر أنّ هذا الوجوب المحمول على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، ويقال بأنّ المحدث بحدث كذا يجب عليه ليس مجعولا إذا كان ضرريّا ، فلا يمكن التعارض بين مثل هذين الدليلين ؛ لأنّ التعارض بين الدليلين عبارة عن التناقض بينهما ، وفي التناقض لا بدّ وأن تكون القضيتين الموجبة والسالبة متّحدتين من حيث الموضوع والمحمول ، وإنّما الاختلاف من حيث السلب والإيجاب ، فلو كانت إحدى القضيتين المختلفتين بالسلب والإيجاب مفادها التصرّف في موضوع القضيّة الأخرى ، كقولهم « لا شكّ لكثير الشك » أو

ص: 232

التصرّف في محمولها كقوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » بناء على ما استظهرنا منه من أنّ مفاده رفع الحكم الضرري عن عالم الجعل والتشريع ، فلا يتحقّق تناقض وتعارض.

وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل يقدّم الحاكم على كلّ حال ، لأنّ ملاحظة النسبة فرع التعارض ، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم ؛ إذ المعارضة فرع وحدة القضيّتين بحسب الموضوع والمحمول.

وأمّا إذا كان لسان إحدى القضيتين التصرّف في موضوع القضية الأخرى أو محمولها فلا تعارض حتّى تلاحظ النسبة أو قوّة الظهور.

وأمّا الجمع العرفي الذي ذكره صاحب الكفاية قدس سره (1) وإن كان صحيحا ومطابقا للواقع ، إلاّ أنّه ليس بلا سبب وجزافا. ووجه الجمع العرفي هو ما ذكرناه من الحكومة في هذا المورد ، وربما يكون وجهه في الموارد الآخر غير الحكومة ، من قوّة الظهور في أحدهما لكونه أظهر ، أو كون أحدهما خاصّا ، أو غير ذلك.

وأمّا بيان أقسام الحكومة الثمانية ، من كونها ظاهريّة أو واقعيّة ، أو كونها في جانب الموضوع أو في جانب المحمول ، كلّ واحد منهما بالتوسعة أو بالتضييق فقد ذكرنا وشرحناها في باب حكومة الأمارات على الأصول في كتابنا « منتهى الأصول ». (2)

التنبيه الرابع : في أنّ مفاد لا ضرر نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر واقعا ، سواء علم المكلّف بذلك أم لا ؛ وذلك من جهة أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة لا بقيد أنّها معلومة ، فالمراد من الحديث الشريف نفي الضرر الواقعي سواء فيه العلم والجهل.

ص: 233


1- « كفاية الأصول » ص 382.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.

فمن هذا يتولّد الإشكال في موارد :

منها : قولهم بصحّة الوضوء أو الغسل مع الجهل بكون استعمال الماء ضرريّا.

ومنها : تقييدهم لخيار الغبن ، وكذلك خيار العيب بجهل المغبون بالغبن وجهل المشتري بعيب المبيع.

ولكن الجواب عن هذه الإشكالات : أمّا في مسألة الطهارة المائيّة فلأنّ حكم الشارع ببطلان الطهارة المائيّة في ظرف الجهل بضرر استعمال الماء خلاف الامتنان ؛ لأنّه يوجب إعادة الوضوء والغسل ، بل الأعمال المتوقّفة عليهما وقد سبق أنّ سوق الحديث في مقام الامتنان ، فلا يجرى فيما هو خلاف الامتنان.

لا يقال : حكمه بالبطلان في صورة العلم أيضا خلاف الامتنان ؛ لأنّ العاقل لا يقدم على ضرر نفسه ، خصوصا إذا علم أنّ هذا العمل لغو لا أثر له ، وهذا المعنى لا يتطرّق في حقّ الجاهل بالضرر ، هذا أوّلا ، وثانيا ما تقدّم من أنّ مفاد لا ضرر نفى الحكم الذي يكون الضرر عنوانا ثانويا له.

وبعبارة أخرى يكون علّة تامّة للضرر أو يكون هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر ، حتّى يصحّ أن يقال إنّ هذا الحكم ضرري ، بحيث لو لم يكن هذا الحكم لما كان المكلّف واقعا في الضرر.

وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ؛ لأنّه كان يقع في الضرر من جهة جهله ، ولو لم يكن هذا الحكم مجعولا في ذلك الحال أي في حال جهله بالضرر ، فليس الضرر ناشئا من الحكم المجعول في حال الجهل ، وإلاّ لما كان واقعا في الضرر في فرض عدم ذلك الحكم في حال الجهل ، مع أنّه يقع قطعا لاعتقاده عدم الضرر ، فهو يرى نفسه موضوعا وداخلا في الذي يجب عليه الوضوء أو الغسل وإن لم يكن الوجوب مجعولا في ذلك الحال ، فتضرّره مستند إلى فعله الناشئ عن اعتقاد عدم الضرر ، ولعمري هذا واضح جدّا.

ص: 234

وأمّا بطلان الوضوء والغسل بالماء الذي استعماله مضرّ لحرمة الإضرار بالنفس - وأنّ الإضرار بالنفس إلى أيّ حدّ جائز وإلي أيّ حدّ لا يجوز وما الدليل عليه - فهذا شي ء خارج عن محلّ كلامنا ، وهي مسألة فقهيّة يبحث عنها في محلّها.

وأمّا مسألة خيار الغبن فليس مستند إلى هذه القاعدة ، بل ثبوتها بواسطة تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي المالين في خيار الغبن وسلامة العوضين في خيار العيب ، مضافا إلى وجود أدلّة خاصّة في خيار العيب دالّة على ثبوت الخيار حال الجهل بالعيب دون حال العلم به ، وتفصيل المسألة في محلّه.

التنبيه الخامس : قد عرفت أنّ مفاد لا ضرر - بناء على ما استظهرناه - رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، سواء كان ذلك الحكم حكما تكليفيّا أو كان وضعيّا ، بل الحكم الوضعي أولى بشمول لا ضرر له ؛ لأنّ الحكم التكليفي بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجبا لوقوع الضرر في الخارج ، بل الضرر يقع في مرحلة الامتثال ، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره.

وأمّا الحكم الوضعي كاللزوم في المعاملة الضرريّة ، فهو بنفسه موجب لوقوع الضرر من دون توسّط إرادة المكلّف واختياره في البين ، فيكون دليل هذه القاعدة - كما تقدّم - حاكما على إطلاقات الأدلّة الأوّلية في جانب المحمول ، بمعنى تضييق القاعدة لمحمول تلك الأدلّة وتقييدها بحال عدم كونها ضرريّا.

وهذا معنى كون مفادها رفع الحكم الضرري ، فلا بدّ وأن يكون حسب مفاد تلك الإطلاقات حكم ثابت مجعول لو لا هذه القاعدة ، فشأن هذه القاعدة رفع الحكم الضرري الذي لو لا هذه القاعدة كان ثابتا وموجودا.

وأمّا وضع الحكم الذي يكون في عدمه ضرر على شخص ، فهذا خارج عن المفاد ومدلول هذه القاعدة.

فبناء على هذا لا يمكن إثبات الضمان بهذه القاعدة فيما إذا كان عدم الضمان ضررا

ص: 235

على شخص ، بل لا بدّ في إثباته من التمسّك بأخذ أسباب الضمان ، كاليد والإتلاف وسائر أسباب الضمان.

والحاصل أنّه لا يجوز أن يقاس عدم الحكم إذا كان ضرريّا فيقال برفعه حتّى يكون نفي النفي إثباتا بوجود الحكم الضرري ؛ لما ذكرنا من أنّ مفادها الرفع لا الوضع ، لا من جهة أنّ العدم ليس قابلا للرفع حتّى يقال إنّ العدم في مرحلة البقاء قابل للوضع والرفع ، بل من جهة كونه ناظرا إلى الأحكام المجعولة حسب إطلاق أدلّتها أو عمومها لكلتا حالتي كونها ضرريّة أو غير ضرريّة ، وتقييدها بصورة عدم كونها ضررية ، فإذا لم يكن حكم مجعول من قبل الشارع فلا موضوع لهذا القاعدة.

وأمّا كون عدم جعل الحكم في موضوع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم - كما توهّم - فعجيب.

فما توهّم في موارد كثيرة من التمسّك بهذه القاعدة لإثبات الحكم بواسطة كون عدمه ضرريّا ليس كما ينبغي.

كما أنّ بعضهم توهّم جواز طلاق المرأة للحاكم إذا كان الزوج لا يقدر على نفقته ، أو لا يعطي عصيانا أو لعذر ، وكان غائبا زمنا طويلا ولا يعرف مكانه وليس له مال ينفق عليها منه ، ففي هذه الموارد وأمثالها مما تتضرّر المرأة من عدم جواز الطلاق توهّموا رفع عدم جواز الطلاق إلاّ لمن أخذ بالساق ، مستندا إلى هذه القاعدة.

وأنت عرفت عدم صحّة هذا التوهّم.

وأمّا البحث عن هذه المسألة وأنّه هل يجوز طلاق مثل هذه المرأة ولو كان لأدلة أخر غير هذه القاعدة؟ فهو أجنبي عن مقامنا وإن ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره استطرادا. (1)

وهنا فروع كثيرة قالوا بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة ، كفكّ الباب على دابّة فشردت وتلفت ، أو على طير فطار ، وكحبس الحرّ فشردت دابّته ، أو طار طيره ،

ص: 236


1- « منية الطالب » ج 2 ، ص 221.

أو أبق عبده وأمثال ذلك ممّا يكون الحكم بعدم الضمان موجبا لضرر المالك ، فكلّ هذه المذكورات وأمثالها إن كان للضمان وجه آخر غير هذه القاعدة فهو ، وإلاّ فالقول بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة لا وجه له كما عرفت.

التنبيه السادس : في أنّ المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة هل هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

والمراد من الضرر الشخصي هو أنّ المناط في رفع الحكم ترتّب الضرر الشخصي الخارجي عليه ، ففي كلّ مورد نشأ من قبل الحكم الشرعي ضررا خارجيّا على شخص فذلك الحكم مرتفع في حقّه دون من لا يتضرّر من قبله. ومن الممكن أن يكون الحكم ضرريّا في حقّ شخص دون شخص آخر ، بل لشخص واحد في مورد دون مورد آخر.

وأمّا الضرر النوعي فالمراد منه كون الحكم ضرريّا نوعا ، وإن لم ينشأ منه ضرر في بعض الأحيان أو لبعض الأشخاص.

والظاهر من الحديث الشريف - بناء على ما استظهرنا منه - هو الضرر الشخصي لا النوعي ؛ لأنّ معنى الحكومة على ما بيّنّاه رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر ، وأمّا في المورد الذي لم ينشأ من قبله ضرر فلا معنى لرفعه بل الإطلاق يشمله.

وبعبارة أخرى : كون الحديث في مقام الامتنان يقتضي أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه ، وإلاّ رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخص آخر أي امتنان فيه؟

وكذلك الأمر في قاعدة لا حرج فالحكم مرفوع فيها بلحاظ الحرج الشخصي دون النوعي ، ومساق هاتين القاعدتين من هذه الجهة واحد.

وأمّا كون الضرر أو الحرج النوعيين حكمة لجعل حكم في بعض الأحيان - كما ربما يكون كذلك في باب جعل الطهارة الترابيّة بدلا عن المائيّة عند عدم التمكّن منها ،

ص: 237

أو التقصير والإفطار في السفر - فلا ربط له بما نحن فيه ، وهو وإن كان ممكنا بل واقعا كما ذكرنا ، ولكن يحتاج إلى ورود دليل خاصّ على ذلك.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجب تدارك الضرر الوارد على الغير ، بأن يتحمل خسارة ما وقع التلف عليه إلاّ بأحد أسباب الضمان ، من اليد ، أو الإتلاف ، أو غيرهما كما هو مذكور في أبواب الضمانات ، ولا بأن يتحمّل الضرر ليدفعه عن الغير ؛ كلّ ذلك من جهة أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان ، نعم ليس له أن يدفع الضرر عن نفسه بتوجيهه إلى الغير.

التنبيه السابع : في تعارض الضررين بمعنى أنّه دار الأمر بين حكمين ضرريين ، بحيث يلزم من نفي أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر ، وذلك كما إذا أدخل الدابّة رأسها في قدر يملكه شخص آخر غير صاحب الدابّة ، فالقدر لشخص والدابة ملك لشخص آخر ، فهاهنا يقع التعارض بين جواز كسر القدر لخلاص الدابّة وجواز ذبح الدابّة لبقاء سلامة القدر ، فكلا الحكمين ضرريّان ويلزم من نفي جواز كلّ واحد منهما بواسطة « لا ضرر » ثبوت الضرر للمالك الآخر ، فمنع مالك القدر عن كسره ضرر على صاحب الدابّة ، كما أنّ منع صاحب الدابّة عن ذبحه ضرر على صاحب القدر ، فلا يجري « لا ضرر » في الطرفين لمعارضتهما لو كان أحد الأمرين واجبا.

وهذا فيما إذا لم يكن بتفريط من أحدهما ، وإلاّ يجب على المفرط تخليص مال الغير ولو بتلف ماله ولا ضمان على الآخر. نعم لو قلنا بأنّه يجب مراعاة أكثر الضررين وأعظمهما وينفي الحكم الذي ينشأ ذلك الضرر الكثير منه ، فحينئذ يجب ارتكاب ما هو أقلّ ضررا منهما - أي من الكسر ومن الذبح - في المفروض.

ولكن لا دليل على هذا إلاّ ما يتوهّم من أنّ مقتضى الامتنان على الأمة هو ذلك. ولكن عرفت أنّ مقتضى الامتنان رفع الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر فيما إذا لم يكن الرفع موجبا لوقوع الضرر على شخص آخر ، ففي هذا المورد وأمثاله لا مجال لجريان

ص: 238

لا ضرر ، لا من جهة المعارضة فقط لو كان هناك معارضة ، بل من جهة أنّ جريانها خلاف الامتنان فلا يجرى لا ضرر في الطرفين. ونتيجة ذلك بقاء سلطنة كلّ واحد منهما على ماله ، ومنع الآخر عن التصرّف فيه بكسر أو ذبح أو غير ذلك من التصرّفات التي للمالك حقّ المنع عنها.

ويمكن أن يقال : إنّه ليس لكلّ واحد من المالكين منع الآخر عن تخليص ماله ولو كان التخليص مستلزما لتلف ماله ، غاية الأمر يجبر التلف أو النقص كما إذا حفر الأرض لتلخيص غرسه فيما إذا كان بحقّ ، فيجبر نقص الحاصل من الحفر بلزوم طم الحفر من طرف الحافر القالع لغرسه ؛ وذلك من جهة عدم سلطنته على ماله ومنعه الغير عن مثل هذا التصرّف الذي مقدّمة لتخليص ماله.

والحاصل أنّ المثال المذكور ، أي إدخال الدابّة رأسها في قدر الغير بغير تفريط من أحد المالكين ، ليس من تعارض لا ضرر في الطرفين ؛ إذ الضابط فيه كما بيّنّا أن يكون نفي أحد الحكمين الضرريين مستلزما لثبوت الحكم الضرري الآخر ، لا أن يكون مستلزما لثبوت الضرر على الآخر ، وما نحن فيه من الأمثلة من قبيل الثاني لا الأوّل.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ تعارض مفاد لا ضررين - أي تعارض نفي الحكمين الضرريين - هو عبارة عن عدم إمكان رفعهما في عالم التشريع ، إمّا بأن يكون رفع أحدهما مستلزما لثبوت الآخر ، فمعنى رفعهما إثباتهما أيضا لما ذكرنا من الملازمة ، وهذا اجتماع النقيضين في كلّ واحد من الحكمين. وإمّا بالعلم بوجود أحد الحكمين وعدم رفعه لجهة من الجهات ، كما لو أنّ جواز حفر البئر في داره إذا كان ضررا على جاره لو رفع بلا ضرر بواسطة كون هذا الحكم ضرريّا على جاره ، وحرمة حفر البئر أيضا لو رفع بواسطة كونه ضرريّا على نفسه ، فيقع التعارض بين لا ضررين باعتبار مؤدّاهما ، أعني نفي جواز حفر البئر ونفي حرمة حفره.

ص: 239

وذلك من جهة أنّ نفي أحد الحكمين مستلزم لثبوت الآخر ، فنفي جواز حفر البئر مستلزم لحرمة الحفر ، كما أنّ نفي حرمته مستلزم لجوازه. وكما أنّ في مثال القدر والدابة التي أدخلت رأسها فيها لو علمنا بوجوب أحد الأمرين ، أي كسر القدر أو ذبح الدابّة ، فيقع التعارض بين نفي جواز الكسر بلا ضرر ونفي جواز الذبح به ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما في عالم التشريع مع العلم بوجود أحدهما.

ولا ينافي ثبوت التعارض بينهما مع كونهما - أي النفيين - مدلول دليل واحد ، كما أنّه لا تنافي بين تعارض الاستصحابين مع أنّهما مفاد دليل واحد ، أي قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

والسرّ في ذلك : هو انحلال قضيّة « لا ضرر » وقضية « لا تنقض » وأمثالها ممّا كانت القضيّة بنحو الطبيعة السارية ، أو العامّ الاستغراقي إلى قضايا متعدّدة بعدد مصاديق ذلك العامّ الذي جعل موضوعا للحكم.

وعلى كلّ حال إذا تحقّق التعارض بالمعنى المذكور فيتساقطان ؛ لعدم وجود مرجّح من مرجّحات باب التعارض لوحدة الدليل وعدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا مرجّحات باب التزاحم فأجنبي عن هذا المقام.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كثيرا من المباحث التي ذكروه في المقام خارج عن محلّ البحث ، مثلا قالوا : إذا دار الأمر بين ضررين لا بدّ من وقوع أحدهما ، فإمّا أن يكون الضرران على شخص واحد أو على شخصين ، وإذا كانا على شخص واحد فإمّا يكونان مباحين أو محرّمين أو مختلفين. فإذا كانا مباحين فله الخيار في ارتكاب أيّهما أراد ، وإن كانا مختلفين يتعيّن عليه ارتكاب ما ليس بحرام ، وإن كانا محرّمين ، عليه أن يختار للارتكاب ما هو أضعف ملاكا ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك ، عملا بقواعد باب التزاحم ومرجّحاته.

وأنت تدري أنّ كلّ ذلك خارج عن محلّ البحث ، أعني وقوع التعارض بين

ص: 240

مفادي لا ضرر ، أي نفي الحكمين الضرريين الذين يلزم من نفي كلّ واحد منهما ثبوت الآخر ، أو نعلم بثبوت أحدهما.

والحاصل : أنّه إذا تعارض نفي حكم ضرري مع نفي حكم ضرري آخر ، فلا محالة يسقط لا ضرر في الاثنين بالمعارضة. ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفي بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم ؛ لأنّ هذا ليس من مرجّحات باب التعارض ، فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر إن كانت ، وإلاّ فإلى الأصول العمليّة.

نعم قد يكون البحث صغرويّا بمعنى أنّه هل هاهنا تعارض بين نفي هذين الحكمين الضرريين أم لا؟ وقد يكون البحث من جهة أنّ المورد من موارد التزاحم أو من موارد التعارض؟ فهذه أمور يسهل على الفقيه تشخيصها بعد معرفة ضوابطها الكليّة.

هذا كلّه في تعارض لا ضرر مع نفسه بالنسبة إلى نفي الحكمين الضرريين فيما إذا لا يمكن ولا يصحّ نفيهما جميعا لما تقدّم من الوجهين.

وأمّا فيما إذا تعارض لا ضرر مع لا حرج كما إذا كان تصرّف المالك في ملكه ضرريّا على الجار ، وكان ترك تصرّفه فيه حرجا على المالك وإن لم يكن ضررا عليه ، فيقع التعارض بين نفي جواز التصرّف بلا ضرر مع نفي حرمة التصرّف بلا حرج ، فالأمر كما ذكرنا في تعارض لا ضرر في مورد نفي أحد الحكمين مع نفسه في مورد نفي الحكم الآخر لوحدة المناط ، وهو عدم إمكان جمع النفيين في عالم الجعل والتشريع ، ووحدة لسان لا ضرر ولا حرج في الحكومة بالتضييق في جانب المحمولات التي هي الأحكام الواقعيّة للأشياء بعناوينها الأوّليّة التي هي مفاد إطلاقات الأدلّة أو عموماتها ، ونتيجتها تقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بغير ما كانت ضرريّة أو حرجيّة.

ص: 241

ويظهر ممّا ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري حكومة قاعدة الحرج على قاعدة الضرر ، (1) ولم نعرف لها وجها يمكن الاعتماد والاتّكاء عليه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ حال تعارض قاعدة الحرج مع نفسه في موردين ، حال تعارض قاعدة الضرر مع نفسه في موردين من موارده فيتساقطان ، والمرجع حينئذ هي القواعد الأخر لو كانت ، كقاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العمليّة.

التنبيه الثامن : في بيان مجرى قاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » ومورد تعارض قاعدة لا ضرر معها.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفاد لا ضرر - بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف - رفع الحكم الضرري ونفيه مطلقا ، سواء كان حكما تكليفيّا أم وضعيّا ، وبعبارة أخرى : مفاد قاعدة لا ضرر أنّه ليس في المجعولات الشرعيّة وفيما هو من الدين مجعول ينشأ من قبله الضرر ويكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فالسلطنة الاعتبارية المجعولة من قبل الشارع للملاك على أموالهم إذا كان ضرريّا منفي بلا ضرر ، ويكون حال السلطنة حال سائر الأحكام الشرعيّة المجعولة على موضوعاتها ، فكما تكون القاعدة حاكمة على أدلّة سائر الأحكام فكذلك الحال في نسبتها مع قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » لاتّحاد المناط في الجميع.

ولكن الشأن في إثبات الصغرى ، وأنّه في أيّ مورد يتحقّق هذه المعارضة.

ولتوضيح المقام نقول : إنّ تصرّف المالك في ماله مع الإضرار بالغير على أنحاء :

فقد لا يكون إلاّ بقصد الإضرار بالغير من دون أن يكون له نفع في هذا التصرف ، أو يكون في تركه ضرر عليه.

الثاني : أن لا يكون بقصد الإضرار ، ولكن ليس في ذلك التصرّف نفع له ولا في

ص: 242


1- « المكاسب » ص 375.

تركه ضرر عليه ، بل يكون عابثا بفعله.

الثالث : أن يكون له نفع فيه ، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.

الرابع : أن يكون في تركه ضرر عليه.

ولا شكّ في حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » في الصورة الأولى والثانية ، بناء على شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير ، سواء كان من قصده الإضرار أم لم يكن. وأمّا لو قلنا بأنّ التصرّفات التي موجبة للإضرار بالغير إذا لم يكن للمالك نفع فيه ولا في تركه ضرر عليه خارجة عن عموم قاعدة السلطنة ، فلا يبقى مجال للحكومة ، بل خروج الصورتين عن تحت عموم قاعدة السلطنة يكون بالتخصّص لا بالحكومة.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين ؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ لكلّ مالك السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله ولو كان بقصد الإضرار ، وسواء كان مستلزما للضرر على الغير أم لا ، غاية الأمر يكون ضامنا للضرر الوارد على الغير لأنّه بفعله وبإتلافه.

ولا يخفى أن مرادنا التصرّفات التي لا يكون مستلزما للتصرّف في مال الغير أو في نفسه ، مثل (1) أن يتصرّف في معوله (2) بهدم دار الغير أو في مديته (3) بشقّ بطن الغير ، فلا ضرر يكون حاكما على قاعدة السلطنة في تينك الصورتين.

وأمّا في الصورة الثالثة : فأيضا مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المتقدّمتين حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة ؛ لأنّ سلطنة الملاّك على أموالهم حكم شرعي وضعي على الأموال بعناوينها الأوّلية ، وقد تقدّم حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلّة

ص: 243


1- مثل للمنفي لا للنفي.
2- المعول ج معادل : أداة لحفر الأرض.
3- المدية ج مُدىً ومِدىً ومديات ومديات : الشفرة الكبيرة.

الأوّلية المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاري أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّا بالنسبة إلى الغير ، ولم يكن تركه ضرريّا على نفسه ولكن كان فيه نفع للمالك ، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجي للمالك ؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه ، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج ، والثانية حاكمة على الأولى. وعلى فرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط لا ضرر ولا حرج بالمعارضة (1).

وفيه : ما تقدّم من أنّه لم نعرف وجها يمكن الاعتماد عليه ، لحكومة قاعدة الحرج على قاعدة لا ضرر ، فالصحيح أنّ المرجع قاعدة السلطنة بعد تساقط لا حرج ولا ضرر بالمعارضة.

وما أفاده شيخنا الأستاذ من عدم اجتماع مورد هاتين القاعدتين لأنّ مفاد قاعدة لا ضرر نفي السلطنة إذا كانت ضرريّة ، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجيّا أمر عدمي ولا يرتفع بلا حرج حتّى تقول أنّ نفي النفي إثبات ، فيرجع إلى بقاء السلطنة فيقع التعارض ، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّا ، لا إثبات حكم لرفع الحرج (2).

يمكن أن يجاب عنه : بأنّ مورد الحرج في المقام حرمة ذلك التصرّف النافع للمالك الموجب للإضرار بالغير ، والحرمة حكم وجودي ، فارتفاعها بلا حرج مع ارتفاع جواز التصرّف بلا ضرر ممّا لا يجتمعان ، فيقع التعارض بين لا حرج ولا ضرر ، وبعد تساقطهما بالمعارضة يكون المرجع قاعدة السلطنة.

وعلى تقدير القول بعدم إطلاق دليل السلطنة بالنسبة إلى التصرّف الذي يكون

ص: 244


1- « المكاسب » ص 375.
2- « منية الطالب » ج 2 ، ص 226.

موجبا للإضرار فالمرجع هي الأصول العمليّة ، وفي المقام هي البراءة. وممّا ذكرنا ظهر حال الصورة الآتية.

الصورة الرابعة : وهي فيما إذا كان ترك التصرّف وعدم السلطنة عليه يكون موجبا لتضرّر المالك ، فقاعدة الضرر بالنسبة إلى ضرر الغير مع نفسه بالنسبة إلى ضرر المالك يتعارضان ، وبعد تساقطهما المرجع هي قاعدة السلطنة. ولا يخفى أنّ جواز تصرّف المالك في هاتين الصورتين - أي في صورة الثالثة والرابعة - من حيث الحكم التكليفي لا ينافي مع ثبوت الضمان وضعا لقاعدة الإتلاف.

والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 245

ص: 246

9 - قاعدة نفى العسر والحرج

اشارة

ص: 247

ص: 248

قاعدة نفى العسر والحرج (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة القاعدة المشهورة المعروفة بقاعدة « نفي العسر والحرج ». والتكلّم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في الدليل عليها

اشارة

فنقول : الأوّل : الآيات :

منها : قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2).

ص: 249


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 1. ص 122 و 287 ؛ « الأقطاب الفقهية على مذهب الإماميّة » ص 46 ؛ « الحق المبين » ص 154 ؛ « الأصول الأصلية والقواعد الشرعيّة » ص 306 ؛ « عوائد الأيّام » ص 57 ؛ « قاعدة لا حرج » ؛ « عناوين الأصول » عنوان 9 ؛ « مناط الأحكام » ص 26 ؛ « قاعدة نفى العسر والحرج » الآشتيانى ؛ « مجموعه قواعد فقه » ص 125 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 203 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 102 و 186 ؛ « القواعد » ص 304 ؛ « قواعد فقه » ص 60 ؛ « قواعد فقهي » ص 211 ؛ « قواعد فقهية » ص 135 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1 ، ص 160 ؛ « قاعدة نفى عسر وحرج وكاربرد آن در قوانين إيران » محمد على خرسنديان ، ماجستير ، مدرسة الشهيد مطهري العالية ، 1371 ؛ « عسر وحرج ونقش آن در روابط موجر ومستأجر » عزيز اللّه اليميني ، ماجستير ، جامعة الشهيد بهشتى ، 1369 ؛ « قاعدة عسر وحرج وآثار آن در حقوق مدني إيران » ماجستير ، جامعة طهران ، 1374 ؛ « بازتاب قاعدة لا حرج در اجاره » عيسى كشورى ، مجلة « قضائي وحقوقي دادگسترى » العدد 10 ؛ « بحثي در عسر وحرج » للسيّد على محمّد المدرّس الأصفهاني ، « مجلّة كانون وكلاء » لسنتها 13 ، العدد 75 ؛ « قاعدة لا حرج » نشرة « مقالات وبررسيها » ، العدد 43 - 44 ؛ « سه قاعدة فقهي » مجلة « حق » ، الفصليّة ، العدد 11 و 12 ، العام 1366.
2- الحجّ (22) : 78.

وأيضا قوله تعالى ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) (1).

وأيضا قوله تعالى ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2).

وأيضا قوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (3).

هذه الآيات تدلّ دلالة واضحة على أنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعل في دين الإسلام أحكاما حرجيّة ، بحيث يكون امتثال أحكامه وإطاعة أوامره ونواهيه شاقّا وحرجا على المسلمين والمؤمنين بهذا الدين ، سيّما بملاحظة استدلال الإمام علیه السلام ببعض هذه الآيات على رفع الأحكام الحرجيّة ، حيث قال علیه السلام : « هذا وأمثاله يعرف من كتاب اللّه امسح على المرارة ما جعل اللّه ( عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .

وأمّا الروايات :

فمنها : ما عن الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار : أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن الحسن بن رباط ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال علیه السلام « يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه. (4)

وقد روى الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : « ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ) الإسلام من ضيق ، هو واسع » (5). وقد نسب في مجمع البيان هذا المعنى إلى جميع

ص: 250


1- المائدة (5) : 6.
2- البقرة (2) : 185.
3- البقرة (2) : 286.
4- « الكافي » ج 3 ، ص 33 ، باب الجبائر والقروح والجراحات ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 363 ، ح 1097 ، باب صفة الوضوء والغرض منه ، ح 27 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 77 ، ح 240 ، باب المسح على الجبائر ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 327 ؛ أبواب الوضوء باب 39 ، ح 5.
5- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 17 ، ص 142.

المفسّرين. (1)

وعن التهذيب عن ابن سنان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة (2) أو التور (3) فيدخل إصبعه فيه؟ قال علیه السلام : « إن كانت يده قذرة فأهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال اللّه تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4).

وعن التهذيب ، والكافي ، والاستبصار : عن ابن مسكان قال : حدّثني محمّد بن ميسر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : « يضع يده ويتوضّأ ثمَّ يغتسل ، هذا ممّا قال اللّه تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (5).

وأيضا عن التهذيب ، والاستبصار عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام إنّا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فتكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدواب وتروث؟ فقال علیه السلام : « إن عرض في قلبك منه شي ء فقل هكذا : يعني افرج الماء بيدك ثمَّ توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيق ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (6).

وعن التهذيب ، والكافي عن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء ، فقال علیه السلام : « لا بأس ، ما جَعَلَ اللّه

ص: 251


1- « مجمع البيان » ج 2 ، ص 167.
2- الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء ، والجمع : ركاء. « النهاية » ج 2. ص 261 ( ركود ).
3- التور : إناء من صفر أو حجارة كالإجانة ، وقد يتوضّأ منه. « لسان العرب » ج 3. ص 96 ( تور ).
4- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 229 ، ح 661 ، باب المياه وأحكامها. ، ح 44.
5- « الكافي » ج 3 ، ص 4 ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة و. ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 149 ، ح 425 ، باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح 116 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 128 ، أبواب الماء المطلق ، باب 8 ، ح 5.
6- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 417 ، ح 1316 ، باب المياه وأحكامها ، ح 35 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 22 ، ح 55 ، باب الماء القليل يحصل فيه النجاسة ، ح 10.

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (1).

وفي رواية حمزة بن طيار : « وكل شي ء أمر الناس به فهم يسعون ، وكلّ شي ء لا يسعون فهو موضوع عنهم » (2).

وفي صحيحة البزنطي : أنّ أبا جعفر علیه السلام كان يقول : « إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالة ، وإن الدين أوسع من ذلك » (3).

وقوله علیه السلام : « بعثت على الشريعة السمحة السهلة » (4).

وهناك روايات كثيرة تدلّ على عدم جعل الحكم الحرجي وما يوجب العسر والضيق على الأمّة ، تركنا ذكرها لكفاية ما ذكرنا لإثبات هذه القاعدة.

وأمّا الإجماع على اعتبار هذه القاعدة فممّا لا اعتبار به ، لأنّ الإجماع الذي بنينا على اعتباره هو أن لا يكون في المسألة مدرك آخر يمكن ويحتمل أن يكون اتّكاء المجمعين عليه ، ففي هذه المسألة التي لها هذه المدارك من الكتاب العزيز لا وجه للتمسّك بالإجماع.

وأمّا الدليل العقلي : فغاية ما يمكن أن يقال هو أنّ التكليف بما يوجب العسر والضيق على الأمة ويكون ذلك التكليف فوق طاقتهم قبيح ، والقبيح محال صدوره من اللّه جلّ جلاله.

ولكن أنت خبير بأنّ تكليف ما لا يطاق بمعنى عدم القدرة على امتثاله وإن كان

ص: 252


1- « الكافي » ج 3 ، ص 13 ، باب اختلاط ماء المطر بالبول و. ، ح 7 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1. ص 86 ، ح 224 ، باب صفة الوضوء والفرض منه ، ح 73.
2- « الكافي » ج 1 ، ص 164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، ح 4.
3- « الفقيه » ج 1 ، ص 257 ، باب ما يصلّي فيه وما لا يصلّي فيه. ، ح 791 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2. ص 368 ، ح 1529 ، باب ما يجوز الصلاة فيه ، ح 61 ؛ « وسائل الشيعة » ج 2 ، ص 1071 ، أبواب النجاسات ، باب 50 ، ح 3.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 494 ، باب كراهيّة الرهبانيّة وترك الباه ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 246 ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، باب 14 ، ح 1 ، مع تفاوت في اللفظ.

قبيحا عقلا بل يكون ممتنعا عقلا - بناء على ما حقّقنا في محلّه من أنّ حقيقة الأمر والنهي هو البعث إلى أحد طرفي المقدور أو الزجر عنه كذلك - فالتكليف بما لا يطاق بهذا المعنى لا يمكن ، لا أنّه ممكن وقبيح.

ومثل هذا المعنى ليس مفاد قاعدة لا حرج ؛ لأن ظاهر أدلّة نفي الحرج - آية ورواية - أنّه تبارك وتعالى في مقام الامتنان على هذه الأمّة ، ولا امتنان في رفع ما لا يمكن جعله ووضعه ، أو يكون وضعه قبيحا ، مع أنّه حكيم لا يمكن أن يصدر منه فعل السفهاء.

فمعنى عدم الحرج في الدين هو عدم جعل حكم يوجب الضيق على المكلّفين ، وبهذا المعنى فسر الحرج في جميع التفاسير من العامّة والخاصّة.

ومثل هذا المعنى ليس دليل على امتناعه أو قبحه ولكنّ اللّه تبارك وتعالى لطفا وكرما لم يجعل الأحكام الحرجيّة بالنسبة إلى جميع العباد ، أو بالنسبة إلى خصوص هذه الأمّة المرحومة كرامة لنبينا صلی اللّه علیه و آله .

ويشهد بالمعنى الثاني - أي اختصاص رفع الأحكام الحرجيّة بهذه الأمّة - قوله صلی اللّه علیه و آله « بعثت بالحنيفيّة السمحة السهلة » (1). وقوله تعالى ( لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) (2) والإصر : الجمل الثقيل الذي يحبس صاحبه مكانه لثقله ، والمراد التكاليف الشاقّة التي كلّف اللّه تعالى بها الأمم السابقة من التشديدات ، وقد عصم اللّه هذه الأمّة من أمثال ذلك ، وأنزل في شأنهم ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (3).

فهذه الآية الكريمة مع الحديث الشريف تدلّ دلالة واضحة على أنّ رفع الأحكام

ص: 253


1- « الكافي » ج 5 ، ص 494 ، باب كراهية الرهبانيّة وترك الباه ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 246 ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، باب 14 ، ح 1 ؛ « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 381 ، ح 3.
2- البقرة (2) : 286.
3- الأعراف (7) : 157.

الحرجيّة مخصوص بهذه الأمّة كرامة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، فلا يمكن أن يكون المراد من الحرج عدم القدرة والطاقة والعجز عن الامتثال بمثابة يكون تكليفه في تلك الحالة قبيحا أو غير ممكن ، فلا شكّ في أنّ المراد من التكاليف والأحكام الحرجيّة - ولو كانت وضعيّة - هو أن يكون الحكم المجعول من طرف الشارع موجبا للضيق والعسر على النوع أو على الشخص ؛ لأنّه قد يكون العسر النوعي موجبا لرفع الحكم ولو كان بالنسبة إلى بعض الأشخاص غير حرجي ، فيكون الحرج من قبيل الحكمة لا العلّة. ولعلّه يكون من هذا القبيل رفع وجوب الغسل ووجوب التيمّم في قوله تعالى في آية التيمّم ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1) فاللّه تبارك وتعالى رفع وجوب الغسل وشرع التيمم ولو كان تحصيل الماء مع المشقّة ممكنا.

والحاصل : أنّه لا شكّ في دلالة هذه الآيات وهذه الروايات المستفيضة على عدم جعل الأحكام الحرجيّة في الدين الحنيف الإسلامي ، وقد ذكرنا قوله صلی اللّه علیه و آله : « بعث بالحنيفيّة السمحة السهلة ».

نعم هاهنا إشكال معروف ، وهو أنّه لا شكّ في وجود أحكام شاقّة في هذا الدين الحنيف ، كالجهاد وعدم جواز الفرار عن الزحف ، والصوم في شهر رمضان خصوصا في أيّام الصيف ، وأمثال ذلك من الأحكام التي هي شاقّة على نوع المكلّفين.

ولكن أنت خبير بأنّه ربما تكون مصلحة فعل ، أو ترك ، أو مصلحة إثبات حكم وضعي ، أو رفعه بمثابة من الأهميّة بحيث يكون عدم جعل ذلك الحكم التكليفي أو الوضعي خلاف اللطف والامتنان ، سواء أكانت تلك المصلحة شخصيّة أو نوعيّة ؛ لأنّ الشارع قد يلاحظ مصلحة النوع ولو لم تكن للشخص مصلحة أصلا أو لم تكن ملزمة ، ومع ذلك يكلّف الشخص بذلك الفعل مراعاتا وحفظا لمصلحتهم.

وبعبارة أخرى : رفع الأحكام الحرجيّة أو عدم جعلها ، يكون من باب الامتنان

ص: 254


1- البقرة (2) : 185.

واللطف ، فإذا كان الرفع وعدم الجعل خلاف الامتنان وخلاف المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة ، فلا بدّ وأن يجعل ذلك الحكم ولو كان فيه ضيق وعسر ، وإلاّ تفوت تلك المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة ، وهذا خلاف اللطف ؛ هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ وأن ينظر إلى ذلك الحكم الحرجي ، فإن كان حرجيّا لجميع المكلّفين ودائما وفي جميع الأوقات ، أو نوعيا وإن لم يكن حرجيّا في حقّ شرذمة قليلة من الناس ، فمن ذلك يستكشف أهميّة الملاك بحيث لم يرض الشارع بفعله أو بتركه وطلب الفعل ، كما في الجهاد والحج ، أو الترك كما في الصوم وإن كانا حرجيّين.

وأمّا إذا لم يكن حرجيّا إلاّ لبعض الأشخاص ، أو في بعض الأوقات ، أو في بعض الحالات ففي مثل هذه الموارد يتمسّك لرفعها بقاعدة نفي الحرج.

وبعبارة أخرى : الحكم المجعول بعنوان عامّ إذا كان بعض مصاديقها حرجيّا يرتفع عن تلك المصاديق بأدلّة نفي العسر والحرج ، مثلا الوضوء واجب للصلاة ، فإذا كان البرد شديدا قارصا وكان الوضوء في ذلك البرد حرجيّا يرتفع الوجوب بأدلّة نفي العسر والحرج. والمسح على للبشرة واجب ، فإذا كان حرجيّا بواسطة وضع المرارة عليها فيرتفع الوجوب. وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومضمونها

فنقول : مفادها مضمونها رفع الحكم الذي هو حرجي ، سواء أكان تكليفا أو وضعا ، فيكون مساقها مساق لا ضرر - بناء على ما حقّقنا في معناها - تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) أنّ المرفوع والمنفي هو نفس الحكم الضرري ، لا أنّ النّفي بمعنى

ص: 255


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 534.

النهي ، كما أصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره (1) ولا أنّه من قبيل رفع الحكم برفع الموضوع ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره (2) ولا أنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك ، كما ذهب إليه بعض.

والأمر هاهنا أوضح من تلك القاعدة ؛ لأنّه في هذه القاعدة صريح القرآن العظيم عدم جعل الأحكام الحرجيّة في قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) بخلاف قاعدة لا ضرر ، فإنّ ظاهر الحديث الشريف هو نفي الضرر لا الحكم الضرري ، إلاّ بقرائن ذكرنا هناك.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدلّة نفي الحرج والضرر حكومة واقعيّة في جانب المحمول - أي الأحكام الأوّلية المحمولة على موضوعاتها - بالتضييق ، ولذلك تقدّم أدلّة نفي العسر والحرج كأدلّة الضرر على الأدلّة الأوّلية ولا تلاحظ النسبة بينهما ، كما هو شأن الحاكم والمحكوم.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ المراد من نفي العسر والضيق والحرج في هذا الدين الحنيف مقابل السعة والسهلة والسمحة أنّ اللّه تبارك وتعالى في هذا الدين - الذي هو عبارة عن مجموع الأحكام المتعلقة بأفعال المكلّفين أو الموضوعات الخارجيّة ، كبعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة والولاية والحرّية والرقيّة والزوجيّة وأمثال ذلك - لم يجعل حكما ينشأ من قبله الحرج والضيق والعسر ، بل هذا الدين والشريعة سمحة سهلة ، والناس أي المتدينين بهذا الدين في سعة من قبل أحكامه ؛ ولذلك قال علیه السلام : « إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالة ، وإنّ الدين أوسع من ذلك » (4).

وبهذا المعنى وردت روايات كثيرة فوق حدّ الاستفاضة.

ص: 256


1- « رسالة لا ضرر ولا ضرار » ص 24 - 27.
2- « كفاية الأصول » ص 381.
3- الحجّ (22) : 78.
4- تقدّم تخريجه في ص 252 ، رقم (3).

وليس المراد من نفي الحرج نفى الحكم بلسان نفى الموضوع ، كما قيل ذلك في لا ضرر ، وإن كان التحقيق خلافه حتّى هناك ، ولو كان لهذا التوهّم وجه هناك - أي في قاعدة لا ضرر - ولكن لا وجه له هاهنا أصلا ؛ لأنّ ذلك مفاد الآية الشريفة ابتداء وأوّلا وبالذات نفى جعل الحرج في الدين ، ولا شكّ في أنّ المراد بالجعل الذي نفاه اللّه تبارك وتعالى هو الجعل التشريعي لا الجعل التكويني ، والمراد من الدين هي الأحكام المجعولة من قبل الشارع المسمّاة بالأحكام الفقهيّة من الطهارات إلى الديات ، فلا يبقى شكّ في أنّ المنفي هو نفس الحكم الذي ينشأ من قبله الضيق والحرج ، لا أنّه تعالى ينفى الحكم الحرجي بلسان نفى موضوع ، ذلك الحكم ، أي الموضوع الذي هو حرجي أي الوضوء في البرد الشديد مثلا ، أو المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة إذا كان نزعها صعبا.

والثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

اشارة

ومواردها كثيرة لا يمكن إحصاؤها ؛ لأنّ أغلب الأحكام الإلزاميّة سواء أكانت من الواجبات أو من المحرّمات قد يصير في بعض الأحيان حرجيّا ، فتكون تلك الأحكام الحرجيّة مشمولة لقاعدة لا حرج. وقد أشرنا إلى موردين منها أحدهما : الوضوء في البرد الشديد. والثاني : المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة لوقوعه وانقطاع ظفره.

ونذكر جملة أخرى :

منها : فيما إذا اغتسل من الجنابة من إناء ، وينضح من ماء غسله بواسطة وقوعه على الحجر الصلب أو صلب آخر في الإناء ، فقال علیه السلام : « لا بأس ما جعل عليكم في

ص: 257

الدين من حرج » (1). وجريان القاعدة في هذا المقام مبتن على عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر حتّى بالنسبة إلى تلك القطرات التي تنضح في الإناء من ماء غسله.

ومنها : فيما إذا كان الاحتياط بالجمع بين المحتملات فعلا أو تركا حرجيا ، فيرتفع وجوبه بهذه القاعدة. وعلى هذا بنى صاحب الكفاية قدس سره في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة التحريميّة وفي جواز ترك بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة الوجوبيّة. (2)

وبعبارة أخرى : جواز المخالفة الاحتماليّة أو القطعيّة في الشبهة غير المحصورة ، وعدم وجوب الاحتياط فيها مستندا إلى هذه القاعدة. وقال بأنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن يكون الاحتياط في أطرافها موجبا للعسر والحرج ، فيما إذا كان عسر الاحتياط ناشئا من كثرة الأطراف.

وإلى هذا يرجع ما ذكره في مقدّمات دليل الانسداد وإنكار وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات بإتيان مظنون الوجوب - مشكوكه وموهومة - وترك مظنون الحرمة ومشكوكها وموهومها بأنّ هذا الاحتياط يوجب العسر والحرج بل اختلال النظام فبواسطة هذه القاعدة أنكروا وجوب الاحتياط.

وقد أورد هاهنا على الاستدلال بهذه القاعدة لرفع وجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات بحكم العقل ، من باب لزوم القطع بالامتثال إمّا وجدانا وأمّا تعبدا ، واليقين بفراغ الذمّة ومفاد قاعدة الحرج كما بيّنا هو رفع الحكم الشرعي إذا كان حرجيّا لا الأحكام العقليّة.

ولكن أجبنا عن هذا الإشكال في محلّه أنّه بناء على ما اخترنا في مفاد القاعدة

ص: 258


1- تقدّم تخريجه في ص 252 ، رقم (1).
2- « كفاية الأصول » ص 359.

من أنّه عبارة عن رفع كلّ حكم شرعي يكون منشأ للحرج والعسر والضيق ، ولا شكّ في أنّ العسر والحرج الذي في الاحتياط آتية من قبل تلك الأحكام الواقعيّة المجهولة وإن كان الاحتياط بحكم العقل.

نعم لو قلنا بأنّ مفاد هذه القاعدة رفع الحكم الحرجي برفع موضوعه ، فلا مدفع لهذا الإشكال ؛ لأنّه ليس للاحتياط حكم شرعي حتّى يرتفع برفع موضوعه.

وهذه هي الثمرة بين القولين ، أي القول بأنّ مفاد لا ضرر ولا حرج رفع الحكم بلسان رفع موضوعه ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره أو رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر والحرج ، كما اخترناه فبناء على الوجه الأوّل لا حكومة لأدلّة نفى العسر والحرج على الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي إذا كان موجبا للعسر والحرج ، وأمّا بناء على الوجه الثاني فحيث أنّ الحرج والعسر بالآخرة ينتهيان إلى الحكم الشرعي وإن كان من جهة الجمع بين محتملاته بحكم العقل ، فيكون مشمولا للقاعدة.

وهذا هو الذي قلنا إنّ الثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة.

ثمَّ إنّ هاهنا أمران يجب التنبيه عليهما

[ الأمر ] الأوّل : إنّه لو تحمّل المكلّف باختيار نفسه الحرج والمشقة ، وأتى بالعبادة التي فيها المشقّة ، سواء كان تمام العبادة أو جزؤها أو شرطها أو مانعها ، مثلا في البرد الشديد توضّأ أو في الحرّ الشديد في الصيف مع أنّ النهار طويل صام مع أنّه مجبور بالعمل في الشمس ، أو في البرد الشديد نزع اللباس من غير المأكول وأمثال ذلك هل تكون عبادته صحيحة ، أم لا ، بل تكون باطلة ؛ لأنّ في الأوّل كانت وظيفته التيمّم ، وفي الثاني كانت وظيفته الإفطار ، وفي الثالث كانت وظيفته الصلاة مع غير المأكول أو الحرير أو الذهب مثلا أو غيرها من الموانع؟

ص: 259

ذهب شيخنا الأستاذ قدس سره إلى بطلان العبادة وقال : كما أنّ الوضوء والغسل والصوم والصلاة مع نزع غير المأكول أو نزع الحرير إذا كانت ضرريّة تبطل ، فكذلك فيما إذا كانت هذه المذكورات حرجيّة. وذلك من جهة أنّ مساق القاعدتين - أي قاعدة الضرر وقاعدة الحرج - واحد ، إذ في موارد كلتيهما يكون الحكم الواقعي مرفوعا بالمرّة ؛ لأنّ نتيجة حكومتهما على الأدلة الأحكام الواقعيّة هو تخصيصها بغير موارد الضرر والحرج ، كما هو الحال في جميع موارد الحكومة الواقعيّة ، فكأنّ الحكم الواقعي يصير نوعين ، النوع الضرري والحرجي يرتفعان عن عالم التشريع بالمرّة ، والنوع الآخر الذي ليس بضرري ولا هو حرجي يبقى على حاله.

وبعبارة أخرى : العمومات والإطلاقات الأوّلية لو لا هاتان القاعدتان كانت تشمل هذه الموارد أيضا - أي موارد كونها ضرريّا أو حرجيّا - كسائر الموارد التي ليست كذلك ، ولكن أدلّة هاتين القاعدتين تخصّص العمومات الأوّلية تخصيصا واقعيّا ، وكذلك تقيّد الإطلاقات الأوّلية تقييدا واقعيّا ، فتكون موارد هاتين القاعدتين خارجة عن تحت حكم تلك العمومات والإطلاقات حقيقة وواقعا ، لا عن تحت موضوعها حتّى تكونان واردتين على الأدلّة الأوّلية ، فتكون العبادة أو جزؤها أو شرطها كأن لم يكن تعلّق بها أمر ولم تكن عبادة إذا كانت حرجيّة ، كما هي كذلك لو كانت ضرريّة ، فالإتيان بها عبادة تشريع محرم.

وفيه : أنّ قياس باب الحرج بباب الضرر في غير محلّه ؛ لأنّ الضرر موجب لحرمة الفعل الضرري ، فارتكاب الفعل الذي فيه الضرر لا يجوز ، فلا يجتمع مع العبادة التي يجب الإتيان بها مقرّبا.

وبعبارة أخرى : الفعل الذي ضرري مبعد ، ولا يمكن أن يكون المبعد مقرّبا ، ولا يطاع اللّه من حيث يعصى وإن كان هذا الكلام - أي كون الفعل الضرري مبعدا وحراما بجميع مراتبه حتى الضرر الخفيف - لا يخلو من نظر. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ تلك المرتبة التي ليست محرّمة ومبعدة لا يرفع الحكم الشرعي الإلزامي ، فلا يرتفع بها

ص: 260

وجوب الغسل أو التيمّم ، وليس ببعيد فهو خارج عن محلّ الكلام لأنّ كلامنا الآن في الضرر الذي يرتفع به الحكم الشرعي الإلزامي ؛ هذا في باب الضرر.

وأمّا باب الحرج فليس كذلك ، أي ارتكاب الفعل الحرجي لا حرمة فيه فليس بمبعد ، فقياس أحدهما بالآخر لا وجه له ؛ لأنّ مناط البطلان في العبادة الضرريّة كالوضوء أو الغسل الضرريين ليس في العبادة الحرجيّة ، بل العبادة الحرجيّة التي يأتي بها مع المشقّة تكون آكد في العبوديّة ، ولعلّه يشير إلى هذا الحديث المشهور أنّ « أفضل العبادات أحمزها » (1) أي أشدّها ، ولا شكّ في أنّ تحمّل المشاقّ في سبيل امتثال أوامر المولى ونواهيه ممدوح عند العقل والعقلاء ، إلاّ أن يكون المولى نهى عن تحمّله وإيقاع نفسه في المشقّة ، فحينئذ يكون عاصيا ويكون حاله حال الفعل الضرري ويكون خارجا عن مفروض الكلام ؛ لأنّ كلامنا في ما إذا كان الحرج موجبا لرفع الحكم الإلزامي إذا كان حرجيّا ، لا فيما إذا كان الفعل الحرجي منهيا كما أنّ الفعل الضرري يكون منهيّا.

والحاصل : أنّ قاعدة الحرج وكذلك قاعدة الضرر حكم امتناني ، غاية الأمر أنّ الفعل الضرر حرام بدليل آخر لا ربط له بالقاعدة ، بخلاف قاعدة الحرج فإنّه ليس هناك دليل آخر يدلّ على حرمة ارتكاب الفعل الحرجي.

وهذا هو السرّ في فتوى المشهور ببطلان الوضوء والغسل الضرري دون الحرجي منهما.

وأمّا الإشكال على صحّة العبادات الحرجيّة بأنّ الحرج يرتفع به الأمر كما هو مفاد هذه القاعدة ، فيكون إتيانها بقصد الأمر تشريعا محرّما.

ففيه : أنّ قصد الملاك كاف في عدم كونه تشريعا محرّما ، كما أنّه في باب الواجبين

ص: 261


1- راجع : « بحار الأنوار » ج 67 ، ص 191 ، باب النيّة وشرائطها ومراتبها ، ذيل ح 2 ، وص 237 ، باب الإخلاص معنى قربه تعالى ، ذيل ح 6.

الضدّين الذي أحدهما أهمّ يسقط أمر المهمّ ، ومع ذلك أو عصى امتثال أمر الأهمّ وأتى بالمهمّ ، فالتحقيق صحّة عبادته ؛ لكفاية الملاك في التقرّب بها ولا يحتاج إلى الأمر ؛ ففيما نحن أيضا كذلك.

إن قلت : إنّ هناك - أي في باب الواجبين المتزاحمين الضدّين الذي أحدهما أهمّ ملاكا - نعلم بوجود الملاك مع سقوط الأمر ؛ لأنّ سقوط الأمر هناك من باب عدم القدرة ، والقدرة العقليّة نعلم بعدم دخلها في الملاك ، فدليل وجوب ذلك الواجب المهمّ كما أنّه دالّ على وجوبه كذلك دالّ على وجود الملاك فيه ، والوجوب والأمر سقط بواسطة عدم القدرة ، وأمّا الدليل على وجود الملاك فباق بحاله.

قلنا : فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فإنّ المرفوع هو الإلزام من باب الامتنان لا الملاك ؛ لأنّه لا امتنان في رفع الملاك ، بل رفعه يكون خلاف الامتنان ، بل لا يمكن رفعه في عالم التشريع ؛ لأنّه أمر تكويني ورفعه لا بدّ وأن يكون بأسبابه التكوينيّة ، لا بمثل لا حرج ولا ضرر ، بناء على ما هو التحقيق من أنّ مفادهما رفع الحكم الشرعي ، بل ولو على القول بكون مفادهما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وأمّا ما يقال : من عدم الدليل على وجود الملاك بعد عدم الأمر وارتفاعه بواسطة الحرج ؛ لأنّ الملاك كان يستكشف من الأمر ، فإذا سقط الأمر فليس هناك دليل كاشف عن وجوده.

ففيه : أنّ الإطلاقات وعمومات الأدلّة الأوّلية كانت دليلا على أمرين : أحدهما الوجوب ، والآخر هو الملاك. ودلالتها على الوجوب سقط عن الاعتبار بواسطة حكومة هذه القاعدة عليها ، وأمّا دلالتها على وجود الملاك فباق على حاله.

لا يقال : بأنّ ظهور الإطلاقات والعمومات الأوّليّة في وجود الملاك حتّى في حال كون تلك الأحكام حرجيّة ملازم مع ظهورها في الوجوب ، فإذا سقط ظهورها في الوجوب عن الاعتبار بواسطة هذه فيسقط ظهورها في وجود الملاك أيضا عن

ص: 262

الاعتبار.

ففيه : أنّ التفكيك بين المتلازمين في الحجيّة لا مانع منه كما ، أنّه في الخبرين المتعارضين كلّ واحد منهما يسقط دلالته المطابقيّة عن الاعتبار بواسطة المعارضة ، فكلّ واحد منهما ليس حجّة في مدلوله المطابقي - أي مؤدّاه - ولكن كلاهما معتبران في مدلولهما الإلزامي ، أي نفي الحكم الثالث الذي هو خلاف مؤدّى كلّ واحد منهما.

وأمّا ما يقال : من أنّ لازم عدم بطلان الوضوء أو الغسل مع كونهما حرجيّين أن يكون مخيّرا بين الوضوء أو الغسل وبين التيمم في حال كونهما حرجيّين ، وهذا معلوم العدم ؛ لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، فإنّ قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (1) علّق التيمّم على عدم وجود الماء ، وعند الوجدان بمعنى التمكّن من استعماله لا محلّ للتيمّم ، بل إمّا الوضوء أو الغسل ، كلّ في محلّه ، كما أنّه عند عدم الوجدان يتعيّن عليه التيمّم ولا محلّ للوضوء ولا للغسل ، وحيث أنّهما نقيضان فلا ثالث غيرهما ، وإلاّ يلزم إمّا اجتماع النقيضين وإمّا ارتفاع النقيضين ، بمعنى أنّه لو كان محلّ الاثنين - أي الوضوء مثلا والتيمم - جمعا أو تخييرا يلزم اجتماع النقيضين ، وإن لم يكن الاثنين فيلزم ارتفاع النقيضين ، فلا بدّ وأن يكون الواجب عند القيام إلى الصلاة أحدهما المعيّن لا التخيير بينهما.

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون في مقام الثبوت عدم وجدان الماء عند القيام للصلاة بمعنى عدم التمكّن من استعماله عقلا أو شرعا علّة منحصرة لوجوب التيمّم ، وأمّا مع التمكّن وعدم مانع شرعي أو عقلي فإن لم يكن استعماله شاقّا وحرجيّا فيجب الوضوء أو الغسل كلّ في محلّه ومورده. وأمّا إن كان شاقّا وحرجيّا فيكون مخيرا بين التيمم وبين الطهارة المائيّة أي الوضوء أو الغسل كلّ في محلّه ومورده.

وأمّا في مقام الإثبات فلو لم تكن هذه القاعدة في البين ، كان مقتضى ظاهر الآية

ص: 263


1- النساء (4) : 43.

أنّه عند عدم الوجدان وظيفته التيمّم ، وعند الوجدان الوضوء أو الغسل ، ولكن بعد ورود الدليل على عدم جعل الحكم الحرجي وعلمنا أنّه تعالى في مقام الامتنان ، فلا بدّ وأن يكون المرفوع هو الوجوب والإلزام لا الصحّة ؛ لأنّ رفع الصحّة خلاف الامتنان ، فبمقتضى رفعه لا بدّ وأن يكون التيمّم صحيحا.

ومن طرف آخر حيث أنّ الطهارة المائيّة أيضا صحيحة ؛ لأنّ المرفوع هو الإلزام لا الصحّة ، فيكون مخيّرا بين الطهارة المائيّة وبين الطهارة الترابيّة.

وبعد التأمّل فيما ذكرنا نعرف أنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في حاشيته على العروة في هذا المقام من ادّعاء القطع بعدم التخيير بين الطهارتين لا يخلو من غرابة.

والحقّ في المقام هو صحّة الوضوء والغسل الحرجيّين ما لم يصل إلى حد الضرر المحرّم ، وإن كان الاحتياط بالجمع بينهما حسن ، بمعنى أنّه لو توضّأ أو اغتسل وتحمّل الحرج والمشقّة لا يترك التيمّم وأمّا لو تيمّم فلا يحتاج إلى الطهارة المائيّة قطعا.

الأمر الثاني : في أنّ هذه القاعدة هل هي حاكمة على جميع العمومات وإطلاقات أدلّة الأحكام الإلزاميّة ، سواء كانت تلك الأحكام من الواجبات أو كانت من المحرّمات؟ وعلى تقدير كونها شاملة للمحرّمات أيضا كالواجبات ، فهل تختصّ حكومتها على أدلّة محرّمات الصغائر أو يشمل الكبائر أيضا؟

فنقول : ظاهر الآية الشريفة - التي هي أساس قاعدة نفي العسر والحرج ، واستشهد الإمام علیه السلام في موارد عديدة بها ، وجعلها كبرى كلّية طبّقها على صغرياتها المتعدّدة في أبواب مختلفة ، أعني قوله تبارك وتعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) - هو العموم لكلّ حكم شرعي حرجي ، سواء كان من الواجبات أو من المحرّمات ، وسواء كانت المحرّمات صغيرة أو كبيرة ، ولكن الظاهر أنّ بناء الفقهاء والأصحاب - رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين - ليس على العمل بذلك العموم والأخذ به ، خصوصا إذا كان المراد من الحرج والضيق العرفي الذي أخذ

ص: 264

موضوعا للرفع في الآية الشريفة هو الحرج الشخصي لا النوعي ، كما هو كذلك ؛ لأنّه ليس في أغلب المحرّمات الكبيرة كالزناء بذات البعل وأمثاله إلاّ ويكون تركها لبعض الأشخاص حرجيّا ، ولا شكّ في أنّ الفقيه لا يرضى من نفسه أن يفتي بجواز ارتكاب ذلك المحرّم.

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ هذا الحكم - أي رفع الحكم الحرجي - من اللطف والامتنان على العباد ، وإيقاع المكلّف في المفسدة العظيمة المترتّبة على ذلك المحرّم والذنب الكبير برفع الإلزام عنه خلاف اللطف والامتنان.

مثلا الشخص الذي له عطف ورأفة على ولده الوحيد العزيز عنده ، يأمره بما فيها المصالح له ، وينهاه عن الأفعال التي فيها مفاسد على اختلاف تلك المصالح والمفاسد خفّة وشدّة ، وقلّة وكثرة ، وصغرا وكبرا ، كلّ تلك الأوامر والنواهي من باب اللطف والشفقة عليه ، حتّى أنّ إعمال المولويّة والوعد على الامتثال ، والوعيد على العصيان كلّ ذلك من باب اللطف والإحسان إليه ، لأنّ لا يفوت منه المصالح ، ولا يقع في المفاسد خصوصا إذا كانت المفاسد عظيمة.

فاذا قال لذلك الولد : التكاليف التي وجّهتها إليك إذا كان العمل على طبقها وامتثالها شاقّا عليك وتقع في الضيق من ناحية العمل بها والجري على وفقها ، فهي مرفوعة عنك ولا تضيق على نفسك وأنت في سعة. وعلمنا أنّ صدور هذا الكلام من ذلك الولد الرؤوف من باب اللطف والامتنان على ذلك الولد ، فهل نفهم منه أنّه رخصة في كلّ ما فيه مفسدة عظيمة ، أو ترك كلّ ما فيه مصلحة ملزمة عظيمة؟! كلاّ ، ثمَّ كلاّ.

فاللازم على الفقيه في مقام إجراء هذه القاعدة أن يعمل النظر ، ويهتمّ غاية الاهتمام بأن يكون المورد ممّا لا يرضى الشارع بتركه ولو كان الفعل حرجيّا شاقّا على المكلّف ، كالواجبات التي بني الإسلام عليها ، كالصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ،

ص: 265

والحج وأمثالها ممّا لا يرضى الشارع بتركها على كلّ حال. وكذلك لا يكون ممّا لا يرضى بفعله لاشتماله على المفسدة العظيمة ، كقتل النفس المحرّمة ، والزنا بذات البعل ، واللواط ، والفرار عين الزحف وارتكاب المعاملة الربويّة ، والقمار ، وشرب الخمر ، وسائر المحرّمات الكبيرة التي مذكورة في الفقه في أبواب ذكر العدالة فيها ، عصمنا اللّه من الزلل والخطأ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهرا وباطنا.

ص: 266

10 - قاعدة الغرور

اشارة

ص: 267

ص: 268

قاعدة الغرور (1)

ومن القواعد المعروفة المشهورة في أبواب الضمانات « قاعدة الغرور ».

وهي عبارة عند الفقهاء عن صدور فعل عنه أوجب الضرر عليه بواسطة انخداعه عن آخر ولو يكن ذلك الآخر قاصدا لانخداعه ، بل هو أيضا كان مخدوعا أو كان جاهلا ومشتبها.

وعلى كلّ حال يشترط في كونه مغرورا أن يكون جاهلا بترتّب الضرر على فعله بحيث لا يتدارك ؛ لأنّه من الممكن أن يكون مغرورا مع علمه يترتّب الضرر على فعله للقطع بتداركه هذا ، ولكن خدع في أن هذا الضرر يتدارك ويتعقّب بنفع كثير ، فحكموا برجوع المغرور بالمعنى المذكور إلى من غرّه وخدعه ولو كان الغارّ جاهلا بأنّ فعله صار سببا لانخداع المغرور ؛ وذلك لأنّه لا يشترط في صدق عناوين الأفعال أن يكون الفاعل قاصدا لتلك العناوين ، فالذي قام أو قعد مثلا ولو غفلة من دون قصد إلى عنوان القيام والقعود يصدق عليه أنّه قام أو قعد ؛ فالذي أوقع شخصا في ارتكاب فعل يترتّب عليه الضرر مع جهله بحقيقة الحال بل أو همه أنّه ينتفع بهذا الفعل ،

ص: 269


1- (*) « القواعد والفوائد » ج 2. ص 61 و 137 ؛ « الحق المبين » ص 87 و 92 ؛ « عوائد الأيّام » ص 28 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 47 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 17 : « قواعد فقه » ص 93 ؛ « القواعد » ص 183 ؛ « قواعد فقه » ص 71 ؛ « قواعد فقهية » ص 67 و 81 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 284 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 261 ؛ « قاعدة غرور وتتبع كاربرد آن در فقه وقانون مدني » نوشين چترچى ، ماجستير مدرسة الشهيد مطهّرى العالية ؛ « قاعدة غرور وموارد استناد به آن در مذاهب خمسه إسلامي » حسين طالبي ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1358 ؛ « قاعدة غرور وكاربرد آن در فقه وقانون مدني » نوشين چترچى ، مجلة « رهنمون » العدد 7 ؛ « دو قاعدة فقهي ( الغرور وأصالة الصحة ) » مجلّة « حق » فصليّة ، العدد 10 ، العام 1366 ؛ « در غرور ودليل آن » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلة « كانون وكلاء » ، العام 2 ، العدد 11.

فيصدق عليه أنّه غرّه وخدعه وإن لم يكن قاصدا لخدعه ، بل ولو لم يدر أنّه خدعة.

فالفاعل المباشر الذي صدر منه الفعل الذي يترتّب عليه الضرر مع جهله - أي أو همه غيره - بأنّه لا يترتّب عليه الضرر بل ينتفع به يسمّى بالمغرور. والذي أوهمه أنّه ليس في هذا الفعل ضرر بل فيه نفع ، هو يسمّى بالغار.

ومعنى رجوع المغرور إلى الغارّ هو أنّ المغرور له أن يغرم الغارّ ويأخذ منه مقدار ما تضرر.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إنّ في هذه القاعدة جهات من الكلام :

الجهة الأولى : في مستندها

وهو أمور :

الأوّل : النبوي المشهور بين الفريقين ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « المغرور يرجع إلى من غرّه » كما حكي عن المحقّق الثاني قدس سره في حاشية الإرشاد وعن نهاية ابن الأثير. (1)

ودلالة هذه الجملة على المقصود في المقام - أي رجوع المغرور إلى الغارّ فيما تضرّر من ناحية تغريره إيّاه - واضح لا يحتاج إلى شرح وإيضاح ؛ إذ لا معنى لرجوع المغرور إلى الغارّ في المتفاهم العرفي إلاّ هذا المعنى ، أي يكون له أخذ ما تضرّر من الغارّ.

والعمدة إثبات سندها ، وقد ادّعى بعضهم عدم وجودها في كتب الحديث ، وإن كان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، لكن صرف احتمال الوجود لا أثر له.

ص: 270


1- « النهاية » ج 3 ، ص 356.

نعم لو كانت هذه الجملة في كتب الحديث ولو بعنوان الإرسال ، أو كان ذكرها أحد الفقهاء في كتابه مرسلة - كما أنّ صاحب الجواهر قال في كتاب الغصب : « بل لعلّ قوله علیه السلام : المغرور يرجع إلى من غرّه ظاهر في ذلك » (1). والظاهر أنّه اشتباه منه ، واعتمد قدس سره على ما هو المعروف ، لا أنّه ينقل الحديث عن كتاب أو عن إسناد - لما كان شكّ في حجّيته ؛ لما ذكرنا في كتابنا « منتهي الأصول » (2) من أنّ مدار الحجّية في الخبر هو كونه موثوق الصدور ، والوثوق بالصدور كما يحصل من عدالة الراوي أو وثاقته وإن لم يكن عادلا بل كان منحرفا عن الحقّ ، كذلك يحصل من عمل الأصحاب به ، بل من فتوى مشهور القدماء على طبقه وإن لم يستندوا إليه.

ولكن مع ذلك يحتاج إلى نقله بعنوان الحديث والرواية ، كي بواسطة عمل الأصحاب على طبق مضمونه يحصل الوثوق بصدوره ، فيكون موضوعا للحجيّة.

وأمّا ادّعاء كون هذه الجملة معقد الإجماع لما ذكروها وأرسلوها إرسال المسلمات ، فهذا إن صحّ يرجع إلى الاستدلال بالإجماع ، وسنتكلّم فيه إن شاء اللّه.

الثاني : بناء العقلاء ، بمعنى أنّ العقلاء في معاملاتهم وسائر أعمالهم إذا تضرّروا بواسطة تغرير الغير إيّاهم ، يرجعون فيما تضرّروا إلى الغارّ ، ويأخذون منه مقدار الضرر الذي صار سببا لوقوع المغرور فيه ، وسائر العقلاء لا يستنكرون هذا المعنى بل يغرمون الغارّ ، وهذا أمر دائر شائع بينهم من دون نكير لأحد منهم.

وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه الذي ذكروها في هذا الباب.

إن قلت : إنّ بناء العقلاء يحتاج في حجّيته إلى الإمضاء.

قلنا : أوّلا عدم الردع يكفي في الإمضاء ، ولم يثبت ردع من طرف الشارع ، وثانيا : اتّفاقهم على الاستدلال بهذه القاعدة في موارد متعدّدة من دون اعتراض من أحدهم

ص: 271


1- « جواهر الكلام » ج 37 ، ص 145.
2- « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 111.

على هذا الاستدلال ، يكشف كشفا قطعيّا عن إمضاء الشارع لهذه الطريقة والبناء.

الثالث : الإجماع على رجوع المغرور إلى الغارّ بمقدار الضرر الذي أوقعه الغارّ فيه. ولا خلاف بينهم في ذلك ، وإن كان خلاف ففي بعض موارد تطبيق القاعدة على صغرياتها من دون تشكيك في أصل الكبرى. مثلا ربما يقع الخلاف في أنّه إذا كان الغارّ جاهلا ومشتبها ، مثلا مدح بنتا بأنّها جميلة ولها ثروة كثيرة ولكن باعتقاد أنّها كذلك لسماعة من الناس في حقّها وتصديقه إياهم مع أنّها ليست كذلك ، فاغترّ المغرور بمدحه وبذل لها مهرا كثيرا للطمع في مالها وجمالها ، فظهر أنّها ليست كذلك ، فهل في مثل هذا المورد يصدق الغارّ على الذي أوقعه في هذه الخسارة أم لا؟

وأنت خبير بأنّ هذا الخلاف لا دخل له في إنكار الكبرى فالإنصاف أنّ الفقيه المتتبّع في موارد تطبيق هذه القاعدة لا يجد بدّا إلاّ من تصديق تحقّق هذا الإجماع ووجوده ، ولكن حيث أنّه من المحتمل القريب أن يكون المتّفقون معتمدين على تلك الرواية المشهورة وإن كان مدركهم غير صحيح عند جماعة أخرى الذين ينكرون وجود تلك الرواية ، أو كانوا معتمدين على مدرك آخر وعلى هذه الاحتمالات ، فلا يكون من الإجماع المصطلح في الأصول الذي بنينا على حجّيته.

الرابع : هو أنّ الغارّ أتلف ذلك المقدار الذي خسر المغرور وتضرّر ، من جهة أنّه كان سببا لوقوع المغرور في هذه الخسارة. والسبب ها هنا أقوى من المباشر ؛ لأنّ المباشر جاهل مغرور ومخدوع ، فيكون المباشر بمنزلة آلة لتلف ذلك المقدار من المال ، فبناء على هذا ليست قاعدة الغرور قاعدة مستقلّة ، بل تكون من صغريات قاعدة التلف ، فيكون الدليل على قاعدة التلف دليلا على هذه القاعدة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الوجه لا صغرى له ولا كبرى.

أمّا عدم الصغرى ، فمن جهة أنّ المراد من كون الغارّ سببا لو كان أن تغريره علّة تامّة لوقوع المغرور في هذا الضرر ، أو هو يكون جزء الأخير من العلّة التامّة ، فقطعا

ص: 272

ليس كذلك ؛ لأنّ الجزء الأخير والعلّة لوقوعه في هذا الضرر هو إرادة نفسه لا تغرير الغارّ. وإن كان المراد من كونه - أي الغارّ - سببا أي تغريره معدّ من معدّات وجود هذا الضرر ، فهذا وإن كان حقّا ولكن مثل هذا المعنى لا ينبغي أن يتخيل أو يتفوّه به أحد ، لأنّه معدّات كثيرة تكون لوقوع هذا الضرر ؛ فلا وجه للرجوع إلى الغارّ وحدة وتغريمه ، مع اشتراك غيره معه في المعدّية ، بل يكون نسبة التلف إلى بعض المعدّات من المضحكات.

وأمّا عدم الكبرى ، فمن جهة أن هذا الكلام أي كون السبب ها هنا أقوى من المباشر ممنوع ، وإن سلّمنا كونه سببا ؛ لأنّ المناط في أقوائيّة السبب من المباشر هو أن لا يتوسّط بين الفعل والسبب إرادة واختيار ، وإلاّ يكون الفعل مستندا إلى الفاعل المختار ، وهو يثاب أو يعاقب على الفعل لا الذي غرره وأغواه.

ولعلّه إلى هذا يشير قوله تعالى حكاية عن قول الشيطان ( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (1) اللّهمّ إلاّ أن يقال : هذا فيما إذا لم يكن الفاعل المختار جاهلا بالضرر المترتّب على فعله ، أمّا لو كان جاهلا بالمفسدة والضرر المترتّب على ذلك الفعل ، كما أنّه لو وصف شخص دواء سامّة بأنّه نافع وله آثار كذا وكذا ، وغرّره على شرب تلك الدواء ، فالسبب ها هنا أقوى من المباشر وإن كان الفعل صادرا عن الفاعل المختار.

ولعلّه من هذه الجهة يقال بأنّ الطبيب ضامن وإن كان حاذقا ، بل يمكن أن يقال بأنّه يقاد لو كان عالما بأنّها سامّة ومع ذلك غرّر المريض لشربها. وفي قضيّة الشيطان عدوّ اللّه وعدوّ الناس أيضا يثاب أو يعاقب الناس بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب وهدايتهم إلى سواء السبيل لكي لا تكون لهم الحجة على اللّه بل له الحجة البالغة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة.

ص: 273


1- إبراهيم (14) : 22.

ولعلّه لهذه الجهة اختار شيخنا الأعظم قدس سره هذا الوجه مدركا لرجوع المغرور إلى الغارّ فيما إذا كان المشتري عن الفضولي جاهلا بأنّ البائع فضولي وليس بمالك فتضرّر (1).

الخامس : الأدلّة الواردة في الموارد الخاصّة الدالّة على رجوع المغرور إلى الغارّ في مقدار الضرر الذي أوقعه فيه بواسطة تغريره له ، مثل الروايات الواردة في تدليس الزوجة الدالّة على رجوع الزوج بالمهر على المدلّس ، معلّلة بقوله علیه السلام « لأنّه دلّسها » في خبر رفاعة : « وإن المهر على الذي زوّجها وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها » (2) فجعل علیه السلام مناط الرجوع وعلّته تدليسه لها ، أي خدع الزوج بتدليسه إيّاها وإرائتها على خلاف الواقع ، فمقتضى عموم التعليل رجوع كلّ من خدع وتضرّر إلى الذي خدعه.

وصحيح الحلبي عن الصادق علیه السلام في الرجل الذي يتزوّج إلى قوم ، فإذن امرأته عوراء ولم يبينوا له ، قال : « لا ترد ، إنّما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل ». قلت : أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال علیه السلام : « لها المهر بما استحلّ من فرجها ، ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها ». (3)

ففي هذه الصحيحة وإن لم يذكر سبب ضمان الولي لما ساقه إلى زوجته العوراء ، ولكن يفهم منها من لفظة « يغرم » وأنّه يدلّ حسب المتفاهم العرفي منه تدارك الضرر الذي أوقع الزوج فيه.

وأيضا صحيح الحلبي ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في رجل ولّته امرأته أمرها ، وذات

ص: 274


1- « المكاسب » ص 146.
2- « الكافي » ج 5 ، ص 407 ، باب المدالسة في النكاح وما ترد منه المرأة ، ح 9 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 424 ، ح 1697 ، باب التدليس في النكاح ، ح 8 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 245 ، ح 878 ، باب حكم المحدودة ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 596 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 2 ، ح 2.
3- « الكافي » ج 5 ، ص 406 ، باب المدالسة في النكاح وما ترد منه المرأة ، ح 6 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 433 ، باب ما يرد منه النكاح ، ح 4498 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 426 ، ح 1701 ، باب التدليس في النكاح ، ح 12 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 247 ، ح 886 ، باب العيوب الموجبة للردّ ، ح 7 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 593 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 1 ، ح 6.

قرابة أو جارة له لا يعرف دخيلة أمرها ، فوجدها قد داست عيبا هو بها ، قال : « يؤخذ المهر منها ، ولا يكون على الذي زوّجها شي ء » (1).

فجعل علیه السلام رجوع الزوج إلى نفس الزوجة التي دلّست وغررت الزوج بستر عيبها.

وخبر محمّد ابن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال في كتاب عليّ علیه السلام : « من زوّج امرأة فيها عيب دلّسته ولم يبيّن ذلك لزوجها ، فإنّه يكون لها الصداق بما استحلّ من فرجها ، ويكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوّجها ولم يبيّن » (2).

فبمحض السكوت وعدم بيان العيب حكم بالرجوع إلى الذي زوجها ، فضلا عمّا إذا أظهر عدم العيب وأخبر بسلامتها وصحتها وعدم كلّ شين.

وهذه الأخبار وإن كانت ظاهرة في رجوع الزوج المغرور الجاهل بعيب زوجته إلى الذي غرّه وستر العيب ولم يبيّن ، سواء أكانت هي المدلّسة الساترة للعيب ، أو كان هو الولي على التزويج شرعا أو عرفا ولو كانت الولاية على التزويج بتوليتها إيّاه.

والمراد بولي التزويج ليس هو المباشر لإجراء الصيغة وكالة عنها في خصوص إجراء هذا الأمر أي الصيغة فقط ، بل المراد من يكون أمر التزويج بيده شرعا أو عرفا ، بحيث ينسب التزويج إليه ولو عرفا ، فيكون هو الغارّ. ولكن لا عموم لها بحيث تكون دليلا على جواز رجوع كلّ مغرور إلى من غرّه في أيّ موضوع وأيّة معاملة ؛ لأنّها وردت في رجوع الزوج المغرور إلى زوجته المدلّسة ، أو الذي زوّجها وسكت عن بيان عيبها.

وإلقاء الخصوصيّة واستنباط الحكم الكلّي شبه قياس. نعم في رواية رفاعة كان

ص: 275


1- « الفقيه » ج 3 ، ص 87 ، باب الوكالة ، ح 3386 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 597 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 2 ، ح 4.
2- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 432 ، ح 1723 ، باب التدليس في النكاح ، ح 34 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 597 ، أبواب العيوب والتدليس ، باب 2 ، ح 7.

الحكم معلّلا بقوله علیه السلام « لأنّه دلّسها » فحكم برجوع الزوج على الذي زوّجها بعلّة تدليسه إيّاها ، أي ستر عيوبها عن زوجها ، فيمكن أن يقال بكون الحكم دائرا مدار هذه العلّة ، أي الرجوع دائر مدار التدليس والتغرير.

ولكن مع ذلك استظهار العموم منها لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ صرف سكوت المتولّي للتزويج من ذكر العيب الذي فيها يكون تغريرا موجبا للضمان بعيد جدا ، خصوصا إذا كان المتولّي للتزويج جاهلا بذلك العيب.

وسنذكر في الجهة الآتية أنّه لا فرق في مفاد القاعدة بين أن يكون الغارّ جاهلا يترتّب الضرر على الفعل الذي يفعله المغرور ، أو لا.

ومثل الروايات الواردة في رجوع المحكوم عليه إلى شاهد الزور لو رجع عن شهادته وكذّب نفسه.

منها : مرسل جميل ، عن أحدهما علیه السلام : « إذا شهدوا على رجل ثمَّ رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل ، ضمنوا ما شهدوا به وغرموه ، وإن لم يكن قضى طرحت شهادتهم ولم يغرم الشهود شيئا » (1).

فهذه الرواية تدلّ على أنّ الخسارة التي وقعت على المحكوم عليه بواسطة تغرير الشهود يرجع فيها إليهم.

ومنها : حسن محمّد بن قيس ، عن الباقر علیه السلام قال علیه السلام قضى أمير المؤمنين علیه السلام في رجل شهد عليه رجلان أنّه سرق فقطع يده حتّى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر ، فقالا : هذا السارق وليس الذي قطعت يده ، إنّما اشتبهنا ذلك بهذا ، فقضى عليهما أن غرمهما نصف الدية ولم يجز شهادتهما على الآخر ». (2)

ص: 276


1- « الكافي » ج 7 ، ص 383 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 1 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 61 ، باب شهادة الزور وما جاء فيها ، ح 3339 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 259 ، ح 685 ، باب البينات ، ح 90 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 238 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 10 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 384 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 261 ، ح 692. باب البيّنات ، ح 97 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 242 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 14 ، ح 1.

ومنها : مرسل ابن محبوب عن الصادق علیه السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، ثمَّ رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل ، فقال علیه السلام : « إن قال الراجع : أو همت ، ضرب الحدّ وأغرم الدية. وإن قال : تعمّدت ، قتل » (1).

ومنها : أيضا ما رواه الشيخ - في الصحيح - عن جميل بن دراج ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام في شاهد الزور قال علیه السلام : « إن كان الشي ء قائما بعينه ردّ على صاحبه وإن لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل » (2).

ولكن هذه الروايات ونظائرها ممّا لم نذكرها واردة في موارد خاصّة ، واستظهار هذه القاعدة الكليّة أعني قاعدة « المغرور يرجع إلى من غرّه » في غاية الإشكال.

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومدلولها

لا شكّ في أنّ القدر المتيقّن من هذه القاعدة على تقدير اعتبارها هو فيما إذا كان الغارّ عالما بالضرر الذي يترتّب على الفعل الذي يرتكبه المغرور ، وأمّا فيما إذا كان جاهلا ومشتبها هل يصدق عليه الغارّ حتّى يكون من صغريات هذه القاعدة أم لا؟

ولتوضيح المقام نقول : الغارّ والمغرور قد يكونان عالمين بالضرر ، ففي هذه الصورة ليس غارّ ولا مغرور في البين ؛ لأنّ جهل المغرور مأخوذ في حقيقة كونه مغرورا ، وإلاّ يكون هو بنفسه مقدّما على الضرر ، ولا خدعة ولا غرور في البين وقد

ص: 277


1- « الكافي » ج 7 ، ص 384 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 4 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 260 ، ح 691 ، باب البيّنات ، ح 96 ؛ وح 10 ، ص 311 ، ح 1162 ، باب من الزيادات ، ح 3 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 240 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 12 ، ح 1.
2- « الكافي » ج 7 ، ص 384 ، باب من شهد ثمَّ رجع عن شهادته ، ح 3 ؛ « الفقيه » ج 3 ، ص 59 ، باب شهادة الزور وما جاء فيها ، ح 3331 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 259 ، ح 686 ، باب البيّنات ، ح 91 ؛ « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 239 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 11 ، ح 2.

يكونان جاهلين أو مختلفين.

فالصور أربعة :

أحدها : ما تقدّم من كونهما عالمين. وقد عرفت عدم دخول تلك الصورة تحت عموم قاعدة الغرور.

وكذلك الصورة الثانية ، أي فيما إذا كان الفاعل المتضرّر عالما والغارّ جاهلا ، فخارجة عن تحت القاعدة أيضا قطعا ؛ لعدم صدق الغرور مع علمه.

أمّا الصورة الثالثة ، أي فيما إذا كان المغرور جاهلا بالضرر والغار عالما ، فهذه هي القدر المتيقّن من القاعدة على تقدير صحتها واعتبارها.

وأمّا الصورة الرابعة ، أي فيما إذا كانا جاهلين ففيه كلام من حيث أنّ الجاهل بضرر فعل إذا أوقع شخصا في ارتكاب ذلك الفعل هل يصدق عليه أنّه غرّه وخدعه أم لا؟

ربما يقال بعدم صدق عنوان « الغارّ » عليه خصوصا إذا كان مشتبها وتخيّل النفع في ذلك الفعل ودعاه إليه باعتقاد أنّه نافع له ، ثمَّ ظهر أنّه يضرّه ، كالطبيب الذي يصف الدواء الفلاني له باعتقاد أنّه نافع له ، ثمَّ بعد استعماله تبيّن أنّه ضرّه ، فمثل هذا لا يعدّ عند العرف تغريرا أو خدعا لذلك الآخر المتضرّر.

ولكن أنت عرفت فيما ذكرنا من قبل أنّ قصد عناوين الأفعال ليس معتبرا في صدق عنوان ذلك الفعل ، فاذا ضرب أحدا يصدق عليه عنوان الضرب وان لم يقصده ، فالتغرير عبارة عن ترغيب شخص إلى فعل يترتب عليه الضرر وإن كان المرغب جاهلا بترتّب الضرر على ذلك الفعل وإيقاعه في ذلك الفعل.

نعم العناوين القصديّة لا تحصل بدون قصد ذلك العنوان ، فالتعظيم الذي هو من العناوين القصديّة لا يحصل من صرف ذلك القيام والركوع بدون قصد ذلك العنوان.

ص: 278

ولكن أنت خبير بأنّ التغرير ليس من تلك العناوين.

وخلاصة الكلام : أنّه إذا أوقع شخص شخصا آخر في ضرر فعل بترغيبه إلى ذلك الفعل أو بشكل آخر يكون مشمولا لهذه القاعدة ، وإن كان جاهلا بذلك الضرر بل ولو كان باعتقاد النفع.

نعم دخول هذه الصورة في هذه القاعدة موضوعي.

وأمّا حكم القاعدة - أي جواز رجوعه إلى الغارّ - يشمله أو لا يشمله فيحتاج إلى النظر في دليل القاعدة ، فباعتبار الأدلّة ربما يختلف الشمول وعدمه.

فلو كان المدرك هو النبوي المشهور ، أي قوله صلی اللّه علیه و آله « المغرور يرجع إلى من غرّه » (1) فلا فرق بين أن يكون الغارّ جاهلا بترتّب الضرر والخسارة على فعل المغرور ؛ لما ذكرنا من عدم خروجه عن كونه غارّا بواسطة جهل.

وأمّا لو كان المدرك هو الإجماع ، فالظاهر عدم شموله لما إذا كان الغارّ جاهلا ؛ لوقوع الخلاف فيه.

وأمّا لو كان المدرك هو بناء العقلاء على رجوع المغرر في خسارته إلى الغارّ ، ففي بنائهم خصوصا فيما إذا كان الغارّ مشتبها معتقدا عدم عيب وخسارة في الفعل الذي يرغب المغرور على ارتكابه ، مثلا لو اعتقد أنّ المرأة الفلانيّة ليس فيها عيب ولها من الجمال والمال والكمال كذا وكذا ، فرغب شخصا في تزويجها ، فظهر خلاف ما قال يكون بناء العقلاء في مثل هذه الصورة على تغريمه مشكل.

وأمّا لو كان مدركه قاعدة الإتلاف وأنّه السبب لوقوع هذه الخسارة على المغرور ، وأنّ السبب هنا أقوى من المباشر فعلى فرض تماميّة هذا الكلام لا فرق بين أن يكون السبب عالما أو جاهلا.

ص: 279


1- سبق ذكره في ص 270 ، رقم (1).

وأمّا لو كان المدرك لها هو الأخبار الخاصّة الواردة في أبواب مختلفة ، كما ذكرنا ما ورد في باب تدليس المرأة وإخفائها عيبها ، وما ورد في باب رجوع المحكوم عليه أو وليّه بخسارته إلى شاهد الزور ، فالإنصاف أنّ تلك الأخبار ظاهرة فيما إذا كان الغارّ عالما بالضرر على فرض صدق القاعدة في تلك الموارد وأن لا يكون من موارد كون سبب الإتلاف أقوى من المباشر ، والفقهاء ذكروها في ذلك الباب وإن استدلّ بعضهم في تلك الموارد بقاعدة الغرور أيضا.

ثمَّ إنّه بناء على ما اخترنا من المدرك لهذه القاعدة هو بناء العقلاء وأنّ الروايات الواردة في هذا الباب تكون إمضاء لذلك البناء ، فيقتضي أن نقول بعدم الضمان في صورة جهل الغارّ.

ولكن الروايات الواردة في باب ضمان الطبيب تدلّ على ضمان الغارّ وإن كان جاهلا ؛ وذلك من جهة القطع بأنّ الطبيب جاهل بضرر الدواء الذي يصفه للمريض أو يكتب لعلاجه.

وعلى كل حال الذي يحصل لنا من جميع أدلّة المقام من الأخبار ومن الأقوال والوجوه الأخر هو الاطمئنان بعدم الفرق بين أن يكون الغارّ جاهلا أو يكون عالما.

وأمّا احتمال أنّ هذه المفاهيم الثلاثة - أعني الغرور ، والخدع ، والتدليس - وإن كانت الأفعال منها مثل غرّه أو خدعه أو دلّس عليه لا تدلّ بهيئتها على كون الفاعل عالما ، ولكن موادّها أخذ فيها العلم والالتفات ، دعوى يكذّبها الوجدان وملاحظة موارد الاستعمالات.

الجهة الثالثة : في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة

فنقول : لا شكّ في جريان هذه القاعدة في أغلب أبواب الفقه ، خصوصا في أبواب

ص: 280

المعاملات والمعاوضات حتّى في مثل عوض طلاق الخلع ، ولكن نحن نذكر طائفة ممّا ذكروها في كتبهم تبعا لما ذكره الأساطين قدس سره .

فمنها : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في باب بيع الفضولي أنّ المشتري إذا لم يخبره الفضول أنّ هذا مال الغير موهما أنّه ماله ، ثمَّ بعد ذلك تبيّن للمشتري أنّه مال الغير ، والمالك الأصيل أخذ العين من يده وغرمه أيضا بأن أخذ أجرة سكنى الدار سنين مثلا وقد يتّفق في بعض الصور ذهاب العين مع الثمن الذي بذله للبائع الفضولي لهذه الدار مثلا ، وهذه الخسارة حصلت له من ناحية البائع الفضولي وتغريره إيّاه بعدم ذكره أنّ المبيع ليس له. (1)

فبناء على صحّة هذه القاعدة واعتبارها للمشتري ، الرجوع إلى البائع الفضولي الذي غرّه بمقدار خسارته في هذه المعاملة ، خصوصا إذا لم يكن للمشتري مقابل هذه الخسارة نفع أصلا ، كالنفقة التي صرفها للحيوان أو الإنسان الذي اشتراهما من الفضولي بدون أن ينتفع منهما مقابل تلك النفقة لعدم حاجته إلى ركوب ، أو حمل تلك الدابّة ، أو الانتفاع بذلك العبد أو بتلك الجارية ، وكالذي صرفه في العمارة ، وكالذي خسره في الفرس ، وكالذي أعطاه قيمة للولد المنعقد حرا ، أو كالذي يعطي لنقص صفة من صفات المبيع الذي اشتراه من الفضولي.

وقد قال شيخنا الأعظم رجوع المشتري عن الفضولي إليه في خساراته التي حصلت له في هذه الصورة - أي فيما إذا لم يحصل له نفع مقابل هذه الخسارات - إجماعي للغرور ، فإنّ البائع مغرّر للمشتري ، وموقع إيّاه في خطرات الضمان ، ومتلف عليه ما يغرمه فهو كشاهد الزور ، أي يضمن كما يضمن شاهد الزور (2).

نعم استدل شيخنا الأعظم في هذه الصورة مضافا إلى الاستدلال بقاعدة الغرور

ص: 281


1- « المكاسب ، ص 146.
2- « المكاسب » ص 146.

بمرسلة جميل ، عن الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثمَّ يجي ء مستحقّ الجارية ، قال علیه السلام : « يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه » (1).

وقد ذكر شيخنا الأعظم في هذه المسألة شقوقا وصورا ، وطول الكلام فيها تركناها لأنّ استيفاء شقوق هذه المسألة وبيان صورها والتحقيق والتدقيق فيها وان كان لطيفا ودقيقا لكنّه موكول إلى محلّها ، والغرض هنا لم يكن إلاّ في أنّ هذا المورد أحد موارد تطبيق هذه القاعدة ، فافهم.

ومنها : فيما إذا زوّج وليّ المرأة شرعا ، أو من هو وليّ عرفاً كالأخ والعم وإن لم يكن بوليّ شرعا ، وكان في المرأة عيب سترته ولم تخبر به الوليّ ، سواء أخبر بعدم العيب أو كان صرف السكوت وعدم الإظهار ، وسواء كان الوليّ عالما بذلك العيب أو كان جاهلا به ، وإن كان في الأخير خلاف.

وتدلّ أيضا عليه - أي على جواز رجوع الزوج إلى زوجته المدلّسة أو وليّها التزويج - أخبار كثيرة. مضافا إلى قاعدة الغرور ، وذكرنا جملة منها في الجهة الأولى.

ومنها : رجوع المحكوم عليه إلى شاهد الزور بالخسارة التي وردت عليه من جهة تغريره للحاكم على الحكم ، فلو رجع عن شهادته وكذب نفسه يرجع إليه المحكوم عليه بما خسر إن لم يكن المال المأخوذ منه قائما بعينه. وأمّا إن كان المال قائما بعينه يرد إليه ، فلا خسارة في البين كي يرجع إلى شاهد الزور. وأمّا لو تبيّن خطأ الشاهدين بعلم أو علمي من دون رجوعهما ، فكذلك يرد المال إليه إن كان قائما بعنيه ، وأمّا إن لم يكن كذلك وكان تالفا فاستقرار الضمان وإن كان على من أتلف أو وقع التلف في يده ، ولكن للمحكوم عليه الرجوع الى شاهد الزور لتغريره الحاكم.

ص: 282


1- « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 82 ، ح 353 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 67 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 84 ، ح 285 ، باب من اشترى جارية فأولدها. ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 14. ص 592 ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب 88 ، ح 5.

وقد ورد في جميع ذلك أيضا مضافا إلى قاعدة الغرور أخبار خاصّة ، والمسألة بجميع شقوقها وصورها مذكورة مفصّلة في كتاب القضاء والشهادات ، والغرض في هذا المقام ليس تحقيقها واستيفاء شقوقها وصورها بل الغرض الإشارة إلى أنّ هذا أيضا أحد موارد جريان قاعدة الغرور ، فافهم.

ومنها : أنّه لو قدم الغاصب طعاما إلى شخص بعنوان ضيافته له ، فتبيّن أنّه ملك الغير وهذا الذي قدمه إليه غاصب وإن كان مشتبها لا متعديّا أى كان جاهلا بأنّه ليس له ، فمع جهل الآكل الضيف بأنّه ليس للمضيف إمّا لأنّه غاصب وإمّا لأنّه مشتبه فالمالك الأصيل إذا رجع إلى الآكل لأنّه مباشر للإتلاف وان كان له الرجوع إلى الغاصب أو المشتبه المفروض المذكور ، فللآكل الضيف الرجوع إلى المضيف لقاعدة الغرور.

وقد ذكروا أنّه لو قدم الغاصب مال المالك الأصلي إليه لكن بعنوان أنّه مال الغاصب لا بعنوان أنّه مال المالك الأصلي. وبعبارة أخرى : خدع الغاصب المالك الأصلي وأطعمه مال نفسه ولكن بعنوان أنّه ضيف ، وكان المالك الأصلي جاهلا بأنّ هذا الذي يأكله مال نفسه ، فللمالك الأصلي الرجوع إلى الغاصب مع أنّه أكل مال نفسه ؛ لقاعدة الغرور.

ومنها : لو قال للخيّاط مثلا : إن كان يكفي هذا قباء فاقطعه ، فقال : يكفي ، وقطعه فلم يكف ، فسقط عن القيمة أو قلّت قيمته ، فيرجع صاحب الثوب إلى الخيّاط بما نقص ؛ لأنّه غرّه وقال : يكفي ؛ هذا في باب الإجارة.

وكذلك لو أعاره مال الغير بعنوان أنّه مال نفسه ثمَّ تبيّن أنّه مال الغير ، ورجع ذلك الغير إلى المستعير ببذل ما انتفع من ماله ، فللمستعير الرجوع إلى المعير ؛ لأنّه غرّه.

ونتيجة كلّ ما ذكرنا من أوّل القاعدة إلى هاهنا أنّ كلّ ما يغرمه الشخص

ص: 283

الجاهل بالواقع ويخسره - بواسطة فعل شخص آخر ، أو قوله ، أو إخفاء عيب فيما بيده الأمر ، وبعبارة أخرى : من جهة تدليسه على الجاهل بالواقع الذي خسر - له أن يرجع إلى الذي غرّه ، وإن كان الغارّ أيضا جاهلا مشتبها.

وخلاصة الكلام : أنّ فروع قاعدة الغرور كثيرة في أبواب الفقه ، والفقيه لا يشتبه في تطبيقها على مواردها. نعم في كثير من موارد هذه القاعدة توجد أدلّة خاصّة على رجوع المغرور إلى من غرّه بالنسبة إلى الخسارة التي وردت عليه من طرف الغار وبسبب تغريره.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، ونسأله التوفيق لما يحبّ ويرضى.

ص: 284

11 - قاعدة أصالة الصحّة

اشارة

ص: 285

ص: 286

قاعدة أصالة الصحّة (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة القاعدة المعروفة « بأصالة الصحّة ». وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في الدليل على اعتبارها

والظاهر أنّ عمدة الدليل عليه هي سيرة العقلاء كافّة ، من جميع الملل ، في جميع العصور ، من أرباب جميع الأديان من المسلمين وغيرهم ، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة بل أمضاها ، كما هو مفاد الأخبار في أبواب متعدّدة. بل يمكن أن يقال : لو لم يكن هذا الأصل معتبرا لا يمكن أن يقوم للمسلمين سوق ، بل يوجب عدم اعتباره اختلال النظام كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (2).

ص: 287


1- (*) « الحق المبين » ص 68 ؛ « عوائد الأيّام » ص 72 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 27 و 28 و 94 ؛ « خزائن الأحكام » العدد 4 ؛ « مناط الأحكام » ص 5 و 19 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 28 ؛ « مجموعه قواعد فقه » ص 178 ؛ « القواعد » ص 153 ؛ « قواعد فقه » ص 207 ؛ « قواعد فقهي » ص 245 ؛ « قواعد فقهية » ص 91 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 1. ص 115 و 43 ؛ « أصل صحت وأصل لزوم عقد » احمد شهيدى ؛ « أصالة الصحة » جمال الدين جمالي ، « مجلة كانون سر دفتران » ؛ « أصل صحت » حسين فريار ، « نشرة مؤسسة حقوق تطبيقى » ، العدد 6 ، العام 1358 ؛ « أصل صحت در عمل غير » أبو القاسم الگرجي ، مجلّة كليّة الحقوق والعلوم السياسي ، العدد 28 ؛ « دو قاعدة فقهي ( الغرور وأصالة الصحة ) » مجلة « حق » فصليّة ، العدد 10 ، العام 1366 ؛ « صحت معاملات » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلّة « كانون وكلاء » ، العدد 4 لسنتها الأولى ، والعدد 9 لسنتها الثانية.
2- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 720.

والإنصاف أنّ الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار هذه القاعدة أشدّ وأعظم من الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة اليد ، فإنّ هذه القاعدة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ؛ ولذلك لا يبقى محلّ للاستدلال على اعتبارها بالإجماع ؛ لأنّه من المظنون أن يكون مدرك المجمعين هو الذي ذكرنا ، فليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي يكون اعتباره من جهة كشفه عن رأي المعصوم علیه السلام .

وأمّا الاستدلال عليه بالآيات والروايات فلا يخلو عن مناقشة بل منع في أكثرها.

والإنصاف أنّ اعتبار هذه القاعدة وحكومتها على الاستصحاب وأصالة الفساد من المسلّمات التي لا خلاف فيها أصلا ، فلا ينبغي تطويل المقام بذكر الآيات والأخبار التي أوردوها ، والمناقشة فيها.

[ المبحث ] الثاني

أنّ المراد من الصحّة في هذه القاعدة هل الصحّة الواقعيّة ، أو الصحّة باعتقاد الفاعل؟ وهناك احتمال آخر وهو أن يكون المراد منها الصحّة باعتقاد الحامل.

ولكن في تعيين أحد هذه الاحتمالات لا بدّ من ملاحظة دليل القاعدة ، وأنّ أيّ واحد من هذه الاحتمالات مفاد ذلك الدليل.

فنقول : سواء أكان الدليل هي سيرة العقلاء من كافّة الناس ، أو الإجماع ، أو اختلال النظام من عدم الاعتبار ولا شكّ في أنّ المراد هو الصحّة الواقعيّة ؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء من المعاملات التي تقع بين الناس وحملها على الصحّة هي الصحّة الواقعيّة ، وإلاّ لو كانت الصحّة باعتقاد الفاعل لما كان للحمل على الصحّة أثر ؛ لأنّ اعتقاد الصحّة عند الفاعل مع عدم إثبات الصحّة الواقعيّة لا يوجب لسائر الناس ترتيب آثار الصحّة ، مع أنّ الناس قاطبة يرتّبون آثار الصحّة ، مثلا لو علموا أنّ رجلا

ص: 288

طلق زوجته ؛ أو باع داره ، أو اشترى دارا ، أو أي فعل صدر عن شخص يحملونه على الصحّة الواقعيّة ، ويرتّبون على ذلك الفعل آثار الصحّة ، سواء أكان ذلك الفعل من العبادات أو المعاملات ، ومن العقود أو الإيقاعات.

والحاصل : أنّه كما أنّ في قاعدة الفراغ إذا شكّ في صحّة العمل الذي أتى به مفاد تلك القاعدة حمل الفعل الصادر عن نفسه على الصحّة الواقعيّة ؛ لبناء العقلاء على ذلك. كذلك الأمر في الفعل الصادر عن الغير ، بل يمكن أن يقال : أن الصحّة عند الجميع هي الصحّة الواقعيّة ، غاية الأمر أنّ الفاعل أو الحامل قد يخطئان فيعتقدون ما ليس بصحيح واقعا صحيحا واقعيا ، فبناء العقلاء على ما هو الصحيح واقعا. وكذلك الإجماع انعقد على ذلك ، بل اختلال النظام لا يرتفع إلاّ بالحمل على الصحيح الواقعي.

وما يقال : من أنّ مدرك هذه القاعدة لو كان ظهور حال المسلم في أنّه لا يأتي بالعمل إلاّ صحيحا ، فلا بدّ وأن يكون المراد هي الصحّة عند الفاعل ؛ لأنّه لا يأتي إلاّ بما يراه صحيحا ، لا ما هو صحيح عند سائر الناس.

ففيه أولا : هذا فيما إذا كان الفاعل عالما بالصحيح والفاسد ، والقاعدة أعمّ.

وثانيا : عرفت أنّ المدرك هي سيرة العقلاء ولا اختصاص لها بالمسلم ، وأنّ عدم اعتبارها يوجب اختلال النظام وتعطيل الأسواق ، فالعمدة في مدرك هذه القاعدة هذان الأمران ، أي السيرة ، ولزوم اختلال النظام من عدم اعتبارها. فلا شكّ في أنّ مفاد هذين الدليلين هي الصحّة الواقعيّة ، وعليها مدار جريان المعاملات في الأسواق وفي باب العقود والإيقاعات.

نعم فيما إذا علم الحامل أنّ الصحيح عند الفاعل مخالف مع ما هو الصحيح واقعا ، بمعنى أنّ الفاعل مخطئ في تطبيق الصحّة الواقعيّة على ما يأتي به ، ففي هذه الصورة حمل فعله على الصحّة الواقعيّة مشكل ؛ لأنّ كون ما أتى به صحيحا واقعيّا متوقّف على أحد أمرين : إمّا كونه متعمّدا بأن يأتي بما هو خلاف معتقده أنّه صحيح ، أو كونه

ص: 289

غافلا عن معتقده حال العمل وأتى بالصحيح الواقعي من باب الصدقة والاتّفاق ، وكلاهما مخالف للأصل العقلائي.

[ المبحث ] الثالث

أنّ هذا الأصل لا يجري إلاّ بعد إحراز عنوان العمل ، مثلا لو علم بأنّه صدر منه عملا ولم يعلم العنوان وأنّه بيع ، أو إجارة ، أو هبة أو غير ذلك فلا مورد لجريان أصالة الصحّة ؛ وذلك من جهة أنّ بناء العقلاء على أنّ العمل الصادر عن الغير بعد صدوره بعنوان الغسل مثلا واحتمل فقد جزء ، أو شرط ، أو وجود مانع لا يعتنون بذلك الاحتمال ، ويبنون على الصحّة. وأمّا إذا كان الشكّ والاحتمال في أنّه هل قصد الغسل أو السباحة فليس بنائهم على صحّة هذا الغسل ؛ لأنّه في العناوين القصديّة قصد العنوان بمنزلة الموضع لهذا الأصل ، فلا معنى لإجرائه مع الشكّ في موضوعه.

ولذلك لو شكّ في صلاة الظهر أو العصر مثلا وأنّه هل قصد عنوان الظهريّة أو العصريّة - وكذلك في سائر الصلوات ، بل وفي كلّ فعل معنون بعنوان قصدي الذي لا يتحقّق إلاّ بذلك العنوان - لا يجري هذا الأصل إلاّ بعد إحراز ذلك العنوان.

نعم لو كان الفعل الذي يصدر منه من غير العناوين القصديّة كالتطهير عن الخبث - حيث أنّه ليس متقوّما بالقصد - فحمله على الصحّة عند الشكّ في إتيان بعض شرائطه يمكن ، ولو مع عدم إحراز أنّه قصد بهذا الفعل تطهير ثوبه مثلا أم لا. فلو رأى إنسانا يغتسل ثوبه ولكن لم يحرز أنّه بصدد تطهير ذلك الثوب ، ويحتمل أن يكون غسله بقصد إزالة الوسخ لا بقصد التطهير ، فلو شكّ في أنّه هل عصر ذلك الثوب الذي غسله بالماء - بناء على اشتراط التطهير بالعصر فيما يقبل العصر - فيمكن إجراء أصالة الصحّة والحكم بطهارة ذلك الثوب.

ص: 290

[ المبحث ] الرابع

في أنّه لا يجري هذا الأصل إلاّ بعد وجود الشي ء فحينئذ إذا شكّ في أنّ ما أتي به هل صحيح ، أي تامّ من حيث الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ويترتّب عليه الأثر المقصود منه ، أم لا؟ فبمقتضى هذا الأصل يحكم عليه بالصحّة ، ويترتّب عليه الأثر المقصود منه. وأمّا قبل وجوده فلا معنى لأن يقال : إنّ ما يريد أن يأتي به صحيح وتامّ ويترتّب عليه الأثر.

فلو شكّ في أثناء عمل شخص أنّ ما يأتي به هل هو صحيح أم لا ، لا مورد لجريان أصالة الصحّة ، وليس بناء العقلاء على الحكم بالصحّة وترتيب آثارها عليه قبل وجود الشي ء في وعاء وجوده.

فلو أراد رجل أن يصلّي على الميّت ، أو يغسله ، أو أراد أن يحجّ فإجراء أصالة الصحّة قبل وجود هذه المذكورات فيها لا يخلو من غرابة ، وكذلك في أثناء العمل مثلا لو دخل شخص في إحرام عمرة حج التمتع ، فالحكم بصحّة عمرته وحجّه بمحض دخوله في الإحرام من باب أصالة الصحّة لا صحّة فيه.

نعم بالنسبة إلى تلك القطعة التي أتى بها يمكن أن يقال إنّها صحيحة من باب بناء العقلاء أو التعبّد ، وأمّا بالنسبة إلى مجموع العمل الذي لم يأت به بعد ، كيف يمكن أن يقال إنّ المأتي به موافق للمأمور به؟ فالحقّ أنّ موطن جريان أصالة الصحّة هو بعد وجود العمل والفراغ عنه.

فالفرق بينها وبين قاعدة الفراغ في عمل النفس هو أنّ الدخول في الغير لا يحتاج إليه هاهنا ، ولو قلنا بالاحتياج إليه في قاعدة الفراغ.

وذلك كلّه من جهة أنّ معنى أصالة الصحّة عند العقلاء هو أنّ العمل الذي صدر عن الغير ويشكّ فيه أنّه أوجده صحيحا وتامّا لا خلل فيه أو ناقص غير تامّ وفيه الخلل ، يبنون على صحّته وتماميّته ؛ فموضوع أصالة الصحّة هو العمل الصادر عن الغير

ص: 291

لا الذي سيصدر ، ولا الذي صدر بعضه دون بعض.

وأمّا مسألة أحكام الميّت التي هي واجبات كفائيّة ، كغسله ، وكفنه ، ودفنه والصلاة عليه ، وعدم اعتناء من رأى أنّ شخصا يشتغل بهذه الأعمال باحتمال وقوع خلل فيها أو عدم إتمامها ، فليس من جهة جريان أصالة الصحّة في الأثناء كما توهّم ، بل إمّا من جهة الاطمئنان بأنّه يتمها ولا يتركها - كما هو الغالب - أو من جهة استصحاب البقاء على الاشتغال بذلك العمل إلى إتمامه ، وبعد الفراغ عن العمل إذا شكّ في صحّته وفساده يجرى فيه أصالة الصحّة.

[ المبحث ] الخامس

اشارة

في أنّه من المعلوم أنّها تجري في المعاملات في أبواب العقود والإيقاعات ، وتكون مقدّمة على أصالة الفساد فيها التي هي عبارة عن أصالة عدم النقل والانتقال فيها ، سواء قلنا بأنّ مدركها سيرة العقلاء وبناؤهم على ذلك ، أو قلنا أنّ مدركها الإجماع. وعلى الثاني سواء قلنا بوجود إجماع آخر في خصوص أبواب المعاملات والعقود والإيقاعات - غير الإجماع على اعتبارها مطلقا - أم لا ، بل قلنا بتحقق إجماع واحد يدلّ على اعتبارها في جميع الموارد.

وإنّما الكلام في أنّ جريانها في مورد الشكّ في صحّتها مطلقا سواء أكان الشكّ من جهة احتمال وقوع خلل في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين ، أو لا يجري إلاّ في مورد الشكّ في شرائط نفس العقد دون شرائط المتعاقدين أو العوضين أو يجري فيما سوى الشروط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين.

فبناء على الاحتمال الأوّل تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي فساد العقد ، سواء أكان ذلك الأصل المقتضي للفساد جاريا في شرائط العقد ، أو في شرائط المتعاقدين ، أو في شرائط العوضين.

ص: 292

وبناء على الاحتمال الثاني تكون حاكمة على الأصل الذي يقتضي الفساد الجاري في شرائط نفس العقد ، دون ما يقتضي الفساد الجاري في شرائط المتعاقدين أو العوضين.

وبناء على الاحتمال الثالث تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي الفساد ، إلاّ إذا كان ذلك الأصل الذي يقتضي الفساد جاريا في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين. مثلا بناء على هذا الاحتمال لو شكّ في ماليّة العوضين ، أو في رشد المتعاقدين ، أو أحدهما فلا تجري أصالة الصحّة كي تكون حاكمة على أصالة عدم ماليّة العوضين ، أو أصالة عدم رشد المتعاقدين ، أو أحدهما.

إذا عرفت هذه الاحتمالات والوجوه ، فنقول :

تارة يقال بأنّ مدرك اعتبار أصالة الصحّة هو الإجماع وإنّ هناك إجماعان :

أحدهما قام على اعتبار أصالة الصحّة مطلقا ، سواء أكان مورد جريانها العبادات أو المعاملات. والثاني انعقاده على حجيّة أصالة الصحّة في خصوص أبواب المعاملات ، وأنّه دليل لبّى لا إطلاق لمعقده في كلا الإجماعين ، فلا بدّ من الأخذ به في المورد المتيقّن دون المورد الذي وقع فيه الخلاف.

وبناء على هذه المقالة - أي كون مدركها الإجماع وعدم إطلاق لمعقده - لا يبعد صحّة ما أفاد شيخنا الأستاذ قدس سره من اختصاصها بمورد احتمال الإخلال في نفس العقد ، دون شرائط المتعاقدين أو العوضين (1).

وأمّا لو قلنا بأنّ مدرك اعتبارها هي سيرة العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ، مضافا إلى الإجماع المحقّق - كما اخترنا هذا الوجه في وجه حجّيتها بل قلنا أنّه لا محلّ للإجماع الاصطلاحي الكاشف عن رأي المعصوم علیه السلام لإمكان اتّكاء المجمعين على تلك الأمور التي ذكرناها من السيرة ، واختلال النظام والآيات ، والروايات التي تقدّم

ص: 293


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 654.

ذكرها - فلا بدّ وأن ينظر إلى مقدار قيام السيرة ، وأنّها هل قامت على اعتبارها مقابل أصالة الفساد في خصوص شرائط العقد إذا شكّ في وجودها - كالماضويّة وتقدّم الإيجاب على القبول والموالاة وأمثال ذلك ممّا هو مذكور في محلّه - أم لا ، بل قامت على اعتبارها مقابل أصالة الفساد في جميع ما شكّ في وجوده ممّا اعتبر في العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين إذا لم يكن من الشرائط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين ، بمعنى أن يكون عند العرف من مقوّمات المعاملة ، بحيث لا يمكن تحقّق عنوان المعاملة عرفا إلاّ مع وجود تلك الشرائط؟

ولا شكّ في قيام السيرة على الحمل على الصحّة بالمعنى الثاني ، أي في كلّ مورد شكّ في صحّة معاملة من المعاملات ، بيعا كان ، أو إجارة ، أو هبة ، أو نكاحا ، أو غير ذلك من العناوين المذكورة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات بعد تحقّق ذلك العنوان بنظر العرف وعندهم ، لاحتمال فقد شرط اعتبره الشارع أو العقلاء زائدا على ما هو المقوّم لذلك العنوان عندهم ، أو احتمال وجود مانع كذلك ، فيبنون على الصحّة ولا يعتنون إلى ذلك الاحتمال.

ولا فرق عندهم - أي العقلاء - بين أن يكون ذلك الشرط المحتمل الفقدان من شرائط العقد ، أو المتعاقدين ، أو العوضين ، وكذلك المانع المحتمل الوجود.

ففي كلّ مورد في المعاملات تحقّق موضوع أصالة الصحّة الذي هو عبارة عن وجود ذلك العنوان الذي شكّ في صحّته وفساده لاحتمال فقد شرط ، أو وجود مانع - في غير ما هو دخيل في تحقّق ذلك العنوان عند العرف وفي نظرهم - نجري أصالة الصحّة. وأمّا مع الشكّ في تحقّق موضوعها فلا تجري البتّة ، شأن كلّ حكم مع موضوعه.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة لها عقد وضع وعقد حمل ، كما هو الحال في جميع القواعد. وشأن كلّ قاعدة إثبات محمولها لموضوعها بعد الفراغ عن ثبوت موضوعها.

ص: 294

وأمّا ثبوت موضوعها أو عدم ثبوته فليس من شؤون تلك القاعدة ، فكلّ قاعدة متكفّلة لعقد حملها لا لعقد وضعها ، وحيث أنّ موضوع هذه القاعدة في أبواب المعاملات تلك العناوين المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات ، فلا بدّ من إحرازها لإجراء هذه القاعدة مع احتمال عدم صحّتها لاحتمال وقوع خلل فيها من فقد شرط أو وجود مانع. وأمّا مع عدم إحراز ذلك العنوان - بما هو مشكوك الصحّة والفساد - فلا محلّ لجريان هذه القاعدة ؛ لامتناع تحقّق الحكم بدون تحقّق الموضوع.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ ما شكّ في صحّته وفساده تارة هو السبب ، أي العقد. وأخرى : هو المسبب ، أي المعاملة الكذائيّة كالبيع مثلا.

فإن كان هو العقد واحتمل عدم صحّته ، أي عدم تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط وإعدام الموانع ، بحيث يشكّ في ترتّب الأثر المقصود منه عليه ولو انضمّ إليه سائر الشرائط المعتبرة في المتعاقدين ، فلا شكّ في جريان أصالة الصحّة في نفس العقد إذا لم يكن الشرط المحتمل الفقدان ، أو المانع المحتمل الوجود ممّا له دخل في تحقّق عنوان العقد عرفا ؛ لما ذكرنا من لزوم تحقّق ما هو موضوع أصالة الصحّة.

فبعد إحراز ما هو موضوع أصالة الصحّة يثبت به الشرط المحتمل الفقدان ، وأيضا يثبت به عدم المانع المحتمل الوجود ، فيترتّب على ذلك العقد الأثر المقصود ، أي المعاملة الفلانيّة إذا انضمّ إليه سائر ما اعتبر في المعاملة ، من شرائط المتعاقدين كبلوغهما ورضائهما بمعنى عدم كونهما مكرهين أو أحدهما مكرها وأمثال ذلك ، ومن شرائط العوضين ككونهما قابلين للنقل والانتقال ، كأن لا يكون أحدهما حرّا مثلا ، وأن يكونا مملوكين بأن لا يكونا من قبيل الخمر والخنزير ، وذلك من جهة أنّ صحّة العقد ليس معناها ترتّب أثر المعاملة الصحيحة عليه بمجرده ، بل معنى صحّته أن يترتّب الأثر المطلوب من المعاملة عليه لو انضم إليه سائر ما اعتبر في المعاملة من شرائط المتعاقدين والعوضين.

ص: 295

وذلك من جهة أنّ الصحّة التعبّدية الثابتة بأصالة الصحّة ليست بأعظم من الصحّة المحرزة بالوجدان ، ومعلوم أنّ صحّة العقد واقعا وقطعا لا تترتّب عليها آثار صحّة المعاملة ما لم ينضمّ إليه جميع الشرائط التي للمتعاقدين ، وأيضا للعوضين.

وأمّا إن كان ما شكّ في صحّته وفساده هو المسبّب ، أي المعاملة الكذائيّة لأجل احتمال خلل ، من فقد شرط أو وجود مانع للعقد ، أو للمتعاقدين ، أو العوضين فيجري هذا الأصل فيها ويحكم بصحّتها ، سواء أكان الشرط المحتمل الفقدان ، أو المانع المحتمل الوجود من شرائط العقد أو موانعه ، أو من شرائط المتعاقدين وموانعهما ، أو العوضين ، أو نفس المسبب كذلك ما لم يكن من مقوّمات تحقّق المعاملة عرفا ؛ لما بيّنّا مفصّلا فلا نعيد.

فما هو التحقيق في المقام أن يقال بجريان هذا الأصل في جميع ما شكّ في صحّته وفساده بعد إحراز عقد وضع هذه القضيّة ، سواء أكان الشكّ في ناحية السبب أي العقد ، أو المسبب أي عناوين المعاملات المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات. ومعلوم أنّ جميع الشكوك - التي محلّها إمّا العقد أو المتعاقدين أو العوضين - ترجع إمّا إلى السبب ، أو إلى المسبّب ، أو إلى كليهما.

ثمَّ إنّه هاهنا فروع ربما يستشكل في جريان قاعدة أصالة الصحّة فيها

منها : بيع الوقف ، من جهة عدم صحّة بيع الوقف لو خلي وطبعه ، ولا يجوز إلاّ بطروّ أحد مجوّزات بيعه ، وليس هناك ما يدلّ على طروّ المجوّز إلاّ ظهور حال المسلم في أنّه لا يرتكب ما لا يجوز.

وهذا المعنى أوّلا غير أصالة الصحّة التي بناء العقلاء على اعتبارها. وثانيا : لا دليل على اعتبار مثل هذا الظهور ؛ لأنّ كثيرا من المسلمين يفعلون ما لا يجوز وما ليس بنافذ شرعا.

ص: 296

ولكن الإنصاف أن بيع الوقف ان كان من قبل الناظر أو الحاكم الشرعي ، فحيث أنّه يمكن أن يكون صحيحا لوقوعه مع وجود أحد المسوّغات وليس وجود المسوّغ من مقوّمات تحقّق بيع الوقف عرفا ، بل ممّا اعتبره الشارع في صحّته ، فبناء على الضابط الذي ذكرنا لجريان قاعدة أصالة الصحّة تجري وتكون حاكمة على أصالة عدم وجود المسوغ ، كما هو شأن قاعدة أصالة الصحّة في جميع المقامات ، حيث أنّها تقدّم على استصحابات العدميّة.

نعم بناء على ما اختاره شيخنا الأستاذ قدس سره من اختصاص جريانها بصورة الشكّ في صحّة العقد لاحتمال وجود خلل فيه ، من فقد شرط من شرائط العقد ، أو وجود مانع من موانعه. وأمّا إذا كان الشكّ من جهة عدم قابليّة المتعاقدين أو أحدها شرعا لإيقاع المعاملة ، ككونهما أو أحدهما غير بالغ ، أو كان الشكّ من جهة عدم قابليّة المال للنقل والانتقال كالوقف إلاّ مع طروّ أحد المسوغات وكان طروّه مشكوكا ، فلا يجري هذا الأصل. (1)

ولكن أنت عرفت ما في كلامه قدس سره وعمدة ما ذكره في وجه ما اختاره ، أنّ مدرك هذه القاعدة هو الإجماع ، والإجماع قاصر عن شموله لغير شرائط العقد. وقد عرفت أنّ المدرك هو بناء العقلاء والسيرة لا الإجماع.

ومنها : بيع الصرف لو شك في القبض في المجلس ، فالبناء على صحّة العقد لا يثبت وقوع القبض في المجلس الذي هو شرط صحّة المعاملة ووقوع النقل والانتقال شرعا.

ولكن أنت خبير أنّ بعد إحراز عنوان المعاملة وتحقّقه في نظر العرف ، فأصالة الصحّة تجري فيه ولو كان الشكّ في وقوعه شرعا من جهة احتمال عدم شرط اعتبره الشارع في صحّة المعاملة ، وترتيب الأثر عليها كالقبض في المجلس في مسألة بيع الصرف.

ص: 297


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 654.

ولا شكّ أنّ القبض في المجلس في بيع الصرف ليس من مقوّمات المعاملة عرفا كي يكون الشكّ فيه مساوقا للشكّ في تحقّق عنوان المعاملة ، فعنوان المعاملة يتحقّق عرفا حتّى مع هذا الشكّ ، فبجريان أصالة الصحّة يثبت هذا الشرط تعبّدا.

وبعبارة أخرى : نتيجة أصالة الصحّة في الشبهات الموضوعيّة نتيجة أصالة الإطلاق في الشبهات الحكميّة ، فكما أنّ بإطلاق أدلّة عناوين المعاملات لو كان إطلاق في البين مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) أو مثل ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (2) وأمثالهما يتمسّك لرفع شرطيّة ما هو مشكوك الشرطيّة ، وعدم مانعيّة ما هو مشكوك المانعيّة بعد تحقّق هذه العناوين عرفا حتّى على القول الصحيحي ، كذلك في الشبهة الموضوعيّة التي هي مجرى أصالة الصحّة أو حصل الشكّ واحتمل عدم شرط من شرائط صحّة ذلك العنوان ، أو احتمل وجود مانع عن صحّته مع إحراز ذلك العنوان في نظر العرف ، فبأصالة الصحّة يثبت الصحّة ويترتّب على ذلك الفعل آثار وجود ذلك الشرط وعدم ذلك المانع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ مورد جريان أصالة الصحّة - كما تقدّم - هو احتمال وقوع خلل فيما وقع وصدر بعد إحراز عنوان ذلك الشي ء. وأمّا لو كان موضوع الأثر مركبا من أمرين أحدهما وجد ولا خلل فيه من فقد شرطه أو وجود مانعه ، وإنّما لا يترتّب الأثر ويتوقف فيه للشكّ في وجود جزء الآخر ، فهذا غير مربوط بأصالة الصحّة ؛ لأنّ ما وقع صحيح بالوجدان ولا خلل فيه ، فإجراء أصالة الصحّة فيه من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد. والمفروض ، أي وقوع المعاملة وإنشائها في بيع الصرف مع الشكّ في تحقّق القبض في المجلس من هذا القبيل ، فإنّ إنشاء المعاملة وقع صحيحا وبلا خلل ، ولكن موضوع الأثر شرعا هو وشي ء آخر ، أي القبض في المجلس المشكوك وجوده وإحرازه غير مربوط بجريان أصالة الصحّة فيما وقع.

ص: 298


1- البقرة (2) : 275.
2- النساء (4) : 128.

ومن هذا يظهر حال الشكّ في صدور الإجازة من المالك في عقد الفضولي ؛ لأنّ عقد الفضولي الصادر من الفضول لا خلل فيه ، وإنّما يكون الأثر مترتّبا شرعا عليه وعلى أمر آخر وهو إجازة المالك المشكوك وجودها. وأمّا مسألة بيع الوقف ليس من هذا القبيل إذا صدر من المتولّي أو الحاكم ، لأنّ ما وقع إن كان مع وجود المسوّغ فهو صحيح وإلاّ فلا ، فمع الشكّ في وجود المسوّغ يحكم إليه بالصحّة بأصالة الصحّة ، ويثبت بها وجود المسوّغ أو لزوم ترتيب آثار وجوده.

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ بيع الراهن ماله المرهون مع الشكّ في إذن المرتهن أيضا من هذا القبيل ، أي من قبيل بيع الفضولي مال الغير مع الشكّ في إجازة المالك ، فموضوع الأثر فيه أيضا مركّب من العقد الصادر من المالك الراهن مع سبق إذن المرتهن أو لحقوق إجازته ، وأصالة الصحّة فيه لا يثبت سبق الإذن أو لحوق الإجازة من المرتهن ، بل لا معنى لجريان أصالة الصحّة فيما صدر عن الراهن ؛ لأنّ صحّته - كما قلنا فيما تقدّم - وجداني ، بمعنى أنّه لو تعقّب بالإجازة ، أو اقترن بالإذن يترتّب عليه الأثر يقينا.

فإن شئت قلت : إنّ مجرى أصالة الصحّة هو فيما إذا دار الأمر بين صحّته الفعليّة أو بطلانه رأسا ، كما أنّه في مسألة الوقف الصادر من المتولي مع الشكّ في وجود المسوّغ بكون الأمر هكذا ، أي يدور ذلك البيع أمره بين أن يكون صحيحا فعليّا يترتّب عليه الأثر - أي النقل والانتقال ، وهذا فيما إذا كان المسوّغ موجودا - وبين أن يكون باطلا من رأس. وهذا فيما إذا لم يكن المسوّغ موجودا الذي هو الاحتمال الآخر.

وأمّا في المذكورات من بيع الراهن مع الشكّ في إذن المرتهن ، وبيع الفضول مع الشكّ في تعقّبه بالإجازة ، وبيع الصرف مع الشكّ في القبض في المجلس ، فالصحّة التأهلية - بمعنى أنّه لو تعقّب بالإجازة في بيع الراهن والفضولي ، وبالقبض في المجلس في بيع الصرف - يقينا موجودة ، وإنّما الشكّ في وجود أمر آخر تكون الصحّة الفعليّة منوطة به.

ص: 299

وهاهنا فرع ذكره الشيخ الأعظم (1) وأستاذنا المحقّق (2) قدس سره وهو أنّه لو علم بصدور البيع عن المالك الراهن ، وأيضا برجوع المرتهن عن إذنه ولكن شكّ في المتقدّم منهما ، فلو كان الرجوع متأخّرا عن البيع فالبيع صحيح ، ولو كان متقدّما عليه فالبيع باطل ، فهل تجري هاهنا أصالة الصحّة في البيع أم لا؟

مقتضى ما ذكرنا - من أنّ مجرى أصالة الصحّة فيما إذا كان الفعل الصادر دائرا أمره بين الصحّة الفعليّة والفساد - عدم الجريان ؛ لأنّ الفعل الصادر من الراهن قطعا صحيح إذا تعقّب بإجازة المرتهن ولم يرجع قبل البيع ، وعدم ترتيب الأثر لأمر آخر وهو الشكّ في بقاء إذنه إلى حال البيع ، وليس مستندا إلى احتمال فساد ما صدر عن الراهن ؛ فهذا خارج عن مجرى أصالة الصحّة.

نعم يبقى شي ء وهو أنّ أصالة عدم تحقّق الرجوع إلى زمان تحقّق البيع هل تكون لها معارض أم لا؟ ولا شكّ في أنّ ما هو موضوع الأثر شرعا - ويكون سببا للنقل والانتقال - هو صدور البيع عن المالك الراهن مع إذن المرتهن ، والبيع وجد وجدانا. وعدم الرجوع معناه بقاء الإذن ؛ ولذلك لا فرق بين استصحاب بقاء الإذن أو استصحاب عدم الرجوع فيتحقّق كلا جزئي الموضوع ، أحدهما بالوجدان وهو بيع المالك الراهن ، والثاني بالأصل وهو بقاء الإذن وعدم الرجوع.

لا يقال : هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع.

وذلك من جهة أنّه مثبت ، إذ لازمه عقلا حينئذ وقوع البيع مع عدم إذن المرتهن. ولا أدري لما ذكر قدس سره هذا الفرع مع أنّه لا خصوصيّة فيه يكون موجبا لذكره ، وهو من الوضوح بمكان مع أنّه قدس سره خرّيت هذه الصناعة.

ص: 300


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 726.
2- حاشية « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 663.

[ المبحث ] السادس

قد عرفت فيما تقدّم أنّ الأفعال والعناوين القصديّة لا تجري فيها أصالة الصحّة إلاّ بعد إحراز أنّ الغير الفاعل لذلك الفعل قصد عنوان ذلك العنوان القصدي ، وقد ذكرنا من باب المثال أنّ الذي يصلّي صلاة الظهر مثلا لا تجري أصالة الصحّة في فعله بعد صدوره عنه إلاّ بعد إحراز أنّه قصد عنوان الظهريّة في المثال المذكور. ولا شكّ في أنّ النيابة من العناوين القصديّة ، بمعنى أنّه لو حجّ ، أو زار أحد المعصومين علیهم السلام بدون قصد النيابة عن قبل زيد مثلا ، لا تقع النيابة عن قبل زيد. وأمّا إذا أحرز المستنيب أنّ النائب قصد بفعله النيابة عن قبله بمحرز وجداني أو تعبّدي ، وشكّ في أنّ النائب هل أتى بالحجّ مثلا بجميع ما اعتبر فيه وجودا كالأجزاء والشرائط ، أو عدما كالموانع أم لا ، فتجري أصالة الصحّة في فعل النائب ، ويثبت بها أنّه بجميع ما اعتبر فيه ؛ فيسقط عن المنوب عنه ويستحقّ النائب الأجرة إن كان بأجرة هذا.

ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره أفاد أنّ لفعل النائب عنوانين :

أحدهما من حيث أنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشرائط ، وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل استحقاق الأجرة ، وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحّة استيجاره ثانيا.

الثاني من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث أنّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب والآلة ، وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدليّة قائما بالمنوب عنه ، وبهذا الاعتبار يراعي فيه القصر والإتمام في صلاة ، والتمتّع والقران في الحجّ ، والترتيب في الفوائت. والصحّة من الحيثيّة الأولى لا يثبت الصحّة من هذه الحيثيّة الثانية ، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب.

ص: 301

وبعبارة أخرى : إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه من حيث أنّه فعل الغير كفت أصالة الصحّة في السقوط ، كما في الصلاة على الميّت ، وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له ولو على وجه التسبيب. إلى أن قال : لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه ، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين انتهى. (1)

ولكن أنت خبير بأنّ ما هو موضوع سقوط التكليف عن المنوب عنه - وعدم وجوب الاستيجار عليه ثانيا مع موضوع استحقاق النائب للأجرة إذا كان أجيرا - واحد ، وهو صدور الفعل التامّ الأجزاء والشرائط وفاقد الموانع - أي الفعل الصحيح - مع إحراز أنّه قصد بهذا الفعل النيابة عن ذلك المنوب عنه ، والمفروض أنّ المنوب عنه أحرز أنّه قصد النيابة عنه. وأمّا صحّة فعله - وأنّه واجد لجميع الأجزاء والشرائط ، وفاقد للموانع - فبأصالة الصحّة ؛ فلا وجه لعدم سقوط التكليف عن المنوب عنه. ولا يحتاج إلى إثبات أن هذا فعل المنوب عنه بالتسبيب ، بل ولو كان محتاجا إلى ذلك فليس ذلك مربوطا بأصالة الصحّة ، بل يتحقّق الانتساب إليه إمّا من ناحية استنابته له ، وإمّا من ناحية قصد النائب النيابة عنه ، وكلا الأمرين لا ربط له بأصالة الصحّة.

إن قلت : نعم هذا الفعل الصادر من النائب منتسب إلى المنوب عنه بالاستنابة أو بقصد النائب ، ولكن الفعل المنتسب إليه فعل مشكوك الصحّة والفساد ، وما هو موضوع سقوط التكليف عنه هو انتساب الفعل الصحيح إليه ، فيحتاج إلى إحراز صحّته ، ولا يمكن إحرازها بأصالة الصحّة لما ذكرنا من أنّها لا تثبت الصحّة من حيث أنّه فعل المنوب عنه ، بل تثبت الصحّة من حيث أنّه فعل النائب.

قلت : بعد ما كان هذا الفعل الصادر عن النائب منتسبا إلى المنوب عنه ولو ادّعاء ومجازا ، وحكم الشارع بأنّه تامّ وصحيح ، فهذا الفعل الذي صحيح تعبّدا منتسب إلى المنوب عنه فهو في الأثر مثل انتساب الفعل الصحيح الوجداني. هذا ، مضافا إلى ما

ص: 302


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 727.

ذكرنا من أنّ موضوع سقوط التكليف عن المنوب عنه هو صدور الفعل الصحيح وجدانا أو تعبدا عن النائب بقصد النيابة عنه ، ولا يحتاج إلى انتساب الفعل إليه.

نعم لا بدّ للمنوب عنه أو من يستنيب عنه إحراز أنّ النائب قصد النيابة عنه ، فهل يثبت وجود هذا القصد ويتحقّق في عالم الإثبات بأخبار النائب مطلقا ، أو فيما إذا كان عادلا ، أو لا يثبت به وإن كان عادلا ما لم يحصل وثوق واطمينان من قوله وإخباره؟

والحق هو هذا الأخير ؛ لأنّه لا دليل على حجّية قول العادل الواحد في الموضوعات ، بل ظاهر رواية مسعدة خلافه وأنّه على ذلك حتّى تقوم عليه البينة (1) وإذا كان العادل الواحد لا يقبل فغير العادل بطريق أولى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال بقبول إقراره وسماعه بقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به » ولا شكّ في أنّ النائب مالك لأنّ يفعل ما أنيب فيه.

وأمّا الأخير أي قبول قوله عند الوثوق والاطمئنان فلأنّ ذلك طريقة العقلاء في باب الأولياء والوكلاء والنواب في الأمور التي بيدهم وأودعت تحت تصرّفهم ، فالناس يصدّقونهم في تلك الأمور ، ولا يطلبون منهم البيّنة إذا كانوا موثوقين ومورد الاطمئنان. والظاهر أنّ الشارع أمضى هذه الطريقة ولو بعدم الردع.

المبحث السابع : في أنّها أصل أو أمارة

فإنّها إن كانت أمارة فبناء على ما تقدّم بأنّ جعل حجّية الأمارات من باب تتميم الكشف ، فتكون مثبتة لجميع الآثار التي لذلك الفعل الذي تجري فيه أصالة

ص: 303


1- « الكافي » ج 5 ، ص 313 ، باب النوادر ( من كتاب المعيشة ) ح 40 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 226 ، ح 989 ، باب من الزيادات ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 60 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 4 ، ح 4.

الصحّة إذا كان صحيحا واقعا ، سواء أكانت تلك الآثار آثارا شرعيّة ، أو كانت من اللوازم العقليّة التي لها آثار شرعيّة.

وأمّا إن كانت أصلا عمليّا سواء قلنا بأنّه من الأصول المحرزة أم لا ، بل كانت من الأصول غير المحرزة ، فلا يثبت بها إلاّ الآثار الشرعيّة التي تكون لذلك الفعل ، بلا واسطة أثر عقلي في البين.

وهذا الأمر ليس من مختصّات أصالة الصحّة ، بل يجري في كلّ أصل وأمارة. وهذا هو المراد من قولهم : إنّ مثبتات الأمارات حجّة دون الأصول.

وأمّا تعيين أنّها أمارة ، أو أصل محرز ، أو أصل غير محرز فهذا راجع إلى النظر في مدرك اعتباره.

فإن كان هو الإجماع ، فالقدر المتيقن من معقده هو ترتيب الآثار الشرعيّة التي للفعل الصحيح بلا واسطة لازمه العقلي ، سواء لم يكن لها واسطة أصلا ، أو كانت بواسطة الآثار الشرعيّة التي لذلك الفعل.

وأمّا إن كان هو بناء العقلاء كما اخترناه ، فإن كان بناؤهم على اعتبارها من جهة ظهور حال كلّ فاعل عاقل سواء كان مسلما أو غير مسلم في أنّه يفعل فعله وعمله صحيحا تاما ، لا ناقصا وفاسدا ، فإن قلنا إنّ بنائهم من جهة تتميمهم الكشف الناقص الموجود في ظهور حالهم ، فتكون أمارة وتكون مثبتاتها أيضا حجّة شأن كلّ أمارة.

وأمّا إن قلنا بأنّ بنائهم ليس من جهة تتميم الكشف ، بل يعملون طبق ذلك الظهور من دون أن يرونه طريقا وكاشفا تامّا في عالم اعتبارهم ، ولكن يعملون طبق ذلك الظهور عمل المتيقّن ، فيكون أصلا محرزا. وان كان عملهم طبق ذلك الظهور من دون بنائهم أنّه عمل المتيقّن ، فيكون أصلا غير محرز.

ولكن الظاهر من بنائهم هو الاحتمال الثاني ، فتكون من الأصول المحرزة ، وعلى كلّ حال ليس بناؤهم على ترتيب آثار الصحّة على فعل الغير من جهة كونه طريقا

ص: 304

وكاشفا. ولا فرق في عدم حجّية مثبتاتها بين أن تكون أصلا محرزا أو غير محرز.

فبناء على هذا لا يثبت بأصالة الصحّة ما يلازم الفعل الصحيح عقلا ، بل يترتّب على ذلك الفعل الآثار الشرعيّة فقط. وفرّع الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره على هذا - أي على عدم إثبات أصالة الصحّة اللوازم العقليّة - وقال : إنّه لو شكّ في أنّ الشراء الصادر عن الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير ، أو بعين من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع ؛ لأصالة عدمه. انتهى ما قال بعين عبارته. (1)

والظاهر من هذا الكلام أنّ هذه المعاملة صحيحة بحكم أصالة الصحّة ، ولكن لازم الصحّة عقلا أن يكون الثمن عينا من أعيان ماله ، لا الشي ء الذي لا يملك كالخمر والخنزير ؛ لأنّ ما لا يملك ليس قابلا للنقل والانتقال شرعا.

وبعبارة أخرى : ترديد الثمن بين ما لا يملك كالخمر والخنزير وبين عين من أعيان ماله ، إذا انضم إلى صحّة المعاملة يكون لازم الصحّة عقلا هو أن يكون الثمن المردّد منطبقا على ما هو المملوك ، إذ كون غير المملوك ثمنا ينافي صحّة المعاملة. ولكن حيث أنّ هذا من اللوازم العقليّة للصحّة لا من الآثار الشرعيّة ، وقد عرفت أنّ هذا الأصل لا يثبت اللوازم العقليّة ، فلا يثبت أنّ الثمن هو ذلك الفرد المملوك ، أي عين من أعيان تركته ، فيحكم بصحّة الشراء بأصالة الصحّة ويعطي المبيع لورثة المشتري ، ولكن لا ينتقل شي ء من تركته إلى البائع ؛ لأصالة عدم الانتقال ، ولا علم إجمالي بانتقال شي ء من تركته إلى البائع لاحتمال أن يكون الثمن هو ما لا يملك ، وتكون المعاملة باطلة. ولا ينافي احتمال بطلانها واقعا مع إجراء أصالة الصحّة ، بل مورد جريان أصالة الصحّة دائما هو مع احتمال البطلان.

نعم لا يجوز للوارث أو الورثة التصرّف في المبيع ومجموع التركة ، أو خصوص

ص: 305


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 728.

تلك العين من أعيان ماله إذا كان طرف الترديد في الثمن المسمّى عينا معيّنا ؛ وذلك من جهة العلم الإجمالي إمّا بعدم دخول المبيع في ملك مورّثهم لو كان الثمن المسمّى ما لا يملك ، وإمّا بخروج تلك العين الشخصيّة أو مقدار ما يساوي المبيع من التركة عن ملك مورّثهم ، فيجب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي.

وقد أشار إلى لزوم هذا الاحتياط الفقيه الهمداني قدس سره في حاشيته على رسائل شيخنا الأعظم الأنصاري في هذا المقام.

وقد اعترض شيخنا الأستاذ (1) قدس سره على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري ، من الجمع بين صحّة الشراء وانتقال المبيع إلى المشتري المفروض ، وبين عدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع ، بأنّه إن كان الثمن المردّة بين ما لا يملك كالخمر والخنزير وبين عين من أعيان ماله ، كان في حاقّ الواقع هو ما لا يملك ، فلا يدخل المبيع في ملك المشتري ؛ لأنّه يلزم أن يكون انتقال المبيع بلا ثمن ، وهذا ينافي مع حقيقة البيع ؛ لأنّ حقيقة البيع هي المبادلة بين المالين فلا يكون صحيحا. وإن كان هو ذلك المال الذي عيّنه وسمّاه ، فهذا مناف مع عدم انتقال شي ء من تركته.

وبعبارة أخرى : حاصل ما أفاد أنّ صحّة الشراء مع عدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع متنافيان ، فيعلم إجمالا بكذب أحد الأصلين ، إمّا أصالة الصحّة ، وإمّا أصالة عدم الانتقال ، فيتساقطان بالتعارض.

ثمَّ أنّه قدس سره حكم ببطلان هذا الشراء وهذه المعاملة للشكّ في قابليّة الثمن للنقل والانتقال ؛ وذلك بناء على مبناه من أنّ أصالة الصحّة لا ترفع الشكّ الذي في جانب العوضين أو المتعاقدين. وقد تقدّم تفصيل ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّه وإن كان كذلك بالنسبة إلى الصحّة الواقعيّة وانتقال المبيع واقعا إلى المشتري وعدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع واقعا فإنّهما متنافيان ، ولكن

ص: 306


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 666.

ليس كذلك بالنسبة إلى الصحّة الظاهريّة وعدم الانتقال ظاهرا ؛ لأنّه من الممكن عدم الصحّة واقعا ولكن الشارع حكم بالصحّة ظاهرا في ظرف الشكّ ، فحينئذ مع هذا الحكم الظاهري بالصحّة في المفروض لم ينتقل شي ء من تركته إلى البائع قطعا وكذلك في صورة العكس - أي في صورة حكم الشارع ظاهرا بعدم انتقال شي ء من تركته إلى البائع - لا مانع من صحّة المعاملة واقعا ؛ لأنّ عدم الانتقال الظاهري في ظرف الشكّ في الانتقال بحكم الاستصحاب لا ينافي الانتقال الواقعي ، فلا تنافي بين الظاهريين منهما كما في المقام بطريق أولى. وقد وقع نظيره كثيرا في مفاد الأصول والأحكام الظاهرية.

نعم نفس المشتري إذا كان حيّا أو ورثته ، إذا كان ميتا ليس لهم التصرّف في المبيع ، وذلك الذي كان طرف ترديد الثمن من أمواله للعلم الإجمالي المذكور لما ذكرنا. ولكن هذا شي ء آخر لا ربط له بما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري وأفاده ، ولعلّ عدم ذكره من جهة وضوحه.

المبحث الثامن : في تقديم أصالة الصحّة على الاستصحابات الموضوعيّة أو تقديمها على أصالة الصحّة

فنقول : بناء على ما اخترنا من جريان أصالة الصحّة في شرائط العقد ، والعوضين ، والمتعاقدين عند الشكّ في وجودها فتكون حاكمة على الأصول الموضوعيّة العدميّة ولو كان من شروط العوضين أو المتعاقدين بناء على كونها أمارة ؛ وذلك من جهة كشفها عن وجود تلك الشرائط تعبّدا. فلا يبقى موضوع للاستصحابات أصلا في عالم الاعتبار التشريعي ، وهذا معنى الحكومة. فبناء على أماريّتها الأمر في غاية الوضوح.

ص: 307

ولكن نحن أنكرنا أماريّتها وبنينا على أنّها من الأصول المحرزة ، فلا يمكننا القول بتقديمها على الاستصحابات العدميّة من جهة حكومة الأمارات على الأصول ، ولا بدّ من القول بوقوع التعارض ؛ لأنّ كليهما من الأصول المحرزة.

ولكن مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّ مدرك حجيّة أصالة الصحّة إمّا الإجماع كما يقول به شيخنا الأستاذ قدس سره (1) وإمّا بناء العقلاء وسيرتهم من كافّة الأمم ، سواء كانوا مسلمين أو لم يكونوا كذلك.

فعلى الأوّل فلا بدّ وأن ينظر في الإجماع ، وأنّه هل لمعقده إطلاق - بحيث يشمل موارد الاستصحابات الموضوعيّة العدميّة في غير الشرائط التي دخيلة في تحقّق عنوان المعاملة عرفا ، إذ في الشكّ فيها لا مجال لجريان أصالة الصحّة كما تقدّم بيان ذلك تفصيلا - أم لا؟ فإن كان لمعقده إطلاق يشمل تلك الموارد ، فأيضا لا يبقى للاستصحابات الموضوعيّة مجال ؛ إذ إطلاق معقد الإجماع مثل الإطلاق الدليل اللفظي حاكم على الاستصحاب.

وأمّا إن كان المدرك لحجيّة أصالة الصحّة هو بناء العقلاء وسيرتهم - كما اخترناه - فالظاهر أيضا تقدّمها على تلك الاستصحابات.

بيان ذلك : أنّ سيرة العقلاء إذا قامت على شي ء فعدم ردع الشارع كاف في الإمضاء فحينئذ لا بدّ من أن ننظر إلى دليل الاستصحاب وأنّه هل صالح لأن يردع هذه السيرة أم لا؟

فنقول : لا شكّ في أنّ الاستصحاب وظيفة علميّة مجعولة للشاكّ المتحيّر ، فإذا قامت سيرة العقلاء في مورد الشكّ في صحّة معاملة إذا كان منشأ الشكّ فقد شرط أو وجود مانع لا دخل لها في تحقّق عنوان المعاملة عرفا ، سواء كانت من شرائط العقد ، أو من شرائط العوضين ، أو من شرائط المتعاقدين فلا يرى نفسه متحيّرا شاكّا ، بمعنى

ص: 308


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 654.

أنّه لا يلتفت إلى كونه شاكّا ، وإن كان لو التفت إلى حاله يكون شاكّا ، ولكن لا يتحيّر فلا يرى نفسه موضوعا لخطاب « لا تنقض » حتّى يكون رادعا.

ولا تتوهّم من هذا أماريّة أصالة الصحّة ، وهو خلاف المفروض ، لأنّ فرضنا الآن على تقدير الأصليّة وأنّها أصل محرز ، وإلاّ فعلى تقدير الأماريّة بيّنّا حكومتها على الاستصحابات الموضوعيّة ، شأن حكومة كلّ أمارة على كلّ أصل. وذلك من جهة أنّ معنى الأمارة الشرعيّة أن يجعلها الشارع في عالم اعتباره التشريعي كاشفا تامّا ، ونحن ما ادّعينا مثل ذلك لها ، وإنّما قلنا أنّ بناء العقلاء على العلم على طبق المعاملة الصحيحة التامّة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، وهذا المعنى لا يلازم جعلها كاشفا شرعا.

هذا ، مضافا إلى أنّه ما من مورد يشكّ في صحّة معاملة من أقسام المعاملات من العقود والإيقاعات ، إلاّ وأن يكون بالنسبة إلى بعض شرائط المتعاقدين أو العوضين مجرى استصحابات العدميّة ، فلو كانت تلك الاستصحابات مقدّمة على هذا الأصل لا يبقى مورد له أصلا ، أو كان مورده في غاية القلّة بحيث يكون مثل هذا التشريع لغوا ، بل يوجب سقوط هذا الأصل في تلك الموارد - سواء كان من باب تقديم تلك الاستصحابات ، أو من باب سقوطه بالمعارضة - اختلال النظام أيضا ، فلا بدّ من تقديمه على تلك الاستصحابات ، سواء قلنا بأنّه أصل أو أمارة.

وبعبارة أخرى : يكون هذا الأصل أخصّ بحسب المورد عن الاستصحاب ، فيكون مخصّصا لدليل الاستصحاب ، كما هو الشأن في مورد الخاصّ والعامّ المختلفين في الحكم. هذا تمام الكلام في مباحث أصالة الصحّة.

ثمَّ أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره ذكر أصالة الصحّة في الأقوال والاعتقادات ، وذكر للأوّل صورا وقال في بعضها بجريان أصالة الصحّة فيها ، وفي بعضها الآخر أنكر

ص: 309

جريانها. (1)

ولكن جملة من الصور التي ذكرها لا ربط لها بأصالة الصحّة ، بل يكون مرجعها إلى أصالة الظهور الكاشف عن مراد المتكلّم ، أو الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر عن غيره ، كأصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق.

نعم الأقوال من حيث أنّها فعل من أفعال المكلّفين ، فإذا كان لصحيحها أثر شرعي فتجري فيها أصالة الصحّة بلا كلام. ولا إشكال مثل القراءة في الصلاة ، فإذا شكّ في أنّه أتى بها صحيحة أو فاسدة من جهة النقص في مادّتها من حيث مخارج الحروف ، أو نقيصة بعض حروف الكلمة ، أو من جهة النقص في إعرابه فتجري فيها أصالة الصحّة ويترتب عليه الأثر.

وأمّا أنّه أراد معناه الحقيقي ، أو المجازي ، أو ما أراد معنى أصلا ، أو ما أخبر به مطابق مع الواقع وصدق فيما أخبر أو كذب وأمثال ذلك ، فكلّ ذلك لا ربط له بأصالة الصحّة ، بل يرجع إمّا إلى أصالة الظهور ، أو إلى الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر من غيره. وأمّا إنّه صادق أو كاذب فيرجع إلى أدّلة حجّية الخبر الواحد.

وأمّا الثاني - أي أصالة الصحّة في الاعتقادات - إن كان المراد من الاعتقادات العقائد في أصول الدين التي يجب العلم بها ومعرفتها ، فالشكّ في اعتقادها وأنّه هل اعتقاده صحيح أو فاسد ، مثلا إذا شكّ في اعتقاده باللّه وأنّه واحد أحد لا شريك له ولا تركيب فيه ، لا ، من الأجزاء الخارجيّة ولا من الأجزاء العقلية ، وأنّ صفاته عين ذاته ، وأنّه واجب الوجود بالذات ، وأنّه تعالى مجمع الكمالات وينبوع الفضائل ، وأنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله أشرف الخلائق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين ، وأنّ الناس يحشرون بأجسامهم وأبدانهم الموجودة في دار الدنيا ، وأنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام أمير المؤمنين ، وأولاده المعصومين أئمّة هداة مهديّون وحجج اللّه تعالى على الخلق أجمعين ، أو لا ، بل

ص: 310


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 731.

لا يعترف بشي ء من المذكورات أو ببعضها ، وفرضنا لاعتقاده الصحيح أثر شرعي يجب ترتيبه عليه ، فإن أظهر ذلك الاعتقاد باللسان أو بدالّ آخر يكون ذلك الظاهر حجّة له ، أو عليه ، ولا ربط له بأصالة الصحّة.

وأمّا إن لم يظهر أو كان غائبا أو ميّتا ولكن لاعتقاده الصحيح أثر شرعا ولو بعد مماته ، وحصل هذا الشكّ فهل يحمل على الصحّة أم لا؟

والظاهر أنّه يحمل على الصحّة إذا علم أو ثبت بحجّة شرعيّة أنّه منتحل للإسلام وسيرة المسلمين قائمة على صحّة اعتقاد من يدّعي ويظهر الإسلام حتّى يعلم خلافه.

وأمّا إن كان المراد من الاعتقاد ، الاعتقاد في الفروع وأحكام الفقهيّة ، بمعنى رأي الفقيه واعتقاده مثلا بوجوب شي ء أو حرمته حيث أنّ لاعتقاده ورأيه إذا كان عن منشأ صحيح أثر بالنسبة إلى مقلّديه ، فإذا شكّ في أنّ هذا الرأي هل هو عن استنباط صحيح أم لا ، بل لم يؤدّ وظيفة الاستنباط كاملا بل تساهل وتسامح ، فالظاهر هو الحمل على الصحّة ، وعليه بناء عامّة المقلّدين في الأعصار والأمصار. ولكن هذا في الحقيقة إجراء أصالة الصحّة في الاستنباط ، لا في الاعتقاد.

نعم لا يمكن إثبات أنّ هذا الرأي والاعتقاد مطابق للواقع بأصالة الصحّة بالمعنى المذكور ؛ لأنّ الاستنباط ولو كان عن مدرك صحيح موافق للقواعد المقرّرة الفقهيّة والأصولية وكان في كمال الدقّة ، ومع ذلك كلّه قد يخطئ وقد يصيب ، فكون الاستنباط عن مدرك صحيح لا يلزم دوام الإصابة ، فلا يمكن الحكم بالإصابة ومطابقة هذا الرأي للواقع بإجراء أصالة الصحّة في الاستنباط. هذا تمام الكلام في أصالة الصحّة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

ص: 311

ص: 312

12 - قاعدتي الفراغ والتجاوز

اشارة

ص: 313

ص: 314

فراغ والتجاوز (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدتي الفراغ والتجاوز. وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في أنّهما هل من الأصول التنزيليّة أو من الأمارات؟

وأمّا احتمال أن يكونا من الأصول غير التنزيليّة فبعيد لا ينبغي المصير إليه والبحث عنه.

فنقول : قد ذكرنا مرارا أنّ المناط في الأماريّة بناء على ما هو التحقيق في وجه حجيّتها هو تتميم كشفها في عالم الاعتبار التشريعي بعد ما كان فيها كشف ناقص ، فالشارع في عالم الاعتبار التشريعي يعتني بذلك الكشف الناقص التكويني ، ويحسبه ويعتبره كشفا تامّا.

فأماريّة الأمارة متوقّفة على أمرين : أحدهما : أن تكون فيه جهة كشف ناقص. والثاني : عدم إلغاء الشارع تلك الجهة ، بل اعتنائه بها واعتبارها كشفا تامّا وإن لم يكن تامّا بحسب التكوين ، بل احتمال الخلاف فيه موجود.

ص: 315


1- (*) « عناوين الأصول » عنوان 5 ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 191 ؛ « قاعدة الفراغ والتجاوز » الهاشمي ؛ « القواعد » ص 191 ؛ « قواعد فقهي » ص 270 ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 2. ص 212 ؛ « ما وراء الفقه » ج 1 ، ص 270 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 246.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ في مورد هاتين القاعدتين يكون لهما نحو كشف وطريقيّة ، لوجود العمل التام الصحيح بعد الفراغ في مورد قاعدة الفراغ ، ووجود الجزء المشكوك بعد تجاوز محلّه في قاعدة التجاوز ؛ وذلك لأنّ الإنسان إذا أراد إيجاد عمل مركّب في الخارج فإرادته تتعلّق بإيجاد تمام أجزائه وشرائطه ، كلّ في محلّه إن كان له محلّ ، وترك جميع موانعه ، وإلاّ ليس في مقام الامتثال ، وهو خلاف الفرض.

فالظاهر أنّ العمل يصدر منه طبق تلك الإرادة ، وكما أنّه بعيد غاية البعد أن يريد إيجاد شي ء ويوجد شيئا مباينا لما أراد ، كذلك لا يخلو من البعد أن يريد إيجاد مجموع الأجزاء والشرائط وترك جميع الموانع ، ثمَّ يأتي ببعضها بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط ، ويترك بعضها بالنسبة إلى الموانع ولو غفلة ونسيانا ؛ لأنّ الغفلة والنسيان حالتان قد تعرض على الإنسان في بعض الأحيان بالنسبة إلى بعض الأعمال ، فهاتان الحالتان ليستا دائميّتين ولا غالبيّتين ، ولذلك بناء العقلاء على أصالة عدم الغفلة والنسيان عند الشكّ فيهما ، وذلك من جهة أنّ الغفلة والنسيان خروج عن مقتضى الطبع الأوّلي وإن قيل بأنّ السهو والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان.

وحاصل الكلام : أنّ مقتضى طبع الإرادة المتعلّقة بالمركّب إيجاده على طبقها ، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الإرادة الكليّة المتعلّقة بالمركّب هي المحرّكة للعضلات نحو إيجاد الأجزاء - كما هو الحقّ - وبين القول بتولّد إرادات جزئيّة من تلك الإرادة الكليّة وتعلّق كلّ واحدة منها بجزء من الأجزاء ، أو شرط من الشروط ، أو ترك مانع من الموانع.

والسرّ في عدم الفرق أنّ وجود الأجزاء والشرائط وعدم الموانع بالآخرة مسبّب عن تلك الإرادة الكلّية ، غاية الأمر إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة.

إذا تبيّن ذلك وعرفت أنّ الجهة الأولى من الجهتين اللتين تتوقّف الأمارة عليهما موجود في مورد القاعدتين إلاّ وهو الكشف الناقص ، فلننظر في الجهة الثانية وهو أن

ص: 316

يكون الجعل الشرعي بلحاظ تلك الجهة وتتميم الكشف الناقص الموجود فيهما واعتباره كشفا تامّا.

ولا بدّ في تعيين هذه الجهة وتشخيصهما من ملاحظة أدلّة حجيّتهما وأنّ أيّ شي ء يستفاد منها.

فنقول : إنّ السنّة أدلّتهما مختلفة ، ففي بعضها حكم بأنّه يمضي ، وفي بعضها حكم بأنّ « شكّك ليس بشي ء » ، وفي جملة منها « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه ».

والإنصاف أنّ هذه العبارات على اختلافها لا تدلّ على أكثر من الجري العملي ، ولا يمكن إثبات الأماريّة بها. نعم في بعض أخبار الشكّ في أجزاء الوضوء بعد الفراغ عنه : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ » وظاهر هذا التعليل لعدم الإعادة هي الأماريّة ، وأنّ حجيّتها بلحاظ الكشف عن وجود المشكوك.

هذا كلّه بحسب الأخبار ، وأمّا بناء على كون حجيّتهما من باب بناء العقلاء على صحّة المركّب الذي صدر منهم إذا شكّوا في إتيانه كاملا بعد الفراغ عنه ، أو إذا شكّوا في إتيان جزء بعد التجاوز عن محلّه إذا كان للجزء محلّ ، فتكون القاعدتان من الأمارات يقينا ، وعلى كلّ حال تكونان مقدّما على الاستصحاب إمّا من باب الحكومة لو كانا من الأمارات - وقد أوضحنا وجه حكومة الأمارات على الأصول وإن كانت الأصول تنزيليّة - وأمّا بناء على كونهما من الأصول التنزيليّة ، فتقديمها على الاستصحاب من جهة كون جعلهما في مورد الاستصحاب غالبا ، فلو لم يقدّما عليه يلزم لغويّة جعلهما.

وربما يقال في وجه تقديمهما عليه وإن كانا من الأصول التنزيليّة أيضا بحكومتهما عليه ، كما لو كانا أمارتين من جهة أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث ، ومفاد القاعدتين هو البناء على عدم الاعتناء بالشكّ في بقاء العدم ، بل البناء العملي على انقلاب العدم بالوجود ، فيرتفع موضوع الاستصحاب تعبّدا ،

ص: 317

وهذا معنى الحكومة ، فتأمّل.

ثمَّ إنّه لو شككنا ولم نحرز أنّهما من الأمارات أو من الأصول ، فمقتضى القاعدة عدم ترتيب آثار الأمارة عليهما من ترتيب آثار الشرعيّة التي للوازمهما العقليّة عليها ؛ لأنّ مرجع هذا الشكّ هو الشكّ في إثبات اللوازم بهما ، وإلاّ بالنسبة إلى أصل المؤدّى فلا فرق بينهما ، أي سواء كانا من الأصول أو من الأمارات يثبت المؤدّى بهما ، ومعلوم أنّ نتيجة الشكّ في حجيّتهما في إثبات اللوازم عدم حجيّتهما كما هو الشأن في كلّ مشكوك الحجيّة.

[ المبحث ] الثاني : في أنّهما من القواعد الفقهيّة أو من المسائل الأصولية؟

وقد ذكرنا مرارا أنّ الضابط في كون المسألة أصوليّة أن تكون واسطة في إثبات المحمولات الفقهيّة لموضوعاتها.

والسرّ في ذلك أنّه لا شكّ في أنّ كلّ قضيّة ومسألة ليس ثبوت محمولها لموضوعها بديهيّا ومبيّنا في نفسه ، فالتصديق بثبوت ذلك المحمول لذلك الموضوع يحتاج إلى دليل ومثبت ، وذلك الدليل والمثبت هو الذي تسمّيه بالواسطة في الإثبات. ولا شكّ في أنّ أغلب المسائل الفقهيّة نظريّة يحتاج إلى النظر والاجتهاد والاستنباط في عصر الغيبة ، بل وفي عصر حضور الإمام علیه السلام ، كما يظهر ذلك من أمرهم صلوات اللّه عليهم بعض أصحابهم في زمان حضورهم بالجلوس والإفتاء بين الناس.

فالمجتهد هو الذي يفتّش ويفحّص عن وجود الدليل على ثبوت محمول المسألة الفقهيّة لموضوعها ، والعلم المتكفّل لتعيين تلك الأدلّة هو علم الأصول ، فكل قاعدة ومسألة تقع نتيجة البحث عنها واسطة لإثبات محمول مسألة فقهيّة لموضوعها يكون من المسائل الأصولية ؛ لأنّه لا همّ ولا غرض للأصولي إلاّ معرفة المبادي التصديقيّة

ص: 318

للمسائل الفقهيّة والأدلّة لها ، ولأجل هذا الغرض وهذه النتيجة ألّفوا على الأصول ، ولذا عرّفوه : بأنّه العلم بالقواعد التي تقع كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الشرعي الفرعي الكلّي.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول : إنّ مفاد قاعدة الفراغ والتجاوز ليس إلاّ الحكم بصحّة العمل الذي فرغ منه ، وشكّ في أنّه هل أخلّ بذلك العمل المأمور به بترك جزء ، أو شرط ، أو إتيان مانع في قاعدة الفراغ ؛ وأيضا ليس إلاّ الحكم بإتيان جزء أو شرط إذا شكّ في إتيانه بعد تجاوز محلّه إذا عيّن له محلّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا المعنى الذي هو مفاد القاعدتين بنفسه حكم شرعي فرعي كلّي ينطبق على مواردها انطباق جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة على مواردها ، وليس واسطة لإثبات حكم شرعي فرعي كلّي آخر ؛ فليست من المسائل الأصوليّة بل هما قاعدتان فقهيّتان.

بقي شي ء : وهو أنّه ما الفرق بين المسألة الفقهيّة وقاعدتها؟ ولما ذا سمّيتهما بالقاعدة الفقهيّة دون مسألتها.

والجواب أنّه صرف اصطلاح ، وإلاّ فليس ها هنا فرقا جوهريّا نعم جرى اصطلاحهم على تسمية المسائل العامّة التي تحتها مسائل ، وتنطبق على أبواب متعدّدة كمسألتينا ، هاتين حيث أنّهما تنطبقان على كلّ عمل شكّ في وقوع الخلل فيه وصحّته بعد الفراغ في قاعدة الفراغ ، وفي وجود أيّ جزء أو شرط شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه في قاعدة التجاوز في أيّ باب من أبواب الفقه ، بناء على عدم اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، وإلاّ تكون منحصرة فيها بأبواب الصلاة من أجزائها وشرائطها.

فقاعدة الفراغ تجري في جميع أبواب العبادات والمعاملات ، وقاعدة التجاوز أيضا كذلك ، بناء على عدم اختصاصها بالصلاة. وأمّا بناء على الاختصاص سمّيت بالقاعدة

ص: 319

لشمولها لجميع أبواب الصلاة من جميع أجزائها وشرائطها ، مثلا لو قال الفقيه : « لو شكّ المصلّي في القراءة بعد أن ركع فليمض في صلاته ولا يعتني بشكّه » فهذه مسألة فقهيّة. ولو قال : « لو شكّ في وجود أيّ جزء أو شرط للصلاة بعد التجاوز عن محلّه فليمض في صلاته ولا يعتني بشكّه » فهذه قاعدة فقهيّة ، وهذه هي قاعدة التجاوز. وهكذا الحال في سائر المسائل الفقهيّة وقواعدها.

[ المبحث ] الثالث : في أنّهما قاعدتين أو قاعدة واحدة؟

اشارة

بمعنى أنّ الكبرى المجعول واحدة في كليهما ، أو الكبرى المجعول في إحديهما غير المجعول في الأخرى؟

أقول : لا شكّ في أنّ مفاد كلّ واحدة منهما ومفهومه غير مفهوم الآخر ؛ لأنّ قاعدة الفراغ عبارة عن الحكم بصحّة الشي ء المشكوك صحّته وتماميّته بعد الفراغ عنه ومضيّه ، وقاعدة التجاوز عبارة عن حكم الشارع بوجود الشي ء الذي شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه. وسنتكلّم إن شاء اللّه تعالى في أنّه ما المراد من المحلّ في بعض الأمور الآتية.

وبعد ما عرفت أنّ مفهوميهما ومفاديهما مختلفان ، فيرجع البحث إلى أنّ المجعول من قبل الشارع هل هو كبرى واحد ، بحيث ينطبق على كلا المفهومين ويكون كلا المفادين المذكورين من مصاديق تلك الكبرى المجعول الجامع بين مضمون القاعدتين أم لا؟

وهاهنا مقامان

الأوّل : في مقام الثبوت ، وأنّه هل يمكن في مقام التشريع جعل كبرى واحد تكون شاملة لكلتا القاعدتين وتنطبق على كلا المفادين ، أم لا يمكن؟ لعدم جامع بين

ص: 320

المفادين فلا يمكن جمعهما في استعمال واحد في مقام الجعل والتشريع.

الثاني : في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة ، وأنّه بعد الفراغ عن إمكان جعل كبرى واحدة تشملهما ، هل هناك في أدلّة الباب دليل يدلّ على مثل هذا الجعل أم لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالذي يقول بعدم إمكان الجمع بينهما في جعل واحد ، يقول بأنّ الشكّ في قاعدة التجاوز متعلّق بأصل وجود الشي ء ، وفي قاعدة الفراغ بصحّة الموجود ، وأن الأوّل مفاد كان التامّة ، والثاني مفاد كان الناقصة. والتعبّد بوجود الشي ء غير التعبّد بصحّة الموجود ؛ فلا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد ، إلاّ بناء على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وهو محال.

أقول : لا يفيد في المقام القول بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ؛ لأنّه على فرض الجواز أيضا يكون المجعول أمرين مختلفين ، وهو خلاف المفروض في المقام ؛ لأنّ المفروض والمدّعى في المقام أن يكون المجعول معنى واحد جامعا بين مفادي قاعدة التجاوز - الذي هو التعبّد بوجود المشكوك - وقاعدة الفراغ الذي هو التعبّد بصحّة الموجود ، أعني تماميّة ما أوجده من دون وقوع خلل فيه.

فالمدّعى هو أنّ المجعول معنى واحد يكون مفاد كلتا القاعدتين ومضمونهما من ذلك المعنى الواحد ، فلو أمكن ذلك يكون من باب استعمال اللفظ في معنى واحد لا من باب استعماله في المتعدّد ، وإن لم يكن جعل ذلك المعنى الواحد الجامع بين المفادين فجواز استعمال اللفظ في المعاني المتعددة لا أثر له.

نعم أجاب شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره عن هذا الإشكال (1) بإمكان إرجاع قاعدة الفراغ أيضا إلى مفاد كان التامّة ، بأن يقال : إنّ التعبّد فيها أيضا يرجع إلى التعبّد بوجود الصحيح ، لا التعبّد بصحّة الموجود ، حتّى يكون مفاد كان الناقصة.

ص: 321


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 715.

وبعبارة أخرى : جعل الصحّة قيدا للموضوع لا للمحمول كي يكون المحمول هو الوجود المطلق ، فيكون مفاد كان التامة ، بأن يقال عند الشكّ في صحّة العمل الذي فرغ عنه - صلاة كان ذلك العمل أو حجّا أو غيره - : العمل الصحيح وجد.

والمناط في مفاد كون القضيّة مفاد كان التامّة أن يكون المحمول هو الوجود المطلق ، ولو لوحظ ألف قيد في جانب الموضوع. ومناط كونها مفاد كان الناقصة هو أن يكون المحمول هو الوجود المقيّد ، سواء أكان الموضوع مطلقا أو مقيّدا ، فالإطلاق والتقييد في جانب المحمول هو المناط في كون القضيّة مفاد كان التامّة أو الناقصة. وأمّا الإطلاق والتقييد في جانب الموضوع فلا أثر لهما أصلا ، فبناء على ما ذكره قدس سره تكون الكبرى المجعولة معنى واحدا ، وهو التعبّد بوجود الشي ء.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ قدس سره أوّلا : بأنّ التعبد بوجود الصحيح لا يثبت صحّة الموجود ، إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، والأثر مترتّب على صحّة الموجود لا على وجود الصحيح.

إن قلت : يكفي في سقوط الأمر والامتثال التعبّد بوجود الصحيح.

قلت : على فرض كفايته في العبادات لا يكفي في المعاملات ؛ لأنّ الأثر فيها مترتّب على كون هذه المعاملة الموجودة في الخارج - بعد الفراغ عن كونها موجودة - صحيحة ، لا على وجود المعاملة الصحيحة. نعم لو قلنا بأنّ هاتين القاعدتين من الأمارات لا يبقى وجه لهذا الإشكال ؛ لأنّه حينئذ مثبتاتهما حجّة.

وثانيا : بأنّ متعلّق التجاوز الواردة في الأخبار في قاعدة الفراغ ذات الشي ء ونفسه ، وفي قاعدة التجاوز محلّه ، ولا جامع بينهما. (1)

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأنّ التجاوز عن الشي ء كما أنّه يصدق بالتجاوز عن نفسه وإتمامه والمضي عنه ، كذلك يصدق بالتجاوز عن محلّه الذي عيّن له

ص: 322


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 620.

الشارع.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس سره عن هذا الإشكال بأنّ متعلّق التجاوز في قاعدة الفراغ أيضا محلّ الجزء المشكوك وجوده ، لأنّ الشكّ في صحّة العمل المركّب الذي صدر عنه بعد الفراغ عنه أيضا مسبّب عن وجود ذلك الجزء المشكوك الوجود في محلّه ، ومعلوم أنّ حصول هذا الشكّ المسبّبي إنّما يكون بعد التجاوز عن محلّ ذلك الجزء المشكوك الوجود (1).

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام معناه إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز ، بل إنكار قاعدة الفراغ بالمرّة ، مضافا إلى أنّه يلزم الاستخدام في ضمير قوله علیه السلام « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » (2) إذ المراد بناء على هذا الجواب من « الشي ء » نفس المركّب ، ومن الضمير في « لم تجزه » الراجع إلى « الشي ء » الجزء المشكوك الوجود ، وهذا هو الاستخدام وهو خلاف الأصل والظاهر.

إن قلت : إن المراد من « الشي ء » أيضا هو الجزء المشكوك.

قلت : فلا ينتج صحّة المركّب إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وثالثا : بأنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز هو الجزء ، وفي قاعدة الفراغ هو الكلّ ، ولا جامع بين الجزء والكلّ في عالم اللحاظ ؛ لأنّ لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته لا يكون إلاّ في الرتبة السابقة على المركّب والكلّ ، لأنّ النسبة بين الأجزاء والكلّ نسبة العلّية والمعلوليّة ، وللأجزاء تقدّم على الكلّ.

وبعبارة أخرى : شيئيّة الأجزاء مندكّة في شيئيّة الكلّ ، ففي مرتبة لحاظ الكلّ شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا ؛ لأنّه لا شيئيّة له في تلك المرتبة.

ص: 323


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 623.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 262 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 330 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 2.

والحاصل : أنّه ليس لحاظ شيئيّة الجزء وشيئيّة الكلّ في مرتبة واحدة ، ففي مرتبة لحاظ شيئيّة الجزء ليس كلّ في البين حتّى يلاحظ شيئيّته ، وفي مرتبة لحاظ شيئيّة الكلّ لا شيئيّة للجزء ؛ لأنّ شيئيّة الجزء في هذا اللحاظ مندكّة في شيئيّة الكلّ ، فالجمع بينهما في لحاظ واحد ممّا لا يمكن أن يكون.

ولكن أنت خبير بأنّ ما لا يمكن الجمع بينهما في لحاظ واحد هو شيئيّة الجزء بعنوان أنّه جزء مع شيئيّة الكلّ بعنوان أنّه كلّ ، لا شيئيّة الجزء والكلّ بعنوان أنّهما موجودان وشيئان كسائر الأشياء ، فلا مانع من شمول عنوان « الشي ء » لهما كما أنّه يشمل سائر الأشياء ، ولا يحتاج إلى شيئيّة الجزء والكلّ بعنوان أنّه جزء وكلّ ، حتّى يقال بأنّه لا يمكن اجتماعهما في لحاظ واحد.

وبعبارة أخرى : لا شكّ في أنّ كلّ موجود - سواء أكان موجودا في الخارج ، أو كان موجودا في الذهن ، أو كان موجودا في عالم الاعتبار - شي ء ؛ لأنّ الشيئيّة مساوق للوجود يدور معه حيثما دار ، فالجزء والكلّ شي ء بعناية واحدة وهي أنّهما موجودان. نعم الذي لا يمكن هو لحاظ الاثنين - أي : الكل والجزء - بعنوانهما الخاصّ في لحاظ واحد ، واستعمال واحد ، من لفظ واحد.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا يبقى وجه لما تكلّفه شيخنا الأستاذ قدس سره في مقام الجواب عن هذا الإشكال : بأنّ مصداقيّة الجزء للشي ء بعناية التعبّد وتنزيل الشكّ في الجزء في خصوص باب الصلاة منزلة الشكّ في الكلّ ، ولذا لا تجري قاعدة التجاوز في غير باب الصلاة مطلقا ، ولا خصوصيّة للطهارات الثلاث حتّى يقال إنّ خروجها وتخصيصها بالإجماع والأخبار ؛ لأنّه بناء على هذا لا عموم للقاعدة ، فيكون خروج الطهارات الثلاث كغيرها من سائر المركّبات ما عدا الصلاة من باب التخصّص لا التخصيص.

وحاصل ما أفاده قدس سره في دفع هذا الإشكال هو أنّ الكبرى المجعولة هي عبارة عن

ص: 324

عدم الاعتناء بالشكّ في وجود الشي ء بعد التجاوز عنه. (1)

ولكن انطباق هذه الكبرى على الكلّ لا يحتاج إلى عناية أخرى لأن شيئيّة الكلّ وجدانيّة قطعيّة ، وأمّا انطباقها على الجزء لا يمكن إلاّ بعد عناية أخرى وهو تنزيل الجزء منزلة الكلّ في هذا الأثر ، كي يصير الجزء بواسطة هذا التنزيل فردا ومصداقا تعبديا لمفهوم الشي ء في تلك الكبرى المجعولة.

وحيث أنّ هذا التعبّد والتنزيل وقع في الصلاة دون سائر المركّبات ، كما يدلّ عليه رواية زرارة قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال علیه السلام : « يمضي ». قلت : رجل شكّ في الإقامة وقد كبّر ، قال علیه السلام : « يمضي ». قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ، قال علیه السلام : « يمضي ». قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ، قال علیه السلام : « يمضى ». قلت : شكّ في الركوع وقد سجد ، قال علیه السلام : « يمضي في صلاته » ثمَّ قال علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ». (2)

فلذلك لا تجري هذه القاعدة إلاّ في الصلاة ، وسائر المركّبات خارجة عن عمومها تخصّصا لا تخصيصا ، ولا فرق في ذلك بين الطهارات الثلاث وغيرها.

ولكن أنت خبير أنّ معنى هذا الكلام هو إنكار قاعدة التجاوز والالتزام بجريان قاعدة الفراغ في خصوص أجزاء الصلاة لمكان ذلك التنزيل دون سائر المركبات ، فكأنّه جعلت أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل المذكور كأنّه مركّب مستقلّ من المركّبات العباديّة ، ففي الحقيقة هو التزم بأنّه هناك قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ ، ولكنّها لا تجري في الأجزاء إلاّ في أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل.

وقد عرفت عدم تماميّة ما أفاد ويأباه الذوق السليم ، والسليقة المستقيمة تحكم بأنّ قوله علیه السلام « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » مفهوم عام يشمل أجزاء الصلاة وغيرها

ص: 325


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 623.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 352 ، ح 1459 ، باب أحكام السهو ، ح 47 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 336 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 23 ، ح 1.

من المركّبات التي لأجزائها محلّ شرعي ، ويصدق بعد التجاوز عن ذلك المحلّ الشرعي إذا شكّ في إتيان ذلك الجزء أنّه شكّ بعد التجاوز عنه ؛ فتخصيصها بخصوص أجزاء الصلاة لا وجه له.

فحينئذ لا بدّ وأن يكون عدم جريانها في أجزاء الطهارات الثلاث لجهة ، من إجماع أو غيره ، كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره . (1)

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات بعد الفراغ عن إمكان جعل كبرى واحدة تشمل كلتا القاعدتين في عالم الثبوت.

فنقول أوّلا : لا بدّ من ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب حتّى نرى ما ذا يستفاد :

منها : رواية حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : أشكّ وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال علیه السلام : « قد ركعت ». (2)

ومنها : ما ذكرنا وتقدّم من رواية زرارة ونقلناها ، ومحلّ الشاهد ما في آخرها من قوله علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ».

ومنها : رواية إسماعيل بن جابر قال : قال أبو جعفر علیه السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شي ء شكّ فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمضى عليه ». (3)

ومنها : موثقّة ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام قال علیه السلام : « كلّ ما

ص: 326


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 712.
2- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 151 ، ح 594 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح 52 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 358 ، ح 1356 ، باب من شكّ وهو قائم فلا يدرى أركع أم لا ، ح 6 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 936 ، أبواب الركوع ، باب 13 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 153 ، ح 602 ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح 60 ؛ « الاستبصار » ج 1 ، ص 358 ، ح 1359 ، باب من شكّ وهو قائم فلا يدري أركع أم لا ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 4 ، ص 937 ، أبواب الركوع ، باب 13 ، ح 4.

شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو ». (1)

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا شككت في شي ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشي ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه » (2).

ومنها : موثّقة بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ قال علیه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (3).

وهناك روايات أخر نقلوها ليست بصراحة ما ذكرناها من حيث اشتمالها على الكبرى الكليّة ، وفيما ذكرناها غنى وكفاية.

فنقول : أمّا قوله علیه السلام في الرواية الأولى ، أي رواية زرارة « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء » فهي كبرى كلّية ينطبق على الخروج عن الجزء ودخوله في جزء آخر ، أو مطلق ما كان غيره كي يشمل الجزء الأخير ، وعلى الخروج عن المركّب المأمور به والدخول في غيره ، مثل الصلاة والحجّ وغيرهما.

وأمّا مسألة لزوم الدخول في الغير - أو يكفي صدق التجاوز عن الشي ء والمضي عنه ، وإنّما ذكره الدخول في الغير لأجل تحقّق التجاوز عن الشي ء - فهذا شي ء سنتكلّم عنه إن شاء اللّه تعالى في المباحث الآتية.

والحاصل : أنّه بناء على ما ذكرنا وعرفت « الشي ء » له معنى عامّ ينطبق على الجزء وعلى المركّب الذي نسمّيه بالكلّ ، والخروج عنه له مصداقان كما تقدّم :

ص: 327


1- « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 344 ، ح 1426 ، باب أحكام السهو ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 336 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 23 ، ح 3.
2- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 262 ، باب صفة الوضوء والغرض منه والسنّة ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 330 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 2.
3- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 265 ، باب صفة الوضوء والغرض منه والسنة ، ح 114 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 331 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 7.

أحدهما : التجاوز عن محلّه الذي عيّن الشارع له ، وبهذا الاعتبار يشمل قاعدة التجاوز.

والثاني : التجاوز عن نفسه والفراغ عنه ، وبهذا الاعتبار يشمل قاعدة الفراغ.

والجامع بينهما هو عنوان الخروج عن الشي ء ، ولا يلزم محذور أصلا.

وأمّا قوله علیه السلام في رواية إسماعيل بن جابر : « كلّ شي ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » لا شكّ في أنّه أيضا كبرى كليّة أمر علیه السلام بالمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في كلّ ما شكّ فيه ، سواء أكان ذلك المشكوك فيه نفس المركّب أو جزء من أجزائه بعد ما مضى عنه ، غاية الأمر المضي عن المركّب بإتمامه والفراغ عنه وعن الجزء بالمضي عن محلّه ، كما بيّنّا لك في رواية زرارة فلا نعيد.

وعلى هذا القياس قوله علیه السلام في موثقّة ابن بكير « كل ما شككت ممّا قد مضى فامضه كما هو ».

وأمّا قوله علیه السلام في موثّقة ابن أبي يعفور : « إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه » فبمفهوم الحصر يدلّ على أنّه إذا جزت عن شي ء فليس شكّ هناك ، بمعنى أنّ الشارع ألقى الشكّ في كلّ شي ء جزت عنه ، وجعل وجوده بمنزلة العدم ، فيكون حال هذه الرواية أيضا حال سائر الروايات من كونه علیه السلام بصدد بيان كبرى كليّة ، أي عدم الاعتناء بالشكّ في كلّ شي ء جزت عنه ، سواء أكان ذلك الشي ء نفس المركب أو أحد أجزائه.

ولا فرق في حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ بعد أن خرج عن المشكوك ودخل في غيره بأن يكون الخروج عن جزء والدخول في جزء آخر ، وبين أن يكون الخروج عن مجموع المركّب والدخول في شي ء آخر غيره.

نعم الخروج عن الجزء باعتبار الخروج عن محلّه ؛ لأنّ المفروض أن أصل وجود الجزء مشكوك ، فلا معنى للخروج عن نفس الجزء. وأمّا عدم الفرق في حكمه بعدم

ص: 328

الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز عن المشكوك أو بعد المضي عنه بين الكلّ والجزء ، فالأمر أوضح كما هو واضح.

[ المبحث ] الرابع : في أنّه ما المراد من المضي والتجاوز في القاعدتين؟

حيث جعل الشارع موضوع حكمه بعدم الاعتناء بالشكّ أحد هذين العنوانين ، أو عنوان الخروج عن المشكوك والدخول في غيره؟

أقول : قد تقدّم أنّ لمفهوم التجاوز والمضي مصداقين :

أحدهما : التجاوز عن نفس الشي ء بمعنى إتمام وجوده والمضي عنه ، وهذا مورد قاعدة الفراغ.

والثاني : التجاوز عن محلّه ، وهذا مورد قاعدة التجاوز.

وهذان كلاهما مصداقان حقيقيان لمفهوم التجاوز عن الشي ء ، وليس في الثاني منهما تجوّز أو إضمار ، بل التجاوز عن المحلّ الذي عيّن الشارع لشي ء يكون تجاوزا عن ذلك الشي ء حقيقة ، فالذي يقرأ السورة مثلا تجاوز حقيقة عن فاتحة الكتاب ، وهكذا الأمر في جميع أجزاء المركّبات التدريجيّة الوجود التي جعل الشارع لإيجاد أجزائها ترتيب ، فكلّ جزء له محلّ شرعي لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه ؛ لا كلام في هذا.

وإنّما الكلام في أنّه هل المحلّ العادي للجزء أيضا هكذا ، بمعنى أنّ التجاوز عن المحلّ العادي للشي ء هل تجاوز عن الشي ء أم لا؟ فإن صدق عليه التجاوز عن الشي ء حقيقة ، كما أنّه يصدق على التجاوز عن محلّه الشرعي التجاوز عن ذلك الشي ء حقيقة ، كما أنّه علیه السلام طبق الكبرى على التجاوز عن محلّه الشرعي في ما نقلناه من رواية

ص: 329

زرارة وغيرها ، فتشمل القاعدة التجاوز عن المحلّ العادي أيضا ، وتترتّب على التعميم ثمرات فقهيّة مهمّة ، مثلا الذي من عادته الوضوء عقيب الحدث الأصغر ، أو الغسل عقيب الحدث الأكبر فلو شكّ في وقت من الأوقات أنّه توضّأ عقيب الحدث الأصغر ، أو اغتسل عقيب الحدث الأكبر ، فعلى التعميم لا بدّ وأن نقول في الأوّل بطهارته من الحدث الأصغر ، وفي الثاني بطهارته من الحدث الأكبر.

ولكن أنت خبير بأنّه لا وجه لإلحاق المحلّ العادي بالمحلّ الشرعي ؛ لأنّه ليس في الأخبار عنوان « التجاوز عن المحلّ » حتى نتكلّم في أنّ لفظ « المحلّ » هل يشمل المحلّ العادي أم لا؟ بل الموجود فيها عنوان « المضي عن الشي ء والتجاوز عنه » وأمثال ذلك من العناوين ، فالمدار على صدق أحد هذه العناوين.

وقد عرفت أنّ في التجاوز عن المحلّ الشرعي يقال بأنّه تجاوز عن عن الشي ء حقيقة بلا تجوّز ولا إضمار على ما هو التحقيق ، أو بتقدير لفظ « المحلّ » كما أنّه ربما قال به المشهور من باب دلالة الاقتضاء ، صونا للكلام عن اللغويّة ، كما أنّهم قالوا بتقدير « الأهل » في قوله تعالى ( - ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) - ) (1) لأجل هذه الجهة.

إن قلت : فبناء على هذا يكون لفظ « المحلّ » المقدّر أعمّ من المحلّ الشرعي والعادي.

قلت : إنّ هذا التقدير من ناحية دلالة الاقتضاء ، وتطبيقه علیه السلام التجاوز عن الشي ء على التجاوز عن المحلّ الشرعي حيث أنّه علیه السلام طبّق هذه الكبرى - أي قوله « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » وأمثالها - على الشكّ في وجود الأجزاء بعد التجاوز عن محلّها الشرعي ، كما تقدّم في بعض الروايات المتقدّمة ، حيث قال علیه السلام بعد قول السائل : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال علیه السلام : « يمضى ». قلت : رجل شكّ في الإقامة وقد كبّر ، قال علیه السلام : « يمضى ». وهكذا سأل السائل عن الشكّ في

ص: 330


1- يوسف (12) : 82.

الأجزاء بعد تجاوز المحلّ الشرعي ، فأجابه بأنّه « يمضي » إلى أن قال علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ».

فلا بدّ من أن نقول بأنّ المراد من الخروج عن الشي ء في هذه الرواية والمضي والتجاوز في سائر الروايات ، هو الخروج عن محلّها الشرعي والمضي والتجاوز عنه ؛ لأنّ هذا المقدار هو الذي طبّق الإمام علیه السلام ، وأمّا أكثر من هذا المقدار - أي المحلّ الشرعي كي يشمل المحلّ العادي - فلا تقتضيه دلالة الاقتضاء ، وليس لفظ « المحلّ » في البين حتّى نأخذ بعمومه.

وهنا وجه آخر لشمول التجاوز عن الشي ء التجاوز عن المحلّ الشرعي ، وهو تنزيل التجاوز عن محلّه الشرعي الذي عيّن له الشارع ، كما في المركّبات المترتّبة الأجزاء منزلة التجاوز عن نفس الشي ء ، وادّعاء أنّه هو ، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (1) قدس سره ومعلوم أنّ مثل هذا التنزيل والادّعاء من طرف الشارع لا يكون إلاّ بالنسبة إلى المحلّ الشرعي الذي عيّن له هو ، وأمّا المحلّ العادي فأجنبي عن تنزيله.

ولكن التحقيق : في وجه عدم التعميم هو الوجه الأوّل الذي ذكرنا الشمول التجاوز عن الشي ء التجاوز عن المحلّ الشرعي ، وهو أنّه لمفهوم التجاوز عن الشي ء مصداقان : أحدهما التجاوز عن نفسه ، والثاني التجاوز عن محلّه الشرعي.

وبعبارة أخرى : التجاوز عن الشي ء كما أنّه يتحقّق بإيجاد الشي ء والفراغ عنه ، كذلك يتحقّق حقيقة لا ادّعاء بالتجاوز عن المحلّ الذي عيّن الشارع له في المركّبات المترتّبة الأجزاء.

والسرّ في ذلك : أنّ المهيّات المخترعة المترتّبة الأجزاء التدريجيّة الوجود في عالم التشريع ، مثل المهيّات التدريجيّة الوجود في عالم التكوين ، فكما أنّه لو ترك آية من سورة من سور القرآن ، أو شعر من أشعار قصيدة معيّنة معلومة وشرع في الآية التي

ص: 331


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 627.

بعد تلك الآية المتروكة ، وهكذا شرع في البيت الذي بعد ذلك البيت المتروك ، يقال : تجاوز من تلك الآية المتروكة ومن ذلك البيت المتروك ، كذلك لو ترك جزء من هذا المركّب المترتّب الأجزاء شرعا ودخل في الجزء الذي بعده ، يقال : إنّه تجاوز عن ذلك الجزء المتروك وتعدّى عنه.

وبناء على هذا الوجه أيضا لا ربط له بالمحلّ العادي ؛ لأنّ جريان العادة بإيجاد شي ء في محلّ من دون أن يكون ترتّب تكويني أو تشريعي في البين ، لا يوجب صدق التجاوز بالنسبة إلى الجزء أو الكلّ المشكوك الوجود في ذلك المحلّ العادي.

هذا ، مضافا إلى أنّ تعميم القاعدة والقول بصدق التجاوز بالنسبة إلى المحلّ العادي مستلزم لتأسيس فقه جديد ، وهذا بنفسه محذور ، ولو لم يكن محذور آخر في البين. كيف وقد عرفت ما فيه ، وأنّ الشكّ في وجود جزء من أجزاء المركّب أو تمامه بعد التجاوز عن المحلّ الذي جرت العادة بإتيان ذلك الجزء ، أو ذلك الكلّ في ذلك المحلّ ، ليس مشمولا لقاعدة التجاوز في الجزء ، ولا لقاعدة الفراغ في الشكّ في الكلّ.

ثمَّ أنّه لو شكّ في الجزء الأخير من المركّب المترتّب الأجزاء كالتسليم في باب الصلاة ، فهل تجري قاعدة التجاوز أو الفراغ ، أو إحديهما ، أو لا يجري شي ء منهما؟ احتمالات.

وتحقيق المقام : هو أنّ الجزء الأخير لا بدّ وأن يكون في المركّب المترتّب الأجزاء ، وإلاّ تكون الأجزاء عرضيّة ولا يبقي معنى للجزء الأخير حينئذ. وذلك المركّب المترتّب الأجزاء على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يعتبر الموالاة بين أجزائه أم لا.

فنقول : أمّا ما لم يعتبر الموالاة بين أجزائه كالغسل ، إذا شكّ في جزئه الأخير أي غسل الجانب الأيسر ، فجريان قاعدة التجاوز فيه لا وجه له أصلا ؛ لأنّه لم يتحقّق بالنسبة إليه تجاوز ، لا عن نفس وجوده لأنّ المفروض أنّه مشكوك الوجود ، ولا عن محلّه الشرعي لأنّ المفروض عدم اعتبار الموالاة فيه ؛ ففي أيّ وقت أتى به يكون في

ص: 332

محلّه. وأمّا إلحاق المحلّ العادي بالمحلّ الشرعي فقد عرفت الحال فيه.

وأمّا بالنسبة إلى قاعدة الفراغ فجريانها أيضا لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ المفروض أنّ الجزء الأخير مشكوك الوجود ، فكيف يصدق الفراغ عن ذلك العمل والمضي عنه؟ نعم ربما يصدق الفراغ عرفا إذا شكّ في جزء يسير من الجزء الأخير في المثال المذكور ، كما أنّه لو شكّ في غسل إصبع من الجانب الأيسر مع القطع بغسل ذلك الجانب إلاّ هذا المقدار اليسير منه.

والحاصل : أنّ المناط في جريانها هو صدق عنوان الفراغ عن العمل ومضي المركّب عرفا.

وأمّا ما اعتبر فيه الموالاة كالصلاة والوضوء ، فلا يبعد جريانهما بناء على عدم اختصاص قاعدة التجاوز بخصوص الصلاة حتّى في الجزء الأخير من الوضوء إذا كان الشكّ بعد فوات الموالاة ، لأنّه يصدق عليه التجاوز والمضي عن العمل ، وعن الجزء الأخير أيضا.

وأمّا بناء على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، ففيها حتّى بالنسبة إلى الجزء الأخير تجري كلتا القاعدتين. وأمّا في غيرها فلا تجري إلاّ قاعدة الفراغ ، فإذا شكّ في التسليم فتجري القاعدتان إذا كان مشغولا بالتعقيب ؛ لصدق التجاوز عن محلّه الشرعي ، وأيضا الفراغ بدخوله في التعقيب ، لأنّ محلّ التعقيب شرعا بعد التسليم.

وأمّا إذا شكّ في التسليم ولم يكن دخل في التعقيب بعد ، فإمّا أن يكون بعد صدور المنافي عنه - ولا فرق في ما نذكره بين المنافي العمدي والسهو كالحدث ، وبين ما هو المنافي عمدا لا سهوا كالتكلّم ، ولا بين أن يكون المنافي أمرا وجوديا كالحدث والتكلّم ، أو عدميّا كالسكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، أو لا بل يكون قبل صدور المنافي عنه - فإذا كان بعد صدور المنافي عنه بجميع أقسامه فالظاهر أيضا جريان كلتا القاعدتين ، أمّا قاعدة التجاوز لأنّ محلّ التسليم شرعا قبل فعل المنافي ،

ص: 333

فيكون الشكّ بعد التجاوز عن محلّه. وأمّا قاعدة الفراغ لصدق عنوان الفراغ بعد الاشتغال بالمنافي ولو كان أمرا عدميا كالسكوت الطويل.

وأمّا إذا كان قبل صدور المنافي وقبل أن يدخل في التعقيب ، فالظاهر عدم جريان كلتا القاعدتين ؛ لعدم التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك ، وعدم صدق الفراغ عن العمل والمضي عنه ؛ لأنّه لو علم بالترك وأتى به لكان في محله.

هذا تمام الكلام في معنى التجاوز على الجزء والفراغ عن المركّب وحكم الشكّ في الجزء الأخير.

المبحث الخامس : في أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان القاعدتين أم لا؟

فنقول : اعتبار الدخول في الغير في كلتا القاعدتين أو إحديهما تارة يكون من جهة توقّف تحقّق هذه العناوين ، أي عنوان « التجاوز » و « المضي » و « الفراغ » عليه ، وأخرى يقال باعتباره تعبّدا ، من جهة دلالة الدليل عليه من دون توقّف أحد هذه العناوين عليه.

وتفصيل الحال : هو أنّه أمّا في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى غير الجزء الأخير فواضح أنّه لا يتحقّق التجاوز وما شابهه من العناوين إلاّ بعد الدخول في الجزء المترتّب عليه ، أي على المشكوك ؛ لأنّ التجاوز فيها لا يتحقّق إلاّ بالتجاوز عن محلّ الجزء ، ومعلوم أنّ التجاوز عن محلّ المشكوك لا يصدق إلاّ بعد الدخول في الجزء التالي ، وإلاّ فالمحلّ باق بعد. وأمّا السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة عقيب الجزء المشكوك الوجود وإن كان يوجب التجاوز عن المحلّ ، ولكن من جهة أنّه قاطع يكون موجبا لبطلان الصلاة ، فلا يبقى مجال لجريان قاعدة التجاوز وتصحيح الصلاة بها.

فبالنسبة إلى غير الجزء الأخير لا يتحقّق التجاوز عن المحلّ الذي هو معتبر في

ص: 334

جريان قاعدة التجاوز إلاّ بالدخول في الغير.

وأمّا بالنسبة إلى الجزء الأخير ، كالتسليم في باب الصلاة يمكن أن يقال : إنّ التجاوز لا يصدق إلاّ بعد الدخول في شي ء غير الصلاة من تعقيب ، أو فعل ما هو مناف للصلاة.

ولكن التحقيق : أنّ السكوت الطويل ها هنا يوجب تحقّق عنوان التجاوز وتجري قاعدة التجاوز ، من دون أن يكون الدخول في الغير في البين ، فما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره من اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز مطلقا (1) ليس كما ينبغي.

وأمّا في قاعدة الفراغ ، فإذا كان منشأ الشكّ في صحّة العمل ما عدا الجزء الأخير فبإتيان الجزء الأخير يصدق الفراغ والتجاوز إذا كان إتيان معظم الأجزاء معلوما ، من دون الاحتياج إلى الدخول في الغير. وأمّا إذا كان المنشأ هو الشكّ في إتيان الجزء الأخير فربما يقال بأنّه لا يصدق الفراغ إلاّ بالدخول في الغير ، بل ربما يقال بعدم صدق الفراغ ما لم يحرز إيجاد الجزء الأخير بالوجدان أو بالتعبّد.

ولكن التحقيق : أنّه إذا كان إتيان معظم الأجزاء محرزا وكان في حالة منافية للصلاة مثلا ، يصدق الفراغ والتجاوز ولو كان العمل ممّا له صورة وهيئة اتّصالية ، فالسكوت الطويل القاطع للهيئة الاتّصالية أيضا يوجب صدق عنوان الفراغ ، إذا كان قد أتى بمعظم الأجزاء مع عدم دخوله في الغير.

والحاصل : أنّ الدخول في الغير ليس ممّا يعتبر في تحقّق عنوان الفراغ ، فإن كان فلا بدّ وأن يكون بتعبّد شرعي ، وطريق إثباته ملاحظة الأدلّة الواردة في هذا الباب.

فنقول : في رواية زرارة قال علیه السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء » ، وفي رواية إسماعيل بن جابر « كلّ شي ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وظاهر هاتين الروايتين اعتبار الدخول في

ص: 335


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 631.

الغير ، كما أنّ ظاهر موثقّة ابن بكير قال علیه السلام : « كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » عدم الاعتبار من جهة الإطلاق.

وموثقّة ابن أبي يعفور « إذا شككت في شي ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه » مختلف صدرا وذيلا ، فباعتبار الصدر يدلّ على الاعتبار ، وباعتبار الذيل مطلق. ومقتضى القواعد الأوّلية حمل المطلق على المقيّد والقول باحتياج جريانهما إلى الدخول في الغير بعد إحرازه وحدة المطلوب.

ولكن يمكن أن يقال بورود القيد مورد الغالب ، كما في قوله تعالى شأنه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) - ) (1) فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد ، بل لا بدّ وأن يؤخذ بالإطلاق. ولكن يعارض هذا الوجه أنّه يمكن أن يقال مقابل هذا القول بأنّ المطلق محمول على الغالب لأنّه غالبا الفراغ عن الشي ء والتجاوز عنه ملازم مع الدخول في الغير ، لا سيما إذا عممنا الغير ، وقلنا بشموله لكلّ حالة مغايرة للحالة التي كان هو فيها من الاشتغال بالمركب ، فلا إطلاق في البين.

ولكن في كلا الأمرين تأمّل ، أمّا احتمال ورود القيد مورد الغالب فمنفي بأنّ الأصل في باب القيود أن يكون القيد احترازيّا ، إلاّ أن يدلّ دليل معتبر على أنّه وارد مورد الغالب وليس احترازيّا ، وإلاّ فبصرف احتمال ذلك لا يرفع اليد عن ظهوره في كونه احترازيّا.

وأمّا احتمال حمل المطلق على الغالب وانصرافه إليه فقد حقّقنا في محلّه أنّ غلبة الوجود لا يوجب الانصراف ، ولا ينسدّ باب التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ أغلب الطبائع بعض أفرادها أو بحسب بعض حالاتها أكثر وجودا من الأبعاض الأخر ، بل الانصراف لا يكون إلاّ بظهور المطلق في البعض المنصرف بواسطة كثرة الاستعمال ،

ص: 336


1- النساء (4) : 23.

وإثبات هذا المعنى في المقام لا يخلو عن إشكال ، فلا مناص إلاّ عن الأخذ بالقواعد الأوّلية وحمل المطلق على المقيّد.

المبحث السادس

في أنّ الغير المعتبر دخوله فيه في خصوص قاعدة التجاوز يشمل مقدمات الأجزاء ، مثل الهوى للركوع ، والنهوض للقيام ، وهكذا أبعاض الأجزاء كأبعاض السورة مثلا أم لا؟

فنقول : الاحتمالات ثلاثة :

أحدها : اختصاص الغير بالأجزاء المذكورة في الروايات ، كرواية زرارة ، ورواية إسماعيل بن جابر.

وهذا الاحتمال مبني على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، وبناء على هذا الاحتمال لا تشمل السورة إذا شكّ في الحمد بعد دخوله فيها ، وأيضا لا تشمل التشهّد إذا شكّ في السجود بعد دخوله فيه ؛ إذ لا ذكر من هذين ، أي السورة والتشهد في تلك الأخبار.

الثاني : شموله لكلّ جزء من أجزاء الصلاة المستقلّة بالتبويب في الكتب الفقهيّة.

وهذا الاحتمال أوسع من الاحتمال الأوّل لشموله للسورة والتشهّد ، ولكن لا يشمل مقدّمات الأجزاء ، ولا أجزاء الأجزاء.

والثالث : التعميم لكلّ ما يصدق عليه مفهوم الغير ، ولكن بشرط أن لا يكون خارجا عن الصلاة ، بناء على اختصاص القاعدة بالصلاة ومطلقا ، سواء أكان منها أو من غيرها بناء على عدم اختصاصها بها.

وشيخنا الأستاذ قدس سره رجّح الاحتمال الثاني ، وذلك من جهة ما أفاد وبيّنّاه فيما تقدّم

ص: 337

من أنّ إطلاق الشي ء على الأجزاء يكون بالعناية والادّعاء ، وإلاّ لا يكون الجزء شيئا في عرض شيئيّة الكلّ. وحيث أنّ هذا الادّعاء والتنزيل لم يتحقّق من قبل الشارع إلاّ في الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، فلا يطلق الشي ء والغير على ما عداها من أجزاء الأجزاء ومقدّماتها.

إن قلت : إنّ التنزيل قد وقع في الأجزاء المذكورة في الروايات فقط ، أعني الروايتين المتقدّمتين من زرارة وإسماعيل بن جابر ، وليس فيهما عين ولا أثر من السورة والتشهّد.

قلنا : إنّ ذكر تلك الأجزاء من باب المثال ، وإلاّ فالمقصود بالتنزيل هو مطلق الإجزاء المستقلّة بالتبويب. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره (1).

ولكن قد عرفت عدم تماميّة هذا الكلام وأنّ الشي ء يطلق على الأجزاء والكلّ في عرض واحد حقيقة بدون عناية وادّعاء وتنزيل ، بل يستعمل في الجامع بينهما ، ولا تلاحظ في حال الاستعمال خصوصيّة كلّ واحد منهما حتّى تقول بعدم إمكان الجمع بين اللحاظين في استعمال واحد وأمثال ذلك ممّا تقدّم ذكره من المحاذير.

هذا ، مضافا إلى أنّ الكلام في عموم الغير لا الشي ء ، ولا شكّ في أنّه بعد ما شمل الشي ء المتجاوز عنه الأجزاء المستقلّة بعناية كما أفاد ، أو بدون الاحتياج إلى عناية وتنزيل كما ادّعينا يشمل لفظ الغير من غير ذلك الشي ء الحقيقي كما نقول ، أو الادّعائي كما يقول هو قدس سره .

وفي شمول لفظ « الغير » للأجزاء المستقلّة كما يقول هو قدس سره ، أو لجميع ما هو غير ذلك الجزء المتجاوز عنه كما نقول ، لا يحتاج إلى إعمال عناية وادّعاء وتنزيل أصلا.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المراد من « الغير » المعتبر في جريان قاعدة التجاوز الدخول فيه ، سواء أكان اعتباره من باب تحقّق التجاوز والمضي به ، أو كان من جهة

ص: 338


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 635.

دلالة الأخبار تعبّدا ، هو مطلق ما كان مصداقا لمفهوم غير الجزء المشكوك الوجود ، فتشمل الأجزاء وأجزاء الأجزاء ومقدّمات الأجزاء.

وحيث قلنا بعدم اختصاصها بالصلاة فلا فرق فيما ذكرنا من شمول لفظ « الغير » للأجزاء ، وأجزاء الأجزاء ومقدّمات الأجزاء بين الصلاة وسائر المركّبات التي أمر الشارع بإيجادها كالحجّ مثلا ، فإذا شكّ في أثناء السعي مثلا في الطواف أو في جزء منه ، يكون مشمولا لقاعدة التجاوز.

نعم يبقى الكلام في وجه عدم جريانها في الطهارات الثلاث - الوضوء والغسل والتيمم - وسنتكلّم عنه إن شاء اللّه تعالى.

ومن الواضح الجلي أنّه بناء على ما ذكرنا لا يبقى فرق في صدق الغير أن يكون من الأجزاء المستحبّة أو الواجبة ، بل وإن لم يكن جزء وكان خارجا عن حقيقة المركّب كالتعقيب.

المبحث السابع : في جريان قاعدة التجاوز في الشروط

وتحقيق المقام هو أنّ الشرائط على أقسام :

الأوّل : أن يكون شرطا عقليّا لتحقّق عنوان المأمور به ، كقصد الظهريّة والعصريّة في صلاة الظهر والعصر مثلا ، فإنّ عنوان الظهريّة والعصريّة لا يمكن أن يتحقّق في صلاتيهما إلاّ بهذا القصد ؛ لأنّها أمور قصديّة.

الثاني : ما يكون شرطا شرعيّا لصحّة المأمور به وتحقّقه ، كالاستقبال والستر والطهارة وأمثال ذلك.

الثالث : ما يكون شرطا شرعيّا للجزء ، كالجهر والإخفات بناء على كونهما

ص: 339

شرطين للقراءة لا للصلاة في حال القراءة.

ثمَّ إنّ الشرط الشرعي للصلاة إمّا يكون شرطا لها في حال الاشتغال بها ، وأمّا يكون شرطا لها مطلقا ولو في حال السكونات المتخلّلة ، كالستر والاستقبال والطهارة الحدثيّة.

وعلى كلّ واحد من التقديرين إمّا أن يكون له محلّ شرعي ، وإمّا أن لا يكون. فالأوّل كالطهارة الحدثيّة حيث أنّها شرط شرعي للصلاة ، ولها محلّ شرعي وهو أن يكون قبل الصلاة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية (1). والثاني كالستر والاستقبال.

إذا عرفت هذه الأقسام ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل : - أي ما يكون شرطا عقليّا لتحقّق عنوان المأمور به ، كقصد الظهريّة والعصريّة والمغربيّة والعشائيّة والصبحيّة لتحقّق هذه العناوين ، أعني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح - فلا تجري فيها قاعدة التجاوز ؛ لأنّ تعنون الصلاة بهذه العناوين من الآثار العقليّة التكوينيّة لواقع قصدها ، فالتعبّد بوجود نيّة الظهر مثلا لا يترتّب عليه هذه الثمرة وهذا الأثر ، فيكون مثل هذا التعبّد لغوا. بل ولا تجري قاعدة الفراغ أيضا لو شكّ في قصد الظهريّة والعصريّة مثلا بعد الفراغ عن العمل ؛ لأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو أن يشكّ في صحّة العمل وفساده بعد إحراز عنوانه.

وأمّا فيما لم يحرز عنوانه ، كما إذا شكّ في أنّ هذا الذي صدر منه هل كان صلاة أو كان لعبا؟ فقاعدة الفراغ لا تثبت أنّه كان صلاة.

هذا كلّه في الشكّ في النيّة بمعنى قصد العنوان المقوّم لعناوين الظهريّة والعصريّة وأمثالها.

ص: 340


1- المائدة (5) : 6.

وأمّا إذا شكّ في النيّة بمعنى قصد القربة ، فتارة نقول بأنّ قصد القربة شرط شرعي مأخوذ في متعلّق الأمر ولو كان بمتمّم الجعل ، وأخرى نقول بأنّه ليس شرطا شرعيّا ، بل تكون ممّا يعتبره العقل في مقام الامتثال.

فهناك فرق بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ؛ إذ الأولى لا تجري على كلا القولين ؛ لأنّه ليس لها - أي النيّة بمعنى قصد القربة - محلّ شرعي.

نعم لا بدّ وأن يكون تمام العمل مقرونا بهذه النيّة ، أي قصد القربة وإتيان العمل بداعي محبوبيّته ومطلوبيّته لله تعالى شأنه ، فالعقل يحكم بلزوم هذا القصد من أوّل الشروع في العمل إلى إتمامه ، لا أنّ الشارع عيّن محلا لهذا النيّة.

وقد تقدّم أنّ المراد من التجاوز عن المحلّ هو التجاوز عن المحلّ الشرعي لا المحلّ العادي أو العقلي.

وأمّا قاعدة الفراغ فلا تجري لو قلنا بأنّه شرط عقلي ، فمع الشكّ فيه يكون شكّا في الامتثال ، والمفروض أنّه أمر عقلي فلا ينافي له التعبّد الشرعي. وأمّا لو قلنا بأنّه شرط شرعي لصحّة العمل فقاعدة الفراغ تجري فيها بلا كلام ؛ لأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو الشكّ في صحّة العمل بعد الفراغ عنه ، من جهة احتمال وقوع الخلل فيما اعتبر الشارع فيه ، من ترك جزء أو شرط ، أو وجود مانع.

وأمّا القسم الثاني : أي ما كان شرطا شرعيّا للمركّب المأمور به ، كالستر والاستقبال والطهارة للصّلاة مثلا.

ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون شرطا للمركّب في حال الاشتغال بالأجزاء ونفس العمل ، أو كان شرطا مطلقا ، أي حتّى في حال السكونات المتخلّلة بين الاجزاء. ففي كلا القسمين إما له محلّ شرعي أو لا؟

فإن لم يكن له محلّ شرعي فلا تجري فيه قاعدة التجاوز ؛ لما ذكرنا من أنّ موضوع هذه القاعدة هو التجاوز عن المحلّ المقرّر شرعا للشي ء المشكوك الوجود ،

ص: 341

فإذا لم يكن للشرط محلّ مقرّر شرعا فلا موضوع لهذه القاعدة.

وأمّا قاعدة الفراغ فإذا كان الشكّ بعد الفراغ عن المشروط - أي المركّب المأمور به - فتجري ؛ لأنّه شكّ في صحّة العمل المركّب الذي أوجده ، من جهة احتمال وقوع الخلل فيه من ناحية فقدان شرطه.

وأمّا إذا كان الشكّ في أثناء العمل المشروط كالصلاة مثلا ، فإن كان الجزء أو الأجزاء الماضية عملا مستقلا عند العرف - كما أنّه في أفعال الحجّ ربما يكون كذلك ، فالإحرام ، والطواف والسعي وصلاة الطواف والوقوفان كلّ واحد منها يعدّ عملا مستقلاّ عندهم ولو قلنا بأنّ الحجّ شرعا عمل واحد وعبادة واحدة ارتباطيّة كالصلاة - فتجري قاعدة الفراغ في الأثناء بالنسبة إلى ذلك الجزء المستقلّ عند العرف أيضا ؛ لتحقّق موضوعها ، وهو الفراغ عن ذلك الجزء مع الشكّ في صحّته.

وأمّا إن لم تكن الأجزاء الماضية عملا مستقلاّ عندهم ، فلا وجه لجريان قاعدة الفراغ أيضا ؛ لعدم تحقّق موضوعه.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن للشرط محلّ شرعي.

وأمّا إذا كان له محلّ شرعي كالطهارة الحدثيّة ، وكصلاة الظهر لصلاة العصر ، والمغرب لصلاة العشاء - حيث أنّ محلّ الطهارة الحدثيّة قبل الصلاة بقوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية ، ومحلّ صلاة الظهر والمغرب قبل العصر وقبل العشاء ؛ لقوله علیه السلام « إلاّ أنّ هذه قبل هذه » (1) - ففي جريان قاعدة التجاوز في الشرط المشكوك الوجود وعدمه وجهان.

وعلى تقدير الجريان ، فهل يثبت بها وجود الشرط مطلقا حتّى بالنسبة إلى مشروط آخر ، فلا تجب الطهارة حتّى بالنسبة إلى صلاة أخرى غير هذه التي بيده ما

ص: 342


1- « الكافي ج 3 ، ص 281 ، باب وقت المغرب والعشاء الآخرة ، ح 16 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 2 ، ص 260 ، ح 1037 ، باب المواقيت ، ح 74 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 95 ، أبواب المواقيت ، باب 4 ، ح 20.

لم يوجد حدث جديد. وفي مثال الظهر والمغرب إذا شكّ فيهما في أثناء العصر والعشاء فيثبت بقاعدة التجاوز وجودهما مطلقا ، فلا يجب الإتيان بهما حتّى بعد الفراغ عن العصر والعشاء ، أو لا تثبت بها تلك الشروط إلاّ من حيث شرطيّتها لتلك المذكورات ، فلا بدّ من تحصيل الطهارة للصلوات الأخر ، وإتيان الظهر والمغرب بعد الإتيان بالعصر والعشاء وإتمامهما.

وهناك احتمال آخر وهو إثبات الشرط بالنسبة إلى الأجزاء الماضية فقط ، وأمّا بالنسبة إلى الأجزاء الباقية من المركّب التي لم يأت بها بعد فيجب تحصيل الشرط إن كان ممكنا ، وإلاّ فيبطل العمل إذا كان المركّب الواجب ارتباطيّا.

فنقول : أمّا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في هذا المفروض فلا وجه للإشكال فيه ؛ لأنّه لا فرق بين الجزء المشكوك والشرط المشكوك الوجود ، فكما أنّها تجري في الجزء فكذلك تجري في الشرط ؛ لأنّ مناط الجريان فيهما واحد ، وهو أنّ صحّة العمل متوقّف على وجود الجزء أو الشرط المشكوك وجودهما بعد التجاوز عن محلّهما المقرّر لهما شرعا ، فلا تفاوت بينهما.

وأمّا بالنسبة إلى الوجهين أو الوجوه التي ذكرناها على تقدير الجريان ، ففرق بين أن نقول بأنّها أمارة أو أصل ، إذ على تقدير كونها أمارة يثبت وجود الشرط ، بناء على أنّ جعل الأمارة حجّة عبارة عن تتميم كشفها في عالم الاعتبار ، فيكون كما إذا قامت البيّنة على وجود الشرط فيترتّب عليه جميع آثار وجود الشرط واقعا ، فلا يجب عليه تحصيل الطهارة ولو للصلوات الأخر ، ولا إتيان صلاة الظهر والمغرب بعد إتمام العصر والعشاء ، كلّ ذلك من جهة إثبات الأمارة - أعني قاعدة التجاوز - وجود الشرط واقعا ، أي الطهارة لو شكّ في أثناء الصّلاة في وجودها ، وصلاة الظهر لو شكّ في وجودها في أثناء العصر ، وصلاة المغرب لو شكّ في وجودها في أثناء العشاء.

وأمّا إذا قلنا بأنّها من الأصول التنزيليّة ، إذ احتمال كونها من الأصول غير

ص: 343

التنزيليّة بعيد وسخيف جدّا ، فيكون مفادها ترتيب آثار وجود الشرط من حيث كونه شرطا لهذا العمل الذي بيده وشكّ في وجود الشرط في أثنائه ، فيجب معاملة وجود صلاة الظهر مثلا من حيث شرطيّته لصحّة صلاة العصر لا مطلقا.

وأمّا الإشكال على جريان قاعدة التجاوز بأنّ التجاوز الذي هو موضوع القاعدة لم يتحقّق بالنسبة إلى الأجزاء الباقية التي لم يأت بها بعد ، فلا أثر لجريان القاعدة في الأثناء بحيث يثبت بها صحّة العمل من ناحية احتمال فقد الشرط.

ففيه : أن ما هو الشرط لمجموع العمل وجود الظهر مثلا قبل العصر ، فبمحض دخوله في صلاة العصر تجاوز عن محلّ الشرط.

نعم ربما يؤيّد هذا الإشكال - كما نبّه عليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) - بصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه علیه السلام قال : سألته عن الرجل يكون على وضوء ثمَّ يشكّ على وضوئه هو أم لا؟ قال علیه السلام : « إذا ذكرها وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن ذكرها وقد فرغ من صلاته أجزاء ذلك » (2) فتأمّل.

وأمّا [ القسم ] الثالث (3) أي إذا كان شرطا عقليّا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة ، فتجري قاعدة التجاوز بلا إشكال ؛ لأنّ مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في وجود الجزء الذي هو الكلمة بعد التجاوز عن محلّه كما هو المفروض في المقام ؛ لأنّ المفروض أنّ الشرط شرط عقلي للجزء ، فالشكّ فيه مستلزم للشكّ في المشروط أعني الجزء.

وأمّا إذا كان شرطا شرعيّا للجزء - وهو القسم الرابع (4) من الأقسام التي ذكرناها للشروط ، وذلك كالجهر والإخفات بناء على كونهما شرطين للقراءة لا للصلاة في حال القراءة - فجريان قاعدة التجاوز فيه لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ الشرط حيث أنّه

ص: 344


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 715.
2- « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 333 ، أبواب الوضوء ، باب 44 ، ح 2.
3- لم يذكر هذا القسم ، في الصفحة 339.
4- هذا هو القسم الثالث من الأقسام في الصفحة 339.

ليس له وجود مستقلّ فلا يقال إنّه قد تجاوز عنه. وأمّا نفس المشروط فلا شكّ في وجوده حتّى تجري فيه قاعدة التجاوز ؛ لأنّه موجود قطعا.

ولكن الأظهر جريان قاعدة التجاوز في الشرط والمشروط ، أمّا في الشرط المشكوك الوجود فلأنّ الجهر وكذلك الإخفات شي ء شكّ في وجوده بعد التجاوز عن محلّه ، وعدم كونه جوهرا ومستقلّ الوجود لا ينافي مع كونه شيئا كما هو واضح وأمّا في المشروط فلأنّ المشروط بوصف كونه صحيحا مشكوك الوجود ، فلا فرق بين الشرط العقلي وبين الشرط الشرعي لما هو جزء.

المبحث الثامن

في أنّه يعتبر في جريان قاعدتي التجاوز والفراغ أن يكون المكلّف محرزا - بإحراز وجداني أو تعبّدي - جميع أجزاء المركّب المأمور به ، وشرائطه وموانعه ، وأنّ متعلّق التكليف عبارة عن المركّب من هذه الأمور ، وإنّما الشكّ يكون بعد العمل وفي مقام انطباق المأتي به ، على ما هو المأمور به ، فلا يتحقّق مثل هذا الشكّ إلاّ بعد العمل ؛ لأنّه لا بدّ وأن يكون عمل في البين كي تشكّ في أنّه مطابق مع المأمور به أم لا؟ فمركز الشكّ في هاتين القاعدتين هو انطباق العمل المأتي به على المأمور به.

وأمّا إذا كان شكّه في صحّة العمل من جهة احتمال اعتبار شي ء في العمل - شرطا أو جزء ، أو احتمال اعتبار عدمه كي يكون مانعا - فهذا غير مربوط بالقاعدتين ، بل لا بدّ من المراجعة إلى الأمارات ، وعند فقدها إلى الأصول العمليّة لعلاج هذا الشكّ ، ولا ربط له بمفاد القاعدتين.

وبعبارة أخرى : هاتان القاعدتان من الأصول المستعملة في مقام الامتثال وإسقاط التكليف ، لا في مقام إثبات التكليف ، فلا بدّ في جريان القاعدتين من صدور عمل عن المكلّف والشكّ في مطابقته لما هو المأمور به. فإن كان حصول هذا الشكّ في

ص: 345

أثناء العمل فهذا يكون مورد قاعدة التجاوز ، وإن كان بعد الفراغ عن العمل فيكون مورد قاعدة الفراغ.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنذكر صورا من فروع هذه المسألة لكي ترى هل أنّها من موارد الشكّ في الانطباق حتّى يكون من موارد القاعدتين ، أم لا فلا؟

الصورة الأولى : أن يشكّ مع التفاته حين العمل إلى الأجزاء والشرائط والموانع في صحّة العمل وفساده بواسطة احتمال طروّ غفلة أو سهو أو نسيان ، فإن كان هذا الشكّ حصل له في أثناء العمل بعد التجاوز عن المحلّ المقرّر شرعا عن جزء المشكوك الوجود ، أو عن الشرط المشكوك الوجود فيكون مجرى قاعدة التجاوز. وإن كان حصول هذا الشكّ بعد الفراغ عن العمل يكون مجرى قاعدة الفراغ.

ويمكن أيضا جريان قاعدة التجاوز في بعض الصور ، بناء على ما هو الصحيح من عدم اشتراط اتّصال زمان حصول الشكّ بزمان ذلك الجزء المشكوك الوجود ، أو ذلك الشرط المشكوك.

وهذه الصورة هو القدر المتيقّن من صور جريان قاعدة التجاوز والفراغ ؛ لاجتماع شرائط جريانهما فيها.

الصورة الثانية : هي عين هذه الصورة ولكن فيما إذا كان احتمال تركه للجزء أو الشرط عن عمد واختيار لا عن غفلة ونسيان ، والظاهر عدم جريان القاعدتين في هذه الصورة ؛ لأنّه لو كان المدرك لهما بناء العقلاء فليس لهم في مثل هذا المورد بناء على وجود الجزء أو الشرط المشكوك الوجود ، إذ منشأ بنائهم على ذلك أصالة عدم الغفلة والسهو والنسيان ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم. ففي مورد احتمال الترك عن عمد لا مورد لهذه الأصول العدميّة العقلائيّة.

وكذلك الأمر لو كان المدرك لهما الأخبار ؛ لأنّه ليس مفاد الأخبار حكما تعبديا صرفا في ظرف الشكّ في وجود جزء أو شرط ، بل باعتبار أنّ المكلّف إذا أراد إتيان

ص: 346

عبادة مركّبة من أجزاء وشرائط ، يكون ما يأتي به على طبق ما أراد ، وألقى الشارع احتمال الغفلة والسهو والنسيان لا احتمال الترك عمدا.

ويدلّ على ما ذكرنا تعليقه علیه السلام للمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في بعض الأخبار بقوله علیه السلام : « هو حين ما يتوضّأ أذكر » (1) وظهور هذا التعليل في كون منشأ الترك هي الغفلة أو السهو والنسيان لا العمد ممّا لا ينكر ؛ لأنّ الترك العمدي لا ينافي مع كونه حين الوضوء أذكر.

نعم الترك عن غفلة أو عن سهو ونسيان بعيد ؛ مع كونه ذلك الوقت أذكر ؛ ولذلك قالوا : من شرائط جريان القاعدتين أن لا يكون احتمال الترك عن عمد ، فليس لروايات الباب إطلاق تشمل صورة كون احتمال الترك عن عمد.

الصورة الثالثة : أن لا يكون ملتفتا إلى الأجزاء والشرائط حال الاشتغال بالمركّب المأمور به ، بمعنى أنّه لا معرفة له بتمام أجزاء المركّب وجميع شرائطه وموانعه ، مثلا حال الاشتغال بالعمل لم يعلم أنّ هذا المشكوك الوجود - جزء كان أو شرطا - جزء أو شرط ، سواء أكان جهله من ناحية الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة.

فالأوّل مثل أنّه لم يعلم أنّ السورة جزء للصلاة. والثاني مثل أنّه يعلم أنّ الاستقبال شرط للصلاة ، ولكن لم يعلم أنّ هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة أم لا؟ وبعد حصول الشكّ يعلم بصورة العمل الذي صدر منه ، ويحتمل أن تكون الجهة التي صلّى إليها قبلة من باب الاتّفاق.

والظاهر عدم جريان القاعدة في هذه الصورة أيضا ؛ لأنّ مطابقته للواقع لو كانت فهي من باب الاتّفاق ، فلا تشملها الأخبار ولا بناء العقلاء ؛ لما ذكرنا في الصورة السابقة من بناء العقلاء باعتبار أنّ المكلّف إذا أراد أن يأتي بالمأمور به يكون المأتي به

ص: 347


1- « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 101 ، ح 265 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنّة ، ح 114 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 331 ، أبواب الوضوء ، باب 42 ، ح 7.

طبق المأمور به ، واحتمال السهو والغفلة ملقى عند العقلاء ، وأخبار الباب أيضا ناظرة إلى هذا المعنى.

وهذا فيما إذا كان عالما بالأجزاء والشرائط حال العمل ، حتّى يكون عدم مطابقة المأتي به مع المأمور به مستندا إلى الغفلة أو السهو والنسيان ، ولم تكن له شبهة حكميّة ولا موضوعيّة. وأمّا فيما لم يكن كذلك ، وكانت له شبهة حكميّة أو موضوعيّة - واحتمال مطابقة المأتي به مع المأمور به كان بصرف الاتّفاق - فغير مربوط بمفاد كلتا القاعدتين.

الصورة الرابعة : أنّ يشكّ في الصحّة بعد العمل ، أو في أثنائه ولكن بعد التجاوز عن محلّ المشكوك شرعا ، وكان هذا الشكّ له قبل أن يدخل في العمل أيضا ولكن كان له الدخول في العمل شرعا مع وجود هذا الشكّ. وذلك كما إذا كان شاكّا في بقاء طهارته من الحدث ، فلا محالة يكون شاكّا في صحّة الصلاة التي يريد أن يدخل فيها بتلك الحالة ؛ لأنّ الطهارة الواقعيّة شرط للصلاة لا إحراز الطهارة ، فالشكّ فيها ملازم مع الشكّ في صحّة الصلاة ، ولكن مع ذلك يجوز له الدخول فيها بواسطة استصحاب الطهارة ، وبعد الصلاة في الفرض إذا زال الاستصحاب وانقلب إلى الشكّ الساري لزوال اليقين السابق في الظرف الذي كان موجودا ، فالآن ليس استصحاب في البين حتّى نقول بأنّ الشرط موجود تعبدا.

فهل يمكن في هذه الصورة تصحيح العمل بقاعدة الفراغ أم لا؟

والظاهر عدم جريان قاعدة الفراغ في هذه الصورة أيضا ؛ لأنّ الشكّ ليس متمحّضا في انطباق المأتي به على المأمور به ؛ لأنّ الاستصحاب الذي كان محرز للشرط لم يبق وزال ، بل تبيّن بعد العمل أنّ وجود الاستصحاب كان وجودا خياليّا لا واقعيّة له ، فكأنّه صلّى بدون إحراز شرطه.

ولا شكّ في أنّ الصلاة بدون إحراز شرطها ومع الشكّ فيه باطلة ، فلا يبقى مجال

ص: 348

لجريان قاعدة الفراغ ، لما قلنا أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز موردهما هو الشكّ في صحّة العمل من جهة وجود خلل في المأتي به غفلة أو سهوا أو نسيانا ، وما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، لأنّ المصلّي في المفروض لم يغفل ولم يسه عن جزء أو شرط ، بل دخل في الصلاة باستصحاب زائل لا ثبات له ، بل ربما يكون دخوله بشهادة رجلين يتخيّل عدالتهما ثمَّ يتبيّن فسقهما حال الشهادة ، فيكون الدخول مستندا إلى تخيّل البيّنة ، لا البيّنة الواقعيّة.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في الصورة الخامسة ، وهي عيّن الصورة السابقة باستثناء جواز الدخول فيه - أي في المركّب المأمور به - فالمفروض في هذه الصورة عدم جواز الدخول ، بخلاف الصورة السابقة. مثلا لو شكّ قبل الصلاة في أنّه محدث ولم يكن استصحاب الطهارة في البين ، فلا يجوز له أن يدخل في الصلاة ؛ للزوم إحراز الشرط ، أي الطهارة ، فلو غفل وصلّى فلا شكّ في أنّه بعد الصلاة يشكّ في صحّة عمله ، فتارة يحتمل أنّه بعد ما شكّ في الحدث توضّأ مثلا ، وأخرى لا يحتمل.

أما في الصورة الأولى فلا شكّ في شمول القاعدتين ؛ لأنّ حال الشكّ في الحدث ليس بأعظم من القطع بالحدث ، ومع القطع بالحدث لو غفل ودخل في الصلاة ولكن بعد الصلاة يحتمل أنّه توضّأ بعد ذلك القطع فتشمل القاعدتان مثل هذا المورد ، ففي مورد الشكّ يكون شمولهما له بطريق أولي.

وأمّا إذا لا يحتمل الوضوء بعد ذلك القطع ، فالظاهر عدم شمول القاعدة له ؛ لما ذكرنا من أنّ قاعدة التجاوز والفراغ مفادهما إلقاء احتمال ترك جزء أو شرط ، غفلة أو سهوا أو نسيانا.

وفيما نحن فيه المفروض أنّه دخل في الصلاة غفلة عن كونه شاكّا في كونه محدثا ، وإلاّ لو لم يكن غافلا لما كان يجوز له أن يدخل في الصلاة ، فمع فرض دخوله فيها غفلة عن كونه شاكّا في وجود الشرط كيف يمكن أن يقال بأنّ مقتضى قاعدة الفراغ أو

ص: 349

التجاوز عدم غفلته عن إيجاد الشرط وأنّه لم يترك.

والحاصل : أنّ صور هذه المسألة كثيرة.

والضابط في جريان القاعدتين وعدم جريانهما هو أنّه لو كان حدوث الشكّ بعد العمل ، أو في الأثناء بعد التجاوز عن المحلّ المقرّر للمشكوك ، وكان الشكّ متمحّضا في انطباق المأتي به مع المأمور به ، ولم يكن هذا الشكّ مسبوقا بالشكّ في صحّة المركّب المأمور به قبل أن يشرع في العمل لاحتمال فقد شرط أو وجود مانع ، فحينئذ يكون مورد جريان القاعدة.

مثلا لو احتمل أن يكون جنبا ، ثمَّ غفل ودخل في الصلاة ، أو دخل باستصحاب عدم الحدث ثمَّ زال الاستصحاب ، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ بعد العمل ، أو التجاوز في أثنائه بعد التجاوز عن المحلّ المقرّر شرعا للمشكوك ؛ لأنّ الشكّ في صحّة العمل بعده مسبوق بالشكّ فيها قبله ، فيجب على الفقيه مراعاة هذا الضابط في مقام إجراء هاتين القاعدتين.

المبحث التاسع : في وجه عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء بل في الغسل والتيمم أيضا

فنقول : أمّا بناء على مسلك شيخنا الأستاذ قدس سره علیه السلام من اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة فقط ، (1) فلا إشكال في البين حتّى يحتاج إلى بيان الوجه.

وأمّا بناء على ما ذكرنا من وحدة الكبرى المجعولة في القاعدتين ، وأنّ عموم

ص: 350


1- « فوائد الأصول » ج 4 ، ص 626.

« الشي ء » في قوله علیه السلام « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » في موثّقة ابن أبي يعفور (1) وأمثاله في سائر الروايات يشمل الشكّ في الجزء والكلّ بلا عناية أمر آخر ، فلا بدّ حينئذ من التماس وجه ودليل لتخصيص قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء ، حيث أنّ بناءهم على عدم إجراء قاعدة التجاوز ، بل ربما يلحقون به التيمّم بل الغسل أيضا.

فنقول : أمّا بالنسبة إلى الوضوء فمضافا إلى الإجماع على عدم جريان القاعدة صحيحة زرارة « إذا كنت قاعدا في وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله ممّا سمّى اللّه تعالى ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وصرت في حالة أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى اللّه تعالى ممّا أوجب اللّه عليك لا شي ء عليك » (2). فإنّها صريحة في عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء وجريان قاعدة الفراغ فيه. وقد ألحقوا به الغسل والتيمم.

وإلحاق التيمّم بالوضوء يمكن أن يوجّه بأنّ البدل بحسب المتفاهم العرفي في حكم المبدل عنه ، وإن كان لا يخلو عن إشكال.

وأمّا إلحاق الغسل فلا وجه له أصلا. اللّهمّ إلاّ أن يدّعي الإجماع على الإلحاق ، أو على عدم جريان قاعدة التجاوز ابتداء فيه من دون كونه بعنوان الإلحاق ، وعلى كلّ حال ثبوت هذا الحكم - أي عدم جريان قاعدة التجاوز فيه - في غاية الإشكال ، بل وفي التيمم أيضا مشكل.

وأمّا ما أورده شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في هذا المقام وجها لعدم جريان القاعدة في الوضوء بأنّه عمل واحد أثره ، وبهذا الاعتبار ليس له أجزاء بحيث يكون

ص: 351


1- تقدّم ذكره في ص 327 ، رقم (2).
2- « الكافي » ج 3 ، ص 33 ، باب الجبائر والقروح والجراحات ، ح 2 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 1 ، ص 100 ، ح 261 ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنّة ، ح 110 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 330 ، أبواب الوضوء ، باب 2 ، ح 1.

كلّ واحد من تلك الأجزاء مصداقا لمفهوم « الشي ء » حتّى يشمله عموم « إنّما الشكّ في شي ء لم تجزه » (1) ، قد تقدّم جوابه ، من إمكان أن يكون الجامع بين الكلّ والجزء هو المراد من لفظ « الشي ء » في أخبار الباب ، ووحدة الأثر وبساطته لا يوجب بساطة السبب المؤثر.

كيف وكثير من العبادات المركّبة ذات الأجزاء ، آثارها لها وحدة وبساطة ومع ذلك لها أجزاء ، وكلّ جزء من أجزائها يطلق عليه « الشي ء » ، والوضوء أيضا كذلك له أجزاء متميّزة بعضها عن بعض ، فغسل الوجه غير غسل اليدين ، وهما غير مسح الرأس والرجلين وإن كان أثر جميع تلك الأجزاء المسمّاة بالوضوء أمر واحد بسيط ، وهي النورانيّة النفسانيّة ، وقد أشار إلى ذلك بقوله علیه السلام « الوضوء نور ، والوضوء على الوضوء نور على نور » (2).

هذا ، مضافا إلى ما في رواية ابن أبي يعفور قوله علیه السلام : « إذا شككت في شي ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ء » (3).

ولا شكّ في أنّ المراد من قوله علیه السلام : « في شي ء من الوضوء » أي في جزء من أجزاء الوضوء ، ففرض علیه السلام أجزاء للوضوء. وإذ كان المرجع في ضمير « غيره » في كلمة « وقد دخلت في غيره » هو « الشي ء » في كلمة « شي ء من الوضوء » فهذا يدلّ على أنّ الشارع فرض الوضوء ذا أجزاء وجعل الشكّ في كلّ جزء من تلك الأجزاء - بعد الدخول في غير ذلك الجزء - ملغى لا يعتنى به ، فيكون مفادها اعتبار قاعدة التجاوز في الوضوء أيضا ، فيكون معارضا لصحيحة زرارة المتقدّمة النافية لاعتبار قاعدة التجاوز في الوضوء بخلاف قاعدة الفراغ ، حيث أنّها تدلّ على الوضوء

ص: 352


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 713.
2- « الفقيه » ج 1 ، ص 41 ، باب صفة وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ح 82 ؛ « وسائل الشيعة » ج 1 ، ص 265 ، أبواب الوضوء ، باب 8 ، ح 8.
3- تقدّم تخريجه في ص 327 ، رقم (2).

حجّيتها فيه ، أي في الوضوء.

وأمّا إن قلنا بأنّ مرجع الضمير هو كلمة « الوضوء » لا كلمة « شي ء » فحينئذ وإن كانت لا تدلّ على حجيّة قاعدة التجاوز ويرتفع التعارض ، لكن تدلّ على كلّ حال على أنّ الوضوء ليس أمرا بسيطا ، بل الشكّ في كلّ جزء من أجزائه لا يعتنى به ، إمّا بعد الدخول في غير ذلك الجزء ، أو في غير الوضوء.

فكلام شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره من أنّ الوضوء باعتبار وحدة أثره وبساطة ذلك الأثر أمر واحد بسيط لا جزء له (1) لا يخلو عن غرابة.

المبحث العاشر

في أنّ المضي وعدم الاعتناء بالشكّ في القاعدتين هل على نحو العزيمة - بمعنى أنّه لا يجوز الاعتناء بالشكّ وإتيان المشكوك ثانيا - أو لا ، بل على نحو الرخصة؟ بمعنى أنّه يجوز أن تمضي ولا تعتني بالشك ، ويجوز أيضا أن تأتي بالمشكوك بعنوان الاحتياط ورجاء ادراك الواقع.

قال أستاذنا المحقّق قدس سره في هذا المقام : الظاهر أنّ حكم الشارع في مورد قاعدة التجاوز بالمضي على نحو العزيمة ؛ لأنّه بعد حكم الشارع بوجوب المضي وعدم الاعتناء بالشكّ وإلغائه لا يجوز إتيان الجزء أو الشرط المشكوك فيه ولو رجاء ، لأنّه لا موضوع له مع هذا الحكم بوجوده ، فيكون الإتيان به حينئذ من الزيادة العمديّة.

أقول : قد عرفت فيما تقدّم أنّ الاحتياط وإتيان المحتمل الآخر غير ما قام عليه الحجّة لا ينافي مع الحجّة حتّى الأمارات فضلا عن الأصول ؛ لأنّ معنى حجيّة الأمارة أو الأصل لزوم الإتيان بمؤدّاهما ، لا عدم الإتيان بالمحتمل الأخر.

ص: 353


1- « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 713.

وأمّا قوله « مع الحكم بوجوب المشكوك والأمر بالبناء عليه لا موضوع للاحتياط » ففيه : أنّ موضوع وجوب الاحتياط أو جوازه هو احتمال التكليف وفيما نحن فيه احتمال عدم وجود المشكوك ، وهذا أمر وجداني لا يرتفع باعتبار قاعدة التجاوز وحكمه بالمضي وعدم الاعتناء بالشك.

وأمّا قوله « يلزم من الاحتياط الزيادة العمديّة » ففيه أولا : إن كان المراد من الزيادة العمديّة احتمال الزيادة ، فهذا الاحتمال موجود في الشكّ في المحل ؛ لأنّ التجاوز عن المحلّ قلنا إنّه لا يرفع الاحتمال.

ان قلت : إنّ الشكّ في المحلّ والشكّ بعد التجاوز عن المحلّ فرق بينهما ، بأنّ الأوّل محكوم شرعا بالاعتناء وبإتيان المشكوك ، والثاني بإلغاء احتمال عدم الإتيان بالمشكوك ؛ فقياس أحدهما بالآخر لا وجه له.

قلنا : لا فرق بينهما في ما هو محلّ الكلام وهو أنّه في كليهما احتمال الزيادة موجود ، فلو كان احتمال الزيادة مضرّا لا بدّ وأن يكون مضرّا في كلا الموردين. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أدلّة لزوم الإتيان بالمشكوك في الشكّ في المحلّ ، لها حكومة على أدلّة مبطليّة الزيادة العمديّة في الصلاة ، بمعنى أنّ الشارع حكم بأنّ الزيادة الاحتمالية في مورد الشكّ في المحلّ ليست بزيادة ، كما أنّه قال : إنّ شكّ كثير الشكّ ليس بشكّ. وأنّى لهم بإثبات ذلك.

وثانيا : بناء على المختار ليست قاعدة التجاوز مخصوصة بالصلاة ، والزيادة العمديّة مبطلة في خصوص الصلاة ، فهذا الدليل أخص من المدعى.

وثالثا : يمكن الاحتياط بإعادة الصلاة ، لا بإعادة الجزء فقط كي يلزم الزيادة العمديّة.

فالحقّ في المقام أنّ حال قاعدة التجاوز حال سائر الحجج الشرعيّة من الأمارات والأصول ، وليس في موردها في الاحتياط برجاء إدراك الواقع محذور. هذا

ص: 354

تمام الكلام في قاعدتي الفراغ والتجاوز.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.

ص: 355

ص: 356

13 - قاعدة الإعانة على الإثم والعدوان

اشارة

ص: 357

ص: 358

قاعدة الإعانة على الإثم والعدوان (1)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة التي يتمسّك بها الفقهاء في مقام الإقتاء في جملة من الفروع الفقهيّة ، ويطبقونها على المسائل الفرعيّة « قاعدة الإعانة على الإثم ». وتوضيح الحال يقتضي التكلّم فيها عن جهات ثلاث :

[ الجهة ] الأولى : في بيان مدركها ومستندها

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى في سورة المائدة في ضمن الآية الثالثة ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (2) ودلالة الجملة الثانية المشتملة على النهي عن التعاون على الإثم والعدوان على حرمة الإعانة على الإثم واضحة ، كما أنّ الجملة الأولى أيضا ظاهرة في وجوب التعاون على البرّ والتقوى.

ولكن حيث نعلم من الخارج عدم وجوب مطلق التعاون على البرّ والتقوى ، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور والحمل على الاستحباب كما هو الظاهر ، أو الحمل على بعض الموارد التي يكون التعاون واجبا ، كإنقاذ غريق ، أو حريق وأمثال ذلك ممّا

ص: 359


1- (*) « عوائد الأيّام » ص 26 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 133 ؛ « القواعد الفقهيّة » ( فاضل اللنكراني ) ج 1. ص 423.
2- المائدة (5) : 2.

يكون التعاون لأجل حفظ نفس محترمة مثلا. لكن لا مانع من الأخذ بظهور المجلة الثانية ، بل هو المشهور المعروف ، فلا بدّ من الأخذ به والعمل على طبقه بمقتضى أصالة الظهور.

وأمّا حديث وحدة السياق ولزوم حمل النهي على الكراهة لا الحرمة من تلك الجهة.

ففيه أوّلا : أن وحدة السياق فيما إذا كانت كلّ واحدة من الجملتين مشتملة على الأمر أو النهي ، مثل أن يقول : « اغتسل للجمعة والجنابة » أو يقول مثلا : « لا تشرب الماء قائما ولا تبل في الماء ». وأمّا في مثل المقام ممّا يكون إحدى الجملتين مشتملة على الأمر والأخرى على النهي - أي تكون إحديهما مفادها البعث على إيجاد شي ء ، والأخرى الزجر عن إيجاد شي ء آخر - فلا يكون موردا للأخذ بوحدة السياق.

وثانيا : أنّ الجملتين ها هنا كلّ واحدة منها مستقلّة وفي مقام بيان أمر غير ما هو مفاد الأخرى ، وبعبارة أخرى : في كلّ واحدة منهما بصدد بيان مطلب لا ربط له بالمطلب الآخر الذي هو مفاد الجملة الأخرى ، وصرف تتابع الجملتين في الذكر لا يدلّ على أنّ سياقهما واحد.

نعم في مثل حديث الرفع (1) حيث أنّه صلی اللّه علیه و آله بصدد بيان رفع الأشياء التي في رفعها امتنان عن هذه الأمّة كرامة له صلی اللّه علیه و آله ، فالمرفوع وإن كان متعدّدا ولكن المسند في جميعها هو الرفع الامتناني ، وهو معنى واحد. ولذلك قالوا بلزوم أن يكون المرفوع في الجميع إمّا هو الحكم وإمّا يكون هو الموضوع ، لا أن يكون في بعضها الحكم وفي بعض الآخر هو الموضوع ؛ لوحدة السياق.

وربما يستشكل في دلالة الآية على حرمة الإعانة على الإثم بأنّ النهي في الآية

ص: 360


1- « التوحيد » ص 353 ، ح 24 ؛ « الخصال » ص 417 ، ح 9 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 295 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، باب 56 ، ح 1.

تعلّق بعنوان التعاون لا المعاونة والإعانة ، والتعاون لا بدّ وأن تكون المعاونة من الطرفين ، ففيما إذا كان صدور فعل بإعانة كلّ واحد منهما للآخر - أي كانا شريكين في إيجاد ذلك الفعل - يصدق التعاون ، وإلاّ لو كانت الإعانة من طرف واحد بحيث يكون أحدهما عونا للفاعل المباشر بواسطة إيجاد بعض مقدمات فعله ، فهذه إعانة لا تعاون ؛ لأنّ هيئة باب التفاعل موضوعة لاشتراك الشخصين في جهة صدور الفعل عنهما.

فالتعاون عبارة عن كون كلّ واحد منهما عونا للآخر ، والإعانة عبارة عن كون شخص عونا لشخص آخر في فعله. وما هو مفاد القاعدة ومضمونها هو الثاني ، ومفاد الآية هو الأوّل.

ولكن أنت خبير بأنّ أمره تبارك وتعالى بالتعاون على البرّ والتقوى ، وكذلك نهيه عن التعاون على الإثم والعدوان ليس باعتبار فعل واحد وقضية واحدة وفي واقعة واحدة ، بل الخطاب إلى عموم المؤمنين والمسلمين بأن يكون كلّ واحد منهم عونا للآخر في البرّ والتقوى ، ولا يكون عونا لأحد في الإثم والعدوان.

وبعبارة أخرى : إطلاق لفظ « التعاون » باعتبار مجموع القضايا ، لا باعتبار قضية واحدة وفعل واحد ، فلو كان مثلا زيد عونا لعمرو في الفعل الفلاني وكان عمرو عونا لزيد في فعل آخر يصدق أنّهما تعاونا ، أي أعان كلّ واحد منهما الآخر. ولو كان إعانة كلّ واحد منهما لصاحبه في فعل يصدر من نفس ذلك الصاحب ، فيكون المأمور به في الآية الشريفة إعانة كلّ مسلم لكلّ مسلم في ما يصدر منه من فعل الخير والبرّ والتقوى ، بمعنى مساعدته في ذلك الفعل ولو كان بإيجاد بعض مقدّماته القريبة أو البعيدة. والمنهي عنه إعانة كلّ شخص في فعله الذي هو إثم ، أي معصية للخالق أو عدوان وظلم على الغير ، وهذا عين مفاد القاعدة.

فالإنصاف أنّه لا قصور في دلالة الآية المباركة على هذه القاعدة.

ص: 361

وأمّا المراد بالبرّ والتقوى هي الأفعال الحسنة التي تصدر من المسلمين ، سواء أكانت واجبة عليهم كالحجّ مثلا ، أو مستحبّة كبناء المساجد ، وطبع الكتب الدينيّة ونشرها ، إلى غير ذلك ممّا ندب الشرع إليها. كما أنّ المراد بالإثم هي المنهيّات والمعاصي ، صغيرة كانت أو كبيرة. وقد روى الطبري عن ابن عبّاس هذا المعنى في تفسير الآية المباركة (1).

وأمّا عطف « العدوان » على « الإثم » فمن قبيل عطف الخاص على العام ؛ لأنّ العدوان - أي التعدّي والظلم - أيضا من مصاديق الإثم.

ثمَّ إنّ المفسّرين ذكروا في شأن نزول الآية الشريفة قصّة وحكاية ، ولكن أنت خبير بأنّ خصوصيّة المورد لا يضرّ بحجيّة عموم مفاد الآية ؛ وذلك من جهة أنّ العمومات الواردة في الكتاب الكريم في مورد خاصّ يكون من قبيل الكبرى الكلية التي تنطبق على المورد ، ويكون المورد إحدى صغرياتها.

الثاني : الأخبار الواردة في الموارد الخاصّة التي تدلّ على حرمة الإعانة على الإثم.

منها : قوله صلی اللّه علیه و آله « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة اللّه » (2).

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث على حرمة الإعانة على الإثم أنّه لا شكّ في أنّ قتل المسلم إثم ، وقد أوعد في الحديث العقاب واليأس من رحمة اللّه بالنسبة إلى الذي أعان على هذا الإثم العظيم والجريمة الكبيرة ، ويستكشف من هذا الإيعاد حرمته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الإعانة على قتل المسلم هي بنفسها إثم وحرام لا من جهة كونها إعانة على الإثم ، وإن كان الظاهر من الحديث هو المنع عن الإعانة على

ص: 362


1- « جامع البيان في تفسير القرآن » ج 6 ، ص 44.
2- « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 333 ، ح 48.

قتل المسلم لكونها إعانة على ذلك الإثم العظيم ، لا لكونه إثم مستقلّ في قبال قتل النفس المحترمة.

منها : ما في الكافي عن أبي عبد اللّه علیه السلام حكاية قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه » (1).

والمستفاد من ظاهر هذا الحديث مفروغية حرمة الإعانة على النفس وأنّها موجبة لاستحقاق العقاب ، وأخبر أنّ أكل الطين من مصاديقها كي يرتدع منه خوفا من العقاب.

وإن كان من المحتمل أن يكون صلی اللّه علیه و آله بصدد إرشاد من يأكل الطين ، وأنّ العاقل لا يرتكب أمرا يكون موجبا لهلاك نفسه. لكن هذا الاحتمال ضعيف ، والظاهر هو الأوّل.

منها : الأخبار الواردة في حرمة معونة الظالمين في ظلمهم ، وهي كثيرة ولها باب مخصوص في كتاب الوسائل (2) والمستدرك (3) ، وإن شئت راجع إليهما.

منها : ما ورد في حرمة إجارة داره لأن يباع فيها الخمر ، كخبر جابر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يواجر بيته فيبتاع فيه الخمر ، قال علیه السلام : « حرام أجرته » (4).

منها : ما رواه الكليني بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الخمر عشرة غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ،

ص: 363


1- « الكافي » ج 6 ، ص 266 ، باب أكل الطين ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 9 ، ص 89 ، ح 376 ، باب الذبائح والأطعمة ، ح 111 ؛ « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 393 ، أبواب الأطعمة والأشربة ، باب 58 ، ح 7.
2- « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 127 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 42.
3- « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 122 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 35.
4- « الكافي » ج 5 ، ص 227 ، باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ ، ح 8 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 134 ، ح 593 ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح 64 ؛ وج 6 ، ص 371 ، ح 1077 ، باب المكاسب ، ح 198 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 55 ، ح 179 ، باب كراهيّة إجارة البيت لمن يبيع فيه الخمر ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 125 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 39 ، ح 1.

وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها » (1).

فما عدا الشارب من هذه العشرة حرمتها من جهة كونها إعانة على الإثم. نعم أكل ثمنها من جهة بطلان بيعها لإلغاء الشارع ماليّتها.

والأخبار الخاصّة بمعنى النهي عن مصاديق الإعانة على الإثم كثيرة ، وفي بعضها يكون متعلّق النهي مفهوم الإعانة لكن في مورد خاصّ.

والإنصاف أنّ الفقيه يستظهر من مجموع هذه الأخبار المتفرّقة في الأبواب المختلفة حرمة الإعانة على الإثم ، خصوصا في المعاصي الكبيرة.

الثالث : حكم العقل بقبح المساعدة على إتيان ما هو مبغوض المولى وما هو فيه المفسدة ، فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم ، فضلا من أن يكون هيّأ له المقدّمات أو بعضها.

نعم المقدّمات البعيدة - كبعض معدّات وجود الشي ء الذي يحتاج إلى وجود مقدّمات كثيرة بعده ، حتّى تصل النوبة إلى صدور الفعل بإرادته واختياره - مع عدم قصد ترتّب صدور الحرام عليه لا يحكم العقل بقبحه ، فلا بدّ وأن يحمل لعنه صلی اللّه علیه و آله غارسها مع أنّه من المقدّمات البعيدة على أن يكون الغرس بهذا القصد والنيّة ، إذ من الواضح المعلوم أنّ إيجاد مقدّمة من مقدّمات فعل الحرام الصادر من الغير إن كان بقصد ترتّب ذلك الحرام عليها يكون إعانة على ذلك الإثم وإن كان من المقدّمات البعيدة.

وأمّا إن لم يكن بذلك القصد ، أو قصد العدم ولكن ترتّب عليه فلا يعدّ عند العرف إعانة ، فلا يكون زواج الأب من أمّ الولد العاصي إعانة على الإثم ، مع أنّه قطعا من معدّات صدور المعصية عن ذلك الولد ، غاية الأمر من المعدّات البعيدة. وفي نفس

ص: 364


1- « الكافي » ج 6 ، ص 429 ، باب النوادر ( من كتاب الأشربة ) ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 165 ، أبواب ما يكتسب به ، باب 55 ، ح 4.

المثال لو تزوّج بقصد أنّه يولد له ولد يبيع الخمر ، أو يكون عشارا مثلا ، يكون تزويجه إعانة على الإثم وإن كان من المقدّمات البعيدة.

وأمّا المقدّمات القريبة فيمكن أن يعدّ إعانة عرفا ولو لم يكن بقصد ترتّب ذلك ، وسيأتي تحقيقه في بيان الجهة الثانية إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل : أنّه لا شكّ في أنّه كما أنّ العقل مستقلّ بقبح مخالفة المولى وإتيان ما هو المبغوض عنده ، كذلك مستقلّ في الحكم بقبح المساعدة على إتيان الغير ذلك المبغوض للمولى وما فيه المفسدة.

الرابع : الإجماع واتّفاق الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين على حرمة الإعانة على الإثم ، فإنّهم يعلّلون حرمة بعض الأفعال بأنّه إعانة على الإثم ويرسلونه إرسال المسلّمات ، وكأنّها أمر مفروغ عنه عندهم.

ولكن ذكرنا مرارا أنّ مثل هذا الاتّفاق الذي له مدارك عقليّة وكذلك النقليّة من الآيات والروايات ليس من الإجماع الذي بنينا في الأصول على حجيّته.

الجهة الثانية : في أنّه ما المراد من هذه القاعدة أي حرمة الإعانة على الإثم

فنقول : أمّا الإثم فمعناه معلوم ، إذ المراد به مخالفة التكليف الإلزامي ، أي ترك ما هو الواجب ، أو فعل ما هو الحرام. وبعبارة أخرى : الإثم هو العصيان.

وأمّا الإعانة فهي لغة بمعنى المساعدة ، وأعانه على ذلك ، أي ساعده عليه ، والمعين والمعاون للإنسان هو المساعد له في فعله وإشغاله. وقوله علیه السلام : « عون الضعيف من أفضل الصدقة » (1) أي مساعدته في أفعاله وفي أمور معيشته أو إشغاله.

ص: 365


1- « الكافي » ج 5 ، ص 55 ، باب ( من كتاب الجهاد ) ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 11 ، ص 108 ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب 59 ، ح 2.

فالمراد من الإعانة على الإثم مساعدة الآثم في الإثم الذي يصدر منه ، وذلك بإيجاد جميع مقدّمات الحرام الذي يرتكبه أو بعضها لا كلام في ذلك.

إنّما الكلام في أنّه هل يحتاج في صدق الإعانة قصد ترتّب الحرام الذي يرتكبه الآثم على هذه المقدّمة أم لا؟ ومضافا قصد ترتّب الحرام هل يحتاج إلى وقوع الحرام بمعنى أنّه لو قصد بإيجاد هذه المقدّمة من مقدّمات الحرام الصادر عن الغير ترتّب ذلك الحرام عليهما ، فهل يحتاج في صدق الإعانة على هذا الإيجاد وقوع ذلك الحرام أيضا في الخارج أم لا ، بل صرف إيجاده تلك المقدّمة بقصد ترتّب ذلك الحرام يكفي في صدق الإعانة ، سواء وقع الإثم أم لم يقع؟ وجوه بل أقوال :

فقد يقال : بلزوم كلا الأمرين في صدق الإعانة على إيجاد تلك المقدّمة.

وقد يقال بعدم لزوم كلا الأمرين بل بمحض إيجاد تلك المقدّمة يصدق عليه الإعانة ، قصد ترتّب ذلك الحرام أو لم يقصد ، وأيضا وقع ذلك الحرام في الخارج أو لم يقع.

وقد يفصّل باحتياج صدقها إلى القصد دون وقوع ذلك المحرّم.

وقد يقال بالعكس ، أي باحتياج صدقها إلى وقوع ذلك المحرّم دون القصد.

والتحقيق في هذا المقام : أنّ من هذه الصور الأربع ؛ أي فيما إذا قصد المعين الإعانة على ذلك الإثم مع وقوع الإثم ؛ وفيما إذا لم يقصد المعين ، وأيضا لم يقع الإثم ، وفيما إذا قصد ولم يقع ، أو وقع ولم يقصد ؛ الصورة الأولى ، أي فيما إذا قصد ووقع ، فلا شكّ في أنّها القدر المتيقّن من صدق الإعانة.

وأمّا الصورة الثانية ، فهو القدر المتيقّن من عدم صدق الإعانة وإن قيل بالصدق فيها أيضا.

ص: 366

وأمّا الصورة الثالثة ، أي فيما إذا قصد الإعانة ولم يقع الإثم ، فالظاهر أيضا عدم صدق الإعانة على الإثم ؛ لعدم إثم في البين. فلو أعطي العصا بقصد أن يضرب ولكنّه لم يضرب ، أو أعطاه الخشب ليصنع صليبا أو صنما ، باعه العنب ليصنع خمرا ولكنّه صنعه خلاّ ولم يصنع خمرا وأمثال ذلك ، فليس هناك معصية ولم يصدر منه إثم حتّى تكون الأفعال المذكورة من إعطاء العصا ، وإعطاء الخشب ، وبيع العنب إعانة على الإثم.

نعم بناء على حرمة الإعانة على الإثم - كما استظهرنا من الآية والروايات وحكم العقل بقبحها - يصدق عليه المتجري ؛ لأنّه أتى بهذه الأفعال بقصد الإعانة قاطعا بأنّها إعانة على الإثم ، لقطعه بصدور الحرام منه أو وثوقه واطمئنانه بصدوره منه ، أو قيام حجّة أخرى عليه. أو يقال بأنّه حرام من جهة أنّ تهيئة أسباب الحرام حرام في نفسه مع قصد ترتّب ذلك الحرام عليها ، لا من جهة الإعانة على الإثم.

والحاصل : أنّ الإعانة على فعل - سواء أكان ذلك الفعل من قبيل البرّ والتقوى ، أو كان من قبيل الإثم والعدوان - عبارة عن إيجاد مقدّمة من مقدّمات وجود ذلك الفعل الذي صدر عن الغير ، فإذا لم يصدر سواء أكان برجوعه عن قصده أو بواسطة وجود مانع عن إيجاد ذلك الفعل ، فلا معنى لكونه مساعدا له في ذلك الفعل المعدوم.

فالإنصاف أنّ صدور ذلك الفعل الذي هو إثم ، وقوعه في الخارج شرط في صدق الإعانة بالنسبة إلى ذلك الفعل.

وأمّا قولهم في بعض الموارد بأنّه إعانة ، كما أنّه لو أراد التزويج أو أراد شراء دار ، فساعده شخص آخر بإعطاء المال له ليبذل في المهر ، أو لجعله ثمنا لشراء الدار ، فمنعه مانع عن التزويج أو شراء الدار ، أو هو رجع عن إرادته ، فهذا الإطلاق مسامحي. ومرجعه إلى أنّه إعانة وساعده على القدرة على التزويج أو على شراء الدار ، والقدرة الماليّة حصلت. وإلاّ فالقول بأنّه أعانه على فعل لم يفعل لا يخلو عن ركاكة.

ص: 367

وأمّا الصورة الرابعة ، أي فيما إذا وقع الإثم في الخارج من شخص ، وأوجد شخص آخر بعض مقدّمات ذلك الإثم الذي يتوقّف وجود ذلك الإثم عليه ولكن بدون قصد ترتّب ذلك الإثم عليه ، فصار محلّ الخلاف بين الأعلام والفقهاء المحقّقين.

فبعضهم قال بعدم صدق الإعانة مع عدم القصد ، ومنهم الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره (1) والبعض الآخر قالوا بصدقها ولو لم يقصد ، وفصّل جماعة - وهو الحقّ - بين ما إذا كانت تلك المقدّمة بعد إرادة الآثم لذلك الإثم وعزمه على ذلك الفعل ولكن يتوقّف إيجاده على تلك المقدمة ، كما إذا عزم على ضرب شخص وأراده ولكن يتوقّف وقوع الضرب في الخارج على وصول عصاء بيده ، فأعطاه العصا بيده في هذه الحالة مع علم المعطي بإرادته ، يكون إعانة على ذلك الإثم ولو لم يقصد ترتّب الضرب على ذلك الإعطاء ، بل يتمنّى ويرجى أن يندم ولا يضرب ، وإنّما كان إعطاءه العصا الفرض عقلائي أو سفهي آخر.

وبعبارة أخرى : فرق بين أن تكون تلك المقدّمة التي يوجدها المعين قبل إرادة الآثم لذلك الفعل المحرم - تكون من مبادي الإرادة عليها - وبين أن تكون بعد تحقّق إرادة الآثم وعزمه على الفعل المحرّم وتكون بمنزلة الجزء الأخير من العلّة التامّة لذلك الفعل المحرم.

ففي الصورة الأولى لا تكون إعانة على الإثم لا مع قصد ترتّب ذلك الحرام والإثم.

وذكرنا أنّ لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غارسها لا بدّ وأن يحمل على صورة قصد الغارس ترتّب صنع الخمر على غرسه هذا.

وأمّا في الصورة الثانية فهي إعانة ، قصد أو لم يقصد ؛ لأنّه يعلم أنّ بفعله يصدر الحرام عن ذلك الغير ، إذ هو بمنزلة الجزء الأخير من العلّة التامّة ، لأنّه ليس لوقوع

ص: 368


1- « المكاسب » ص 17.

الفعل المحرّم حالة منتظرة إلاّ وجود هذه المقدّمة ، فكيف يمكن أن يقال بأنّها ليست إعانة على الإثم؟

وظهر ممّا ذكرنا أنّ تجارة التاجر وإن كان من مقدّمات أخذ العشّار العشر مثلا وهو حرام وإثم ، ولكن حيث أنّ التجارة من مبادي إرادة أخذ العشر وتكون بمنزلة الموضوع له وفي الرتبة المتقدّمة عليه ، فلو لم يكن بفعله - أي تجارته - قاصدا ترتّب أخذ العشر ، كما أنّه كذلك إذ قصد التاجر الانتفاع بهذا العمل ، لا أن يؤخذ منه العشر بل يسعى في عدمه أو لا أقلّ في تقليله ، فلا يكون إعانة وليس بحرام ، بل يكون على حكمه الأوّلى أي الاستحباب مثلا.

نعم لو قصد بفعله هذا ترتّب الحرام عليه يكون إعانة وإن كان من أبعد المقدّمات والمعدّات.

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة

فمنها : مسألة بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنعه خمرا. وقد تعرّض لهذه المسألة شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره (1).

وبناء على ما ذكرنا من الضابط في باب الإعانة على الإثم إن كان البائع للعنب قصد ببيعه هذا ترتّب صنع الخمر على هذا البيع ، فيكون من الإعانة على الإثم قطعا.

وأمّا إن لم يقصد ذلك ، بل يريد بيع عنبه وتحصيل ثمنه ، وربما يتأذّى من صنعه خمرا ويسأل اللّه أن يردعه عن هذا الفعل ، فإن كان ذلك الغير عازما ومريدا لصنع الخمر إذا وجد العنب - بحيث يكون بيعه للعنب عليه بمنزلة الجزء الأخير من العلّة

ص: 369


1- « المكاسب » ص 16.

التامّة ، ويكون من قبيل إعطاء العصا بيد من يريد ضرب شخص - فيكون بيعه إعانة على الإثم ، قصد أو لم يقصد.

وأمّا إن لم يكن كذلك ، ولا يريد فعلا أن يصنع خمرا ، ولكن يعلم البائع أنّ هذا العنب لو انتقل إليه يحدث فيه بعد ذلك إرادة صنع الخمر لما يعلم أنّه سيحدث له دواعي هذا الفعل ، ففي هذه الصورة لا يصدق على ذلك البيع عنوان الإعانة على الإثم ، إلاّ مع قصده ترتّب صنع الخمر على بيعه.

ومنها : بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب معهم ، أو مطلقا على بعض الوجوه ، أي فيما إذا قصد البائع تقويتهم وازدياد شوكتهم ، أو استعماله في الحرب مع المسلمين إن قام بينهم وبين المسلمين حرب ؛ هكذا قال بعضهم.

ولكن التحقيق أنّ هذا بنفسه إثم بل من المعاصي الكبيرة ، لا أنّ حرمته من باب الإعانة على الإثم. وهذا الذي قلنا من حرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا من باب الإعانة على الإثم في بعض الصور الذي تقدّم تفصيلا ليس مختصّا بالبيع ، بل يشمل مطلق التمليك الاختياري ، سواء أكان بالبيع ، أو الصلح ، أو الدين ، أو الهبة ، أو المهر ، أو عوض الخلع إلى غير ذلك ؛ لوحدة مناط الحكم في الجميع.

ومنها : إجارة الدار أو الدكّان لصنع الخمر ، أو لبيعه ، أو ليكون محلّ الشرب.

ويجري فيه التفصيل الذي تقدّم في بيع العنب من كونها إعانة على الإثم مطلقا إذا كانت بقصد ترتّب ذلك الحرام على هذه الإجارة ، وإلاّ إذا لم يقصد فإن كانت هذه الإجارة بمنزلة الجزء الأخير للعلّة التامّة لوقوع ذلك الحرام والإثم ، أي كانت بعد تحقّق إرادة المباشر للإثم وعزمه عليه بحيث لا تكون له حالة منتظرة إلاّ وجود مكان للاشتغال بهذا المحرّم ، من دكّان ، أو دار ، أو ما يشبههما فتكون إعانة على الإثم ، وإلاّ فلا.

ومنها : بيع الخشب أو مادّة أخرى لمن يعلم أنّه يصنع الصليب أو الصنم على

ص: 370

التفصيل الذي تقدّم في بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنعه خمرا لأنهما من واد واحد ، ومناط الحكم فيهما واحد.

ثمَّ أنّه لا فرق في صدق الإعانة على الإثم فيما ذكرنا من إجارة الدار أو الدكّان أو محلاّ آخر ممّا يشبههما بين أن يكون تسليم الدار أو الدكّان إلى المباشر الآثم بعنوان الوفاء بعقد الإجارة ، أو كان بعنوان الإعارة ، أو بعنوان آخر ممّا يوجب نقل المنفعة أو حلّية الانتفاع لذلك الذي يصدر منه الحرام.

وكذلك في مسألة بيع الخشب أو مادّة أخرى ممّا يصنع منه الصليب أو الصنم لمن يعلم أنّه يصنعهما ، لا فرق بين البيع والهبة والصلح وسائر النواقل الشرعيّة الاختيارية للأعيان التي لها ماليّة.

وكذلك الحكم في بيع الخشب أو أيّ مادة أخرى تصلح لصنع البرابط والمزامير والعود وسائر أدوات اللّهو وآلاته ، على التفصيل المتقدّم في بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنع منها آلات اللّهو وأدواته.

وأيضا لا فرق بين أن يكون نقل هذه المواد إلى الذي يعلم أنّه يصنعها آلات اللّهو بالبيع ، أو كان بناقل شرعي اختياري آخر ، كما ذكرنا في الفروع السابقة ؛ لوحدة مناط الحكم في الجميع.

ومنها : إجارة السفينة أو الدابّة أو ما يشبههما كالسيارة والطيارة والقطار لحمل الخمر ونقله من مكان إلى مكان آخر لغرض عقلائي. ولا يأتي فيه التفصيل المتقدّم كما هو واضح بأدنى تأمل.

ثمَّ إنّهم عدّوا من شرائط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة ؛ لأنّ حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم ، والفرق بين البيع والإجارة أنّ البيع يتعلّق بالأعيان ويكون عبارة عن تمليك الأعيان المتموّلة بعوض مالي ، والإجارة تتعلّق بالمنافع وتكون عبارة عن تمليك المنافع المتموّلة في نظر الشارع ، فإذا كانت المنفعة

ص: 371

محرّمة فليس لها ماليّة كي تقابل بالعوض المالي.

قال في الشرائع : الشرط الخامس أن تكون المنفعة مباحة ، فلو آجره مسكنا ليحرز فيه خمرا ، أو دكّانا ليبيع فيه آلة محرّمة ، أو أجيرا ليحمل إليه مسكرا لم تنعقد الإجارة ، وربما قيل بالتحريم وانعقاد الإجارة (1).

انتهى وزاد في الجواهر : « أو جارية للغناء ، أو كاتبا ليكتب له كفرا ونحوه » (2) لأنّ الملاك في الجميع واحد ، والمراد بالكاتب الذي يكتب الكفر هو كتابة كتب الضلال التي توجب ضلال الناظرين فيه وفساد عقائدهم ، كالكتب التي تكتب ردّا على الإسلام من أصحاب سائر الأديان ، أو من الطبيعيين المنكرين للاله خذلهم اللّه.

والأمثلة والموارد التي تكون المنفعة محرّمة ليست منحصرة بما ذكره صاحب الشرائع وصاحب الجواهر 0 بل هي كثيرة ، ولا يتوقّف الفقيه في مقام التطبيق بعد معرفة ضابط الذي ذكرناها.

ولكن الظاهر أنّ المفروض في كلام الشرائع غير ما نحن فيه ؛ لأنّ ما فرضه قدس سره فيما إذا كانت لأجل هذه الغاية المحرّمة ، وبعبارة أخرى : حصر المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر في المحرّمة. وهذا لا كلام في بطلان عقد الإجارة وحرمته ، وإن نسب المحقق قدس سره الصحّة وعدم البطلان إلى القيل ، ولكن لا وجه له.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

ص: 372


1- « شرائع الإسلام » ج 2 ، ص 147.
2- « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 307.

فهرس الموضوعات

ص: 373

ص: 374

1 - قاعدة من ملك

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى : هل أنها من القواعد الفقهية أو من المسائل الأصولية؟ ... 5

الجهة الثانية : الفرق بينها وبين قاعدة إقرار العقلاء ... 7

الجهة الثالثة : في الدليل على هذه القاعدة ... 9

الأول : ثبوت الملازمة بين السلطنة على ثبوت الشئ والسلطنة على إثباته... 9

الثاني : الإجماع ... 11

الجهة الرابعة : بيان مفاد هذه القاعدة وما هو الظاهر فيها ... 12

الجهة الخامسة : نفوذ إقراره مشروط بأن يكون مالكا حال الإقرار ... 14

2 - قاعدة الإمكان

والبحث فيه عن جهات ثلاث :

الجهة الأولى : المراد من الإمكان وما هو معناه .............................. 19

خلاصة الكلام في المراد من الإمكان في المقام ... 22

فيما اختاره الشيخ الأنصاري قدس سره في معنى الإمكان... 9

الجهة الثانية : في الأدلة على هذه القاعدة ... 24

الأوّل : الأصل ... 25

الثاني : بناء العرف ... 26

الثالث : سيرة المتشرعة ... 28

الرابع : ما أفاده كاشف اللثام ... 29

الخامس : الروايات الكثيرة ... 30

ص: 375

عدم دلالة الروايات على هذه القاعدة : ... 32

السادس : الإجماع ... 35

الجهة الثالثة : في موارد جريان القاعدة ... 37

هذه القاعدة أصل عملي ومفادها حكم ظاهري ... 40

اختصاص جريانها بالشبهات الموضوعية دون الحكمة ... 41

الأصل في الدم بعد ما لمك يكن حيضا أنه استحاضة أم لا أصل لهذا الأصل؟... 41

الأدلة على الأصل الإشكال عليها ... 42

3 - قاعدة الإسلام يجبّ ما قبله

سند القاعدة ... 47

في المراد من القاعدة وما هو مفادها ..................................... 49

في موارد جريانها ... 50

خلاصة الكلام في مفادها ... 52

4 - قاعدة القرعة

الجهة الأولى : الأدلة على مشروعية القرعة ... 59

الأول : الكتب ... 59

الثاني : الأخبار ... 60

الثالث : الإجماع ... 64

الجهة الثانية : موارد جريانها للشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي ......... 65

ذكر موارد جريان القرعة في سفينة البحار ... 67

الجهة الثالثة : هل هي أصل أو أمارة؟ ... 68

وهم ودفع : الإشكال على الاستخارة وجوابه ... 70

ص: 376

الجهة الرابعة : عند تعارض القاعدة مع الاستصحاب ، أيهما مقدم؟ ... 75

5 - قاعدة : لا تعاد الصلاة إلّا من خمس

في بيان مدركها

مباحث توضيح القاعدة : ... 79

المبحث الأوّل : عدم شمولها للعامد العالم ... 79

تكلف البعض لشمولها له وجوابه ... 80

المبحث الثاني : عدم شمولها للعامد الجاهل مطلقا ... 83

الدليل على عدم شمولها للجاهل وجوابه ... 83

المبحث الثالث : في بيان ما هو المستفاد منم ظاهر الصحيحة بكلا عقديها ... 89

المقام الأول:في عقد المستثنى منه (لا تعاد الصلاة) والكلام فيه من جهات... 89

الجهة الأولى : حديث ( لا تعاد ) يرفع الجزئية والشرطية والمانعية ، ينفيها بنفي الإعادة 89

الجهة الثانية : هل يختص الحكم بالنقيصة أو يشتمل الزيادة؟ ... 90

الجهة الثالثة:في عدم الفرق في شمولها بين الجزء والشرط بل المانع أيضا... 91

الجهة الرابعة : شمولها للإعادة والقضاء جميعا ... 93

المقام الثاني : في عقد المستثنى ( إلا من خمس ) وفيه جهات ................... 94

الجهة الأولى : في شرح الخمسة المذكورة فيه : ... 94

الأوّل : في لفظ الطهور ... 94

الثاني : الوقت ... 95

الثالث : القبلة ... 97

الرابع : الركوع ... 98

الخامس : السجود ... 97

في تحديد الركوع والسجود ... 98

ص: 377

محل التجاوز في الجزء المنسي ، هو الدخول في الركن الذي بعده ... 100

الجهة الثانية : عدم انحصار الأركان في هذه الخمسة ... 104

الجهة الثالثة : وجوب الإعادة عن السجدتين لا السجدة الواحدة ... 105

الجهة الرابعة : عدم وجوب الإعادة في السجود على أرض نجسة نسيانا وسهوا 107

الجهة الخامسة : القروع والموارد التي ينطبق الحديث عليها بحسب عقد المستثنى منه أو المستثنى واستخراج حكمها منه : 107

الأوّل : الخلل العمدي مبطل ... 108

الثاني : إذا ترك جزء كم الصلاة أو أتى به بوجه غير صحيح لوجود خلل فيه ، تبطل الصلاة وتجب الإعادة 108

الثالث : الإخلال بالصلاة سهوا ونسيانا ... 109

النقيصة في الأجزاء أو الشرائط الركنية مبطل وموجب للإعادة إذا كان الالتفات بعد الفراغ من الصلاة أو تجاوز المحل 110

القول فيمن نسى السجدتين وتذكر قبل تجاوز المحل وبعده ... 111

القول فيمن نسى السجدتين وتذكر بعد تجاوز محلها أو قبله ... 113

القول في التذكر بعد السلام وإتيان المنافي عمدا وسهوا ... 114

القول في التذكر بعد السلام وقبل إتيان المنافي والمبطل ... 114

القول فيمن نسى تمام الركعة الأخيرة من القيام ... 115

إذا كان المنسى غير الأركان فلا تبطل الصلاة على كل حال ... 117

الأجزاء غير الركنية على الترتيب : ... 119

نسيان القراءة ... 119

نسيان التشهد ... 121

نسيان السجدة الواحدة ... 122

نسيان السلام ... 123

ورود أخبار تدل على صحة الصلاة إذا نسي السلام وإن أتى بالمنافي

ص: 378

العمدي والسهوي ... 125

الزيادة في الصلاة في الأركان وغيرها ... 127

6 - قاعدة : اليد

وفيها جهات من الكلام

الجهة الأولى : في أنها قاعدة فقهية وليست من المسائل الأصولية ... 132

الجهة الثانية : في المراد من كلمة « اليد » ... 133

الجهة الثالثة : الدليل على اعتبارها ، وهو من وجوه ... 135

الأوّل : الروايات ... 135

الثاني : الإجماع ... 139

الثالث : بناء العقلاء ... 140

الجهة الرابعة : في أنّها أصل أو أمارة؟ ... 140

الجهة الخامسة : في سعة دلالتها ومقدار حجيتها وموارد جريانها ... 143

موارد البحث والخلاف في اعتبار اليد : ... 144

الأمر الأوّل : إذا كان حال حدوثها معلوم العنوان ... 144

لا يقال : إذا كان في مقابل ذي اليد من يدعى الملكية لما في يده ... 147

الأمر الثالث : هل حجيتها مخصوصة بالأعيان المتمولة ، أم تجري في المنافع أيضا؟ 150

الأمر الرابع : هل تجري في الحقوق أم لا؟ ... 152

الأمر الخامس : هل تجري في النسب والأعراض أم لا؟ ... 153

الأمر السادس : هل تجري في حق نفس ذي اليد إذا شك في أن ما بيده ملك له أو لغيره فيما إذا لم يكن مدع في قباله ، أم لا؟ ... 153

الأمر السابع : هل يد المسلم إمارة على التذكية والحلية أم لا؟ ... 156

الأمر الثامن : قبول ذي اليد في الطهارة والنجاسة ... 160

الأمر التاسع : قبول قول ذي اليد وإقرار لأحد المتنازعين ... 162

ص: 379

الأمر العاشر : اعتراف ذي اليد لكل واحد من الشخصين ... 166

الأمر الحادي عشر : جواز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد ... 170

الجهة السادسة : في تعارضها مع الأمارات والأصول ... 173

تعارض اليد مع سائر الأمارات ... 174

الجهة السابعة : هل أن تعدد الأيدي على مال واحد أمارة على الملكية أم لا؟ . 175

الجهة الثامنة : اليد أحد موجبات الضمان ... 177

الجهة التاسعة : في كون اليد سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت ... 181

7 - قاعدة : نفي السبيل للكافرين على المسلمين

وفيها جهات من البحث

الجهة الأولى في مستندها ، وهو أُمور : ... 187

الأوّل : قوله تعالى ( لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ... 187

الثاني : قوله ( ص ) ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ) ... 190

الثالث : الإجماع ... 191

الرابع : مناسب الحكم والموضوع ... 192

الجهة الثانية : في بيان مضمون هذه القاعدة ومفادها ... 193

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق القاعدة ... 193

عدم جواز تملك الكافر للمسلم بأي نحو من أنحاء التملك الاختياري... 193

هل يجوز إجارة العبد المسلم للكافر أم لا؟ ... 197

هل يجوز إعادة العبد المسلم للكافر أم لا؟ ... 199

في ارتهان العبد المسلم عند الكافر ... 200

عدم جواز وقف العبد المسلم على الكافر ... 201

عدم ثبوت الولاية للكافر على المسلم ... 204

عدم توقف صحة نذر الولد المسلم على إذن أبيه الكافر ... 205

عدم جواز جعل الكافر متوليا على أوقاف المسلمين ... 205

ص: 380

عدم ثبوت حق الشفعة للكافر ... 205

بطلان نكاح الكافر بإسلام زوجته ... 206

عدم اعتبار التقاط الكافر للطفل المحكوم بإسلامه ... 207

8 - قاعدة لا ضرر ولا ضرار

والكلام فيها في مقامات :

المقام الأول : في مدركها ، وهو الروايات ... 211

المقام الثاني : في فقه الحديث : « لا ضرر ولا ضرار » ... 213

شرح ألفاظ حديث « لا ضرر » ... 213

مفاد هذه القاعدة ... 215

الأول : النهي عن ايجاد ضرر الغير ... 215

الثاني : نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ... 216

الثالث : نفي الحكم الضرري ... 216

الفرق بين القولين الثاني والثالث ... 217

الرابع : ان مفادها نفي الضرر غير المتدارك ... 218

الدليل على المختار من الأقوال الأربعة ... 218

التنبيه على أمور : ... 225

التنبيه الأول : في الإشكالات على تطبيق هذه القاعدة على مواردها التي طبق ( ص ) عليها 225

التنبيه الثاني : إشكال الشيخ الأنصاري على تمامية القاعدة بلزوم تخصيص الأكثر 228

التنبيه الثالث : وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلة الأولية القائمة على ثبوت الأحكام الواقعية لموضوعاتها بعناوينها الأولية 231

التنبيه الرابع : المراد من القاعدة نفي الضرر الواقعي في حالتي العلم والجهل... 233

ص: 381

التنبيه الخامس : شأن هذه القاعدة هذه القاعدة رفع الحكم الضروري الذي لولاها لكان ثابتا وموجودا 235

التنبيه السادس : ما المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة ، الشخصي أو النوعي؟ 237

التنبيه السابع : في تعارض الضررين ... 238

التنبيه الثامن : تعارض هذه القاعدة مع مجرى قاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » 242

9 - قاعدة نفى العسر والحرج

والتكلّم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : الدليل عليها من الآيات والروايات ... 249

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومضمونها ... 255

الجهة الثالثة : في موارد تطبيق هذه القاعدة ... 257

أمران يجب التنبيه عليها : ... 259

الأمر الأوّل : هل تصح العبادة مع تحمل المكلف الحرج باختياره؟ ... 259

الأمر الثاني : حاكمية القاعدة على كل حكم شرعي حرجي ، من الواجبات والمحرمات 264

10 - قاعدة المغرور يرجع إلى من غره

والكلام فيها في مقامات :

في هذه القاعدة جهات من الكلام : ... 270

الجهة الأولى : في مستندها ، وهو أمور ... 270

الأوّل النبوي المشهور « المغرور يرجع إلى من غره » ... 270

الثاني : بناء العقلاء ... 271

الثالث : الإجماع ... 272

ص: 382

الرابع : إتلاف الغار على المغرور ... 272

الخامس : الأدلة الواردة في الموارد الخاصة ... 274

الجهة الثانية : في مفاد هذه القاعدة ومدلولها ... 277

الجهة الثالثة في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة ... 280

11 - قاعدة : أصالة الصحّة

وفيها مباحث :

المبحث الأوّل : الدليل على اعتبارها بناء العقلاء ... 287

المبحث الثاني : المراد من الصحة في هذه القاعدة « الصحة الواقعية » ... 288

المبحث الثالث : لا يجري هذا الأصل إلا بعد إحراز عنوان العمل ... 290

المبحث الرابع : لا يجري هذا الأصل إلا بعد وجود الشئ ... 290

المبحث الخامس : تجري في المعاملات في أبواب العقود والإيقاعات ... 292

فروع يستشكل في جريان القاعدة فيها : ... 296

منها : بيع الوقف ... 296

ومنها : بيع الصرف لو شك في القبض في المجلس ... 297

المبحث السادس : القاعدة لا تجري في الأفعال القصدية إلا بعد إحراز قصد الفاعل 301

المبحث السابع : في إنها أصل أو إمارة ... 303

المبحث الثامن : تعارضها مع الاستصحابات الموضوعية ... 307

أصالة الصحة في الاعتقادات ... 309

12 - قاعدتي الفراغ والتجاوز

وفيها مباحث

المبحث الأوّل : في أنّهما من الأصول التنزيليّة ... 315

المبحث الثاني : في أنّهما من القواعد الفقهيّة ... 318

ص: 383

المبحث الثالث : في أنّهما قاعدتين أو قاعدة واحدة ... 320

المبحث الرابع : في المراد من المضي والتجاوز في القاعدتين ... 329

المبحث الخامس : في أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان القاعدتين أم لا؟... 334

المبحث السادس : في أن الغير في قاعدة التجاوز يشمل مقدمات الأجزاء أم لا؟... 337

المبحث السابع : جريان قاعدة التجاوز في الشروط ........................ 339

المبحث الثامن : يعتبر في جريان القاعدتين أن يكون المكلف محرزا لجميع أجزاء المركب المأمور به 345

المبحث التاسع : في وجه عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء والغسل والتيمم 350

المبحث العاشر : في انّ عدم الاعتنا بالشك في القاعدتين عل نحو العزيمة ، ام على نحو الرخصة 353

13 - قاعدة : الإعانة على الإثم والعدوان

والتكلّم فيها عن جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في بيان مدركها ومستندها وهو أمور : ... 359

الأوّل : الآية ( تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )... 359

الثاني : الأخبار الواردة التي تدل على حرمة الإعانة على الإثم ... 362

الثالث : حكم العقل بقبح المساعدة على إتيان ما هو مبغوض المولى وما هو فيه المفسدة 364

الرابع : الإجماع واتفاق الفقهاء على حرمة الإعانة على الإثم ... 365

الجهة الثانية في المراد من هذه القاعدة ... 365

الجهة الثالثة : موارد تطبيق هذه القاعدة ... 369

ص: 384

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.