نحن و تراثنا الأخلاقي المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

نحن وتراثنا الاخلاقي

الجزء الثاني

تحریر

ا.د.عامر عبدزيد الوائلي

2018 م

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

هوية الكتاب

الوائلي، عامر عبد زيد

نحن وتراثنا الأخلاقي / تحرير أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

الطبعة الأولى، كربلاء، العراق، العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439ه، 2018م.

ISBN: 9789922604107 (set)

3 مجلد 24 سم.

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

-1 الأخلاق الإسلامية -2- الأخلاق - فلسفة . ألف . العنوان

BJ1291 .W35 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

المحور الثالث

التراث الفلسفي والكلامي الإسلامي

- مفهوم الأخلاق في الفلسفة الإسلامية ، نموذج الفارابي....8

د . محمود كیشانه

- المعتزلة .. مقاربةً في التّراثِ العقلي والأخلاقي....33

نبيل علي صالح

- التصور الأخلاقي لمفهوم الخير والشر عند ابن سينا....52

د . عماد الدين إبراهيم عبد الرزاق

- التراث الأخلاقي في المدرسة الأشعرية ، الإمام الغزالي أنموذجاً....68

رعد سليمان حسين

- الفلسفة الأخلاقية العقلانية عند ابن باجة الأندلسي....87

الدكتور زياد عباس كريم

- المسؤولية والجزاء وأثرهما الأخلاقي عند إخوان الصفا....111

د . محمود كيشانه

- الأسس الكلامية للفكر الأخلاقي عند العلامة الحلّي....146

د. محمد حمزة إبراهيم

- آراء الخواجة نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق....170

قاسم بور حسن

ص: 4

- الاعتبار والحقيقة في الأخلاق - نقاط التلاقي والاختلاف....195

د . سروش دباغ

- العناصر البنيوية في فلسفة الأخلاق عند الملا صدرا....217

محمد لغنهاوزن

- الأخلاق عند النراقي «الجمع بين الدين والعرفان والفلسفة»....245

د . نوال طه ياسين

المحور الرابع

التراث العرفاني

- البحث الأخلاقي وتجلياته العرفانية عند صدر الدين الشيرازي....276

حسين حمزة شهيد

- التراث الأخلاقي عند الفيض الكاشاني....312

د . ياسين حسين الويسى

- مكارم الأخلاق بما هي غاية النبوّة ومقصدها....334

محمود حيدر

- نظرية الأخلاق العرفانية....354

محمد فنائي إشكوري

ص: 5

ص: 6

المحور الثالث

اشارة

التراث الفلسفي والكلامي الإسلامي

ص: 7

مفهوم الأخلاق في الفلسفة الإسلامية نموذج الفارابي

د. محمود کیشانه (1)

مدخل :

يمكن القول إنه لما كان البحث الذي نحن بصدده يدور حول مفهوم الأخلاق عند الفارابي، فإن من الواجب أن أعرض لمفهوم الأخلاق وأنواعها ومصادرها ومنزلتها؛ حيث إن ذلك يكشف عن المنابع الرئيسة التي تنهل منها فلسفة الفارابي آراءها وأفكارها واتجاهاتها عامة كما يكشف عن الأهمية التي توليها للأخلاق والقيمة التي تنالها، كما أنه يكشف عن الاتجاه الفكري والمذهب العقدي الذي تعتنقه، ويفصح - في التحليل الأخير - عن الخلفية السياسية فيه. وعلى هذا يقتضي الأمر أن نعرف الأخلاق عند الفارابي، ومدى أصالتهم في هذا التعريف، وهل كان لهذا التعريف مردود عند اللاحقين ؟ وما القيمة الحقيقية التي يمثلها هذا التعريف عنده؟

وقد اهتم الفارابي بالأخلاق اهتمامًا كبيراً ، بحيث يمكن القول - من دون شك - إن فلسفة الفارابي هي فلسفة تقوم في الأساس على بناء أخلاقي واضح، غير أن الفارابي كانت نظرته أكثر اتساعا ؛ ذلك أنه أراد مبادئ أخلاقية وفضائل إنسانية تعم المعمورة كلها، وإن انطلق فيها من المدينة، فالمدينة عند الفارابي هي النموذج المصغر للعالم.

ص: 8


1- محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه باحث فلسفي مدرس محاضر بجامعة القاهرة. يؤكد الباحث ان هذا البحث يدور حول مفهوم الأخلاق عند الفارابي، الذي أراد مبادئ أخلاقية وفضائل إنسانية تعم المعمورة كلها، ولهذا يؤكد الباحث أنه يمكن القول إن هناك علاقة وطيدة بين نظريته في المعرفة ونظريته في الأخلاق. وصولا الى السعادة والفضائل الفردية والمجتمع الفاضل لان حقيقة السعادة هي الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، رغم هذا الا ان علم الأخلاق عند الفارابي هو علم الأفعال الإرادية الاختيارية، فهو عنده علم مكتسب لا دخل فيه للطبع . المحرر

ويكشف الحديث عن مفهوم الأخلاق وأنواعها عن مكانة الأخلاق ومصادرها عند الفارابي. إلا أننا مع هذا يمكننا القول إن البحث الأخلاقي عند الفارابي لا ينفك عن دعواته المتكررة لما يسمى بالمدينة الفاضلة، فالمدينة الفاضلة عنده تقوم في الأساس على كيان أخلاقي قائم بدوره على أساس نظري معرفي، فالأخلاق عند الفارابي لها علاقة وطيدة بالمعرفة، ولذا يمكن القول إن هناك علاقة وطيدة بين نظريته في المعرفة ونظريته في الأخلاق.

أولاً: مفهوم الأخلاق وأنواعها عند الفارابي:

لقد كان الفارابي أكثر الفلاسفة المشائيين معالجة ودراسة للجانب الأخلاقي، فقد كانت دراساته ومؤلفاته تأكيدًا على هذا المنزع الذي فاق به كثيراً من أقرانه الفلاسفة. إن شغله الشاغل في كتبه : تحصيل السعادة، التنبيه على سبيل السعادة، آراء أهل المدينة الفاضلة، السياسة المدنية - هو الأخلاق ومن ثم فليس من المبالغة في شيء أن يعد الفارابي - جنبًا إلى جنب مع ابن مسكويه - مدرسة أخلاقية في القرن الرابع الهجري امتد أثره إلى وقتنا هذا وهذا ما دفع الأستاذ الدكتور محمد السيد الجليند في حديثه عن قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي إلى التأكيد على أن حديث الفلاسفة المسلمين - وعلى رأسهم الفارابي - عن السعادة والفضائل الفردية والمجتمع الفاضل وبحوثهم في النفس يعد إسهاما واضحًا في علم الأخلاق(1)، بما يعني أن الفارابي يمثل الفلاسفة في باب الأخلاق بوضوح شديد(2)؛ ولذا يحتل مكانًا ذا امتياز في الفلسفة الغربية لكونه ملتقى الفكر الإغريقي بالفكر العرب(3) وإذا كانت بعض الدراسات ترى أن أبرز ممثلي الفكر الأخلاقي في الإسلام مسكويه والغزالي مستبعدة الفارابي (4)، فإن ذلك مردود عليه؛ لأننا أمام مدرسة فلسفية أو مذهب فلسفي يجعل من الأخلاق والاتجاه الأخلاقي لحمته وسداه، مذهب قوامه

ص: 9


1- انظر قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي، ط مطبعة الحلبي القاهرة الثانية، 1981م، ص 125
2- انظر د. عبد الحميد مدكور ، ود. عبد الفتاح الفاوي ، دراسات في علم الأخلاق، ص 107.
3- انظر جاك لانغاد، من القرآن إلى الفلسفة «اللسان العربي وتكوين القاموس الفلسفي لدى الفارابي» ترجمة وجيه أسعد، ط منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 2000م، ص 8 .
4- انظر د. محمد یوسف موسى تاريخ الأخلاق في الإسلام، ط القاهرة الثانية، 1953م، ص 151.

الأساسي هو البحث الأخلاقي، وخاصة فيما يتعلق بمسألة السعادة؛ حيث اعتنى الفارابي بالجانب التنظيري للأخلاق والجانب العملي لها على نحو يدعو إلى القول بوجود اتجاه أخلاقي يعبر عن الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية في تلك الفترة وتأثيرها الواضح في الفترات التاريخية التالية لها .

أ - مفهوم الأخلاق:

لئن ذهب كثير من الباحثين القدامى إلى أن الأخلاق حال في النفس داعية إلى فعل الشيء من غير فكر ولا روية(1) ، أو هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير فكر ولا روية(2) فإن الفارابي يقول في تعريفه لعلم الأخلاق: «علم الأفعال الجميلة، والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قنية ( ملكة ) لنا»(3) . وفي كتاب إحصاء العلوم يذكر الفارابي تعريفا آخر أكثر تفصيلاً، يقول فيه: «أما العلم المدني فإنه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي تكون عنها الأفعال والسنن، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها على النحو الذي ينبغي وجودها فيه والوجه في حفظها عليه، ويميز ، بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السنن... ويبين أن التي ينال بها ما هو الحقيقة سعادة هي الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، وأن ما سواها هو الشرور والقبائح والنقائص، وأن وجه وجودها في الإنسان تكون الأفعال والسنن الفاضلة موزعة في المدن والأمم، وتستعمل على ترتيب، وتستعمل استعمالاً مشتركا».(4)

ص: 10


1- انظر الأصفهاني الذريعة إلى مكارم الشريعة، ط مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1393 ه، ص 44
2- انظر أبا حامد الغزالي، إحياء علوم الدين ط دار الشعب القاهرة، من دون تاريخ، ص 1434
3- التنبيه على سبيل السعادة (الفارابي الأعمال الفلسفية) تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل ياسين، ط دار المناهل بيروت، لبنان، الأولى، 1413ه - 1992م. ص 20، 21 .
4- إحصاء العلوم، ص 124 تحقيق وتصحيح وتقديم عثمان محمد أمين مكتبة الخانجي - مطبعة السعادة، 1350ه - 1931م، وللفارابي تعريف مشابه في كتاب الملة يقول فيه : " والعلم المدني الذي هو جزء من الفلسفة يقتصر فيما يبحث عنه من الأفعال والسير والملكات الإرادية، وسائر ما يفحص عنه على الكليات وإعطاء رسومها، ويعرف أيضًا الرسوم في تقديرها في الجزئيات كيف وبأي شيء وبكم شيء ينبغي أن تقدر، ويتركها غير مقدرة بالفعل؛ لأن التقدير بالفعل لقوة أخرى غير الفلسفة عسى أن تكون الأحوال والعوارض التي بحسبها يكون التقدير بلا نهاية، وغير محاط بها. وهذا العلم جزءان جزء يشتمل على تعريف السعادة، وعلى إحصاء الأفعال والسير والأخلاق والشيم والملكات الإرادية الكلية التي شأنها أن تكون في الأمم والمدن، ويميز الفاضل منها من غير الفاضل، وجزء يشتمل على تعريف الأفعال التي بها تمكن الأفعال والملكات الفاضلة، وترتب في أهل المدن والأفعال التي بها يحفظ عليهم ما مكن فيهم.“ كتاب الملة، ونصوص أخرى، حققها وقدم لها وعلق عليها د. محسن مهدي، الطبعة الثانية، دار المشرق، بيروت، 1991م ص 59 ، وانظر الفارابي في العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام ضمن كتاب الملة ونصوص أخرى، ص 69، 70، 71، 72 .

وأتفق بعض الباحثين ممن قال بأن الفارابي على الرغم من حديثه عن العلم المدني بشكل عام السياسة والأخلاق، فإنه بتعريفه هنا قصد علم الأخلاق دون علم السياسة؛ ذلك لأن الفارابي هنا لم يذكر في تعريفه هنا ما يشير إلى علم السياسة(1)، إلا إذا اعتبرنا أن الفارابي يجعل الأخلاق مقدمة لحياة سياسية رشيدة تقوم على أساسها مدينته الفاضلة، أو إذا اعتبرنا أنه يرى أن الحارس على قيام أخلاق فاضلة هو سياسة رشيدة توجه نحو الأفعال وتبصر بالغايات، وتحفظ على الإنسان أخلاقه، وتضمن عدم الوقوع في الشرور والقبائح، وقد يدل على ذلك أن الفارابي - في نهاية النص السابق - يجعل السعادة مشتركة، وتتحقق للمجتمع ككل بتوجيه سياسي من الرئاسة الفاضلة.(2)

ويتضح من تعريف الفارابي أمور عدة:

الأول: أن الفارابي يعطي مخططاً واضحًا لأي دارس لما يجب أن تكون عليه دراسة الأخلاق، فالمتأمل لتعريف الفارابي يرى وكأن الفارابي يضع خطة بحث في علم الأخلاق، رتب فيها الفصول الواحد تلو الآخر على نحو دقيق، فبدأ بتصنيف الأفعال، وتصنيف الأفعال يشمل حتماً تعريفها للانطلاق منها إلى مفهوم واضح ومحدد للأخلاق، ثم تحدث عن مصدرية هذه الأفعال، وعلاقة الطبع فيها بالاكتساب، ثم تحدث عن شروط الفعل الخلقي، وذلك له مثاله هنا وهو الإرادة، ثم تحدث عن أسباب الأفعال والغايات التي تدفع الإنسان إلى فعلها، وهذا يعد دعوة إلى البحث في الدوافع النفسية للفعل، ثم تحدث عن الإلزام الخلقي فذكر كيفية وجوب وجود الأفعال في الإنسان، وكيفية حفظها عليه، ثم تحدث عن المعيار الخلقي من خلال كيفية التمييز بين ما يجب أن يفعل ويستعمل من الأخلاق للوصول

ص: 11


1- انظر د. إبراهيم عاتي ، الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م، ص 212
2- انظر كتاب الملة ونصوص أخرى، 54 ، 55 .

إلى السعادة وبين ما يجب أن يجتنب. وهذا يجب أن يجتنب . وهذا - في الحقيقة - يعد رسماً نموذجيًا من الفارابي لدراسة علم الأخلاق عامة أو علم الأخلاق عند أي من المفكرين أو الفلاسفة، ولذا هذا لدينا أن الفارابي كان يهدف إلى تأسيس فلسفة أخلاق يرجح تكون نتاجًا نهائيًا لفلسفته عامة .

الثاني: أن الأخلاق عند الفارابي ليست جبرية، وإنما تنطلق من إرادة واختيار؛ لأنه يعطي الإنسان الحرية في اتخاذ سلوكه الأخلاقي الذي ينشده، فعلم الأخلاق عند الفارابي هو علم الأفعال الإرادية الاختيارية، فهو عنده علم مكتسب لا دخل فيه للطبع، فالإنسان بمداومته على الأفعال وكثرة استعمالها تتكون لديه ما يشبه الملكة أو السجية أو الشيم التي تصدر عنها الأفعال بعد ذلك تلقائيًا ودون تكلف، ولذا كانت الأخلاق عنده اكتسابًا القبيح منها والحسن على حد سواء، وفي هذا انتصار لمبادئ الدين الحنيف.

الثالث: علم الأخلاق عند الفارابي يبحث - في الأساس - عن الدوافع التي تملي على الإنسان الاتجاه إلى فعل ما دون غيره أو الالتزام باتجاه أخلاقي ما دون غيره، فالكشف عن الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال، هو كشف عن الدوافع التي تدفع إلى فعلها، ودراسة هذه الأفعال وتنميتها إذا كانت في جانب الخير، وتهذيبها وتقويمها إذا كانت في جانب الشر.

الرابع: علم الأخلاق عند الفارابي علم يعنى بوضع إلزام أخلاقي يدفع الناس دفعًا إلى الخير واجتناب الشر، وبوضع مصادر الإلزام الخلقي المناسبة التي تكفل تحقيق الخير والبعد عن الشر، وما قول الفارابي : «وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها على النحو الذي ينبغي وجودها فيه، والوجه في حفظها». إلا دليلاً على اهتمامه بضرورة وجود إلزام خلقي متعدد المصادر.

الخامس: علم الأخلاق علم يعنى بوضع معيار أخلاقي يميز من خلاله الناس بين الخير والشر أو الحسن والقبح، ويفرق بين الغايات الحميدة والغايات القبيحة،

ص: 12

ويبين ما هو في الحقيقة غايات، وما هو مظنون فيه ؛ ولذا قال: «ويميز بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال والسنن....».

السادس: علم الأخلاق عند الفارابي هو علم البحث عن السعادة القصوى، فالسعادة الحقيقية تكون مترتبة على الأفعال الجميلة والفضائل، أما ما عداها من الأفعال التي يظن أنها سعادة فإنها شرور وقبائح ونقائص. ومن ثم فإن علم الأخلاق عنده علم غائي يبحث عن السعادة غير أنها ليست السعادة الفردية فقط، بل السعادة الجماعية التي تشمل الجميع، وهذه السعادة لا تتحقق عنده - في نظري - إلا بالسياسة الرشيدة التي تبصر الجميع، وتأخذ بيدهم وصولاً إلى هذه السعادة، وقد أكد على فكرة ارتباط علم الأخلاق بالسياسة عند الفارابي غير باحث(1). وقد يدل على ذلك أنه في كتاب الملة يتحدث عن العلم المدني بشقيه الأخلاقي والسياسي، وكأنهما شيء واحد(2).

السابع: علم الأخلاق عند الفارابي علم يهتم بدراسة السلوك؛ حيث جعل الفارابي منهجه في دراسته منصبًا على اعتبار أن الأخلاق والفضائل هي الصورة الباطنة في النفس، أو الهيئة الراسخة، في حين أن صورتها هي السلوك الظاهر، فاتجاه الإنسان عند الفارابي إلى الأعمال الإرادية التي تهدف إلى غاية معينة معناه السلوك. وقد ذهب أحد الباحثين إلى أن السلوك بهذا المعنى يمنع أن يدخل فيه أعمال الحيوان، حيث إنه وإن كان يتصور الغاية فإنه لا يشعر بها، ولا يفكر فيها.(3) فالسلوك أحد جوانب التجربة الإنسانية التي تعنى بها الأخلاق .(4) فالفارابي كان ينظر للأخلاق على أنها تقوم على ركيزتين: الأولى فهم، والثانية سلوك، وهما عنده على علاقة وثيقة؛ حيث أعطى الفارابي لهذا الفكر دورًا أساسيًا في تقويم السلوك، وهذا ما ذهب إليه أحد الباحثين عندما أكد على قيمة العلاقة بين الفكر والسلوك في أي اتجاه أخلاقي(5).

ص: 13


1- انظر الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)، ص 213
2- انظر كتاب الملة، ص 52 وما بعدها.
3- انظرد منصور علی رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ط مطبعة مخيمر ، القاهرة، 1953م، ص 180.
4- انظر د. عبد الحميد مدكور، د. عبد الفتاح الفاوي دراسات في علم الأخلاق، ص 5.
5- انظر د. عادل العوا، مقدمة كتاب الفكر الأخلاقي المعاصر لجاكلين ،روس ترجمة وتقديم د. عادل العوا، ط عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م، ص 5.

ويبدو لي أن الفارابي كان من أنصار الاتجاه الذي ينظر للأخلاق على أنها علم عملي نظري في آن واحد(1)، ويبدو الجانب النظري في اتجاه الفارابي الأخلاقي في دراسته للأخلاق في إطارها التنظيري خاصةً في كتاب تحصيل السعادة، وكتاب التنبيه على سبيل السعادة؛ حيث يأخذ الفارابي الناس إلى دراسة الأخلاق، ويبنيها على أساس معرفي، ويبدو الجانب العملي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب السياسة المدنية أو فصول المدني؛ حيث يمهد السبل إلى عمل الخير، وأداء الأفعال التي تأخذ بيد الفرد والجماعة والبشرية جميعًا إلى السعادة والكمال. وهذا ما أكدت عليه الدراسات الأخلاقية الحديثة؛ إذ لما كان علم الأخلاق يبحث في الحق، كما يبحث في الخير فهو علم نظري حينما يبحث عن الحق، وهو علم عملي حينما يوجهك إلى الخير(2). وبذلك يكون علماً نظريًا تطبيقيًا.(3)

ب - أنواع الأخلاق عند الفارابي:

إن منشأ الأخلاق عند الفارابي ينحصر في:

أ - الجبلة والغرائز التي فطر عليها الإنسان، وهي لا تعدو أن تكون عنده مجرد استعداد قابل لفعل الضدين .

ب - البيئة والمجتمع المحيطان بالإنسان.

ج - العادة والدربة والتريض باستعمال الأفعال الأخلاقية.

د - العلم والمعرفة اللذان كسبهما الإنسان.

ويمكن القول - انطلاقا من هذا - إن أنواع الأخلاق عند الفارابي من حيث علاقتها بالطبع والاكتساب هي : أ - أخلاق الطبع ب - أخلاق الاكتساب .

ص: 14


1- هناك دراسة للأستاذ الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن تقوم بالأساس على إثبات أن الأخلاق علم عملي نظري، انظر الأخلاق بين النظرية والتطبيق، القاهرة، 1997م.
2- انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 27.
3- انظر د. محمد السيد الجليند .د. أبو اليزيد العجمي ، دراسات في علم الأخلاق، دار الثقافة العربية، 1996م ص 48 .

النوع الأول:

أخلاق الطبع (علاقة الأخلاق بالطبع عند الفارابي):

إن الطبع عند الفارابي استعداد يقبل أنواعًا مختلفة من الأخلاق؛ إذ يمكن القول إنه عنده عبارة عن هيئة طبيعية تكون موضوعة للأخلاق، بيد أن هذه الهيئة لا تبرز صورتها، ولا تخرج إلى حيز التنفيذ إلا من خلال إرادة حرة واكتساب قائم على العادة والدربة وكثرة الاستعمال ، فإذا حدث هذا تكون الأخلاق قد خرجت من طور الهيئة المعدة بالقوة إلى هيئة بالفعل تخرج عنها الأخلاق وهو في ذلك متأثر بأرسطو الذي ذهب إلى أن الفضائل لا تنشأ فينا بالطبع، ولا خلافًا للطبع، وإن كنا نفطر طبعًا على اكتسابها، وتستكمل فينا الفطرة بحكم العادة.(1) وإن كان مخالفًا أتباع الديانة البوذية والبراهمة ممن يقولون إن الإنسان خلق شريرًا بالطبع(2) لكن الفارابي قد يلاحظ عليه أنه يخرج عن هذه الفكرة في حديثه عن خصائص وخصال رئيس المدينة الفاضلة، حين يجعل منه أخلاقياً بالطبع (3)، وكأني بالفارابي يحاول أن يذهب إلى أن رئيس المدينة الفاضلة اختيار إلهي .

لكن إذا كانت بعض الدراسات ترى أن طبيعة الناس الشر(4)، فمن الصحيح القول إن أخلاق الطبع عند الفارابي تميل بالإنسان إلى حيز الأخلاق الفاضلة، وهذا يؤكد على أن الكمال عنده فكرة فطرية أودعها الله تعالى - كما يرى أحد الباحثين - في نفوسنا؛ لأن الكائن الناقص لا يعرف بطبيعته إلا النقص.(5) والفارابي بموقفه هذا قريب جدًا من أفلاطون الذي ذهب إلى القول بأن أشد ما في الإنسان من الاستعدادات

ص: 15


1- انظر أرسطو، علم الأخلاق الى نيقوماخوس، ترجمة د. أحمد لطفي السيد، ط مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1924م ، ج 1 ص 226.
2- انظر د. الجليند ود العجمي ، دراسات في علم الأخلاق ص 43 انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 95.
3- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة طبع بمعرفة الشيخ فرج الله زكي الكردي والشيخ مصطفى القباني الدمشقي، - الطبعة الأولى، مطبعة النيل، مصر، من دون ص 86، 87 .
4- انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 89 .
5- د. نازلي إسماعيل، الفلسفة الحديثة " رؤية جديدة " ط مكتبة الحرية، جامعة عين شمس، 1979م، ص 120، 121 .

الفطرية، هو أن نفسه تجانب الشر، وتجري وراء الخير، وتلزمه متى وصلت إليه.(1)

وإذا كان الفارابي قد عدّ الطبع مؤثراً بقوة على الانفعالات(2)، فلا يعني ذلك عودًا منه عن رأيه في الطبع وعلاقته بالأخلاق، وإنما يعني أنه أخرج الانفعالات من دائرة الأخلاق مع اعترافه بأنها إحدى دوافعها. وهذا المسلك يقتفي فيه الفارابي أثر أرسطو ؛ ذلك أن الأخير كان يفرق تفريقًا حازمًا بين الفضائل والانفعالات، فلم تكن الفضائل عنده ،انفعالات فالانفعالات عند أرسطو استعدادات لا توصف بالحسن أو القبح إلا بمقدار ما يترتب عليها من خير أو شر، وإنما عد الفضائل هيئات وملكات تنتج بالعادات(3). ومن ثم يقول : «ولهذه الأسباب لا تكون الفضائل خواص مجردة؛ لأنه لا يقال علينا إننا فضلاء أو أشرار لمجرد أن لنا خاصة التأثر بالانفعالات، كما أن هذا ليس سببًا كافيًا في أن نمدح أو نذم».(4) ونفهم من ذلك أن الفضلاء والأشرار لا يكونون عند أرسطو بالانفعالات الطبعية، بما يعني أنه لا يجعل للطبع دورًا في توجيه الإنسان إلا بمقدار ما ينطوي عليه من استعداد لفعل الأمرين؛ حتى نكون أهلاً للثواب أو العقاب.

وهذا يقود إلى القول بأن الطبع لا دخل له بالأخلاق عند الفارابي إلا بمقدار ما يكمن فيه من استعداد يتم توجيهه إلى أي من الاتجاهين الأخلاقيين أراد كما أنه يمكن للإنسان تغيير أخلاقه بما يمتلك من إرادة قوية مختارة. فالإنسان عند الفارابي لا يمكن أن يفطر من أول أمره بالطبع ذا فضيلة، ولا ذا نقيصة، كما أنه لا يمكن أن يفطر بالطبع حائكاً أو كاتبًا، غير أن منطق الفارابي يذهب إلى أنه يمكن أن يكون الإنسان معدًا بالطبع نحو أفعال فضيلة أو رذيلة، بحيث تكون أفعال تلك أسهل عليه من غيرها، كما هو الحال نحو أفعال الكتابة أو صناعة أخرى، وذلك الاستعداد لا يقال فيه أنه فضيلة، كما أن الاستعداد الطبيعي نحو أفعال الحياكة لا يقال فيه أنه حياكة.(5)

ص: 16


1- انظر مقدمة كتاب علم الأخلاق الى نيقو ماخوس لأرسطو، ص 64.
2- انظر فصوص الحكم (كتاب الثمرة المرضية فى بعض الرسالات الفارابية)، ط ليدن، 1890م، ص 80
3- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ج1 ص 241، 242.
4- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج1 ص 242.
5- انظر الفارابي، فصول المدني، نشرة دنلوب كمبردج لندن، 1961م، ص 110.

والفارابي هنا يسير على درب أرسطو الذي أكد على أن الفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، كما أنها ليست ضد إرادة ،الطبع، بيد أن الطبع قد جعلنا قابلين لها على سبيل الاستعداد، والعادة تتممها وتنميها فينا(1) . فالطبع عند أرسطو استعداد فقط، وهو قابل لفعل الضدين، وليس ملزمًا للإنسان لاتباع اتجاه أخلاقي دون الآخر، بما يعني أن الطبيعة ليس لها تأثير أخلاقي عنده ، وأن الأمر كله منوط بالاكتساب والاعتياد - ويتفق ابن مسكويه معهما في مصدرية الخلق - مؤكدًا على مسألة الاستعداد الطبيعي في الإنسان لقبول الخلق(2).

وتأكيد الفارابي على أن الاستعدادات الفطرية في الإنسان ليست في مستوى واحد من جهة سهولة الانتقال منها إلى غيرها بالدربة والعادة أو صعوبتها لكن العسر أو الصعوبة لا يعنيان عند الفارابي الاستحالة أو الامتناع، فهو عسير ممكن، وليس بمستحيل.(3) قد أكدت بعض الدراسات الجادة عليه مستندة في ذلك إلى أن درجات التدين الثلاث: الإسلام الإيمان، الإحسان تعد سلما صاعدًا نحو الأمثل في سلم المسلم، وهذا يقتضي المجاهدة للتنقل صعودا إلى الأمثل، بما يعني أن الناظر في هذا يجد دلالة واضحة على إمكانية تغير الخلق من إطار الحسن إلى إطار الأحسن فكيف به إذا كان التغير انتقالاً من القبيح إلى الحسن ومن المعصية إلى الطاعة؟(4)

بما يعني أن فكرته هنا مأخوذة في الأساس من الفكر الأرسطي الذي ذهب إلى أن بعض الناس يمكنهم التنقل من خلق إلى آخر بسهولة ويسر، وبعضهم يجد صعوبة وعسر في الانتقال بأخلاقهم، وقد بين أرسطو أكثر من ذلك في كتاب الأخلاق، فقد عدد أسبابًا لصعوبة وعسر الانتقال من خلق لآخر، وعرض في الوقت نفسه لأسباب سهولة التنقل عند بعض الناس (5)، والفارابي هنا يشرح ويفسر ويضيف إلى ما سبق أن

ص: 17


1- أنظر أرسطو، الأخلاق النيقوماخية، ج1، ص 226، وانظر ج1 ص 242.
2- انظر فصول المدني، نشرة دنلوب ،کمبردج ،لندن 1961م ص ،111 ، 112 ، انظر ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، ط مطبعة الوطن، القاهرة حرره وصححه محمد عبد القادر المازني، 1298ه، ص 19 .
3- انظر الجمع بين رأيي الحكيمين، ص 18.
4- انظر د. الجليند د العجمي دراسات في علم الأخلاق، ص 53.
5- انظر أرسطو، علم الأخلاق الى نيقو ماخوس، ج2 ص 179، 180.

ذكره أرسطو في كتابه الخطابة من أن كتابه الخطابة من أن حد الخير هو الذي يؤثر لذاته، وأنه هو الذي يؤثر غيره لأجله، وأنه هو الذي يتشوقه الكل من ذوي الفهم والحس. والشر عكس ذلك تماما عنده.(1) ومن ثم نفهم الدور الذي يوليه الفارابي لأخلاق الاكتساب، كما نفهم الدور الذي يوليه للإرادة والاختيار في تنمية عملية الاكتساب والمداومة عليها، لكن بقي للفارابي أصالته في إضافاته وفي بعض الأفكار الجديدة المبتكرة، التي قد يرجع الفضل فيها لعقيدته الدينية أو لهذه العقيدة بجانب الفلسفة التي اتخذها منهجًا لنفسه.

وإذا كان الانتقال من خلق لآخر أمرًا لا مفر منه عند الفارابي؛ إذ في استطاعة الإنسان التغلب على الاستعدادات الطبعية فإن هذه الفكرة نأت به عن أن يقع فيما وقع فيه شوبنهاور الفيلسوف الألماني، الذي ذهب إلى أن الناس يولدون أخيارًا أو أشرارًا، كما يولد الحمل وديعًا، والنمر ،مفترسًا، وليس لعلم الأخلاق عنده إلا أن يصف سيرة الناس كما يصف التاريخ الطبيعي حياة الحيوان.(2) وإلى هذا الرأي الغريب ذهب ليفي بريل (3). وهذا الرأي يخالف بالكلية ما ذهب إليه جمهور المفكرين من كبار الفلاسفة وعلماء النفس قديمًا وحديثًا.(4) ومن ثم فإن للإنسان إمكانية الخير وإمكانية الشر، إذ لولا تلك الإمكانية على فعل الشر لما وجدت لديه أي قدرة على فعل الخير.(5) وهذه الإمكانية تعني توافر الإرادة الحرة؛ ولذا اشترط أرسطو في الفعل الخلقي أن يكون الفاعل فيه حراً مختارا (6).

وترتبط مسألة المزاج بالطبع ارتباطًا وثيقًا؛ لأن المزاج مرتبط ارتباطاً قويًا بتأثيرات الطبيعة الإنسانية، فإن الأمر عند الفارابي كان أكثر منطقية وترتيبًا وتماشيا مع أسس الثواب والعقاب والتكليف الشرعي، فالمزاج عند الفارابي ليس ملازما للفرد على

ص: 18


1- انظر أرسطو، الخطابة، حققه وعلق عليه د. عبد الرحمن بدوي، الناشر وكالة المطبوعات، الكويت، ودار القلم بيروت، 1979م، ص 27
2- انظر د. الجليند د. العجمي، دراسات في علم الأخلاق، ص 41
3- انظر ليفي بريل، الأخلاق وعلم العادات الاجتماعية، نقلاً عن السابق، ص 41.
4- انظر د. الجليند د. العجمي ، دراسات في علم الأخلاق، ص 43
5- انظر د. مصطفى عبده، فلسفة الأخلاق، ط مكتبة مدبولي، القاهرة، الثانية، 1999 م، ص 24 .
6- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، ج 1 ص 238، وانظر د. محمد الجبر، الفكر الفلسفي والأخلاقي عند اليونان أرسطو نموذجا، ط دار دمشق، الأولى، 1994م، ص 97، 98.

الدوام، بل مزاج الإنسان يتغير فيتوارد عليه مجموعة من الأمزجة في أوقات مختلفة، فقد تعرض له عوارض يتغير بها مزاجه فيكون معدًا بذلك لأن يقبل عن العقل الفعال بعض هذه العوارض في وقت اليقظة أو النوم ، فبعض الناس يبقى فيهم زمانًا، وبعضهم إلى وقت ما ، ثم يزول، وحينها ينصلح مزاجه وتصدق تخيلاته، في حين قد تعرض للإنسان عوارض تفسد عليه مزاجه وتخيلاته.(1) ومن ثم يمكن القول إن الفارابي وصل إلى الحل الذي أراده؛ إذ إن الأجسام الكائنة من الأركان الأربعة عنده فيها قوى تعطيها الاستعداد للفعل - أي لفعل الشيء - وهي الحرارة والبرودة، وقوى أخرى تعطيها الاستعداد لقبول الفعل، وهي الرطوبة واليبوسة، «وهذه المواد الأربع التي هي أصل الكون والفساد قابلة لاستحالة بعضها إلى بعض، والأشياء الكائنة الفاسدة التي تظهر إنما تظهر من الأمزجة التي تظهر فيها على النسب المختلفة التي تعطيها الاستعداد لقبول الخلق المختلفة والصور المختلفة التي بها قوامها».(2) وإلى هذا الرأي ذهب ابن سينا الذي جعل العناصر الأربعة المؤثرة في الطبع الإنساني قابلة للاستحالة والتحول بما يعني استحالة وتغير المزاج (3)، وقد كان سقراط زعيم القائلين بتغير الأخلاق، مما يحمل في داخله ضمنًا القول بتغير المزاج.(4)

والفارابي هنا يتفق أيضًا مع أرسطو في نظرته المنطقية إلى المزاج وأثره، وقدرة الإنسان على التحكم فيه وصولاً إلى مرحلة الاعتدال، ويضرب أرسطو مثالاً افتراضيًا على ذلك قائلاً: «مثال ذلك إذا كان اعتدال مزاج الجسم ينحصر في كثافة اللحم

ص: 19


1- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 76.69
2- عيون المسائل، (كتاب الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية)، ط ليدن، 1890م، ص 62، 63، ومن المعروف أن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة هي عند الفارابي وغيره من الفلاسفة السابقين عليه هي المبادئ التي بها تفعل الأسطقسات الأول بعضها في بعض. انظر الفارابي، الرد على جالينوس فيما ناقض فيه أرسطو طاليس ضمن کتاب رسائل فلسفية تحقيق د. عبد الرحمن بدوي ط بيروت، 1980، ص .45 والأسطقسات - كما عرفها الفارابي من حيث تأثيراتها - هي توجد فيها قوى مهيأة نحو الفعل، وهو الحرارة والبرودة، وقوى مهيأة نحو الانفعال السريع والبطئ، وهو الرطوبة واليبوسة . انظر فلسفة أرسطو طاليس تحقيق د. محسن مهدي، بيروت، 1961م، ص 101، كما عرفها - من جهة بساطتها - قائلاً : " الأسطقسات هي الأجسام التي متى اعتقد معتقد أن في جملة العالم أجسامًا بسيطة لم يعتقد ذلك في غيرها، وهي النار والماء والهواء والأرض. الفارابي، الرد على يحيى النحوي، ضمن كتاب رسائل فلسفية تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، بيروت، 1980م، ص 109 .
3- انظر د. ماجد فخري، أرسطو طاليس المعلم الأول، ط المطبعة الكاثوليكية، بيروت، من دون تاریخ، ص 41: 44.
4- انظر د منصور على رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق ص 31 .32

ينتج من ذلك ضرورة أن سوء المزاج ينحصر في نحافته، وكل ما يسبب اعتدال المزاج يكون هو أيضًا ما يسببه نمو الجسم».(1) وعلى الرغم من جدلية هذا الافتراض وتهافته وبعده عن الواقع - إذ لا علاقة بين النحافة واعتدال المزاج، كما أنه لا علاقة بين السمنة وسوء المزاج، وإنما يكون الاعتدال نتاجًا لما يحدثه الإنسان من تناغم بين جميع أعضائه بإرادته هو واختياره هو - فإنه يؤكد على أن أرسطو يعطي الإنسان القدرة في تعديل مزاجه وتغييره دون أن يفرض عليه من خارج، حتى مع فرض أنه يأتي من خارج فالإنسان قادر على التحكم فيه بإرادته واختياره.

أما الفارابي فقد ذهب إلى أن مزاج الأبدان لا يؤثر في الأخلاق بحال ما، بل أعطى النفس من خلال بعض قواها أن تتحكم في تأثيرات هذا المزاج؛ لأن الفارابي أعطى لقوى النفس مرونة كبيرة في تفادي هذه التأثيرات بما تملكه النفس من قوى تستطيع السيطرة على ذلك التأثير، فقوى النفس المختلفة عند الفارابي تقبل من تلك التأثيرات بحسب جوهرها واستعدادها؛ حيث تواجه الأخلاط الأربعة بالمحاكاة التي توائمها بالقبول أو بالرفض حسب طبيعة هذه القوى مما يعني أنها ترفض مختارة أو تقبل مختارة أي تدخل خارجي في توجهاتها الأخلاقية، فالنفس إذن هي المسئولة عن اتجاهاتها الأخلاقية، فهي إما أمارة بالسوء أو لوامة أو مطمئنة.

ولكن هل يوجد علاقة بين الطبع وتأثيرات الكواكب ومطالع النجوم؟! أو بعبارة أخرى هل تلعب تأثيرات الكواكب والنجوم دورًاً فاعلاً في طبع الإنسان وتوجيهه نحو اتجاه أخلاقي معين ؟! لقد كان الفارابي يحصر دور الأفلاك والكواكب والنجوم التأثير على بدن الإنسان لا أخلاقه؛ استنادًا إلى علاقة سببية بينهما قائمة على الاتصال بين عالم الأفلاك وعالم الإنسان. وهو في ذلك يسير على درب أستاذه أرسطو الذي كان يدرك تأثيرات العالم العلوي في العالم السفلي، إلا أنه لم يبالغ فيعطي لها دوراً في توجيه الإنسان أخلاقيا؛ لأن أرسطو كان يدرك أن الأخلاق ليست وليدة ،الطبع، وإنما وليدة الاكتساب وكثرة الاستعمال (2)، وإلى هذا الرأي ذهب

ص: 20


1- أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج 2 ص 57.
2- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس ، ج 1 ص 242، ج2 ص 131.

أفلاطون في محاورة مينون عندما ذهب إلى أن الأخيار ليسوا أخيارًا بالطبع، بل بالتعلم والاكتساب(1).

فالأفلاك والكواكب ومسارات النجوم لم يكن لها أدنى تأثير في أخلاق الإنسان عند الفارابي أو في توجهاته السلوكية. فلئن كان العقل الأخير عنده هو سبب وجود الأنفس الأرضية من وجه وسبب وجود الأركان الأربعة بوساطة الأفلاك من وجه آخر، فإنه يحصل من الأركان الأربعة الأمزجة المختلفة على النسب التي بينها المستعدة لقبول النفس النباتية والحيوانية والناطقة من جهة الجوهر الذي هو سب- لأمر أكوان هذا العالم.(2) وهذا يدل على أن الفارابي يعطي للأفلاك تأثيرًا في إيجاد الأركان الأربعة - التي هي لديه تحت مظلة العقل الأخير - التي بدورها يحصل منها الأمزجة المختلفة بنسب مختلفة مستعدة لقبول قوى النفس المختلفة، فالأمر لا يعدو مجرد استعداد طبيعي.

ولا يفتأ الفارابي يربأ بالكواكب والأفلاك والنجوم أن تتدخل في غير الأمور الطبيعية بإذن من الله تعالى على وفق نظرية الفيض عنده، فالأجرام والأفلاك لا تتخيل المحال؛ إذ لو تخيلت المحال لكانت كاذبة ،(3) ومن ثم فبما أن الأخلاق ليست من الأمور الطبيعية المادية، فإن من المحال عقلاً أن تتدخل الكواكب والأفلاك، فتوجه الإنسان ناحية اتجاه أخلاقي معين بناءً على هذه القسمة المنطقية.

فالأفعال الأخلاقية إذن بمنأى عن تدخل أي من هذه الأمور الخارجية؛ إذ إن الكواكب والأفلاك والنجوم لا تفرض نوعا معينًا من الأخلاق، ولو كانت تفرض نوعًا معينًا من الأخلاق لكان حريًا بها أن توجه الإنسان نحو الخير لا الشر؛ وذلك استنادًا إلى فكرة جوهرية عند الفارابي قوامها أن إرادة الفلك والكواكب تكون في تشبهها بالأول أو الخالق سبحانه واستكمالها ،به فيتبع إرادتها حركة، ويلزم

ص: 21


1- انظر أفلاطون محاورة مينون أو الفضيلة ترجمة وتقديم د. عزت ،قرني، ط دار ،قباء، 2001م ص 129، 130.
2- انظر عيون المسائل، ص 59
3- انظر التعليقات تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل یاسین ط دار المناهل بيروت لبنان، الأولى، 1413ه- . 1992م. ص 395.

عن هذه الحركة وجود هذه الأمور الكائنة.(1) ومن ثم فإن من أراد التشبه بالإله لا يكون مقصده إلا خيراً، إذ كيف يتصور ممن أراد التشبه بالإله والتقرب منه أن تكون أفعاله شرًا وتؤدي بغيرها إلى فعل الشر ؟ ومن ثم فقد رفض الفارابي أن توصف بعض الأجرام العلوية أو الأفلاك السماوية بالنحوسة أو السعادة، أو أن تؤثر في الإنسان من هذا الجانب، فليس عند الفارابي القول بأن هناك أفلاكًا وكواكب تجلب النحس على الإنسان، فتجعله يتجه اتجاها أخلاقيًا قوامه الشر بكل أنواعه وصنوفه، لا ذنب للإنسان هنا إلا أنه ولد في مطالع أحد البروج أو الأفلاك السماوية، أو أن يكون هناك كواكب وأفلاك تجلب السعادة للإنسان، فتجعله يتجه اتجاها أخلاقيًا قوامه الخير بكل أنواعه وصنوفه لا دخل للإنسان ولا لإرادته في هذا الخير من دور سوى أنه ولد في مطالع البروج السعيدة.

علاقة الطبع بالاعتقاد عند الفارابي:

يقول الفارابي مؤكدًا على هذه الفكرة في تفريقه بين الطبع والاعتقاد: «ولما كان أمر هذه القضية على ما وصفنا من استحكامه واستعلائه على الطبائع ، ثم وجد أفلاطون وأرسطو طاليس وما بينهما في السير والأفعال وكثير من الأقوال خلاف ،ظاهر، فكيف يضبط الوهم معهما بتوهم، وتحكم بالخلاف الكلي بينهما مع سوق الوهم إلى القول والفعل جميعًا تابعين للاعتقاد، ولا سيما حيث لا مراء فيه ولا احتشام مع تمادي المدة؟» (2)فالفارابي لا يستنكر - من خلال النص السابق - أن تكون الأخلاق كلها تابعة للاعتقاد ؛ إذ لا يفعل المرء شيئًا خلافا لما يعتقد ويؤمن، فالفارابي يرفض أي سلطة للطبع ، وإن كان لا يرفض أن يكون الاعتقاد موجهًا الناس على الدوام إلى الأخلاق، غير أن الاعتقاد الذي فهمه الفارابي هو اليقين الجازم الذي يختاره الإنسان فيكون موجهًا له طوال حياته إلى أن يثبت له العكس.

ص: 22


1- انظر السابق، ص 391
2- الجمع بين رأيي الحكيمين (كتاب الثمرة المرضية في بعض الرسالات الفارابية)، ط ليدن، 1890م ص 4.

النوع الثاني:

أخلاق الاكتساب (علاقة الأخلاق بالاكتساب) عند الفارابي:

لقد أدرك الفارابي حقيقة الطبع الإنساني من حيث إنه مجرد استعداد، فحلّ بذلك الإشكالية التي وقع فيها الكثيرون من قبله من الفلاسفة الذين لم يستطيعوا معالجتها، فكانت وجهة نظره تدور حول أن الإنسان مفطور من أول وجوده على قوة تكون بها أفعاله وعوارض نفسه وتمييزه على ما ينبغي مما هو صالح وخير، وبها أيضًا تكون أفعاله وعوارض نفسه وتمييزه على ما ينبغي مما هو طالح ،وشر، فهذه القوة هي مجرد استعداد فطري من خلاله يفعل الإنسان الأفعال الجميلة، ومن خلاله أيضًا يستطيع أن يفعل القبيح من الأفعال، ومن ثم فإن الإنسان يختار بجودة تمييزه أيا من هذين الاتجاهين.(1) ويدخل التغيير في الأخلاق في الغالب - كما يقول الدكتور الجليند والدكتور أبو اليزيد العجمي - عن طريق تعويد هذه الطبيعة أو الجبلة على أفضل ما يناسبها، بدلاً من تركها، أو أن توجه إلى أسوأ ما يتاح لها.(2)

وتلك هي الفكرة الرئيسية التي ينطلق منها الفارابي ليؤكد على أن الأخلاق في الأساس اكتساب ينتج عن استخدام الاستعدادات الفطرية في الإنسان وتقويتها بالمداومة والاعتياد فينشئ الإنسان لنفسه اتجاها أخلاقيًا يقوم على أساس من الاستعداد الفطري؛ لإبراز اتجاه الإنسان الأخلاقي الذي يختاره بإرادته. وتلك كانت إحدى الفكر الرئيسة التي قام عليها اتجاه أرسطو الأخلاقي، وعليها بنى منظومته الأخلاقية الموسومة بعلم الأخلاق إلى نيقوماخوس، فقد كان للطبع عند أرسطو حدوده كما كان للاكتساب ،مقوماته، وهذه الحدود كانت المبادئ الأساسية التي وعاها الفارابي في فلسفته الأخلاقية.(3)

فإذا كان لدى الإنسان جودة تمييز اختار الأفعال الجميلة، أما إذا كانت لديه رداءة

ص: 23


1- انظر التنبيه على سبيل السعادة ضمن كتاب الفارابي الأعمال الفلسفية، تحقيق وتقديم وتعليق د. جعفر آل ياسين ط دار المناهل، بيروت، الأولى، 1413ه - 1992م، ص 232، 233 .
2- انظرد الجليند د. العجمي، دراسات في علم الأخلاق، ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1996/1995م، ص 53
3- انظر أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج1 ص 242.

في التمييز فإنه يختار الأفعال القبيحة، ولما كان حال تلك القوة من إمكانية فعل القبيح متساويًا مع إمكانية فعل الجميل، فإن الإنسان يحدث له بعد ذلك - من خلال الاكتساب والدربة وكثرة الاستعمال - ثلاثة أحوال(1) أن تكون أخلاقه جميلة، أو أن تكون أخلاقه قبيحة، أو أن تجمع أخلاقه بينهما، ولكن على اعتبار زيادة أحدهما ونقصان الآخر.

ومن ناحية أخرى فإن الفارابي يربط ربطًا واضحًا بين جودة التمييز والأفعال الأخلاقية وعوارض النفس وبين عملية الاكتساب، فكلما كان التمييز لدى الإنسان جيدًا كانت أفعاله جميلة، وكلما كان التمييز لدى الإنسان رديئًا كانت أفعاله قبيحة، لذا يسمي الفارابي جودة التمييز قوة الذهن ويسمي رداءة التمييز ضعف الذهن أو بلادة الذهن.(2) والفارابي هنا يعد قريبًا جدًا من سقراط - فيما حكاه عنه تلميذه أفلاطون - وذلك لأن الآراء والأفعال الحسنة عند سقراط تنتج عن العقول السليمة، في حين تنتج الآراء والأفعال القبيحة عن عديمي العقل.(3) ومن ثم فإن الخلق عند الفارابي هو الذي تصدر به عن الإنسان الأفعال القبيحة أو الحسنة، وتكون فيه علاقة وثيقة بين الأفعال وجودة التمييز أو رداءته؛ حتى ينال الشقاء أو السعادة.

والخلق عند الفارابي اكتساب من الدرجة الأولى؛ إذ لما كانت القوة التي فطر عليها الإنسان - وهي الطبع - بحيث لا يصدر عنها أحد الأمرين فقط دون الآخر، وكانت الحال المكتسبة تحدث بعد ذلك بحيث يصدر عنها أحد الأمرين فقط ، لزم أن تكون الأفعال وعوارض النفس إنما تكون منا بحيث ننال بها السعادة لا محالة متى حصل لنا خلق جميل، وتكون لنا جودة التمييز لكي ننال السعادة لا محالة، متى كانت قوة الذهن ملكة لا يمكن زوالها أو يعسر، فالخلق الجميل وقوة الذهن هما جميعا الفضيلة الإنسانية من قبيل أن فضيلة كل شيء هي التي تكسبه الجودة والكمال في

ص: 24


1- انظر التنبيه على سبيل السعادة، ص 233
2- انظر السابق، ص 233
3- انظر أفلاطون، محاورة أقريطون ، أو عن الواجب، ضمن كتاب أفلاطون محاكمة سقراط، ترجمة وتقديم د. عزت قرني، ط دار ،قباء القاهرة الثانية، 2001م، ص 154.

ذاته، وتكسب أفعاله جودة، وهذان جميعًا هما اللذان إذا حصلا حصلت لنا الجودة والكمال في ذاتنا وأفعالنا، فبهما نصير نبلاء أخيارًا فاضلين، وبهما تكون سيرتنا في حياتنا سيرة فاضلة وتصير جميع تصرفاتنا تصرفات محمودة».(1) ولا تصير جودة التمييز والأخلاق الفاضلة على سبيل المداومة والاستمرارية إلا إذا صارت قوة الذهن ملكة فينا، راسخة في نفوسنا،، ولا تصبح هذه القوة ملكة إلا بالدربة وكثرة الاستعمال والارتياض، فطريقة تنميتها أساسها الاكتساب(2)، فالإنسان بقدر اكتساب الأخلاق الفاضلة والتمرس بها وكثرة الاستعمال تنمو قوة الذهن وتكبر حتى تصبح ملكة فيه تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، وبقدر اكتساب الأخلاق القبيحة والتمرس بها وكثرة استعمالها تزداد رداءةً، فبالأخلاق الفاضلة تنمو قوة الذهن، وبقوة الذهن تنمو جودة التمييز التي تحكم بسهولة على الفعل بالخير أو الشر.

وبذلك كان أكثر اتفاقاً مع منهجه الذي يرى أن الأخلاق في مجملها - سواء أكانت جميلة أم قبيحة - اكتساب، ومن ثم فإن الإنسان باكتسابه يصنع لنفسه ملكة تصدر عنها أفعاله الأخلاقية بسهولة ويسر، وبها تكون لديه القدرة على إدراك الصواب، بحيث لا يمكن زوال هذه الملكة أو يعسر زوالها. يقول الفارابي مؤكدًا على هذه الفكرة التي تعطي الاكتساب دوره المنوط به في الأخلاق: «إن الأخلاق كلها الجميل منها والقبيح هي مكتسبة، ويمكن للإنسان متى لم يكن له خلق حاصل أن يحصل لنفسه خلقًا، ومتى صادف أيضًا نفسه في شيء ما على خلق إما جميل أو قبيح أن ينتقل بإرادته إلى ضد ذلك الخلق».(3)

ومن ثم نفهم من النص السابق أمورًاً تكشف عن فهم الفارابي الدقيق لمعنى الأخلاق ومصادرها، ومن هذه الأمور:

أ - أن الأخلاق كلها اكتساب

ص: 25


1- التنبيه على سبيل السعادة، ص 234، 235
2- وهذا نهج أرسطي صرف يجعل العادة والاستمرار على الأفعال أساس تكوين الملكات والفضائل. انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس ، ج 1 ص 228، 232، 242، 316.
3- التنبيه على سبيل السعادة، ص 235 ، 236

ب - أن الإنسان يستطيع أن يغير خلقه الذي وجد نفسه عليه إلى خلق آخر يختاره لنفسه.

ج - أن اتجاه الفارابي هنا أقرب ما يكون إلى الفهم الصحيح لمسألة الحرية والقضاء والقدر.

ولكن يطرأ هنا سؤال مهم مؤداه ما أدوات الإنسان هاهنا لكي يرسم لنفسه اتجاها أخلاقيًا حسنًا كان أم قبيحاً ، أو لكي ينتقل بنفسه إلى خلق آخر ارتآه لنفسه وارتضاه؟ يؤكد الفارابي على أن الوسيلة الوحيدة في ذلك هي الاعتياد أو العادة، وهو يعني عنده تكرار فعل الشيء الواحد مرات كثيرة زمانًا طويلاً في أوقات متقاربة(1)، وفي موضع آخر يضع للعادة أو الاعتياد شروطاً ثلاثة(2) أن تحصل في طول زمان، وأن تحصل في كل حال من أحوال المعاشرة، وأن تحصل مع كل الأقوام، وليس مع قوم دون آخر بما يعني أن الدربة والارتياض وكثرة الاستعمال وسائل الإنسان لبلوغ اتجاهه الأخلاقي الذي يريده وهذا ما ذهب إليه أفلاطون وأرسطو؛ إذ الفضيلة أو الأخلاق عند أفلاطون لا تكون ملكة - ويقصد بها حال النفس المكتسبة - إلا بالمران فهي طبيعة ثانية وليدة التكرار(3) كما استند أرسطو إلى العادة في اكتساب الأخلاق، وتكوين الهيئات الأخلاقية في النفس.(4)

ويقرب الفارابي فكرة اكتساب الأخلاق إلى العقول والأفهام بفكرة اكتساب الصناعات، فالحال هنا كالحال هناك، إذ إن الحذق في الكتابة يحصل للإنسان متى اعتاد فعل الكاتب الحاذق(5) ، وهذا هو حال الخلق الجميل عند الفارابي، فإن الفعل الجميل ممكن للإنسان إما قبل حصول الخلق الجميل بالقوة التي فطر عليها،

ص: 26


1- انظر السابق ص 236 ، وانظر فصول المدني، نشرة دنلوب ،كمبردج ،لندن، 1961م ، ص 108 ، 109
2- انظر تلخيص نواميس أفلاطون، تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتاب أفلاطون في الإسلام، طهران، 1974م، ص 63
3- انظر ألبير نصري ،نادر مقدمة كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، ط دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية)، بيروت، ،لبنان الثانية، 1986م، ص 36
4- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ج1 ص 232، 238، 239.
5- انظر الفارابي فصول المدني، نشرة دنلوب ،كمبردج ،لندن، 1961م، ص 108، 109

وإما بعد حصولها بالفعل(1) بما يعني أن الاكتساب مبني على أساس من الاعتياد والمحاكاة وكثرة الاستعمال.

ومن ثم نفهم من هذا كله أن الأخلاق عند الفارابي هي في الأساس اكتساب، فعلى حين رفض أن يكون الخلق هيئة طبعية يصنعها الطبع، فإنه يدلل في أكثر من موضع على أن الإنسان يكتسب هيئته أو يصنع هيئته، فلما كانت أفعال أهل سائر المدن رديئة، فقد أكسبتهم هيئات نفسية رديئة، وضرب في ذلك مثالاً بأفعال الكتابة وكلما واظب أحدهم على تلك الأفعال ازدادت هيئته النفسانية نقصًا، فتصير أنفسهم ،مرضى ويصورهم الفارابي هنا بالمرضى؛ ليؤكد على أن حالتهم هنا نفسانية من الدرجة الأولى، فإنهم ربما يستلذون بالهيئات التي يستفيدونها بتلك الأفعال، كما أن مرضى الأبدان مثل كثير من المحمومين يستلذون بالأشياء التي ليس شأنها أن يلتذ بها من الطعوم، ويتأذى بالأشياء التي من شأنها أن تكون لذيذة، «كذلك مرضى الأنفس - بفساد تخيلهم الذي اكتسبوه بالإرادة والعادة - يستلذون الهيئات الردية والأفعال الردية، ويتأذون بالأشياء الجميلة الفاضلة، أو لا يتخيلونها أصلاً».(2)

ولكن يفهم من مثال الفارابي هنا أمر قد يكون ليس هناك ما يؤيده أو يدلل عليه، ولكن يبقى على كل حال فرضًا مطروحًا قد تثبت صحته أو فساده، وهذا الأمر مؤداه: هل يقصد الفارابي هنا أن هناك عقلاً جمعيًا يفرض على أهل المدن أمرًا أخلاقيًا - أو بشيء من الدقة - اتجاها أخلاقيًا معينًا ؟ إن مثال الفارابي هنا يدعو إلى شيء من هذا؛ لأنه يفترض أن أهل المدن إذا كانت أخلاقهم رديئة فإنها تكسب النفوس هيئات نفسانية رديئة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ودون تكلف، وكلما ازدادت هذه الأخلاق فسادًا ازدادت الهيئات فسادًا، فأنتجت بالتبعية جيلاً فاسدًا أخلاقيًا، ومما قد يقوي ذلك الزعم ما نجده عند الفارابي من تقسيم شائع للمدن ينحصر في مدن فاضلة، ومدن جاهلة ضالة، وأخلاق أهل المدن الفاضلة أخلاق فاضلة، وأفعالهم جميلة، وتتماشى مع شروط الفعل الخلقي، أما أخلاق أهل المدن الجاهلة فهي

ص: 27


1- انظر التنبيه على سبيل السعادة ص 237
2- آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 97 .98

أخلاق فاسدة وأفعالهم قبيحة لا تتوافر فيها شروط الفعل الخلقي الفاضل.

ومما يقوي هذا الفرض مجموعة من الأمور:

الأول انتصار الفارابي لفكرته القائمة على أساس أن اعتياد أهل المدن الجاهلة على الأفعال القبيحة أصابهم بما يشبه المرض النفسي وعلى أساس أن اعتياد أهل المدن الفاضلة على الأفعال الجميلة أقرهم على صحتهم النفسية المعتدلة؛ إذ يذهب إلى أن من أهل المدن الأولى من لا يشعر بعلته أو بمرضه(1)، وقد أكد أحد الباحثين على موقف الفارابي هذا عندما ذهب إلى أن الحالات الباتولوجية - الحالات المرضية نسبة إلى المرض - ليست من تلك الآثار الجسدية على النفس التي تستطيع وسائل التربية والعادة إلى نقضها أو مقاومتها سبيلاً(2).

الثاني، أن الفارابي يذهب في أكثر من موضع إلى تقسيم المدن تقسيما فيه بعض شبه بما يوجد عند إخوان الصفا الذين قسموا الناس إلى أهل جنة وأهل نار، فالفارابي يقسم الناس إلى أهل مدن فاضلة وأهل مدن جاهلة ومما يقوي وجهة النظر القائلة بوجود ما يسمى بالعقل الجمعي عند الفارابي ذهابه إلى أن أهل المدن الفاضلة تبقى أنفسهم غير مستكملة، بل محتاجة في قوامها إلى مادة، والمادة التي يقصدها الفارابي هنا - في التحليل الأخير - هي مجموعة الأخلاط التي يكون عنها الإنسان(3)، وكأن الفارابي يوحي لنا بأن أهل المدن الفاضلة اتفقوا فيما بينهم - ولو نفسيا - على اتجاهات أخلاقية معينة؛ نتيجة ما تكون لهم من عقلهم الجمعي، هذه التوجهات في مجملها تدعوهم إلى التمسك بكل ما هو مادي ونفعي في حياتهم، ونبذ كل ما هو روحي وفيه سمو روحي لهم ولمدنهم؛ تحقيقا لملذاتهم الشخصية ورغباتهم النفعية في حين أن أهل المدن الفاضلة لديهم عقلهم الجمعي الذي تكون نتيجة الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من آراء أسلافهم(4). وإن كان هناك من يرى أنه لا

ص: 28


1- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 98.
2- انظر د. منصور علي رجب، تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 132.
3- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 99.
4- انظر السابق، ص 99.

سبيل لنقل الحكمة المكتسبة إلى الأجيال الناشئة، رادًا الأمر إلى أن لكل جيل حكمته الخاصة ، ولكل فرد موقفه الذاتي في اكتشاف شروط توازنه .(1)

الثالث، أن الفارابي يؤكد على أن أهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها، وأشياء أخرى من علم وعمل تخص كل رتبة وكل واحد منهم، ويصير أهل هذه المدن في حد السعادة بالمشترك الذي بينهم .

ولكن العقل الجمعي الذي أقصده عند الفارابي هنا ليس إذن على شاكلة ما نجده عند بعض أعلام الفكر الغربي الذين جعلوا القول بالعقل الجمعي نقطة انطلاق للقول بالدين العالمي بدعوى إزالة الفوارق بين البشر، وإنما العقل الجمعي عند الفارابي يستمد أسسه ومبادئه من تعارف الجماعة على أسس وقواعد تتوارثها الأجيال عن الأسلاف؛ ولذا كانت الجماعة البشرية مجتمعة على أن الأخلاق الفاضلة خير، وأن الأخلاق القبيحة شر، فالعقل الجمعي هنا يختلف عن العقل الجمعي هناك.

ونستطيع أن نفهم إذن أن الإنسان في المدينة الفاضلة بقدر تحصيله للأفعال الجميلة والاستدامة عليها تزداد هيئته حسنًا وأخلاقًا وترتبط الأعمال والأفعال الجميلة في المدينة الفاضلة بالتقسيمات الاجتماعية حينًا، وبالأدوار والمسئوليات الموزعة على أهلها حينًا آخر عند الفارابي ؛ ذلك أن كل إنسان في مدينته إذا فعل الأدوار والمسئوليات الموكولة إليه من علم وعمل أكسبته أفعاله هيئة نفسانية جيدة فاضلة، فإذا داوم عليها أكثر صارت هيئته أقوى وأفضل، وتزايدت قوتها وفضيلتها، وتلك حال الأفعال التي ينال بها السعادة عند الفارابي.(2) وموقف الفارابي هنا تأكيد واضح لما ذهب إليه أرسطو في حديثه عن العادة وأثرها في تكوين الفضيلة(3) ومن ثم يقول الأخير تأكيدًا على هذا المنزع: «إن الإنسان يصير عادلاً بإتيانه أفعالاً عادلة، ومعتدلاً بإتيانه أفعالاً معتدلة، وأنه إذا كان الإنسان لا يمارس البتة أفعالاً

ص: 29


1- انظر د. مصطفى عبده، فلسفة الأخلاق
2- انظر آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 93، 94.
3- انظر أرسطو، علم الأخلاق الى نيقوماخوس، ج1 ص 232.

الجنس، فمن المحال - أيا كان - أن يصير ألبتة فاضلاً».(1) ويقول في موضع آخر: «إذا كانت الفضائل ليست انفعالات ولا خواصا فيبقى أن تكون عادات أو ملكات» (2).

ويبني الفارابي عملية اكتساب الأخلاق على أساس معرفي، وتظهر وجهته لبناء نسق أخلاقي معرفي في إلحاحه على وجوب إحصاء الأخلاق خلقا خلقا لمن أراد أن يكتسب، أو ينتقي الأخلاق الجميلة، ثم يحصي الأخلاق الكائنة عن خلق، ثم تأتي مرحلة التأمل والنظر والتفكر في هذه الأفعال وتلك الأخلاق؛ ليختار لنفسه خلقا قد يجد نفسه عليه، ثم لينظر هل هذا الخلق الذي اتفق له من أول أمره جميل أم قبيح، وسبيل الإنسان في هذا أن يتأمل ذلك، وينظر أي فعل إذا فعله لحقه من ورائه لذة، وأي فعل إذا فعله لم يلحقه من ورائه أذى، فإذا وقف على هذا الأمر نظر إلى هذا الفعل هل هو فعل يصدر عن الخلق الجميل ، أم صادر عن الخلق القبيح؟ فإن كان ذلك عن خلق جميل، حكم عليه بأن له خلقًا جميلاً، وإن كان ذلك عن خلق قبيح، حكم عليه بأن له خلقا قبيحًا.(3) فبهذا نقف على الخلق الذي نصادف أنفسنا عليه أيًا كان هذا الخلق «كذلك متی صادفنا أنفسنا على خلق جميل احتلنا في حفظه علينا، ومتى صادفناها على خلق قبيح الحيلة في إزالته، فإن الخلق القبيح هو سقم نفساني، فينبغي أن يحتذى في إزالة أسقام النفس حذو الطبيب في إزالة أسقام البدن».(4) وهذا ما ذهب إليه أرسطو عندما عد الذين يأتون الأفعال المعتدلة المتوسطة ويمارسونها بالفضلاء أصحاء النفوس، في حين صور الذين لا يمارسون هذه الأفعال المعتدلة بالمرضى، «وذلك على التقريب هو ما يفعله أولئك المرضى الذين يستمعون بعناية للأطباء، ولكن لا يفعلون شيئًا مما يؤمرون، كما أن هؤلاء لا يكادون يكونون أصحاء الأجسام بأن يعالجوها على هذه الطريقة، كذلك الآخرون لن يكونوا أصحاء النفوس بأن يفلسفوا هذه الطريقة».(5) ففكرة ربط الاعتدال في الأفعال بالصحة النفسية، وفكرة ربط عدم

ص: 30


1- أرسطو، السابق، ج 1 ص 239.
2- أرسطو، السابق، ج 1 ص 242
3- انظر التنبيه على سبيل السعادة، ص 244
4- السابق، ص 244
5- أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج 1 ص 239.

الاعتدال في الأفعال بالمرض النفسي حد مشترك بين أرسطو والفارابي.

ومرحلة الاكتساب عند الفارابي تمر بعدة مراحل فرعية من شأن كل واحدة منها أن تمكن للمرحلة الفرعية السابقة عليها وتثبتها وهذه الأخلاق المكتسبة الجديدة اعتيادية، ثم بمرور الوقت والمداومة على اكتساب أخلاق ثالثة تصير هذه بمنزلة السابقة عليها طبيعية، وذلك باعتبار الأخلاق الأخيرة المكتسبة (1)ومن ثم نفهم أن كل مرحلة من مراحل اكتساب الأخلاق لها مجموعة من المميزات:

الأولى، أن المرحلة الأولى في الاكتساب أساس للثانية، والثانية أساس للثالثة.

الثانية، أن المرحلة الثالثة في الاكتساب تجعل الثانية السابقة عليها تصير كالطبيعية، فلا تكلف فيها ولا تصنع، والمرحلة الثانية تجعل الأولى تصير طبيعية دون تكلف أو اصطناع أيضًا.

الثالثة، أن حياة الإنسان مرحلة اكتساب دائم لا يتوقف إلا إذا أراد الإنسان لنفسه أن يحيا على اتجاه أخلاقي واحد يتمسك به ويطبقه، بيد أنه حتى في هذا الاتجاه الواحد الأخلاقي لا يتوقف عن أن يكتسب في داخله أخلاقا جديدة تعضد وتقوي من الأخلاق الأولى عنده.

ولكن هذا لم يمنع الفارابي من أن يقبل بنوع من الفضيلة الطبعية الناتجة عن الفطرة ولكن على نوع خاص جدًا لا يقدح في فكرته الأساسية التي ترى أن الاكتساب هو الرافد الأساسي للأخلاق الفاضلة، ومن ثم فهو لا يمنع أن يكون كل إنسان مفطورًا على أن تكون قوة نفسه في أن يتحرك إلى فعل فضيلة ما من الفضائل أو ملكة ما من الملكات وتكون أسهل عليه من فعل الضد، فالإنسان على هذا يتحرك إلى حيث تكون الحركة عليه أسهل، إن لم يقسر على شيء آخر غيرها(2) . وهذا ما نجد له شبهاً

ص: 31


1- انظر الجمع بين رأيي الحكيمين، ص 18
2- انظر تحصيل السعادة (الفارابي الأعمال الفلسفية) تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل ياسين، ط دار المناهل بيروت، لبنان، الأولى، 1413ه - 1992م ص ،162 ، وانظر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق د، محسن مهدي، ط دار ،المشرق، بيروت، من دون. ص 40

عند الراغب الأصفهاني الذي ذهب إلى أن الناس في غرائزهم مختلفون من حيث أن بعضهم جبل على سرعة قبول فعل ما وبعضهم جبل على البطء في قبوله له،

وبعضهم جبل على أن يكون في موقف وسط بين السرعة والقبول.(1)

ولعل الفارابي هنا يكتنف رأيه بعض الإشكاليات حول دور الطبع، وأقول إشكاليات؛ لأن الفارابي أفسح مجالاً لما يسمى بأخلاق ،الطبع، بيد أن تلك الإشكالية لا تمثل سوى لبس بسيط لو أزيل عنه ما يكتنفه لعلمنا أن الفارابي إنما يقول شيئًا واحدا لا تناقض فيه. فالفارابي يزيد شيئًا هنا عن فكرته عن الطبع، فهو يرى أن الإنسان قد يولد ولديه ميول أكبر إلى فعل أحد الضدين دون الآخر، بمعنى أن الإنسان يمتلك - لا محالة - استعدادًا فطريًا لفعل الضدين، غير أنه من الممكن أن يكون هناك إنسان ما مفطورًا مثلاً على الشجاعة أو المكر أو غيرهما من الصفات من خلال أن استعداداته الفطرية أميل إلى أحدهما مع إمكانية فعل ضده، وهو ما يمكن تسميته بالموجود بالقوة الذي هو عند الفارابي معد لأن يحصل بالفعل(2) ، وهذا لا يعد فضيلة أخلاقية عنده إلا بإرادة واختيار وكثرة استعمال تتحول إلى هيئة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ودون تكلف؛ إذ الملكة الإرادية عنده إذا تمكنت يعسر زوالها(3). وهذا هو السبب الذي من أجله عد الشرور - وهي عنده غير موافقة للسنننوعين: نوعًا بإرادة وروية، ونوعًا بالطبع من غير روية(4)، وهذا النوع الثاني ليس إلا نتيجة ميل النفس إليه، غير أن الإنسان بالدربة والعادة عليه صار اكتسابًا له.

ص: 32


1- انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 51.
2- انظركتاب الحروف تحقيق د محسن مهدي ط دار المشرق، بيروت، ص 119
3- انظر الفارابي قاطيغورياس / المقولات مجلة المورد العراقية، المجلد الرابع العدد الثالث، 1975م ص 153
4- انظر الفارابي تلخيص نواميس أفلاطون، ص 81

المعتزلة .. مقاربةٌ في التّراث العقلي والأخلاقي

البعد الأخلاقي والعقل العملي

الباحث: نبيل علي صالح(1)

مقدمة

تعاني المكتبةُ العربية عموماً من نقص كبير في نوعية الكتب والدراسات الشاملة والتحليلية النقدية الخاصة بمنظومات القيم الأخلاقية والتراث الأخلاقي في الثقافة العربية والإسلامية الراهنة، وفي مجمل تاريخ الفكر الأخلاقي في تراثنا الإسلامي. ولا يمكن اعتبار مجرد وجود كلمات ومواعظ أخلاقية عامة، حالة فكرية معيارية مستقلة كعلم قائم بذاته. حيث تحفلُ كثير من كتب التراث بروايات وأحاديث ومواقف تدور حول سلوكيات الناس في يومياتها ومعايشها وعلاقاتها الخاصة والعامة، التي تعكس واقعها القيمي الأخلاقي الحقيقي الذي تختلط فيه قيم الدين بعادات الناس وتقاليدها الموروثة التي باتت بحد ذاتها قيمةً حاكمة على العقول والنفوس.

ولولا بعض الكتب القليلة المتناثرة هنا وهناك والجهود الفكرية الكلامية التي قامت بها فرق وتيارات واتجاهات دينية كالمعتزلة، لكانَ الأصرح أن نقول بوجود فراغ حاد - وربما حالة انعدام- لهذا الاتجاه البنائي التخصصي في بنية الفكر الإسلامي لجهة المؤسسة والتنظير المعرفي، مع أنّ محور هذا الدّين وجوهر دعوته الرسالية السمحاء قام وانبني على موضوعة القيم والأخلاق والفضائل الأخلاقية كركيزة أساسية لبناء الفرد المسلم على طريق كماله الممكن له، معنوياً ومادياً.

وهذا الكمال الروحي لا ينطلق ولا يتفجر في الذات من دون قوة محركة نفسية قيمية، هي الفضائل الأخلاقية الإنسانية، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ المسلمين

ص: 33


1- كاتب وباحث في الفكر الإسلامي، سوري البحث يقوم على مقاربة تحليلية حول المعتزلة والتراث الأخلاقي في الإسلام، حيث اصل المفهوم لغة واصطلاح ثم تناول حضور السؤال الأخلاقي ومصدره في الفكر المعتزلي. المحرر

لم يعتنوا بهذا المجال القيمي، أو لم يكتبوا كلياً في عصورهم السابقة حول موضوعة الأخلاق، بالعكس، سيجد أي متابع للكتابات الأخلاقية في تراث المسلمين، الاهتمام الكبير بعلم الأخلاق، وسيلحظ واقعاً الحديث عن الفضائل والرذائل وما سواها من مفردات السلوك الأخلاقي، وقوى النفس وطريقة علاج الملكات السلبية، وتنمية الملكات الإيجابية. وقد كُتبتْ في ذلك موسوعات كبيرة كمثل كتاب «إحياء علوم الدين للغزالي» (1058 - 1111) م ، وكتاب «المحجّة البيضاء» للفيض الكاشاني (1598- 1680)م ، وجامع السعادات للنراقي (1716-1794)م ..

أما الحديث عن أسس الأخلاق ومعاييرها، كمنهجية فكرية مدرسية نقدية، فلا يجد أي اهتمام أو أنهم تناولوه بشكل عرضي ومبتسر ومبثوث في علوم الكلام والأخلاق وأصول الفقه بما يعني أنه توجد هناك جوانب مضيئة، على هذا الصعيد، تمثلت في أبحاث المدرسة الكلامية العقلية (العدليّة)، في تناول أصحابها البحث في الحسن والقبح العقليين، وما فرّعوا عليه من مسائل متعددة، وقد هدفوا فيما أقدموا عليه بيان الأساس العقلي للأحكام الخُلقية.(1)

ولا ننسى أيضاً وجود باب حيوي ومصدر غني وواسع لموضوعة الأخلاق الإسلام، وهو باب الدعاء والمناجاة وتربية النفس على الفضائل والقيم الروحية، والارتباط بالله تعالى وقيم التقوى والصلاح والتكامل النفسي، حيث تأتي أدعية وأحاديث أهل البيت علیهم السلام (وخاصة في كتاب نهج البلاغة وكلماته المعنية بالمسائل الأخلاقية) وتراث الإمام علي زين العابدين علیه السلام في كتابه «الصحيفة السجادية» المسماة «زبور آل محمد»، وأيضاً رسالته في الحقوق (رسالة الحقوق)، تأتي كلها على رأس تلك المواقع الأصيلة والراسخة والغنية التي يمكن عدّها من أهم منطلقات بناء (وتمكين) أسس (وأصول) الفكر الأخلاقي والقيم الرسالية الأخلاقية بين المسلمين ، التي أضحت لاحقاً مرتعاً خصباً ومرجعاً نوعياً قيمياً مهماً للمعارف الروحية الأخلاقية في تاريخ الإسلام والمسلمين، حتى باتت من أهم مراجع المسألة الأخلاقية في الفكر الإسلامي الشيعي.

ص: 34


1- مازن المطوري. فلسفة الأخلاق الماهية الضرورة، الأهداف». معهد المعارف الحكمية، لبنان بيروت. الرابط: http://maarefhekmiya.org/8081

وأيضاً، ليست أفكار علماء ومفكرين معروفين في التاريخ العربي والإسلامي ک «مسكويه» أو «أبي حيان التوحيدي» أو الأفكار والأحاديث الأخلاقية كثيرة جداً المبثوثة (والمنثورة) في مختلف كتب التراث الإسلامي، أو المدرسة العدلية الاعتزالية، ليست هي وحدها ما يمثل الفكر الأخلاقي في التراث الإسلامي الوسيط، بل إن هذا الفكر مبثوثُ أيضاً في الموروث الفقهي والأصولي والأدبي وأدب الرقائق والروحانيات(1).

وفي هذا المبحث المخصص لدرس «المدونة الأخلاقية»، عند تيار كلامي وفكري إسلامي مهم ومؤثر هو تيار المعتزلة، سنحاول توثيق تلك الجهود الفكرية والكلامية المتراكمة لهذه المدرسة العقلية، وتحليل رؤيتهم للمسألة الأخلاقية ومجمل التفكير الأخلاقي الديني، على مستوى النصوص والأفكار والصياغات الكلامية التي اعتمدوا فيها على التحليل العقلي.

المبحث الأول: الأخلاق والعقل والتراث في اللغة والاصطلاح

أولاً- معنى الأخلاق واصطلاحها النظري والعملي:

بتحليل كلمة «خُلُق» أو «خُلق» (بضم الخاء، ثم بتسكينها)، نجد أنها مكونة من حروف ثلاثة، وردت في كل المعاجم والقواميس اللغوية العربية في مادة «خ.ل.ق»، التي تأتي مفتوحة الأول أو مضمومة؛ فإذا كانت مفتوحة الأول «خَلق» دلّت على التقدير والإبداع ؛ وإذا جاءت مضمومة «خُلق» دلّت على السجية والطبع.

وقد ذكر حب اللسان بأن: «.. الخُلُق : بضم اللام وسكونها، وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها، بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة،

ص: 35


1- هناك تراث واسع من الأحاديث جُمع في كتب ومدونات تاريخية كثيرة مثل كتاب «سفينة البحار» للمجلسي، والكتب التي تتحدث عن «الآداب والسنن والسير والسلوك»، التي كتب فيها كثير من علماء الشيعة نصوصاً أخلاقية وعرفانية وأفكار صوفية حول السلوك الأخلاقي والرقي العرفاني شرحوا من خلالها أحاديث كثيرة عن آل البيت(ع). وقد ذكرت تلك الكتب والشخصيات في تصانيف العلامة الطهراني.

والثواب والعقاب يتعلَّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة؛ ولهذا تكرّرت الأحاديث في مَدْح حُسْن الخُلُق في غير موضع»(1).

وقال الفيروز آبادي: «الخُلق : بالضم ، وبضمتين: السّجية والطبع، والمروءة والدين» (2).

وقال صاحب «الصحاح»: «الخلق : التقدير . يقال: خلقت الأديم إذا قدرته قبل القطع . والخليقة ،الطبيعة، والجمع الخلائق والخلقة بالكسر : الفطرة ورجل خليق ومختلق أي تام الخلق معتدل وفلان خليق بكذا، أي جدير به. وقد خلق لذلك بالضم ، كأنه ممن يقدر فيه ذلك، وترى فيه مخائله. وهذا مخلقة لذلك، أي مجدرة له .... والخلوق : ضرب من الطيب. وقد خلقته، أي طليته بالخُلوق، فتخلّق به».(3)

أما المعنى الاصطلاحي لكلمة الأخلاق:

أو لمفردة الخُلُق، فيعني - من جملة ما يعني - السلوك والفعل الذي يقوم به (ويسلكه) الإنسان في حياته الخاصة والعامة بلا ضغوط ولا قسر أي يصدر عنه بطريقة عفوية وتلقائية، (بأريحية)، وبلا تكلُّف أو تصنُّع، وبهذا يصح نسبته إليه، فيقال فلان كريم أو شجاع أو حليم، من دون النظر إلى بعض الحالات النادرة، التي تصدر من الشخص وتكون مخالفة لتلك الصفات كغضب الحليم، وجبن الشجاع، وبخل الكريم. ويعرفُ الخُلق بكونه صفة نفسية وليس شيئاً خارجياً، أما المظهر الخارجي للخلق فيسمى السلوك أو المعاملة ، والسلوك دليل الخُلق ومظهره ، فإذا رأينا معطياً يعطي باستمرار في الظروف المتشابهة استدللنا من ذلك على وجود خلق الكرم عنده (4).

وفي تعريف آخر للأخلاق، ومفردها «الخُلق»، هو الدين والطبع والسجية. أي الصورة الباطنية للإنسان، كما أنَّ «الخَلق» بالفتح عبارة عن الصورة الظاهرية للإنسان،

ص: 36


1- ابن منظور، لسان العرب. دار صادر للنشر، لبنان بيروت، طبعة عام 2003م الجزء: 10، ص: 86-87
2- الفيروز آبادي «القاموس المحيط» دار الفكر لبنان بيروت، ص: 793.
3- إسماعيل بن حماد الجوهري . «تاج اللغة وصحاح العربية» تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين لبنان بيروت، ط 4 ، 1987م ، ج 4، ص: 1470-1472.
4- عبد العزيز أحمد . مباحث في نظريات الأخلاق» . دار الفكر العربي مصر / القاهرة، طبعة عام 1965م، ص: 63-64.

فعند ما يقال: «فلان حسن الخَلق والخُلق» المراد أنّه حسن الظاهر والباطن. وهذه الصورة الباطنية يظهر جمالها أو قبحها من خلال صدور الأفعال عنها، فإن كانت الأفعال الصادرة عن تلك الهيئة أفعالا محمودة وحسنة عقلاً وممدوحة وراجحة شرعاً، سمّيت تلك الهيئة «خلقاً حسناً»، وإن كان الصادر عنها أفعالاً ذميمة وقبيحة شرعاً أو عقلاً سمّيت «خلقاً سيئاً».(1)

وأما عند علماء المسلمين، فالأخلاق، تكيف النفس، وردّها إلى ما رسمته الشريعة، وخطّه رجالُ المكاشفة من كبار الإسلام، ومن سبقهم من الأنبياء والمرسلين.(2) أي إن معنى الأخلاق في الدين والشريعة (لدى علماء الدين)، يقوم على قاعدة الدين ذاته، بما يعني أنّ الإسلام هو جذر الأخلاق وأساسها المتين في مدونة السلوك الأخلاقي للفرد المسلم وعند النظر والاستقراء لنصوص الشارع يمكن أن نجد أنّ الاستخدام الشرعي للفظ «الخُلُق»، لا يختلف كثيراً عن الوضع اللغوي لهذه الكلمة. فقد جاءت كلمة الخُلُق في القرآن في موضعين الأول، في قوله تعالى على لسان قوم :هود: «إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ» (سورة الشعراء 137) . أي ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين يُلفّقون مثْلَه ويدعون إليه، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدَّمونا من الآباء وغيرهم.(3) فخُلُق الأولين هنا بمعنى دينهم وعادتهم وأخلاقهم ومذهبهم. والموضع الثاني، في قوله تعالى مخاطباً النبي الكريم محمد صلی الله علیه و آله وسلم : «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (سورة القلم : 4). أي إنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه به، وهو الإسلام وشرائعه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل والخلق العظيم هنا كما في رأي كثير من المفسرين هو الإسلام، بقيمه وأخلاقياته.(4) وهي هنا آداب الله وأخلاق الشريعة السمحاء.

ص: 37


1- عبد الله شبر «الأخلاق». الناشر: ذوي القربي إيران قم، الطبعة الأولى لعام 2007م، ص: 25.
2- زكي مبارك . الأخلاق عند الغزالي مطبعة الرحمانية، مصر القاهرة، طبعة عام 1977م، ص: 160.
3- الألوسي. «روح المعاني». دار الكتب العلمية، لبنان بيروت، طبعة عام 1994م، المجلد: 11، ص: 167
4- محمد بن جرير الطبري جامع البيان في تأويل القرآن تفسير الطبري“. مؤسسة الرسالة، لبنان بيروت، طبعة عام 2000م، المجلد: 29 ص: 24-25 .

وعند الحديث عن الأخلاق يجب التمييز الفكري والمنهجي بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية، فالنظرية منها تعني مجموعة الأسس والمعايير والمبادئ والنظريات التي يتقوّم بها، ويتأسس عليها السلوك الإنساني، والعملية منها تعني البحث في التطبيقات والنماذج العملية لهذا السلوك داخل كيان عيني ونموذج عملي محدد. والسلوك هو دليل الخُلق ومظهره وفعله الخارجي.(1)

وأما علم الأخلاق فكل التعاريف التي قيلت حوله ، أجمعت على أنه العلم الذي يبحث في أصل الفضائل والرذائل التي يعيشها الإنسان بإرادته واختياره، في حركته الواقعية الإنسانية، وذلك بهدف تحديد أخلاق الحق والفضيلة للتحلي بها والالتزام بمعاييرها، وتحديد قيم الرذيلة ومعانيها للتخلي عنها وتركها. ويعرف العلامة الطباطبائي (رض) هذا العلم بأنه «الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والإنسانية، ليميّز الفضائل من الرذائل، ليستكمل الإنسان بالتحلي والاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد التام والثناء الجميل من المجتمع الإنساني».(2)

ثانياً: معنى العقل النظري والعملي

تباينت آراء المفكرين والعلماء - من مختلف الاتجاهات الفكرية والمشارب الأيديولوجية والمواقع العلمية - في تحديد معنى واحد ومحدد لمفردة «العقل»، واختلفوا حول ماهيته وطبيعته وجوهره وبنيته. فقد قال بعضهم، إنّ العقل ما هو إلا فعالية ذهنية بشرية مركوزة داخل الدماغ البشري (بالمعنى المادي العضوي)، يقوم بها (هذا الدماغ) في مستويات متقدّمة من التفكير العضوي. وقال بعضهم الآخر، إن العقل فعالية روحيّة لا علاقة للمادة بها إلا من حيث تهيئة الأجواء والمقدمات المادية الأولى للحصول على آلية التفكير، ومن ثمَّ لتكون محل اشتغال العقل بالمعنى الروحي لاحقاً.

ص: 38


1- عبد العزيز أحمد . «مباحث في نظريات الأخلاق» . دار الفكر العربي مصر عابدين طبعة عام 1965م، ص: 63-64.
2- محمد حسين الطباطبائي. «الميزان في تفسير القرآن». مؤسسة المجتبى للمطبوعات، إيران/قم، ط: 1، عام 2004م، ج: 1، ص : 268.

والعقل - عند الحكماء - عقلان، عقل الطبع وعقل التجربة(1). عقل الفكر (النظري)، وعقل الفعل (العملي). فالأول (العقل النظري هو الذي به يحوز الإنسان علم ما ليس من شأنه ذلك العلم أن يعمله والثاني هو الذي يعرف به ما الذي يعرف به ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته. وظاهر هذه العبارة أنّ هنا عقلين أحدهما نظري والآخر عملي ولكنّه خلاف التحقيق، بل الظاهر أنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدركات من حيث أنّ المدرك من قبيل أن يُعلَم، أو من قبيل ما ينبغي أن يؤتى به لا يؤتى به، فالأول هو العقل النظري والثاني هو العقل العملي. وعلى ضوء ذلك فالنظري والعملي وجهان لعملة واحدة لا يختلفان جوهراً وذاتاً، فإن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم فيسمى المدرك عقلاً نظرياً، وإن كان المدرك مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، فالمدرك هو العقل العملي.(2)

وبشكل أكثر وضوح يمكن القول بأن العقل العملي في الفلسفة هو استخدام العقل لاتخاذ قرار بشأن كيفية التصرّف. بإزاء العقل النظري أو العقل الخالص، هو استخدام العقل لتحديد ما الذي سيحصل. فعلى سبيل المثال، يستخدمُ الناسُ العقل العملي لاتخاذ قرار بشأن ما إذا كان ينبغي بناء تلسكوب، في حين يُستخدم العقل النظري لتحديد أيّ نظريات الضوء والبصريات هي الأفضل. ويذهب الرأي الأوّل إلى أنّ العقل هو مبدأ الإدراك، ولا يوجد في هذا الصدد أي فارق بين العقل النظري والعقل العملي، وإنما يكمن الفارق في الهدف والغاية ونقطة الوصول؛ فإذا كان الهدف من إدراك الشيء هو معرفته لا العمل به، يُسمّى مبدأ الإدراك حينئذ بالعقل النظري من قبيل إدراك حقائق الوجود، أمّا إذا كان الهدف من الإدراك هو العمل فيسمى مبدأ الإدراك عند ذاك بالعقل العملي، من قبيل معرفة حسن العدل وقبح الجور، وحسن الصبر وقبح الجزع، وحسن الفضائل عموماً وقبح الرزائل، وما إلى ذلك. وقد نُسب هذا الرأي إلى مشاهير الفلاسفة، ويمثل العقل العملي - وفقاً لهذا الرأي - مبدأ للإدراك وليس كمحفّز أو دافع. ويذهب الرأي الثاني إلى القول بأنّ

ص: 39


1- في إشارة إلى حديث الإمام علي (عليه السلام) «العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة وكلاهما يؤدي إلى المنفعة، والموثوق به صاحب العقل والدين ......» (راجع «مطالب السؤول» 49 سفينة البحار، الجزء: 78، ص: 6).
2- جعفر السبحاني مفاهيم القرآن“. مؤسسة التاريخ العربي لبنان بيروت، طبعة أولى عام 2010م، ج 6، ص: 181.

التفاوت بين العقل النظري والعقل العملي تفاوت في الجوهر؛ أي في طبيعة الأداء الوظيفي لكلّ منهما ؛ فالعقل النظري هو عبارة عن مبدأ الإدراك سواء كان الهدف من الإدراك هو المعرفة أم العمل، والعقل العملي مبدأ للدوافع والمحفّزات لا الإدراك، ومهمة العقل العملي هي تنفيذ مدركات العقل النظري. وأوّل من قال بهذا الرأي على الأشهر - هو ابن سينا ، ومن بعده قطب الدين(1).

ويعود الفرق بين العقلين إلى تفاوت المدركات. فإذا كانت المدركات من الأمور النظرية التي لا صلة لها بالعمل والفعل ، سُمّي العقل عقلاً نظرياً. وإذا كانت المدركات

من الأمور العملية التي «ينبغي» أو «لا ينبغي» أن تفعل، سُمّي العقل عقلا عملياً(2).

ثالثاً - معنى التراث وأقسامه:

التراث، اسم. وهو يعني في اللغة، الإرث، (وتراث الأمة)، ما له قيم باقية من عادات وآداب وعلوم وفنون، وينتقل من جيل إلى جيل كالتراث الإسلامي والتراث الأدبي.. وغيرها.. وهو يأتي أيضاً بمعنى ما يخلفه الميت لورثته. وفي السياق «اللغوي - التاريخي» هو كل ما خلفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادية كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضارية المنتقلة جيلاً بعد جيل، مما يعد نفيساً بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه التراث الإسلامي /الثَّقافي/ الشعبي.(3)

والتراث كمصطلح في المعرفة الإسلامية، يتسع لكل ما له علاقة بالإسلام من نصوص القرآن والسنة النبوية وأحاديث آل البيت علیهم السلام واجتهادات العلماء السابقين وآرائهم و اعتقاداتهم التأويلية في فهم هذه النصوص، والعمل على تطبيقها في حياة الناس التي تلتزمها حتى باتت تشكل هوية للمسلمين بأنظمة معنى ومحددات فكرية وعقدية ثابتة. ويقسم التراث إلى قسمين، الأول (التراث المقدس)، وهو القرآن الكريم النازل وحياً على الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم ، والأحاديث

ص: 40


1- محمد الرّيشهري . «موسوعة العقائد الإسلامية»، دار الحديث للطباعة والنشر، قم /إيران ، طبعة ثالثة عام 2008م المجلد 1، ص: 480-481
2- محمد حمود العاملي. الفوائد البهية . الجزء: 1، ص: 282-284
3- ابن منظور . لسان العرب». مصدر سابق ص: 195.

الصحيحة التي رويت عنه صلی الله علیه و آله وسلم و عن آل بيته الطاهرين علیهم السلام . (والثاني) هو التراث غير المقدس (النسبي) (التراث المشروح) الذي صدر عن العلماء والمفسرين والمجتهدين، وشرحوا من خلاله معاني ومقاصد آيات القرآن، ونصوص الأحاديث الشريفة، وهذا التراث المنقول (أحاديث وشروحات وتفسيرات وغيرها) خضع أصحابه لظروف عصورهم، ومؤثرات واقعهم الحياتي الذي عاشوه ذاتاً وموضوعاً، وانطبع في شعورهم ووعيهم، ومن ثم تدخل بوعي أو لا وعي منهم في كثير من مقولاتهم واجتهاداتهم وآرائهم النسبية غير المقدّسة.

المبحث الثاني

سؤال الأخلاق ومصدره وقيمته في الفكر المعتزلي

ظهرت أفكار المعتزلة في التاريخ الإسلامي في الفترة الزمنية التي أعقبت قيام ما اصطلح على تسميته ب__«الدولة الإسلامية الواحدة»، واستقرارها «السياسي- الاجتماعي» في مدى جغرافي واسع ضمّ بلداناً كثيرة من حدود الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً. وقد كان لهذه الحركة من التوسّع والفتح والامتداد الجغرافي، كثير من النتائج الإيجابية على صعيد الاحتكاك والتفاعل الحي الخلاق مع حضارات وثقافات مغايرة جديدة تميّزت برؤى (ومعارف ونظرات) معيّنة خاصة بها تجاه الكون والوجود والحياة والإنسان. ونجم عنه أيضاً عن هذا التفاعل) انتقال كثير من الطروحات والأفكار (التي لم تعرف في البيئة المعرفية الإسلامية) إلى صميم الفكر الإسلامي نقلاً أو ترجمة أو امتزاجاً.

وكانت قد برزت خلال هذه المرحلة في معترك هذه الأحداث السياسية والاجتماعية (التي تمحورت حول قضايا الصراع السياسي والأيديولوجي المغطّى بمسميات دينية، وحول ماهية كثير من القضايا والمسائل الفكرية والاجتماعية والأخلاقية التي انفتحت كأسئلة في ذهنية كثير من العلماء والمفكرين نتيجة هذا الاحتكاك مع الآخر) برزت تيارات فكرية ومذاهب كلامية وآراء فلسفية وعرفانية

ص: 41

مختلفة كثيرة، ادّعى كلّ منها قبضه على ناصية الحق وامتلاكه للحقيقة الربانية المقدّسة التي لا يعرفها غيره، وبدأ كلّ واحد منها يدعو الناس إلى قناعاته وأطروحاته ومبادئه ليكسب المزيد من الأتباع والأنصار والمريدين.

وفي خضم هذا الصراعات الفكرية والسجالات الكلامية، ظهر المعتزلة كمدرسة من تلك المدارس والتيارات الفكرية والفرق الدينية في بداية القرن الثاني الهجري تحديداً، في مدينة البصرة التي كانت آنذاك معقلاً من معاقل الفكر والمعرفة، ومجمعاً للعلم والأدب. وكانت أيضاً موضعاً يلتقي فيه أتباع الأديان المختلفة.(1)

تمكن المعتزلة من رسم طريق «فكري-كلامي» اجتهادي محدد ومضبوط يخصهم، فيما يتصل بإجاباتهم الفكرية والفلسفية على كثير من المسائل الدينية التي طرحت في وقتها سواء حول التوحيد والعدل والأخلاق والمحسن والمسيء، والحق والواجب، والحرية والاختيار وغيرها. وتمظهرت مقولات هذه الجماعة منهجياً، في أسس خمسة هي القول ب-: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما بالنسبة لأداة المعرفة التفكيرية التي اعتمدتها هذه المدرسة لبناء آرائها الكلامية وفلسفتها الأخلاقية، فقد قامت على ركيزة العقل، وضرورة اعتماده كمعيار أولي وقيمة ذاتية في كل ما يتعلق بشرح وتفسير كافة المسائل المرتبطة بالعقائد الإسلامية، ومجمل متعلقاتها بحركة الفرد المسلم في حركة الواقع.

بلغ لاتجاه العقلاني المعتزلي في فهم نصوص الكتاب والسنة، ذروته وأوجه في عهد الخليفة المأمون، لما أصبح الاعتزال المذهب الرسمي للدولة، في مواجهة الاتجاهات الأخرى القائمة على منطق الجبر الأشعري القاضي بأنّ الإنسان مسير وليس مخيراً. وقد شكّل هذا العصر مفصلاً ومنعطفاً مهماً في تاريخ الفكر الإسلامي من حيث بروز تيارات ذات نزعات إنسانية، حاولت الكشف عن الأصالة الإنسانية

ص: 42


1- يمكن لمن يريد التوسع والاستزادة مراجعة محمود مزرعة تاريخ الفرق الإسلامية، مصر القاهرة، دار المنار، طبعة: 1، عام 1991م.

في الدين الإسلامي، وعياً واجتهاداً، حيث كان من الممكن لها المساهمة الفاعلة ة في نهضة الحضارة الإسلامية وتقدمها الكبير، لو استمرت في دعوتها وعرض أفكارها ونشر أطروحاتها الإسلامية الإنسانية، لو ما كان من أمر مواجهتها وإسقاطها ورفضها من قبل أصحاب الفهم التقليدي للإسلام ممن كرّسوا وثبتوا في ذهنية الأمة ككل، هذا الفهم والوعي والممارسة الشكلية المحافظة للدين، التي قامت تاريخياً على منطق القسر والجبر والتبعية، ورفض الانفتاح وتقبل الآخر، ومواجهة كل تفكير اجتهاد عقلي حتى لو بني على أسس الإسلام ذاته.

ولكن رغم الصعوبات، فقد تمكن المعتزلة ولو جزئياً من بناء تفكير عقلاني شبه مستقل عن المألوف والسائد آنذاك، على مستوى تفسير النصوص وتأويلها، واستعانوا من أجل ذلك بالعقل معياراً رئيسياً كما قلنا، في الفهم والتأويل والتفسير، كما استخدموا مقولات الفلسفة وعلم الكلام في تليين (وتلطيف) كثير من تفاسير حقائق الدين المتصلبة، كما كانت معروفة في ذلك العهد، فكانوا بالفعل ورثة الفلاسفة في المرحلة الإسلامية، والأوائل والرواد في تعميق حرية التفكير في التاريخ العربي الإسلامي من خلال أفكارهم التي كانت تتمحور حول فكرة أن الإنسان هو غاية الوجود وهو صاحب الإرادة والاختيار، وأن أفعال العبد متوقفة على قدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار أي إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله.

إنّ هذه الفكرة - التي هي أساس التأصيل الأخلاقي عند المعتزلة - لم تأتِ من فراغ بل كان لها واقع فكري وسياسي مضاد، انطلق مما كانت تقوم به الدولة الأموية من توظيفات سياسية للمبدأ الجبري(1) الذي كانت تعتقد به فكراً، وتتبناه سياسةً عملية، وهو كان يحررها من التكليف والمسؤولية عن أفعالها وعما ارتكبته بحق الفرد والمجتمع، من انتهاك القيم الأخلاقية الإسلامية الإنسانية، إذ كان استسهال ارتكاب

ص: 43


1- نشير هنا إلى أن بروز (وانتعاش) الفكر الديني المحافظ المؤسس عند الإمام أحمد بن حنبل على فكرة الاعتقاد بعجز العقل، هو الخط والعنوان العريض الذي سيطر ، وما زال يسيطر على التاريخ الثقافي والعملي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهو يركز على فكرة أن العقل ليست له أية قدرة أو فائدة أو جدوى في أمور العقيدة، وتحريم الجدل في الدين، كما وجود كم هائل من نصوص الدين (قرآناً وسنة) تُعلي من شأن العقل ومكانته وقدره، وتركز على أهميته ودوره النوعي، وعياً واجتهاداً وسيرورة حياة خاصة لجهة كونه رسولاً من الداخل، كما جاء في أحد أهم المرويات الوضاحة حوله.

الفواحش والموبقات أمراً متاحاً لها، أي القتل والقمع والدماء من أبرز العناوين والمشاهد المؤلمة التي صبغت تلك المرحلة التاريخية بلون الدم، وكلها أفعال غير أخلاقية وغير إنسانية كان يجري تبريرها بناءً على بعض النصوص والأفكار الدينية التقليدية، وخاصة فكرة أن الإنسان مجبور على أفعاله، ولا حرية له في أي سلوك أو فعل وسبب، بناءً على مبدأً القضاء والقدر. بينما كان الرأي المعتزلي مبدأ عقلياً يقوم على حرية الفرد في اختياره العملي بما يحمّل كل فرد وكل سلطة مسؤولية أفعاله وأفعالها، وبما يحرر قيم الدين أيضاً من أية استخدامات أيديولوجية قدرية وسياسية تنتهك بموجبها أبسط بديهيات حقوق الفرد ولهذه الفكرة علاقة بالعقل كذلك، إذ عَدَّ المعتزلة - امتداداً لرفض مقالة الجبر التاريخي - إشكالية العقل والنقل لا تُحَلَّ إلا بتأسيس الدين على العقل، أي بجعل العقل حكماً ومرجعاً في أمور الدين والعقيدة رافضين بذلك الاتجاه الذي يؤسس سلطة الدين على النص والنقل لا غير، كما هي حالة الأشاعرة وغيرهم من أتباع المنهج النقلي التقليدي الذي أسس لاحقاً لكثير من الأزمات والصراعات والاحترابات الأهلية الإسلامية.

انشغلَ المعتزلة بسؤال الأخلاق، الذي سبق له أنْ طُرح كثيراً في منظومة التفكير الفلسفي منذ أيام الإغريق، وكانوا متقدمين وجريئين في طرحه على مستوى القيمة والمبدأ، واختلفوا فيه عن الطرح القديم الذي كان يبحث عن جواب عما يجب أن يكون عليه الإنسان من حيث هو إنسان»، فطرحوا في مقابله سؤالهم الأخلاقي - إذا صح التعبير - حول ماذا يجب على الإنسان العاقل أن يفعله، من حيث هو مسؤول ومكلّف ؟ ! بيد أن أمر التكليف هذا، وكما هو وارد في صميم السؤال، لا ينصرف إلى التكليف الشرعي فحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن ، وإنما ينسحب أيضاً على التكليف العقلي، بحكم أنّ الإنسان مكلف بالعقليات - أو بالأحرى بالأخلاقيات - قبل إرسال الرسل والنبوات، ومن ثم؛ فإنّ الناس محجوجون بعقولهم سواء منهم من بلغه خبر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو من لم يبلغه!.. وتأكيداً على المنحى الأخلاقي في فلسفة المعتزلة، فقد ربطوا بين معرفة الله من جهة (باعتبار ذلك أوّل الواجبات التي يتعين على المكلف الإلمام بها) وواجب الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً أخلاقياً من جهة

ص: 44

أخرى. وتلك إذن هي نقطة التقاء الميتافيزيقيا بالأخلاق في فلسفة المعتزلة.(1)

يعتقد المعتزلة أنّ استحقاق الثواب هو غاية التكليف؛ ولكن ذلك ليس هو وجه وجوب الفعل الأخلاقي؛ لأن الواجب لا يكون واجباً بإيجاب موجب، وإنما يختص بذلك لصفة له لا بد أن يعرفها المكلف، تستوي في ذلك الواجبات العقلية والشرعية على حد سواء. أما الواجبات العقلية؛ فتجب لصفات تخصها يكشف عنها العقل، وأما نظيرتها الشرعية فإنها - وإن وجبت للأمر - فذلك لكونها لطفاً ومصلحة من حيث إنّ إرادة العدل(2) الحكيم تقتضي ذلك.

وبعد معرفة الله تأتي السلوكية الأخلاقية التي هي محطّ الاهتمام الأبرز في الفكر المعتزلي بعد الإيمان والتوحيد، حيثُ لا بد وأن يعكس الإيمان، فعلاً أخلاقياً للتمييز بين الفعل الشرير والفعل الحسن بين الفعل السيئ والفعل الجميل.. وبذلك يصح القول هنا، إن جلّ اهتمام المعتزلة في المعرفة ينصب على نوع المعرفة المتصلة بالسلوك الأخلاقي للمسلم، كما يتركز اهتمامهم كذلك على العقل بوصفه مصدراً للأخلاق الفردية والجماعية في الجانب العملي منه، على عكس المعرفة النظرية التي لا تجب على الإنسان من حيثُ هو مكلّف، ومن ثم لا تجب على الناس جميعاً.(3) وهذه هي نقطة الخلاف الأساسية بين المعتزلة وبين غيرهم من مدارس الكلام الإسلامي فهم قدسوا العقل بالمطلق، إلى حد اعتقادهم بكون الأفعال إنما تحسن أو تقبح لذاتها.

ص: 45


1- محمد حلمي عبد الوهاب« العقل بوصفه مصدراً للإلزام الخلقي». صحيفة الشرق الأوسط، العدد: 12075، تاريخ: 2011/12/20م. الرابط : http://archive.aawsat.com/details.asp?section=17article=655114issueno=12075.Wlo3cLwjTIU
2- وتعد قيمة العدل معياراً أساسياً ومبدأ جوهرياً في فكر المعتزلة، فقد ربط هؤلاء بين صفة العدل والأفعال الإنسانية المعبرة عن أخلاق المسلم في سلوكياته العملية وكانوا يعتقدون أن للمسلم كامل الحرية في تصرفاته لكي يكون مسؤولاً عنها فيما يتعلق بالتكليف الشرعي على صعيدي الثواب والعقاب، ليكون الثواب عدلاً والعقاب عدلاً. وحرية الاختيار للفعل التي لا تكتمل العدالة والمسؤولية إلا بها، خالف من خلالها المعتزلة رأي العموم التقليدي المهيمن عليه من قبل أتباع النظرة الجبرية الأشعرية الذين آمنوا بأن المرء مجبر على أفعاله التي هي من خلق الله، وهذا ما ينفي أساس الثواب والعقاب، ويرفع المسؤولية عن كاهل الفرد المسلم الملتزم إلا أنّ المعتزلة رأت هنا أن عدل الله يقتضي أن يكون الإنسان هو صاحب أفعاله. يترتب على القول بالعدل الإلهي بأنّ الله لا يفعل الشر، فأفعال الله كلها حسنة .وخيرة. الشر إما أن يوجد من الإنسان، أو لا يكون شراً، إنما لا نعرف أسبابها، أو لا نستطيع أن نجد لها مبرر لكنها ليست شراً. (راجع : علي عبد الفتاح المغربي. «الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة» م، س، ص: 218-219).
3- المصدر السابق نفسه.

ومعلوم أنّ الاتجاه العقلي في دراسة الأخلاق يتمحور حول هذه المقولة حتى تتصفُ القيم الخلقيّة بالضرورة والكلية وهنالك تصبح مهمة العقل البشري متركزة في قدرته على الكشف عن هذه الحقيقة الموضوعية دونما حاجة - بحسب زعم المعتزلة وغيرهم لاحقاً - إلى نص ديني مقدس. فالعقل - في نظرهم - هو الوحيد القادر على الكشف عن وجه الحسن أو وجه القبح في كل فعل بعينه.

لقد عدَّ المعتزلة - وهم تيار من تيارات العدلية - أنّ الحسن والقبح في الأشياء ذاتي بالضرورة (العقلية)، ويمكن إدراكه بالعقل. فالفعل نفسه بغض النظر عن الشرع، له جهة محسنة تقتضي استحقاق الفاعل مدحاً وثواباً أو جهة مقبحة تقتضي استحقاق فاعله ذماً وعقاباً.(1) يقول أبو الهذيل العلاف: «ويجب على المكلف قبل ورود السمع ... أن يعرف الله تعالى بالدليل.... إن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحسن وقبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن (والأفعال الأخلاقية الحسنة) كالصدق والعدل والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور»(2).. ويقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: «قد ذكرنا أنّ وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل»(3) . ويقول في موطن آخر «فليس لأحد أن يقول إنما يحتاج إلى السمع ليفصل العاقل بين الحسن والقبيح».(4)

إذاً، قدم المعتزلة العقل على الشرع، وجعلوا منه فيصلاً وحيداً ومعياراً أوحداً، حيث قسّموا الأفعال إلى ما هي حسنة في ذاتها، وما هي قبيحة بذاتها، أي إن صفات الأشياء من حسن وقبح موجودة في الأشياء قبل أن يرد بها شرع، ثم يأتي دور الشرع ليكشف بدوره عن حقيقة الأفعال من حيث حسنها أو قبحها. والواضح أن توصيف المعتزلة لموضوع الحسن والقبح الأخلاقيين، وسعيهم لاثباتهما في عالم الوجود،

ص: 46


1- محمد المدخلي. «الحكمة والتعليل في أفعال الله». طبعة عام 1988م، ص: 83.
2- راجع كتاب الملل والنحل للشهرستاني، مؤسسة الحلبي، القاهرة، سنة النشر : 1968 ، الجزء: 1، ص: 51. وكتاب المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق مكتب الرشد للنشر، السعودية الرياض ، ط : 2 لعام 1995م، ص: 164
3- القاضي عبد الجبار . شرح الأصول الخمسة مصر / القاهرة بلا دار نشر طبعة عام: 1965م، ص: 565.
4- القاضي عبد الجبار المعنى في أبواب العدل والتوحيد». الناشر : الشركة العربية، مصر القاهرة، طبعة أولى لعام 1959م، ج 14، ص: 7.

يعطينا فكرة عن أنهم لا يربطون ذلك بإرادة الله وتشريعه. كما إنهم يعرفون مفهوم الحسن والقبح من دون الرجوع إلى أوامر الله وإرادته وكذلك، من أجل معرفة الحسن والقبح الأخلاقيين، لا يحتاج المعتزلة إلى مساعدة من الوحي والنص أو النقل، أي إنّ علم الأخلاق بالنسبة إليهم هو علم مستقل بذاته، وهو من ثم عضو في مجموعة العلوم العقلية ولا ينتمي إلى العلوم النصية أو النقلية. وهذا هو منطوقهم للعدل كقيمة ومبدأ جوهري في الدين يتصل بموضوعة الأخلاق، حيث كانوا يقيسون أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده، وقالوا: إنّ العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم، إن خيراً، وإن شراً.(1)

لكنّ المشكلة أنّ العقل الذي بايعه المعتزلة مصدراً وحيداً للقيم الأخلاقية والسلوك الأخلاقي - طبعاً مع أهميته القصوى دينياً وعملياً، ومع تقديرنا لما قام به المعتزلة من محاولات جادة فريدة لاستكشاف دور العقل في المجال الثقافي والتاريخي الإسلامي - هو عنصر نسبي ومحدود ومؤطر بظروف وأحوال زمانية ومكانية، وخاضع لمؤثرات نفسية خاصة بفاعله أي إنه محكوم بشروط إنسانية، تاريخية واجتماعية وتديين المعتزلة له (بجعله عنصراً متعالياً لا يأتيه الباطل)، أفقدهم توازنهم الفكري لجهة كونه مجرد ظاهرة إنسانية بشرية قابل للخطأ. فالعقل على صعيد الأخلاق والقيم - غير قادر على ولوج مناطق لا يعرف مدار ذاتية الحسن فيها من ذاتية القبح. نعم، قد يتمكن في بعض الأحيان من اكتشاف (ومعرفة) حُسن أو أو قُبح هذه الأفعال، بغض النظر عن حكم الشارع، حيث يكون حكم الشارع - في هذه الحالة - مجرد تنبيه ليلتفت الإنسان إلى حكم العقل . لكن أيضاً قد لا يتمكّن هذا العقل نفسه من اكتشاف ومعرفة حسن أو قبح هذه الأفعال، وذلك لخفاء ملاكاتها عليه، فيكشف الشارع له ذلك. ويعود أصل هذا الخفاء إلى قصور العقل في تلك الحالات عن إدراك المحاسن والمصالح الكامنة في تلك الأفعال(2).

ص: 47


1- فاخر سلطان المعتزلة والأخلاق النص يتبع العقل». موقع إيلاف تاريخ النشر: 2011/5/21م، الرابط : htm?sectionarchive=AsdaElaph.283902/11/http://elaph.com/Web/AsdaElaph/2007
2- أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت الياقوت في علم الكلام .. القول في «العدل» تحقيق علي أكبر ضيائي الناشر : مكتبة المرعشي النجفي إيران قم، طبعة ثانية عام 2007م، ص: 45.

فضلا عن أنّ من الأفعال ما ليس لها حسن أو قبح في ذاتها، فيقف العقل عند الحكم على حسنها أو قبحها، ويكون الشارع في هذه الحالة هو المصدر الوحيد لبيان حسن وقبحها هذه الأفعال وكمثال على هذا حسن العمل بالشرائع وقبح تركه من قبيل : الطهارة والنجاسة والأعمال العبادية .. فالعقل يدرك - أحياناً - الجهة الداعية لأمر الله تعالى والجهة الباعثة على نهيه، وقد تُخفى عليه هذه الجهات غير أنّ العقل يحكم حكم اليقين بأنه لو اطلع على ما خفي عليه، لكان حكمه موافقاً تماماً لحكم الشرع. فكل ما حكم العقل بحسنه ، هو محبوب شرعاً. وكل ما حكم العقل بقبحه، فهو مذموم شرعاً. ولهذا اشتهر عند الفقهاء قولهم : «ما حكم به العقل حكم به الشرع» .(1)

وقد يقول بعضهم كما قالت الأشاعرة بأنّ هناك موارد ومواقع حياتية يحسن فيها عقلياً - الفعل القبيح، وطرح الأشاعرة هنا مثالاً وهو ضرورة الكذب لإنقاذ حياة نبي من يد ظالم، حيث يجوز هنا عقلاً الكذب، ويحرم الصدق لأن فيه هلاك للنبي على يد ظالم. ولكن حقيقة الكذب يبقى قبحاً حتى في الحالة الأولى وقبحه لا يزول أبداً. وإنّ القول بحسن الكذب عند اشتماله على مصلحة عامة، ليس لكونه كذباً، بل لاشتماله على المصلحة العامة، فيكون الحُسن للمصلحة العامة لا للكذب. كما أن القول بحسن الصدق لا يزول أبداً. إذ إن القول بقبح الصدق عند اشتماله على مفسدة عامة ليس لكونه صدقاً، بل لاشتماله على المفسدة العامة، فيكون القبح للمفسدة العامة لا للصدق(2).

وهذا التركيز من قبل المعتزلة على العقل، بل تقديسهم له(3)، وإضفاء طابع العصمة

ص: 48


1- علاء الحسون «العدل عند مذهب أهل البيت» الناشر : المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت إيران طهران طبعة عام 2008. ص: 71.
2- العلامة الحلي . «كشف المراد». المقصد الثالث الفصل الثالث، المسألة الأولى، دار الأعلمي، لبنان بيروت، طبعة عام 1995م، ص: 419-420.
3- لا شك إن هذا التأسيس الإعتزالي لعلم الكلام وللأخلاق على العقل، لم يأت من فراغ، إذ هو - في الأصل- مبسوط (ومطروح) في الإسلام كنص مقدس، فضلاً عن ضرورته الحيوية للتطور والتقدم، فقد لاحظنا أن تناول القرآن الكريم لكلمة العقل جاء في سياقه التجريبي العملي وليس في بعده التأملي النظري فقط، كما تخبرنا الآيات الآتية: "أفلا تنظرون" و"أفلا تعقلون" و"انظروا ماذا في السموات والأرض" ، "أفلا يتدبرون"، ولا تنفذون إلا بسلطان“، وغيرها من النصوص الكريمة التي قاربت الستين مورداً قرآنياً. وحتى في السنة الكريمة فقد وردت أحاديث لا تحصى حول مكانة العقل، ولعل حديث أن العقل رسول من الداخل أبرزها. يقول الرسول (ص) : "إن لله على الناس حجتين ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة فهي الرسل والأنبياء، وأما الباطنة فهي العقل " (راجع: كتاب الكافي للكليني، مركز بحوث دار الحديث، إيران قم، ج 1، ص 16. بما يدلنا على أن للعقل أهمية قصوى وعليه الدور الأكبر في البناء والتحسين والازدهار الفردي والمجتمعي، مع تضخم التحولات والاحتياجات البشرية واتساع نطاق العلوم، وما تطرحه من إشكاليات وحاجات وهنا يأتي الإمداد والعون من فهمنا العقلي للدين.

عليه، خاصة في مجال الأخلاق والتحسين والتقبيح، مغفلين طابعه النسبي وتاريخيته ومحدوديته، كما سبق القول، حال دون وصولهم إلى تصور للعقل يتعايش مع حرية الرأي والفكر ، أي مع فكر الآخر المختلف. والواقع أن نظرتهم الدوغمائية للعقل قد ساهمت في تدعيم الفكر المحافظ، ذلك أن ارتباط هذه النظرة بالعنف الذي سلّطه حتى المعتزلة أنفسهم، على العلماء القائلين بأولوية النقل، قد رفع من شأن هؤلاء في نظر العامة، خصوصاً أن تفكيرهم «تفكير أهل السنة والجماعة» هو تفكير السّواد الأعظم الذين صاروا بعد المحنة (أقصد محنة خلق القرآن) يتبركون بالإمام أحمد بن حنبل، ويتمسحون بقبره. وكانَ لفشل المعتزلة في فرض تصورهم العقلاني للدين (في العقيدة والأخلاق) أن انتعش الفكر المحافظ المؤسس عند الإمام أحمد بن حنبل على الاعتقاد بعجز العقل وعدم جدواه في أمور العقيدة، وتحريم الجدل في الدين وانفصال أبي الحسن الأشعري عنهم، وإعلانه تبعية العقل للنقل. فعلى عكس "أهل السنة والجماعة الذين لا يزال مذهبهم ثابتاً ومسيطراً إلى اليوم، فإنّ تأثير المعتزلة قد اقتصر على النخب المثقفة وظهرت خصوبته خصوصاً في المجال الثقافي، إذ أنّ عصر سيادتهم السياسية كان أرقى العصور الحضارية التي عرفها العرب.(1)

ص: 49


1- إبراهيم سعدي. «الفكر المعتزلي وإشكالية العقل والنقل». مركز آفاق للدراسات والبحوث تاريخ النشر: 2010/10/30م. الرابط :2010/10/30م 390/https://aafaqcenter.com/post

أهم مراجع البحث:

أحمد بن يحيى بن المرتضى. «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة». دار مكتبة الحياة، لبنان بيروت، طبعة عام 1961م.

ابن منظور، «لسان العرب». دار صادر للنشر لبنان بيروت، طبعة عام 2003م.

الألوسي «روح المعاني» . دار الكتب العلمية لبنان بيروت، طبعة عام 1994م.

إسماعيل بن حماد الجوهري. تاج اللغة وصحاح العربية». تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين لبنان بيروت، ط 4 ، 1987

أبو جعفر محمد ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب. دار الأضواء لبنان بيروت، طبعة ثانية، عام 1991 م.

أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت الياقوت في علم الكلام.. القول في «العدل». تحقيق: علي أكبر ضيائي الناشر: مكتبة المرعشي النجفي، إيران قم، طبعة ثانية عام 2007م.

أبو الفتح الشهرستاني. «الملل والنحل». مؤسسة الحلبي، مصر/القاهرة، سنة النشر: 1968م.

جعفر السبحاني. «مفاهيم القرآن». مؤسسة التاريخ العربي لبنان بيروت، طبعة أولى، عام 2010م.

جمال الدين الحلي. «كشف المراد». المقصد الثالث الفصل الثالث، المسألة الأولى، دار الأعلمي، لبنان / بيروت، طبعة عام 1995م.

زكي مبارك «الأخلاق عند الغزالي». مطبعة الرحمانية، مصر القاهرة، طبعة عام 1977م.

عبد العزيز أحمد . «مباحث في نظريات الأخلاق» . دار الفكر العربي مصر القاهرة، طبعة عام 1965م

عواد المعتق . «المعتزلة وأصولهم الخمسة» مكتب الرشد للنشر، السعودية الرياض، ط: 2، لعام 1995م.

عبد الجبار بن أحمد (القاضي)، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تونس، 1972م.

عبد الجبار بن أحمد («شرح الأصول الخمسة». مصر القاهرة، بلا دار نشر، طبعة أولى لعام 1965م.

ص: 50

عبد الجبار بن أحمد (القاضي). «المعنى في أبواب العدل والتوحيد» الناشر : الشركة العربية، مصر / القاهرة، طبعة أولى لعام 1959م.

عبد الله شبر . «الأخلاق» . الناشر : ذوي القربي إيران قم، الطبعة الأولى لعام 2007م.

عبد العزيز أحمد. «مباحث في نظريات الأخلاق». دار الفكر العربي مصر عابدين، طبعة عام 1965م.

علاء الحسون «العدل عند مذهب أهل البيت» الناشر : المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت إيران طهران، طبعة عام 2008.

محمد بن جرير الطبري. «جامع البيان في تأويل القرآن تفسير الطبري» مؤسسة الرسالة، لبنان بيروت، طبعة عام 2000م.

محمد الريشهري . «موسوعة العقائد الإسلامية»، دار الحديث للطباعة والنشر ، قم إيران، طبعة ثالثة عام 2008م

محمود مزرعة تاريخ الفرق الإسلامية، مصر / القاهرة، دار المنار، طبعة: 1، عام 1991م.

محمد المدخلي. «الحكمة والتعليل في أفعال الله». طبعة عام 1988م.

محمد باقر الصدر. «الفتاوى الواضحة». دار الكتاب اللبناني لبنان بيروت ودار الكتاب المصري، مصر القاهرة، طبعة: 3 ، عام 1977م.

محمد حسين الطباطبائي. «الميزان في تفسير القرآن». مؤسسة المجتبى للمطبوعات، إيران قم، ط: 1 عام 2004م.

محمد بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق). «أمالي الصدوق». دار الأعلمي، لبنان بيروت، طبعة أولى عام 2009م.

ص: 51

التصور الأخلاقي لمفهوم الخير والشر عند ابن سينا

د. عماد الدين إبراهيم عبد الرازق(1)

مقدمة

لقد حظيت مشكلة الخير والشر باهتمام كبير من سائر الفلسفات سواء القديمة أو الوسيطة أو الحديثة، ففي الميثولوجيا الإغريقية كانت الأساطير تقدم تفسيراً جاهزا ، فلم يكن الخير والشر موضوع تفكير وتساؤل بقدر ما كان مجالاً للوصف ، ومع فلاسفة اليونان أخذت مشكلة الخير والشر منحى جديد، حيث أدمجت في ضمن نظرة فلسفية إلى كون مغلق، فكلما تم الانتقال من أعلى إلى أسفل قل مستوى الخير وازداد مستوى الشر. أما في الثنوية الفارسية القديمة كان هناك صراع بين الخير والشر من خلال وجود إلهين أحداهما للنور والآخر للظلمة.

أما في الفكر الإسلامي فقد اتخذت مشكلة الخير والشر اتجاها جديدًا وبعدًا مختلفا، فقد تم ربط مفهوم الخير والشر عند المتكلمين بدلالات عقدية وتربوية

وأخلاقية.

أما عند ابن سينا فقد اتخذ مفهوم الخير والشر شكلاً أكثر عمقا ، فهو لم ينظر إلى الخير والشر من زاوية تربوية أخلاقية بحتة ولا من زاوية فلسفية خالصة، بل جمع

ص: 52


1- أستاذ الفلسفة الحديثة من مصر، ينطلق الباحث من إشارة إلى أن ابن سينا قسم الشر إلى ثلاثة أقسام: أولا الشر الطبيعي ويتضمن كل ما يؤذي الإنسان ويلحق ضررا بسلامته الجسدية، وبحاجاته ورغباته، ووسيلة الإنسان لتمييزه اللذة والألم . ثانيا : الشر الأخلاقي ويتعلق بما يراه العقل العملي ضارا أو مؤذيا من الأفعال التي تقع باختيار الإنسان. ثالثا: الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يلحق الموجودات الممكنة ليمنعها من الوصول إلى الكمال الواجب لها. وثالثا: الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يلحق الموجودات الممكنة ليمنعها من الوصول إلى الكمال الواجب لها. لهذا تناول الباحث يتناول سبع نقاط مركزا على أمرين الأول، تحديد مفهوم الخير والشر عند ابن سينا، فيما الثاني، ميتافيزيقيا الخير والشر وعلاقتهما بالإرادة الإلهية، ثم يخلص إلى القول كما أن ابن سينا حاول أن يقدم بتفسيره للخير والشر، وعلاقتهما بالإرادة الإلهية والعناية أن يقدم تفسيرا معتدلا وليس مغاليا فيه، المحرر.

ودمج ما هو ديني في ضمن ما هو فلسفي من هنا يرى ابن سينا ليس كل ما نعتبره ناقصا في حياتنا نحكم عليه بأنه شر، فهذا الحكم والتقييم لا يشمل من وجهة نظره كل الموجودات، ولا ينطبق إلا على دائرة محددة من النقائص والحاجات فالشر عنده يتمثل في حرمان الموجود من كماله الضروري وليس الثانوي.

ويجب أن نشير في هذا السياق أن ابن سينا قد ميز بين تعريفين للشر، يرتبط التعريف الأول منهما بثنائية الوجود، بينما الثاني يرتبط باللذة والألم. فالأمور التي يقال أنها شر بحسب التعريف الأول إما أن تكون أمورًا عدمية، وإما تكون أمورا وجودية، فإذا كانت أمورا عدمية فأنها تكون عدما لضروريات الشي أو لأمور نافعة غير ضرورية، أو لأمور كمالية مستغنى عنها، والشر بالذات هو الذي يطلق على القسمين الأول والثاني، أما إذا كانت الأمور التي نحكم عليها بأنها شرور وجودية، فالأمر يتعلق بأشياء موجودة في الواقع لا مجرد عدم ، ويشير ابن سينا إلى أن الشر المتعلق بالأفعال الإنسانية ليس شرًا ذاتيًا مطلقا، بل هو نسبي عرضي أيضا، فهو شر من جهة، وخير من جهة آخري ويرى أن مقياس الشر في الأفعال الإنسانية مرتبط بمدى الأذى الذي يلحقه بكمال الإنسان لقواه العقلية والنفسية والبدنية، فكمال الشهوة هو الخيرات المادية مثل المأكل والمشرب وكمال القوة الغضبية الغلبة، أما كمال العقل يستند على الخيرات العملية التي ترتبط بتدبير العلاقة بالآخرين داخل المنزل أو المدينة.

ويؤكد على أن الشر هو العدم، والخير هو الوجود ، كما أن الأصل في الأشياء هو الخير، وكل شيء يبتهج بالخير ويشتاق إليه. كل هذا سوف نوضحه من خلال بحثنا حيث نلقى الضوء على مفهوم الخير والشر، وعلى علاقة الخير والشر بالإرادة الإلهية، وعلاقة الخير والشر بالعناية الإلهية وغيرها من الإشكاليات.

أولاً : تحديد مفهوم الخير والشر عند ابن سينا:

بداية نشير إلى أنه من الأهمية بمكان أن نحدد مفهومي الخير والشر حتى ننطلق إلى بيان علاقتهما بغيرهما من الموضوعات، ولقد وضع ابن سينا تعريفين رئيسيين

ص: 53

للشر وبالتبعية أيضا يرتبط بهما مفهوم الخير. يرتبط التعريف الأول للشر بثنائية الوجود والعدم، بينما الثاني يرتبط باللذة والألم فالأمور التي يقال عنها أنها شر بحسب التعريف الأول، تكون إما أمورا عدمية، وإما أمورا وجودية، فإن كانت أمورا عدمية فإنها تكون عدما لضروريات الشي، أو لأمور نافعة غير ضرورية،أو لأمور مستغنى عنها، والشر بالذات هو الذي يطلق على القسمين الأول والثاني، فيقال شر للنقص الذي هو مثل الجهل والضعف هذه تسمى شرور بالذات لأنه يترتب عنها أن يفقد الشي كماله الذي يتوقف عليه في وجوده أو ماهيته، على سبيل المثال العمى يعد شرًا؛ لأنه مانع للعضو من كماله ومن سلامته ، وعليه فالعمى لا يجوز في العين ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلا شرًا(1).

أما إذا كانت الأمور التي نحكم عليها بأنها شرور وجودية، فالأمر هنا يتعلق بأشياء موجودة في الواقع لا مجرد عدم ، ومع ذلك رغم أن هذه الشرور وجودية أي متعلقة بأشياء ،واقعية، إلا أنها ليست شرورًا بالذات، بل بالعرض من حيث إنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، فما من فعل من الأفعال الوجودية التي يقال أنها شر، سواء بالنسبة إلى الموجودات الطبيعية أو إلى الموجودات العاقلة، إلا هو خير بالنسبة إلى ذلك تكون شرا بالنسبة لمن وقع له ضرر وأذى من ذلك الفعل، وفقد فاعله، لكن مع بسببه شيئا من كمالاته .(2)

وما يتعلق بظواهر الطبيعة ينطبق أيضا على أفعال الإنسان، فالأفعال تعد شريرة بسبب كونها إعداما أو عدمًا لكمالات وجودية يجب أن تكون للإنسان، هذا الشر الإنساني ليس شرًا ذاتيًا مطلقا فحسب، بل هو نسبي عرضي أيضا، فهو شر من جهة وخير من جهة آخري، لذا يقول ابن سينا لا نجد شيئا مما يقال له شر من الأفعال، إلا هو كمال بالنسبة للفاعل له، وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر.(3)

ص: 54


1- ابن سينا : النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تقديم ماجد فخري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985، ص321.
2- فخر الدين الرازي: المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات ، ج2، مكتبة الاسدي طهران، 1966، ص 520.
3- ابن سينا النجاة، ص324

مثال ذلك الاستبداد ، يمثل كمال للقوة الغضبية التي يصدر عنها، لأن هذه القوة إنما خلقت لأجل أن تتوجه نحو الغلبة، ومتى ضعفت عن التحكم كان ذلك شرا لها، وإنما عد شرًا بالنسبة إلى المظلوم لحرمانه من حقوقه ، أو إلى النفس العاقلة؛ لأنه مانع لها عن كمالها الذي كسر شهوة التسلط والغلبة أو السياسة المدنية لما يفوته عليها من خيرات.

ويرى ابن سينا أن مقياس الشر في الأفعال البشرية يكون مرتبطا بمدى الأذى الذي يلحقه بكمال الإنسان ولقواه العقلية والنفسية والبدنية، فكمال الشهوة هو الخيرات المادية مثل المأكل والملبس وغيرها، وكمال القوة الغضبية الغلبة، وكمال العقل يتحقق بنوعين من الخيرات الخيرات العملية التي ترتبط بتدبير العلاقة بالآخرين داخل المنزل، وبها يكمل العقل العملي، ثم الخيرات الروحية التي يستكمل بها العقل النظري وتشمل سائر المعارف، وبالخصوص تلك المتعلقة بذات الباري وصفاته وأفعاله. ثم يلفت الانتباه إلى أن النفوس التي حققت الخيرات العقلية المتمثلة في المعارف والاعتقادات الحقة الأجدر بالسعادة، وتلك التي فوتت هذه الخيرات تكون نفوس شريرة شقية. من هنا يتضح لنا أن الشر عند ابن سينا يكون محصورا في النقائص الضرورية، وأن هذا الشر ليس أمرا وجوديا ولا ذات له، بل هو أما عدم جوهر أو عدم صلاح الجوهر.(1)

ثم يشير ابن سينا إلى أن الأصل في الأشياء هو الخير ، وكل شيء يحصل له،بحكم نوعه وطبيعته، كمال يستحقه مثل البصر للعين، وهذا الكمال هو كمال ضروري، يتوقف عليه الوجود والشخص، والكمال للشي يكمله في وجوده الواجب له، وكل شيء بحكم طبيعته يبتهج بالخير ويشتاق إليه، لذا يقول: خير كل شي ما يشتاقه ويبتهج به من كماله، لكن أحيانا يعدم الشيء كماله فيسمى شرا من حيث هو عادم لكمال الواجب له، ويؤكد في هذا السياق على حقيقة مهمة وهي ليس للشر المطلق وجود، لأنه لو وجد لكان ضد نظام الطبيعة وضد الإرادة الإلهية التي تهب الكمال لكل ما من شأنه أن يكون

ص: 55


1- ابن سينا : التعليقات تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ، 1973 ص21.

مستعدا له بحكم إمكانه ، ومن هنا يوجد ترتيب للموجودات تتدرج من الأعلى خيرا إلى الأدنى خيرا، الله هو الخير المطلق وباقي الكائنات تتدرج في درجة الخيرية، فواجب الوجود بذاته هو الخير المحض ، فهو مفيد لكل وجود ولكل كمال وجود، فهو لا يتوقف وجوده على غيره ، كما لا يوجد فيه أي شكل من أشكال النقص.(1)

هذا بالنسبة للتعريف الأول للشر عند ابن سينا، أما التعريف الثاني فهو مرتبط باللذة وبالألم، وفي هذا السياق يربط ابن سينا الخير والشر في الأفعال الإنسانية، باللذة والألم، ومن هنا يرى أن اللذة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، والألم هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر.

هنا الشر يحمل أيضا معنى وجوديًا عرضيًا غير ذاتي، فهو وجودي لأن الآلام ليست معاني عدمية بالمعنى السابق، لأنها تحدث عن شي مؤلم، وتحدث إدراكا وجوديًا غير ملائم ، مثل النار التي تحرق الجسد، لأن المتألم لا يتألم لفقده شيئا، بل لإدراكه شيئًا وجوديًا مؤذياً، من هنا تعد النار شرا بالنسبة إلى المتألم بها، بناء على ذلك نرى أن إدراك الملائم أي اللذة ،والخير إنما هو في حقيقته كمال وجودي للمدرك، وكذلك إدراك غير ملائم أي الألم والشر من هنا كل ما يحقق الكمال واللذة والإدراك المناسب يعد خيراً وذلك هو الوجود ، وكل ما يعد نقصًا ويسبب ألما وإدراكا غير مناسبًا يعدّ شرًا، فالخير هو الموجود والشر هو العدم.(2)

ويجب الإشارة إلى أن ابن سينا قسم الشر إلى ثلاثة أقسام:

أولا الشر الطبيعي: ويتضمن كل ما يؤذي الإنسان ويلحق ضررا بسلامته الجسدية، وبحاجاته ورغباته، ووسيلة الإنسان لتمييزه اللذة والألم.

ثانياً: الشر الأخلاقي: ويتعلق بما يراه العقل العملي ضارا أو مؤذيا من الأفعال التي تقع باختيار الإنسان.

ص: 56


1- ابن سينا النجاة، ص.267
2- الامدي: شرح التمويهات في شرح الرازي على الإشارات والتنبيهات لابن سينا دار الكتب العلمية، بيروت، 2013 ، ص 309.

ثالثاً: الشرّ الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يلحق الموجودات الممكنة ليمنعها من الوصول إلى الكمال الواجب لها.(1)

من هنا فإن تعريف ابن سينا للخير والشر يكون مرتبطاً بالاعتبارات الميتافيزيقية، لأنه جعل الله واجب الوجود هو المصدر الأساسي لكل خير، والموجودات تستمد كل خير من فيضه، لذا هو الخير المطلق.

ثانياً: ميتافيزيقيا الخير والشر وعلاقتهما بالإرادة الإلهية:

لقد انطلق ابن سينا من نقطة أساسية في تحديد علاقة الخير والشر بالإرادة الإلهية، تتمثل تلك النقطة في تحديد مقدار وحجم الشر في الكون، وموقعه ضمن سائر الموجودات الخيرة الأخرى، ومن هنا یری أن الشر ليس له وجود أصيل في العالم بمعنى أنه عرضي، كما أن هذا الشر مرتبط بالمادة، وعلى هذا الأساس الموجودات إما أن تكون لامادية، وهنا فلا يوجد نقص فيها كما أنها معصومة من الشر، أما الموجودات الأخرى أو الثانية فهي مادية وهنا تكون معرضة للنقص وللشر أيضا.(2)

من هنا نستخلص حجم وجود الشر عند ابن سينا في أن الموجود إما أن يكون خيرا من كل الوجوه، أو شرًا من كل الوجوه، أو خيرًا من وجه وشرًا من وجه وهذا الأخير يكون على ثلاثة أقسام، فإنه إما أن يكون خيره غالبًا على شره، أو يكون شره غالبا على خيره، أو يتساوى خيره مع شره، وهنا يكون عندنا خمسة أقسام، القسم الأول فقد وجب وجوده في نظر ابن سينا، لأن الخير هو الموجود، والموجود الذي يكون خيرا من كل وجه ومنزها عن كل شر، إما أن يكون خيرا لذاته وهو واجب الوجود، إذن هو الخير المطلق، لذا يقول ابن سينا الوجود الذي لا يقارنه عدم فهو خير محض، وإما أن يكون خيرا لغيره هو العقول المفارقة والأفلاك السماوية، وجميع الشر يوجد فيما تحت فلك القمر. أما القسم الثاني فانه لو وجد لكان شرا مطلقا، ولكن لما كان الشر ملازما للعدم، فقد استحال وجود هذا القسم، وكذلك القسم الثالث الذي يكون شره غالبا

ص: 57


1- ابن سينا النجاة، ص 268
2- فخر الدين الرازي: المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ص 520

والرابع الذي يكون شره مساويا لخيره، فهما لا يمكن إيجادهما، لأنهما لو وجدا لكان وجودهما منافيا للحكمة الإلهية التي خلقت الموجودات على وجه يمكنها من أن تبلغ الكمالات التي يجب لها بحكم ما فيها من إمكانات. أما القسم الخامس الذي يكون خیره غالبا علی ،شره فيعترف بوجوده ، إلا أنه يؤكد محدودية شره مقارنة بخيره الغالب، فهذا الشر يكون قليل بالقياس إلى سائر الوجود(1).

وهناك سؤال مطروح في هذا السياق وهو إذا كانت غلبة الخير على الشر تبدو مقبولة في عالم الطبيعة، فماذا عن عالم الإنسان؟ الإجابة من جانب ابن سينا هي التأكيد على أن الغالب على الناس هو السعادة الدنيوية والأخروية، أما الشقاوة فتبقى أقلية، لذا لا يتفق مع من يقول أن الغالب على أكثر الناس هو الجهل وطاعة الشهوة والغضب، والخلو من الأخلاق الفاضلة ، ويرى أن أهل السعادة والخير يكونون أكبر من أهل الشقاوة والشر، ومن هنا يكون الخير غالبا على الشر في الآجلة كما هو الحال في العاجلة، فالشر بوجه عام موجود؛ ولكن حجمه محدود، ثم أنه غير مقصود لذاته بل لغيره (الخير) فهو عارض طارئ.(2)

من هنا نرى أن ابن سينا من أنصار نظرية وجود الشر من أجل غاية أكبر وأعظم هي الخير ، فالشر في العالم يكون من أجل خير أسمى، ووجود الشر يكون محدود

بالمقارنة بالخير.

ثالثا الخير والشر في التصور الديني والميتافيزيقي:

إذا كان الشر موجودا عرضيًا في هذا العالم، سواء نسب إلى الإنسان أم الطبيعة، فهنا يجب أن نطرح سؤالاً جوهريًا يتعلق بما إذا كان مبرر وجود الشر ينحصر في حرية الإرادة، وهنا يكتسب دلالة أخلاقية خالصة، أو يندرج ضمن تدبير إلهي شامل، فيكتسب بعدًا دينيًا وميتافيزيقيا، وفي هذا السياق نشير إلى ابن سينا ربط مفهوم الشر بالبعد الديني والميتافيزيقي، وربطه أيضا بالإرادة الإلهية، ويشير إلى أنه رغم وجود

ص: 58


1- ابن سينا النجاة، ص 322
2- ابن سينا: الإشارات والتنبيهات تحقیق سلیمان دنیا دار المعارف، القاهرة ، 1960، ص 551.

الشر في العالم، إلا أن الله لا يكون سببًا مباشرًا أو فاعلاً له أو متصفا به، ذلك أن الله لم يخلق موجودات شريرة شرا مطلقا ولا شرا ذاتيًا، كما أنه لم يخلق عالما يسيطر عليه الشر، ولا حتى يتساوى خيره مع شره، وإذا كان الشر موجودا في هذا العالم فوجوده من أجل خير أعظم والضرورة اقتضت أن لا توجد الموجودات الخيرة ولا تدوم خيريتها إلا بوجود بعض الأفعال الشريرة ومن هنا فالله مريد للشر لكنه بالعرض وليس بإرادة ابتدائية فالشر داخل في القدر بالعرض وبهذا المعنى يسمح الباري بوجود الشر، وهو يريد الخير إرادة أولية ويريد الشر أيضا لكن بالعرض، وبناء على ذلك نستنتج أن الله تعالى غير مسؤول عن الشر، لأنه خلق موجودات هي في ذاتها خيرة وتساهم في كمال باقي الموجودات، ولكن وجودها ما كان يتم دون أن تصدر عنها بالعرض بعض الآفات والشرور(1).

وفي هذا السياق يشير ابن سينا إلى أن وجود الشر في هذا العالم يعود بالدرجة الأولى إلى المادة التي تقبل العدم، وهذه المادة توجد دائما وجودًا بالقوة، ومن هنا لا تسمح بوجود موجودات كاملة كمالاً تامًا ، لذا الشرور توجد لضرورة الهيولى . ومما سبق يتضح لنا كيف أن ابن سينا ينزه الله عن كل نقص، وكيف أن الله لا يصدر عنه شر، ورغم إيمانه بأن الحكمة الإلهية اقتضت وجوده والسؤال هنا من يتحمل إذا مسؤولية حصوله ؟ الإجابة أنه رغم صدور الشر بموجب القضاء الإلهي، فإن المسئول المباشر عنه ليس العلة الفاعلة بل العلة القابلة، فالشر لازم لأشخاص الموجودات وطباعها واستعداداتها الكامنة في مادتها، وإلا فإن المخلوقات التي تتعالى عن حركة الزمان ولا تتلبس بالمادة والشهوة تكون منزهه عن الشر، كما هو الشأن في الأنواع والأجناس، ومن هنا يقول ابن سينا أن الشرور يجب إضافتها إلى الأشخاص والأزمان والطباع، وأنه متى حصل نقص في أحاد نوع ما كان ذلك النقص عائدا إلى ضعف في القابل وقصور في المستعد (2). من هنا نرى أن الشر لا ذات له، وليس في ذاته أمرا

ص: 59


1- ابن سينا: الإشارات والتنبيهات، شرح نصر الدين الطوسي، تحقيق سلیمان دنیا ، ج4، ط3، دار المعارف، القاهرة، 1980 ، ص 305 .
2- ابن سينا: الرسالة العرشية في حقائق التوحيد وإثبات النبوة، تحقيق وتقديم إبراهيم هلال، جامعة الأزهر، القاهرة ، 1988 ، ص 38

وجوديا صادر عن الله والشر يقع بسبب امتناع الموجود عن تلقي الوجود، وعجزه بحكم مادته عن قبول الفيض الصادر عن واجب الوجود.

رابعا، مشكلة القضاء والقدر وعلاقتها بالخير والشر:

بداية نشير إلى أن مذهب ابن سينا في القضاء والقدر يتلاءم مع مذهبه القائل بارتباط الأسباب بالمسببات ارتباطا ضروريا وبما يشتمل عليه العالم من نظام ،وترتيب وبما قال به من تقسيم الموجودات إلى واجب وممكن. ولقد تناول ابن سينا موضوع القضاء والقدر وعلاقته بالخير والشر في مجموع رسائله الإشراقية مثل رسالة القضاء والقدر، ورسالة سر القدر، والرسالة العرشية، وفي هذا السياق يشير ابن سينا إلى أن العالم مركب من مادة وصورة، أو قوة وفعل وعنهما توجد الموجودات وتعدم، ففي وجودها خير وفي عدمها شر، وهذا النظام ضروري لصلاح العالم، ولو كان العالم لا يجري فيه إلا الصلاح المحض، لم يكن هذا العالم عالما، بل كان عالماً آخر ولكان يجب أن يكون مركبًا على هذا الوجه والنظام، فأنه يجرى فيه الصلاح والفساد جميعاً.(1)

ومن هنا يرى أن ما ينتج في العالم من شرور هي ينتج في العالم من شرور هي ضرورية لخير العالم وصلاحه، إذ لو كان العالم يجري على الخير فقط لكان ثابتا غير متحرك، والمادة لأبد أن يطرأ عليها التغيير والفساد، ولذا كان ترك هذا الخير وهذا النظام على ما يبدو فيه من شرور قليلة هو شر كثير والحكمة الإلهية اقتضت وجود هذه الشرور لما فيه من صلاح ونظام العالم، وهذا الشر الجزئي الموجود هو خير لأن موجود ومن سبب خير في نفسه لمعنى كلي فلا يكون إذا شراً .(2)

ويضرب أمثلة يدلل بها على ما ينتج من شرور جزئية ناتجة عن الخير هو أمور لازمة لصلاح نظام العالم مثل الشمس بما تؤدي مما ينفع الإنسان والنبات والحيوان، فإذا فرض تعرض الإنسان في صيف شديد الحرارة وقت انتصاف النهار، وكان في

ص: 60


1- ابن سينا رسالة في القضاء والقدر، ضمن جامع البدائع، مطبعة السعادة، ط1، القاهرة،1917ص46.
2- ابن سینا رسالة في إبطال أحكام النجوم، ص ضمن مجموعة رسائل ابن سينا تحقيق حلمي ضيا أولكن ص59.

مغارة وليس معه ماء فيهلك عطشا، فإن هذا الهلاك شر لذلك الرجل، الرجل بعينه، وربما قيل كان يجب أن تكون الشمس بحيث لا يصاب لها، ولكن إذا لم تفعل الشمس المراد من وجودها لما كانت خيرا، فإذن هذا الهلاك ليس شرا مطلقا، بل هو خير، لأنه حاصل عن مثل هذا الخير المطلق وما ينتج عن القدر كما يرى ابن سينا هو لارتباط الأسباب بالمسببات وهو لصلاح العالم.(1)

ويوضح ابن سينا بعد ذلك علاقة الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويرى أن الله فالق الظلمة بنور الوجود، وهو المبدأ الأول الواجب بذاته، وأول الموجودات الصادرة عنه هو قضاؤه، ويشير إلى أن هذا القضاء ليس فيه شر، وما يحدث من شرور فهي تحدث في القدر، لأنها تحدث عندما لا تتأدى الأسباب بمصادماتها إلى شرور لازمة عنها بعد قضائه، ومن هنا فإن السبب في وجود هذه الشرور هو خلقه، فلذلك قال تعالى ( من شر ما خلق) فجعل الشر في ناحية الخلق والتقدير، كما أن الأجسام من قدره، وليس من قضائه، فليس في قضائه أجسام على الإطلاق، بل جواهر عقلية، وهذه الجواهر هي خير، وهي العقول المفارقة، ولا يلحقها شر بأي وجه من الوجوه، أما الأجسام فهي مصدر الشر لأنها مكونة من المادة والإمكان وهما منبعا الشر في الوجود، فالأجسام لا توجد إلا في قدره أي في عالم الموجودات الأرضية، ولكن من حكمة الله أنه أفاض على الموجودات بالخير أولا، ولذا فإنه سبحانه قدم الانفلاق، وهو إفاضة نور الوجود على الماهيات الممكنة من الشر اللازم عن الخلق، فالانفلاق هو الخير الفائض من السابق على وجود الشر الذي يلزم عن وجود الموجودات وإذا كان الخير مقصودا بالقصد الأول وبالذات فالشر داخلا في القضاء الإلهي بالعرض، لذا يقول إن الفالق لظلمة العدم بنور الوجود هو واجب الوجود والشرور غير لازمة عنه، أولا في قضائه وثانيا في قدره، لذا أمر بالاستعاذة برب الفلق من الشرور اللازمة عن الخلق.(2)

ص: 61


1- مني أبو زيد: مفهوم الخير والشر في الفلسفة الإسلامية دراسة مقارنة في فكر ابن سينا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1،1999، ص172.
2- ابن سينا: تفسير المعوذة الأولى من جامع البدائع، مطبعة السعادة، القاهرة، 1917 ص 25

خامساً: علاقة الفعل الإنساني بالخير والشر:

يرى ابن سينا أن أفعالنا إذا كانت على حسب ما هي مقدرة عند الله فهي أفعال تتجه إلى الخير ، أما إذا خالفت هذا التقدير فهنا يدخل الشر، فإذا التزم الإنسان في فعله الأسباب الصحيحة الموضوعة في نظام العالم والمراد بها صلاحه أدى هذا إلى خيرية الأفعال، أما إذا خالفت نظامها صارت أفعاله شرورا، فالشر الناتج من أفعال الإنسان ليس بقدرة الله، وإنما ناتج عن الإنسان غير المتابع لما في القضاء من نظام وخير ، وهنا يصح قول ابن سينا أن الشرور تنسب إلى الأشخاص، فالشر الجزئي والخير الجزئي الذي يوجد في ظاهر الأمر إنما يوصف فضلا عن أشخاص معينة (1). وكذلك ترتبط الأفعال عند ابن سينا بالقدرة والإرادة والقادر هو الذي يصدر منه الفعل على وفق الإرادة، وهو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لابد من أن تكون مشيئة الله وإرادته مختلفة، حتى يشاء تارة ولا يشاء تارة آخري، ومشيئته وإرادته متحدة، فهو علم نظام الخير على الوجه الأكمل والأبلغ ، لذا لا تتغير مشيئته ولا إرادته.

سادساً: الخير والشر وعلاقتهما بالعناية الإلهيةک

تتعلق تلك المشكلة بسؤال مهم ومحوري وهو إذا كانت الموجودات تقع بإرادة الله وحكمته، فلماذا لم يخلقها بلا شر ابتداء، حتى لا تكون في الأصل محتاجة إلى بلوغ خيريتها إلى هذا الشر القليل، كان يخلق النار مثلاً عندما تكون سببا للخير، ويمنع وجودها عندما تكون سببا للشر، وبذلك يكون عالمنا ممكنا خاليا من كل شر؟ إجابة ابن سينا بأنه لو خلقها كذلك لكان هذا هو القسم الأول من الموجودات أي ذلك الذي يكون خيرا تاما وليس ذلك إلا لواجب الوجود المتفرد بالخيرية المطلقة، نعم ذلك يكون ممكن في عالم غير عالمنا الطبيعي عالم السماء والعقول المفارقة، فأنه تنزه عن الشر ولم يصل إلى درجة الكمال المطلق في الخيرية، وذلك

ص: 62


1- ابن سينا الرسالة العرشية ضمن رسائل ابن سینا حیدر آباد دائرة المعارف العثمانية، 1353ه، ص 11.

مما فاض عن المدبر الأول ووجد في الأمور العقلية والنفسية السماوية .(1)

أما عالم الإنسان والطبيعة عالم المادة والتغير والنفس الشهوانية، فقد ظل محلاً لكل شر، بل ما كان ليكون ممكن الوجود إلا بأن يكون ناقصًا عاريًا عن الكمال الواجب لواجب الوجود، وشريته ليست شيئا آخر غير هذا النقص المتأصل في ماهيته، لكن لو كان كله شرا أو لو كان شره طاغيا على خيره لما كان ممكن الوجود أصلا لأن البارئ تعالى بحكم وجوده وعنايته يمتنع في حقه أن يخلق عالماً مثل هذا ، أما وأن العالم كان واجب الصدور عن البارئ، بناء على الاعتقاد في قدمه، وأن البارئ موجب غير مختار في صدور الموجودات عنه، ولم يكن بالإمكان أن يكون العالم مطلق الخير، ولا مطلق الشر، ولا حتى أن يكون شره غالبا، وهنا يؤكد ابن سينا أن الشر واجب الوجود في أفعال الإنسان والطبيعة على السواء لكن من دون أن يكون متعارضا مع العناية الإلهية، بل يجب أن يكون منسجما معها، إذ إن العناية الإلهية اقتضت أن يصدر العالم عن إله على أحسن نظام وأفضل كمال بحسب الإمكان، لذا يقول ابن سينا العناية هي كون الأول عالما بما عليه الوجود من نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان، وراضيا به فيفيض أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان (2). ثم يشير ابن سينا إلى نقطة جوهرية وهي أن الشر لا يتنافى والعناية الإلهية بالعالم بل لا يمنع أيضا أن يصدر عن الباري أفضل العوالم الممكنة خيرية، وفي هذا السياق يرى ابن سينا أننا لسنا مختارين في هذا العالم الخاضع للعناية الإلهية بين عالم تام الخير وآخر ناقص، بين عالم أكثر شرا وآخر أقل شرا ولما كان الباري تعالي منزهًا عن العبث اقتضت إرادته هذا العالم كثير خيره والقليل ،شره فلو افترضنا عالما خاليا من كل شر، لكان كامل الوجود، ولكان من ثمّ ندًا لواجب الوجود، فوجود مثل هذا العالم إذن ممتنع، وبالمقابل لا يبدو وجود الشر ممكنا فقط، بل يبدو واجبا أيضا لا بحكم الطبيعة الناقصة للإنسان والكون،فحسب، بل بحكم خضوعهما للتدبير الإلهي .(3)

ص: 63


1- ابن سينا النجاة، ص 323
2- المرجع السابق: ص 380
3- ابن سينا النجاة ، ص 284.

سابعاً: الخير والشر وعلاقتهما بالثواب والعقاب:

ينصب هذا الموضوع في أسئلة عدة محورية جوهرية عما إذا كان الإنسان في فعله لا يخرج عن قدره وأفعال صادرة على سبيل الوجوب ، فلما يعاقب إذن؟ وهل يعاقب على أفعال هو مجبر عليها ؟ أليس العقاب هو شر بالنسبة للإنسان؟ وكيف يصدر العقاب الذي هو شر عن الله الذي هو خير؟ في البداية يجب أن نشير إلى تعريف ابن سينا للثواب والعقاب لكي نحدد بعد ذلك علاقتهما بالخير والشر. الثواب عنده هو البقاء في العناية الإلهية، وهو حصول استكمال النفس لكمالها الذي تتشوقه، أما العقاب فهو تعريض النفس غير المستكملة لان تستكمل ، ويلحقها أذى من قبل جهلها ونقصانها، والحال في ذلك شبيهة بالحال في المرض، إذا عولج بما يكرهه ليعقبه ذلك صحة(1).

ويلفت الانتباه في ذلك السياق إلى أن المقصود بالثواب والعقاب هو الإنسان فقط، ذلك أن البهائم مهملة عن الخطاب، مسلمة من الحساب والعقاب والثواب والعقاب لتخليص النفس من شرورها والعقاب هو نتيجة لما قامت به النفس من شرور وهو يخلصها من تلك الشرور لتصبح نفسا نقية صافية، كما يرى أن العقاب هو لازم للأفعال المذمومة، وارد على النفس منها لا من الخارج، فهي نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. والسؤال كيف صدرت العقوبة التي شر من الله الذي هو خير؟ يرى ابن سينا أن ما صدر عن الله في البداية هو الخير، لأنه قد جعل للنفس كمالا معينا مخصصا لها، حين كانت لا تزال في العلم الإلهي كلفها بما مستعدة

هي له، ولكن هذا الكمال لا تستطيع الحصول عليه إلا عندما يكون لديها استعدادات تحصل من أفعالها، لكن النفوس لا تستطيع أن تحصل على هذا الكمال بسهولة، لان فيها نزاعا بين القوى العقلية التي هي خيرها وكمالها، وبين قوى الشر المتمثلة في القوى الغضبية والشهوية، لذا وجب على الإنسان أن يقاومها للحصول على كماله الذي هي خیره، ، لذا يساعده الله تعالي بالتخويف من العقاب، فالعقاب ليس إذن

ص: 64


1- ابن سينا التعليقات: ص119

شرا بل هو ،خير فصدوره عن الله هو صدور للخير وليس صدورا للشر. فالتخويف من العقاب هو خير لازم، فوجب أن يكون التخويف موجودا في الأسباب التي تثبت فتنفع في الأكثر .(1)

من هنا نستنتج أن التخويف والعقاب الصادر عن الله هو فعله للخير. ويرى ابن سينا كذلك أن الخير سابق على الشر في العقاب، وأن التخويف سابق على التقدير على العقاب، أي إنه تعالى انذر الإنسان أولا بالعقاب، فإذا فعل الشر بعد ذلك لزمه العقاب، فالتخويف متقدم في التقدير على العقاب، ولا محذور منه أصلا. ويعتقد ابن سينا أن العقاب هو خير لأنه شي عادل للنفس، وهو نتيجة لفعلها وعدم التزامها بالحدود المصرح لها به والذي حدده لها الرسل والمشرعون، والعقاب يكون على شي باق بعد الموت، وهو لا محالة معترف بذنوب، وأفعال يستحق عليها العقاب، وهو مع ذلك معترف بحاكم عادل يعاقب على السيئات لا على الحسنات.(2) من هنا وجب على الإنسان أن يحترز من الذنب ويجتنبه وكان العقاب دافعًا للإنسان على اجتناب الشرور وهو لازم عما ارتكبه من الأفعال المنهي عنها، ولذا عاقبه اله على عصيانه. ويعتقد ابن سينا أنه من الخير أيضا أن يصدق الله في عقابه، فكان واجبا عليه إذا وعد بالثواب وتوعد بالعقاب أن يصدق في قوله، لأن التصديق تأكيد للتخويف، فالإبقاء بذلك التخويف بتعذيب المجرم تأكيد للتخويف ومقتض لازدياد النفع فهو حسن وخير ، فإذا كان التخويف من الأفعال الخيرة لله، فكذلك التصديق به، لذا يقول فإذا عرض من أسباب القدر أن عارض واحد مقتضي التخويف، والاعتبار فركب الخطأ، وأتى بالجريمة وجب التصديق لأجل الغرض العام.(3) ويشير ابن سينا في هذا السياق إلى أن العقاب خير لأنه يؤدي إلى خير العالم ونظامه، وقد يعترض بعضهم على ابن سينا بأن هذه العقوبة ليست خيراً بل هي شر وعذاب للمعاقب، يجيب ابن سينا عن ذلك بأنه ربما يكون هذا شرا بالنسبة إلى الشخص المعذب ولكنه

ص: 65


1- ابن سينا: الإشارات، ص 743 .
2- ابن سینا رسالة عدم الخوف من الموت، ضمن رسائل ابن سينا في الحكمة المشرقية، ليدن، 1889 ص 253. أيضا. شرح قطب الدين الرازي شرح الإشارات المعروف بالمحاكمات، ص459
3- ابن سينا الإشارات، ص 745.

خير بالنسبة إلى كثيرين من نوعه وهذا الشخص المعذب هو جزء من أقل والمهم هو المجموع الأكثري، لذا يرى انه لا يلتفت لفت الجزئي لأجل الكلي، كما لا يلتفت الجزء لأجل الكل فيقطع عضو يؤلم لأجل البدن بكليته يسلم.

فالعقوبة وإن كانت شرا بالقياس إلى الشخص المعذب لكنها سبب لكمالات باقي النفوس، ولا يلتفت إلى ذلك الجزئي، لأن ترك خير كثير من أجل شر يسير هو شر كثير، فهو من جهة الخير كثير الذي يلزمه شر قليل، ثم بعد ذلك يضرب ابن سينا مثالاً يثبت به خيرية العقوبة التي تؤدي إلى حفظ النظام وصلاح العالم فيقول أن الشي الواحد الجزئي الذي تتوافى إليه الأسباب وان كان مستنكرًا في العقل كسرقة السارق، لو لم يكن نظام العالم محفوظا، فأن الأسباب المؤدية إليه هي الأسباب في حفظ نظام العالم، وهو كالضروري التابع لها والعقوبة التي تلحق السارق وغيره، إنما تقع عليه لحفظ نظام الكل، فأنه إن لم يتوقع المكافأة، أو لم يخف المكافأة مع ظلمه وفعل الشر والقبيح ، لم يقلع عن فعله ولم ينزجر، فلم يبقى نظام الكل محفوظاً.(1)

الخاتمة

رأينا فيما سبق أن تعريف ابن سينا للخير والشر كان مرتبطا بجميع بجميع فلسفته، بمعني أن الدارس للخير والشر يجب أن يدرسهما في ارتباطهما بالجوانب الإلهية والأخلاقية والميتافيزيقية عنده .

كما أن ابن سينا حاول أن يقدم بتفسيره للخير والشر، وعلاقتهما بالإرادة الإلهية والعناية أن يقدم تفسيرا معتدلا وليس مغاليا فيه، ويضفي بذلك معنى متوازنًا ومتكاملاً، فلم ينظر إلى الخير والشر من زاوية أخلاقية بحتة ولا من زاوية طبيعية ضيقة، بل أدمج كل هذه الجوانب معا، وأخذ في الاعتبار مسؤولية الإنسان والأسباب الطبيعية وربطهما بالإرادة الإلهية. كما رأينا أيضا رغم وجود الشر في العالم واعتراف

ص: 66


1- ابن سينا: التعليقات، ص47.

ابن سينا في وجوده، فهو أولا ضيق ومجاله محدود ، وثانيا وجوده يكون من أجل خير أعم وأشمل ، والله يمثل الخير الأعظم ومنه تستمد الموجودات خيرها، فهو الفيض الأزلي للخير، أيضا وجود هذا الشر لا يمنع من سيطرة الإرادة الإلهية عليه. والخير والشر مرتبطان بالثواب والعقاب وهذا يمثل قمة العدل الإلهي، فارتكاب الأفعال الشريرة لا يمنع من وجود عقوبة لكي يرجع من يقوم بهذه الأفعال، وهذه العقوبة تكون لصالح المجتمع وخيره، رغم أنها تبدو شرا لمن يقوم بها، لكنها في النهاية تمثل صلاح المجتمع ، وحفظ النظام، ويؤكد على أن الخير هو الأصل في الوجود، والإنسان يسعى إلى ذلك الخير وينزع إليه ويشتاق إليه، ويسعد بفعله. والشرور تمثل توازن في الكون من أجل خير أعظم وأكبر . وفعل الخير يمثل نزوع نحو كمالات النفس البشرية، لذا من الضروري القيام بالأفعال الخيرة من أجل استكمال النفس لكمالاتها. كما أن الخير يمثل الوجود، والشر هو العدم لأنه نقص.

ص: 67

التراث الأخلاقي في المدرسة الأشعرية الإمام الغزالي أنموذجاً

ا.د. رعد سليمان حسين (1)

المقدمة

يمثل التراث بصورة عامة مرجعا في حضارة كل أمة ؛ لاسيما الدين والأخلاق منه وحضارتنا الإسلامية تفخر بتراث كبير من حيث الفكر والمعرفة نحترمه، ونجله ونأخذ منه ما يجعلنا في مصاف الأمم على وجه الأرض، وذلك للخيرية التي أرادها الله تعالى لنا ومن تراثنا انبثقت مدرسة عريقة في فكرها إلا وهي مدرسة أبي الحسن الأشعري وأعلام هذه المدرسة ومنهم حجة الإسلام الإمام الغزالي، فقد وضع لنا منهجا فكريا وسطا شمولياً متزنا إلى يومنا هذا، إذ نهل المفكرون والفلاسفة من منهلهم، فكرا عذبا زلالا، ونافسوا فيه ما موجود في حضارة الغرب.

من هنا اردنا أن نسلط الأضواء على هذه المدرسة من خلال تراثها الأخلاقي المتمثل بفكر الإمام الغزالي، فقد وصل بين ماضي الأمة حاضرها بمصنفاته المتعددة فتراه متكلماً في اقتصاده وقواعده، وفيلسوفاً بمقاصده وتهافته، وأصولياً بمستصفاه، وفقيها زاهدا بأحيائه ومنهاجه، فجاءت هذه الدراسة لتضيف إشراقه ولمعة في تراثنا

الفلسفي الأخلاقي، فقد تناولت في بحثي هذا مسألة علم الأخلاق، وفلسفته

فجاء بمبحثين بعد المقدمة تناولنا في المبحث الأول: حد الأخلاق وأهميته

ص: 68


1- أستاذ جامعي من العراق، اكد الباحث على أهمية التراث عامة وتراث المدرسة الأشعرية في المنتج الأخلاقي وخصوصا لدى حجة الإسلام الإمام الغزالي، فقد وضع لنا منهجا فكريا وسطا شموليا متزنا. ولتحقيق هذه الفرضية جاء بحثه مقسما إلى ثلاثة مباحث تناول في الأول، حد الأخلاق وأهميته، وفي الثاني، تكلم على نشأة المدرسة الأشعرية، أما في الثالث فقد تناول فلسفة الأخلاق عند الغزالي وأهميتها ، وأنواع فضائلها، وما وضعه من قواعد أخلاقية للمعلمين والمتعلمين . المحرر

وفيه مطالبان، وفي المبحث الثاني: تناولت فلسفة الأخلاق عند الغزالي واهميتها وأنواع فضائلها، وما وضعه من قواعد أخلاقية للمعلمين والمتعلمين، ثم ختمته بخاتمة في اهم النتائج التي توصلت إليها، ثم قائمة المصادر والمراجع، ومن الله تعالى التوفيق والسداد.

المبحث الأول: مفهوم الأخلاق واهميتها.

المطلب الأول: الأخلاق لغة واصطلاحاً .

الأخلاق لغة : الخلق - بالضم اللام وسكونها - السجية والطبع ، والمروءة والدين.(1) وجاء في لسان العرب الخلق بضم اللام وسكونها وهو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها المستقرة.(2)

الأخلاق اصطلاحاً: عرف الإمام الغزالي الخلق بانه ((عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية)) (3). وعرفها بعض العلماء فقالوا: ((مجموعة من المعاني والصفات في النفس، وفي ضوئها وميزانها يحسن الفعل في نظر الإنسان أو يقبح، ومن ثَمَّ يقدم عليه أو يحجم عنه)) .(4).

ويقول الراغب الأصفهاني، وهو يفرق ما بين لفظ (الخلق) بسكون اللام، و(الخلق) بضم اللام، خاصة بالمظهر والأمور الخارجية، والمعنى الثاني خاص بالباطن، فيقول (خص الخلق) بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر.

وخصّ الخلق بالقوى والسّجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ

ص: 69


1- القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت: 817ه)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط8 (1426 ه - 2005 م): ص881.
2- لسان العرب محمد بن مكرم بن على أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (ت 711ه)، دار صادر - بيروت، ط3، 1414ه : 86/10 . مادة خلق
3- إحياء علوم الدين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه) : الغد الجديد، القاهرة، 2014م : 63/3.
4- أصول الكريم زيدان مؤسسة الرسالة، بيروت ،لبنان، ط9، 2001: ص 79.

عَظيمٍ»(1). والْخَلاقُ : ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه.(2)

يتبين مما سبق أن الخلق بمعناه اللغوي والاصطلاحي إنما ينحصر معناه وينصرف إلى شيء في داخل الإنسان يتحكم فيه بشريطة أن يأتي هذا الفعل الصادر من داخل النفس البشرية من غير تكلف، لذلك أشار إلى هذه الحقيقة رسولنا الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، بقوله (أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً : إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ) (3).

فسلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معان وصفات، وفي هذا يقول الإمام الغزالي: (فإنَّ كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح، حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة).(4)

ومعنى ذلك أنَّ صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه ؛ لأنَّ الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح ،الفرع(5)، وإذا فسد الأصل فسد الفرع ، قال تعالى «وَالْبَلَد الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا»(6) .

ولهذا يتبين لنا المعنى الكامل لمفهوم الخلق استوفيناه من تعريفات لعلمائنا السابقين.

المطلب الثاني: أهمية الأخلاق

للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان، وما يصدر عنه، ولهذا اكد الإسلام على صلاح النفوس وبين أن تغير أحوال الناس من سعادة وشقاء

ص: 70


1- سورة القلم: آية: 4
2- المفردات لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت: 502ه) (المفردات في غريب القرآن) دار المعرفة، بيروت، لبنان ط6، 2010: ص 164.
3- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي (ت 260) ، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه ، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه : 1/ 20 برقم (52)
4- إحياء علوم الدين: 63/3
5- أصول الدعوة ص 79.
6- سورة الأعراف آية: 58

ويسر وعسر ورخاء بأنفسهم من معان وصفات قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».(1)

لذلك لا تعجب إذا وجدت بعض النصوص تجزل الأجر والثواب بشكل كبير على خصلة، أو خصال خُلقية معينة، أو تحجب الخير والفلاح في الآخرة بسبب

خصال رديئة معينه .

من هنا بین الله سبحانه في نصوص عدة الغاية من إرسال الرسالات السماوية التي ختمها بالإسلام، فقال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (2).

وفي هذه دعوة عامة لكل معاني الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، لكن الذي يهمنا من هذا الاستدلال بهذه الآية إن الله جعل القسط وهو العدل، خصلة خُلقية تتفرع إلى ميادين الحياة، جعلها غاية لإرسال رسله وإنزال كتبه (3).

وتظهر أهمية الأخلاق أيضًا من ناحية أخرى، ذلك أنَّ الإنسان قبل أن يفعل شيئًا أو يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه، فإذا ظهر الفعل أو الترك مقبولاً انبعث في النفس رغبة فيه، ثم إقدام عليه، وإن كان الأمر خلاف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته ، وأحجمت عنه تركا كان أو فعلاً.(4)

سأل رجل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى: «خُذ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»(5). وقال صلی الله علیه و آله وسلم : (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق) (6).

ص: 71


1- سورة الرعد أية : 11
2- سورة الحديد أية: 25
3- ينظر: أصول الدعوة: ص80. والنظم الإسلامية، منير البياتي، وفاضل النعيمي، ط1، بغداد، 1987 م ص 69-70.
4- ينظر: أصول الدعوة: ص 80.
5- سورة الأعراف: أية: 99.
6- مسند البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار (ت 292ه)، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، وعادل بن سعد، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، ط1، 2009م: 364/15 برقم (8949).

وكان من دعائه صلی الله علیه و آله وسلم في افتتاح الصلاة (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)(1)، وقال صلی الله علیه و آله وسلم(لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ)(2).

ومن الآثار التي تروى في بيان أهمية الأخلاق ما حكاه لنا الإمام الغزالي في كتابه الإحياء قال: (قال لقمان الحكيم لأبيه: يا أبت أي الخصال من الإنسان خير؟ قال الدين قال فإذا كانت اثنتين قال الدين والمال قال فإذا كانت ثلاثا قال: الدين والمال والحياء قال: فإذا كانت أربعا قال الدين والمال والحياء، وحسن الخلق قال ؛ فإذا كانت خمسا قال الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء قال ؛ فإذا كانت ستا قال: يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو نقي تقي والله ولي ومن الشيطان بري يوقفنا(3).

فكل ذلك يوقف على نوع المعاني الأخلاقية التي يحملها كل إنسان من حيث جودتها أو رداءتها، ومدى رسوخها في نفسه فلا يكفي لظهور اثر الأخلاق في فعل الإنسان وتركه أن يصرف الإنسان الجيد والرديء منها ، يخزن هذه المعرفة في رأسه ويتكلم بها في المناسبات بل لابد من انصباغ كيانه بها، وتأسيساً على ما تقدم؛ فان الإسلام، وان كان قد دعا إلى الأخلاق دعوة عامة في صورة مبدأ عام.

كما في قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ».(4)

وقوله تعالى «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(5) ؛ إلا انه لم يكتف بذلك بل فصل كل ما يدخل تحت البر والتقوى والفضيلة من جزئيات وتفاصيل وفصل كل ما

ص: 72


1- المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت 261ه) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، كتاب صلاة المسافرین وقصرها، کتاب صلاة المسافرين وقصرها : 534/1 برقم (771).
2- سنن ابن ماجه ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (ت 273ه) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، كتاب الزهد، باب الورع والتقوى: 1410/2 برقم (4218).
3- إحياء علوم الدين: 52/3.
4- سورة المائدة آية : 2.
5- سورة لقمان آية: 17.

يدخل تحت الإثم والعدوان والمنكر من جزئيات وتفاصيل(1).

لذلك قدم الإسلام نصوصا فيما هو محمود من الأخلاق وما هو مذموم منه من خلال القرآن الكريم ونكتفي بعرضها ونترك للقارئ فهم هذه النصوص والوقوف على معانيها.

أمثلة من القرآن بالأخلاق المحمودة:

الوفاء بالعهد: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».(2)

طهارة النفس: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»«فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا»«وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا».(3)

غض البصر والعفة «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».(4)

قول الصدق: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».(5)

اللين والتواضع: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَميرِ».(6)

كظم الغيض والعفو: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسنينَ».(7)

العدل في كل شيء: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبيَ».(8)

ص: 73


1- النظم الإسلامية : ص76-77 ، أصول الدعوة ص 83-84 .
2- سورة الإسراء آية : 34
3- سورة الشمس آية: 7-10
4- سورة النور آية: 30
5- سورة التوبة آية : 119 .
6- سورة لقمان آية: 19
7- سورة آل عمران آية: 134
8- سورة الأنعام آية:152.

صلة الرحم: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ».(1)

الإحسان: لكل محتاج : «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ».(2)

أمثلة من القرآن في الصفات المذمومة

النفاق «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».(3)

البخل وكنز الأموال «إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا»الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبُخْل».(4)

الكبر «إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ».(5)

الكذب «إنمَّا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ».(6)

الحسد والطمع «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».(7)

الظلم «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذقْهُ عَذَابًا كَبيرا».(8)

الغش تطفيف الكيل: «الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ»«وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ».(9)

ص: 74


1- سورة النساء آية 1.
2- سورة البقرة آية : 215
3- سورة البقرة آية: 204
4- سورة النساء آية: 37 .
5- سورة النحل آية: 23
6- سورة النحل آية: 105 .
7- سورة النساء آية: 54.
8- سورة الفرقان آية: 19 .
9- سورة المطففين آية: 2

خيانة الأمانة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ».(1)

اكل أموال اليتامى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا».(2)

وورد في السنة ما يؤكد على هذه المعاني والقيم منها قوله صلی الله علیه و آله وسلم : (إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء).(3)

وقوله صلی الله علیه و آله وسلم : (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ،دمه وماله وعرضه).(4)

ونختم بالقول هاهنا بقول رسولنا الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : (مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُق) .(5)

فما أوردناه فيه كفاية لكل عاقل وغنى عن الأهمية.

المبحث الثالث: الأخلاق عند الغزالي

المطلب الأول: الأخلاق عند الغزالي وأهميتها.

إن كلمة أخلاق عرفت قبل زمن الغزالي من مبادئ هذا الدين ومن قبله في جاهلية العرب قال صلی الله علیه و آله وسلم : ((إنما بثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وقد عرف العرب في اليونان

ص: 75


1- سورة الأنفال آية: 27 .
2- سورة النساء آية: 10
3- اخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الزهد باب الحياء 2 / 1399 برقم (4181).
4- صحیح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله: 4 / 1986 برقم (2564).
5- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني (ت 275ه) :تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية صيدا - بيروت كتاب الأدب، باب في حسن :الخلق 4 / 253 برقم (4799).

كتابا لأرسطو في الأخلاق ووضع ابن مسكويه كتابا في صناعة تهذيب الأخلاق، حتى كاد أن يكون هذا كتاب أصلا في علم الأخلاق والذي يهمنا هو علم الأخلاق كما فهمه الغزالي يقول الباحث والأديب زكي: ((أني بعد مراجعة كتبه لم أجده تقدمه يساوي من من مجددي الفلسفة اليونانية وإنما يفهم من علم الأخلاق شرح طرائق السلوك، ووفقا لما سنته الشريعة السمحة ورسمه الصوفية، ومن نحا نحوهم من الفقهاء، فهو تارة يسميه طريق الآخرة، وأخرى بعلم صفات القلب وعلم أسرار

معاملات الدين وعلم أخلاق الأبرار ، واهم كتبه في هذا (إحياء علوم الدين)) .(1)

ثم يسترسل زكي مبارك في كتاب الميزان للغزالي فيورد تعريفات عدة من صفحات عدة بعدها يعلق على جميع هذه التعريفات ونترك الكلام لزكي مبارك: نرى) الغزالي في ص56 من الميزان يعرف الخلق الحسن بانه إصلاح القوى الثلاث قوة التفكير وقوة الشهوة وقوة الغضب، ونراه في ص 64 يعرف الخلق الحسن بفعل ما يكره المرء، ويستشهد بالحديث: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات))(2) ، وبالآية «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌ لَكُم»(3)، وتراه يقول في ص47 ((وأما حسن الخلق، فبأن يزيل جميع العادات السيئة، التي عرف الشرع تفاصيلها، ويجعلها بحيث يبغضها، فيجتنبها كما يجتنب المستقذرات، وأن يتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها فيؤثرها، ويتنعم)). ثم يعلق فيقول : وإنما ذكرنا هذه التعاريف المبهمة التي لا تغني شيئا في التحديد ؛ لندل على ميل الغزالي إلى الخطابيات .(4)

وإنا استغرب وأتساءل بنفس الوقت كيف لباحث كبير مثل زكي مبارك أن يعلق مثل هذا التعليق في ما أورده الغزالي من تعاريف عدة للخلق وحسن الخلق؟ ونحن إذا عدنا لكتاب (الأحياء) نرى الغزالي وهو يتحدث عن بيان حقيقة الخلق وسوء الخلق بقوله : ((اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو وما

ص: 76


1- ينظر: الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك، كلمات عربية للنشر والترجمة مصر - القاهرة: ص149-150.
2- صحیح مسلم کتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4 / 2174 برقم (2822).
3- سورة البقرة آية: 216
4- ينظر الأخلاق عند الغزالي: ص 150

تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته))(1) ، ثم يورد أقوالا للعلماء بل حتى للصحابة كأمثال سيدنا الإمام علي علیه السلام في بيان حسن الخلق فالذي يتكلم بهذه الثقة والمعرفة بخفايا الأمور لا يميز بين الحد والثمرة، فهل لعالم كالغزالي أن يكون له كلام لحقيقة ما يورد كلاما مبهما أو نوعا من الخطابيات؟ وكأن الغزالي في تيه من حقائق الأمور ولا يدرك حقيقة ما يقول .

أقول إن ما تكلم به الغزالي من تعاريف إنما أصاب بها كبد الحقيقة في كشف اللثام عن الخلق وهيئته فهو تارة يعطي حقيقته وماهيته وتارة يتحدث في وسائل اكتساب حسن الخلق، كما فعل في كتابه ميزان العمل، حينما تحدث عن بيان مجامع الفضائل التي بتحصيلها تنال السعادة، فهو يتناول حسب رأيي طرق اكتساب حسن الخلق،فقال (بانه يزيل جميع العادات السيئة)، فناسب المقال المعنى المراد والله واعلم.

وأما عن تعريفه للخلق بالحديث الشريف : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات))(2) فكان مقام المقال يدور حول معرفة الخواطر ومراتب النفس فيها، وإشارة الهوى والعقل ولا أرى مناسبة للوقوف عند تعريف حسن هنا والاطلاع على كنه ،وحقيقته، وفي التعريف به بانه إصلاح القوى الثلاث قوة التفكير وقوة الشهوة وقوة الغضب، فأتصور أنه الكلام كان حول ثناء الشرع عن مكارم الأخلاق وطرق تقويمها، وهذه الثلاث هي مقومات حسن الخلق وليس الخلق بهيئته الأولى التي أرادها وهي جوهر المقولة فالجوهر ليس كالعرض فهو يفرق بين الخلق وعبارة الفعل، فيقول في كتابه (الأحياء) وليس الخلق عبارة عن الفعل، وبالوصول عن كمالات حسن الخلق يجب أن تستوي أركانه وما هي أركانه؟ قال: (فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل من الخلق وهو قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث)(3).

ص: 77


1- إحياء علوم الدين: 62/3
2- سبق تخريجه في الصفحة السابقة.
3- إحياء علوم الدين: 62/3

فكما يقال هنالك فرق بين (الأخلاق) وبين (علم الأخلاق) فذات الشي بين الخلق ومصدره (خلق) وبين (حسن الخلق)، وما يتم اكتسابه ونيله وتحصيله، فحينما قال: بيان حقيقة حسن الخلق ، عرف بالخلق منفردا فقال : (فالخلق)، فالإمام الغزالي كان دقيقا جدا في تناول الخلق وتعريفاته وحقيقته والوقوف على باطنه والغور فيه، ووضع الحلول المناسبة لكل أمر من أموره الخفية، ولا يقال للغزالي صاحب اكبر موسوعة ثقافية وعلمية وفلسفية من خلال كتابه الأحياء انه كان ذو خطابيات في تناوله لمادة الخلق وحسن الخلق.

فهذا محض وهم وخيال وقصور وسوء فهم حينما استدرك الأديب والشاعر زكي مبارك رحمه الله فلو انه تواضع قليلا من كبريائه وعجبه بذاته ونفسه فمن تواضع لله رفعه الله.

المطلب الثاني: أنواع الفضائل عند الغزالي.

جمع الإمام الغزالي أمهات الفضائل في أربعة أنواع وهي:

(الحكمة الشجاعة، العفة، والعدالة)، ثم أخذ يفصل القول في كل واحدة من هذه الأنواع معرفاً بها، ودالاً على فضيلتها يقول: (الفضائل وان كانت كثيرة فتجمعها الأربعة، تشتمل شعبها وأنواعها، وهي الحكمة فضيلة القوة العقلية والشجاعة: فضيلة القوة الغضبية والعفة فضيلة القوة الشهوانية والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوة على ترتيب الواجب فيها تتم جمع الأمور ؛ ولذلك قيل بالعدل قامت السماوات والأرض).(1)

وهو ما تناوله في كتابة الأحياء، فقال عنها، فأمهات محاسن الأخلاق تكمن في هذه الفضائل الأربعة، وأضاف بقوله : (ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا

رسول صلی الله علیه و آله وسلم والناس فيه متفاوتون في القرب والبعد منه)(2) ، وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين لقوله: «إنَّما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

ص: 78


1- ميزان العمل أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه) تحقيق الدكتور سليمان دنیا دار المعارف، مصر، ط1، 1964ه: ص 264.
2- إحياء علوم الدين: 65/3

لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ»(1)، وقد فسر الغزالي موضحاً هذه القوة منه المعنى الوارد في هذه الآية فيقول: (فالإيمان بالله ورسوله هو قوة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء يرجع إلى ضبط قوة الشهوة، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وهو الاعتداء).(2)

وفي تحديد الفضيلة ذاتها فيقول الأستاذ زكي مبارك أن الغزالي لا يفرق بين كلمة الفضيلة، وكلمة خلق، فهما عنده عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة، وأرجع زكي مبارك قول الغزالي إلى هذه المعاني أن سبب أخذه عن أرسطو، وبعضه إلى ما أخذه عن افلاطون فقد أخذ عن أرسطو نظرية (التوسط) التي يسميها الاعتدال ويأخذ عن افلاطون نظرية المماثلة، أي مشابهة ،الله فان الله فيما يرى افلاطون هو الوحدة التي تجتمع فيها وتتصالح جميع كمالات المخلوقات .(3) وان يكن القول أن الغزالي عن هؤلاء فان المتتبع لكلام الغزالي لا يرى هذا القول واضحاً في حديثه عن الفضائل وأنواعها وتطابقه مع فلاسفة اليونان فهو قد فصل تفصيلاً وأضاف معاني وحقائق ما وجدت عند أرسطو ولا افلاطون فجهد علمائنا في هذا المجال لاسيما الغزالي لا يمكن التقليل والاستهانة به فنراه يضيف ويقول: ((فأما الفضائل بجملتها، فتنحصر في معنيين: أحدهما جودة الذهن والتمييز والآخر حسن الخلق)).(4)

ثم يضيف بعد فيقول ((فهذه مجامع الفضائل، وغايتها أن تصدر منه الفضائل أبداً بغير فكر وروية وتعب، ويطلع على الحق بغير تعب طويل، حتى كأنه يصدر منه ، وهو في غفلته كالصانع الحاذق في الخياطة والكتابة. وغاية الرذالة أن ترشح الرذائل بغير تكلف ولا فكر ولا روية))(5).

ص: 79


1- سورة الحجرات آية: 15
2- إحياء علوم الدين: 65/3 .
3- الأخلاق عند الغزالي : ص 165.
4- میزان العمل: ص 256
5- المصدر نفسه : ص 256

ثم يحصرها أي - فضائل الأخلاق بوجهين أثنين يرجع كل واحد منها في الأخير - إليهما ولا ثالث لهما، وهي (أما بتعلم بشري وتكلف اختياري، يحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة، والثاني يحصل بجود إلهي، نحو أن يولد الإنسان، فيصير بغير معلم عالماً، كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، فيصير الإنسان بغير معلم معلما)(1) وهكذا.

وبهذه العبارة نختم فهم الإمام الغزالي لمادة الأخلاق وتأكيد القول فيها باعتبارها جوهر وبوصفه لها بانها هيئة راسخة في النفس، فتتقبل كل ما يبنى عليها من عوارض الإنسان بكسبه وتحصيله لها تأكيدا لقوله تعالى: «كُلُّ نَفْس بمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(2) ، وما احسن القول حين اعترض سؤالا افتراضيا فقال : ((فإن قلت: فبماذا اعلم أن الحاصل لي هو الخلق الجميل، وهو الوسط المعتدل بين طرفي الإفراط والتفريط ؟ فطريقك أن تنظر في الأفعال التي يوجبها ذلك الخلق الذي فيه مجاهاتك، فإذا التذذت بفعله، فاعلم أن الخلق الموجب له راسخ في نفسك، فإن كان ذلك الفعل قبيحاً فاعلم أن الخلق قبيح، مثل أن تلتذ بإمساك المال وجمعه. فموجبه خلق البخل، فعوّد نفسك نقيضه)) .(3)

وأخذ عن افلاطون نظرية التوافق ويسميها العدل والتوافق عند افلاطون هو تناسب القوى والملكات لتكمل في المرء جوانبه الخلقية وقد اكد الغزالي هذه القوى، وفصل فيها طويلا مبحرا في خفاياها، فهو يعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية، ويعني بالعدل حالة للنفس وقوة تسوس الغضب والشهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة، ويعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وأحجامها، ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع، ومن اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن، ومن إفراطها تصدر المكر والخداع والدهاء ومن تفريطها يصدر البله والغمارة والحمق والجنون، وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة أما إفراطها وهو التهور فيصدر منه

ص: 80


1- المصدر نفسه ص:257
2- سورة المدثر آية: 38
3- میزان العمل : ص 262

الصلف والبذخ والتكبر والعجب، وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة، وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة، وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث، ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه.(1)

فبهذه الفلسفة لنظرية فضائل الأخلاق نرى الغزالي قد شرح ما أوجزه غيره وفصله وبينه بقوة عقله، واستنباطه حتى وصل إلى خفايا حقائق ألفاظه ومعانيه وهذا مما لا يوفق له كل احد إلا من نور الله قلبه و شرح صدره وان كان ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق قد تناوله إلا إن عبارة الغزالي كانت أوسع وأعمق .

المطلب الثالث: آداب العالم والمتعلم في فكر الإمام الغزالي

من أهم عناصر مهنة التعليم وجود القيم الخلقيّة، إذ لا بد من وجودها حتّى تُعد مهنة، إلا أنَّ الوضع القائم حاليا في كثير من الأنظمة التربوية التعليمية الحديثة قائم على العلمانيّة (اللادينيّة) فضلا عن انفصال القيم الخلقية عن مهنة التعليم.(2).

كما اعترف المربون الغربيون بضرورة الأخلاق في مهنة التعليم، نقل الدكتور محمد زكي قول (هكسلي) بهذا المعنى: (إنَّ العلم ينتعش تمامًا بمقدار ما يكون دينيًّا، إنَّ الأعمال العظيمة للفلاسفة لم تكن نتاج فكرهم بقدر ما كانت نتاج توجيه هذا الفكر من قبل نعمة دينية بشكل غالب في العقل).(3)

بناءً على هذا فإنَّ المبادئ الأخلاقيّة الفاضلة التي يوصي الغزالي طلبة العلم بها بعد الابتدائية، ويختم رسالته (أيّها الولد) بوصايا تربوية منها :

أوّلاً: ترك المجادلة من غير هدف وروية ووعي.

ص: 81


1- إحياء علوم الدين : 65/3
2- التربية الإسلامية التقليدية، محمد زكي بردي، من سلسلة بحوث المؤتمر العالمي الأول التعليم الإسلامي، مكة، .1397 : ص 38.
3- نقلاً عن المصدر السابق نفسه، ص 33

ثانيًا : العالم مثل الطبيب يُعالج جهل النفوس (العقول) كما يُعالج الطبيب الأبدان.

ثالثًا : يوصي المعلّم الذي يقوم بتعليم التلاميذ الابتعاد عن أسلوب الوعظ المجمل والإطالة مع أنّ المطلوب عبارات واضحة مفهومة، متسلسلة ومنطقية.

رابعا: الالتزام بمبدأ الاحترام المتبادل في طلب العلم بين المعلمين والدارسين لذا يهمس الغزالي في أذني طلاب العلم بالأمس واليوم وغدًا قائلاً: (أحب لسائر الناس ما تُحبّ لنفسك) و(العلم الحق هو الذي يصلح القلب ويُزكي النفس) هكذا يسطر لنا الغزالي قبل تسعة قرون، وصاياه التربوية التي مازال بعضها يحتفظ بأهميته وحيويته وعلميته حتى يوم الناس في القرن الواحد والعشرين، في زمن مازال كثير من الذين يشتغلون في حقل التعليم حتى الجامعية منها على أسلوب (الرواية) و(التلقين) و(الملازم المحدودة) التي لا توفر إلا الكفاف المعرفي وتبلد العقل وتشجع على الغش وتقتل في الطالب القدرات والإمكانات الخفية في بدنه وعقله وقلبه هذا هو المفكر الذي يسبق زمانه ويتقدّم لأبناء الأجيال المستقبلية وكأنّه ينتمي إلى عصرهم، بل ويتفوّق عليه.(1)

وقد تكلّم الغزالي عن التعليم، وأطال في كتابه الإحياء وتكلّم عنه في الإملاء على ما أشكل في الإحياء، وذكر (أنّه أفضل من سائر الحرف والصناعات) وبين وجه هذه الأفضليّة بالتفضيل .

كما أنَّ الغزالى لا يفكّر أن يكون المرء معلما، فقد كان من المعلمين وإنما يُطالب المعلّم بتعليم علوم الآخرة أو علوم الابن على قصد الآخرة، وسنرى فيما يذكر من آداب المعلّم عدم أخذ الأجر ولكن هذا لا يقدح في نظره إلى التعليم كمهنة، وقد وضع للمعلم الآداب الآتية:

أن يُشفق على المُتعلّمين، ويُجريهم مجرى بنيه، ويقول الغزالي في توابع هذه البنوّة، وكما أنّه حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابّوا ويتعاونوا على المقاصد كلّها، وكذلك حق تلامذة الرجل التحاب والتواد.

ص: 82


1- ينظر: أبو حامد الغزالي وأثر على الفكر الإنساني، مجموعة باحثين، بغداد، 2011م: ص39 - 40.

أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه، فلا يطلب أجرًا على إفادة العلم.

أن لا يدع من نصح المتعلّم شيئًا، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من العلم الجلي.

أن يزجر المتعلّم عن سوء الأخلاق، بطريق التلميح والرحمة لا بطريق التوبيخ، فإنّ التصريح يهتك حجاب الهيبة.

أن لا يُقبّح في نفسه المتعلّم العلوم التي وراء علمه، فليس لمعلم اللغة أنّه يقبح علم الفقه مثلاً، بل ينبغي أن يوسع عليه طريق التعليم في غيره، وأن يُراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.

أن يقتصر المعلّم على قدر فهمه، ولا يلقي إليه ما يبلغه عمله .

أن يعمل المعلّم بعلمه، فلا يكذب قوله فعله.

أن يجمل نفسه كي يعظم في نفوس طلبته فلا يستصغروه.

هذا بإجمال ما وضعه الغزالي من آداب المعلم وفلسفته النافذة فيها، بقي أن نعلم ما على المتعلّم من ،آداب، فقد أضافه الغزالي جملة منها فقال:

أن يقدم طهارة النفس من رذائل الأخلاق ومذموم الصفات.

أن يُقلل من اشتغاله بالدنيا، فإنّه مهما توزّعت الفكرة قصرت عن إدراك الحقائق.

أن يُذعن لنصيحة المعلّم إذعان المريض للطبيب.

أن يحترز في مبدأ أمره عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإنّ ذلك يحير ذهنه ويفتر رأيه.

أن لا يدع فنّا من الفنون المحمودة إلا وينظر فيه نظرًا يطلع به على مقصوده وغايته.

ص: 83

أن لا يخوض في فن من الفنون دفعة بل يُراعي الترتيب .

أن يعرف أنَّ العلم إنما يرجع إلى شرف الثمرة أو قوة الدليل، فعلم الدين أشرف من علم الطب، لأنَّ ثمرة الأول سعادة الأخروية وثمرة الثاني السعادة الدنيوية، والآخرة خير من الأولى.(1)

بهذه القواعد الأخلاقية للمعلم والمتعلّم أفاد الغزالي الساحة المعرفية بفلسفة ونظرة ومتطوّرة جدًّا، في عملية التعلم والتعليم، ومن هنا يمكن القول إنَّ القواعد الأخلاقية هذه التي استطرد الغزالي في تفاصيله تستطيع أن تسهم في بلورة الميثاق الأخلاقي للمعلم والمتعلّم الذي نحن بحاجة إلى ممارسته وتطبيقه في العالم الإسلامي.

الخاتمة

بعد هذه الدراسة المتواضعة والجهد المقل توصلنا إلى جملة من النتائج، وستناول أهمها :

الاهتمام بدراسة التراث الإسلامي التربوي والأخلاقي منه والذي خلفه العلماء المسلمين، والابتعاد عن الخلافات المذهبية التي تطعن في صلب العقيدة وان يكون الفهم الشامل والمعتدل لتراث الأمة والمعيار الدقيق لها والقصد السامي الذي يرجوه كل باحث.

يلاحظ من خلال فلسفة الغزالي التركيز على الجوانب الأخلاقية في التربية الإسلامية وهي سمة من سماتها المميزة.

لا يكون التركيز في العملية التعليمية على الجانب المعرفي فقط وإنما تمتد لتشمل الاتجاهات الفكرية وجوانب السلوك والقيم.

اهتم الغزالي اهتماما كبيرا في فلسفته ومنهجه على منطق الحوار والمجادلة ووثاقة الدليل في مناظرته وكلامه.

ص: 84


1- ينظر: الأخلاق عند الغزالي زكي مبارك : ص252 - 256، وإحياء علوم الدين: 64/1 - 76.

للعبادة دور في تثبيت السمات الخلقية في شخصية العالم والمتعلم.

تنمية الأفكار والقدرات الأخلاقية تحتاج إلى أعداد وتزكية خاصة للمعلمين والدارسين.

إن جميع ما ذكر في مجال الأخلاق التي قررها الفكر الأشعري، والغزالي خاصة مستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة بخلاف التربية الغربية .

يمكن للمؤسسات التربوية والتعلمية اليوم الاطلاع على القواعد والمبادئ الأخلاقية والتربوية التي قررها الغزالي؛ للاستفادة منها في الوصول إلى تصور

إسلامي معتدل في فهم علم الأخلاق، والدعوة إليها.

المصادر والمراجع

بعد القرآن الكريم

أبو حامد الغزالي وأثر على الفكر الإنساني، مجموعة باحثين، بغداد، 2011م

إحياء علوم الدين ، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه)، الغد الجديد، القاهرة 2014

الأخلاق النظرية، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، ط2، 1976 .

الأخلاق عند الغزالي، زكي مبارك ، كلمات عربية للنشر والترجمة مصر - القاهرة: ص149-150.

الأخلاق لدى المدارس الفلسفية قديما وحديثا، محمد عبد الرحيم .

أصول الدعوة، عبد الكريم زيدان مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، ط9، 2001.

الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي (ت 1396ه-)، دار العلم للملايين ط2002.15 م.

تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف مكرم مكتبة الدراسات الفلسفية، ط (د - ت).

التربية الإسلامية التقليدية، محمد زكي بردي، من سلسلة بحوث المؤتمر العالمي الأول التعليم الإسلامي، مكة، 1397.

سنن ابن ماجه ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (ت 273ه) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي.

ص: 85

سنن أبي داود أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني (ت 275ه) تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية، صيدا – بيروت .

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي (ت 260 ، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر ، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه

القاموس المحيط ، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادی :(ت 817ه-) :تحقیق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط8 1426 ه- 2005 م).

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي القسطنطيني المشهور باسم حاجي خليفة أو الحاج خليفة (ت 1067ه-)، العلوم الحديثة، ودار الكتب العلمية، 1941م.

لسان العرب محمد بن مكرم بن على أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (ت 711ه) ، دار صادر - بيروت، ط3 ، 1414 ه-.

مباحث في فلسفة الأخلاق، محمد يوسف موسى، مطبعة الأزهر، مصر ، 1943م .

مدخل إلى دراسة علم الكلام، د. حسن محمود الشافعي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، باكستان، كراتشي، 1989 .

مسند البزار ، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار (ت 292ه)، تحقیق: محفوظ الرحمن زین الله وعادل بن سعد، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، ط1، 2009م.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت 261ه) تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت

المفردات في غريب القرآن لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت: 502ه-) دار المعرفة، ،بیروت، لبنان، ط6، 2010

مقدمة ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ولي الدين تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب 1425 - 2004

المنقذ من الضلال، الإمام الغزالي ت 505ه- ، تحقيق: جميل إبراهيم حبيب، دار الكتب العلمية سنة 1287ه__

ميزان العمل، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505ه) تحقيق : الدكتور سليمان دنیا دار المعارف، مصر، ط1، 1964ه.

النظم الإسلامية، منير البياتي، وفاضل النعيمي، ط1، بغداد، 1987 م.

ص: 86

الفلسفة الأخلاقية العقلانية عند ابن باجة الأندلسي

عند ابن باجة الأندلسي *(1)

الدكتور زيد عباس كريم (2)

مقدمة

العقلانية بتعريف أولي بسيط هي أي رؤية تدعو لاعتماد المنطق الفكري والاستدلالي مصدراً للمعرفة والتبرير، فهي تؤمن بان بعض الافتراضات يمكن معرفتها عن طريق البداهة وحدها، ومن جهة أخرى يمكن معرفتها عبر الاستدلال بحجج سليمة من افتراضات فطرية. وعليه فهي تثق بفكرة أن الحقيقة لها بناء عقلاني بحيث يمكن فهم جميع مظاهرها من خلال المبادئ الرياضية والمنطقية فقط وليس من خلال التجربة الحسية. وقد قدمت العقلانية نفسها بوصفها اتجاهاً فلسفياً اكتسب زخما كبيراً خلال ما يعرف بعصر العقل في القرن السابع عشر. فقد ارتبطت العقلانية باستخدام الطرق الرياضية والمنطقية في الفلسفة من جانب كبار المفكرين العقلانيين أمثال ديكارت لايبنتز وسبينوزا.

ويعتبر ديكارت من اشهر المناصرين الأوائل للعقلانية، حتى سميت العقلانية في بعض الأحيان بالديكارتية،(وأتباع صيغة ديكارت في العقلانية عُرفوا بالدیکارتین). فقد اعتقد ديكارت إن المعرفة بالحقائق الأبدية (مثل الرياضيات والأسس الإبستيمولوجية والميتافيزيقية للعلوم) يمكن اكتسابها عن طريق العقل وحده، دون الحاجة لأي نوع من الخبرة الحسية. فمثلا القول الشهير ((أنا أفكر إذن أنا موجود)) هو استنتاج تم الوصول

ص: 87


1- أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي من أبرز الفلاسفة المسلمين في المغرب العربي، اهتم بالطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى إلى جانب الفلسفة، وكان أحد وزراء وقضاة الدولة المرابطية. يعرف عند الغرب باسم: Avempace : آفيمبس. ولد في مدينة سراقوسا الإسبانية، أوائل القرن الثاني عشر، ولم تعرف على وجه التحديد سنة ولادته وتوفي مسموماً من قبل أعدائه الذين وصموه بالكفر والإلحاد في مدينة فاس المراكشية عام 1138م 533-ه.
2- قسم الفلسفة - كلية الآداب - جامعة الكوفة

إليه قبليا وليس من خلال الاستدلال من التجربة. ويؤكد ديكارت أن هنالك أفكاراً فطرية تأتي من الحدس وحده، وهنالك أفكار أخرى تأتي من الخبرة الحسية، ونوع آخر من الافكار هي ! الخيالية. والأفكار الصالحة من بين هذه الأنواع بحسب ديكارت هي فقط الأفكار الفطرية. وقد تأثرت المذاهب الفلسفية الحديثة المتعاقبة بوجهات النظر العقلانية، ويرى كثير من الباحثين إن الاتجاه العقلاني يتبلور - بل يكاد أن يكون ما يميز الحداثة الفلسفية التي تبدأ - مع الرؤية الديكارتية والأفق الديكارتي في صياغة مفهوم الأنا المفكرة ، أي الأنا التي يتعلق وجودها بالتفكير ولكن في الوقت نفسه هذه الأنا هي التي تملك هذا التفكير وينسب لها. إلا أن أحدا من الباحثين لم ينتبه إلى ذلك السبق التاريخي والنموذج العقلاني الواضح والمتميز الذي قدمه الفكر الفلسفي الإسلامي متمثلا في فلسفة ابن باجة الأندلسي .

إذ نرى أن ابن الصائغ (أبي بكر بن باجة) هو أحد ابرز الفلاسفة المسلمين الذين ظلت مساهمتهم الفلسفية في هذا المجال معزولة ومغمورة. ((فقد انطلق هذا الفيلسوف في نظرته للإنسان من ثلاثية الدوافع التي تحركه الإنسان (الجسد)، والإنسان (العقل)، والإنسان (القلب) ، انه المنهج العقلاني في سياسة النفس والتعبير عنها بالقول والسلوك الأشمل والأكمل، وهو يبني فلسفته ليحرر الإنسان من دوافعه الحيوانية ويرتقي به نحو افقه الأخلاقي الرحيب تتحول فيه الذات إلى كل)).(1)

لا نهدف في هذا البحث أن نثبت فقط مسألة أصالة ابن باجة في هذا المجال من خلال نصوصه التي تنقلنا إلى قضية اتصال العقل بالإنسان. وهو اتجاه سنتبعه في فقرات من رسائله وأقواله- من حيث إن هذا الاتجاه هو الأصالة الحقيقية في مذهب ابن باجة العقلاني في الأخلاق. بل إن ما نهدف إليه أيضاً هو الإجابة عن سؤال إشكالي يتعلق بكيفية إمكان قيام فكر ذو منطلقات وثوابت إسلامية من بناء مذهب أخلاقي يستند إلى تلك الواقعة المضمرة في الأنا المفكرة في الاتجاهات العقلانية: واقعة انتساب التفكير للإنسان كانتساب الحس والفعل الإرادي إليه ؟ وليتسنى لنا

ص: 88


1- محمد إبراهيم د. نعمة والميالي د. سامي شهيد الفلسفة الإسلامية ، ج 2 ، دار الضياء النجف، ط1، 2007 ، ص 12

الإجابة هذا السؤال كان علينا أن نذهب إلى التأسيس المعرفي العقلاني للأخلاق عند ابن باجة بما يتضمنه هذا التأسيس من إشكالات معرفية تتعلق بأبعاده الأنطولوجية من جهة والسيكولوجية من جهة أخرى من اجل الوصول إلى بناء إبستمولوجي لنظرية في الأخلاق أي أن حدود بحثنا هنا هي حدود تأسيسية معرفية من دون أن ندخل في عرض تفاصيل فلسفته الأخلاقية التي تناولها كثير من الباحثين في كتبهم وأبحاثهم. فان هدفنا فقط وبعبارة مختصرة هو البحث عن كيفية تمكن ابن باجة الفيلسوف المسلم من وضع نظرية في الأخلاق ضمن حدود نظرية المعرفة العقلانية التي لا تؤمن بشيء سوى العقل؟

أولاً: العقلانية في فلسفة ابن باجة:

تفرض علينا الضرورة المنهجية في البداية نطرح السؤال الآتي: ما الذي يجعل الإنسان إنسانا من وجهة نظر ابن باجة (أي ليس نباتا ولا حيوان)؟ ومنه نخلص إلى قضية أساسية نجدها ضمنية في فلسفة ابن باجة قضية تشابه كثيرا قضية ديكارت: أنا أفكر فإذن أنا موجود.

فوجود الإنسان لا يتعلق بالجسم بوصفه واقعة أساسية، إنما يحضر النوع الإنساني في الجسم بالقوة لا بالفعل. كما أنه لا يتعلق بالمجتمع، لأن المجتمع لا يكمل إلا بالفكر ولا يكون إنسانيا إلا بالفكر : فالحيوان يعرف تجمعات غريزية والتجمع البشري إن كان على الفطرة تغلب عليه البهيمية (1). والحيوانية ليست واقعة أساسية لأنها تتناقض مع الإنسانية لسببين : السبب الأول أن الإنسان طفرة نوعية في الكائنات الفاسدة تماثل طفرة الحيوان بالنسبة للجماد والسبب الثاني: أن كل تماثل للفعل الحيواني ب__ الإنساني إنما هو سلب ونفي لما هو إنساني: يلاحظ ذلك في الفضائل العملية التي لها نظائر في الحيوان حيث يفقد الإنسان ذاته ويصبح خادما لغيره كما يلاحظ في أفعال الغريزة في الإنسان البهيمي الذي يعد حيوانا في مظهر إنساني(2).

ص: 89


1- انظر: الميالي سامي شهيد الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 18
2- أبو ريان د. محمد على تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1973، ص426

أنا أفكر إذن أنا موجود، قضية مضمرة ستكرر بصيغ مختلفة في رسائل ابن باجة وأقواله، وتكاد تتضمن كوجيتو باجوي لأنها تعني أن لا وجود للإنسان قبل واقعة التفكير. لكن هذا الكوجيتو ليس واضحا تماما أي ليس قائما بذاته، إذ كان يتعين على ابن باجة أن يبحث عما يجعل التفكير في الإنسان متحققا بالفعل رغم التسليم المنطقي والطبيعي بحضوره بالقوة في النوع الإنساني.

فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى تحقيق ذلك أي معرفة الإنسان نفسه بنفسه، ومعرفته العقل الفعال. وكتابه (تدبير المتوحد) يبين معالم الطريق الموصل إلى العقل الفعال (1). ويبين أيضا معالم نظرية ابن باجة المعرفية وهي نظرية ذاتية تصورية محضة تنطلق فيها التصورية من أدنى الصور وهي الهيولانية إلى أعلاها، وهي العقل المفارق، لتؤلف سلسلة. والعقل الإنساني يجتاز في تكامله، مراحل تقابل تلك السلسلة، حتى يصير عقلا كاملا.(2) فالمعقولات بالقوة - كما تظهر في نص لابن باجة - عندما تجرد من الهيولى، تصبح موضوعات للفك، ويصبح وجودها وجود صور خالصة لم تعد متعلقة بمادة. وعلى هذا فان صور الكائنات حينما تصبح معقولات بالفعل - وهذا هو الحد الأسمى الذي يمكنها بلوغه - يمكن لها أن تفكر بدورها كعقل بالفعل. وبذلك يكون هدف المتوحد أن يصل إلى التفكير في الصور المعقولة من دون تجردها من مادة فكأنه بهذا يفكر في ذاته من حيث انه سيكون حاصلا على معقولات بالفعل خالصة تماما من أي تعلق بالهيولى أي أن ذاته ستكون موضوعا لتفكيره .(3)

ويمكننا أن نستخلص من سلسلة انتقال العقل من القوة إلى الفعل، ومن القول بأن التفكير في الإنسان هو العقل، إن ابن باجة أراد القول بأن الإنسان لا يمتلك العقل إلا عن طريق التفكير ، وهذا يعني بعبارة أخرى أنا أفكر فأنا هو هو العقل. ولابد من أن نبين أن لفظ الأنا المتكلم وإن كان في نص (ابن باجة) الفلسفي غير مصرح

ص: 90


1- المصدر نفسه، ص 420
2- دي بور، ت . ج: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. عبد الهادي أبو ريدة دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1948، ص 304
3- أبو ريان د. محمد علي المصدر السابق، ص 421

به، فإنه يحضر ضمنيا وبقوة في ضمير المخاطب أنت أو ضمير الغائب هو أو فيما يشبه فعل الأمر . أي حينما تفكر فأنت هو العقل أو عليك أن تفكر لكي تكون العقل. فالتفكير بحسب فهمنا لنص ابن باجة، هو عملية امتلاك تدريجي لما يكوّن العقل أي المعقولات أو الصور العقلية، لكنه ليس مجرد حضور لأي معقول أو صورة. فهذا التفكير المختلط ليس له دلالة خاصة ((فالقوة الفكرية إنما تحصل للإنسان إذا حصلت المعقولات، فبحصول المعقولات تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه وبهذه الشخص لا تلك)).(1) فالتفكير استحضار لصور صادقة صور لموضوعات خارجية - فصدقها يرتبط فضلا عن المحسوسات- وفي قمة التفكير تعدم هذه الإضافة ويستمر الصدق واليقين دون أن يتحول المعقول إلى خيال أو وهم لفظي. تلك إذن تجربة واقعة التفكير ومحكها الحقيقي. ويشعر ابن باجة بحراجة هذه اللحظة في القمة ودقتها والتباسها. ويرى أنها لا تتم بالتفكير الاستدلالي السائد في علوم التعليم والعلوم الطبيعية. إنها نظر جديد يمتلك فيه الفكر معقولية خالصة بنظر حدسي مباشر وعبره يكون امتلاك المطلق ممكنا.(2) ولكن بين الأنا أفكر التي تفترض لزوم الاستدلال النظري والإضافة الحسية والأنا أفكر التي تستخلص منها، صلة وثيقة وعميقة. فمن دون امتلاك الحقيقة العقلية الاستدلالية الحسية لا يمكن امتلاك الحقيقة العقلية الخالصة. لأن الأخيرة هي الأولى في ذاتها. فامتلاك الأولى هو شرط الحصول الامتلاك الثانية وان ما يحدث في التفكير ليس خلق التصورات أو المعقولات، بل استحضارها عبر الحس ثم تصفيتها وتطهيرها وتوحيدها.(3)

من هذا كله يتضح أن العقل الذي نتملكه بالتفكير هو هذا المعقول في أكمل صوره. وبحسب (ابن باجة) فإننا نرى العقل في المعقولات كما نرى الشمس في الأشياء التي ينعكس فيها ضوءها. لكن هذا التمثيل المجازي يظل مجازيا، لأن إدراك الشمس لا يمتلك الشمس بينما إدراك العقل يعني امتلاكه فالتعقل والعقل

ص: 91


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق د. ماجد فخري دار النهار بيروت، ط1، 1968 ، ص 160.
2- كوربان هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مروة، دار عويدات، بيروت، بلا ط، 2004، ص 354
3- وقيدي محمد الكوجيتو بين ديكارت وكانت ضمن كتاب دراسات مغربية دار التنوير، بیروت، بلا ط، ص 120

والمعقول بالفعل يصبح شيئا واحدا.(1) فنحن نعلم أن (ابن سينا) سيسخر من هذا التماهي بين التفكير والعقل الذي كان حاضرا في التراث المشائي قبل ابن باجة، وسيعزوه إلى الحشو الذي أحدثه (فورفوريوس) الصوري في هذا التراث. ولكن خطورة هذا التماهي - التي سيؤكدها التوظيف الباجي - ولعلها هي التي أزعجت الشيخ الرئيس ، تكمن في كونه يهدد بردم الهوة بين الإنسان والعقل الردم الذي يلوح بشروط في فلسفة ابن باجة. ذلك لأن الطريق الباجي لا يمنح هذا الامتياز للجميع أي للإنسان من حيث هو إنسان (2).

فالامتلاك الواعي للعقل ليس أعدل الأشياء قسمة، بل إنه امتلاك نخبوي لكنها نخبوية لا تنفي عموم الإمكان في الخطاب الباجي (لأنه يقصد كل من فكر تبعا لشرائط الطريق) يصبح العقل عينه كما أنها لا تنفي عن عموم النظار والجمهور امتلاكا معينا للعقل : امتلاكا لا شعوريا غير مباشر وامتلاكا لعقول متكثرة ومتنوعة. فأنا أفكر إذن أنا العقل في وحدته وكماله وصفائه لا تنفي في قاعدة الهرم أنا أفكر فأنا العقل في تنوعه واختلافه وارتباطه بالحس .(3)

هذا الطريق المعرفي لامتلاك العقل سيطرح مشكلة أنطولوجية صعبة. فكيف يلتقي الوجودان في الإنسان الوجود الجسماني والوجود العقلي؟. لم يكن التراث الأفلاطوني في هذه القضية مقنعا تماما، لأنه يحمل قضيتين مرتبكتين: قضية وجود الإنسان قبل وجوده وقضية التناسخ . أي: إن أي جسم يمكن أن يكون إنسانا. وهو ما ينتهي إليه دوما أي قول بوجود جوهرين متناقضين في الإنسان. وهو أيضا ما يصدق على المشائين الذين تبنوا هذا الاتجاه أو لمحوا إليه للتخلص من القول (بحسية الفكر ونفي الخلود) ولذلك يبدو أن حل هذه المعضلة كان دوما يتجه بصورة عامة إما إلى نفي العقل أو نفي الإنسان الذات المتفردة، ولكن يبدو أيضا أن ابن باجة

ص: 92


1- أبو ريان، د. محمد علي المصدر السابق، ص 423
2- ينظر: الميالي، سامي: الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 49-52.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 63-64 ، اذ يخلص الدكتور في بحثه عن ابن باجة في انه كان ((واقعيا استقرائيا ينتقل من الجزء إلى الكل ...)) .

(فيلسوف القرن 12م) ممن حاول أن يشذ عن هذا الاتجاه العام لأنه تصور وحدة جوهرية في الإنسان، وحدة العقل والجسم.

ونظرا لدقة المسألة وتعدد تأويلات الدارسين وتناثر شذرات أفلوطينية مخطوطات ابن باجة سنعمد في هذا القسم من القول إلى استقراء العبارات الباجية التي نعول عليها لبيان ما نقصد إليه :

ففي تدبير المتوحد يتحدث ابن باجة عن أصناف من الصور الروحانية، فالصنف الأول الذي هو ((صور الأجسام المستديرة ليس هيولانيا بوجه...... أما الصنف الثاني الذي هو العقل الفعال والعقل المستفاد فرغم أنه غير هيولاني أصلا إلا أن له نسبة إلى الهيولي أي مستفاد فعال لها وهو العقل الفاعل)).(1)والعبارة الباجية واضحة في كون العقل الفاعل والمستفاد في الإنسان بسبب هذه النسبة إلى الهيولى لا يرقى إلى صور الأجسام المستديرة التي لا نسبة لها مطلقا للهيولى.

ويلاحظ أيضا في خاتمة التدبير، أن ابن باجة يلح على الصلة الجوهرية بين العقل والإنسان. فالمعقول كما يقول ((لا يوجد إلا للإنسان خاصة فهو موضوع نوع الإنسان على أنه يوصف به وهو موضوعه على أنه ذو وجود وذو ملكة)).(2) لكن ذلك لا يعني أن الإنسان يمكن أن يدمج عالم الأجرام السماوية.

فالإنسان فيما يظهر كالواسطة ((بين السرمدية والكائنة الفاسدة. ففيه معنيان معنى هو في تلك السرمدية فيكون به سرمديا ومعنى يشبه الكائنة الفاسدة فيكون به كائنا فاسدا)).(3) ويخلص ابن باجة في هذه الخاتمة ((إلى أن الإنسان من عجائب الطبيعة، وأن فيه أمورا كثيرة.. وهو إنسان بمجموعها .. ففيه القوة الفانية.. فليس هذه تعقل صورتها ... وفيه القوى الحساسة والخيالية ،والذاكرة وهذه كلها لا تعقل ذواتها فلا تلحقها ... وفيه القوة الناطقة وهذه الخاصة بها)).(4)

ص: 93


1- ابن باجة تدبير المتوحد: رسائل ابن باجة الإلهية ت م ف ص 49-50
2- ابن باجة المصدر نفسه
3- المصدر نفسه، ص 95.
4- المصدر نفسه، ص 96.

ثانياً مشكلة العقل الهيولاني:

يفرق ابن باجة بين العقل الهيولاني والعقل بالفعل والعقل المستفاد والعقل الفعال. ففي رسالة الاتصال يبين ابن باجة أنه إذا كان الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالقوة الفكرية . و ((القوة الفكرية إنما تحصل إذا حصلت المعقولات لأنه بحصول المعقولات تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه))(1).

ولما كان المعقول ((ليس صورة لهيولي أصلا)) ولا هو صورة ((روحانية لجسم)) كالخيالات. فإن ابن باجة يخلص إلى أن المعقول ((صورة هيولاها الصور الروحانية الخيالية المتوسطة))(2) وهي الصور الروحانية التي ذكرت في تدبير المتوحد.

إن هذه النتيجة تبدو مستغربة لأن ابن باجة قد رفض في القول الذي يتلو رسالة الوداع - اعتبار العلاقة بين القوى في آلية التحريك العقلي علاقة الصورة بالهيولى لما ينشأ عن ذلك من فساد اللاحق بفساد السابق، ويبدو أن هذا الاعتبار إما أنه قد اختفى أو أن علاقة الصورة بالهيولى قد حملها ابن باجة معنى جديدا لا يلزم عنه مثل هذا التعلق الوجودي.

لكنها نتيجة رغم ذلك تنسجم تماما مع ما سبق ذكره في تدبير المتوحد حيث وردت الإشارة إلى أن للعقل نسبة للهيولي. فهذه النسبة لا تعدو أن تكون نسبة الصورة إلى الهيولي مادام أن العقل الفاعل للمعقولات والمتمم لها هو ذاته المعقول بالفعل أي هو الصورة العقلية.

يبقى الإشكال في الهيولى وهو ما تم حسمه في رسالة الاتصال. فما دام من المتعذر أن يكون المقصود هو الهيولى الطبيعية التي تؤسس مادة الجسم وعناصره. لأن ذلك يعني أنه لا وجود لجسم حي من دون عقل فما يصدق على النفس كصورة للجسم لا يصدق على العقل كصورة للجسم. فقد عدّ ابن باجة الصور الروحانية

ص: 94


1- ابن باجة رسالة الاتصال: رسائل ابن باجة الإلهية ت ماجد فخري ص 160 .
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 160-161

هي هذه الهيولى التي للعقل نسبة إليها، لأنه لا يمكن أن نتصور إنسانا عاقلا دون أن يكون قبلياً جسماً حياً.

لكن هذه النسبة ليست مطلقة دون شرائط، فهي لا تلزم بالضرورة عن الحياة ذاتها في الجسم، إنها تلزم عن نوع من الأجسام. فالحياة تتضمن هذا الاستعداد في فطرتها ويستمر فيها عبر التوالد وهو النوع البشري كما سبقت الإشارة إلى ذلك في تدبير المتوحد.

كما يتعين أن تكون هذه النسبة تبعا لما سبق ذكره في رسالة الوداع والقول الذي يتلوها هي نسبة المحرك للمتحرك. ففي رسالة الاتصال يقول ابن باجة ((إن المعقولات التي هي صور غير متصلة بالجسم إنما تحرك الجسم بتوسط الصور الروحانية التي هي آلة)).(1)

وتبعا لما ذكره ابن باجة مرارا فإن نسبة المحرك للمتحرك في هذه العبارة تعني تحريك المحرك الذي لا يتحرك. وهو تحريك له وجه مماثلة مع تحريك الإله للعالم: فهو تحريك الفاعل للمعقولات وتحريك الغاية المتمم للمعقولات. لكن حضور النسبة إلى الهيولي واعتبار الهيولي هي الصور الروحانية يجعل هذا التحريك متميزا. إنه تحريك باطني في عالم نفسي للإنسان. تحريك المفارق بالمعنى وليس المفارق بالذات .(2)

وهنا نعيد إثارة السؤال الآتي مرة أخرى: ما هو العقل في الإنسان؟ أي ما هو العقل في ضوء ما اشرنا إليه أعلاه من رسائل ابن باجة وما علاقته بالقوة الناطقة؟

نستطيع أن نستشف في رسائل ابن باجة (التدبير / الوداع الاتصال). إجابتين لهذا السؤال.

ص: 95


1- ابن باجة : المصدر نفسه، ص 160-161
2- يذهب الدكتور سامي شهيد الميالي: الفلسفة الإسلامية ج2 ، مصدر سبق ذكره ، ص 5-53 ، إلى تأكيد هذا الرأي الرأي، أما الدكتور محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، مصدر سبق ذكره،ص422-423، فيذهب إلى العقل يعقل الصورة المفارقة كما هى فى ذاتها، وهو بذلك يحيل إلى اثر نظرية أفلاطون المثالية على فلسفة ابن باجة. وهو أمر سبق وأثبتنا بطلانه.

الجواب الأول: أن العقل في الإنسان يعني إدراك المعقولات في ذاتها.

وهذا يعني ان العقل في الإنسان ينير له العالم . يقدم له العالم الخارجي معقولا. جواب ضمني عن سؤال لا يزال يحير التأمل الفلسفي : ما الذي يجعل العالم معقولا؟ يجيب ابن باجة بقوله ((إن العقل يدرك ماهية الشيء أما الحس والخيال فيدركان الشيء)).(1)

ولما كانت ماهية الشيء هي معناه ومعناه صورته بنسبته إلى المادة، وكانت الصورة والعقل واحدا ،بالموضوع وإثنين بالقول. يخلص ابن باجة إلى أن العقل حينما يعقل الشيء فإنما يقصد تحصيل الصورة من حيث هي أحد الموجودات لا من حيث هي مضافة إلى موجود هيولاني. وهذا يعني تجاوز مرتبة الحس والخيال ومرتبة العقل النظري.

فالذي بالقوة في الحس والخيال إنما هو الجسم والصورة. فالصورة في الحس والخيال مقترنة بالأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالصورة تتقوم بهذه الأعراض على أنها كلها في الهيولى في ذات الوقت. أما العقل النظري فإنما ينظر في صور الموجودات وهي ما هي فهو لا ينظر في الصورة كماهية مطلقة. إنه ينظر إليها من حيث حصل لها هذه الإضافة أي من حيث إضافتها للأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالصورة في الحس والخيال تقومها الهيولى وفي العقل النظري تضاف للهيولي، إنه ينظر إليها من حيث حصل لها هذه الإضافة أي من حيث أضافتها للأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالعقل النظري إنما يروم تحصيل هذه الصورة في هذه الإضافة.

لكن هذه المعقولات الهيولانية لابد من أن يكون لها وجود آخر غير كونها ماهيات، أي إن وجودها في عقل لا يتقدم وجوده بالهيولى بوجه، ويكون لها حال غير ما هي عليه المعقولات . ذلك لأنه لابد من أن يكون في الوجود شيء ما وجوده ماهيته، ويكون وجوده الذي يخصه لا في هيولى على أنه ((لم يتقوم بالهيولى)).(2)

ص: 96


1- ابن باجة : كتاب النفس، تحقيق د. محمد صغير حسن المعصومي، دار صادر، بيروت، ط1992 ،2 ، ص 78.
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 78 .

لكن ابن باجة يضيف، في انسجام تام مع ما سبق أن ذكره في الرسائل: ((أن هذا الذي وجوده الذي يخصه لا في هيولى ولم يتقوم بالهيولى غير مباين لما في الهيولي جملة بل يتصل بالهيولي ليس اتصالا على أن يكون له وجود فقد كان موجودا دونها وليس اتصالا مباشرا بالهيولي كأعراض تقومه بل إنما يتصل بالمعقولات الهيولانية ليتممها وعند تمامها تكون لمعقولات الهيولانية التي بالفعل وهي التي وجودها في الهيولي كالهيولي لهذا)).(1)

أما الجواب الثاني فهو : أن العقل في الإنسان يعني(فعل العقل) في ذاته.

وهو فحص التعقل في الإنسان. وهو فحص لأهم أفعال القوة الناطقة التي بها يتم

تحصيل المعرفة، فحص ينتهي أيضا إلى إثبات عقل أيضا إلى إثبات عقل في الإنسان له اتصال ضرورة بالهيولى. ذلك أن في التعقل يحضر الظن واليقين ويلتقي في تصوره (للكلي وللحد) المعقول بالمشار إليه، وينتهي فيه العلم بالغاية والمحمول إلى ضرورة علم بما ليس له محمول ولا هيولى.

يخلص ابن باجة من هذا إلى ((أن التعقل (العقل) رغم أنه لا يمكن أن يكون له شيء يجري مجرى الهيولى لأن له صورة تخصه وعقلنا إياها هو وجودها فإن هذا التعقل يماثل تعقل المادة الأولى. فيكون الوجه في عقلنا المادة الأولى مقابلا للوجه الذي يعقل العقل الأول . ذلك أننا إنما عقلنا المادة الأولى بتلك النسبة التي لها إلى الأجسام من دون توسط فنسبتها إلى المادة الأولى لا صورة لها فلا ماهية لها فلا يمكن أن تعقل في ذاتها لأن ما يعقل إنما هو ماهية شيء وقد صارت لها هذه النسبة بمثابة صورة لها وكذلك هذا العقل فإنه يعقل بالنسبة إلى الصورة القريبة منه دون توسط ووجود هذه النسبة ليست له لأنه لا يعقل في ذاته كالمادة الأولى بل إن ذلك يعود لطبيعة وجوده فلنقص وجود هذا العقل تكون تلك الصورة القريبة تقوم له مقام الهيولى)).(2)

ص: 97


1- ابن باجة المصدر نفسه، ص 79.
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 96.

وهكذا يفصل ابن باجة بين وجودين للعقل . وجوده الكامل كصورة يدرك من دون إضافة، ماهيته عين وجوده. ووجوده ناقصا يفتقر إلى نسبة يتعقل بها هي نسبته إلى أقرب صورة له تقوم له مقام الهيولى.

فنجده يربط المعرفة بالعقل الذي يخرجها من القوة إلى الفعل وهو الذي يوحد بين الكثرة وتحقيق الوحدة فيرى ((إن غاية النظر الفلسفي أن يبلغ العالم مرحلة يدرك بها جميع المعقولات لا من حيث هي معقولات هيولانية ولا روحية بل من حيث المعقولات احد موجودات العالم وصوره)).(1)

ثالثاً البعد السيكولوجي للأخلاق:

يرى ابن باجة أن العلم بالنفس يتقدم سائر العلوم الطبيعية أنواع الشرف كلها وليس يمكننا أن نقف على مبادئ العلوم ما لم نقف على النفس ونعلم ما هي كم من لا يعرف حال نفسه فهو اخلق أن لا يوثق به في معرفة غيره .(2) ولكي يصلح الإنسان نفسه يجب أن يعرفها أولا، فالمعرفة الحقيقية هي معرفة الذات واستخراج ما فيها من عناصر الخير والحق والفضيلة.(3) والعلم بالنفس جزء من العلم الطبيعي بحسب أرسطو، بل أن العلوم العقلية الخلقية إنما تنشأ من رجوع النفس على ذاتها وتعرف أحوالها .(4) وفي سياق بحث ابن باجة في النفس نراه يقسمها إلى اربع قوى هي: القوة الغاذية والقوة الحاسة، والقوة المتخيلة والقوة الناطقة أي العقل .(5) فيعدها العامل المحرك للإنسان في أفعاله على تنوع دوافعه واختلاف نواياه وغاياته الأخلاقية. وهكذا يتدرج بها من الأقل إلى الأكثر كماً مثلما يذكرها على سبيل الجدل النازل، وعلى سبيل الجدل الصاعد يرتقي بها الإنسان ،كيفاً، فيرتقي في أفعاله خلال فترة حياته من الصور الحسية إلى الخيالية حتى يكون إنساناً بالقوة الفكرية فيرى أن

ص: 98


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان ضمن رسائل ابن باجة الإلهية تحقيق ماجد فخري، ص 167.
2- الاهواني احمد فؤاد، ابن باجة، دار الأنوار بيروت، 1965، ص54.
3- الميالي، سامي شهيد، الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص30.
4- كرم يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، ط1، 1977، ص 153.
5- ينظر: ابن باجة النفس، ص 9 و ما بعدها.

((القوة الفكرية إنما تحصل له إذا حصلت المعقولات فبحصول المعقولات تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه وبهذه لا بتلك من نتائج عملية تتجلى في أفعال الإنسان العاقل)).(1) فالقوة الناطقة عند ابن باجة وهي أعلى قوى النفس عنده تقال أولا على الصورة الروحانية من جهة أنها تقبل العقل وتقال على العقل بالفعل .

السؤال هنا يتعلق بهذا العقل الذي له صلة بالهيولى والذي يؤسس مع سائر القوى النفسانية وحدة الإنسان وذاتيته ومركزيته وموقعه المتفرد في الكون هذا العقل كيف يتصل بالجسم ؟ إن مثل هذا الاتصال الذي لم تعد دلالته تتجاوز كيان الإنسان يتعين بيان كيفيته وتلك هي قضية الرسائل الأخرى. ففي رسالة الوداع يقول ابن باجة ((إن العقل في نفسه إذا تجرد لا يتحرك أصلا لأنه محرك صرفا... فوجوده متحركا من أنقص وجوداته)).(2)

إن هذه المقدمة التي تنسجم مع ما ورد في الشروح وفي كتاب النفس سرعان ما يتجاوزها ابن باجة مستدركا أن هذا العقل ((من شأنه أن يوجد تارة ولا يوجد وهو بهذا المعنى أنقص رتبة من الجواهر الثواني... ولذلك أيضا احتاج هذا العقل للبدن.. ليتحقق وجوده. فالجسم أداة لإثبات وجود العقل. فالعقل في البدن إنما يبتغي نفسه لا آلاته، وهو إنما يصلح لآلاته وأصلحت له. ليوجد هو .. وهو على أفضل أحواله)).(3)

لكن وجود العقل في الإنسان يختلف عن وجود سائر القوى فيه بحسب ابن باجة، إذ إن وجوده يرتبط بالتصور. ((فتعقلنا لهذه القوة التي نحكم بها على أشياء غير متناهية لم نشاهد فيها إلا أشخاصا قليلة أو لم نشاهد منها شخصا أصلا. ليس يكون بالوهم ولا بالتخيل فإن أكثر ذلك كاذب.. وإنما تعقلنا بأن نتصور ما هي)

) .(4)

ويضيف ابن باجة موضحا أن العقل لأنه ليس في مادة ( كان حصوله هو تصوره.

ص: 99


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان، ص 161
2- ابن باجة رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية ت ماجد فخري ص 127
3- المصدر نفسه، ص 127.
4- المصدر نفسه، ص 136.

وهذا ما يميز تصور العقل عن تصور الأشياء. فإن تصور الخزانة ليس هو حصول شخص من أشخاصها عندنا. فإنه قد يتصورها من لا يملك واحدا من أشخاصها. أما العقل فتصوره هو وجوده)).(1)

لكن من جهة أخرى ((قد نتصور ما ليس موجودا كعنقاء غراب وعنز أيل. فإن تلك أيضا تصورها هو وجودها لكن الفارق بين التصورين أن تصور المتخيلات يصنعها أو يختلقها، فهي متصورة على أنها مفعولة لنا ومركبة من أفعالنا أما تصور العقل فليس كذلك لأن العقل لم يوجد بالتصور حتى كان التصور فاعله أو مركبه)) .(2)

لو تأملنا هذا المعنى في ضوء الأفكار السابقة فإن الالتباس الذي قد تثيره نصوص ابن باجة أعلاه يتعلق بوجود (الله) الذي لا يدرك إلا بالتصور أيضا فكيف يكون ما لا صلة له بالجسم يماثل ما لا يمكن أن تكون له هذه الصلة؟

وحقيقة الأمر، لا ترد الإجابة صراحة في نصوص ابن باجة تلك. لكن رغم الوصف الإلهي للعقل (المنقول عن النيقوماخوس) في هذه النصوص، فإن الإجابة يمكن أن نستنبطها استنباطا منها . ف__ الله في شرح ابن باجة للمقالة الثامنة من السماع يتعلق تصوره بحركة العالم وافتقاره الغائي إلى محرك لا يتحرك لا بالذات ولا بالعرض. والله في مدخل التدبير تفوق مرتبته مرتبة العقول عموما ولا يقاس بالإنسان: إنه ما يفوق كل وصف وتصور.

لكن ما يرفع هذا اللبس ويضع العقل في مرتبته الجسمانية في الإنسان، هو ما ورد في القول الذي يتلو رسالة الوداع. فتصور العقل في ذاته يلزم عنه تصوره في جسم بعينه تصوره محركا لهذا الجسم في العيان الحركة الإنسانية وليس الحركة الطبيعية القسرية ولا الحركة الحيوانية الخيالية. فالعقل في الإنسان هو حركة الرأي فيه التي يمكن استبطانها في الوعي. لأن ((الحركة الإنسانية هي الحركة الكائنة عن الرأي صوابا كان أم خطأ.. فإذا تقدم الرأي تحركت الخيالية لتدرك ما أوجه الرأي.- وأحضر

ص: 100


1- المصدر نفسه، ص 138.
2- المصدر نفسه، ص 139.

الحس المشترك - صنم ذلك الرأي. وعندئذ يحضر الاشتياق فيتحرك الج- الجسم)) (1).

إن هذه الآلية السيكولوجية التي خلص إليها ابن باجة تفسير لما ورد في (رسائل الوداع) أي إن الجسم آلة العقل وأداته فيبدو الآن أنه آلته بمعان ثلاثة:

1 - بمعنى الرأي المحرك : فالعقل في الإنسان بهذا المعنى هو مجموع الآراء التي تخطر بالذهن صائبة كانت أو خاطئة. وما يمنحها انتسابا للعقل وتمثيلا له في آن واحد هو كونها تملك قدرة على التحريك أي خلق حركة متميزة تخالف حركة الطبيعة والحيوان: حركة الرأي أي الحركة الإنسانية الاختيارية.

2 - بمعنى الفاعل السيكولوجي: إنه هو الذي يمنح للإنسان صفة الفاعل ومسؤولية الفاعل على الحقيقة. إنه يبلور الذات الفاعلة وتتحقق فيه وحده. وهو أمر أكده ابن باجة في الشروح وفي الرسائل غير أن هذه الفعالية السيكولوجية المشار إليها لا يتم إلا بتضافر مع أفعال أخرى فعل الخيال والحس والشوق مما يتعين معه افتراض حد أدنى من المشاركة في الطبيعة بين الرأي وبقية القوى الفاعلة النفسية والبدنية.

3 - إن الجسم آلة العقل بتوسط القوى النفسانية : فإن ابن باجة يشير في هذا القول الذي يتلو رسالة الوداع إلى أن العقل الذي لا يدركه ((البلى ولا السن)) كما ورد في كتاب النفس وفي رسالة الوداع لا يمكن للجسم قبوله إلا بعد وجود هذه القوى في الجسم، أي القوى الروحانية الخيالية والحسية، وجودا تراتبيا، لا يعني أن وجود اللاحق يتعلق بوجود السابق كما هو الشأن في علاقة المادة والصورة. إنه تراتب وجودي تفاضلي .(2)

في عموم هذه المعاني نلمس ولو بغموض أن تفسير وجود العقل في الإنسان يتجه نحو اعتبار هذا الوجود معلقا بالوجود النفسي بنوع من المشاركة أو النسبة. فهو ملحق وفاعل في نطاق الآلية النفسية وبتكامل مع سائر القوى النفسانية. ولا يمكن أن نفهم أبعاد هذه الآلية السيكولوجية التي خلص إليها ابن باجة إلا في حدود أبحاث

ص: 101


1- ابن باجة، قول يتلو رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية ت ،فخري ص 151
2- ابن باجة المصدر نفسه، ص 152

علم النفس المعاصر الذي ينطلق أساسا من مفهوم الذات، فقد أكد (كارل روجرز Carl Rogers)(1) إن استنتاجات الفرد عن العالم المحيط به مستمدة من تجربته الشخصية، وتسوقه هذه الاستنتاجات قسرا نحو التحيز لحاجات الذات، ويؤكد (روجرز) إن الفرد في مسيرة نموه يتعب كثيرا لتحقيق الذات والدفاع عنها وتعزيزها (2). ومن جهة أخرى شدد (لودفيك بينس فانجر Ludwing Beins Wanger)(3) على مفهوم الوجود المتعين الذي اهتم فيه بكلية الوجود الإنساني، وفي هذا النمط من الفهم ينظر إلى النمو بشكل خلاق يتمكن الإنسان من خلاله من تحقيق ذاته، بإتباع نظام مستمد من قيمه الذاتية(4).

والجدير بالذكر هنا أن علم النفس المعاصر يتوجه إلى الإنسان بوصفه موجودا يتكئ على ذاته تماما، وفي هذه الرؤية ينظر إلى الإنسان بفردانيته كشخص لا كنوع ونظام القيم المتحكم بسلوك كل فرد من الأفراد، فهو قائم بذاته كليا، إذ أن هنالك عللا فاعلية وأخرى غائية داخل الإنسان أيضا إلى حد أن الفرد يحقق عمليا جميع استعداداته وقواه الذاتية، وهو وحيد منقطع عن العلل الخارجية. وأكثر ذلك، بإمكانه التحكم في غاية وجوده (5).

رابعاً: ديالكتيك الأخلاق العقلانية

عطفا على ما تقدم فان صور العالم بحسب ابن باجة تأتي على مراتب متعددة من أفعال الإنسان أعلاها مرتبة هي صور المعقولات الخالصة من أي علاقات جسمية، وأدناها مرتبة الصور الجسمانية. فإذا كانت الصور الجسمانية ملونة بالكثرة فان الصور الروحانية العالية مطهرة بالوحدة والتفرد والتطور الفكري من مرتبة الصور الدنيا إلى

ص: 102


1- (كارل روجرز Carl Rogers) معالج نفسي أمريكي ولد عام 1902 لمزيد من الاطلاع انظر زيعور، د. علي مذاهب علم النفس دار الأندلس، بيروت، ط2، 1977، ص 128.
2- ينظر مراد د. يوسف مبادئ علم النفس العام، دار المعارف، القاهرة، ط7، 1978، ص 372
3- (لودفيك بينس فانجر Ludwing Beins Wanger) عالم نفس سويسري ولد عام 1881م وهو احد طلائع علم النفس الوجودي، توفي عام 1957م. انظر ،زيعور، د. علي مذاهب علم النفس، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1977، ص135.
4- ينظر زيعور، د. علي المصدر نفسه، ص 128 .
5- انظر: المصدر نفسه، ص129

مرتبة الصور العليا يتم بمساعدة العقل الفعال التي يبلغ بها الفعل الإنساني إلى كمال سعادته عبر مستويات ثلاث من المعرفة العقلانية توازي أو تطابق ثلاث درجات أو مراتب من الدوام والخلود في الأفعال، فمن كان عمله محددا بحدود الحس وكان رهنا بتغيير الإحساسات فهو لا يستطيع في أفعاله الاتصال بالأمر الدائم، ومن ثم يفنى بفناء الموضوعات الحسية. أما من كان فعله وعمله قائما على الاستنباط فهو أعطى من الأمر الدائم ذلك القدر فقط. أي القدر الذي يتناسب مع الدرجة التي تحتلها المعرفة بقوانين الطبيعة في سلم الشمول والثبات. أما من بلغ مرتبة العلم الكلي فان الحال الحاصل له إنما هو الأمر الدائم بفضل الجوهر الأخلاقي لأفعاله العقلية المتوازنة والمعتدلة والسامية(1).

وهكذا تتحرك نظرية ابن باجة في الأخلاق العقلانية في حدود الربط بين العقل والتعقل وفي حدود الاتصال والمفارقة عبر خط الانتقال من الكثرة إلى وحدة تلغيها وخط آخر هو عكسها أي النزول من الوحدة إلى الكثرة، وحركتا الصعود والنزول تمكن الإنسان من الاتصال مع الكائن الأول أن كان في إرادته ومعرفته ودوافعه وان كان في أفعاله وسلوكه(2). وهذه الربط بين العقل والتعقل، والاتصال والمفارقة، يسمح لنا باستنتاج أنّه رغم صياغته لإشكالية العقل والتعقل تبقي في جوهرها ذات ملامح صورية، إلا أنها من الناحية المنهجية ذات صبغة ديالكتيكية، يمكن الوقوف عليها بسهولة عند التمعن في المفارقات التي يضعها. ومن الطرق التي يقترحها ابن باجة لحل تلك الإشكالية . نراه يقدم إمكانية ثانية لارتقاء الإنسان بأفعاله العملية والعقلية إلى مرتبة العقل الفعال إلى جانب الإمكانية الأولى إذ يرى أن الإمكان صنفان صنف طبيعي مادي وهو الذي يدرك بالعلم ويقدر الإنسان الوقوف عليه من تلقائه، أما الصنف الثاني الإلهي فإنما يدرك بمعونة إلهية، لذلك بعث الله الرسل وجعل الأنبياء ليخبروا معشر الناس بالإمكانات الإلهية عن طريق الوحي والنقل والنص

ص: 103


1- إبراهيم نعمة محمد والميالي سامي ،شهيد الفلسفة الإسلامية، مصدر سبق ذكره، ص 47.
2- زيادة معن الحركة من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة دراسة في فلسفة ابن باجة الأندلسي، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1985، ص 35.

الشرعي(1) فأفعال الإنسان وأقواله وتصرفه تبقى العامل الأول الحاسم في التواصل مع العقل الفعال. وهذا بعداً أنطولوجياً نلمس حضوره أيضا في ثنايا الخطاب الباجي في نظرته إلي العقل يمكن تمييزه عن البعد المعرفي، فإذا كان العقل في وحدته الأنطولوجية هو الغاية التي نصل إليها فإن التعقل من حيث طابعه المعرفي هو الذي يجعل عملية الوصول تلك ممكنة، فالمعرفي يمثل إذن السبيل الذي نسلكه بينما يمثل العقل في وحدته الأنطولوجية المقصد الذي نطلبه. وهنا يتضح لنا مقصد ابن باجة في حركتي الصعود والنزول في نظريته الأخلاقية، وهو عكس ما قد يفهم عادة منه في أن طريق الصعود هو طريق استقرائي يراد منه الصعود من الجزئي النسبي المحسوس إلى الكلي المطلق المعقول، بل هو طريق في إدراك المعقولات التي هي تصورية بحتة لموجودات هذا العالم ورؤيتها ليست متيسرة لجميع الناس بل لبعضهم أي لأولئك الذين يتجاوزون مرتبة الجمهور إلى مرتبة النظار والمتوحدين. أما طريق النزول هو ليس طريق استنباط الجزئيات من الكليات وإنما هو الهبوط عن طريق الوحي. وبذلك يحدد ابن باجة أن من يتصل بالعقل الفعال هم فقط الفلاسفة والأنبياء، الفلاسفة بطريق الصعود عبر صور المعقولات والأنبياء بطريق نزول الوحي. وبالرغم من قوله بطريقين في الارتقاء الإنساني إلا انه ليس أمامه سوى طريق الارتقاء الطبيعي الأول لان الرسالات السماوية قد ختمت برسالة نبي الله محمد صلی الله علیه و آله وسلم . كما انه ينتقد أصحاب الحدس والإلهام من الصوفية، فنراه كثيرا ما يؤكد في رسائله أن العقل والمعرفة هما سبيل السعادة وليس التصوف والمعرفة العرفانية، فنراه يرفض ادعاء المتصوفة إدراكهم السعادة القصوى قد يكون بلا تعلم بل بالتفرغ. وعليه يعد ابن باجة العلم هو الطريق الأمن الذي إذا اتبعه الإنسان يؤدي في النهاية إلى الاتصال بالعقل الفعال، فبما أن العلم كسبي فعليه يكون الاتصال كسبياً يستطيع الإنسان تحصيله بنفسه وهذه ذروة النتائج للنيات الحسنة وللوسائل الفاضلة التي توسل بها الإنسان الفاضل المتوحد في تحقيق السعادة الكاشفة تحقيق السعادة الكاشفة عن جلال الفعل الإنساني الأخلاقي لهذا قسم ابن باجة القوة العقلية الحرة والمريدة ممثلة بالنفس

ص: 104


1- ابن باجة رسالة الوداع، ص 141.

الناطقة إلى عقل عملي وعقل نظري الأول يقصد به العقل الذي ما يحركنا إليه النزوع نحو طلب حاجة ما فهو يطلب الحقيقة في مجال الميول والشهوات للإنسان الجسد. أما العقل النظري فهو يطلب الحقيقة لذاتها وموضوعها الكلي والموجودات الدائمة الثابتة، أي الكليات والصور العقلية المجردة التي يحصلها العقل الإنساني. لذا يعد ابن باجة أن العقل النظري هو الذي نستطيع بواسطته الوصول إلى درجة العقل المستفاد في جميع أفعالنا الصادرة عن إرادة ،واختيار، إذ يرى أن الكمال له مراتب مختلفة، وواجب على الإنسان أن يختار بتبصر أيها له ((إنه من حصلت له هذه الرتبة حصل في حالة لا تصارعه فيها الطبيعة ولا تنازعه النفس البهيمية، وعلم هذا الحال التي بها يكون الخلاص من هاتين المنازعتين أعني الطبيعة والبهيمية حال لا يمكن أن توصف بأكثر من هذه، وهذه الحال يفوق النطق جلالها وشرفها ولذتها وبهائها وبهجتها ...... وإذا بلغ الإنسان هذه الدرجة درجة العقل المستفاد صار هو ذلك العقل بعينه لا فرق بينهما بوجه ولا حال وصار احب المخلوقات إلى الله وعلى قدر قربه منه قربه إلى الله)).(1) وعندما يتسنى للإنسان الاتصال بالعقل الفعال فانه يبلغ الغاية القصوى فيصير بموجب ذلك هو ذلك العقل نفسه ((لأنّ فضل الإنسان ذلك العقل بعينه لا فرق بينهما بوجه ولا على حال، وإذا حصل فقد حصل ذلك للإنسان أحب المخلوقات إليه وعلى قدر قربه منه قربه من الله، ورضي الله عنه، وهذا إنما يكون بالعلم، فالعلم مقرب من الله والجهل مبعد عنه، واشرف العلوم جميعا هو هذا الذي قلناه واجله مرتبة هذه المرتبة التي تصور الإنسان ذاته حتى يتصور ذلك العقل الذي قلناه قبل)) (2). هذا ما يذكره ابن باجة في الرسالة التي بعث بها إلى تلميذه ابن الإمام مما يعني أن العقل ليس فقط وسيلة وإنما كذلك غاية وان العلم الأقصى هو مبتغي المتوحد. ومن ثمة فإن المعرفة لا تمكن من تحقيق الاتصال بين العقل والإنسان إلا بعد أن تكون قد أثبتت مفارقة العقل للإنسان، فمهمتها مزدوجة، إذ يتطلب الاتصال المفارقة كما تتطلب المفارقة الاتصال، ولا يمكن وجود هذا من دون ذاك، فكل جانب ضمنها يقود إلي الجانب الآخر. وعلي قاعدة الارتباط بين

ص: 105


1- ابن باجة رسالة الوداع، ص 141.
2- المصدر نفسه، ص 142

هذين المفهومين يبني الخطاب الباجي ذاته ويبلور مضامينه وأهدافه.

ما أراده ابن باجة هو القول بنوع من الاتصال مع العقل الفعال ينعكس طرديا على أخلاق الإنسان، لكن هذا الاتصال له مراتب و درجات تختلف باختلاف قدرة الإنسان في الوصول إليه، فالواصلين إلى مرتبة السعادة إنما يصلونها بالمعرفة الواحدة المستمدة من العقل الفعال الذي يوحد بينهم بمقولاته الواحدة وينقلهم من حال التكثر إلى حال الوحدة، لكن بلوغ ذلك يقتضي مجاوزة الأفعال الناشئة عن العقول الهيولانية التي هي سبب كل تكثر يعترض سبيل الاتصال بالعقل الفعال المبرئ من الهيولى فكان التكثر مظهراً ماديا خادعا لا يكشف للإنسان حقيقة الأفعال الفاضلة ويبتعد به عن الوحدة وهو يظهر لأولئك الذين لم يبلغوا مرتبة المعرفة التي تصل به عقولهم إلى الأعمال المفضية إلى مرتبة السعادة. وكأن ابن باجة سبق زمانه بالحديث عن ضرورة انتقال أفعال الإنسان من الفعل إلى الصورة العقلية الفاضلة وصولا بها إلى العقلنة لكي تكتسب مشروعيتها الأخلاقية وهو موقف قلما اجتمعت فيه عند فلاسفة الأخلاق لكي يستوي فيه طابع السعادة العقلية والنفسية والوجدانية والروحية في العالمين الدنيوي والأخروي.(1) وهي مسالة عرفت عند فلاسفة الأخلاق الذين يرون في أفعال الإنسان دورة كاملة لا تنتهي بموت الإنسان بل تكتمل بالحياة الثانية وتعطي ثمارها الأخلاقية المنشودة لكل فاضل وحكيم. وبهذه الكيفية نكتشف الخيط الذي يربط الاتجاه العقلاني لابن باجة مع فلسفته الأخلاقية المعبرة عن الهدف الأخلاقي من الحياة والوجود وتتكامل دوافع الضرورة الطبيعية التي تترجمها العلوم حلها لمشكلات الإنسان بما هو جسد في مقدماتها الهيولانية التي يروم الإنسان في تطمينها امتلاك حريته العقلانية الدافعة نحو أخلاق تتوافق ومنطق العقل والوحي. ومن هذه الآصرة بين ضرورات الإنسان الجسدية وحريته العاقلة يتمكن الإنسان من أفعال أخلاقية تفصح عن عقلانية مدركة لصور الروحانية الكلية أو العقلانية المجردة وتنتقد في كيانات تلك الأفعال الفاضلة من دوافعها الروحية الجزئية الفردية الأنانية الضيقة إلى افقها الإنساني الروحي الأشمل الذي لا يكتمل إلا في افقه الميتافيزيقي

ص: 106


1- إبراهيم نعمة محمد والميالي، سامي شهيد الفلسفة الإسلامية ، ج2 ، مصدر سبق ذكره، ص52.

الذي ينطبع بطابع العقلنة كما اجتمعت عليها وصايا الشرع وتجليات العقل. فالناظر في (تدبير المتوحد) و (رسالة الاتصال) و (رسالة الوداع) يرى أن ابن باجه يستعمل لفظة التوحد على نحوين أخلاقيين النحو الاجتماعي الأخلاقي، والنحو المدني الأخلاقي. ومؤدى التوحد آخر الأمر، اتحاد العقل الإنساني بالعقل الفعال والنظر من هذه الجهة عنده هو الحياة الآخرة، وهو السعادة القصوى المتوحدة والتوحد الاجتماعي، هو الجزء الكبير من الرسالة الموسومة (تدبير المتوحد)، وتقرير مبادئها إنما يتصل بالفحص عن الأفعال التي تخص الإنسان التي تقود إلى الفحص عن الغايات التي تليق بالإنسان، أي عن الصور الروحانية. ولأن الإنسان المتوحد يستجيب إلى مراعاة الظروف المدنية، فعليه إذا ما تنافت مع الطبيعة العقلية الروحانية الإلهية الانفصال عنها، تحقيقاً لغاياته الإنسانية العقلية المثلى.

ومتوحد ابن باجة فيلسوف واحد أو فلاسفة عدة يعيشون متوحدين في المدن غير التامة أو المجتمعات غير الفاضلة التي يشوبها النقص ويسميهم ابن باجة (النوابت). والمتوحد هو الذي يرتب أفعاله بحق نحو غاية مقصودة، فالمتوحد الأخلاقي الفاضل والعقلاني النابت يقوم بالأفعال عن اختيار حر أي أن أفعاله أفعال إنسانية لأنها تحصل عن إرادة كائنة وعن روية (1). أي أن الأعمال التي تصدر عن الإنسان العاقل التي يختص بها دون سائر الحيوان التي يجب أن تكون أعمال المتوحد هي التي تكون صادرة عن العقل والإرادة والبصيرة لتحقيق غايات مشروعة. لذلك ينحصر التدبير على أصناف منها: تدبير الإله للعالم، وتدبير المدن، وتدبير المنزل. وتدبير المتوحد سواء كان فردا أو جماعة هو المعنى الذي يقصده ابن باجة وهكذا فان التدبير يستلزم تنظيم الأفعال والتصورات تنظيماً واعيا وتوجيهها عن سبق تفكير وتصميم بحيث تسير إلى قصد مرسوم . وان هذا التدبير يتقدم بعضه بعضا بالشرف والكمال، واشرف الأمور التي يقال عنها تدبير تدبير النفس، وتدبير المنزل، وتدبير المدن، أما تدبير الإله للعالم وهو المطلق وهو أشرفها.(2) وهو بهذا المنهج الأخلاقي

ص: 107


1- ابن باجة تدبير المتوحد، ص 11
2- المصدر نفسه، ص 4

العقلاني في تدبير النفس والتعبير عنه بالقول والفعل يبني فلسفته الأخلاقية ليحرر الإنسان من دوافعه الحيوانية ويرتقي به نحو افق أخلاقي رحيب تتحول فيه الذات إلى كل يسهم في قيام المجتمع الفاضل وتحقيق السعادة.

لذا يهدف التوحد إلى الانتقال من مستوى العقل الفردي المتكثر بأصوله الحسية إلى مستوى العقل الكلي الذي يتواصل بكينونته من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرة ((فالنظر من هذه الجهة هي الحياة الأخرة وهي السعادة القصوى الإنسانية المتوحدة)).(1) فالغاية الإنسانية الأخلاقية المثلى هي أن يكون التوحد وجها من وجوه الاتصال الأخلاقي العقلاني بالعقل الفعال، وبهذا تصبح غاية المتوحد جعل الإنسان يدرك ذاته كانسان عقلي أي بوصفه جوهراً معقولاً مثله كمثل العقول المفارقة التي ليس لها أي صلة بالمادة التي هي من ثم خالدة كخلود تلك العقول نفسها.

الخاتمة:

نصل في ختام هذا البحث إلى مجموعة من النتائج يمكن أن نجملها على النحو التالي

إذ يعالج ابن باجة تلك القضايا، فإنما يؤسس لمشروع فلسفي يمثل فيه تحقيق الاتصال بين الإنسان والعقل حجر الزاوية، فمثلما يؤلف بين مفهومي العقل والتعقل فإنه يؤلف أيضا بين مقولتي المفارقة والاتصال فلكي يتحقق الاتصال بين العقل والإنسان ينبغي أن نثبت أولا مفارقة العقل للإنسان، وإلا فإن الحديث عن الاتصال سوف يكون مفرغا من معانيه الحقيقية، وهو بذلك قد تجاوز المشكلة المعرفية العقلانية الغربية في نموذجه العقلاني الإسلامي الذي قدمه لأنه منذ البداية أرسى قواعده لحل إشكالية الاتصال والمفارقة على أسس منطقية ترقى فيها الذات درجة نحو كمالها.

وهذا يعني من وجهة نظر أخلاقية أن الإنسان مطبوع على الخير وما عليه إلا أن يقوم بتعزيز هذه الطبيعة وإبرازها من خلال جعل النوابت بوصفهم مثلا يقتدى بهم

ص: 108


1- ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان، ص 166.

في إصلاح العادات وأخلاق المجتمعات الناقصة.

ولأنه صاحب اتجاه عقلاني فلا وسيلة معرفية لديه سوى العقل، لذا فإننا لا نراه يميل إلى قضية التوفيق بين الدين والفلسفة لأنه وبموجب وبموجب عقلانيته يرى أن ميدان الدين مستقل عن ميدان الفلسفة وما عدا ذلك فهو يرى بعض التوافق في الدوافع بين العقلي والشرعي من جهة الحث على الأفعال الفاضلة.

ومن خلال بحثه في أصناف الصور العقلية والروحانية والجسمانية، الخاصة منها والعامة، المحركة للفعل الإنساني نحو الفضائل يصل إلى الصور الكلية العامة بوصفها المحرك الأول في الإنسان نحو الأفعال المحمودة التي تتصف بالدوام، التي بموجبها تتحقق السعادة.

والطريق الأمثل للوصول إلى معرفة حقائق الأشياء هو الطريق المؤدي للاتصال بالعقل الفعال يكون فيه العقل هو القائد للأفعال والموجه للنفس وقواها وجسده وحاجاته. وبهذا احتفظ ابن باجة للعقل بحق القيادة والتوجيه واتخاذ القرار في الأفعال، فكانت عقلانيته شاملة وعميقة وأخلاقية.

قائمة المصادر:

1. آل ياسين ،جعفر فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط، مكتبة الفكر العربي بغداد ، ط3، 1985

2. ابن باجة كتاب النفس تحقیق د. محمد صغیر حسن المعصومي، دار صادر، بيروت، ط2، 1992.

3. ابن باجة رسالة اتصال العقل بالإنسان ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق د. ماجد فخري دار النهار بيروت، ط1، 1968.

4. ابن باجة رسالة الاتصال: رسائل ابن باجة الإلهية ت م .ف.

5. ابن باجة، تدبير المتوحد: رسائل ابن باجة الإلهية، ت م ف.

4. ابن باجة رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية، ت م .ف.

ص: 109

7. ابن باجة قول يتلو رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلهية، ت م ف.

8. أبو ريان، د. محمد على تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1973.

9. الاهواني احمد فؤاد، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط1، 1954.

10. دي بور، ت ج : تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة د. عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، .1948

11. زيعور، د. علي مذاهب علم النفس، دار الأندلس، بیروت، ط2، 1977.

12. كرم يوسف تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط4، القاهرة 1966.

13. كرم، يوسف تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، ط1، 1977.

14. کوربان ،هنري تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مروة دار عويدات، بيروت، بلا ط، 2004.

15. محمد إبراهيم، د. نعمة والميالي د. سامي شهيد الفلسفة الإسلامية ، ج 2 ، دار الضياء، النجف، ط1، 2007.

16. مراد د. يوسف : مبادئ علم النفس العام، دار المعارف، القاهرة، ط7 ، 1978.

17. زيادة معن الحركة من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، دراسة في فلسفة ابن باجة الأندلسي، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1985.

ص: 110

المسؤولية والجزاء وأثرهما الأخلاقي عند إخوان الصفا

د. محمود کیشانه(1)

أولاً: علاقة المسؤولية والجزاء بالفعل الخلقي

إن إخوان الصفا يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها أي مسئولية أو جزاء؛ لأنها تقع على عاتق الإنسان بفعل الطبيعة التي جعلتها في غريزته وطبيعته وفطرته؛ بما يعني أن الأخلاق المركوزة في الجبلة بفعل تأثيرات الطبيعة مجبر الإنسان على فعلها، وفعل الجبر لا يترتب عليه مسئولية أو جزاء، في حين أن أخلاق الاكتساب هي التي يترتب عليها مسؤولية وجزاء؛ لأن الإنسان فعلها بعقله وإرادته واكتسابه واجتهاده وأعمل فيها فكره ورويته متبعًا فيها أوامر الشرع الإلهية والنواميس الربانية.

فإخوان الصفا حين يتحدثون عن الناس أخلاقيا نجدهم يقسمونهم إلى قسمين:

أ - أخلاق أبناء الآخرة.

ب - أخلاق أبناء الدنيا.

ص: 111


1- محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه، باحث فلسفي، مدرس محاضر بجامعة القاهرة. يؤكد الباحث: إن إخوان الصفا يعتقدون اعتقادا جازمًا بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها أي مسئولية أو جزاء، في حين أن أخلاق الاكتساب هي التي يترتب عليها مسئولية وجزاء لأنها تعتمد على إعمال العقل والفكر والروية والإرادة الحرة المترتبة على ما سبق، واتباع أوامر الناموس وتأديبه وطول الدأب وكثرة الاستعمال لتصير عادة ومن ثم فان الجنة مصير النفوس البريئة المطهرة بالعلوم والمعارف، أما النفوس الشريرة، فإنها تهبط ، وترد إلى أجسادها في عالم الكون والفساد؛ لتجازى على أعمالها، أي إن الجزاء واقع على النفس والجسد معًا. ثم يخلص الباحث إلى نتيجة أن الفلسفة الأخلاقية هي نتيجة مصادر متنوعة منها مبادئه الإسلام وأصوله، ومبادئ وأصول الأديان السماوية الأخرى والديانات الوضعية، وآراء الفلاسفة والحكماء المحرر

فأخلاق أبناء الآخرة هي التي اكتسبوها باجتهادهم بموجب العقل والروية والفكر، أو بموجب اتباع أوامر الناموس وتأديبه، فتصير أفعالهم بطول الدأب فيها وكثرة الاستعمال لها، وعلى ذلك يجازون ويثابون . (1)بما يعني أن الفعل الخلقي الذي يترتب عليه المسؤولية والجزاء عند إخوان الصفا يتضمن:

أ - إعمال العقل والفكر والروية

ب - الإرادة الحرة المترتبة على ما سبق.

ج - اتباع أوامر الناموس وتأديبه.

د - طول الدأب وكثرة الاستعمال لتصير عادة بما يعني أن يكون الفعل الخلقي صادرًا عن هيئة راسخة في النفس ؛ لتصدر عنها الأفعال من دون تكلف أو معاناة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أيضًا هنا إذا كان إخوان الصفا يؤمنون إيمانًا جازمًا بأن الطبع والشهوات المركوزة في الجبلة الإنسانية يتنافى مع أوامر الشرع ومقتضياته، فلماذا أفسحوا المجال لآرائهم فيه؟ ألا يعد موقفهم من الطبع والأخلاق المركوزة في الجبلة تقييدا من الإرادة الإلهية لإرادة الإنسان على اعتبار أنهم ينسبون أفعال الطبع وحركات الكواكب وتأثيرها إلى المسبب الأول وهو المولى سبحانه؟ إننا مع أحد الباحثين في أن الطبع عند إخوان الصفا يقف عائقًا أمام الإنسان الذي يريد أن يصل إلى أعلى الدرجات الأخلاقية التي ترتبط بالنفس الحكمية والنفس الناموسية، فالإنسان في حاجة دائمة إلى مساعدات عقلية وناموسية؛ كي يتمكن من الوصول إلى هذه الدرجات والمراتب . (2)ولما كان الطبع يمثل عائقًا أمام النفوس الإنسانية للوصول إلى الدرجات الأخلاقية، فإنهم ينطلقون من هذا الأساس إلى القول بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها جزاء ثوابًا أكان أم عقابًا؛ لأنها مفتقرة إلى الإرادة والمسؤولية، فكيف يثاب الإنسان أو يجازى على أفعال خارج إرادته ومسئوليته ؟!

ص: 112


1- انظر رسائل إخوان الصفا، تحقيق بطرس البستاني ط دار صادر، بيروت، من دون ، ج 1 ص 333
2- انظر.د غسان علاء الدين الأخلاق عند إخوان الصفا، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، من دون، ص 70

والحق أن إخوان الصفا جاؤوا برأي غريب في أخلاق الطبع، وتأثيره في الأركان الأربعة وأخلاط الأجساد، وتحت تأثير من الكواكب والأفلاك والطبيعة السماوية عامة، فلما وجدوا أن رأيهم هذا يعد اتجاها جبريًا صرفًا ظهر رأي آخر من قبلهم يحاول التخفيف من وطأة الرأي الأول، مستندين إلى أساس شرعي واضح قوامه أن المسؤولية أساس الثواب أو العقاب؛ لأنهم وجدوا أن هناك عائقًا أمام نظريتهم الجديدة في الطبع الإنساني، فخشوا عليها من النقد، فاتجهوا إلى القول بأن أخلاق الطبع لا يترتب عليها جزاء.

ولو أن إخوان الصفا تمعنوا قليلاً لوجدوا أن رأيهم في الطبع يعد - في التحليل الأخير - اتهامًا للمشيئة الإلهية - حاشا لله - بأنها تكره الخلق على اتباع أسلوب أخلاقي معين وهذا الاستنتاج ناتج من وجهة نظرهم في وحدة الوجود، ونظرية الفيض أيضًا؛ اعتمادًا على أن الله هو المسبب الأول، وأن التأثيرات تفيض منه إلى النفس الكلية ومنها إلى الأفلاك... وهكذا إلى أن يصل التأثير إلى المولى سبحانه، بما يعني أننا نستطيع أن نرجع تأثير الطبع إلى المشيئة الإلهية !

ولكن إذا كان إخوان الصفا يظهرون التزاما بالشرع، فلماذا لم يظهر هذا الالتزام في موضوع أخلاق الطبع أو الطبع عامة ؟ ألم يكن من الممكن أن يراجع إخوان الصفا أنفسهم في مسألة الطبع، خاصة أنها تتعارض مع بعض مبادئ الدين؟ لقد كان هناك مجموعة من الأمور التي جعلت إخوان الصفا مصرين على موقفهم من الطبع الإنساني وتأثيراته الأخلاقية أهمها:

أ - اعتقادهم الأيديولوجي.

ب - اعتقادهم بأن تأثيرات الطبع لا تقوم بدورها إلا من خلال المشيئة الإلهية.

ج - اعتقادهم بأنهم جماعة مختارة من قبل المشيئة الإلهية، أو من قبل الطبع، وأفعالهم وأخلاقهم المكتسبة مؤيدة لما طبعوا عليه.

ص: 113

والجزاء المترتب على العمل عند إخوان الصفا لا يتم في الآخرة فقط، ولكن الجزاء عندهم يكون في الدنيا أيضًا، فمن كانت أخلاقه حميدة نال المكافأة في الدنيا والآخرة، ومن كانت أخلاقه غير ذلك كانت عقوبته في الدنيا والآخرة أيضًا، ودليل ذلك قول إخوان الصفا : «إن من نعم الله وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم، ويحرمه قومًا آخرين عقوبة لهم، إذا كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه إذا كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلاً عليهم تعمهم كلهم، التي يستحقونها بحسب سعيهم ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها ، إذا لم يكونوا متساوين في العمل» .(1)

ومن الخطأ تفسير النص السابق على أن إخوان الصفا يرون أن الله -تعالى - هو الذي يختار بعضًا من عباده ويخصهم بالأخلاق الحميدة والأخلاق الرفيعة، ويحرم بعضا آخر منها عقوبة دنيوية لهم، رغم أننا نؤمن إيمانًا جازمًا بأن تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها رأيهم في الطبع. وإنما الذي يمكن استنتاجه من النص السابق أن الأفضلية وأساس التفضيل عند الله هو اجتهاد الإنسان وسعيه ومعاملاته، فإذا كانت حسنة نالت المكافأة من الله دنيا وآخرة، وإن كانت سيئة نالت العقوبة فيهما ، وهذا من باب العقل والإنصاف بين الخلق وليت إخوان الصفا قد ثبتوا على هذا الرأي؛ إذ لو ثبتوا على هذا الرأي لكانوا أقرب إلى مبدأ الثواب والعقاب، وأكثر تنزيها للذات الإلهية من الرأي الخاص بالطبع وأركانه.

لكن من المؤكد أن رأيهم هذا يعد فصلاً من سلسلة تناقضات تعتري فكر إخوان الصفا؛ ذلك أن الطبع عندهم قسم الناس سلفًا إلى قسمين قسم سعيد وقسم شقي، قسم سعيد؛ لأنه ولد في مطالع بروج الحظ والسعادة، وقسم شقي؛ لأنه ولد في مطالع بروج النحس ،والألم فليس من المعقول أن يعود إخوان الصفا فيقولون إن الاجتهاد والسعي في اكتساب الأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة هما أساس

ص: 114


1- رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 343 .

السعادة والمكافأة في الدنيا والآخرة، في حين أن السعي والاجتهاد في اكتساب الأخلاق غير الفاضلة والمعاملة السيئة هي أساس العقوبة في الدنيا والآخرة. فما دام الناس قد قسموا سلفًا بحسب مطالع البروج والأفلاك ومساراتها، فإن الحديث عن السعي والاجتهاد عبث لا جدوى منه . ولذا فإن الخلاصة النهائية التي ينتهي إليها رأي إخوان الصفا هو أن الله - في رأيهم - يختار صنفًا من الناس ويخصهم بالأخلاق الحميدة، ومن ثم يكونون من السعداء في الدنيا والآخرة، في حين يختار صنفًا آخر من العباد يخصهم بالأخلاق السيئة، ومن ثم يكونون من الأشقياء في الدنيا والآخرة. ولئن قيل إن هذه الأمور منسوبة إلى الأفلاك وتأثير النجوم، فإن الرد على ذلك أن إخوان الصفا يرجعون تأثيرات الأفلاك والنجوم إلى الله تعالى، أي أنهم ينسبون تلك الأمور إليه ؛ لأنه موجدها وخالقها.

وهذا يؤكد على حقيقة مهمة وهي أن إخوان الصفا لم يستطيعوا أن يتخلصوا من تأثير الطبع والطبيعة؛ لأن آراءهم فيهما كانت من الاتساع والقوة بحيث لا يهدمها أي رأي آخر معارض من إخوان الصفا ذاتهم، وليس لدينا مسلك حينها إلا إدراج إخوان الصفا داخل أحد إطارين : إما القول بشيوع الجبر في فلسفتهم الأخلاقية، أو القول بوجود تناقض واضح في آرائهم، وهذا أخف النقدين.

ومن ثم فإن إخوان الصفا لم يستطيعوا أن يبينوا لنا كيف يبقى الإنسان مكبلاً أمام فطرته وغريزته وما ذنب من وقف أمام طبعه مكبلاً لا يستطيع الارتقاء إلى مدارج الأخلاق الحميدة ؟ بل ما ذنبه في توقيفه عند حدود النفس الشهوانية دون الارتقاء إلى النفس الناطقة أو الناموسية أو الملكية؟ وما السبب في أن بعض الناس يرتقون إلى مرتبة النفس الناموسية أو النفس الملكية؟ ألا يعد هذا تقييدًا لبعض الناس أو بعض النفوس من اتخاذ اتجاه أخلاقي محدد؟ إذ مهما تقلب دهره في السعي والاجتهاد فلن يستطيع فكاكًا من طبعه وفطرته ؟ وكيف يستطيع ذلك وسعيه مناف لطبعه؟ ثم كيف يستقيم كل هذا مع مبدأ العدل والإنصاف الإلهي؟

إننا نفتقد عند إخوان الصفا في مسألة الطبع مبدأ المسؤولية القائم على أهلية الإنسان

ص: 115

لأن يحاسب على أفعاله؛ إذ لا توجد المسؤولية إلا في وجود الأهلية، أي الصلاحية والكفاءة في تحمل ما يترتب على هذه الأفعال من نتائج.(1)فالمسؤولية إذن تعني الحرية؛ إذ لا وجود لها أيضًا إلا في وجود الحرية، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه يشعر بالرضا إن أصاب، ويشعر بالأسى إن أخطأ .(2) إلا أننا لا نفتقد مبدأ المسؤولية عندهم في مسألة الأخلاق المكتسبة - وإن تعارضت الآراء هنا مع الآراء حول أخلاق الطبع - إذ إننا نجد إخوان الصفا يجعلون سعيد الدنيا والآخرة سعيد باجتهاده وسعيه وأخلاقه، وشقي الدنيا والآخرة شقي باجتهاده وسعيه السيئين وأخلاقه غير الحسنة.(3)فقد أعطوا الإنسان – في أخلاق الاكتساب – المسؤولية والأهلية والحرية في اختيار الاتجاه الأخلاقي الذي يريده، ومن ثم فقد كان الجزاء عندهم مترتبا على هذه المسؤولية وتلك الأهلية، بيد أن المسؤولية الكاملة عند إخوان الصفا هى المسؤولية القائمة على حرية الاختيار بين الخير والشر، أو بين الالتزام بأوامر الشرع وعدم الالتزام بها.

وقد حاول إخوان الصفا أن يشوا للناس بوجود رابط قوي بين الجزاء والشرع؛ إذ إن من قبل وصايا الشرع وعمل بها وثبت عليها كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلاً قبل وصوله إلى الآخرة. أما من ترك وصاياه، ولم يعمل بها، فإن جزاءه وعقوبته أن يترك في ريبه مترددًا في دينه متحيراً شاكاً مذبذبًا قلبه معذبًا ونفسه متألمة.(4) فاجتهاد الإنسان واختياره القائم على حرية واضحة هما ما يجعلان الإنسان إما يصحب جزاءً حسنًا مكافأة له، وإما يصحب جزاءً سيئًا عقوبة له، فربط إخوان الصفا واضح بين الثواب والالتزام بالشرائع والنواميس وبين العقاب وعدم الالتزام به. «فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بإفضاله وإنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قومًا آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا

ص: 116


1- انظر د ماهر كامل مبادئ الأخلاق، ط الأنجلو المصرية 1958، ص 59 .
2- انظر د. علي عبد الواحد المسئولية والجزاء، ط مكتبة نهضة مصر، 1963 م، ص 47.
3- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 331 ، 332
4- انظر السابق، ج1 ص 344 ، 345

من وصاياه ولم يعملوا بها».(1) إذن فإن المشيئة الإلهية لا تتدخل إلا بناءً على اختيار الإنسان بعقله وإرادته فعله الذي تكافئه عليه أو تعاقبه عليه، فالإنسان في الأخلاق المكتسبة إرادته حاضرة ،وبقوة، في حين لا نجد مثل هذا الحضور في الأخلاق المركوزة في الجبلة التي ارتضتها المشيئة الإلهية دونما تدخل من الإنسان؛ يبلغوا أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.(2)

ولئن كان رأي إخوان الصفا في أحكام الطبع الإنساني لا يسمح للإنسان بالترقي الأخلاقي، فإن الترقي الأخلاقي مسموح به عند إخوان الصفا عندما يكون الحديث بصدد الأخلاق المكتسبة، وقد ربط إخوان الصفا بين الترقي الأخلاقي والالتزام بمبادئ الشرع؛ إذ إن المولى سبحانه أمر بأشياء، ونهى عن أشياء؛ ليبتلي بها المؤمنين، فكانت الأوامر والنواهي عللاً وأسبابًا يرتقي فيها المرء ، وينتقل من حال لأخرى؛ حتى يبلغوا أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم .(3)

كما ربط إخوان الصفا بين الترقي الأخلاقي وبين استيفاء شرائط كل مرتبة حتى ينال المرء الجزاء المنوط به عمله في الدنيا؛ إذ إن الجزاء عندهم كما سبق أن ذكرنا ليس وقفًا على الآخرة، إنما تظهر ثمار الأعمال في الدنيا كدليل على القبول والسعادة في الآخرة، ومن ثم فلا يرتقي الإنسان من درجة ورتبة إلا إذا طبق شروطها وقام بحقوقها، فعندئذ يكون جزاؤه وثوابه أن تساعده المشيئة الإلهية على الانتقال إلى الدرجة والرتبة التي فوقها بما يعني أن ارتقاء الإنسان ووصوله إلى المراتب الأشرف والأجل مرتبط باجتهاده وسعيه؛ استنادًا إلى أن المشيئة الإلهية تتدخل وفقا لإرادة الإنسان ورغبته، في حين أن من لم يقم بتطبيق هذه الشروط والحقوق، ولا اجتهد طلب المزيد كان جزاؤه أن يقف عند حدوده ومكانه فيقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد من المزيد من الدرجات ،والمراتب فكان هذا الفوت والحرمان هو عقوبته .(4)

ص: 117


1- السابق، ج 1 - ص 345
2- انظر السابق، ج 1 ص 345.
3- انظر رسائل إخوان الصفا؛ ج ص 345.
4- انظر السابق، ج 1 ص 345، 346

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل الأخلاق المكتسبة التي يجازى عليها الإنسان كلها خير فقط أم شر فقط ؟ أو بعبارة أخرى هل الأخلاق المكتسبة عند إخوان الصفا مذمومة أو محمودة؟ أم منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم؟

يمكن القول إجابة على هذا السؤال أن الأخلاق المكتسبة عند إخوان الصفا منها ما هو محمود منسوب إلى الملائكة ومنها ما هو مذموم ومنسوب إلى الشيطان فليست الأخلاق المكتسبة كلها خير عند إخوان الصفا غير أن إخوان الصفا لم يفصلوا عمليًا بين الأخلاق المذمومة المركوزة في الجبلة والأخلاق المذمومة المكتسبة، حتى نتبين أيا منهما ينال الجزاء أو العقاب؛ إذ إنه رغم كثرة المفاهيم التي تناولها إخوان الصفا التي حاولوا أن يضعوا لها مدلولاً عمليا، إلا أنه ليس هناك حدود فاصلة بین الأخلاق المذمومة المركوزة والأخلاق المذمومة المكتسبة، خاصة أن إخوان الصفا يرجعون الأخلاق المكتسبة المذمومة إلى أمهات الرذائل المركوزة في الجبلة بما يعني أن مسألة الفصل بين الاكتساب والطبع لم تكن واضحة عند إخوان الصفا؛ بل يصيبها كثير من الغموض والتداخل إلى الحد الذي لا يمكن معه معرفة الجزاء المترتب عليها بناءً على غموض كثيف يعتري آراءهم وأفكارهم.

فالأخلاق المذمومة - أو أخلاق الشياطين كما يحلو لإخوان الصفا أن يسموها - ترتد في الأساس إلى ما هو مركوز في الجبلة؛ إذ إن أمهات المعاصي المركوزة في الجبلة، التي هي أصول لكل شر تتفرع منها أخلاق كالأغصان والفروع، هي الأخلاق الأخيرة المكتسبة.(1)وهذا يشي - في التحليل الأخير- أن الأخلاق المكتسبة ناتجة في الأصل عن أمهات المعاصي المركوزة في الجبلة، وهي: كبر إبليس، وحرص آدم وحسد قابيل «فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها، فإن قيل ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة مركوزة

ص: 118


1- انظر السابق، ج1 ص 351.

في الجبلة؟ فنقول أما التكبر فهو من كبر النفس وكبر النفس من علو همتها، وعلو الهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة».(1)

ويفهم من ذلك أن إخوان الصفا - متناقضين مع أنفسهم في القول بأن الأخلاق المركوزة شر وجاء الشرع بخلافها - يسبغون صفة المشروعية على أمهات المعاصي المركوزة في الجبلة بدعوى أنها مركوزة في الجبلة لغاية إصلاحية دنيوية. فالسياسة لكي يقوم القائم بها بمهامه خير قيام لا بد من اشتماله على صفة الكبر، وهي مهام الرياسة عندهم، والإنسان في حاجة إلى الحرص ؛ لأنه يجعله يحرص على حياته وبقائه واستمراره وبقاء ،نسله، والحسد مهمته التنافس في الرغائب من نعم الدنيا غير أن إخوان الصفا تنطق آراؤهم هنا - وهي من المرات النادرة - بأن الطبع - خاصة فيما يتعلق بأمهات الشهوات المركوزة في الجبلة - يقبل فعل الضدين، فقد يوجه إلى الخير، وقد يوجه إلى الشر.

بيد أن إخوان الصفا أرادوا أن يكون هناك شروط؛ لكي تكون الأخلاق المركوزة في الجبلة محمودة، خاصة فيما يتعلق بالخصال الثلاث سابقة الذكر، فكانت الشروط على النحو الآتي:

أ - استعمال الخصلة كما ينبغي.

ب - استعمال الخصلة في الوقت الذي ينبغي.

ج - استعمال الخصلة بمقدار ما ينبغي.

د - استعمال الخصلة من أجل ما ينبغي.

وإخوان الصفا هنا يتفقون مع الفارابي الذي سبق أن حدد شروطًا للفعل الخلقي، حصرها في سبعة، وتعد هذه الشروط الأربعة إجابة على تلك الأسئلة السبعة التي طرحها الفارابي في تأسيسه لعناصر الفعل الخلقي غير أن أن من المؤكد أن الفارابي

ص: 119


1- السابق، ج 1 ص 353

وإخوان الصفا تأثروا هنا بأرسطو الذي أسس الفعل الفاضل على هذه الشروط(1).

هذا يعني أن إخوان الصفا - في عود حميد عن رأيهم السابق في الأخلاق المركوزة في الجبلة - يفرقون بين نوعين من الأخلاق المركوزة في الجبلة : أخلاق مركوزة مذمومة، وأخلاق مركوزة محمودة، إذ إنه إذا خالفت تلك الأخلاق شرطًا من الشروط السابقة أو جملتها كانت مذمومة، أما إذا طابقت الأخلاق هذه الشروط كانت محمودة، إلا أنه يمكن القول إن تلك الفكرة السابقة تشير إلى عدم وضوح العلاقة بين الطبع والاكتساب ، أو قل إن شئت هناك علاقة تداخل بين الطبع والاكتساب أو الاعتقاد عند إخوان الصفا؛ إذ إن الإنسان لا يستطيع القيام بالخصلة في الوقت المناسب بمقدار مناسب من أجل غاية مناسبة مستعملاً إياها كما ينبغي إلا إذا اكتملت فيه شروط الفعل الخلقي من عقل وإرادة وحرية، وهي عوامل أساسية ترتد إلى الاكتساب، يؤديها صاحبها بالدربة والعادة وكثرة الاستخدام حتى تصير له اعتقادًا جازمًا واكتسابًا راسخًا، بما يعني أن الأخلاق المركوزة في الجبلة يمكن أن تكون خيرًا ويمكن أن تكون شرًا؛ وذلك بحسب استخدام الإنسان لها وفق الشروط السابقة. إذن لماذا قدم إخوان الصفا أطروحة عريضة مؤداها أن الشرع جاء مخالفًا لما جاءت به الأخلاق المركوزة في الجبلة؟! ألا يعد هذا تناقضا صرفًا في آرائهم حول الطبع والأخلاق المركوزة؟! ألم يكن من الأجدى أن يقدم لنا إخوان الصفا نظرية سلسلة بدلاً من نظريتهم التي تقوم على التناقض، فضلاً عما تقوم عليه من التنجيم والكهانة والعرافة ؟ !

هذا فضلاً عن أن القول بأمهات المعاصي يعني أن الأخلاق المكتسبة ترتد إلى الطبع والأخلاق المركوزة في الجبلة؛ لأنه ما دامت أخلاق الإنسان لا تخرج عن هذه الخصال الثلاث المطبوعة في الجبلة، فإن الأخلاق المكتسبة تعود في النهاية إليها، لكن يبقى سؤال مهم: هل الاكتساب في تطبيق الشروط الأربعة السابقة؟ أم عدم تطبيق أي من الشروط السابقة يعدّ طبعا ؟ كيف يحكم إخوان الصفا على الأخلاق الناتجة عن الخصال الثلاث الكبرى؟ هل هي أخلاق مكتسبة أم أخلاق مركوزة؟

ص: 120


1- انظر أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ترجمة د. أحمد لطفي السيد، ط دار الكتب المصرية، 1924م، ج 1 ص 234 ، ص 238

إن المراد من وراء طرح هذه الأسئلة محاولة التعرف على كيفية حكم إخوان الصفا على هذه الأخلاق وكيفية إصدار الجزاء المناسب لها أو عليها. إننا أمام معضلة عند إخوان الصفا لا أظن أننا نجد لها إجابة، وهذه المعضلة ذات جانبين :

الأول مؤداه، إذا فعل الإنسان فعلاً ما مفتقرًا لأي من الشروط السابقة فإن الفعل حتما مذموم والخلق الناتج عنه مذموم، فهل يرتد هذا الفعل إلى الاكتساب فيجازى عليه أو يعاقب أم يرتد إلى الطبع، فلا يجازى عليه ولا يعاقب طبقًا لنظريتهم في المسؤولية والجزاء؟ وهذا ما لا نجد إجابة عليه، والآخر مؤداه إذا كان ذلك كذلك فما حدود الطبع ؟ وما حدود الاكتساب؟ إننا أمام نظرية تتحدث عن الطبع، ولا ترسم له حدودًا فاصلة عن الاكتساب ثم تتحدث عن الاكتساب ولا ترسم له حدودًا فاصلة عن الطبع، وهذا التداخل يقوي الزعم عندي بأن الاعتقاد عند إخوان الصفا يشمل الأمرين معًا الطبع والاكتساب ؛ ذلك أن ما طبع الإنسان عليه اعتقاد له حتى يتبين له نقيضه، والاكتساب اعتقاد هدي إليه الإنسان بعقله وإرادته الحرة وكثرة الدربة والاستعمال، ومن ثم فإن هذا يفسر لنا لماذا كان هناك تداخل دائم بين الطبع والاعتقاد عند إخوان الصفا ؟

وأيا ما كان الأمر فإن الأخلاق التي يترتب عليها مسئولية وجزاء عند إخوان الصفا هي الأخلاق المكتسبة لا المركوزة في الجبلة؛ لأن الأولى هي التي استخدم الإنسان فيها عقله ورويته متبعا أوامر الشرع ونواهيه.

ويحاول إخوان الصفا التأكيد على فكرتهم الجديدة في أن الأخلاق المركوزة في الجبلة منها خير ومنها شر؛ حيث إنهم يقولون : «ثم تأملت وبحثت ودققت النظر فوجدت جميع الأعمال الزكية، والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة، انما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية والعادات الجارية العادلة أو ما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت بعد ذلك وعرفت بهذا الاعتبار أن أصل جميع الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة

ص: 121

المكتسبة بالاجتهاد والروية والمركوزة في الجبلة، وتبين لي وعرفت أيضًا أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا غير بصيرة، أو ما كانت مركوزة في الجبلة».(1)

وهذا يعني أن الأخلاق المركوزة منها الخير ومنها الشر خلافًا لما زعموه من قبل من أنها أخلاق شر وجاء الشرع مخالفًا لها، كما يفهم أن الأخلاق المركوزة بشقيها لا يترتب عليها جزاء عند إخوان الصفا في حين أن الأخلاق المكتسبة بالاجتهاد والعادة هي التي يقع عليها الجزاء المناسب.

لقد كان في استطاعة إخوان الصفا - لو أرادوا خيراً بالأخلاق والبحث الفلسفي ولو أرادوا أن ينأوا بأنفسهم عن دائرة التناقض والأمور الجدلية - أن يقولوا إن الأخلاق المركوزة في الجبلة بما تتضمنه من شهوات مجرد استعداد قابل للاستخدام في الخير أو الشر، وبما أنها مجرد استعداد فهي لا تقع تحت حيز المسؤولية والجزاء؛ لأنها مجرد استعداد قابل للتشكل على أرض الواقع بإرادة الإنسان وعقله ورويته، فإذا استخدم الإنسان هذا الاستعداد في الأمور النافعة الصالحة كان الفعل خيرًا ويثاب عليه، أما إذا استخدمه في الأمور الضارة كان الفعل شرًا ويعاقب عليه، ولكي يستخدم الإنسان هذه الاستعدادات الاستخدام الأمثل كان عليه أن يلتزم بأوامر الشرع ويجتنب نواهيه؛ لأن الشرع جاء بما هو مخالف للشهوات المركوزة المذمومة، غير أن إخوان الصفا لم يقدروا أن يصوغوا فكرتهم صياغة جامعة مانعة، وإن التفوا حولها، ولم يقدر لهم الوصول إليها، ولكن منعتهم آراؤهم المتناقضة في أخلاق الطبع والاكتساب، ولو قالوا ذلك لأعطوا لفكرتهم الأخلاقية شيئًا من القبول العقلي والشرعي.

إلا أنه يفهم من إخوان الصفا أن الأخلاق المركوزة في الجبلة استعداد أكثر إلى فعل الشر لا الخير؛ إذ إن مسلكهم في معرض رسائلهم ينتصر لجانب الشر لا الخير، وخير مثال يؤكد على ذلك قولهم فيما سبق من أن الشرع جاء مخالفًا للأخلاق المركوزة في الجبلة ويؤكد إخوان الصفا على فكرة انتساب الشر إلى الأخلاق

ص: 122


1- رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 366.

المركوزة من خلال قولهم : «فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملتها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ،ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ ولهب لا يخمد أو كأمواج بحر متلاطمة أو رياح عاصفة تدمر كل شيء، أو كعساكر أعداء حملت في غارة.»(1) فأخلاق الطبع وشهواته المركوزة نيران في جسد الإنسان كالكبريت سريع الاشتعال، إذا تم الاحتكاك بينها وبين الدنيا فإنها تشتعل اشتعالاً جباراً، بما يعني أنها شر، وتصير أشد شرًا عند اتصالها بالجسد ودنياه. وبهذا يقترب إخوان الصفا كثيرا- بفكرتهم هنا - من ذلك الاتجاه الذي يرى أن أصل الأخلاق في الإنسان الشر لا الخير .(2)

ويضرب إخوان الصفا أمثلة تدل على شدة الاشتعال، وأنه مستمر إلى ما لا نهاية كما هو الحال في أمواج البحر المتلاطمة، أو الإغارة على الأعداء، أو الرياح العاصفة المدمرة، أو النيران المشتعلة التي لا تخمد، بما يعني أنهم ينظرون إلى تلك الأخلاق المركوزة على أنها في صراع دائم مع الإنسان منذ اتصالها بالجسد وبالحياة الدنيا، وبما أنها تصارعه ، فهي في جانب الشر الذي مظاهره الإغارة والعدوان والصراع، فإذا كان الأمر على هذا النحو، فهل يترتب عليها مسئولية وجزاء؟!

إن رأي إخوان الصفا هنا مبني على أساس نظريتهم إلى أن النفس من عالم الملائكة، وأن اتصالها بالبدن هو سبب تعاستها وشقائها، ومن ثم فلكي ترتقي النفس إلى عالمها الأول عليها أن نقتل البدن، وهذا الرأي المثالي، وإن كان قريبًا من الفلاسفة اليونان خاصة أفلاطون، حيث كانت فكرتهم المثالية هنا معينًا خصبًا نهل منه فلاسفة الشرق والمغرب الإسلامي على حد سواء بما فيهم إخوان الصفا والفارابي(3)، فإنه

ص: 123


1- رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 368.
2- ويطلق على أصحاب هذا الاتجاه مذهب المتشائمين، ويبدأ من البوذية، فأصحاب اللذة والمنفعة،، وعلى هذا الرأي معظم فلاسفة المسيحية، انظر د الجليند، د. العجمي ، دراسات في علم الأخلاق، ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1996/1995م، ص 43.
3- انظر د عزت ،قرني مقدمة كتاب أفلاطون، فيدون في خلود النفس ترجمة وتقديم وشرح د. عزت قرني، ط دار قباء، 2001م، ص 61.

أقرب ما يكون إلى أفلوطين، الذي اعتبر البدن سجن النفس، وسبب شقائها وبلائها، وأنها لا تستطيع منه فكاكًا إلا بطرح الشهوات والملذات والترقي في سلم الأخلاق والمعرفة .(1)

ثانيًا: سمات المسؤولية الخلقية:

وأيا ما كان الأمر فإننا نفتقر المسؤولية عند إخوان الصفا في أفعال الطبع والأخلاق المركوزة في الجبلة؛ لأن هذه الأفعال وتلك الأخلاق لا تستند إلى أساس مهم تتحقق المسؤولية من دونه، وهذا الأساس هو أهلية الإنسان لتحمل تبعة أفعاله، بينما لا نفتقر هذه المسؤولية عندهم في الأفعال أو الأخلاق المكتسبة؛ لأنها تعتمد عندهم على هذا الأساس الراسخ، وهذه الأهلية تتحقق في الأفعال عند إخوان الصفا بشروط استنتجها الباحث من ثنايا رسائلهم، وهي:

أ - استخدام عقله وفكره.

ب - توافر الإرادة الحرة وحرية الإرادة

ج - العلم بالسلوك ونتائجه من خلال الشرع ونواهيه.

د - صلاحية القيام بالأدوار والمسئوليات.

فتلك كانت الشروط الواجب توافرها كي تكون الأخلاق المكتسبة تترتب عليها مسئولية، فأرادوا أن يكون الإنسان بذلك أهلاً لتحمل تبعة سلوكياته وأفعاله، ومن ثم فقد أولى إخوان الصفا في هذه الأخلاق للعقل دورًا كبيرًا في التأمل وإعمال الفكر والروية قبل إصدار الفعل، ولذا فلا أظن أن إخوان الصفا قد قرروا مبدأ المسؤولية على الطفل والمجنون والمعتوه؛ لأنها حينها تكون في غير أهلها، لأن الأصناف السابقة ممن رفع القلم عنهم.

ص: 124


1- انظر أفلوطين، التساعية الرابعة في النفس، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م، ص 327 .324

كذلك فطن إخوان الصفا إلى أن المسؤولية لا تقع على من افتقر مبدأ حرية الإرادة، وحرية اختيار الفعل، فقد فطنوا نظريًا إلى أنه لا مسئولية على المجبر؛ ذلك أنهم لما أدركوا أن الأخلاق المركوزة في الجبلة الناتجة عن الطبع وتأثيراته، قالوا إن المسؤولية غير واقعة على الإنسان هنا ؛ إذ إن ذلك يعد من قبيل القيود الخارجية التي تعوق تدخل حرية الإرادة والاختيار عند الإنسان إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن إخوان الصفا مارسوا نوعًا من القيود الداخلية - داخل الجماعة - على الأتباع؛ حيث كانت هذه القيود عبارة عن أفكار وآراء يجبر أخو الصفا على اعتناقها، مما كان معوقاً عن الاختيار أو التفكير الموضوعي .

ومن ثم فقد تعاورت القيود الداخلية ممثلة في الطبع والقيود الخارجية عند إخوان الصفا على الحد من حرية الإنسان وحبسه عن العمل القائم على التفكير الحر، فكانت بذلك كتلك الاتجاهات التي فرضت على أتباعها طريقًا جامدًا وأفكارًا معينة وآراء محددة بيد أن إخوان الصفا فطنوا إلى خطورة القيود الخارجية، فقرروا أن لا مسئولية على الإنسان فيها؛ لأنه ليس قادرًا على الاختيار أو استخدام إرادته، فعاملوه كالمجبر أو المعتوه أو المجنون قياسًا على التوجه الإسلامي في هذه الجزئية.

ولما كان إخوان الصفا قد وضعوا شروطًا للفعل الخلقي حتى يكون أهلاً للمسئولية تقوم على العقل والإرادة والحرية، فإنني أظن أنهم جعلوا المسؤولية خاصة بالإنسان وحده، فهم وإن أشركوا جميع الكائنات في تأثيرات الطبع والأفعال المركوزة في الجبلة، فقد عنوا الإنسان وحده في الأفعال المكتسبة. ورأي إخوان الصفا هنا هو ما يتفق مع العقل والمنطق والشرع أيضًا؛ إذ إن أحدًا لا يستطيع أن يجرؤ، فيقول إن المسؤولية تقع على الحيوان أو النبات مثلاً؛ ذلك لأنهما فاقدا الأهلية والمسؤولية.

والقرآن الكريم يخاطب الإنسان وحده محملاً إياه الأمانة في قوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً». (1)وقوله تعالى: «أيحسب الإنسان أن

ص: 125


1- سورة الأحزاب : الآية 72.

يترك سدى»(1). وقوله : «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون»(2) وقوله : «ولتسألن عما كنتم تعملون».(3)

ولكن يبقى هناك سؤال مهم مؤداه إذا كانت المسؤولية بشكل عام تقع على العقل والإرادة والحرية، فهل المسؤولية الأخلاقية عند إخوان الصفا لها خصائص أو سمات بارزة قد تميزها عن غيرها، أظن أن هناك بعض الخصائص أو السمات التي قد تميزها عن غيرها، وهي على النحو الآتي:

أ - إن المسؤولية الخلقية عند إخوان الصفا يشعر معها أخو الصفا أنه لا يمثل نفسه فقط، وإنما يمثل الجماعة والاتجاه الأخلاقي الذي تدين به فالمسؤولية عندهم ذات وجهين مسئولية فردية وأخرى جماعية، وهذا يفسر لنا لماذا يعد أي رأي في الرسائل الاثنتين والخمسين ينسب للجماعة أكثر مما ينسب لصاحبه الذي كتبه، خاصة إذا علمنا أنه لم يكتبها فرد أو فردان وإنما كتبها جماعة متشعبة من المفكرين الذين أسسوا لأفكار الجماعة ومبادئها.

ب - بل إن المسؤولية الخلقية عندهم لا تقف عند حدود الفرد بأنه يمثل نفسه أو يمثل الجماعة، بل يشعر أخو الصفا معها أنه يمثل الإنسانية ممثلة في الإنسان الكلي المطلق الذي هو عندهم النفس الكلية الإنسانية؛ حيث إن الإنسان المطلق الكلي هو المطبوع على قبول جميع الأخلاق، وإظهار جميع الصنائع والأعمال؛ لأن الإنسان الجزئي ليس في استطاعته ذلك عندهم؛ لأنه لو كان في استطاعة الأخير ذلك لما كان عليه كلفة في إظهار كل الأفعال وجميع الصنائع.(4) بل يظهر بعض الأفعال دون بعض، لكن مجموع الناس يعبرون بخيرهم وشرهم وأفعالهم وصنائعهم عن ذلك الإنسان الكلي حسبما يعتقدون ولئن كان الإنسان المطلق الكلي عند إخوان الصفا يعبر عن جموع الإنسانية، فإنه يخالف تمامًا فكرة العقل الجمعي القائمة على مجرد

ص: 126


1- سورة القيامة: الآية 36
2- سورة سبأ: الآية 25.
3- سورة النحل : الآية 93 .
4- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 1 ص 306 .

تلقي المرء لانطباعاته والتصرف في ضوئها وحدودها، فيؤدي ذلك إلى اتفاق أفراد المجتمع واشتراكهم في قالب واحد، فقد كانت فكرة إخوان الصفا أوسع وأشمل من ذلك، فإن فكرتهم أرادت الإنسانية بمعناها وخير دليل على ذلك أن إخوان الصفا أنفسهم يعتبرون ردًا على فكرة العقل الجمعي؛ لأن فكرة العقل الجمعي مجرد تلقي الإنسان لانطباعات العقل الجمعي لا يخرج عن حدودها، لا تسمح لأي فرد من أفراد المجتمع بالخروج عن قالبها، ومن ثم فإن خروج إخوان الصفا عن قالب المجتمع الذي نشؤوا فيه يعد رفضًا لفكرة العقل الجمعي؛ إذ إن من الردود الموجهة لفكرة العقل الجمعي أنه لو كانت الأخلاق والأفعال تعبيراً عن العقل الجمعي لما رأينا الأفذاذ الذين خرجوا من مجتمعات تموج بالفساد والانحلال الأخلاقي.(1) ومن الظاهر تاريخيًا أننا نجد كثيرًا من المصلحين أو المجاهدين فكريًا أو أخلاقيًا خرجوا وسط مجتمعات تموج بالفساد فيقف كل واحد منهم أمة وحده في مواجهة هذا المجتمع الماجن يقاوم ويناضل.

ج - إن المسؤولية الخلقية عند إخوان الصفا لا تستمد قوتها من المجتمع، ولا من القيم الإنسانية، ولا من تجارب الإنسان في الحياة بقدر ما تستمد ذلك من الجماعة ذاتها، فهى لا تهدف إلى تحقيق القيمة الذاتية للإنسان بقدر ما تهدف إلى تحقيق إصلاح عملي أو إفادة للمجتمع ، ولو كانت من وجهة نظرهم هم، وإن كانت الغاية الإصلاحية لا تتحقق إلا بالاستناد - من ضمن ما تستند إليه - إلى القيم الإنسانية.

ثالثًا: المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية:

ولكن يبقى سؤال آخر مهم مؤداه : هل المسؤولية عند إخوان الصفا مسئولية فردية أو جماعية ؟! قبل الإجابة على هذا السؤال يجب الإشارة إلى أن بعض الاتجاهات الأخلاقية ترى أن المسؤولية فردية فحسب، وهناك بعض آخر يرى أن المسؤولية جماعية، فالمسؤولية الفردية هي تلك التي يسأل فيها الإنسان عن سلوكه هو واتجاهه الأخلاقي هو، في حين أن المسؤولية الجماعية هي تلك التي يسأل فيها المجتمع

ص: 127


1- د. ماهر كامل بالاشتراك، مبادئ الأخلاق، ط الأنجلو المصرية، 1958م ص 71.

كله عن سلوك أفراده؛ استنادًا إلى أن الفرد عضو في مجتمع، فإذا أصاب هذا العضو الفساد، فإنه يؤثر في بقية أعضاء الجسد، والمسؤولية لا تقع على العضو وحده، ولكن تقع على الجسد كله.

الواضح من خلال الاستقراء العام لفكر إخوان الصفا أن إخوان الصفا يعولون على أن المسؤولية على الإنسان فردية في المقام الأول؛ إذ إن كل إنسان مسئول عن الأفعال التي أداها والحديث عن المسؤولية الفردية عند إخوان الصفا يتعلق أساسًا بأخلاق الاكتساب لا أخلاق الطبع، فمادام الإنسان في الأخلاق المكتسبة حراً في اختيار أفعاله مستندًا إلى عقله وإرادته، فإنه يكون مسئولاً عما يترتب عليها، إن خيرًا ،فخير وإن شرًا فشر؛ إذ «يبقى هو بحزنه ومصيبته معاقبًا بما كسبت يداه».(1)

والحق أن المسؤولية الفردية مبدأ إسلامي واضح تظهر معالمه في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يقول المولى تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة»(2)، وقوله سبحانه: «ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»(3)، وقوله جل شأنه: «ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى».(4)

غير أنه لا نعدم اتجاها خافتًا عند إخوان الصفا حول كون المسؤولية قد تكون جماعية، أو الظن بأن إخوان الصفا يدعون إلى القول بأن هناك جزءًا من المسؤولية تقع على الجماعة كلها، وهذا يفسر لماذا كانوا حريصين على أن تكون أخلاق الأتباع والأنصار واحدة والاعتقاد واحد والمذهب واحد أيضًا.

ولقد حاول الباحث التماس بعض النصوص التي تظهر هذا الاتجاه من المسؤولية الجماعية عندهم، فمن ذلك قولهم : «واعلم أن الطريق بعيدة، والشياطين بالمرصاد قعود كقطاع الطريق فاعتبر ، فكما أنك لا تقدر على أن تعيش وحدك إلا عيشًا نكدًا،

ص: 128


1- رسائل إخوان الصفا، ج 2 ص 358.
2- سورة المدثر 38
3- سورة النجم 38 ، 39
4- سورة الأنعام الآية 164

ولا تجد عيشًا هنيًا إلا بمعاونة أهل مدينة وملازمة شريعة، فهكذا ينبغي لك أن تعدّ لتعلم بأنك محتاج إلى إخوان أصدقاء متعاونين لتنجو بشفاعتهم من جهنم، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة بلا حساب»(1).

والنص وإن كان يفهم منه دعوة إخوان الصفا إلى التعاون والاتحاد وعدم العزلة والانفراد ؛ لأن ذلك هو الأرض الخصبة التي يرعي فيها الشيطان، فقد يفهم منه أن هناك مسئولية جماعية تأخذ بيد الإنسان أو الجماعة إلى النجاة من النار والفوز بالجنة بفضل شفاعة الجماعة.

وإن كان النص السابق لم يفصح صراحة عن المسؤولية الجماعية فإن النص التالي يفصح عنها بدرجة أكبر . «واعلم يا أخي علمًا يقينًا أنه لو كان يمكن أن تنجو بنفس واحدة بمجردها لما أمر الله تعالى بالتعاون؛ حيث قال (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال : (واصبروا وصابروا)، وكذلك قال: (ويوم نبعث من كل أمة فوجًا)، وقال الله: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا)».(2)

ومن ثم يفهم من النص السابق أن النفس لا تنجو وحدها، وإنما تنجو مع من طائفة جنسها والجماعة التي نشأت فيها، فالمسؤولية بينهم مشتركة، والجزاء المترتب عليها مشترك أيضًا، وهذا يشي في التحليل الأخير بأن المسؤولية عند إخوان الصفا مشتركة داخل الجماعة والنتائج المترتبة عليها ، ومن أراد النجاة بالنفس عليه الانضواء تحت لواء الجماعة؛ لأنها كفيلة بتحقيق الفوز والنجاة له في الدنيا والآخرة.

والحق أيضًا أن الإسلام قد قرر المسؤولية الجماعية وأكدها كثير من الشواهد القرآنية والنبوية، عندما أكد على أن العقاب أو الفتنة لا يصيب المفسدين فحسب، وإنما يتعداه إلى من سمح لهم بالإفساد دون محاولة ردعهم، يقول الله تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة»(3) بما يعني أن الإسلام، وإن أكد

ص: 129


1- رسائل إخوان الصفا، ج 2 ص 139 ، 140
2- السابق، ج 2 ص 139
3- سورة الأنفال: الآية 25.

على المسؤولية الفردية، فإنه بين أن هناك مسئولية جماعية تقع على الجميع.

ولعل هذا يدل على تأثر إخوان الصفا بالإسلام في القول بوجود مسئولية جماعية بجوار مسئولية فردية، بيد أن المسؤولية الجماعية عند إخوان الصفا لا تقع، ولا يكون لها معنى إلا في داخل الجماعة جماعة إخوان الصفا ،ذاتهم، فإذا كانت المسؤولية جماعية، فإن المعنى هنا يعود إلى جماعة إخوان الصفا بما يشي بنوع خاص من التعصب للمذهب الفكري فالمسؤولية الجماعية إذن ذات دائرة ضيقة ولا يتسع المجال فيها لغير الأتباع من إخوان الصفا.

والمسؤولية الجماعية أو المسؤولية المشتركة تظهر أكثر ما تظهر بين الراعي والرعية أو الحاكم والمحكومين؛ إذ العلاقة بينهما كالعلاقة بين الرأس والجسد، أو كالعلاقة بين البدن والأعضاء؛ إذ لا قوام لأحدهما إلا بالآخر ، ولا صلاح لهما إلا بصلاح الآخر(1). فالمسؤولية مشتركة والجزاء المترتب عليها مشترك، وهذا يدل على أن البعد السياسي متداخل عند إخوان الصفا مع المسؤولية الجماعية، فالمسؤولية المشتركة أو المسؤولية الجماعية عندهم تقوم على أساس سياسي مذهبي في المقام الأول.

رابعًا: أدلة إثبات الجزاء:

وإذا كانت المسؤولية ذات وجهين عند إخوان الصفا مسئولية فردية ومسئولية مشتركة فإن الجزاء المترتب عليها حتمًا ذو وجهين فردي وجماعي، والجزاء عندهم مثبت بوجهين النقل والعقل فيذهبون إلى أن الشرع أثبته وأكده بالطرق العقلية والأدلة المنطقية التي تشير إلى وجوب محاسبة العاصي على عصيانه ومحاسبة المطيع على طاعته، مما يدل على اعتقاد إخوان الصفا في الجزاء الجماعي؛ لأنهم يعتقدون أنه كلما مضت طائفة وانقرضت وبليت أجسادها ، ألحقت نفوسها بنفوس من مضى قبلها من رؤسائها ومعلميها وأستاذيهم من القرون الماضية، ثم خلفتها أخرى على سننها ومنهاجها .(2)بما يعني أن النفوس الشقية تتلاقي في الآخرة مع

ص: 130


1- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 2 ص 303
2- انظر السابق، ج 4 ص 87 .

معلميها ورؤسائها فيما يشبه الجزاء الجماعي، في حين تتلاقي وتتألف النفوس السعيدة في الآخرة في جزاء جماعي لا نهاية له.

وهذا يتنافى مع النص القرآني؛ حيث يقول الله تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة»، وغيره من النصوص، فضلاً عن أن يتنافى مع أبسط قواعد المنطق ومقتضيات العقل؛ ذلك أن الإنسان مسؤول عن أفعاله، ومن ثمّ يتحمل تبعتها بمفرده، ولا يتحملها في سياق جماعي؛ فلا هو يحمل وزر أحد، ولا يحمل أحد وزره.

ولئن كان الإسلام قد خص الجزاء الأخلاقي بمجموعة من السمات بوصفه يحمل الثواب للمطيعين والعقاب للعاصين وكون مجاله الدنيا والأخرة، وكونه له صورتان مادية ومعنوية .(1) فإن إخوان الصفا أرادوا أن يتخذوا الاتجاه نفسه الذي يجعل الجزاء الأخلاقي يحمل في طياته الثواب والعقاب ويمتد أثره في الدنيا والأخرة، ويحمل في طياته صورتين مادية ملموسة ومعنوية تحس فيها النفس بارتقائها إلى عالم الأفلاك، عالم المثل الذي وردت منه.

ويجب التركيز على أن الأخلاق التي يترتب عليها الجزاء عند إخوان الصفا هي الأخلاق المكتسبة المعتادة؛ إذ هي مناط الجزاء ثوابًا كان أم عقابًا عند إخوان الصفا، أما الأخلاق المركوزة في الجبلة فلا يقع عليها جزاء؛ لأن الإنسان جبل عليها عندهم بيد أن الجزاء عندهم لا يكون على الأخلاق فحسب، بل إنهم حددوا أربعة أشياء يترتب عليها الجزاء في الأخرة، وهي:

أ - الأخلاق المكتسبة المعتادة.

ب - العلوم التعليمية.

ج - الآراء المعتقدة المكتسبة.

د - الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة

ص: 131


1- د. عبد المقصود عبد الغني النظرية الخلقية في الإسلام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1991م. ص 117، 118.

والواضح أن الأمور الأربعة يتدخل فيها الاكتساب؛ إذ إن الإنسان فيها يستخدم إرادته واختياره وعقله وفكره ورويته، فيكون الفعل الخلقي صادرًا من مكانه الطبيعي وعلى أساس أخلاقي، والواضح أن الأشياء الأربعة لا يتدخل فيها الطبع؛ إذ هي اكتساب خالص للإنسان.

فإخوان الصفا يقرون بأن القيامة لا محالة كائنة، وهي النشأة الأخرى، وأن الخلق كلهم يبعثون ويحشرون، ويحاسبون، ويثابون بما عملوا من خير ومعروف،

ويجازون بما علموا من شر ومنكر، وذلك بدليلين:

الأول، نقلي؛ وذلك في قول الله تعالى: «والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله»(1)، وقال: «(واليوم الآخر)، فهذا هو الإيمان الظاهر الذي دعت الأنبياء، عليهم السلام الأمم المنكرة لهذه الأشياء إلى الإقرار به، وهو يؤخذ تلقيناً، كما يتلقن الصغار من الكبار ، والجهال من العلماء، الإقرار به»(2).

الثاني عقلي اعتبروا فيه أحوال هؤلاء الأخيار الذين تقدم ذكرهم، والذين قد أفنوا أعمارهم كلها في أعمال الخير، ثم ماتوا، ولم يحصل لهم عوض على ما عملوه قبل الموت، فتعلم العقول وتقضي بالحق أن ذلك لا يضيع منه عند الله شيء، فيصبح هذا الاعتبار أن بعد الممات - الذي هو مفارقة النفس الجسد - حالة أخرى يجازى فيها الأخيار، وهي التي تسمى الدار الآخرة. وهكذا اعتبروا حال الأشرار الذين سعوا في الأرض بالفساد، ثم ماتوا ولم يعاقبوا على ما فعلوا، فتعلم العقول وتقضي أن هؤلاء لم يفوزوا، وأن حالهم بعد الممات ليس كحال أولئك الأخيار(3)، وذلك قوله تعالى: «أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون»(4) . وهذا الدليل العقلي هو ما سبق أن قال به أفلاطون

ص: 132


1- البقرة 286
2- رسائل إخوان الصفا، ج 4، 46.
3- انظر السابق، ج 4 ص 152
4- سورة الجاثية : 21

في معرض حديثه عن خلود النفس بعد الموت لتحاسب على ما عملت في الدنيا.(1)

وهذا يعني أن إخوان الصفا هنا قد جمعوا بين آراء الأنبياء وآراء الفلاسفة البرهنة على خلود النفس، فكان توفيقا بين الشريعة والفلسفة، ولكن على طريقة إخوان الصفا؛ لأن بعض الباحثين يعد ما ذهب إليه إخوان الصفا توفيقا، إلا أن ما صنعه إخوان الصفا لا يعد هنا توفيقا(2)، بقدر ما هو تغليب رأيهم العقلي الفلسفي على الرأي الديني .

وجزاء المحسنين يتفاضل في الآخرة عند إخوان الصفا بحسب درجاتهم في المعارف واجتهادهم في الأعمال الصالحة، والناس متفاوتو الدرجات في أعمالهم، كلّ على شاكلته، ويميز إخوان الصفا بين موضوع اجتهاد الخاصة، وموضوع اجتهاد العامة والجهال، فأجود أحوال العامة والجهال كثرة الصوم والصدقة والصلاة والقراءة والتسبيح، وما شاكل ذلك من العبادات المفروضة والمسنونة في الشرائع، المشغلة لهم عن فضول وبطالة، وما لا ينبغي لهم؛ كي لا يقعوا في الآفات وأفضل أعمال الخواص عندهم التفكر والاعتبار بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات ، وبخاصة ما يتعلق بالدين.(3) ومن ثم كان الجزاء المترتب على ذلك مختلف درجته ، ولا شك أنهم هنا يعلون من درجة وجزاء الخاصة على درجة وجزاء العامة، على اعتبار أنهم آمنوا على بصيرة ونور لا عن طريق التقليد والرواية.

خامسًا: الجزاء الروحاني:

غير أن مسألة الجزاء هل بالبدن والروح أم بالروح فقط من المواطن ذات الإشكالية عند إخوان الصفا، فتارة يقول إخوان الصفا بأن الجزاء واقع على البدن والنفس وتارة يقولون بأن الجزاء خاص بالنفس فقط، ومن ثم فلست مع أحد الباحثين ممن

ص: 133


1- انظر أفلاطون محاورة فيدون، تحقيق د. عزت ،قرني، ط دار ،قباء الثالثة، 2001م.، ص 282 283.
2- انظر د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا، ط دار المعرفة الجامعية، 1989م.
3- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 4 ص 74 .

ظن أن تصور إخوان الصفا لفكرة المعاد والحساب يتفق مع الشريعة الإسلامية(1)؛ لأن الشريعة الإسلامية كانت واضحة في هذه القضية، حيث أكدت في آيات عدة وأحاديث نبوية شريفة أن البعث بالنفس والجسد معًا، فهل تردد إخوان الصفا في أمر هذه القضية، وتناقض موقفهم فيها وتأرجحهم بين ثلاثة آراء يعني الاتفاق بينهم وبين الشريعة فيها ؟ !

ومن النصوص التي تؤيد الرأي الأول قول إخوان الصفا: «فأما النفس، يعني الروح، فهي جوهرة سماوية نورانية حية علامة فعالة بالطبع، حساسة دراكة، لا تموت ولا تفنى بل تبقى مؤبدة؛ إما ملتذة وإما مئتلمة. فأنفس المؤمنين، من أولياء الله وعباده الصالحين، يعرج بها بعد الموت إلى ملكوت السموات، وفسحة الأفلاك، وتخلّى هناك، فهي تسبح في فضاء من الروح، وفسحة من النور، وروح وراحة إلى يوم القيامة القيامة الكبرى فإذا انتشرت أجسادها، ردت إليها، لتحاسب وتجازى بالإحسان إحساناً، والسيئات غفراناً وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار فتبقى في عماها وجهالاتها، معذبةً متألمة، معتمةً حزينة، خائفةً وجلةً، إلى يوم القيامة، ثم ترد إلى أجسادها التي خرجت منها، لتحاسب وتجازى بما عملت من سوء»(2). وقولهم : «واعلم يا أخي أن بعث النفوس من القبور الدارسات، وقيامها من التراب إنما يكون ذلك إذا ردت إليها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتاً من الزمان فيما سلف من الدهر، فتنتعش تلك الأجساد، وتحيا تلك الأبدان وتتحرك وتحس بعدما كانت جموداً، ثم تحشر وتحاسب وتجازى، لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافأة»(3). وهناك نص آخر يقول: «فكذلك تكون النشأة الثانية صورة بين الجسماني والروحاني، فحدها الجسماني ما يكون في ذلك الوقت من الأمر للنفس بموجب معرفة العقل من الأمر والنهي، وكونها بحد الروحاني فهو ما يتجلى فيها من صورة العقل والنفس بمجردها».(4).

ص: 134


1- انظر .د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفاء ، ص 234 .233
2- رسائل إخوان الصفا، ج 3 ص 86.
3- السابق، ج 3 ص 86
4- الرسالة الجامعة تاج رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، تأليف الإمام المستور أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، تحقيق د. مصطفى غالب، ط دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1981 م، ص 464، 463

وهذا يبين أن الجزاء والحساب عند إخوان الصفا بالروح والجسد، تستوي في ذلك أنفس العصاة وأنفس المؤمنين.

غير أن إخوان الصفا يعودون فيترددون في أمر الجسد هل الجسد الذي يقع عليه الجزاء هو بعينه الذي كان في الدنيا أم جسد آخر يقوم مقامه؟ وهنا ينتهي رأيهم إلى جواز الأمرين، وذلك عندما يقولون: «وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف فهو يرى ويعتقد بأن مع هذه الأجساد جواهر أخر أشرف منها وأفضل وليست بأجسام تسمى أرواحاً أو نفوساً فهو لا يتصور أمر البعث ولا يتحقق أمر القيامة إلا برد تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها، أو أجساد أخر تقوم مقامها، ثم يحشرون ويحاسبون ويجازون بما عملوا من خير أو شر. وهذا الرأي أجود وأقرب إلى الحق، وفي اعتقادهم له صلاح لهم ولغيرهم، كما تقدم من قبل»(1). ويقولون في موضع آخر: «فأما النفس فهي جوهر سماوي، نورانية حية علامة فعالة حساسة دراكة، لا تموت بل تبقى مؤبدة، إما ملتذة وإما متألمة. فأنفس المؤمنين من أولياء الله وعباده الصالحين يعرج بها بعد الموت إلى فسحة الأفلاك في روح وراحة إلى يوم القيامة. فإذا نشرت أجسادها ردت إليها لتحاسب وتجازى بها بالإحسان إحساناً بالسيئات غفراناً. وأما أنفس الكفار والفساق والفجار والأشرار فتبقى في عمائها وجهالتها معذبة متألمة حزينة خائفة إلى يوم القيامة، ثم ترد إلى أجسادها التي أخرجت منها لتحاسب و تجازي بما عملت» (2).

ثم يخالف إخوان الصفا هذين الرأيين فيأتون في موضع آخر برأي ثالث يرون فيه الجزاء للنفس فقط ويرفضون فيه أن يكون الجزاء بالجسد، وذلك عندما يقولون: «أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل ألحق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خلقا، وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين

ص: 135


1- رسائل إخوان الصفا، ج 3 ص 88، 89.
2- السابق، ج 4 ص 260 .

والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب، وما شاكلها من الأخلاط الأربعة»(1) وقولهم : «فيا ليت شعري إلى من يتوجه هذا الخطاب؟! أإلى الأنفس الجزئية بمجردها ؟ أم إلى الأجسام البالية التي قد صارت ترابًا ؟ إن الله سبحانه وتعالى خاطب أولي الألباب».(2) ومن أقوى الأدلة على هذا الرأي قولهم: «فعند ذلك يكون الإنسان بنفسه الشريفة الروحانية اللطيفة ملكا مستغنيًا عن الحيوان الصامت - يقصدون بذلك الجسم - وغير محتاج إليه، وبالبرهان إذا استغنى الإنسان عن الآلة التي كان محتاجًا إليها في وقت من الأوقات لا يبالي بفقدها، ولا يتألم لزوالها وعدمها، إذا فلا بقاء للحيوان - أي الجسم - يوم القيامة، ولا وجود له بالنوع الذي عليه الآن، وأنه يرقى تدريجيًا حتى يلحق بالصورة الإنسانية».(3)

ويؤكد إخوان الصفا على هذا الرأي في موضوع آخر قائلين: «فلعلك أن تنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح العلوم، وتعيش عيش السعداء، وتوفق للصعود إلى ملكوت السماء؛ لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتكون هناك بنفسك الزكية الطاهرة النقية الشفافة، مسروراً ،فرحاً منعماً ملتذاً أبداً، لا بجسدك الثقيل المظلم المستحيل الفاسد، وفقك الله أيها الأخ للصواب وهداك إلى الرشد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد».(4) وهناك نص آخر يتحدثون فيه عن أن الجنة دار الأرواح، هذا النص هو : «هي الجنة دار السلام ومعد الأرواح، ومسكن نفوس الأخيار، ومستقر الأبرار، فإن أنت دمت على ما أنت عليه إلى الموت، فسيكون مصيرك إلى هناك، بعد مفارقتها جسدها، فتجد لذة ،العيش وسرور النعيم صافياً، بلا تنغيص ما بقي من الدهر».(5) ويقولون في نص آخر: «وأن الأعمال والأفعال التي تكتسبها النفوس في هذا العالم إنما هي أمكنة ومساكن لها غرف من فوقها، غرف في جنات النعيم والملك القديم، في عالم الأفلاك ومحل السموات، وهي مساكن

ص: 136


1- السابق، ج4 ص 118.
2- جامعة الجامعة تحقيق د. عارف تامر ص 71.
3- جامعة الجامعة، تحقيق د. عارف تامر ص 171
4- رسائل إخوان الصفا، ج 4 ص 141.
5- السابق، ج 4 ص 161

تسكن إليها نفوس العارفين، وتأنس بها أرواح المؤمنين ، مبنية بالحكمة الإلهية، فيها من كل الثمرات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكذلك الأفعال القبيحة والأخلاق السيئة هي أيضًا مساكن ،وحشة، وبيوت ،مظلمة، وجهالات متراكمة، وظلمات من فوقها ظلمات».(1) ويقول إخوان الصفا أيضًا: « أن الجسم فاسد متغير مضمحل، وأن أجزاءه لا تجتمع بعد فرقتها، وأن النفس هي صفوة الطبائع»(2).

ويبدو لي أن هذا التردد عند إخوان الصفا، أو - إن صح التعبير - هذا التناقض الواضح كانت نتيجة منطقية للتردد بين اتجاهين في هذه المسألة؛ حيث حاول إخوان الصفا استلهام رأي من بين ثنايا ما جاء به أفلاطون وأرسطو، على الرغم مما هو معروف من اختلاف هذين الفيلسوفين في هذه القضية قضية خلود النفس. فإخوان الصفا - على رأي أحد الباحثين - تابعوا الرأي الأفلاطوني الذي يعتقد في إثبات خلود النفس على القول بأنها لا مادية بسيطة، ولئن كانت المادة وحدها هي التي يسري عليها قانون التحلل والفساد والكون، فإن النفس بالضرورة خالدة، وبذلك يعتقد إخوان الصفا بقاء النفس بعد مفارقتها البدن، ومتى كانت طيبة خيرة تصعد إلى ملكوت السماوات، وتدخل في زمرة الملائكة وتحيا بروح القدس، فإذا كانت شريرة سيئة تهبط إلى قعر الأرض في أسفل سافلين؛ كي تنال جزاءها(3). وهذا الرأي الذي انتهى إليه إخوان الصفا هو رأي فلسفي عقلي - لا رأي ديني كما يظن للوهلة الأولى - لأنه يبني أكثر من أي شيء آخر على برهان الأضداد المتلازمة عند سقراط، والذي استخدمه الأخير في البرهنة على خلود النفس، حيث يبني هذا البرهان على أساس تتابع الأضداد، أي إن الحياة يجب أن يعقبها موت، وهذا الموت يجب أن تعقبه حياة(4). ومن هنا فرأي إخوان الصفا رأي عقلي أكثر منه عقديًا.

ولما كانت مسألة خلود النفس عند أرسطو من المسائل التي يدور حولها إشكالية؛

ص: 137


1- الرسالة الجامعة، ص 234
2- الرسالة الجامعة، ص 330
3- انظر د وجيه أحمد، الوجود عند إخوان الصفا، ص 224.
4- انظر د.محمد علي أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ط دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، الأسكندرية الثانية، 1967م، ج2، ص 194.

حيث تردد أرسطو بين القول بفناء النفس مع البدن وبين القول ببقاء الجزء المتصل بالعقل الفعال، فإن تردد إخوان الصفا هنا - في رأيي - نابع من تردد أرسطو ذاته، وقد أفاض الدكتور أبو ريان في مسألة الخلود عند أرسطو مؤكدًا على حالة النقاش الدائر حول هذه المسألة منتهيًا إلى أن الذي يفسد عند أرسطو من قوى النفس القوى المتعلقة بغرائز البدن، أما العقل الفعال الذي يتعلق بالجزء الناطق من النفس فلا يفنى بفناء الجسد.(1) وهذا الرأي هو ما انتهى إليه إخوان الصفا في رأيي مع شيء من التعديل؛ لأن القول الذي ذهب إليه إخوان الصفا بأن من غرق في بحر الهيولي يجازي ببدنه، ومن نجا من بحر الهيولي خالد بنفسه، يعني - في التحليل الأخير أنهم يبنون رأيهم على أساس من قوى النفس، فمن غرق في بحر الهيولي فقد غلب شهواته ونفسه الغضبية ونفسه الشهوانية فحق له خلود مقيد، أما من نجا نجا من بحر الهيولي، فقد غلب نفسه العاقلة على قوى النفس الأخرى، وهذه مرحلة الاتصال بالعقل الفعال عند إخوان الصفا، بما يعني أن إخوان الصفا يتفقون مع أرسطو في القول بأن نتيجة الاتصال بالعقل الفعال الخلود العقلي، وفي القول بأن النفس الغضبية والنفس الشهوانية تمنع من الوصول إلى هذا الخلود.

وإن كنا نعتقد أن إخوان الصفا يميلون إلى أن بعث الأجساد لا يكون إلا لمن غرق في بحر الهيولي، ولم يرتق بنفسه إلى عالم الأرواح، في حين أن بعث النفوس لا يكون إلا لمن نجا من بحر الهيولي، وارتقي إلى عالم الأرواح عالم الأفلاك وسعة السماوات، وقد يدلك على ذلك قولهم : «واعلم يا أخي أن من لا يوقن ببعث الأجساد، ولا يتصوره، فليس من الحكمة أن يخاطب ببعث النفوس؛ لأن بعث الأجساد يمكن تصوره ، ويقرب فهمه وعلمه، فأما من لا يقربه ولا يتصوره، فهو لبعث النفوس أنكر وبه أجهل، ومن تصوره أبعد؛ لأن بعث النفوس هو من علم الخواص، ولا يتصوره إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية، وإنما وعد الكفار أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم، ويجازيهم بسوء أفعالهم، ووعد الله

ص: 138


1- انظر .د علي سامي النشار، ود. محمد علي أبو ريان قراءات في الفلسفة، ط الدار القومية للطباعة والنشر، الأولى 1967م ص 284

المؤمنين أن يحيي نفوسهم، ويبعث أرواحهم ليجازيهم على حسناتهم، ويثيبهم بأعمالهم. فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد، ويؤمل نشر الأبدان، فإن ذلك ظلم عظيم في حقك إذا كنت تتوهم ذلك. ولكن إذا استوى لك، فكن من الذين ينتظرون بعث النفوس، ويؤملون حياتها ووصولها إلى عالمها الروحاني ودار قرارها الحيواني، مخلداً في النعيم أبد الآبدين ودهر الداهرين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك».(1)

وهذا الرأي فيه شبه كبير بما في الفلسفة الهندية خاصة عقيدة البراهمة؛ إذ غاية النفس في الفلسفة الهندية الوصول إلى الاتحاد ببرهمة بتجردها من الهيولي، فإذا تجردت النفس من الهيولي وتطهرت من أدرانها نالت السعادة القصوى، وهي الاتحاد ببرهمة، أما إذ غرقت في بحر الهيولي فتلك النفوس الشريرة التي تعذب في ناراكا مائة سنة من سني برهمة، واليوم البرهمي يساوي ثمانية مليارات و 650 مليون سنة شمسية(2).

ومن ثم فإن إخوان الصفا يؤكدون على أن النفس المؤمنة العارفة يعرج بها بعد مفارقة البدن إلى ملكوت السماوات فتظل تسبح حتى تقوم القيامة؛ حيث تعود أجسامها إليها؛ لتحاسب، في حين أن النفس الشريرة بعد مفارقتها البدن تظل خائفة وجلة إلى يوم القيامة، حتى ترد إليها أجسادها؛ لتحاسب و تجازي.(3)

وهذا التضارب دخل على إخوان الصفا نتيجة الاعتقاد بأن الجنة هي عالم الأفلاك وسعة السماوات، تصعد إليها النفوس البريئة المطهرة بالعلوم والمعارف، وتظل خالدة دائمة بها، وعلى ذلك فالبعث هنا ،نفسي، أما النفوس الشريرة، فإنها تهبط، وترد إلى أجسادها في عالم الكون والفساد؛ لتجازى على أعمالها، أي إن الجزاء واقع على النفس والجسد معاً .(4)

ص: 139


1- رسائل إخوان الصفا، ج 3 ص 85.
2- انظر حنا أسعد فهمي تاريخ الفلسفة، ط المطبعة اليوسفية من دون، ص 10. وانظر تأملات في فلسفة الأخلاق، ص 96
3- انظر .د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا، ص 81
4- انظر د وجيه أحمد عبد الله السابق، ص 82.

لقد ظن إخوان الصفا أن أوصاف الجنة والنار التي وردت في الكتب السماوية رموز وإشارات إلى حقائق، ربما تكون مادية فقط أو مادية ولا مادية، وذلك بقدر فهم القوم؛ ليسهل تصورها عليهم، ولذا كانت النار - في نظرهم - هي عالم الكون والفساد، والجنة هي عالم الأفلاك .(1) بل إن إخوان الصفا يرون أن الاعتقاد بأن أجسام أهل الجنة لحمية وطبيعية لا يتوافق مع ما وصفهم الله تعالى فيها بأنهم لا يمسهم فيها ،نصب، ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وأنهم خالدون (2). بل إنهم يعتقدون أن من الآراء الفاسدة الاعتقاد بأن الله الرؤوف الرحيم الغفور الودود البار يعذب الكفار والعصاة في خندق واحد من النار ، وكلما صارت جلودهم فحما ورمادًا عادت فيها الرطوبة والدم؛ لتحرق مرة ثانية؛ وليذوقوا العذاب مستندين خطأ إلى أن هذا الرأي يسيء ظن صاحبه بربه، وأنه يعتقد فيه قلة الرحمة وشدة القساوة.(3) ولما كانت الجنة ليست دار أجساد لحمية، فإن الجزاء في هذه الحالة لا يقع على الأجساد، ولكنه يقع على النفوس؛ لأن الخلود عندهم للنفس لا الجسد، وهم بذلك يخالفون جمهرة المسلمين(4)؛ إذ الأمر لا يتعلق برأي عليه خلاف كبير أو قليل، وإنما يخالفون النصوص الصريحة الشرعية . ومع هذا فمن الغريب أن تجد من يدافع عن إخوان الصفا هنا ويستنتج أن هذه الجماعة العقلانية - في رأيه - ترى أن ما ورد في الكتب المنزلة، وما جاء على لسان الأنبياء والرسل قول صدق لا شك فيه البتة.(5) فكيف (5) يستقيم هذا مع ما يذهب إليه إخوان الصفا من شك في مسألة البعث بالجسد ؟ !(6)

سادسًا: الجزاء الجماعي العقلي:

ولكن ما حقيقة الجزاء عند إخوان الصفا ؟ يمكن القول إن إخوان الصفا يتشابه

ص: 140


1- انظر د وجيه أحمد عبد الله السابق، ص 86.
2- انظر جامعة الجامعة، ص 203
3- انظر رسائل إخوان الصفا، ج4، ص 89
4- انظر د وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا، ص 87.
5- انظر د . وجيه أحمد عبد الله السابق، ص 90 .
6- يرى الدكتور سليمان دنيا أن مسألة البعث بالجسد فيها شك عند كل من ابن سينا والغزالي عند حديثهما عن السعادة الروحية، مما عده ارتباكا في مسألة السعادة عندهما . انظر الحقيقة في نظر الغزالي ط دار المعارف، القاهرة الثالثة، 1971م، ص 358 .264

موقفهم هنا إلى حد كبير مع موقف الفارابي فيما انتهت إليه آراؤه من النعيم العقلي والنعيم الجماعي؛ لأنهم يرون أن النفوس الشريرة التي تفارق أجسادها على هذه الأوصاف تحن إلى أبناء جنسها من النفوس المتجسدة الشريرة التي على سننها وسيرتها في شهواتها ، كما يحن الأعمى البصير إلى أبناء جنسه إذا سمع أصواتهم، وتستروح هذه النفوس أيضاً إلى وسوسة أبناء جنسها وحثالتهم على فعل تلك العادات التي كانت فيها مما تقدم من الشرور وطلب الشهوات؛ لما تجد من ألم شهواتها المركوزة في ذاتها من سوء عاداتها القديمة فيما يستروح، كمن قد عدمت شهوته للطعام والشراب وضعفت حرارة معدته فهو يشتهي ما لا يستمرئ ، وبه شبق وآلته لا تؤاتيها، فهو عند ذلك يستروح بالنظر إلى الآكلين والشاربين والفاعلين من أجل ما يجد في نفسه من الشهوات المركوزة والعادات الجارية، مؤولين في ذلك بعض الآيات التي تخدم فكرتهم الغريبة، كقوله تعالى: «... شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً»(1)فشياطين الجن عندهم هي النفوس المفارقة الشريرة التي قد استجنت عن إدراك الحواس، وشياطين الإنس النفوس المتجسدة المستأنسة بالأجساد. كما يرون أن هذه هي النفوس المتجسدة الشريرة إخوان لتلك النفوس المفارقة، فإذا فارقت أجسادها بعد الموت لحقت بتلك النفوس المتقدمة التي قد خلت في القرون الماضية، وحصلت في العذاب معها.(2) ويرى الدكتور عمر الدسوقي - مؤكدًا على هذه الفكرة - أن الآخرة عند إخوان الصفا حالة هي النفس بعد مفارقتها الجسد فإن كانت صالحة لحقت بالنفوس الصالحة وصارت مع الملائكة، أما إن كانت فاسدة، ولم تستكمل فضائلها، فإنها بعد مفارقة البدن تهوى في عالم الهيولي دون فلك القمر ؛ لتصير شيطانًا مع الشياطين(3).

ومما يدل على أن إخوان الصفا يميلون إلى الجزاء العقلي أنهم يرون أن أهل العذاب إذا حل بهم الموت، أخذت الملائكة - وهي عندهم روحانيات زحل

ص: 141


1- سورة الأنعام: 112
2- انظر رسائل إخوان الصفا، ج 4 ص 172.
3- انظر إخوان الصفا ط عيسى البابي الحلبي، القاهرة من دون ص 232

والمشتري - تسومهم العذاب في سلسلة متعددة منه، فإذا بلغت الأنفس العاصية آخر أذرع السلسلة المعدة لعذابها غاصت بها ملائكة العذاب، وزجرها مالك الغضبان فاتحدت بها لطائف العذاب وصارت ظلمة بمجردها، تتراءى لها في ذاتها، كلما لحظت نفسها أشخاص السلسلة التي سلكت فيها.(1) وهذا - في التحليل الأخير - جزاء عقلي خالص؛ ذلك لأن موقف إخوان الصفا هنا يعني أن النفس العاصية تتراءى لها في ذاتها ظلمة ما اقترفته من أعمال وما يترتب عليها من جزاء، ويزداد عندها هذا الألم النفسي العقلي كلما تراءت لها صور العذاب الذي تراءى لها، كما أن تخصيص إخوان الصفا النفس هنا بالحديث يدل دلالة قاطعة على ذلك الجزاء العقلي؛ لأنهم هنا لا يتحدثون عن الجسد، وإنما يتحدثون عن النفس، وما تلاقيه من صور العذاب والألم النفسي والعقلي.

والأمر نفسه ينطبق على أهل النعيم ، فإذا حل الموت بساحة النفس المطيعة تلقتها الملائكة - وهي روحانيات الزهرة والمشتري - بالنعيم، فتبقى النفس علامة دراكة مع الملائكة إلى ما شاء الله تتصل بالمؤمنين في الدنيا، وتتراءى لهم في مناماتهم بالبشارة والطمأنينة.(2) وهذه كلها صورة من صور النعيم العقلي واللذة النفسية التي يقوم الجزاء الأخروي على شطر كبير منها عند إخوان الصفا. ولم يكتف إخوان الصفا بالقول بالجزاء الأخروي، بل يرون أن هناك جزاءً سابقا عليه في الدنيا؛ إذ إن من قبل - عندهم - وصايا المنذرين واتبع ،المرشدين وأطاع ربه، وعرفه حق المعرفة، نال السعادتين، وحصلت له المنزلتان منزلة الإنسانية الكاملة، والفلسفة الفاضلة في الدنيا، وصورة الملائكة وجوار الرحمن في دار الجنان، دار الحيوان في الآخرة .(3)

غير أن إخوان الصفا قد يؤدي رأيهم في مسألة خلود النفس إلى الاعتقاد بأنهم يروجون لفكرة تناسخ الأرواح المرفوضة إسلاميًا؛ ذلك أن إخوان الصفا يعتقدون أن النفس الناطقة إذا فارقت ظلمة الطبيعة الجسمانية والهيولى لحقت بأنوارها، وعادت

ص: 142


1- انظر الرسالة الجامعة، ص 317.
2- انظر السابق، ص 319
3- انظر السابق، ص 256

إلى إشراقها بشوقها إلى ذاتها وتذكارها مكان لذاتها الروحانية وفوائدها النورانية؛ إذ كانت بدت من جوهر الكلمة الإلهية، في حين يعتقدون أنه متى غفلت عن هذا بقيت في عالم الكون والفساد، والهبوط والاتحاد في عالم الأجسام، وتبقى حيث أرادت واختارت كمن اختار طول السجن على النجاة منه .(1) بما يعني - في التحليل الأخير - أن النفس تبقى معذبة في الدنيا في عالم الأجسام الذي اختارته. وهذا هو مذهب تناسخ الأرواح الذي يقوم على أساس انتقال النفس من جسد إلى آخر، وهكذا دواليك إلى يوم القيامة عقابًا لها على ما اقترفت من آثام.

وكم ثم فإن قضية الجزاء الجماعي والعقلي عند إخوان الصفا ليس مصدرها الإسلام فقط، بل يدخل فيها معتقدات الديانات السماوية الأخرى، كالمسيحية واليهودية، بل إن من مصادرها عندهم الديانات الوضعية، بل تمتد مصادر المعاد عندهم إلى الفلاسفة والحكماء وأصحاب الرسائل الناموسية على ظنهم، ومن ثم فقد خلط إخوان الصفا الأخلاق بما يعد غير إسلامي البتة ومن ثم وجدناهم يتحدثون عن أصحاب الديانات الوضعية كحديثهم عن الأنبياء والرسل؛ لأنهم أخذوا على أنفسهم ألا يعادوا علمًا من العلوم، أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصبون على مذهب من المذاهب ؛ ظنًا منهم أن مذهبهم يستغرق المذاهب كلها والعلوم جميعها(2)، ومن ثم فقد كان هذا المبدأ هو المنطلق الذي انطلقوا منه لتأسيس اتجاه تجميعي ،بحت يأخذ من آراء الفلاسفة والحكماء وأصحاب الديانات الوضعية مبادئهم وأصولهم الأخلاقية جنبًا إلى جنب مع الدين الإسلامي، بل إنهم أفسحوا الطريق لمن ترقى في المعارف الإلهية يمثل مبادئ

، يصنع ناموسًا إلهيًا - على ظنهم - أخلاقية يهتدي بها الإنسان؛ لأنهم يعتقدون أن أفضل صناعة يمكن أن يصل إليها الإنسان صناعة النواميس الإلهية، وربما هذا يفسر لنا نظرتهم التي فيها كثير من التقدير والاحترام للبراهمة والبوهميين وزاردشت و بود است وبلوهر وغيرهم ممن ظن إخوان الصفا خطأ أنهم أصحاب ناموس إلهي أتي بمبادئ أخلاقية، وجب على

ص: 143


1- انظر جامعة الجامعة، تحقيق د. تامر عارف، ط منشورات دار مكتبة الحياة ،بيروت من دون . ص 213 214.
2- انظر بطرس البستاني، مقدمة تحقيق رسائل إخوان الصفا، ص 8.

البشرية عدم الخروج عليها، بل إننا وجدنا ما يشبه أن يكون دعوة صريحة إلى أن السعادة الأخروية مترتبة على فهم أسرار الناموس الوضعي؛ لأنه يساعد عندهم على التنبيه من نوم الغفلية والاستيقاظ من رقدة ،الجهالة فيعيش المرء عيش السعداء، ويجاور الملائكة المقربين مخلدًا أبد الدهر.

وهذا ما ظهر في فلسفة إخوان الصفا عامة وفلسفتهم الأخلاقية خاصة، فقد مزجوا بين مبادئ الإسلام وأصوله، ومبادئ وأصول الأديان السماوية الأخرى والديانات الوضعية، وآراء الفلاسفة والحكماء، ولعل الحوار الذي عرض له إخوان الصفا بين اليهودي والمجوسي ليدل على تلك الفكرة؛ لأنه ينتهي إلى مدح اعتقاد كل منهما وحرصه على تطبيق مذهبه واعتقاده(1). وما دعوتهم الأتباع من إخوان الصفا ليصنعوا ما صنع المسيحيون واليهود من العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا دليلاً على صحة هذا الحكم.

المصادر والمراجع

1 - أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق الإمام المستور، الرسالة الجامعة تاج رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، تحقيق د. مصطفى غالب، ط دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع بیروت، لبنان، 1981 م.

2 - إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، تحقيق بطرس البستاني ط دار صادر، بیروت، من دون.

3 - أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة د. أحمد لطفي السيد، ط دار الكتب المصرية، 1924.

4 - أفلاطون محاورة فيدون تحقيق د. عزت ،قرني ط دار قباء، الثالثة، 2001م.

5 - أفلوطين، التساعية الرابعة في النفس، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م.

ص: 144


1- انظر بطرس البستاني، مقدمة تحقيق رسائل إخوان الصفا، ص 9.

6 - جامعة الجامعة، تحقيق د. تامر ،عارف ط منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، من دون.

7 - حنا أسعد فهمي، تاريخ الفلسفة، ط المطبعة اليوسفية، من دون.

8 - د. سلیمان دنيا ، الحقيقة في نظر الغزالي ط دار المعارف، القاهرة، الثالثة، 1971م.

9 - د. عبد المقصود عبد الغني النظرية الخلقية في الإسلام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1991م.

10 - د. عزت ،قرني مقدمة كتاب أفلاطون، فيدون في خلود النفس ترجمة وتقديم وشرح د. عزت ط دار ،قباء القاهرة الثالثة، 2001م.

11 - د. علي سامي النشار، ود. محمد علي أبو ريان قراءات في الفلسفة، ط الدار القومية للطباعة والنشر، الأولى، 1967م.

12- د. علي عبد الواحد، المسؤولية ،والجزاء، ط مكتبة نهضة مصر، 1963 م.

13 - د. عمر الدسوقي، إخوان الصفا، ط عيسى البابي الحلبي، القاهرة، من دون.

14 - د غسان علاء الدين الأخلاق عند إخوان الصفا دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، من دون.

15 - د. ماهر كامل مبادئ الأخلاق، ط الأنجلو المصرية 1958.

16 - د. محمد الجليند د. أبو اليزيد العجمي، دراسات في علم الأخلاق، ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1996/1995 م.

17 - د. محمد علي أبو ريان تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ط دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، الأسكندرية الثانية، 1967م .

18 - د. وجيه أحمد عبد الله الوجود عند إخوان الصفا ط دار المعرفة الجامعية، 1989م.

ص: 145

الأسس الكلامية للفكر الأخلاقي عند العلامة الحلي

د. محمد حمزة إبراهيم(1)

مقدمة

العلامة الحلي (ت 762ه) من العلماء الموسوعيين الذين شمل اشتغالهم مساحة واسعة من حقول الفكر الإسلامي، من فلسفة وكلام وأصول وحديث وتفسير وغيرها، وقد تميز نتاجه بالغزارة والدقة والعمق، وهذه الموسوعية أعطته قابلية استحضار عدة علوم في معالجة موضوعاته سواء كانت فلسفية أو كلامية أو أصولية أو أخلاقية، فنجد التداخل في الأسس والمباني أو المناهج والمطالب، وهذا البحث سوف يقف عند أنموذج لهذا التوظيف متمثلا بالأسس الكلامية للأخلاق كما بدت لنا عند تحليل الموضوعات الأخلاقية عند العلامة الحلي.

فالبعد الأخلاقي لا ينفك يمارس حضوره الفاعل والمباشر في العلوم، وخاصة الإنسانية منها والإسلامية على وجه الخصوص، والحضور المعني هنا هو الحضور البنيوي وليس التوجيهي، بمعنى أن كثيرا من مباحث العلوم الإنسانية والإسلامية يمكن تصنيفها تحت موضوعات أخلاقية، أو تقع في مجال الأخلاق أو تلامسه بصورة أو بأخرى، حتى وان لم تطرح مسميات أخلاقية لهذه الأفكار، فان حضورها الأخلاقي يمثل البعد المسكوت عنه والملازم لباقي الأفكار يحضر بحضورها ويغيب بغيابها، فكل الموضوعات التي تلامس الإنسان هي تلامس الأخلاق بوصفها حيثية أصيلة في الإنسان، والبحث هنا لا يعنى بالأخلاقيات التطبيقية ممثلة بالفضائل والرذائل،

ص: 146


1- جامعة بابل / كلية الدراسات القرآنية.

أو تفعيل اثر الأوامر والنواهي، وإنما هو بحث نظري يبحث في الأسس الكلامية للأخلاق؛ ولذا فان البحث هنا فلسفي ،الطابع، مما يستلزم غلبة الجانب النظري على البعد التطبيقي العملي، شأنه في ذلك شان كل الموضوعات ذات الطابع الفلسفي.

وفيما يرتبط بمدى أهمية البحث الفلسفي النظري في موضوع قيمته وغايته في بعده العملي؟، يمكن أن نلحظ أمورا عدة:

أولا: قلة الدراسات التي تعرض للأسس الفلسفية في موضوع الأخلاق، وهو الأمر يسجل لصالح مثل هذه الدراسة، لتداركها بعض النقص في مباحث علم

الأخلاق.

ثانيا: أن قوة وعمق الموضوعات العملية والتطبيقية إنما يُستمد من قوة الأسس وإحكامها وتماسكها، وعلى هذا الأساس تصنف الأفكار في مدى قوتها وضعفها، فالأفكار المستندة إلى أسس هشه تكون ضعيفة في تماسكها، على العكس من تلك التي تمتلك رصيدا غنيا من المقدمات والأسس النظرية فان منظومتها ستكون أكثر قوة وتماسكاً.

ثالثا: الأمر الآخر يرتبط بموضوع البحث لان مكانة العلامة الحلي في الفكر الشيعي الأمامي خاصة والفكر الإسلامي عامة، تستدعي إعادة قراءته وتدارسه لمرات عدة، وذلك لثرائه المعرفي، وإعادة القراءة هذه تارة تكون باستخراج أفكار مباشرة من نصوصه وأخرى بقراءة تلك النصوص في ضوء معطيات فروع معرفية أخرى، فيقرأ تارة قراءة فلسفية وأخرى اجتماعية وثالثة نفسية.... وهذا التنوع هو المحك الحقيقي لعمق تلك النصوص وثرائها، وحسب المناهج المعاصرة فان معيار عمق النص هو قابليته في إعادة إنتاج المعنى باستمرار، ولذا سعى هذا البحث لتطبيق هذه الرؤية على فكر العلامة الحلي، في محاولة لاستنطاق نصوصه والإفصاح عن المسكوت عنه في هذه النصوص، وإعادة توجيه نصوصه لهذا الغرض الأخلاقي هي في حد ذاتها محاولة تثوير المعنى وإعادة إنتاجه من هذه النصوص.

ص: 147

رابعا: استخراج المعنى خارج فضاء المنطوق المباشر والدلالة الحرفية للنص، لا يعني أن تلك النصوص غريبة عن موضوع البحث وان البحث هو عبارة عن جهد متكلف لتحميلها ما لم تحتمل، فهذا الكلام يصح لو إنا ادعينا أن مراد صاحب النص وهو هنا العلامة - هو ما ذهبنا إليه من استنتاج، ولكن المقصود أن هذه النصوص قدمت إجابات لأسئلة مطروحة في حقول معرفية أخرى – وفي موضوعنا الأخلاق- بحيث يمكن إدراج هذه الإجابات كأسس ومقدمات لمسائل تلك الحقول المعرفية، فمثلا العمق الفلسفي للفعل الأخلاقي يمكن تلمس بعض جذوره في مسائل علم الكلام لتشكل هذه المسائل سندا عقليا للأخلاق وان اختلف الحقلان وتمايزا.

تمهيد

لقد تطور المبحث الأخلاقي في الدراسات الحديثة والمعاصرة كثيرا عما كان عليه في المراحل القديمة والوسيطة، إذ كان البعد التهذيبي للنفس وتقويم السلوك هو الطاغي في مباحث الأخلاق، أما اليوم وبفعل تطور مقولات فلسفة الأخلاق صار موضوع علم الأخلاق، يبحث في الأساسات الأعمق للقيم، والاشتراطات غير المباشرة للفعل الأخلاقي كالإرادة والإدراك ... .

ولذا فان قراءة نصوص الحقبة الوسيطة وما قبلها في ضوء تطور مفاهيم فلسفة الأخلاق سيعيد استنطاق تلك النصوص وإخضاعها إلى حقولها الأخلاقية، وان لم يلحظ المؤلف حينها البعد الأخلاقي الثاوي في معالجاته، فان ذلك لا يمنع من ربطها بمجالها الأخلاقي.

والعلامة الحلي بوصفه واحدا من اكبر منظري القرنين السابع والثامن الهجريين وعلى الرغم من كثرة الدراسات عن هذه الشخصية الفذة، إلا أن نصيب الفكر الأخلاقي عنده بقي عنده بقي هو الأضعف حضورا عند الباحثين من بين بقية جوانب فكره الأخرى، ونظرا لغزارة منتجه المعرفي فان إعداد دراسة شاملة عن منجزه الأخلاقي يحتاج جهدا مضاعفاً ووقتا مديدا ، غير أن ذلك لا يمنع من التعرض لبعض الأبعاد

ص: 148

الأخلاقية ممثلة بتناول أسس الأخلاق في منظومته الكلامية وذلك عبر تسليط الضوء على بعض المحاور في موضوعاته الكلامية كأنموذج، تاركين التوسع إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى .

أولا: علاقة النفس الإنسانية بالأخلاق

النفس الإنسانية هي الحامل للأخلاق والمحور لكل المعاني الأخلاقية، لوجود علاقة بين المعنويات ومنها الأخلاق، وحالة النفس اللامادية، لذا عرف الخلق بأنه (ملكة نفسانية تقتدر النفس معها على صدور الأفعال عنها بسهولة من غير تقدم روّية)(1)، فالأخلاق هي ليست الأفعال الظاهرة وإنما هي معان قائمة بنفسها، والفعل الخارجي يتأتى في مرتبة متأخرة عن وجود هذا الخلق في النفس، فالشجاعة مثلا هي ملكة الإقدام في النفس بلا تردد ومن دون الوقوع في التهور، فهذه الصورة للنفس هي المصطلح عليها من قبل علماء الأخلاق بخلق الشجاعة، أما السلوك الخارجي فهو فعل الشجاعة وهيئات النفس هذه تارة تكون راسخة وهي ما تعرف ب_«الملكات وتارة غير راسخة وإنما تعرض وتزول بسرعة وهي «الأحوال»، وفي الحالين فان النفس هي الموضوع لها.

ومثلما نلاحظ أن هذا التفسير لا يمكن له أن يستقيم من دون إثبات بعد آخر في روح الإنسان تختلف خصائصه عن البعد المادي، ولذا فموضوع علم الأخلاق (هو الإنسان ونفسه الناطقة من حيث قابليتها على الاتصاف بالصفات والخصائص الحسنة أو السيئة)(2) ، فلا مناص من الوقوف عند النفس لإثبات وجودها و بیان تمایزها عن المادة وبعض خصوصياتها الأخرى.

والعلامة الحلي ينطلق في معالجته لموضوع النفس من منطلقات كلامية، لا تركز على

ص: 149


1- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام ، تحقيق، فاضل العرفان مؤسسة الإمام الصادق، إيران - قم 1430ه، ج 2، ص 273 ، وينظر : النراقي، محمد مهدي جامع السعادات، ج 1، ص26، وابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1401ه 1981-م. ص25، والغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، طبعة مصر، بلا ، ج 3 ، ص 53.
2- ينظر النراقي، محمد مهدي جامع السعادات، مؤسسة التاريخ العربي ، ط1، 1425ه2004- م، ج 1، ص 60.

أصل وجود النفس وإنما على خصائصها، لأنه لم يقع بين المتكلمين جدل في وجود النفس من عدمها، بل وقع الخلاف في طبيعتها وماهيتها ، وإذا كان لمثل هذا المبحث من حضور فهو بحكم التأثر بالمنظومة الفلسفية، إذ في زحمة الجدل الدائر ما بين الفلاسفة والمتكلمين تسربت الكثير من المفاهيم والأفكار الفلسفية إلى علم الكلام.

ویرى العلامة الحلي أن وجود النفس من الواضحات بحكم الأدلة القوية على وجودها، فان من الأجسام ما يشاهد منه صدور الحس والحركة الإرادية كالتغذي والنمو، مع اشتراك في الجسمية ولوازمها، فيجب أن تكون لها مبادئ مغايرة للجسم والمادة، لان المادة لكونها قابلة يستحيل أن تكون فاعلة لأنها مشتركة في العنصريات (1)، بمعنى أن صدور أفعال متباينة من الأجسام على الرغم من أن مفهوم الجسمية واحد عند الجميع، يدل على أن مبدأ هذه الأفعال هو أمر وراء الجسمية المشتركة وهو النفس، وطبعا تسمى نفسا بلحاظ انضمامها إلى الجسم، أما لو لحظناها كمبدأ للأفعال فعندها يقال لها «قوة»، وأما إذا انضمت إلى المادة فيحصل منها نبات وحيوان فيقال لها «صورة»، فحقيقة النفس واحدة ولكنها تختلف من جهة حيثياته.(2)

وإذا كان وجود النفس من الواضحات فان الكلام والخلاف وقع في ماهيتها وصفاتها المشتركة ،والخاصة وهنا لابد من الدخول في بعض هذه التفاصيل حتى نتوافر على فهم عام للنفس بوصفها موضوعا ومحلا للأخلاق، بل انه لا يمكن العرض للكثير من تفاصيل علم الأخلاق على أسس فلسفية ما لم نفهم ماهية النفس

وقواها.

يورد العلامة الحلي تعريفا فلسفيا للنفس، هو أرسطي في أصله ينص على أن النفس «كمال أول لجسم طبيعي»(3) ، فما معنى ذلك؟، في الواقع أن العلامة ذكر

ص: 150


1- ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد مؤسسة النشر الإسلامي، ط14، 1433ه، ص 347 .
2- ينظر: المصدر نفسه.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 348 ، . ، وأيضا : ينظر عن تعريف النفس، الرازي، محمد بن عمر المباحث المشرقية مطبعة دائرة المعارف النظامية ، ط 1 ، 1343ه . ج 2، ص 231 ، وأيضا الكندي رسالة الحدود، ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، د. عبد الأمير الاعسم مكتبة الفكر العربي، بغداد ، ط1، 1404ه 1985- م . ص 190، وأيضا : ابن سينا، علي بن الحسين رسالة الحدود المصدر نفسه، ص 241 الجرجاني التعريفات، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، بلا ص313، وأيضا : خليف فتح الله ابن سينا ومذهبه في النفس، جامعة بيروت العربية، 1974، ص63.

هذه الجملة في تعريف النفس ولم يتعدَّها إلى غيرها من التفاصيل حتى تشمل كل النفوس فيكون بمثابة جنس لباقي التفاصيل في تعريف باقي النفوس.

والكمال منه كمال أول ومنه كمال ثان فالكمال الأول ما تكون فيه ذات الشيء موجودة، أما باقي الكمالات الإضافية فهي كمالات ثانوية، فمثلا وجود ذات العالم هو كمال أول، وإضافة العلم لها هو كمال ثانٍ(1)، وبعبارة أخرى الكمال الأول هو ما يصير به النوع نوعا بالفعل مثل الشكل للسيف والكمال الثاني هو الذي يتبع نوعية الشيء من أفعاله وانفعالاته كالقطع للسيف(2) ، أما أن هذا الكمال يكون لجسم طبيعي فذلك لإخراج الصورة الصناعية لأنها كمال أول ولكن لجسم غير طبيعي وإنما صناعي كالسرير(3)، وبعد هذا يمكن إضافة قيود للإشارة إلى نفوس معينة نرغب بتعريفها ، فإذا أريد تمييز النفوس النباتية من غيرها أضافوا إليه : تصدر عنها أفعال مختلفة من غير قصد ولا اختيار، وإذا أريد تمييز الحيوانية من غيرها أضافوا تصدر عنه الأفعال المختلفة بواسطة القصد وتكون لها القدرة على الفعل والترك، وإذا أريد تمييز الإنسانية أضافوا: يصدر عنها إدراك حقائق الموجودات على سبيل الفكرة والحدس.(4)

والنفس الناطقة غير المزاج(5) ويقصد من المزاج هي العناصر المكونة للتركيب المادي الإنساني، والغرض من إثبات مغايرة النفس للمزاج هو دحض فكرة مادية النفس، وأنها لا تجري عليها كل أحكام المادة، وان من القيم والمعنويات ما نطلب له عللا أخرى خارجة عن معطيات المادة ومنها اغلب القيم الأخلاقية، فان للمادة

ص: 151


1- ينظر: الحيدري كمال علم النفس الفلسفي دار ،فراقد، قم - إيران، ط3، 1426ه - 2005م، ص 23.
2- ينظر الرازي المباحث المشرقية ، ج 2، ص 234 ، وعرفها بالكمال الأول ولم يعرفها بانها «قوة» لان القوة تقع بالاشتراك على القوة الفعلية والانفعالية واللفظ المشترك يحترز عنه في التعريفات كما لم يعرفها بانها صورة لان النفوس الفلكية والإنسانية غير حالة في البدن فلا تكون صورة فيه، بمعنى إن إطلاق تسمية صورة على النفس فيه إيحاء إنها حالة في المادة ومنطبعة فيها، والنفوس الإنسانية غير منطبعة في المادة وإنما هي مجردة كما سيأتي
3- ينظر: الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص348.
4- ينظر : المصدر نفسه، ص349.
5- عن المزاج ينظر الرازي، المباحث المشرقية ، ج 2، ص 156 ، وأيضا زيد منى احمد، الإنسان في الفلسفة الإسلامية دراسة مقارة في فكر العامري، المؤسسة الجامعية، ط1، 1994 ، ص 44-45.

نحن وتراثنا الاخلاقي (2)

152

أحكامها وخواصها ولوازمها، وللنفس أحكامها وخواصها ولوازمها، مع وجود علاقة تسوغ لنوع من التأثير المتبادل مثلما سيأتي.

ولأهمية موضوع مغايرة النفس للبدن، يورد العلامة الحلي أدلة عدة على ذلك منها(1) :

الأول: أن الإنسان قد يغفل عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة، في حين يبقى ملتفتا لذاته غير غافل عنها وهذا دليل على مغايرة الذات أو «الانا» لبدنه المادي.

الثاني: أن أعضاء البدن وأجزاءه دائمة التبدل، في حين أن النفس باقية لا تتبدل ولا تتغير فيبقى الإنسان بذات يشعر أنها هي طيلة حياته، ومن المؤكد أن المتغير غير الثابت فهذا دليل على المغايرة بين النفس والبدن .

وبعد أن يبين العلامة الحلي أن النفس ليست نتيجة وأثرا للبدن، وأنها بوجودها مغايرة له ومستقلة عنه، يبين أيضا أنها مجردة في طبيعتها عن المادة والدليل على ذلك أن العلم أمر مجرد عن المادة، فلابد من أن يكون المحل الذي يعرض فيه مجرد أيضا، لاستحالة حلول المجرد في المادي فثبت أن النفس وهي محل العلم مجردة (2) . ومما يدل عليه أيضا أن القوة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف الجسم، والنفس بالضد من ذلك ففي وقت الشيخوخة كلما كبر الإنسان زادت وكثرت تعقلاته، ولو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلها والأمر ليس كذلك، وهذا دليل على أنها ليست جسمانية(3).

والنتيجة أن النفس إذا كانت مجردة فهي باقية ولا يطرأ عليها العدم لان كل قابل للعدم فهو مركب والنفس ليست مركبة مثلما تقدم فلا تكون النفس فانية.(4)

ص: 152


1- ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد،ص 277-276, وأيضا : ينظر، الرازي، المباحث المشرقية، ج2، ص359، وأيضا العاتي، إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية أنموذج الفارابي، الهيئة المصرية للكتاب، 1993، ص108 ، وأيضا : خليف عبد الله ابن سينا ومذهبه في النفس، ص104.
2- ينظر : المصدر نفسه، ص 278.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 279 ، وأيضا زيد منى احمد الإنسان في الفلسفة الإسلامية دراسة في فكر العامري، ص 40.
4- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط1،1432ه - 2005م، ص 399.

فإذن النفس في عمومها كمال أول وأنها ليست معلولة للمزاج بل هي أمر وراء المزاج، كما أنها مغايرة للبدن ومجردة عن المادة ولذا فهي باقية ولا يتطرق إليها الفناء.

فهي ليست نتيجة من نتائج المادة ولا هي . منفعلة لها بشكل مطلق، بل على العكس فهي المؤثرة في المادة، والأخلاق بحكم معنويتها هي هيئة نفسية كما تقدم والسلوك الخارجي اثر من آثارها ولذا أعطيت للنفس الأولوية على البدن في الموضوع الأخلاقي، فالنية وهي فعل نفسي يعدها المحقق الحلي هي المعيار لحسن أو قبح الفعل الخارجي فنجده يقول: (إن الأفعال متساوية وإنما يمحضها للطاعة أو المعصية النية، فان لطمة اليتيم ظلما أو تأديبا واحدة والمميز بينها ليس إلا النية، ولان نفس صدور الفعل لا يوجب الطاعة لأنه أعم لوجوده في صورة الرياء وغيره)(1) ثم أن دوام النفس وعدم فنائها يعني ديمومة الأثر الأخلاقي لأنها ملكات وصور للنفس تبقى ببقائها ولا تفنى بفناء البدن، وهذه الصور لها أحاكمها الخاصة في مباحث المعاداة.(2)

ثانياً: ميتافيزيقا الفعل الأخلاقي

الميتافيزيقا تبحث في ما وراء الظواهر المادية من العلل والأسباب، ومن هذا المنطلق سيقف البحث هنا عند العلل النفسية والعقلية لصدور الفعل الأخلاقي، وليس المقصود من هذه العلل القيم التي تمثل إحدى بواعث السلوك الأخلاقي، إذ أن للفعل الأخلاقي أكثر من بعد يسهم في تحققه منها بعد حقيقي معني بالأسس والمقدمات الوجودية لصدور هذا الفعل مثل قوى النفس ومراتب الإدراك، ومنها بعد اعتباري توجيهي مثل القيم الموجهة للسلوك أي ما ينبغي وما لا ينبغي، والبحث هنا في البعد الوجودي تحديداً.

يرى العلامة الحلي أن كل فعل يصدر عن فاعله لابد من أن يستند إلى قوتين

ص: 153


1- ينظر: الحلي، محمد بن الحسن الرسالة الفخرية في النية، تحقيق صفاء الدين البصري، (د.ت)، ص33.
2- ينظر الشيرازي محمد بن إبراهيم الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، طليعة النور، ط3، 1430ه. ج 9، :وأيضا الحيدري، السيد كمال المعاد، دار فراقد، قم - إيران، ط1، 2010م - 1431ه، وأيضا لنفس المؤلف كتاب المعاد من شرح الأسفار الأربعة، دار ،فراقد، ط 1 ، قم ،إيران، 2010م 1431 ه، ج1.

وهما قوة إدراك وقوة تحريك، وهما ما يميزان النفوس الحيوانية عن النفوس الأدنى منها وهي نباتية، وقوة الإدراك عند الحيوان قد تكون بحواس ظاهرة وقد تكون بقوى باطنة، ومن المشهور أن الحواس الظاهرة خمس هي قوى اللمس والذوق والشم والسمع والبصر(1)، وهي أول سلم المعرفة وتوجد عند الحيوانات العجماوات، وأما القوى الباطنة فخمس أيضا هي : الحس المشترك والخيال والوهم والمتخيلة ،والذاكرة والعلامة يسترسل في شرحها (2).

وأما قوة التحريك فإنها تنقسم إلى قوة محركة على إنها باعثة، وقوة محركة على أنها فاعلة فالباعثة هي القوة الشوقية، لان الحيوان ما لم يشتق إلى ما يدركه حسا أو خيالا أو عقلا لا يتحرك إليه بالإرادة، والشوق غير الإدراك لأنا ندرك أشياء لا يقع إلينا لها ،شوق والشوق إنما يكون لجذب الملائم أو لدفع منافر والأول هو القوة الشوقية الشهوانية، والثاني هو القوة الغضبية، والقوة الفاعلة هي المحركة للأعصاب والعضلات (3).

هذه القوى الحيوانية هي بمثابة المادة للقوى الأرقى منها وهي الإنسانية، فالنفوس الإنسانية تتميز كما يرى العلامة الحلي ب__(اعتباران احدهما تدبير البدن والثاني إدراك المعقولات فلها قوتان بحسب هذين الاعتبارين، فالقوة التي تقبل بها النفس على تصرفات البدن تسمى عقلا عمليا، والقوة التي تقبل بها النفس على ما تفيدها المعقولات تسمى عقلا نظريا)(4) نلاحظ هنا اختلافا في التعبير عند العلامة على الرغم من الحديث عن قوة تكاد تكون نفسها عند الحيوان والإنسان، فنجده يسمي القوة المحركة عند الحيوان بالباعثة والفاعلة، ويسمي الباعثة بالقوة الشوقية، في حين يسمي هذه القوى عند الإنسان بالعقل العملي، ولهذا التفريق أسباب ستمر علينا.

ص: 154


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 363 ، وأيضا : كشف المراد، ص 290 ، وأيضا ينظر الرازي، المباحث المشرقية، ج 2، ص 247 وما بعدها.
2- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، ص375-381 ، وأيضا : كشف المراد، ص 296.
3- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، ص 381 382 ، وينظر أيضا ابن سينا، علي بن الحسين المبدأ والمعاد، مؤسسة مطالعات إسلامي ،تهران، ط1، 1363 ، ص 96 ، والإشارات والتنبيهات تحقیق سلیمان دنیا دار المعارف، ط3، 1950، ج2، ص387.
4- الحلي الحسن بن يوسف الأسرار الخفية، ص.386

ومسألة العقلين النظري والعملي لم تكن محل وفاق تام في طبيعة وظيفتهما عند الفلاسفة وعلماء الأخلاق، ففي حين يذهب فريق إلى أن الأول يعنى بالمسائل الفلسفية النظرية خارج دائرة الأخلاق والآخر يعنى بالمسائل العملية(1)، يذهب آخرون إلى فهم مختلف قوامه أن فلسفة الأخلاق أيضا من شؤون العقل النظري، أما وظيفة العقل العملي فتتعدى ذلك إلى البعث والتحريك (2).

هذا الاختلاف في تحديد وظيفة كلا العقلين النظري والعملي، من شأنه أن يحدث حالة من الإرباك في فهم وظيفة كل منهما، ويبدو انه يوجد خلط في بيان هذه الوظيفة.

ويمكن التوفيق بين الرأيين في الأخذ بنظر الاعتبار عدم التمييز بين الحكمة العملية والعقل العملي، إذ العقل النظري الذي من شأنه الإدراك يتفرع إلى الحكمة النظرية التي تدرك الموجودات الخارجة عن محيط قدرتنا واختيارنا، والحكمة العملية التي تدرك ما هو داخل دائرة قدرتنا واختيارنا أما العقل العملي فهو غير الحكمة العملية التي هي من أقسام العقل النظري(3)، إذ هو يقابل العقل النظري وليس الحكمة النظرية التي هي إحدى قسمي العقل النظري ) ، ويشير العلامة الحلي إلى هذا التداخل في احد نصوصه فيقول : (والحاصل أن الحكمة العملية قد يراد بها العلم بالخلق، وقد يراد بها نفس الخلق، وقد يراد بها الأفعال الصادرة عن الخلق).(4)

ص: 155


1- الآمدي، سيف الدين كتاب المبين ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، د. عبد الأمير الأعسم، ص364. وينظر بهذا الصدد أيضا الشيرازي محمد بن إبراهيم مفاتيح الغيب تعليق المولى علي النوري، تقديم محمد خواجوي، مؤسسة التاريخ العربي ، ط3، 1424ه - 2003 م ، ج2، ص 602 ويوجد رأي لتلميذ ابن سينا بهمنيار يحصر فيه وظيفة العقل العملي بالعمل فقط ، ولم يعطه أي هامش من الإدراك، إذ يقول : (.... ويسمى عقلا عملياً، لأن بها تعمل النفس... وليس من شأنها ان تدرك شيئا بل هي عمالة فقط ... والقوة التي تسمى عقلا عمليا على ما ذكرت) وهذا الرأي لم يشاركه فيه أحد في حدود اطلاع الباحث ينظر المرزبان بهمنیار، التحصيل، تصحيح ،وتعليق مرتضى مطهري، انتشارات جامعة طهران 1375ه، ص 789 - 790.
2- ينظر : النراقي، جامع السعادات، ج1، ص48-53.
3- ينظر الآملی حسن زاده من تعليقته على النفس من كتاب الشفاء لابن سينا مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، ط1، 1417ه- هامش ص.285. وينظر الحيدري: السيد كمال، مقدمة في علم الأخلاق، دار فراقد، ط1، 1425ه - 2004م، ص36.
4- الحلي، الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام تحقيق فاضل ،العرفان مؤسسة الإمام الصادق، ط2، 1430ه، ج2، ص 275.

وهذا المعنى نجده بوضوح في آراء محمد مهدي النراقي التي تأتي في سياق حديثه عن العقل العملي، أو الحكمة العملية في كتاب جامع السعادات، ففي حديثه عن العقل العملي دائما يصفه كقوة محركة وباعثة (1)، وأما الحكمة فيؤكد أنها معرفة حقائق الموجودات، وهذه المعرفة تارة تتعلق بأمور خارجة عنا فتكون حكمة نظرية، وتارة أخرى تتعلق بأمور وجودها بقدرتنا واختيارنا وهي الحكمة العملية .(2)

ويرى النراقي أنه لا مانع من جعل الأخلاق موضوعا للحكمة، إذ إن وظيفة الحكمة البحث في أحوال الموجودات، والموجودات منها موجودات إلهية أي واقعة تحت قدرة الباري سبحانه، ومنها موجودات إنسانية أي واقعة بقدرة الإنسان، فالعلم بأحوال هذه الأخيرة هو جزء من الحكمة .(3)

وبهذا التصور يمكن رفع التعارض في كلمات بقية الفلاسفة بخصوص هذا الموضوع، خصوصا وانهم يظهرون بعض المسامحة في استعمال هذه التسميات فيطلقون تسمية العقل العملي ويصفون وظيفته تارة بالإدراك وتارة بالتحريك، ويطلقون تسمية العقل النظري ويحددون وظيفته بإدراك الأمور العامة تارة، وبإدراك الكثير من المسائل الحسن والقبح تارة أخرى.

والمعيار الأساس حسب ما تقدم هو تحديد الوظيفة المنسوبة للعقل إن كانت إدراكية عامة فهي من مختصات الحكمة النظرية المتفرعة عن العقل النظري، وإذا كانت إدراك قضايا أخلاقية فهي من شؤون الحكمة العملية التابعة للعقل النظري أيضاً، وإن كانت هذه الوظيفة تتعدى لتشمل السياسة والتحريك فهي من مختصات العقل العملي.

فالعلاقة تكاملية بين العقلين النظري والعملي، وسيتضح ذلك عبر التطرق لكيفية تكوين العقل النظري لمعقولاته وأثره في العقل العملي، ذلك لأن العلوم تشكل

ص: 156


1- ينظر : النراقي، جامع السعادات، ج 1، ص 48-53
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 49.
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 54.

جوهر العقل عند المتكلمين وهي قوام العقل النظري عندهم، ولذلك بعد أخلاقي هام فان اهتمام المتكلمين لتفسير معنى العقل يأتي (لتحديد المستوى المعرفي الذي يستأهل الفرد البشري من خلاله أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية، ومن ثمَّ يصلح أن يكون شخصا مكتمل الشخصية وان يخاطب بالتكليف الشرعي الذي تحمله له الرسالة النبوية).(1)

يسرد العلامة الحلي بشيء من التفصيل كيفية تشكل المعقولات لدى النفس، يكتفي البحث بإيراد ما يناسب المقام، فالنفس في بدء فطرتها كانت خالية من جميع العلوم الضرورية والكسبية وهذه النفس من دون شك فيها استعداد وقابلية للعلوم، ومقتضى ذلك أن تفاض عليها العلوم والمعارف من المبدأ العام فور حصول الاستعداد إذ لا بخل في ساحته وإنما التقصير من جهة القابل، وسبب عدم قبول نفوس الأطفال للمعارف في أول أمرها، أن استعدادها لم يكن تاما أول الأمر، فلم يكن الاستعداد المصاحب لها في مبدأ الفطرة كافيا في فيضان المعقولات عليها من مبادئها، ثم يشتد هذا الاستعداد ويزداد بسبب اكتساب النفس للتصورات من العالم الخارجي بواسطة الحواس(2)، وهكذا تنمو المعرفة ويترقى الإدراك شيئا فشيئا حتى تكتمل النفس من الناحية العلمية.

فالقوة النظرية لها مراتب متعددة بحسب تعدد مراتبها في الاستكمال، وتلك المراتب تنقسم إلى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالقوة والى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالفعل والقوة تختلف بحسب الشدة والضعف، فأول تلك المراتب كما يكون للطفل من قوة الكتابة، وأوسطها كما يكون للرجل الأمي المستعد لتعلم الكتابة، وآخرها كما يكون للعالم بالكتابة والقادر عليها الذي لا يكتب لكن له أن يكتب كما يشاء(3).

ص: 157


1- المدن، علي، تطور علم الكلام الإمامي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط1، 1431ه - 2010م، ص364.
2- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف، نهاية المرام في علم الكلام ، ج 2، ص 168-169
3- ينظر: المصدر نفسه، ج 2، ص 57.

وتختلف مراتب الأشخاص في تحصيل القوة النظرية كما وكيفاً، أما بحسب الكم فبكثرة المعلومات النظرية وقلتها وأما بحسب الكيف فبسرعة حصول تلك المعلومات وبطئه فان من الناس من يحصل العلوم الكسبية لشوق بالنسبة إليها يبعثها على حركة فكرية شاقة في طلب تلك المعقولات، وهؤلاء أصحاب الفكر، ومنهم من يظفر بها من غير حركة إما مع شوق ما إليها أو من دون شوق، وهؤلاء أصحاب الحدس وتتكثر مراتب الصنفين ، وصاحب المرتبة الأخيرة ذو النفس القدسية.(1)

ومعارف ومعلومات العقل النظري تشكل الأساس للعقل العملي في بناء أحكامه وتوجهاته، بل أن خصوصية العقل الإنساني هي هذه الحيثية العملية أو التأسيس لما ينبغي وما لا ينبغي فعله، ولذا فالعلامة يذهب إلى أن (الفعل الاختياري الذي يختص بالإنسان لا يتأتى إلا بادراك ما ينبغي أن يعمل في كل باب، وهو إدراك رأي كلي مستنبط من مقدمات كلية أولية، أو تجريبية أو ذائعة، أو ظنية، يحكم بها العقل النظري، ويستعملها العقل العملي في تحصيل ذلك الرأي الكلي من غير أن يختص بجزئي دون غيره والعقل العملي يستعين بالنظري في ذلك، ثم انه ينتقل من ذلك باستعمال مقدمات جزئية أو محسوسة إلى الرائي الجزئي الحاصل فيعمل بحسبه، ويحصل بعمله مقاصده في معاشه ومعاده)(2) ، فإذن العلاقة تكاملية ما بين العقلين النظري والعملي، ابتداءً من الأفكار النظرية العامة، ومن ثم المقدمات النظرية المرتبطة بالأخلاق، وأخيراً الحركة العملية لتطبيق تلك الأفكار على مصاديقها الجزئية.

ثالثاً: حرية الإرادة الإنسانية بوصفها شرط لقيام الأخلاق

الحرية شرط جوهري لتحقق الأخلاق فلا تترتب المسؤولية الأخلاقية على الإنسان ما لم يكن مختارا فيما يصدر عنه من أفعال، ولذا وقف المتكلمون عند

ص: 158


1- ينظر المصدر نفسه، ج 2، ص 57-58 ، والقوة القدسية هي أعلى قوة يمكن أن يتوفر عليها الإنسان وهي من شؤون النبوة، وكان أول من أشار إليها ابن سينا في تنظيراته للنبوة، ينظر، طرابيشي، جورج، وحدة العقل العربي الإسلامي، دار الساقي، ط3، بيروت - لبنان، 2010، ص 278
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 56.

هذا الموضوع، وقفة مطولة، وبأدلة كلامية تعتمد الحسيات والمشهورات في تنظيم حججها، وهو ما يميز المنهج الكلامي من الفلسفي ،البرهاني، والعلامة الحلي وقف عند هذا الموضوع في أكثر من موضع من أعماله، إذ أن للمبحث أهمية خاصة في المسالة الأخلاقية، فالإرادة هي ما يميز الإنسان لان شرط الإرادة كلاميا انضمام الوعي والإدراك إلى الفعل أي هو الفعل المقرون بقصد ، وليس أي فعل اتفق وإنما هو الفعل الذي تترتب عليه مسؤولية عند العقلاء ولا يتحقق الاختيار ما لم تسبقه القدرة على الفعل؛ لذا اقتضى الأمر البدء ببحث موضوع القدرة.

فإذن البحث ذو شقين إثبات القدرة، واثبات حرية الإرادة، فالحرية هي جذر الفعل الأخلاقي، بحيث تنتفي أخلاقية الفعل بانتفاء الحرية، وبحسب التعبير المنطقي تكون سالبة بانتفاء الموضوع، لذا كان لزاما أن نقف عند هذين الشكلين من الحرية المؤسسة للأخلاق.

فيما يرتبط بموضوع القدرة يذكر العلامة الحلي أربعة أقسام للقوة ما يعنينا منها هو القسم الرابع لصلته المباشرة بموضوع الأخلاق فيورد تعريفها على النحو الآتي: (القوة[هي] التي تصدر عنها أفعال مختلفة مع الشعور بتلك الأفعال)(1)، فالفعل لا يقع منها على وتيرة واحدة ومن دون شعور مثل فعل الطبيعة، ولا يقع من الفعل أفعال عدة ومن دون شعور مثل القوة النباتية.

ويشترط عضد الدين الإيجي الإرادة في تحقق القدرة فهي عنده (صفة تؤثر وفق الإرادة)(2) ، وهو بذلك اخرج ما لا يؤثر كالعلم، أو ما يؤثر من دون إرادة مثل الطبيعة، ولكنه في هذا التعريف يقيم علاقة أكثر تلازما ما بين القدرة والإرادة.(3)

وينبه العلامة الحلي إلى المغايرة ما بين القدرة والفعل بعدة أدلة كلامية(4):

ص: 159


1- الحلي الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام ، ج 2، ص 243.
2- الايجي، عبد الرحمن بن احمد المواقف في علم الكلام، عالم الكتب، بيروت (د.ت)، ص150.
3- ينظر، المصدر نفسه.
4- الحلي الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الکلام، ج 2، ص 250-255

منها: أن الكافر مكلف بالإيمان وذلك بإجماع المسلمين، فإما أن تكون القدرة ثابتة عند تكليفه أم لا ، فان كانت القدرة ثابتة حصل المطلوب، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق لان التكليف ثابت حال الكفر والقدرة غير ثابتة.

ومنها: إنما يحتاج إلى القدرة لأجل أن يُخرج القادر الفعل من العدم إلى الوجود، فلو لم توجد إلا حال حدوث الفعل لم تكن هناك حاجة إليها.

ومنها: أن الفرق بين القدرة والعلة هو وجوب الأثر ،وعدمه، فلو وجب الاقتران بین القدرة والفعل لم يبق بين القدرة المؤثرة على سبيل الصحة والإمكان والعلة المؤثرة على سبيل الوجوب تغاير، وهو محال بالضرورة.

ومنها: أن القدرة متعلقة بالضدين الفعل والترك، ولو وجب ملازمتها لأثرها للزم اجتماع ،الضدين، أو أنها ليست قدرة ، أصلا، ولذلك لأسباب منها(1):

1 - إن الضرورة قاضية أن القدرة متعلقة بالضدين فان من قدر على الحركة يمنة قدر عليها يسرة علما أن القدرة واحدة وان القادر على شيء قادر على تركه.

2 - أن معنى القدرة هو وقوع أفعالنا بحسب دواعينا، وانتفائها بحسب صوارفنا أن نوصف بصفة القادرين، وإنما يصح ذلك لصحة تحركنا في سائر

بحيث يصح الجهات وإيقاع مختلف الأفعال.

3 - لو لم تتعلق القدرة بالضدين لزم تكليف ما لا يطاق، والتالي باطل فالمقدم مثله .

کل الأدلة المتقدمة تثبت وجود قدرة متحققة قبل الفعل وبسببها يكون الإنسان مختاراً في أفعاله،وسبب تأكيد هذا التمييز أن بعض متكلمي الأشاعرة استند إلى

مسألة القدرة في إثبات معلولية الأفعال إلى الله تعالى ومن ثم الوقوع في محذور الجبر بحجة أن الإنسان مفتقر في قدرته إلى الله فهو إذن مفتقر في أفعاله إليه تعالى .

وبعد التفكيك ما بين القدرة والفعل يعرج العلامة الحلي على إثبات حرية الفعل

ص: 160


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 261 - 262 .

الانساني و هي عماد الفکرة الاخلاقية،بعد ادلة عقلية و نقلية منها(1):

الأول: إنا نفرق بالضرورة بين أفعالنا الاختيارية والاضطرارية، فانا نفرق بين حركتنا يمنة ويسرة وبين الوقوع من شاهق، ولو كانت الأفعال كلها صادرة عن الله تعالى انتفى الفرق بينهما وهو معلوم البطلان بالضرورة.

الثاني: إن أفعالنا تقع بحسب قصدنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا، فانا إذا أردنا الحركة يمنة أوجدناها كذلك، وإذا أردنا الصعود حصل ذلك وليس النزول، وإذا أردنا الأكل وقع وليس الشرب، وهذه الأحكام ضرورية، ولو كانت الأفعال ليست بإرادتنا وإنما من الله تعالى فإنها قد تقع وان كرهناها ولا تقع وان أردناها.

الثالث: إن الله تعالى قد كلفنا بالقيام ببعض الأفعال والامتناع عن أفعال أخرى، وما كلفنا به إما أن يكون مقدورا لنا أو لا، فان لم يكن مقدورا لنا لزم التكليف بما لا يطاق وهو قبيح عقلا وشرعا وان كان مقدورا ثبت المطلوب.

الرابع: انه يلزم من سلب الاختيار أن يكون الله تعالى اضر على العبد من الشيطان؛ لان الله تعالى لو خلق الكفر في العبد ثم عذبه عليه، كان اضر من الشيطان الذي لا قدرة له على العبد سوى التزيين والوسوسة.(2)

ص: 161


1- الحلي الحسن بن يوسف الرسالة السعدية تحقيق عبد الحسن محمد، دار الصفوة، بيروت لبنان، ط1، 1310ه، ص 65-67، وأيضا تسليك النفس ، تحقيق فاضل رمضاني، مؤسسة الإمام الصادق، قم - إيران، ط1، 196-167 ، وأيضا : كشف المراد، ص423، وأيضا : معارج الفهم تحقيق عبد الحليم عوض، مطبعة نكارش قم - إيران، ط1، 1428ه، ص 408.
2- ويستعرض العلامة الحلي مراحل صدور الفعل الاختياري من مرحلة الإدراك إلى مرحلة التحقق، وهي أربع مراحل حسبما يذكرها وهي: أولها: القوى المدركة، وهذه القوى أما الخيال والوهم في الحيوان، وإما العقل العملي بتوسطهما في الإنسان. ثانيها: قوة الشوق فإنها تنبعث عن القوة المدركة وتتلوها وتنشعب إلى شوق نحو الطلب ينبعث عن إدراك الملائمة للشيء اللذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابقا وتسمى الشهوة، والى شوق نحو دفع وغلبة تنبعث عن إدراك المنافاة في الشيء المكروه أو الضار وتسمى غضبا. وثالثها: العزم ويسميه العلامة «الإجماع» وهو الجزم بعد التردد في الفعل والترك، وهو المسمى بالإرادة والكراهة، وهو مغاير للقوة الشوقية؛ لان كل واحد منهما يوجد من دون صاحبه، فمثلا أن الإنسان في حال مرضه يريد تناول الدواء وهو لا يشتهيه، ويكره تناول الغذاء وهو يشتهيه، وعند وجود هذا الإجماع يرجح احد طرفي الفعل أو الترك على صاحبه. وآخرها: القوة العضلية المنبثة العضلات المحركة للأعضاء، وهي مغايرة لسائر المبادئ السابقة، لان الإنسان قد يشتاق إلى شيء ويعزم عليه وهو غير قادر على تحريك أعضاءه، القادر على التحريك قد لا يشتاق ولا يعزم. ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف نهاية المرام في علم الكلام ، ج 2، ص 268 .

وإذا كانت حرية الإرادة تأسس للأخلاق الإنسانية، فإنها من جهة أخرى تدعم أصلا أخلاقيا في العقيدة هو أصل العدل، وهو الأصل الذي ينزه الله تعالى عن فعل القبيح ومعلوم أن الحسن والقبح مفاهيم أخلاقية يحكم بها العقل -كما سيأتي-، وفرارا من شبهة تحكيم العقل الإنساني في الله وصفاته رفض الأشاعرة سحب أحكامنا الأخلاقية على الله تعالى، وإنما الأخلاق خاضعة لمشيئته فما حسنه يحسن وما قبحه يقبح، فتكون الحيثية الأخلاقية حاضرة بقوة في مبحث العدل والجدل الدائر حوله.

رابعا: المسوغ العقلي للأخلاق (في الحسن والقبح)

موضوع الحسن والقبح من الركائز الهامة في المبحث الأخلاقي، لان الفعل الاختياري الذي يصدر عن الإنسان ضربان فعل للفاعل أن يقوم به وهو الحسن، وآخر للفاعل أن يتركه وهو القبيح، والفعل الحسن هو ما لا يستحق فاعله الذم، بخلاف القبيح الذي يستحق فاعله الذم ، ولهذا ينقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة : الواجب والمباح والمندوب والمكروه، طالما أن كل هذه الأقسام لا يستحق فاعلها ،الذم فالواجب ما يستحق المدح بفعله والذم بتركه والمباح لا مدح فيه على الفعل والترك، والمندوب يمدح صاحبه على فعله ولا يذم على تركه، والمكروه يستحق المدح بتركه ولا يذم على فعله.(1)

وفي الواقع أن العلامة الحلي يبني هنا على احد معان الحسن والقبح، إذ للحسن والقبح ثلاثة معان هي(2):

الأول: أن الحسن صفة كمال كالكرم والشجاعة والعلم والقبح صفة نقص كالبخل والجبن، وكثير من الأخلاق الإنسانية حسنها وقبحها على هذا النحو، فالعدالة والعفة والحياء حسنة بوصفها كمالاً للنفس، والبخل والجبن قبيحة بوصفها نقصاً للنفس، وهما بهذا المعنى يقعان وصفا للأفعال الاختيارية.

ص: 162


1- ينظر: الحلي الحسن بن يوسف الرسالة السعدية، ص53 ، وأيضا : كشف المراد، 418.
2- ينظر ،عليان، د. رشدي محمد عرسان، دليل العقل عند الشيعة الإمامية، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، 2008، ص 129-131

الثاني: الحسن ما يلائم الطبع ويوافق الغرض والقبيح ما ينافر الطبع ويخالف الغرض، مثل الأكل عند الجوع حسن وخلافه الأكل عند الشبع قبيح، أو المنظر الحسن والمنظر القبيح.

الثالث : كون الفعل بحيث يستحق فاعله عليه المدح أو الذم عقلا، فالعدل حسن أي يستحق فاعله المدح عند العقلاء، والظلم قبيح أي يستحق فاعله الذم عند العقلاء. وهذا المعنى الأخير هو محل النزاع بين المتكلمين لذا ركز عليه العلامة الحلي.

ويذهب العلامة الحلي إلى أن الحسن والقبح معان ذاتية لبعض الأفعال فهي بذاتها حسنة أو قبيحة مع غض النظر عن أي دليل خارجي فان (القبائح إنما قبحت لما هي عليه وكذا الواجبات، فان العقلاء متى علموا الظلم أو منع رد الوديعة أوترك شكر المنعم ذموا فاعل ذلك، ومتى علموا رد الوديعة أو شكر النعمة مدحوا فاعله العلة بادروا إلى ذكر الظلم أو منع رد الوديعة أو كفران النعمة... فلولا فإذا طلب منهم علمهم الضروري بالعلم لما بادروا إليها).(1)

ويورد العلامة الحلي أدلة عدة لإثبات الحسن والقبح العقليين وهو رأي المدرسة الإمامية، منها:(2)

الأول: إنكار الحكم الضروري، فان كل عاقل يحكم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، وحسن ردّ الوديعة والإنصاف، وإنقاذ الغرقى وقبح الظلم والتعدي ومن كابر ذلك فقد كابر مقتضى عقله، ولو لم يكونا عقليين، لم تكن هذه الأحكام مركوزة في عقول العقلاء.

الثاني: إنا نعلم بالضرورة أن من من خير شخصا بین أن يصدق ويعطى دينارا، أو يكذب ويعطى دينارا، ولا ضرر عليه فيهما ، فانه يختار الصدق على الكذب بالضرورة ولولا جهة القبح العقلي لما اختار ذلك.

ص: 163


1- الحلي الحسن بن يوسف تسليك النفس، ص 165.
2- الحلي الحسن بن يوسف الرسالة السعدية، ص54.

الثالث: إن منكري الشرائع والأديان كالبراهمة، يحكمون بحسن بعض الأشياء وقبح البعض، ولو كانا شرعيين لما كانا كذلك.

الرابع: إن معرفة الله تعالى واجبة وليس مدرك الوجوب السمع، لان معرفة الإيمان متوقف على معرفة الموجب له وهو الله تعالى فيستحيل معرفة الإيجاب قبل معرفة الموجب، فلو أسندت معرفة الموجب به دار بمعنى آخر لو أن وجوب معرفة الله تعالى بالشرع، ومعرفة الشرع متوقفة على معرفة الله تعالى، لحصل دور فتكون معرفة الله متوقفة على الشرع ومعرفة الشرع متوقفة على معرفة الله، ولذا لابد من أن يكون الوجوب عقلياً.

الخامس(1): انهما لو ثبتا ،شرعا، لم يثبتا لا شرعا ولاعقلا، لانا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله تعالى، فإذا اخبرنا بشيء انه قبيح لم نجزم بقبحه ، وإذا اخبرنا في شيء انه حسن لم نجزم بحسنه، لتجويز الكذب ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وينهانا عن الحسن، لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.

وكان الأشاعرة قد خالفوا الإمامية والمعتزلة في مذهبهم في التحسين والتقبيح وقد تبنوا القول بالحسن والقبح الشرعيين، نافين أن تحمل الأشياء صفات ذاتية يحكم العقل في ضوئها بالحسن والقبح، ومن ثم فهذه الأحكام هي أمور توقيفية يحكم بها الشرع ولا مجال فيها للذوق ولا تحمل قيمها الذاتية، بل أن القيم تتشكل على وفق رأي الشرع توجيهاته ، يقول إمام الحرمين الجويني: (المعني بالحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله والمراد بالقبيح ما ورد في الشرع بذم فاعله)(2)، ولو أن الحسن والقبح أمورا عقليه لما حصل فيها هذا الاختلاف الواسع بل أن مخالفي المعتزلة هم الأكثرية حسب رأي الجويني وفي هذا دلالة على نقض مدعاهم بالمنشأ

ص: 164


1- الحلي، الحسن بن يوسف كشف المراد، ص 418.
2- الجويني ابو المعالي ،الارشاد، مكتبة الخانجي، مصر، 1950، ص258.

العقلي للحكم بالحسن و القبح(1) ، وامتناع صدور القبائح عن الله تعالى ليس من جهة استدلال العقل، بل من جهة انه تعالى نزه نفسه عن القبائح، (فان قال قائل هل يجوز وقوع الكذب منه والأمر به وبسائر المعاصي؟ ، قيل له أما الكذب فلا يجوز عليه لا لأنه يستقبح منه، ولكن لان الوصف له بانه صادق من صفات نفسه).(2)

هذه الأدلة وغيرها يقف منها العلامة الحلي موقفا نقديا مبينا أوجه الخلل في مثل هذا النوع من الاستدلالات، ولا حاجة للخوض في تفاصيل الرد ومن يرغب في الزياد فعليه بكتب العلامة.(3) وما يهمنا هنا رأي العلامة الحلي في إسناد الحسن والقبح إلى العقل وكذلك كل الأحكام الأخلاقية بصورة مباشرة أم غير مباشرة، فمن الأحكام الأخلاقية ما يثبت بدلالة العقول، ومنها ما يثبت بدلالة الشرع الذي لا تثبت له دلالة من دون حكم العقل.

خامساً: التكليف أو الإلزام

موضوع التكليف من المباحث الكلامية الهامة المرتبطة بالبعد الأخلاقي، لأنه من الممهدات للمسؤولية فلا مسؤولية من دون تكليف أو إلزام، والإلزام يكون من سلطة عليا تأمر وتنهى أي تلزم الأفراد الذين عليهم هم بدورهم أن يأتمروا ويلتزموا بهذه التوصيات(4) ، إن التكاليف العامة في الفقه هي الواجبات والمحرمات، والتكاليف المعمقة هي المستحبات والمكروهات، وهي التي تربي الفرد في خطوة أعلى من مجرد الالتزام بما هو إلزامي في الشريعة، فتكون المستحبات والمكروهات الفقهية هي أحكاما أخلاقية بطبيعتها(5)، فمحور كل من التكليف الفقهي والأخلاقي هو فعل الإنسان.(6)

ص: 165


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 260.
2- الباقلاني أبو بكر محمد بن ،الطيب التمهيد المكتبة الشرقية، بيروت، 1957 ، ص 343
3- ينظر : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 418 وما بعدها وأيضا تسليك النفس، ص163، ونهج الحق وكشف الصدق، ص 83 وما بعدها.
4- ينظر : مغنية محمد جواد فلسفة الأخلاق في الإسلام، نشرة بيك فدك، ط1، (د.ت)، ص57.
5- ينظر: الصدر ، محمد صادق، فقه الأخلاق، دار البصائر، بيروت - لبنان 2012م 1433 ه، ج 1، ص 20.
6- ينظر الحسيني، إبراهيم الفقه والأخلاق، ضمن كتاب العقلانية والأخلاق في المنظور الإسلامي، كتاب المنهاج مركز الغدير بيروت - لبنان، ط 1 ، 2010م 1431 ه، ص 407.

وخطاب الشريعة بالأساس متوجه إلى الإنسان، فلا وجود للحكم الشرعي إذا لم يكن هناك مكلف(1)، وتوجيه التكليف إلى الإنسان ينطوي على تشريف لكون هذا التكليف يكشف عن أهلية الآدمي لتحمل الأمانة الإلهية.

فالتعاليم الإلهية تجمع بين الأحكام الفقهية والأصول الأخلاقية؛ لأن التفرقة بين هذين الجانبين فيه إبطال لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين، سبب انحطاط المسلمين الاقتصار على أجساد الأحكام الشرعية وظواهرها والأعراض عن روحها وجوهرها.(2)

ويعرف العلامة الحلي التكليف بأنه (بعث من يجب طاعته على ما فيه مشقة على جهة الابتداء بشرط الإعلام)(3) ، فمفهوم التكليف يقتضي وجود جهة واجبة الطاعة تدفع باتجاه العمل ولأنها واجبة الطاعة فان الإنسان يكون مسؤولا أمامها، وهذا الدفع يتعلق بأمور فيها مشقة وكلفة ومنها سمي تكليفاً، ولابد من أن يكون المكلف عالما بأمر التكليف وإلا بطل عن كونه تكليفا.

والتكليف وان جاء عند المتكلمين في سياق أوامر الشارع، إلا انه في نفسه أوسع دائرة ، ولذا لم يقرن في التعريف بالشرع وإنما بالوجوب، ومعلوم أن عنوان الوجوب أوسع من حصره في الوجوب الشرعي، وسوف ترد بعض القرائن على ذلك .

فقد وضع العلامة الحلي الأفعال المشمولة بعنوان التكليف ضمن دائرة الأفعال الأخلاقية، يقول: (أما التكليف فانه طلب لمكارم الأخلاق التي يستحق بها المدح والتعظيم، وليس إلجاء إلى الفعل)(4) ، والسبب في أن التكليف لا يجوز فيه إلجاء

ص: 166


1- ينظر: البغا د. مصطفى ديب، الجوانب التربوية في أصول الفقه الإسلامي، عالم الكتب الحديثة، ط1، 2006، عمان - الأردن، ص 291
2- ينظر الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت لبنان، ط1، 1417ه- 1997 - . ج 2، ص 239.
3- الحلي الحسن بن يوسف مناهج اليقين في أصول الدين ص319، ومعارج الفهم في شرح النظم، ص415 وتسليك النفس، ص 172.
4- الحلي، الحسن بن يوسف مناهج اليقين في أصول الدين تحقيق، قسم الكلام والفلسفة في مجمع البحوث الإسلامية، ط2، 1430ه، ص 321.

وإكراه لان (ما يضطر إليه الغير ففعله لا تأثير له في استحقاق الثواب).(1)

وفلسفة التكليف قريبة من فلسفة وضع القوانين إلا إنها تزيد عليها في أن للتكليف أبعادا تربوية وليست وظيفته الاجتماع على المصالح ودرأ المفاسد فقط مثلما الحال في القانون، وهذا ما يعطي التكليف صبغة أخلاقية أكثر مما هي عليه في القانون.

ينطلق العلامة تبعا لأستاذه الطوسي في بيان فلسفة التكليف من كون الإنسان مدني بالطبع، فهو لا يمكن له البقاء ولا يستطيع تحصيل كمالاته إلا بالتعاون، لان توفير غذائه ومستلزماته وأكثرها صناعية يقتضي الاجتماع والتعاون فيما بينهم، ولكن المشكلة أن الناس متفاوتون في أمزجتهم وقواهم وشهواتهم مما يؤدي إلى النزاع ووقوع الفساد فيما بينهم، لذا توجب وضع قانون وسنة عادل يحتكمون إليها فيما بينهم، وهذا القانون لا يمكن أن يضعوه هم لأنه سوف تتطرق إليه نفس المفاسد المحذورة من تحكيم أهوائهم وأمزجتهم ووقوع الخلاف فيما بينهم، وإنما لابد من أن تضعه جهة مهابة وتلزمهم بالطاعة والانقياد وهذا ما يقع على أيدي الأنبياء المؤيدين بالمعاجز إذ يبشرون بشرائع إلهية يجر الالتزام بها إلى منافع ثلاث: إحداها رياضة النفس لأنها تحث على الإمساك عن الشهوات وضبط القوة العقلية الثانية: تعويد الإنسان النظر في العلوم العالية ورفع نظره من الأرض إلى السماء والتفكر في الله وملكوته والمعاد الثالث : تذكيرهم بمنافع الانقياد للتكليف وأضرار التخلف عنه من ثواب و عقاب(2).

ونظرا للعلاقة القوية ما بين التكليف والأخلاق، نجد أن شروطهما متقاربة جدا، فمن هذه الشروط التي يوردها العلامة في مؤلفاته هي:

- أن يكون المكلف عاقلا(3).

ص: 167


1- ينظر المصدر نفسه.
2- الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 440.
3- الحلي، الحسن بن يوسف، نهج الحق وكشف الصدق، منشورات دار الهجرة قم - ايران ط4، 1414ه-، ص 135.

- وان يفهم الخطاب فلا يصح تكليف من لا يفهم الخطاب.(1)

- وإمكان الفعل إلى المكلف فلا يصح تعلق التكليف بالمحال.(2)

- وان يكون التكليف سابقا على الفعل.(3)

- وان يكون المكلف قادرا في نفسه ومتمكنا من الآلة التي يحتاج إليها في فعله.(4)

- وان يكون الفعل ما يستحق عليه الثواب وإلا لزم العبث والظلم.(5)

- وان لا يكون الفعل حراما.(6)

فإذن صلة التكليف بالأخلاق عند العلامة الحلي يمكن إرجاعه إلى سببين:

الأول: أن الأحكام الشرعية هي أحكام ذات صبغة أخلاقية واضحة.

والثاني: للتنبيه على أن دائرة الوجوب تشمل ماهو أوسع من الوجوب الشرعي، مثل وجوب المحافظة على النظام أو حتى الوجوب الذي يمليه المجتمع نتيجة أعراف معينة، ففي جميع الموجبة هذه الأحوال يكون الإنسان مأمورا ومكلفا أمام الجهة وإلا تعرض إلى العقاب كل بحسبه.

الخاتمة

يعد العلامة الحلي احد كبار المنظرين الموسوعيين في ثقافتنا الإسلامية، وكان للأخلاق حضور في أغلب مساحة اشتغاله، إلا انه لم يحظ بالأهمية التي يستحقها من قبل الباحثين فيما يرتبط بالجانب الأخلاقي في فكره، وقد تصدى هذا البحث

ص: 168


1- ينظر المصدر نفسه.
2- ينظر المصدر نفسه.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 133
4- الحلي الحسن بن يوسف مناهج اليقين في أصول الدين، ص324.
5- الحلي الحسن بن يوسف نهج الحق وكشف الصدق، ص 136.
6- ينظر: المصدر نفسه، ص 137.

لتسليط حزمة ضوء على جهوده الكلامية وحاول استخلاص مفاهيما وأبعادا أخلاقية ثاوية فيها .

البعد الحاضر الغائب في العلوم الإنسانية والإسلامية على وجه الخصوص، فكل بحث يلامس الإنسان هو يلامس الأخلاق بالضرورة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وعلم الكلام الإسلامي بوصفه من العلوم الأصيلة في ثقافتنا الإسلامية، نجده ينطوي على الكثير من المباحث الأخلاقية الهامة.

إن البحث في الأسس النفسية والعقلية للفعل الأخلاقي، وكيفية تدرج الأخلاق من الفكرة إلى السلوك، وبحث حرية الإنسان كشرط أساس لتحقق أخلاقية الفعل، وقابلية العقل مستقلا في الحكم على الحسن والقبح، فضلا عن فكرة الإلزام والتكاليف في موضوع الأخلاق، كلها مسائل هامة في الدراسات الأخلاقية المعاصرة، وقد عرض لها البحث من زاوية قراءة النصوص الكلامية للعلامة الحلي، محاولا استخراج الثاوي في جوانبها وتوظيفها للفكر الأخلاقي، بعد أن وظف اغلبها لغايات عقدية كلامية .

كشف البحث عن التداخل في العلوم الإسلامية، فالمباحث الفلسفية والكلامية والأصولية والأخلاقية لا يمكن فصلها في وحدات مستقلة معزولة عن بعضها، وإنما تتداخل فيما بينها في المباني والمقدمات، فبعض المطالب الأخلاقية تدخل فيها مباني كلامية والعكس صحيح أيضا، ونفس الأمر يقال في بقية فروع المعرفة الإسلامية الأخرى.

ص: 169

آراء الخواجة نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق

بقلم: د. قاسم بور حسن(1)

الخلاصة:

تعريب حسن علي مطر

يذهب أكثر الباحثين والمؤرّخين في الغرب إلى الاعتقاد بأن العقلية الإسلامية قد توقفت عند ابن رشد، بمعنى أنهم يعتبرونه آخر الفلاسفة الذين يمثلون الفلسفة في التاريخ العقلي للحضارة الإسلامية. ومن هنا ندرك أنهم لم يبذلوا الاهتمام الكافي بالتراث العقلي الشيعي. وعلى الرغم من التشيّع كان هو العنصر القوي - وربما كان الطريق الوحيد إلى بلوغ العقلية الإسلامية في الحكمة والعلوم - إلا أنه قد تم تجاهله . وقد أدى هذا التجاهل والغفلة إلى تفشي نوع من الفقر النظري والانحطاط الفكري في المرحلة التي أعقبت عام 615 للهجرة. تسعى هذه المقالة إلى بيان ضعف وهشاشة الرأي القائل بانتهاء العقلية الإسلامية وعدم استمرارها إلى ما بعد عصر ابن رشد، وتعمل على إظهار دور نصير الدين الطوسي في إنعاش الحياة العقلية في بعد علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق في القرن السابع للهجرة تبرز جهود الخواجة نصير الدين الطوسي في الفلسفة والأخلاق في مرحلة الانحطاط. تثبت الدراسات العلمية أن نصير الدين الطوسي قد لعب دوراً كبيراً في ظهور المدارس الفلسفية والعقلية الثلاثة في كل من شيراز وأصفهان وطهران. ويُعدّ كتابه (الأخلاق الناصرية)(2)أوّل وأهم كتاب له في علم الأخلاق. إذ ألف (الأخلاق الناصرية) بوصفه أثراً أصيلاً ومستقلاً

ص: 170


1- أستاذ مساعد في قسم الفلسفة من جامعة العلامة الطباطبائي.
2- عنوان الكتاب في الأصل الفارسي (أخلاق ناصري) نسبة إلى الحاكم الإسماعيلي (ناصر الدين عبد الرحيم)، وقد ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور محمد صادق فضل الله وأبقى على عنوانه الفارسي كما هو، ولكننا آثرنا تعريب العنوان في نص هذه المقالة رعاية للذائقة العربية، مع الإبقاء على العنوان الفارسي عند الإحالة إليه في الهوامش المعرب

- بحسب تعبيره - في تهذيب الأخلاق الخاصة في حقل تدبير المنزل والسياسة. يتناول هذا الكتاب دراسة ثلاثة أبحاث جوهرية، وهي (علم النفس)، و(الفضائل والسعادة)، و(العدالة).

يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاعتقاد بأن السعادة تمثل موضوع وغاية الأخلاق ومن هنا فقد دفعت به هذه الغاية إلى تخصيص مساحة كبيرة من كتابه للبحث والتنقيب في مفهوم السعادة، وكمال ونقصان النفس، وأعمال الخير، وبناء النفس. كما أن نقده لأرسطو وابن رشد فيما يتعلق بأصناف الفضائل وأنواع الرذائل - على أساس التعاليم القرآنية - جدير بالاهتمام ويحظى بأهمية بالغة.

الكلمات المفتاحية:

1 - نصير الدين الطوسي . 2 - الأخلاق. 3 - الفضائل . 4 - السعادة. 5 - العدالة.

1 - المقدمة

يحظى اهتمام نصير الدين الطوسي بموضوع وعلم الأخلاق - في مرحلة عدم الاستقرار الذي اقترن بانهيار الأنظمة السياسية وزوال وانحطاط الحياة العقلية - بأهمية خاصة حيث يقوم إحياء وإعادة صياغة التراث الأخلاقي والاهتمام الجوهري بالسعادة المعنوية في مرحلة الزوال على كاهل شخصية وفكر نصير الدين الطوسي. يُعدّ الشيخ الطوسي من بين المفكرين الكبار في العالم الإسلامي الذين لم يتم تناول مكانتهم بالشكل الذي يستحقونه أو كما ينبغي. والجزء البسيط الذي ناله من البحث يقتصر على تراثه العلمي الأعم من الرياضيات وعلم الهيئة والنجوم وبنائه لمرصد مراغة الفلكي. بيد أنه قد تم تجاهل مكانته العقلية والأخلاقية، وأخذ ابن رشد (520-559) الآثار التي تؤرّخ للفلسفة الإسلامية يُعرف بوصفه خاتم الأفكار في جميع الفلسفية. قال (هنري كوربان) في كتابه القيّم (تاريخ الفلسفة الإسلامية):

(إن القوم - كما أعربنا عن أسفنا لذلك آنفاً - قد درجوا على النقل والترديد بأن ابن رشد) كان أبرز اسم وأبرع ممثل لما يُسمّى ب__(الفلسفة العربية)، وأن هذه الفلسفة بلغت

ص: 171

معه ذروتها ثم انقضى أمرها عندما قضى الرجل. ولقد غرب عن بالهم - والأمر كذلك ما كان يحدث في الشرق، حيث مرّت مؤلفات ابن رشد دون أثر ملحوظ. فلا دار في خلد (نصير الطوسي) أو (ميرداماد) أو (هادي السبزواي) ما تعلقه تواريخ الفلسفة عندنا من أهمية ومعنى على ذلك النقاش الجدلي الذي دار بين الغزالي وابن رشد. بل إننا إذا ما أوضحنا لهم ذلك، لأثار الأمر دهشتهم، كما يثير دهشة خلفهم اليوم).(1)

لقد تجلت أكبر جهود الخواجة نصير الدين الطوسي حتى ما قبل عام 645 للهجرة حيث اجتياح واستباحة وتدمير قلعة ألموت بعد بنائها بقرنين - التي كانت تمثل معلماً مذهلاً لأتباع المذهب الإسماعيلي - حيث تمحورت حول حقلي الأخلاق والفلسفة. وهما الحقلان العلميان اللذان زعم نصير الدين الطوسي أن جميع معالمهما كانت على مشارف الانهيار بفعل الهجمات الوحشية والمباغتة للجيوش المغولية الجارفة. إن الدفاع العقلاني لنصير الدين الطوسي وردّه لشبهات الإمام الفخر الرازي، والتهافت الفلسفي لحجة الإسلام الغزالي، يعكس السهم الأوفر لنصير الدين الطوسي في إعادة الحياة العقلية لعصر الزوال والانهيار على أفضل وجه. إن إعادة قراءة الآثار الأخلاقية الضخمة وتهذيب الأثر الخالد (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، لأحمد بن محمد بن يعقوب الملقب ب__(ابن مسکویه) (330 - 421 ه) يمثل نموذجاً لاهتمام الشيخ نصير الدين الطوسي بتوسيع رقعة الحياة المعنوية وإقامتها على دعائم العقل وركائز الأخلاق في مرحلة الانحطاط.

وقال حمد الله المستوفي(2) (لا شك في أن الخراب الذي حدث بفعل ظهور المغول، والقتل الذريع الذي أحدثوه في تلك الفترة، لن يمكن تداركه - إذا لم تحدث - حادثة أخرى - حتى على مدى ألف عام)(3)

ص: 172


1- هنري ،كوربان تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 370
2- حمد الله المستوفي (682 - 750 ه) : حمد الله بن أتابك، وقيل: أبو بكر بن حمد بن نصر القزويني المستوفي، :وقيل: اسمه أحمد ولقبه حمد الله جغرافي ورحالة وموسوعي وأديب فارسي. ولد بقزوين. وكان ينسب نفسه إلى الحر بن يزيد الرياحي له كتاب (نزهة القلوب) فى الجغرافيا الطبيعية والبشرية للعالم الإسلامي
3- حمد الله المستوفي، نزهة القلوب ص 27. (مصدر فارسي).

هناك كثير مما قيل حول شخصية نصير الدين الطوسي ودوره في الإحياء في عصر هجوم المغول ومرحلة الضياع والدمار. إن الشيخ نصير الدين الطوسي يعد من وجهة نظر (إيفانوف) شخصية موسوعية (جامعة للمعارف)، وقد وصفه (أفنان) بأنه أجدر من شرح آثار ابن سينا في إيران. وبفضل تصحيح وشرح الشيخ نصير الدين الطوسي للترجمات الإغريقية للرياضيات والنجوم وما إلى ذلك، لا يمكن لشخص أن لا يتأثر بفنونه المذهلة(1).

إن الذي نرمي إلى بيانه في هذه المقالة هو مجرد آراء نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق فقط. وذلك فى إطار هذين السؤالين:

1 - ما هي دوافع اهتمام الشيخ نصير الدين الطوسي بالأخلاق في مرحلة الانحطاط والانهيار؟

2 - هل كانت آراء الشيخ نصير الدين الطوسي فيما يتعلق بأسس علم الأخلاق تقوم على مجرّد الترجمة والتهذيب أم تأسيس علم في هذا الحقل؟

2 - دوافع الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاهتمام بتدوين الأخلاق

إن المصادر الخاصة بتوثيق سيرة الشيخ نصير الدين الطوسي لا تشتمل على تقرير دقيق يسلط الضوء على حياته وذهابه إلى قلاع الإسماعيلية. والذي نعرفه على نحو أكيد هو أنه كان حتى عام 617 للهجرة مقيماً في نيسابور، وبفعل الحصار الذي أطبق على هذه المدينة اضطرّ إلى اللجوء إلى قلعة قهستان الإسماعيلية في مواجهة هجوم المغول. وقد صرّح الخواجة نصير الدين الطوسي بنفسه في المقدمة الملحقة بكتاب (الأخلاق الناصرية) - الذي ألفه بعد التحرر من قلعة ألموت سنة 654 للهجرة - فيما يتعلق بالأسباب التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب القيم، قائلاً:

(إن تحرير هذا الكتاب - الموسوم ب__(الأخلاق الناصرية) - قد اتفق في وقت

ص: 173


1- محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 806 - 807 (مصدر فارسي)

اضطرني فيه تقلب الدهر إلى الجلاء عن الوطن - ولم يترك لي خياراً آخر - غير التسليم ليد التقدير التي دفعتني إلى الإقامة في قهستان).(1)

لقد رام الحاكم الإسماعيلي في قهستان (ناصر الدین عبد الرحيم) - بالنظر إلى ما يتمتع به الشيخ نصير الدين الطوسي من الإمكانات والقدرات العلمية في مختلف الحقول، ومن بينها علم النفس والأخلاق - أن يترجم كتاب (تهذيب الأخلاق) لأبي علي بن مسكويه، إلى اللغة الفارسية.

وقد عمد الشيخ الطوسي إلى تلبية هذا الطلب في بادئ الأمر، بيد أنه في مستهل ترجمة النصوص العربية من كتاب (تهذيب الأخلاق) إلى اللغة الفارسية طرأ عليه التردد. ومن هنا صار بصدد تأليف كتاب مستقل في هذا الحقل. وقد أشار الشيخ الطوسي بنفسه مقدمة (الأخلاق الناصرية) إلى أوجه هذا التردد. وكان أول تلك في الوجوه هو الخشية من (الخدش في أصل كتاب ابن مسكويه وتحريفه)، ومن هنا رجحت عنده كفّة التأليف المستقل على الترجمة والوجه الثاني هو نقص الأقسام المرتبط بتدبير المنزل والفلسفة السياسية (2).

ومن هنا نجد في كتاب (الأخلاق الناصرية) فصلاً مسهباً ومشبعاً في حقل تدبير المنزل، وباباً مفرداً خاصاً بالسياسة. إن الكلام المتقدم يثبت أن السبب الأول من هذين السببين يعود إلى دواع خارجية، والثاني إلى دواع داخلية هي التي دفعت بالشيخ الطوسي إلى تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية) بشكل خاص، وموضوع الأخلاق بشكل مطلق. أما السبب الخارجي فهو طلب الإسماعيلية وشخص (ناصر الدين) الحاكم الإسماعيلي لقهستان. وإذا أردنا الإجمال أمكن لنا القول: إن الهاجس الذي حمل الشيخ الطوسي على تأليف هذا الكتاب وتدوين هذا الدستور أو المنهج (أو الاستبيان بعبارة عصرية)، يعود إلى النزاع بين الفاطميين وبني العباس في بغداد. فإن الفاطميين بعد أن استقرّ بهم المقام في مصر وشيّدوا الجامع الأزهر، رفعوا لواء

ص: 174


1- نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 34.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 36

الخلافة. إن الجهود الزاخرة والواسعة من قبل الخلافة الرامية إلى تدوين (الأحكام السلطانية) لأبي يعلى الماوردي، و(سير الملوك) للخواجة نظام، وتأسيس جامعات النظامية في كافة أنحاء الإمبراطورية وأقاليم الخلافة في النصف الثاني من القرن الخامس للهجرة، وكذلك تأليف (نصائح الملوك) للماوردي والغزالي، و(المستظهر) للغزالي، إنما تأتي في هذا السياق. وبعد انهيار الدولة الفاطمية في مصر، واصل الإسماعيليون في إيران - حيث كان أكثرهم من المتخرجين من جامعة الأزهر مباشرة أو بواسطة - هذا النهج. ومن هنا يأتي دستور تدوين كتاب (الأخلاق الناصرية)، وكذلك مطالبة ناصر الدين المحتشم بترجمة كتاب (زبدة الحقائق) لعين القضاة الهمداني، ومن ثمَّ تصنيف (الرسالة المعنية) باسم معين الدين نجل ناصر الدين، كاستمرار لهذا المنهج في كتابة الدساتير من أجل دعم وتعزيز أركان الحكومة الإسماعيلية، وإعداد الأرضية الأيديولوجية لنظامهم السياسي في مواجهة الخلافة في بغداد (وحتى المغول) (1). وأما السبب الداخلي فيجب البحث عنه في التحولات الاجتماعية والمنعطفات الفكرية، وانحطاط القواعد الأخلاقية في ذلك العصر. إن الشيخ الطوسي الذي كان قد شهد يوماً ما جامعة نيسابور والعلوم المتداولة فيها من قبيل: الحكمة والطب والهيئة والنجوم والأخلاق والرياضيات والحديث والتفسير والأدب وشاهد بأم عينه مقتل أستاذ الحكمة والطب (قطب الدين المصري) سنة 618 للهجرة أثناء الإبادة الجماعية التي تعرّض لها أهالي نيسابور، ورؤيته لتدمير العلم والثقافة، وهو أمر حمله على السعي إلى إنقاذ العلم من ورطة الفناء مستغلاً بذلك الموقع الاستراتيجي لقلعة قهستان، حيث أقام قواعد متينة في الحكمة والأخلاق.(2)

3 - (الأخلاق الناصرية)، كتاب أصيل

لم يكن هناك فيلسوف أو مفكر في حقل العقل يرى نفسه في غنى عن تدوين وتأليف أثر أخلاقي. فها هو سقراط في حواره مع (ترازيماخوس) يؤكد على هذه النقطة الهامة، إذ يعد السياسة والحكومة - في تقسيمه للأنظمة السياسية - فرعاً من

ص: 175


1- انظر: السيد جواد الطباطبائي، در آمدي بر تاريخ انديشه سياسي در ايران، ص 10 - 19. (مصدر فارسي).
2- انظر : حنا الفاخوري، تاریخ فلسفه در جهان اسلام ص 270 - 282 (مصدر فارسي)

الأخلاق، مستعملاً في ذلك مصطلح الدولة الصالحة والدولة الطالحة. ومنذ ذلك الحين أصبح تقديم الأطروحات الأخلاقية المستقلة على سلّم أولويات الفلاسفة ولا سيما منهم الذين يهتمون بنوع السياسة المدوّنة بشكل خاص - في إقامة بنيتهم الفلسفية. كما أن كتاب علم الأخلاق إلى نيقوماخوس) لأرسطو يعكس أهمية علم الأخلاق في تدوين الأفكار والآراء العقلية في هذا الشأن. وعلى كل حال يجب أن نبحث عن اهتمام نصير الدين الطوسي بالأخلاق وتأكيده على تدوين أثر أصيل ومستقل في كلتا الناحيتين: (السياسية والفلسفية). وإن كل تحقيق في كتاب (الأخلاق الناصرية) لا يؤخذ فيه الأهمية الكبيرة لهاتين الناحيتين بنظر الاعتبار سيكون عبارة عن تحقيق غير منجز ولا مكتمل الأطراف. ربما أمكن اعتبار أبي نصر الفارابي في الربط بين هذه الحقول الثلاثة داخل الحضارة الإسلامية هو المؤسس. لقد سعى نصير الدين الطوسي في البداية أن يعمل على تدوين دعائم محكمة في علم الأخلاق، ثم يعمل بعد ذلك على بيان ارتباطها بسائر الحقول العلمية الأخرى.

1 - لقد ألف الخواجة نصير الدين الطوسي كتابين في الأخلاق، أحدهما : (الأخلاق الناصرية) الذي كتبه سنة 633 للهجرة(1) . والآخر : (أوصاف الأشراف) في بيان أخلاق الصوفية. وقد جاء في مقدمة كتاب الأخلاق (الناصرية في معرض البحث عن سيرة الخواجة نصير الدين الطوسي: إذا كان تاريخ 633 للهجرة - سنة تأليف هذا الكتاب - صحيحاً، سيكون هذا الكتاب من أقدم مؤلفاته التي وصلت إلينا. والمقدمة الأخرى التي كتبها نصير الدين الطوسي لهذا الكتاب، بعد عام 654 للهجرة، وبعد تحرره من قلعة ألموت (أي بعد تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية) بواحد وعشرين سنة)، تؤيد كتابة هذا الأثر في مرحلة إقامته في قلعة قهستان في قائن، إذ يقول:

(أما بعد، فيقول محرر هذه المقالة ومؤلف هذه الرسالة، أحقر العباد محمد بن الحسن الطوسي المعروف ب__(النصير): إن تحرير هذا الكتاب - الموسوم ب__(الأخلاق

ص: 176


1- انظر: علي دواني، مفاخر إسلام ص 105 (مصدرفارسي). وقد جاء في هذا الكتاب أن الخواجة نصير الدين قد ألف هذا الكتاب ما بين عامي 630 - 636 للهجرة، وهو عبارة عن ترجمة لكتاب (تهذيب الأخلاق طهارة الأعراق) لابن مسكويه، مع إضافات من الخواجة نصير الدين الطوسي.

الناصرية) - قد اتفق في وقت اضطرني فيه تقلب الدهر إلى الجلاء عن الوطن - ولم يترك لي خياراً آخر - غير التسليم ليد التقدير التي دفعتني إلى الإقامة في قهستان، وبما أنني هناك - للسبب الذي تقدم ذكره في صدر الكتاب - قد بدأت بهذا التأليف ...).(1)

تمّ تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية) في ثلاث مقالات وثلاثين فصلاً. المقالة الأولى في تهذيب الأخلاق، وهي تشتمل على قسمين، القسم الأول: في المبادئ، حيث تشتمل على سبعة فصول والقسم الثاني في المقاصد، حيث تشتمل على عشرة فصول. أما المقالة الثانية : فهي في تدبير المنزل ضمن خمسة فصول. والمقالة الثالثة : في السياسة المدوّنة، إذ تشتمل على ثمانية فصول. لقد أكد الخواجة نصير الدين الطوسي - مثل ابن مسكويه - على الارتباط بين علم النفس وعلم الأخلاق، حيث بحث أكثر من عشرة مسائل في هذين العلمين ضمن القسم الأول، وهي مسائل من قبيل : معرفة النفس الإنسانية، وكمال ونقصان النفس والخير والسعادة وحد وحقيقة الخلق، وتهذيب الأخلاق، وفضائل الأخلاق ومكارمها، وفي شرف العدالة والسعادة ومراتبها .

وعلى الرغم من التبويب المختلف عن (تهذيب الأخلاق) لأبي علي بن مسكويه، إلا أن عمدة تأملات الخواجة نصير الدين الطوسي تدور حول تدور حول محور ثلاثة مفاهيم ، وهي: الحكمة والشجاعة والعفة؛ لتؤدي بأجمعها إلى الفضيلة الرابعة المتمثلة في التوازن والتناغم بين هذه الفضائل الثلاثة(2). إن السعادة القصوى عند الخواجة نصير الدين الطوسي تمثل الغاية الجوهرية في الأخلاق، حيث تتعين مع مقام الإنسان في التكامل الكوني، ويكتب لها التحقق من خلال التأسي بالنظم والتبعية لها.(3)

2 - لا يمكن التحقيق في كيفية اكتساب الفضائل وبلوغ الكمال والسعادة، دون بحث (النفس الإنسانية). ومن هنا فقد أفرد الخواجة نصير الدين الطوسي للحديث

ص: 177


1- نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 17
2- انظر: أبو علي الرازي، المعروف ب__(ابن مسكويه)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 18 - 21
3- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 808 (مصدر فارسي).

عن النفس الإنسانية ستة فصول من الفصول السبعة من القسم الأول من المقالة الأولى. ومما قاله في الفصل الأول :

(لذلك فإن موضوع هذا العلم الأخلاق] هو النفس الإنسانية من جهة الأفعال الحسنة والمحمودة أو القبيحة والمذمومة التي يمكن إن تصدر عنها بإرادتها. وحيث يكون الأمر كذلك يجب أن نعلم ما هي النفس الإنسانية، وما هي غايتها وكمالها وقواها التي إذا استعملها على وجهها المطلوب بلغت به إلى الكمال والسعادة المنشودة).(1)

وبعد هذه المقدمة انتقل الخواجة نصير الدين الطوسي إلى بحث البساطة والجوهرية ،والتجرد، مؤكداً بقاء النفس الناطقة بعد مغادرتها للجسد. ثم ذكر للنفس الحيوانية ،قوتين وهما القوّة الإدراكية الآلية والقوة التحريكية الإرادية، ثم عدد ثلاث قوى للإنسان، وهي كالآتي:

القوّة الأولى : قوّة إدراك المعقولات والتمييز بين مصالح ومفاسد الأعمال، وهي أطلق عليها تسمية (القوّة الناطقة).

القوة الثانية: القوّة الشهودية التي هي مبدأ دفع الأضرار، والإقدام على الأهوال، والشوق إلى التسلط والترفّع.

وقد أرجع الخواجة نصير الدين الطوسي هذه القوى الثلاث إلى ثلاث أنفس. وهي النفس الأولى (النفس الملكية)، والنفس الثانية (النفس السبعية)، والنفس الثالثة والأخيرة (النفس البهيمية). ومن خلال شرحه للمقالة المتقدمة يلفت الخواجة نصير الدين الطوسي الانتباه إلى مراتب صعود الكائنات ولا سيما منها الإنسان، ويرى أن العبور من النقصان إلى الكمال بواسطة أدوات وقوى النفس الناطقة يستوجب الحصول على الفضيلة وزيادة الشرف. وقد بلغ الخواجة نصير الدين الطوسي بالمراتب إلى كسب العلوم والمعارف وصولاً إلى الوحي والإلهام، ويكتب في ذلك قائلاً:

ص: 178


1- نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري ص 48

(ومنهم الذين يتلقون - بالوحي والإلهام - معرفة الحقائق والأحكام عن المقربين من الحضرة الإلهية من دون توسط الأجسام... وهذه هي نهاية مدارج النوع الإنساني. ويكون التفاوت في هذا النوع أكثر من التفاوت في أنواع الحيوانات... وعندما نصل إلى هذه الدرجة من اتحاد الموجودات ، يكون ذلك ابتداء الاتصال بالعالم الأشرف والوصول إلى مراتب الملائكة المقدّسين، والعقول والنفوس المجرّدة، حتى تصل في النهاية إلى مقام الوحدة).(1)

يقيم الخواجة نصير الدين الطوسي في هذا البيان ارتباطاً بين الكمال الإنساني والعامل السماوي، في حين أن مفهوم الكمال والسعادة الغائية - في نظر أرسطو - يخلو من العامل السماوي، ولا يُشير إلى موقع الإنسان من الكون. وأما ابن مسكويه فنراه فيما يتعلق ببحث السعادة والكمال يقتفي أثر أرسطو في آرائه ويذهب إلى الاعتقاد بأن الكمال والسعادة لا يمكن تحصيلهما من دون صحة وسعادة الجسد.(2)

وبعد تقسيمه الكمال الإنساني إلى نوعين وهما: (القوة العلمية)، و (القوة العملية) وتحرير الأول بالشوق إلى إدراك المعارف واكتساب العلوم والإحاطة بالموجودات والاطلاع على حقائقها بحسب الاستطاعة حتى تصل في نهاية المطاف إلى عالم التوحيد بل ومقام الاتحاد، وتعريف القوّة العلمية بترتيب وتنظيم القوى وأفعالها الخاصة بحيث تتوافق وتتطابق فيما بينها، يضيف الخواجة نصير الدين الطوسي أن الكمال الأول هو بمنزلة الصورة، والكمال الثاني بمنزلة المادة.(3)

ونطالع هذا التقسيم في كتاب (تهذيب الأخلاق) أيضاً، حيث يقوم أبو علي بن مسكويه بتقسيم الكمال الإنساني إلى نوعين وهما الكمال النظري، والكمال العملي، ويقول : من طريق الكمال الأول يتم الوصول إلى العلم الكامل، ومن طريق الكمال الثاني يتم الوصول إلى الأخلاق الكاملة.(4)

ص: 179


1- المصدر أعلاه، ص 3 - 63.
2- انظر: أبو علي الرازي، المعروف ب__(ابن مسكويه)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 47 - 51 .
3- انظر: نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري ص 69 - 70.
4- انظر: أبو علي الرازي، المعروف ب__(ابن مسكويه)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 46 - 48 .

هناك تقسيمان في كلا الكتابين يميزان بين آراء الخواجة نصير الدين الطوسي وأبي علي ابن مسكويه. إذ يذهب الخواجة إلى اعتبار الاتحاد مع العالم ومقام التوحيد يمثل الكمال الغائي والعلمي، وهذا الرأي يتناسب مع رؤيته الكونية والسماوية. أما أبو علي ابن مسكويه فهو بسبب تأثره بآراء أرسطو في كتابه (الأخلاق إلى نيقو ماخوس)، لا يبدي اهتماماً كبيراً بالعامل السماوي. وهذا الاختلاف يظهر - بشكل ما - التمايز بين كتاب (الأخلاق الناصرية) و(تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) فيما يتعلق بمسألة الكمال.

3 - إن من بين أهم الأبحاث في كتابي (الأخلاق الناصرية) و(تهذيب الأخلاق)، دراسة مفهومي الخير والسعادة. فقد عرّف (ابن مسكويه) السعادة - تبعاً لأرسطو - بأنها الشيء الذي تسعى جميع الأشياء نحوه. وقد جاء هذا التعريف للخير في بداية كتاب (علم الأخلاق إلى نيقوما خوس) ل__(أرسطو) أيضاً . يقول ابن مسكويه : إن الذي ينفع في الوصول إلى هذه الغاية من الممكن أن يكون خيراً، بمعنى أن الوسيلة قد تكون خيراً مثل الغاية، أما السعادة أو الرفاه فهي من الخير النسبي، فهي خير لشخص ،واحد، وهذا نوع من أنواع الخير، وليس له ماهية متميّزة ومستقلة(1).

من الواضح أن هذه النظرية تخالف آراء الفلاسفة المسلمين قبل (ابن مسكويه). إن الفارابي الذي ألف كثير من الكتب في موضوع الأخلاق، قد ذهب - على غرار أفلاطون - إلى الاعتقاد بأن الغاية الرئيسة من الأخلاق هي الوصول إلى السعادة. وقد أظهر الفارابي في كتابه (رسالة في التنبيه على سبل السعادة) توجهاً مغايراً ل__(ابن مسكويه)، ومن الواضح أن الخواجة نصير الدين الطوسي قد اقتبس آراءه في الأخلاق من (المعلم الثاني)؛ إذ يقول أبو نصر الفارابي: إن السعادة هي الهدف الأخير الذي يصبو إليه الإنسان، وإن الذي يوصله إليه هو الخير وغاية الكمال، وإن السعادة هي منتهى الخيرات. وكلما أجهد المرء نفسه في الوصول إلى ذلك الخير، كانت سعادته أقرب إلى الكمال(2).

ص: 180


1- انظر: میر محمد ،شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 675. (مصدر فارسي).
2- انظر: حنا الفاخوري تاريخ فلسفه در جهان ،إسلام ص 432 (مصدر فارسي)

قال الخواجة نصير الدين الطوسي في الفصل السابع من القسم الأول من المقالة الأولى من كتاب (الأخلاق الناصرية): إن الخير على نوعين، أحدهما مطلق، والآخر مضاف. والخير المطلق هو المعنى المقصود من وجود الكائنات، وهو غاية جميع الغايات، أما الخير المضاف فهو عبارة عن الأمور النافعة في الوصول إلى تلك الغاية. وأما السعادة فهي من قبيل الخير، ولكن فضلا عن كل شخص. فسعادة كل شخص هي غير سعادة الشخص الآخر، في حين أن الخير عند جميع الأشخاص واحد(1). إن هذه العبارة من الخواجة نصير الدين الطوسي تبدو للوهلة الأولى متناغمة مع رؤية (ابن مسكويه)، بيد أن هذه العبارة لا تمثل وجهة النظر الحقيقية للخواجة نصير الدين الطوسي؛ إذ يصرّح بأن هذا ما قاله الحكماء المتقدمون وأرسطوطاليس في هذا الشأن. أما الخواجة نصير الدين الطوسي فإنه يؤكد - مثل الفارابي - على أن الخير التام هو الذي يُسمّى سعادة، وعليه فإن السعادة هبة وعطاء منه سبحانه وتعالى في أشرف المنازل وأعلى مراتب الخير (2). يقول الخواجة نصير الدين الطوسي بعد بيان معنى الخير وانقسامه إلى قسمين وهما قسم الغايات وغير الغايات وتقسيم الغايات إلى تامة وغير تامة، وتسمية الخير التام بالسعادة: إن السعادة غاية جوهرية ونهائية، وحيث تحصل لا يصبو صاحبها نحو المزيد. ثم يدخل بعد ذلك في بيان السعادة وآلياتها، ويقول: إن السعادة تشتمل على أربعة أجناس، وهي أجناس الفضائل ،الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة.(3)

إن هذه الفضائل الأربعة هي ذات الفضائل الأفلاطونية التي تنشأ من القوى الثلاث، وهي: العقل أو النفس، والغضب، والشهوة. وقد قسم ابن مسكويه هذه الفضائل على التوالي إلى سبعة، وأحد عشر، واثني عشر، وتسعة عشر نوعاً. وقد ارتضى الخواجة نصير الدين الطوسي بوضوح هذه الرأي من ابن مسكويه في (الأخلاق الناصرية)، بيد أنه يدخل عليه بعض التغييرات. حيث قام أولاً بخفض

ص: 181


1- انظر: نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 81.
2- انظر: المصدر أعلاه ص 84-83
3- انظر: المصدر أعلاه

أنواع العدالة من تسعة عشر إلى اثني عشر نوعاً. وعمد ثانياً إلى تمييز النفس بالعقل النظري والعقل العملي والغضب والشهوة وقام ثالثاً - وخلافاً لابن مسكويه - باستنباط العدالة من العقل العملي، واعتبر التفضل - في نهاية المطاف - أسمى من العدالة، واعتبر المحبة - بوصفها المصدر الطبيعي للاتحاد - أسمى من التفضل .(1)

لقد تم بيان هذا الرأي من الخواجة نصير الدين الطوسي بالنظر إلى آراء الفارابي في كتابيه الأخلاقيين القيمين وهما : (تحصيل السعادة)، و (التنبيه على سبيل السعادة). فقد اعد الفارابي الفضيلة في (تحصيل السعادة) مبدأ الخير والعدالة والسعادة، وقال ما معناه : (هناك أربعة أمور إن وجدت في المجتمع، حصل الناس على السعادة في الدارين، وهذه الأمور الأربعة هي: الفضائل النظرية والفضائل الفكرية، والفضائل الأخلاقية، والفضائل العلمية) .(2)

لقد أشار الخواجة نصير الدين الطوسي في بحث السعادة إلى قسمين من السعادة، وهما: السعادة الحقيقية والسعادة غير الحقيقية، وهو اقتباس تام لتقسيم الفارابي. فقد كتب الفارابي في كتاب (الملة): إن السعادة على قسمين، أحدهما السعادة الحقيقية وهي المطلوبة لذاتها، وتكون جميع الأمور والخيرات بحكم الوسائل بالنسبة لها، وهي السعادة القصوى والقسم الآخر هو ما يراه الجمهور يراه الجمهور سعادة فى حين أنه في الحقيقة ليس من السعادة(3).

يقول الخواجة نصير الدين الطوسي: إن سعادة الإنسان - بما هو إنسان - في إحدى مرتبتين في المرتبة الأولى لا يخلص من شائبة الآلام والحسرات.. وعليه تكون هذه السعادة ناقصة في الحقيقة وتكون السعادة التامة لأصحاب المرتبة الثانية الذين يكونون أبداً خالين من هذه الآلام والحسرات مستنيرين بالأنوار الإلهية، وبفيض الآثار .اللامتناهية. وكل من يصل إلى تلك المنزل يكون قد وصل إلى نهاية مدارج السعادة(4).

ص: 182


1- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام، ص 808
2- حنا الفاخوري تاريخ فلسفه در جهان ،إسلام ص 432 (مصدر فارسي).
3- انظر رضا داوري فارابي، ص 164.
4- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 88 - 89

يؤكد مجموع ما جاء في كتاب (الأخلاق الناصرية) على أن الفضائل تنقسم إلى أربعة أقسام، وهي على النحو الآتي:

القسم الأول: الحكمة، وهي تحصل من تهذيب القوة النظرية.

القسم الثاني: العدالة، وهي تحصل من تهذيب القوّة العملية.

القسم الثالث : الشجاعة، وهي تحصل من تهذيب القوّة الغضبية .

القسم الرابع: العفة، وهي تحصل من تهذيب القوة الشهوية.

لو أن الخواجة نصير الدين الطوسي قد اكتفى بهذا الأمر، أمكن لنا أن نعتبر أخلاقه تمثل نوعاً من الأخلاق السياسية، حاله في ذلك حال الفارابي. بيد أنه لا يكتفي بذلك، ونراه في الفصل الرابع من القسم الأول يعمل على تشريح الأنواع الواقعة تحت أجناس الفضائل، حيث يتبع مساراً أخلاقياً تماماً، ومن هنا يجب علينا اعتبار کتاب (الأخلاق الناصرية) من الناحية الخارجية كتاباً سياسياً، ومن الناحية الذاتية كتاباً أخلاقياً - حكمياً.

وفي الفصل الرابع من القسم الأول من المقالة الأولى، يبحث الخواجة نصير الدين الطوسي - مثل ابن مسكويه - على نحو الإجمال في أنواع أجناس الفضائل، وهو بحث ضروري لفهم آراء الخواجة نصير الدين ، حول موضوع الرذيلة.

يعدد الخواجة نصير الدين الطوسي تحت جنس الحكمة سبعة أنواع من الحكمة، وهي كالآتي: 1 - الذكاء . 2 - سرعة الفهم. 3 - صفاء الذهن. 4 - سهولة التعلم. 5 - حسن التعقل . 6 - التحفظ . 7 - التذكر .

أما الأنواع التي تكون تحت جنس الشجاعة، فهي أحد عشر نوعاً، ويمكن بيانها على النحو الآتي: 1 - كبر النفس. 2 - النجدة (الثقة بالنفس). 3 - علو الهمة. 4 - الثبات (قوّة مقاومة الآلام بالنسبة إلى النفس) . 5 - الحلم. 6 - سكون النفس (وعدم الطيش) . 7 - الشهامة. 8 - التحمّل (التوظيف الكامل لأدوات الجسم في اكتساب

ص: 183

الأمور المحمودة). 9 - التواضع . 10 - الحمية (عدم التهاون في حفظ الأمة). 11 - الرقة (تأثر النفس من مشاهدة الآلام التي يعاني منها الجنس البشري).

أما الأنواع الواقعة تحت جنس العفّة، فهي إثني عشر نوعاً، نبينها على النحو الآتي: 1 - الحياء . 2 - الرفق (انقياد النفس) . 3 - حسن الهدي (رغبة النفس في تحصيل كمالها والتحلي بالمزايا المحمودة). 4 - المسالمة (مجاملة النفس). 5 - الدّعة (سكون النفس في وقت تحرك الشهوة) . 6 - الصبر . 7 - القناعة . 8 - الوقار . 9 - الورع . 10 - الانتظام (تقدير الأمور وترتيبها بحسب المصالح). 11 - الحرية. 12 - السخاء.

ومن ثم فإن الخواجة نصير الدين الطوسي - خلافاً لابن مسكويه الذي عدد تسعة عشر نوعاً للعدالة - يختزل أنواع العدالة باثني عشر نوعاً، وهي: 1 - الصداقة. 2 - الإلفة. 3 - الوفاء. 4 - الشفقة. 5 - صلة الأرحام. 6 - المكافأة. 7 - حسن الشركة. 8 - حسن القضاء. 9 - التودّد (مودة أهل الفضل) . 10 - التسليم. 11 - التوكل. 12 - العبادة.

يرى الخواجة نصير الدين الطوسي أن موجبات السعادة للنفس الإنسانية تكمن في تحصيل الفضائل الأربعة والأقسام الواقعة تحت كل واحد منها(1). إن السعيد هو الذي تتصف ذاته بجميع هذه الأنواع والصفات. وبطبيعة الحال فإن جنس الحكمة وأنواعها يرتبط بالقوة النظرية ، وإن الأجناس الثلاثة وهي: الشجاعة والعفة والعدالة فتتعلق بالجسد والقوة العملية. يذكر الخواجة نصير الدين الطوسي بحثين كتتمة لمباحث الأخلاق وموضوع الفضائل، سوف نتناولهما في العنوانين الآتيين.

4 - يختص الفصل الخامس من القسم الأول من كتاب (الأخلاق الناصرية) بأضداد أجناس الفضائل أي الرذائل. يقدّم الخواجة نصير الدين الطوسي متأثراً بالتعاليم القرآنية رأياً مختلفاً عن ابن مسكويه وأرسطو اللذين قدما أهم بحث في هذا الحقل، وبذلك يقدم طرحاً جديداً في هذا الشأن يذهب أرسطو إلى الاعتقاد

ص: 184


1- انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 112 - 117.

بأن الرذيلة تمثل عدولاً عن الفضيلة سواء في جانب الإفراط أو في جانب التفريط . كما عدّ الإسراف إفراطاً في الحرية معتبراً إياه عيباً إيجابياً. وبعد أن ذكر ابن مسكويه ثمانية أنواع للرذيلة، وهي: السفه والبلاهة، والتهوّر والجبن والشره والخمود، والجور والمهانة - تبعاً لأرسطو - قال إن هذه الأمور من الانحراف عن الفضائل تمثل انحرافاً كمياً(1) . وبالالتفات إلى آيات القرآن الكريم، يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي - بعد بيان الأصول الأخلاقية العامة للاعتدال - إلى اعتبار الرذيلة مرضاً أخلاقياً. قال تعالى في سورة البقرة :

- «خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً».(2)

- «في قُلُوبهمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا».(3)

وجاء في كتاب (الأخلاق الناصرية) اعتبار المرض على أنه انحراف النفس من السلامة والاعتدال، ولم يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى اعتبار هذا الانحراف خلافاً لأرسطو وابن مسكويه - مجرد انحراف كمي، بل ذهب إلى اعتباره انحرافاً كيفياً ومعنوياً أيضاً، وأطلق عليه اسم (الرداءة). ومن هنا فإنه يعزو الأمراض الأخلاقية إلى ثلاثة أسباب وهي: 1- الإفراط . 2 - التفريط . 3 - رداءة العقل والغضب والشهوة.(4)

يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي - في بادئ النظر - إلى القول بأن أضداد الفضائل على أربعة أنواع، وهي الجهل الذي هو ضد الحكمة، والجبن الذي هو ضد الشجاعة، والشره الذي هو ضدّ العفة، والجور الذي هو ضد العدالة. أما بحسب النظر المستقصي والبحث المستوفي، فلكل فضيلة الحد الذي عندما يتم تجاوزه (سواء من حيث الغلو أو من حيث التقصير)، فإنه يؤدي إلى الرذيلة. بناء على هذا تكون كل فضيلة بمثابة ،وسط وتكون الرذائل خارجها بمنزلة الأطراف كالمركز

ص: 185


1- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 809 (مصدر فارسي).
2- البقرة: 7.
3- البقرة: 10
4- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 809 (مصدر فارسي).

والدائرة. إن للفضيلة حدّ يكون في غاية البعد عن الرذائل، وإن الانحراف الذي يقع عن ذلك الحد في أي جهة وجانب موجب للاقتراب من الرذيلة. وهذا هو مراد الحكماء من قولهم : إن الفضيلة هي في الوسط، والرذائل على الأطراف. يقول الخواجة نصير الدين الطوسي فمن هذا الوجه إذن يكون مقابل كل فضيلة رذائل لا متناهية؛ إذ الوسط محدود، والأطراف غير محدودة .(1)

وقبل أن ينتقل الخواجة نصير الدين الطوسي إلى تعداد أقسام الرذائل الثمانية، يشير إلى نقطة أخلاقية - حكمية في غاية الأهمية، إذ يذهب إلى الاعتقاد قائلاً: إن الفضيلة مثل الخط المستقيم، وارتكاب الرذائل كالانحراف عن ذلك الخط. ثم إن الخط المستقيم لا يكون أكثر من واحد، وأما الخطوط غير المستقيمة فيمكن لها أن تكون لامتناهية، ولذلك لا يمكن تصور الاستقامة في سلوك طريق الفضيلة إلا على نهج واحد، ويكون الانحراف عن ذلك النهج غير محدود، ومن هنا تكمن الصعوبة التي تقع في التزام طريق الفضائل . ثم عاد الخواجة نصير الدين الطوسي بعد ذلك إلى الاستشهاد بالدين مشيراً إلى ما جاء في بعض الشرائع من أن (صراط الله تعالى أدق من الشعرة وأحد من السيف)(2). وبعد بيان هذه النقطة الدقيقة التي تمثل الأساس لفهم الفضيلة والرذيلة يرى أن جانبي الإفراط والتفريط يؤديان إلى ظهور نوعين من الرذيلة بإزاء كل فضيلة ويذهب إلى الاعتقاد بأن الفضيلة تقع في الوسط، وإن تينك الرذيلتين تقعان في طرفيها. ومن هنا يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى اعتبار أنواع الرذائل ثمانية، وهي : السفه والبله في (الانحراف عن الحكمة)، والتهوّر والجبن (بإزاء الشجاعة)، والشره وخمود الشهوة (في طرفي العفّة)، والظلم والانظلام (في قبال العدالة)(3). إن الخواجة نصير الدين الطوسي من خلال توظيفه لنظرية ثلاثية أسباب مرض النفس، يقسم الأمراض الأساسية للعقل النظري على شكل الحيرة، والجهل البسيط، والجهل المركب. حيث لا نشاهد هذا التقسيم في آثار أبي علي ابن مسكويه

ص: 186


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 117 - 118.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 118
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 119

في تهذيب الأخلاق. يذهب الخواجة نصير الدين إلى القول بأن الحيرة معلولة لعجز النفس عن تمييز الحق من الباطل، وعلاجها يكمن في تبيان المتضادتين، إذ يكون الأمر من قبيل مانعة الجمع، بمعنى أن الشخص المتحير يدرك بأن القضية الصادقة لا يمكن أن تكون كاذبة والقضية الكاذبة لا يمكن أن تكون صادقة. والجهل البسيط هو عدم علم الفرد بالموضوع، من دون أن يتصور علمه. وهذا النوع من الجهل يمثل الشرط الأول لتحصيل العلم وعلاجه هو إفهام الحقيقة للمريض.

أما الجهل المركب فهو عدم علم المرء بالموضوع، مقروناً بتصور أنه يعلمه، بمعنى أن الشخص رغم جهله لا يعلم أنه جاهل. ويرى الخواجة نصير الدين الطوسي أن هذا النوع من المرض لا يرجى علاجه .(1)

وفي كتاب (الأخلاق الناصرية) فضلا عن الأبحاث التفصيلية، تمت الإشارة أيضاً إلى أصناف اللواحق السبعة وأسباب الغضب السبعة أيضاً، كما تم - تبعاً لابن مسكويه - ذكر رذائل من قبيل الحزن والحسد والغبطة والخوف (من الموت)، والإفراط في الشهوة، والإفراط في المحبّة، والتفريط في المحبة، ويخضعها للبحث والاهتمام بوصفها من الأمراض النفسية البارزة.

5 - العدالة تمثل أكثر الأبحاث الأخلاقية تفصيلاً في هذا الكتاب القيّم الذي كتبه الخواجة نصير الدين الطوسي. يمثل بحث العدالة واسطة عقد مسائل التفكير السياسي، كما ورد في كتاب (السياسة) لأرسطو(2). ويتجلى ذلك على نحو جذري في كتاب (علم الأخلاق إلى نيقوماخوس). هناك من الباحثين من يعتقد أن الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب قد أقامت قاعدة ثابتة ل__(العدالة) بحيث شكلت أهم الأبحاث في باب العدالة حتى بداية المرحلة المعاصرة، وإن كل واحد من كبار الفلاسفة الإسلاميين بدءاً من أبي نصر الفارابي إلى الخواجة

ص: 187


1- انظر: میر محمد شریف تاریخ فلسفه در اسلام ص 809 - 810. (مصدر فارسي).
2- Aristotle. (1282). La Politique. 10sq.

نصير الدين الطوسي قد وقع تحت تأثير أفكاره في موضوع العدالة .(1)

إن الخواجة نصير الدين الطوسي - خلافاً لأصحاب التنظير في الشأن السياسي في العصر الذهبي - لا يبحث العدالة في ضمن حقل السياسة، وإنما قام ببحثها في إطار الأخلاق، مرجحاً لها على سائر الفضائل الأخلاقية الثلاثة الأخرى.

إذ يصرّح قائلاً: ليست هناك فضيلة أشرف من العدالة. ليس هناك من بين الفضائل ما هو أكمل من فضيلة العدالة فكل ما يتم بيانه في علم الأخلاق فإن العدالة تمثل الوسط الحقيقي له، وتعدّ المرجع لكل ما عداها مما يقع في أطرافها. إن العدالة من قبيل الوحدة التي تستوجب الثبات، وتمثل قوام الكائنات، وتقتضي الشرف والكمال. يؤكد الخواجة نصير الدين الطوسي على أن واضع العدالة - في الحقيقة - هو الناموس الإلهي. وقد أشار - تبعاً لآراء أرسطو - إلى ثلاثة عناصر، قائلاً: إن حفظ العدالة بين الخلق لا تكون إلا عند توفر هذه العناصر الثلاثة وهي: الناموس الإلهي، والحاكم الإنساني، والدينار. قال الخواجة نصير الدين الطوسي : في كتاب (نيقوماخيا): إن الناموس الأكبر هو من عند الله، والحاكم ناموس ثان من قبل الناموس الأكبر، والدينار ناموس ثالث .(2)كما يذهب إلى الاعتقاد بأن هذا المعنى هو المراد بعينه في قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ»(3) . ثم يلتفت الخواجة نصير الدين الطوسي إلى معنى العدل ويربط عمارة الدنيا بالعدل المدني، ويربط خرابها بالجور المدني، وينقل الأنواع المتضادة للعدل عن أرسطاطاليس ويضيف قائلاً: الجائر على ثلاثة أنواع، النوع الأول: الجائر الأعظم، وهو الشخص الذي لا ينقاد للناموس الإلهي. والنوع الثاني الجائر الأوسط، وهو الشخص الذي لا يطيع الحاكم. والنوع الثالث: الجائر الأصغر والفساد الذي يحصل عن جور هذه المرتبة هو

ص: 188


1- انظر: السيد جواد الطباطبائي، در آمدي بر تاریخ اندیشه سياسي در ايران ص 58. (مصدر فارسي).
2- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 134 .
3- الحديد: 25

الغصب ونهب الأموال وأنواع السرقة والخيانة. بيد أن الفساد الذي يأتي من الجور الأول فهو أعظم من هذا الفساد.(1)

إن الذي كتبه الخواجة نصير الدين الطوسي في فصل العدالة مبعثر ومبسوط وغير متناغم. وإن فهم آرائه لن يكون يسيراً إلا من خلال العمل على تبويبه، ومن هنا نضطر إلى بيان التبويب الآتي:

أ - إن العدالة هيئة نفسانية؛ إذ تعد بثلاثة أوجه الوجه الأول: مع ذات تلك الهيئة، والوجه الثاني: بالاعتبار مع ذات صاحب الهيئة، والوجه الثالث: باعتبار الشخص الذي توافق معه المعاملة بتلك الهيئة وبناء على هذا تسمى ملكة نفسانية بالاعتبار الأول،وفضيلة نفسانية بالاعتبار الثاني، وعدالة بالاعتبار الثالث.(2)

ب - العدالة على ثلاثة أقسام القسم الأول ما يجب أن يقوم الناس به من حق الحق تعالى الذي هو واهب الخيرات ومفيض الكرامات.. وتقتضي العدالة كذلك أن يسلك العبد أفضل الطرق.. والقسم الثاني: ما يجب أن يقوم الإنسان به من حقوق أبناء الجنس، وأداء الأمانات والإنصاف في المعاملات. والقسم الثالث: ما يجب القيام به من أداء حقوق الأسلاف.(3)

ج - قال أفلاطون الإلهي: عندما تحصل العدالة يشرق نور قوي من أجزاء النفس على بعضها البعض ؛ إذ إن العدالة تستلزم كل الفضائل وحينئذ تستطيع النفس أداء فعلها الخاص على أفضل وجه ممكن ، وهذه الحالة هي منتهى قرب النفس الإنسانية من الله سبحانه وتعالى .(4)

د - إن العدالة مستجمعة للفضائل، وهي المرتبة الوسط. إن توسط العدالة ليس كتوسط الفضائل الأخرى من جهة أن الجور هو من كلا طرفي العدالة، ولا يوجد

ص: 189


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، ص 135.
2- المصدر أعلاه، ص 147.
3- المصدر أعلاه، ص 137 - 138.
4- المصدر أعلاه، ص 143

للرذيلة أية فضيلة من الطرفين وبيانه أن الجور يطلب الزيادة والنقصان معاً.. فالعدالة هي عامة وشاملة لجميع الاعتدالات.(1)

ه - إن العدالة ليست جزءاً من الفضيلة، بل هي الفضيلة كلها، وإن الجور - الذي هو ضد العدالة - ليس جزءاً من الرذيلة، بل هو الرذيلة كلها .(2)

إن منحنى التبويب أعلاه لحدّ وتعريف العدالة إلى بيان غايتها ودائرتها يثبت بوضوح أن مدخل الخواجة نصير الدين الطوسي إلى العدالة يختلف عن آراء أرسطو وابن مسكويه، ويميل في الغالب إلى آراء أفلاطون في الأخلاق. وعلى الرغم من أن الخواجة نصير الدين الطوسي قد ألف هذا الكتاب بطلب من الحاكم الإسماعيلي بوصفه دستوراً للعمل، بيد أن المقالة الأولى من (الأخلاق الناصرية) قد كتبت بتوجه مختلف عن مقالة تدبير المنزل وسياسة المدن إن التأملات المحورية الفلسفية - الكلامية للخواجة نصير الدين الطوسي في النظرة الاستقلالية إلى الحقول الثلاثة المتقدمة قد أدت به في كتاب (الأخلاق الناصرية) إلى التفكير في الأخلاق على نحو ما كان يفكر في كتابه (أوصاف الأشراف).

6 - تمثل السعادة ومراتبها البحث الأخير من المقالة الأولى في (الأخلاق الناصرية)، وقد سبق للخواجة نصير الدين الطوسي أن تحدث في الفصول السبعة من القسم الأول من المقالة الأولى بالتفصيل عن السعادة وكمال النفس الإنسانية ومعرفة النفس الناطقة، وعدّ تحصيل السعادة والخير الإنساني هو الغرض الجوهري في حياة الإنسان، وعدّها - على غرار الفارابي - غاية بالذات وكمالاً نهائياً. وبعد تأكيده على اکتسابية الفضيلة والسعادة وعدم كون الإنسان مفطوراً عليها، اهتم بمسألة ضرورة التعلّم والخوض في تربية النفس منذ الطفولة، ومن خلال تقديم نموذج لمسار التعليم، قال: إن أول ما يجب على المتعلم أن يقوم به هو الخوض في فن يعمل على صيانة الذهن من الضلال ويهديه إلى طريق اقتباس المعارف، ثم ينتقل بعد ذلك

ص: 190


1- المصدر أعلاه، ص 145-143
2- المصدر أعلاه، ص 136.

إلى الفن الذي يساعده على تذوق اليقين، حتى تغدو ملازمته للحق ملكة، وبعد ذلك يجب أن يقصر البحث على معرفة أعيان الموجودات وكشف حقائقها وأحوالها.. وعندما يصل إلى هذه المرتبة يكون قد فرغ من تهذيب هذه القوى الثلاث وعندما يراعي بعد ذلك هذه الدقائق يكون قد صار إنساناً بالفعل، ويستحق عنوان الحكمة وصفة الفضيلة .(1)

وفي القسم الأخير من البحث يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاعتقاد بأن السعادات على ثلاثة أنواع وهي السعادات النفسية، والسعادات البدنية، والسعادات المدنية. وقد عدد ترتيب مدارج السعادات النفسية على النحو الآتي:

الأول: علم تهذيب الأخلاق والثاني : علم المنطق والثالث: العلم الرياضي،والرابع العلم الطبيعي والخامس: العلم الإلهي.

وأما السعادة البدنية فهي العلوم التي تعود لنظام حال البدن، من قبيل: علم الطب وعلم النجوم.

وأما السعادة المدنية فهي العلوم التي تتعلق بتنظيم شؤون الأمة والدولة، وأمور المعاش والمجتمعات من قبيل: علوم الشريعة من الفقه والكلام والأخبار وعلوم الظاهر كالأدب والبلاغة والنحو والحساب والمساحة والاستيفاء.(2)

4 - النتائج

قام كثير من الباحثين بختم تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية بابن رشد، وبذلك فقد غفلوا عن النتائج العقلية في دائرة الفكر الشيعي. وحيث كان العالم الشيعي بعد القرن السابع للهجرة قد أصبح معقلاً للنشاط العقلي الإسلامي ولا سيما في حقل الحكمة، فقد أدّت هذه الغفلة إلى ظهور نظرية خاطئة مفادها أن العالم الإسلامي بعد عام 615 للهجرة أخذ يتجه نحو الأفول والانحطاط التام،

ص: 191


1- المصدر أعلاه، ص 153 - 154.
2- المصدر أعلاه، ص 154

حتى تحقق الاضمحلال الكامل للعالم الإسلامي في حقبة الخواجة نصير الدين الطوسي حيث يذهب هؤلاء إلى اعتبار اهتمام الخواجة نصير الدين الطوسي(1)

بتأليف كتاب (أوصاف الأشراف)، وانشغاله في الحكمة العملية ببسط مساحة الأخلاق وتصفية (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه دليلاً على مرحلة الانحطاط (2). إن التحقيق والبحث في هذا الشأن يشير إلى أن تبلور المدارس الثلاث في الحكمة في كل من شيراز وأصفهان وطهران التي قامت على أساس النزعة العقلية قد قامت على أساس المنهج العقلي الذي صدع به الخواجة نصير الدين الطوسي في مرحلة الظلام والضياع. إن المؤسسين لمدرسة شيراز إنما كانوا قد اكتفوا بشرح تراث الخواجة نصير الدين الطوسي، حتى صارت تأملاته وحكمته الذوقية وتتبعه في الأخلاق أساساً ثابتاً في مرحلة أصفهان. ثم إن الآثار الأخلاقية للخواجة نصير الدين الطوسي، من قبيل: (الأخلاق الناصرية)، تعود إلى المرحلة الأولى من حياته عندما كان له من العمر ما بين ثلاثين وستة وثلاثين سنة، وأما عندما بلغ شتاء العمر واقترب من خريفه، فقد اقتصرت مؤلفاته على شرح وتأليف الأفكار الفلسفية وحتى السياسية. لقد ذكر الخواجة نصير الدين الطوسي أن إحدى الأسباب التي دعته إلى تأليف كتاب (الأخلاق الناصرية)، وإحجامه عن الاكتفاء بترجمة (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه هي غفلة أبي علي ابن مسكويه في كتابه عن قسمين هامين وهما تدبير المنزل وسياسة المدن، وقال بأن هناك جوانب هامة من الحكمة العملية تمّت الغفلة عنها في (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، ومن هنا يعد كتاب (الأخلاق الناصرية) أثراً أصيلاً ومستقلاً للخواجة نصير الدين الطوسي.

إن كتاب (الأخلاق الناصرية) يتناول بالبحث ثلاث مسائل جوهرية، وهي معرفة النفس الناطقة، والفضائل والسعادة، والعدالة. إن اهتمام الخواجة نصير الدين الطوسي

ص: 192


1- انظر: السيد جواد الطباطبائي، در آمدي بر تاریخ اندیشه سياسي در ايران ص 223. (مصدر فارسي).
2- وبطبيعة الحال يجب في الوقت نفسه عدم غض الطرف عن جهود بعض المستشرقين، من أمثال: (غوبينو)، و (دونالدسن)، و (براون) في فهم التراث الشيعي. كما أن ل__(هنري كوربان) - من خلال تحقيقاته الواسعة والعميقة في العوالم العقلية الشيعية - دوراً كبيراً في التعريف بالتراث الشيعي الزاخر والغني. وللمزيد من الاطلاع انظر كتاب (زوال اندیشه سیاسي در ايران) لمؤلفه السيد جواد الطباطبائي.

بجزئيات وتفاصيل كل موضوع، وتعداد أنواع وأصناف كل واحد منها يعكس إحاطته وتضلعه بهذا العلم. يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى الاعتقاد بأن الموضوع والغاية الرئيسة لعلم الأخلاق هي تحقيق السعادة، وقد أدى هذا التصوّر به إلى تخصيص جميع القسم الأول ونصف القسم الثاني من المقالة الأولى ببحث السعادة والكمال والنقصان الإنساني والخير والسعادة ومعرفة النفس الإنسانية. إن نقد الخواجة نصير الدين الطوسي لأرسطو وابن مسكويه في تعداد أجناس الفضائل وانقسامها وكذلك بيانه العميق للرذيلة وأنواعها استناداً إلى التعاليم القرآنية، جدير بالاهتمام. إن ترجيح الخواجة نصير الدين الطوسي للفضيلة على العدالة واعتباره المحبّة بوصفها مصدراً طبيعياً للاتحاد، وترجيحها على الفضيلة، ومن ثم فإن تدوين النظريات الثلاثة في علية أمراض النفس وربطها بالأمراض المزمنة التي تصيب العقل النظري، وتقديم الأسلوب والمنهج النظري في علاج هذه الأمراض بملاحظة التعاليم الحكمية، تعد من جملة الإبداعات الفلسفية للخواجة نصير الدين الطوسي في علم الأخلاق.

يذهب الخواجة نصير الدين الطوسي إلى اعتبار المدينة الفاضلة والمجتمع الإنساني أساساً طبيعياً للحياة الأخلاقية؛ لأنه - على غرار الفارابي - يرى - كمال السعادة في التعاون والتكافل والتربية الوجودية بين أفراد البشر. لقد قامت الأصول الأساسية للنظرية الأخلاقية التي صدع بها الخواجة نصير الدين الطوسي على المحبة والصداقة، وهي النظرية التي نشاهد فيها طرح العلاقات القائمة بين الفرد والمجتمع بوضوح. يصبّ جهد الخواجة نصير الدين الطوسي في التدوين العقلاني لعلم الأخلاق وتعليمه على الأساس العقلي. إن التعليم والتأديب الذي يشكل أساساً لاكتساب الفضائل الأربعة في فلسفة أبي نصر الفارابي(1) ، ينعكس في نظرية الخواجة نصير الدين الطوسي أيضاً. إن الخواجة نصير الدين الطوسي من كبار علماء الإسلام الذين عاشوا في عصر الانحطاط والأفول، وهو أمر أسدل فيه الستار دونهم وحال دون اكتشاف قدرهم ومنزلتهم، وأدى ذلك إلى الغفلة عنهم، وعدم إعطاؤهم المكانة التي

ص: 193


1- انظر رضا ،داوري فارابي، ص 152 - 163 (مصدر فارسي).

يستحقونها.(1) وعلى الرغم من التأثير العميق للآثار المنطقية والفلسفية والأخلاقية للخواجة نصير الدين الطوسي على المفكرين المسلمين في القرون اللاحقة، لا يزال هناك سبب صوري ومانع ذهني يحول دون التعرّف عليه بالشكل المطلوب.

المصادر:

القرآن الكريم.

1 - إبراهيمي ديناني غلام حسين (1379ه ش) از خواجه نصير الدين الطوسي تا جلال الدين دواني، ماجراي فکر فلسفی در جهان اسلام طهران انتشارات طرح نو، ط 2.

2 - الفاخوري حنا خليل 1358ه ش)، تاریخ فلسفه در جهان اسلام کتاب زمان، ج 2، ط 2.

3 - داوري رضا (1374 ه ش)، فارابي، طهران، انتشارات طرح نو، ط 1.

4 - دواني علي (1378 ه ش)، مفاخر إسلام طهران مرکز اسناد انقلاب إسلامي، ج 2، ص 2

5 - الرازي أبو علي المعروف ب_(ابن مسكويه) (1329ه / 1911م)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق مصر.

6 - مير محمد شريف (1362 ه ش) تاریخ فلسفه در اسلام طهران مرکز نشر دانشگاهي، ج 1.

7 - الطباطبائي، سيد جواد 1374ه- ش) در آمدي بر تاریخ اندیشه سیاسي در ايران، طهران، انتشارات کویر.

8 - الطباطبائي، سيد جواد زوال اندیشه سیاسی در ایران طهران، انتشارات کویر

9 - الطوسي، نصير الدين (1360 ه- ش)، أخلاق ناصري، تنقيح وتصحيح مجتبى مينوي وعلي رضا حيدري طهران انتشارات خوارزمي ط 2

10 - کوربان هنري (2004 م) ، تاريخ الفلسفه الإسلامية، ترجمه إلى اللغة العربية نصير مروة وحسن قبيسي، مراجعة وتقديم الإمام موسى الصدر، بیروت، دار عويدات.

11 - المستوفي، حمد الله (1336 ه- ش)، نزهة القلوب، إعداد: محمد دبير ساقي، طهران، مكتبة طهوري.

Aristotle. (1282). La Politique. 10sq - 12

ص: 194


1- انظر: غلام حسين إبراهيمي ديناني از خواجه نصير الدين الطوسي تا جلال الدین ،دواني ماجراي فكر فلسفي در جهان ،إسلام ص 21 - 22 ، وص 270 - 271.

الاعتبار والحقيقة في الأخلاق - نقاط التلاقي والاختلاف

بين أخلاق (العلامة الطباطبائي ) وأخلاق ( فتغنشتاين ) المتقدّم

بقلم: د. سروش دباغ (1)

وحسين دباغ (2)

تعريب: حسن علي مطر

زبدة المخاض

إن لمفردة الاعتبار استعمالاً واسعاً في الفلسفة والكلام الإسلامي. وعلى ما يبدو لم يقم أحد - باستثناء (شهاب الدين السهروردي) من المتقدمين، و(العلامة الطباطبائي) من المتأخرين - بفتح فصل مستقل في بيان الاعتباريات وكيفية التمييز بينها وبين سائر المفاهيم الأخرى. في هذا المقال تحت عنوان (الاعتباريات)، نبحث في فلسفة الأخلاق عند الطباطبائي، حيث نتناولها من ثلاث زوايا، وهي: الزاوية الأنطولوجية، والزاوية الدلالية،والزاوية الإبستيمولوجية. وفي الختام عمدنا - في إطار فهم رؤية (العلامة الطباطبائي) بشكل أفضل - إلى بيان نقاط التلاقي والافتراق بین فلسفة أخلاق العلامة وفلسفة أخلاق (الودفيغ فتغنشتاين).(3)

المفردات المفتاحية:

الاعتباريات الأخلاق، الأنطولوجيا، الدلالة الإبستيمولوجيا، العلامة الطباطبائي، فتغنشتاين.

ص: 195


1- عضو اللجنة العلمية في مؤسسة الحكمة والفلسفة الإيرانية للتحقيقات. Soroush.dabbagh@irip.ir
2- طالب على مستوى الماجستير في فلسفة الغرب من جامعة الشهيد البهشتي
3- لودفيغ فتغنشتاین (1889 - 1951م): فيلسوف نمساوي.

المقدمة:

إن من بين الأبحاث الهامة وغير المسبوقة التي احتدمت بين الفلاسفة المسلمين بحث النسبة بين المدركات الحقيقية - الكاشفة عن عالم الواقع - والمدركات الاعتبارية (المتواضع عليها) التي تتضمّن التوصيف والإنشاء وإقامة التناغم وقد سعى العلامة الطباطبائي من خلال التفكيك والفصل بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية إلى العمل بدوره على تقديم إجابة عن هذا السؤال الفلسفي .الهام. وفي هذا المقال تمّ السعي من خلال تقرير آراء (العلامة الطباطبائي) في الأخلاق إلى التمييز بين النواحي الأنطولوجية والدلالية والإبستيمولوجية في آرائه التي قلما تم بحثها بهذا الشكل مع بيان اللوازم المنطقية المترتبة عليها. وفي الختام وعلى أساس الحكمة القائلة: (تعرف الأشياء بأضدادها) تم السعي من خلال تقرير أخلاق (فتغنشتاين) وزواياها المختلفة، إلى إلقاء مزيد من الضوء على مختلف أبعاد أخلاق (العلامة الطباطبائي) بالمقارنة مع أخلاق (فتغنشتاين) وغيره من الفلاسفة الآخرين في حقل الأخلاق المعاصرة.

1 - أخلاق العلامة الطباطبائي

لكي نفهم معنى المدركات الاعتبارية عند العلامة الطباطبائي بشكل أفضل يجب أن نذكر قبل كل شيء التقسيم الذي جاء به الفلاسفة المسلمون، وهو تقسيم الاعتباريات إلى الاعتباريات بالمعنى الأعم والاعتباريات بالمعنى الأخص. وإن الاعتباريات بالمعنى الأعم تعني - باختصار شديد المفاهيم الانتزاعية (الانتزاعيات) أو المعقولات الثانية. ومن بين الذين تعرّضوا إلى هذا النوع من الاعتباريات في تاریخ الفلسفة الإسلامية، يمكن لنا أن الإشارة إلى ابن سينا في كتاب (المباحثات)(1) وشيخ الإشراق السهروردي في كتابيه (المشارع والمطارحات)، و (حكمة الإشراق).(2)

ص: 196


1- لقد تحدّث أبو علي ابن سينا في كتاب (المباحثات) عن الأوصاف الافتراضية وغير المتقررة للأشياء، ويعمل على إحلالها في قبال الأوصاف الذاتية والمتقررة. ثم أطلق على هذه الأوصاف الافتراضية مصطلح اللواحق الاعتبارية للأشياء. (ابن سينا 1371 ، ص 131)
2- لقد طرح الحكيم الإشراقي في كتابه المشارع والمطارحات) قاعدة لتمييز الاعتباريات من غير الاعتباريات (انظر: السهروردي 1372، ج 1، ص 343). كما تحدث في (حكمة (الإشراق عن الوجود العيني والذهني، وقال بأن الاعتباريات هي التي يتحد وجودها الخارجي مع وجودها الذهني (انظر: السهروردي، 1372، ج ص 64 - 71). كما يرى شيخ الإشراق أن البحث عن اعتبارية الوجود بسبب وقوع التسلسل يدخل ضمن هذه المجموعة من الأبحاث. ويجب اعتبار النزاع الواسع بين أصالة الوجود واعتبارية الماهية أو بالعكس على هامش هذه المجموعة من الاعتباريات بالمعنى الأعم.

وبطبيعة الحال لا يمكن العثور على التفكيك والفصل بين المعقول الثاني الفلسفي والمعقول الثاني المنطقي في مؤلفات هؤلاء الفلاسفة، أو في الحد الأدنى لا نجد في كلامهم تصريحاً بهذا الشأن.

أما البحث في الاعتباريات بالمعنى الأخص ، فيتم طرحها بشكل رئيس في ثلاثة علوم وهي علم الفقه، وعلم الحقوق، وعلم الأخلاق وفي الاعتباريات الحقوقية يرد البحث عن المالكية، كما يرد البحث في الاعتباريات الفقهية عن أحكام الحلال والحرام. وأما الاعتباريات الأخلاقية - التي هي موضوع هذه المقالة أيضاً - فيبحث فيها عما يجب وما لا يجب، كما يُبحث فيها عن الحُسن والقبح. وتقع المقالة السادسة من كتاب (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي) للعلامة الطباطبائي (1)، تحت عنوان: (المدركات الاعتبارية) في ذيل هذه المجموعة.

إن بحث (العلامة الطباطبائي) في المقالة السادسة، حيث هو بحث في فلسفة الأخلاق، ويدور حول مقولة الحُسن والقبح واستنتاج ما يجب من الواقع، فإنه يستهدف الاعتباريات بالمعنى الأخص . أي (المدركات الاعتبارية بالمعنى الأخص). وإن عدم الالتفات إلى هذه النقطة من شأنه أن يؤدي إلى غموض وتشويش البحث.(2)

إن هذه المقالة من كتاب (أصول الفلسفة) قد أثارت لغطاً كبيراً في الأوساط الفلسفية الإيرانية، وقد قدم شارحوها آراء متضادة ومختلفة في توضيحها وتفسيرها. وهناك من يرى أن السبب في هذا الاختلاف يعود إلى العلامة الطباطبائي نفسه، إذ [13] يكمن في بساطة لغته وأسلوب كتابته(3). وهناك من الشارحين من هاجم العلامة

ص: 197


1- من الآن فصاعداً سوف نشير إلى هذا الكتاب اختصاراً ب__(أصول الفلسفة).
2- انظر: الداوري، 1363، ص 131 - 177؛ المدرسي، 1360، ص 63 65 گرامي، 1359، ص 41-37
3- قال الدكتور الداوري في (ذكرى العلامة الطباطبائي): (إن العلامة الطباطبائي قد كتب (أصول الفلسفة)، ومن بينها مقالة المدركات الاعتبارية بشكل مبسط ولغة سهلة وغير فنية ولا متقنة، ولا تتصف بالعمق والدقة أو البلاغة والفصاحة...). (الداوري، 1363، ص 139).

الطباطبائي بلطف، معتبراً أخلاقه بحسب الظاهر - في الحد الأدنى - نرجسية ومادية. بل قارن بين أخلاقه وأخلاق (برتراند راسل) واعتبرهما شيئاً واحداً.(1) ومن ناحية أخرى هناك من تعاطف مع الأفكار الرئيسة المطروحة في هذه المقالة، وأعرب عن تناغمه معها (2).

إن الاعتباريات - باختصار تام - تعني (المفاهيم التي يتخذها ويفترضها الشخص بسبب احتياجاته في الحياة، وذلك بمساعدة من عواطفه وميوله الداخلية). وفي المقابل فإن (الحقائق تعني المفاهيم التي يكتشفها العقل من خلال النظر في الواقعيات الخارجية للأشياء والعلاقات القائمة بينها) ، (انظر: سروش 1358 ص 243). إن قضايا من قبيل: (إن قمة جبل إيفرست أعلى قمة في العالم)، أو (إن الماء يغلي عندما تبلغ درجة حرارته مئة درجة على مقياس سانتيغرات) هي بأجمعها من الحقائق التي لا يمكن لأي شخص أن يتدخل أو يتصرّف فيها بالاستناد إلى دواعيه وعواطفه الشخصية.

قال العلامة الطباطبائي في تعريف الاعتباريات: (لو قلنا إن التفاحة فاكهة كان هذا أمراً حقيقياً. وأما إذا قلنا: يجب أكل التفاحة، أو يجب لبس هذا الثوب، كان هذا أمراً اعتبارياً). (العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 200).

ص: 198


1- ذهب الشيخ المطهري في كتابه (نقد الماركسية) إلى اعتبار أخلاق (العلامة الطباطبائي) عين أخلاق (برتراند راسل) وقال : (يقول راسل: علينا أن نفلق مسألة الأخلاق ... وتحليله هو عين تحليل السيد الطباطبائي، ويقول: إن أصل الحسن و القبح مفهوم نسبي). (انظر المطهري، ص 194 - 196). وفي كتابه (دروس الأخلاق) اعتبر أخلاق – الطباطبائي أخلاقاً مادية (انظر:سروش [تحت النظر]،1360). كما أنه في حاشيته على كتاب (أصول الفلسفة) من خلال عدم مواصلة التهميش صرّح بمخالفته للمسائل المذكورة.
2- لقد كان الدكتور عبد الكريم سروش من بين أوائل الذين تعاطفوا مع فلسفة أخلاق العلامة الطباطبائي. فقد عمد الدكتور سروش في كتابيه (دانش وارزش) و (تفرّج صنع) إلى مقارنة العلامة الطباطبائي بالفيلسوف الإسكتلندي (ديفد هيوم) ورأى بينهما بعض مواطن الشبه. وعلى الرغم من انتقاده لنظريات (العلامة الطباطبائي) بيد أنه يثني عليه في طرح مسألة (عدم استنتاج ما يجب عدم استنتاج ما يجب من الواقع). (انظر: سروش 1366 ، ص 354 ،سروش 1358، ص 238 و 257). ثم قام الدكتور آرش نراقي لاحقاً في مقالة له تحت عنوان (ملاحظات بشأن اختلاف آراء العلامة الطباطبائي والشيخ المطهري بشأن العلاقة بين الأحكام الحقيقية والاعتبارية) (انظر: نراقي 1387) باقتفاء أثر سروش في الدفاع عن العلامة الطباطبائي في مواجهة الشيخ المطهري، معتبراً مخاوف الشيخ المطهري من النسبية الأخلاقية عند العلامة الطباطبائي غير مبررة. وهناك من الشرّاح الآخرين من خالف الدكتور سروش، ويمكن لنا أن نذكر من بين هؤلاء الشيخ جعفر السبحاني (انظر: السبحاني 1368) ، والمدرسي (انظر: المدرسي 1360) ، وگرامي (انظر: گرامی 1359). كما يأتي الفقيد الحائري في كتابه (كاوشهاي أخلاق عملي) على ذكر توضيحات حول فلسفة أخلاق هيوم، ويقدم شرحاً للعلاقة القائمة بين (ما يجب) و (ما هو كائن) . (انظر: الحائري، 1384 ص 24-21).

وذهب الشيخ المطهري في حاشيته على تلك المقالة إلى شرح الاعتباريات قائلاً: (افتراضات يختلقها الذهن بسبب احتياجات الحياة، فيكون لها صبغة وضعية واعتبارية، ولا شأن لها بالواقع) ، (العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 181، حاشية الشيخ المطهري).

لقد قدّم الشراح للمدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية بعض المعايير. فقالوا بأن المدركات الحقيقية هي المدركات التي تتحدّث عن الموجود والمعدوم، وتكون مشمولة لمطابقة الخارج أو عدم مطابقته. وأما ملاكات المدركات الاعتبارية فأحدها وجود (الوجوب) فيها، والملاك الثاني إمكانية إلغائها والملاك الآخر تعميمها على جميع الحالات. وفيما يتعلق بملاكات المدركات الحقيقية يجب القول بأن (الموجود) يستعمل فيها، ولا توجد بسبب حاجة أحد إليها، وهي عامة وموجودة في كل الأمكنة، ومن ثم لا تقبل الإلغاء أبداً. (سروش، 1358، ص 243).

يجب اعتبار مقال (المدركات الاعتباري) في سياق ترجيح كفة معرفة المسألة (سروش،1366 ، ص 345 - 349). وهذا يعني أن بحثه لا يحتوي أولاً وبالذات على صبغة أنطولوجية. ويأتي التذكير بهذا الأمر من باب وجوب عدم اعتبار بحث الأخلاق عند العلامة الطباطبائي شبيهاً ببحث الأخلاق عند فيلسوف خاص مثل دينسي. إن صورة المسألة عند دينسي تتجه ناحية وجود أو عدم الأصول الأخلاقية، وبذلك تكون ذات صبغة أنطولوجية. في حين يجب اعتبار كل هم العلامة الطباطبائي في إطار البيان الإبستيمولوجي للنسبة القائمة بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية. إن التعبير ب__(المدركات) أو (التصديق المجازي) الذي يستعمله العلامة الطباطبائي في هذا المقال يؤيد هذا المعنى وهو ترجيح الكفة الإبستيمولوجية من البحث. وفي الوقت نفسه يمكن تقديم بيان للصبغة الدلالية في البحث أيضاً. وبذلك يكون معنى الحُسن والقبح في أخلاق العلامة الطباطبائي على نحوين، أحدهما المعنى الحقيقي والآخر المعنى المجازي. وبعبارة أوضح : يذهب العلامة الطباطبائي إلى القول بأننا عندما ندخل في دائرة الأخلاق تكتسب مفردات من قبيل: (الحسن) و(القبح) معنى

ص: 199

استعارياً، وما أن نخرج من دائرة الأخلاق حتى تكتسب تلك الألفاظ ذاتها معنى حقيقياً .(1)

1/1- الربط والنسبة بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية

يفتتح (العلامة الطباطبائي) مقال (المدركات الاعتبارية) بيت من الشعر ل__(حافظ الشيرازي). وفي الحقيقة فإنه يستمد من المجازات والاستعارات، ويعتبر الأفكار الاعتبارية الأخلاقية من صنف المجازات. وقد عرف المدركات بأنها عبارة عن (حدّ شيء بشيء آخر) (العلامة الطباطبائي، 1385 ، ج 2 ،ص 165) . وبذلك يمكن لنا أن نعتبر المدركات الاعتبارية نوعاً من التصديق، فهي ليست نوعاً من التصوّر. وبعبارة أوضح إن المدركات الاعتبارية من صنف التصديقات المجازية. ويذهب سماحته إلى الاعتقاد بأن المدركات الاعتبارية الوهمية تقوم على أمور حقيقية، بمعنى أنها تقوم على دعائم التصوّرات الحقيقية، إذ يقول: (إن كل واحد من المعاني الوهمية يقوم على حقيقة، بمعنى أن كل حد وهمي أن كل حد وهمي نعطيه لمصداق، يكون له مصداق آخر أيضاً قد أخذ من ذات الموضع ...) (الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 165 - 166).

وفي الحقيقة - بناء على رأي (العلامة الطباطبائي) - لا يمكن للفرد أن يصوغ تصوراً اعتبارياً من عنده. وإن لكل تصور أخلاقي (من قبيل : مفهوم الحُسن) نسبة مع تصوّر غير أخلاقي مثله (من قبيل: مفهوم الحسن في معنى الملائمة مع الطبع) في واقع الأمر.

الأمر التالي في المنظومة الأخلاقية للعلامة الطباطبائي هو عدم الارتباط الإنتاجي بين المدركات الحقيقية والمدركات الاعتبارية. بمعنى أنه لا يمكن من أي طرف

إقامة علاقة بين هذين السنخين من التصديقات:

(.... إن هذه المدركات [الاعتبارية] والمفاهيم حيث تكون وليدة العناصر

ص: 200


1- جدير بالذكر أن هذا النوع من الفصل والتفكيك بين المساحة الأنطولوجية والمعرفية والدلالية من البحث لم تكن منظورة للعلامة الطباطبائي، وإنما يأتي ذلك من قبل المتأخرين، وكأن العلامة الطباطبائي لم يبد اهتماماً بهذه التفكيكات التي هي في الغالب من نتائج الفلسفة الغربية.

الحسية، لا يكون لها علاقة إنتاجية مع المدركات والعلوم الحقيقية) (الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 167).

بيد أن عدم الارتباط الإنتاجي هذا يجب اعتباره مرتبطاً بمادة القضايا لا إلى صورها، بمعنى أن العلامة الطباطبائي لا يقول بوجود مثل هذه المغالطة في المنطق من الناحية الصورية، بيد أن المسألة هي أن طبيعة القضايا الأخلاقية بحيث لا تنتهي إلى القضايا الاعتبارية. فلا يمكن لنا - على سبيل المثال - أن نستنتج من القضية التجريبية قضية ميتافيزيقية(1) ، بمعنى ذات البحث الجدلي في التوصل من الحقيقة إلى المجاز، أو من الواقعية إلى الاعتبار (2).

يرى العلامة الطباطبائي أن هذه المدركات الاعتبارية رغم كونها وهمية وكاذبة، إلا أنها مؤثرة، فلا يمكن عدها أوهاماً لاغية، بل هناك آثار تترتب عليها: (... إن هذه المعاني الوهمية، على الرغم من عدم واقعيتها إلا أن لها آثاراً واقعية...) (العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 166)

ومن هنا تعدّ المدركات الاعتبارية قضية لا شبه قضية. ومن هذا الموضوع يمكن لنا أن نتوصل إلى أن المدركات الاعتبارية عند العلامة الطباطبائي ذات معنى. فحيث أنه يستخدم عبارة المدركات والتصديقات، فإن هذا يتضمن مفهومية هذا النوع من المدركات.

حيث إن التصديقات الحقيقية لا يمكن الحصول عليها من التصديقات الاعتبارية ، والعكس صحيح أيضاً، يمكن لنا أن نعلم أن المدركات الاعتبارية لا تشتمل على

أحكام المدركات الحقيقية :

ص: 201


1- إن هذه المسألة تمثل واحدة من الأبحاث التي أزعجت بعض المعاصرين. (انظر: العلامة الطباطبائي، 1385، ج 2 حاشية المطهري؛ الداوري 1363؛ الحائري، 1384؛ السبحاني، 1368).
2- يعد بحث (عدم استنتاج الواجب من الواقع) في تاريخ الفلسفة من إبداعات (ديفد هيوم). فقد صدر له كتاب ما بين عامي 1739 - 1740م تحت عنوان (رسالة في الماهية الإنسانية). وتشتمل هذه الرسالة على ثلاثة كتب الكتاب الأول (حول العقل)، والكتاب الثاني (حول المشاعر والعواطف)، والكتاب الثالث (حول الأخلاق). والأقرب إلى مرادنا في هذه المقالة هو القسم الأول من الفصل الأول من الكتاب الثالث، والذي هو بعنوان (في حقل أن المعتقدات الأخلاقية لا يمكن استنتاجها من العقل). فقد عمد في هذا الفصل - من خلال الإحالة والإرجاع إلى الأبحاث المتقدمة (الكتاب الثاني الفصل الثالث القسم الثالث) - إلى بيان السبب في عدم إمكان توقع إثبات أو إبطال قضية أخلاقية من العقل والمنطق. للبحث في هذه المسألة، انظر: (521 - 510 .Hume، 1969، pp).

(... في مثل هذه الصورة لن تجري بعض تقسيمات المعاني الحقيقية في مورد هذه المعاني الوهمية من قبيل: البديهي والنظري، ومثل الضروري والمحال والممكن) (العلامة الطباطبائي، 1385 ، ج 2، ص 166)

فعلى سبيل المثال يجوز في الأحكام الاعتبارية تأخر الشرط عن المشروط، في حين يستحيل ذلك في الأحكام الحقيقية. ومن خلال توظيف هذه المسألة أورد العلامة الطباطبائي الكثير من الإشكالات على الأصوليين، معتبراً أن الكثير من اجتهاداتهم ناشئ من الخلط بین الاعتبار والحقيقة. من ذلك أنه في حاشيته على (كفاية الأصول) قد أشكل على آراء العلماء من أمثال الشهيد الثاني، والسيد الخوئي، والآخند الخراساني، قائلاً : إنها من (التعسفات) (انظر: سروش).

1 / 2 - الحسن والقبح الاعتباري

يذهب العلامة الطباطبائي - طبقاً لرأي الشرّاح - في كتابيه (أصول الفلسفة)، و (الميزان في تفسير القرآن) إلى القول بنوعين من الحُسن والقبح، أحدهما: الفعل الذي يتم إسناده في الخارج إلى ذات الفعل مستقلاً عن الفاعل والآخر : الحُسن الذي يسنده الفاعل أو المعتبر إلى الفعل أثناء القيام به.

(إن الحَسَن والقبيح (الحُسن و القبح في الأفعال) صفتين اعتباريتين، إذ يعتبران في كل فعل يصدر - أعم من الفعل الفردي والاجتماعي - ولا يخفى أن (الحُسن) بدوره مثل (الوجوب) ينقسم إلى قسمين: الحُسن الذي هو صفة للفعل في نفسه، والحُسن الذي هو صفة لازمة لا تتخلف عن الفعل الصادر ...) (الطباطبائي، 1385 ، ج 2، ص 204).

ولتوضيح هذا المعنى يجب القول : إننا نجد عند العلامة الطباطبائي مفهوماً حقيقياً ل__( الحُسن)، ومفهوماً مجازياً واعتبارياً. أما المعنى والمفهوم الحقيقي للحسن فهو ما كان يقوله المتقدمون أيضاً، بمعنى الملاءمة مع الطبع، والموافقة مع الأغراض والغايات. من ذلك - على سبيل المثال - أن القضايا التي هي من قبيل: (هذا الرسم

ص: 202

جميل)، و (إن الطقس بديع هذا اليوم)، أو (إن هذا الحذاء مناسب لتسلق الجبال)، هي بأجمعها إما بمعنى المطلوب والموافق للطبع أو أنها تسهل عملية الوصول إلى الغاية المنشودة. إن المعنى الاعتباري والمجازي للحسن إنما يتحقق إذا تم استعمال (الحسن) في الأخلاقيات والأمور القيمية والمناسبة من قبيل القضايا القائلة: (إن الوفاء بالعهد (حسن) أو (إن الكذب قبيح). إن بحث العلامة الطباطبائي في (أصول الفلسفة) ناظر إلى الحُسن الفاعلي دون الحسن الفعلي، بمعنى نمط اعتبار الفرد في ذلك المقام.

يقول العلامة الطباطبائي في كتابه (أصول الفلسفة) - في معرض توضيح اعتبارية الحُسن والقبح - إن الحُسن والقبح ليسا جزءاً من أوصاف الأفعال في واقع الأمر (الطباطبائي، 1385، ج 2، ص 204)؛ إذ يمكن للفعل الواحد أن يتصف في موضع بصفة القبح، ويتصف في موضع آخر بصفة الحُسن. بمعنى أن الحسن والقبح يعودان إلى اعتبارنا، وليس إلى كشفنا لأوصاف الأفعال. بمعنى أن الزنا والنكاح أو الكلام الكاذب والصادق، بحسب الظاهر والتجسيد الخارجي يمثلان شيئاً واحداً، وليس هناك فرق من الناحية الشكلية بينهما. إن هذه الأوصاف الاعتبارية لا يمكن العثور عليها تكويناً في العالم الخارجي. وعليه فإن الحُسن و القبح أو الأخلاق - بشكل عام - أداة للعمل باعتبارنا، وليست للكشف عن الواقع. وقال سماحته في تفسير الميزان):

(يشبه أن يكون الإنسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه مشاهدة من الجمال... فحسن وجه الإنسان كون كل من العين والحاجب والأذن والأنف والفم وغيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركب في نفسه عليها، وكذا نسبة بعضها إلى بعض، وحينئذ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه ويسمى كون الشيء على خلاف هذا الوصف بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة) (الطباطبائي، بلا تاریخ، ج 2، ص 9-11)

ص: 203

1 / 3 - النزعة المعرفية إلى الأخلاق عند العلامة الطباطبائي

الأمر الآخر الذي يجدر دراسته بشأن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي)، هو النزعة الواقعية(1) ، والمعرفة الأخلاقية(2). وهناك في الأبستيولوجيا الأخلاقية المعاصرة اتجاهان رئيسان وهما اتجاه أصحاب النزعة المعرفية(3)، واتجاه أصحاب النزعة اللامعرفية(4) يذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى الاعتقاد بأن المدعيات الأخلاقية تقبل الصدق والكذب وتقدم المعرفة، في حين أن أصحاب الاتجاه الثاني (اللامعرفيون) لا يرون المدعيات الأخلاقية قابلة للصدق والكذب. وفي الوقت نفسه لا بد من الالتفات إلى أن الاتجاه المعرفي لا يستلزم الواقعية في حقل الأخلاق. يمكن الشخص أن لا يقول بوجود الأوصاف الأخلاقية في العالم، ويتحدّث في الوقت نفسه عن معرفية المدعيات الأخلاقية على نحو ذهني. وبعبارة أخرى: لا يوجد هنا ارتباط وثيق بين الموقف الأنطولوجي للأخلاق، والموقف الإبستيمولوجي. يمكن لشخص أن يقول في الأنطولوجيا الأخلاقية بعدم وجود ما بإزاء في العالم الخارجي لصفات أخلاقية من قبيل الحسن والقبح والواجب وما إلى ذلك، وفي الوقت نفسه يتحدّث عن معرفية قضايا من قبيل: (الوفاء بالعهد حسن).

مما تقدم يبدو أن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) يجب إدراجها ضمن مجموعة المعرفيين. ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي: كما رأينا فإن (العلامة الطباطبائي) في كتابيه (تفسير الميزان) و (أصول الفلسفة) قد أخذ بنظر الاعتبار نوعين من الحُسن والقبح، وهما: (الحُسن) الحقيقي و(الحُسن) المجازي - الاعتباري. ومعنى (الحسن) الحقيقي هو الملاءمة للطبع والموافقة للأغراض والغايات. إن هذا المعنى ل__(الحُسن) لا يمكن أن يكون (حُسناً) أخلاقياً بأي حال من الأحوال. يذهب (العلامة الطباطبائي) إلى الاعتقاد بأن هذا (الحُسن) عندما يدخل في دائرة

ص: 204


1- moral realism.
2- moral cognitivism.
3- cognitivist.
4- non-cognitivism.

الأخلاق، فإنه يغدو استعارياً ومجازياً. وكأن (الحُسن) يتصف بصفات متنوعة تبعاً لتنوع الأوعية التي يُسكب فيها . وأما في مورد المعنى المجازي ل__(الحسن) فيجب القول طبقاً لرأي (العلامة الطباطبائي) : إن لهذا (الحُسن) معن اعتبارياً؛ بمعنى أنه فيما يتعلق بالقضية القائلة إن هذا الشيء حسن)، يجب القول: أجل، إن هذا الشيء حسن، ولكن اعتباراً وليس حقيقة. وبعبارة أخرى: إن هؤلاء لا يقولون بخارجية صفة (الحُسن).

إن القضايا الأخلاقية - بناء على رأي الطباطبائي - من حيث تعلقها بوعاء آخر، يمكن لها بحسب القاعدة أن تقدم ،معرفة، وأن تعدّ في زمرة التصديقات. وفي هذه الحالة يمكن اعتبار (العلامة الطباطبائي) واحداً من القائلين بالاتجاه المعرفي، رغم يرى للمفاهيم الأخلاقية من قبيل (الحُسن) أي مطابق في عالم الخارج، وليس واقعياً بالمعنى الأنطولوجي. وبعبارة أخرى يمكن بحسب القواعد أن يكون الإنسان في مسرح الأخلاق مناهضاً للواقعية، ويكون في الوقت نفسه من القائلين بالنزعة المعرفية بتوضيح أن القضايا الأخلاقية لا تكشف عن العالم الواقعي، ولا توجد أي نسبة بينها وبين الواقع المحيط بنا ، ولكن في الوقت نفسه يمكن الحوار حول صدق وكذب وحجية المدعيات الأخلاقية على نحو ذهني.(1)

2 - الأخلاق عند (فتغنشتاين)

لكي نحصل على إدراك صحيح لرأي فتغنشتاين في حقل الأخلاق، من الضروري قبل كل شيء التذكير بعدد من النقاط في باب تصوير المعنى، وهو الموقف الذي اختاره (فتغنشتاين) في مرحلته الفلسفية الأولى.

يرى (فتغنشتاين) أن العالم مؤلف من الأمور الواقعة(2)، وهي بدورها تشتمل على أمور(3) . إن الوحدة المفهومية تمثل قضية والقضية بدورها تنظر إلى أمر واقعي

ص: 205


1- للمزيد من الاطلاع بشأن الربط والنسبة بين الواقعية الأخلاقية والمعرفة الأخلاقية وأقسامهما، انظر: ; (Miller ، Smith. 1997. pp. 399-410) (2003 ،ch. 1)
2- facts.
3- things.

ومشتمل على روابط تعمل على ربط الأشياء ببعضها في عالم الخارج. وإنه تبعاً ل__(فريغه)(1) - الذي كان يتحدّث عن توابع القضايا(2) - قد تحدّث عن روابط القضايا(3). إن القضية تعمل على بيان العلاقات بين أجزائها، وليس من الضروري أن تكون بين آحاد عناصر القضية ما بإزاء خارجي. وطبقاً لرأيه فإن القضية إنما تكون ذات معنى على القاعدة إذا كان لها .تصور. وإن الصدق والكذب يتفرّعان عن المعنى. فإذا تمّ تصوير قضية، كان هذا يعني أن هناك إمكانية لتصويرها ، ومن ثم ستكون تلك القضية ذات معنى، وإلا لن يكون لها معنى. فإذا كانت تلك الصورة متطابقة مع الواقعية في عالم الخارج، كانت تلك القضية صادقة وإلا فإنها ستكون كاذبة. فإن القضية القائلة: (إن القطة نائمة على الطاولة)، إنما تعبر عن وضع ممكن(4) إذا لم تكن القطة في الواقع نائمة على الطاولة، بمعنى أن بالإمكان تصورها على أساس التأليف والربط بین عناصر وأجزاء عالم الخارج. ولكنها حيث لا تكون ناظرة إلى أمر واقعي في عالم الخارج، فهي كاذبة.

إن للغة - طبقاً لتعاليم المعرفة الدلاية ل__(فتغنشتاين) - ماهية القضية، وللقضية بدورها ماهية تصويرية. فإذا كان الأمر كذلك فإن الناظر إلى ظواهر عالم الخارج وحده، وكل ما يبحث عنه في العلوم التجريبية - توسعاً - يمكن اعتباره كلاماً ذا معنى ولا يمكن خارج حقل العلوم التجريبية الحديث عن كلام محصل ذي معنى. ومن هذه الناحية لا نرى كبير فرق بين الرياضيات والمنطق والدين وغيرهما.

وعليه لنشاهد حالياً ما الذي يمكن قوله في أجواء (الرسالة المنطقية - الفلسفية) (1961 ،Wittgenstein)(5) ، في حقل الأخلاق والقضايا الأخلاقية؟

ص: 206


1- جوتلوب فريغه (1848 - 1925م) عالم رياضيات ومنطقي وفيلسوف ألماني. يُعد أشهر من اهتم بمنطق الرياضيات الحديثة والفلسفة التحليلية كان لعمله تأثير كبير في تأسيس فلسفة القرن العشرين وفي الدلاليات. يُعدّ أحد أكبر المناطقة بعد أرسطو.
2- functional proposition
3- relational proposition.
4- possible states of affairs.
5- سوف نطلق عليها من الآن فصاعداً عنوان (الرسالة) اختصاراً.

إن (فتغنشتاين) ينكر وجود القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا صراحة. إن مدلول هذا الكلام المتقدم هو أن القضايا الأخلاقية يجب أن تكون ضرورية كما هو حال القضايا المنطقية والرياضية؛ وذلك لأنها لا تتضمن إخباراً عن العالم المحيط بنا، وليست ناظرة إلى الأوضاع الممكنة ولكنها في الوقت نفسه تشابه القضايا المنطقية والرياضية من حيث كونها استعلائية (الفقرات: 6/41 و 6/421 1961 ،Wittgenstein). وبعبارة أخرى رغم أنه لا يمكن صبّ المفاهيم الأخلاقية في قوالب القضايا لتصنع قضية أخلاقية ذات معنى إلا أنها في الوقت نفسه تعبر عن رؤية الفرد إلى العالم لا يمكن للقضايا الأخلاقية أن تتخذ موقفاً إزاء العالم المحيط بنا وأحداثه، وإنما هي تخبر عن مجرد كيفية الرؤية الأخلاقية لمستخدم اللغة إلى العالم المحيط به. وإن المثال الذي يسوقه (فتغنشتاين) في (الرسالة) بهذا الشأن، مثال معبر وبليغ. فهو يقول في الفقرة (6/422): خذ بنظر الاعتبار الأحكام الأخلاقية التي يتم صبها في قوالب من قبيل القضايا القائلة: (يجب عليك أن لا تسرق)، و(يجب عليك أن لا تقتل) وما إلى ذلك. فلو سأل الشخص المخاطب بهذه الأحكام: حسناً، ما الذي سوف يحصل لو أني لم ألتزم بهذه القضايا الأخلاقية؟ فلو أشرنا - في مقام الجواب عن هذا السؤال لبيان حسن وقبح هذه الأمور - إلى النتائج المترتبة على هذه الأفعال، والاستعانة بها، سنكون قد خرجنا من دائرة الأخلاق؛ لأننا سنكون بذلك قد دخلنا في دائرة العالم ونكون قد اتخذنا موقفاً بالنظر إلى آثار هذه الأعمال في عالم الخارج، في حين أنه حيث لا يمكن العثور على القيم في العالم المحيط بنا، إذن لا يمكن قول كلام محصل وإيجابي في هذا الشأن. وفي الحقيقة لا يوجد لدينا - طبقاً لتعاليم (الرسالة) - شيء يمكن أن يندرج تحت عنوان الثواب والعقاب بمعناهما المتعارف؛ إذ أن لازم هذا الأمر هو النظر إلى كيفية تحقق الفعل في عالم الخارج. إن مدلول هذا الكلام هو أن الأحكام الأخلاقية تمثل أحكاماً سابقة، وإن صدورها من الفاعل الأخلاقي ليس له أي علاقة بالعالم المحيط بنا.

وبذلك فإن (فتغنشتاين) - فيما يتعلق بدائرة الأخلاق - يذهب إلى الاعتقاد بأننا ما دمنا نسير في عالم التجربة لا نواجه أي أمر يتعلق بدائرة أخرى (من قبيل: القيم

ص: 207

الأخلاقية). فإن كل ما يخضع للتجربة سيكون له شأن أنطولوجي مماثل للأمور الأخرى. لننظر إلى عبارة (فتغنشتاين) الآتية:

(لنفترض شخصاً عالماً مطلقاً، وأن هذا الشخص قد جمع کامل أحداث العالم في كتاب ثم لنفترض أن هذا الكتاب - الذي يحتوي على جميع وقائع العالم - قد اشتمل على مشهد يمثل جريمة قتل، وتحدّث عن جميع جزئيات وتفاصيل تلك الجريمة المروّعة بدقة. إن بيان هذه الواقعة لن يحتوي على أيّ قضية أخلاقية لأن القتل يتجلى في مرتبة سائر حقائق العالم أيضاً. ربما تثير قراءة هذه الأوصاف شعوراً بالغضب أو المقت، ولكن مع ذلك لن يكون هناك شيء غير الحقيقة والواقع) (فتغنشتاین، 1379، ص 333-325)

إن كل ما من شأنه أن يساعدنا على بيان حكاية بشكل أدق وأكثر وفاءً إلى حقيقة ما يحدث في العالم المحيط بنا عبر اللغة يكون أجنبياً عن الأمور والقيم الأخلاقية بالمرة.

لننظر أيضاً إلى الفقرات الآتية:

(إذا كان البناء قائماً على أن تحقيق الخير والشر يغير إرادة العالم، فإنه إنما سوف يستطيع تغيير حدود العالم، وليس الأمور الحقيقية أو ما يمكن بيانه بواسطة اللغة. وباختصار يجب أن يكون تأثيره بحيث يكون العالم بشكل كامل عالماً آخر. وبعبارة أخرى: يجب أن يتعرّض العالم بوصفه كلاً إلى القبض والبسط. إن عالم الإنسان السعيد يختلف عن عالم الإنسان الشقي) (الفقرة : 19616/43 ،Wittgenstein).

(إن الأخلاق لا تنبس عن العالم ببنت شفة. إن الأخلاق يجب أن تتحدث - مثل المنطق - عن شرائط العالم) (نقلاً عن ماونس، 1379، ص 122)

إن الأخلاقيات حيث لا تكون تجريبية لا يمكنها التأثير في الأمور الواقعية ومن هنا فإنها تكون بذلك شبيهة بالمنطق، الذي يحدد إطار فهمنا للعالم المحيط بنا، كذلك الأخلاق أيضاً؛ إذ يمكن للأخلاق في الحد الأقصى أن تبين لنا حدود العالم

ص: 208

فهي عاجزة عن إطلاق الكلام الماهوي في حقل العالم المحيط بنا.

صحيح أن عالم الإنسان السعيد يختلف عن عالم الإنسان الشقي، وأن عالم الإنسان الأخلاقي يختلف عن عالم الإنسان اللاأخلاقي (طبقاً للفهم المتعارف للحياة الأخلاقية)، إلا أن هذا الاختلاف لا ينبثق عن عالم الخارج، وإنما يعود إلى مجرّد الاختلاف في رؤية هذين الشخصين إلى العالم.(1)

إن (فتغنشتاين) - طبقاً لما تقدم - يتحدث عن عدم وجود نسبة تربط الأوصاف والقضايا الأخلاقية بالعالم المحيط بنا. وفي أجواء (الرسالة) لا يمكن إطلاق كلام ذي معنى في حقل الأخلاق والقضايا الأخلاقية؛ وذلك لأنها تفتقر إلى العناصر الأصلية لاحتواء المعنى أو امتلاك التصوير. إن هذه القضايا الفاقدة للتصوير - طبقاً لتعاليم (فتغنشتاين) - إنما تظهر نفسها فقط، ولا يمكن إبداء أي كلام محصل بشأنها. كما أنه في رسالته إلى (برتراند راسل) يرى أن أهم مسألة في الفلسفة تكمن في الفصل والتمييز بين القول والإظهار إن على الفيلسوف من حيث كونه فيلسوفاً أن يعيّن الحد بین الأمور التي تقال وتلك التي لا تقال في فضاء (الرسالة) تنتمي الأبحاث الأخلاقية - من قبيل: حدود مفهوم الحُسن وقبح الإضرار بالغير وما إلى ذلك - إلى دائرة الأمور التي لا تقال، وعليه لا يكون من الممكن بيانها بحسب الأصول. وقد سمّى (فتغنشتاين) في (الرسالة) تلك الظواهر غير المقولة التي تظهر نفسها، أموراً ملغزة. إن الإلغاز الذي يشير له يتضمن عناصر سلبية، قبل أن يتضمن عناصر إيجابية.

طبقاً لما تم بحثه حتى الآن يمكن اعتبار أخلاق (الرسالة) أخلاقاً ذات نزعة لا معرفية(2) . وعلى أساس هذا الفهم فإن القضايا الأخلاقية المشتملة على الأوصاف

ص: 209


1- من الضروري هنا التذكير بهذه النقطة وهي أن الذي بحثناه هنا تحت عنوان الأخلاق عند (فتغنشتاين)، يقوم على القراءة السائدة لكتابه (الرسالة المنطقية - الفلسفية). وفي هذه القراءة - خلافاً لرأي بعض أعضاء حلقة فينا - يكون للأمور التي يمكن إظهارها في فضاء هذه (الرسالة) محلاً من الإعراب. وطبقاً لهذه الرؤية تكون الأمور الأخلاقية من الأمور التي يمكن إظهارها، من دون أن يكون لها معنى بطبيعة الحال؛ لأنها تفتقر إلى التصوير. إن فهم (فتغنشتاين) للأخلاق في أجواء (الرسالة)، بين الشارحين ل__(فتغنشتاين) أمر مجمع عليه، وقلما احتدم الاختلاف بينهم في هذا الشأن.
2- .Non-cognitivist

الأخلاقية البسيطة(1)، من قبيل: الحسن والقبح وما يجب وما لا يجب، والأوصاف الأخلاقية العظيمة(2) من قبيل: الوفاء بالعهد والإحسان، وعدم الإضرار بالآخرين وما إلى ذلك من الأمور التي لا تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بحسب الأصول، ولا يمكن التحقيق والبحث بشأنها بشكل عقلاني. وبعبارة أخرى إن (فتغنشتاين) المتقدم - في الحقيقة - فضلا عن كونه في حقل الأخلاق مناهضاً للنزعة الواقعية(3) ويرى العالم المحيط بنا مجرّداً من القيم الأخلاقية، فإنه كذلك يعتقد بعدم إمكانية العثور على قضايا أخلاقية من خلال الحجية الأخلاقية والصدق والكذب يرى (فتغنشتاين) أن المعرفة - بحسب الأصول - عبارة عن قضية معرفية(4)، ويعتبر القضية تبعاً لأصل النسيج(5)عند (جوتلوب فريغه) وحدة ذات معنى. وبعبارة أخرى: يجب أن يغدو بالإمكان إدراج كل ما يقدم معرفة ضمن إطار القضايا. وكل ما يندرج تحت عنوان القضايا الأخلاقية، حيث لا يمكن تصويره، لا يكون في الحقيقة من القضايا، ولذلك لا يمكن له أن يقدم لنا معرفة بحسب الأصول.(6)

الاستنتاج: الافتراق والاشتراك

كما رأينا فإن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) على خلاف النزعة الواقعية، ولكنها في الوقت نفسه أخلاق معرفية. إن المفاهيم الأخلاقية - من وجهة نظر (العلامة الطباطبائي) - ليس لها مدلول وما بإزاء في العالم الخارجي؛ وذلك لأنها إنما تعدّ من قبل الفاعل الأخلاقي واعتبار المعتبر ، وليس هناك من طريق مباشر إلى الأمر الواقعي. وفضلا عن ذلك حيث يذهب العلامة الطباطبائي إلى القول بأن القضايا الأخلاقية تندرج في ضمن المدركات والتصديقات - حتى وإن كانت تلك

ص: 210


1- Thin moral properties
2- Thick moral properties
3- Anti- real properties
4- Propositional knowledge
5- Context Principle.
6- للمزيد من التعرف على التعاليم الأساسية في (الرسالة)، وفهم (فتغنشتاين) للأخلاق في مرحلته الفلسفية الأولى (المتقدمة)، انظر: (نورمن ملكم وآخرين، 1384)؛ (دباغ، 1387)؛ (1985 ،Ayer )؛ (2006 White)؛ (1 Barrett، 1991 ، part).

المدركات ،والتصديقات من قبيل المدركات الاعتبارية والتصديقات المجازية - يجب اعتبارها ضمن دائرة الأخلاق المعرفية. وبعبارة أخرى: إن القضايا الأخلاقية في هذه الرؤية تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بحسب القاعدة، وإن كان ذلك لا على نحو المدركات الحقيقية في الكشف عن العالم الخارجي وقبول الاتصاف بالصدق والكذب.

وعلى هذا الأساس يمكن تبويب البحث بشأن الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) من مختلف الزوايا الفلسفية، على النحو الآتي:

1 - من الزاوية الأنطولوجية: إن القيم الأخلاقية - أو القيم الأخلاقية البسيطة على حد تعبير (برنارد وليمز)(1) ، من قبيل (الحُسن و القبح، وما يجب، وما لا يجب، وغير ذلك من القيم الأخلاقية البسيطة الأخرى) - ليس لها تعين أنطولوجي في العالم المحيط بنا. وبعبارة أخرى إن الأوصاف من هذا القبيل لا تعد جزءاً من مهر وجهاز العالم الخارجي. وبهذا المعنى يعدّ أشخاص من أمثال : (هير) و(ميكي)، مخالفين للنزعة الواقعية.

2 - من الزاوية الدلالية: إن (العلامة الطباطبائي) - خلافة للفلاسفة الآخرين من أمثال (مور)(2)- يرى قابلية تعريف مفردات من قبيل : الحُسن والقبح، وما يجب. : وبعبارة أخرى : إنه يذهب إلى الاعتقاد بأن الحسن ليس صفة بسيطة، وإن بالإمكان بيان وتحديد حدودها المفهومية من خلال الاستعانة بسائر التصورات الأخرى. ومن هذه الناحية يمكن مقارنة العلامة الطباطبائي بأصحاب النزعة الطبيعية، واعتبار موقفه شبيهاً بموقفهم.

3 - من الزاوية الإبستيمولوجية على الرغم من أنطولوجية العلامة الطباطبائي

ص: 211


1- برنارد ولیامز (1929 - 2033 م) : فيلسوف أخلاقي إنجليزي. وصف بأنه أهم وأعظم فيلسوف أخلاقي بريطاني في عصره، تضمنت آثاره مسائل في الذات والحظ الأخلاقي، والأخلاق وحدود الفلسفة والحق والصدق. تم منحه وسام الفروسية وصار يلقب رسمياً ب__(السير وليامز) سنة 1999 م.
2- جورج إدوارد مور (1873 - 1958م) : فيلسوف بريطاني أثر في كثير من الفلاسفة البريطانيين المعاصرين دافع عن نظريات الفطرة السليمة، وشجّع على دراسة اللغة العادية بوصفها أداة للفلسفة.

مجردة من القيم الأخلاقية إلا أن هذا الكلام لا يلزم منه القول بأن المدعيات الأخلاقية لا تقبل الاتصاف بالصدق والكذب بحسب الأصول والقواعد، ولا تكون معرفية. بل حيث يذهب العلامة الطباطبائي إلى اعتبار المدعيات الأخلاقية في زمرة المدركات يمكن الإذعان - بحسب الأصول - بكونها معرفية. إن موقف العلامة الطباطبائي في هذا الشأن يذكرنا بموقف الفيلسوف الألماني (إيمانوئيل كانت)، رغم اختلافهما من حيث التبويب والمبادئ والمباني. إذ يذهب (كانت) بدوره إلى القول بأن عالم الظواهر مجرد من القيم الأخلاقية، ويرى أن القيم الأخلاقية لا يوجد لها تعين أنطولوجي في العالم المحيط بنا. ومن هنا كان يأخذ وصف التعميم والضرورة لهذه الأحكام بنظر الاعتبار. وفي الحقيقة فإن المدعيات الأخلاقية في فلسفة (كانت) تنظر إلى الموضوع الميتافيزيقي وعالم الذوات المعقولة. بيد أننا - من حيث خلوّ العالم المحيط بنا من القيم الأخلاقية في المنظومة الكانتية - لا نستطيع أن نستنتج عدم معرفية هذه المدعيات إن المدعيات الأخلاقية تعدّ قضايا تركيبية سابقة مثل المدعيات الرياضية، وبذلك فإنها تتصف بوصف التعميم والضرورة، وتقدم لنا معرفة رغم انسلاخها من العالم المحيط بنا.

ومن ناحية أخرى فإن فيلسوفاً مثل (ميكي) يتماهى مع (العلامة الطباطبائي) و(إيمانوئيل كانت) في القول بعدم العثور على القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا، ولكنه يذهب - خلافاً لهما - إلى الاعتقاد بوقوع الأخطاء التنظيمية في إحراز المعرفة الأخلاقية من قبل الفاعلين وعليه فإن (ميكي) يخالف النزعة الواقعية، كما أنه يرى أنه لا يمكن أن تكون لدينا في الأساس - معرفة أخلاقية، ولكن العلامة الطباطبائي - في قباله - يذهب مثل (كانت) إلى مخالفة النزعة الواقعية، ولكنه في الوقت نفسه يعتبر من أصحاب النزعة المعرفية. وفضلا عن ذلك يجب فصل موقف ورؤية (العلامة الطباطبائي) عن موقف القائلين بالعدمية النهلستية.(1) نعم، إن العلامة الطباطبائي يتفق مع العدميين في خلوّ العالم المحيط بنا من القيم الأخلاقية، ولكنه يختلف معهم عندما يتجاوزون الحدود في إلغاء التعهد الأخلاقي والذهاب إلى عدم وجود

ص: 212


1- العدمية أو النهلستية (nihilism) مذهب ينكر أن يكون للمبادئ الأخلاقية أي أساس موضوعي

إلزام يفرض على الناس الانصياع للسلوك الأخلاقي في تنظيم علاقاتهم اليومية.

وعليه يمكن لنا - طبقاً لما تقدم - مقارنة الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) بالأخلاق عند (فتغنشتاين).(1) وفي هذا الشأن من المناسب أن نعدد الأبعاد الأخلاقية عند (فتغنشتاین) من مختلف الزاوية على النحو الآتي باختصار:

1 - الناحية الأنطولوجية: لا يمكن العثور على القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا. إن العالم عبارة عن جميع الأمور الواقعة، وإن القيم الأخلاقية ليس لها نسبة إلى هذه الأمور الواقعة.

2 - الناحية الدلالية: إن الوحدة المفهومية عند (فتغنشتاين) المتقدم، تمثل قضية. وفي هذا الإطار لا يوجد للمفاهيم الأخلاقية من قبيل : الحُسن والقبح، مدلول وما بإزاء، وليس لها من تطبيقات كما أن تلك القضايا الأخلاقية التي تتألف من عدد من الألفاظ والمفاهيم لا معنى محصل لها؛ إذ أنها لا تنظر إلى حالة الأمور الممكنة في العالم المحيط بنا، ولذلك لا يوجد تصوير لها .

3 - الناحية الإبستيمولوجية في أجواء (الرسالة) يعتبر صدق وكذب القضايا متفرعاً عن مفهوميتها . وبعبارة أخرى: إن القضية المفتقرة إلى المعنى لا يمكن لها في الأساس أن تكون مشمولة لصدق وكذب الواقع، ولا تحمل قيمة الصدق ومحتواه. وعليه فإن القضايا الأخلاقية التي هي من قبيل المعرفة الجمالية لا تحتوي على

مضمون معرفي، ولذلك فإنها لا تقبل الاتصاف بالصدق والكذب.

وعليه يمكن لنا أن نقدم هنا مقارنة بين الأخلاق عند (العلامة الطباطبائي) والأخلاق عند (فتغنشتاين)، وذلك على النحو الآتي:

1 - من الناحية الأنطولوجية: يتفق العلامة الطباطبائي وفتغنشتاين في مخالفة

ص: 213


1- فيما يتعلق بالأعمال التطبيقية باللغة الفارسية بين العلامة الطباطبائي وفتغنشتاين على سبيل المثال، انظر: (كلانتري، 1386). حيث يقوم هذا الأثر بالمقارنة بين العلامة الطباطبائي وفتغنشتاين المتأخر، وفي الوقت نفسه يحصر البحث في مقولة الأخلاق فقط.

النزعة الواقعية، واعتبار العالم عارياً من القيم الأخلاقية.

2 - من الناحية الدلالية : يذهب (العلامة الطباطبائي) - خلافاً ل__(فتغنشتاين) - إلى القول بأن للمفاهيم الأخلاقية - بنحو ما وفي وعاء ما - ما بإزاء ومدلول خارجي. وإن الوعاء المذكور وعاء ذاتي ومختلف عن العالم المحيط بنا . وأما (فتغنشتاين) فيرى أن العالم المحيط بنا يمكن بحثه بوصفه وعاء يمكن للأمور أن تستقر فيه على نحو أنطولوجي. ولازم هذا الكلام أن القيم الأخلاقية في العالم المحيط بنا حيث لا تحتوي على تعين أنطولوجي، فإن المفاهيم الأخلاقية ليس لها مدلول أو ما بإزاء خارجي.

3 - من الناحية الإبستيمولوجية: يذهب العلامة الطباطبائي - خلافاً ل__(فتغنشتاين) - إلى القول بأن المدعيات الأخلاقية تقبل الاتصاف بالصدق والكذب وتقديم المعرفة. بيد أن (فتغنشتاين) حيث يرى أن المدعيات الأخلاقية فاقدة للمعنى، فإنه يؤكد على عدم قابلية المدعيات الأخلاقية للاتصاف بالصدق والكذب وعدم اشتمالها على المضمون والمحتوى.

المصادر:

- ابن سينا (1371)، المباحثات إعداد محسن بیدار فر، قم بیدار .

- الحائري، مهدي (1384)، كاوش هاي عقل عملي طهران مؤسسه بژوهشي حكمت و فلسفه إيران. (مصدر فارسي).

- داوري، رضا (1363)، (ملاحظاتي در باب إدراكات اعتباري) الذكرى الثانية للعلامة الطباطبائي، طهران، مؤسسة مطالعات و تحقیقات فرهنگي (مصدر فارسي)

- السبحاني، جعفر (1368)، حُسن وقبح عقلي، طهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي. (مصدر فارسي).

- سروش عبد الكريم (1366) ، تفرّج صنع طهران انتشارات سروش. (مصدر فارسي).

ص: 214

- سروش، عبد الكريم [تحت النظر] (1360)، جاودانگي وأخلاق، ذكرى الشهيد المطهري، ج 1. (مصدر فارسی)

- سروش، عبد الكريم (1358) دانش وارزش طهران انتشارات ياران (مصدر فارسي).

- سروش عبد الكريم (اعتباريات)، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، طهران، بنياد دايرة المعارف بزرك اسلامي، ج 13. (مصدر فارسي).

- السهروردي شهاب الدين (1372) مجموعة مصنفات شيخ الإشراق إعداد هنري ،كوربان طهران بژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي ثلاث مجلدات.

- دباغ سروش (1378) سكوت :ومعنا: جستارهايي در فلسفه ،ویتگنشتاین، طهران، صراط، التنقيح الثاني. (مصدر فارسي).

- العلامة الطباطبائي، محمد حسين (1385)، أصول فلسفه و روش رئاليسم (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي)، تقديم وتهميش مرتضى المطهري، طهران، انتشارات صدرا، ج 2، (مصدر فارسي).

- العلامة الطباطبائي، محمد حسين الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسه مطبوعاتي إسماعيليان، ج 2.

- كلانتري، عبد الحسين (1386)، معنا وعقلانیت در آراي علامه طباطبائي وبيتر وينج (المعنى والعقلانية في آراء العلامة الطباطبائي وبيتر فينتش)، قم، طه (مصدر فارسي).

- گرامي محمد علي (1359) فلسفه شناخت اعتباریات جهان بيني، ايدئولوژي، قم، انتشارات أميد. (مصدر فارسي)

- ماونس هاوارد (1379)، درآمدي بر رساله ویتگنشتاين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: سهراب علوي نيا طهران، طرح نو.

- مدرسي، محمد تقي (1360) فلسفه ارزش ها، قم. (مصدر فارسي).

- المطهري، مرتضی، نقدي بر مارکسیسم، طهران، انتشارات صدرا. (مصدر فارسي).

ص: 215

- نراقي آرش (1387)، (ملاحظاتي درباره اختلاف آراي طباطبائي ومطهري در خصوص رابطه احکام حقيقي واعتباري)، كتاب ماه فلسفه، العدد: 13. (مصدر فارسي).

- نورمن ملكم وآخرون (1364)، ویتگنشتاین و تشبه نفس به چشم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: ناصر زعفرانتشي طهران، هرمس .

- ویتگنشتاین، لودويك (1379)، (خطابه اي در باب اخلاق) ترجمه إلى اللغة الفارسية: مالك حسيني، فصلية أرغنون الفلسفية الأدبية الثقافية، العدد 16.

Ayer، J (1985) ، Wittgenstein، USA: The University of Chicago press.

Barrett. C (1991). Wittgenstein on Ethics and Religious Belief. UK USA: Blackwell.

Hume. David (1969). A Treatise of Human Nature. Book ii. Ethics. Penguin Books.

Miller، A )2003(، An Introduction to Contemporary Meta Ethics، Oxford: Clarendon Press.

Smith، M )1997(، “Realism، A Companion to Etics، Singer، P (ed.)، Oxford: Blackwell.

White، R (2006) Wittgenstein's Tractatus Logico-Philosophicus، London New York: Continum.

Wittgenstein. L (1961). Tractatus Logico-Philosophicus. trans. Pears. D. and Mc

Guinns. B. London and New York: Routleage and Kegan Paul. Revised Edition 1974.

ص: 216

العناصر البنيوية في فلسفة الأخلاق عند الملا صدرا

محمد لغنهاوزن

ترجمة طارق عسيلي

خلاصة:

عرفت تيّارات كثيرة من البنيوية الأخلاقية. فهناك البنيوية الأخلاقية الإبستيمولوجية وهي الأطروحة القائلة باكتساب المعرفة أو المبرّر الأخلاقي عن طريق الموقف العملي والتدبّر فيه أو الإجراءات المعدّة لتوضيح الموقف العملي. وهناك البنيوية الأخلاقية الدلالية وهي الرأي القائل إن الحقائق والمعاني الأخلاقية قائمة على هذه الظروف أو الإجراءات. وأخيراً، هناك البنيوية الأخلاقية الميتافيزيقية التي ترى أن طبيعة ووجود الحقائق الأخلاقية والخصائص قائمة في خصائص الموقف العملي أو الإجراءات التي يظهر فيها هذا الموقف لأن وجهة النظر العملية تفهم بطريقة مختلفة في تقاليد الفلسفة الأخلاقية المختلفة، كما يمكن أن نجد بنيويات أرسطية وهيومية وكانطية وهيغلية ونيتشوية وغيرها من أشكال البنيوية. أما من جهة فلسفة الملا صدرا الأخلاقية فهي الفلسفة التي تدمج خصائص الفلسفة الإسلامية المشائية، والتراث العرفاني الإسلامي. وهذان التراثان يحويان عناصر بنيوية مهمة : للأول جذور في مبادئ العقل العملي التي وضعها أرسطو، وللثاني جذور في روحية تهذيب النفس البارزة في المصادر الإسلامية والتي تطورت على أيدي العرفاء. وهناك أمثلة على التراثين نوقشت في سياق عرض العناصر البنيوية لرسالة الملا صدرا، الأصول الثلاثة.

ص: 217

ما هي البنيوية الأخلاقية؟

يمكننا أن نفهم البنيوية الأخلاقية على أنها موقف في فلسفة الأخلاق وفي الأخلاق المعيارية. ففي الأخلاق المعيارية، يقدم البنيويون معياراً للأحكام الأخلاقية قد يكون مختلفاً عن المعايير التي يؤيّدها النفعيون، والساعون للكمال والحدسيون. إذ يتم الدفاع عن بعض المزاعم الأخلاقية مقابل مزاعم بديلة من خلال الاحتكام إلى المعايير البنيوية، مثل الإجراءات المعدّة لتوضيح التفكير العملي. غير أن النقاش المعاصر للبنيوية الأخلاقية ركز بمعظمه على العقيدة كنموذج للنظرية الميتا أخلاقية(1)، وهي نظرية معدّة لوضع حلول للمشاكل المرتبطة بإبستمولوجيا الأخلاق، ودلالات المصطلحات الأخلاقية، وميتافيزيقا الأخلاق، وسيكولوجيا الأخلاق.

في ما يلي، سأتحدث عن عدد من نماذج البنوية، وسأعرض تفسيراً للأساس المشترك الذي تقوم عليه هذه النماذج. لكن رغم اعتقادي بوجود بعض أشكال البنيوية الأخلاقية على المسار الصحيح، فإنني لن أدافع عن نظرية بنيوية محددة هنا أو أعرض النقاشات الموجودة في النصوص الفلسفية اللازمة لهذا النوع من الدفاع. لأن هدفنا تفسيري وتحليلي.

يمكن توصيف البنيوية الأخلاقية بأنها النظرية التي ترى أن المعايير الأخلاقية تتأسس على الموقف الأخلاقي أو وجهة النظر الأخلاقية. وقد صاغ اسم الموقف جون راولز(2) John Rawls ، الذي نسبه إلى كانط، وتبنّاه بعده عدد من الكتاب الذين ينطلقون إلى حد كبير من مواقف عرّف بها ،راول، والذي دافع عن نماذج من البنيوية

ص: 218


1- من أجل نظرة عامة أنظر : (Bagnoli، 2011( (Bagnoli، 2011; Bagnoli، 2011(; (Street، What Is Constructivism in Ethics and Metaethics?، 2010(; and the Introduction to (Lenman Shemmer، 2012).
2- بدأ راولز استعمال اصطلاح «البنيوية الكانطية» في محاضراته حول فلسفة الأخلاق عام 1970، وكانت بؤرة تركيزه محاضرات دووي عام 1980 في جامعة كولومبيا Rawls، Lectures on the History of Moral Philosophy .(2000)، xii-xiv; (Rawls، Kantian Constructivism in Moral Theory، 1980

الأخلاقية التي استلهمت من أرسطو(1)، وسبينوزا(2)، وهيوم(3)، وهيغل (4)، ونيتشه(5) أو بعض الفلاسفة السابقين عوضاً عن كانط (6). عند صدور کتاب کرستین کورسغارد KorsgaardChristine (7)، التلميذة السابقة لراولز، باتت البنيوية نظرية مهمة في الميتا أخلاق التي كانت تتباين في الغالب مع الواقعية الأخلاقية والتعبيرية. كما شكلت البنيوية الأخلاقية بديلاً عن النظريات اللامعرفية بزعمها أنها لا تحتاج إلى التزامات أنطولوجية للكيانات الميتافيزيقية غير المألوفة التي رأى ج . ل . ماكي .. Mackie أنها من مسلمات مزاعم الحقيقة الأخلاقية. ورغم تقديم كورسغارد لبنيويتها باعتبارها نظرية كانطية، فإنها سعت للتوفيق بين هذا الموقف وبين المقاربة الأرسطية للأخلاق ؛ وبيّنت أنه رغم الاختلافات وسوء الفهم بين الأرسطيين والكانطيين، يمكن أن توضع كثير من الأفكار الريادية بين الفلسفات الأخلاقية لهذين المفكر ينفي إطار بنيوي تتوافقان فيه ويرفد بعضهما الآخر .(8)

وإذا رجعنا بعد ذلك إلى التراث الفلسفي في الإسلام من أجل البحث فينوع الميتا أخلاق الذي يتناسب معها أكثر، نجد ما يبشر بنوع من البنيوية الأرسطية بسبب التأثير الأرسطي القوي. ساعدت المناقشات الأرسطية للعقل العملي، التي تتفق مع التفسيرات الدينية للتعاليم الأفلاطونية، على فهم التعاليم الأخلاقية الإسلامية التي أتى بها الوحي لكن في الفلسفة الإسلامية المتأخرة، بات التصوف العقلي الذي شكل ابن عربي ركيزته تياراً . ركيزته تياراً في غاية القوة. وبرز في الوقت عينه، نقل الموضوعات

ص: 219


1- (Korsgaard C. M. 1996). ch. 8; (Korsgaard C.. The Constitution of Agency. 2008). part 2; (LeBar. 2008).
2- (Jarrett 2014); (Zuk، 2015 .
3- (Street. Coming to Terms with Contingency: Humean Constructivism about Practical Reason 2012).
4- (Laitinen, forthcoming), available at: https://www.academia.edu/8263284/Hegelian_constructivism_in_ethical_theory.
5- (Katsafanas. 2013).
6- بالإضافة إلى كتب راولز وكورسغارد المذكورة لا بد من ذكر (1989 O Neill).
7- (Korsgaard et al، Sources of Normativity، 1996(); (Korsgaard C. M. 1996).
8- (Korsgaard C.. The Constitution of Agency. 2008). 174206-; (Korsgaard et al. Sources of Normativity. 1996). 147-156.

الأخلاقية الرواقية إلى الأدب الإسلامي. لكن لا يمكننا أن نعرف بدقة كيف تمزج أنسجة الأفكار الأخلاقية مع غيرها، أو تفرض نفسها من خلال تراث الفكر الأخلاقي الإسلامي. لكن ما يمكننا أن نلاحظه هو أن الموضوعات البنيوية المختلفة ظاهرة في كل مكان وما زالت مستمرة.

يصرّ البنيويون على أن المبادئ الأخلاقية الأساسية تنشأ من شروط الاختيار الأخلاقي أو بطريقة ما تُبنى عليه. وهذا مبهم لجهة اشتماله على مجموعة واسعة من المواقف البنيوية والبنيوية كما عرفت هنا لا تستدعي ضرورة أن تنتج الإلزامات الأخلاقية عن أفعال إرادية محددة(1) على الرغم من وجود أشكال ذاتية وموضوعية من البنيوية الأخلاقية.

يدافع بعض البنيويين مثل شارون ستريت Sharon Street (2)عن النموذج الهيومي من البنيوية، الذي يركز على الرغبات والحالات العاطفية التي تعتبر أساسية للإرادة الأخلاقية، لأن هذه الحالات تجعل الدافعية ممكنة. ويدافع آخرون عن الأشكال الأكثر عقلانية من البنيوية الكانطية، والهيغلية، أو الأرسطية، التي تعتبر معايير التفكير العملي أساساً للأخلاق ومهما كانت الأشكال التي يدافعون عنها، فإن البنيويين يعتقدون أن الأحكام الأخلاقية هي نوع من الأحكام المعيارية، أي، أن الأحكام الأخلاقية تحتكم إلى المعايير أو إلى مبادئ السلوك والتقييم، ومن خلال هذا النوع من الاحتكام للمعايير المشتركة تحصل الأحكام الأخلاقية على القوة البين ذاتية التي تبديها.

وبينما البنيوية الأخلاقية هي مجموعة من الآراء الميتا أخلاقية التي ترى أن الأخلاق تنشأ من ظاهرة تبنّي وجهة نظر عملية فهناك نظرية في الإرادة الإنسانية وثيقة الصلة بها البنيوية، التي ترى أن الإرادة تتشكل من خلال المعايير التي تحكم وجهة النظر العملية. وقد استخدم دمج كورسغارد للمكونات الأرسطية والكانطية من

ص: 220


1- يرفض وود نسبة البنيوية الأخلاقية إلى كانط بسبب تفسيره لها بهذه الطريقة أنظر : Wood، Kantian Ethics .2008). 107
2- (Street، Coming to Terms with Contingency: Humean Constructivism about Practical Reason، 2012).

أجل إعداد نماذج من البنيوية وأنا أعتقد أن ثمة مكوّنات شبيهة تظهر في المنظومة الأخلاقية الإسلامية عند الملا صدرا للتعبير عن الرؤية البنيوية للإرادة والرؤية البنيوية للأخلاق / الروحانية.

ولأن البنيويين الأخلاقيين يرون أن الحقائق الأخلاقية مرتبطة بوجهة النظر العملية فإن البنيويين الأخلاقيين يرفضون تلك الأشكال من الواقعية التي تحتاج إلى حقائق أخلاقية للتلاؤم مع الوقائع الأخلاقية المستقلة عن المواقف الإنسانية المثالية أو الواقعية. ونظراً لأن الواقعية الأخلاقية تعرف بطريقة تحتاج إلى استقلال ذهني، فأحياناً توصف الأخلاق البنيوية بأنها أخلاق معادية للواقعية؛ لكن لأن البنيويين الأخلاقيين لا ينكرون وجود الحقائق والصفات الأخلاقية بالإجمال، فإنهم يكرهون وصف أنفسهم بأعداء الواقعية. وهكذا يمكننا أن نعرف البنيوية الأخلاقية الميتافيزيقية بأنها الموقف الذي يرى أن طبائع ووجودات الحقائق والصفات الأخلاقية تتأصل في خصائص الموقف العملي أو الإجراءات التي تظهر ذلك الموقف، إما في الحياة الحقيقية أو في شكل مثالي. وإن كان هذا النوع من البنيوية الأخلاقية الميتافيزيقية لا ينكر وجود كل الحقائق والصفات الأخلاقية، إلا أنه ينكر أن المبادئ الأخلاقية والقيم، والإلزامات، والفضائل موجودة بشكل مستقل عن الإرادة الإنسانية أو إضفاء المثالية على الإرادة الإنسانية. وهكذا سيكون أحد أشكال البنيوية الميتافيزيقية (الكانطية) الرأي القائل إن ما يجعل السرقة خطأ من الناحية الأخلاقية هو أن السرقة إضعاف لإرادة المرء من خلال ما تسببه من تناقض عملي. رغم أن ارتباط المسائل الميتافيزيقية بوجود الحقائق والصفات الأخلاقية المستقلة عن العقل جذب الكثير من الانتباه (وربما انتباه مفرط) في فلسفة الأخلاق المعاصرة، كان البنيويون مهتمين إلى أقصى الحدود بالمسائل الإبستيمولوجية.

ليست البنيوية الإبستمولوجية مجرد وجهة نظر ترى أن بعض الإجراءات أو التأملات حي الطبيعة الإرادة والمعيارية التي تبين أنها وسائل نافعة لمعرفة شيئ عن الأخلاق كما يمكننا استعمال المنهج الاختباري كوسيلة للحصول على المعرفة

ص: 221

بتركيب مادة كيميائية(1) . فالمدعى أقوى من هذا بكثير. فممارستنا للتأمل والتبرير الأخلاقي (سواء أتجسدت في مناهج المعالجة أو في بعض خصائص المواقف العملية) ستمكننا من الوصول إلى المعتقدات الأخلاقية المعروفة، والمبررة، أو المعقولة بسبب البنى والمعايير الأساسية التي يجب أن تتكيف المعتقدات الأخلاقية معها من أجل اتخاذ المواقف العملية. فالمعرفة الأخلاقية (التبرير، الوسطية) تكتسب عن طريق ممارسة الأحكام الأخلاقية الإجراءات الأخلاقية، الموقف الأخلاقي) لأن هذه الممارسات أساسية للمعرفة الأخلاقية (التبرير الوسطية)، باختصار، النجاح الإبستيمولوجي حيال المسائل الأخلاقية هو في الأساس مبني على الموقف العملي (من جديد الحقيقي أو المثالي). تختلف البنيوية الإبستيمولوجية بشكل واضح عن الرأي الذي تبنّاه الواقعيون اللا - طبيعيون حيال البديهيات الأخلاقية. يعتقد البنيويون إذا وفّرت البديهيات الأخلاقية أي تبرير للاعتقادات الأخلاقية، فذلك لأنها مؤشرات على مقتضيات (أو الفرضيات المسبقة) تبنّي وجهة النظر العملية، وليس لأن البديهيات توفر لنا إطلاله إلى عالم الحقيقة الأخلاقية المستقلة عن إرادتنا.(2) قد يكون الشكل الدلالي من البنيوية الأخلاقية هو الشكل الذي تتأسس وفقه معاني المصطلحات الأخلاقية أو الحقائق الأخلاقية في الموقف العملي أو في الإجراءات المعدّة لتوضيح هذا الموقف. وبتعبير أدق إن كيفية تحديد العلاقة المؤسسة سيكون كافياً لوضع نظرية بنائية جزئية.

رغم أن البنيوية الأخلاقية هي بالدرجة الأولى أطروحة إبستمولوجية(3)، يمكن إعادة تشكيلها لتنتج مواقف دلالية أو ميتافيزيقية بالطرق التي أشرنا إليها أعلاه. ورغم استقلالية المواقف الإبستيمولوجية والدلالية والميتافيزيقية، فإنها إذا جمعت معاً تتجه نحو شكل متماسك وشامل من البنيوية الأخلاقية. أما أهم ما يميّز البنيوية الأخلاقية

ص: 222


1- يرفض (2011 Enoch) فكرة أن تكون البنيوية نظرية إبستيمولوجية لو فهمت بأنها تعني هذا: «نحن نوافق - بنيويون وغير بنيويين على حد سواء - أننا نوظف الإجراءات المعرفية لكي نعرف أن الحقائق الأخلاقية والإجراءات (ربما جزئيا) تحدد ما بررناه باعتقادنا. وهذا الأمر المعروف لا يستلزم البنيوية».
2- دافع ريتشارد برايس عن نوع من البنيوية، كما قدم روبرت أودي دفاعا مهما عن البنيوية الأخلاقية خلال مهنته وفي أحدث كتاب له. (2013 Audi).
3- (See the contributions of Lenman and Tiberius in (Lenman Shemmer، 2012.

عن أهم النظريات المنافسة لها هو أنها تتفادى الصعوبات الشائعة للنظريات اللا معرفية بدون إثارة الاعتراضات الإبستيمولوجية التي أفسدت الواقعيين اللا طبيعانيين الذين زعموا أن البديهيات الأخلاقية توفر نوعاً من إدراك الحقائق الأخلاقية اللا طبيعانية. البديل الذي قدمه البنيويون هو الذي ينشأ فيه تبرير أخلاقي من التفكير بالمعايير المؤسسة في قدرة الاختيار الإنسانية والموقف العملي. الحدسيات الأخلاقية ليست شكلاً من الإدراك المباشر للحقائق والملكات الأخلاقية، بل هي علامات تشير مؤقتاً إلى أن الشروط اللازمة للتبرير قد تحققت.

من المسائل الجاذبة للفلاسفة الذين يميلون إلى الطبيعانية في البنيوية الأخلاقية، منذ مناقشات ،راولز، أنها تبشر بنظرية أخلاقية بدون التزامات ميتافيزيقية. في هذا الخصوص، تختلف الموضوعات البنيوية الموجودة في الفلسفة الإسلامية عن تلك الموجودة في كثير من نظريات فلسفة الأخلاق المعاصرة فالفلاسفة المسلمون لا يستغلون الموضوعات البنيوية من أجل اجتناب الالتزامات للكيانات المجردة. وهذا ما يلاحظ بشكل خاص في كتابات الملاصدرا، وهو ما سنتحدث عنه في الفقرات التالية.

أصول ثلاثة للشرّ

ولد صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا، في شیراز إبان العهد الصفوي عام ،2-1571 وتوفي في البصرة أثناء عودته سيراً على الأقدام من رحلته السابعة إلى الحج عام 6-1635.(1) كان فيلسوفاً منهجياً، ومتكلما، وعارفاً.(2) توزّعت آراؤه الأخلاقية على كتبه، حيث نجدها في أبحاث الأسفار العقلية

ص: 223


1- See Rizvi، Sajjad، Mulla Sadra، The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2009 Edition) ، Edward N.Zalta (ed.). URL = http://plato.stanford.edu/archives/sum2009/entries/mulla-sadra/.
2- اشتق مصطلح العارف من عرف في زمن الملا صدرا كان مشاهيؤ الصوفيين يستخدمونه مثل العطار والقونوي وكل الذي اتبعوا الطريق الروحي بحثا عن معرفة الله او الفناء في الله والعرفان كلمة مشتقة من نفس الجذر وهو ينقسم الى عرفان نظري و عرفان عملي ورغم ان كلمتي عارف وعرفان ترجمتا الى عنوصي وغنوصية فهذا سيكون مضللا لو تم الربط بينه وبين الاشكال اليونانية والمسيحية من الغنوصية والترجمة الأخرى السرانية والسراني وهذا سيكون مضللا بسبب الربط بالاسرار المخفية على العقل وخصوصا مع الاشخاص المسيحيين المعروفين بالسرانيين وعقائدهم، وهذا بالتأكيد نفى لأوجه الشبه المهمة التي يمكن ايجادها في اراء الصوفيين المسلمين والمسيحيين للمزيد عن العرفان الشيعي :أنظر : (2014) Legenhausen، The Irfan of the Commander of the Faithful Imam Ali).

الأربعة، وتفسير آيات من القرآن الكريم، وعلم النفس الفلسفي. فمنظومته الأخلاقية لا تنفصل عن آرائه الميتافيزيقية. إذ يعتبر صدرا أن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة تبدأ من المادة الأولى وتبلغ ذروتها في الوجود الصرف الذي يهب الوجود لكل شيء والإنسان في حال من التغير ويبلغ وجوده أشده بوصوله إلى كماله عن طرق التحرر من سيطرة الشهوات المادية وبلوغ مرتبة القرب من الله.

بيد أن أهم مصادر فهم الفكر الأخلاقي للملا صدرا هو رسالته الفارسية سه أصل(1)، وكلمة سه أصل تعبير فارسي يعني «المبادئ الثلاثة» أو «الأصول الثلاثة» سأعرض في هذا القسم بعض الموضوعات الأساسية من هذا الكتاب وسأسلّط الضوء على العناصر البنيوية في النظرية الأخلاقية للملا صدرا. غير أن الملا صدرا لم يسعَ في أي من كتبه إلى طرح واضح لنظرية في فلسفة الأخلاق؛ لذا فإن نسبة رأي بنيوي إليه (أو أي موقف ميتا أخلاقي آخر) لا يمكن أن يكون أكثر من البحث عن دليل عليه في النصوص التي تتناسب مع هذا النوع من النظريات أكثر من الأدلة على النظريات البديلة ذات الصلة بالموضوع. لن أقيم قابلية بنيوية الملا صدرا للدفاع الفلسفي، لأن هذا سيحتاج إلى مراجعة جميع كتاباته الأخلاقية ودراستها في ضوء الكتابات عن البنيوية التي تراكمت على مدى الأربعين سنة الماضية. لكن هدفي أن أبين أن الموضوعات البنيوية يمكن أن تكون موجودة في كتابات الملا صدرا، وأن أقترح أن اكتشافها يمكن أن يساعد في فهم النظام الأخلاقي واللاهوتي الصدرائي.

قد تبدو فلسفة عارف مسلم غير منسجمة تماماً مع البنيوية الأخلاقية، لأن البنيوية الأخلاقية نظرية ترتكز على فكرة الاستقلال. فقد كانت كتابات كانط حول الاستقلال جزءاً مهماً ممّا سمّاه السدر ماكلينتاير Alasdar MacIntyre «مشروع التنوير»، وهو

ص: 224


1- (Shirazi B. a.-d.، 1376/ 1997). References to this work will be by paragraph as used in this edition. "n/m", where n is the chapter number and m is the number of the paragraph in the chapter. The work is in Persian. All translations are my own. In what follows. I will refer to the book as Three Roots. There is also an earlier edition of the Persian text that was edited by Seyyed Hossein Nasr and published in Tehran in 1961. An English translation by Colin Turner is scheduled to be published by Routledge later this year (2016).

مشروع فشل في إيجاد بديل علماني عن الأخلاق الدينية . [1] لكن وفقاً لدراسة آراء كانط الدينية والأخلاقية، لم يكن كانط ربوبياً كما كان يوصف أحياناً؛ فقد رأى أن علينا أن «نفهم أن كل واجباتنا أوامر إلهية» . 2) ومن جهة أخرى، فإن فكرة وجود أساس للأخلاق في التفكير العملي هي ميزة لفسلفة الأخلاق الأرسطية، والتي يمكن العثور عليها عند غيره من اليونانيين القدامى، وعند الكتاب الدينيين الذين قرؤوا تراثهم، سواء أكانوا يهوداً أم مسيحيين أم مسلمين. فالإنسان بالنسبة للملا صدرا كما بالنسبة لكانط وهيغل، يسعى إلى الحرية، وكلما تقدم في سعيه إلى الحرية يتقدم أخلاقياً، فالقيود التي تفرضها الذنوب والتعلق بالدنيا لن تكبّل من كانت الحرية غايته في الدنيا والآخرة.

يعالج كتاب الأصول الثلاثة ما يعتبره الملا صدرا أهم أصول للشر والأصول الثلاثة للشر التي يناقشها الملا صدرا هي: (1)الجهل بمعرفة النفس (2)حب الدنيا (3)تسويلات النفس الأمارة ، وتظهر هذه الرذائل الثلاث حسن فضائل الغنوصي، الصوفي أو العارف وهي معرفة النفس العزلة، والنتيجة التي تترتب على قهر النفس الأمارة الصفاء أو الطهارة. والجدير ذكره أن خيار صدرا للرذائل غاية في العقلانية. فمثلاً لا مكان في مناقشاته لضعف الإرادة والرذائل الثلاثة التي يعتبرها أصولا للشر هي الرذائل المعرفية. أما الرذائل الأخلاقية فإنها نتيجة للرذائل المعرفية. فمثلاً يضع حب الدنيا أهدافاً للنفس غير ملائمة تنتج عن الاعتقاد الخاطئ بأن الغايات الدنيوية أكثر قيمة عن الغايات الأخروية الكتاب جدال طويل مع من يزعمون التمسك بالدين والتقوى والذين يفهمون الدين بطريقة سطحية ويدينون الفلاسفة والعرفاء. كما تنعكس الأصول الثلاثة للشر في عالم مثال الحياة الآخرة كرؤوس ثلاثة للشيطان أو أفاع تعذب الذين تسيطر عليهم.

ص: 225


1- MacIntyre، 2007(، 117
2- For a discussion of the للمزيد من المناقشة حول العلاقة بين الأخلاق والاوامر الالهية في فلسفة كانط أنظر relation between morality and divine commands in Kant, see (Kain. 2005). An especially important defense of Kant's theology is to be found in the works of Stephen Palmquist. See (Palmquist S. ، 2016); (Palmquist S. R.. 2000). In (Stern. 2012). Part I. Stern argues that Kant's view of moral obligation is R.، I، a hybrid between moral realism and moral constructivism.
3- Shirazi B. a.-d.، 13762/7 ،1997

عالم المثال بالنسبة للملا صدرا، ليس مجرّد عالم خيالي أو وهمي(1). في الحقيقة إن العالم المبني بالخيال يوفر الشروط التي تجد النفوس ذاتها فيها في الآخرة هو أكثر واقعية من عالم الحس الذي نجده مألوفاً لنا؛ والعالم العقلي الصرف أكثر واقعية وأكثر رفعة عندما تزول حجب عالم الحس، ينكشف العالم الداخلي في صور الأشكال الدينية المألوفة من العقاب والثواب لا مفرّ من العقوبات الإلهية لأنها في الواقع مظاهر حقيقية للنفس ولا مفر للمرء من نفسه.

تشكّل الأصول الثلاثة الصدرائية الجهل بالنفس وحب الدنيا، وتسويلات النفس، عوائق أمام الاختيار الناجح وأن تكون مبادئ كل الشرور هي العوائق أمام

أطروحة بنيوية، كذلك فكرة أن يكون البشر مدعوين من الله الاختيار الناجح هي لقهر هذه العقبات وتحقيق كمالهم. وهذا لا يعني أن الملا صدرا سبق كورسغارد، كما لا يعني أنه تبنّى نظرية في فلسفة الأخلاق في غير زمانه، لكن ثمة دليل على أن الملا صدرا رأى أن أصوله الثلاثة هي مصدر الشر الإنساني تحديداً لأنها تعيق قدرة الاختيار عند الإنسان والكمال التدريجي الذي ينطوي على ترقي النفس بالأسفار العقلية. واضح أن هناك أطروحة بنيوية ميتافيزيقية حيال طبيعة الشر الأخلاقي بينة في تحديده للخصائص التي تقوض حرية الاختيار بوصفها مبادئ للشر؛ كما توجد بنيوية إبستمولوجية فاعلة في محاولاته لتبيان شرية الرذائل التي يناقشها عندما يبحث في كيفية منعها للتطور الروحي الناجح الذي يلعب بالنسبة لصدرا دوراً في بنيويته الأخلاقية شبيه بالدور الذي لعبته تدابير القرار العقلي للبنيويين الكانطيين (مثل الموقف الأصلي لراولز). اتضح فهمنا للفضيلة والرذيلة الأخلاقية من خلال دراسة تأثيرات سمات الشخصية على التطور الروحي أو الخسارة في هذه الحياة، وكيف ينعكس هذا في الآخرة. ولا حاجة للقول إن الملا صدرا يرى أن الله يثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات، فالملا صدرا لا يفسّر فهم الصفات الأخلاقية من

ص: 226


1- The term imaginal world. is from mundus imaginalis introduced by Henry Corbin in his discussions of Sohravardi (Corbin. 1977). 7677-. Sohravardi's idea of the imaginal world was considerably revised by Mulla Sadra. For more discussion of this see (Legenhausen. Mulla Sadra's View of God's Relations to the Sensible and Imaginal Worlds: Imagination and the Variable Intensity of Being، 2015).

خلال معايير نظرية الأمر الإلهي، والاستشهاد بالنص لا يتممن أجل اكتشاف الوضع الأخلاقي لفعل أو صفة، بل ليبين كيف يثبت الوحي ما يكتشفه العقل عن نفسه ويزوّد بإشارات تجاه مستويات أعمق من البصيرة.

تتألف الأصول الثلاثة من مقدمة يليها أربعة عشر فصلاً (يحتوي الكتاب على 182 فقرة) وقد اشتمل فهرس المحتويات على:

0. المقدمة.

الجهل بمعرفة النفس.

حب الدنيا.

تسويلات النفس الأمارة وتدليسات الشيطان المكّار .

نتيجة الإعراض عن معرفة النفس وعلم المعاد.

نتيجة الأعراض الدنيوية

في نتائج النفس الأمارة.

بيان النصيحة والتنبيه على طريق السعادة والشقاء.

في العثور على سبيل الله الذي هو مسير السالكين ومسلك المبصرين.

إنكار للذين يحصرون المعرفة الدينية بأمور الدين الظاهرية.

في بيان الإيمان الحقيقي وحال معانديه.

القلب ومرآته والموانع الخمسة الواقعة بينها وبين الإيمان الحقيقي.

علم الآفاق والأنفس وعلم التوحيد.

التقليد والعلم الحقيقي.

في معرفة العمل الصالح والعلم النافع.

ص: 227

معرفة النفس

لیست معرفة النفس من باب العلم الحصولي أو معرفة مفهومية بقوى النفس أو بسيكولوجيتها . أنها معرفة عملية بالهوية الشخصية للمرء، بقوته وضعفه، بمبدئه وغايته. بالطبع المعرفة السيكولوجية ضرورية للفهم التام للنفس، لكن الفهم المكتسب ليس مجرد اكتشاف الحقائق. فهو ليس معرفة عقلية، بل معرفة القلب». أن نعرف من نحن وكيف نبحر في الحياة. وكما يعبر صدرا إن معرفة النفس هي حقيقة أن تكون إنساناً، وهذا ما يمكن أن نفهم أنه معرفة بإنسانيتنا، التي تشكل بنيتنا الإرادية الذاتية. وهذا بالنسبة للملا صدرا أساس الإيمان بالآخرة، وليس مجرد إثبات عقلي للعقيدة، لكنوعينا بهويتنا لا يمكن أن يختزل بأي مجموعة من ظروف العالم المحسوس، وأن الجانب المتعالي من هويتنا يتحدد جزئياً من خلال أفعالنا في عالم الحس. لذا فإن الملا صدرا عندما يقول إن معرفة النفس هي معرفة بمبدأ النفس ومعادها ، يكون مضللاً إذا فهمنا أن هذا يعني أن معرفة النفس محصورة فقط بالمعرفة العقائدية للتعاليم الدينية.

الدعوة لمعرفة النفس جزء من التراث الفلسفي المذكور في الإحالة السقراطية المتكررة لعرافة دلفي «Gnothi iseautone» (1). وقد أصبحت معرفة النفس موضوعاً متواتراً في منظومة الأخلاق الرواقية وما لاقته في الآثار المتأخرة من عناية بتهذيب النفس أو الاهتمام بها (epimelia beaution)(2). وفي فلسفة الملا صدرا، باتت معرفة النفس أم الحكمة.(3)

يبدأ الملا صدرا بمناقشة معرفة النفس في الأصول الثلاثة مستشهداً بالحديث الشهير «من عرف نفسه فقد عرف ربه» . ثم يلفت نظر القارئ إلى أن هذا بمثابة عكس النقيض

ص: 228


1- Know thyself" at Charmides (164D). Protagoras (343B). Phaedrus (229E). Philebus (48C). .(Laws (II.923A). Alcibiades I (124A. 129A. 132C
2- . For a discussion of themes of care of the self in the Qur'an. see (Neuwirth. 2014). xxii. 72. 262
3- (Shirazi S. a.-D. 2003). xxi-xxiii; 91 n. 16)

للآية «نسوا الله فأنساهم أنفسهم»(1)، ثم يكمل ، لأنه مادام نسيان الرب يسبب نسيان النفس، فإن تذكر النفس يوجب تذكّر الرب، وتذكر الرب موجب لتذكّر النفس» .(2)

يكمل الملا صدرا الحديث عن ذكر الله فذكر الله من الأعمال التفكرية التي يتكرر ذكرها في كتب العرفاء. (3)ويحدّر صدرا من أن ذكر الله لا يجب أن يفهم على أنه مجرد ممارسة عملية، كما ينتقد بعض المتصوّفة بسبب تحويله إلى طقوس فارغة. ثم يدعي أن العلامة الواضحة على أن ذكرهم ليس تحويلاً صحيحاً للانتباه إلى الله أنهم صرفوا وجوههم عن جانب القدس وطلب اليقين، وتوجهوا إلى محراب أبواب السلاطين، وتركوا الإخلاص والتوكل، وطلبوا الرزق من غيره تعالى فهم يسعون لبناء قصورهم في هذا العالم بدل بناء أنفسهم وهذا يعني أن القادرين فعلاً على الفعل المسؤول، الذين يصفهم الملا صدرا بأنهم أحياء تماماً، وأولي الألباب ولهم نور وبصيرة، إنهم الذين يعرفون أنهم ليسوا مجرد حيوانات، وأن قدرهم العيش في عالم روحي. إن الذين يعرفون أنفسهم سيعرفون أنهم ليسوا أجساماً مادية فقط، لأنهم يبنون لأنفسهم حياة في الآخرة ، «لأن أساس الاعتقاد بالآخرة قائم على معرفة النفس» (4).

يتابع الملا صدرا ذاكراً عدداً من الرويات عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن الحياة بعد الموت، ويعلق أن معرفة النبي بخلود النفس ناجم عن معرفته بالروح. ويوصي قراءه بالبحث عن النفس الناطقة في داخلهم التي يشبهها بكنز في الخراب مستشهداً ببعض الرباعيات الشعرية.

اكتشف النفس المسماة بالناطقة

حتى يتبين لك معنى الكنز المخفي في الخراب

ص: 229


1- القرآن الكريم (59:ة 19)
2- Shirazi B. a.-d.، 13761/1 ،(1997/.
3- For a discussion of the forms of the practice and a quotation from a manual see (Ernst 1997( ، 9298-. For an insightful discussion of the remembrance of God. see (Chittick. 2008). 6373-.
4- (Shirazi. a.-d.. 137614/1 (1997).

تقول : عقلنا وقلبنا روحنا ...

قل لي من قال هذا ال__«نحن» وال__«أنا» ؟

إنه نجم بشير تشرق من جهته

حقيقة الإنسان التي بفضلها ينتسب

هو لب وجودك وأنت القشر

فبدون عبور من هذا القشر، كيف سترى اللباب(1)

لا يذكر اسم الشاعر ، لكن أبيات الشعر متناثرة في النص لإثبات المسائل المهمة. لا يرى غير السطح لن يقدر على تشكيل مقاصد غير سطحية. ومن لا يعرف خلود نفسه سيحدّ أهدافه بالملذات الدنيوية. حدود ما يمكن قصده هو إعاقة القدرة على الاختيار. تنشأ الأخلاق من الخطوات اللازمة لتجاوز هذه القيود على الإرادة أو الشخصية، من خلال توسعة المرء حدود مقاصده إلى ما يتجاوز الملذات والراحة الجسدية. هناك نوع من المفارقة ذات مرجعية ذاتية واضحة في البنيوية الأخلاقية، فهي تجيب عن السؤال الذي يطرحه العقل، حيال كيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية من خلال الإشارة إلى الظروف اللازمة للأداء الصحيح للقوى التي تتخذ القرار الأخلاقي. ال__«أنا» أو ال__«نحن» التي تطرح السؤال هي النفس الناطقة ذاتها التي يمكن العثور على الجواب فيها.

إذا توافقت معرفة النفس مع تعزيز القدرة على الاختيار، وبالتالي لأن هذا الإصلاح يكون تدريجياً، لا يمكن أن تتشكل معرفة النفس فقط من معرفة أن للمرء نفساً خالدة. وهكذا ينهي الملا صدرا الفصل الأول في معرفة النفس بإنكار وجود جوهر إنساني واحد مشترك بين كل أفراد الإنسان فللإنسانية درجات أعلاها النبي (الأنبياء)، وهذا ما جعله يقول «من رآني فقد رأى الحق»، أما أدناها فهناك ما وصفه القرآن «أُوْلَئِكَ

ص: 230


1- القرآن الكريم (197:7) .

كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ»«أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ».(1)

بعد تخصيص فصول منفصلة لحب الدنيا ووسوسات النفس، يرجع إلى موضوع معرفة النفس لكي ليدرس تأثير معرفة النفس والجهل بها بالنسبة للآخرة.

العزلة

الفصل الثاني تحذير من حب الدنيا، ومن سيطرة ،الغضب والهوى والشهوة. غير أن التحذير من هذه الصفات أو الملكات لا هذه الصفات أو الملكات لا يعني أنها شر بالفطرة، بل جلّ ما تعنيه أنها لا يجب أن تسيطر على المرء. يُحث القارئ على التغلب على القوى الحيوانية كي يحقق إنسانيته . وهذا ليس حثاً سهلاً. فالعاجزين عن سيطرة العقل على الرغبات الدنيئة مدانون بسبب غرقهم في الملذات والأهواء، كمن في قلوبهم كلب مجنون ولا نقاش في ضعف الإرادة.

بينما يركز الملا صدرا على الجانب السلبي وعلى حب الدنيا، فإن الفضيلة التي تقابلها هو الفضيلة تنسب دائماً إلى الرواقيين، وهي العزلة. وكما رأى كثيرون، فإن للعزلة سمعة سيئة في الثقافة الحديثة لأنها فقدان للمشاعر ولامبالاة. كما يمكن أن يساء تفسير إدانات حب الدنيا التي نجدها في كتابات الملا صدرا باعتبارها إسراف في الحشمة. لكن الملا صدرا لا يدعو إلى فقدان الالتزام والاهتمام، أو حتى إلى عدم التمتع بالملذات الدنيوية. إن ما يحذر منه هو الانقياد لسلطة الأهواء الدنيوية بشكل يعيق أو يحدّ من شخصياتنا ككائنات مختارة مسؤولين قادرين على بناء أنفسنا التي تتجاوز عالم الحواس.

والذين لا هم لهم إلا إرضاء الرغبات الحيوانية يحولون أنفسهم إلى حيوانات وفي البعث ستظهر هذه لهم عندما يأخذون أشكال البهائم.

كما يمكن للإنسان أن يرتقي من مقام وضيع إلى أعلى عليين وأرفع المراتب ومقامات الملائكة المقربين [إلى الله] عن طريق الترقي في العلم والعمل والفناء

ص: 231


1- (1376 ،.Shirazi 8. a-d/1997) ، 24/1. القرآن الكريم (7:ة9)

والبقاء، وكذلك يمكنه أن يهبط من مقامه الحالي إلى أسفل سافلين وإلى مرتبة الحشرات والبهائم، وسوف يحشر في الآخرة مع الشياطين والبهائم والوحوش لأنه اتبع النفس والهوى، وبسبب نزوعه إلى طبائعها وماديتها . (1)

باكتساب العلم واتخاذ الخطوات العملية الضرورية في المسار الروحي، يسعى المرء لخلاص نفسه من «السجون المظلمة» للرغبات البهيمية. إنه موضوع يعود إليه الملا صدرا بشكل متكرر:

إن أرواح الأحرار كالروضة وأرواح الأشرار الضيقة إنما هي كالحفرة .(2)

الأصالة

في التقاليد الإسلامية، وانطلاقاً من المصطلحات الموجودة في القرآن، يقال إن للنفس مراتب مختلفة. وتُسمّى كل مرتبة نفساً، لذا يقال إن لكل شخص عدداً من الأنفس. فللإنسان في التراث المشائي نفس نباتية ونفس حيوانية ونفس ناطقة. كما تسمى النفس الدنيا بالنفس الأمارة وقد ورد هذا التعبير في الآية التي قال فيها النبي يوسف علیه السلام «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِيٌّ إِنَّ رَبِيٌّ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(3)

يرى الملا صدرا، أن النفس جسمانية الحدوث، وهذا كمالها الأول، أو الصورة الحية للجسم، لكن عن طريق الحركة الجوهرية أو التغير، تحوّل النفس ذاتها وتصل إلى مراتب أعلى من الفعلية كالنفس الناطقة الأبدية. الملا صدرا لا يفسّر هذا في الأصول الثلاثة، لكنه يتحدث عنه بشكل تفصيلي في أهم وأشهر كتبه، الأسفار الأربعة .(4) يرى الملا صدرا أن الفضيلة تكتسب، عندما ينتزع المرء السيطرة على نفسه

ص: 232


1- (Shirazi . a. -d.. 13765/8 (1997/; there are similar but more detailed remarks to this effect at 51/; also see: 53/11;5/8;9/.
2- (Shirazi B. a.-d.، 13766/4 ،(1997/.
3- القرآن الكريم (12 : 53)
4- See (Shiriazi، 2008); I have briefly summarized Sadra's doctrine of the soul in (Legenhausen. A Muslim's Spirit. 2010); and I have discussed his philosophical psychology of the imagination in (Legenhausen. Mulla Sadra's View of God's Relations to the Sensible and Imaginal Worlds: Imagination and the Variable Intensity of Being. 2015).

من النفس الأمارة من خلال ارتقاء النفس إلى مراتب أعلى.

يقول الملا صدرا في الأصول الثلاثة إن عمل النفس الأمارة، شبيه بعمل الشيطان، وهو تضليلنا عن طريق الوهم والخداع لأن هذه التسويلات من طبيعة لا ينخدع بها إلا الناقصين وأصحاب الطباع الصبيانية، والتعلّق بها يؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة. يشبّه صدرا من تسيطر عليه النفس الأمارة بمن يخوضون في الجدل من أجل إشباع رغباتهم لا من أجل تحري الحق وسبيل الهدى يخادعون أنفسهم عندما يعتقدون أنهم نجحوا بتحقيق النصر في الجدل. مثال آخر على خداع الذات موجود عند الذين يظنون أنهم متقدمون روحياً فقط لأنهم يؤدون الأعمال العبادية : «لن تصبح سيد طبيعتك بالصلاة والصوم، لأنك إذا استمريت بفعل هذا ستزداد ظلاماً كل يوم بهذين الأمرين»(1). فالتطور الروحي يتحقق من خلال قهر النفس وليس بالتنسك والعبادة السطحية.

يصوّر صدرا خداع النفاق من خلال الإشارة إلى كلمات منسوبة للمسيح (ع) في التراث الإسلامي: روي عن المسيح عليه السلام أنه قال : «كيف يكون من أهل العلم من يكون مسيره إلى الآخرة وهو مقبل على دنياه، وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به».(2)

السعادة

في التراث الأخلاقي الإسلامي، تتحول كلمة (بهجة)ευτυχία إلى سعادة، فالكلمتان اليونانية والعربية تترجمان إلى «happiness“ ”سعادة، لكن مفهومهما مختلف. والتحول شبيه بما هو موجود في التراث المسيحي، الذي يستعمل عادة عبارة بهجة . إن نتيجة نقل ευτυχία في التراثين الدينيين، إلى الآخرة هي، استبعاد الاحتمالات التييرى أرسطو ، أنها يمكن أن تقضي على فرص الحياة الهانئة، مثل بلاء الولادة، والتشوهات الخلقية، والكوارث. يمكن لأي من هذه الأمور الممكنة أن يجعل المرء تعيساً في حياته، لكن هذا قد لا يكون ملائماً لوضع المرء في العالم الآخر.

ص: 233


1- (Shirazi . a.-d.. 13765/3 (1997/.
2- (Shirazi B. a.-d.، 13762/14 ،)1997/.

من هنا، باتت البهجة هدفا أكثر صفاءً من السعادة ευτυχία الأرسطية. لكن بالنسبة لكانط، السعادة لهو يمكن أن ينتقص من صفاء الإرادة الحرة. فلو أنا تصرفت فقط من أجل الحصول على بعض الثواب في الدنيا أو في الآخرة، تكون إرادتي غير مستقلة. لأنني أتصرف فقط من أجل الحصول على بعض الملذات لا على أساس الإرادة الحرة. (1)وهكذا واجهت كريستين کورسغارد Christine Korsgaard بعض الصعوبات أثناء التوفيق بين أرسطو وكانط في هذه المسألة فقد أساء كانط فهم السعادة ευτυχία عندما اعتبرها شعوراً. فهي بالنسبة لأرسطو حياة الفضيلة الناشطة. ومتى يتضح هذا، يمكن أن يحل النزاع بين أرسطو وكانط . فأرسطو يعتقد، كما يعتقد كانط، أن إنجاز عمل مقرر بسبب نبله يفوق إنجاز العمل الذي تم اختياره كوسيلة لإرضاء بعض المصالح الشخصية. وإذا افترضنا أن كورسغارد وفّقت بين كانط وأرسطو مبينة أن السعي لتحصيل السعادة لا يتنافى مع استقلال الإنسان، يبقى الإشكال قائماً حول إمكان أن يكون طلب الغبطة أو السعادة منسجماً مع البنيوية الأخلاقية. تنشأ المشكلة لأن مفهوم الآخرة يرمز إلى فكرة السعادة. لم تعد حياة الفضيلة الناشطة فقط والسعي للغايات الخارجية غير متناسقة مع فعل شيئ من أجل هذا الشيء أو من أجل الخير الكامن في الفعل وبمعنى أدق تعتبر الغايات الأخروية غير متناسبة مع البنيوية الأخلاقية لأن هذه الغايات كافية لتحديد الحق والباطل بدون أي اعتبار لوجهات نظر عملية أو لطبيعة القدرة على الاختيار عند البشر. إن تفسير الملا صدرا للسعادة بوصفها انعكاساً خيالياً للحياة الفاعلة للأسفار العقلية يسمح بتطوير فلسفة الأخلاق الأخروية التي لا تزال مبنية على شروط قابلية الإنسان على الاختيار.

بالطبع تم الدفاع عن توافق الاستقلال الأخلاقي مع الإيمان بإمكان تفسير الأحكام الأخلاقية على أساس الأوامر الإلهية، وعن الثواب والعقاب بطرق عدة من جانب عدد من الكتاب أمثال شلغ F . W . J Shellin (2)وآدمز(3) Adams R . M . Adams

ص: 234


1- لمزيد من البحث حول المسألة :أنظر : (2000 Wood، Kant versus Eudaimonism).
2- (Ffytche، 2012(، 102; (Wood، Kantian Ethics، 2008(، 107.
3- 270 ، (1999 Adams-276. يميز آدمز بين معاني الاستقلال التي يعتبرها متناسبة وغير متناسبة مع نظرية الأمر الإلهي حول الإلزامات الأخلاقية التي يدافع عنها.

وهير .J .E .Hare (1)لكن عند الملا صدرا نجد طريقة خاصة لتأسيس وجهة نظر استقلالية قوية جداً حيال أخلاق الطاعة لله أملاً في الثواب الإلهي التي تتضح في مناقشاته للسعادة.

أولاً، السعادة الحقيقية هي القرب من الله ويمكننا القول إن هذا المستوى العقلي للسعادة على المستوى الخيالي يوجد الثواب والعقاب الإلهيين، وهي حقائق تتجاوز الطبيعة الجسمانية للإنسان وعالم الحس ونتاج القوى الخيالية اللامادية الأبدية للإنسان. وهناك أيضاً سعادة جسمانية، وهي الغاية الوحيدة للبهائم، والبشر الشبيهين بالبهائم.

ثانياً لكي تتحقق السعادة، نحتاج لمساعدة إلهية، لكن جهودنا الشخصية ضرورية أيضاً. وعلى مستوى أولي، نحن بحاجة للسعي من أجل تحقيق حريتنا، ولإيجاد طريقة لتحرير أنفسنا من الجهل وحب الدنيا والخداع. لذا ينصحنا الملا صدرا بأن نسبر أغوار أنفسنا كي نتبين إذا كنا قد أصبنا بهذه الأمراض. وعندما نكتشف أن أنفسنا مصابة بالمرض، يجب أن نفتح أنفسنا على معالجات من اجتازوا السبيل الروحي بنجاح. أما إذا لم نجد مرضاً في داخلنا، فعلينا أن نحذر من خداع أنفسنا، ربما من الخلط بين المعرفة الدينية السطحية والصحة الروحية في هذا الخصوص يقول الملا صدرا إن عيسى عليه السلام قال : «لست أعجز عن معالجة الأكمه والأبرص، ولكنني أعجز عن معالجة الجهل المركب [جهل الجاهل بأنه يجهل] ؛ وذلك لأنه من الأمراض النفسانية، وكل الأمراض النفسانية إذا رسخت في النفس؛ أوجبت الهلاك الأبدي واستحال زوالها». ولكي نحرر أنفسنا من خداع النفس، يجب أن ندرك أن المعرفة التي نحتاجها ليست العلوم التي تعلمناها أو أي شيء آخر في أدمغتنا:

ينطفئ سراج العقل في رؤوسكم بأقل نفحة مما يحتمل فيها من رياح النخوة والكبر كيف لا وهو خافت الضياء أصلاً .

تطفئ شمع قلوبهم دائماً

تلك الرياح التي في أدمغتهم (2)

ص: 235


1- -(Hare. 2007). 266269-.
2- -(Shirazi . a.-d.، 13766/7 ،(1997/.

ثالثاً، يساعد الله الناس على تحصيل السعادة. فما يميز النفس البشرية عن نفوس الحيوانات الدنيا هو أن نفوس البشر الروحية قادرة على تلقي نعمة الروح القدس.(1) إذ بهذه النعمة التي توصف بأنها نور التوحيد (الوحدة الإلهية) وتذوّق المجرد، يعتاد الإنسان على صحبة الله والتحدث معه. النور الذي يهبه الله هو معنى الإيمان الحقيقي: «الإيمان الحقيقي نور يقذفه رب العالمين في قلب عبده». (2)ثم يفتح الله الطريق ليصبح الإنسان ولياً من أولياء الله. أن نصبح في حياتنا أولياء مع الأولياء ليس مسألة تلقي أوامر من أشخاص مقدسين ، بل هو نوع من التمرين على تطوير الذات حيث يضع المرء نفسه في حديث خيالي مع هؤلاء الأشخاص على أمل أن يطوّر الإنسان الفضيلة بنعمة الله. وهذا يحتاج إلى ما تسميه كورسغارد تطهير تأملي لما نجده في أفعال ومواقف من نقتدي بهم (3)، وهذا هو الموضوع الرئيسي في كتاب لندا زاغز بسكي Linda Zagzebski الجديد الذي تبين فيه أن الاستقلالية تحتاج إلى تأمل ذاتي وجداني.(4) من جهة أخرى ينشأ الشقاء من خلال المودة مع القاسية قلوبهم. ويبين الملا صدرا أن كل حجر أو كل قطعة من الحديد، بالنسبة للعارف تشعبت مجيد وتقديس الله، أما بالنسبة للأشقياء، فقد تصبح قلوبهم حجارة أو قطع حديد بسبب غرورهم وجحودهم، حتى يصبح عاجزين عن إدراك البديهيات ويفقدون السيطرة على أنفسهم.(5)

تطهير القلب

في البنيوية الكانطية التي يدافع عنها ،راولز هنا كإجراء لتوضيح أوامر العقل العملي. وبسبب هذا فإن المناقشات الدائرة حول البنيوية كانت تعرّف البنيوية عادة بأنها تفسير عملي للأخلاق، ورغم أن راولز صاغ الإجراء (تداول في موقف أصلي معروف أنه خلف حجاب من الجهل ) كمساعدة للبحث في العقل العملي من أجل تحديد مبادئ العدل. كما يمكن اعتبار الحالة التي يناقش فيها الملا صدرا تطهير

ص: 236


1- -(Shirazi B. a.-d.، 13761/8 ،(1997/.
2- -(Shirazi B. a.-d.، 13761/10 ،(1997/.
3- (Korsgaard et al. Sources of Normativity. 1996). 165.
4- (Zagzebski،2012)، Ch. 11 ،229254-forautonomy and conscientiousself-reflection; an exemplarist moral theory is the topic of Zagzebski's recent Gifford Lectures: http://www.giffordlectures.org/ lectures/exemplarist-virtue-theory
5- (Shirazi B. a.-d.، 13768/10-7/10 ،(1997/.

القلب تلخيصاً للعمل الذي يستخدم من أجل تحديد مستلزمات العقل كي يحصل الإدراك الصحيح للمعايير الأخلاقية والحقائق الروحية الأخرى. فالله لا يقول لعباده ماذا يفعلون بطريقة اعتباطية؛ بل هو يرشدهم إلى النور حيث يمكنهم العناية بأنفسهم. لذا يفتتح الملا صدرا فصل تطهير القلب بالآية التالية : «اللَّهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».(1) فهذا القلب يكون في بعض الناس بالفطرة مرآة بالقوة قادرة على عكس هذا النور الإلهي. وفي بعض الناس تخرج هذه الفطرة من القوة إلى الفعل بواسطة الأعمال والأفعال الصالحة، والقيام بالتكاليف والرياضات الشرعية، بينما لا تجد في البعض طريقها إلى الخروج من القوة إلى الفعل بسبب الأعمال القبيحة والمعتقدات الخاطئة.

كما أن في المرآة المحسوسة خمسة أشياء من الممكن أن تمنع انعكاس صورة المرء، وهي:

المانع الأول: النقصان الجوهري كما لو كانت حديداً أو زجاجاً غير مذاب أو مصقول.

المانع الثاني: وهو الصدأ والكدر الذي يحدث فيها بعد صنعها وصقلها.

المانع الثالث: عدم مواجهتها للصورة التي يراد رؤيتها فيها كما لو وقف أحدهم خلف المرآة.

المانع الرابع: وجود حاجز بين المرآة والصورة المراد انعكاسها.

المانع الخامس: عدم تحديد الجهة التي فيها الصورة كي توضع المرآة مواجهة ومحاذية لها .

كذلك مرآة القلب مستعدة لتجلي حقيقة الحق وحقيقة الأشياء كما هي. كما طلب سيد الكائنات عليه أفضل الصلوات من رب العالمين في الدعاء لنفسه

ص: 237


1- القرآن الكريم (2 :257) .

ولخواص أمته : «ربّ أرنا الأشياء كما هي، ولا يخلو من العلوم الحقة إلا بأحد الأسباب والموانع الخمسة».(1)

فبالنسبة للنقصان الجوهري يرسل الله الرسل الذين يستخدمون تقنيات مختلفة من أجل خروج النفس الناطقة (التي هي جوهر القلب) من الكدر الذي يخفيها.

إرسال الله لرسله بين عباده

کمخيض الزبدة في خابية

لذا بطرائق وتقنيات عدة

يمكنني اكتشاف ما كنت أخفيه ، أنا (2)

يحصل الخلاص عن طريق الأنبياء ليس عن طريق المعرفة بحقيقة روحية خارجية أو حقائق وملكات أخلاقية، بل بإرشادنا كيف نعرف أنفسنا. فالمنهج أو الإجراء هنا هو منهج تهذيب السبيل الروحي تجاه معرفة الذات ما يقدم لنا ليس اتخاذ قرار يوصل إلى مبادئ محددة لتوزيع البضائع والخدمات بل عملية تكوين تؤدّي إلى القدرة على إصدار أحكام عاقلة.

العائق الثاني : وهو الصدأ والكدر الذي يمكن أن يصل إلى حد إنهاء قابلية معرفة الذات.

العائق الثالث : سوء توجّه مرآة القلب كما لو تركز قرار المرء حصرياً على العناصر الظاهرية للعبادة وعدم بلوغ الباطن. بالطبع، المسألة أكثر سوءاً إذا كانت غايات الإنسان دنيوية بالكامل وإذا أهمل تهذيب روحه.

النوع الرابع من الموانع هو وجود عائق بين المرآة والصورة المراد انعكاسها. فالمثل الذي يعطيه الملا صدرا هو التعصب والمتعصب هو الذي يتعلق بحقيقة ما

ص: 238


1- القرآن الكريم (257:2) .
2- 4/11، )1997/Shirazi . a. -d.. 1376).

بسرعة ويجعل هذا التعلق عائقا أمام الوصول إلى حقيقة أخرى أعمق. هذا النوع من العوائق يوجد بين المقلّدين، ويمكن تشبيهه بأغلال وقيود تمنع القلب من التحرر .(1)

المانع الخامس يشبه مرآة ليست في الموقع المناسب لمواجهة الشيء الذي ستعكسه، وهذه حال من لا يعرف إلى أين يتوجه وكيف يجد طريقه إلى المستويات المتتالية للطريق إلى الله ولمواجهة هذه المشكلة يزيد الملا صدرا التشبيه تعقيداً، ويقول لما كانت النفس في بدء كونها مقبلة إلى جانب طبيعة البدن ، وأدارت ظهرها إلى عالم خلفها، فهي في مطالعة المطالب الحقة تحتاج إلى مرايا متعددة، كالذي يريد أن ينظر إلى صورة وراء ظهره فينظر إليها في مرآتين، فالقريبة هي بمثابة المقدمة الصغرى والبعيدة بمثابة المقدمة الكبرى، وذلك المطلوب الذي يُرى من النظرة إلى هذه المرآة بمنزلة النتيجة. وفي مسار هذا الانعكاس المركب، تتوحد النفس في النهاية كما يتوحد موضوع تعقلها المنعكس بطرق مختلفة أيضاً.

لكن هذا ليس النهاية، فيمكن للمرء أن يستمر بالتفكير في النتيجة التي تكون صيغتها عكس صيغة النتيجة التي تم التوصل إليها. يستمر النهج هنا بطريقة جدلية، من خلال استخدام مجموعة مركبة أخرى من المرايا ولا يكون المرء قادراً على الاستغناء عن الانعكاس (المرايا) والدخول في لقاء مباشر مع المجال الرباني إلا نتيجة لهذا الانعكاس. كان هذا طريق السفر من الخلق إلى الحق. ثم يأتي بعده السفر في الحق، ومن الحق، وبالحق الأسفار الأربعة التي تشير إلى أسفار كتابه، إنها الأسفار والحكمة التي تحدّث عن إتيانها فيه . وهو يشرح معنى السفر بالحق من خلال آية قرآنية ورباعية شعرية عن المسيح علیه السلام «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» .(2)

عیسى أنا ومعجزتي هي هذا النَّفَس

والقلب الذي يسمع هذا النَّفَس يعود للحياة.(3)

ص: 239


1- (Shirazi B. a.-d.، 13765/11 ، (1997/.
2- (Shirazi B. a.-d.، 13769/11 ،(1997/.
3- القرآن الكريم (7: 181).

سبيل الروح وفقاً للملا صدرا (وفي هذا يتبنّى رأياً شائعاً بين العرفاء) يبلغ ذروته تجل إلهي ؛ وعلى الرغم من فهمه لهذا بطريقة تتناسب مع العقيدة الإسلامية، إلا إنه من المسائل التي أدت إلى اتهام العرفاء بالشطح من جانب علماء الإسلام السطحيين الذين يكرر إدانتهم في الأصول الثلاثة.

الإشارة إلى المسيح ، وتحديداً إلى نفسه، مجاز اقتبسه الملاصدرا من الشعراء الصوفيين، كالعطّار، ومولوي وجلال الدين الرومي، وحافظ وغيرهم، الذين يشيرون إلى نَفَس المسيح بوصفه النفس الواهب للحياة (1)قال عيسى في القرآن: «قَدْ جئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَني أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأَحْيِ الْمَوْتِى بِإِذْنِ اللَّهِ»(2). إذاً يعتبر نفس المسيح تعبيراً عن النفس الإلهي الصادر عن الإنسان الكامل. فالقدرات الواهبة للحياة من النفس الإلهي هي التي تمكن المرء من الولادة الجديدة بفطرة ثانية، أي بفطرة سليمة بعد الموت الإرادي للفطرة الآثمة.(3)

البنيوية المتعالية(4) في فلسفة الملا صدرا

إن الطاعة التي يطلبها الإسلام وتشديده على الثواب والعقاب في الآخرة يمكن أن تدفع إلى التفكير بأن كانط كان بالتأكيد سيصنف الأخلاق الإسلامية بأنها خاضعة لقوانين خارجية. غير أن النظام الأخلاقي الإسلامي الموجود في فلسفة الملا صدرا يشدد على ما يمكن أن نسمّيه استقلالاً أخلاقياً، حتى لو لم يكن المفهوم جزءاً من المفردات الأخلاقية في الدوائر الفكرية في إيران الصفوية. استعمل الملا صدرا مصطلحاً يوازي في أهميته مصطلح القوانين الخارجية الذي استعمله كانط : «التقليد».

ص: 240


1- (Shirazi B. a.-d.، 137617/11 ،(1997/.
2- القرآن الكريم (3: 49).
3- (Javandel. forthcoming).
4- Cf. (Shirazi S. a.-D.. 2003). 84. $107; 85. $111.

يرى أرسطو أن الخير والشر يكونان مصحوبين بأنواع من اللذة والألم، وهذه الملذات والآلام تعمل كحافز للحيوان والإنسان (1)وهذا ما سبب مشكلة أمام محاولات كورسغارد للتوفيق بين فلسفة الأخلاق عند أرسطو والبنيوية التي يحفز الفاعلون وفقها للتصرف بطرق معينة بسبب ما يعتبرونه أسباباً إرادية للتصرف بطريقة ما. لكن لا يمكن أن تكون اللذة والألم موضوعان يمكن لمن تكون قوته الدافعية النفسية مسألة إرادة بالكامل أن يأخذهما بعين الاعتبار رد كرسغارد إن كيفية استجابتنا للآلام والملذات المتوقعة هي مسألة إرادة وتنطوي أحياناً على تأمل واع نظراً إلى أن الملذات والآلام قد تعتبر إشارة لما يقيمه الفاعلون إيجاباً وسلباً على التوالي. وترى كورسغارد أن الملذات والآلام ليست مجرد مشاعر؛ بل هي مؤشرات عقلية أيضاً: «إننا عموماً لا نعتبر آلامنا وملذاتنا خالية من المعنى، بل نعتبرها كما اعتقد أرسطو، مؤشرات على ما هو خير وما هو شر وعلى ما لدينا سبب لفعله.»(2) وقد أنهت كورسغارد مناقشتها لأرسطو وكانط في هذه المقالة على النحو التالي:

على الرغم من وجود فرق في الطريقة التي يقترح فيها هذان الفيلسوفان حلا لمشكلة القابلية، فإن المشكلة واجهت الرجلين بسبب الشبه العميق في فهمهما العام للموضوع الأخلاقي. الفعل الإنساني لا يشبه شيء آخر : فنحن البشر نختار أفعالنا، ولذا يمكن لنا أن نتجاوز مجرد التفاعلية في علاقتنا بالعالم. السؤال الأخلاقي الحقيقي والأعم هو ما الذي ينبغي لنا فعله بهذه القدرة، وأي فعل ينبغي أن نختار. السؤال الأكثر تحديداً في علم الأخلاق، هو السؤال الذي أولاه أرسطو كل عناية، هو كيف يحتاج الجزء المتلقي من طبيعتنا أن يتكون إذا كان هذا الاختيار وهذا الفعل المتعاليين محتملين. إنه السؤال كيف علينا أن نكون لكي نختار باستقلالية ومن أجل السموّ.(3)

بالطبع إن وجهة نظر أرسطو حيال العلاقة بين الخيرات والملذات ليست هدونية hedonism تماماً، كما تنطوي نقاشاته حول الاعتدال على مسائل تتناول تطور الأنواع

ص: 241


1- (Shirazi B. a.-d.، 13768/6 ، (1997/.
2- (Aristotle. 2014). 1152b-1154b
3- (Korsgaard C. The Constitution of Agency. 2008). 205

المختلفة من الملذات والآلام وهذا ما تعتبره كورسغارد مدخلاً للتوفيق بين أرسطو وكانط. فقد أساء كانط فهم أرسطو لأنه اعتبر أن السعادة eudaimonia حياة من اللذة وأن اللذة ليست أكثر من نوع من الشعور، في حين أن أرسطو اعتبر أن السعادة eudaimonia حياة ناشطة من الفضيلة ورأى أن اللذة دليل على شيء نقيمه. اندمج التمييز بين مستويات مختلفة من اللذة والألم أيضاً في التراث المشائي الإسلامي وهو موضوع يرجع إليه العرفاء أيضاً. لكن إذا تأملنا في الأفعال التي علينا أن ننفذها على أساس الملذات والآلام التي ستترتب عليها في العالم الآخر، فلن يبقى مجال يذكر للاستقلالية. أما مشروع الملا صدرا الأخلاقي / الروحي فهو بجزء كبير منه معدّ بطريقة مخصصة للرد عن هذا النوع من الاعتراضات فالملا صدرا يعترض على أن فكرة أن يكون الثواب في العالم الآخر شبيهاً تماماً بالمكافآت التي يمنحها السلاطين هنا، ويعتبرها فكرة صبيانية ناتجة عن الفشل في فهم طبيعة النفس .(1) وهذا فشل في الوصول إلى تقدير فكري للعقائد الدينية. فالآخرة بما فيها من ثواب وعقاب ليست عوامل إعاقة للقدرة على الاختيار التي تخضع لقوانين خارجية، بل هي تجليات خيالية للحقيقة التي نكوّنها عن أنفسنا كما يُعبر عنها في الأفعال التي نقوم بها والطباع التي نكتسبها في هذا العالم. إذ ليس الثواب والعقاب مجرّد حقائق فوق طبيعية يمكن أن نكتسبها بطريقة انفعالية عن طريق التعليم النظري؛ بل هي نتاج المخيلة الفاعلة. يمكن أن تعتبر بنيوية صدرا روحية بقدر ما هي أخلاقية، فعلى الرغم من احتفاظها بميزتها الأخلاقية لأن قيمة أفعال الإنسان لا تستمد من صورتها الخارجية أو حتى من انسجامها مع القانون الإلهي، بل من النيات التي تكون بجزء منها قوام الأفعال الإنسانية، والتي تتشكل في ضوء النعمة الإلهية. (2)فالملا صدرا، بوصفه فيلسوفاً يستفيد من التراث المشائي وإن نقدياً، لا يركز فقط على الأفعال الجزئية بل على الفضيلة والرذيلة ؛ والمسار الروحي الذي يرسمه هو مسار تشكيل الشخصية.

يرى الملا صدرا، أننا نختار أفعالنا والتوجّه الذي ينبغي أن تتخذه حياتنا، وكما

ص: 242


1- (Korsgaard C.. The Constitution of Agency. 2008). 205206
2- (Shirazi B. a.-d.، 13767/13 ،(1997/.

يرى أرسطو، إن مجال الإرادة هو الذي يحدد مجال العقل العملي. فالعقل العملي ليس مجرد وسيلة للتأمل بأفعال جزئية؛ بل إنه ينطوي أيضاً على معرفة كيفية اجتياز الحياة بالطريقة التي نحرر فيها أنفسنا من الرذيلة ونصل إلى الفضيلة والمعرفة، وهذا هو الموضوع الرئيسي للأصول الثلاثة. التوجّه الذي نكتسبه في حياتنا أكثر أهمية من الأفعال الجزئية . إذ بسبب قدرتنا على توجيه أنفسنا عبر الحياة نكون قادرين على أن نبدأ رحلتنا على المسار الروحي، وإذا فعلنا هذا على تجاوز مجرد القابلية في علاقتنا بالعالم. فالتركيز على الجوانب الإبداعية الفعالة للنفس في إيجاد التوجه الروحي والتقدم في الطريق إلى الله هي المرتكزات الأساسية لما يمكن أن نصفه ببنيوية الملا صدرا الأخلاقية المتعالية. إنها متعالية لأنها تطلب من الإنسان أن يتجاوز حدود العالم الحسي وانفعالية النفس المتجسدة. وهي بنيوية على المستوى الميتافيزيقي لأن الخيال الفعّال يشكل حقائق الثواب والعقاب نتيجة لما تجنيه أنفسنا من خلال أفعالنا. وهي بنيوية على المستوى بنيوية على المستوى الإبستيمولوجي لأن المرء يستطيع، من خلال التدبّر بالشروط الضرورية للحرية وإرادة الاختيار الإنسانية المكتملة، أن يختار الخطوات اللازم اتخاذها أثناء مسير الإنسان في الحياة. وهي بنيوية على المستوى الدلالي لأن صدرا يعتقد أن المعاني الحقيقية للعقائد الدينية، مثل المعتقدات التي عن تتحدث مبدئنا ومعادنا الأخير في القيامة الكبرى، لا يمكن أن تفهم تماماً إلا بالنظر إلى الأبعاد البنيوية الميتافيزيقية والإبستيمولوجية لسفر الروح إلى الله.

غير أن سفر الروح إلى الله، لا يقصد العرش الإلهي مباشرة، بل يحصل عبر عدد من المراحل المتوسطية المشروطة بأهداف الحرية الأتمّ والقدرة الكاملة للإنسان على الاختيار بينما يشير صدرا صراحة إلى الحرية في عدد من المناسبات، فقد تمت في الغالب مناقشة هذا الموضوع تكراراً من جهة ارتباطه بالطهارة. ورغم أن الملا صدرا اقتبس تشبيه النفس بالمرآة من العرفاء، فإنه لا يعتبر مرآة النفس أداة انفعالية تعكس النور الإلهي، هذا لأن من خلال فاعلية النفس تتحقق الوحدة مع ما تعكسه.

يرى صدرا أن المعايير التي تتحكم بوجهة النظر العملية ليست ثابتة، بل إنها تتطوّر

ص: 243

مع تطوّر النفس. إضافة إلى ذلك، فإن النفس ، من خلال النظر إلى هذه المعايير، تكون قادرة على الترقي من مرتبة دنيا إلى مرتبة أعلى. وهذا الترقي هو الذي يسميه الملا صدرا الحركة الجوهرية، حيث تبدأ النفس من المرحلة التي تكون فيها مجرد صورة جسمانية للجسم الحي، كما وصفها أرسطو، ثم تستمر خلال المراحل المجردة للعقل الجوهري؛ لذا يقال إن النفس «جسمانية الحدوث روحانية البقاء.»(1)نظراً لأن النفس تكون قادرة، من خلال المعايير التي تحكم مراتبها على إعادة تكوين نفسها في مرتبة أعلى بالحركة الجوهرية، كما يمكن تسمية موقف صدرا بنيوية متعالية، ترى أن كل مرتبة مفترضة من مراتب النفس بما في ذلك قدرتها على الاختيار، تتشكل من خلال المعايير التي تحكم وجهة النظر العملية / العقلية التي يسميها صدرا السفر العقلي.

ص: 244


1- للمزيد :أنظر : (2016 Legenhausen، Intention، Faith، and Virtue in Shii Moral philosophy).

الأخلاق عند النراقي «الجمع بين الدين والعرفان والفلسفة»

أ.م.د نوال طه ياسين (1)

المقدمة:

مما لا شك فيه أن الإسلام ك__(دين) جاء وهو يحمل معه نظاماً للقيم انفرد به بشكل عام وللأخلاق بشكل خاص، ففي الوقت الذي كان يدعو الأمم الأخرى للدخول من دون إكراه تحت لوائه نظر إلى ثقافاتهم نظرة المقيم فاعترف بما تحمله من قيم أخلاقية فدعى الإنسان المسلم أن يأخذ الحكمة أني وجدها.

وقد شهد الفكر الفلسفي الإسلامي انحساراً ملحوظاً في الدراسات الأخلاقية في الوقت الذي كانت الدراسات الفلسفية بشتى مواضيعها التي تأثروا بها في متناول أيديهم وكانت الدراسات الأخلاقية تشكل بؤرة اهتمام تلك الثقافات فما السبب في ذلك ؟ أيعود فعلاً إلى القول بأن العرب قنعوا بأن يأخذوا الأخلاق عن الدين(2) ، أم لأن هناك بعض الصعوبات التي تواجه المفكر في الكتابة في المشكلة الأخلاقية من إطلاق أو نسبية القيم ؟ أم لأن القيم الاجتماعية نراها

ص: 245


1- أستاذة في جامعة البصرة - كلية الآداب. تؤكد الباحثة في مقدمة بحثها على «إن الإسلام ك__(دين) جاء وهو يحمل معه نظاماً للقيم انفرد به بشكل عام، وللأخلاق بشكل خاص» وقد حاول النراقي أن يبحث عن تلك الأخلاق بوصفها وسيلة من اجل بلوغ السعادة الحقيقة التي وجدها في ثلاث مصادر هي: الشريعة والعرفان والحكمة. وقد كشف عن هذا في كتابه (جامع السعادات) يمثل أحد المحاولات الفكرية التي سعت لفهم الشريعة فهما وتطبيقا دينيا وعرفانيا وفلسفيا. إذ حاول الجمع بين الأساليب المختلفة الدينية والعرفانية والفلسفية وحتى الروائية وبهذا اتصف الكتاب بالتنوع وهذا ناتج عن اختلاف مصادر الأخلاق المحرر
2- أمين د. احمد فلسفة الأخلاق الطبعة الثالثة، 1925، ص158.

ممتزجة مع القيم الأخلاقية(1)، بل وحتى في آثار الشعر والأدب العربي؟ (2)

إن هذا العزوف الذي لوحظ عن الكتابة في البحث الأخلاقي كان في فترة من الزمن تلته فترة أخرى بدأ المفكرون يبحثون في الأخلاق بحثاً علمياً وقد مزجوا بين التعاليم اليونانية والتعاليم الإسلامية - خاصة ابن مسكويه والغزالي - اللذان كان لهما الأثر الواضح في النتاج الأخلاقي للشيخ محمد مهدي النراقي(3) مؤلف كتاب جامع السعادات.

ص: 246


1- «إن العرب كأمة من الأمم اضطرت إلى الاجتماع فيما بينهما ولإنشاء علاقات بينها وبين من تتصل بهم من أمم - وشعوب أخرى، كان لها بلا شك حظ من الأخلاق تتعايش به فكانت تسود بينهم قيم الصدق، الشجاعة، الأمانه، الكرامه ،ولكنها كقيم اجتماعية» العوا، د. عادل فلسفة الأخلاق في الإسلام بحث منشور في مجلة دراسات إسلامية لنخبة من المفكرين والباحثين، رئيس التحرير، فهمي جدعان مطبعة جامعة اليرموك، الطبعة الأولى، 1983، ص 147.
2- نجد آثار القيم الأخلاقية ممتزجة في القصائد الشعرية والكتابات الأدبية، «فيتأدب العرب بما فيها من حكم تتصل بالأخلاق العملية» موسی د. محمد يوسف، فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية مع مقالة في الأخلاق في الجاهلية والإسلام قبل عصر الفلسفة مطبعة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة الطبعة الثانية 1963 ص 17.
3- هو الشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي - نسبة إلى مسقط رأسه نراق - في إيران التي هي على وزن (عراق)، من أتباع بلدة كاشان، (لا يعرف تاريخ ولادته على وجه التحديد، لكن من عام (1128ه). وهو أحد شيوخ الشيعة ومجتهديها البارزين الذين ظهروا في القرنين (12، 13)، برز في والأخلاق والفقه وغيرها)، وقد عرف أنه رجل عصامي . لا يعرف عن والده أبي ذر إلا أنه كان موظفا في الدولة الإيرانية بوظيفة صغيرة في قرية نراق؛ ولولا ابنه هذا لذهب ذكره في طيات التاريخ ولا يعلم أن كان للنراقي أخوة، ولكن له ولد نابه الذكر، هو (احمد النراقي) صاحب (مستند الشيعة) ولعل النراقي الابن هو من أهم أسباب شهرة والده، فقد حذا حذوه في تأليفاته، إذ إن الأب ألف في الفقه (معتمد الشيعة) والابن ألف (مستند الشيعة) والشيخ النراقي ألف في الأخلاق (جامع السعادات)، والأبن ألف (معراج السعادات). عرف بقوة شخصيته وكان لدية رغبة شديدة في طلب العلم لم يثنه عنه فقرة المدقع، وقد قضى معظم أيام دراسته في أصفهان ثم رجع إلى العراق لزيارة المراقد المقدسة، وتوفي في النجف الأشرف ودفن فيها عام (1209). من مؤلفاته: (سنقتصر في ذكر مؤلفاته في الحكمة والكلام والأخلاق والمواعظ): أ- الحكمة والكلام: =-1 جامع الأفكار وناقد النظار في إثبات الواجب 2-قرة- العين في الوجود الماهية - 3 اللمعات العرشية في حكمة الأشراف . - 4 اللمعة وهو مختصر اللمعات - الكلمات الوجيزة وهو مختصر اللمعة - 6- أنيس الحكماء في المعقول. 7 - أنيس الموحدين في أصول الدين - 8-شرح الشفا في الإلهيات - 9-الشهاب الثاقب في الإمامة . ب- في الأخلاق والمواعظ 1 - (جامع السعادات) في السلوك والأخلاق وهو أشهر ما ألفه - 2 ( جامع المواعظ ) في الوعظ لكنه لم يتم. للمزيد يمكن مراجعة 1 - الأصبهاني، الميرزا محمد باقر الموسوي روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق أسد الله إسماعيليان، الجزء السابع، قم، ص 200. 2 - نعمه الشيخ عبد الله فلاسفة الشيعة حياتهم وآرائهم، قدم له الشيخ محمد جواد مغنية، دار الكتاب الإسلامي، قم، 605 . 3 - النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات قدم له العلامة الشيخ محمد رضا المظفر، تعليق السيد محمد كلانتر مؤسسة السيدة المعصومة للطباعة، إيران، الطبعة الأولى، ص 5 وما بعدها -4- الأمين الإمام السيد محسن، أعيان الشيعة تحقيق وتعليق حسن الأمين دار ،التعارف، بيروت، الطبعة الخامسة، الجزء الخامس، 2000 ص 44.

لم يكن النراقي أول من حاول الجمع بين الدين والعرفان والفلسفة لكنه فاق المحاولات السابقة بأنه رأى أن السعادة الحقيقية تتحقق لطالبها في ثلاثة مصادر

هي:

1 - الشريعة.

2 - العرفان.

3 - الحكمة

وهذا ما يدل عليه اسم كتابه دلالة واضحة (جامع السعادات) فمنها - أي المصادر الثلاثة - استقى الفضائل الأخلاقية ولا خلاف أن نأخذ الفضائل من تلك المصادر ما دام الهدف واضح هو وضع مثل أعلى للإنسان، بيد إن ذلك لا يعني أن هناك اتفاقا في المنهج، وبما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي اصطفاه الله ليكون خليفته في الأرض، فلابد من أن تكون جميع المفاهيم التي جاءت بها الشريعة من (عبادة وقيم) تتجاوز الحدود النظرية إلى مستوى أعلى لتحقيق ما هو أفضل للوصول إلى السعادة وهذا يتحقق عن طريق الوظيفة التي أوكلها الله للإنسان وهي عبادته «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون» سورة البقرة.

وما تتم هذه العبادة الحقيقية إلا بعد تزكية النفس وتطهيرها بالظاهر والباطن، فنظر النراقي أولاً إلى الدين وما يحمله من أخلاق وأقر بها، إلا إن فكره الذي استقى أفكاره من بنات أفكار أساتذة الفلسفة في ذلك الوقت، دفعه إلى إعادة تقييم أخلاق الدين بما فيها من أخلاق المعاملات بين المخلوق وذاته وبين المخلوق ،والمخلوقين وبين المخلوق والخالق فالإسلام لم ينظر إلى حامل القيم فقط بل إنه نظر إلى مدى تطبيقها على الأرض الواقع ك__(العلاقة بين المفهوم والماصدق).

ثم بحث بأخلاق العرفانيين لأنهم تحلوا بفضائل الأخلاق وتخلوا عن رذائلها، إلا أنه يعد الصوفية من الطوائف المغرورة فمنهم من اغتر ومنهم من يدعي غاية المعرفة ومشاهدة المعبود، فأراد من الإنسان المسلم أن يسلك مسلك العارف، والعارف

ص: 247

برأيه ذلك المخلوق الذي لم يقنع بظاهر العقيدة الدينية فغاص إلى باطنها ليكشف عن أسرارها فلابد من أن يمر بسير وسلوك منها (التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، الرضا، التوكل، المحاسبة، المراقبة، الحب، الأنس، واليقين...الخ)، مستشهداً بآيات الذكر العزيز وحديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأقوال الأئمة الأبرار علیهم السلام . أما المعين الثالث والأخير للسعادة فهي (الحكمة) ومما يلفت نظر القارئ استيعاب النراقي لمواقف الفلاسفة السابقين، سواءً أكانوا من اليونان أم المسلمين فمع الفلاسفة اليونان نلاحظ تأثرة ب__(افلاطون) الإلهي على حد تعبيره في تقسيمه للنفس أما أرسطو فأخذ عنه نظرية الوسط.

ولا ريب في أن السبب يعود إلى اقترابهما من روح الشريعة لأن دين الإسلام دين الوسطية، أما أثر الفلاسفة المسلمين فأول ما نجد تأثره بابن سينا في تقسيمه الحكمة وعلاقتها بموضوعاتها، أما المنهج العلمي فقد أخذه عن ابن مسكويه في معالجته للمشكلات الأخلاقية، أما الغزالي فلم يتجاوز تأثره بطريقة الوعظ والإرشاد التي بنى عليها كتابه (إحياء علوم الدين)، فضلاً عن اثر مجدد الفلسفة الإسلامية - الملا صدرا - في (تزكية النفس وتهذيبها).

والسعاة لدية مرهونة (بتزكية النفس) وما يكون ذلك إلا إذا علم الإنسان أنه اشرف المخلوقات ((إنا كرمنا بني آدم)) ، فلا يكون الغرض من خلق الإنسان أن يرتع وينشغل باللذات البهيمية، فالغاية من وجوده أسمى من ذلك، فعليه تطهير السر والعلن وما يوصله إلى ذلك إلا علم الأخلاق، فلابد من أن يعتدل بفضائله ليصل إلى السعادة الحقيقية التي تكون غايتها التشبه بالمبدأ الأول - الله - (ولله المثل الأعلى)، لأنه استحق الصفات على وجه الحقيقة والكمال الأعلى وجه المجاز والنقص.

وقد رأى النراقي أن الرذائل وهي (المعاصي) قد تسبب بعض الأمراض النفسية على اعتبار أن الإنسان المؤمن لا يعاني مرضاً نفسياً قط، فوضع برنامجا لعلاج هذه الأمراض أما بالكلية أو بالجزئية.

ص: 248

وإن للعقل الإنساني وظائف متعددة منها (التخيل والتأمل والتفكير) لكن من أسمى الوظائف التي يقوم بها العقل هو التأمل النقدي للقيم التي يحيا الإنسان تبعا لها فهي تعبر عن موقفنا اتجاه أنفسنا (الأنا) واتجاه الآخر (الغير) وتجاه العالم، والنراقي إذ عالج مسألة القيم على اعتبار أن «لفظ القيمة يطلق في علم الأخلاق على ما يدل كلية لفظ الخير بحيث تكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خيرية»(1) فعلى طالب السعادة الحقيقية أن يأخذ خلاصتها مما ورد في الشريعة مع زبدة ما أورده أهل العرفان والحكمة الفلسفة (2). وللوقوف أكثر عند الأخلاق عند النراقي سيتم دراسة

الموضوعات الآتية:

1 - الأخلاق الدينية.

2 - الأخلاق العرفانية.

3 - الأخلاق الفلسفية.

أولاً: أخلاق الدين

إن الأخلاق جزء جوهري من الدين وذلك أننا نتعلم القيم الأخلاقية ونمارسها منذ طفولتنا من خلال الدين نفسه، ففي الكتب السماوية تعاليم أخلاقية وفي سنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كذلك (3). فمن تأمل في مقاصد الأوامر الإلهية عرف أنها ترمي إلى غرض واحد هو طهارة النفس والكمال الإنساني(4) ، فإذا علمنا أن هدف الأخلاق هو وضع مثل أعلى أمام الإنسان متمثلاً في قيم خلقية، فإننا نستطيع القول بأن لا خلاف بين هذين العلمين، إذ إن الخلاف في المنهج الذي يتبعه كل منهما فعلم الأخلاق الديني يعتمد على (الوحي)، أما علم الأخلاق الفلسفي فإنه يعتمد على (العقل) وتسعى

ص: 249


1- صليا، د، جميل ، المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الأولى، الجزء الثاني، 1973، ص213
2- النراقي، جامع السعادات، ص20.
3- الطالبي د. عمار، مدخل إلى عالم الفلسفة، دار الصحيفة، القاهرة، 1999 ص 68.
4- المولى، بك، محمد احمد جاد، الخلق الكامل، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، الطبعة الثانية، الجزء الأول ، 1965 ص 3.

الفلسفة الخلقية إلى تحليل ما يسمى بالوقائع الخلقية وتأسيسها تأسيساً فلسفياً(1)، وعلى كل حال فإن القيم الدينية تبقى معتمدة على فهم العقل، لأنها قيم ليست مجرد نصوص لا مفهوم لها وهذه المفاهيم قد تختلف العقول في تأويلها، إنما هي قیم یمکن للعقل إدراكها (2).

إن الحياة الأخلاقية الإسلامية تعنى بشكل خاص بالفضائل العائلية والاجتماعية فمن أساسها احترام المرأة وحسن الضيافة والحفاظ على العهد والتواضع وكبح جماح الشهوات (3)وترك إيذاء الناس وبر الوالدين ولو كان الأبوان غير مسلمين والنظافة... الخ(4) ، إذ إن الإسلام عندما جاء أقر ما هو صالحاً لبناء الأمة وجاءهم بوصايا تحث على مكارم الأخلاق التي بها يكون المرء معتدلاً في نفسه وأسرته وأمته والعالم.(5)

وبناءً على كل ما تقدم يكون حسن الخلق مصداقاً للإيمان وهو أثقل ما الميزان يوم الحساب وسلوك الإنسان المسلم مع الجنس الإنساني يترجم إنسانية الإسلام (يا ابن آدم عش ما شئت فانك ميت وأحب من شئت فإنك مفارق واعمل ما شئت فإنك مجازی به وخالق الناس بخلق حسن)(6). هكذا نلاحظ أن البحث الأخلاق الإسلامية من وجهة النظر الدينية شملت حقول الحياة كافة منها حقل أخلاق الفرد وأخلاق الأسرة والمساواة الاجتماعية واعتبر الحرية مبدأ الإيمان ومنبها إلى اثر الآفات الاجتماعية التي تصدر عن الحسد والظلم والغيبة(7).

يرى النراقي أن فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة للسعادة الأبدية ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية فيجب على كل عاقل أن يجتهد في اكتساب

ص: 250


1- زقزوق، د. محمود حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، دار القلم، بيروت، الطبعة الثانية، 1980 ص 13.
2- الطالبي، د. عمار، مدخل إلى عالم الفلسفة، ص69.
3- فرانسوا غريغوار ، المذاهب الأخلاقية الكبرى ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات عويدات، بيروت الطبعة الأولى، 1970 ، ص 74.
4- فروخ، د. عمر، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة 1981، ص178.
5- موسى، د. يوسف محمد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، ص17.
6- الهاشمي، عابد توفيق مدخل إلى التصور الإسلامي للإنسان والحياة، دار الفرقان للنشر والتوزيع عمان، الطبعة الأولى، 1982 ، ص 156
7- العوا، د. عادل فلسفة الأخلاق في الإسلام، ص147.

الأخلاق التي هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة كقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم خير حير الأمور أوسطها(1) بل قبل ذاك أن أمة الإسلام هي أمة وسط بين الأمم المختلفة (وكذلك جعلناكم أمة وسط لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)(2). ويتناول ضمن هذا الموضوع الفضائل في المعاملات على وفق المسائل الآتية:-

1- الغيرة على الدين والحريم والأولاد وهو أن يجتهد في حفظ الدين من بدع المبتدعين وإهانة من يستخف به من المخالفين ويسعى إلى نشر أحكامه أما الغيرة على الحريم فهو أن يحفظهن عن أجانب الرجال فكان أصحاب النبي يسدون الثقب في الحيطان لئلا تطلع النساء على الرجال، وأخيراً الغيرة على الأولاد أن نراقبهم في أول أمرهم فاستعمل في حضانة كل مولود امرأه صالحة(3)، إذ إن الصبي الذي تتكون أعضاؤه من اللبن الحاصل من الحرام يميل طبعه إلى الخبائث(4)، وضده عدم الغيرة وهو إهمال ما يلزم محافظته من الدين والحريم والأولاد، قال صلی الله علیه و آله وسلم: (إذا لم يغير فهو منكوس القلب(5).

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: السعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم مراسيم الدين ومن الآيات الدالة علية ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)) (آل عمران - 107)(6). وضده التهاون فيه وهو ناشئ أما من ضعف النفس وصغرها أو من الطمع المالي فيكون من الرذائل القوة الغضبية فيه جانب التفريط أو من جانب القوة الشهوانية من جانب الإفراط(7)ويوضح أحد الباحثين هذه الفضيلة الدينية فيقول : (لقد ذم القرآن بني إسرائيل لأنهم

ص: 251


1- النراقي، جامع السعادات، ص24.
2- فیاض زيدان بن عبد العزيز نظرت في الشريعة، الطبعة الأولى، 1961، ص 25.
3- (إن من حقوق الولد على والدية إحسان تسميته ثم اختيار ظئره فان اللبن يعدي) اليازجي. كمال نصوص فلسفية ميسرة من تراث العرب الفكري دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1968 ص 184.
4- النراقي جامع السعادات، ص 156 .
5- المصدر نفسه، ص 155 .
6- المصدر نفسه، ص 325 .
7- المصدر نفسه، ص 322 .

افسدوا مجتمعهم بترك الاثنين يرتعون في إثمهم) وقال الإمام علي علیه السلام : (لا يسأل الجهلاء لم لم يعلموا حتى يسأل العقلاء لم يعلموا).

3- صلة الرحم: وهو تشريك ذوي اللحمة والقرابات بما ناله من مال والجاه وهو أعظم القرابات وأفضل الطاعات قال تعالى: ((واعبدوا الله ولا تشركوا به شيء وبالوالدين أحسانا وبذي القربى)) (النساء - الآية 36)(1)، فضده قطع الرحم وباعثة أما العداوة والبخل فهو من رذائل القوة الغضبية أو الشهويه.(2)

4- بر الوالدين وهو اقرب القرابات واشرف السعادات قال تعالى : ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا)) (الإسراء - الآية 24). وضده عقوقهما وهو يكون ناشئا إما من الحقد والبغض أو من البخل وحب الدنيا وورد في الإسرائيليات انه تعالى أوحى إلى موسى (انه من بر والديه وعقني كتبته برا ومن برني وعق والديه كتبته عاقا)(3). وبذلك أمر الله تعالى الإنسان الإيمان بالله وعبادته، لأنه السبب الحقيقي لوجوده والإحسان للوالدين لأنهما السبب الظاهري لوجوده.(4)

5- حق الجار: قريب من صلة الرحم، إذ الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه إخوة الإسلام قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (الجيران الثلاثة ومنهم من له ثلاثة: حقوق حق الجوار، وحق الإسلام وحق القرابة ومنهم ما له حقان حق الإسلام وحق الجوار ومنهم من له حق واحد، الكافر له حق الجوار)(5) .

6- الصدق وهو اشرف الصفات المرضية ورئيس الفضائل النفسية قال تعالى: ((رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه)) الأحزاب الآية(6). وللصدق أقسام منها الصدق

ص: 252


1- أبو زهره محمد محاضرات في المجتمع الإسلامي، معهد الدراسات الإسلامية، مطبعة يوسف القاهرة، ص7.
2- النراقي جامع السعادات، ص335.
3- المصدر نفسه، ص 334
4- المصدر نفسه، ص 337
5- عباس محمد إبراهيم مجمع الحسنات مطبعة الموصل العراق ،الطبعة الأولى، 1985، ص 147
6- النراقي جامع السعادات، ص 339.

في القول وفي النية وفي العزم وفي الوفاء وفي الأعمال وفي مقامات الدين(1) وضده الكذب، وقد ذمه الله تعالى : (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون) (النحل الآية - 105) وصدور الكذب إما عن عداوة أو عن حسد فيكون من رذائل قوة الغضب أو من حب المال فيكون من رذائل قوة الشهوة(2).

7- حسن الظن: وهو من لوازم قوة النفس فينبغي لكل مؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا يظن أن ما يرد عليه في الدنيا من البلايا هو شر له وعقوبة. وكذلك لا يظن السوء بالمسلمين(3) وضده سوء الظن بالخالق والمخلوق وهو من نتائج الجبن وقد يترتب عليه الغم والخوف(4).

8- الفطانة والعلم : من كان فطناً عارفاً بربه أو بنفسه أو بالدنيا وبالآخرة عارفاً بكيفية السلوك إلى الله يجتنب ما هو ضده هذه الفضلة وهو الغرور، إذ من عرف نفسه بالذل والعبودية اجتنب مثل هذه الرذيلة فالغرور مركب من الجهل وحب مقتضيات الشهوة والغضب وهو منبع كل هلكه ولذلك ورد الذم الشديد في الآيات ((فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغركم بالله الغرور)) (لقمان الآية - 32).(5)

9- الإخلاص : وهو منزل من منازل الدين وهو تخليص العمل من كل الشوائب والمخلص هو من يكون عمله لغرض التقرب إلى الله من دون قصد شيء آخر، والإخلاص مراتب:

أ- الإخلاص المطلق : والمراد منه وجه الله من العمل دون توقع غرض في الدارين ولا يتحقق لمحبة الله.

ب-الإخلاص الإضافي: القصد منه الثواب والاستخلاص من العذاب، قال رسول

ص: 253


1- المصدر نفسه، ص 373
2- المصدر نفسه، ص 366
3- المصدر نفسه، ص 166
4- المصدر نفسه، ص 163
5- المصدر نفسه، ص 413

الله صلی الله علیه و آله وسلم في حقيقة الإخلاص (هو أن تقول ربي ثم تستقم كما أمرت تعمل له لا تحب أن تحمد عليه أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك) (1). وضده الرياء وهو من الكبائر الموبقة وقد تعاضدت الآيات على ذمة ((فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)) (الماعون الآية - 4) . والرياء على نوعين منها أن يكون في العبادات وهو حرام مطلقا وهو يبطل أصل العبادة لأن الأعمال بالنيات والرياء بغير العبادات وقد يكون منه مباحا إذ يجب على المرء التزين باللباس قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(أن الله يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم).(2)

10- الشكر الشكر أفضل منازل الأبرار وهو موجب لدفع البلاء وازدياد النعماء قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (إبراهيم الآية - 7) . وغاية شكر العبد أن يعرف عجزة عن أداء حق شكره تعالى على نعمه والنعمة عبارة عن كل خير ولذة وسعادة وأسمى النعم التي تكون مطلوبة لذاتها وهي مخصوصة بسعادة الآخرة أي لذة النظر إلى وجه الله وسائر لذات الجنة فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى وهذه هي النعمة الحقيقية قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم (لا عيش إلا عيش الآخرة) (3).

ب الفضائل في العبادات إن كل العبادات الإسلامية تتجه إلى تهذيب ضمير المؤمن ووصايا الرسول تتجه إلى تطهير قلب المؤمن فيقول صلی الله علیه و آله وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (4). وأول هذه العبادات الصلاة ولكن قبل أن ينظر النراقي بعين المفكر إلى هذه العبادات نظر أولا إلى أحد أهم الأمور العبادية وهي (الطهارة)، فالطهارة من أهم الأمور للعباد فهي وسيلة لحصول الطهارة الباطنية وما لم تحصل الأولى لم تحصل الثانية وبذلك قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: (الطهور نصف الإيمان) والطهارة أربع مراتب (5)

ص: 254


1- المصدر نفسه، ص 407.
2- المصدر نفسه، ص 392
3- المصدر نفسه، ص 539
4- أبو زهرة، محمد، محاضرات في المجتمع الإسلامي، ص 15.
5- النراقي ، جامع السعادات، ص 570.

تطهير الظاهر من الأحداث.

تطهير الجوارح من الآثام.

تطهير القلب من مساوئ الأخلاق.

تطهير السر عما سوى الله.

الصلاة: إن حقيقة الصلاة ليست في الحركات الظاهرة وإنما في المعاني الباطنه التي هي روح الصلاة ومنها الإخلاص وحضور القلب والانكسار لله والرجاء للطف الله وإلهييه وسببها حالة لنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله والحياء وسببه التقصير في العبادة وقد مدح الإله الصلاة بعد مدح الإيمان حين قال: ((قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)) (المؤمنون الآية - 9).

وكل عاقل يعلم أن حركة اللسان والجوارح مع غفلة القلب لا غفلة القلب لا تنتهي إلى درجته إلى هذا الحد(1)، (ومن الناحية العلمية ثبت أن الصلاة تحدث بعض النشاط في أجهزة الجسم فهي ليست مجرد تلاوة ميكانيكية للأدعية ولكنها تسام صوفي يحسن فيها الإنسان بالله)(2).

الصوم: أما الصوم فأجره عظيم وثوابه جسيم فمن صام مخلصا لله وطهر باطنه من ذمائم الأخلاق وكف جوارحه عن المعاصي استحق المغفرة والإخلاص من عذاب الآخرة والصوم درجات منها صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة وصوم الخصوص وهو الكف عن المذكور مع كف الجوارح وصوم خصوص الخصوص وهو الكفان المذكوران مع كف القلب عن الهمم الردية والأخلاق الدنية والانصراف لله .(3)

الزكاة: لقد قرن الله تعالى الزكاة بالصلاة ((فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة)) (الحج

ص: 255


1- المصدر نفسه ص 596
2- نوفل، عبد الرزاق الإسلام والعلم الحديث، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، 1958 ص 135.
3- النراقي، جامع السعادات، ص608.

الآية-87). والسر في وجوبها ثلاثة أمور منها أن التوحيد العام ألا يبقى للموحد محبوب سوى الله إذ المحبة لا تقبل الشركة قال تعالى: ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة)) (التوبة - 11). وتطهير النفس وشكر النعمة فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن أمام المالية فهي شكر النعمة المال(1) وبفضل هذا الركن من الإسلام يقول المستشرق (ماسينيون): «إن في الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكر المساواة بفرض زكاة وبذا يحل الإسلام مكانان وسطا بين النظريات الشيوعية» .(2)

الحج: فهو من أعظم أركان الدين فهو ما يقر بين العبد وربه وأصعب العبادات البدنية وأفضلها فيه تصفي النفس وتكون اشد تجرد وكلما كانت كذلك كان انسها وحبها لله اشد وعلى الرغم من ان بعض شعائرها لا أنس بها كالرمي والتردد بين الصفا والمروة إلا أن بها تعظيما لله فالحاج يجرد دينه لله ويتوب لله توبة خالصة [3] ويخلي نفسه عن كل ما يشغل القلب ويحسن أخلاقة (3).

تلاوة القرآن: إن القرآن يتضمن أصول حقائق المعارف والمواعظ والأحكام فيكون لذلك أثر في تصفية النفوس وللقرآن آداب ظاهرة وأخرى باطنه فأما الظاهرة فمنها الوضوء واستقبال القبلة والجهر المتوسط لو أمن الرياء أما الآداب الباطنة فمنها فهم عظمة الكلام وفضل الله ولطفه في نزوله عن عرش جلالته إلى درجة إفهام خلقة وخضوع القلب... الخ.(4)

وقد اختتم النراقي الكتاب بالإشارة إلى بعض الأمور الباطنية المتعلقة بزيارة المشاهد تضمنت تجديد العهد لولايتهم وأحياء أمرهم وإعلاء كلمتهم، وتنكيت أعدائهم وكل واحد من هذه الأمور عظيم أجره وجزيل ثوابه)(5)، وهكذا نرى أن

ص: 256


1- المصدر نفسه، ص 270
2- نوفل عبد الرزاق الإسلام والعلم الحديث، ص 174
3- النراقي جامع السعادات، ص 611.
4- المصدر نفسه، ص 606
5- المصدر نفسه، ص 617

الإسلام يدعو للتي هي أحسن وهي اتباع خطة الإنسانية فالإسلام يعتبر الخلق كعقيدة ولكنه يعده أيضا مظهراً من مظاهر الاعتقاد ومن أجل الوصول إلى ذلك يجب التخلق بأخلاقه تعالى التي أودعها في فطرة الإنسان الحقيقي التي أعطانا أمثلة منها في أخلاق النبيين والصديقين(1).

ثانياً - الأخلاق العرفانية:

1- تعريف العرفان (2): «وهو العلم بأسرار الحقائق الدينية وهو أرقى من العلم الذي يحصل لعامة المؤمنين أو لأهل الظاهر من رجال الدين»(3)، «وقد أطلق على نوع من المعرفة الصوفية، فيقال عارف بالله أي متحقق بمعرفته ذوقاً وكشفاً، ويطلق بعض صوفية الإسلام عليه أيضا (المعرفة اللدنيه) أي التي تكون من لدن الله»(4).

فالعرفان في الاصطلاح الشيعي هو: «(البصيرة الباطنية وليس العلم الظاهري) وبمقدر ما تسمو النفس وتزكو ويرقى الإنسان إلى عالم المعنى والكمال على قدر ما يستفاد من الكتاب والسنة يحصل العرفان. أما العرفان في التصوف فهو لا يتوقف على الالتزام بالكتاب والسنة وإنما يتجاوز ذلك إلى الرياضيات المحرقة المعينة على تجريد النفس من وعاء البدن، فإذا صبرت النفس تحصل لها المكاشفة» (5).

وهناك من يرى أن تسمية الصوفية بالعارفين هي تسمية خاطئة، لأن العرفان مرتبة من مراتب الطريق ولا يصل إليها من الصوفية إلا من بلغ درجة عالية في سلم الطريق (6). أما العرفاني فهو الذي لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية بل يغوص إلى باطنه المعرفة أسرارها العرفانية كمذهب تؤمن أن العقل البشري قادر على معرفة الحقائق

ص: 257


1- الفاسي ،علال مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها مكتبية الوحدة العربية الدار البيضاء، ص 191.
2- وهو مذهب بعض المسيحيين الذين اعتقدوا أن المادة شر وبان الخلاص يأتي عن طريق المعرفة الروحية شكور .د. محمود جواد موسوعة الفرق الإسلامية، تقديم كاظم ،مرير تعريب علي هاشم مجمع البحوث الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1995، ص 359
3- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، ص 72.
4- زيادة د. معين الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الانماء العربي، الطبعة الاولى، المجلد الأول 1986 ص 587
5- الرجا، السيد حسين التصوف في البداية والتطرف في النهاية مؤسسة الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2003 ص 197.
6- بدوي، د. عبد الرحمن ملحق موسوعة الفلسفة، مطبعة سليمان نزاده، إيران ،الطبعة الأولى الجزء الثالث 2006 ص 67

الإلهية(1) ، وقد ظهر في كلام المتصوفة المتأخرين القول بالقطب(2)، ومعناه رأس العارفين، وحين يقبضه الله يورث مقامه لآخر من أهل العرفان.(3)

2 نشأة العرفان: «بدء الكلام عن العرفان عند صوفية القرنين - الثالث والرابع الهجريين ومن أبرز هؤلاء ذو النون المصري (ت 245ه) الذي جعل معرفة الصوفية في مقابل معرفة الحكماء والمتكلمين، فالأولى ذوقية والثانية استدلالية. ويعدّ الغزالي (ت 505 ه) أول من عمق الكلام في العرفان الصوفي وجعل التصوف نظرية في العرفان بالله مؤدية إلى السعادة» (4).

ویری أحد الباحثين إن إحدى الخصائص التي اختص بها الفكر الشيعي هي خاصية العرفان (5)، وقد سبق المستشرق هنري ،كوربان، أي الباحث السابق وذهب إلى أبعد من ذلك بكثير فرأى أن كبرى قضايا العرفان الشيعي قد تكونت وبشكل رئيس حول تعاليم الأئمة الرابع والخامس والسادس وهم: «علي زين العابدين علیه السلام(95 ه- 714م) محمد الباقر علیه السلام (115 ه- 733م) جعفر الصادق علیه السلام (145ه- 765م) مضافا إليها بالطبع ما روي عن الإمام الأول»(6) ولا شك في أنه يعني بالإمام الأول علي بن أبي طالب ، فأول العرفاء في هذه الأمة (علي) غير أنه لم يصل إلى هذه المرحلة من العرفان برياضيات شاقة وإنما بتنمية الأخلاق والفضائل بصورة سليمة(7).

فالعرفان كبناء ثقافي ينقسم إلى قسمين: 1 - القسم النظري 2- القسم العملي. وما يهمنا القسم العملي فهو : «عبارة عن الجانب الذي يبين العلاقات والواجبات

ص: 258


1- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، ص 72.
2- (القطب: وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضوع نظر الله في كل زمان أعطاه الاسم الأعظم من لدنه وزنه يتبع علمه وعلمه يتبع علم الحق) الجرجاني علي بن محمد، التعريفات ويلية رسالة اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2004 ص 145.
3- ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد مقدمة ابن خلدون دراسة احمد الزعبي، دار الأرقم بيروت 2001 ص 524.
4- زيادة د. معن، الموسوعة الفلسفية العربية، الجزء الأول، ص 587.
5- الرجا، السيد حسين، التصوف في البداية والتطرف في النهاية، ص198.
6- کوربان هنري تاريخ الفلسفة الإسلامية من الينابيع حتى وفاة ابن رشد ترجمة نصير مروه تقديم موسى الصدر، منشورات عويدات بيروت الطبعة الأولى، الجزء الأول، 1966 ص 75.
7- الرجاء السيد حسين، التصوف في البداية والتطرف في النهاية، ص 199.

المفروضة على الإنسان مع نفسه والعالم والله فالعرفان في هذا القسم مثل علم الأخلاق» (1). «وبما أن العرفان وثيق الصلة بالدين الإسلامي، فان العرفاء يستندون إلى الكتاب والسنة والسيرة النبوية وسيرة الأئمة وأكابر الصحابة»(2).

نخلص مما تقدم إلى أن وسيلة المعرفة لدى العرفاني هي (القلب)، أما المنهج الذي يعتمد عليه فهو منهج (ذوقي) وموضوع المعرفة هو (الله) والغاية منها هو (الحب الإلهي) وذلك كله لا يتم إلا بتزكية النفس وانخلاعها عن البدن، فبقدر ما تزكو النفس وتصفو تكون مستعدة للارتقاء إلى الكمال فيشرق عليها نور المعرفة الإلهية وهو نور الحقيقة وللوصول إلى كل ما تقدم يرى النراقي أن ذلك يمر عبر مراحل لم يذكرها على الترتيب:

1- التوبة : «وهي الرجوع عن المعصية، فيتوقف معرفتها على معرفة المعصية» (3). ويقول النراقي في التوبة «بأنها أول مقامات الدين ورأس مال السالكين ومطلع التقرب إلى رب العالمين ومدحها عظيم، قال تعالى: ((إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)) (سورة البقرة - 222)(4).

ويستشهد النراقي بقول أحد العرفاء ولم يذكر اسمه: لو لم يكن العاقل فيما بقى

من عمره إلا على فوت ما مضى من عمره من غير طاعة الله لكان حقيقاً أن يخزيه ذاك إلى الممات فكيف من يستقبل ما مضى من عمره بمثل ما مضى من جهله» (5).

2 - الورع: كما عرفة الجرجاني : «هو اجتناب الشهوات خوفا من الوقوع في

ص: 259


1- مطهري ،مرتضى العرفان، ترجمة عباس نور الدين الجزء الأول دار المحجة البيضاء، بيروت، ص 10
2- مطهري مرتضى العرفان ص 22 ويعد المطهري في موضع آخر أهل العرفان مبتدئاً بهم من القرن الثاني للهجرة حتى القرن التاسع للهجرة ب_( رابعة العدوية) ، معروف الكرخي، البسطامي سري السقطي، المحاسبي، الجنيد البغدادي، ذو النون المصري سهل التشري، العلاج الشبلي الطوسي، أبو طالب المكي. أبو الحسن الغرقاني، ابن القارض، ابن العربي المطهري. مرتضى العرفان ص 51 - 88
3- الطوسي، خواجة نصير ،الدين أوصاف الأشراف دروس في السير والسلوك تحقيق على المنصوري، مؤسسة البلاغ لبنان، الطبعة الأولى، 2001 ص 43.
4- النراقي جامع السعادات، ص 444.
5- المصدر نفسه ص 442

المحرمات».(1) وقد يقاس الورع بملكة التنزه عن المال الحرام، وقد يفسر بكف النفس عن مطلق المعاصي، فعلى المعنى الأول يكون ضداً لعدم الاجتناب عن المال الحرام، ويكون من رذائل قوة الشهوة وعلى الثاني يكون ضد الملكة الولوع على مطلق المعصية ويكون من رذائل القوة الغضبية والشهوية معا، وقد قال الباقر علیه السلام ( إن أشد العبادة الورع)(2) .

3- الزهد في الاصطلاح هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك(3) وهو قول سري السقطي والزهد الحقيقي وهو ترك جميع حظوظ النفس وعلامة ذلك التواء الفقر والغنى والذم والمدح والعز والذل لأجل غلبة الإنس بالله(4)، وليس من شروط الزهد في الإسلام أن يكون مقترنا بالفقر بل قد يتفق لإنسان ما الغنى والفقر معا (5). ويحدد النراقي الدرجة العليا من الزهد وهو ألا تكون للزاهد رغبة إلا في الله وفي لقائه فلا يلتفت إلى الآلام ليقصد منها الخلاص ولا إلى اللذات ليقصد نيلها بل أن يكون مستغرق الهمم بالله وهذا زهد العارفين.(6)

4- الفقر: الفقر ضد الغنى وهو فَقُدُ ما يحتاج إليه ولا يسمى فقد ما لا حاجة إليه فقر (7)ويحدد النراقي اختلاف أحوال الفقراء فمنهم الحريص والقانع والزاهد والخائف والراجي أما فقر العارف فهو عدم التفاته اللازم لإقباله على الله من دون غرض دنيوي أو أخروي.(8)

5- الصبر: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله إلا إلى الله لأن الله أثنى

ص: 260


1- الجرجاني التعريفات ص 204.
2- النراقي، جامع السعادات، ص 294
3- الجرجاني التعريفات ص 95
4- النراقي، جامع السعادات، ص 245
5- العبد، د. عبد اللطيف، محمد، التصوف في الاسلام واهم الاعتراضات عليه، دار النصر للتوزيع والنشر، الطبعة الثانية، 1999 ص 224
6- النراقي جامع السعادات، ص 244.
7- الجرجاني، التعريفات، ص 138 يشير النراقي الى نفس تعريف الجرجاني السالف الذكر لمقام الفقر فذلك يدل على اطلاعة على هذا الكتاب النراقي، جامع السعادات، ص 246.
8- النراقي جامع السعادات، ص247.

على أيوب علیه السلام بالصبر بقوله : (إنا وجدناه صابرا)(1) والصبر درجات منها الصبر على المعصية أو الصبر على الطاعة والصبر على البلاء وفي هذه الدرجات الثلاث نزلت الآية (واصبروا وصابرو ورابطوا) (الأنعام الآية 200)(2) والصبر إن كان يسيرا وسهلا فهو الصبر حقيقة وان كان يتعب فهو التصبر مجازا ومتى ما تيسر الصبر أورث مقام الرضا وقد قال بعض العارفين إن أهل الصبر على ثلاثة مقامات : الأول ترك الشكوى وهذه الدرجة التائبين والثاني الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين والثالث المحبة لما يضع مولاه وهذه درجة الصديقين .(3)

6 - الرضا: هو سرور القلب بمر القضاء(4) والرضا بالقضاء وأشرف المنازل السائرين وباب الله الأعظم ومن دخلة دخل الجنة قال تعالى ((رضي الله عنهم ورضوا عنه)) (المائدة الآية 22) (5)وقد ظهر في الأخبار أن رضا الله من العبد يتوقف على رضا العبد عنه تعالى وفي الحديث (إن الله يتجلى للمؤمنين في الجنة فيقول لهم سلوني فيقولون رضاك يا ربنا) فسؤالهم للرضا بعد التجلي يدل على انه أفضل كل شيء (6).

7- التوكل : هو الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي الناس (7)وأعلى درجات التوكل أن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل وتحركه القدرة الإلهية وعلى الرغم من ذلك فان السعي لا ينافي التوكل .(8)

8- المحاسبة : قال تعالى فيها : ((وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الله))( البقرة الآية 284) والمراد بالمحاسبة هو أن ينسب السالك كلماته إلى معاصيه ليعلم أيهما أكثر من الآخر فإن فضلت طاعاته نسب قدر ما يفضل إلى نعم الله عليه

ص: 261


1- الجرجاني التعريفات، ص 108.
2- الهدوي، شيخ الاسلام عبد الله الاصاري كتاب منازل السائرين مطبعة مسر بغداد 1990 ص 50.
3- النراقي، جامع السعادات، ص 557.
4- الجرجاني، التعريفات، ص 91.
5- النراقي جامع السعادات ص 516.
6- المصدر نفسه، ص 517
7- الجرجاني، التعريفات، ص 58.
8- النراقي، جامع السعادات، ص 529.

التي هي وجودة والحكم التي أودعها الله في خلقة أعضائه(1) . «والمحاسبة التي تأتي بعد العمل فيحاسب النفس على جميع حركاتها وسكناتها بان يطالبها أولا بالفرائض فان أدتها على وجهها شكر الله وان فوتتها طالبها بالقضاء وان أدتها ناقصة كلفها بالنوافل وان ارتكبت معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها» (2)وقد قال الإمام الصادق علیه السلام : طوبى لعبد جاهد في الله نفسه وهواه ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله .(3)

9- المراقبة: «استدامة علم العبد باطلاع الرب علية في جميع أحواله (4)ولا يصل العبد إلى هذا الحال إلا بعد فراغه من المحاسبة (5)وعلى العبد أن لا يخلو حاله من ثلاث فمراقبته فى الطاعة بالقربة والإخلاص وحراسته للنفس عن الآفات ومراعاة الأدب ومراقبته في المباح بمراعاة الأدب بان يأكل بعد التسمية ومراقبته بالمعصية بالتوبة والإقلاع والحياء (6).

10- الحب: قال الشبلي سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب (7)وهي ميل النفس إلى ما تقترن بالشعور به لذة وكمال ويجوز أن يكون سبب المحبة هو المعرفة كمحبة العارف (8)«وبذلك يكون لا محبوب غير الله فلا ريب أن الحسن والجمال والكمال كلها لله فان الله هو الكامل بذاته والجميل بذاته وما يوصف غيره بهما لا يخلو من شوائب» (9). «وهذه المحبة تكون بلا عله ذلك أن محبة الصديقين والعارفين تولدت من معرفتهم بقديم حب الله بلا عله فكذلك أحبوه بلا عله» (10)ويصل الإنسان إلى هذا الحال إذا صفّى نفسه من الكدورات فانجذبت

ص: 262


1- الطوسي، نصير الدين أوصاف الأشراف، ص 53.
2- النراقي جامع السعادات 462
3- المصدر نفسه، ص 464
4- الجرجاني، التعريفات، ص 170.
5- القشيري الإمام العالم أبي القاسم، الرسالة القيشرية في علم التصوف، مطبعة مبرا، بغداد، ص 148
6- النراقي جامع السعادات، ص 461.
7- القشيري الرسالة القشيرية، ص 249
8- الطوسي نصير الدين أوصاف الأشراف، ص 79.
9- النراقي جامع السعادات، ص 485
10- العبد، د. عبد اللطيف محمد التصوف في الإسلام، ص 324.

إلى عالم القدس وحدث فيه شوق تام فيرتفع إلى منبع الخيرات ويستغرق في مشاهدة الجمال الحقيقي فيصل إلى مقام التوحيد الذي هو نهاية المقامات وهذه المحبة هي نهاية درجات العشق وقد قال السجاد علیه السلام: (وعزتك قد أحببتك محبة استقرت في نفسي حلاوتها وأنست نفسي ببشارتها) (1).

11- الخوف توقع حلول مكروه أو فوات محبوب(2) ويقسم النراقي الخوف إلى قسمين: خوف معمود و خوف مذموم ويرى أن أعلى درجات الخوف المحمود أن يكون من الله وعظمته وهذا المسمى الخشية والرهبة في عرف أرباب القلوب (3)والخوف المحمود إذا جاوز حده صار مذموما لان الخوف المحمود يقتضي العمل وصحة البدن والعقل وكان بعض مشايخ العرفاء يقول للمرتاضيين الملازمين للجوع أياما كثيره احفظوا عقولكم فانه لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل وقد قال الصادق علیه السلام: (الهلال : من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا).(4)

12- الرجاء: (وهو تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل)(5)، والرجاء متعلق بقوة الغضب وهو من فضائلها لأنه باعث على العمل ولترتبه على قوة القلب يكون اقرب إلى طرف الإفراط (6). والرجاء يفضي إلى حسن الظن بالله وبعفوه بحق العاصي فإذا خطر له خاطر التوبة فيقنطه الشيطان من رحمة الله فعند هذا يمه قنوطة بالرجاء فيذكر قوله تعالى: ((يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)) (الزمر الآية (53) وقد قال الإمام علي علیه السلام: (يا بني خف الله خوفا ترى انك أن تأتيه بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاء كأنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك)(7) .

ص: 263


1- النراقي، جامع السعادات، ص 487.
2- الجرجاني، التعريفات، ص 84
3- النراقي جامع السعادات، ص 132
4- المصدر نفسه، ص 138.
5- الجرجاني، التعريفات، ص 90.
6- النراقي جامع السعادات، ص 146
7- النراقي، جامع السعادات، ص 151.

13- الشوق وهو نزاع القلب إلى لقاء المحبوب (1)وحال الشوق لا يحصل إلا للذين تثبت المحبة في قلوبهم (2)وأفضل أنواع الشوق إلى الله وهو وجه الملازم للعارف فلا يخلو عارف من الشوق إلى الله فالوجه الأول فلأن ما اتضح لعارف من الأمور الإلهية وان بلغ غاية الوضوح فكأنه من وراء ستر رقيق والوجه الثاني لأن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عارف بعض منها فلا يزال متشوقا إذ إن معلومات الله المتعلقة بذاته غير متناهية فلا يسكن للعارف شوق البتة .(3)

14- الأنس: عبارة عن استينار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول وهو من آثار المحبة فإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصورا على الجمال الحاضر المكشوف سمي ذلك أنساً وغلب ذلك عليه فلن تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة ذلك لأن الأنس بالله

يلازمه التوحش مع غير الله(4) وقد ورد عن بعض العارفين قولهم «إن لله عبادا أرادهم بحق حقائق الأنس به فأخذهم به عن وجد طعم الخوف مما سواه» (5)«ولأن الأنس يقتضي العزلة فإن العبد يتخلص عن المعاصي التي تعرض الإنسان لها بالمخالطة كالغيبة والرياء»(6) هو هنا يستشهد بكلام «الغزالي أن الإنسان إذا دام وغلب ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف العبد فانه يثمر نوعا من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله سبحانه» .(7)

15- اليقين «هو رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان (8)وهو اشرف الفضائل الخلقية وقد قال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم «اليقين الإيمان كله» فان كان اليقين في

ص: 264


1- الجرجاني التعريفات ص 107.
2- العبيد د. عبد الطيف محمد التصوف في الإسلام، ص 341.
3- النراقي، جامع السعادات، ص 476
4- النراقي، جامع السعادات، ص 509
5- العبد، د. عبد الطيف محمد التصوف في الإسلام، ص 343.
6- النراقي، جامع السعادات، ص 512
7- المصدر نفسه، ص 510
8- الجرجاني، التعريفات ص 208

المباحث الإلهية أدخل في تكميل النفس وتحصيل السعادة لتوقف الإيمان علية وقال الإمام الصادق علیه السلام: (إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير اليقين) (1).

ثالثاً - الأخلاق الفلسفية:

إذا كانت الفلسفة الأخلاقية قد احتلت عناية الفلاسفة القدماء حين كانت الفلسفة مستقلة تمام الاستقلال عن الدين، وموضوعاتها تتسم بالطابع التأملي الذي يطلق العنان للعقل للتفكير بما هو موجود حيث كانت الفلسفة تعرف بأنها حب الحكمة (2)لكن أية حكمة ؟ إنها الحكمة لذاتها ومع مرور الزمن بدأ هذا التعريف يتغير بتعدد المذاهب الفلسفية، الحكمة في العربية تشير إلى النظر الصحيح والعمل المتقن ويصف القرآن الحكمة بأنها خير ((يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)) (البقرة الآية 269).(3)

وفلسفة الأخلاق المقصود بها «معرفة الفضائل واقتناؤها لتزكو بها النفس ومعرفة الرذائل لتنزه عنها النفس»(4) ، وتشمل المسائل الأساسية للفلسفة الخلقية في البحث عن ماهية الخير والشر وعن الأساس النظري للواجبات وعن العلاقة بین الأخلاق والسعادة... الخ .(5) وإذا أردنا النظر إلى الأخلاق في الإسلام فإننا نجدها متعلقة في كل فروع المعرفة الإسلامية يؤكدها القرآن الكريم والسنة النبوية ولكن في النصائح

ص: 265


1- النراقي جامع السعادات، ص 81.
2- ان التعريف اللفظي للفلسفة (Philosophy) هو حب الحكمة وهي يونانية الأصل، لكن معناها قد اختلف باختلاف المذاهب الفلسفية المتباينة فافلاطون حين عرفها (بانها حب الحكمة) افلاطون الجمهورية ترجمة حنا خباز، مطبعة بابل ،بغداد، الطبعة الأولى 1983 ص 174 قد جمع في تعريفة لها الحكمة الأخلاقية التي تقوم في الارتفاع فوق أعراض الحياة ومصالح الأفراد وبين دراسة العالم والمبادئ التي يقوم عليها ودراسة النفس الإنسانية من حيث المعرفة والسلوك وقد اقترب من هذا التعريف بعض تعريفات العصر الحديث للفلسفة حين عرفت بانها الدراسة المتعلقة بأحكام القيم، بدوي، د. عبد الرحمن مدخل جديد إلى الفلسفة وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الأولى، 1975 ص 8.
3- الطالبي د. عمار مدخل إلى عالم الفلسفة، ص 18
4- صليبا د جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، ص 50.
5- الطالبي د. عمار، مدخل إلى عالم الفلسفة، ص 62.

والوصايا والآداب العامة وتتهنأ بها الأشعار ... الخ (1)، إلا إن الفكر الأخلاقي في الفكر الإسلامي تميز عن الأخلاق القرآنية في أن الأول وسع مفهوم الأخلاق بحيث شمل فضلا عن مصدرية الكتاب والسنة جهود الفلاسفة المسلمين وما استوعبوه من ثقافات سابقة حاولوا توفيقها مع الأصول الإسلامية(2).

وعلم الأخلاق الفلسفي يعتمد أساساً على العقل فتسعى الفلسفة الخلقية إلى تحليل ما يسمى بالوقائع الخلقية وتأسيسها تأسيسا فلسفيا(3)، ومفكرو الإسلام على اتفاق في إقامة المبادئ الخلقية على أساس من الإيمان بالله على نحو ما ورد في القرآن الكريم بل ذهبوا إلى إن كمال الأخلاق إنما يكون بالتخلق بأخلاق الله لأن في الذات الإلهية تجتمع كل الكماليات القصوى والله تجمع بين الرحمة والمحبة من ناحية والقوة والجبروت من ناحية أخرى في تعادل وتوازن ولهذا يقول الله تعالى (ولله المثل الأعلى) (النحل الآية - 113).(4)

وإذا نظرنا إلى النتاج الأخلاقي في الفكر الإسلامي ابتداءً من الكندي حتى أبي البركات البغدادي(5) نجد أن من بينهم من كان الدين عماد بحوثهم الأخلاقية كما

في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي وآداب الدنيا والدين للماوردي، أما من بحث الأخلاق بحثاً علمياً فمنهم الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا بل بلغت الفلسفة الأخلاقية الإسلامية كمالها عند ابن مسكويه فحاول أن يمزج تعاليم أفلاطون وأرسطو بتعاليم الإسلام(6).

عرف النراقي الحكمة بانها أعيان الموجودات وحقائقها على ما هي عليه

ص: 266


1- الطويل، د توفيق فلسفة الأخلاق نشأتها تطورها دار وهدان للطباعة والنشر، القاهر، الطبعة الثالثة 1976 ص 138
2- عبد الحليم احمد عطية الأخلاق في الفكر العربي المعاصر دراسة تحليلية للاتجاهات الأخلاقية الحالية في الوطن العربي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990 ص 131.
3- زقزوق د. محمود حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، ص 13
4- الطويل، د توفيق ص 139.
5- التكريتي، د. ناجي الفلسفة السياسية عند ابن أبي الربيع مع تحقيق كتابة سلوك المالك في تيسير الممالك، دار الأندلس، بيروت، الطبعة الثانية منقحة ومزيده 1980 ص 49-40
6- أمين د. احمد الأخلاق، ص 158 الطويل، د. توفيق، الفلسفة الأخلاقية، ص139.

[1]

ومنها استعمال العقل على الوجه الأصح(1) والنراقي إذ تابع ابن مسكويه في تعريفة للحكمة (2)فإنه تابع ابن سينا في تقسيمه للحكمة إلى قسمين وتحديد الموضوعات التي تعالجها معالجة فلسفية وهما(3):

الحكمة النظرية : وهي معرفة حقائق الموجودات التي لا يتعلق وجودها بقدرتنا واختيارنا وهي الموجودات الإلهية.

الحكمة العملية وهي معرفة حقائق الموجودات التي يتعلق وجودها بقدرتنا واختيارنا وهي الموجودات الإنسانية(4).

إن تعريف الخلق : «وهو العادة والسجية وعند القدماء ملكة تصدر منها الأفعال عن النفس من غير تقدم ولا روية فغير الراسخ من صفات النفس لا يكون خلقا كغضب الحكيم وكذلك الذي تصدر عنه الأفعال بعسر وتأمل كالبخيل إذا حاول الكرم»(5) أما يحيى بن عدي فقد عرفه «بأنه حال للنفس بها يفعل الإنسان أفعاله بلا رؤية ولا اختيار والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وفي بعضهم الآخر لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد»(6) وهنا أوضح ابن عدي أن الأخلاق قد تكون في بعض الأفراد بالفطرة وفي البعض الآخر بالاكتساب ولم يخرج مسكويه عن التعريف السالف للخلق فقال: «انه حال للنفس تحملها على أداء إعمالها من دون فكر وهذه الحالة طبيعية من أصل المزاج ومستفادة بالعادة والتدريب» (7)ويعرفه الغزالي «بأنه هيئة للنفس راسخة لا من يصدر

ص: 267


1- النراقي جامع السعادات، ص 49.
2- عرف مسكوية الحكمة (بانها فضيلة النفس الناطقة وهي ان تعلم الموجودات كلها من حيث هي موجودة، مثل معرفة الأمور الإلهية والأمور الإنسانية) مسكوية، تهذيب الأخلاق، ص 18
3- يقسم ابن سينا الحكمة إلى: أ- (حكمة: نظرية والغاية منها حصول اعتقاد يقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعلنا واختيارنا. ب - حكمة عملية : وهو الذي ليس الغاية منه حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات بل المقصود فيه رأي في أمور يحصل بكسب الإنسان ليكتسب ما هو خير) ابن سينا، أبو علي بن الحسين، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات رسالة في أقسام العلوم العقلية، مطبعة كردستان العملية، مصر 1328 ه، ص 228
4- النراقي جامع السعادات، ص 46
5- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، ص49.
6- التكريتي، يحي بن عدي، تهذيب الأخلاق، دار الحكمة، بغداد ، 1992، ص 7
7- مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 29

منه بذل المال بحالة عارضة لا يقال خلقة السخاء ما لم يثبت في نفسه».(1) والنراقي بما أنه قد تأثر بكل من مسكويه والغزالي فإنه لم يخرج عن التعاريف المذكورة آنفاً فقرر أن الخلق «عبارة عن ملكة للنفس مغضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر ، والخلق يوجد في الإنسان أما بسبب المزاج أو تأثير الاعتياد بان يفعل فعلا بالرؤية ويصبر عليه إلى أن يصير ملكة ويصدر عنه بسهولة وان كان مخالفا للمزاج» .(2)

ويعتقد النراقي شأنه شأن أحد الفلاسفة التجريبيين المحدثين(3) أن النفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش تقبل كل ملكة بسهولة(4) أما اختلاف النفوس فإنما يرجع إلى اختلاف صفاتها الحاصلة من غلبة قواها المتخالفة (5)وبقاء النفس على النقصان يكون لعدم صرفها إلى طلب المقصود وبسبب العوائق لكثرة اشتغالها بالشواغل المحسوسة أو لضعف القوة العاقلة (6) لكن ما الغاية من كمال النفس؟ إن غاية الإنسان ككائن يجب أن تتنسق ومنزلته بين الموجودات وما يتميز به، وحسب التقسيم الذي أوضحه للنفس فلن تكون الغاية من خلقة لصفة اشتراك بها مع السباع في القوة الجسدية أو لصفة بهيمية فإذن تبقى قوة التمييز هي الفيصل الذي يفرق بينه وبين سائر الموجودات وهذا ما أوضحه من خلال النص الآتي: «إن للإنسان جنبة شابه بها السباع فبالجزء الجسماني يقيم في هذا العالم الحسي مدة قصيرة وبالجزء الروحاني يتنقل إلى العالم العلوي فيصاحب الأرواح القدسية بشرط أن يتحرك نحو كمالاتها الخاصة والتحلي بفضائل الأخلاق فتظهر علية آثار الروحانيات من العلم بحقائق الأشياء والأنس بالله والحب له»(7)ويعتقد النراقي أن منبعي اللذة والألم في الإنسان هو إدراك النفس ما يلائمها أو ما يلائمها فيقول:

ص: 268


1- الغزالي أبي حامد بن محمد، إحياء علوم الدين دار الفكر ،لبنان، ط ،ثالثة، ج ثالث، 1997، ص 48.
2- النراقي جامع السعادات، ص30
3- المصدر نفسه، ص 34
4- المصدر نفسه، ص 35
5- (يعتقد لوك أن النفس في الأصل كلوح مصقول لم ينقش فيه شيء وان التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادئ جميعا) ،کرم د یوسف تاريخ الفلسفة الحديثة، دار العلم بيروت ص 145
6- النراقي جامع السعادات، ص 27 .
7- المصدر نفسه، ص 36

«إن بإزاء كل واحدة من قوى النفس لذة وألم فاللذة إدراك الملائم والألم إدراك غير الملائم فغريزة العقل لما خلقت لمعرفة حقائق الأمور فلذتها في العلم وألمها في

الجهل وغريزة الغضب لذتها في الغلبة وألمها في الجبن أما غريزة الشهوة فلذتها العفة وألمها في الفجور»(1) و في النص السابق نلاحظ أن النراقي قد استبدل مصطلح الفضيلة باللذة، فنلاحظ ومما تقدم الأثر الافلاطوني أوضح في تقسيمه القوى الأربع وهو يستشهد بأقواله بشكل صريح.

إن الفضيلة النراقية إذا كان النراقي أفلاطونيا في تقسيمه لقوى النفس فإننا نراه أرسطيا في تحديده لمعنى الفضيلة والفضيلة(2) في الاصطلاح تعني «الاستعداد الدائم لسلوك طريق الخير» (3)ويعرف أرسطو الفضيلة بأنها «حال معتادة في التوسط الذي يحدده العقل وهي موجود بين خسيستين احدهما الزيادة والأخرى نقصان».(4)

أما النراقي فعرفها بأنها «الصفات في جميع الأخلاق هي المساواة من غير زيادة ولا نقصان».(5) ولما كان الإنسان مدني الطبع (6) ، فيحتاج بعض أفراده إلى بعض، ولا يتم عيشهم إلا بالتعاون، فلابد هنا من حفظ المساواة على نهج لا يتضمن إفراطا ولا تفريط (7). والنراقي هنا يريد أن يوضح أن احتياج الأفراد إلى بعضهم ناتج عن اختلاف الاستعدادات المتوفرة لديهم التي تؤثر على اختلاف النفوس من سيطرة بعض القوى على بعض مما يؤثر على تحقيق الفضيلة وتعديها للمجتمع. وهذا ما استنتجناه من النص الآتي: «لقد صرح علماء الأخلاق أن

ص: 269


1- المصدر نفسه، ص 30
2- المصدر نفسه، ص 37
3- المصدر نفسه، ص 41
4- (إن من اهم المحاولات التي قام بها الفلاسفة اليونان لتحديد مفهوم الفضيلة هي محاولة أرسطو فقد استفاد من المؤلفات السابقة عليه، واعتمد على نموذج الصحة الجسمية) جيجن ،اولف المشكلات الكبرى في الفلسفة اليونانية، ترجمة، د. عزت قوني مطبعة الكيلاني، القاهرة 1976، ص 402.
5- صليبا، د. جميل ، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، ص 148.
6- طاليس، أرسطو الأخلاق، ترجمة احمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1947، ص 96.
7- النراقي، جامع السعادات، ص 64.

صاحب الفضائل الأربعة لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلهما إلى الغير».(1)

وجريا على التقسيم الأفلاطوني أن للنفس ثلاث قوى وكل فرد قد يسحن استخدامها لعوامل أو يسئ استخدامها لعوائل أخرى فإن أحسن استخدامهما انتجت فضائل ثلاث هي: الحكمة الشجاعة والعفة ثم يحصل من سالم القوى الثلاث تحت الأولى حالة مشابهة هي كمال القوى وهي (العدالة).(2)

فضيلة الحكمة : «وهي العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليها وهو لا ينفك عن الطمأنينة، فبمجرد أخذ بعض المسائل وتقديرها على وجه لائق من دون وثوق النفس واطمئنانها ليست حكمة». (3)

فضيلة الشجاعة: «هي ملكة انقياد القوه الغضبية للعقل حتى يكون تصرفها حسب تصرفه ونهيه ولا يكون صدور آثارها داعيا سوى كونها كمالا للفضيلة، فالخوف بالحروب لتحصيل المال والجاه ليس بشجاعة» .

فضيلة العفة: «وهي انقياد القوه الشهوانية للعقل، حتى يكون تصرفها مقصورا على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عما يتضمنه المفسدة، وينبغي أن يكون الباعث للاتصاف بهذه الملكة لمجرد كونها فضيلة وكمالاً للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها لا لشيء أخر» .(4)

فضيلة العدالة: «هي انقياد القوه العملية العاقلة، بحيث يرتفع بين القوى التنازع ويحصل ذلك إذا حصلت لنفس ملكة راسخة تصدر لأجلها جميع الأفعال على نهج

ص: 270


1- (اكد افلاطون إن المرء لا يستغني عن أخوانه في الجمهورية) أفلاطون الجمهورية، ص 47، وعندما جاء أرسطو حدد طبيعة الإنسان وطبيعة هذه العلاقة فقال (الإنسان من طبعة حيوان مدني) ارسطو الأخلاق ص5، أما مسكويه فرأى أن السعادة الإنسانية لا تتم إلا بالمدينة، لأن الإنسان مدني بالطبع فإن القوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس لا تحصل لهم شيء من الفضائل الإنسانية من عفه وشجاعة وعدل وصحة بل تصير قواه عاطلة لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 29.
2- النراقي جامع السعادات، ص611.
3- النراقي، جامع السعادات، ص50 ، وهذا ما أوضحه مسكويه من قبل فقال: (إن كل واحده من الفضائل الأربع إذا تعدت صاحبها إلى غيره سمي صاحبها بها ومدح عليها) مسكويه، تهذيب الأخلاق ص 17.
4- النراقي جامع السعادات، ص46.

الاعتدال ولا يكون له غاية في ذلك سوى كونها فضيلة وكمالا» (1). ولا ريب في أن بإزاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها ولما عرفت أن أجناس الفضائل أربعة فأجناس الرذائل أربعة أيضا في البداية الجهل ضد الحكمة، الجبن ضد الشجاعة، الشره ضد العفة الجور ضد العدالة. ولكن عند التحقيق يظهر أن لكل فضيلة حدا معيننا والتجاوز عنه - بالإفراط أو التفريط - يؤدي إلى الرذيلة، وان جميع أنواع الفضائل المدرجة تحت أجناسها يكون لكل منها رذيلة شهيرة بها، فينبغي لطالب السعادة أن يعرفها ويتجنب عنها (2). وإذا كانت نظرية أرسطو الوسطية نظرية عقلية غامضة فهل وقع الفلاسفة المسلمون من الذين أخذوا بها في هذا الغموض؟

من الممكن القول إن الفلسفة التي تأخذ بالنظر العقلي الصرف قد تبدو في بعض المشكلات التي تعالجها والحلول التي تقترحها يكون فيها شيء من الغموض، لكن الفلاسفة المسلمون قد تلافوا هذا الغموض وهذا الخطأ بالنسبة لهذه النظرية فوجدوا ضالتهم المنشودة في كتابهم العزيز والنراقي من الفلاسفة المسلمين الذين استطاعوا أن يتلافوا هذا الغموض فاسند النظر العقلي بالقول الشرعي فكان الشرع هو ما لاذ ،إليه فقال: «ان فضائل الأخلاق هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة واجتناب رذائلها التي هي الأطراف» (3). فالفضائل إذن هي الأوساط، فبإزاء كل فضيلة رذائل غير متناهية لأن الوسط محدود ومعين أما الأطراف فغير محدودة، فتكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة (4).

ويحدد النراقي نوعين من الوسط (5):

1. الوسط الحقيقي : «هو ما تكون نسبة إلى الطرفين على السواء، وهذا الوسط لا يمكن وجدانه ولا الثبات عليه لكن كل ما كان اعتدال الفرد اقرب إلى الوسط

ص: 271


1- المصدر نفسه، ص 57
2- المصدر نفسه، ص 58
3- المصدر نفسه، ص 24
4- المصدر نفسه، ص 50
5- أوضح يوسف كرم موقف أرسطو من الوسط فقال أن أرسطو قد حدد نوعين له: أ- الوسط بالمعنى فهو كالوسط الرياضى لا يتغير بالوسط بالنسبة إلينا : وهو متغير تبعا للأفراد والأحوال، كرم، د. يوسف تاريخ الفلسفة اليونانية، دار العلم، بيروت، طبعة جديدة ص 190.

الحقيقي كان أكمل وأقوى»(1) . وهنا تتحقق الفضيلة الكاملة.

2- الوسط الإضافي: «وهو اقرب مما يمكن تحققه للشخص وبه يتحقق كماله اللائق به» (2). فالوسط الإضافي يوجد لتعذر الوسط الحقيقي، ولذا تختلف الرذيلة بتعدد الأشخاص والأحوال والأزمان، فربما كانت مرتبة من الوسط الإضافي فضيلة بالنظر إلى شخص ورذيلة بالنسبة لغيره .(3)

والنراقي هنا اختلف مع أرسطو في أن الأول حدد القاعدة التي توصل إلى الوسط وهي الشريعة، أما أرسطو فقد ترك ذلك وقال : إنه أمر متروك إلى الظروف ما يعد اعتدالاً في ظرف قد يعد تطرفا في ظرف أخر (4). أوساط الفضائل الأربع طبقاً لنظرية الوسط يكون لكل فضيلة جنسان من الرذيلة، ولما كانت الفضائل أربعة كانت الرذائل ثمانية (5): رأيه في السعادة السعادة ضد الشقاوة وهي الرضا التام بما تناله النفس من الخير، ومذهب السعادة هو القول بأن السعادة العقلية هي الخير الأعلى وهي غاية العمل الإنساني سواءً أكانت خاصة بالفرد أم المجتمع(6) ، أما أرسطو فقد عرفها، بأنها فعل للنفس بحسب الفضيلة الكاملة(7) ، والسعادة لدى النراقي «وهو وصول كل شخص بحركة الإرادة النفسانية إلى كماله الكامل في جبلته»(8) فمن هو طالب السعادة الحقيقية؟ لكي يجيب النراقي على هذا السؤال «حدد أولا الغاية من بعثة الرسل ووضع النواميس وهو سوق الإنسان من مراتع البهائم والشياطين وإيصاله إلى روضات عليين»(9) والسعادة لا تحصل إلا بإصلاح جميع الصفات والقوى ولا تحصل بإصلاح بعضها من دون بعض فالسعيد المطلق من أصلح جميع صفاته وأفعاله بل السعيد الواقعي بتجرده عن الجسمانيات والسعادة الواقعية هي صيرورة

ص: 272


1- النراقي، جامع السعادات، ص52.
2- المصدر نفسه، ص 51.
3- المصدر نفسه، ص 52
4- أرسطو، الأخلاق، ص 43.
5- النراقي جامع السعادات، ص53.
6- صليبا، د جميل ،المعجم الفلسفي الجزء الأول، ص 656.
7- أرسطو، الأخلاق، ص 80
8- النراقي جامع السعادات، ص38.
9- المصدر نفسه، ص 19.

الأخلاق ملكات راسخة بحيث لا تغيرها المتغيرات»(1)، ولا ريب في أن ما هو متعلق بسعادة البدن هو سعادة إضافية كالصحة والمال ... الخ لكن إذا جعلت اله لتحصيل السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي المعارف الحقة والأخلاق الطيبة (2).

الخاتمة:

اعتادت الدراسة - أيه دراسة أن تدون في خاتمتها مجموعة من النتائج ولا تختلف هذه الدراسة عن غيرها من الدراسات ومن أهم النتائج التي توصل إليها هذا البحث هي:

يتهم الفكر الفلسفي الإسلامي بأنه لم ينتج فلسفة أخلاقية لأنه على حد تعبير كثير من المفكرين المحدثين اكتفى بما جاء به الدين من أخلاق، فأغناهم ذلك عن النظر العقلي لكن كيف يكون ذلك والقيم الدينية الأخلاقية لا يمكن أن تطبق إلا إذا فهمها العقل على اعتبار أنها قيم لا على اعتبار أنها مجرد نصوص تتلى؟ وهذا الكتاب أي (جامع السعادات) يمثل أحد المحاولات الفكرية التي سعت لفهم الشريعة فهما وتطبيقا دينيا وعرفانيا وفلسفيا.

وبناء على ما تقدم - أعلاه - رأى النراقي أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا إذا كانت قائمة على ثلاثة أسس سواءً أكانت هذه الأسس مجتمعه أو مفترقة وهي الشريعة العرفان، والفلسفة.

على الرغم من أنه ساير أرسطو في تقسيمه للعلوم إلى نظرية وأخرى عملية، والعملية لدى أرسطو تشمل تدبير النفس وتدبير المنزل تدبير المدن، إلا أن النراقي لم يتعرض في هذا الكتاب لتدبير المنزل وسياسة المدن لأن هدفه من وضع الكتاب هو إصلاح النفس أولاً والذي يتوقف عليها إصلاح المنزل والمدن.

اختلف النراقي عن سابقيه بأنه أحصى الفضائل والرذائل وضبطها وادخل بعضهما تحت بعض بشكل لم يتعرض له فلاسفة الأخلاق بل تعرضوا لبعض منها ورأى أن تداخل الصفات يعود إلى أن هذه الصفات لها جهات مختلفة كل منها يناسب قوة، فالاختلاف في الإدخال ناتج عن اختلاف اعتبار الجهة ومثال ذلك أن الكذب إذا نشأ من العداوة كان

ص: 273


1- المصدر نفسه، ص 40.
2- المصدر نفسه، ص 39.

من الرذائل (القوة الغضبية) وإذا نشأ من حب المال كان من الرذائل القوة الشهوانية.

لم تكن مدخلية الفضائل خاصة بدخول فضيلة تحت أخرى فحسب بل نلاحظ تداخل الفضائل الدينية والعرفانية والفلسفية وذلك يعود إلى أن مصدر الفضيلة واحد فالذي أرسل الوحي هو الذي أودع العقل في الإنسان.

لقد عرف المسلمون التوسط بما جاء به الدين (لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) لكنهم لم يعرفوا نظرية التوسط كنظرية في فلسفة الأخلاق كما فعل أرسطو في تحديده لمعنى الفضيلة والنراقي إذ أخذ بنظرية أرسطو الوسيطة لأنه وجدها اقرب إلى روح الشريعة الإسلامية كما فعل الفلاسفة المسلمون قبله ك__(مسكويه والغزالي).

ارجع النراقي اغلب الرذائل إلى قوتي الغضب والشهوة لأنهما متعلقتان بالقوة العاملة في الإنسان فضلا عن انه يرى أن قوة التعديل موجودة فيهما.

أن الموقف الوسط الذي أخذ به النراقي انه حاول أن يوفق بين العقل والنقل وذلك يعود إلى أن طالب السعادة الحقيقية عليه أن يأخذ ما سنته الشريعة وما وضعه علماء الأخلاق في هذا المجال.

عندما يثبت الفلاسفة الأخلاقيون مباينة النفس للبدن فإنهم يثبتون في ذات الوقت أن النفس تشتاق إلى عالمها الإلهي الأرفع الذي هبطت منه والى أفعالها الخاصة بها أي العلوم ففي العلوم تتحقق فضيلة النفس التي تسمو بها إلى عالم روحاني.

بعد أن تتطهر النفس من أدران البدن تشعر بسعادة لكن أية سعادة أنها السعادة الدائمة اليقينية وغاية السعادة التشبه بالمبدأ الأول الذي صدرت عنه والتشبه به ليس كوجود ولكن بصفاته التي استحقها على وجه الحقيقة بيد أن التشبه يعمل معنى آخر هو تقليد الحقيقة واستعارة الإلهية (الله) على اعتبار أنها رمز للحقيقة الواضحة الباقية.

وأخيرا وليس آخرا كان أسلوب الكتاب أسلوبا تلفيقيا حاول الجمع بين الأساليب المختلفة الدينية والعرفانية والفلسفية وحتى الروائية وبهذا اتصف الكتاب بالتنوع وهذا ناتج عن اختلاف مصادر الأخلاق.

ص: 274

المحور الرابع

اشارة

التراث العرفاني

المقدمة

ص: 275

البحث الأخلاقي وتجلياته العرفانية عند صدر الدين الشيرازي

.ا.م.د. حسين حمزة شهيد(1)

المقدمة

لا يخفى على الباحثين المكانة الكبيرة التي يحتلها صدر الدين الشيرازي في الفلسفة الإسلامية، بوصفه مؤسس لاتجاه فكري جديد يقف في مصاف الاتجاه الأرسطي المشائي، والاتجاه الأفلاطوني المثالي، ألا وهو اتجاه أو فلسفة الحكمة المتعالية.

وعلى الرغم من كثرة الدراسات الحديثة والمعاصرة في فكر صدر المتألهين، إلا أنها ركزت اهتمامها وأبحاثها على الفلسفة الكونية أو الميتافيزيقية، والفلسفة الطبيعية أكثر من اهتمامها بالفلسفة العملية - كما تُعرف بالمصطلح الفلسفي- التي تتجسد الفلسفتين الأخلاقية والسياسية. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتسلط الضوء على رؤية صدر المتألهين لفلسفة الأخلاق من خلال الوقوف على آرائه الأخلاقية ومعرفة أهم النظريات الأخلاقية التي تبناها ومعرفة مدى انعكاسها على الجانب العرفاني وبالخصوص العرفان العملي.

ص: 276


1- قسم الفلسفة كلية الآداب / جامعة الكوفة، يؤكد الباحث انه على كثافة الاهتمام من قبل الدراسات المعاصرة بالجانب النظري اكثر من الجانب العملي أي الفلسفة الأخلاقية في فكر صدر المتألهين كان هذا دافعا له حتى يهتم بهذا الجانب الأخلاقي ولعل هذا يظهر في أقسام هذا البحث فأولها تضمن النظرية الأخلاقية فيما الثاني فتناول المنهج العرفاني أو الكشفي عند صدر الدين الشيرازي أما المبحث الثالث فقد عرض بعض المفاهيم الأخلاقية وتجلياتها العرفانية، وقد اجمل العوامل المؤثرة في مبحث الأخلاق عند الشيرازي تحت عنوانين رئيسين : عوامل فطرية وعوامل مكتسبة، ومنها تتكون أخلاق الإنسان وتتشكل المحرر

وانقسمت البحث على ثلاثة مباحث: الأول تضمن البحث في النظرية الأخلاقية ومصادرها، وأنقسم بدوره إلى أربعة مطالب، تناولت في الأول منها العوامل المؤثرة في الفعل الخلقي كما حددها الشيرازي، أما المطلب الثاني، فدرست فيه النفس الناطقة وطرق وصولها إلى الكمال الخلقي، والمطلب الثالث تضمن البحث في معالم نظرية الشيرازي الأخلاقية من خلال الوقوف على نظرية الوسط المعتدل ودورها في ترقي الفعل الخلقي، والعبادة ثانياً، والمعاد ثالثاً بوصفه حافزاً لتقويم الأفعال الأخلاقية.

أما المبحث الثاني: فدرستُ فيه المنهج العرفاني أو الكشفي عند صدر الدين الشيرازي والذي انقسم بدوره إلى ثلاثة مطالب تناولتُ في الأول منه طبيعة المنهج العرفاني ومصادره عند الشيرازي، أما المطلب الثاني، فتضمن البحث في معنى الكشف ومراتبه، وفي المطلب الثالث عرضتُ للرياضة بوصفها طريقاً للكشف أو الذوق.

أما المبحث الثالث: فقد عرضتُ فيه بعض المفاهيم الأخلاقية وتجلياتها العرفانية كما عرضها الشيرازي، وانقسم بدوره إلى ثلاثة مطالب : عرضتُ في الأول منها التلازم بين الفعل الخلقي والعرفاني في فكر الشيرازي كمقدمة ضرورية للمطالب اللاحقة، والمطلب الثاني تضمن دراسة الفضائل والرذائل أما المطلب الثالث، فدرستُ فيه السعادة والشقاوة وأبعادها العرفانية، أما الخاتمة فقد تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها.

المبحث الأول / النظرية الأخلاقية ومصادرها عند صدر الدين الشيرازي

المطلب الأول / الفعل الخلقي (أسبابه ودوافعه):

يُحدد الشيرازي مجموعة من العوامل المؤثرة التي من شأنها أن تؤثر في الأفعال الإنسانية سواء كانت أخلاقية أو غير أخلاقية، ومنها (1):

ص: 277


1- ينظر الشيرازي أسرار الآيات تصحيح وتحقيق حبيب الله الموسوي، ط1، قم ، إيران، 1420ه.ق، ص 140-142. الأخلاق جمع خلق, ومرد معناه في اللغة العربية وبعض اللغات الآخر معنى «العادة» . (1) ، وإذا أردنا أعطاء تعريف دقيق لعلم الأخلاق نقول : «إنه علم القواعد التي تسير عليها إرادة الإنسان الكامل لتصل إلى المثل الأعلى أو هو علم القواعد التي إذا أخذ بها الفرد كان رجلاً تام الخُلق» فالأخلاق بالمعنى الفلسفي هو علم معياري, إنه لا يبحث في حياة الناس الراهنة أي بما هي كائنة بالفعل, بل بما يجب أن تكون ينظر ينظر, صليبيا, د. جميل, المعجم الفلسفي, ج 1, 16, قم إيران, ص 239 كذلك ينظر : ينظر موسى د. محمد يوسف, مباحث في فلسفة الأخلاق, مطبعة الأزهر كلية أصول الدين القاهرة, 1943, ص 3-4

1/ اختلاف الخلقة الأمزجة وتفاوت الطينة، ويستشهد الشيرازي بما روى عن واقعة أصل الخلق (خلق ادم)، فقد أمر بأن يؤخذ من كل ارض قبضة تراب، إلا أنه لم يبين الأثر الأخلاقي من هذه الفقرة.

2/ عامل البيئة الاجتماعية والاقتصادية للطفل، وذلك باختلاف الوالدين من صلاح أو فساد أخلاقهما، والوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه الأسرة، إذ إن الطفل بحكم نشأته بينهما ومخالطته لهما يتأثر بما عما عليه من حسن السيرة والسلوك والخُلق أو السيرة السيئة، فضلاً عن الأثر الاقتصادي المتمثل بالرضاعة والغذاء والملبس، وغيره من الأمور المادية الحياتية التي تؤثر على الأبناء من حيث نقصها وانعكاسها على سلوكياتهم الأخلاقية.

3/ عامل الوراثة المتمثل في اختلاف طبائع الوالدين الأخلاقية وأثرها على الأبناء،

واستشهد الشيرازي هنا بقول الرسول صل الله عليه والله وسلم: (تخيروا لنطفكم) وقوله أيضاً (إياكم وخضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في منبت السوء). وهذه الأحاديث فيها إشارة إلى دور الأم الوراثي دون الأب.

4/ اختلاف الناس الذين يعيش معهم ويختلط بهم من حيث تأثيرهم عليه بالآراء والمذاهب.

5/ عامل التربية والتعليم في التهذيب وتنشئة الإنسان من خلال التعود على الحالات الحسنة والابتعاد عن الحالات السيئة، وتربية الأبناء على الآداب الشرعية وتعويدهم على فعل العبادات والخيرات.

6/ تزكية النفس بالعلم والعمل عند استقلال الإنسان بنفسه، وهذا يكون من خلال

ص: 278

معرفة الفرد بالعلوم العلمية والعملية على حد سواء، فإذا ما اجتمع للإنسان هذا الجانب فجاهد بنفسه بالعلم والعمل، مع توفر الاستعداد بالغريزة أو الفطرة، كل ذلك يجعل المرء يصل للمرتبة العليا في الخيرات من جميع الجهات

ويمكن أجمال هذه العوامل تحت عنوانین رئیسین عوامل فطرية وعوامل مكتسبة، ومنها تتكون أخلاق الإنسان وتتشكل وان تلك العوامل يجب مراعاتها لدورها الكبير في توجيه سلوك المرء إلى فعل الخير أو الشر، وعليه يكون هناك جانب جبري في اكتساب الأفعال الفاضلة أو الرذيلة لذلك الإنسان، طالما انه مختار لأفعاله، فيجب أن يدفعه هذا إلى بذل الجهد واستخدام إرادته الحرة في مجاهدة النفس على تقويم أخلاقه ما استطاع لذلك، حتى يصل إلى بغيته المنشودة، وهي الأخلاق الفاضلة من خلال العلم والعمل.(1)

المطلب الثاني:

خير وكمال النفس الناطقة وطريق الوصول إليه :

يرى الشيرازي أن جوهر النفس الإنسانية يكون مستعداً لان يتلقى الكمال والاستكمال من خلال العلم والعمل معاً، والعلم يكون من خلال كمال القوة النظرية، وأما العمل فيكون بالقوة العملية، أما القوة النظرية ، فيُحدد لها مراتب أربعة هي(2):

1/ العقل الهيولاني، حيث يكون له الاستعداد لحصول جميع المعقولات بحسب الفطرة، لأنه خالٍ من كل الصور والمدركات العقلية، ولذا سمي عقل بالقوة، وأول العلوم التي يحصل عليها هذا العقل هو علمه بذاته والعلوم المحسوسة.

2 العقل بالملكة وهو أول ما يحصل فيه إدراكه لرسوم المحسوسات التي هي معقولات بالقوة، ومن خلاله يتم الحصول على معرفة البديهيات والأوليات، ومنها

ص: 279


1- ينظر: جميلة محي الدين صدر الدين الشيرازي وموقفه النقدي من المذاهب الكلامية، دار العلوم العربية، بيروت، ط 1،2008 ، ص 248-249
2- ينظر: الشيرازي مجموعة رسائل فلسفية، ط1، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 2001، ص129 وما بعدها

يصل إلى المعقولات فحصول هذه المعقولات هو عقل بالملكة.

3/العقل بالفعل، وفيه يبدأ التمييز بين المحسوسات والمعقولات النظري، وأيضاً بين الحقائق الأولية، ويبدأ باستعمال الأقيسة والبراهين لكي يصل فيها إلى الحقائق اليقينية.

4/ العقل المستفاد هو بعينه العقل بالفعل لما يتضمنه مشاهدة تلك المعقولات عند الاتصال بالمبدأ الفعال ويسمى به لاستفادة النفس إياها مما فوقها من العالم

الأعلى.

ووفقاً لهذه المراتب تكون النفس مستعدة لتلقي الحكمة النظرية التي تختص بالآراء والاعتقادات، وتميز بين الحق والباطل والخير والشر، وتهتم بالمعقولات الكلية النظرية المتمثلة في الوجود وفيما يتعلق به من الموجودات الكلية، وتسمى بالعلوم النظرية(1). وبناءً على ذلك، يرى الشيرازي بأن النفس الإنسانية لها ثلاثة نشآت إدراكية منها يظهر الجانب الأخلاقي الميتافيزيقي للأفعال الإنسانية، إذ يرى أن النشأة الأولى للنفس تتمثل في الحس، وهنا يشير إلى العقل بالقوة ومظهرها الحواس الظاهرة، ويقال لها الدنيا لدنوها ولتقدمها على الأخيرتين، وخيراتها وشرورها معلومة، ولا تحتاج إلى البيان.(2)

أما النشأة الثانية فهي المثالية ومظهرها الحواس الباطنة، وتمثل العقل بالملكة ، ويقال لها الآخرة التي تنقسم إلى الجنة والنار التي يكون فيها الناس سعداء أو أشقياء، وذلك حسب أفعالهم الأخلاقية الفاضلة أو الرذيلة. أما النشأة الثالثة، فهي عقلية ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان عندما صارت عقلاً بالفعل، وهي تكون خيراً محضاً ونوراً صرفاً، وبذلك يعد النشأة الأولى دار القوة والاستعداد، والمزرعة لبذور النفوس والنيات والاعتقادات، وأما الأخيرتان وهما المثالية والعقلية كل منهما

ص: 280


1- ينظر جميلة محي الدين ،البشتي صدر الدين الشيرازي وموقفه النقدي من المذاهب الكلامية، دار العلوم ،العربية ، ط ا ذ ،بيروت، لبنان، 2008، ص 252
2- الشيرازي الأسفار، ج 9 ، دار المعارف الإسلامية، قم، إيران، ص 21-22.

دار التمام والفعلية حيث يرى فيها تحصيل الثمرات وحصد المزروعات(1). أما الحكمة العملية تختص بالفكر والروية في الأفعال الأخلاقية المتمثلة في الأمور الجزئية فيما ينبغي أن يفعل ويترك، وتميز بين ما هو جميل وقبيح من الأفعال، وما هو خير وشر، وهذه الحكمة تهتم بالعلوم الأخلاقية، وهي تعد خادمة للحكمة النظرية ومكملةً لها، ومستعينة بها في كثير من الأمور، والنفس عن طريق الحكمة النظرية والعملية تبلغ كمالها العقلي والعملي.(2)

وعليه يكون جوهر النفس مستعداً لان تستكمل نوعاً من الاستكمال بذاتها، وما فوقها ذاتها بالعقل النظري، وهذا ما يتعلق بالجانب التحصيلي المعرفي لها، ومستعد لان يتحرر من الآفات والأفعال الذميمة، وان يتصرف فيما دونها بالعقل العملي وذلك يتعلق بالجانب الأخلاقي، لان يكون مبدأ فاعليته وتصوراته بالنسبة لجوهر النفس وبه تكون سعادته في الدنيا والآخرة، ومنشأ للعذاب بما يكتسبه من الأفعال الرذيلة والأفكار السيئة، وهنا يكمن الجانب الميتافيزيقي في الأفعال الإنسانية(3).

وبناءً على ذلك يتصف الإنسان بأنه عادل وحكيم لتمتعه بالحكمة النظرية والعملية معاً ، لأنه أكمل القوتين للنفس، فصارت قوةً واحدة علماً وعملاً ، وأدركت كمالاتها العلمية والملية إدراكاً تاماً من دون علائق ،البدن، فقد تحققت سعادتها بذلك لا محالة .(4)

ويُضيف الشيرازي، أن الإنسان بهذه المرتبة ستحصل له ثلاث درجات لليقين: الأول هو العلم والثاني هو العين، والثالث هو الحق (5). ويقصد بها علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وهذه مصطلحات مشهودة عند أرباب التصوف، حيث يعدون علم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأصحاب العلوم، وحق اليقين لأصحاب

ص: 281


1- المصدر نفسه ص 130
2- المصدر نفسه ص 131
3- ينظر : مفاتيح الغيب، تصحيح وتقديم محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات، إيران، 1984، ص 602.
4- المبدأ والمعاد، تقديم: سید جلال الدين مؤسسة انتشارات، إيران، 1396ه. ، ص 258.
5- ينظر: التفسير ، ج8، انتشارات بيدار ،قم إيران، 1367ش، ص342.

المعارف (1)فالسعادة الحقيقية عند استكمال النفس قوتها بعد أن تبطل علاقتها بالبدن عن طريق الموت، ومنها ترجع إلى ذاتها الحقيقية، وتكون لها من البهجة والسعادة التي لا يمكن وصفها، ويتمثل ذلك في دخولها الجنة .(2)

المطلب الثالث / معالم النظرية الأخلاقية عند صدر الدين الشيرازي:

يمكن لنا تحديد ثلاثة مبان أو نظريات أسس عليها الشيرازي نظريته في مجال الأخلاق، ومنها:

أولاً: نظرية الوسط المعتدل:

اتضح لنا في المطلب السابق أن خير النفس الناطقة وسعادتها يكون من خلال مزاولة الحكمة النظرية والعملية معاً، والسعادة كما يصنفها الشيرازي على قسمين: سعادة أخلاقية وعقلية (3). أما السعادة الحقيقية فهي سعادة دنيوية، لأنها تتحقق للنفس وهي بصحبة البدن ويتم ذلك عن طريق تحقيق العدالة في أفعالها وهذا العدل لا يتحقق إلا بوجود مبدأ الوسط الأخلاقي بين ضدين إفراط وتفريط، أو ما يعرف باختيار الوسط المعتدل بحسب توسط قواه الثلاثة الشهوانية والغضبية والفكرية التي يُحددها في الفضائل الثلاث وهي العفة والشجاعة والحكمة، وبها يتحقق مكارم الأخلاق وملكة العدالة(4) .

وهذا الوسط الأخلاقي ينسجم مع مبدأ الاختيار الذي ذهب إليه الشيرازي، وهو (الأمر بين الأمرين)، بحيث يكون الفعل الخلقي أو الفاضل مرتبطاً بهذا الوسط واختيار الإنسان له بين الإفراط والتفريط، وفيهما يكون الفعل المطلوب، وبذلك يكون الفعل الأخلاقي فاضلاً أو سيئاً استناداً إلى الفاعل من حيث هو مدرك لصفة

ص: 282


1- القشيري الرسالة ص 74.
2- الأسفار، ج 9، ص128. نظراً لارتباط الحديث عن القوة العملية ومراتبها بالمنهج الكشفي عند الشيرازي ، أخر الباحث الحديث عنها للمبحث الثاني في سياق بيان التلازم بين الفعل الخلقي والسلوك العملي أو ما يعرف بالعرفان العملي.
3- ينظر المبدأ والمعاد، ص 360-363.
4- ينظر: الاسفارج 9 ص 127. كذلك مفاتح الغيب، ص568

الفعل و من اختياره له،و هذا الاختیار یقوم علی مبدأ الحرية و الحکمة .(1)

ويرى الشيرازي أن تحقق الحكمة والحرية في الأفعال الإنسانية يتمثل في أربعة معان وهي قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العقل، والعدل بين هذه القوى، فإذا تساوت هذه الأركان الأربعة التي هي مجامع الأخلاق، التي تتشعب فيها فروع أخرى غير محدودة، فإذا اعتدلت وتناسقت حصل حسن الخُلق، أما قوة العلم فأعدلها وأحسنها أن تصير بحيث تدرك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، ومن ثم إن صلحت هذه القوة واعتدلت من غير إفراط وتفريط حصلت منها ثمرة هي بالحقيقة أصل الخيرات ورأس الفضائل وهي الحكمة(2).

أما قوة الغضب فاعتدالها أن يصير انقباضها وانبساطها على وفق الحكمة والشريعة وكذلك قوة الشهوة، أما قوة العدالة فهي ضبط قوة الغضب والشهوة، وذلك على وفق الدين والنقل، فالعقل النظري منزلته منزلة المشير الناصح، وقوة العدل وهيالقدرة التامة منزلتها منزلة المنفذ لأحكامه وقوتا الغضب والشهوة هما اللتان تنفذ فيهما الحكم مطيعين له منقادين لحكمه وان كل من الغضب والشهوة تتفرع منهما فضائل ،ورذائل فقوة الغضب اعتدالها الشجاعة والفضائل المتفرعة منها كالنجدة والشهامة والحلم والثبات وغيرها.

وأما الرذائل فمن جانب إفراطها يحصل منه خلق التهور والكبر والعجب، أما تفريطها فيحصل منه الجبن والمهانة والمذلة وعدم الغيرة، وأما الشهوة فيعبر عن

اعتدالها بالعفة وعن إفراطها بالشره وعن تفريطها بالخمول، فيصدر عن العفة السخاء والحياء والصبر والقناعة والورع ،وغيرها ويصدر عن إفراطها الحرص

ص: 283


1- ينظر: صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص 256 يذهب الشيرازي إلى أن أفعال الإنسان لا جبر كما يقول الأشاعرة، ولا تفويض كما يقول المعتزلة، بل أمر بين أمرين ، بل المراد أنه مختار من حيث هو مجبور ومجبور من حيث هو مختار بمعنى أن اختياره بعينه اضطراري ينظر الشيرازي رسالة خلق الأعمال، ص 33. كذلك : الأسفار، ج 6، ص 98.
2- ينظر: الأسفار ج9، ص88.

والوقاحة والتبذير والرياء والحسد وغيرها(1). وأما قوة العقل والحكمة فتصدر عن اعتداله حسن العدل والتدبير، وجودة الذهن وسداد الرأي وإصابة الظن وغيرها، وأما إفراطها فتحصل منه الخداع والدهاء، ويحصل من تفريطها البله والحمق والغباوة، فهذه هي رؤوس الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة .(2)

وبذلك يُحدد الشيرازي معنى حسن الخلق في جميع الأنواع الأربعة للأخلاق وفروعها، وهو يتمثل في التوسط بين الإفراط والتفريط، ومن خلاله يكون هذا الوسط هو المقياس أو المعيار للحكم على أفعال الإنسان الأخلاقية بالخير أو الشر، ويكون الشيرازي بهذه الفكرة امتداداً لمدرسة أرسطو ومن تابعه من متفلسفة الإسلام ومنهم الفارابي وابن سينا.

ثانياً: نظرية العبادة ودورها في بناء الفعل الخلقي:

اجمع الباحثون على أن هناك ثلاثة مصادر أسهمت في بناء منظومة الشيرازي المعرفية، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفلسفة، والعرفان(3)، والجانبان الأخيران واضحان كل الوضوح في مدرسة الحكمة المتعالية، وقد انبرى عدد من الباحثين لدراستها وإظهارها (4). أما الجانب الأول، فيبدو واضحاً وجلياً في نصوص الشيرازي، حيث نجده في معظم الأحيان يلتجئ إلى النصوص القرآنية، وأحاديث النبي والمعصومين في أثباته لموضوعة ما ، فالقرآن الكريم قد شكل رافداً مهما نهل منه صدر المتألهين وأسس على ضوئه معالم نظرياته الفلسفية والعرفانية. قال: ((ومن المعلوم أن لكل شيء كمالاً يخصه لأجله خُلق، وفعلاً معيناً يتممه، إذا له وفق وكمال الإنسان في إدراك الحقائق الكلية، ونيل المعارف الإلهية، والتجرد عن

ص: 284


1- ينظر الشيرازي الأسفار، ج 9، ص 90 .
2- المصدر نفسه، ص 91.
3- ينظر سید حسین نصر، مقدمة تحقيق كتاب سي أصل لصدر الدين الشيرازي جامعة علوم المعقول والمنقول طهران، 1961. كذلك جعفر آل ياسين صدر الدين الشيرازي مجدد الفلسفة الإسلامية، مطبعة المعارف بغداد، ط1955 ، 1 ، ص 27 وما بعدها.
4- ينظر : ينظر: علي أسعد حلباوي، أصالة الوجود عند صدر الدين الشيرازي دار الصفوة، بيروت، ط1، 2010.

المحسوسات المادية، والخلاص عن القيود الشهوية والغضبية، وهذه لا تتحصل إلا بالهداية والتعليم، والتأديب، والتقويم، فبعث الله رسولا ومعلما وأرسل كتابا جامعاً فيه لب أسرار التأويل وتفاصيل أحكام التنزيل متضمناً لعلوم الأولين والآخرين، مشتملاً على خلاصة الآداب والسنن التي كانت لسائر النبيين والمرسلين، مع زيادة إكمال وتتميم....))(1).

وامتد الأثر القرآني بتصوره إلى الأخلاق، وهذا ما أشار إليه الشيرازي في سياق عرضه إلى ما سماه (بمنافع العبادات)، وانعكاسها على أخلاق الفرد وسلوكه العملي، فالعبادات بنظر الشيرازي لا يقتصر أثرها على المعنى الديني فقط، بل يمتد ليشمل المعنى الأخلاقي، باعتبار أن غايتها تطهير النفس من شهواتها، كالصلاة التي تنهى الفحشاء والمنكر، ويعدّها أفضل العبادات الدينية قال((أفضل العبادات الدينية الصلاة لكون روحها أفضل، ونقاء الروح يدل على صفاء الجسد، وبالعكس... وروح الصلاة المعرفة بالله، وهي أفضل المعارف)) (2). كما أنها عبادة شاملة لكل الهيئات من تنظيف البدن وتطهيره والخضوع والخشوع، وصدق النية، وقصد القُرب من الله سبحانه وتعالى، وصدق النية ... والذكر لنعم الله والثناء له، وقراءة القرآن(3). وهذا ما يترتب عليه الاستفاضة من عالم الأنوار وتلقي المعارف والأسرار، والاستمداد من ملكوت السماوات.

ويرى الشيرازي بان الصلاة عمود الدين كونها تتعلق بالعلم بوحدانية الله تعالى، وأحقيته بالوجود وتنزه ،ذاته، وتقدس صفاته، ومعرفة أمره وخلقه وقضائه وقدره وعنايته وحكمته، ويصفها بأنها تشبه ما للنفس الإنسانية بالأشخاص الفلكية والأرواح الملكية في تعبدها الدائم وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، طلباً للثواب السرمدي وتقربا إلى المعبود الصمدي (4).

ص: 285


1- تفسير القرآن الكريم، المقدمة، ص9.
2- ينظر: الشواهد الربوبية، ص368 . كذلك : مفاتيح الغيب ، ص 9
3- المصدر نفسه، ص 369.
4- ينظر: الشيرازي، تفسير القرآن الكريم ، ج 7، ص 243.

أما الصوم فهدفه كسر قوة الشهوة الغالبة على الإنسان بالجوع وترك السيئات المنهي عنها، وبالمواظبة على الطاعة من خلال الامتثال لأوامر الله تعالى، وأما الحج فهو التوجه إلى بيت الله الحرام بنية خالصة للعبادة، وترك جميع الملذات الشهوانية الحيوانية في سبيله والتجرد من قوى البدن وملذاتها الدنيوية، والتقرب إلى الله بالطاعات والزكاة توجب صرف النفس عن حب المال وتطهيرها من البخل، بان تقدم المؤونة والمعونة على الفقراء والمساكين .(1)

وأما الجهاد فهو نوعان: الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، ويستشهد الشيرازي بذكر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لهما في قوله((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) والمقصود بالأصغر، هو محاربة أعداء الله والدين والجهاد في سبيله تعالى، بالمال والأهل والولد وبه يوجب النصر أو الشهادة في سبيله تعالى، مما يوجب حسن الخاتمة (2). أما الجهاد الأكبر ، فهو مجاهدة النفس ومحاربة أهوائها وتزكيتها وتطهيرها من اجل شهود الحق، والمقصود بالنفس هنا النفس الأمارة بالسوء، لان هذه النفس برأيه مفطورة على المبادئ الأخلاقية الرذيلة والاعتقادات الفاسدة، فواجب على الإنسان محاربتها ومجاهدتها على التخلص من الانقياد لرغباتها وشهواتها .(3)

ولكل من هذه العبادات كما يعبر الشيرازي روح وجسم، أما جسمه فهو الحركات المحسوسة والسكنات الظاهرة، ولا يخلو هذا النوع من مشاركة بين الخالق والمخلوق يسمى رياء، وهذا منظور لكل واحد ويسمى شركاً خفياً، أما روح العبادة، فهو الإخلاص الكامل فيها والنية الباطنة، وهو المحسوب من الطاعتين لا غير في الموازين القسط، وما سواه فهو في ميزان ما عمل ،له والعبادة البدنية بمثابة قنطرة للعبادة الروحية الباطنية .(4)

وهنا يتضح أثر العبادة في بناء السلوك الإنساني السوي وتقويمه، وبهذه النقطة

ص: 286


1- ينظر الشواهد الربوبية، ص.369. كذلك تفسير القرآن، ج 7، ص 392.
2- ينظر جميلة محي الدين البشتي، صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص 263
3- المصدر نفسه، ص 263-264
4- ينظر: مفاتيح الغيب، ص689.

نجد أن الشيرازي قد تجاوز نظريات سابقيه من فلاسفة الإسلام، فالمتتبع للتراث الأخلاقي الذي ورثناه من الفارابي وابن سينا، يجد هيمنة الأثر اليوناني المتمثل بالتراث الأفلاطوني والأرسطي على أبحاثهم الأخلاقية، باستثناء أبي حامد الغزالي، الذي أشار إلى هذا المعنى.

ثالثا / نظرية الثواب والعقاب ودورهما في بناء الفعل الخلقي:

إن من أهم الأسس والمباني التي استند عليها الشيرازي في إقامة البناء الأخلاقي للإنسان يتمثل في الإيمان بالمعاد أو ما يُعرف ب__(الثواب والعقاب)، لأنّ أفعال الإنسان الأخلاقية التي يمارسها في الدنيا سيرى نتائجها في الآخرة، بصورة الثواب في الجنة، والعقاب بالنار.

فالباعث على الغاية من المعاد هو أن يكون باعثاً على تحلي الفرد بالفضيلة، والابتعاد عن الشر والرذيلة في إطار تهذيب الأخلاق وتقويم السلوك الإنساني في الحياة الدنيا، ومن ثمَّ تحقيق السعادة الأخروية(1)، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله: ((اعلم أن الاعتقاد بالمعاد جيد للجهال والعوام وأرباب الحرف والصنائع وأهل المعاملات الذين لا يمكنهم النظر في حقائق الأمور ، فهم مكلفون باعتقادات رسمية في باب الآخرة، وذلك لأنهم متى اعتقدوا هذا الرأي في المعاد وتحققوا هذا الاعتقاد يكون حثاً لهم على عمل الخير وترك الشرور واجتناب المعاصي، وفعل الطاعات)) (2).

وفي البدء يُحدد الشيرازي ثلاثة اتجاهات رئيسية في مسألة المعاد(3) : الأول يذهب إلى إقرار المعاد الروحاني فقط، وهم غالبية الفلاسفة والاتجاه الثاني نادي بالمعاد الجسماني فقط،وهم بعض المتكلمين، أما الاتجاه الثالث التوفيقي، فيقر المعاد الجسماني والروحاني معاً.

ويرفض الشيرازي الاتجاهين الأول والثاني، ويقدم نقده لهذين الاتجاهين، وفي

ص: 287


1- ينظر : جميلة محي الدين البشتي صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص 264.
2- الأسفار، ج9، ص 180.
3- المصدر ،نفسه ص 181

المقابل يعتبر الاتجاه الثالث هو الأقوم والأصح ، ويصف رأيهم بأفضل وأجود الآراء، قال: ((أما ما تزين به محققو المليين وأفاضل المسلمين فهو أن مع هذه الأجساد جواهر أخرى هي اشرف وأنور، وليست بأجسام كثيفة، بل هي أرواح لطيفة تخرج عن هذه الأبدان عند الموت، فلا يتصور عندهم أمر البعث والقيامة إلا برد تلك الأرواح إلى تلك الأجساد، أو أجساد أخر مثلها يقوم مقامها، يحشرون ويثابون أو يعاقبون بما عملوا من خير وشر، فهذا الرأي أجود واقرب إلى الحق)) (1).

ولسنا هنا بصدد عرض دليل الشيرازي في أثباته المعادين الجسماني والروحاني، والذي يعتمد على نظريته في الحركة الجوهرية، وبداية الخلق(2)، بقدر ما يهمنا بيان أثر الإيمان بالمعاد وانعكاسه على سلوك الفرد الخلقي، فقد ربط الشيرازي بين أمور الغيب المتمثلة في الثواب والعقاب بالحياة الأخلاقية، والاعتقادات الدينية المثلى للإنسان، أثناء سعيه في الأرض نحو غاية الغايات وهي السعادة الأخروية، وأعطى مدلولا للحرية بشقيها الأخلاقي المتمثل في الخير والشر، والميتافيزيقي المتمثل في الجنة والنار، لما أثبته من مبدأ حرية الإنسان في اختيار أفعاله في الدنيا، وما يترتب عليها من نتائج في الآخرة، وهذا يتوقف على مدى إيمانه بالآخرة، كضرورة لتوجيه سلوكه للتحلي بالفضائل التي يدعو إليها الدين إلى جانب قيامه بالعبادات الدينية على أكمل وجه، حتى ينال عليها في يوم القيامة الخلود في الجنة.(3)

ويتجسد هذا المعنى عند الشيرازي في تقسيمه لأصناف الناس يوم الحساب، الصنف الأول يرزقون من دون حساب وهؤلاء بدورهم ثلاثة أقوام المقربون، ممن حصلوا المعارف والعلوم العقلية، فهؤلاء يدخلون الجنة من دون حساب لتنزههم عن شواغل الدنيا والحساب (4). وهناك أصحاب اليمين، وهم ممن حصلوا التقوى ولم يقدموا على معصية ولم يقترفوا سيئةً ولا فساداً لصفاء قلوبهم واقتدار نفوسهم حسب القوة العملية على فعل الطاعات والاجتناب عن السيئات، ومنهم جماعة تكون

ص: 288


1- الأسفار، ج 9، ص 180.
2- المصدر نفسه، ص 159
3- ينظر جميلة محي الدين البشتي صدر الدين الشيرازي وموقفه من المذاهب الكلامية، ص.246
4- ينظر : مفاتيح الغيب، ص654

صحائف أعمالهم خالية من الأعمال، ونفوسهم ساذجة عن النقوش الحاصلة من الحسنات والسيئات فينالهم رحمة من الله تعالى.(1)

أما الصنف الثاني، وهم أهل الحساب، فهؤلاء أيضاً على ثلاثة أقسام: القسم الأول يكون صحيفة أعمالهم خالية من الحسنات، وقسم منهم من وقع فيهم وحبط ما صنعوا فيها، وقسم منهم وهم المحاسبون في الحقيقة، وهم الذين خلطوا بين العمل الصالح والعمل السيئ (2).

وهنا يتجسد الترابط بين ما يفعله الإنسان من حسنات وما يجنيه من فضائل، وما يترتب عليه من ثواب يتمثل بدخول الجنة، وخلاف ذلك يكون جزاءه دخول النار.

المبحث الثاني: المنهج العرفاني (مراتبه ومصادره) عند الشيرازي:

المطلب الأول، المنهج العرفاني ومصادره عند الشيرازي:

ومما لا شك فيه أن المسحة العرفانية * هي الغالبة على أبحاث ملة صدره الفلسفية، وبالخصوص ما يتعلق منها بمبحث المعرفة ،ومصادرها فطالما يؤكد الشيرازي على قصور العقل لوحده عن الوصول إلى درجة المكاشفة والمشاهدة، ويتضح هذا المعنى من عناوين كتبه والتعابير التي يستخدمها الشيرازي لتقسيم موضوعات كتبه وتسميتها من قبيل (حكمة كشفية) و (إشراق عقلي)، ومثل هكذا مسميات يتجلى فيها النفس العرفاني بصورة أكبر من النفس الفلسفي العقلي.

وهذا ما أكده عدد من الباحثين والمفكرين، يقول الباحث حسن زاده أملي في شرحه وتعليقه على كتاب الأسفار ((أكثر المسائل التي نقلها صدر المتألهين عن الشيخ الأكبر ومشايخ العرفان الآخرين هي أساس مصادر حكمته المتعالية، وقد اعتمد في ذلك على كتب العرفان أمثال تمهيد القواعد وشرح الفصوص للقيصري ومصباح الأنس والفتوحات المكية ....)) (3).

ص: 289


1- المصدر نفسه، ص 655
2- مفاتيح الغيب، ص655
3- الشيرازي الأسفار، ج 1، تعليق حسن زاده ،املي ط 1 ، إيران، 1416، ص 19.

وقد أشار الشيرازي في كتبه إلى أن معرفة الحقائق يمكن أن تحصل عن طريق البحث والاستدلال العقلي القائم على البرهان والمقدمات المنطقية، كما يمكن الحصول عليها عن طريق المكاشفات القلبية التي تحصل للعارف عن طريق مجاهدة النفس والانقطاع إلى الله بعد صفاء الباطن ورفع الحجب عن النفس .(1)

وأكد في عدد من كتاباته على أهمية العلم الحاصل عن طريق العرفان المتمثل بالمكاشفة قال ((اعلم هداك الله أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبي اللدني الذي يعتمد عليه السلاك ،والعرفاء، وهذا أقوى واحكم من سائر العلوم))(2)، وهو أمر حدا ببعض الباحثين إلى الجزم والقول بأن ما يبدو في بعض الكتب والمقالات عن الشيرازي من العمل على أبراز الطابع الفلسفي لدى الشيرازي على حساب الطابع الذوقي عمل مخالف للموضوعية العلمية(3).

ولم يكن المنهج العرفاني حصراً على صدر الدين الشيرازي، فهو سمة مميزة لمتفلسفة الإسلام منذ الكندي ومروراً بالفارابي وابن سينا ووصولاً إلى الغزالي والذي كان يعرف عندهم بالتصوف، لكن مثل هذا القول لا يترتب عليه فهم العرفان عند الشيرازي بوصفه تصوفاً شبيهاً بمنهج المتصوفة الزهاد، والسبب هو إعراض المتصوفة عن الجمع بين مسلك الرياضة الروحية، ومسلك أو طريق الحكمة العقلية

ص: 290


1- ينظر الشواهد الربوبية، ص 200. * يُفرق العرفاء بين العرفان النظري والعملي، أما الأول، فهو فرع من فروع المعرفة الإنسانية التي تحاول أن تعطي تفسيرا كاملاً عن الوجود ونظامه وتجلياته ومراتبه، بمعنى أنه يعني بصدد إعطاء رؤية كونية عن المحاور الأساسية في عالم الوجود وهي ،الله ،والإنسان والعالم أما العرفان العملي، فهو مرتبط بالسلوك وبالعمل وبالمجاهدة الخارجية ولا علاقة له بالرؤية الكونية كما هو الحال بالعرفان النظري. وإذا كان ثمة تداخل بين العرفان العملي وعلم الأخلاق، باعتبار كلا منهما يهتم بالجانب العملي للفرد، إلا أن بينهما فروقا بينه وواضحة منها : إن العرفان يبحث في علاقة الإنسان بنفسه والكون ،وخالقه ويكرس اهتمامه على علاقة الإنسان بخالقه، في حين أن الباحثون في مجال الأخلاق لا يرون أي ضرورة للبحث في علاقة الإنسان بخالقه، وتقصر البحث فيه بالنظم الأخلاقية الدينية فقط، فضلاً عن أن العناصر الروحية في العرفان العملي أكثر اتساعاً من العناصر الروحية الأخلاقية المحدودة بالمعاني والمفاهيم والمعروفة غالباً. ينظر : كمال الحيدري العرفان الشيعي، ص 16 ، ينظر أيضاً ينظر مرتضى المطهري العرفان، ص13-15. ينظر أيضاً عفيفي، أبو العلاء التصوف الثورة الروحية في الإسلام، دار المعارف، ط1، مصر، 1963م، ص 65
2- مفاتيح الغيب، ص 220
3- ينظر: محمد حبيب سلمان، نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي رسالة ماجستير(مخطوطة)، جامعة الكوفة ، 2005 ، ص 285.

القائم على النظر والاستدلال، وهو ما سار عليه الشيرازي نفسه، وهذا ما اتضح في المطالب السابقة، وهو الأمر دفعه إلى نقدهم في كتابه(كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية)، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله: ((نحن قد جعلنا مكاشفاتهم الذوقية مطابقة للقوانين البرهانية))(1)، وفي موضع آخر من الأسفار قال: ((ولا يحمل كلامنا على مجرد المكاشفة والذوق أو تقليد الشريعة من غير ممارسة الحجج والبراهين، والتزام القوانين فان مجرد الكشف غير كاف في السلوك من غير برهان)).(2)

وهنا نود الإشارة إلى مصدرين مهمين أثرا في تشكيل الرؤية العرفانية عند الشيرازي :وهما شهاب الدين السهروردي المقتول، ومحي الدين ابن عربي، فالناظر في مؤلفات مله صدرا يجد تأثره واضحاً بالمنهج الإشراقي عند السهروردي لا سيما كتبه ذات البعد الصوفي، فقد عرف عن الأخير انه صاحب منهج صوفي في تأليف مصنفاته، حيث دعا إلى تزكية النفس من خلال التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، وتهذيب الفكر الإنساني بالرياضة الروحية، وإعمال العقل واكتسابه للمعارف والعلوم اليقينية والإلهية للفوز في النعيم الأبدي ونيل اللذات والسعادات الأبدية (3).

وينطلق السهروردي من مبحث النفس في بناء منهجه الاشراقي، إذ يحدد لها قوتين نظرية وعملية، تحددان العلاقة بين الله تعالى وبين الإنسان، وبين النفس والبدن والقوة النظرية يدرك بها الإنسان الكليات والأمور المعقول والعملية تدرك بها النفس الأمور المتعلقة بالبدن فيما يتعلق بمصالحه و مفاسده، وبها التحريك، وهي وجه عقلي للنفس إلى البدن (4)، وهو المعنى الذي تجسد فيما بعد عند الشيرازي الذي أكد بدوره على معرفة النفس التي تؤدي بدورها إلى اكتساب الأفعال الأخلاقية الفاضلة، قال ((إن من لم يكتسب معرفة النفس سوف لن يفيد أي عمل من أعماله)) (5).

ص: 291


1- الأسفار، ج6، ص263.
2- الأسفار، ج 9، ص326.
3- ينظر: محمد علي أبو ريان أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، بيروت، 1969، ص35.
4- نظر شهاب الدين السهروردي التلويحات، ص 119
5- الشيرازي رسالة الأصول الثلاثة، ترجمة: علي اصغر الجامعة اللبنانية، بيروت، 1989، ص91.

والنفس عند الشيرازي كمال أول لجسم طبيعي الي ذي حياة بالقوة من جهة ما يدرك الأمور الكلية وما يفعل الأفعال الفكرية(1) . ويُبين الشيرازي أن لهذه النفس :قوتين احدهما العلمية التي تدرك بها التصورات والتصديقات، وتميز بها الصدق والكذب، والحق والباطل فيما تعقل وتدرك، وهي القوة النظرية التي تمكن الإنسان من معرفة أمور خارجه عن ذاته، كمعرفة العلة من وجود المعلول، ومنه رؤية الكون(2). وأما القوة الثانية، فهى القوة العملية وبها تستنبط الصناعات الإنسانية، كالحرفة الفنية والصناعية، ونميز بها الجميل والقبيح فيما نفعل ونترك من أفعال، وتسمى أيضاً بالعقل العملي(3) فثمرة هذه القوة تكمن في مباشرة عمل الخير من تهذيب الظاهر والباطن والتخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل والفناء في ذات الحق جل وعلا(4)، وهنا إشارة من قبل الشيرازي إلى التلازم بين الفعل الخلقي والسلوك العرفاني العملي الذي هو نتيجة للتحلي بالأخلاق الحميدة.

أما تأثره بابن عربي فيكاد لا ينكره أحد من الباحثين فالمتتبع في كتب الشيرازي يجد انه يكثر النقل عن ابن عربي ولا يذكره إلا بالتقديس والتعظيم كالتعبير عنه بالحكيم العارف والشيخ الجليل المحقق ونحو ذلك(5) ، وبالخصوص في نزعته العرفانية التي كانت ذات علاقة وثيقة بالنزعة الأخلاقية، فالأخلاق كما يرسمها ابن عربي روحية وعرفانية في نفس الوقت، إذ يُعرف الأخير التصوف على انه ((الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي الخلق الإلهية، وقد يقال بإزاء إتيان مكارم الأخلاق وتجنب سفسافها))(6).

ص: 292


1- ينظر: الشيرازي الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية تعليق سيد جلال الدين، المركز الجامعي للنشر ، ط2، مشهد، إيران، 1981 ، ص 199. كذلك : المبدأ والمعاد، تقدیم سید جلال الدين مؤسسة انتشارات، إيران، 1396ه، ص 258.
2- ينظر: الأسفار ، ص21-22
3- المصدر نفسه، ص 22
4- ينظر: الأسفار، ج 1، ص 21
5- ينظر محمد رضا المظفر، ترجمة صدر الدين الشيرازي، ط 1 ، مركز الحكمة للدراسات الإسلامية ، 2000، ص 50
6- ابن عربي، محي الدين محمد بن علي رسائل ابن عربي تقديم محمود الغراب دار صادر، ط1، بيروت، 1977، ص 541 .

ويمتد أثر ابن عربي إلى الشيرازي في تبنيه مسالك أو مراتب المريد، إذ ابن عربي يُحدد أركاناً أربعة للإنسان السالك الذي يريد أن يصل إلى الحق الأول، وهي (الصمت والعزلة، والجوع والسهر)، وقد تأثر الشيرازي بهذه المراحل، إذ يقول (( إن العرفاء السالكين إلى الله تعالى كان دأبهم في الرياضة والذهاب إليه أن يلتزموا بعد التوبة عن المعاصي الظاهرة، أمور أربعة جعلوها حصناً لهم يدافعون به عن نفوسهم قواطع الطريق، فان قصد المريد إصلاح قلبه ليشاهد ربه ويصلح لقربه :أولها: / الجوع فإنه ينقص دم القلب، فيبيضه وفي بياضه نوره، كما في سواده ظلمته، ويُذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه، رقته وفي رقته مفتاح المكاشفة، كما في قسوته سبب الحجاب.... وثانيهما السهر فانه يجلو القلب ويصفيه وينوره، ويضاف إلى الصفاء الذي حصل من الجوع، ويصير كالكوكب الدري ، وكالمرآة المجلوة، فيلوح فيه جمال الحق، ورفع الدرجات في الأخرى، ويرى حقارة الدنيا وآفاتها، فيتم زهده في الدنيا، ورغبته في الآخرة، وإقباله إلى الله وثالثها الصمت، فإنه يسهل العزلة والكلام يغل القلب، وشره القلب للكلام عظيم ، فتروح إليه، وتستقل التجرد للذكر والفكر، فيجب أن يعالج هذا المرض بالصمت، فالصمت يلقح العقل، ويجلب الورع والتقوى، ويلقح العقل بالحكمة ، وينطق به لسان التكلم مع الحق، ورابعها الخلوة وفائدتها دفع الشواغل ، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليزا القلب، يدخل منهما إليه من الشواغل والمفاسد والوساوس، ما يزعجه ويغيره، عما هو عليه.......)).(1)

المطلب الثاني، المعرفة الكشفية:

أولا ، في بيان مفهوم الكشف:

الكشف لغةً يعني رفع الشيء عما يواريه ويغطيه (2)، واصطلاحاً يعني الاطلاع على ما وراء الحجب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهوداً(3).

ص: 293


1- الشيرازي شرح أصول الكافي للكليني، ج1، تحقيق: محسن عقيل، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2011 ، ص448 - 449.
2- ابن منظور، لسان العرب، مج 3، ص 300.
3- الأملي، جامع الأسرار، ص 462.

وقيل عنه (( طريق الكشف هو علم ضروري يحصل عند الكشف يجده الإنسان في نفسه، لا يقبل معه شبهه ولا يقدر على دفعه، ولا يعرف لذلك دليلاً يستند إليه ما يجده في نفسه إلا بعضهم)).(1)

والمتمعن في كتب الشيرازي لا يجد لديه تعريفاً محدداً للكشف على غرار معانٍ كثيرة أشار إليها وعرفها من قبيل: الرياضة والمجاهدة، والتزكية، والتحلية ،وغيرها، لكنه يتحدث باهتمام بالغ عن الكشف والعلوم الكشفية، ويبين أنها من التعليم الرباني الحاصل للإنسان بغير واسطة لأنه في مقابل العلوم الدنيوية هناك علوم أخروية، يعمل بمقتضاها ويظفر بها العلماء المعرضون عن الدنيا الزاهدون فيها، وهذه العلوم الأخروية علوم كشفية لا يكاد يصل إليها الإنسان إلا بالذوق والوجدان (2)، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله ((ولا تنكر ما لم تسمعه من أحد ولم يبلغك بالنقول ولا وصل إليك من المعقول، ولا تنحصر العلوم فيما سمعته فهمته، فان لله لطائف رحمة في قلوب عباده....)) (3). وقال في موضع آخر من كتبه ((فان أغمض العلوم علم التوحيد واشرف المقامات نيل أسرار المكاشفات، لا يختص بهذه المعرفة إلا الأكابر المقربون)) (4).

وهناك نص له أوضح دلالةً لهذا المعنى قال فيه: ((اعلم هداك الله، أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبي أللدني الذي يعتمد عليه السلاك والعرفاء، وهو أقوى واحكم من ساير العلوم..))(5)، وغيرها من النصوص التي طالما أكد من خلالها الشيرازي على أهمية علم

المكاشفات والنص السابق فيه دلالة واضحة على أن الشيرازي يجعل من هذا العلم في مرتبة أعلى من العلوم الأخرى كالفلسفية والكلامية، فضلاً عن ما ذكرناه من

ص: 294


1- ينظر مفاتيح الغيب، ص 150.
2- حيدر أملي المحيط الأعظم والبحر الخضم ج 3 ، ص412.
3- الشيرازي، تفسير القرآن ج 8 ص 137.
4- ينظر الشيرازي إيقاظ النائمين، ص 21
5- مفاتيح الغيب، ص122

عنونة تقسيمات كتبه بألفاظ ذات بعد كشفي وعرفاني.

وهذا العلم يكون على وجهين: الأول عن طريق الوحي، وقد أشار الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله : ((إن النفس إذا كانت مقدسة عن دنس الطبيعة ودرن المعاصي مطهرة من الرذائل الخلقية مقبلة بوجهها إلى بارئها ومشيئتها متوكلة عليه معتمدة على إفاضته، فالله تعالى ينظر أليها بحسن عنايته ويقبل عليها إقبالا كلياً، ويتخذ منها لوحاً، ومن العقل الكلي قلماً، وينقش من لدنه فيها جميع العلوم...))(1). والثاني، الإلهام ويحده الشيرازي بقوله ((استفاضة النفس بحسب صفائها واستعدادها عما في اللوح، والأوهام اثر الوحي، والفرق بينهما أن أصرح وأقوى من الإلهام، والأول يسمى علماً نبوياً، والثاني لدنياً ...))(2).

ويستنتج من كلام الشيرازي أن الوحي خاص بالأنبياء والإلهام بالأولياء، ولذلك فان الوحي مشروط بالتبليغ للناس دون الإلهام، يضاف إلى ذلك أن الإلهام يحصل من الله من غير واسطة الملك، في حين أن الوحي يحصل بواسطته ، ولذلك يكون الوحي من الكشف الصوري والمتضمن للكشف المعنوي، في حين الإلهام من الكشف المعنوي فقط .(3)

المطلب الثاني، أنواع الكشف:

يتابع الشيرازي العرفاء في تقسيم الكشف إلى قسمين : صوري ومعنوي، أما الكشف الصوري فهو ما يحصل للعارف في عالم المثل من طريق الحواس الخمس، وسبب ذلك أن للنفس فى ذاتها سمعاً وبصراً وشماً وذوقاً ولمساً، فهذه المكاشفة تكون على طريق المشاهدة البصرية ، كرؤية العارف صور الأرواح المتجسدة والأنوار الروحانية، وإما أن يكون على طريق السماع، كسماع النبي صل الله عليه واله الوحي النازل عليه

ص: 295


1- مفاتيح الغيب، نفس الصفحة.
2- المصدر نفسه، ص 123
3- ينظر: محمد حبيب ،سلمان نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي ص 229.

كلاماً منظوماً أو مثل صلصلة الجرس ودوي النحل، والأمثلة كثيرة.(1)

ويرى الشيرازي أن بعض هذه المكاشفات قد يجتمع مع بعض، وقد ينفرد، لكنها كلها تجليات أسمائية، إذ إن الشهود البصري من تجليات الاسم البصير، والسماع من الاسم السميع، وكذلك بقية الحالات .(2)

وإذا تعلق الكشف الصوري بالحوادث الدنيوية وهنا يسمى رهبانية، وان لم يتعلق بها فهي معتبرة، وأهل السلوك العمل العرفان العملي - لعدم انشغالهم بالأمور الدنيوية لا يلتفتون إلى هذا القسم من الكشف لصرفها في الأمور الأخروية في أحوالها، ويعدون ذلك من قبيل الاستدراج أو المكر بالعبد، بل كثير منهم لا يلتفتون إلى الكشف الأخروي أيضاً ، وهم الذين جعلوا غاية مقصدهم ومنتهى غرضهم الفناء اء في الله (3).

وأما الكشف المعنوي، فهو ظهور المعاني الغيبية والحقائق العينية، وهو على مراتب أيضاً (4):

أولاً /ظهور المعاني في القوة المفكرة من غير استعمال للمقدمات وتركيب القياس، بل أن ينتقل الذهن من المطالب إلى مبادئها، وهذا يطلق عليه الحدس.

ثانياً / ظهور المعاني في القوة العاقلة المستعملة للمفكرة، وهذه القوة هي قوة روحانية غير حالة في الجسم وتسمى ب__(النور القدسي) والحدس من لوامع أنواره، لأن القوة المفكرة جسمانية فتصير حجاباً للنور الكاشف عن المعاني العينية، لذلك يكون الحدس أدنى مراتب الكشف .

ثالثاً /ظهور المعاني في مرتبة القلب، وتسمى هذه المرحلة بالإلهام، إن كان المكشف عنه أو الظاهر معنى من المعاني، وان كان حقيقة من الحقائق أو روح من الأرواح فتسمى مشاهدة قلبية.

ص: 296


1- ينظر: مفاتيح الغيب ، ص 150
2- ينظر: محمد حبيب، نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي ص234.
3- ينظر: مفاتيح الغيب، ص151.
4- المصدر نفسه ص 150-152

رابعا /ظهور المعاني في مرتبة الروح ويسمى بالشهود الروحي، وهي بمثابة الشمس المنورة لسموات مراتب الروح وأراضي مراتب الجسد، وفي هذه المرتبة يأخذ الإنسان بذاته من الله المعاني الغيبية من غير واسطة على قدر استعداه الأصلي.

خامساً /ظهور المعاني في مرتبة السر ثم مرتبة الخفي بحسب مقام كل مرتبة، وهاتين المرتبتين مما لا يمكن الإشارة إليهما ، ولا تقدر العبارة على تناولها كما يقول الشيرازي.

المطلب الثالث: الرياضة بوصفها طريقاً للكشف:

الرياضة * في اللغة هي ترويض الحيوانات وذلك بمنعها عما تقصده من الحركات غير المطلوبة، حتى تكون منقادة ويصير ذلك الانقياد ملكة.(1)

ومنه رضت الدابة أروضها ،رياضة، أي علمتها السير(2). أما اصطلاحاً فهي تعني منع النفس من الانقياد إلى القوى الثلاث البهيمية والغضبية، والوهمية، وتسخير هذه القوى للقوة العاقلة، وعندئذ يكون الإنسان إنسانا (3).

وقد أشار صدر الدين الشيرازي إلى هذا المعنى بقوله((معنى الرياضة للبهائم منعها عن إقدامها على ما تريد من الحركات المختلفة التي ليست مرضية للراكب وإجبارها مدة على ما يرتضيه الرايض ليتمرن على طاعته، فهكذا هي القوة الحيوانية التي هي مبدأ الإدراكات والأفاعيل الحسية في الإنسان إذا لم تكن مرتاضة مطيعة للروح كانت بمنزلة بهيمة عاصية غير مرتاضة ....))(4).

ويحدد الشيرازي الغرض الأساس من الرياضة وهو نيل الكمال الحقيقي، وهو أمر يتوقف على استعداد النفس، وهذا الاستعداد مشروط بزوال الموانع ، التي هي أما

ص: 297


1- ينظر الخليل بن احمد الفراهيدي كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، قم، الطبعة الأولى، ج 1، 1414 ، ص 727.
2- المصدر نفسه نفس الصفحة.
3- مفاتيح الغيب، ص.686
4- المصدر نفسه، ص 687 .

موانع خارجية أو داخلية، ويمكن تحديد أغراض الرياضة بثلاث أغراض(1):

1 /منع النفس عن التوجه إلى غير الله، وهذا هو المانع الخارجي، ويعين على تحقيق هذا الغرض الزهد الحقيقي الذي هو التنزه عما يشغل السر عن الحق.

2 /استخدام القوى النفسية والبدنية فيما خلقت لأجله، واستخدام هذه القوى في الأمور المناسبة للأمر القدسي، ومبتعدة في الوقت نفسه عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي، ويعين على هذا الغرض أشياء عدة:

أولاً /العبادة المشفوعة بالفكر ، وفائدتها اقترانها بالفكر أن العبادة تجعل البدن بكليته متابعا للنفس ، فإذا كانت النفس مع ذلك متوجهة إلى جناب الحق بالفكر صار الإنسان بكليته مقبولاً على الحق

ثانياً /الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول والأوهام، وهذه الألحان تعين بالذات والعرض. أما وجه إعانتها بالذات، فهو أن النفس الناطقة تقبل عليها لإعجابها من ثمفات المتفقة والنسب المنتظمة الواقعة في الصوت الذي هو مادة المنطق، فتذهل عن استعمال القوى الحيوانية في أغراضها الخاصة بها، وعندئذ تتبعها تلك القوى، وتكون الألحان المستخدمة لها.

أما وجه إعانتها بالعرض، فإن هذه الألحان توقع الكلام المقارن لها موقع القبول من الأوهام لاشتمالها على المحاكاة التي تميل بالنفس بالطبع إليها، فإذا كان الكلام واعظا باعثاً على طلب الكمال، فإن النفس ستصير متنبهة لما ينبغي أن تفعل، فتتغلب عندئذ على القوى التي تشغلها .

3 /تلطيف السر والمراد تهيئة السر للإشعاع أو الفيض الإلهي بان تتمثل فيه

ص: 298


1- ينظر: نصير الدين الطوسي ، شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا ، ج 3 ، ص 382. أشار ابن سينا إلى الرياضة بوصفها المرحلة أو المرتبة الثانية من مراتب العارفين ويريد بها منع النفس عن الالتفات إلى ما سوى الحد الأول وإجبارها على التوجه نحوه، ومن أغراضها إزالة الموانع الخارجية وتطويع النفس حتى تنجذب إلى ما هو قدسي. ينظر الإشارات والتنبيهات، ج 2، ص 380

الصور العقلية كي تنفعل عن الأمور الإلهية المهيجة للشوق والوجد بسهولة(1).

المبحث الثالث: المفاهيم الأخلاقية وتجلياتها العرفانية:

المطلب الأول: التلازم بين الفعل الخلقي والعرفاني:

أكد الشيرازي على وجود علاقة بين المعرفة الإلهية والمباحث الأخلاقية فجعل الرياضة العلمية والعملية سببا للحصول على المعارف الإلهية، والتعمق في الحقائق الربانية، قال الشيرازي في تحديده قوى النفس ووظائفها: ((للنفس في ذاتها قوتان نظرية وعملية تلك للصدق والكذب، وهذه للخير والشر في الجزئيات، وتلك للواجب والممكن والممتنع وهذه للجميل والقبيح والمباح)) (2).

ويُحدد الشيرازي مراتب العقل العملي بأربعة مراتب : الأولى، مخصوصة بتهذيب الظاهر عن طريق الشريعة الإلهية والأحاديث النبوية والقيام بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها والثانية: مخصوصة بتهذيب باطن الإنسان، وتطهير قلبه عن الأخلاق الرذائل والابتعاد عن الخواطر الشيطانية. والثالثة مخصوصة بتنوير الإنسان بالصور العلمية والمعارف الحقة الإيمانية والرابعة وظيفتها بفناء النفس عن ذاتها، والاستغراق في المعرفة الإلهية(3).

ويتجلى في هذه المراتب التلازم بين الفعل الخلقي والسلوك العرفاني كما يرسمها الشيرازي فبعد تطهير الإنسان نفسه من الرذائل وتحليه بالفضائل الحسنة في المرتبة الثانية، يكون مستعداً لتقلي الصور العلمية والمعارف العقلية والمعارف الحقة الإيمانية على حد سواء، ومن ثم تكون نفسه مستعدة للفناء عن ذاتها وذوبانها في الحضرة الربوبية، قال الشيرازي مؤكداً هذا المعنى ((وبعد هذه المراحل - مراتب العقل العملي - منازل ومراحل كثيرة ، ليست اقل مما سلكها الإنسان فيما قبل ولكن يجب إيثار الاختصار فيما لا يدرك إلا بالمشاهدة والحضور ، لقصور المشافهة والتعبير

ص: 299


1- ينظر: مفاتيح الغيب، ص383.
2- المبدأ والمعاد ص 261
3- ينظر: مفاتيح الغيب، ص523.

عن بيان ما لا يفهم إلا بالنور، فان للكاملين بعد المسافرة إلى الله ووصولهم أسفار أخرى، بعضها في الحق وبعضها من الحق....))(1)، وهذا النص فيه إشارة إلى أن مراتب العقل العملي تنسجم في مضامينها مع المصدر الكشفي العرفاني في المعرفة أكثر من انسجامها مع المصدر العقلي، لكن اعتاد الباحثون في فلسفة الشيرازي على ذكرها بجوار القوة العقلية انسجاما مع منهجية الشيرازي نفسه في ذكرهما معا.(2)

ومن هنا نجد أن الشيرازي على الرغم من متابعته لابن سينا في تقسيمه لقوى النفس من نظرية ،وعملية إلا أنه يختلف معه في إضافته مرتبة العرفاء إلى العقل العملي، فالعرفان بوصفه سلوكا عمليا يهتم بتهذيب باطن الإنسان، يُعد من لواحق القوة العملية، وهذا ما جسده الشيرازي في المرحلة الرابعة من مراتب القوة العملية، وهي مرحلة الفناء عن النفس في ذات الباري جل وعلا وهذا ما يُحاول الباحث تبيانه في المطالب اللاحقة الفلسفة الأخلاقية.

ويتضح هذا المعنى في سياق فهم منهج الشيرازي العرفاني والقائم على الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة، فالأصل في الوصول إلى الحقيقة هو الشريعة، وأما المسلك فهو الطريقة ، قال : ((واعلم أن طريقة تصفية القلب منحصرة في إقامة وظائف العبادة وإدامة مراسم العدالة وإزالة وساوس العادة...... وبناء الأول على تهذيب الأخلاق وتقويم الكلمات، وبناء الثاني على إقامة مراسم العبودية، وأداء الشكر على النعم الربوبية والقضايا الإلهية وبناء الثالث على ما ترك المألوفات ورفض المستلذات)) (3).

فنقطة البداية تكون من الشريعة وتكون بإقامة العبادات الظاهرة والباطنة لغاية، هي تقويم الملكات بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل، أما الطريقة فمهمتها الخروج عن مألوف العادات والمراسم الاجتماعية إلى اعتماد الطريق الموصل إلى

ص: 300


1- ينظر المفاتيح ص.523 . كذلك الشواهد الربوبية : ص 207
2- ينظر: محمد الخطيب نظرية المعرفة عند الشيرازي، ص 116
3- الشيرازي كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية، ص129.

المقامات والأحوال(1). وهذا التأكيد على معرفة النفس والتقوى والورع، والزهد الحقيقي، وتهذيب العقل، والتجرد العلمي والعملي التامين دليل على مكانة العلاقة بين علم الأخلاق والمعرفة الإلهية، وجعل الأخلاق وسيلة للوصول إلى معرفة الله تعالى، وعلم سلوك طريق الآخرة من خلال التأدب بالأخلاق الإلهية.(2)

وهذا يعني أن تهذيب الأخلاق وتزكية النفس لهما أثر مهم في معرفة الإنسان ربه وترقيه إليه، وهذا المعنى يعد الغاية الأساسية والهدف الأسمى عند صدر المتألهين في كيفية ارتقاء الإنسان سلم الأخلاق العرفانية للوصول إلى معرفة الحق تعالى، من خلال كبح جماد النفس والسيطرة على قواها الشهوية، والغضبية، والوهمية، بمقتضى القوة العقلية، ذلك لان اقتراف الذنوب يسبب إحداث ظلمة في مرآة النفس وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله ((كدورة المعاصي وخبثها الذي تراكم على وجه القلب من كثرة الشبهات واقتراف الخطيئات، فإنها تمنع صفاء العقل وجلاءه، فمنع ظهور الحق فيه ، وشهود الحقيقة له بقدر ظلمته وتراكمه...)).(3)

وقد وضع الشيرازي شروطا خاصة للنفس البشرية لتكون مستعدة لقبول الحكمة والعلم والمعرفة، ومنها : انشراح الصدر، وسلامة الفطرة، وحسن الخلق، وجودة الرأي، وحدة ،الذهن وسرعة الفهم مع نوع من الذوق الكشفي، ويجب مع ذلك كله أن يكون في القلب المعنوي نور من الله يوقد به دائما كالقنديل، وهو المرشد إلى الحكمة (4).

وكل ما ذكرناه فيه إشارة إلى تلازم وارتباط البحث الأخلاقي لديه بالمعرفة العرفانية، بوصفه مقدمة للسلوك العملي من العرفان.

المطلب الثاني: الفضائل والرذائل:

يُحدد الشيرازي طرق مجاهدة النفس التي يُعبر عنها ب(المجاهدة الروحانية) بطريقين هما التزكية والتحلية، وكلاهما يرتبطان بالفعل الخلقي للإنسان، أما التزكية

ص: 301


1- ينظر : كمال إسماعيل لزيق مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا، ط1، بيروت، 2014، ص 121.
2- ينظر: رياض سحيب روضان علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2012، ص 311.
3- الشيرازي كسر أصنام الجاهلية، ص 17-18
4- الأسفار، ج6، ص6-7.

فتكون بالابتعاد عن الرذائل، وعلى رأسها أمهات الرذائل الثلاث: (الحرص أو الهوى والحسد والتكبر).(1)

أما (الهوى)، فهو من الرذائل التي بلي بها آدم في الجنة، حتى أخرج منها باستهانة ومذلة بع ما صدر منه ذلة، وهو نوعان: شره على الأكل، وشبق على النكاح(2)، فرذيلة الهوى نهى عنها الباري جل شأنه بقوله :«وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» (3)، وأما التكبر فهو أيضاً من أمهات الرذائل والذي ابتلي به إبليس عندما أمتنع عن السجود لآدم بدليل قوله تعالى «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».(4)

والرذيلة الثالثة هي (الحسد)، فهو من أنجس الرذائل كما يُعبر الشيرازي، وبه ابتلي قابيل حتى قتل أخيه هابيل ويرى الشيرازي أن على الإنسان الابتعاد عن هذه الرذيلة والهروب منها هروب الإنسان من الأسد ويستشهد بقول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ((ثلاث مهلكات شح مطاع، وهو من فروع الهوى والحرص وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).(5)

وهذه الرذائل كلها ناشئة من القوى الثلاث التي هي . الشهوة والغضب والقوة المدبرة للحياة البدنية، وكل منها محفوف بدرجتي الإفراط والتفريط، وأوسطها هي فضائل الصراط المستقيم : الشجاعة والعفة والعدالة وتزكية النفس من هذه الرذائل يترتب عليه خروج النفس الناطقة من الأرجاس والأدناس التي تدفع بها القوى الشهوانية(6). ويوضح الشيرازي هذا المعنى بقوله : ((إن الجسم إما أن يتشوق نحو الانتقام والإقدام على الغير، لانتزاع ما في يده بالقوة الغضبية، وإما أن يتشوق نحو الشهوات واللذات بالقوة الشهوية، وإما أن يتشوق نحو الفضائل بالقوة العقلية، ثم

ص: 302


1- ينظر الأسفار، ج 1 ، ص 21
2- ينظر: مفاتيح الغيب، ص 690.
3- سورة النازعات، آية 40
4- سورة البقرة آية 34.
5- ينظر: مفاتيح الغيب، ص691.
6- المصدر نفسه نفس الصفحة.

أن الشهوة والغضب مقرونان بالحيوان الناقص، لحاجات بدنه وعدم كفاية شخصه في بقاء وجوده، لتطرق الاستحالة والفساد إليه دون انضمام ما هو خارج عنه إليه، فيحتاج إلى جذب ودفع بشهوة وانتقام، والأجرام العلوية غنية عن هذه الأشياء لبعد جوهرها عن الاستحالة والتغير والنقص ...)) (1). ونفوس هذه الأجرام هي التي يجب أن يكون تتشوق نحو الفضائل، والفضائل، أيضاً أصولها منحصرة في ثلاثة: الشجاعة والعفة والحكمة، فوجب أن يكون الفضيلة التي يتشوقها النفوس السماوية أعلى هذه الفضائل مرتبة واجلها درجة وهي فضيلة الحكمة، والحكمة هنا هي التشبه بأفضل الموجودات وهي الغاية في الشرف والكمال، لأجل قصد الإنسان أيضاً، الذي هو أفضل الحيوانات في هذا العالم .(2)

أما نوع التحلية فهو أنما يحصل بتحصيل الفضائل والمعارف النظرية، وهو مستنبط من القرآن الكريم، وفائدتها التخلق بالأخلاق الإلهية الجميلة، التي بها يكون الإنسان بقلبه المرآة الصافية، يقول الشيرازي: ((.... حتى يصير مرآة مجلوة وصحيفة متلوة يشاهد فيها صور الوجود كله على شكله واستنارته وهيئته، فحينئذ يصلح لنظر عين الجمال المطلق التي لا تنام ، صاحب الجلال والإكرام)).(3)

وموقف الشيرازي هنا بصدد الفضائل والرذائل يتجسد فيه نزعة التوفيق بين الجانب الفلسفي من جهة، والجانب الديني من جهة أخرى، أما الفلسفي فيبدو واضحاً في تبنيه نظرية الوسط المعتدل - كما اشرنا سابقاً- أما الجانب الديني فيتجسد في أن الفضائل والرذائل التي أشار إليها الشيرازي معظمها مستنبطة من القرآن الكريم، وطالما أستشهد بالآيات القرآنية عليها من قبيل رذيلة الهوى، فقد أشار إليها الباري جل شأنه في عدد من الآيات إليها، منها قوله تعالى : «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواه» (4)، والكبر كما في قوله تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ

ص: 303


1- المصدر نفسه ص 568
2- المصدر نفسه، 569.
3- الأسفار، ج 1، ص21.
4- سورة الجاثية ، آية 23

مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرَتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1)، وأيضاً الحسد من قبيل قوله تعالى : «وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسَد».(2)

وهنا إشارة من قبل الشيرازي إلى أهمية اكتساب الفضائل الخلقية والابتعاد عن الرذائل، لان بها يكون الإنسان مستعد لتلقي الفيض والجمال الإلهي، انطلاقاً من أن علم الأخلاق يسبق العرفان العملي، فالأول من مهامه تعبيد الطريق من خلال التحلي بالفضائل الخلقية، ومن ثم تتجلى مراتب السير والسلوك عند الإنسان، ويصل إلى درجة العارف المستعد لتلقي النور الأبدي ، قال : ((وأما العقل النظري إذا تنور بنور المعرفة والإيمان، وخرج من القوة إلى الفعل، وصار كعين صحيحة استنارت بنور الملكوت، فلكونه يدرك حقائق المعارف، ورئيس سائر المدارك رئيساً مطاعاً إذا منع النفس عن هواها وسخر الشهوة والقوى الأمارة واستخدمها في سبيل العبودية، مطالع بكل منها آية من آيات الملكوت وباب من أبواب المعرفة ....)).(3)

المطلب الثالث: في السعادة والشقاء:

يميز الشيرازي بين نوعين من السعادة السعادة الدنيوية أو الخلقية، والسعادة الأخروية، وهذه الأخيرة لا تتاح ألا بمزاولة السعادة النظرية والعملية معاً، يقول الشيرازي: ((ثم أنك قد علمت أن الشرف والسعادة بالحقيقة إنما يحصل للنفس من جهة جزئها النظري الذي هو أصل ذاتها، وأما ما يحصل لها بحسب جزئها العملي الذي هو من جهة تعلقها بالبدن وإضافتها ونفسيتها فليس لها بحسبه من الاغتباط، السلامة عن المحنة والبلاء والطهارة عن الشين والرجس والصفا عن الكدورة والرذيلة، والخلاص عن العقوبة، والجحيم والعذاب الأليم....)).(4)

ويتجلى في النص السابق، أن السعادة الأخروية مرتبطة بمدى طهارة الإنسان

ص: 304


1- سورة الاحقاف، آية 10
2- سورة الفلق، آية 5
3- مفاتيح الغيب ، ص670-671
4- الأسفار، ج 9، ص131.

وصفاء النفس واستقامة سلوكه في الحياة الدنيا، فسعادة الإنسان تكون بتأمله للدارة الآخرة التي يصل إليها من خلال السعادة الخلقية والسعادة العقلية. أما السعادة الخلقية، فقد مر الحديث عنها مسبقاً، فهي سعادة دنيوية تتحقق للنفس وهي بصحبة البدن، ويتم ذلك عن طريق تحقيق العدالة في أفعالها، وهذا العدل لا يتحقق ألا بوجود مبدأ الوسط الأخلاقي بين ضدين إفراط وتفريط، بحسب توسط قواه الثلاثة الشهوانية والغضبية والفكرية، التي يحددها في الفضائل الثلاث وهي: العفة والشجاعة والحكمة، وبها تتحقق مكارم الأخلاق وملكة العدالة(1).

أما السعادة العقلية فتحصل للنفس بمزاولة جزئها النظري المتمثل بالعقل النظري من خلال استكماله حصول معرفة الأشياء في ذاتها وخرجت من القوة العقلية الهيولانية والعقل بالملكة بعد أن استفادت النفس من تلك المرتبتين، لاستنباطها للمعاني المجردة، وتنبيهها إلى عالمها ومبدئها ومعادها يقول: ((سعادة النفس وكمالها هو الوجود الاستقلالي المجرد والتصور للمعقولات والعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليها، ومشاهدة الأمور العقلية والذوات النورانية)).(2)

وبمجرد حصول السعادة العقلية للإنسان تبدأ تجليات النفس العرفانية لتمتد إلى السعادة الأخروية، التي يحاول الشيرازي تأسيسها بالاعتماد على النصوص الدينية، فالخلق وفقاً لاستجابة الدعوة والإيمان بنبوة النبي والاستجابة إلى تعاليم القرآن المجيد ينقسمون إلى قسمين (3):الأول، منهم من ينتفع بتعليم الأنبياء ويتذكر : بتذكير المرسلين لأجل رقة قلبه ولين طبعه وخشيته وخوفه من سوء العاقبة وهم المشار إليهم في قوله تعالى : «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى(4) ، فالخشية والتذكر متلازمان، كل منهما يوجب الآخر ، فان من سمع دعوة الأنبياء ثم خطر بباله أن هذه الدنيا واهية فانية وفاسدة على كل حال، سوف تحمله هذه الخشية على النظر في دعوة الأنبياء

ص: 305


1- المصدر نفسه، ص 127. كذلك مفاتيح الغيب، ص733. المبدأ والمعاد، ص 272.
2- الأسفار، ج 9، ص128.
3- الشيرازي تفسير القرآن، ج 7، ص 382-383
4- سورة الأعلى آية 10.

والتأمل في أمور الآخرة ومراتب سعادة النفس وشقاوتها وما به نجاتها أو هلاكها، وهذا التذكير يدفعه إلى اجتناب المعاصي والرذائل، واكتساب الطاعات والفضائل خوفاً من الهلاك والعذاب وطمعاً في النجاة والرحمة.(1)

أما القسم الثاني فهم الذين لا ينتفعون بدعوتهم ولا يحملهم الخشية على تحصيل الدرجات وطلب التخلص عن العقوبات وأشار إليهم تعالى بقوله: «وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى»(2) ، وهذا الإعراض أنما يكون بفعل تسلط الشهوات الجسدية المرتبطة بقوى الشهوة والغضب، فضلاً عن حرص الإنسان على طلب الجاه والمال والنساء والبنين وغيرها على طبعه، وهو أمر يجعله بعيدا عن استكمال نفسه بالعلم والعمل، وهذه هي الشقاوة بحد ذاتها (3).

ويتجلى البعد العرفاني عند الشيرازي في سياق جعله السعادة الأخروية هي أفضل وأتم وأجل من مراتب السعادة الأخرى، وذلك في سياق تفرقته بينها وبين أنواع السعادة الأخرى، وعلى النحو الآتي(4):

1 /إن اللذات الدنيوية من قبيل لذات الشهوة وداعية الغضب هي لذات سريعة الزوال والانقطاع، بخلاف اللذة الأخروية، فهي باقية دائمة غير منقطعة، بدليل قوله تعالى: ((والآخرة خيرٌ وأبقى)).

2 /إن معظم اللذات الدنيوية مشتركة بين الناس والبهائم والديدان وغيرها، بخلاف لذات الآخرة، فهي مشتركة بين أفاضل الناس من الأنبياء والأولياء والسعداء وأفاضل الملائكة.

3 /إن اللذات الدنيوية ليست خيرات ،حقيقية، لو كانت كذلك لكانت كلما كانت أكثر، كان الفائز بها أكمل وسعادتها أكثر ، ومعلوم أنه ليس كذلك، بخلاف اللذات الروحية فهي لذات حقيقية دائمة، بدليل أن الإنسان لا يقدم على الجماع عند حضور

ص: 306


1- تفسير القرآن 383
2- سورة الأعلى آية 11
3- تفسير القرآن الكريم، ج 7، ص 383
4- المصدر نفسه، 395-396

الناس، فلو كانت هذه اللذة وغيرها من اللذات البهيمية من باب الكمال لكان إظهاره أولى من إخفائه لا محالة، وكذلك الحال في العاقل، فهو لا يفتخر بكثرة الأكل والشرب مثلما يفتخر بالعلم.

4 /إن معظم اللذات البهيمية العاجلة لا تخلو من نقائص جمة، كشوب المكروه ووصمة الانقطاع والملل وغيرها من النقائص، في حين أن اللذات الأخروية بخلاف ذلك لا يصيبها ملل أو نقص لبراءتها وخلوها من المكروه أو الملل سواء كان في ذاتها أو ما يصحبها من تبعات.

فالناس بإزاء تحصيل السعادة متفاوتة متفاضلة بالكمال والنقص وهذا الكمال والنقص إنما يكون بحسب علمهم بالوجود، لان الوجود والعلم والشعر به، إنما هو خير وسعادة وعدم العلم به إنما هو شر وشقاوة يقول الشيرازي: ((...لكن الموجودات متفاضلة متفاوتة بالكمال والنقص ، فكلما كان الوجود أتم كان خلوصه أكثر ، والسعادة في أوفر ، وكلما كان انقص كان مخالطته بالشر والشقاوة أكثر، وأكمل الوجودات وأشرفها هو الحق الأول، ويليه المفارقات العقلية وبعدها النفوس، وأدنها هي الهيولى الأولى والزمان والمكان والحركة، ثم الصور الجسمية،....)).(1)

ويأخذ الشيرازي بالمصدر الديني في تحديده لأهل الشقاء بفريقين(2): الأول حق عليهم الضلالة وحق عليهم القول في الأزل، لأنهم أهل الظلمة وأهل الدنيا، والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم فطرةً ، بدليل قوله تعالى: «قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ»(3) ، والفريق الثاني هم المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل قابلين لنور المعرفة بحسب الفطرة، والنشأة الأولى، ولكن ضلوا عن الطريق لتلبسهم بالرذائل وارتكاب المعاصي ومباشرة الأعمال البهيمية والسبعية، وهؤلاء - كما يرى الشيرازي - قلوبهم محجوبة عن الحق بفعل مكائدهم

ص: 307


1- الأسفار، ج 9، ص 121
2- المصدر نفسه، 131
3- الأعراف آية 18 .

الشيطانية، وانتقشت نفوسهم برسوم سفسطية وصور جهلية وأوهام كاذبة(1).

وهنا يتجسد البعد العرفاني لمفهوم السعادة، وبالخصوص السعادة الأخروية، بوصفها أفضل من اللذات الشهوانية والعقلية، فضلاً عن كونها مرهونة بما يكتسبه الفرد في حياة الدنيا من فضائل خلقية وعقلية، بوصفها مقدمات لنيل سعادة الأخرى، أما في حال ابتعاد النفس عن هذه الفضائل وانشغالها بلذاتها البهيمية الحيوانية، فلا يكون نصيبها سوى الشقاء في الآخرة.

الخاتمة

اتضح لنا من خلال البحث أن النظرية الأخلاقية عند صدر الدين الشيرازي قد حملت أبعاداً دينية وفلسفية وعرفانية، تماشياً مع فلسفته التي حملت نفس الأبعاد، أما البعد الفلسفي، فقد تبنى الشيرازي نظرية الوسط المعتدل ذات الأصل الأرسطي، فالفضيلة الخلقية هي الفضيلة التي يسودها مفهوم العدالة ويتحقق فيها التوازن بين قوى النفس الشهوانية والغضبية والعاقلة، كما تابع المدرسة المشائية في أن كمال الإنسان في إحدى طرقه يكون من خلال كمال القوة النظرية الذي يتمثل في علمها بحقائق الوجود.

والبعد الديني، تمثل في بيان أثر العبادات من صلاة وصوم وحج، وغيرها، في تقويم السلوك الإنساني وتسيريه بالاتجاه الصحيح، فكل واحدة من هذه العبادات لها مدلول ظاهر وباطن، أما الظاهر فهو العبادة الجسمانية من قيام وركوع وسجود بالنسبة للصلاة، أما باطنها هو تصفية القلب وتجرد النفس لتلقي الفيض الإلهي والاتصال بالذات المقدسة، وكذا الحال في بقية العبادات التي تسهم بدورها في صفاء النفس من الرذائل وتحليها بالفضائل، ليكون صاحبها مستعدا لتلقي المقامات والأحوال التي يمر بها للوصول إلى حضيرة القدس.

أما البعد العرفاني - موضع الدراسة - فكان تجلي وانعكاس لسلوك الفرد

ص: 308


1- الأسفار، ج 9، ص 131-132.

الأخلاقي، فتهذيب الأخلاق وتزكية النفس لهما اثر مهم في معرفة الإنسان ربه وترقيه إليه، وهذا المعنى يُعد الغاية الأساسية والهدف الأسمى عند صدر المتألهين في كيفية ارتقاء الإنسان سلم الأخلاق العرفانية للوصول إلى معرفة الحق تعالى، وتجسدت هذه الغاية بجعل الطريق الموصل إلى المعرفة الإلهية يكون من خلال تزكية النفس بالابتعاد عن الرذائل ومنها أكثرها معصية الرذائل الثلاث، الحرص أو الهوى، والحسد والتكبر، ومن ثم تحليها بالفضائل والمعارف النظرية، وهو مستنبط من القرآن الكريم، وفائدتها التخلق بالأخلاق الإلهية الجميلة، التي بها يكون الإنسان بقلبه المرآة الصافية. كما أن مفهوم السعادة الأخروية، قد أخذ بعداً عرفانياً عندما جعل الشيرازي من الفضائل الخلقية والعقلية معاً طريقا موصلاً إلى هذه السعادة التي هي برأيه خير من السعادة الدنيوية.

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

(1) ابن سينا الإشارات والتنبيهات، ج2، تحقيق: مجتبى الزراعي، مطبعة مكتب الأعلام الإسلامي، ط1، 1423 . ه

(2) ابن عربي محي الدين محمد بن علي، رسائل ابن عربي تقديم محمود الغراب دار صادر، ط1، بیروت، 1977،

(3) ابن منظور، جمال الدين لسان العرب مج3، دار صادر، 1956.

(4) أبو العلاء، عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام، دار المعارف، ط1، مصر، 1963م.

(5) أبو ريان محمد علي أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، بيروت، 1969.

(6) آل ياسين، جعفر، صدر الدين الشيرازي مجدد الفلسفة الإسلامية، مطبعة المعارف، بغداد، ط1955،1.

(7) الآملي، جامع الأسرار ومنبع الأنوار تحقيق: هنري كوربان وآخر، طهران،1318ش

(8) جميلة محى الدين صدر الدين الشيرازي وموقفه النقدي من المذاهب الكلامية، دار العلوم العربية بيروت، ط2008،1.

ص: 309

(9) حلباوي أسعد أصالة الوجود عند صدر الدين ،الشيرازي دار الصفوة، بيروت، ط1، 2010.

(10) حيدر املي المحيط الأعظم والبحر الخضم ج 3 .

(11) الحيدري كمال العرفان الشيعي، قم، إيران، 1429ه.

(12) روضان، ریاض سحیب، علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2012.

(13) السهروردي شهاب الدين التلويحات (ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية)، مج 1، تصحيح: هنري كوربان مطبعة المعارف استنبول ، 1945.

(14) الشيرازي رسالة خلق الأعمال، تحقيق: ياسين السيد محسن، مطبعة الحوادث، طهران، 1378ش.

(15) المبدأ والمعاد، تقديم سيد جلال الدين مؤسسة انتشارات، إيران، 1396ه.

(16) إيقاظ النائمين تحقيق أكرم الماجد ، مطبعة الفيحاء، ط2، بيروت، 2013.

(17) أسرار الآيات، تصحيح وتحقيق: حبيب الله الموسوي، ط1، قم، إيران،1420ه.ق

(18) تفسير القرآن الكريم، ج 7، انتشارات بیدار ،قم، إيران 1367ش.

(19) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية ، ج 9، ط2، دار المعارف الإسلامية، قم، إيران.

(20) شرح أصول الكافي للكليني، تحقيق: محسن عقيل دار المحجة البيضاء، بيروت، 2011.

(21) الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، تعليق سيد جلال الدين المركز الجامعي للنشر، ط2، مشهد، إيران، 1981،

(22) رسالة الأصول الثلاثة، ترجمة: علي اصغر الجامعة اللبنانية، بيروت، 1989.

(23) كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية، تحقيق: محمد تقي دانش، طهران، إيران، 1962.

(24) مجموعة رسائل فلسفية، ط1، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 2001.

(25) مفاتيح الغيب، تصحيح وتقديم محمد خواجوي مؤسسة مطالعات إيران 1984.

ص: 310

(26) د جميل, المعجم الفلسفي, ج 1, 16, قم إيران.

(27) الطوسي، نصير الدين شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا، ج 3.

(28) الفراهيدي الخليل بن احمد كتاب العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، قم، الطبعة الأولى ج 1، 1414.

(29) لزيق كمال إسماعيل، مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا، ط1، بيروت، 2014،

(30) محمد حبيب سلمان، نظرية المعرفة عند صدر الدين الشيرازي رسالة ماجستير (مخطوطة)، جامعة الكوفة، 2005.

(31) المطهري، مرتضى العرفان دار ،الولاء، ط2، بيروت، لبنان، 2011.

(32) المظفر، محمد ،رضا ترجمة صدر الدين الشيرازي، ط 1 ، مركز الحكمة للدراسات الإسلامية ، 2000.

(33) موسى د. محمد يوسف, مباحث في فلسفة الأخلاق, مطبعة الأزهر, كلية أصول الدين القاهرة,1943.

(34) نصر، سيد حسين، مقدمة تحقيق، كتاب سي أصل لصدر الدين الشيرازي، جامعة علوم المعقول والمنقول، طهران، 1961.

ص: 311

التراث الأخلاقي عند الفيض الكاشاني

د. ياسين حسين الويسي(1)

المقدمة

أن الأخلاق في تراثنا الإسلامي لها اثر كبير في كونها من المشتركات التي جمعت شعوب الأرض جميعا التي دخلت دين الإسلام وتكمن أهمية الأخلاق من حيث أكدت عليها مصادر الدين الرئيسة القرآن الكريم وسنة النبي صلی الله علیه و آله سلم وروايات أهل البيت عليهم السلام ومنهج الصالحين العارفين لذلك جعلت عنوان بحثي «التراث الأخلاقي عند الكاشاني» باعتباره شخصية إسلامية ليست عربية ومع ذلك فقد احتل مكانة عظيمة في نفوس المسلمين العرب ،وغيرهم، ولقد وجدت في شخصية الكاشاني شخصية إسلامية جامعة حيث ابتدأ فلسفته الأخلاقية من منطلقات دينية أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية وروايات آل البيت علیهم السلام وكتب فلاسفة الإسلام الأخلاقية كالغزالي، وابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، فقد عمل على تهذيب كتاب الغزالي إحياء علوم الدين كتاب له سماه (المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء) قام بدعم روايات الغزالي التي فيها ضعف بروايات موثقة عن أهل البيت علیهم السلام.

وقد اعتمدت على المصادر الأم في ذلك وهي كتب الفيض محسن الكاشاني، وغيرها من المصادر التاريخية والمراجع.

ص: 312


1- أستاذ جامعي من العراق يؤكد الباحث أن الكاشاني ابتدأ فلسفته الأخلاقية من منطلقات دينية أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية وروايات آل البيت عليهم السلام وكتب فلاسفة الإسلام الأخلاقية كالغزالي، وابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، لقد جمع الكاشاني المسلمين بمختلف مذاهبهم تحت مذهب واحد هو المذهب الأخلاقي العرفاني. يؤكد الكاشاني على أن الأخلاق التي توصف بالحسن تعود إلى أربعة من أمهات الفضائل الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، وان الأخلاق المذمومة التي يجب تهذيب النفس لتتركها هي التي تسمى بالرذائل يلخصها في ستة صفات، ثم يخلص الباحث إلى القول لقد ركز الفيض محسن الكاشاني على أن المجاهدة والرياضات الصوفية هي السبيل إلى تغيير الأخلاق المذمومة ؛ لكى تكون ربانية. المحرر

وحيث أن الكتابة عن الفيض محسن الكاشاني تعدّ عملاً بكراً، فاجتهدت في استخراج قضايا الأخلاق من كتبه لاسيما الذي ذهب فيه مذهب الغزالي في الأخلاق في كتابه إحياء علوم الدين ورتب الكاشاني أبوابه وقعد رواياته الضعيفة بالروايات عن الأئمة علیهم السلام . وكتابه الحقائق في الأخلاق. لقد جمع الكاشاني المسلمين بمختلف مذاهبهم تحت مذهب واحد هو المذهب الأخلاقي العرفاني فكان عمله هذا مشتركا فلسفيا أخلاقيا. يجمع المسلمين عربا وغيرهم سنة وشيعة تحت هذا العنوان القيمي والإنساني. فالإنسانية جمعاء تنشد الخلق المثلى، وهذه الخلق المثلى يرى الكاشاني أنها لم تجتمع لاحد من الخلق كما اجتمعت في شخص النبي صلی الله علیه و آله سلم الذي كان خلقه القرآن، وأهل بيته الذين كانوا قرآنا يمشي على الأرض.

إذن العوامل المشتركة كثيرة، غايتنا أن نفعل هذه المشتركات ونقلل من أهمية الاختلاف، لننهي بذلك الخلاف فالاختلاف ممدوح طالما لا يؤدي إلى الخلاف آملين من الله مباركة الجهود فهو القادر سبحانه.

وكان منهجي في هذا البحث هو المنهج التاريخي والوصفي، لذا رتبته بحسب ذلك المنهج.

وكانت خطتي أنني جعلته في ثلاثة مباحث: أما الأول فكان في حياة الكاشاني وثقافته. أما المبحث الثاني فكان في مفهوم الأخلاق وأهميتها. وكان المبحث الثالث: يدرس الأخلاق عند الكاشاني الفضائل منها والرذائل. وقد ختمت بحثي بأهم النتائج التي توصلت لها في هذه الورقات كذلك وصيتي لزملائي الباحثين في مجال تراثنا الأخلاقي بضرورة الاهتمام به للعودة بالمجتمع إلى أن يعود مجتمع فاضل يحتذى به سائلاً الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم إلى يوم الدين.

ص: 313

المبحث الأول: الكاشاني حياته وثقافته.

المطلب الأول: حياته.

هو محمد بن المرتضى الملقب بالمحسن الفيض الكاشاني المولود سنة 1007ه(في كاشان... ولقب بعدة القاب منها الفاضل الكامل العارف المحدث المحقق المدقق الحكيم المتأله)(1) ولقبه أستاذه صدر الدين الشيرازي بالفيض(2) وذكر انه ولد في كاشان وان نسبته إلى كاشان هي دليل ولادته فيها في حين نرى رأياً آخر يقول بانه ولد في قم ونشأ فيها ثم انتقل إلى كاشان وبعد ذلك إلى شيراز ليكون تلميذاً لصدر المتألهين .(3)

وكان الكاشاني من أعلام الشريعة حيث ابتدأت رحلته في كاشان حيث ترجم لنفسه بذلك فقال: كنت برهة في خدمة خالي المعظم الذي كان من الممتازين في عصره في كاشان مشتغلاً بتعلم التفسير والحديث، والفقه، وأصول الدين، وما تتوقف عليه هذه العلوم من العربية والمنطق وغيرها ... وبعد انقضاء العشرين من العمر سافرت إلى أصفهان لتحصيل الزيادة من العلوم الدينية وتشرفت بخدمة جمع من الفضلاء كثر الله أمثالهم، ولكن لم أجد هنا من عنده خبر من علم الباطن، وتعلمت فيه شيئاً من العلم الرياضي.(4)

قال الكاشاني: ثم توجهت إلى شيراز لتحصيل الحديث والإسنادات المعنعنة ورحلت إلى خدمة فقيه العصر والمتبحر في العلوم الظاهرية اعني السيد ماجد بن هاشم الصادقي البحراني، تغمده الله ،بغفرانه واستفدت من حضرته سماعاً وقراءة وإجازة شطراً متعلقاً به من الحديث ومتعلقاته، حتى حصلت لي بصيرة في الجملة،

ص: 314


1- ينظر: البحراني، السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، مطبعة النعمان النجف الأشرف، (د، ت)، ص 121.
2- ينظر: عياض قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني وجهوده في تفسير الصافي العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف، 2011م، ص 111. كذلك ينظر: القمي، الشيخ عباس الكنى والألقاب، مكتبة الصدر، 1368ه، ج 3، ص 305.
3- ينظر: البحرتي السيد يوسف، لؤلؤة البحرين 121
4- الفيض الكاشاني، علم اليقين؛ الملقب بالأنوار والأسرار، صححه واعتنى به الشيخ رضا العياش، دار المحجة البيضاء، بيروت - لبنان، ط1، 2011 م، ج 1، ص 9.

واستغنيت عن التقليد... فرجعت إلى اصبهان ووصلت إلى حضرة الشيخ بهاء الدين العاملي «قدس سره» وأخذت منه إجازة الرواية أيضاً.(1)

ويواصل الكاشاني في عرضه لرحلاته في طلب العلم فيقول: ثم توجهت إلى الحجاز وبعد توفيق التشرف إلى حج الإسلام وزيارة سيد الأنام والأئمة المعصومين علیهم السلام تشرفت في هذا السفر بخدمة محمد بن الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين العاملي واستفدت منه وأخذت إجازة الحديث أيضاً . (2)وينقل لنا قاسم شهيد عياض قصة تعرضه لقطاع الطرق وحادثة مقتل أخيه وان هذه المصيبة لم تثنه عن التنقل والترحال في طلب العلم فوصل إلى قم وبها التقى بصدر الدين الشيرازي ونال شرف مصاهرته وأخذ العلم الشريف منه وتوجه معه إلى شيراز عند عودته إليها، وأقام معه ما يقرب السنتين واستفاد من بركات أنفاسه الطيبة ... ثم عاد إلى كاشان مسقط رأسه للعمل بالتدريس والالتجاء إلى زاوية والاهتمام بالجمعة والجماعة، وتأليف الكتب والرسائل ... وبيان المسائل . (3)

وبعد عرضنا لحياته العلمية يتبين لنا انه عاد إلى كاشاني وبقي يدرس بها ويواظب على العمل بالحكمة العملية، حتى توفاه الأجل في سنة 1091ه- حيث دفن في مدينة کاشان مسقط رأسه ومقبرته المشهورة وله قبة معروفة على قبره الشريف حيث كان مقصداً للزائرين والعاكفين (4).

المطلب الثاني: ثقافته.

كما أوضحنا باختصار الشيوخ الذين أخذ عنهم الكاشاني فلابد منه الإشارة إلى مؤلفاته التي دلت على ثقافته الواسعة في مختلف العلوم والفنون ومن أهمها: في

الفقه وأصوله:

ص: 315


1- ينظر الكاشاني، علم اليقين، ج 1، ص 9.
2- ينظر عياض قاسم شهيد محمد الفيض الكاشاني، ص25.
3- المرجع نفسه، ص 25.
4- البحراني السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، ص 122 .

1. أبواب الجنان.

2. اذكار الطهارة.

3. الحق المبين.

4. الأصول الأصلية.

5. ترجمة الحج.

6. ترجمة الزكاة.

7. ترجمة الشريعة .

8.زاد الحاج.

9. سفينة النجاة.

10. طريق الصواب.

11. مفتاح الخير.(1)

وأما في مجال العقائد والأخلاق فله مؤلفات عدة منها:

1. أصول العقائد والأخلاق.

2. أصول المعارف.

3. التوحيد.

4. الجبر والاختيار

5. جلاء العيون.

ص: 316


1- ينظر: المصدر نفسه، ص.122. وأيضاً عياض، قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني، ص43، 47.

6. زاد السالك.

7. ذريعة الضراعة.

8. اللب.

9. ميزان القيامة.

10. شرائط الإيمان.

11. زاد العقبى.

21. مكارم الأخلاق(1).

31. وله في الأدب والشعر الدواوين الآتية:

14. الاعتذار.

15. الماء الصافي.

16. الأمالي.

17. تسهيل السبيل في الحجة .

18. الحية الطيبة الرائعة.

19. ديوان شعر الفيض الكاشاني.

20. الشراب الطاهر.

21. شوق الجمال.

22. شوق العتيق.

ص: 317


1- البحراني السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، ص122 ، وكذلك عياض، قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني، ص47، 49.

23. عين الجنة .

24. شرق المهدي.

25. ندبة العارف.(1)

أما في مجالات الحكمة والعرفان فله المؤلفات الآتية:

1. أصول المعارف.

2. أنوار الحكمة.

3. ضياء القلب.

4. عين اليقين والمعروف بالأنوار والأسرار

5. قرة العيون.

6. مرآة الآخرة.

7. المعارف.

8. المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء.

9. منهاج النجاة.

10. المشواق.

11. مرآة المالك(2).

12. أما في الحديث والتفسير. فله المؤلفات الآتية:

ص: 318


1- المصدر نفسه، ص 122 وأيضاً عياض الفيض الكاشاني، ص49.
2- البحراني السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، ص.122. وكذلك ينظر : قاسم شهید محمد عیاض، الفيض الكاشاني، ص 47، 63 .

13. الوافي

14. الشافي.

15. النوادر في جمع

الأربعين في مناقب أمير المؤمنين علیه السلام وغيرها من المؤلفات(1).

أما منهجه الأخلاقي فقد أسسه كما قال على الكتاب الكريم وسنة نبيه سيد المرسلين وأقوال أهل البيت الأئمة المعصومين صلوات الله تعالى عليهم أجمعين.

المبحث الثاني

مفهوم الأخلاق وأهميتها.

المطلب الأول: الأخلاق لغة واصطلاحاً.

الأخلاق: جمع خلق، قال ابن فارس في معجمه الخاء واللام والقاف أصلان احدهما تقدير الشيء والآخر ملامسة الشيء فأما الأول: فقولهم خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته.... ومن ذلك الخلق وهي السجية لأن صاحبه قد قدر عليه(2).

قال الفيروز ابادي: الخُلق بالضم وبضمتين السجية، والطبع، والمروءة والدين(3) وذهب إلى ذلك ابن منظور حيث قال: والخُلق بضم اللام وسكونها، وهو الدين، والطبع والسجية وحقيقته انه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة ،وأوصافها المختصة بها ومعانيها، ولها أوصاف حسنة وقبيحة والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة اكثر مما يتعلقان

ص: 319


1- المصدر نفسه 122 . وكذلك الكاشاني، مقدمة مفاتيح الشرائع، ترجمة: الشيخ الأصبهاني مطبعة المهدي قم ط1، 1392ه، ص128.
2- ابن فارس، أبو الحسين احمد بن فارس بن زكريا ت (395ه)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر 1399ه - 1979م، ج2، ص213، 214.
3- الفيروز ابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817ه)، القاموس المحيط، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة ، بيروت، ط8 ، 1426ه - 2005م ، ص 808

بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع (1) أما الراغب الأصفهاني ففرق بين الخلق بفتح الخاء والخُلق بضمها فقال: خص الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة.(2)

الأخلاق في الاصطلاح

يمكن أن نتجه في تعريف الأخلاق إلى اتجاهين:

اتجاه يعرف الأخلاق بإضافتها إلى العلم لمعرفة الصفات التي تتصف بها النفس الإنسانية. وهو ما يعرف «بعلم الأخلاق».

اتجاه يعرف الأخلاق بإضافتها إلى الفلسفة لمعرفة النظريات الأخلاقية التي تحدد سلوك النفس الإنسانية وهذا ما يعرف بالفلسفة الأخلاقية أو بفلسفة الأخلاق.

ثم إننا إذا تحدثنا عن الأخلاق باعتبار ما وضعت له المفردة فإننا نرى أن التعريف اللغوي قريب من التعريف الاصطلاحي فهي في الاصطلاح عرفها الكاشاني : هيئة قائمة في النفس، تصدر منها الأفعال بسهولة من دون الحاجة إلى تدبر وتفكر(3) وقد عرفها ابن مسكويه بانها تلك الحالة النفسانية التي تدعو الإنسان لأفعال لا تحتاج إلى تفكر وتدبر(4) والذي نراه أن تعريف الكاشاني للأخلاق لا يختلف كثيراً عن تعريف الإمام الغزالي للأخلاق فقد عرفها بأنها:

هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية(5). وقد عرفها صدر الدين الشيرازي بانها ملكة يصدر بها عن النفس أفعال

ص: 320


1- ابن منظور محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب دار صادر، بیروت (د، ت)، ج10، ص 86، 87 .
2- الراغب الاصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد (ت 502ه)، المفردات تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار ،القلم ،دمشق (د، ت، ط)، ص 297.
3- الكاشاني، محسن الفيض الحقائق في الأخلاق، تحقيق اللجنة العلمية، دار المجتبى، قم، ایران، ط 1 ، 2008م ص 54.
4- ابن مسكويه. ابو علي محمد بن يعقوب (ت421ه) تهذيب الأخلاق وتطير الاعراق تحقيق عماد الهلالي منشورات الجمل، ط 1 ، 2011م، ص 52.
5- الغزالي، ابو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، ت (505ه)، احیاء علوم الدین دار ابن حزم، بیروت لبنان ط 1 ، 1426ه 2005- م، ج 3، ص 51.

بسهولة من غير تقدم روية، وليس الخلق عبارة عن نفس الفعل، لأنه عبارة عن كون أن النفس يصدر عنها الصناعة من غير روية كمن يكتب شيئاً.(1)

أما فلسفة الأخلاق فهي تحقيق فلسفي عقلي حول المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الأخلاق(2) وفلسفة الأخلاق تندرج تحت مبحث القيم الإكسيولوجيا وهي من مباحث الفلسفة وان العلوم التي تندرج تحت هذا المبحث يطلق عليها العلوم المعيارية فالمنطق معيار الحق، وفلسفة الجمال معيار ما عليه الشيء الجميل، وفلسفة الأخلاق هي معيار الخير.(3) فيبحث في التعابير الأخلاقية وارتباطها مع الواقعيات ومن وجه آخر يحقق فيه حول الأصول المؤثرة في قبول أو عدم قبول الأمور الأخلاقية اللازمة أو في كيفية اختيار المذهب الأخلاقي المطلوب، كل ذلك بناءً على المنهج العقلي والاستدلالي.(4) فان لكل منا أخلاقه الخاصة ولكن علم الأخلاق يدرس ما ينبغي أن تكون عليه الخلق العليا والمثلى، ومن هنا كان المثال الأعلى الذي يجب على الإنسان التطلع إليه وهو خير البشرية في ارتباطه بحقيقة البشرية التي هي حقيقة العالم.(5)

المطلب الثاني

أهمية الأخلاق في الإسلام.

تكمن أهمية الأخلاق في الإسلام لورودها في مصادر التشريع الأولى وهي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حيث جاء لفظ الأخلاق في موضعين في القرآن الكريم.

قوله تعالى: «إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ».(6)

ص: 321


1- الشيرازي محمد بن إبراهيم صدر الدين (ت 1050ه)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربع، تقديم: العلامة محمد رضا المظفر ، دار إحياء التراث العربي، بيروت ،لبنان ،ط5، 1419ه - 1999م، ج4، ص 114.
2- خرداد: مجتبى مصباح، أسس الأخلاق المنهج الجديد في تعليم فلسفة الأخلاق، مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية ،قم، إيران، ط 1 ، 2011م، ص 15.
3- الويسي، د. ياسين حسين، مقدمة فلسفية، دار الفرقد، دمشق، سوريا، ط1، 2010م، ص75.
4- ينظر خرداد مجتبی ،مصباح، أسس الأخلاق، ص 15.
5- الويسي، د. ياسين حسين، مقدمة فلسفية، ص76.
6- سورة الشعراء: الآية (137).

قال الطبري: اختلفت القراّءُ في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة سوى أبي جعفر، وعامة قراء الكوفة المتأخرين منهم ... خُلقُ ... واختلف أهل التأويل في تأويل نحو اختلاف القراء في قراءته، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأولين وعادتهم وأخلاقهم.. نقله ابن عباس وعلي وغيرهما من الصحابة .(1)

وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ .(2)

قال الطبري في تفسيره كلمة الخلق العظيم أدب عظيم وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه .... ونقل عن ابن عباس خلق عظيم – يقول: دين عظيم - وعن طريق آخر - يقول إنك على دين عظيم وهو الإسلام.... ونقل عن مجاهد - خلق عظيم قال الدين.... ومن طريق آخر - قال: أدب القرآن... وعن الضحاك قال: يعني دينه وأمره الذي كان عليه، مما أمره الله به ووكله إليه.(3)

أما السنة النبوية فقد وردت فيها كثير من الأحاديث التي تشير إلى أن الإيمان والجنة والقرب من الله والرسول ترتبط جميعاً بحسن الخلق. وسوف نذكر بعض هذه الأحاديث.

روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يقول : إن خياركم أحسنكم أخلاقاً .(4)

روى الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال : ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فان الله يبغض الفاحش البذيء.(5)

ص: 322


1- الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، (ت 310ه)، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقيق: محمود محمد شاکر دار المعارف، مصر، (د، ت)، ج 19، ص 378.
2- سورة القلم: الآية (4).
3- ينظر الطبري، تفسير الطبري، ج3، ص150، 152
4- رواه البخاري، ينظر : صحيح البخاري بشرح الكارماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1980، ج 21، ص 184.
5- رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ينظر : النووي، محيي الدين يحيى بن زكريا بن شرف الدين، (ت : 676ه)، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، (د، ط، ت)، ص 272.

و عنه صلی الله علیه و آله وسلم إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم(1).

عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الحين سئل عن اكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تقوى الله وحسن الخلق».(2)

وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «اكمل المؤمنين أيماناً احسنهم أخلاقاً. وخياركم لنسائهم».(3)

وعن جابر أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال: «أن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ...»(4).

المبحث الثالث: الأخلاق عند الكاشاني.

يؤكد الكاشاني على أن الأخلاق التي توصف بالحسن تعود إلى أربعة من أمهات الفضائل الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، وان الأخلاق المذمومة التي يجب تهذيب النفس لتتركها هي التي تسمى بالرذائل يلخصها في ستة صفات فلذا سنفصل القول فى الأخلاق الفاضلة والرذيلة.

المطلب الأول : الفضائل عند الكاشاني.

يرى الكاشاني ان الفضائل الأربعة التي يسميها بالأركان الأربعة للفضائل وهي الحكمة، والشجاعة والعفة والعدل كلها توجد في شخصية واحدة هي شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقط، أما عند سائر الناس فهي متفاوتة حيث يقول : ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله ، والناس من بعده متفاوتون في القرب والبعد منه : فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق

ص: 323


1- المصدر نفسه، ص 273. والحديث رواه أبو داود.
2- المصدر نفسه، ص 273 . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
3- المصدر نفسه، ص 273 . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
4- المصدر نفسه، ص 273، 274 ، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

أن يكون بين الخلق ملكاً... ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها، استحق أن يعرج من البلاد والعباد فانه قد قرب من الشيطان.(1) وان حسن الخلق يرجع بحسب الكاشاني إلى اعتدال قوة العقل، وكمال الحكمة، واعتدال قوة الغضب والشهوة فهي مطيعة للعقل والشرع أيضاً وان هذا الاعتدال يحصل من وجهين الأول: بوجود الهي وكمال فطري والثاني: هو اكتساب الأخلاق عن طريق المجاهدة والرياضة أي حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق أي يواظب على فعل الخلق حتى يصبح طبعاً في نفسه.(2)

من خلال ذلك يتضح أن الكاشاني يرى أن الأخلاق مكتسبة وان من غلبت عليه البطالة استحقت نفسه المجاهدة وترويض النفس وتزكيتها وتهذيب أخلاقه فلم يعطي لنفسه فرصة في تحسين خلقه لوجود قصور ونقص فيه... وان حسن الخلق يحصل عندما نقمع الغضب والشهوة وحب الجاه والدنيا... وان الإنسان يبحث عن الفرص الكثيرة لينتقل بها من حال إلى حال وعليه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت جميع الوصايا والمواعظ(3). ولما اكد الله تعالى في قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(4) وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: حسنوا أخلاقكم(5) ، فكيف ننكر حق الأدمي في تغيير أخلاقه... كلا بل يستطيع الأدمي تغيير أخلاقه وحاله وطباعه، لأنه يتميز عن باقي المخلوقات، فضلا عن أن الله - تعالى - قد كرمه عن بقية الخلق فهو أسمى وأرقى المخلوقات وميزه الله وكرمه بالعقل.(6)

ص: 324


1- ينظر: الكاشاني، محسن الفيض المحجة البيضاء، تصحيح علي اكبر الغفاري مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2009م، ص 69 .
2- المصدر نفسه، ص 73.
3- ينظر المصدر نفسه، ص 70 ، وما بعدها.
4- سورة الشمس : الآية (9) - (10).
5- أخرجه أبو بكر بن لآل في مكارم الأخلاق من حديث معاذ، وهو منقطع ورجاله ثقات، ينظر: أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الملقب الحافظ العراقي (ت 806ه)، المغني عن محل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في في الأحياء من أخبار بهامش كتاب إحياء علوم الدین دار ابن حزم، بیروت، لبنان، ط1، 1426ه، 2005م، ج 3، ص 35.
6- ينظر: الكاشاني محسن الفيض الحقائق في الأخلاق، تحقيق اللجنة العلمية دار المجتبى، قم، إيران، ط1، 2008م، ص90. أيضاً: المحجة البيضاء، ص 70

إذن فالأخلاق الحسنة عند الكاشاني تكون كما بينا إما بالطبع والفطرة أو المجاهدة والرياضة باعتياد الأفعال الجميلة واكتسابها من مصاحبة الأخيار وأخوان الصلاح، ويؤكد الكاشاني أن الإنسان مهما كانت عبادته لربه ومهما ترك المحظورات وهو كاره لها فهو لا ينال كمال السعادة بها، بل في مجاهدة النفس وحثها وتزكيتها حتى يصل إلى السعادة الحقة.(1)

ويؤكد الكاشاني أن الدنيا هي مزرعة الأخرة، فكلما كانت العبادات اكثر لطول العمر كان الثواب اجزل والنفس أزكى واطهر، والأخلاق ارسخ – فالعبادات عنده ما كان لها تأثيراً في القلب - بالنسبة للعبد.(2)

وان غاية الأخلاق عنده هي أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويترسخ فيها حب الله تعالى فلا شيء أحب إليه من الله ولقائه. (3)ويمزج الكاشاني بي الأخلاق وبين [3] التصوف باعتباره أداة لتهذيبها، فما كان كسبا في التعلم يمكن تجاوزه من خلال التربية الروحية بمعنى تهذيب النفس.

ومن هنا يتضح أن الأخلاق عند الكاشاني مرتبطة بطريق العرفان والتصوف الذي عرفه الغزالي بانه:

قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله .(4)

ثم أن النص الديني هو المرجعية الأولى للكاشاني في مجال الأخلاق حيث اكد على وصايا ذكرها القرآن الكريم في تهذيب الأخلاق ومنها التوحيد، وعدم الشرك،

ص: 325


1- المصدر نفسه، ص 92.
2- ينظر المصدر نفسه ص 93
3- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ص 93.
4- الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، (ت 505ه)، المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر، (د، ت)، ص 131 . وكذلك الويسي: د. ياسين الويسي ابن خلدون ونظرية للتصوف، دار نینوی، دمشق، سوريا، ط1، 1429ه - 2009م، ص 51 52 . وأيضاً : التصوف والعرفان الإسلامي، دار الزمان، دمشق، سوريا، ط1، 2016م، ص18.

والإحسان إلى الوالدين وعدم القتل وغض البصر، واجتناب الحسد، واجتناب الغيبة، واجتناب السرقة، واجتناب اكل مال اليتيم، وعدم جعل الله عرضة للإيمان الباطلة وغيرها. وعضد الكاشاني هذه النصوص الكريمة بروايات من السنة المطهرة ومن روايات أهل البيت علیهم السلام. ففي بيان أن الخير والشر من خلق الله تعالى فقد روي عن الإمام أبي عبد الله الحسين علیه السلام انه قال : أوصى الله موسى علیه السلام وانزل عليه في التوراة - أني أنا الله لا اله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الخير، وأجريته على يدي من احبه فطوبى لمن أجريته على يديه، وإنا الله لا اله إلا أنا خلقت الخلق، وخلقت الشر، وأجريته على يدي من أريده فويل لمن أجريته على يديه.(1)

وذكر رواية أخرى في نفس المعنى عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر علیه السلام .(2)

وتندرج مقامات العارفين ضمن حسن الخلق كالصبر والتوكل والصدق والإخلاص والشكر. ومبحثها طويلة عند الكاشاني.

المطلب الثاني: الرذائل والأخلاق المذمومة عند الكاشاني.

يجمل الكاشاني الرذائل في ستة أمور حذر من الوقوع فيها وبين أفاتها وهي كما يأتي:

الغضب: يرى الكاشاني أن الغضب يقع مقابل الحلم، ويحدث من اجل أمور الدنيا وملذاتها وطلب الانتقام في إيصال المكروه (3). وذكر الآيات والروايات الخاصة في الغضب ومن ذلك قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» (4)ومن الروايات ما نقله عن الصادق علیه السلام عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل .(5) وروي عنه علیه السلام انه قال : الغضب مفتاح كل

ص: 326


1- الكليني، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكافي الأصول منشورات الفجر ، طهران، 1381 ق ، ج 1، ص154.
2- ينظر: المصدر نفسه، ج 1، ص 154.
3- ينظر: الكاشاني محسن الفيض ترجمة الشريعة شرحه أمير جلال الدين دار الصفوة، بيروت، لبنان، ط1، 2011م، ص 165.
4- سورة الشورى: الآية (37)
5- ينظر: الكليني، الكافي، ج2، ص 306

شر(1) وروي عن الصادق علیه السلام أيضاً انه قال: من كف غضبه ستر الله عورته عورته (2)وعن الباقر علیه السلام انه قال : من كف غضبه عن الناس كف الله تعالى عنه عذاب يوم القيامة.(3)

الحقد وهو: «أن يلزم المرء قلبه اشتغال المغضوب عليه، والبغضة له، والنفور منه، وان يروم ذلك ويبقى(4) واقل درجات الحقد أن تحرز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما يعصى به الله ... فهذا كله مما ينقص درجتك في الدنيا وان كان لا يعرضك لعقاب» (5).

الحسد: والحسد هو احد نتائج الحقد وان للحسد فروعاً ذميمة(6) وقال الكاشاني الحقائق : الحسد هو كراهة النعمة على المحسود وحب زوالها منه فإذا كان للإنسان لم يحب زوال أو كره دوامها لأخيه ولكن هو يشتهي لنفسه مثلها وعند هذا يسمى غبطة أو ما يسمى منافسة كما قال تعالى: «خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» (7)فالغبطة إذا كانت في الدنيا فمباح وأما إذا كانت في الدين فمندوب إليها (8). ونقل عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قوله: آفة الدين الحسد... .(9)

الكبر

يرى الكاشاني أن الكبر قسمان ظاهر وباطن فأما الظاهر فهو الأعمال التي تصدر عن الجوارح ، وأما الباطن فهو خلق في النفس فيسمى الباطن «كبراً» ويسمى الظاهر «التكبر» وقد قسم الكاشاني الأخير إلى ثلاثة أقسام.

ص: 327


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 37.
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 305
3- المصدر نفسه، ج 2، ص 305
4- ينظر: الكاشاني، المحجة البيضاء، ص 218.
5- المصدر نفسه، ص 218
6- ينظر: المصدر نفسه، ص 223
7- سورة المطففين: الآية (26).
8- الكاشاني، الحقائق في الأخلاق، ص119
9- ينظر: الكليني، الكافي، ج2، ص 306.

التكبر على الله والتكبر على الرسل، والتكبر على العباد.(1) وقد ذم الله تعالى هذا الخلق في قوله:«وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ».(2)

آفات اللسان: يرى الكاشاني أن للسان عثرات كثيرة لابد للإنسان من ضبطه حتى يتحصن من خطر الرذيلة التي تأتي عن طريقه فخطر اللسان عظيم جداً ولا يمكن النجاة منه إلا بالصمت فقد مدح ذلك صاحب الشرع حيث قال ينظر: الكليني، صلی الله علیه و آله وسلم من صمت نجا (3)ومن الروايات عن أئمة أهل البيت علیهم السلام ما رواه الكاشاني عن الإمام السجاد علیه السلام قال : أن لسان بن آدم تشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم ؟ فيقولون بخير إن تركتنا ويقولون الله الله فينا ويناشدونه ويقولون : إنما نثاب ونعاقب بك (4)وساق روايات أخرى مفادها أن اللسان يقي الإنسان عن المحاسبة يوم القيامة(5).

وقد قسم آفات اللسان إلى عشرين آفة.

الرياء:

وهو من الأمور الخطيرة فقد يرائي المرء بعبادته حتى يجعل عبادته ليست لله تعالى وإنما لمن يرائيهم.(6) وقد ساق الكاشاني من أدلة التحذير منه من القرآن الكريم قوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»«الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ»«وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ»(7) ومن السنة النبوية فقوله صلی الله علیه و آله وسلمحين سأله رجل فقال: يا رسول الله فيم النجاة: قال إلا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس (8)ومن أفعال الأئمة علیهم السلام ما رواه عن الصادق علیه السلام انه قال: قال الله تعالى أنا خير شريك من اشرك معي غيري في عمله لم اقبله إلا

ص: 328


1- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ص 416.
2- سورة غافر : الآية (60).
3- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء ، ج 5، ص 132.
4- ينظر الكليني، الكافي، ج2، ص115.
5- ينظر الكاشاني، الحقائق، ص104.
6- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ج5، ص352
7- سورة الماعون: الآية (4) - (7).
8- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ج5، ص352.

ما كان لي خالصاً.(1) وروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام انه قال: ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان ، ويحب أن يحمد في جميع أموره (2).

ويذكر الكاشاني أن الرياء هو طلب منزلة في قلوب الناس من خلال ايرائهم خصال الخير إلا أن المنزلة والجاه تطلب في القلب سوى عبادة الله - تعالى - فالرياء هو أن تطلب المنزلة خلال إظهار العبادات (3).

وجعل الكاشاني للرياء خمسة أقسام وهي:

1. الرياء في الدين من جهة البدن.

2. الرياء بالزي والهيئة والمنظر.

3. الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير.

4. الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر .

5. المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين (4).

الخاتمة:

لقد تبين لنا من خلال السياحة في حياة وثقافة الفيض محسن الكاشاني أمور عدة من أهمها:

أن الكاشاني رحمه الله كان يمثل القدوة في الحوار المتزن من خلال ثقافة

ص: 329


1- ينظر الكليني، الكافي، ج2، ص 295.
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 295
3- ينظر الكاشاني، المحجة البيضاء، ج5، ص358.
4- ينظر: المصدر نفسه، ج 5، ص 358 360 ، وكذلك سبقه الى ذلك الغزالي، ينظر: احياء علوم الدين، ج3، ص297، 299.

التقريب التي سار عليها، وقدم لنا تراثا فلسفيا أخلاقيا مشتركا .

وضف الفيض الكاشاني خطابه الفلسفي الأخلاقي في مواجهة التطرف والأفكار الغالية المغالية والمتشددة في مختلف الاتجاهات.

أن الكاشاني كان من العلماء الموسوعيين فقد كتب وصنف وافرد لها مؤلفات خاصاً سماه «الحقائق في الأخلاق».

لقد مزج الفيض محسن الكاشاني مسائل الأخلاق بالعرفان ونظرياته فربط بين فضائل الأخلاق ومقامات العارفين.

لقد تأثر الفيض محسن الكاشاني في علم الأخلاق بالإمام الغزالي فكتب المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ويعني به أحياء علوم الدين للغزالي فهذب رواياته وعضدها بالروايات عن الأئمة علیهم السلام.

إن مرجعية الفيض محسن الكاشاني في علم الأخلاق كانت تتمثل في القرآن الكريم وآياته الدالة على حسن الخلق فضلا عن السنة المطهرة وروايات أهل البيت علیهم السلام.

ذلك فقد نهل الفيض محسن الكاشاني من علامة عصره صدر الدین

فضلا عن الشيرازي الملقب بملا صدرا.

لقد ترك لنا الفيض محسن الكاشاني ثروة تراثية في علم الأخلاق وجدنا اثرها مختلف مؤلفاته وفي تلامذته الذين رفعوا رايته عالياً بين أئمة العرفان الصوفي وفلاسفة الأخلاق.

يعد الكاشاني من اهم الشخصيات التي وضعت قواعد أخلاقية مثل وبين الأخلاق المذمومة وسبل تركها .

أشار الفيض محسن الكاشاني إلى أن الأخلاق على قسمين: الأول بالفطرة والثاني بالاكتساب وان بوسع الإنسان تغيير أخلاقه السيئة بأخلاق فاضلة بالممارسة والتربية والاكتساب.

ص: 330

لقد ركز الفيض محسن الكاشاني على أن المجاهدة والرياضات الصوفية هي السبيل إلى تغيير الأخلاق المذمومة ومحاربة النفس وشهواتها وتحليتها بالفضائل لكي تكون ربانية.

المصادر والمراجع

1. البحراني، السيد يوسف، لؤلؤة البحرين، مطبعة النعمان النجف الأشرف، د، ت.

2. البخاري، صحيح البخاري بشرح الكارماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1980.

3. خرداد: مجتبی مصباح، أسس الأخلاق المنهج الجديد في تعليم فلسفة الأخلاق، مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، قم، إيران، ط1، 2011م.

4. الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، ت 502ه-، المفردات، تحقيق، صفوان عدنان الداودي، دار القلم دمشق، د، ت.

5. الشيرازي، محمد بن إبراهيم صدر الدين ت 1050ه- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربع، تقديم: العلامة محمد رضا المظفر ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط5، 1419ه - 1999 - م

6. الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310ه تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقیق: محمود محمد شاکر، دار المعارف، مصر، د، ت.

7. العراقي، ابو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الملقب الحافظ العراقي، ت 806ه-، المغني عن محل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من أخبار، بهامش كتاب إحياء علوم الدين دار ابن حزم ،بیروت لبنان ط1، 1426ه، 2005م.

8. عیاض قاسم شهید محمد الفيض الكاشاني وجهوده في تفسير الصافي العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف 2011م.

9. الغزالي : أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، 505ه-، المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد

ص: 331

الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر، د، ت .

10. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي ت 505ه- أحياء علوم الدین، دار ابن حزم، بیروت، ،لبنان، ط1، 1426ه، 2005م.

11. ابن فارس أبو الحسين احمد بن فارس بن زكريا ت ،395ه- معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام ،هارون دار الفكر ، 1399ه - 1979م.

12. الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن یعقوب ت 817ه- ، القاموس المحيط، تحقیق: محمد نعیم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1426ه - 2005م.

13. القمي، الشيخ عباس الكنى والألقاب، مكتبة الصدر النجف الأشرف، 1368ه-.

14. الكاشاني محسن الفيض، ترجمة الشريعة، شرحه أمير جلال الدين دار الصفوة، بيروت، لبنان، ط1، 2011م.

15. الكاشاني، محسن الفيض الحقائق في الأخلاق، تحقيق: اللجنة العلمية، دار المجتبى، قم، إيران، ط1، 2008م.

16. الكاشاني، محسن الفيض ، علم اليقين؛ الملقب بالأنوار والأسرار، صححه واعتنى به الشيخ رضا عياش، دار المحجة البيضاء، بيروت- لبنان، ط1، 2011م.

17. الكاشاني، محسن الفيض المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، تصحيح علي اكبر الغفاري مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2009م.

18. الكاشاني، مقدمة مفاتيح الشرايع، ترجمة: الشيخ الأصبهاني، مطبعة المهدي، قم، ط1، 1392ه.

19. الكليني، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكافي الأصول، منشورات الفجر، طهران، 1381 ق.

20. ابن مسكويه، أبو علي محمد بن يعقوب ت421ه- تهذيب الأخلاق وتطير الأعراق تحقيق عماد الهلالي، منشورات الجمل، ط1، 2011م.

ص: 332

21. ابن منظور، محمد بن مکرم بن منظو، لسان العرب، دار صادر، بیروت، د، ت.

22. النووي محيي الدين يحيى بن زكريا بن شرف الدين ت 676ه-، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، د، ط، ت .

23. الويسي د. ياسين حسين ابن خلدون ونظرية للتصوف دار ،نینوی دمشق، سوريا، ط1، 1429ه -2009 .

24. الويسي: د. ياسين حسين، التصوف والعرفان الإسلامي، دار الزمان، دمشق، سوريا، ط1، 2016م.

25. الويسي، د. ياسين حسين، مقدمة فلسفية دار ،الفرقد دمشق، سوريا، ط1، 2010م.

ص: 333

مكارم الأخلاق بما هي غاية النبوّة ومقصدها

الختم عين الفتح وتمامه

محمود حیدر(1)

مسعانا في هذا البحث بيان القاصد الإلهي من النبوة الخاتمة، وهو استواء نظام خلق الإنسان في حركة الزمن على نصاب الإعتدال بمكارم الأخلاق. إذ بهذا الاستواء المتحقق بالمبعوث رحمة للعالمين يفتح الله بالشريعة المقدسة هداية البشرية، ويؤيدها بالتبصر والتخلّق لتبلغ سعادتها العظمى.

ولما كانت صفة الإنسان الأكمل مخصوصة بالنبي الأعظم، فذلك يعني أن نبوّته الخاتمة هي علم جاد الحق به عليه ليبين للعالمين ما حظي به من جود الأسماء. والمراد بالأسماء في هذا المقام لا ينحصر في بيان واحد. بعضهم قال إنها أسماء الله الحسنى وبعضهم رأى أنها أسماء الأشياء وحقائقها، وهو ما يعرف ب__«الأعيان الثابتة» ، وآخرون قالوا ما لا حصر له في فضاء التأويل ومهما قيل فإن المآل واحد. إذ العلم التام بحقائق الأسماء المقدسة، الذي خُصّ به خاتم الأنبياء والمرسلين، إنما هو علم لا يتصوَّر من دون العلم بحقائق المخلوقات ومظاهرها، وذلك فضل موهوب من الله إلى صاحب المقام المحمود.

والنبي الخاتم (ص) الذي حظي بشهادة الإسم أخذ من الحق حق قدره من علم الأسماء. فسيكون له بما هو مظهر الحق الأعظم أن أوتي جوامع الكلم وهي عين الجود الإلهي المحيط بالمخلوقات كلها .. من «الهيولى» إلى منتهى سلسلة الوجود المحفوظة بتمامية العلم المحمدي. ولهذا جاء في الخبر: «الولاك ما خلقت الأفلاك».

ص: 334


1- مفكر وباحث في الفلسفة وعلم الأديان - لبنان.

ولما كانت الأسماء المعطاة لآدم هي فقه العقل، فقد بلغت كمالها بالنبي الخاتم ثم تحققت بمكارم الأخلاق وهي الصورة الكاملة الجامعة للرحمتين الخاصة والعامة، واللتين تؤلفان معاً مظهر الحضرة الإلهية.

لقد وجدنا أن ندخل إلى فهم مكارم الأخلاق من وجه انحصارها في الحقيقة الإنسانية الجامعة. كما في قوله صلی الله علیه وآله وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ذاك أن مهمة النبي متعيّنة بجلاء تلك الحقيقة من خلال الكتاب الإلهي وغاية الشريعة المقدسة. فالمقصود الإلهي مما نُزِّل على النبي هو دعوة العالمين إلى توحيد الله، والارتقاء بهم - بما خصه الحق تعالى من خلق عظيم - من حضيض الجاهلية إلى كمال المعرفة بالله...

ثمة إذن، تناسب وجودي بين الختم والتتميم. وذلك متحصل منطقياً، من أن الشيء حين يُختم يبلغ تمامه. ومكارم الأخلاق التي بعث النبي الخاتم ليتممها هي عين الخاتمية وجوهرها كمال الدين وكمال الدين معرفة الله .

وبفهم كنه مكارم الأخلاق، ينفتح أفق آخر وجوهري للتعرف على حقيقة الختم والتتميم. وهو ما تستجليه حقانية الوصل الوطيد بين النبوة الخاتمة والولاية المتممة. فالإمام هو الذي يتولى من بعد النبي صيرورة الدين الخاتم إلى غاياته، وهو الذي يؤكد استمرار الصلة بعالم الغيب في عهد انقضاء النبوّة التشريعية. فكما يسري أمر الغيب على خاتمية النبي يسري كذلك، على خاتمية الوارث المحمدي في آخر الزمان. فالإمام الخاتم هو حجة الله في الأرض بعد انقطاع النبوة الخاتمة، وهو مبين الشريعة المقدسة في ظاهرها وباطنها، ومالئ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلما وجوراً. وما ظهوره سوى استكمال للأمانة الكبرى والغاية العظمى، التي من أجلها بعث النبي الخاتم. وهي إقامة عدل الله في العالمين بالتخلق واللطف والرحمانية. وحاصل الأمر، فإن الخاتميتين متممتان إحداهما للأخرى لجهة كونهما تشكلان معاً قاصدية الله في عالم الإنسان.

ص: 335

1- عن ماهية ومعنى مكارم الأخلاق

لمكارم الأخلاق صفات تمنح لها بحسب مقاصدها وتنزلاتها. ولنا أن ندرج بعضاً منها تحت عناوين مجملة سنمر على تفصيلها لاحقاً ..

أولاً: إنها صفة النبي نفسه حيث بلغت به مالها الأعظم واستحق بها رتبة الآدمي الأكمل.

ثانياً: إنها صفة الإنسان الذي بعث من أجله النبي الخاتم ليتمم له إنسانيته. فإذا جرى هذا الإنسان مجراها بالتصديق والتوحيد والإيمان والتخلّق حصل الحكمة. ومن علامات حكمته أنه أنزل كل شيء منزلته، فلا يتعدى به مرتبته، وأعطى كل ذي حق حقه، ولا يحكم في شيء بغرضه ولا بهواه، ولا تؤثر فيه الأعراض الطارئة، ولا يضع من يده الميزان.(1) ولو تدرّج الإنسان بالسير والسلوك والمجاهدة والتعقل اتسعت آفاق نفسه، وتهيّأت لتلقي المعارف الإلهية والعلوم اللدنية التي بها ترتقى نفسه إلى الملأ الأعلى بعناية الله وتسديده. وهذه الحكمة - المركبة من العلم والعمل - هي تلك التي يُعبر عنها تارة بالقرآن وتارة بالنور ، وهي من فضل الله يؤتيها من يشاء، «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (2).

ثالثاً: إن مكارم الأخلاق هي صفة للصراط المستقيم فمن مشى على الصراط حلت عليه الاستقامة، فأدركها بالتقوى والورع والزهد فمن اتقى الله علمه الله وأدخله في درعه الحصين، وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات. كما تعبر الآية الكريمة: «أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» (3).

رابعاً - إنها صفة الأمة الوسط، التي قال الله فيها مخاطباً نبيه: «كنتُمْ خَیرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».(4) «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا».(5)

ص: 336


1- ابن عربي - الفتوحات المكية - الجزء 7 - دار الفكر العربي - بيروت - 1999 - ص 67.
2- سورة البقرة - الآية 269
3- سورة الأنعام - الآية 122
4- سورة آل عمران - الآية 110.
5- سورة البقرة - الآية 143

خامساً: إنها صفة للأبعاد المعنوية الباطنية التي تختزنها الشريعة المقدسة. وهي الأبعاد المتممة للبعثة النبوية.

سادساً: إنها الصفة التي يظهر فيه قول أهل العصمة على تمامه حين أشاروا إلى «الأمر بين الأمرين». فإذا كانت غاية ختم النبوّة حفظ مختزنها الإلهي بالمكارم، فقد تحصّل لدينا السبيل إلى التوحيد على الوجه الأتم . وكان لنا من هذا السبيل الوقوف على أرض الاعتدال الأكمل لنميّز وجه اللطف والتدقيق بين الإفراط والتفريط وبين الجبر والتفويض، وبين القضاء والقدر. والأمر بين الأمرين هو نفسه ما قيل في معنى الصراط والميزان والحكمة البالغة. وهو نفسه كذلك، الأمر الوسط الذي تتجلى فيه مكارم الأخلاق كغاية عليا للشريعة المقدسة.

وأنى تكن صفات المكارم ونعوتها، فقد كثرت الأحاديث في تحقيقها وبيان حدّها وتعريفها، إلا أنها آيلة إلى الغاية من الإيجاد الإلهي للإنسان. وإلى هذا، ما كان للنبي الخاتم أن يعين مبدأ بعثته المقدسة ومنتهاها بمكارم الأخلاق، لولا ارتباطها بالغرض الأصلي من إيجاد الإنسان فلو تقرر أن الغاية الإلهية من إبداع النوع الإنساني استخلافه في الأرض، عرفنا العلّة الأصلية من وراء خلقه، وهي معرفة الخالق.

وباصطفاء محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم نبياً ،خاتماً، وهادياً، ورحمة للعالمين، يكون قد خَتَمَ الله شريعته في العالمين وتممَّها بمكارم الأخلاق. ثم لتستأنف من بعد النبوة الخاتمة حركتها الهادية عبر ورثة الحقيقية المحمدية من أئمة الهدى وصولاً إلى الحجة البالغة.

في مقدمة «تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم» للعارف بالله الفيلسوف السيد حيدر آملي إشارات بينات إلى المعنى المتسامي لمكارم الأخلاق ومكانتها الحاسمة في حفظ رسالة الوحي. فقد بين أن سعيه إلى تأويل كتاب الله هو من أجل أن يكون مطابقاً لأرباب التوحيد وأهل الحقيقة. ولقد عنى بهذا أن يكون عمله التأويلي جامعاً للشريعة والطريقة والحقيقة، تأسيساً

ص: 337

على حديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم «الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي والحقيقة أحوالي».(1)

من كتاب الفرائد والعوائد يقتبس المحدث الحسن بن محمد الديلمي عن أبي جعفر علیه السلام ما يفصل الأركان التي تنبني عليها مكارم الأخلاق النبوية قوله: «إن من آداب المؤمن حفظ الأمانة والمناصحة والتفكر، والتقية، والبر، وحسن الخلق، وحسن الظن والصبر والحياء والسخاء ،والعفة والرحمة والمغفرة والرضا وصلة الرحم، والصمت والستر والعفة والرحمة والمغفرة، والمواساة، والتكريم، والتسليم، وطلب العلم، والقناعة والصدق والوفاء والعزم، والنصفة، والتواضع والمشاورة والاستقامة والشكر والحياء والوقار». ثم ذكر الخصال التي يجب على المؤمن تجنّبها، وهي: «البغي والبخل والدناءة، والخيانة، والغش، والحقد، والظلم والشره والخرق والعجب والكبر والحسد والغدر الفاشي، والكذب ،والغيبة والنميمة والمكايدة، وسوء الظن، ويمين البوار، والنفاق، والمنّة، وجحود الإحسان والعجز والحرص واللعب، والإصرار والقطيعة، والمزاح، والسَّفَه، والفحش والغفلة عن الواجب، وإذاعة السر».(2)

في المنفسح المعرفي نفسه قدّم الحكيم الإلهي ملا صدرا شرحاً فلسفياً لحديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم«بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» قوامها: «وكما أن للإنسان صورة ظاهرة، حسنُها بحسن الجميع ،واعتداله، وقبحها بقبح البعض فضلاً عن الجميع، وكذلك صورته الباطنة فإن لها أركاناً لا بد من حسن جميعها حتى يحسن الخلق وتحصل الحكمة والحرية . ثم وضع لها أربعة معان هي قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وقوة العقل، فإذا استوت هذه الأركان الأربعة التي هي مجامع الأخلاق التي تتشعب منها أخلاق غير محصورة اعتدلت وتناسقت وحصل حسن الخلق. أما قوة العلم فأعدلها وأحسنها أن تصير بحيث تدرك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الجميل والقبيح في الأعمال، فإذا انصلحت هذه

ص: 338


1- روى الحديث ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي المجلد الرابع - ص 134 - ورواه أيضاً مستدرك الوسائل عن النبى (ص) الجزء 11 - كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس الباب الرابع - ص 173.
2- الحسن بن محمد الديلمي - إعلام الدين في صفات المؤمنين - مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم 1397 ص -118 119.

القوة واعتدلت من غير غلو وتقصير ، حصلت منها ثمرة هي بالحقيقة أصل الخيرات ورأس الفضائل وروحها ومعنى حسن الخلق في جميع أنواعها الأربعة وفروعها هو التوسط بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، فخير الأمور أوسطها. ومهما انحرف بعض هذه الأمور عن الاستقامة إلى أحد الجانبين لم تتم مكارم الأخلاق. ومما يجب أن يُعلم في هذا المقام أن قوة النفس غير شرفها وكل منهما قد يزيد في الآخر، وقد يتفق لوازمها. أما أن كلا من شرف النفس وقوتها قد يزيد على الآخر فلأن الشجاعة مثلا قد تصدر لكبر النفس واحتقار الخصم واستشعار الظفر به وقد تصدر لشرف النفس والترفع عن المهانة والذلة، حيث النفوس الشريفة تأبى مقارنة الذلة، وترى حياتها في ذلك موتها، وموتها فيها حياتها».(1)

2 - عن مقاصد تتميم مكارم الأخلاق

لا نجد من فصل بين ختم النبوّة وتتميم مكارم الأخلاق في محضر البحث عن معنى ومقاصد قول النبي صلی الله علیه و آله وسلم في الحديثين الشريفين: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» و«إِنما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ». فالحديثان متصلان ومتلازمان ويؤلفان وحدة قولية لا تباين في وحدتها. والنبي من حيث هو خاتم النبوة هو فاتح الولاية، لجهة أن الختم والفتح مرتبتان إلهيتان تنتظمان حقيقة البعثة المحمدية، في مستهلها وختامها.

وعلى قاعدة الاتصال والتلازم بين ختم التشريع وفتح الولاية تتحول الولاية إلى نبوّة عامة تستأنف حقائق النبوة الخاصة وتنقلها إلى حقيقة هادية للعالمين. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» .(2)

في هذا التأصيل تستوي لدينا الخطوط المؤسسة الواحدية النبوة والولاية. فالنبي الخاتم هو الولي الفاتح. وهو جامع الحقائق الإلهية والحقائق الكمالية الإنسانية في آن. وهذا هو ما يصطلح عليه أهل الحكمة ب__«الحقيقة فلهذه الحقيقة المحمدية - كما يبين الشيخ ابن عربي - الفردية الأولى؛ ومن هذه الفردية تفرعت الفرديات في جميع المراتب المعنوية والروحانية والإلهية والكونية وغيرها. ويقولحول هذه المسألة بالذات: «إنما كانت حكمته

ص: 339


1- صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة - الجزء الخامس - ص 88.
2- سورة الأنبياء - الآية 107

فردية لأن النبي الأعظم هو لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بدئ به الأمر وختم، فكان نبياً وآدم بين الماء والطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين». ثم كانت له الفردية الجامعة بين البدء والفاتح والختام الواضح ونبوّة روحانيته بالكمال الراجح».(1)

وبهذا المعنى لا تعود مكارم الأخلاق مجرد رتبة أو طور في البعثة النبوية، وإنما هي وعاء لا متناه يشمل النبوّة والولاية معاً. فالختم هنا داخل في التتميم دخول الكل الكل . ثم ليغدوا شأناً واحداً في حقيقة إلهية جامعة. فالأخلاق متضمنة الشريعة، والشريعة متضمنة مكارم الأخلاق، حتى ليمسي هذا التضمين المتبادل إعراباً بيناً عن وحدة مقاصد الغيب في البعثة المحمدية الشاملة وإذن، فنسبة مكارم الأخلاق إلى الشريعة المختومة، هي كنسبة الحقيقة إلى الشريعة. كلاهما يستبطن الآخر ويدل عليه. فالمكارم هي العطاءات التي تقدمها الشريعة لتبلغ ،تمامها، ثم لتعود تلك العطاءات لتغذيها باللطف والتسديد والتأييد وجمال التدبير. وبهذه المنزلة التي لمكارم الأخلاق يعرج الآخذ بالشرع من مقام الإقرار بالتوحيد إلى مقام التصديق به. وبمثل هذا العروج يتحقق المصدّق بمكرمة الصدق التي تشكل الفتح الأعظم باتجاه التوحيد الأكمل. فلو أفلح المتخلّق بالصدق بلغ القرب، ولو بلغ القرب كانت له الولاية، وحظي قدر سعته من علم الكتاب، ثم ليندرج بحق في منازل الحقيقة المحمدية.

ولكي نتبين مقام الصدق في تحصيل التوحيد الأتم تزودنا الآيات والأخبار بما لا حصر لفضائله.. فالصدق أشرف الصفات التي على الموحد الأخذ بها لتصديق توحيده والمخاطبة الإلهية صريحة في هذا المقام:

«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» (2)

«اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3)

ص: 340


1- مؤيد الدين الجندي - شرح فصوص الحكم لابن عربي - صححه وعلّق عليه السيد جلال الدين الآشتياني - مكتب الإعلام الإسلامي - قم - الطبعة الثانية - 1423 - ص 708.
2- سورة الأحزاب - الآية 23
3- سورة التوبة - الآية 120.

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».(1)

«وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا».(2)

وقال الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم: «تقبَّلوا إلي بست أتقبل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا أئتمن فلا يخن، وغُضُّوا أبصاركم، وكفُّوا ،أيديكم واحفظوا فروجكم» وقال: «إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقاً» وقال: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، ولو تركه لاستوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»، وقالص لبعض أصحابه: «أنظروا إلى ما بلغ به علي علیه السلام عند رسول الله، فالزمه.. فإن علياً علیه السلام إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله بصدق الحديث وأداء الأمانة» (3).

والصدق - كما يبين العرفاء - على ثلاثة أركان بعضها من بعض صدق النية، وصدق اللسان وصدق العمل. وهذا التقسيم الثلاثي لمعنى الصدق مبعثه الإيمان الأعلى المسدد بالتخلّق . فأما صدق النية فهو أن يبديها القلب خوف عقاب، أو رجاء ثواب، ولا يريد الصادق بصدقة غير الله عزّ وجلّ. فإنها بذلك حاصل يقين لاشيَةَ فيه، بأن الحق يرى المضمرات ويعاين الضمائر المستترة وصدق اللسان، أن يطلقه إذا قام له شاهد من الحق، وكان التخلّف عن اللفظ وهناً في صدقه. وهذا أيضاً عين التخلّق لأن بوح الصادق ممسوك بالتقوى، فإنه لا يتلفظ بعبارة ما لم يكن على دراية بموافقتها نفس الشيء المصدّق له.

وأما صدق العمل التي فهو : الهجوم على ما عزم عليه بترك روح النفس، حتى يصير إلى ما عزم عليه من العمل، فيتمه بالحرص عليه، والانكماش، لا يقطعه عنه

ص: 341


1- سورة الحجرات - الآية 15.
2- سورة البقرة - الآية 177.
3- وردت هذه الأحاديث وسواها في أصول الكافي - باب الصدق وأداء الأمانة. وفي الوسائل كتاب الحج - باب وجوب الصدق، وفي (المستدرك) الجزء الثاني - ص 84 - 89 .

قاطع ولا يمنعه عنه مانع. وأصل صدق العمل عائد إلى فعلية التخلّق، حيث تصير الأخلاق الفاضلة بالنسبة لفاعلها ملكة راسخة في نفسه الفاضلة. ومتى صارت كذلك حتّت صاحبها على المجاهدة لبلوغ مقاصدها حتى لتزيده مشقة المجاهدة حرصاً على المضاعفة.(1)

ولمّا أن استوت مكارم الأخلاق على ما مرّ من أركان الصدق، فلا مناص لها لكي يترسخ استواؤها في نفس المتخلّق من اقتران العمل بالعلم فإن أصل الصدق العمل به فضلاً عن التعرف إليه أي تعرّف الصادق على مكرمة الصدق بما هي مظهر من مظاهر التوحيد. فإن أصل الصدق المعرفة. لأنك لا تصدق إلا من تعلم انه يراك ويسمعك، وهو قادر على عقوبتك، وعلمك أنه لا ينجيك منه إلا الصدق له. فوقع حينئذ الصدق .ضرورة. فالمعرفة أصل الصدق والصدق أصل لسائر أعمال البر ، وعلى قدر قوة الصدق يزداد العبد في أعمال البر. ومن قلة المعرفة بقدر الصدق ومنافعه ومواريثه وضعف اليقين. فإذا ضَعُفَ اليقين وَهْن الصدق، وقلت الرغبة ، فلم يحتمل مؤن الصدق لما غيب عنه من عذوبته، وقد قال تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ» (2)فضمن لهم الخير بالصدق .(3)

ومن أجل هذا، القول : إن الصدق متى كان ثمرة التخلّق المتصل بالإيمان الأعلى، صار لصاحبه مقاماً، وحصيد هذا المقام الإخلاص، والإخلاص نظير القرب ونظير القرب مقام العبدانية، وهو مقام الأنبياء والأوصياء والأولياء المقربين. وعلى هذا المقام استوى الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله وسلم فكان له من الرب شهادة العبد إنك لعلى خلق عظيم، فقد نال النبي الأكرم لعظمة خلقه أعلى مراتب الدنو من الحضرة المقدسة. «وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى»«ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى»«فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى»«فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى»«مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» .(4)

ص: 342


1- كتاب الوصايا أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي - تعليق وتحقيق عبد القادر أحمد عطا - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1986 - ص 255.
2- سورة محمد - الآية 21.
3- كتاب الوصضايا - المصدر نفسه ص 256
4- سورة النجم - الآيات 7-8-9-10-11.

3 - مكارم الأخلاق من النبي الخاتم إلى الولي الخاتم

ومن مكارم الله تعالى على العالمين إن خصّهم بالنبي الخاتم وورثته من الأوصياء والأئمة والعلماء الربانيين. وذلك لكي يبين لهم الحجة البالغة التي بها يدركون سعادتهم الدنيوية وخلاصهم الأخروي. والحجة البالغة هي المقصد الأعلى للنبوة الخاتمة التي قال النبي الأكرم فيها بأنها تمام مكارم الأخلاق. ولئن كانت الحقيقة المحمدية هي الترجمة الإلهية للتطابق بين سنة التكوين وسنة التشريع فتمام مكارم الأخلاق إنما هو حاصل هذا التطابق المفضي إلى وحدة الغيب والشهادة. وتحقق هذه الوحدة، قيام الأوصياء والأولياء بعد ختم النبوة بمهمة استكمال رسالة الوحي في التاريخ البشري وإعمار الأرض على نصاب القسط والعدل. فالسعادة التامة الخالصة - كما يبين الحكماء هي مهمة يتولاه أهل القرب من الحضرة الإلهية. وهؤلاء هم الذين جمعوا صراط التكوين إلى صراط التشريع، فكانت لهم مكارم الأخلاق نقطة الجمع والالتقاء لينجز الله بوساطتهم سعادة الدارين. ولما كان الصراط التكويني هو الهندسة الإلهية الكلية لنظام الكون، وهو النظام الحافظ للوجود والمحيط بكل شيء، فإن الصراط التشريعي هو الوحي الذي تنزل على قلب النبي وظهر في قوله وعمله، لينتظم حياة الإنسان ويبين له الحدود الفاصلة بين الخير والشر، وبين الجميل والقبيح. ولأن الصراطين يعودان إلى أصل واحد، هو وحي إلى نبيه الخاتم فقد تجلى هذا الأصل بالختم والفتح معاً. فهو ختم للنبوّة الظاهرة. وفتح للنبوة الباطنة وهو الولاية الحافظة لأمر الله ووحيه وسنّة نبيه، وهي المتممة من بعده مكارم الأخلاق التي بعث من أجلها.

يجمع العلماء الربانيون على أن الولاية تظهير مستأنف لباطن النبوة. وبهذا التظهير تكتمل الهندسة المعرفية التي تترجم الحضور الإلهي في الزمن البشري. ولئن كان الاستئناف دالاً على حركة بعد توقف لغة واصطلاحاً ، فهو في جدلية العلاقة بين النبوة والولاية يتخذ معناه الخاص ليشير إلى التواصل الذي ما انفك برهة عن الفعل. فَمَثلُ هذا التواصل كَمَثل حركة في الجوهر تنتظر من يدفعها إلى الظهور لتقوم بمهمة

ص: 343

توصيل معارف الوحي ومقاصد الشريعة إلى الأفهام على امتداد الأزمنة المتعاقبة. ولما ذهب الأئمة علیهم السلام هل هو أكابر العرفاء إلى التأسيس على هذه الحقيقة، كانوا على يقين لا شبهة فيه من أن حقيقة الإيمان بالتوحيد يعادل الإقرار بالولاية، وأن التوحيد والولاية أمران لا ينفصلان، وأن الولاية هي الدليل على تجلي الأسماء والصفات والأفعال الإلهية في كل طور من أطوار التوحيد.

تبعاً لما ذكر تكون الولاية عنصراً ذاتياً من عناصر ختم النبوة. فالولي هو خليفة النبي، ومبين الشريعة من بعده ، وهو الذي يتولى صيرورة الدين الخاتم بعد ارتحال نبيه إلى غاياته ومقاصده. بل إنه يؤكد بتبنيه لأحكام الدين، استمرار الصلة بعالم الغيب في عهد انقضاء النبوة. ولأجل ذلك تحظى الوراثة النبوية التي للولي والوصي بدور حلقة الوصل بين الحق والخلق.

والتأسيس الرحماني للولاية، حاضر بالمجمل في الخطاب الإلهي : «إنما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (1)وفي التفسير أن الولاية هي لله بالأصالة، وللرسول وللمؤمنين بالتبع. فيكون التقدير كما في التفسير : «إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» . ليكون في الكلام أصل وتبع. ولا يخفى على المتأمل أن المآل واحد».(2)

ولما كانت الولاية واحدة ذات مراتب وفقاً لمبدأ التراتب الطولي القرآني، فلسوف تكتسب منازلها المتعددة صفة الأصالة المفاضة عليها من لدن الولي الأعظم تعالى .

وتبعاً للإخبار الإلهي في ما جاءت به آية الولاية سنكون أمام هرم وجودي يتوقف على فهمه وإدراك معانيه عرفان جميل صنع الله ولطفه بخلقه.

من هذا النحو تتمظهر منازل الولاية على ثلاث مراتب وجودية هي ولاية الله - ولاية النبي - ولاية الولي.

ص: 344


1- سورة المائدة - الآية 54.
2- الألوسي - روح المعاني - الجزء السادس - ص 149.

المرتبة الأولى: ولاية الله: وهي الولاية الحقيقية المطلقة، وتكون بالأصالة للولي الواحد الأحد على العالمين وفي القرآن المجيد من الآيات ما يشير إلى الأصالة الإلهية لولاية الله وأن الله تعالى سمّى ذاته المقدسة بالولي لأنه المهيمن بأسمائه وصفاته على كل شيء كما في قوله تعالى: «مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمه أَحَدًا» . (1)

وقوله: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ»(2). فالولاية له تعالى خاصة على الناس أجمعين، وهو الذي يعين للناس من يتولى أمورهم.

المرتبة الثانية: ولاية النبي: وهي من الله أي أنها امتداد لولايته تعالى ومن أمره. ولأن ولايته تعالى محيطة بكل شيء، ومدبّرة لنظام الخلق، وبسُنَنِها تنتظم هندسة الكون، فولاية النبي صلی الله علیه و آله وسلم المستمدة من الرحمانية هي - بهذه الصفة الاستمدادية - ولاية للعالمين. ولكونها كذلك، فهي ظهور لمشيئة الله وإرادته في عالم الإنسان: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ».(3) فهي إذن رسالة لجميع الناس وولاية الرسول حاكمة على العالمين، ومظهرةٌ للدين القيم. كما في قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا».(4)

المرتبة الثالثة: ولاية الولي: وهي متصلة بالولايتين الأولى والثانية، وبها تتجلى الحقيقة المحمدية في عالمي الغيب والواقع ، ومن خلالها يكشف الحق عن عنايته بشؤون الخلق. فإن أولياءه هم المكلفون بالمعاينة والمتابعة وحفظ الكتاب. وولاية الولي مصرّح عنها في القرآن الكريم بوجود شاهد على المسلمين يتلو رسول الله: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّه وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ».(5)

ومعنى «يتلوه» أي يخلفه، ومعنى خلافته له هو قيامه مقامه في كل شيء ما خلا

ص: 345


1- سورة الكهف - الآية 26
2- سورة الشورى - الآية 9.
3- سورة الأنبياء - الآية 107.
4- سورة سبأ - الآية 28.
5- سورة هود - الآية 17.

النبوة التي ختمت به صلی الله علیه و آله وسلم. ولقد عين الله سبحانه هذا الشاهد بالإشارة والوصف فوصفه تارة بأنه من رسول الله كما في الآية. ووصفه تارة أخرى، بأن عنده – أي الولي - علم الكتاب كما في الآية: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب» .(1) وبهذا التقدير الإلهي سنجد كيف يحدد القرآن الكريم الإطار المعرفي لحركة الإنسان في التاريخ. وهو ما تظهره الآية:

«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَکِیمٌ» .(2)

وإذا كانت المعرفة البشرية قد وضعت فهم التاريخ وحركته ضمن جدالية الحرية والضرورة، فقد انطوت الآيات على قوانين مقدّرة في إطار السنن الإلهية الكلية التي لا تقبل التبديل والتحويل.

من أجل ذلك لاحظنا كيف أن الآيات تختزن المقاصد الإلهية في البيان والبرهان والتعليم والتنبيه والتبشير والإنذار. وهذه المراتب كلها على الجملة تجتمع في المقصد الأعلى الذي هو الهداية بمكارم الأخلاق وبهذا نستطيع فهم مندرجات التدخل الإلهي في تاريخ الخلق وهو تدخل يقوم على الدعوة إلى إدراك الواقع بما هو واقع، مثلما يقوم على الحثّ الإلهي نحو تغيير هذا الواقع.

وقد يكون الوجه الأكثر دلالة على التدخل الإلهي هو الاعتناء والتدبير واللطف. فالدعوة الإلهية إلى التغيير التاريخي غير مقصورة على توفير عامل القوة لدرء الفساد في الأرض، وإنما أساساً على دعوة الإنسان إلى إجراء مراجعة أخلاقية معرفية في عالم المفاهيم والأفكار والثقافة التي يحملها كما في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (3). وما ذاك إلا لأن النقلة الحضارية من دائرة الفساد إلى فضاء العمران لا تبلغ غايتها من دون سياق تفكيري وسلوكي وأخلاقي يناسب

ص: 346


1- سورة الرعد - الآية 43
2- سورة النساء - الآية 26
3- سورة الرعد - الآية 11.

ما قصدته الآية الكريمة: «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرُكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(1). كما لو أن ثمة تقابلاً شرطياً بين الانتصار لله والانتصار للخلق(2) .

ولما كان الأمر كذلك فإن مقتضى هذا التقابل الشرطي يكون في تحصيل التناسب بين إرادة الفاعل واستعداد القابل وما ذاك أيضاً إلا لأن التناسب والقيام على الصراط هو الذي ينجز العروة الوثقى بين الرب والعبد. فلو تعقل العبد قانون الزمن الذي هو فيه، وعمل وفقاً لأحكام الشريعة المقدسة، وكان من المتقين، لقابله الشارع الأعظم بالاستجابة وسدد أعماله وأيده بالنصر.

4 - التجلي الوراثي لمكارم الأخلاق

تجد مكارم الأخلاق النبوية امتدادها التواصلي في بيانات الأئمة المعصومين وصحابتهم الكرام من الأولياء والعرفاء. فلو دخلنا إلى رحاب نهج البلاغة على سبيل التأصيل والتمثيل، سنتبين التظهير الأسمى لمكارم الأخلاق.

فإنك لو أصغت السمع والنظر إلى الخطبة العلوية لألفَيْتَ المكارم على تمامها. كما لو كنت وسط جلال الكلمات كذاك الساري في بحر لجيّ، أو في نهر لا منتهى لمجراه. ثم لما أن غدوت من النهج على القرب لفاض عليك من كل باب مكرمة، وكلما توسعت في الطلب والمسعى تفتحت أبواب لا حصر لها من مكارم التخلق النبوي الساري بلا انقطاع من النبي الخاتم إلى الإمام الخاتم علیه السلام .

في خطاب الإمام إلى واليه على مصر مالك الأشتر المصداق على رفعة التخلّق وسموه في معاملة الغير، وسيكون لنا منه الدليل المبين على واحدة من أظهر إشراقات مكارم الأخلاق ولقد قصدنا بها أطروحة النظير بوصفها الدرجة العليا في نظر الإنسان الكامل إلى عالم الكثرة البشرية . يقول الإمام علیه السلام:

ص: 347


1- سورة محمد - الآية 7
2- محمود حيدر - الفقيه الأعلى - واحدية الشرع والكشف في مهمة الولي الخاتم - بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي المنعقد في الجزائر تحت عنوان «ختم الولاية» بتاريخ 16-12-2013

.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، واللطف بهم ، ولا تكن عليهم سبعاً ضاربا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه .(1)

مؤدى الخطاب إلى أن الإمام المتكلم بالحق، والمبين لحقيقة الوحي في الاجتماع البشري، يجعل من النظير قطب الرحى الدال على أصالة الإنسان في الوجود. مثلما يشير إلى أن الأخ المتحيّز في الشريعة المقدسة هو عضو في الأخوة الكونية العائدة إلى النشأة الأولى. وما ذاك إلا لأن وريث النبي الأعظم سيقيم التخلّق على نصاب التناسب الوجودي بين أمر الله في نظام الخلق وما ينبغي أن ينتظم فيه الاختلاف بين الناس.

والنظير في مقالة الإمام هو تظهير للخطاب الإلهي في تكريم الإنسان: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (2). والتكريم هو أعلى مراتب الفعل الإلهي في عالم الخلق. فالإنسان، هو صاحب النفس المحترمة، والكائن المستخلف في الأرض، وهو صلة الوصل بين الشهادة والغيب، وهو الحضور الأصيل الذي يتحرك تحت إشراف الحق الأول وعنايته وتأسيساً على المنزلة التي حظي بها الإنسان من خالقه تعالى تكتمل المكرمة العلوية في الوصل الوطيد بين ثلاثة أضلع حق الله كحق قيومي يفيض على الموجودات ويعتني بها وحق الأخ في الدين، وحق النظير في الخلق. وأما حاصل هذا الوصل فهو بلوغ التخلّق درجته القصوى، بحيث لا يعود الإقرار بحق الغير منّة من المقرّ به، وإنما هو من حق الله الفائض على الكل. وذلك عين الحقانية التي تفترضها مكارم الأخلاق التي بعث النبي الأكرم ليتممها في مسيرة الحضارة التوحيدية.

وتبعاً لهذه المنزلة، سنرى أن أسمى صفات الإمام في توحيد الله،هي صفة العبدانية . أي عبادة اليقين وهي عبادة خالصة تامة. حيث يصل العابد بالعبدانية إلى

ص: 348


1- نهج البلاغة - الرسالة 53 - جمع العلامة الشريف الرضي - تحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي - مؤسسة نهج البلاغة طهران - الطبعة الأولى 1372 ه - ص 366 .
2- سورة الإسراء - الآية 70.

مقام التصديق الكامل، وهو مقام الحمد لذات الله حيث الحمد مقصور على الله لأنه الله. وهو غير مرتبط بعطاياه ومنحه ورزقه، ووعده الموحدين بالنعيم الأبدي. وإنما لأنه الحق الأحد الصمد وهذه المرتبة من اليقين التام لا تُدرك إلا من مقام القائل : «إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك». وبهذا فإن أقرب تعبير قدمه الإمام لمقام الحمد، هو شعيرة السجود، لكونها الشعيرة الدالّة على الإقرار التام بالصمدية وتسبيحها.

من «عبدانية الحمد لذات الله»، يشرع الإمام في السفر إلى الناس بالمكارم. ومن فضاء الحمد يمضي إلى حل إشكال التدافع بين الإنسان والإنسان عالم الكثرة.

وهكذا سيكون لمسار التخلّق المتبصر بالعبدانية أن يترسخ عبر حركة تسري في جوهر العلاقة التي لا تنفصم بين الحق والخلق. أما ميدان هذا السَرَيان فهو في الحيّز الذي يشهد فيه الحق على الخلق. فسيكون على الإمام وسط هذا العالم، أن يدل ويبين ويعلّم ويقيم الوزن بالقسط بين الناس تبعاً لتقريرات الحق الأول في الشريعة المقدسة.

لقد وضّح الإمام خط السير في دنيا الخلق بعناية الحق بادئاً من نفسه. وما جاء في وصيته لابنه الحسن علیه السلام يظهر الدرجة القصوى من التخلّق الإلهي في ما ينبغي أن يكون عليه التصرف في عالم الناس : «يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك. فأحبب لغيرك ما تُحِبُّ لنفسك، واكره له ما تكره لها. ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يُحسن إليك. واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وان قل ما تعلم، بل ولا تقل كل ما علمت مما لا تحب أن يقال لك ولا تسأل عما لا يكون. ... واعلم يا بني أن رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس. ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بد من معاشرته، حتى يجعل الله إلى الخلاص منه سبيلاً، فاني وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعايشون ملء مكيال ثلثاه استحسان وثلثه تغافل».(1)

ص: 349


1- نهج البلاغة - باب الرسائل - الرسالة (31) كتبها الإمام إلى ابنه الحسن (ع) بحاضرين منصرفاً من صفين - تحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي - مؤسسة نهج البلاغة - 1413ه، طهران - ص 335 .

5 - تمام التخلّق الرجوع إلى المبدأ

منتهى معراج المتخلّق الواصل في رحلة التكليف لإصلاح عالم الكثرة، هو العودة إلى المبدأ. وما دام كل أمر متعلق بتوحيده تعالى فلا مناص من الرجوع إليه في كل شأن متعلق بتدبير الاجتماع الإنساني. وهو ما يبينه الموحدون في قولهم: «إن النهايات هي الرجوع إلى البدايات». وهذا القول يترجم أصل الميل والعشق لكل مخلوق للرجوع إلى أصله ومبدئه. وبعبارة أخرى هو اصل عودة كل غريب إلى وطنه. ويعتقد الأولياء أن هذا الميل إلى المبدأ يشمل كل ذرات الوجود ومنها الإنسان، ومهمة التكليف الإلهي تظهير هذا الاعتقاد من خلال الإرادة والعزم على أداء المهمة والإرادة عند الأولياء تعد أول منازل السير إلى الله عبر إصلاح شؤون الخلق. فلا فصل بين عبادة الحمد والتنزيه لله الواحد الأحد الصمد، وبين فعلية العبادة في الاجتماع الإنساني حيث تتمظهر أسماء الله وصفاته وأفعاله كشواهد وموازين في أعمال الناس وتجاربهم. وعلى هذا يجد السالك إلى الحق بمكارم الأخلاق، انه أمام مقتضيين، ينبغي له الأخذ بهما وهو يمضي في مسار التكليف:

- المقتضى الأول هو الخطاب الإلهي، وقوامه أن يعلم أن الحق يخاطبه في كل شيء، وان هذه المخاطبة مستمرة باستمرار حياته وان نص هذا الخطاب أن حفظَ رسوماً في الصحف المطهرة، فمعانيه مودعة في نفس المكلف وفي الأكوان من حوله «سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين انه الحق»(1) وان يعلم هذه الأكوان ما قامت ولا استقامت إلا بهذه المعاني الإلهية التي على المكلف واجب طلبها، والتعرف عليها والتقرب بها إلى حضرة الله.

- المقتضى الثاني هو الرؤية والمراقبة، ومؤداهما أن يعلم المكلف أن الله يراه رؤية لا تنقطع. وان هذه الرؤية، أن جاءته بالرضى عن أفعاله سعد سعادة لا يشقى ،بعدها، وان جاءته بالسخط شقى شقاوة لا يسعد بعدها، وبذلك فهو مطالب بأن يراقب نفسه ويراقب الله في كل أفعاله.

ص: 350


1- سورة فصلت - الآية 53.

ومن هذين المقتضيين الإجماليين، تتفرع ثلاثة مقتضيات تفصيلية تفترضها شروط العمل في ميادين التجربة التاريخية وهي «الاشتغال بالله» و «التعامل مع الغير» و «التفاعل مع الأشياء أو مع سائر الموجودات»..

- في المقتضى الفرعي الأول يدرك المكلف انه مخلوق للاشتغال بالله وان الاشتغال بغيره ينبغي أن يذكره بالله دائماً وأبداً. فما يعقل المكلف شيئاً إلا ويجعله هذا الشيء يعقل أمر ربه فيه.

- في المقتضى الفرعي الثاني، أي التعامل مع الغير، فان المكلف يأتي أعمالاً لصالحه يبنيها على اعتقاداته مُقراً لغيره في ذات الوقت بحق الإتيان بمثل هذه الأعمال الصالحة، وبحق توجيهها بما عنده من اعتقادات كما يرتب المكلف هذه الأعمال جميعاً بحسب ما يقتضيه الصالح العام.

أما الثالث فهو مقتضى التفاعل مع الأشياء. ففيه يتجه المكلف إلى الموجودات من حوله قصد إرضاء حاجاته المشروعة، وحفظ حياته المادية، فيفعل فيها ويتصرف بها بحسب هذه الأهداف، كما تفعل فيه هذه الموجودات هي الأخرى، وتؤثر فيه بما يوافق هذه الأهداف أو يعارضها فتقوم بينهما علاقات الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير .(1)

بذلك تدخل مكارم الأخلاق دخولاً بيناً في صميم هذه المقتضيات، سواء ما تعلق منها بالمستوى الإجمالي لجهة صلة المكلف بالحق الأول، أو ما يتعلق منها بالمستوى التفصيلي لجهة صلة المكلف بمنعطفات وتعقيدات وشواغل الاجتماع البشري.

يكون تمام مكارم الأخلاق إذن بالتوحيد الخالص، ولذا فلا مناص لبلوغ التوحيد الحق من اتباع الأدب الخالص مع الله تعالى. فلو عرفنا أن أصل العبادة حسن التأدب، وختامها حسن التخلّق، سوف نهتدي إلى التعرف على مسار النبوات والعلل الإلهية التي حكمت اصطفاء النبيين.. فلما أن تحقق النبي الخاتم بالأدب التام الخالص

ص: 351


1- طه عبد الرحمن - العمل الديني وتجديد العقل - المركز الثقافي العربي - بيروت - 1997 ص 130

بلغ سدرة المنتهى وكان من العرش قاب قوسين أو أدنى. فعلم نفسه وحقيقة نبوته بتأديب المولى الأعلى فكان لقوله صلی الله علیه و آله وسلم «أدبني ربي فأحسن تأديبي».(1) وإذن، فبمكارم الأخلاق التي بعث بها النبي، وبها ختم تاريخ الأنبياء والرسل، فتح السبيل لمعرفة الله تعالى، وكان محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم ومعه آله وأوصياءه مثالاً للإنسان الكامل المتحقق بجميع النعوت الإلهية الكمالية. فقد منَّ الله على النبي الخاتم ب__«بسم الله الرحمن الرحيم» التي تحوي جوامع الكلم ، ومكارم الأخلاق معاً من أجل ذلك قال صلی الله علیه و آله وسلم« إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» لأن مكارم الأخلاق محصورة في الحقيقة الإنسانية الجامعة. وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها أهل الحق بالحقيقة المحمدية، حيث تكون جميع النشآت الوجودية ظهورات لهذه الحقيقة ويكون العالم صورة حقيقتها الجامعة. ومن ثم فإن جميع المظاهر من العقل الأول والروح الأعظم إلى الهيولي الأولى، إنما هي رقائق لهذه الحقيقة، وبهذه الجامعية استحقت الخلافة. ولما كانت للإنسان الكامل الظاهر في كل شيء، ظهورات وتدليات وتجليات في كل شيء كان أول ظهوره في العقل الأول ، ولذا قال صلی الله علیه و آله وسلم: «أول ما خلق الله نوري» وتلك إشارة منه إلى أن العقل حسنة من حسناته ومكرمه من مكرمات الله عليه. وبالجملة فإن هذا الإنسان يسري في جميع الموجودات، ولذا قال علي علیه السلام : «أنا القلم وأنا اللوح» وقال في موضع آخر: «كنت مع الأنبياء سراً ومع محمد جهراً» وأما سر معيته مع الأنبياء سراً ومع محمد جهراً- كما يقول صاحب الحكمة المتعالية فيعود إلى أن جميع الأنبياء كانوا من مظاهر ،وجوده وكانت ولايتهم من شعوب ولايته وفروعه، وهو الظاهر في وجودهم، والظاهر مستور في المظهر، وإن كانت نفسه الزكية من مظاهر ولاية خاتم الأنبياء .(2)

ولأن الحقيقة المحمدية هي نفس النبي مذ كان آدم بين الماء والطين كما في الحديث الشريف، فإنها متجلية في الأنفس المتسلسلة من آله وأوصيائه الذين بهم تدوم الحقيقة المحمدية بمكارمها الجامعة، ثم ليفيض الله تعالى على العالم

ص: 352


1- حديث شريف متفق عليه.
2- صدر الدين الشيرازي - المظاهر الإلهية - تحقيق جلال الدين الأشتياني مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي - قم 1419ه - ص 86.

بواسطتها على العالمين بالرحمانية والرحيمية معاً.

من هاتين الرحمتين تسري مكارم الأخلاق على الفرد والجماعات مثلما تسري على الأمم والحضارات المتعاقبة. وما في القرآن الكريم من البينات بصدد الاختلاف والتنوع وتكثر طرق معرفة الحق من خلال الأديان رسالات الوحي، ما يفضي إلى بيان سلسلة الوجود وصولاً إلى المصدر الأول والحق الأول. بحيث يغدو التكثر عين الحقيقة الواحدة في الأصل الإنساني، ذلك أن الاختلاف في الألوان والأعراق والألسن والثقافات والأديان هي من آيات الله وسُنَنه في الخلق. ولذلك كانت مكارم الأخلاق التامة غاية النبوة الخاتمة، وخاتمة الولاية المحمدية المطلقة في العالمين.

ص: 353

نظرية الأخلاق العرفانية

بقلم محمد فنائي إشكوري(1)

تعريب حسن علي مطر

الخلاصة

إن الأخلاق والعرفان مطلوبان متعاليان للإنسان. ومن هنا فإن التأمل في النسبة بين العرفان والأخلاق تحظى بأهمية من قبل الباحثين في الشأن العرفاني، والباحثين في الشأن الأخلاقي على السواء. بيد أن بعضهم قال بعدم تناغم العرفان مع الأخلاق وهناك من ذهب إلى اعتباره فوق الأخلاق إن عزلة العرفاء واستغراقهم في الذكر والمراقبة والنزعة الانطوائية، قد أدّت ببعضهم إلى تصوّر أن الأخلاق وحبّ الآخر قد خفّ بريقه في حياة العرفاء. ومن ناحية أخرى لا يمكن التخلي عن الأخلاق، كما لا يمكن تجاهل العرفان بل المطلوب هو الجمع بينهما. إن هذه المقالة تهدف إلى دفع شبهة عدم التناغم بين الأخلاق والعرفان وبيان نظرية عرفانية حول منشأ الأخلاق من طريق التدبّر في التعاليم العرفانية. إن لبّ الكلام في نظرية الأخلاق العرفانية هي أن الحبّ ينبثق عن الإدراك العرفاني لله، ومنشأ الأخلاق وحبّ الآخر .

الكلمات المفتاحية: العرفان الأخلاق نظرية الأخلاق العرفانية، الحبّ الإلهي، حبّ الذات، حبّ الآخر.

المقدمة: العرفان والأخلاق والنسبة بينهما

لا شك في أن الأخلاق من أهم عناصر الحياة الاجتماعية للإنسان، حيث لا يمكنه أن يتنصل عنها. ومن ناحية أخرى فقد تعلق بعض الأشخاص بالعرفان. هذا

ص: 354


1- أستاذ مساعد وعضو مجموعة الفلسفة في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي. www.fanaei.ir

وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الحياة الأخلاقية للإنسان وكماله، كما أن غاية العرفان تتلخص في كمال الإنسان. ومن هنا يحظى البحث بشأن النسبة القائمة بين العرفان والأخلاق على أهمية وضرورة قصوى بالنسبة إلى عشاق الأخلاق من العرفاء، وعشاق العرفان من الأخلاقيين، ولا يمكن لأي منهما تجاهل أهمية وضرورة هذا البحث. إن السؤال الرئيس في هذه الدراسة، يقول: هل يمكن لنا أن نستنبط نظرية أخلاقية من العرفان؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا أن نجيب عن سؤالين فرعيين بيد أنهما مهمان وهما :أولاً: هل العرفان منسجم مع الأخلاق؟ فإن جانباً هاماً وأساسياً من الأخلاق - في الحد الأدنى - يتمثل في حب حب الآخرين وإرادة الخير والصلاح لهم ورعاية حقوقهم إن الذي يعاني ضعفاً من الناحية الأخلاقية، يتصف بالأنانية والنرجسية وحبّ الذات، ولا يسعى إلا إلى تحصيل مصلحته ومنفعته الشخصية، ولا يبدي أي اهتمام بمصالح الآخرين. وهناك من تصوّر أن الحياة العرفانية لا تنسجم مع هذا البعد الأساسي في الأخلاق والسؤال الآخر : لماذا تحدث بعضهم عن العرفان ما فوق الأخلاقي؟ إن هذه الدراسة تسعى إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وتروم طرح نظرية عرفانية بشأن الأخلاق

وفيما يتعلق ب__ العرفان نكتفي ببيان هذا المقدار، وهو أن مرادنا من العرفان هو المعرفة الشهودية لله، والأمور القدسية أو باطن الوجود الحاصل من طريق السير والسلوك وتهذيب النفس في طريق العبودية لله إن العرفان المنشود في هذا البحث هو العرفان الديني، ولا سيّما العرفان الإسلامي الأصيل الناظر إلى المساحة الباطنية من الدين.

أما مرادنا من الأخلاق هنا، فهو الأخلاق الحسنة التي يتحلى صاحبها بالفضائل الباطنية والأفعال الخارجية الممدوحة، ويكون طاهر الذيل من الرذائل الباطنية والأفعال الخارجية القبيحة. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر ينطوي على مراتب سواء في ناحيته الإيجابية أو في ناحيته السلبية. إن جوهر الأخلاق ملكة نفسية، إلا أن ظهورها يتجلى في الفعل والترك الاختياري. وفي هذا البحث يتم التأكيد على تلك

ص: 355

الناحية الأخلاقية القائمة على حبّ الآخرين. وإن أحد أركان الأخلاق - في الحدّ الأدنى - هو النزعة إلى احترام الآخر .(1)

انسجام العرفان والأخلاق أو عدم انسجامهما

هل العرفان والحياة العرفانية تنسجم مع الأخلاق ؟ إنما يتم طرح هذا السؤال من حيث احتواء العرفان على عناصر يدعى بعضهم أنها لا تنسجم مع حبّ الآخرين، كما يكشف لنا التاريخ عن شخصيات عرفانية قل اهتمامها بالآخرين في حياتهم.

إن ضعف أخلاق المعاشرة وعدم الاهتمام بحبّ الآخرين تضرب بجذورها في عقيدة خاطئة تنسب إلى بعض العرفاء. إن توهّم التنافي وعدم الانسجام بين المادة والمعنى، وبين الجسم والروح وبين الدنيا والآخرة وبين الخالق والمخلوق، قد دفع بعضهم إلى عدم الاهتمام بالحاجة المادية للآخرين ومد يد العون لهم. كما أن أصحاب المذهب الجبري الذين يرون أن الوضع القائم لا يقبل التغيير، لا يبذلون جهداً من أجل تحسين الواقع المرير. كما أن الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم العرفانية من قبيل: التوكل والرضا والتسليم، أدى ببعضهم إلى عدم الاعتقاد والاهتمام بسعي الفرد في تغيير الوضع القائم.

إن عد العزلة من ضروريات السلوك العرفاني، واعتبار الدخول في حلقة المجتمع منشأ جميع المفاسد، لا ينسجم مع حبّ الآخرين. إن العرفان في هذه الرؤية يتعلق بالنسبة إلى الخاصة الذين لا يؤدي اعتزالهم عن الحياة الاجتماعية إلى الإضرار أو الإخلال بنظم المعاش. يرى هؤلاء أن على العارف أن يتخلى عن الحياة العادية والاختلاط بالخلق؛ وذلك لأن الاهتمام بالخلق يحول دون الاهتمام بالحق، وإن العرفان الذي يمتد على طول الوقت خير من العرفان لبعض الوقت. يقول بول تيليخ(2): إن البحث عن الاتحاد مع الله قد شغل العرفاء عن الالتفات إلى آلام الناس ومعاناتهم.(3)

ص: 356


1- Other-regarding.
2- Paul Tillich
3- Tillich, 1957: p. 100.

لا شك في أن هذا الفهم والتفسير للتعاليم العرفانية سيجعل من الصعب الجمع بين العرفان والأخلاق . طبقاً لهذه الرؤية الخاطئة، يتم التنظيم لخطة سلوكية غير صائبة. بيد أن الفهم الخاطئ للعرفان شيء، والعرفان نفسه شيء آخر. فلا الجبر هو الذي يحكم أعمال الإنسان، ولا التوكل والتسليم والرضا يتنافى مع العمل والسعي وبذل الجهد، ولا العرفان يقتضي العزلة واجتناب الخلق والعباد ليس هناك في الدين والعرفان الإسلامي أي تضاد بين عالم المادة والعوالم الأخرى ، وإنما الكلام في أن العالم لا ينحصر بعالم المادّة فقط. ليس هناك تضاد بين الدنيا والآخرة أيضاً، إنما الكلام في أن الحياة لا تقتصر على هذه الحياة الدنيا. كما أنه ليس هناك تضاد بين الروح والجسم، وإنما التأكيد ينصب على أن الإنسان ليس مجرد جسم، وأن الروح والجسم بعدان لحقيقة واحدة. كما أن مفاهيم من قبيل: التوكل والتسليم والرضا لا تتنافى مع التدبير والسعي والعمل، وإنما لبّ الكلام هو أنه مع التدبير والسعي والعمل من الضروري أن تكون هناك رؤية توحيدية وعناصر روحية خاصة للكمال الإنساني.

هل يمكن من خلال دراسة السيرة الذاتية للعرفاء أن نستنتج بأن العرفان لا ينسجم مع الأخلاق وحبّ الآخرين؟ لا بد من الاعتراف - بطبيعة الحال - بأن كثير من العرفاء على اختلاف مناهجهم لم يكونوا يعبؤون بالخلق والعباد، ولم يكن للاهتمام بالآخرين محل من الإعراب في حياتهم. فقد انشغلوا بأنفسهم وانهمكوا بالسير والسلوك الباطني. إن أهم هاجس يشغلهم هو الاهتمام بأحوالهم الباطنية، ولا يفكرون بسوى الأذكار والأوراد والمراقبة في العزلة والوحدة، وفي ذلك ما يشغلهم عن الاهتمام بآلام الآخرين وما يعانونه. إن دور العاطفة الإنسانية في إيصال الخير والخدمة إلى الآخرين لا يُنكر. وإن هذا النوع من العرفان يضعف العاطفة والرحمة الإنسانية. ويبدو أن الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي قد أشار إلى هذا النمط من الصوفيين في بيته القائل:

بشمینه بوش تند خو از عشق نشنیدست بو از مستیش رمزي بگو تا ترك هشياري کند.(1)

ص: 357


1- ومضمونه بالعربية: (إن الصوفي النزق لا يعرف أبجدية الحب، ولا بدّ له أن يستفيق من سكرته).

ولكن علينا أن نعلم أولاً : أن هذا الأمر لا يمكن تعميمه. فإن كثيرا من العرفاء كانوا طلائع في خدمة الخلق . بل هناك منهم من كان من الزعماء السياسيين، ومنهم من كان في مقدمة المقارعين للظلم والفساد والطغيان. وثانياً: أن هذا النمط من الفكر والحياة ليس من لوازم العرفان ، بل هو - كما تقدم أن ذكرنا - نتاج سوء فهم وتفسير خاطئ للتعاليم العرفانية.

يتحدّث الإنجيل عن شقيقتين اسمهما مارسا ،وماري، وكانت مارسا كادحة وعاملة مجتهدة، في حين كانت ماري من العابدات والمتنسكات. وقد احتدم الجدل في العرفان المسيحي على الدوام حول أفضلية أي من هاتين الشقيقتين على الأخرى؟ فهل العمل أكثر قيمة من الزهد والمراقبة والسلوك الباطني، أم العكس هو الصحيح(1)(2)؟ هناك من فضل مارسا على ماري، وهناك من فضل ماري على مارسا، وهناك من ذهب بحق إلى تفضيل الجمع بين الأمرين ؛ فلا يكون العرفان على حساب الأخلاق، ولا الأخلاق على حساب العرفان، فقال بعدم التنافي بين العمل والمراقبة. بيد أننا نشهد في أغلب الجماعات العرفانية ترجيحاً لكفة الزهد والعبادة على العمل وخدمة الخلق، سواء في ذلك العرفان الشرقي أو العرفان المسيحي، بل حتى في بعض الجماعات الصوفية. ومن هنا لا بد من الفصل بين حقيقة العرفان وبين تاريخ العرفان.

إن الأخلاق في الأساس لا يمكن تصوّرها بمعزل عن حبّ الآخرين. فإذا لم نقل إن جميع الفضائل والرذائل الباطنية، فلا أقل من أن أغلبها لا يتجلى معناه إلا في ظل الارتباط مع الآخرين. فإن فضائل من قبيل الصدق وأداء الأمانة والإحسان للآخرين وحسن الظن ،والعفو، ورذائل من قبيل: الكذب والغيبة والتهمة والحسد وسوء الظن والتكبر، إنما يتجلى معناها في إطار الارتباط بالآخرين وإقامة العلاقات معهم. ومن ناحية أخرى فإن التحلي بهذه الفضائل ودفع تلك الرذائل تعد من أوليات السلوك العرفاني. ومن جهة أخرى فإن هوى النفس أو الأنا وحبّ الذات أكبر مانع يحول دون حبّ الآخرين، وإن محور السلوك العرفاني يكمن في التغلب على هوى النفس.

ص: 358


1- ?Action or contemplation
2- Horne 1983: p. 4.

وعليه كيف يمكن القول بأن العرفان لا يعتني بالأخلاق؟! نعم، هناك - كما أسلفنا - بعض العرفاء الذين اختاروا العزلة والانطواء على أنفسهم، وابتعدوا عن الخلق بشكل كامل، بيد أن هذا التوجه مرفوض من وجهة نظر الإسلام، وقد ردّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هذا النهج بصريح العبارة وبليغها حيث قال : لا رهبانية في الإسلام .(1)

وفي الحقيقة فإن العرفان الصحيح لا يمكن تصوّره بمعزل عن الأخلاق، وإن الأخلاق جزء ضروري ولازم ذاتي للعرفان الحقيقي. وليس هناك من شك في هذا الأمر من وجهة نظر العرفان الإسلامي. فالإسلام يرى أن العرفان هو البعد الباطني من الدين وليس منفصلاً عنه، كما أن الأخلاق من الأجزاء الرئيسة في الدين الإسلامي الحنيف. وإن خدمة العباد تمثل جزءاً ضرورياً من السلوك العرفاني من وجهة نظر الإسلام وإن السلوك العرفاني يشتمل على الأخلاقيات والعبادات والمعاملات. فقد ورد في آيات كثيرة وضع خدمة الخلق رديفاً للعبادة، وفي كثير من الآيات هناك وضع للزكاة والإنفاق في موازاة الصلاة. فمن أركان التديّن والتقوى إقامة الصلاة وأداء الزكاة، وفي ذلك يقول الله تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»(2) ، وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: من من سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه، فليس بمسلم.(3)

لقد كانت حياة النبي الأكرم ص والإمام علي علیه السلام - اللذين يتأسى بهما العرفاء ويهتدون بهديهما - وسيرتهما في حبّ الناس وخدمة الخلق مذهلة للغاية. وقد كان تقديم العون للخلق والاهتمام بشؤون الأيتام والمساكين جزءاً لا يتجزأ من حياتهم. لقد كان الإمام علي ع يقضي شطراً من الليل بالعبادة والتهجد والتضرع إلى المعبود، ويقضي شطره الآخر بحمل الطعام سرّاً إلى بيوت الأيتام والفقراء، وقد بلغ اهتمامه بحقوق الناس حداً أنه عندما سمع بجندي من معسكر الأعداء اعتدى على جارية يهودية في بقعة نائية من رقعة حكمه، وسلبها قرطها ،وخلخالها، غضب غضباً شديداً،

ص: 359


1- انظر: فنائي إشكوري، 1391 ه- ش، ص 176 - 186.
2- البقرة: 3
3- الطوسي، 1376: ج 6، ص 175.

وسارع إلى اعتلاء المنبر، وبكى بكاءً ظن معه الناس أنه قد ثكل بأبنائه، ثم قال في تلك الخطبة كلمته المعروفة : فلو أن امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً(1) . وكان فيما يتعلق برعاية العدالة من الاحتياط والحذر حتى قال في بعض خطبه والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت.(2) وحتى عندما تولى مقاليد الحكم وزمام الدولة وجلس على سنام السلطة والقدرة، كان يواسي الفقراء والمساكين في المأكل والملبس وسائر الشؤون المادية، ويقول : ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع(3). هكذا ينبغي أن يكون المعلم والمقتدى في العرفان الإسلامي. وفي مثل هذه المدرسة لا معنى لعدم الانسجام بين العرفان والأخلاق.

في الأبحاث العرفانية الجديدة لدى الغرب، يتم التأكيد على التجربة العرفانية، أما في العرفان الإسلامي فالتأكيد الأكبر يكون على تنمية الأخلاق والنتائج الأخلاقية. ولا بد من رؤية ثمار وآثار العرفان في الأخلاق. وإن التجارب العرفانية والكرامات من الأمور الشخصية. وفي الحقيقة فإن الأخلاق هي التي تصحح التي تصحح العلاقات الإنسانية، وتنطوي على فائدة ونفع للمجتمع البشري.

العرفان فوق الأخلاق

هناك من ادعى بأن العرفان فوق الأخلاق، وأن العارف يحلق إلى ما بعد مساحة الأخلاق. ولذلك فإنه لا يكون محكوماً بالأحكام الأخلاقية. إن أسس الأخلاق تقوم على الفصل بين الحسن والقبيح، في حين أن أهم صفة في الاتجاه العرفاني تكمن في التغلب على الحدود وإزالة الفوارق والاختلافات (4). يقولون : إن المطلق

ص: 360


1- نهج البلاغة الخطبة رقم : 270
2- المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 215.
3- المصدر أعلاه الكتاب رقم: 44
4- Proudfoot, 1967 : p. 7.

غير التعينات وفوقها إن الاختلافات الحاصلة بفعل التعين لا تكون في المطلق. ومن هنا فإن الله لا يندرج في واحد من التقسيمات الموجودة في العالم. فلا هو هذه مادي، ولا هو مجرّد، ولا هو وجود ولا هو عدم، وإنما هو فوق جميع هذه الأسماء والتقسيمات وإن وضع الله في ضمن أي واحد من هذه التقسيمات يُعدّ تحديداً له. إنه فوق التضاد وفوق ،التناقض، ومن هنا فإنه يفوق الحسن والقبح ولا يكون مشمولاً للأحكام الأخلاقية. ومن ناحية أخرى فإن العارف يتحد مع الله، ومن فإنه يخرج بدوره عن دائرة أحكام الممكنات والمخلوقات، ويكون مشمولاً لأحكام المطلق، ويذهب إلى ما بعد المتضادات والمتناقضات والحسنات والقبائح. يقول رینولد نيبور : يسعى العرفاء إلى الحلول وراء تركيبات ومنظومات العالم(1). ويصرح دانتو(2)بأن الوعي الكوني والوحدوي لا ينسجم مع الأخلاق.

إن هذا التصوّر إنما هو نتيجة للخلط والمغالطة. صحيح أن الله لا متناه، وإن أحكام المتناهي لا تجري عليه. وبعبارة أخرى: لا ينبغي البحث عن أحكام الخلق في الخالق، فهو فوق الزمان والمكان ولا يمكن تصور الأبعاد الهندسية في حقه. وحيث لا يكون الله متناهياً، فإنه سيكون فوق التعارضات التي نشاهدها في الكائنات المتناهية. وإن الأضداد التي لا يمكن رفعها في المخلوق المادي، يمكن رفعها فيه. إنه لا أبيض ولا أسود ولا خفيف ولا ثقيل، ولا شرقي ولا غربي، ولا سماوي ولا أرضي، وإن الأوصاف التي لا يمكن أن تجتمع في المخلوق يمكن أن تجتمع فيه. فهو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وهو البعيد وهو القريب، وهو داخل الأشياء كما هو خارجها. أجل، إن الله فوق التقسيمات الموجودة في المخلوق بما هو مخلوق. بيد أن الله ليس بخارج عن التقسيمات التي تحصل بالنسبة إلى الوجود بما هو وجود. ففي تقسيم الوجود إلى خارجي وذهني ، وبالفعل وبالقوة، والعلة والمعلول، والواجب والممكن، يتصف الله بأنه وجود خارجي بالفعل، وأنه علة، وأنه واجب. إن الله ليس فوق التناقض، وتستحيل عليه أحكام التناقض. ومن هنا فإنه ليس فوق الوجود والعدم،

ص: 361


1- Niebuhr, 1956: p. 17
2- Danto, 1976: p. 41.

إلا إذا كان المراد من الوجود والعدم معنى آخر. إنه وجود محض والوجود ليس عدماً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأحكام الأخلاقية : إن الله ليس فوق الحسن والقبيح، بل هو الحسن المطلق الذي لا يتطرّق إليه القبح أبداً. إن الله كائن أخلاقي، فهو عادل وصادق و رحيم، بل هو أرحم الراحمين، وجواد وغفار، ولا يتطرّق إليه الظلم والكذب والبخل والحسد وما إلى ذلك من الرذائل الأخرى.

إن الحق تعالى فوق بعض المتضادات، ولكنه ليس فوق المتناقضات، وهو فوق تقسيمات المخلوفات، ولكنه ليس فوق تقسيمات الوجود والسرّ في ذلك أن الكون في أحد أطراف الشق الأول يستوجب المحدودية، في حين أن الكون في أحد أطراف الشق الثاني لا يستوجب المحدودية. إن الكون فوق الأطراف في القسم الأول ممكن، بيد أن الكون فوق الأطراف في القسم الثاني محال.

ومن جهة أخرى فإن العبد لا يخرج عن كونه عبداً أبداً، وإن العارف لا يغدو إلهاً. إنه ينشد القرب من الله، وليس التحول إلى إله. وحتى عرفان وحدة الوجود الإسلامي لا يدعي اتحاد العبد مع الله. فالعرفان يعتبر الخلق مظهراً وشأنا من شؤون ومظاهر الله. وإن المظهر والشأن وإن لم يكن له وجود مستقل عن الظاهر وذي الشأن، إلا أن هناك تمايزاً بينهما ، ببيان أن الشأن ليس هو ذات ذي الشأن، ولا تجري عليه أحكامه. وإذا كانت هناك بين الظاهر والمظهر والشأن وذي الشأن نوع من الوحدة، فإن هذه الوحدة ليست وحدة بحتة، بل هي وحدة في عين الكثرة والاختلاف.

أجل إن القول بأن العرفان فوق الأخلاق المادية والعلمانية والعرفية يعني أن الأخلاق العرفانية أسمى وأفضل وأعمق وأكمل، لا أنها فوق الأخلاق(1).

نظرية الأخلاق العرفانية

بعد الفراغ من إثبات عدم التنافي بين العرفان والأخلاق، والقول بأن الأخلاق وحبّ الآخرين جزء ضروري من العرفان يطرح هذا السؤال نفسه: هل ينطوي

ص: 362


1- انظر : فنائي إشكوري، 1390ه- ش، ص 130.

العرفان في حد ذاته على نظرية أخلاقية؟ وهل يمكن لنا أن نستخرج نظرية أخلاقية من العرفان؟ إذا كان الجواب موجباً، فما هي النظرية الأخلاقية العرفانية؟ وبعبارة أخرى إن السؤال :يقول ما هو منشأ الأخلاق الناظرة بشكل رئيس إلى إيصال النفع إلى الآخر أو الآخرين ؟ فحيث يكون حبّ الذات متأصلاً في الإنسان، كيف يمكن للإنسان أن يفكر في مصالح الآخرين؟ لا يدور البحث هنا عن الأخلاق العرفانية أو دور العرفان في الأخلاق البشرية - إذ إن الأول بحث أخلاقي وعرفاني، والثاني بحث تاريخي واجتماعي - بل البحث في ماهية جذور القيم الأخلاقية ؟ وهذا البحث مرتبط بفلسفة الأخلاق والسؤال هنا يقول هل يمكن الحديث عن نظرية عرفانية بشأن الأخلاق، إلى جانب النظريات الأخرى حول منشأ الأخلاق؟

رؤية ولتر ستيس(1)

يذهب ولتر ستيس إلى الاعتقاد بأن هناك - من وجهة النظر العرفانية - إدراكاً عرفانياً في جذور القيم الأخلاقية. وإن ذروة الوعي العرفاني تكمن في إدراك الوحدة اللا متميّزة. في هذا الإدراك يتم رفع الشرخ القائم بين النفس الجزئية وروح العالم وتزول الفردية وتضمحل في الروح الكلية. وفي الواقع فإن الأنا الحقيقية لكل فرد، لا تكمن في النفوس الجزئية، بل في النفس الكلية التي تضمحل فيها جميع النفوس. وإن الذي يميّز النفوس الجزئية من بعضها هي الأحوال والخواطر العارضة. إن العارف السالك يسعى من خلال النظرة الاستبطانية إلى إزالة هذه الأحوال والخواطر من صقع ضميره، والحصول على النفس البسيطة. والنفس البسيطة في جميع الوجود لیست سوى حقيقة واحدة وإن الحصول على النفس البسيطة الكلية يعني زوال النفوس الجزئية المتكثرة. وبعبارة أخرى إن التعينات - التي تمثل الحدود الفردية - تضمحل في المطلق. وفي مثل هذه الحالة لن يكون هناك فصل بين الأنا والآخرين، إذ هناك أنا واحدة من دون أن يكون هناك في البين أنت أو هو. وفي هذه الحال

ص: 363


1- ولتر ستيس (1886 :Walter T. Stace - 1967 م): حائز على شهادة التخرج في الفلسفة من كلية الثالوث (trinuty) .بدبلن. تولى منصب رئيس بلدية كولومبو سنة 1929م . حصل على شهادة (d.litt) من كلية الثالثوث بدبلن عام 1932م. عمل محاضراً في جامعة برينستون، ثم أستاذاً للفلسفة منذ عام 1935م.

عندما أحب ذاتي أكون محباً للجميع، لأن الجميع هم أنا، وليسوا منفصلين عني. وعلى هذا الأساس فإن أخلاق حبّ الآخرين تمتدّ بجذورها في الإدراك العرفاني وبموجب ذلك لا يكون الآخرون منفصلين عني. وعليه فإن ما أحبّه أنا لنفسي سوف أحبه للآخرين أيضاً(1).

نقد رؤية ولتر ستيس

إن هذه النظرية تقوم على أساس رؤية ولتر ستيس حول النفس الجزئية والكلية المقتبسة من بعض النحل في الديانة الهندوسية. بيد أن هذه الرؤية غير مقبولة. إذ لم يتم إثبات وجود حقيقة باسم النفس الكلية أو الروح العالمية بالمعنى المنشود ل- ولتر ستيس. كما أن النفوس الفردية ليست نتاج عروض الأحوال على النفس الكلية. إن كل نفس جزئية تمثل جوهراً تعرض عليه بعض الحالات. إن ملاك تشخيص واختلاف النفوس لا يكمن في هذه الحالات، بل إن أصل وجود وجوهر كل نفس يمتاز من أصل وجود وجوهر النفس الأخرى. طبقاً لمباني الفلسفة الإسلامية لا يقبل بزوال الفردية، كما أن الكثرة والفردية أمراً حقيقياً، وليس اعتبارياً. إن براهين تجرد النفس وبقاء النفس تدل على بقاء النفس الفردية. وعليه فإن تفسير وحدة الوجود الذي يفضي إلى زوال مطلق الكثرة والتفرّد غير مقبول. لا يلزم من ضرورة وحدة الوجود، زوال الفردية. كما أن مقام الفناء لا يعني زوال الفردية، بل المراد من الفناء هو أن الشخص في ذلك المقام لا يلتفت إلى ذاته، حيث يغيب في النظر إلى المحبوب. ومن الناحية الوجودية يدرك العارف أن وجوده ليس مستقلاً عن وجود الحق، وإنما هو مظهر وتجل لذلك الوجود، لا أنه ينعدم حتى لا يعود بالإمكان تمييزه. وبعد مقام المحو والفناء يأتي مقام الصحو والبقاء حيث يعود السالك إلى ذاته، بيد أن الذات هذه المرّة رغم كونها نفس الذات السابقة، إلا أنها لا تعود تشكل حجاباً ومانعاً دون الحق. إن قضية العبد بالقياس إلى الحق ليست قضية الوجود والعدم، وإنما هي قضية المرآة والحجاب. وإن المراد من السلوك - في واقع الأمر - ليس هو تحوّل

ص: 364


1- 81 .Stace, 1961: chap ستيس ، 1375 ه- ش الفصل الثامن

الوجود إلى عدم وإنما إزالة الحجاب وتحوّله إلى مرآة صافية. كما أن المراد من الوجود أو الكون في هذا السياق هو الأنانية وحب الذات، والمراد من العدم والفناء هو زوال الأنانية، وحصر النظر بالحق، وليس الوجود والعدم بمعناهما الفلسفي.

كما أن زوال الفردية مرفوضة في التعاليم الإسلامية. فإن التعاليم المرتبطة بالحياة بعد الموت ،والقيامة والجنة والنار، لا تنسجم مع زوال الفردية. فإن كل شخص سوف يكون في يوم القيامة مسؤولاً عن أعماله، بل إن كل شخص هو نتاج عمله، وفي ذلك يقول الله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ»(1) ، وقال أيضاً: «وَلاَ تَكْسبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فيه تَخْتَلَفُونَ».(2)

النسبة بين إدراك الذات والإيمان بالله

هل إدراك الذات يُعدّ منشأ للإيمان بالله، أم الإيمان بالله هو المنشأ لإدراك الذات؟ هناك من الحكماء والعرفاء الإسلاميين من ذهب إلى القول بأن الإيمان بالله متقدم على إدراك الذات، بل هو منشأ هذا الإدراك ذلك لأن المخلوق هو عين الارتباط بالخالق أو هو شأن من شؤونه ، ومن المحال إدراك الارتباط أو الشأن دون الإيمان والعلم بطرف الارتباط أو ذي الشأن. كما أن العلة وذا الشأن مقدّمان من الناحية الوجودية، ومن الناحية العلمية يتقدم العلم به على العلم بغيره أيضاً.

ولكن من المستبعد جداً أن يكون الشخص مدركاً وعارفاً بربه، ولكنه غير مدرك لنفسه وذاته. فإن إدراك الإنسان الحضوري لنفسه من ذاتيات وملاكات هويته وتشخصه .. وفي الحقيقة فإن قوام فردية الفرد يكمن في علمه الحضوري بذاته. وإن هذا الإدراك الذاتي غير قابل للزوال، بل يظل باقياً حتى في حالة الفناء. فالغائب في حالة الفناء هو الوعي والإدراك الحصولي .للذات. بيد أن الإدراك الحضوري للذات يشكل أرضية وشرطاً لجميع أنواع الوعي والإدراك، ومن دونه يستحيل إدراك الآخر،

ص: 365


1- الزلزلة : 7.
2- الأنعام: 164.

حتى إذا كان ذلك الغير والآخر هو العلة أو طرف الربط أو ذو الشأن. لا إشكال في أن يكون وجودنا مرتبطاً بالحق، بيد أن علمنا بالحق يكون متوقفاً على علمنا بذاتنا، بل لا يمكن لنا أن نتصور غير ذلك.

صحيح أن الله تعالى أعلم بنا من أنفسنا ومن هنا فإنه سبحانه يقول في محكم كتابه الكريم: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(1) ، ولكن هل يمكن القول: إننا أعلم بأنفسنا من الله ؟ وكذلك بالنظر إلى أن الله أقرب إلينا من أنفسنا، هل يصح القول بأننا أقرب إلى الله من أنفسنا ؟ يبدو أن الجواب هو كلا.

ليس الإدراك الحضوري للذات وحده هو المقدّم على كل إدراك - بما في ذلك إدراك الله - يبدو من ظاهر الآيات والروايات أن بعض الإدراكات الاكتسابية والحصولية تتقدّم على إدراك الله أيضاً، حيث يمثل هذا الإدراك الحصولي طريقاً إلى إدراك الله. فإن الإنسان في العادة يدرك وجود الله من خلال البراهين الآفاقية والأنفسية، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفُ برَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(2). وحتى لو اعتبرنا الشهيد هنا بمعنى المشهود مع ذلك لا يتنافى هذا المضمون مع كلامنا، ولا يمكن أن نستنتج منه تقدم إدراك الله على إدراكنا لأنفسنا، لأن مضمون العبارة لا يعدو القول بأن الله مشهود لكل ،شاهد، بيد أن الشرط في الشهادة من كل شاهد هو الإدراك الحضوري لذاته. هذا وأن المراد من التقدّم والتأخر هنا - بطبيعة الحال - ليس هو التقدم والتأخر الزمني بالضرورة، بل المراد هو التقدّم الرتبي.

إن الحديث المعروف من عرف نفسه فقد عرف ربه واضح الدلالة على ما ذكرناه . إذ إن المراد من معرفة النفس في هذا الحديث هو الإدراك الحصولي والثانوي للذات وليس الإدراك الحضوري الحاصل للجميع بالفعل إن هذا الحديث - وكثير من الأحاديث الأخرى - بصدد التشجيع على إدراك الذات، إذ يمثل هذا الإدراك مفتاحاً

ص: 366


1- الأنفال : 24
2- فصلت: 53

لفتح أقفال جميع العلوم والمعارف. ثم إن الإدراك الحضوري هو ضرب من تحصيل الحاصل، فلا يحتاج إلى ترغيب، بل هو لا يقبل الترغيب أصلاً.

وبطبيعة الحال لا بد لنا من هذه الإضافة وهي أن معرفة الله لدى الكاملين والسالكين الواصلين لا تقوم على معرفة الغير، فهم يقولون: ألغيرك من الظهور ما ليس لك ؟ !(1). بيد أن هذا لا ربط له بما نحن فيه، وعليه لا يمكن لنا أن نستنتج منه أننا لا نحتاج في معرفة الله حتى إلى الإدراك الحضوري بذواتنا. إن الإدراك الحضوري للذات لا يشكل طريقاً إلى معرفة الله وإنما هو شرط تحققه، سواء في ذلك معرفة الله الحاصلة من طريق الوسائط والآيات، أو معرفة الله الحاصلة من دون واسطة وبشكل مباشر.

النظرية المختارة

طبقاً لما تقدّم ذكره فإن الإدراك العرفاني لانحلال الفردية لا يمكنه أن يكون منشأ للقيم الأخلاقية. فهل يمكن العثور على مبنى آخر للقيم الأخلاقية في العرفان؟ يبدو أن نظرية الأخلاق العرفانية لا تتوقف على نظرية محو الذات وإنكار النفوس الجزئية والاعتقاد بالروح العالمية الواحدة والمطلقة.

هناك في نظرية الأخلاق الدينية والعرفانية ارتباط بين الأخلاق والتوحيد. فمن دون الله من المتعدّر جداً الحديث عن القيم الأخلاقية. بيد أن وجود الله كيف يكون منشأ لحبّ الآخرين؟ إن الله - طبقاً لتعريفه - هو الكامل والخير المطلق ومعدن الفضائل والصفات الكمالية والجلالية ومصدر القيم. وعليه فإن إدراك الله يعني إدراك الكمال والخير والجمال المطلق. إن هذا الإدراك أياً كان مستواه، سوف يستتبع حبّ الله بنفس المقدار. وإن أعلى درجات إدراك الله هو الإدراك الشهودي، إذ هي منشأ أسمى درجات حبّ الله. إن الإنسان في ذاته وفطرته ينجذب إلى الكمال ويعشق الجمال . وإن شهود الكامل والجميل المطلق لا يكون دون التعلق والشغف

ص: 367


1- الشيخ عباس القمي، 1384 ه- ش، دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة.

بذلك الكامل والجميل. إن هذا الحبّ الذي هو حبّ للجمال، يُعدّ منشأ للميل إلى فعل الحسنات.

ومن ناحية أخرى فإن الكون والإنسان من وجهة نظر العارف ما هي إلا مظاهر وشؤون الكامل والجميل المطلق فإن حبّ الحق يستلزم حبّ مظاهره وشؤونه. وعلى هذا الأساس فإن إدراك الله هو حبّ الله، وهذا الحبّ بدوره يستتبع الحبّ للخلق، وإن حبّ الله منشأ للميل إلى فعل الخيرات والحسنات. إن حبّ الله يخلق الحافز لدى المحب نحو التشبه بأخلاق الله المتصف بأسماء الجمال والجلال، وهذا يشكل منشأ للميل نحو اكتساب الفضائل، والابتعاد عن الرذائل، وأساساً للحسن والقبح الأخلاقي، والأمر والنهي الفقهي. إن حبّ الله بالأصالة يستلزم عبادته وأداء فروض الطاعة له، وإن مظاهره وتجلياته بالتبع يستلزم خدمة هذه المظاهر، وحمايتها والعمل على رعاية حقوقها.

إن الكمال والخير والجمال مطلوب لذاته، ولكن لا من حيث أنها تمثل وسائط للوصول إلى شيء آخر. وهذا الكلام لا يتنافى مع سعي الإنسان إلى طلب الكمال. لا شك في أن الإنسان يحب الكمال بطبيعته، ويطيب له أن يتمتع بقدر أكبر من اللذة والاستعلاء، بيد أن هذا الأمر لا يتنافى أبداً مع يتنافى أبداً مع حب الإنسان للجمال في نفسه .

وباختصار نحن نرى أن الحبّ المنبثق عن الإدراك العرفاني يمكنه أن يكون أساساً ومنشأ للنزعة الأخلاقية والميل إلى حبّ الآخر. إن الاختلاف بين هذه النظرية ورؤية ولتر ستيس جوهري. حيث يذهب ستيس إلى الاعتقاد بأن الإدراك العرفاني للوحدة بلا تمايز هو منشأ الأخلاق، وأما طبقاً لرؤيتنا فإن الحبّ القائم على معرفة الله العرفانية هيمنشأ الأخلاق.

يتضح مما ذكرنا أن الأخلاق وحبّ الآخرين لا يتوقف بالضرورة على وحدة الوجود، بل ينسجم أيضاً مع الاعتقاد بوجود الله وأن العالم مرتبط به وأنه فعله وآيته.

إذا اعتبرنا الحبّ القائم على المعرفة الشهودية لله منشأ للأخلاق، فما الذي ينبغي

ص: 368

قوله بشأن الأخلاق غير العرفانية التي لا تتمتع بمثل هذه المعرفة؟ كما تقدم أن ذكرنا فإن جانباً من معرفة الله - من وجهة نظر الإسلام - فطري، وإن الجميع بهذا الجانب الفطري وإن كانوا لا يشعرون بذلك. وبهذا المعنى يكون الميل إلى العرفان فطري وعام، بيد أن تطويره وتفعيله يحتاج إلى سير وسلوك. إن اعتبار فطرية الأخلاق وكذلك نظرية الأخلاق(1) الكانتية - التي تقوم بدورها على القول بحب الآخر - يمكن أن تكون ناشئة عن الحبّ الإلهي المودع في فطرة الإنسان. ومن الممكن أيضاً أن لا يرى شخص منشأ للأخلاق، ولكنه يقول - في الحدّ الأدنى - بقيام المراتب المتعالية من

الأخلاق على الحبّ الإلهي.

الأمر الآخر على هذا المبنى هو أن كل كائن يتمتع بهذا الإدراك والحبّ، ويكون في الوقت نفسه مختاراً، سيكون أخلاقياً. والحبّ فرع الإدراك. فحيث يكون هناك حبّ، يكون هناك إدراك سابق . وإذا كان الحبّ عاماً وسارياً، سيكون الإدراك عاماً .وسارياً. وعليه هل هناك تلازم بين الإدراك والحبّ من جهة وبين الاختيار من جهة أخرى؟ وبعبارة أخرى هل حيث يكون هناك إدراك وحبّ ، يكون هناك اختيار أيضاً؟ لا يوجد هناك برهان على هذا التلازم. فإذا عممنا هذا الوعي والإدراك والحبّ والاختيار على جميع الكائنات، فعندها ستكون جميع الكائنات - بما يتناسب ودرجة إدراكها وحبّها واختيارها - أخلاقية وأما إذا ضيّقنا دائرة الاختيار، فلن تكون أخلاقية سوى الكائنات التي تتمتع بالوعي والحب والاختيار.

ومن ثم فإن أشدّ وأكثر الموجودات ابتهاجاً هو الله المدرك لذاته، وفي ذلك يقول ابن سينا أجلّ مبتهج بشيء هو الأول بذاته؛ لأنه أشدّ الأشياء إدراكاً لأشدّ الأشياء كمالاً(2). فهو العلم والحبّ اللامتناهي، كما هو الكمال والخير المطلق والأخلاقي أيضاً. وبطبيعة الحال فإن الأخلاق الإلهية تتناسب مع وجوده المطلق واللامتناهي. وهناك كلام في التعاليم والنصوص الدينية بشأن أخلاق الله، ومن ذلك الحديث

ص: 369


1- Deontology
2- ابن سنا، الإشارات والتنبيهات النمط الثامن، ص 350

القائل: تخلقوا بأخلاق الله(1) ، وبذلك تكون الأخلاق الإنسانية شعاعاً محدوداً عن الأخلاق الإلهية. وإن الكثير من الأسماء والصفات الإلهية تعكس صفة أخلاقية من صفات الله.

لا خلاف في العلم والاختيار الإلهي، ولا شك في حبّه أيضاً، فقد تحدّث الله تعالى في القرآن الكريم عن الحبّ في كثير من المواطن، ومن بينها قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ»(2) ، وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(3) . كما ورد في الحديث القدسي: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف (4).

وفي الأساس فإن أصل وحقيقة الحبّ ومنشأ كل حبّ هو الحب الإلهي. وإنه هو المحبّ الحقيقي، كما أنه هو المحبوب الحقيقي يا حبيب من لا حبيب له(5)، كما هو حبيب ورفيق وشفيق ومونس من لا أحد له يا أنيس من لا أنيس له.(6)

وكما أن وجود ورحمة ولطف الله ينقسم إلى عام وخاص، وكونه رحمنا ورحيما، فإن حبّه ينقسم بدوره إلى عام وخاص، وفي الأساس فإن رحمته متفرعة من حبّه. وإن حبه العام شامل ومستوعب لكل الوجود وأما حبّه الخاص فيخص الخاصة من محبّيه. كما أن لحب الخلق لله قسمين: حب عام وحب خاص. والحب العام هو الحب الذاتي والجبلي الذي يعمّ كل ما سوى الله. والحبّ الخاص هو حبّ خصوص المؤمنين لله، وهو حبّ اكتسابي يحصل بفضل المعرفة والعبودية. وإن قوله تعالى : «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (7)يشير إلى طرفي هذا الحبّ الخاص.

ص: 370


1- الشهيد الثاني 1377 ه- ش، ص 73.
2- المائدة : 54 .
3- آل عمران 134 و 148؛ المائدة: 93 . وانظر أيضاً: البقرة: 195؛ المائدة: 13
4- ابن أبي جمهور الأحسائي، 1405 ه، ص 55
5- الكفعمي، 1418ه، ص 407
6- المصدر أعلاه، ص 404.
7- المائدة: 54

إن العارف الحقيقي يعشق الله ويستسلم لإرادته، ويرضى بقضائه ورضاه. وإن إرادته ذائبة في إرادة الله وبعبارة أخرى: إن إرادته وإرادة الله تسيران على خط واحد. بل في الأساس ليس له إرادة غير إرادة الله إن اتحاد الإرادة هذه هي التي تجعل العارف يحبّ ما يحبّه الله. وعلى هذا الأساس لا يوجد هناك تعارض وتزاحم بين إرادة العارف وإرادة الله وأمره ونهيه، وإن حب الذات العرفاني يصب في ذات القيم الأخلاقية.

إن العشق الحقيقي يقضي على الرذائل ويستأصل سوء الخُلُق من الجذور. إن جذور الرذائل تعود إلى الأنا وتعارضها مع القيم وحبّ الآخرين. إن السلوك الأخلاقي يصبّ في مصلحة ومتعة الفاعل، ويؤدي عادة إلى الإضرار بالآخرين. فلو تم استبدال تلك الأنا بمحبّة الآخرين، فلن يبقى هناك متسع للسلوك غير الأخلاقي. إن الكذب والحسد والغيبة والتهمة وأي نوع من الإضرار وإلحاق الأذى بالغير إنما هو لأجل أن أحصل على مصلحة ومتعة حتى وإن أدى ذلك إلى تعرّض الآخرين إلى الضرر والأذى؛ إذ يقع التعارض والتزاحم أحياناً بين مصالح الأنا ومصالح الآخرين، وإن الشخص الأناني يرجّح كفّة مصالحه على كفّة مصالح الآخرين. فإذا أدرك أن كماله وسعادته الحقيقية لا تكمن في المتعة الأنانية التي تضرّ بالآخرين، بل إن المتعة والمنفعة الحقيقية إنما تكمن في تجاهل هوى النفس والسعي إلى ما فيه خير الآخرين وصلاحهم والعمل على طبق ما تقتضيه الأخلاق، فإن رغبته في الكمال سوف تدفعه نحو الأخلاق وحب الآخرين. وبعبارة أخرى ليس هناك تعارض أو تزاحم بين الخير الفردي والخير الجماعي أبداً، بل إنهما يجريان على خط واحد، وهناك تلازم بينهما.

تعود جذور النزاعات والخصومات إلى توهم التعارض بين حب الأنا وحب الآخرين. فما لم يتم حل هذا التعارض فلن تسود الأخلاق. وإن الطريق الوحيد لحل هذه المعضلة هو رفع هذا التعارض والتزاحم . ولا يتحقق ذلك إلا في ظل الاعتقاد بالله وفي إطار الدين والعرفان. إن حبّ الله وتبعاً له حب خلقه يضع حب الذات والقيم الأخلاقية في ضمن نطاق واحد. إن العارف يرى خيره وسعادته وكماله في القيم الأخلاقية. وعلى هذه الشاكلة تصبح الأنا المتعالية ملازمة لحب الخير، ولن

ص: 371

يكون هناك تعارض بينهما. إن الأنانية قصيرة النظر التي ترجّح المتعة العاجلة على السعادة الآجلة تتعارض مع إرادة الخير في النظرة الأخلاقية يُعدّ حسن الخلق منشأ للمنفعة والمتعة الحقيقية، كما يُعدّ سوء الخلق منشأ للأضرار والآلام.

بعبارة أخرى من خلال الحبّ الإلهي يتم اجتثاث جذور جميع أنواع الرذائل المتمثلة بحبّ الدنيا، وفي ذلك روي عن رسول الله أنه قال: حبّ الدنيا رأس كل خطيئة . إن القلب الذي يعمره حب الله لا يتسلل إليه حب الدنيا، وحيث لا يكون هناك مكان لحب الدنيا، لن يكون هناك دافع نحو الخطيئة.

إن أفضل طريق لتعزيز الأخلاق هو العمل على ترويج المحبة. فحتى في المراحل الاعتيادية وغير العرفانية يمكن لتقوية المحبة أن تشكل أرضية خصبة للالتزام بالقيم الأخلاقية. فلو تم تلقين الأطفال محبة الحيوانات فإن الأطفال عندها لن يقوموا بإيذائها وتعذيبها. وحيث يتم تأسيس الحب في روح الإنسان، سوف لن تقوم أرضية لمستنقع الرذائل، وسوف تزدهر روح الخدمة والإخلاص وحب الخير للآخرين الذي هو مقتضى الفطرة الإنسانية الطاهرة.

وحيثما كان هناك حبّ، لن يكون هناك مجرد أخلاق فحسب، بل سيكون هناك إيثار وتضحية أيضاً. إن الأم التي تضحي من أجل ولدها لا تخلو من حبّ الذات وطلب الكمال، بيد أن حبها لذاتها وسعيها وراء كمالها لا يتعارض مع حبها لولدها إلى حدّ التضحية بنفسها من أجله . وهذه هي معجزة الحبّ.

إن العشق ملازم للصدق والإخلاص وهو يعمل على اجتثاث جذور الرياء والتظاهر والنفاق إن الرياء والنفاق إنما يكون حيث لا تناسق بين الظاهر والباطن والنية والعمل. في العمل المرائي لا يكون الدافع إلى العمل هو حسنه الذاتي أو حباً للمخدوم، بل إن المرائي هنا يتظاهر بفعل الخير ليضمن غايات أنانية أو أهداف تقوم على الهوى. فهو يتظاهر بالحب من دون أن يمتلك ذرّة منه وهو يتظاهر بالتمسك بالقيم الأخلاقية في حين أنه ليس كذلك. أما المحبّ والعاشق

ص: 372

الحقيقي فيخدم المحبوب والمعشوق بكل وجوده ولا يهدف من وراء ذلك إلى شيء غير خدمته فقط.

إن المعصوم هو الذي بلغت معرفته ومحبته لله مرحلة الذروة، وإن إرادته تضمحل إرادة الله إن كمال معرفته ومحبته تستوجب أن لا يكون هناك أدنى تعارض بين إرادته ومرضاة الله وأن تكون رغبته متطابقة مع القيم الأخلاقية. ولذلك تكون إطاعته لله تامة، ويكون مستأصلاً لجذور العصيان والتمرد من وجوده.

إن العشق والحبّ يذلل الصعاب، ويجعل المرّ شهداً، ويقصر المسافات الطويلة، ويداوي العلل ويشفي الأمراض، ويجتث جذور سوء الخلق الكامن في الأنا وحب الذات. كما أن الشك والوهم والظن بدوره هو نقص وضعف وداء الروح، إلا أن العشق والحب يعالج هذه الأمراض أيضاً.

الحبّ السماوي والأهواء الأرضية

الكلام هنا يدور حول العشق الإلهي المقدّس، دون الأهواء الأرضية والشيطانية. إن صاحب الهوى أناني محبّ لذاته ولم يذق طعم الحبّ. إنه لا يفكر بغير متعته، وإن الآخر الذي يدعوه محبوباً له لا يريده إلا وسيلة لإشباع غرائزه وشهواته. إن صاحب الهوى يريد ضحيته لنفسه، أما العاشق الحقيقي فيريد نفسه لمحبوبه، وهو على استعداد للتضحية بنفسه من أجله . إن الهوى مؤقت ويزول بمجرد خمود الشهوة، أما العشق فيزداد استعاراً عند لقاء المعشوق . إن الهوى فصلي ومرحلي ولذلك فإنه يضعف بعد تعاقب الأيام والسنين، وأما الحب والعشق فلا شأن له بتقادم العمر والتغيرات البيولوجية والفسيولوجية والهرمونية، وإنما هو شعلة في الروح تزداد أواراً واستعاراً مع الأيام وبعبارة أخرى: إن الهوى مرتبط بالقوى الجسدية، وأما العشق المقدّس فهو روحاني، ولا ربط له بالمتغيرات الجسدية والجنسية. إن الهوى يتعلق بالأعراض والظواهر، وبتغيرها يتعرّض للزوال والاضمحلال، أما العشق والحبّ فيتعلّقان بذات وحقيقة المعشوق

ص: 373

وكما يجب التفكيك والفصل بين العشق والهوى يجب التمييز بين العشق الكلي والعشق الجزئي أيضاً. إن العشق الجزئي في هذا المصطلح هو في الحقيقة درجة من العشق، بيد أن متعلقه أمر جزئي. إن العشق الكلي هو عشق وحبّ الله، والعشق الجزئي هو حبّ غير الله والمظاهر. وإن العشق الجزئي محدود وغير ثابت، وإن متعلقه بدوره غير ثابت أيضاً ، وأما العشق والمعشوق الكلي فهو خالد وإن العشق الكلي أو عشق الكل يشتمل على عشق الجزء أيضاً، وأما العشق الجزئي فلا يشتمل على العشق الكلي، بل ربما شكل مانعاً منه وأسدل حجاباً دونه. وأما الذي يعشق الكل فإنه يعشق الجزء أيضاً.

والدين ليس سوى هذا الحب، وقد ورد في الحديث هل الدين غير الحب ؟ !.(1)إن الدين الأصيل والحقيقي هو حبّ الله وحب الخلق المستلزم للعبودية لله وخدمة الخلق . إن هذا الحب يتعلق بالجمال وهو وليد العقل، ووالد الإحسان

إن الهوى وحبّ غير الله منشؤه الابتعاد عن القيم. وإن حبّ الدنيا هو من سنخ الهوى. وإن حبّ الدنيا منشأ سوء الأخلاق والنزاعات والخلافات حول الأموال والجاه والشهوات. إن حبّ الدنيا - الذي يعني حب غير الله - يحول دون العشق الحقيقي. وإن الرياضة المشروعة في السلوك العرفاني إنما هي لمواجهة هذه الموانع والعمل على رفعها وإزالتها. وإن جهاد النفس - الذي يعرف ب- الجهاد الأكبر - هو جهاد ومحاربة الهوى والحبّ غير الإلهي. وعلى هذا الأساس فإن العارف في السلوك العرفاني لا يسعى وراء الانقطاع المحض ، ولا يسعى إلى الاتصال المحض وإنما كل مطلوبه ومراده هو الانقطاع عن الأغيار والاتصال بالملك الجبار. ومن هنا ورد في المناجاة الشعبانية: إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك.(2) لا بد من انقطاع يشكل مقدمة وشرطاً لازماً للاتصال، وليس كل انقطاع. وإنما يجب كسر ذلك التعلق الذي يحول دون الاتصال بالحق، وليس كل تعلّق. ولذلك فإن حبّ العالم، وحبّ الخلق، وحبّ الناس، وحبّ الأولاد، وحبّ الوطن، وحبّ الجمال في نفسه لا يحول

ص: 374


1- القمي، 1363 ه- ش، ج 1، ص 201.
2- الشيخ عباس القمي، 1384 ه- ش المناجاة الشعبانية.

دون الاتصال بالحق، ومن ثم لا يكون ممنوعاً أو محظوراً، بل لازم حبّ الله حبّ ما سواه. وإنما المذموم هو حب الدنيا الذي يكون في عرض حبّ الله.

في هذه الرؤية يكون حبّ الخلق والتعاطف مع الخلق ناشئاً من حبّ الله. إن العشق والحبّ العرفاني لا يتعلق بالخلق مباشرة، كما أنه ليس في عرض حبّ الله أو بديلاً عن حبّ الله. وفي القرآن الكريم لا يكون حبّ غير الله - الواقع في عرض حبّ الله أو بديلاً له - مقبولاً ، بل هو مرفوض، وذلك حيث يقول الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله» .(1)

إن حبّ غير الله الذي يمثل منافساً لحبّ الله هو الذي يعرف ب- حبّ الدنيا. يرى القرآن الكريم أن الأولاد والأزواج نعم إلهية، وإن الإنسان مسؤول عن الزوجة وعن الذرية، ويجب عليه أن يتكفل برعايتهم وصيانتهم والمحافظة عليهم، ولكنه مع ذلك يجب أن لا يكون حبه لهم في عرض حبّ الله، أو أن يقدم إرادتهم على إرادة الله، إذ لو حصل ذلك فإنه سيكون سبباً لعذابه وخسرانه ومن هنا يجب الحذر من ذلك، وفي هذا الخصوص نجد الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم: «وَاعْلَمُوا أَنمَّا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .(2)وفي الحقيقة فإن حبّ الدنيا ليس خالداً، ولن ينفع العبد شيئاً في الدار الباقية، قال تعالى: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».(3)

إن العشق الحقيقي عبارة عن تفان وتضحية. وإن الأموال والأزواج والأولاد نعم إلهية يجب أن نشكر الله عليها، بيد أنه إذا كان نوع الرؤية إلى هذه النعم ينطوي على شرك فإنها سوف تتحول إلى نقم، وتحوّل الهبات إلى عذاب واللطف إلى عنف، والهدايا إلى بلايا. إن الغاية من الهدية هي تمتين العلاقة بين المهدي والمهدى إليه. وعليه يجب أن تؤدي الهدية إلى أن يذكر العبد خالقه أكثر ، لا أن يتعلق بالهدية وينسى المُهدي.

ص: 375


1- البقرة: 165
2- الأنفال : 28.
3- الممتحنة .3

إن الأولاد والأموال وغيرهما من المواهب والنعم إذا أدت إلى الغفلة وحالت دون تواصل العلاقة بين الإنسان وخالقه، فإنها سوف تتحوّل إلى نقم، وفي ذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».(1)

ذكرنا أن أساس النزوع إلى الأخلاق يكمن في الحبّ الناشئ من معرفة الله. إن هذه الحبّ يمثل واحداً من روافد المعرفة الأخلاقية أيضاً، إلا أن للمعرفة الأخلاقية روافد أخرى يجب البحث عنها في موضع آخر. وسوف نكتفي هنا بالقول: إن أصول وكليات القيم الأخلاقية وإن كانت فطرية وبديهية، ليس لها من مصدر سوى الدين فقط، فهو وحده الذي يستطيع بيان وإيضاح تفصيلاتها وجزئياتها، ويرفع اختلاف الآراء فيها. ومن هنا فإن الأخلاق المنشودة هي الأخلاق الدينية التي يعمل العقل على تحديد حدودها من خلال الاستعانة بالوحي والعارف يرجع إلى الدين للحصول على المعرفة التفصيلية بوظائفه الأخلاقية.

إن الأخلاق العرفانية هي الأخلاق الدينية المتعالية. وإن العرفان الديني يمنح الأخلاق صبغة إلهية ومعنوية. وإن العارف يرى الطرف الأصلي في الأخلاق هو الله دون الخلق. وحتى عندما يقدّم خدمة متفانية وخالصة إلى الخلق، تكون غايته تحصيل مرضاة الله. ومع ارتقاء الدافع إلى العمل تصبح الأخلاق روحية ومتعالية. وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق الدينية والعرفانية لا تنافي ولا تعارض الأخلاق العرفية، وإنما هي تصحيح وتعميق وتكميل لها.

إن القول بأن الله مصدر القيم لا يتنافى مع الحُسن والقبح الذاتيين، بل هو ملازم لها . إن الله يتصف بالصفات الفاضلة الحقيقية، ويتنزّه عن الصفات القبيحة الواقعية. إن إرادته وأمره ونهيه تتطابق مع المصالح والمفاسد في واقع الأمر. ومن هنا فإن هذه النظرية لا صلة لها بالأشعرية، ولا ربط لها بنظرية الأمر الإلهي، حيث لا تقول بالحُسن والقبح الذاتي والمصالح والمفاسد في واقع الأمر ووراء الأمر والنهي الإلهي.

ص: 376


1- المنافقون: 9.

ومن هنا يمكن لنا أن نستنتج أن الأخلاق الدينية والعرفانية حيث تمتد بجذورها في الواقية، لا تكون وضعية أو نسبية. إن أصول القيم الأخلاقية كلية وثابتة وخالدة، رغم مرونتها في مقام التطبيق وتأقلمها مع الظروف. إن القيم ليست تابعة للمصالح العابرة، وإنما تمتد بجذورها في أعماق الوجود، ومنبثقة من مصدر إلهي، وتتجه نحو الغاية النهائية للخلق والكمال الحقيقي للإنسان.

وحيث يكون أساس الأخلاق هو حب الخير والجمال والكمال الحقيقي، يرتفع التعارض والتضاد بين المصالح. فما يكون صلاح وخير لكل فرد يكون صلاحاً وخيراً للجميع، أو هو الذي لا يتعارض - في الحد الأدنى - مع صلاح وخير الآخرين. إن الخير الفردي والخير الجماعي سوف لا يتعارضان ولا يتزاحمان، بل سيكونان في ضمن إطار واحد. إن الأخلاق سوف تحظى بقيمة ذاتية، ولكن لا لأجل المصالح المادية فقط؛ فالأسمى من المصالح المادية هو الكمال الإنساني التابع للأخلاق، سواء كان ناظراً أو محاسباً أو لم يكن كذلك

وعلى هذا الأساس لا يكون هناك تناف أو تعارض بين العرفان والأخلاق، بل ستكون الأخلاق جزءاً ضرورياً ومقوّماً للعرفان ولازماً ذاتياً له. إن الأخلاق العرفانية هي أخلاق حبّ. وإن العشق والحبّ يمثل حلقة الوصل بين المعرفة والعمل ، وإن العشق الناتج من المعرفة سينتج العمل. إن جذور شجرة الحب هي المعرفة ، وأغصانها الطاعة ، وثمارها الكمال والفلاح.

النتيجة

1 - إن العرفان لا ينسجم مع الأخلاق فحسب، بل إن الأخلاق جزء ضروري من أجزاء العرفان أيضاً. إن الأخلاق بمعزل عن العرفان ممكنة وقائمة، ولكنها ناقصة، وأما العرفان بمعزل عن الأخلاق فهو مستحيل. وإن الذي أدى إلى سوء الفهم وعدم التناغم هو الانحراف في العرفان وعدم فهم أو إساءة فهم التعاليم العرفانية، وليست حقيقة العرفان

ص: 377

2 - رغم حقيقة أن الله سبحانه وتعالى فوق الممكنات وأن العارف - من خلال ارتباطه واتصاله بالحق - يسعى إلى الانقطاع عن الدنيا، بيد أن تجاوز القيم الأخلاقية الملازمة للكمال الوجودي لا يمكن تصوّره، بل إن الأخلاق في العرفان تكتسب صبغة إلهية وتحصل على التعالي. وبعبارة أخرى إن العرفان ليس أسمى من الأخلاق، إنما العرفان يعبر عن الأخلاق الأسمى.

3 - إن حبّ الله المنبثق عن إدراك الله - طبقاً للرؤية العرفانية - منشأ للقيم الأخلاقية، ومن بينها حبّ الآخرين. إن المتعلق الحقيقي والأصيل هو حبّ الله، أما ثانياً وبالعرض فالعشق والحبّ يتعلق بالخلق . إن حبّ الحقيقة الإلهية المطلقة يمثل أساساً لعبادته، كما يمثل حبّ الخلق أساساً لخدمتهم إن هذا العشق والحبّ وما يليه من العبادة والخدمة يمهد الأرضية للكمال الإنساني. وبذلك يحصل هناك تناغم بين حبّ الذات والإيمان بالله والأخلاق، ويسير حب الذات والأنا وحب الآخرين والإيثار وتحصيل النفع والقيم جنباً إلى جنب في مسار واحد.

ص: 378

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - نهج البلاغة 1418ه-، تحقيق: صبحي الصالح، قم، هجرت .

3 - ابن سينا حسین بن عبد الله 1381 ه- ش الإشارات والتنبيهات، قم، بوستان کتاب .

1 - الأحسائي ابن أبي جمهور ، 1405ه-، عوالي اللآلئ العزيزية، قم، دار سيد الشهداء.

5 - استيس، والتر ،ترنس 1375 ه-، عرفان و فلسفه ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهاء الدين خرمشاهي طهران، سروش .

6 - الصدوق، محمد بن علي، 1367 ه- ش الأمالي، طهران، كتابجي.

7 - الطوسي، جعفر، 1376 ه- ش، تهذيب الأحكام، قم، دار الكتب الإسلامية.

8 - فنائي إشكوري، محمد، 1390ه- ش فلسفه عرفان عملي، فصلية علمية - بژوهشي إسراء، العدد: 9 خريف عام ؟، ص 107 - 134.

9 - فنائي إشكوري ، محمد، 1391ه- ش، شاخصه هاي عرفان ناب شيعي قم بوستان کتاب .

10 - القمي، الشيخ عباس، 1363 ه- ش، سفينة البحار، طهران، بلا اسم.

11 - القمي، الشيخ عباس 1384 ه- ش، مفاتیح الجنان، قم، آل أحمد.

12 - الكفعمي، إبراهيم، 1484 ه- البلد الأمين، بيروت، الأعلمي.

13 - مصباح الشريعة، 1400 ه-، المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، بيروت، الأعلمي.

14 -Danto, Arthur, 1976, "Ethical Theory and Mystical Experience: A Response to

Professors Proudfoot and Wainwrigt", Journal of Religious Ethics 4, Spring, p. 37 - 46.

ص: 379

15 - Horne, James R. 1983, The Moral Mystic, Waterloo: Wilfrid Laurier University Press.

16 - Nibuhr, Reinhold, 1956, “Intellectual Autobiography”, In Reinhold Niebuhr, His Religious, Social and Political Thought, Eds. C. W. Kegley, and R. W. Bretall New York, NY: Macmillan.

17 - Proudfoot, Wayne, 1976, "Mysticism, the Numinous, and the Moral", in Journal of Religious Ethics 4, 1, 328.

18 - Stace, Walter T., 1961, Mysticism and Philosophy, London: Macmillan Co.

19 - Tillich, Paul, 1957, Dynamics of Faith, New York, NY: Harper Row.

ص: 380

الصورة

ص: 381

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.