شرح الأصول من الحلقة الثانية المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

الناشر: المؤلّف

المطبعة: ثامن الحجج

الطبعة: 3

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 463

المكتبة الإسلامية

شرح الأصول

من الحلقة الثانية

تأليف: الشيخ محمد صنقور علي البحراني

الجزء الأول

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

المقدّمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأكمل موجوداته أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) .

إنّ من ألطاف اللّه جلّ وعلا أن وفقني لشرح الحلقة الثانية من حلقات السيّد الشهيد قدس سره والتي هي من أهمّ كتب الدراسات الحوزويّة ، والتي يتأهّل بها الطالب للدخول في مرحلة السطح الأعلى ، وأسأل اللّه تعالى أن يكون هدفي من كتابة هذا الشرح هو المساهمة في تيسير فهم هذا الكتاب على الطالب الكريم.

وقد بذلت جهدي في بيان مطالبه واتّخذت طريقة التقرير وسيلة لإيضاح مباحثه وعالجت موضوعاته بواسطة تصنيفه وتبويبه بطريقة رأيتها مناسبة ، وقد أكثرت فيه من الأمثلة والتطبيقات لغرض إيقاف الطالب الكريم على ثمرات هذه البحوث ، وقد جهدت أن لا أخرج عن

ص: 5

إطار المباحث التي عرضها السيّد الشهيد قدس سره في كتابه إلاّ في حالات يستدعي فيها البيان ذلك ، وقد احتفظت بالعناوين الرئيسيّة للكتاب تيسيرا للمراجعة.

أسأل اللّه تعالى أن يكون ما كتبته قربانا أتوسّل به لقضاء حاجتي وهي أن يجعل عاقبتي إلى خير ، ومنقلبي منقلبا محمودا عنده ، وأن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا وأن يحشرني في زمرة الأبرار من آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

والحمد لله ربّ العالمين

محمّد صنقور البحراني

قم المقدّسة

ص: 6

تمهيد

اشارة

تعريف علم الأصول

موضوع علم الأصول

فائدة علم الأصول

ص: 7

ص: 8

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين.

تعريف علم الأصول :

اشارة

عرّف المشهور علم الأصول « بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي » والمراد من هذا التعريف هو أنّ علم الأصول عبارة عن مجموعة من القواعد والضوابط الكلية التي تساهم في استخراج الحكم الشرعي من مصادره كالكتاب والسنّة.

فليس للفقيه أن يدخل إلى مصادر التشريع لاستنباط واستخراج الحكم الشرعي إلا عبر هذه الضوابط والقواعد التي تنقّح في علم الأصول فمثلا لو أراد الفقيه أن يستنبط حكم فعل من أفعال المكلّفين مثل ردّ التحية فهو يواجه أمامه نصا قرآنيا وهو قوله تعالى ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (1) ولا يمكن الحكم بالوجوب مثلا إلا أن ينقّح مسألتين أصوليّتين ، ألاولى : ظهور صيغة الأمر في الوجوب ، الثانية : حجيّة الظهور ، وهاتان المسألتان تبحثان في علم الأصول لغرض إثباتهما أو نفيهما فإذا تنقّح للفقيه ثبوتهما بالدليل القطعي يتشكّل عنده قياس منطقي مكوّن

ص: 9


1- النساء : 86

من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : في كل صيغة أمر فهي ظاهرة في الوجوب.

وأمّا الكبرى : فهي أن كل ظهور حجّة.

فينتج ظهور الأمر في الوجوب حجة ثم يشكل الفقيه قياسا آخر يجعل نتيجة القياس الأول كبرى للقياس الثاني ، ويجعل صغراه النص القرآني هكذا.

إن كلمة ( فَحَيُّوا ) في الآية الشريفة صيغة أمر.

وظهور الأمر في الوجوب حجّة.

فينتج وجوب رد التحيّة.

فنلاحظ أن نتيجة القياس الأول وهو « ظهور صيغة الأمر في الوجوب حجّة » - الذي استفدنا صغراه وكبراه من علم الأصول - قد وقع كبرى للقياس الثاني وجعلنا الصغرى النص القرآني فأنتج وجوب رد التحيّة.

وخلاصة الكلام أن الفقيه لا يتمكّن من استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها إلاّ عن طريق علم الأصول ، ينقح فيه مجموعة من القواعد تكون بمثابة الوسائل الآلية لمعرفة الأحكام الشرعية من مصادرها.

الإشكال على التعريف :

ثم إن المصنّف أورد على التعريف بإيراد حاصله : أن الغرض من التعريف هو بيان الضابطة التي تتميّز من خلالها المسألة الأصولية من غيرها والتعريف قد جعل عنوان القواعد الممهّدة هو المميّز للمسألة الأصولية من غيرها والحال أن صلاحية المسألة للتمهيد لاستنباط الحكم

ص: 10

الشرعي فرع بحثها في علم الأصول ، فأولا نبحثها ثم نعرف أنها تمهّد لاستنباط الحكم الشرعي أو لا ، وهذا يقتضي أن نبحث كل المسائل لنرى أيّها تمهّد وأيّها لا تمهّد ، وهذا غير مراد حتما إذن فثمّة ضابطة تحدّد أيّ المسائل تبحث في علم الأصول وأيّها لا تبحث ، وهذه الضابطة لا بدّ من بيانها في التعريف وهي غير التمهيد ، إذ أن التمهيد يقع في طول معرفة المسألة الأصولية التي تحدّد أيّها يمهّد وأيّها لا يمهّد للاستنباط.

وبعبارة أخرى : لا بد أن يكون التعريف مشتملا على الضابطة التي تحدّد ما هي المسائل الداخلة في علم الأصول والمسائل الخارجة ، وجعل الضابطة « هي الممهّدة » يقتضي ان تكون أصولية المسألة منوطة بتمهيدها للإستنباط في حين أنّ معرفة المسائل الممهّدة للاستنباط متوقّفة على علم الأصول ، فتحديد القواعد الممهّدة للاستنباط متأخر عن بحثها في علم الأصول فكيف تكون هي المحدّدة لمسائل علم الأصول.

ولذا عرّف علم الأصول بتعريف آخر غير مشتمل على وصف القواعد بالممهّدة حيث عرّف « بأنّه العلم بالقواعد التي تقع في طريق الاستنباط » فكل مسألة تكون طريقا ووسيلة للوصول إلى الحكم الشرعي فهي مسألة أصولية. فمثلا ظهور صيغة النهي في الحرمة تساعد على الوصول إلى بعض الأحكام الشرعية فهي إذن مسألة أصولية وهذا بخلاف قاعدة « إن الحديد يتمدّد بالحرارة » فإنّ هذه الكبرى الكلية لا تساهم في استنباط حكم فهي إذن ليست مسألة أصولية. وهذا التعريف لا يرد عليه ما أورد على التعريف الأول ، إذ أنه واف بالغرض ، حيث إن الغرض منه معرفة المسألة الأصولية من غيرها وقد تحقق ذلك بهذا التعريف ، إذ أنّه

ص: 11

قال إن المسألة الأصولية هي التي تساهم في استنباط الحكم الشرعي فيخرج ما سوى ذلك عن علم الأصول.

الإشكال على التعريف الثاني :

إلا أن المصنّف رحمه اللّه أورد على التعريف بما حاصله : أن هذا التعريف فاقد لبعض شرائط التعريف المذكورة في علم المنطق وهو المنع من دخول الأغيار ، فلا بدّ من كون التعريف مانعا من تداخل العلوم ، وهذا التعريف غير مشتمل على هذا الشرط حيث إنه يسمح لدخول كثير من مسائل اللغة مثلا في علم الأصول ، والحال أنها خارجة عنه قطعا ، فمثلا ظهور كلمة « الصعيد » في مطلق وجه الأرض يساهم في استنباط حكم شرعي وهو صحة التيمّم بمطلق وجه الأرض في حين أن معرفة المعنى اللغوي لكلمة الصعيد أو غيرها من موضوعات أو متعلقات الأحكام خارجة عن علم الأصول قطعا. فإذن التعريف يلزم منه دخول كثير من المسائل في علم الأصول وهي ليست منه.

التعريف على مختار المصنّف رحمه اللّه :

ثم إن المصنّف طرح تعريفا آخر لعلم الأصول وهو « العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط » وهذا التعريف يشترك مع التعريف الثاني في كون ضابطة المسألة الأصولية هي : ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، ولكن أضاف عليه المصنّف رحمه اللّه قيدا زائدا مضيّقا بذلك دائرة ما يبحث في علم الأصول ، فعلم الأصول وإن كان هو البحث عن المسائل التي تقع في طريق الاستنباط إلاّ أنّه ليس كل المسائل التي تساهم في الاستنباط ، بل هي المسائل التي يمكن الاستفادة منها في أكثر

ص: 12

أبواب الفقه حين إرادة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها ، فمثلا حجية خبر الثقة يمكن الاستفادة منها - إذا ثبتت - في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة وهذا بخلاف تحرير معنى كلمة الصعيد ، فإنه لا يستفاد منها إلا في معرفة حكم أو حكمين شرعيّين ، وهكذا مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة فإنّه يمكن الاستفادة منهما في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديّات ، ولذلك عبّر المصنّف عن مثل هذه المسائل : بالعناصر المشتركة ، حيث إنها مسائل سيّالة يحتاج إليها الفقيه لاستنباط كثير من الأحكام الشرعيّة في كثير من الأبواب الفقهيّة.

وأمّا العناصر المختصّة مثل معنى كلمة « الصعيد » أو معنى كلمة « الكر » وإن كانت نافعة في استنباط حكم شرعي إلا أنها لا تساهم إلا في استنباط حكم أو حكمين ، إذن فكل مسألة تساهم في استنباط حكم شرعي فهي مسألة أصولية ولكن بشرط أن تكون مسألة سيّالة مطّردة صالحة لأن يستفاد منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة.

قوله رحمه اللّه : « إبداء الضابط الموضوعي » ، أي لا بدّ أن يكون التعريف محدّدا للموضوع الذي يكون جامعا لمسائل العلم ، وموجبا لتمييز المسائل الداخلة في هذا العلم عن المسائل الخارجة عنه ، وإلاّ لم يتحقّق الغرض من التعريف ، والذي هو تشخيص العلم المعرّف وتحديده بحيث تعرف به مسائل العلم المعرّف عن مسائل العلوم الأخرى.

موضوع علم الأصول :

اشارة

تعارف أهل كل فنّ أن يصدّروا بحثهم عن ذلك الفن ببيان تعريفه

ص: 13

وموضوعه وفائدته ، وهذا ما يعبّر عنه بالمبادئ التصوريّة للعلم والتي تعطي تصورا عن معنى العلم وما هي حدوده المانعة عن تداخله مع العلوم الأخرى وما هو الغرض منه والفائدة المترتّبة عليه.

وقبل بيان موضوع علم الأصول لا بدّ من بيان مقدّمة ، وهي :

إن الموضوع عند أهل المنطق هو الشيء الذي يحكم عليه بحكم ، فالموضوع عند المناطقة هو المسند إليه عند أهل البلاغة ، فعندما نقول « إن زيدا عالم » فزيد الذي أسند إليه العالمية هو الموضوع الذي حكم عليه بحكم وهو « عالم ». وبعد بيان ذلك نقول إن موضوع كل علم عبارة عن العنوان الجامع لموضوعات مسائل ذلك العلم.

والمراد من مسائل كل علم هي القضايا الحمليّة التي يتصدّى ذلك العلم لبيانها والاستدلال عليها. إذن العلم مجموعة من المسائل والقضايا الحمليّة يكون القاسم المشترك بين هذه المسائل هو كون موضوعاتها ترجع إلى عنوان جامع يعبّر عنه بموضوع العلم ، مثلا : علم النحو يبحث فيه عن مجموعة من المسائل مثل « الفاعل مرفوع » « المفعول منصوب » « والمبتدأ مرفوع » « والمضاف إليه مجرور » ، ولو لا حظنا جميع هذه المسائل المتكوّنة من موضوع وحكم لرأينا أن موضوعاتها ترجع إلى عنوان جامع وهو « الكلمة » ، فالكلمة المتعنونة بعنوان الفاعل حكمنا عليها بالرفع ، والكلمة المتعنونة بعنوان المفعول حكمنا عليها بالنصب وهكذا مئال موضوعات مسائل علم النحو إلى موضوع واحد ، وهو عنوان الكلمة.

إذا اتضح معنى موضوع العلم تصل النوبة لبيان موضوع علم الأصول فنقول وعلى اللّه التكلان.

ص: 14

إن الأصوليّين اختلفوا فيما هو موضوع علم الأصول ، فذكر القدماء أن موضوعه هو الأدلّة الأربعة « الكتاب الكريم ، السنة الشريفة ، الإجماع والعقل » ويقصدون من ذلك أن مدار المسائل الأصولية هو الأدلّة الأربعة ، فكل مسألة يكون موضوعها أحد الأدلّة الأربعة فهي مسألة أصولية ، مثلا حجيّة النص القرآني مسألة أصولية لأن موضوعها الكتاب الذي هو أحد الأدلّة الأربعة إذ أن النص القرآني الذي هو عبارة ثانية عن الكتاب هو الموضوع والحجية والدليليّة هو المحمول والحكم ، وهكذا حجية قول وفعل وتقرير المعصوم مسألة أصولية ؛ لأن موضوعها عبارة ثانية عن السنة الشريفة ومحمولها الحجيّة.

الإشكال على مبنى القدماء

وأورد المصنّف على هذا المبنى أنه يلزم منه خروج كثير من المسائل الأصولية التي يقطع بأصوليّتها. فإذن هذا الموضوع لا ينطبق عليه ضابطة موضوع العلم ، إذ أنه لا يجمع تحت عنوانه - وهو الأدلّة الأربعة - جميع موضوعات مسائل هذا العلم ، فمثلا موضوع الاستلزامات - التي هي عبارة عن ملازمة حكم لحكم آخر - « هو الحكم » والحكم ليس داخلا تحت عنوان الأدلّة الأربعة ، فمثلا الحكم بوجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه ، والحكم بحرمة شيء يقتضي الفساد ، والحكم بوجوب شيء يقتضي وجوب مقدّمته. كل هذه مسائل أصولية موضوعها الحكم ، والحكم لا يدخل تحت عنوان الأدلّة الأربعة.

وكذلك البحث عن حجيّة الأمارات الظنيّة فإنها كثيرا ما لا تؤول موضوعاتها إلى عنوان الأدلّة الأربعة ، فمثلا حجيّة الشهرة موضوعها

ص: 15

الشهرة ومحمولها الحجية ، وكذلك حجية خبر الثقة فإن موضوعها خبر الثقة ومحمولها الحجية ، ومن الواضح أن هذه الموضوعات لا تؤول إلى عنوان الأدلّة الأربعة.

وكذلك البحث عن الأصول العملية - التي تحدّد وظيفة المكلف في موارد فقدان الدليل أو إجماله - فإن موضوعها الشك ، فمثلا جريان البراءة حين الشك في حرمة شيء مع عدم وجود علم سابق بالحرمة ، فنلاحظ أنّ الموضوع لهذه المسألة هو الشك ومحمولها البراءة عن الحرمة.

وهكذا يتّضح أنّ عنوان الأدلّة الأربعة لا يصلح أن يكون موضوعا لعلم الأصول ، إذ أنّه ليس عنوانا جامعا لموضوعات مسائل هذا العلم.

القول الآخر لموضوع علم الأصول :

هو إنكار أن يكون لموضوع علم الأصول موضوع واحد جامع لجميع موضوعات مسائله ، وهذا القول تبنّاه مجموعة من الأعلام مثل السيد الخوئي رحمه اللّه ، وقالوا : إنّ ما تعارف عليه المناطقة من أن لكل علم موضوعا جامعا لجميع موضوعات مسائله لا أساس له إذ أنه يمكن أن لا يكون لبعض العلوم موضوع جامع.

ومن هنا ينشأ إشكال وهو : أنه بناء على هذا القول تتداخل العلوم ولا يمكن أن تكون هناك ضابطة تحدّد أنّ هذه المسألة من مسائل هذا العلم أو ذاك العلم ، ومن هنا تصدّى أصحاب هذا القول للجواب عن هذا الإشكال وحاصله : أنه يمكن أن يكون هناك ضابطة لتحديد مسائل كل علم تفيد فائدة الموضوع ولكنها ليست من قبيل الموضوع. وهذه الضابطة هي الغرض ، فتحديد الغرض من العلم يمنع من تداخل العلوم وبه تتحدّد

ص: 16

مسائل كل علم بحيث يكون الغرض موجبا لدخول بعض المسائل في هذا العلم مثلا وخروج مسائل أخرى عنه.

فمثلا علم الطب ليس له موضوع جامع لجميع موضوعات مسائله ، ولكن يمكن أن يكون الغرض من هذا العلم محدّدا لأيّ المسائل التي تكون داخلة في هذا العلم وأيّ المسائل تكون خارجة عنه. وهكذا علم الأصول تكون الضابطة في تحديد مسائله التي يبحث عنها هذا العلم هو الغرض ، فلو قلنا إن الغرض من هذا العلم مثلا هو البحث عن كل كبرى كلية تساهم في استنباط الحكم الشرعي لاقتضى ذلك معرفة المسائل المبحوثة في هذا العلم والمسائل الخارجة عنه.

إذن فليس الموضوع للعلم هو الضابطة الوحيدة المانعة من تداخل العلوم والموجبة لتحديد مسائل كل علم.

القول الثالث في بيان موضوع علم الأصول :

وهو ما تبنّاه المصنّف رحمه اللّه تعديلا لمبنى القدماء ومحاولة لسدّ ثغراته ، وهذا القول عبارة عن أن موضوع علم الأصول « هو الأدلة » بحذف قيد « الأربعة » ليكون الموضوع شاملا وجامعا لجميع موضوعات مسائل هذا العلم.

وبعبارة أخرى موضوع علم الأصول بحسب مبنى المصنّف هو كل دليل عام تكون له الصلاحية للاستدلال به على الحكم الشرعي. ويخرج بقولنا « عام » كل ما يصلح أن يكون دليلا على الحكم الشرعي ولكن في موارد محدودة وهو ما عبّر عنه المصنّف بالعنصر المختص.

إذن كل دليل وعنصر مشترك - لو ثبت كان صالحا للاستدلال به

ص: 17

على الحكم الشرعي - هو موضوع علم الأصول فهذا هو الموضوع الجامع لموضوعات مسائل علم الأصول ، والعناوين التي يتوخى منها الكاشفية والدليليّة على الحكم الشرعي تحدد في علم آخر غير علم الأصول ، وعلم الأصول يبحث عن دليليتها وكاشفيتها للحكم الشرعي وعدم ذلك فالشهرة والقياس والظهور وخبر الواحد عناوين يتوخى منها الدليليّة والمساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، وهذه العناوين يتم تحريرها في علوم أخرى ، والذي يبحثه علم الأصول هو صلاحيتها للدليلية وعدم صلاحيتها فمثلا تحرير معنى الظهور ومعنى الشهرة ومعنى خبر الواحد ومعنى الشك يتم في علم الدراية والمنطق واللغة ، وبحث الأصولي عن هذه العناوين هي محاولة منه للبرهنة على صلاحيتها للمساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي أو عدم ذلك وهذا معنى البحث عن دليليتها وعدمها الذي ادعينا أنه جامع لموضوعات علم الأصول.

ثم إننا لو حاولنا إرجاع هذه العناوين - الواقعة موضوعا لمسائل علم الأصول - إلى الموضوع - الذي هو كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط - لوجدنا أن ذلك ممكن بحيث لا يشذّ موضوع مسألة من هذه المسائل عن هذا الجامع.

فمثلا حجيّة الظهور موضوعها الظهور ومحمولها الحجيّة والدليليّة ، ومن الواضح أن الظهور من العناوين الصالحة للدليلية فهو ينضوي تحت عنوان - كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط - وهكذا حجية خبر الثقة والشهرة وكذلك الحكم بوجوب شيء هل يستلزم حرمة ضدّه ، فالحكم بالوجوب عنوان صالح للوقوع في طريق إثبات حرمة الضد وصالح

ص: 18

للوقوع في طريق إثبات وجوب المقدّمة وهكذا.

فمثل حرمة الضد ووجوب المقدمة محمولات لهذا الموضوع - وهو الحكم - وهو عنوان داخل تحت عنوان قولنا - كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط - وهكذا ينسحب الكلام إلى الأصول العملية ، فالبحث عن أنّ الشك مجرى للبراءة - مثلا - بحث عن صلاحية الشك لإثبات حكم شرعي - وهو الترخيص - وعدم صلاحيته.

وخلاصة القول إن موضوع علم الأصول هو الأدلة العامة الواقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي.

قوله رحمه اللّه : « والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليّتها » ، أي صلاحيّتها للدلالة على الحكم الشرعي ، أو قلّ أهليتها لإثبات الحكم الشرعي ، فالبحث الأصولي مثلا يبحث عن صلاحيّة الأدلّة الظنيّة المحرزة ، فمتى ما ثبتت لها الدليليّة ، فهذا معناه ثبوت الحجيّة والصلاحيّة للكشف عن الحكم الشرعي.

فائدة علم الأصول :

وبما بيّناه سابقا في مقام بحث تعريف وموضوع علم الأصول يتّضح مدى الفوائد المترتبة على هذا العلم ، إذ أنه تحرّر في هذا العلم وسائل المعرفة للأحكام الشرعية في كثير من الأبواب الفقهيّة فليس للفقيه طريق آخر يدخل من خلاله للفقه ومعرفة أحكام أفعال المكلفين.

نعم الفقيه في مقام تحديد الأحكام الشرعية وأن هذا حلال وهذا حرام أو واجب يحتاج إلى عناصر أخرى ليست من علم الأصول تكون

ص: 19

بمثابة المواد والصغريات للأقيسة التي يتوصل عن طريق تشكيلها للنتيجة الفقهيّة ، وهذه المواد والصغريات التي عبّر عنها بالعناصر الخاصة تتغير بتغير المطلوب الذي يريد الفقيه الوصول إليه ، فهي عناصر غير مطّردة في جميع أبواب الفقه ولا تكون الحاجة إليها إلا في موارد خاصّة وتكون موارد أخرى محتاجة إلى مواد وعناصر صغروية أخرى.

وهذا بخلاف المسائل الأصولية فإنها مطّردة ونافعة للوصول إلى كثير من النتائج الفقهيّة.

وخلاصة القول إنّ النتيجة الفقهية تتوقّف على نوعين من المقدّمات.

المقدّمة الأولى : هي العناصر الخاصّة التي ليس لها اطّراد لغير مواردها والتي عبّرنا عنها بمواد وصغريات أقيسة النتائج الفقهيّة من قبيل وجود رواية على حرمة لحم الأرنب وأنّها رواية معتبرة وأنّها ظاهرة في الحرمة وأنّها غير مبتلية بمعارض أو بمقيّد أو ما إلى ذلك.

ومن الواضح أن هذه الرواية بتمام حيثياتها لا يستفاد منها إلا في موردها وهو وقوعها صغرى لقياس يراد استنتاج حرمة لحم الأرنب منه.

المقدّمة الثانية : العناصر المشتركة وهي الأدلة العامة التي يمكن التوسّل بها للوصول إلى كثير من النتائج الفقهية المتفرقة في أبواب الفقه مثل حجيّة خبر الثقة وحجيّة الشهرة وحجيّة ظواهر الكتاب ، فإنّ هذه المسائل تقع في طريق استنباط أحكام شرعية كثيرة ومختلفة ، فيمكن الاستفادة منها في باب الطهارة والصلاة والحج والخمس والرهن والقصاص وهكذا.

إذا اتضح هذا فنقول : إن المقدمة الأولى يبحثها الفقيه في غير علم

ص: 20

الأصول وأما المقدمة الثانية فيتم تنقيحها في علم الأصول فيشكّل من مجموع المقدمتين قياسا صغراه المقدمة الأولى وكبراه المقدمة الثانية بالبيان الذي بيّنّاه في تعريف علم الأصول.

وبهذا يتّضح أنّ علم الأصول بمثابة علم المنطق لبقيّة العلوم حيث إن المنطق يساهم في إعطاء الضوابط للوصول إلى النتائج في شتى العلوم ، كذلك يصنع علم الأصول بالنسبة للفقه ، فعلاقة علم الأصول بعلم الفقه هي علاقة علم المنطق بسائر العلوم من حيث إنّه المحرّر لوسائل المعرفة والعاصم للفكر عن الخطأ في النتيجة العلمية ، وبهذا تتّضح فائدة علم الأصول.

ص: 21

ص: 22

الحكم الشرعي وتقسيمه

اشارة

الحكم من كل قضية هو ما ثبت لموضوع تلك القضية وحمل عليها ولا فرق بين الحكم الشرعي وبين غيره من الأحكام من هذه الجهة ، وإنما قيدناه بالشرعي باعتبار أن الحكم وقع في مسألة وقضية يكون إثبات حكمها لموضوعها بيد الشارع.

فكما نقول إن الرفع الثابت للفاعل حكم نحوي ، وإن عدم امتناع الصدق على كثيرين في الكلّي حكم منطقي ، وإن المعلول لا يتخلّف عن علته حكم فلسفي ، باعتبار أن إثبات هذه الأحكام لموضوعاتها يتم في علم اللغة والمنطق والفلسفة ، فكذلك المقام ، فإن وجوب الصلاة وحرمة الخمر وفساد القرض الربوي أحكام شرعية باعتبار أن إثبات هذه الأحكام لموضوعاتها إنما هو من الشارع المقدّس.

إذا اتّضح هذا ، فنقول : إن الأحكام الشرعية هي عبارة عن مجموعة من الاعتبارات المبرزة والمجعولة من قبل اللّه تعالى الناشئة عن أغراض وملاكات يراها المولى جلّ وعلا ، والتي منها تنظيم حياة الإنسان والارتقاء به إلى مستوى الكمال الروحي والاجتماعي ، قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ

ص: 23


1- سورة العنكبوت : 45

يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (1) ، هذا ما يتصل بالتنظيم الاجتماعي لحياة الإنسان ، وأما ما يتّصل بروحه وتكامله النفسي ، فمثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (2) ، إذن هذه الأحكام المجعولة من قبل الشارع المقدس توجّه الإنسان وتحركه نحو ما فيه كماله ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (3).

ثم إن الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى قسمين :

الأوّل : الأحكام التكليفيّة :

وهي عبارة عن الاعتبارات المجعولة من قبل الشارع ويكون لها اتصال بأفعال المكلّفين مباشرة وابتداء ، كاعتبار الحرمة والوجوب على عهدة المكلف ، فالوجوب يحرك المكلف ابتداء نحو الفعل ، كما أن الحرمة تحرك المكلف نحو ترك الفعل المجعول له الحرمة مباشرة وبدون واسطة ، واعتبار الوجوب على عهدة المكلف موجب للانبعاث نحو ذلك الفعل بدون انتظار شيء آخر ، فكلّ ما كان له توجيه مباشر للمكلّف فهو حكم تكليفي سواء كان ذلك التكليف إلزاميا كالوجوب أو الحرمة ، أو لم يكن إلزاميا كالاستحباب والكراهة والإباحة ، إذ أنّها جميعا تشترك في أنّها تتصل بفعل المكلف دون أن تكون منوطة بشيء آخر ، نعم إطلاق عنوان التكليفية عليها من باب تسمية الشيء باسم بعضه إذ أنّ « التكليفية » تعني جعل

ص: 24


1- سورة البقرة : 179
2- سورة البقرة : 183
3- سورة الاسراء : 9

الكلفة وجعل الذمة مشغولة به ، وهذا إنما يناسب الأحكام الإلزامية.

الثاني : الأحكام الوضعية :

وهي الاعتبارات المجعولة من قبل الشارع التي لا تكون تكليفية ، فكل حكم ليس بتكليفي فهو حكم وضعي كالحكم بالفساد والصحة والملكيّة والزوجيّة وهكذا ، وهذه كلها تشترك في أنها ليس لها اتصال مباشر بتحريك المكلف ، وإنما هي اعتبارات شرعية تكون عادة موضوعا لأحكام تكليفية ، وهي عادة ما تكون منوطة بأمر خارجي إذا اتفق حصوله ترتب الحكم الوضعي ، فمثلا إذا اتفق الغرر في البيع حكم الشارع بفساد ذلك البيع ، وإذا اتفق أن توضأ المكلف حكم الشارع بطهارته الحدثية ، وإذا ما تحقق الإيجاب من المرأة والقبول من الرجل حكم الشارع بالزوجية ، وإذا اشترط الشارع الاستقبال في الصلاة فهذا يعني الشرطية.

والأحكام الوضعية كما ذكرنا تكون موضوعا لأحكام تكليفية من وجوب وحرمة وإباحة ، فمثلا الحكم بالزوجية يكون موضوعا لوجوب النفقة على الزوج ووجوب التمكين على الزوجة ، وإباحة نظر الزوج والزوجة إلى عورة الآخر ، وحرمة زواج الأجنبي من تلك المرأة ، وكذلك الملكية فإنها موضوع لمجموعة من الأحكام التكليفية كحرمة التصرّف في أموال المالك بغير إذنه ووجوب تخميس المال المملوك إذا فضل عن المؤونة ، وإباحة مطلق التصرفات في المملوك للمالك.

ومرادنا من أنّ الأحكام الوضعية تقع موضوعا للأحكام التكليفيّة أن الحكم الوضعي يكون في رتبة الموضوع في القضايا الحملية ويكون الحكم التكليفي في رتبة المحمول والحكم ، فمثلا الزوجية تقتضي وجوب النفقة ،

ص: 25

فالزوجية - التي هي حكم وضعي - وقعت موضوعا لحكم تكليفي وهو وجوب النفقة.

مبادئ الحكم التكليفي :

وقبل بيان المراد من مبادئ الحكم التكليفي لا بدّ من تقديم مقدمتين :

الأولى : وهي أن كل فعل اختياري يصدر من فاعل مختار لا بدّ أن يمرّ عبر مراحل ذهنية قبل صدور الفعل خارجا وهذه المراحل هي :

أولا : تصوّر الفعل ثم تصوّر فائدته ثم التصديق والإذعان بتلك الفائدة ثم ينشأ عن ذلك شوق ورغبة للفعل ثم يترتب على تلك الرغبة والشوق العزم على إيجاده ، وهذا العزم يتفاوت بتفاوت مستوى الرغبة والشوق ، وبعد طيّ كل هذه المراحل تصل النوبة لإعمال القدرة على إيجاد ذلك الفعل في الخارج فيسعى نحو تحقيقه في الخارج بالوسائل التي يراها مناسبة ، فتارة يعمل قواه العضلية في سبيل تحقيق ذلك الفعل وهذا ما يعبّر عنه بالإرادة التكوينية كتحرك العطشان بنفسه لتحصيل الماء ، وتارة أخرى يصدر أمرا - بتحصيل الماء - لعبده أو ولده مثلا ويعبّر عن ذلك بالإرادة التشريعية.

الثانية : إنّ الأحكام التشريعية الصادرة عن اللّه جلّ وعلا ليست جزافيّة بل هي أحكام نشأت عن مصالح أو مفاسد في متعلقاتها ، وهذا هو ما اشتهر عن الإمامية - أن أحكام اللّه تابعة للمصالح والمفاسد - فوجوب الصلاة مثلا ناشئ عن مصلحة في متعلق ذلك الوجوب وهكذا حرمة الخمر فإنها ناشئة عن مفسدة في متعلق الحرمة وهو شرب الخمر.

إذا اتضحت هاتان المقدّمتان فنقول : إنّ الحكم الشرعي وكذلك

ص: 26

الأحكام الصادرة عن الموالي العرفيين يمرّ بمرحلتين.

المرحلة الأولى : عبّر عنها المصنّف بمرحلة الثبوت للحكم ، ويقصد بها واقع العمليّة الذهنية التي يتدرّج فيها الفكر للوصول إلى الحكم ، وهي التي بيّنّاها في المقدمة الأولى.

ولا بأس بتطبيقها على المورد ، وهو الحكم في مرحلة الثبوت.

فالمولى العرفي مثلا يتصوّر أولا الحكم الذي هو فعل من الأفعال ثم يتصور فائدته ثم يحصل له الإذعان والتصديق بتلك الفائدة والمصلحة المعبّر عنها بالملاك ، فهذه مراحل ثلاث تولّد الشوق والإرادة لتحصيل هذا الحكم ومرتبة هذا الشوق والإرادة تتفاوت قوّة وضعفا بحسب ما ادركه المولى من مستوى تلك المصلحة ، فكلما كانت المصلحة أكيدة وشديدة كانت الإرادة قوية ومتناسبة مع مستوى المصلحة المدركة ، ثم تصل النوبة إلى مرحلة الاعتبار التي هي حالة نفسانية تفترض وتعتبر ذلك الحكم على عهدة المكلّف ، وهذا الاعتبار ليس أكثر من التماس كيفية يرتبها المولى استعدادا لإبراز مطلوبه ، وهي ليست أمرا أساسيا في مرحلة الثبوت للحكم ، ولذلك لو افترض عدمه لما كان ذلك مؤثرا على سير الحكم وخروجه من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات ، بخلاف المصلحة مثلا فإنه لو افترض عدمها لأثّر ذلك على سير الحكم وخروجه من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات.

وخلاصة القول إن الحكم في مرحلة الثبوت يمرّ بثلاث مراحل :

الأولى : هي المصلحة المدركة « الملاك » ، وقد طويت في هذه المرحلة المراحل التي سبقتها كما اتّضح مما تقدّم.

ص: 27

الثانية : الإرادة ، والتي قلنا إنها تتفاوت بتفاوت مستوى المصلحة والملاك.

الثالثة : وهي الاعتبار ، وقد قلنا إنها حالة نفسانية تفترض وتعتبر الحكم - المشتمل على المصلحة والإرادة - على عهدة المكلّف ، وهي ليست أكثر من التماس كيفية تهي لغرض إبراز المطلوب بها ، فهي أشبه بالكلام النفسي الذي يرتّبه المتكلّم في نفسه استعدادا لإلقائه.

هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى للحكم وهي مرحلة الثبوت.

المرحلة الثانية : وهي مرحلة الإثبات للحكم ، وهي تبدأ من حيث تنتهي المرحلة الأولى.

وهذه المرحلة عبارة عن إبراز وإظهار الحكم الناشئ عن الملاك والإرادة ، فالمولى يبيّن في هذه المرحلة النتيجة التي رست عليها نفسه في مرحلة الثبوت ويستخدم لهذا الغرض أحد الوسائل التي يتم بها الإبراز والإظهار مثل الجملة الإنشائية الطلبية كالأمر أو النهي أو الجملة الخبرية المسوقة لغرض الإنشاء والطلب.

ثم إنه قد يبرز الحكم عن طريق بيان تعلّق إرادته بفعل مباشرة كأن يقول : « أريد كذا » ، وقد يبرزه عن طريق الاعتبار ، والمراد من الاعتبار هنا هو افتراض الفعل على عهدة المكلّف وأنّه مجعول عليه ومسئول عنه كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (1) ، فالمولى يقول : إنّ من حقه على الناس حجّ البيت ، ومن الواضح أنّ هذا الاعتبار يكشف عن

ص: 28


1- سورة آل عمران : 97

تعلّق إرادة المولى بذلك المعتبر ، إذ أنّه لا يمكن أن يعتبر شيئا على عهدة المكلّف جزافا وعبثا ودون إرادة ، وبعد أن يبرز المولى إرادته مباشرة أو عبر الاعتبار يكون من حقه على العبد إطاعته والجريان على وفق إرادته قضاء لحق المولوية ، وهذا من مدركات العقل العملي حيث إنّه يدرك استقلالا لزوم طاعة المولى وولي النعمة.

إذا اتضح كلّ ما ذكرناه يتّضح المراد من عنوان البحث وهو « مبادئ الحكم » وأنّه عبارة عن الملاك والإرادة ، وأمّا الاعتبار فهو نفس الحكم المأخوذ في العنوان وذلك إذا افترضنا أن الاعتبار ليس شيئا آخر غير الحكم الناشئ عن الملاك والإرادة فالملاك والإرادة هما مبدأ الحكم ومنشأ جعله والذي يكون واسطة وسببا لإيجاب العقل امتثال مرادات المولى ، وهذا يعني أن الحكم روحا هو عين الملاك والإرادة حيث إنّهما الموضوع والواسطة لثبوت إيجاب العقل للامتثال ، فحكم العقل لوجوب الامتثال موضوعه الإرادة المولويّة. وليس للاعتبار الإنشائي أيّ دخالة في إثبات الحكم العقلي - بوجوب الامتثال - لموضوعه وهي المرادات المولوية ولذلك لو لم يكن هناك اعتبار إنشائي وعرفنا من طريق آخر تعلّق إرادة المولى بإيجاد فعل ، لحكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال.

مبادئ الأحكام التكليفيّة الخمسة :

وهذا البحث ليس بحثا عن الأحكام الخمسة وإنما هو بحث عن مناشئ هذه الأحكام ، ومن الطبيعي أن يكون هناك تناسب بين حقيقة هذه الأحكام وبين مبادئها ومناشئ جعلها.

ص: 29

والأحكام التكليفية الخمسة : هي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة.

أمّا الوجوب : فناشئ عن مصلحة أوجبت تولّد إرادة بحجم تلك المصلحة التي بلغت مبلغا لا يسمح معها بالترخيص في ترك متعلقها.

وأمّا الحرمة : فناشئة عن مفسدة شديدة أوجبت تولّد كراهة ومبغوضية بحجم تلك المفسدة التي بلغت مبلغا لا يسمح معها بالترخيص في فعل متعلق تلك المفسدة.

وأمّا الاستحباب : فناشئ أيضا عن مصلحة في متعلقها إلاّ أنّ هذه المصلحة ضعيفة ولذلك يتولّد عنها إرادة بحجمها توجب مطلوبية الفعل بمستوى لو لم يتصدّ المكلّف لإيجاده لما كان في ذلك بأس.

وأمّا الكراهة : فكذلك تكون ناشئة عن مفسدة في متعلقها توجب تولّد مبغوضية بقدرها أي بمستوى لا يمانع المولى من ارتكابها.

وأمّا الإباحة : فهي على قسمين :

الأولى : الإباحة بالمعنى الأخص.

والثانية : الإباحة بالمعنى الأعم.

فالإباحة بالمعنى الأخص هي القسم الخامس من الأحكام التكليفية الخمسة وهي التي يتساوى فيها الفعل والترك بنظر المولى ، فليس له أيّ ترجيح لأحدهما على الآخر ، وهذا ما يجعلها قسيما للأحكام التي سبقتها ؛ وذلك لأنّها وإن كانت تشترك معها في أنها حكم تكليفي إلا أنها لا تنطبق على أحد من تلك الأقسام ، فعلاقتها معهم علاقة التباين.

ولعلّ هذا هو منشأ التعبير عنها بالإباحة بالمعنى الأخص إذ أنها

ص: 30

مختصة بمعنى لا يتداخل مع أحد من الأقسام التي سبقته.

وتنقسم الإباحة بالمعنى الأخص إلى قسمين :

الأول : الإباحة الاقتضائية

الأول : الإباحة الاقتضائية ، وهي المشتملة على الملاك والمصلحة في متعلقها وهذا الملاك هو السعة والتسهيل على المكلفين وسمّيت بالاقتضائية لأن الحكم بالإباحة نشأ عن مقتض وسبب وهو التسهيل على المكلّفين.

الثاني : الإباحة غير الاقتضائية ، وهي الخالية عن أيّ ملاك يقتضي ترجيح الفعل أو الترك أو يقتضي جعل الإباحة ، وما ذكرناه هو التعبير الأنسب ، إذ لا يخلو تعبير المصنّف من تسامح واضح ، حيث إن الحديث عن الإباحة بالمعنى الأخص التي تكون دائما خالية عن أي ملاك يقتضي الإلزام فعلا أو تركا.

القسم الثاني : الإباحة بالمعنى الأعم.

وهي التي تعني عدم الإلزام بالفعل أو الترك ، ولذلك فهي تنطبق مع الاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخص ، إذ أنها جميعا تنضوي تحت عنوان جامع هو عدم الإلزام.

وهذا النوع من الإباحة ليس قسيما للأحكام التكليفية الأربعة ، نعم هو قسيم للأحكام الإلزامية التي هي الوجوب والحرمة ، وسمّيت الإباحة بالمعنى الأعم لأنها تعمّ الكراهة والاستحباب بالإضافة إلى الإباحة بالمعنى الأخص.

التضاد بين الأحكام التكليفية :

التضاد : هو التنافي والتعاند والتباين الناشئ عن التغاير التام بين

ص: 31

الشيئين أو الأشياء ، فإذا كان هناك أمران وجوديان بينهما تمام التغاير فإن هذا يقتضي عدم اجتماعهما على موضوع واحد ، وإن أمكن ارتفاعهما عنه.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ عنوان بينه وبين عنوان آخر تمام المباينة والمغايرة بحيث لا يلتقي معه في أي فرد من أفراده فهو التضاد القاضي باستحالة الاجتماع ، فالنسبة بين المتضادين هي نسبة التباين.

والتباين كما هو واضح ينحلّ إلى سالبتين كليتين يكون أحد الضدّين موضوعا والآخر محمولا له وكذا العكس ، مثلا الأسود والأبيض بينهما تمام التنافي والتعاند ، فهما إذن ضدان ويتولّد عن النسبة بينهما سالبتان كليتان الأولى « لا شيء من الأبيض بأسود » والثانية « لا شيء من الأسود بأبيض ».

فموضوع إحدى القضيّتين محمول الأخرى.

إذن كل عنوانين يتولّد عن النسبة بينهما سالبتان كليتان فهما متضادان.

إذا اتضح هذا فنقول : نحن إذا لاحظنا العلاقة والنسبة بين الأحكام لوجدنا أنها متضادة ومتباينة بدليل أننا لو حلّلنا العلاقة بينهما لكانت كالعلاقة والنسبة بين السواد والبياض ، فمثلا الوجوب والحرمة لو حللنا النسبة بينهما لوجدناها تنحلّ إلى سالبتين كليتين الأولى « لا شيء من الوجوب بحرمة » والثانية « لا شيء من الحرمة بوجوب » ، فبينهما تمام التباين والتعاند ، وهكذا ينسحب الكلام إلى سائر الأحكام ، فالعلاقة بين الاستحباب وبين الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة هي التباين ، وكذا العلاقة بين الكراهة وبين سائر الأحكام.

ولكن لا بدّ من الالتفات إلى شيء ، وهو : أن التنافي الواقع بين

ص: 32

الأحكام منشؤه التنافي الواقع بين ملاكات هذه الأحكام ، إذ أنه لو كانت هذه الأحكام جزافية واعتبارية محضة لما كان بينها أي تناف وتضاد.

وتوضيح ذلك : لو كان الوجوب أو الحرمة أو سائر الأحكام مجرد اعتبارات محضة ليس وراءها منشأ وسبب لما كانت متضادة ؛ وذلك لأن الاعتبار كما قيل سهل المؤونة إذ أنه ينشأ عن كيفية نفسانية تفترض ثبوت شيء لشيء دون أن يكون لذلك الافتراض واقع ومبرّر كافتراض الليل نهارا والحجر ماء فإنه لا مانع من أن أهيء نفسي تهيئة خاصة أجعلها تذعن أنّ الليل نهار والحجر ماء.

ويمكن تنظير ذلك بالأطفال عندما يلعبون مدرسة ، فإنهم يعتبرون أحدهم مدرّسا والآخر تلميذا ، ثم يعكسون ذلك الاعتبار فيعتبرون الأول تلميذا والآخر مدرّسا ؛ كلّ ذلك لأنّ الاعتبار لمّا كان افتراضا جزافيا فلا محذور في عروض اعتبارين متنافيين على موضوع واحد فيمكن اعتبار هذا الماء حارا وفي نفس الوقت نعتبره باردا.

وقديما قال الشاعر العربي :

فإذا نشوت فإنني ربّ الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني ربّ الشويهة والبعير

فإنّه إذا أخذت الخمرة منه مأخذها فإنه يعتبر نفسه ملك العرب والعجم وإذا ما آب إليه رشده فهو ليس أكثر من مالك لشاة وبعير.

إذا اتضح هذا فالكلام ينسحب إلى الأحكام التكليفية ، فإنها لو كانت اعتبارية محضة لما كان هناك أيّ محذور في جعل الوجوب والحرمة على فعل واحد وفي وقت واحد ، ومنه نعرف أن دعوى التضاد بين

ص: 33

الأحكام مرجعها إلى التضاد بين مبادئ تلك الأحكام من المصالح والمفاسد والمبغوضية والمحبوبية ، فاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة منشؤه استحالة أن يكون هذا الفعل مشتملا على مصلحة تامة ومفسدة تامة وإرادة تامة ومبغوضية تامة ، وكذلك الاستحباب والوجوب فإنه يستحيل اجتماعهما لاستحالة اجتماع مبدأيهما ، إذ لا يمكن أن يكون الفعل مرادا بالإرادة التامة الآبية عن الترخيص ومرادا بإرادة ناقصة لا تأبى الترخيص ، ولا يمكن أن يكون الفعل ذا مصلحة شديدة ويكون ذا مصلحة ضعيفة ، وهكذا سائر الأحكام في علاقاتها مع بعضها البعض.

استحالة اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد :

كان الكلام فيما سبق حول التضاد بين الأحكام وأنه يستحيل اجتماع حكمين متغايرين على فعل واحد ، والكلام هنا عن إمكان اجتماع حكمين متماثلين وعدم إمكانه.

فنقول : إن الأحكام لو كانت مجرّد اعتبارات محضة لما كان هناك أيّ بأس من اجتماع حكمين متماثلين على فعل واحد وذلك لما بيّنّاه سابقا ، ولكن لما كانت الأحكام اعتبارات شرعية ناشئة عن مبادئ وملاكات في متعلقات تلك المعتبرات الشرعية ، فالنتيجة تختلف عن الفرض السابق ، فيكون اجتماع حكمين متسانخين من قبيل اجتماع المثلين الذي قام الدليل العقلي على استحالته ؛ وذلك لأنّ اجتماع المثلين يؤول إلى اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وهو مستحيل لاستحالة صدور الواحد عن كثيرين ، إذ الواحد لا يصدر إلا عن واحد ، فإذا قلنا إن فعلا واحدا واجب

ص: 34

بوجوبين فهذا يعني أن وجوب هذا الفعل نشأ عن مصلحتين مستقلتين وإرادتين مستقلّتين ، وهذا مستحيل.

نعم لو كانت المصلحتان متداخلتين بحيث تشكّلان بمجموعهما مصلحة واحدة وعلّة تامة ، وكذلك لو كانت الإرادتان تشكّلان بمجموعهما إرادة واحدة شديدة لأمكن ذلك ، ولكنّ هذا خروج عن الفرض ، إذ أنّ هذا يعني عدم وجود وجوبين لهذا الفعل بل هو وجوب واحد ناشئ عن مصلحة مركّبة وإرادة واحدة مؤكدة ، وهذا ما نروم إثباته إذ أنّه يمكن توارد مجموعة من المصالح تشكّل بمجموعها مصلحة واحدة تامة ، وكذلك مجموعة من الرغبات والإرادات تنتهي إلى إرادة واحدة مؤكّدة تكون هي ملاك الوجوب وتكون منتجة لوجوب واحد.

فالنتيجة هي عدم إمكان اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد لاستحالة اجتماع المثلين.

شمول الحكم الشرعي لجميع وقائع الحياة :

ذهب الإماميّة إلى أنّ لكلّ واقعة من وقائع الحياة حكما إلهيّا يصيبه المجتهد أو يخطئه ، وأنّه لا تخلو واقعة من حكم حتى « أرش الخدش » (1) كما

ص: 35


1- وسائل الشيعة : باب 48 من أبواب ديّات الأعضاء الحديث 1 ، وهي مرويّة عن الشيخ الكليني بسند متّصل إلى أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، والظاهر أنّ أبا بصير في الرواية هو إمّا ليث بن البختري أو يحيى الأسدي ، وذلك لقرائن منها أنّ الإمام علیه السلام قد كنّاه في الرواية بأبي محمد ، ولم تذكر هذه الكنية لأحد ممّن كنّي بأبي بصير غير ابن البختري والأسدي على أنّ من المحتمل تعيّن الأسدي ، وعلى أيّ حال فالرواية معتبرة لانحصار الراوي في أحدهما.

ورد عن أهل البيت علیهم السلام لذلك يسمّى الإمامية « بالمخطّئة » ؛ لأنّهم يقولون إنّ هناك أحكاما واقعية لكل فعل من أفعال المكلفين ، نعم المجتهد في مقام بحثه عن الحكم الواقعي قد يخطئه ولا يصيبه ، فيكون ما وصل إليه من حكم منافيا لما هو الواقع ، هذا ما عليه الإمامية ، وفي مقابل هذا القول ما ذهب إليه العامة من أنّه ليس لله تعالى في كل واقعة حكم ، بل إنّ أحكام اللّه تابعة لآراء المجتهدين فيكون كلّ مجتهد مصيبا ، إذ أنّه لا واقع لهذه الأحكام حتى يكون ما وصل إليه المجتهد مصيبا مع المطابقة ومخطئا مع عدم المطابقة لذلك يعبّر عنهم في عرف الأصوليّين بالمصوّبة.

والذي يدلّ - على ما ذهب إليه الإمامية من أنّه لا تخلو واقعة من حكم - نصوص كثيرة.

منها : قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1).

وفي تفسير العيّاشي عن عبد اللّه بن الوليد قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « قال اللّه لموسى : ( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فعلمنا أنّه لم يكتب لموسى الشيء كله ، وقال اللّه لعيسى : ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ، وقال اللّه لمحمّد ( عليه وآله السلام ) : ( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) » (2).

ص: 36


1- سورة النحل : 89.
2- تفسير العيّاشي في تفسير سورة النحل ، رقم الرواية 58 ، ج 2 ص 266.

الحكم الواقعي والحكم الظاهري :

اشارة

بعد أن اتضح المراد من الحكم الشرعي تعرّض المصنّف رحمه اللّه إلى تقسيم الحكم الشرعي وأنّه ينقسم إلى قسمين :

الأول : الحكم الواقعي :

والمراد من الحكم الواقعي هو : الحكم المجعول على موضوعه ابتداء دون أن يفترض الشك في حكم آخر لذلك الموضوع ، فالمولى حينما يلحظ فعلا من أفعال المكلّفين مشتملا على مصلحة تامة ، فإنه يجعل له الوجوب باعتبار أنّ ذلك الفعل مشتمل على تلك المصلحة التامة وليس هناك واسطة لثبوت الحكم لموضوعه غير أهليّة ذلك الموضوع لأن يجعل عليه الوجوب ، فمثلا « الصلاة واجبة » الوجوب في هذه القضية حكم واقعي ، إذ أنه يثبت لموضوعه وهي الصلاة ابتداء ودون أن يكون لثبوته واسطة هي الشك في حكم الصلاة بل إن ثبوت الوجوب للصلاة باعتبار ما للصلاة من مصلحة تامة بنظر المولى.

وبعبارة أخرى : إنّ المولى قد يجعل الأحكام لموضوعاتها ابتداء وقد يجعلها في ظرف الشك وعدم العلم بالأحكام الحقيقية المجعولة ابتداء ، فيجعل البراءة من حرمة لحم الأرنب في ظرف الشك والجهل بالحكم الواقعي لأكل لحم الأرنب ، فالأول هو ما يصطلح عليه بالحكم الواقعي.

الثاني : الحكم الظاهري :

المراد من الحكم الظاهري هو : الحكم المجعول على موضوعه مع افتراض الشك في الحكم الواقعي لذلك الموضوع ، ففي موارد الجهل بحكم

ص: 37

موضوع من الموضوعات قد يجعل المولى حكما آخر ويقول « إذا كنت جاهلا وشاكا في الحكم الواقعي لهذا الموضوع فحكم الموضوع في هذه الحالة كذا » ، فمثلا إذا كنت شاكا في حكم شرب العصير العنبي فهو لك حلال ، فثبوت الحلّية للعصير العنبي إنما يكون في ظرف الشك في الحكم الواقعي لشرب العصير العنبي ، ولم تثبت الحلّية له ابتداء.

وبهذا يتّضح أن الأصول العملية مثل أصالة الحلّ والطهارة ، وكذلك الأمارات الظنّية مثل خبر الثقة والظهور هي أحكام ظاهرية ؛ إذ أن حجيتها جعلت في ظرف الشك بالأحكام الواقعية ، فأصالة الحل مثلا حكمت بثبوت الحلية لجميع الأشياء في ظرف الشك في الحكم الواقعي لهذه الأشياء ، أمّا ما علم حكمه الواقعي فليس مشمولا لأصالة الحلّ ، وكذلك أصالة الطهارة « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر » (1) فإنّها حكمت بطهارة الأشياء ولكن في ظرف عدم العلم بحكمها الواقعي ، فلو علمنا مثلا أنّ الخنزير نجس وأن الماء طاهر واقعا ، فلا يكون هذا ان الموضوعان مشمولين لأصالة الطهارة ، إذ أنها إنما تجري في ظرف الشك وعدم العلم بالطهارة أو النجاسة الواقعتين ، وبهذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية ومتأخرة عنها ، ففي كل مورد يكون الحكم الواقعي معلوما لا تصل النوبة للحكم الظاهري ؛ وذلك لأن الحكم الظاهري أخذ في موضوعه - أو ما يشابه ذلك - عدم العلم بالحكم الواقعي فمع العلم بالحكم الواقعي لا

ص: 38


1- معتبرة عمّار بن موسى الساباطي عن ابي عبد اللّه علیه السلام ، وسائل الشيعة : الباب 37 من أبواب النجاسات الحديث 4

موضوع للحكم الظاهري ، ومن الواضح أن الأحكام تابعة لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء.

وبعبارة أخرى : إنّ الموضوع بالنسبة إلى الحكم في رتبة العلة بالنسبة إلى معلولها ، فكما أن المعلول تابع لعلّته ثبوتا وانتفاء ، فكذلك الحكم تابع لموضوعه ثبوتا وانتفاء ، فإذا قلنا : أكرم الرجل العالم ، فإن العالم أخذ في موضوع الحكم بوجوب الإكرام ، فإذا ثبتت العالمية للرجل وجب إكرامه وإذا انتفت انتفى وجوب الإكرام لانتفاء موضوعه وهو العالمية ، والمقام من هذا القبيل ، فالحلية الثابتة للأشياء إنما هي ثابتة لها في ظرف الشك ، فكأنما المولى قال « الشيء المشكوك حكمه الواقعي فهو حلال » فإذا انتفى الشك وعلمنا بحكم ذلك الشيء ينتفي الحكم الظاهري تبعا لانتفاء موضوعه وهو الشك ، وكذا الكلام في خبر الثقة فإنّ قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) إثبات لحجية الخبر في ظرف الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فكأنما الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي موضوع أو قل جزء موضوع لحجية مفاد الخبر ، وبالتالي لو كنّا نعلم بحكم واقعي في مورد وجاء خبر الثقة على خلافه أو وفقه لما كان لهذا الخبر أيّ حجية ، إذ أنّ الحجّية مجعولة له في ظرف الشك ولا شك ، في المقام بحسب الفرض.

وبما ذكرنا يتضح معنى قول المصنّف « ولو لا وجود الأحكام الواقعية لما كان هناك أحكام ظاهرية » ؛ وذلك لأنّ الأحكام الواقعية بمثابة الموضوع أو جزء الموضوع للأحكام الظاهرية ، ومن الواضح أن الأحكام

ص: 39


1- سورة الأنبياء : 7

تابعة لموضوعاتها فحينما ينعدم الموضوع أو لا يوجد لا يكون هناك حكم ، فنحن حين افترضنا أنّ الشك في الحكم الواقعي هو جزء الموضوع للحكم الظاهري ، فهذا يعني أنه لو لم يكن هناك حكم واقعي أصلا لما كان هناك حكم ظاهري ، إذ أنه واقع في رتبة المحمول والحكم ، وهذا يقتضي وجود الموضوع أولا « وهو الحكم الواقعي ».

الأمارات والأصول :

اشارة

بعد اتّضاح معنى الحكم الظاهري وأنّه الحكم المجعول في موارد الشك في الحكم الواقعي تصل النوبة إلى ما ينقسم إليه الحكم الظاهري ، فإنّه ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل :

الحكم الظاهري في مورد الأمارات ، وهذا يقتضي بيان معنى الأمارات ؛ وذلك لأنّ الأمارة غير الحكم الظاهري ، إذ الحكم الظاهري هو الحجية التي تجعل للأمارة أو لا تجعل لها.

فنقول : إنّ الأمارات هي عبارة عن الأدلّة الظنيّة التي لها نحو كشف عن الواقع إلا أنّ هذا الكشف ليس تاما ، فمثلا خبر الثقة أمارة وذلك لأنّه دليل ظنّي يكشف عن الواقع كشفا ناقصا ، وقلنا بأنّه ناقص لأنه لا يعطي الإراءة التامة للواقع ولا يورث القطع بالتطابق بين مفاده والواقع بل يبقى احتمال عدم المطابقة قائما معه.

وكذا الكلام في الظهورات العرفيّة فإنّها كواشف ظنية عن مرادات المتكلمين ، إذ أنه يبقى احتمال عدم إرادة هذا المعنى الظاهر للمتكلّم قائما معه ،

ص: 40

وهكذا سائر الأمارات.

إذا اتضح هذا فنقول : إنّ الحكم الظاهري في مورد الأمارة هو الحجية المجعولة من الشارع على الأمارة لأمارتيها.

وبعبارة أخرى هو الحكم الذي يكون موضوعه الدليل الظني الذي له نحو كاشفية - عن واقع - ناقصة ، ولكن بشرط أن يكون المنشأ والملاك من جعله هو كاشفية ودليليّة موضوعه ، فجعل الحكم الظاهري - الحجية - لخبر الثقة مثلا إنّما هو لكونه دليلا وكاشفا ظنيا ، فالواسطة والعلّة الوحيدة في إثبات الحكم الظاهري والحجية للأمارة هو كونها غالبا ما تكون كاشفة عن الواقع ، نعم لا يشترط لهذا الدليل الظني المجعول له الحجية أن يفيد الظن الفعلي دائما بحيث كلمّا قام هذا الدليل أورث الظن عند جميع أهل المحاورة بل يكفي أن يكون موجبا لحصول الظن عند نوع أهل المحاورة وغالبيتهم.

القسم الثاني :

من الأحكام الظاهرية هي : ما اصطلح عليها بالأصول العملية ، وهذا النوع من الأحكام لوحظ في جعلها نوع الحكم الواقعي المشكوك ، فالبراءة مثلا لوحظ في جعلها الشك في الوجوب وعدمه ، وأصالة الحلّ لوحظ في جعلها الشك في الحليّة وعدمها ، وأصالة الطهارة لوحظ في جعلها الشك في الطهارة وعدمها.

فلمّا كانت الأحكام الواقعية في مورد هذه الأصول مجهولة للمكلّف ولا يتمكّن من تشخيصها فحتما سيقع في مخالفة الواقع لفرض جهله بالواقع ، ولمّا لم يكن هناك سبيل لرفع الجهل - وذلك لفقد الأدلّة أو إجمالها -

ص: 41

يلاحظ المولى ما هو الأهم من هذه الأحكام في نظره فيجعل الوظيفة على طبق الحكم الأهم في نظره لغرض المحافظة عليه وإن كان سيؤول إلى الوقوع في مخالفة بعض الأحكام الواقعية ولكنّ هذا حاصل على أيّ حال لفرض الجهل بالأحكام الواقعية ، فالغرض من جعل الحجية لهذا النوع من الحكم دون غيره هو أهميّته على غيره من الأحكام في نظر المولى ، فمثلا المولى حينما يجعل البراءة في موارد الشك في الوجوب وعدمه يكون قد لاحظ أهمية الترخيص والسعة وإطلاق العنان - للمكلّف - على الأحكام الوجوبية فهو وإن كان سيؤدي ذلك إلى الوقوع في مخالفة الواقع وترك بعض الواجبات ولكن ذلك أهون في نظر المولى من تفويت مصلحة الترخيص والتسهيل على العباد.

وهكذا الكلام في أصالة الطهارة وأصالة الحل.

نعم قد يلاحظ المولى في مقام جعل الأصل العملي شيئا آخر بالإضافة إلى نوع الحكم المشكوك وأهميته وهو كون هذا الأصل له نحو كشف وإن كانت هذه الكاشفية ليست هي الملاك التام لجعله بل هي بالإضافة إلى نوع الحكم المشكوك وأهميته ، ومثال ذلك قاعدة الفراغ - الحاكمة بصحة العمل المفروغ عنه في ظرف الشك في صحته - فإنّ منشأ جعلها شيئان كل واحد منهما يمثل جزء الملاك.

الأول : كاشفية الفراغ عن العمل على الإتيان به صحيحا ، إذ غالبا ما يكون المكلف ملتفتا أثناء ممارسته لعمله ، وهذا يقتضي الإتيان به على وجهه ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الالتفات والأذكرية التي تشير إليها الرواية

ص: 42

الشريفة « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (1).

الثاني : كون المشكوك وهو العمل الصحيح قد تمّ الفراغ عنه ، فالصحة المشكوكة التي تم الفراغ عن متعلقها « مثل الصلاة » هي المنشأ والملاك الآخر لجعل قاعدة الفراغ إذ أن الحكم بالصحة في موارد الفراغ من العمل هو الحكم الأهم بنظر المولى وإن كان الحكم بالصحة سيؤدي للوقوع في مخالفة الواقع في بعض الأحيان إلا أن المولى قد تنازل عن ذلك لأهمية الحكم بالصحة بعد الفراغ على الحكم بالبطلان.

فإذن الملاك في جعل قاعدة الفراغ ليس هو كاشفية الفراغ عن عدم الغفلة فقط ، وإلاّ للزم التعبّد بأصالة عدم الغفلة والنسيان في غير موارد الفراغ ، مثلا الشك في الإتيان بالصلاة في الوقت لا تجري فيه أصالة عدم النسيان والغفلة بل لا بدّ من الاعتناء بهذا الشك والإتيان بالصلاة.

وبهذا يتّضح أن الأصول العملية على قسمين :

الأول : الأصول العملية غير المحرزة ، وهي التي لوحظ فيها نوع الحكم المشكوك وأهميّته مثل أصالة البراءة وأصالة الحل وأصالة الطهارة ، وسميت بغير المحرزة لعدم وجود أيّ كشف فيها وإنما هي محض وظيفة عمليّة قرّرت للمكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

الثاني : الأصول العملية المحرزة ، وهي التي لوحظ فيها نوع الحكم وأهميته بالإضافة إلى اشتمالها على نحو من الكشف والمحرزيّة للواقع ، وهذه مثل أصالة الاستصحاب وقاعدة الفراغ وتسمّى أيضا بالأصول

ص: 43


1- معتبرة بكير بن أعين ، وسائل الشيعة : الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 7

التنزيلية لأنّ لسان جعلها هو تنزيل المشكوك منزلة الواقع فمثلا قول الإمام علیه السلام - في مقام جعل قاعدة التجاوز أو الفراغ - بناء على اتحادهما - « بلى قد ركعت » (1) - حينما سئل عن رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لا؟ فقوله : « بلى قد ركعت » تنزيل للمشكوك - وهو وقوع الركوع - منزلة الواقع وأنه قد ركع تعبّدا وتنزيلا.

وكذلك قول الإمام علیه السلام في مقام جعل الاستصحاب في مورد الشك في انتقاض الوضوء بعد اليقين به « فإنّه على يقين من وضوئه » (2) ، فإنه نزّل الوضوء المشكوك منزلة الوضوء المتيقّن.

إذن الأصول العملية التنزيلية هي ما كان لسان جعلها تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن.

اجتماع الحكم الواقعي والظاهري :

قلنا في بحث التضاد بين الأحكام التكليفيّة إنّ العلاقة بين هذه الأحكام هي علاقة التضاد ، فلذلك يستحيل اجتماع حكمين متغايرين من هذه الأحكام على موضوع واحد ، وذلك لاستحالة اجتماع الضدّين ، وقلنا أيضا باستحالة اجتماع حكمين متسانخين على موضوع واحد كاجتماع وجوبين على فعل واحد ، وذلك لاستحالة اجتماع المثلين ، ومن هنا نواجه مشكلة في كيفيّة الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، إذ أنّ كلا

ص: 44


1- وسائل الشيعة : الباب 13 من أبواب الركوع الحديث 3 ، معتبرة الفضيل بن يسار
2- وسائل الشيعة : الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء الحديث 1 ، معتبرة زرارة بن أعين

الحكمين يعرضان موضوعا واحدا ، فمثلا لو كان الحكم الواقعي « لأكل لحم الأرنب » هو الحليّة وكان الحكم الظاهري لأكل لحم الأرنب هو الحرمة بمقتضى خبر الثقة مثلا ، فهذا يعني اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد وهو أكل لحم الأرنب ، وكذلك لو كان الحكم الواقعي للعصير التمري هو الحليّة ، وكان الحكم الظاهري - بمقضى أصالة الحل - هو الحليّة أيضا ، فهذا يعني اجتماع حكمين متماثلين على موضوع واحد وهو مستحيل كما قلنا لاستحالة اجتماع المثلين.

وعلاج هذه المشكلة يتّضح بما بيّنّاه من معنى الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، حيث قلنا هناك إنّ الحكم الظاهري إنما هو في طول الحكم الواقعي ومتأخّر عنه تأخر الحكم عن موضوعه ، فليس للحكم الظاهري وجود مع العلم بالحكم الواقعي إذ أنّ عدم العلم بالحكم الواقعي مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري ، ومع إحراز الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري ، وبالتالي لا وجود للحكم الظاهري ، إذ أن الأحكام كما قلنا تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، أما مع عدم العلم بالحكم الواقعي ، فالحكم الظاهري موجود ومتحقق لوجود موضوعه إلاّ أنّ هذا لا يلزم منه محذور اجتماع الضدين أو المثلين ؛ وذلك لأنه وإن كان هناك حكمان قد عرضا على موضوع واحد ولكن لمّا لم يكونا من طبيعة واحدة وفي عرض واحد فلا مانع من اجتماعهما بعد أن كان أحدهما واقعيّا والآخر ظاهريّا.

ويمكن تنظير ذلك - للتوضيح فقط - بالأحكام الأوليّة والأحكام الثانوية ، فأكل الميتة مثلا حرام بالحكم الأولي ولكنّه حلال بالحكم الثانوي أي في ظرف الاضطرار ، فأكل الميتة صار معروضا لحكمين وهما الحرمة

ص: 45

والحليّة وليس هذا من التضاد المستحيل ؛ وذلك لأن الحرمة من سنخ الأحكام الأولية والحلية من سنخ الأحكام الثانوية.

وبعبارة أخرى يشترط في تحقق التضاد بين الأشياء أن تكون من طبيعة وحيثيّة واحدة ، أما إذا كانت من طبائع وحيثيّات مختلفة فلا محذور في الاجتماع ولا يكون من اجتماع الضدين أو المثلين ونذكر لذلك مثالا - توضيحيّا وليس دقيقا - وهو « إن زيدا قويّ النفس وضعيف البدن » فزيد صار موضوعا لعنوانين وهما الضعف والقوة وليس في هذا محذور إذ أنه ليس من التضاد المستحيل بعد أن كان العنوانان من طبيعتين مختلفتين.

القضية الحقيقة والقضية الخارجية :

القضيّة الحمليّة هي كل موضوع ثبت له حكم ويمكن تقسيمها باعتبار طبيعة موضوعها إلى ثلاثة أقسام :

الأول : القضايا الذهنية وهي ما كان موضوعها ذهنيّا وليس لها ما بإزاء في الخارج مثل الضدين لا يجتمعان ، واجتماع النقيضين مستحيل ، فإنّ موضوع هاتين القضيتين ذهني ، وهذا خارج عن محل الكلام.

الثاني : القضايا الخارجيّة وهي ما كان موضوعها موجود في الخارج فعلا بحيث يمكن الإشارة إليه.

وبعبارة أخرى : القضايا الخارجيّة هي ما كانت موضوعاتها موجودة في الخارج حين إنشاء القضية وتأليفها وهذا يستدعي إحراز المؤلّف للقضية الخارجية للموضوع وأنّه موجود فعلا ، ومن ثمّ يجعل عليه الحكم ، ومثال ذلك أن يقال : « إنّ عدد المسلمين أقلّ من عدد الكفّار في

ص: 46

هذه الأيام » فإنّ المؤلّف لهذه القضية أحصى أولا عدد المسلمين ونسبهم إلى عدد الكفّار ثم جعل الحكم على هذا الموضوع المحقق الوجود حين تأليف القضية.

الثالث : القضايا الحقيقية ، وهي ما كانت موضوعاتها مقدّرة الوجود بمعنى أنه لا يلزم إحراز موضوع القضية الحقيقية خارجا حين تأليف القضية بل يكفي تقديره ، وهذا لا يعني كون أفراد الموضوع بأكملها مقدّرة الوجود إذ لا مانع من كون بعض الأفراد متحققا في الخارج إذ أنّ المناط في صدق القضية الحقيقية أن المؤلّف ليس له أي نظر إلى الموضوع من حيث تحققه في الخارج أو عدم تحققه ، وإنما يفترضه افتراضا ويجعل الحكم عليه ، ومثال ذلك « الفقراء يستحقون العطف » فإنّ موضوع هذه القضية « وهو الفقراء » افترض محقق الوجود ومن ثمّ جعل عليه الحكم وهو استحقاق العطف ، وهذه القضية صادقة حتى لو لم يكن هناك أيّ فقير في الخارج ، إذ أنّ الموضوع في هذه القضية هو المقدّر الموجود ، فكلّما وجد فقير في الخارج فهو مشمول للحكم وهو استحقاق العطف.

إذا اتضح هذا فنقول : إن الأحكام الشرعية قد تجعل على نهج القضية الخارجيّة وقد تجعل على نهج القضية الحقيقية ، ومثال جعل الحكم على نهج القضية الخارجية أن يلاحظ المولى جيرانه ويشخّصهم ويحصيهم ثم يأمر عبده بإكرامهم فيقول : « أكرم جيراني » ، فهذا الحكم وهو وجوب الإكرام قد جعل على موضوع متحقق الوجود خارجا ، إذ أنّ المولى بعد أن لاحظ الجيران وأحصاهم وأحرز وجودهم حكم بوجوب إكرامهم ، فهذه القضية في قوة تعداد أسماء الجيران والحكم بوجوب إكرامهم ، فكأنّما المولى

ص: 47

قال « جاري زيد أكرمه » و « جاري عمرو أكرمه » و « جاري صالح أكرمه » فهي تنحلّ إلى قضايا بعدد أفراد الجيران ، فلو كان الجيران خمسة فعندنا في الواقع خمس قضايا ، موضوع كل قضيّة فرد من أفراد الجيران ومحمولها وجوب الإكرام.

ومثال جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية أن يقدّر المولى موضوعا مثل العلماء ثم يحكم بوجوب إكرامهم فيقول : « أكرم العلماء » ، فإنّ موضوع هذه القضية « وهو العلماء » مقدّر الوجود بغضّ النظر عن وجود بعض أفراده أو عدم وجوده ، وهذه القضية تنحلّ أيضا إلى قضايا موضوعها فرد من أفراد العلماء إلاّ أنّ هذا الفرد الذي ينحلّ إليه الموضوع العام هو الأعم من المتحقّق والمقدّر الوجود فلا يكون لهذه القضية حصر لأفراد مخصوصة بل إنّه كلّما وجد فرد من الموضوع فإنّه يشكّل قضية يكون هو موضوعها ويكون محمولها وجوب الإكرام.

إذن الثمرة المترتبة على الفرق بين القضيّتين الحقيقية والخارجية هي أنه إذا جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية فإنّه بالإمكان ترتيب الحكم حتى على الأفراد المعدومة في زمن تأليف القضية ، فلنا أن نتمسّك بالقضية لإثبات الحكم للأفراد التي تجدّدت بعد تأليف القضية فنحكم بوجوب الإكرام لأفراد العلماء الذين وجدوا بعد هذا الخطاب ، وهذا بخلاف الحكم على نهج القضية الخارجية فإنّه لا يمكن التعدّي من أفراد موضوعها إلى أفراد أخرى تجدّدت بعد تأليف القضية الخارجية ، فلو اتّفق تحقق جار جديد في مثالنا لما أمكن أن نتمسّك بالقضية الخارجية لإثبات وجوب إكرامه إذ أنّه لم يقع موضوعا لتلك القضية.

ص: 48

تنويع البحث

والبحث في المقام عن فهرسة وتبويب المباحث الأصولية التي سيتعرّض لها المصنّف في الكتاب ، وقد طرح المصنّف هنا طريقة جديدة غير التي اعتاد عليها الأصوليّون في تبويب علم الأصول ، حيث إنهم بعد بيان المبادئ التصوّرية لهذا العلم - من بيان تعريفه وبيان موضوعه وفائدته - يشرعون في مباحث الألفاظ كبحث المشتق والأوامر والمفاهيم والعام والخاص والإطلاق والتقييد.

وبعد أن ينتهوا من بيان تمام مباحث الألفاظ يشرعون في مباحث القطع كحجية القطع وأقسامه وبحث الموافقة الالتزامية وبحث التجرّي وهكذا.

وبعد الانتهاء من هذه البحوث يشرعون في مباحث الظنون كالبحث عن حجية الظواهر وخبر الواحد والسيرة المتشرعيّة والعقلائية والإجماع المنقول بخبر الواحد.

ثم يدخلون في مباحث الشك وهي الأصول العملية ، مثل البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير.

وبعد الانتهاء من كل ذلك يبحثون في الخاتمة عن تعارض الأدلة « التعادل والتراجيح » وهذا البحث يتكفّل بمعالجة الأدلّة المتعارضة مثل كيفية معالجة التعارض بين الخبرين الموثّقين.

ص: 49

إلاّ أنّ المصنّف رحمه اللّه قد عدل عن هذا التبويب ؛ لأنه إنما يناسب كون علم الأصول علما مستقلا كسائر العلوم ، في حين أن علم الأصول هو علم أصول الفقه فلا بدّ إذن من أن يساير هذا العلم الفقيه في المراحل والخطوات التي يسير على طبقها في مقام استنباطه للأحكام الشرعية من أدلتها ، فالفقيه عندما يريد أن يستنبط حكما يبحث أولا عن الأدلة التي لها كشف عن الحكم الشرعي ، فإذا تعذّر عليه الحصول على الدليل الكاشف عن الحكم الشرعي لجأ إلى الأدلة التي تحدّد الوظيفة العمليّة للجاهل بالأحكام الواقعية وهي المعبّر عنها بالأصول العملية ، وباعتبار أن هذا العلم قد جعل لغرض تبيين الوسائل التي يستفيد منها الفقيه في عملية الاستنباط للحكم الشرعي فلا بدّ من أن تبوّب هذه الوسائل بطريقة تناسب المراحل التي يمرّ عليها الفقيه في عملية الاستنباط.

فهذا هو المبرّر لابتكار تبويب جديد لعلم الأصول.

إذا اتّضح هذا فلنشرع في بيان هذا التبويب الذي اختاره المصنّف ، فنقول : إن العناصر المشتركة والأدلة العامة - التي يمكن الاستفادة منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة - يمكن تصنيفها إلى قسمين :

القسم الأوّل : هي الأدلة التي يكون منشأ جعلها الكشف عن الأحكام الشرعية وهي الأدلة الظنية المعبّر عنها بالأمارات كخبر الثقة والظهورات العرفية في بحثيها :

الصغروي : وهي التي يبحث فيها عمّا هو ظاهر وما هو غير ظاهر كالبحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب وهذه هي التي يعبّر عنها علماء

ص: 50

الأصول بمباحث الألفاظ.

والكبروي : وهو البحث عن حجية هذا الظهور بعد تحقق الظهور ، فكلا هذين البحثين يبحثان تحت عنوان القسم الأوّل والذي اصطلح عليه بالأدلّة المحرزة لكونها بصغراها وكبراها مما يحرز بها الحكم ويستكشف.

القسم الثاني : وهي الأدلّة العامّة التي جعلت لغرض تحديد الوظيفة العملية في ظرف الشك والجهل بالحكم الشرعي وهي المعبّر عنها بالأصول العملية مثل البراءة والاستصحاب.

وكلا هذين القسمين يمثّلان مجموع الأدلة العامة والعناصر المشتركة ، فكلما يحتاجه الفقيه في عملية الاستنباط لا يخرج عن أحد هذين القسمين ، إلاّ أنّ الفقيه يبدأ في عملية الاستنباط بالبحث عن الأدلّة العامة من القسم الأول ، فإن وجد ما يمكن أن يعتمد عليه لإثبات الحكم الشرعي اكتفى به ولم ينظر إلى القسم الثاني ليحدّد به الوظيفة العملية إذ لا تصل النوبة إليه إلاّ بعد فقدان القسم الأوّل من الأدلة ، وهذا ما سيتم إثباته في مباحث لا حقة إن شاء اللّه.

ومن هذا يتّضح أنّ الفقيه لو لم يجد - ما يعتمد عليه في عملية الاستنباط - دليلا من القسم الأوّل يلجأ إلى الأدلّة من القسم الثاني لغرض تحديد الوظيفة العملية.

وبعد اتضاح الترتّب المرحلي في الأدلّة العامّة والعناصر المشتركة نقول : إنّ المصنّف رحمه اللّه سار على وفق هذا الترتيب في تبويبه لمباحث الأصول ، فأولا يقع البحث عن الأدلة المحرزة ، ثم عن الأصول العملية ، وبعد بحث هذين النوعين من الأدلة العامة يقع البحث عن التعارض ،

ص: 51

ومبرّر جعل هذا البحث في خاتمة المباحث الأصولية أنّ الفقيه بعد تحديد الأدلّة العامة بقسميها يواجه في بعض الأحيان مشكلة وهي تعارض هذه الأدلّة ، فلا بدّ من البحث عن كيفية علاج هذه المشكلة.

والتعارض بين هذه الأدلّة على أنحاء ، فقد يكون التعارض بين دليلين من القسم الأول كالتعارض بين خبر ثقة وظهور آية ، أو بين دليلين من القسم الثاني كالتعارض بين أصالة البراءة وأصالة الاستصحاب.

فلا بدّ للفقيه من معالجة هذه المشكلة ، ومن الواضح أن هذه المشكلة لا تواجه الفقيه إلا بعد تحديد الأدلة وتنقيحها ، لذلك جعلها المصنّف رحمه اللّه في خاتمة المباحث الأصولية.

إذن فالطريقة التي سوف يسير عليها المصنّف رحمه اللّه في عرضه لمباحث الأصول يمكن إجمالها في بحثين وخاتمة.

الأوّل : البحث عن الأدلّة المحرزة.

الثاني : البحث عن الأصول العمليّة.

والخاتمة : في علاج التعارض بين الأدلّة.

إلاّ أن المصنّف رحمه اللّه - وقبل الشروع في عرض هذه المباحث - قدّم مقدّمة بحث فيها عن حجيّة القطع ، وقبل بيان المبرّر لذلك لا بدّ من إجمال معنى حجية القطع وإن كان سيقع الحديث عنه مفصلا فيما بعد.

المراد من القطع هو : الانكشاف التام الذي لا يبقى معه أي احتمال للخلاف.

وبعبارة أخرى : القطع هو : العلم ووضوح الرؤية لمتعلقه ، فمعنى القطع بوقوع حادثة معيّنة - التي هي متعلّق القطع - أن وقوع هذه الحادثة

ص: 52

محل جزم ويقين للقاطع بها بحيث لا يحتمل - ولو بمستوى ضئيل - أنّها لم تقع.

وأما معنى الحجية فهي : المنجّزيّة والمعذّريّة.

والمراد من المنجزيّة هو : جعل المسؤولية على عهدة المكلّف تجاه المقطوع به ، بحيث يكون المكلّف ملزما بامتثاله وللمولى أن يعاقبه إذا خالف ، ويحتجّ عليه بقطعه.

وأما المراد من المعذريّة فهي : نفي المسؤولية عن المكلّف لو اتفق مخالفة قطعه للواقع ، فلو قطع بالإباحة واتفق أنّ الواقع هو الحرمة لما صحّ عقابه وإدانته وكان له أن يحتج لنفسه على المولى بكونه قاطعا بالإباحة.

إذا اتضح ما أردنا إجماله من معنى ( القطع ) ومعنى ( حجيّته ) نصل لبيان المبرّر من تصدير المصنّف رحمه اللّه هذه المباحث بالبحث حول حجية القطع.

فنقول : إن حجيّة القطع هو المرجع الذي تؤول إليه حجية الأدلّة العامة والعناصر المشتركة سواء كانت من قبيل الأدلّة المحرزة أو من قبيل الأصول العملية ، وكذلك هو المرجع في تشخيص موضوعات هذه الأدلّة إذ أنه لا بدّ من أن نحرز ونقطع أن هذا ظاهر مثلا وأن هذا خبر ثقة وأن موضوع البراءة - وهو الشك - متحقق.

وبدون القطع بحجية هذا الدليل أو ذاك لا يمكن التعويل عليه وجعله واسطة في إثبات الأحكام الشرعية إذ أنّ الدليل لا يكون حجة إلا إذا قام الدليل القطعي على حجيّته ، وكذلك الكلام في تشخيص موضوعات هذه الأدلّة فإنه لا بدّ من القطع بتحقق الموضوع لكي نتمكّن من ترتيب الحكم

ص: 53

عليه.

فإذا كان للقطع هذه الأهمية فلا بدّ من تحريره وبيان حجيّته في مرحلة سابقة عن بحث الأدلة العامة والعناصر المشتركة التي نستعملها كوسائل لإثبات الأحكام الشرعية إذ أنّ هذه الأدلّة لمّا كانت ظنية فهي تحتاج لإثبات دليليتها وحجّيتها إلى مثبت قطعي وإلاّ تعذّر إثبات دليليتها إذ أنّ الاستدلال على القضايا الظنية بما هو ظني يلزم منه التسلسل المستحيل.

وبهذا يتّضح المبرّر من تصدير المصنّف المباحث الثلاثة ببحث حجّية القطع.

ص: 54

حجّيّة القطع

اشارة

ويمكن تصنيف البحث إلى مجموعة من المباحث :

المبحث الأوّل: المراد من معنى القطع :

القطع هو عبارة عن الانكشاف التام للمقطوع - وهو متعلّق القطع - بحيث لا يبقى معه أيّ احتمال - ولو بمستوى ضئيل - للمخالفة فحينما نقطع بموت زيد فهذا يعني بأنّ موت زيد من الوضوح بحيث لا نحتمل ولو بمرتبة ضعيفة عدم تحقّقه ، فلذلك نرتب تمام الآثار ، المترتبة على موته بدون تردد.

والكاشفية الثابتة للقطع ذاتية بمعنى أنّها عين القطع ، فالقطع هو الكاشفية كما أنّ الكاشفية هي القطع وليس القطع شيئا ثبتت له الكاشفية.

ولتوضيح هذا المطلب لا بدّ من بيان معنى الذاتي.

المراد من الذاتي في المقام هو الذاتي في باب الكليّات الخمسة « الإيساغوجي » وهو عبارة عن مقوّم الماهيّة بحيث تثبت بثبوته وتنتفي بانتفائه.

وبعبارة أخرى : الذاتي من كل شيء ما يكون به قوامه بحيث يكون

ص: 55

ذلك الذاتي هو حقيقة ذلك الشيء أو هو مع غيره حقيقة لذلك الشيء ، ومثال ذلك الإنسان هو الحيوان الناطق ، فالحيوان الناطق ذاتي للإنسان إذ هو المقوّم للإنسان بحيث إذا انتفت الحيوانية الناطقية انتفت إنسانيته فهو عين الإنسان وحقيقته.

وقد يكون الذاتي جزء المقوّم لا تمام المقوّم مثل الحيوان بالنسبة للإنسان ، وكذلك الناطق بالنسبة للإنسان ، فالحيوانية والناطقية كلّ منهما يمثل الجزء المقوّم للإنسان ويكفي في انتفاء الإنسانية انتفاء الجزء المقوّم لها مثل الحيوانية.

فإذا اتضح هذا يتّضح معنى قول الأصوليّين أنّ القطع كاشف بذاته أو أنّ الكاشفية ذاتية للقطع إذ أنّ هذا الكلام يعني أنّ الكاشفية هي مقوّم القطع وحقيقته ، فإذن الكاشفية هي عين القطع لا أنّ القطع شيء ثبتت له الكاشفية ، إذ يستحيل ثبوت الشيء لنفسه وذاته فلا يقال : الإنسان شيء ثبتت له الحيوانية الناطقية ، إذ أنّ هذا يؤول إلى أنّ الإنسان غير الحيوانية الناطقية وإنّما هي شيء عارض عليه وهذا خلف ذاتية الحيوانية الناطقية للإنسان.

وبهذا يتّضح عدم إمكان جعل الكاشفية للقطع إذ أنّ جعل شيء لشيء فرع تغايرهما وقد قلنا إنهما حقيقة واحدة وإنما التغاير في التعبير ، وبه يتّضح دعوى المصنّف من أن الخصوصية الأولى للقطع - وهي الكاشفية - بديهة ، إذ أنّ ثبوت الشيء لنفسه بديهي ، فالإنسان إنسان بالبداهة فكذلك القطع قطع أي كاشف بالبداهة.

ص: 56

المبحث الثاني: محركيّة القطع :

اشارة

والمراد من محركية القطع : أن القطع يساهم في تحرّك وانبعاث القاطع نحو مقطوعه أي نحو الشيء الذي قطع به. وقلنا إنه يساهم في التحريك والبعث لأنه ليس السبب الوحيد في التحريك والبعث بل هناك سبب آخر إذا انضمّ إلى القطع يتولّد عن مجموعهما التحرّك والانبعاث ، وهذا السبب الآخر هو الغرض والحاجة فمثلا إذا قطع العطشان بوجود الماء في مكان معين فإنّه يتحرّك لتحصيل الماء ، والذي حرّكه نحو تحصيل الماء من المكان المعيّن أمران ، الأول : القطع بوجوده في ذلك المكان ، والثاني : تعلّق غرضه بتحصيله وهو الارتواء ، فلو فقد الغرض مثلا فلا يكون القطع محرّكا ، فغير العطشان لو قطع بوجود الماء في مكان معيّن فلا يكون ذلك القطع محرّكا له إذ ليس عنده داع وغرض لتحصيل الماء ، وكذلك لو كان عطشانا والماء موجود بالقرب منه ولكنه لا يعلم به فإنّ تعلّق إرادته بتحصيل الماء لا تحرّكه نحو ذلك المكان فلذلك قالوا : « إنّ الإنسان قد يموت عطشا والماء في رحله ».

ما المراد من أنّ المحركيّة أثر تكويني للقطع؟

المراد هو : أنّ المحركيّة لازم ذاتي للقطع والمقصود من اللازم الذاتي هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها بحيث يستحيل انفكاكه عن الذات ، واللازم الذاتي غير الذاتي في باب الكليّات الذي تقدم بيانه حيث إنّ المراد

ص: 57

منه كما تقدم المقوّم للذات أما اللازم الذاتي فهو غير الذات وليس مقوّما لها ، فلا هو جنس للذات ولا هو فصل لها ، وإنّما هو شيء خارج عنها محمول عليها ، ومثال ذلك الزوجية للأربعة والفردية للثلاثة ، فالزوجية ليست عين الأربعة ولا هي مقوّم لها وإنما هي لازم يستحيل انفكاكه عنها ، وكذلك الحرارة بالنسبة إلى النار ، فالنار غير الحرارة وإنما هي شيء متّصف بالحرارة ، والحرارة بالنسبة لها لازم ذاتي يستحيل أن يتخلّف عنها.

وبهذا يتّضح معنى كون المحركيّة أثرا تكوينيا للقطع ولازما ذاتيا له حيث إنّ طبيعة القطع أنّ له المحركية بحيث يستحيل تخلّفها عنه ، كما نقول إنّ الحرارة أثر تكويني للنار ولازم ذاتي لها ، وذلك في مقابل المحمول المفارق حيث لا يستحيل تخلّفه عن الذات كالحركة بالنسبة للفلك فإنه وإن كانت الحركة تعرض للفلك ولكنه يمكن أن تتخلّف عنه.

هل المحركيّة للقطع بديهيّة؟

والجواب : إنّ إثبات كون المحركيّة للقطع بديهية يحتاج إلى إثبات أنّها لازم ذاتي بيّن سواء بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم ، إذ أن كلا النوعين للاّزم الذاتي البيّن بديهي ، وذلك في مقابل اللازم الذاتي غير البيّن فإنه نظري.

وبيان ذلك : أن اللازم الذاتي تارة يكون بيّنا وتارة يكون غير بيّن ، والبيّن ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : اللازم الذاتي البيّن بالمعنى الأخص ، وهو ما يكفي في الإذعان والجزم به تصوّر الذات المحمول عليها ذلك اللازم ، وبعبارة أخرى : اللازم الذاتي هو ما يكون تصوّر الملزوم كافيا في تصوّر لازمه والتصديق

ص: 58

والإذعان بالملازمة بينهما ، وذلك مثل الزوجية للأربعة فالأربعة ملزوم والزوجية لازم ذاتي لها ، ومن الواضح أنّه بمجرد أن نتصوّر معنى الأربعة وندرك معناها يحصل لنا تصوّر الزوجية والإذعان بأنّها لازم ذاتي للأربعة.

الثاني : اللازم البيّن بالمعنى الأعم وهو ما يكفي في حصول الجزم والإذعان بالملازمة بين الذاتي ولازمه تصوّر معنى الذات وتصوّر معنى اللازم وتصوّر النسبة بينهما ، فإذا حصلت هذه التصوّرات الثلاثة يحصل الجزم مباشرة بالملازمة ، ومثال ذلك « الاثنين نصف الأربعة » ، فإنّ الجزم بهذه القضيّة وأنّ المحمول لازم للموضوع لا يحتاج لأكثر من تصوّر معنى الاثنين ومعنى الأربعة ومعنى النصف.

إذا اتّضح هذا يتّضح أن الجامع بين هذين القسمين هو أنّ ثبوت الملازمة فيهما والجزم بها لا يحتاج إلى أكثر من التصوّر ، وبعبارة أخرى : الجزم بالملازمة في هذين القسمين لا يحتاج إلى برهنة ودليل نظري ، وهذا بخلاف اللازم الغير البيّن فإنه لا يمكن الجزم فيه بالملازمة إلا عن طريق البرهان مثل القضايا الرياضية المعقّدة ، فإن نتائجها ومحمولاتها لازمة لموضوعاتها ولكنّها تحتاج إلى برهنة.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة يتّضح أنّ المحركية للقطع من قسم اللازم البيّن بالمعنى الأخص الذي هو أحد القسمين البديهيّين اللّذين لا يفتقران إلى برهنة إذ يكفي في الجزم بثبوت المحركية للقطع تصوّر القطع وإدراك معناه ، فالقاطع إذا تعلّق غرضه بالمقطوع تحرّك لا محالة لتحصيله.

إلى هنا ثبت أنّ للقطع خصوصيّتين ، الأولى : الكاشفية وهي ذاتية للقطع ، والثانية : المحركيّة وهي لازم ذاتي وأثر تكويني ، وكلا الخصوصيّتين

ص: 59

بديهيّتان إلاّ أنّهما لا تحققان الغرض الذي من أجله يبحث الأصولي مسألة القطع ، إذ أنّ الأصولي يبتغي من وراء بحث مسألة القطع إثبات الحجيّة له وهي شيء آخر غير الخصوصيّتين المذكورتين.

وبعبارة أخرى : إنّ الأصولي في بحث الأصول يبحث عن الأدلة من حيث إنها حجّة ومنجّزة للتكاليف الشرعية أو لا ، فلذلك لا بدّ من بحث مسألة القطع من هذه الحيثية لأنّها هي التي تتناسب مع الغرض الذي من أجله وضع علم الأصول.

المبحث الثالث: حول حجّية القطع :

والبحث فيه يقع في جهات :

الجهة الأولى : في معنى الحجيّة : الحجّة كما ذكر المناطقة هي المعلوم التصديقي الذي يمكن أن يحتجّ به ويكون كبرى في القياس المنطقي لغرض إثبات مجهول تصديقي أو قضية غير مسلّمة.

وبعبارة أخرى : كل قضية معلومة تصلح لإثبات قضية مجهولة أو غير مسلّمة عند الخصم فهذه القضيّة تسمّى حجّة ، ومثال ذلك قولنا : « كل حديد فهو يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة » هذه القضية والتي هي معلوم تصديقي يمكن الاحتجاج بها لغرض إثبات مجهول تصديقي - مثل أنّ الحديد الصلب هل يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة - وذلك عن طريق

ص: 60

جعلها كبرى في القياس الأرسطي هكذا.

* الحديد الصلب نوع من أنواع الحديد ( الصغرى )

* وكل حديد فهو يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة ( كبرى )

* النتيجة : إن الحديد الصلب يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة.

هذه النتيجة حصلت عن طريق جعل المعلوم التصديقي كبرى في القياس ، إذا هذه الكبرى حجّة لأنها تصلح للاحتجاج بها لإثبات النتيجة المجهولة قبل تشكيل القياس أو الغير مسلّمة لدى الخصم.

إذا اتّضحت هذه المقدّمة يتّضح معنى قولهم إنّ القطع حجّة ، أي أنّه يمكن الاحتجاج به وجعله كبرى لقياس الغرض من تشكيله إثبات قضية مجهولة أو غير مسلّمة لدى الخصم ، فمثلا قولنا : « إنّ القطع حجّة » معلوم تصديقي ، فلو أنّ أحدا يجهل حكم أكل غير المذكى فهذا مجهول تصديقي ، فيمكن أن نخرجه من الجهل إلى العلم عن طريق تشكيل قياس نجعل كبراه معلوما تصديقيا وهو أنّ القطع حجّة هكذا :

* إنّ اللحم غير المذكى ميتة والميتة حرام قطعا

* والقطع حجة* النتيجة : إنّ اللحم غير المذكى حرام.

فهذه النتيجة التي كانت مجهولة ثبتت بواسطة كبرى القياس وهو حجيّة القطع وبالتالي يستطيع المولى أن يحتجّ على عبده - عند المخالفة - بهذه النتيجة الثابتة بالقطع ومن ثم يعاقبه إذا أراد ، وهذا هو معنى المنجزيّة.

وكذلك الكلام في المعذّريّة التي هي معنى ثان للحجيّة في اصطلاح الأصوليّين إلاّ أنّ الاحتجاج هنا يكون للعبد على المولى في الموارد التي

ص: 61

يقطع العبد بحلية شيء فيرتكبه ويتّفق حرمة ذلك الشيء واقعا فإنّه يستطيع أن يحتج على المولى بالقطع بالحليّة فيكون ذلك معذّرا له عن المخالفة ومصحّحا لنفي المسؤولية عليه تجاه مولاه.

الجهة الثانية من المبحث الثالث : وهي البحث عن التلازم بين الخصوصيّتين - وهما الكاشفيّة والمحركيّة - وبين الخصوصيّة الثالثة وهي الحجيّة للقطع ، فنقول : إنّه مع اتّضاح معنى الخصوصيّات الثلاث يتّضح عدم التلازم بين الخصوصيّتين وبين الحجيّة بمعنى أنّ البحث لا ينتهي بثبوت الكاشفيّة والمحركية للقطع بحيث يكون ثبوتهما معنى آخر لثبوت الحجيّة للقطع وبه ينتهي الحديث عن حجيّة القطع ، بل لا بدّ من بحث الخصوصيّة الثالثة وأنّها ثابتة للقطع أو لا. وذلك لأنّ الخصوصيّة الأولى ليست أكثر من بيان معنى القطع ، والحجيّة ليست هي معنى القطع ولا هي جزؤها المقوّم كما اتّضح ذلك من بيان معنى القطع ومعنى الحجيّة ، وكذلك الكلام في الخصوصيّة الثانية وهي المحركية فهي ليست أكثر من بيان أثر تكويني من آثار القطع ، والمحركيّة غير الحجيّة كما اتّضح من بيان معناهما فلا يلزم من ثبوت المحركية للقطع ثبوت الحجيّة له ، نعم ثبوت المحركيّة لا يمنع من ثبوت الحجيّة إذ من الممكن جدا أن يكون للشيء الواحد مجموعة من الآثار.

والنتيجة : أنّ التسليم بالخصوصيّتين لا يعني التسليم بثبوت الحجيّة للقطع ، وبالتالي لو أنكرنا الخصوصية الثالثة « الحجيّة » مع التسليم بالخصوصيّتين لا يؤول ذلك إلى التناقض المنطقي وإنما يؤول لو كانت الحجية هي عين الكاشفية أو جزءها المقوّم أو هي عين المحركية أو جزءها المقوّم ، أما وقد ثبت التغاير بينها وبين كلّ من الخصوصيّتين فلا يكون الالتزام بهما

ص: 62

مع إنكارها تناقضا منطقيا.

وبعبارة أخرى : لو كانت الحجية معنا آخر للكاشفيّة فهذا يعني أن التسليم بالكاشفية للقطع مع إنكار الحجية للقطع تناقض إذ أنّ ذلك يؤول إلى أن الكاشفية للقطع ثابتة وغير ثابتة ، وكذلك لو كانت الحجية جزء مقوّم للكاشفية ، فالتسليم بها مع إنكار الحجيّة التي هي الجزء المقوّم لها يؤول إلى التناقض المنطقي ، فكأنما نقول إنّ الكاشفية للقطع ثابتة وغير ثابتة فكما أن القول إن الإنسان ليس بناطق يؤول إلى التناقض فكأنه قيل الإنسان ليس بإنسان ، كذلك الكلام في المحركيّة مع الحجيّة.

والمتحصّل أننا لما أثبتنا مغايرة الخصوصيّتين للخصوصيّة الثالثة ( الحجيّة ) فلا يكون تسليمنا بالخصوصيّتين مع إنكارنا للثالثة تناقضا فنحن في سعة من جهة التسليم بها وعدم التسليم.

الجهة الثالثة من المبحث الثالثة : الحجيّة هل هي ثابتة للقطع أو لا؟

المعروف بين الأصوليّين ثبوت الحجيّة للقطع بمعنى أنّها لازم ذاتي للقطع.

وقد اتّضح مما سبق معنى اللازم الذاتي وأنه المحمول الخارج عن الذات اللازم لها مثل الحرارة بالنسبة إلى النار ، فإنّها غير النار إلا أنّها لازمة للنار ، بحيث يستحيل تخلّفها عن النار.

ومع اتّضاح معنى اللازم الذاتي يتّضح معنى قولهم إن القطع بذاته يستلزم الحجيّة ، فالحجية هي المحمول الخارج عن ذات القطع اللازم له بحيث لا يمكن التخلّف لاستحالة تخلف اللازم الذاتي عن ملزومه.

ص: 63

هل أن كل قطع حجّة؟

بعد أن اتضح المراد من حجيّة القطع وأنّ الحجيّة لازم ذاتي للقطع ، يقع الكلام في أنّه هل أن مطلق القطع حجة؟ وهل أن الحجية لازم ذاتي لكل قطع؟ والجواب : إن القطع الذي تكون الحجيّة لازما ذاتيّا له هو القطع بتكليف المولى لا القطع بتكليف أيّ آمر حتى لو لم يكن مولى ، حيث إن أوامر غير المولى لا يكون العبد مسؤولا عن امتثالها. إذن القطع الذي يكون حجّة ويكون المكلّف مسؤولا عن الجريان على طبقه هو القطع بتكاليف المولى لا القطع بأيّ تكليف حتى لو كان من غير المولى.

ومن هنا لا بدّ من معرفة المراد من المولى. المولى هو : من حكم العقل بوجوب طاعته وقبح مخالفته.

وتلاحظون أنّ هذا البيان تعبير آخر عن معنى الحجيّة ، إذ أنّ الحجيّة هي عبارة عن المسؤولية التي يجعلها العقل على عهدة العبد تجاه أوامر المولى ، فالمولى هو من تجب طاعته ، والحجية هي وجوب طاعة المولى في أوامره ، وهذا يقتضي أن الحجيّة ثابتة في مرحلة سابقة على القطع حيث إنها تثبت بمجرّد وجود أوامر للمولى ، ولذلك يكون معنى قولنا إن القطع بأوامر المولى حجة هو أن القطع بأوامر من تجب طاعته تجب طاعته ، فيكون المحمول تكرارا للموضوع إذ أن الحجيّة وهي محمول القضية هي وجوب الطاعة للمولى والموضوع وهو القطع بأوامر المولى عبارة ثانية عن القطع بأوامر من تجب طاعته ، كل ذلك يوضح أنّ الحجية ليست ثابتة للقطع بما هو قطع ، بل بما هو كاشف عن أوامر المولى ، فالحجيّة إنما هي ثابتة لأوامر المولى بمقتضى مولويّته إذ هي الملاك في حكم العقل بوجوب

ص: 64

الطاعة لأوامر المولى.

والمتحصّل من هذا البيان : أن المصنّف يريد أن يثبّت أن القطع ليس هو الملاك لثبوت الحجيّة لنفسه ، وأن الحجيّة ليست هي لازما ذاتيّا للقطع بما هو قطع ، وإنما الحجيّة ثابتة للقطع باعتبار كاشفيّة القطع عن أوامر المولى.

واستدلّ المصنّف على ذلك بما يمكن أن يستوحى من عبائره المشوّشة في المقام بدليلين :

الدليل الأوّل : إنّنا بالوجدان نجد أن القطع بأوامر غير المولى ليست ملزمة ولا يجد المكلّف نفسه مسؤولا عن الجريان على طبقها.

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّمتين ، الأولى : هي أن المولى هو من حكم العقل بوجوب طاعته وهذا تعبير آخر عن الحجيّة إذ أن الحجيّة هي حكم العقل بوجوب طاعة أوامر المولى. المقدّمة الثانية : هي أن الملاك في حكم العقل بوجوب طاعة أوامر المولى هي المولويّة.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان تعرف أن القطع ليس حجّة بما هو قطع وإنما هو حجّة باعتبار كاشفيّته عن أوامر المولى إذ لا شيء يقتضي الحجيّة سوى المولوية ، فالمولوية هي الواسطة في ثبوت الحجيّة ووجوب الطاعة لأوامر المولى لا القطع.

فالقطع واسطة في الإثبات ، والمولويّة واسطة في الثبوت.

الجهة الرابعة من المبحث الثالث : حدود حق الطاعة للمولى.

إذا اتّضح أن الحجيّة ليست ثابتة للقطع بما هو قطع وإنما الحجيّة ثابتة له باعتبار كاشفيّته عن أمر المولى ، فلزوم الجريان على طبق القطع

ص: 65

بالتكليف المولوي منشؤه حكم العقل باستحقاق المولى للطاعة.

ومن هنا لا بدّ من البحث عن حدود حقّ الطاعة للمولى ، فنقول : إن الأقوال في المقام ثلاثة :

الأول : كل قطع يكشف عن التكليف المولوي فهو ينقّح ويحقّق موضوع حق الطاعة أي أن مطلق القطع منجز دون اعتبار نوع خاص من القطع ، فالقطع سواء نشأ عن مقدّمات عقلائية أو غير عقلائية وسواء كان منشؤه الكتاب والسنّة أو كان منشؤه الأحكام العقلية ، وهذا القول تبناه أكثر الأصوليّين.

الثاني : إنه ليس كل قطع بالتكليف يحقّق موضوع حق الطاعة وإنما الذي يثبت حق الطاعة للمولى هو بعض القطوعات دون بعض ، وهذا مثل التفصيل الذي ذهب إليه بعض الأعلام بين القطع الذي نشأ عن مبررات عقلائية والقطع الذي نشأ عن مبررات غير عقلائية « قطع القطّاع » ، فالأول يثبت به حق الطاعة دون الثاني ، وكالتفصيل الذي ذهب إليه بعض الأخباريّين من أنّ القطع الناشئ عن غير الكتاب والسنّة لا يثبت به التكليف ، وليس للمولى حق الطاعة في التكليف المنكشف عن غير الكتاب والسنّة.

الثالث : من الأقوال وهو ما تبنّاه المصنّف رحمه اللّه من أنّ مطلق الانكشاف منجّز ومثبت لحق الطاعة للمولى سواء كانت مرتبة الانكشاف هي القطع الذي هو أعلى مراتب الانكشاف أو الظن الذي هو مرتبة أضعف أو الاحتمال الذي تكون مرتبة كشفه عن التكليف المولوي ضئيلة جدّا.

فهذه هي الأقوال الثلاثة في المقام ، وواضح أنها تتفاوت من حيث

ص: 66

سعة دائرة حق الطاعة للمولى وضيقها ، فالقول الثاني يضيّق دائرة حق الطاعة للمولى بحيث لا يكون للمولى حق الطاعة إلاّ في بعض موارد القطع كالقطع الناشئ مثلا عن الكتاب والسنّة الشريفة.

أما القول الأوّل فهو أوسع دائرة من القول الثاني حيث إنه يثبت حق الطاعة في تمام موارد القطع بالتكليف المولوي بغضّ النظر عن منشأ ذلك القطع.

وأما القول الثالث فقد توسّع في إثبات حق الطاعة للمولى بحيث ذهب إلى أنّ مطلق الانكشاف ينقّح موضوع حق الطاعة سواء كان هذا الانكشاف بمرتبة القطع أو بمرتبة الظن أو الاحتمال. وقلنا إن المصنّف قد اختار هذا القول ولم يستدل المصنّف على هذه الدعوى في هذا الكتاب إلا بأنّ هذا هو مقتضى ما يدركه العقل ، ولعلّه يشير إلى أن هذه الدعوى بديهيّة لا تحتاج إلى أكثر من تصوّرها ومنه يحصل الجزم بها إذ أن مولانا - سبحانه وتعالى الذي هو وليّ نعمتنا - لا يمكن أن يقاس بالموالي العرفيّين الذين لا تتّسع مولويّتهم لأكثر من موارد القطع.

وبه يتّضح أن المصنّف رحمه اللّه يذهب إلى أنّ مولويّة المولى تتّسع لمطلق موارد الانكشاف حتى وإن كانت مرتبته الاحتمال ، فكلّ انكشاف للتكليف مهما كانت مرتبته فهو منجّز ، ويكون العبد مسؤولا عن امتثاله أداء لحق المولويّة ، ومن هنا نعرف أنّ تنجيز تكاليف المولى ليس ثابتا للقطع بعنوانه بل باعتبار كونه نحوا من أنحاء الانكشاف إذ أنّ كلّ أنحاء الكشف عن التكليف المولوي منجّز إلاّ أن يرخص المولى في تركه كما هو حاصل مثلا في موارد الكشف الاحتمالي وبعض موارد الكشف الظني ، حيث إنه رخص

ص: 67

في ترك متعلّق ذلك الكشف ، فقال : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » (1) وقال : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) ، نعم سيتّضح عدم إمكان الترخيص في موارد الانكشاف بنحو القطع.

الجهة الخامسة من المبحث الثالث : وهي أنّ المولى هل له أن يمنع عن العمل بالقطع؟ وهل يمكن التكفيك بين المنجزيّة والقطع بالتكليف بحيث يكون القطع بالتكليف موجودا ومع ذلك لا يكون منجّزا؟

والجواب : إنّنا وإن قلنا بأن المولى يمكن له أن يرخص في ترك التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال ولكنّ ذلك غير ممكن في موارد الكشف القطعي ، بل إنّ الانكشاف القطعي كلّما حصل فهو منجّز ولا يمكن تجريده عن المنجزية والحجية ، والدليل على ذلك : أن الأحكام الشرعيّة تنقسم كما تقدّم إلى قسمين : واقعية وظاهرية ، والترخيص المتصوّر في موارد القطع بالتكليف إنما هو في الأحكام الواقعية إذ أنّ الأحكام الظاهرية لا وجود لها في موارد القطع إذ أننا قلنا في محلّه إن الأحكام الظاهرية أخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي أو أنها تثبت في موارد الشك ، ولا شك في مفروض الكلام إذ أننا نتحدّث عن الترخيص في موارد القطع ولا يتصوّر فيه الترخيص الظاهري لعدم وجود موضوعه وهو الشك والأحكام تابعة وجودا وعدما لموضوعاتها ، إذن الترخيص الذي يبحث عن إمكانه وعدم إمكانه في المقام إنما هو في الأحكام الواقعية ، إذ هي التي لم

ص: 68


1- وسائل الشيعة : الباب 56 من أبواب جهاد النفس الحديث 1
2- وسائل الشيعة : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 33

يؤخذ في موضوعها ولا في موردها الشك.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الترخيص في التكليف الثابت بواسطة القطع مستحيل لأنه يلزم منه اجتماع الضدّين وذلك لأنّ التكليف لمّا كان ثابتا بالقطع فهو واقعي فلو حكم المولى بالإباحة لذلك الشيء الذي ثبتت حرمته مثلا فهذا يعني أن المولى قد جعل حكما واقعيا آخر لنفس ذلك الشيء ، وهذا يؤول إلى ثبوت حكمين متغايرين لموضوع واحد ، الأول هو الحرمة الثابتة بالقطع ، والثاني هو الإباحة الواقعية ، وبه يثبت اجتماع الضدّين إذ أننا قلنا في محلّه أن الأحكام التكليفية متضادّة فيما بينها ، فلا يمكن اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد.

وبهذا البيان يتّضح استحالة الترخيص في التكاليف الثابتة بالقطع.

وهنا لا بدّ من التنبيه على أمر وهو أنّ المراد من الترخيص الذي يستحيل في موارد القطع بالتكليف هو الترخيص مع عدم التنازل عن التكليف الثابت بالقطع ، لا الترخيص الذي هو عبارة عن تبديل المولى حكمه بنسخ مثلا ، إذ أن هذا ليس من اجتماع الضدّين بل هو من قبيل استبدال حكم بآخر.

وفرض الكلام هو القطع بعدم تبديل المولى لحكمه ، إذ أن هذا هو معنى القطع بالتكليف فكيف نصغي للترخيص ونحن نقطع بفعليّة التكليف ، وهل هذا إلاّ من اجتماع الضدّين - لا أقل في اعتقاد القاطع - أو من قيام الحكم الظاهري في موارد القطع بالحكم الواقعي.

إذا اتّضح كل ما ذكرنا يتّضح الفرق بين الانكشاف القطعي وبين الانكشاف غير القطعي ، فإنهما وإن كانا يشتركان في أن كلاّ منهما منجّز إلا

ص: 69

أن الأول - وهو الانكشاف القطعي - لا يمكن الترخيص في ترك متعلّقه بخلاف الانكشاف غير القطعي فإنه يمكن الترخيص في مورده ؛ وذلك لأن الترخيص حكم ظاهري بالإباحة والحكم الظاهري موضوعه أو مورده الشك وعدم العلم وهو حاصل في موارد الانكشاف الظني والاحتمالي.

وبهذا يتّضح معنى قول المصنّف إنّ منجزيّة القطع غير معلّقة بخلاف منجزيّة الظن والاحتمال فإنها معلّقة على عدم الترخيص ، فالظن بالتكليف مثلا منجز إلا أن يرخّص المولى في تركه وكذلك الاحتمال ، وهذا لا يقال في القطع بالتكليف ، إذ يستحيل الترخيص في متعلّقه فهو إذن غير معلّق بل هو منجز دائما وأبدا.

الجهة السادسة من المبحث الثالث : والحديث فيها عن معذّرية القطع وعن الحدود التي يكون المكلّف فيها معذورا في تركه التكليف المولوي.

أقول : إنّ تنقيح هذا المطلب يرتبط أيضا بمدى سعة أو ضيق حق الطاعة للمولى ، فالاحتمالات الثبوتيّة في المقام ثلاثة :

الأوّل : أن موضوع حق الطاعة هو التكليف في لوح الواقع وليس لانكشاف ذلك بأيّ نحو من أنحائه دخالة في الموضوع بل الموضوع لحق الطاعة هو التكليف المولوي في نفس الأمر والواقع ، فكلّما كان هناك تكليف - ولو لم يصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول - فالمكلّف مسؤول عن امتثاله. وبناء على هذا الاحتمال لا يكون القطع بعدم التكليف معذّرا فضلا عمّا إذا كان المكلف يظنّ بالتكليف أو يحتمله ، ومن هنا لو قطع المكلّف بعدم التكليف فتركه واتفق وجوده في الواقع فإنّ للمولى أن يعاقبه على

ص: 70

تركه إذ أنّ ذلك حق له تعالى بناء على هذا الاحتمال إذ أنه يفترض أن حق الطاعة موضوعه التكليف المولوي بغضّ النظر عن قطع المكلّف بثبوته أو قطعه بعدمه أو ظنه بثبوته واحتماله لعدمه او احتماله بثبوته وظنّه بعدمه.

الثاني : أن يكون موضوع حق الطاعة هو القطع بالتكليف فليس التكليف بنفسه منجزا وموجبا للمسؤولية بل إن الموجب لطاعة المولى هو التكليف المقطوع به ، وبناء على هذا الاحتمال لا يكون للمولى حق الطاعة في غير موارد القطع بالتكليف ، فلو كان هناك تكليف في الواقع إلا أن المكلف يقطع بعدمه أو لا يقطع بوجوده - بل يظن أو يحتمل - فهو كاف في عدم مسؤوليّته عن ذلك التكليف إذ أن موضوع حق الطاعة - بناء على هذا الاحتمال - ليس هو التكليف بما هو ، وليس هو التكليف الواصل بمرتبة الظن أو الاحتمال ، بل هو التكليف الواصل بمرتبة القطع ، فلذلك يكون المكلّف معذورا حتى في موارد الظن بالتكليف أو احتماله فضلا عن القطع بعدم وجوده.

الثالث : وهو أن موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، أي سواء كان واصلا بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ، والفارق بين هذا الاحتمال والاحتمال الثاني هو : أن الثاني افترض الموضوع فيه - لحق الطاعة - التكليف الواصل بالقطع فقط ، أما هذا الاحتمال فموضوع حق الطاعة فيه هو التكليف الواصل والمنكشف بأي نحو من أنحاء الانكشاف ، والثمرة التي تظهر بين الاحتمالين الثاني والثالث هي أنه بناء على الثاني لا يكون المكلّف مسؤولا إلا في موارد القطع بالتكليف وبالتالي يكون معذورا في مخالفة التكليف الواقعي إذا كان وصوله بنحو الظن أو

ص: 71

الاحتمال فضلا عمّا إذا كان المكلّف قاطعا بعدم التكليف ، وأما بناء على الاحتمال الثالث فالمكلّف لا يكون معذورا إلا في موارد القطع بعدم التكليف أما في حالة وصول التكليف وصولا ظنيا أو احتماليا ، فالمكلّف مسؤول عن ذلك التكليف.

اذا اتّضحت هذه الاحتمالات الثبوتية نصل لبيان ما هو مقتضى مقام الإثبات وأنه أيّ الاحتمالات التي قام الدليل على صحّتها وأيّها قام الدليل على عدم صحّتها ، فنقول :

إن الاحتمال الأول - وهو الذي يفترض أنّ حق الطاعة ثابت للمولى حتى في موارد القطع بعدم التكليف - فهو باطل قطعا لاستحالة أن يحكم العقل بلزوم امتثال التكاليف التي يقطع المكلّف بعدمها إذ على أي مستند يعتمد المكلف في امتثاله للتكاليف في حين أنه يقطع بعدمها فحتى الاحتياط في مثل هذه الموارد غير معقول ، فبأيّ وسيلة يتوسّل العقل بتحريك المكلّف بعد أن كان قاطعا بعدم التكليف.

وبعبارة أخرى : ان المولى غير قادر على تحريك المكلّف نحو الامتثال بعد أن كان المكلّف قاطعا بعدمه إلا أن يلجئه أو يجبره وهو خلف الفرض ، ولا العقل قادر على ذلك بعد استحالة الاحتياط في مثل هذه الموارد.

وأما الاحتمال الثاني وهو أنّ موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بالقطع دون الظن أو الاحتمال فهو ما ذهب إليه مشهور الأصوليّين لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » ، والظن والاحتمال ليس بيانا فلا يكون منجّزا بل إن المكلّف معذور في المخالفة لو اتفقت ، نعم لا يكون معذورا في تركه للتكليف لو كان قاطعا به.

ص: 72

وأما الاحتمال الثالث - وهو أن موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ( القطعي والظني والاحتمالي ) - فهو ما تبنّاه المصنّف رحمه اللّه واستدلّ عليه فيما سبق بأن ذلك هو ما يدركه العقل العملي من أن مولانا سبحانه وتعالى الذي هو وليّ نعمتنا تتّسع حدود استحقاقه للطاعة حتى لموارد الظن والاحتمال.

وهكذا نصل إلى النتيجة التي هي الغاية من هذا البحث وهي معذّريّة القطع ، وأن القاطع بعدم التكليف لا يكون مسؤولا عن ذلك التكليف لو كان ثابتا في نفس الأمر والواقع خلافا للاحتمال الأول ، فالمشهور والمصنّف يتّفقون على معذّريّة القطع.

هذا تمام الكلام في المبحث الثالث بجهاته السّت ، وقد صنّفناه إلى هذه الجهات تسهيلا على الطالب الكريم.

قوله رحمه اللّه : « من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على مخالفته » ، الظاهر أنّ في العبارة سقط ، ولعلّ واقع العبارة هكذا : « من يحكم العقل بوجوب امتثال أمره واستحقاق العقاب على مخالفته » وعلى أي حال فهذا هو مقصود المصنّف رحمه اللّه .

قوله رحمه اللّه : « إنّ القطع بتكليف من يجب امتثاله يجب امتثاله » ، الظاهر أنّ هذه العبارة غير مستقيمة ، ولعلّه خطأ مطبعي وحق العبارة أن تكون بهذه الصياغة : « إنّ القطع بتكليف من يجب امتثال أمره يجب امتثاله » ، أي متعلّق القطع والتكليف المقطوع.

قوله رحمه اللّه : « وهذا تكرار لما هو المفترض » ، أي أنّ محمول القضية ( يجب امتثاله ) تكرار للموضوع المفترض ، وعبّر عن الموضوع بالمفترض

ص: 73

لأنّه لوحظ مقدّر الوجود وصيغ الموضوع بصورة يتناسب مع لحاظه مقدر الوجود ، حيث إنّ القضيّة التي صاغها السيد الشهيد قضيّة شرطيّة.

قوله رحمه اللّه : « والذي ندركه بعقولنا » ، هذا الإدراك من مدركات العقل العملي ، إذ أنّه يستتبع جريا عمليا.

المبحث الرابع: في التجرّي :

وقبل بيان ما هو الغرض من هذا البحث لا بدّ من شرح معنى التجرّي والفرق بينه وبين المعصية ، فنقول :

إن المعصية هي : مخالفة تكاليف المولى المعلومة مع افتراض أنها تكاليف واقعية ، فالمكلّف إذا كان يعلم أن شرب الخمر حرام ومع ذلك شرب الخمر واتّفق أن ما قطع به من حرمة شرب الخمر مطابق للواقع فهذا المكلّف عاص ، والفعل الذي ارتكبه يسمّى معصية.

إذن المعصية تتقوّم بشيئين : الأول : مخالفة التكليف المعلوم ، الثاني : مطابقة ذلك التكليف المعلوم للواقع ، فإذا تحقّق كلا القيدين فقد تحقّقت المعصية.

وأما التجرّي فهو : عبارة عن مخالفة التكاليف المعلومة مع افتراض أنّ هذه التكاليف ليست تكاليف واقعا وإنّما المكلف كان يقطع بكونها تكاليف.

ص: 74

فلو قطع المكلّف مثلا بوجوب صلاة الجمعة ومع ذلك خالف ولم يصلّ ، واتّفق أنّ قطعه كان خاطئا وأنّ صلاة الجمعة ليست واجبة فإنّ هذا المكلّف متجرّ وترك صلاة الجمعة متجرّبه.

إذن التجرّي يتقوّم بشيئين : الأوّل : مخالفة التكليف المعلوم ، والثاني : عدم مطابقة ذلك التكليف للواقع ، فإذا تحقّق كلا القيدين تحقّق عنوان التجرّي.

إذا اتّضح معنى التجرّي والفرق بينه وبين المعصية ، يصل بنا الحديث إلى ما عقد البحث لأجله وهو أنّه هل يحكم العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب كما يحكم باستحقاق العاصي له أو لا؟

والجواب على ذلك يرتبط أيضا بتحديد موضوع حق الطاعة وأنّ العقل متى يحكم بلزوم طاعة المولى وفي المقام احتمالان ثبوتيّان :

الأول : أنّ الموضوع - الذي يحكم العقل بلزوم طاعة المولى إذا تحقّق - هو التكليف المعلوم إذا اتفق مطابقته للواقع.

الثاني : أنّ الموضوع لحق الطاعة للمولى على عباده هو التكليف المنكشف ولو لم يكن مطابقا للواقع.

وتختلف النتيجة في الاحتمالين ، فبناء على الاحتمال الأول لا يكون المكلّف مستحقا للعقاب على مخالفة الفعل المتجرى ؛ به لأن حدود مولويّة المولى لا تثبت للتكاليف غير الواقعيّة وإن كان المكلّف قاطعا بها إذ أن القطع بالتكليف بناء على هذا الاحتمال ليس هو وحده موضوع حق الطاعة بل هو مع مطابقة التكليف للواقع ، وأما بناء على الاحتمال الثاني ، فالمكلّف مستحقّ للعقاب إذا خالف التكليف المعلوم حتى وإن لم يكن ذلك التكليف

ص: 75

مطابقا للواقع ، إذ أن حدود مولويّة المولى تتّسع لتشمل هذا المورد ، إذ أننا افترضنا في الاحتمال الثاني أن موضوع حق الطاعة هو مطلق التكليف المعلوم سواء طابق الواقع أو لم يطابق ، ومن الواضح أن ارتكاب الفعل المتجرى به محقّق لموضوع حق الطاعة بناء على هذا الاحتمال.

إذا اتّضح هذان الاحتمالان الثبوتيان نصل لبيان مقام الإثبات وأنه أيّ الاحتمالين قام الدليل على صحّته.

ذكر المصنّف أنّ الصحيح من هذين الاحتمالين هو الثاني ، واستدل على ذلك بما حاصله : أنّ الملاك في حكم العقل بلزوم طاعة المولى هو حرمة المولى وقبح انتهاك حرمة المولى ومن الواضح أنه لا فرق في انتهاك حرمة المولى وصدق التعدّي على ساحة الربوبيّة بين المعصية والتجرّي ، إذ أن كلا من المعصية والتجرّي يعدّ تحدّيا وطغيانا على المولى ، إذ أن فرض الكلام أن المتجري يقطع أن المولى يريد منه هذا الفعل أو يبغض صدور هذا الفعل منه ومع ذلك تحدّى إرادة المولى - ولو في اعتقاده - ولم يبال به فأيّ قبح أشد من هذا ، وهل هذا إلا خروج عن العبوديّة.

فنتيجة البحث أن المتجرّي كالعاصي في استحقاق العقاب.

المبحث الخامس: في العلم الإجمالي :

اشارة

ويقع البحث عنه في جهتين :

الأولى : في المراد من العلم الإجمالي والفرق بينه وبين العلم التفصيلي.

ص: 76

الثانية : في منجّزيّة العلم الإجمالي وعدم منجّزيّته.

أمّا الجهة الأولى : المراد من العلم الإجمالي هو العلم بالجامع مع الشك في انطباق هذا الجامع على أحد أطرافه ، فالعلم الإجمالي يشتمل على حيثيّتين ، الأولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الثانية : الشك في أنّ أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

أما العلم التفصيلي فليست فيه إلا حيثيّة واحدة ، وهي حيثيّة العلم إذ أن المعلوم في العلم التفصيلي منكشف للعالم به تمام الانكشاف ومن جميع جهات المعلوم فلا يوجد أي جهة من جهات المعلوم التفصيلي غامضة بل كلّها واضحة وجليّة ، كالعلم بوجوب صلاة هي صلاة الظهر مثلا فلا شيء في المقام مشكوك.

ويمكن أن نمثّل للعلم الإجمالي بالعلم بوجوب صلاة ما في ظهر يوم الجمعة مع الشك في أنه أيّ صلاة هي واجبة ، هل هي صلاة الجمعة أو صلاة الظهر.

وكذلك لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين أو الأواني لكننا نشك في أن أي الإنائين هو الذي وقعت فيه النجاسة ، وإذا أردنا أن نطبق تعريف العلم الإجمالي على هذين المثالين فإنّنا نجده منطبقا تمام الانطباق عليهما إذ أننا عرّفناه بالعلم بالجامع مع الشك في انطباق ذلك الجامع على أحد أطرافه ، ومن الواضح أن العلم بوجوب صلاة علم بالكلي الجامع الذي يمكن انطباقه على صلاة الظهر كما يمكن انطباقه على صلاة الجمعة ، كما أن الشك في الأطراف شك في انطباق هذا الكلي - وهو وجوب جامع الصلاة - على صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وهكذا الكلام في المثال الثاني ، فإن المعلوم هو

ص: 77

نجاسة أحد الأواني وهذا هو الجامع ، والمشكوك هو انطباق هذا الجامع على أحد الأواني هل هو الإناء الأول أو الثاني أو الثالث؟ هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية : وهي البحث عن منجزية العلم الإجمالي وعدم منجزيّته ، والكلام يقع في مقامين : مقام الثبوت ، ومقام الإثبات.

أما مقام الثبوت :

وأنّه هل يمكن الترخيص في العلم الإجمالي ، فالكلام يقع تارة عن أطراف الجامع وأخرى عن نفس الجامع.

أما الكلام عن أطراف الجامع فهي وإن كانت منجّزة والمكلّف مسؤول عن امتثالها - بناء على أن الانكشاف ولو بمرتبة الشك منجز - إلا أن المولى يمكن أن يرخص في ترك بعضها ويتنازل عن حقّه بامتثال التكاليف الواصلة بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، فإذا رخّص المولى في ترك بعض الأطراف فهو يسقط عن المنجّزيّة ولا محذور في ذلك ؛ لأننا قلنا في محلّه أن الحجيّة الثابتة في التكاليف الواصلة بالظن والاحتمال معلّقة على عدم الترخيص والإذن في الترك.

وهذا الكلام الذي ذكرناه مختص بما إذا كان الترخيص في بعض الأطراف لا في جميعها ، إذ أن الترخيص في جميع الأطراف يؤول إلى الترخيص في ترك الجامع ، وهذا خارج عن محلّ الكلام فعلا ، إذ الكلام فعلا حول إمكان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي الذي لا يؤول إلى الترخيص في الجامع ، وقد قلنا إنّ الترخيص فيه ممكن ولا محذور فيه.

ص: 78

الكلام في إمكان الترخيص في الجامع وعدمه.

قد يقال بعدم إمكان ذلك إذ أن الترخيص في الجامع ترخيص في مخالفة الحكم المقطوع ، وقد قلنا في محلّه إن الترخيص في متعلّق القطع مستحيل إذ أن منجّزيّته غير معلّقه ، ومن هنا قد يقال بالتفصيل بين الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي وبين الترخيص في الجامع ، فالأول ممكن والثاني مستحيل ، ومع القول باستحالته لا تصل النوبة إلى مقام الإثبات ، إذ لا نحتاج إلى الاستدلال على عدم الترخيص بعد الحكم باستحالته في مقام الثبوت ، وهذا ما ذهب إليه مشهور الأصوليّين ، إلا أن المصنّف رحمه اللّه ذهب إلى مذهب آخر وهو إمكان الترخيص في الجامع كما هو الحال في الترخيص في بعض الأطراف ، واستدلّ لذلك بما حاصله :

أنّه فرق بين التكليف الواصل بالقطع التفصيلي ، والتكليف الواصل بالقطع الإجمالي ، فإن الأول ليس فيه أيّ غموض بل هو معلوم من تمام الجهات بجنسه وفصله ، فحينما نكون عالمين بوجوب صلاة الظهر فنحن نعلم بوجوب الصلاة ، وبأن الصلاة الواجبة هي صلاة الظهر ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي فإننا وإن كنّا نعلم بوجوب جامع الصلاة مثلا ولكننا نشك في أطراف هذا الجامع فلا ندري أن الصلاة التي نعلم بوجوبها في الجملة هل هي صلاة الظهر أو صلاة الجمعة. وباتّضاح الفرق بين العلمين نعرف السرّ في عدم إمكان الترخيص في القطع التفصيلي إذ أن الترخيص المتصوّر في المقام إما واقعي أو ظاهري ، وكلاهما مستحيل إذ أن الأول يلزم منه اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد ، وهذا من اجتماع الضدّين لتضادّ الأحكام فيما بينها.

ص: 79

وإمّا ظاهري ، وهو مستحيل أيضا إذ أنّ العلم والقطع قد أخذ عدمه في موضوع الحكم الظاهري ومورده ، فلا يمكن وجود الحكم الظاهري في موارد القطع كما شرحنا ذلك مفصّلا فيما سبق.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم الظاهري لمّا كان متأخرا في الوجود عن العلم بالحكم الواقعي فلا تصل النوبة إليه في موارد العلم ، وفرض الكلام أنّ العلم بالتكليف موجود فلا مجال لمجيء الحكم الظاهري.

ولمزيد من التوضيح راجع الجهة الرابعة من المبحث الثالث ، حيث تحدّثنا فيها عن استحالة المنع عن حجّية القطع.

أمّا العلم الإجمالي فلا يلزم من الترخيص فيه اجتماع الضدّين ولا جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي ؛ وذلك لأنّ الترخيص في العلم الإجمالي ترخيص في أطرافه ومن الواضح أنّ أطرافه إذا لوحظ كل واحد على حدة مشكوك فيكون موضوع الحكم الظاهري « الشك » متحقّق في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي فلا محذور في الترخيص الظاهري ولا يلزم منه قيام الحكم الظاهري في موارد الحكم الواقعي كما هو الحال في موارد العلم التفصيلي.

ولكي يتّضح المطلب أكثر ، نقول : إنّ الترخيص في أطراف الجامع الذي يؤول إلى الترخيص في الجامع لا يلزم منه أحد المحذورين المذكورين في الترخيص في العلم التفصيلي ؛ وذلك لأنّ المحذورين المذكورين هناك هما إمّا لزوم اجتماع الضدّين أو جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي ، وكلا المحذورين لا يردان على القول بالترخيص في أطراف العلم الإجمالي.

ص: 80

أمّا عدم ورود المحذور الأوّل وهو اجتماع الضدّين فلأننا قلنا في بحث اجتماع الحكم الواقعي والظاهري إنّه لا محذور في اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد إذا كان أحدهما واقعيّا والآخر ظاهريّا ، والمقام من هذا القبيل إذ أنّ الترخيص في أطراف العلم الإجمالي معناه الترخيص في كل طرف على حدة ، والشك في كل طرف موجود. إذا الترخيص الثابت لكل طرف هو ترخيص ظاهري إذ هو ترخيص في مورد الشك والترخيص في مورد الشك حكم ظاهري لا يستحيل اجتماعه مع الحكم الواقعي.

أمّا المحذور الثاني : وهو جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي فقد اتّضح مما ذكرناه في المحذور الأوّل إذ أننا أثبتنا أنّ المجرى في أطراف العلم الإجمالي هو الحكم الظاهري وذلك لتحقق موضوعه وهو الشك.

وبهذا البيان يتّضح الدليل الذي استدلّ به المصنّف رحمه اللّه على إمكان الترخيص في الجامع أي إمكان الترخيص في العلم الإجمالي.

هذا هو تمام الكلام في مقام الثبوت.

المقام الثاني ، وهو مقام الإثبات :

ويبحث في هذا المقام عن الأدلّة الإثباتيّة على الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي وفي الجامع ، وقد أرجأ المصنّف البحث عن هذا المقام إلى بحث الأصول العملية.

ص: 81

القطع الطريقي والقطع الموضوعي

اشارة

والبحث فيه يتمّ في جهتين :

الأولى : في بيان الفرق بين القطعين.

الثانية : في الثمرة المترتّبة على القطعين.

أمّا الجهة الأولى : في بيان الفرق بين القطعين : وقبل ذلك لا بدّ من تقديم مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : في تحديد العلاقة بين الموضوع والحكم في مطلق القضايا المنطقيّة ، فنقول : درسنا في المنطق أن القضية تتكوّن من موضوع وحكم ، والحكم يأتي في مرتبة متأخّرة عن الموضوع ، فأوّلا يتنقّح الموضوع ثم يحمل عليه الحكم ولا يمكن أن يوجد الحكم مع كون الموضوع معدوما إذ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، وبهذا يتّضح أن علاقة الحكم بالموضوع هي علاقة التابع بالمتبوع ، فالتابع هو الحكم والمتبوع هو الموضوع وهذا يعني أن الموضوع أشبه بالعلّة للحكم ، فكما أن العلّه تولّد المعلول فكذلك الموضوع يولّد الحكم ، نعم تفترق العلّة عن الموضوع أن العلة تفيض الوجود على المعلول وتخرجه من كتم العدم إلى حيّز الوجود ، والموضوع ليس كذلك دائما بل إنّه قد يكون كذلك وقد لا يكون ، إلاّ أنه دائما يكون موجودا قبل وجود الحكم ويساهم - إذا صحّ التعبير - في توليد الحكم.

وخلاصة الكلام : أن علاقة الحكم بالموضوع علاقة التابع للمتبوع ، وهذا معنى قولهم : إن الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما.

المقدّمة الثانية : في بيان وظيفة الأدلّة الإثباتية : إن الأدلّة الإثباتيّة

ص: 82

- التي منها القطع - ليس لها دخالة في ثبوت الحكم للموضوع بل إن ثبوت الحكم للموضوع تابع لعلّته الثابتة في نفس الأمر والواقع والأدلّة الإثباتيّة إنما هي كاشفة عن ذلك الثبوت الحاصل بين الموضوع والحكم ، فلها دور الكشف عن الواقع فهي مرآة الواقع ، فكما أنّ المرآة لا تثبت الحسن لوجه زيد والقبح لوجه عمرو ، وإنما تكشف عنه ، فكذلك الأدلّة الإثباتية ، وكما أن المرآة ليس لها قدرة على تغيير الحسن عن وجه زيد والقبح عن وجه عمرو ، كذلك الأدلة الإثباتية ليس لها القدرة على نفي الحكم عن موضوعه أو جعل حكم لموضوع.

ويمكن تنظير الأدلّة الإثباتية بشيء آخر وهي عين الإنسان التي تكشف عن الحوادث الخارجية وليس لها أي دور في ثبوتها أو نفيها ، فحينما ترى العين إنسانا يحترق فإنها لم تكن السبب في احتراقه وليس لها القدرة على دفع الاحتراق عنه كما أنها لا تقدر على تغيير الواقع ونفي احتراق هذا الإنسان واقعا فإنّ كل ذلك خارج عن وظيفتها إذ أن وظيفتها مقتصرة على إحداث العلم - باحتراق ذلك الإنسان - في عقل المشاهد ، فالمشاهد علم بالحادثة عن طريق عينه ، فكذلك الأدلة الإثباتية فإنّها وسائل العلم ، فالمطّلع على الأدلّة الإثباتية يحصل له العلم بمدلولات هذه الأدلّة دون أن يكون لهذه الوسائل العلمية دخل في ثبوت هذه المدلولات واقعا.

إذا اتضحت هاتان المقدمتان نصل لبيان معنى القطع الطريقي ومعنى القطع الموضوعي.

أما القطع الطريقي : فهو الذي عبّرنا عنه في المقدّمة الثانية بالدليل

ص: 83

الإثباتي ، فالقطع الطريقي نوع من أنواع الأدلة الإثباتية وهو الذي يكشف عن متعلّقه « عن ثبوت حكم لموضوع أو نفي حكم عن موضوع » دون أن يكون مؤثرا في ثبوت وتحقق ذلك المتعلّق ، فدوره دور المرآة ودور عين الإنسان حينما تشاهد حادثة من الحوادث فكما أن المرآة وعين الإنسان لا تغيّران واقعا ولا تثبتان حكما لموضوع وإنما وظيفتهما الكشف عن الواقع الخارجي كذلك القطع الطريقي دوره دور الكاشف فهو وسيلة من وسائل العلم والمعرفة ، فمثلا حينما يقطع المكلف بأن الخمر حرام مثلا ، فهذا القطع طريقي إذ أنه كشف للمكلّف عن حرمة الخمر في الشريعة ولم يتدخل في أكثر من إثبات هذه القضية وتحقيق العلم بها للقاطع ، إذ أن ثبوت الحرمة للخمر موجود سواء حصل القطع للمكلف أو لم يحصل ، فهذا يدلّ عن أن القطع أجنبي عن هذه القضية فكما أنّ حسن وجه زيد ثابت في الواقع نظر إلى المرآة أو لم ينظر إليها كذلك القطع الطريقي ، نعم المرآة أحدثت في نفس زيد العلم بأنه حسن الوجه وقبل أن ينظر إلى المرآة لم يكن يعلم بحسن وجهه كذلك القطع الطريقي أوجب العلم بحرمة الخمر ومن قبل لم يكن المكلف يعلم بذلك.

إذن كل قطع ليس له إلا دور الكشف عن متعلّقه فهو قطع طريقي.

أما القطع الموضوعي : فهو القطع الذي جعل موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام.

وبتعبير آخر إن القطع الموضوعي هو ما كان مؤثرا في الحكم وما يكون الحكم مترتّبا عليه « القطع » أو عليه مع غيره وهو يختلف عن القطع الطريقي في أن القطع الطريقي ليس له تأثير في ثبوت الحكم ولا الحكم

ص: 84

مترتب عليه وإنما له دور الكشف فلذلك يكون متعلّق القطع الطريقي موجودا قبل القطع الطريقي ، ولمزيد من التوضيح نقول : إن القطع الموضوعي هو ما يكون موجودا قبل الحكم فهو مؤثر في وجود الحكم ؛ وذلك لأنه موضوع الحكم وقد قلنا إن الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما.

ويمكن أن نمثّل له بهذه القضية « الخمر المقطوع الخمرية حرام » ، فالقطع قد وقع جزءا في موضوع القضية ، وإذا أردنا أن نطبق ما ذكرناه في التعريف على المثال فأننا نستطيع أن نقول إن المقطوع الخمرية الذي وقع جزءا في الموضوع أثر في وجود الحكم وهو الحرمة إذ أن الحرمة لا يمكن أن تثبت لو لا القطع « الموضوع » وكذلك نقول إن مقطوع الخمرية تنقّح وتحقق قبل الحرمة « الحكم » وكذلك يمكن أن نقول إن الحرمة « الحكم » تابعة للخمر المقطوع كونه خمرا « الموضوع ».

والنتيجة أن الحرمة لا تثبت للخمر في المثال لو لا القطع بالخمرية إذ أن القطع بالخمرية جزء الموضوع في القضية وجزء الموضوع له تمام آثار الموضوع من المؤثرية والمقدمية والمتبوعية وهذا هو معنى قول المصنّف رحمه اللّه إن القطع الموضوعي مولّد للحكم إذ المولّد مؤثر والمؤثر متقدّم على المتأثر ولذلك يكون متبوعا والمتأثر به « الحكم » تابعا.

إذا اتضح القطع الطريقي والقطع الموضوعي والفرق بينهما يقع الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثانية في بيان الثمرة المترتّبة على القطعين :

أما القطع الطريقي فهو حجّة في إثبات متعلّقه بمعنى أنه واسطة في

ص: 85

إثبات التنجيز والمسؤولية - تجاه الحكم المقطوع - على المكلّف وذلك أنه كاشف عن التكليف وقد قلنا إن الكاشفيّة منجزة ، وكلما ذكرناه في بحث حجية القطع فإننا نقصد منه القطع الطريقي.

وأما القطع الموضوعي فليس بحجة بالمعنى الذي ذكرناه في القطع الطريقي ؛ وذلك لأنه مجرّد موضوع ، والموضوع ليس من آثاره الحجية إذ ليس له كاشفية ، فالقطع بالخمرية في المثال الذي ذكرناه مثل النار في قولنا « النار محرقة » فالنار لا تكشف عن الإحراق ولا تكشف عن ثبوت الإحراق لنفسها ، فلعل الموضوع كما في المثال لا يدري عن الأحكام المحمولة عليه فكيف يكون كاشفا عنها ، نعم الموضوع مؤثر في وجود الحكم إلا أن هذا لا ينفعنا في إثبات الحجية للقطع كما هو واضح.

ومن هنا لو أردنا أن نثبت الحجية لهذه القضية وهي أن الخمر المقطوع الخمرية حرام فإننا نحتاج إلى قطع طريقي يكشف عن ثبوت هذه القضية ، وبالتالي تثبت المنجزية لهذه القضية بواسطة القطع الطريقي أمّا نفس القطع بخمرية هذا السائل فلا يستطيع أن يثبت القضية المذكورة ، أي يثبت الحرمة للخمر المقطوع الخمرية.

تنبيه :

في أن القطع الطريقي قد يتحوّل إلى قطع موضوعي ولكن في قضية ثانية غير التي كشف عنها.

وبعبارة أخرى ، أن القطع الطريقي الذي كشف عن حكم يمكن أن يقع موضوعا لحكم آخر.

ص: 86

ومن هنا يتّضح أنه يمكن للمولى أن يجعل حكمين ، حكما يجعله مترتّبا على موضوع من الموضوعات ، والحكم الثاني يجعل موضوعه القطع بالحكم الأول ، فإذا قطع المكلّف بالحكم الأول ترتب الحكم الثاني لتحقق موضوعه وهو القطع بالحكم الأول مثلا لو قال المولى « إن الخمر حرام » فهذا هو الحكم الأول وموضوعه الخمر ، وهو غير متصل بالقطع ، ثم لو قال « إذا قطع المكلف بحرمة الخمر فبيعه حرام » فموضوع القضية الثانية هو القطع بالحكم الثابت في القضية الأولى إلاّ أن الحكم فيها غير الحكم في القضية الأولى ، ويمكن أن نمثل لذلك بمثال آخر وهو : أنه لو قال المولى « إن الفقّاع نجس » ثم قال « إذا قطع المكلف بنجاسة الفقّاع حرم عليه شربه » ، فنجاسة الفقاع هو الحكم الأول وموضوعه الفقاع ، وهو غير مرتبط بالقطع ، وأما الحكم الثاني وهو حرمة شرب الفقّاع فموضوعه هو القطع بالحكم الأول في القضية الأولى إلاّ أنّ حكم القضية الثانية غير الحكم في القضية الأولى وإنما القطع بثبوت القضية الأولى صار موضوعا للحكم في القضية الثانية ، فلو انكشف لنا الحكم الأول وقطعنا به ، فهذا القطع يكون طريقيا وموضوعيا أما أنه طريقي فبالنسبة للحكم الأول لأنه كشف عنه وليس له أيّ دور سوى أنه كاشف لذلك فهو قطع طريقي ، وأما أنه موضوعي فبالنسبة للحكم الثاني لأنه وقع موضوعا له في القضية الثانية.

جواز الإسناد للمولى :

ويقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في المراد من جواز الإسناد : المراد من جواز الإسناد

ص: 87

هو صحة نسبة الحكم المقطوع إلى المولى فكما أنّ المكلف إذا قطع بوجود حكم إلزامي ثبتت بهذا القطع المنجزيّة ، وإذا قطع بحكم ترخيصي ثبتت بهذا القطع المعذرية كذلك تثبت إضافة إلى المنجزيّة والمعذريّة صحة الإسناد أي نسبة وإضافة هذين الحكمين - الإلزامي والترخيصي - إلى المولى بأن تقول إنّ المولى حرّم هذا ورخّص في ترك هذا.

ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ صحة الإسناد والإضافة من آثار القطع كما أنّ المنجزيّة والمعذرية من آثاره ، ويمكن إجمال ذلك في هذه العبارة المعروفة « إنّ القطع مصحح للإسناد والاستناد » فالإسناد هو نسبة وإضافة الحكم المقطوع للمولى ، والاستناد هي المعذرية والمنجزية ، إذ أنّ الاستناد إلى القطع معذر في موارد القطع بالترخيص ومنجز في موارد القطع بالإلزام.

الجهة الثانية : في حقيقة القطع المصحّح للإسناد : القطع المصحح للإسناد هو القطع الموضوعي وذلك لأنّ جواز الإسناد حكم شرعي موضوعه القطع بحكم من الأحكام ، فكأنّما المولى قال : « كلما قطع المكلّف بحكم من الأحكام فإنّه يجوز له أن يسند ذلك إليّ » ، مثلا إذا قطع المكلّف بحرمة العصير العنبي فإنّ هذا يكون موضوعا لجواز الإسناد هكذا القطع بحرمة العصير العنبي مصحح للإسناد ، فالقطع بالحرمة صار موضوعا لجواز الإسناد.

الجهة الثالثة : في الدليل على جواز الإسناد للمولى :

إذا اتضح ما ذكرناه نعرف أن المصحح للإسناد هو القطع الموضوعي وإذا كان المصحح له هو القطع الموضوعي فهذا يعني أنّه ( جواز الإسناد ) يفتقر إلى دليل إذ أنّ القطع الموضوعي لا يكشف عن الحكم وإنما يولّده ،

ص: 88

ومعرفة أنّ له صلاحية توليد حكم من الأحكام يحتاج إلى دليل إثباتي إذ أننا نجهل ذلك أي ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع فلعلّه ثابت ولعلّه غير ثابت ، فالذي يكشف لنا عن الثبوت هو الدليل الإثباتي ، ولذلك استدلّ المصنّف على جواز الإسناد في موارد القطع بتكليف من التكاليف بقوله « إنّ الشارع قد أذن في القول بعلم » فهو يشير إلى أنّ الحكم بجواز الإسناد قام الدليل القطعي على جوازه وإلاّ فنفس وقوع القطع بحكم من الأحكام موضوعا لا يكشف عن جواز الإسناد كما فصلنا ذلك ، وإلاّ انقلب إلى قطع طريقي.

تلخيص ومقارنة : عرفت مما تقدم في بحث حجية القطع أنّ هناك طريقين في إثبات الحجية للقطع.

الأوّل : ما سلكه المشهور وهو أنّ الحجية لازم ذاتي للقطع وأنها من خواص القطع فكل تكليف وصل إلينا بواسطة القطع فهو حجة أمّا إذا كان الوصول بغير القطع فهو ليس بحجة بل هو مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثاني : ما ذهب إليه المصنّف رحمه اللّه من أنّ الحجية إنّما تثبت للقطع لكون القطع منقّح لموضوع حق الطاعة للمولى ففي الواقع أنّ الحجية موضوعها أوامر المولى والقطع كاشف عن ذلك الموضوع فإذا كشف القطع عن موضوع الحجية ترتّبت الحجيّة والتي هي حكم العقل بلزوم طاعة أوامر المولى.

وبهذا يتّضح أنّ الحجية ليست من خواص القطع بما هو قطع بل لأنّ القطع نحو من أنحاء الانكشاف ، فكل انكشاف - بغضّ النظر عن مرتبة

ص: 89

كشفه - منقّح لموضوع حكم العقل بلزوم طاعة المولى.

نعم ، الحجية في موارد القطع آكد منها في غير مورده وذلك لأنّه أعلى مراتب الكشف فتكون الإدانة في موارده أشد.

وخلاصة الكلام أنّ الذي أوجب ثبوت الحجية للقطع بالتكليف المولوي هو إدراك العقل لزوم حق الطاعة للمولى على عباده فلا بدّ من ملاحظة الحدود التي يحكم العقل فيها بلزوم حق الطاعة للمولى ، وإذا رجعنا إلى عقولنا نجد أنّه لا حدود لحق الطاعة للمولى على عباده بل إنّ لزوم طاعته تعالى ثابتة له مطلقا إلاّ في موارد القطع بعدم التكليف ، وبهذا يثبت التنجيز لكل تكليف وصل إلينا بأي نحو من أنحاء الوصول حتى ولو بالاحتمال ، وهذا هو معنى ما عبّر عنه المصنّف بمسلك حق الطاعة.

فالمصنّف رحمه اللّه يتّفق مع المشهور في منجزيّة القطع وإن كان يختلف معهم في كيفية الاستدلال على ذلك ويختلف مع المشهور أيضا في غير موارد القطع والعلم ، فالمشهور ذهبوا إلى جريان « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » في كل مورد لم يقطع فيه بالتكليف المولوي ، أمّا المصنّف رحمه اللّه فقد ذهب إلى منجزيّة مطلق الانكشاف ولو كان بمرتبة الاحتمال وعبّر عن هذا المبنى بمسلك حق الطاعة.

وهذا الخلاف مؤثر في المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه لغرض الوصول إلى النتائج وكذلك في النتائج.

ص: 90

الأدلّة

اشارة

ويقع البحث فيها عن الأدلة التي يثبت بها الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري ، وهذه الأدلة يمكن تصنيفها إلى قسمين :

الأول : الأدلة المحرزة.

الثانية : الأصول العملية ( الأدلة العملية ).

ص: 91

ص: 92

تحديد المنهج في الأدلة والأصول

اشارة

إنّ المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في عملية الاستنباط للأحكام الشرعية تختلف باختلاف نوع الدليل الذي يعتمد عليه في عملية الاستنباط فتارة يكون الدليل من سنخ الأدلّة المحرزة والتي يكون لها الكشف عن الحكم الشرعي ، وأخرى يكون من سنخ الأدلّة العملية التي ليس لها الكشف عن الحكم الشرعي ودورها يقتصر على بيان الوظيفة العملية للمكلّف. والنوع الثاني من الأدلة تختلف المنهجيّة فيه أيضا باختلاف المبنى تجاه التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال ، فالبناء على جريان قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) يؤثر على سير البحث عن الأدلة العملية بشكل يغاير سير البحث بناء على مسلك حق الطاعة.

ومن هنا لا بدّ من بيان المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في كلا النوعين من الأدلة ومتى يكون للفقيه الانتقال من النوع الأول من الأدلة إلى النوع الثاني منها « الأصول العملية ».

أمّا الكلام حول المنهجية التي يتعامل فيها الفقيه مع الأدلة المحرزة ، ومتى يتحوّل من دليل محرز إلى دليل محرز آخر ومنها إلى الأدلة العملية ، فخلاصته ( وسوف يأتي تفصيله في ما بعد ) : أنّ الأدلة المحرزة لمّا كانت منقسمة على نفسها إلى قسمين - بينهما طولية - أدلة قطعية وأخرى ظنيّة - قام الدليل القطعي على حجّيتها - فمن الواضح أن يكون المتقدّم في مقام

ص: 93

استنباط الأحكام الشرعية هو الدليل القطعي إذ هو الكاشف التام عن الأحكام الشرعية والنافي لموضوع الدليل الظني ؛ وذلك لأنّ موضوعه عدم الدليل القطعي فإذا وجد الدليل القطعي فلا مجال لجريان الدليل الظني لانعدام موضوعه وهذا هو معنى الطولية بينهما ، نعم إذا فقد الدليل القطعي تصل النوبة للدليل الظني لتحقق موضوعه وهو انعدام الدليل القطعي ، ثمّ إنّ الفقيه ليس له التحوّل إلى الأدلّة العملية ما دام هناك دليل محرز سواء كان قطعيا أو ظنيا معتبرا وذلك لتقدّم الأدلّة المحرزة بقسميها على الأدلة العملية على ما سيأتي تفصيله في بحث التعارض ، نعم مع فقدان الأدلة المحرزة يمكن للفقيه الرجوع إلى الأدلة العملية لغرض الوقوف على الوظيفة العملية المقرّرة للمكلّف في ظرف عدم وجود الدليل المحرز.

ومن هنا يصل بنا الكلام إلى بحث المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في الأدلة العملية وقد قلنا بأنها تختلف باختلاف المبنى تجاه التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال.

فالمنهجيّة بناء على مسلك حق الطاعة - وأنّ التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال منجّز - غير المنهجيّة بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان والتي تنفي التكليف في غير موارد القطع.

ومن هنا لا بدّ من بيان كلّ من المنهجيّتين على حدة.

المنهج بناء على مسلك حق الطاعة :

كل فقيه وقبل أن يطّلع على الأدلة المحرزة إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا لا بدّ من أن ينقّح في مرحلة سابقة ما هو مجرى الأصل والموقف

ص: 94

العملي لو اتفق عدم العثور على دليل محرز إذ الوقائع بأكملها لا تخلو من أصل عملي يجري في موردها في حال عدم العثور على الدليل المحرز لها وبالتالي لا بدّ من تحرير مجاري الأصول في كل واقعة من الوقائع الشرعيّة والاحتفاظ به من أجل الاستفادة منه في موارد الجهل بالدليل الشرعي أو إجماله ، والأصول في حدّ نفسها متفاوتة من حيث المرتبة والمرجعية ، فكلّما كان موضوع الأصل مشتملا على قيد زائد كلّما كان متقدّما على الأصل الفاقد لذلك القيد ، فمثلا الشبهة البدوية مجرى لأصلين ، الأول : البراءة ، والثاني : الاستصحاب ، إلاّ أنّ الاستصحاب مقدّم في مقام الاعتماد والمرجعية على البراءة ؛ وذلك لأن موضوعه ليس الشبهة البدوية بنحو مطلق بل هي مع إضافة قيد زائد وهو وجود يقين بحكم سابق ، وكذلك البراءة وقاعدة منجزيّة العلم الإجمالي فإنّ موضوعهما الشبهة إلاّ أنّ قاعدة منجزيّة العلم الإجمالي مقدّمة على البراءة وذلك لاشتمالها على قيد زائد بالإضافة إلى الشبهة وهو كون الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، وهكذا سائر الأصول في علاقاتها مع بعضها البعض.

ولذلك تقدّم الأصول العمليّة التي موضوعها مطلق في مقام البحث على الأصول التي يكون موضوعها مشتملا على قيود إضافية ، ويكون الأصل الثاني المشتمل على القيود الإضافية بمثابة المستثنى من الأصول العملية الأولية وهذا هو معنى أعميّة بعض الأصول على بعض.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ المصنّف رحمه اللّه ادعى أنّ أعم الأصول هو أصالة الاشتغال والاحتياط العقلي الذي هو عبارة ثانية عن مسلك حق الطاعة وذلك في مقابل قول المشهور حيث ذهبوا إلى أنّ أعم الأصول هو

ص: 95

أصالة البراءة العقلية التي هي عبارة ثانية عن مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وهذا يعني أنّ كل الأصول الأخرى مستثناة عن أصالة الاحتياط العقلي بناء على مبنى المصنّف وأصالة البراءة العقلية بناء على المبنى المشهور.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ المجرى العملي والمرجع العام للفقيه بناء على مسلك حق الطاعة هو الاحتياط العقلي ولا يسوغ للفقيه التنازل عنه إلاّ مع قيام دليل محرز أو أصل عملي - ناف لموضوع أصالة الاحتياط العقلي - والذي عبّرنا عنه بالأصل العملي المشتمل موضوعه على قيد زائد مضاف إلى موضوع الاحتياط العقلي - والذي هو احتمال التكليف - إذ أنّ موضوع بقية الأصول هو احتمال التكليف أيضا ولكن بإضافة قيود أخرى.

ومن هنا لا بدّ من بيان ما أجملناه إذ أننا قلنا إنّ الذي يوجب التنازل عن مرجعية الاحتياط العقلي هو إمّا الدليل المحرز وإمّا الأصل العملي - الذي موضوعه عين موضوع الاحتياط العقلي بإضافة قيد زائد - فما يوجب رفع اليد عن الاحتياط العقلي يقع في موارد :

المورد الأول : القطع بالترخيص : وهو من الأدلّة المحرزة بل هو أقوى الأدلة المحرزة وهو معذّر كما قلنا بمقتضى حكم العقل بذلك ، ومعه لا يبقى موضوع لأصالة الاحتياط العقلي حيث إنّ موضوعه الظن أو الاحتمال بالتكليف ، ومن الواضح أنّه لا وجود لذلك في موارد القطع.

المورد الثاني : القطع بالتكليف : فهنا أيضا لا مجال للتمسّك بأصالة الاحتياط العقلي وذلك لأن الذي أثبت الحجية والمنجزيّة هو القطع ، فأصالة الاحتياط وإن كانت تشترك مع القطع بالتكليف في النتيجة وهي

ص: 96

التنجيز إلاّ أنّ التنجيز لا يسند إليها بل يسند إلى القطع ، فمثلا لو نصّت آية على حرمة الميتة فإنّ ذلك يوجب القطع بالحرمة ، فلو أردنا أن نثبت للخصم حرمة الميتة فإننا لا نستدل على الحرمة بالاحتياط العقلي بل نستدل بالنص القرآني نعم اشتراكهما في النتيجة يؤكد الحكم.

المورد الثالث : قيام دليل - قام الدليل القطعي على حجّيّته - على وجود حكم ظاهري بالترخيص : فإنه لا بدّ معه من التنازل عن الاحتياط العقلي والعمل بمقتضى الدليل الظني وذلك لقيام الدليل القطعي على حجيّته فهو في قوّة القطع بالترخيص الذي هو المورد الأول حيث قلنا إنّ القطع بالترخيص ينفي موضوع الاحتياط العقلي ، فكذلك في المقام ، نعم الفرق بينه وبين الأوّل أنّ الأوّل ينفي موضوع الاحتياط العقلي حقيقة ، بخلاف المقام فإنّ موضوع الاحتياط العقلي فيه موجود بالوجدان حيث إنّ احتمال وجود تكليف واقعي باق على حاله ، نعم هو منتف تنزيلا وتعبّدا ، مثلا لو دلّ خبر الثقة على حليّة لحم الأرنب فإنّ ذلك موجب لرفع اليد عن الاحتياط العقلي ، وذلك لقيام الدليل القطعي على حجيّة خبر الثقة ، ولهذا يمكن أن نقول : إن إخبار الثقة بحليّة لحم الأرنب ناف لموضوع الاحتياط العقلي - المقتضي للحرمة - إلا أن نفي خبر الثقة لموضوع الاحتياط العقلي ليس كنفي القطع لموضوع الاحتياط العقلي إذ أن القطع ينفي الموضوع حقيقة ، أما خبر الثقة فينفيه تعبّدا إذ أننا بالوجدان نجد الموضوع للاحتياط وهو احتمال التكليف باقيا على حاله.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن هذا المورد - وهو قيام الدليل على الترخيص الظاهري - يمكن تقسيمه إلى قسمين :

ص: 97

القسم الأوّل : قيام دليل ظني محرز على الترخيص كقيام خبر الثقة أو انعقاد إجماع منقول على الترخيص أو قيام شهرة فتوائية على ذلك ، فإنّ هذه أدلة ظنيّة تكشف عن الواقع بكشف ناقص ولكن لمّا كان هذا الكشف الناقص قد تمّمه الشارع بجعل الحجيّة له أوجب ذلك تقدّمه على الاحتياط العقلي.

القسم الثاني : قيام أصل عملي شرعي على الترخيص الظاهري فإن ذلك موجب أيضا لرفع اليد عن الاحتياط العقلي وذلك لأن هذا الأصل العملي الشرعي قد قام الدليل القطعي على حجّيّته وهذا يعني أن الشارع قد تنازل عن حقّه الثابت بحكم العقل عن الاحتياط العقلي ، ومثال ذلك أصالة البراءة الشرعيّة - وهي الترخيص الشرعي الظاهري في موارد الشك في التكليف الإلزامي - فإنها مما قام الدليل القطعي على حجّيتها وجريانها في موارد الشك في التكليف الإلزامي ، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن المولى قد أذن في الترخيص في حالات الظن والاحتمال بالتكليف وتنازل عن حقّه المقتضي للاحتياط العقلي.

المورد الرابع : قيام دليل - قام الدليل القطعي على حجّيّته - على عدم الترخيص الظاهري وعدم الإذن في ترك التكليف الإلزامي المظنون او المحتمل.

وبعبارة أخرى : قيام دليل غير قطعي - إلا أنّه دلّ الدليل القطعي على حجّيته - على حرمة فعل من الأفعال ، فهذا المورد يتّفق مع الاحتياط العقلي موضوعا وحكما إذ أن الموضوع لكل من الدليل غير القطعي « الأمارة أو الأصل » وأصالة الاحتياط العقلي هو الظن بالتكليف أو

ص: 98

احتماله وكذلك الحكم إذ أنّ الحكم لكلّ من الدليل غير القطعي وأصالة الاحتياط العقلي هو الحرمة وذلك لأنّ خبر الثقة مثلا أخبر عن ثبوت الحرمة وأصالة الاحتياط العقلي تقتضي الحرمة وبهذا تتأكّد الحرمة.

إذا اتّضح هذا الكلام ، فنقول : إن هذا المورد يمكن تقسيمه إلى قسمين :

الأوّل : قيام دليل ظني محرز على حرمة فعل من الأفعال كظهور آية على تحريم شيء أو إخبار ثقة كذلك فإن ظهور الآية دليل ظني محرز إلا أنه قام لدليل القطعي على حجيّته ، وبهذا تتأكّد الحرمة - كما قلنا - لقيام الدليل المحرز عليها وكذلك الاحتياط العقلي.

الثاني : قيام أصل عملي شرعي على الاحتياط في موارد الشك في التكليف ، فمثلا لو قام الدليل القطعي الشرعي على أن الأصل في الدماء والفروج هو الاحتياط فإن هذا أصل عملي شرعي قام الدليل القطعي على حجّيته وهو موافق من حيث النتيجة للاحتياط العقلي ، وكذلك الكلام في الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريمية بناء على تماميّته وبهذا تتأكّد الحرمة.

فائدة المنجّزيّة والمعذّريّة الشرعيّة :

وقد استعرضنا ذلك في مطاوي الحديث عن الموارد الأربعة ولا بأس بإعادتها بصياغة ثانية فنقول :

الكلام تارة يقع في الموردين الأول والثاني ، وتارة يقع في المورد الثالث وأخرى في المورد الرابع.

ص: 99

أمّا الموردان الأوّل والثاني فلا فائدة معهما للمنجزيّة الشرعية ؛ وذلك للقطع بالترخيص في الأول والقطع بعدم الترخيص في الثاني ، ومن الواضح أنّ القطع معذّر ومنجّز بقطع النظر عن الشارع وذلك لتمامية كشفه عن التكليف أو عدمه فمعذّريّته ومنجّزيّته ليست بحاجة إلى تتميم من الشارع ، فإثبات الحجية الشرعية للقطع تحصيل للحاصل وهذا معنى قولنا إنّه لا فائدة في الموردين للمنجزيّة الشرعية.

وأمّا المورد الثالث فإنّ الاحتياط العقلي فيه ساقط ؛ وذلك لأنّ قيام الدليل القطعي على حجية الدليل الظني المحرز « الأمارة » وعلى حجية الأصل العملي الشرعي النافيين للتكليف في حالات الظن والاحتمال يعني أنّ الشارع قد تنازل عن حقّه في الاحتياط العقلي وأسقط منجزيّة الظن والاحتمال ، وهذا ممكن لا محذور فيه إذ منجزية الظن والاحتمال معلّقة على عدم الترخيص الظاهري كما قلنا.

وأمّا المورد الرابع فللمنجّزيّة فائدة وهي تأكيد مفاد الدليل الظني والأصل العملي الشرعي - اللذين قام الدليل القطعي على حجيتهما - للاحتياط العقلي ، ومنشأ التأكيد اتحادهما موضوعا وحكما إذ أنّ موضوع الدليل الظني والأصل العملي وكذلك الاحتياط العقلي هو الظن والاحتمال بالتكليف الإلزامي - كما شرحنا ذلك في ما سبق - والحكم فيهما « الأمارة والأصل والاحتياط العقلي » هو الحرمة إذ أنّ ذلك هو مفاد الدليل الظني والأصل العملي كما هو المفترض في المورد الرابع وهو أيضا مقتضى أصالة الاحتياط العقلي إذ أنها جميعا تقتضي تنجيز التكاليف المظنونة والمحتملة وهو معنى ثان للحرمة ، وبهذا يتّضح أنّ أحدهما مؤكّد للآخر.

ص: 100

تنبيه :

لم يتّضح لنا منشأ ذكر السيد رحمه اللّه للمورد الرابع إذ أننا نتحدّث عن الموارد التي يسقط فيها الاحتياط العقلي في حين أنّه حكم في المورد الرابع بعدم سقوطه وأنه يتأكد بالدليل المثبت للتكليف في حالات الظن والاحتمال ، نعم لو حكم السيد رحمه اللّه بتقدّم الدليل الشرعي وأنه هو المستند في إثبات الحرمة لا قاعدة الاحتياط العقلي كما صنع ذلك في المورد الثاني لكان لذكر المورد الرابع مبرّر.

المنهج على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان :

وأمّا الكلام حول المنهج بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان - والمعبّر عنها بأصالة البراءة العقلية - فيختلف كلّ الاختلاف عن المنهجية والنتائج بناء على مسلك حق الطاعة إذ أننا قلنا هناك إنّ أعم الأصول هو أصالة الاحتياط العقلي « وقد شرحنا معنى الأعمية ».

وأمّا هنا وبناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فأعمّ الأصول هو أصالة البراءة العقلية التي تنفي التكليف في مورد الشك ، ففي كلّ مورد من موارد الظن والاحتمال بالتكليف الإلزامي تجري قاعدة البراءة العقلية ولا مسوّغ لرفع اليد عن هذا الأصل إلاّ في موارد خاصة.

ولمعرفة الموارد التي نرفع اليد معها عن البراءة العقلية نذكر الموارد الأربعة - الآنفة الذكر - لنرى أيّها يوجب سقوط البراءة العقلية :

أمّا المورد الأول : - والذي قلنا إنّه عبارة عن القطع بعدم التكليف -

ص: 101

فأصالة البراءة العقلية لا تسقط معه بل إنها تتأكّد به وذلك لاتحادهما في النتيجة وهي نفي التكليف.

وأمّا المورد الثاني : - والذي هو عبارة عن القطع بالتكليف - فالبراءة العقلية تسقط في مورده ويكون التكليف منجّزا بالقطع ؛ وذلك لأن موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، والقطع بيان ، وعليه فيكون هذا القطع نافيا لموضوع البراءة العقلية حقيقة إذ أننا بالوجدان لا نشك في التكليف بل نقطع به.

وأمّا المورد الثالث : - والذي هو عبارة عن قيام دليل على الترخيص الظاهري - وقلنا إن هذا الدليل إما أن يكون من قبيل الدليل الظني المحرز « الأمارة » وإما أن يكون من قبيل الأصل العملي « البراءة الشرعية ».

والبراءة العقلية في هذا المورد لا تسقط بل تتأكّد بالدليل الذي هو الأمارة أو الأصل العملي النافيين للتكليف وذلك لاتحادهما موضوعا وحكما ، أما موضوعا فلأنّ الموضوع فيهما « الأمارة ، البراءة الشرعية والبراءة العقلية » عدم البيان ؛ وذلك لأننا بالوجدان نحتمل التكليف الواقعي في مورد الأمارة والأصل الشرعي ، وهذا هو عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية إذ المراد من عدم البيان هو عدم القطع بالتكليف الإلزامي وهو حاصل في الأمارة والأصل الشرعي كما هو في البراءة العقلية.

وأما حكما فلأن كلا من البراءة العقلية والدليل غير القطعي « الأمارة والأصل » يشتركان في نفي التكليف الإلزامي.

فالنتيجة : أن البراءة لا تسقط في موارد الدليل غير القطعي النافي

ص: 102

للتكليف بل تتأكّد به.

وأمّا المورد الرابع : والذي هو عبارة عن قيام الدليل غير القطعي على ثبوت التكليف وهو أيضا ينقسم إلى قسمين : الأوّل : الأمارة ، والثاني : هو الأصل الشرعي المثبت للتكليف مثل أصالة الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريمية ، والبراءة العقلية في مثل هذا المورد تسقط عن المعذّريّة إذ السقوط هو الذي يبني عليه المشهور في مثل هذه الموارد حيث يقدّمون الأمارة المثبتة للتكليف ، وكذلك الاحتياط الشرعي - لو تمّ - على البراءة العقلية.

ومن الواضح أن ذلك لا يتم بناء على مسلكهم ، مسلك « قبح العقاب بلا بيان » حيث إنه لا بيان في مثل المقام فلا الأمارة توجب البيان والقطع بالتكليف ، ولا الأصل العملي.

ولذلك فهم يواجهون هذه المشكلة وحدهم إذ بناء على مسلك حق الطاعة لا ترد مثل هذه المشكلة وذلك لأن المجرى بناء على هذا المسلك هو قاعدة الاحتياط العقلي وهي متّحدة مع الأمارة والأصل العملي الشرعي المثبتين للتكليف موضوعا وحكما كما بيّنا ذلك.

ومن هنا فقد تصدّى المشهور لبيان المنشأ في تقديمهم الأمارة والأصل المثبتين للتكليف على البراءة العقلية بمجموعة من البيانات تبحث عادة تحت عنوان « قيام الأمارة والأصل مقام القطع الطريقي ».

ولمزيد من التوضيح نقول :

إن أصالة البراءة العقلية لا تسقط عن المعذريّة إلا في مورد واحد من الموارد الأربعة ، وهو المورد الثاني والذي هو القطع بالتكليف حيث إننا قلنا

ص: 103

إنّ القطع بالتكليف ينفي موضوع البراءة العقلية ، وأما المورد الأول والثالث فلا تسقط فيه البراءة العقلية بل تتأكّد ، وإنما الكلام في المورد الرابع حيث أنّ مقتضى الصناعة العلمية عدم سقوط البراءة العقلية عن المعذّريّة وذلك لأن موضوعها عدم البيان أي عدم القطع ، والأمارة والأصل العملي المنجّز « الاحتياط الشرعي » ليس فيهما بيان بل إن الشك يبقى منحفظا في موردهما ، فيا ترى ما هو المبرّر لالتزام المشهور بسقوط البراءة العقلية في مثل هذا المورد رغم بقاء الموضوع منحفظا معهما؟

والجواب : إن المبرّر لذلك هو أنّ الأمارة والأصل المثبتين للتكليف بمنزلة القطع بالتكليف وهذا هو معنى قيام الأمارة والأصل مقام القطع الطريقي.

ص: 104

الأدلّة المحرزة

1 - الدليل الشرعي

2 - الدليل العقلي

ص: 105

ص: 106

الأدلّة المحرزة

اشارة

والكلام فيها يقع في نوعين من الأدلّة التي تكشف عن الحكم الشرعي الأعم من الكشف التام أو الكشف الناقص.

والأوّل منها هو : الدليل الشرعي.

والثاني هو : الدليل العقلي.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة :

قلنا في ما سبق إنّ ضابطة المسألة الأصولية : هي كل قضية يمكن أن تقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة.

وإذا لا حظنا الأدلة الإثباتيّة المحرزة نجد أنّ ضابطة المسألة الأصولية تنطبق عليها تمام الانطباق وذلك لأنّ الأدلة الإثباتية المحرزة الأعم من القطعية وغير القطعية يمكن أن يستفاد منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعية من مختلف الأبواب الفقهيّة ، فخبر الواحد مثلا وكذلك ظواهر الكتاب العزيز لهما الصلاحية - لو تمّت حجّيتهما - لإثبات كثير من الأحكام الشرعية المتفرقة في أبواب الفقه.

ولهذا يبحث الأصولي عن دلالة هذه الأدلة وعن حجّيتها لعظم الفائدة المترتّبة على ذلك في البحث الفقهي.

ص: 107

ومع اتضاح هذه المقدمة نشرع في بيان أقسام الأدلة المحرزة والتي - كما قلنا - تكشف عن الأحكام الشرعية ، فنقول :

إنّ الأدلة المحرزة تنقسم باعتبار مقدار كشفها إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل القطعي ، والذي فرغنا عن حجيته ومثبتيّته للحكم الشرعي بنفسه وبقطع النظر عن الشارع ، نعم قد يساهم الشارع في إيجاد القطع عن طريق إيجاد مقدّمات شرعية توجب القطع للمطّلع عليها ولكنّ هذا غير الحجية كما هو واضح ، إذ الحجية مترتّبة على تنقّح القطع في مرحلة سابقة والشارع لم يساهم في إيجادها وإنما ساهم في إيجاد القطع الذي هو موضوع الحجية.

القسم الثاني : هو الدليل الظني المعبّر عنه بالأمارة ، وهذا النوع من الأدلة لم نفرغ عن حجيّته ومثبتيّته للأحكام الشرعية ، والبحث الأصولي هو المتكفّل بإثبات حجيّته ، ولا بدّ في إثبات حجيّته من قيام دليل قطعي على ذلك وإلاّ للزم التسلسل ؛ إذ أنّه إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّيته فهذا يعني قيام دليل ظني على حجّيته ، فينسحب الكلام إلى ذلك الدليل الظني الآخر ، وأنه ما هو الدليل على اعتباره؟ فإن كان الدليل الذي دلّ عليه ظنيّا أيضا تسلسل وإن كان قطعيا ثبت المطلوب ، وهو أن الدليل الظني قد قام الدليل القطعي على دليليّته وحجّيته ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ كلّما بالعرض يرجع إلى ما بالذات ، حيث إنّ الحجّية لو ثبتت للدليل الظني فهي حجية عرضية ليست ناشئة عن مقام الذات للدليل الظني ، فلذلك يمكن أن تعرض وتثبت له الحجية ، ويمكن أن لا تثبت ، فخبر الواحد والقياس كلاهما دليل ظني ولكن الأوّل ثبتت له الحجية والآخر لم تثبت له.

ص: 108

وهذا بخلاف الدليل القطعي فإنّ الحجية له ناشئة عن مقام الذات للقطع فلذلك لا يمكن التفصيل في حجيّته بأن يقال إن القطع بالتكليف المولوي تارة يكون حجة وتارة يكون غير حجة ، إذن لا بدّ في مقام إثبات الحجية للدليل الظني من قيام دليل قطعي على ذلك.

والمتحصّل مما ذكرناه أنّ الدليل المحرز باعتبار مرتبة كشفه ينقسم إلى قسمين : الأول : الدليل القطعي ، الثاني : الدليل الظني.

تقسيم آخر للأدلة المحرزة :

ويمكن تقسيم الدليل المحرز بكلا قسميه « القطعي والظني » إلى تقسيم آخر ، ولكن بلحاظ منشئه وسبب كشفه.

فالدليل المحرز بهذا اللحاظ ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل الشرعي : وهو كل دليل دلّ على حكم شرعي بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك مثل النص القرآني ، ومثل ظواهر الكتاب ، فإنّ النص القرآني وكذلك ظواهر الكتاب يكشفان عن الحكم الشرعي ، ومنشأ تسمية هذا الدليل بالشرعي هو أنّ هذا النوع من الأدلة جاء بها الشارع المقدّس ، فالقرآن الكريم بنصوصه وظواهره وكذلك السنّة الشريفة سواء ما وصل منها عبر التواتر أو عن طريق أخبار الثقات كلّها أدلة شرعية باعتبار انتسابها إلى الشارع المقدّس.

القسم الثاني : الدليل العقلي : وهو عبارة عن المدركات أو قل القواعد العقلية التي يمكن لها أن تساهم في إثبات حكم شرعي ، مثل قاعدة « أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب مقدّمته » وقاعدة « أنّ وجوب الشيء

ص: 109

يقتضي حرمة ضدّه » وكذلك قاعدة « الحسن والقبح العقليّين » ، فهذه كلّها مدركات عقلية يمكن لها « لو تمّت » أن تساهم في استنباط حكم شرعي.

وتفصيل الكلام يأتي في بحث الدليل العقلي إلاّ أننا سوف نبيّن - وبشكل إجمالي - كيفيّة مساهمة مثل هذه القضايا العقلية في إثبات حكم شرعي ، فنقول :

لو أخذنا مثلا القاعدة العقلية وهي : « أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب مقدّمته » ، فعندنا في المقام حكمان شرعيّان أحدهما معلوم والآخر مجهول.

أمّا الحكم المعلوم فهو وجوب شيء مثل الحج ، وأمّا الحكم المجهول فهو جوب مقدّمة الحج مثل السفر إذ أنّ المقدمة بحسب الفرض لم يقم دليل شرعي على وجوبها وإنما الذي قام عليه الدليل الشرعي هو وجوب ذي المقدّمة وهو الحج في المثال. وهنا يأتي دور القاعدة العقلية « إن وجوب شيء يقتضي وجوب مقدّمته » لغرض إثبات الحكم الشرعي وهو وجوب المقدّمة ، وذلك عن طريق إدراك العقل للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمة ذلك الشيء ، فالمدرك العقلي صار سببا وواسطة في إثبات وجوب المقدّمة ، وهذا هو معنى مساهمة العقل في إثبات حكم شرعي. وقلنا إنه يساهم في إثبات الحكم الشرعي لأنه ليس هو وحده الذي أثبت الوجوب بل مع شيء آخر ، وهذا ما سيأتي توضيحه في محلّه.

والمتحصّل من كل ما ذكرناه : أنّ الدليل العقلي هو المدرك العقلي الذي يقع واسطة في طريق إثبات حكم شرعي.

ص: 110

تقسيم الدليل الشرعي :

عودة إلى الدليل الشرعي لغرض تقسيمه وبيان المباحث التي تؤهّله لإثبات الأحكام الشرعيّة.

وقد عرفت مما سبق أنّ الدليل الشرعي هو الدليل المنتسبة دليليّته إلى الشارع المقدّس وذلك في مقابل الدليل العقلي الذي يرجع في دليليّته إلى المدركات العقلية.

ومن هنا لا بدّ من معرفة ما ينقسم عليه الدليل الشرعي سواء كان قطعيّا أو ظنيّا ، فنقول : إنّ الدليل الشرعي على قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يكون من قبيل الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس كالقرآن الكريم والأحاديث الواصلة إلينا عن طريق المعصومين علیهم السلام ، وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي اللفظي.

القسم الثاني : وهو ما يكون من قبيل السّير العقلائيّة الممضاة من الشارع ومن قبيل الروايات الحاكية عن فعل المعصوم علیه السلام وتقريره ، وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي غير اللفظي.

ومع اتّضاح معنى الدليل الشرعي ، وما ينقسم عليه من أدلّة لفظيّة وأخرى غير لفظية ، نصل إلى ما هو العمدة في البحث الأصولي عن الدليل الشرعي ، وهو : البحث عنه من حيث مفاده ، ومتى يتحقّق خارجا ، وما هو الدليل على حجّيّته.

وبعبارة أخرى : يمكن تصنيف المباحث التي تبحث في الدليل الشرعي إلى ثلاثة مباحث :

ص: 111

المبحث الأول : يتصدّى لشرح مدلولات الدليل الشرعي وكيفيّة الاستفادة منها ، ولتوضيح ذلك نقول :

إنّه لا يمكن الاستفادة من الدليل الشرعي ما لم نحدّد الضوابط العامّة لمدلولاته ، فالدليل الشرعي قد يثبت لنا أنّه صادر عن

الشارع المقدّس وتثبت لنا حجّيته أيضا ولكن ذلك وحده لا ينفع لإثبات الأحكام الشرعية كالوجوب والحرمة ؛ وذلك لأنّه أيّ جدوى لكلام نحرز أنه صادر عن الشارع وأنه حجة ولكننا لا نعرف معناه والمراد منه؟ ولذلك يتصدى المبحث الأول لهذه المهمّة ، فيبحث عن الضوابط العامّة التي توجب فهم الدليل الشرعي ، وقلنا الضوابط العامة للاحتراز عن مدلولات الدليل الشرعي التي لا يستفاد منها إلا في مورد أو موردين فإنّ بحث مثل هذه المدلولات من وظائف الفقه ، أمّا الأصول فهو يبحث عن الضوابط العامّة والتي هي مطّردة ونافعة في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة ، ومثال هذه الضوابط التي يبحث عنها في علم الأصول بحث الأوامر والإطلاق والمفاهيم.

المبحث الثاني : وهو ما يبحث فيه عن صغرى الدليل الشرعي.

وتوضيح ذلك : إنّ واقع الدليل الشرعي هو النتيجة الحاصلة من قياس منطقي صغراه أنّ هذا الخطاب أو هذا الإمضاء ثابت عن الشارع وكبراه أنّ كلّ ما ثبت عن الشارع فهو حجة ، فتكون النتيجة أنّ هذا الخطاب أو هذا الإمضاء حجّة. وهذه النتيجة هي الدليل الشرعي.

إذن صغرى الدليل الشرعي هي صغرى القياس الذي تكون نتيجته الدليل الشرعي.

ص: 112

مثلا :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

فنتيجة هذا القياس - وهي أنّ القرآن الكريم حجّة - هي : الدليل الشرعي. وصغرى هذه النتيجة - وهي أنّ القرآن صادر عن الشارع - صغرى الدليل الشرعي ، والبحث هنا يقع عن هذه الصغرى وأنّه متى تثبت هذه الصغرى. فقولنا : إنّ القرآن الكريم صادر عن الشارع دعوى تحتاج إلى دليل ، والذي يتصدّى لإثبات هذه الدعوى والاستدلال عليها هو هذا البحث ، وكذلك الكلام في خبر الثقة مثلا ، فقولنا : إنّ خبر الثقة صادر عن المعصوم هو صغرى لقياس نتيجته الدليل الشرعي ، وهذه الصغرى محتاجة إلى دليل والذي يتصدّى لإثبات ذلك هو هذا البحث.

وإذا أردنا أن نعمّق هذا البحث أكثر نقول : إنّ هذه الصغرى هي نتيجة لقياس آخر غير الذي شكلّناه ، صغراه تبحث في غير هذا العلم وكبراه هي التي تبحث في هذا المبحث - الذي هو المبحث الثاني من مباحث الدليل الشرعي - ونتيجته هي التي تقع صغرى في القياس الأول ، مثلا :

* إنّ هذا الخبر خبر ثقة * وكل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم * إذن هذا الخبر صادر عن المعصوم

تلاحظون أن صغرى هذا القياس تبحث في غير علم الأصول فإنّ إثبات أنّ هذا خبر ثقة من شؤون علم الرجال ولا صلة له بعلم الأصول.

وتلاحظون أنّ النتيجة هي الصغرى في القياس الأول ، أمّا الكبرى - وهي أنّ كل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم علیهم السلام - فهي التي نبحث عنها

ص: 113

هنا إذ أننا نبحث في المقام عن الدليل الذي يدلّ على أنّ كل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم.

إذن فنحن هنا نبحث عن الكبرى - في القياس الثاني - التي تنقّح الصغرى في القياس الأول ، فالبحث في المقام ليس عن معنى وحقيقة الصغرى في الدليل الشرعي بل البحث عن الدليل الذي يدل على ثبوت الصغرى. فلذلك قال المصنّف رحمه اللّه : « إنّ المبحث الثاني عن ثبوت صغرى الدليل الشرعي » ولم يقل عن نفس صغرى الدليل الشرعي.

والمتحصّل مما تقدّم أنّ صغرى الدليل الشرعي هي الصغرى التي تقع في قياس نتيجته الدليل الشرعي. والبحث هنا عن إثباتها وما هو الدليل عليها ، فنحن هنا نبحث عن الدليل الذي يدلّ على أنّ القرآن صادر عن اللّه عزّ وجلّ ، وعن الدليل الذي يدلّ على أنّ خبر الثقة صادر عن المعصوم وهكذا.

ولعلّك تسأل عن موقع المبحث الأول في القياس الأول الذي شكّلناه وما هو الفرق بين موقعه وموقع المبحث الثاني أليس المبحث الأول يبحث فيه أيضا عن صغرى الدليل الشرعي؟

والجواب :

هو أنّ الذي يبحث عنه في المبحث الأول هو الحدّ الأصغر لصغرى ذلك القياس.

وبتعبير آخر : أنّ الذي يبحث عنه في المبحث الأول هو الحد الأصغر الذي يقع موضوعا في نتيجة هي الدليل الشرعي.

ولتوضيح ذلك نقول : إن المبحث الأول كما قلنا هو ما يبحث فيه عن

ص: 114

مدلولات الدليل الشرعي ، وهذا يعني أن المبحث الأول يتكفل ببيان المراد من الخطاب والإمضاء الشرعيّين.

وعليه فلنرجع إلى القياس الأوّل الذي شكّلناه لنرى ما هو موقع المبحث الأول من هذا القياس :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

وإذا تأمّلنا في هذا القياس نعرف أنّ ما يبحث عنه في المبحث الأول ليس هو صغرى في هذا القياس ولا هو كبرى بل هو الحد الأصغر في صغرى هذا القياس « وهو القرآن الكريم » فنحن في المبحث الأوّل نبحث عن مدلولات القرآن الكريم والذي هو أحد الخطابات الشرعية.

وبتعبير آخر : إنما ما يبحث عنه في المبحث الأول هو الحدّ الأصغر الواقع موضوعا في نتيجة هي الدليل الشرعي ، فالنتيجة في هذا القياس هي « القرآن الكريم حجّة » وهي معنى آخر للدليل الشرعي كما هو واضح ، وموضوع هذه النتيجة « هو القرآن الكريم » والمبحث الأول يبحث عن القرآن الكريم من حيث مداليله.

والمتحصّل من الفرق بين هذين المبحثين أن المبحث الثاني يبحث عن تمام القضية الواقعة في صغرى هذا القياس ، فهو يبحث عن الدليل على أن القرآن صادر من المولى عزّ وجلّ ، وأما المبحث الأول فهو يبحث عن موضوع هذه الصغرى وهو القرآن الكريم مثلا من حيث ما يدلّ عليه من مدلولات.

المبحث الثالث : - من مباحث الدليل الشرعي - هو ما يبحث فيه

ص: 115

عن حجية الدليل الشرعي وأن الخطابات والإمضاءات الصادرة عن الشارع حجة أو غير حجة؟

فنبحث مثلا عن حجية القرآن الكريم بعد الفراغ عن صدوره ، ونبحث عن حجية خبر الثقة بعد الفراغ عن صدوره ، وهكذا.

فالبحث إذن عن كبرى القياس الذي نتيجته الدليل الشرعي ، ولمزيد من التوضيح نرجع إلى القياس الأول الذي شكّلناه وهو أن :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

وإذا تأمّلنا في القياس وجدنا أن كبراه هي ما يبحث عنها في المبحث الثالث « وهي كلّما صدر عن الشارع فهو حجّة » ، فنبحث عن هذه القضية من حيث ما هو الدليل عليها أي ما هو الدليل على أن القرآن - الذي ثبت صدوره عن الشارع - حجة.

ومعنى أننا نبحث عن الدليل على هذه الكبرى هو أننا نشكّل قياسا منطقيّا آخر تكون هذه الكبرى هي نتيجته ، فنقول مثلا في مقام الاستدلال على هذه الكبرى :

* إن هذا القرآن الكريم صادر عن الشارع * ومولويّة الشارع تقتضي حجية ما يصدر عنه * إذن الصادر عن الشارع حجة

وتلاحظون أن هذه النتيجة هي عين الكبرى الواقعة في القياس الأوّل والدليل ، على هذه النتيجة هي الكبرى الواقعية في هذا القياس « الثاني ».

إذن فنحن لا نبحث في المبحث الثالث عن نفس كبرى القياس الأول ، بل نبحث عن ما هو الدليل على هذه الكبرى ، فنقول مثلا : إن

ص: 116

الدليل على حجية الصادر عن الشارع هو حكم العقل بوجوب طاعة المولى ، نعم قد نستدلّ على حجية الصادر عن الشارع بأدلة إثباتية أخرى إلا أنها ترجع روحا إلى ما يحكم به العقل من وجوب طاعة المولى جلّ وعلا.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه في المباحث الثلاثة هو : أن المبحث الثاني يبحث عن صغرى القياس الأول من حيث ما هو الدليل عليها ، والمبحث الثالث يبحث عن كبرى هذا القياس من حيث ما هو الدليل عليها.

وأما المبحث الأول فهو يبحث عن الحدّ الأصغر في الصغرى من نفس هذا القياس من حيث دلالته ، وما هو المراد منه ، أو قل إن المبحث الأول يبحث عن موضوع نتيجة هذا القياس أي عن موضوع الدليل الشرعي.

هذا هو روح المباحث الثلاثة وقد أطلنا في بيانها لأن فهم كثير من المطالب الآتية يتوقّف على فهمها.

إذا اتّضح كل ما ذكرناه ، فلنشرع في بيان هذه المباحث الثلاثة إلاّ أنه وقبل بيان هذه المباحث لا بدّ من طرح مجموعة من المطالب لها تأثير على سير البحث في المباحث الثلاثة.

ص: 117

المطلب الأول: الأصل عند الشك في الحجّة

والكلام في هذا المطلب يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بيان المراد من الأصل عند الشك في الحجية.

الجهة الثانية : في بيان ما هو الأصل عند الشك في الحجية ، هل هي الحجية أو عدم الحجية؟

الجهة الأولى : - والتي هي في بيان المراد من الأصل عند الشك في الحجية - تحتاج إلى بيان أمرين :

الأول : هو بيان المراد من الأصل.

الثاني : هو بيان المراد من الشك في الحجية.

ونبدأ بالأمر الثاني - والذي هو : بيان المراد من الشك في الحجية لتوقف فهم الأول عليه - فنقول : إن المراد من الشك في الحجية هو عدم إحراز ثبوت المنجزية والمعذرية لدليل ظني من الأدلة ، مثلا الشهرة الفتوائية لو بحثنا عن دليلها فلم نجد لها دليلا يثبت لها الحجية - المنجزية والمعذرية -.

ص: 118

وبعبارة أخرى : لو بحثنا عن الدليل على الشهرة الفتوائية فلم نعثر على دليل لها يثبت على أنها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، ففي مثل هذه الحالة نشك في حجية الشهرة الفتوائية إذ ليس عندنا ما يثبت الحجية كما أنه لا نجزم بعدم حجيتها وصلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي ، فنحن إذن نشك في ثبوت الحجية للشهرة وعدم ثبوتها ، وهذا هو معنى الشك في الحجية.

وأمّا الأمر الأول : - الذي هو بيان المراد من الأصل - فتوضيحه أن المقصود من الأصل في المقام هو المرجع الذي نستند إليه في موارد الشك في الحجية ، ففي المثال السابق حينما شككنا في حجية الشهرة الفتوائية ولم نعثر على دليل يثبت لها الحجية أو عدم الحجية ، نحتاج للبحث عمّا هو المرجع في مثل هذه الحالة ، وهل المرجع هو تنجّز الشهرة الفتوائية ولزوم العمل بمقتضاها ، أو أن المرجع هو عدم تنجّز الشهرة وعدم لزوم العمل بمفادها ، وبالتالي لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية الجارية في المقام ، وهذا يعني عدم الالتفات إلى الشهرة الفتوائية وتنزيلها منزلة العدم.

إذن لو كان الأصل عند الشك في الحجية يقتضي الحجية ، فهذا يعني أن الشهرة الفتوائية - المشكوك في حجّيتها - حجة أي مرجع ومستند لإثبات مفادها ، فلو كان مفادها الحرمة فيجب الالتزام بالحرمة وعدم الرجوع إلى أصالة البراءة العقلية - بناء على جريانها في موارد الشك - ولو كان مفادها الإباحة فيمكننا الالتزام بالإباحة وتجاوز الاحتياط العقلي - بناء على جريانه في موارد الشك -.

أما لو كان الأصل عند الشك في الحجة يقتضي عدم الحجية ، فهذا

ص: 119

يعني أن الشهرة الفتوائية المشكوك في حجيتها ليست حجة وليست مرجعا لإثبات مفادها ، بل إن المرجع حينئذ هي الأصول العملية الجارية في موارد الشك.

وباتّضاح هذين الأمرين تتّضح الجهة الأولى من هذا المطلب وهي أنه ما المراد من الأصل عند الشك في الحجية.

الجهة الثانية : في بيان ما هو الأصل عند الشك في الحجية ، هل هو الحجية أو عدم الحجية؟

وقبل بيان ذلك لا بدّ من تحرير محل النزاع ، فنقول : إن الأدلّة - الأعم من الشرعية والعقلية - تتصوّر على أربعة أنحاء :

النحو الأول : ما نقطع بحجيته ، أي ما نحرز بأنه طريق لإثبات الأحكام الشرعية ، وذلك مثل القرآن الكريم والسنة المتواترة والأحكام العقلية القطعية كالحسن والقبح العقليّين.

وهذا النحو من الأدلة خارج من محلّ النزاع ؛ لأن محلّ النزاع هو الشك في الحجية وهنا نقطع بالحجية.

الثاني : ما نقطع بعدم حجيّته وعدم طريقيته لإثبات الأحكام الشرعية ، وذلك مثل خبر الكذّاب والنصوص الشرعية المجملة والقياس الحنيفي والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرايع.

وهذا النحو من الأدلة خارج أيضا عن محلّ النزاع ، وذلك للقطع بعدم الحجية ومورد الكلام هو الشك في الحجية.

الثالث : ما نشك في حجّيته وصلاحيّته للكشف عن الأحكام الشرعية ، إلا أننا وجدنا في مقام البحث ما يدل على حجيّته ، وذلك مثل

ص: 120

خبر الثقة وظواهر الكتاب ، فإننا وإن كنّا بدوا نشكّ في حجّيتهما إلا أننا وجدنا ما يدلّ على حجّيتهما ، وهذا النحو من الأدلة خارج أيضا عن محلّ النزاع ، إذ محلّ النزاع هو الشك في الحجية استمرارا وهذا النحو من الأدلة وإن كنّا نشك في حجّيتها ابتداء ولكن هذا الشك قد زال بواسطة قيام الدليل القطعي على حجّيتها.

الرابع : ما نشك في حجّيته وصلاحيته للكشف عن الأحكام الشرعية ولم نعثر على دليل قطعي يثبت له الحجية أو ينفيها ويمكن التمثيل لذلك بالشهرة الفتوائية ، وبقول اللغوي وبالإجماع المنقول ، وهذا النحو من الأدلة هو محلّ النزاع في المقام.

ومع اتضاح محلّ النزاع نقول : إن الصحيح هو عدم الحجية في موارد الشك في الحجية ، فإذا شككنا في حجية دليل من الأدلّة ولم نعثر على ما يثبت الحجية له أو ينفيها عنها لا بدّ من البناء عملا على عدم الحجية وعدم ترتيب أي أثر على مفاد هذا الدليل المشكوك الحجية ، فكأنّ هذا الدليل في حيّز العدم ، فكما أننا لو قطعنا بعدم حجية دليل من الأدلة لم نرتّب أي أثر على ذلك الدليل ، فكذلك الكلام في موارد الشك في حجية دليل من الأدلة ، وهذا هو معنى قول الأصوليّين إن الشك في الحجية يساوق القطع بعدم الحجية ، فإن المراد من مساوقة الشك في الحجية للقطع بعدمها هو اتحاد الشك في الحجية مع القطع بعدمها في النتيجة ، فكما أننا في موارد القطع بعدم الحجية لا نرتّب أي أثر على الدليل المقطوع بعدم حجيّته كذلك يجب أن يكون موقفنا في موارد الشك في الحجية.

ومن هنا فالمرجع في موارد الشك في الحجية هو الأصول الجارية في

ص: 121

كل مورد بحسبه.

ويمكن الاستدلال على هذه الدعوى - وهي أن الأصل في الحجية هو عدم الحجية ، وأن المرجع في مثل هذا المورد هو الأصول العملية - بهذا الدليل وهو : أنه لا سبيل لرفع اليد عن الأصول العملية الجارية في موارد الشك في الحجية بعد قيام الدليل القطعي على منجّزيتها ومعذّريتها ، وبعد أن لم يكن هذا الدليل المشكوك الحجية صالحا لنفي موضوع الأصل العملي الجاري في مورد الدليل المشكوك.

ولمزيد من التوضيح نقول : إن الدليل المشكوك الحجية لا يخلو عن إحدى حالتين إما أن يكون مثبتا لتكليف أو نافيا لتكليف.

أما الحالة الأولى : وهي ما إذا كان مفيدا لحكم إلزامي كأن يكون مفاده حرمة العصير التمري ، ففي هذه الحالة يكون الأصل العملي الجاري في المقام هو أصالة الحل ، ولا مبرّر لرفع اليد عن هذا الأصل بعد قيام الدليل القطعي على معذّريته ، إذ أن الدليل المشكوك الحجية لا يرفع موضوع أصالة الحل - وهو الشك - إذ أننا بالوجدان نجد أن الشك باقيا على حاله دون أن يؤثر هذا الدليل المشكوك الحجية لرفع الشك ، ومع بقاء موضوع أصالة الحل تكون هي المرجع في المقام.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الدليل المشكوك الحجية نافيا للتكليف ، كأن يكون مفاده عدم وجوب صلاة الجمعة ، فهنا يكون الأصل الجاري - بناء على مسلك حق الطاعة - هو الاحتياط العقلي وهو أيضا قام الدليل القطعي على حجيّته فلا يمكن رفع اليد عن منجزيّته بالدليل المشكوك الحجيّة وذلك لعدم صلاحيته لرفع موضوع الاحتياط العقلي الذي

ص: 122

هو الظن والاحتمال بالتكليف ، إذ أننا بالوجدان نجد أن الظن أو الاحتمال باقيان على حالهما دون أن يؤثر هذا الدليل المشكوك الحجية لرفع الظن أو الاحتمال بالتكليف ، ومع بقاء موضوع الاحتياط العقلي يكون هو المرجع في مثل المقام.

هذا تمام الكلام في هذا المطلب ، ومنه اتّضح أن الشك في الحجية هو عدم الحجية ، والمرجع في مثل هذه الحالة هو الأصل العملي الجاري في كلّ مورد بحسبه.

ص: 123

المطلب الثاني: مقدار ما يثبت بالأدلّة المحرزة

ومن أجل أن يتّضح هذا المطلب لا بدّ من بيان مقدّمة.

كلّ دليل سواء كان قطعيّا أو غير قطعي ، وسواء كان محرزا أو أصلا عمليّا يمكن أن يكون له مدلول التزامي إضافة إلى مدلوله المطابقي ، ولكي تتّضح هذه الدعوى نذكر مثالا يناسب الدليل المحرز بكلا قسميه : القطعي ، وغير القطعي ، ومثالا يناسب الأدلّة العملية المعبّر عنها بالأصول العمليّة.

أما ما يناسب الدليل المحرز ، فمثاله : لو أخبر مخبر عن غرق زيد فإن هذا الخبر له مدلولان :

الأوّل : هو أن زيدا قد غرق في الماء ، وهذا ما يسمّى بالمدلول المطابقي.

الثاني : أن زيدا قد مات ، وهذا هو المدلول الالتزامي للخبر ، إذ أن الخبر وبحسب المدلول اللغوي لألفاظه لا يدل على أكثر من غرق زيد في الماء ، نعم ثبوت غرق زيد - وبواسطة مقدمة خارجية وهي أن الغرق موجب للموت - قد دلّ على موت زيد.

إذن ثبوت موت زيد نشأ عن مقدمتين الأولى إخبار المخبر بغرقه

ص: 124

والثانية هي العلم الخارجي بأن الغرق من موجبات الموت.

وأما ما يناسب الأصل العملي ، فنذكر له مثالا في الاستصحاب ، فنقول : لو كنّا على يقين سابق بحياة زيد ثم شككنا في بقائه على قيد الحياة فإن مقتضى الاستصحاب هو أنّ زيدا لا زال حيّا ، وهذا هو المدلول المطابقي للاستصحاب ، وللاستصحاب مدلول آخر وهو « أن زيدا يأكل ويشرب » وهذا هو المدلول الالتزامي للاستصحاب وهو لا يقتضيه الاستصحاب بنفسه إذ أن الاستصحاب لا يعني أكثر من إسراء الحالة السابقة المتيقّنة إلى ظرف الشك ، ومن الواضح أن كون زيد يأكل ويشرب الآن ليس مستفادا من حاق المستصحب « حياة زيد » ، نعم هو مستفاد من الاستصحاب باعتبار أنه صار واسطة في إثبات موضوع الملازمة ، فالاستصحاب أثبت حياة زيد فترتّب اللازم من حياة زيد وهو أنه يأكل ويشرب.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة ، يقع البحث حول الدلالة الالتزاميّة من حيث ثبوت الحجية بالإضافة إلى المدلول المطابقي وعدم ثبوت الحجيّة ، وهل أنه كلّما ثبتت الحجية لدليل فإنها تثبت لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي أو لا؟

ويمكن تصنيف البحث إلى موارد أربعة نذكرها تباعا :

المورد الأول : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة المحرزة القطعيّة ، كما لو قام الدليل القطعي على غرق زيد في الماء وفي مثل هذا المورد لا إشكال في ثبوت الحجية لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ؛ وذلك لأن القطع بالمدلول المطابقي قطع بالمدلول الالتزامي ، ولذلك قالوا « إن العلم بشيء

ص: 125

علم بلوازمه ».

إذن المنشأ لثبوت الحجيّة للمدلول الالتزامي هو العلم بالملازمة ، إذ هو الذي يؤدّي إلى العلم باللازم بعد العلم بتحقّق الملزوم - وهو المدلول المطابقي - وفي المثال المذكور يكون القطع بغرق زيد قطع بموته ؛ ولذا يمكن ترتيب جميع الآثار المترتّبة على موت زيد كاعتداد زوجته وتقسيم تركته.

المورد الثاني : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة المحرزة الظنية ، والذي قام الدليل القطعي على حجيته بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي بأن كان موضوع الحجية الثابت لهذا الدليل هو كلا المدلولين ، فهنا لا إشكال أيضا في ثبوت الحجية للمدلول الالتزامي وذلك لأنه وقع موضوعا للحجية بمعنى أن الدليل المثبت للحجية قد أثبتها لكلا المدلولين على حدّ سواء.

ومثال ذلك : خبر الثقة لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّته أنها في مقام إثبات الحجية لكلا مدلولي الخبر المطابقي والالتزامي فإن خبر الثقة في مثل هذه الحالة يكون حجة في المدلول الالتزامي كما هو حجة في المطابقي ، فلو أخبر الثقة بغرق زيد فإن هذا الخبر يكون حجة في إثبات موت زيد.

المورد الثالث : لو كان الدليل من الأدلة المحرزة الظنية إلا أن الدليل الذي دل على حجيّته دل على حجية المدلول المطابقي دون أن تكون له دلالة على حجية المدلول الالتزامي.

ومثال ذلك : الإجماع ، فإن الدليل الذي دل على حجيّته لم يدل على أكثر من حجية معقد الاجماع - والذي هو المدلول المطابقي - فلا يكون

ص: 126

المدلول الالتزامي لمعقد الإجماع مشمولا لدليل الحجية ، فلو قام الإجماع مثلا على وجوب صلاة الجمعة فإن وجوب صلاة الجمعة هي معقد الإجماع إلا أنّ لذلك مدلولا التزاميّا وهو عدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، وهذا المدلول الالتزامي خارج عن موضوع الحجية ، إذ أن موضوع الحجية - كما قلنا - هو معقد الإجماع - والذي هو في المثال وجوب صلاة الجمعة -.

ومن هنا قد يقال بعدم حجية المدلول الالتزامي ، فلو كان له آثار فإنها لا تترتّب وذلك لأن موضوع الحجية ليس شاملا لها ، نعم من الممكن ثبوتا أن تكون الحجية شاملة للمدلول الالتزامي ، ولكنّ ذلك لا ينفع لإثبات الحجية له إذ أن إمكان ثبوت الحجية له لا يسوّغ الاعتماد عليه ما لم يقم دليل إثباتي على الحجية ، وفرض الكلام عدم شمول الحجية للمدلول الالتزامي ، وكوننا نعلم أن ثبوت المدلول المطابقي يلازم خارجا ثبوت المدلول الالتزامي لا يسوّغ أيضا ثبوت الحجية للمدلول الالتزامي ؛ وذلك لأن فرض الكلام أن الدليل المحرز دليل ظني يفتقر في ثبوت الحجية له إلى التعبّد الشرعي ، ومن الممكن جدا أن يتعبّدنا الشارع بحجية المدلول المطابقي دون أن يتعبّدنا بحجية المدلول الالتزامي ، فيقول مثلا : إن الزوج إذا كان مفقودا ولم يعرف له خبر فإنه قد مات تعبدا ولكن مع ذلك لا تنفصل عنه زوجته إلا بطلاق الحاكم الشرعي في حين أن موت الزوج يلازم شرعا عدم الحاجة إلى الطلاق.

ومن هنا ذهب السيد الخوئي رحمه اللّه إلى عدم حجية المدلول الالتزامي في هذا المورد ، وفي مقابل هذا القول ذهب المشهور إلى حجيّته وأنه لا فرق في الحجيّة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي الا إذا كان المدلول المطابقي

ص: 127

من قبيل الأدلّة الظنية المحرزة « الأمارة » ، ولذلك قالوا « إن مثبتات الأمارة مطلقا حجة » أي أن المدلولات الالتزامية للأمارة مطلقا تكون حجة وهذا هو الصحيح بنظر المصنّف رحمه اللّه ، واستدلّ على ذلك بما ذكره في بحث الأمارات والأصول.

وحاصل ما ذكره هناك أن الدليل الظني المحرز - الذي قام الدليل القطعي على حجّيته - هو ما كان منشأ جعله الكاشفيّة عن متعلّقه وليس له منشأ وسبب غير كاشفيّته عن متعلّقه وبالتالي تكون حجية هذا الدليل ثابتة لكل ما كشف عنه هذا الدليل ، ومن الواضح أن كاشفية الدليل الظني المحرز على المدلول الالتزامي بمستوى كاشفيّته عن المدلول المطابقي ، فلا مبرّر للتفريق بينهما من حيث الحجية إذ أن الحجية ثابتة لكل ما كشف عنه الدليل.

ويمكن صياغة الدليل بشكل آخر ، بأن يقال : إننا فرغنا في بحث سابق عن أن السبب الوحيد في جعل الحجية للأمارة هو أن الأمارة كاشفة عن مفادها وليس للمولى أي ملاحظة لنوع الحكم الذي تكشف عنه الأمارة بل إن نظره مقتصر - في مقام جعل الحجية للأمارة - على ما للأمارة من كاشفيّة عن الواقع.

ومن هنا يمكن أن نستظهر أن المولى حينما جعل الحجية للأمارة جعلها لكل ما تكشف عنه الأمارة فلمّا كانت تكشف عن المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي معاف هذا يعني أن المولى قد جعل الحجية لكلا المدلولين إذ أن كلا منهما قد كشفت عنه الأمارة ، وبهذا يتّضح منشأ ذهاب المشهور إلى حجية المدلولات الالتزامية لمطلق الأمارات.

ص: 128

المورد الرابع : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة العملية المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي. وهنا ذهب المشهور إلى عدم حجية مدلولاتها الالتزامية ، فلذلك اشتهر عنهم « أن مثبتات الأصول ليست بحجة » ويمكن أن نمثل لذلك بقاعدة الفراغ المثبتة لصحة العبادة في ظرف الشك في الصحة إذا كان الشك قد وقع بعد الفراغ عن العبادة ، فإن هذه القاعدة لا تقتضي أكثر من الحكم بصحة الصلاة مثلا المفروغ عنها إذ أن هذا هو مدلولها المطابقي ، ولقاعدة الفراغ في بعض الموارد مدلول التزامي فلو فرغ المكلف من الصلاة ثم شك في صحتها من جهة أنه هل كان متطهّرا عندما دخل في الصلاة أم لا؟ فإن مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة هذه الصلاة ، وهذا هو مدلول القاعدة المطابقي وللحكم بصحة الصلاة مدلول التزامي وهو أنه كان على طهارة حين دخل الصلاة إلاّ أن هذا المدلول الالتزامي غير حجة ، فلو أراد الدخول في صلاة أخرى فإنه ملزم بالإتيان بوضوء جديد لها ولا تكون قاعدة الفراغ التي أجراها لغرض تصحيح الصلاة صالحة لإثبات طهارته الحدثية.

ويمكن الاستدلال على ذلك بأن المجعول في الأصول العملية هو الجري العملي على طبق الأصل إذ أنّ الملحوظ حين جعل الحجية للأصل هو نوع الحكم المشكوك وأهميته بنظر المولى دون أن يكون للمولى ملاحظة لكاشفية الأصل حتى لمدلوله المطابقي فضلا عن الالتزامي إذ أنّ الأصل لا يكشف عن أن مؤدّاه هو الواقع ، وقد تكون للمولى - كما في موارد الأصول المحرزة - ملاحظة لكاشفية الأصل عن الواقع إلاّ أنّ الكاشفية ليست هي الملاك التام في جعل الحجية للأصل بل إنّ الملاك هو

ص: 129

الكاشفية مع ملاحظة نوع الحكم المشكوك وأهميّته بنظر المولى وقد أوضحنا كل ذلك في بحث الأمارات والأصول.

وبهذا البيان يتّضح ما هو المنشأ لمبنى المشهور في عدم حجية المدلولات الالتزامية للأصول ، إذ أنه لمّا كانت الحجية مجعولة على الأصل العملي بوصف كونه وظيفة مقررة في ظرف الشك واهتمام المولى بهذه الوظيفة وأهميتها على سائر الوظائف دون أن يكون المنشأ لجعل هذه الوظيفة هو كاشفية الوظيفة العملية عن الواقع ، فإنه لا يمكن في مثل هذه الحالة تعدية الحجية الثابتة للوظيفة العملية لمدلولاتها الالتزامية إذ أنّه من أين لنا العلم أن الشارع جعل الحجية للمدلول الالتزامي بالإضافة إلى المدلول المطابقي؟ وهل هذا إلاّ « من حلب الدم » والتخرّص على المولى جلّ وعلا بغير علم ، نعم لو كان دليل جعل الحجية صادقا عرفا على كلا المدلولين لكان ذلك مسوغا للتمسّك بالمدلول الالتزامي كما هو الحال في بعض المدلولات الالتزامية للاستصحاب والبحث في محلّه ، وسيأتي مزيد توضيح في بحث الأصول العمليّة إن شاء اللّه تعالى.

وبهذا البيان اتّضح عدم حجية المدلولات الالتزامية للأصول العملية.

والمتحصّل من كل ما ذكرناه في الموارد الأربعة أنّ الموردين الأول والثاني تكون فيهما المدلولات الالتزاميّة حجة ، وفي المورد الثالث وقع الخلاف وذهب المشهور إلى الحجيّة ، وأمّا المورد الرابع فلا إشكال في عدم الحجيّة.

ص: 130

المطلب الثالث: تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة

لمّا أن فرغنا في البحث السابق عن حجية المدلول الالتزامي وأنه لا فرق بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي من حيث ثبوت الحجية لهما ، يقع البحث عن مطلب له صلة بالبحث السابق ، وهو : أن المدلول المطابقي لو سقط عن الحجية لسبب ما فهل يسقط المدلول الالتزامي تبعا لسقوطه أم لا؟

ومن الواضح أن هذا البحث يعتمد على القول بالحجيّة للمدلول الالتزامي ، أمّا لو بنينا على عدم حجيّته ، فلا يأتي هذا البحث ، إذ أن البحث هنا عن سقوط الحجية للمدلول الالتزامي لو اتفق سقوطها عن المدلول المطابقي وسقوط الحجية فرع ثبوتها في مرحلة سابقة ، ولهذا لا يقع البحث عن المدلولات الالتزامية للأصول العملية هنا ، إذ أنه لم تثبت الحجية لها ، فالكلام في المقام خاص بالأدلّة المحرزة.

وقبل الشروع في بيان المطلب لا بأس بذكر مقدّمة لها صلة بفهمه نبيّن فيها ما ينقسم عليه المدلول الالتزامي ، فنقول :

إن المدلول الالتزامي إما أن يكون مساويا للمدلول المطابقي ، وإما أن يكون أخص منه ، أو يكون أعم منه.

ص: 131

أما ما كان منه مساويا للمدلول المطابقي فهو ما كان معلولا أو لازما أو علة يفترض انحصارهم للمدلول المطابقي ، ومثاله : الإخبار عن « أن زيدا يرى » فإن لازمه أنّ لزيد عينا يبصر بها ، إذ أن الرؤية معلول منحصر بامتلاك الرائي عينا يبصر بها.

وأما ما كان منه أخص من المدلول المطابقي فهو ما كان معلولا أو لازما مع كون المدلول المطابقي علة للوازم أخرى ، فمثاله : الإخبار عن موت زيد فإن لازمه توقف نفس زيد ، وهذا اللازم أخص من المدلول المطابقي ؛ إذ أن لموت زيد مدلولات التزامية أخرى بالإضافة إلى توقف نفسه وهي مثلا توقف قلبه عن النبض وامتناع الكلام والأكل والشرب والحركة الإراديّة عليه وهكذا.

وأما ما كان منه أعم فهو ما كان معلولا أو لازما مع إمكان أن يكون هذا اللازم ناشئا عن ملزوم أو علة أخرى ، ومثاله : الإخبار عن غرق زيد في الماء ، فإن لازمه موت زيد ، وهذا اللازم أعم من المدلول المطابقي إذ أن الغرق ليس هو الموجب الوحيد للموت بل قد يحدث الموت بموجب آخر غير الغرق مثل الاحتراق أو السقوط من شاهق وهكذا.

والمتحصّل من هذه الأقسام أن اللازم قد يكون منحصرا بالمدلول المطابقي ويكون المدلول المطابقي منحصرا به أيضا ، وهذا هو اللازم المساوي وقد يكون اللازم منحصرا بالمدلول المطابقي دون أن يكون المدلول المطابقي منحصرا به حيث يكون للمدلول المطابقي لوازم أخرى ، وهذا هو اللازم الأخص.

وقد يكون اللازم غير منحصر بالمدلول المطابقي إذ قد ينشأ عن هذا

ص: 132

المدلول المطابقي وقد ينشأ عن غيره ، وهذا هو اللازم الأعم.

إذا اتضح ما بيّناه من أقسام المدلول الالتزامي يصل بنا الكلام إلى الحديث حول تبعيّة هذه الأقسام للمدلول المطابقي من حيث السقوط بعد أن تكلّمنا عن تبعيّتها له من حيث ثبوت الحجية ، ويقع الحديث عن هذه الأقسام تباعا.

القسم الأول : وهو ما كان المدلول الالتزامي مساويا للمدلول المطابقي ، وهنا لا بدّ من سقوط المدلول الالتزامي عن الحجية لو اتفق لنا العلم بسقوط المدلول المطابقي عن الحجية ؛ وذلك لأن المدلول الالتزامي منحصر ثبوته بتحقق المدلول المطابقي ، فمع انتفائه لا شيء يوجب بقاء أو تحقق المدلول الالتزامي بعد افتراض أن تحققه منحصر بتحقق المدلول المطابقي ، فيكون العلم بسقوطه علما بسقوط المدلول الالتزامي.

فلو أخبر مخبر عن أن زيدا يرى ، فهذا - كما قلنا - يلازم امتلاك زيد لعين باصرة ، فحين العلم باشتباه المخبر أو كذبه يسقط المدلول المطابقي عن الحجية وبتبعه يسقط المدلول الالتزامي عن الحجية ؛ وذلك لأن العلم بسقوط الأول يوجب العلم بسقوط الثاني ، لافتراض انحصار وجود الثاني بتحقق الأول فلا يكون هناك موجب للمدلول الالتزامي بعد افتراض عدم المدلول المطابقي.

القسم الثاني : وهو ما إذا كان المدلول الالتزامي أخص من المدلول المطابقي فهنا أيضا لا بدّ من سقوط المدلول الالتزامي عن الحجية إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجية ؛ وذلك لعين ما ذكرناه في القسم الأول ، إذ أنهما يشتركان في كون اللازم منحصرا بالمدلول المطابقي ، بمعنى أنه لا موجب

ص: 133

للمدلول الالتزامي غير هذا المدلول المطابقي ، نعم هما يفترقان من حيث إن القسم الأول يكون فيه المدلول المطابقي منحصرا باللازم كما أن اللازم منحصرا به ، وهذا بخلاف القسم الثاني فهو وإن كان اللازم فيه منحصرا بالمدلول المطابقي بحيث لا يوجد عن غيره إلا أن المدلول المطابقي غير منحصر باللازم فهو يوجد اللازم ويوجد غيره من اللوازم الأخرى ، إلا أن هذا الفرق لا يؤثر في النتيجة بعد افتراض كون اللازم منحصرا في كلا القسمين ، وانحصار اللازم بالمدلول المطابقي هو الذي يوجب العلم بسقوط اللازم عند سقوط المدلول المطابقي وهذا هو المبرّر للقول بتبعيّة المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في السقوط في كلا القسمين.

ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل المصنّف رحمه اللّه يهمل هذا القسم أو أن المنشأ هو أن الأصوليّين يعتبرون القسمين من واد واحد كما لعلّه هو المستفاد من إهمالهم لهذا القسم.

القسم الثالث : وهو ما إذا كان المدلول الالتزامي أعم من المدلول المطابقي ، وهذا القسم هو الذي وقع فيه الكلام بين الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) حيث ذهب المشهور إلى التبعيّة في السقوط عن الحجية ، وذهب آخرون إلى عدم التبعيّة في السقوط وأن سقوط المدلول المطابقي عن الحجية لا يقتضي سقوط المدلول الالتزامي عن الحجية بل إن الحجية تبقى ثابتة ما لم يقم دليل على سقوطها بالخصوص.

ولنرجع إلى المثال الذي ذكرناه في بيان الأقسام ، وهو أنه لو أخبر مخبر بغرق زيد فإن لازمه موت زيد ، وبهذا الخبر ثبتت الحجية لكلا المدلولين ، إنما الكلام لو سقطت الحجية عن المدلول المطابقي لهذا الخبر كأن

ص: 134

علمنا بأن المخبر قد كذب علينا أو أنه كان مشتبها فيما أخبر به من غرق زيد فهل أن العلم بكذب المخبر أو اشتباهه فيما أخبر موجب لسقوط مدلول هذا الخبر الالتزامي تبعا لسقوط المدلول المطابقي أو لا؟

والفارق بين هذا اللازم - أي الأعم - وبين اللازم المساوي والأخص هو أنه لا يبقى أي احتمال لوجود المدلول الالتزامي في ظرف العلم بسقوط المدلول المطابقي ، وهذا بخلاف اللازم الأعم ، فان احتمال بقائه في ظرف العلم بسقوط مدلوله المطابقي موجود.

وبعبارة أخرى : إن العلم بانتفاء المدلول المطابقي وعدم وجوده لا يلازم العلم بانتفاء المدلول الالتزامي وعدم وجوده ، فالعلم بكذب الخبر وإن كان يوجب عدم ثبوت الغرق لزيد إلا أنه لا يوجب العلم بعدم موت زيد ؛ إذ لعلّه قد مات بموجب آخر كالاحتراق أو السقوط من شاهق ، فأيّ موجب لسقوط الحجية عن اللازم الأعم بعد افتراض ثبوت الحجية له في مرحلة سابقة وبعد أن كان العلم بسقوط المدلول المطابقي عن الحجية لا يوجب العلم بسقوطه وهذا هو السبب الذي اعتمد عليه بعض الأعلام في مقام الاستدلال على عدم التبعيّة.

وفي مقابل هذا القول ذهب آخرون - ومنهم المصنّف رحمه اللّه - إلى القول بالتبعيّة في السقوط وأنه كلما سقط المدلول المطابقي عن الحجية سقط بتبعه المدلول الالتزامي. وقد ذكر المصنّف في مقام الاستدلال على هذه الدعوى دليلين ردّ أحدهما ولم يعلّق على الآخر.

الدليل الأول : هو أنّه لمّا كان المدلول الالتزامي تابعا في وجوده للمدلول المطابقي فهذا يقتضي أن تكون حجيّته تابعة أيضا للمدلول

ص: 135

المطابقي ، فمتى ما ثبتت الحجية للمدلول المطابقي ثبتت للمدلول الالتزامي ، ومتى ما سقطت الحجية عن المدلول المطابقي فإنها تسقط عن المدلول الالتزامي.

وبعبارة أخرى لمّا كان اللازم الأعم - وهو موت زيد في المثال - متفرّعا في وجوده على غرق زيد فهذا يقتضي سقوط هذا اللازم عن الحجية عندما نعلم بسقوط الخبر وهو غرق زيد عن الحجية.

والجواب على هذا الدليل : أنه لم تتّضح الملازمة بين التبعيّة في مقام الوجود والتبعية في مقام الحجيّة إذ أنّ من المحتمل جدا أن تكون الحجية لكل منهما ثابتة بجعل مستقل بحيث يكون موضوع الحجية لكل واحد منهما يغاير موضوع الحجية للآخر وذلك بأن يكون الملاك في جعل الحجية للمدلول المطابقي هو كاشفيّته عن واقع متعلّقه ، وكذلك يكون هناك ملاك مستقل لجعل الحجية للمدلول الالتزامي وهو كاشفيّته عن واقع آخر - وهو متعلّقه الخاص به -.

ولنذكر لذلك مثالا لتوضيح الجواب ولرفع الاستيحاش عن المبنى القائل بعدم التبعيّة ، وهو : أنّه لو أخبر الثقة بوجوب صلاة الجمعة فإنّ لهذا الخبر مدلولان ، الأول : منهما مطابقي وهو وجوب الجمعة ، والثاني : التزامي وهو عدم استحباب صلاة الجمعة وهذا اللازم أعم لأنّه قد ينشأ عن مدلول مطابقي آخر ، فلو افترضنا أن هذا المخبر أو غيره من الثقات أخبر بحرمة صلاة الجمعة ، فهنا يتعارض الخبران وبالتالي تسقط دلالتهما المطابقيّة عن الحجية إلاّ أنّ لهذين الخبرين مدلولا إلتزاميّا وهو عدم استحباب صلاة الجمعة ، فهنا نقول : إن هذا المدلول الالتزامي وإن كان

ص: 136

ناشئا عن المدلول المطابقي لكلا الخبرين إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي سقوطه عن الحجيّة بعد سقوط المدلول المطابقي للخبرين - بسبب التعارض - إذ أنّه من الممكن جدا أن تكون الحجية المجعولة للمدلول الالتزامي مستقلة عن الحجية المجعولة للمدلول المطابقي لكلا الخبرين بحيث يكون الملاك في جعل الحجية للمدلول الالتزامي هو كاشفيّته عن واقع متعلّقه وهو عدم استحباب صلاة الجمعة.

وبهذا البيان اتّضح عدم صحّة الدليل الأوّل على التبعيّة في السقوط.

الدليل الثاني : وحاصله أنّ المدلول الالتزامي دائما يكون مساويا للمدلول المطابقي وذلك لأن المدلول المطابقي إنما يكشف عن خصوص الحصّة الملازمة له لا أنه يكشف عن طبيعي اللازم ، فمثلا عندما يخبر المخبر عن غرق زيد فإنه وإن كان لازمه موت زيد إلاّ أن هذا اللازم بسعته ليس منكشفا ومدلولا التزاميا لهذا الخبر بل أن المدلول الالتزامي لهذا الخبر هو موت زيد عن الغرق لا موت زيد مطلقا ولو بموجب آخر كالاحتراق فإنّ ذلك خارج عن مدلول الخبر الالتزامي إذ أنّ ذلك من شؤون واقع اللازم ، حيث إن اللازم في الواقع لغرق زيد هو طبيعي الموت إلاّ أن ذلك خارج عن محل الكلام إذ أنّ محل الكلام هو المدلول الالتزامي للخبر ونحن بالوجدان نجد أنّ الإخبار بغرق زيد لم يكشف عن أكثر من موت زيد بالغرق.

وإذا تمّت دعوى التساوي بين المدلول المطابقي والالتزامي فهذا يعني أنّ العلم بسقوط الحجية عن المدلول المطابقي علم بسقوطها عن الالتزامي لعين ما ذكرناه في القسم الأوّل.

ص: 137

المطلب الرابع: وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي

ذكرنا في بحث الدليل الشرعي أنّه ينقسم إلى أدلة محرزة وأدلة عملية وأنّ الأدلة المحرزة تارة تكون قطعية وأخرى ظنية وقلنا أيضا إنّ الأدلة القطعية الطريقية صالحة بذاتها لتنجيز أو تعذير ما تكشف عنه من أحكام.

كما ذكرنا أيضا أن الأدلة الظنية المحرزة - التي قام الدليل القطعي على حجيّتها - صالحة لإثبات مدلولاتها بمعنى أنها إذا كشفت عن حليّة شيء فإنها تكون معذّرة أي نافية لمسؤولية المكلّف تجاه ما كشفت عنه من حكم ترخيصي لو اتّفق مخالفة مفادها للواقع وبمعنى أنها مؤكدة أو منجّزة إذا كان مدلولها وجوب شيء أو حرمة شيء فهي مؤكدة بناء على مسلك حق الطاعة - والذي هو الاحتياط العقلي - ومنجزة بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان - والذي هو البراءة العقلية - فهي بناء على المسلك الثاني مثبتة لمسؤولية المكلّف تجاه الحكم المنكشف بها ، وأمّا بناء على مسلك الاحتياط العقلي فدور الأمارة المثبتة للتكليف ينحصر في تأكيد ما يحكم به العقل من لزوم الاحتياط.

كما ذكرنا أيضا أن الأصول العملية المقرّرة للوظيفة في ظرف الشك

ص: 138

منجّزة أو معذّرة بمعنى أنها مثبتة للتكليف على عهدة المكلّف أو نافية للمسؤولية عن التكليف.

كل ذلك ذكرناه مفصّلا في بحوث سابقة وأشرنا إليه هنا لدخالته في فهم المطلب.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إن كل هذه الأدلة التي استعرضناها تشترك في الكشف أو في إثبات الأحكام لموضوعاتها دون أن يكون لها دخالة في موضوعات هذه الأحكام ، فدور هذه الأدلّة دور الواسطة في إثبات الأحكام لموضوعاتها ، ودورها بعبارة أخرى دور الدليليّة على ثبوت الأحكام لموضوعاتها.

وهذا هو معنى طريقيّة هذه الأدلة للأحكام الشرعية غاية ما في الأمر أنّها قد تكون طريقا للكشف عن الواقع إمّا بكشف تام أو بكشف ناقص ، وهذه هي الأدلة المحرزة ، وقد تكون طريقا للتعرّف على الوظائف الشرعيّة المقرّرة في ظرف الشك ، وهذه هي الأصول العمليّة.

ومن هنا نصل إلى ما هو الغرض من عقد هذا المطلب وهو البحث عن دور آخر للأدلة ، وهذا الدور هو قيام الأدلة مقام القطع الموضوعي.

ولتوضيح هذا الدور للأدلّة نقول : إنّه إذا ثبت عن الشارع أنه جعل القطع موضوعا لحكم من الأحكام الشرعيّة فهل أنّ هذه الأدلة تصلح لتحقيق موضوع هذه الأحكام التي جعل القطع موضوعا لها أو لا؟

ونذكر لذلك مثالا ونطبّق عليه جميع أقسام الأدلة ، لو قال المولى : « المرأة المقطوع بكونها في العدة يحرم عليك الزواج منها » ، فالحكم في هذه المسألة الشرعية ( وهو الحرمة ) قد ترتّب على موضوع مكوّن من جزئين ،

ص: 139

الأول : « المرأة » والثاني : « المقطوع بكونها في العدّة » ، فالقطع بكون المرأة في العدة قد جعل جزءا في موضوع الحرمة وهذا هو القطع الموضوعي - على ما بيّناه في محلّه - فهنا نبحث عن كيفيّة تحقّق موضوع الحرمة - والذي هو القطع بكون المرأة في العدّة - إذ لا بدّ من تنقّحه وتحقّقه في رتبة سابقة على الحكم كما هو الحال في سائر موضوعات الأحكام ، فنقول :

إنّ المتصور فيما يحقّق موضوع الحرمة هو أحد أدلة ثلاثة :

الأول : الأدلة القطعية الطريقية.

الثاني : الأدلة الظنية المحرزة.

الثالث : الأدلة العملية ( الأصول العملية ).

أمّا الأول : وهو الدليل القطعي الطريقي ، فكيفيّة تحقيقه لموضوع الحرمة هو أن يحصل القطع للمكلّف بأن هذه المرأة في العدة ، وهنا لا إشكال في تحقّق موضوع الحرمة وبه يترتّب الحكم وهو حرمة الزواج من هذه المرأة ؛ وذلك لأنه لمّا كان موضوع الحرمة هو القطع بكون المرأة في العدّة فذلك يعني أنّه متى ما حصل قطع للمكلّف بكون هذه المرأة في العدّة فقد تحقّق موضوع الحرمة إذ الموضوع للحرمة هو القطع وقد حصل.

وهذا هو معنى قيام القطع الطريقي مقام القطع الموضوعي ، فكما أن القطع الطريقي صالح للكشف عن ثبوت الأحكام لموضوعاتها ، كذلك هو صالح للكشف عن تحقّق الموضوعات خارجا ، فهو صالح للكشف عن دخول الوقت الذي هو موضوع لوجوب الصلاة ، وصالح للكشف عن ثبوت هلال شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الصوم ، فكذلك هو صالح للقيام مقام القطع الموضوعي الذي هو عبارة ثانية عن صلاحيّته

ص: 140

للكشف عن الموضوعات ، إذ أنه لمّا كان القطع بكون المرأة في العدّة موضوعا للحرمة ، فالقطع الطريقي صالح للكشف عن تحقق هذا الموضوع وذلك عن طريق حصول القطع للمكلّف بأنّ هذه المرأة في العدّة ، وحينما يحصل هذا القطع للمكلّف يجد نفسه مذعنة بتحقّق موضوع الحرمة خارجا.

وأمّا الثاني : وهو الدليل الظني المحرز والمعبّر عنه بالأمارات ، وكيفية تحقيقه لموضوع الحرمة - وهو القطع بكونها في العدة - هو أن تقوم بيّنة مثلا على أن هذه المرأة في العدّة ، وهنا وقع البحث عند الأعلام في صلاحيّة مثل البيّنة لتنقيح وتحقيق موضوع الحرمة - والذي هو القطع بكون المرأة في العدّة - والبيّنة لا تحقّق القطع بل أكثر ما تحقّقه هو الظن ، نعم الأدلة الظنيّة المحرزة قام الدليل القطعي على حجيتها ، إلاّ أن القدر المحرز من قيام الدليل هو حجيّتها وتنجيزها أو تعذيرها لما تكشف عنه من أحكام شرعيّة ، وهذا هو معنى قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، أما قيامها مقام القطع الموضوعي وتحقيقها لموضوع حكم أخذ في موضوع ذلك الحكم القطع بشيء من الأشياء ، فهذا يحتاج إلى دليل مستقل.

وهذا البحث هو المتصدّي لهذه المهمّة أي مهمة إثبات أو نفي قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي بعد الفراغ عن قيامها مقام القطع الطريقي كما بيّنّا ذلك.

فنقول : إن الأعلام « رضوان اللّه عليهم » قد اختلفوا في ذلك ومنشأ الخلاف الواقع بينهم هو الاختلاف فيما هو المراد من القطع المأخوذ موضوعا في حكم من الأحكام.

ص: 141

وبعبارة أخرى : ان الاختلاف في تحديد معنى القطع الموضوعي هو المؤثر في ما هو المبنى في المقام.

وهنا يوجد اتجاهان :

الاتجاه الأوّل : المراد من القطع المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام هو الحجة وليس القطع إلا واحدا مما له الحجة ، وليس هو المقصود بالذات بل هو كل ما يصلح للتنجيز والتعذير ، فكما أن القطع صالح للتنجيز والتعذير كذلك الأمارة ، فتكون الأمارة محقّقة أيضا لموضوع حكم أخذ فيه القطع إذ المراد من القطع هو ما له الحجية ، والأمارة مما لها الحجية ، وما القطع الذي ذكر في موضوع الحكم إلا مثالا لما له الحجيّة.

وبناء على هذا المبنى تكون الأمارات صالحة للقيام مقام القطع الموضوعي ، ففي مثالنا - وهو أن المرأة المقطوع بكونها في العدّة يحرم الزواج منها - يمكن للأمارة أن تحقّق موضوع هذا الحكم وأن تثبت أنّ هذه المرأة في العدّة ، وذلك لما قلنا من أن القطع المأخوذ في هذا الحكم ما هو إلاّ مثال للحجية ، والحجية هي موضوع هذا الحكم واقعا ، فكأنما المولى قال : المرأة التي قامت الحجة على أنها في العدّة يحرم الزواج منها.

الاتجاه الثاني : أن المراد من القطع المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام هو الكاشف التام عن متعلّقه.

وبعبارة أخرى : إن القطع الذي جعل موضوعا للحكم هو القطع الحقيقي والذي لا يكون معه شك ، وبناء على هذا الفهم من معنى القطع المأخوذ في الموضوع لا تكون الأمارات صالحة لتنقيح الموضوعات المأخوذ فيها القطع وذلك لأنها لا تبلغ مرتبة العلم الذي لا يكون معه

ص: 142

شك ، فهي لا تخرج عن حيّز الظن ، ففي مثالنا لا تكون البيّنة صالحة لتحقيق موضوع حرمة الزواج من هذه المرأة ، إذ أن البيّنة لا تبلغ مرتبة العلم الذي ليس معه شك في حين أن موضوع الحرمة هو العلم بكون المرأة في العدّة.

نعم لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّة الأمارة أنّ الأمارة منزّلة منزلة العلم تعبّدا بحيث يكون هذا التنزيل التعبّدي ملغيا لمقدار النقص في كاشفية الأمارة ، ففي هذه الحالة لا إشكال في صلوح الأمارة لتنقيح الموضوع المأخوذ فيه القطع أي قيامها مقام القطع الموضوعي في ذلك.

ومن الواضح أنّ هذا التنزيل يحتاج إلى لسان خاص ولا يكفي فيه جعل الأمارة حجة أي أن قيام الدليل القطعي على حجيّة الأمارة لا يفي بإثبات كون الأمارة منزّلة منزلة القطع ، إذ أن جعل الأمارة حجة لا يعني أكثر من كون الأمارة صالحة للتنجيز والتعذير أما أنها صالحة للقيام مقام ما أخذ القطع فيه فليس لهذه الأدلة المثبتة للحجيّة دلالة عليه ، فنحتاج لإثبات هذه الخصوصيّة الزائدة - وهي تنزيل الأمارة منزلة العلم - إلى لسان خاص يثبت التنزيل عرفا كما في تنزيل الطواف في البيت منزلة الصلاة حيث إن مبرّر هذا التنزيل هو هذه الرواية « الطواف بالبيت صلاة » (1) إذ أنّ هذه الرواية يستفاد منها التنزيل عرفا.

ص: 143


1- مستدرك الوسائل : الباب 38 من أبواب الطواف الحديث 2 ، سنن النسائي : 5 / 222 ، سنن الدارمي : 2 / 66 الحديث 1847

والمتحصّل مما ذكرنا أن قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مبنيّ على تحديد المراد من القطع المأخوذ في الموضوع ، فبناء على الاتجاه الأول تكون الأمارة صالحة للقيام مقام القطع الموضوعي ، وعلى الثاني لا تكون الأمارة صالحة لذلك إلاّ أن يستفاد من دليل حجّيتها التنزيل أو يستفاد من دليل آخر غير دليل الحجيّة كأن يقوم دليل آخر على تنزيل الأمارة منزلة العلم بعد الفراغ عن ثبوت الحجيّة لها.

وأمّا الثالث : وهو الأدلة العمليّة فلم يتعرّض المصنّف لها ولا بأس ببيان كيفيّة قيامها مقام القطع الموضوعي ، وذلك عن طريق الرجوع إلى المثال السابق ، فقول المولى : « المرأة المقطوع بكونها في العدّة يحرم الزواج منها » حكم شرعي ترتّب على موضوع أخذ في هذا الموضوع القطع ، فلو كنّا على يقين سابق بكون هذه المرأة في العدّة فهنا يجري الاستصحاب ، فيقع الكلام في هذا الاستصحاب هل هو كاف في تحقيق موضوع الحرمة أو لا؟ فلو كان كافيا لذلك فهذا يعني قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، وأما إذا لم يكن كافيا لذلك فهو يعني عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

ص: 144

المطلب الخامس: إثبات الدليل لجواز الإسناد

قلنا في بحث جواز الإسناد : إن المراد من جواز الإسناد هو جواز إضافة ونسبة الحكم المنكشف إلى المولى ، فلو كشف الدليل عن وجوب شيء أو حرمة شيء فإن جواز الإسناد يعني صحة إضافة ونسبة هذا الحكم إلى المولى بأن نقول إن المولى قد أوجب هذا وحرّم هذا.

والمتصدّي لإثبات جواز الإسناد وعدمه هو علم الفقه ؛ إذ أن البحث في هذه المسألة إنما هو عن حكم فعل من أفعال المكلّفين ، وبيان أحكام أفعال المكلّفين إنما هو من وظائف علم الفقه لا علم الأصول ، إذ قلنا إن الذي يبحث عنه في علم الأصول إنما هو الأدلة العامّة التي يمكن أن تقطع طريقا في استنباط الأحكام الشرعيّة.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة ، نقول : إن إسناد الحكم إلى الشارع يتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : الإسناد بغير علم ، كأن ينسب المكلّف حكما إلى الشارع دون أن يكون له أيّ مستند على ذلك.

وفي مثل هذه الحالة لا إشكال في حرمة الإسناد وقد تصدّى الفقهاء

ص: 145

( رضوان اللّه عليهم ) للاستدلال على هذا الحكم.

الحالة الثانية : الإسناد بعلم ، وهذه الحالة هي القدر المتيقّن من جواز الإسناد وقد تحدّثنا عنها في بحث سابق.

الحالة الثالثة : الإسناد اعتمادا على دليل ظنّي محرز « الأمارة » إلا أنه مما دل الدليل القطعي على حجّيته ، ويمكن التفصيل في هذه الحالة بين إسناد نفس الحجية إلى الشارع المقدّس كأن نقول إن الشارع قد جعل الحجية لخبر الثقة وبين إسناد الحكم المنكشف بهذا الدليل إلى الشارع المقدّس.

أمّا الأول : وهو إسناد نفس الحجية إلى الشارع ، فهو داخل في الحالة الثانية إذ أن إسناد الحجيّة إلى الشارع - وأنّ هذا حكم ظاهري قد جعل الشارع له الحجية - إسناد بعلم لأنّ فرض الكلام أنّ هذا الدليل الظني مما دل الدليل القطعي على حجيّته.

وأمّا الثاني : وهو إسناد الحكم المنكشف بالدليل الظني إلى الشارع ، كأن يسند حرمة العصير العنبي - التي كشفت عنها الأمارة - إلى الشارع.

وهذا المقدار هو الذي وقع فيه الكلام بين الأعلام ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) ، فمن قال بعدم جواز الإسناد أرجع هذه الحالة إلى الحالة الأولى - وهي الإسناد بغير علم - بدعوى أنها لا تنقّح موضوع الحكم بجواز الإسناد والذي هو القطع بالحكم الذي يراد إسناده إلى المولى حيث قلنا في بحث جواز الإسناد إن موضوع جواز الإسناد هو القطع بكون الحكم صادرا عن المولى ، فالقطع قد جعل موضوعا لجواز الإسناد ، والأمارة لا تحقق هذا الموضوع ، إذ أن جعل الحجية لها لا يفيد أكثر من جواز الاستناد

ص: 146

إليها في مقام العمل ، وهذا هو معنى جعل المنجزيّة والمعذريّة للأمارة - كما قلنا ذلك في بحث جواز الإسناد -.

وفي مقابل هذا القول ، ذهب بعض الأعلام إلى جواز الإسناد اعتمادا على الأمارة ، وذلك لأن الأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي ، إذ أن المراد من القطع المأخوذ في موضوع جواز الإسناد هو مطلق الحجّة ، وما القطع إلاّ مثال للحجّة ، فالمأخوذ واقعا في موضوع جواز الإسناد هو الحجة الأعم من الدليل القطعي أو الدليل الظني الذي دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، أو بأن يقال بأنّ القطع المأخوذ في موضوع جواز الإسناد وإن كان هو القطع الحقيقي ولكن لمّا كان دليل الحجية للأمارة قد نزّل الأمارة منزلة العلم تعبّدا فإنّ هذا يصلح أن يكون مبرّرا لصلوح الأمارة لتنقيح وتحقيق موضوع جواز الإسناد ، فكما أنّ القطع الطريقي ينقّح موضوع جواز الإسناد فكذلك الأمارة بناء على التنزيل. وبهذا تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي وتكون مصحّحة لجواز الإسناد.

وهناك حالة رابعة لإسناد الحكم للشارع أهملها المصنّف رحمه اللّه وهي الإسناد اعتمادا على الأدلّة العمليّة كما لو أسند الحكم إلى الشارع اعتمادا على الاستصحاب ، وهنا يأتي التفصيل السابق أيضا بين إسناد نفس حجية الاستصحاب إلى الشارع ، وهذا لا إشكال في جوازه وذلك لأنّ إسناد نفس حجية الاستصحاب إلى الشارع إسناد بعلم لقيام الدليل القطعي على حجيّة الاستصحاب.

ويبقى الكلام في جواز إسناد نفس الحكم المستصحب إلى الشارع ، كإسناد وجوب الجمعة المستفاد من الاستصحاب إلى الشارع.

ص: 147

وهنا يأتي نفس الكلام السابق من أنّ المراد من القطع هو الحجة أو القطع الحقيقي ، فإن كان الأوّل فالاستصحاب مصحّح لجواز الإسناد ، وإن كان الثاني فالاستصحاب لا يصحّح الإسناد إلاّ إذا قلنا بأنّ دليل الحجية للاستصحاب قد نزّل الاستصحاب منزلة العلم. والبحث في محلّه.

هذا تمام الكلام في المبادئ التي أراد المصنّف إيرادها قبل بحث الأدلة المحرزة.

والمراد من المبادئ في المقام هي : المبادئ التصديقيّة لهذا العلم ، والتي هي في مقابل المبادئ التصورية ، وقد بيّنّا معنى المبادئ التصوّرية في بحث موضوع علم الأصول.

أمّا المبادئ التصديقية لكل علم فهي عبارة عن المقدّمات التي يكون تحريرها نافعا في الاستدلال على مسائل ذلك العلم ، فتكون هذه المبادئ بمثابة الأصول الموضوعية التي يرجع إليها الباحث عن ذلك العلم لتحصيل الوثوق بنتائج تلك المسائل.

وبتعبير آخر : هذه المبادئ تبحث لغرض إيقاعها بعد ذلك في كبرى أو صغرى أقيسة ذلك العلم.

وتطبيق ما ذكرنا على المقدّمات الخمس التي بحثناها يتّضح بالتأمّل ، فمثلا قاعدة أنّ الأصل عند الشك في الحجية هو عدم الحجية يمكن الاستفادة منها في بحث حجية قول اللغوي أو حجية خبر الثقة في الموضوعات ، وكذلك لو شككنا في إطلاق حجية الاستصحاب في حالات الشك في المقتضي ، وهكذا.

ص: 148

الدليل الشرعي

اشارة

ويقع البحث عنه في مباحث :

المبحث الأول : في تحديد دلالات الدليل الشرعي والذي - كما قلنا - يبحث عن الحد الأصغر لقياس نتيجته الدليل الشرعي.

المبحث الثاني : في إثبات صغرى الدليل الشرعي : وهو - كما قلنا - ما يبحث عن الأدلّة المحقّقة لصغرى قياس نتيجته الدليل الشرعي.

المبحث الثالث : في إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي وهو - كما قلنا - البحث عن كبرى قياس نتيجته الدليل الشرعي.

ص: 149

ص: 150

المبحث الأوّل: تحديد دلالات الدليل الشرعي

اشارة

1 - الدليل الشرعي اللفظي

2 - الدليل الشرعي غير اللفظي

ص: 151

ص: 152

الدليل الشرعي اللفظي

تمهيد :

قلنا - فيما سبق - إن الدليل الشرعي اللفظي هو : عبارة عن الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس ، كالقرآن الكريم ، وكالأحاديث الواصلة لنا عن المعصومين علیهم السلام .

وهذا النوع من الأدلّة الشرعيّة له ارتباط وثيق باللغة العربية وبما يحكمها من ضوابط وأصول. ومنشأ هذا الارتباط هو أنّ مادة هذا الدليل الشرعي هي الألفاظ العربية إذ أنّ مدار البحث في الدليل الشرعي اللفظي هو استنطاق الآيات والروايات لغرض التعرّف على الأحكام الشرعيّة المودعة في هذه المركّبات اللفظية فلا بدّ للممارس لعملية الاستنباط أن يكون متوفّرا على آلة الدخول في هذا المعترك الشائك. وهذا ما يبرر البحث عن مجموعة من الضوابط اللغوية التي تساهم في معرفة ما للألفاظ من علاقة بالمعاني ، كما تساهم في تشخيص الظهور وعلاقة هذا الظهور باللفظ أو بمناسبات الحكم والموضوع مثلا ، كما أنها تساعد على استكشاف الخلل الذي قد يتّفق وقوعه في بعض الروايات نتيجة نقلها بالمعنى أو وقوع التصحيف الناشئ من اشتباه النسّاخ.

فالتعرّف على ضوابط اللغة العربية وبالخصوص ما سنطرحه منها مهم جدا للممارس لعملية الاستنباط.

ص: 153

الظهور التصوّري والظهور التصديقي :
اشارة

يمكن تقسيم دلالات الألفاظ على المعاني إلى ثلاث دلالات :

الأولى : الدلالة التصوّريّة :

وهي الدلالة التي توجب خطور معنى اللفظ في الذهن ، وهذا النوع من الدلالات لا يتوقّف على كون المتلفّظ بها عاقلا فضلا عن أن يكون ملتفتا ، بل إنّ هذه الدلالة تتحقّق بمجرّد صدور اللفظ من أي لافظ حتى وإن كان ببغاء ، أو كان من غير ملتفت كأن كان نائما ، أو ملتفتا ولكنه لم يقصد إخطار هذا المعنى من اللفظ بل أراد إخطار معنى آخر كما لو أراد من اللفظ غير ما وضع له كأن يقول : « زرت في هذا اليوم ثعلبا » فإنّ السامع وإن كان يعلم بأنّ اللافظ لم يرد من الثعلب معناه الحقيقي ، ولكن مع ذلك ينخطر في ذهنه معنى الثعلب.

وهذه الدلالة تسمّى أيضا بالدلالة الوضعيّة ؛ وذلك لأنّ منشأ خطور المعنى من اللفظ هو العلم بأنّ هذا اللفظ وضع لهذا المعنى ؛ فلذلك لا يحصل هذا الخطور الذهني من اللفظ ممن لا يعلم بالوضع ، فالجاهل باللغة العربية لا يحصل له تصوّر معنى « الماء » من إطلاق لفظ « الماء ».

الثانية : الدلالة التصديقيّة :

وهي التي توجب أيضا خطور معنى اللفظ في الذهن إلا أنها توجب شيئا آخر بالإضافة إلى ذلك وهو أن المتكلّم أراد إخطار هذا المعنى في ذهن السامع ، فهي إذن تضيف إلى الدلالة التصورية معنى زائدا ، وهذا هو المبرّر لاختلافها عن الدلالة التصوريّة.

ص: 154

وبهذا يتّضح أن الدلالة التصديقيّة تتوقّف على كون المتلفّظ عاقلا وملتفتا إذ أنه لا يمكن استظهار كون المتكلّم مريدا لإخطار المعنى من اللفظ ما لم يكن التفاته محرزا.

ومن هنا تعرف أن هذا النحو من الدلالة يتوقّف على مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : هي علم السامع بالوضع ، وهذه هي جهة الاشتراك بينها وبين الدلالة التصوّرية.

المقدّمة الثانية : العلم بأنّ المتكلّم عاقل ملتفت وهذه هي جهة الافتراق عن الدلالة التصوّرية.

إذن حقيقة الدلالة التصديقيّة هو أنها دلالة حالية مستفادة من ظهور حال المتكلّم.

ومثالها أن يأتي المتكلّم الملتفت بلفظ الأسد ، فإنّ السامع حينئذ يتصوّر معنى الأسد ويعرف أنّ المتكلّم قصد إخطار معنى الأسد في ذهن السامع.

وتسمّى هذه الدلالة بالتصديقيّة الأولى ، وتسمّى أيضا بالدلالة الاستعمالية ، والتي هي بمعنى استعمال اللفظ لغرض إخطار المعنى في ذهن السامع.

الثالثة : الدلالة التصديقية الثانية :

وهي التي تكون متوفّرة على الدلالتين الأولى والثانية بالإضافة إلى دلالة ثالثة وهي قصد المتكلم الحكاية عن الواقع الأعم من الواقع الخارجي أو واقع نفسه ، فحينما يقول المتكلّم الملتفت الجاد « زيد فقير » فهو يحدث في ذهن السامع ثلاث دلالات :

ص: 155

الأولى : تصور معنى « زيد » ، وتصور معنى « فقير » وتصور النسبة بين « زيد و « فقير ».

الدلالة الثانية : هي أن المتكلم استعمل هذه الألفاظ لغرض إخطار هذه المعاني في ذهن السامع.

والدلالة الثالثة : هي أن المتكلم قاصد الحكاية عن واقع خارجي هو « فقر زيد » ، وهذه هي الدلالة التصديقية الثانية.

وقد يكون المتكلّم قاصدا الحكاية عن واقع نفسه كما في الجمل الإنشائيّة ، كأن يقول المتكلّم الملتفت الجاد « أكرموا العلماء » فإنّ هذه الجملة متوفّرة على الدلالتين الأولى والثانية ، بالإضافة إلى دلالة ثالثة وهي قصد المتكلم الحكاية عن واقع نفسه ، وهو أن له إرادة في إكرام العلماء.

وهذه الدلالة تفترق عن الدلالتين - بالإضافة إلى ما ذكرناه - بأنها لا تتعقل إلا في الجمل التركيبية التامة إذ أن قصد الحكاية عن الواقع الخارجي أو واقع النفس لا يكون إلا بجملة مشتملة على موضوع وحكم ويكون الحكم فيها منتسبا إلى الموضوع.

وهذا بخلاف الدلالة التصورية وكذلك الدلالة التصديقية الأولى فإنهما يمكن تعقلهما في الجمل التركيبية التامة وكذلك يمكن تعقلهما في المفردات اللفظية غير الواقعة في إطار جمل تركيبية تامة ، فلفظ الماء إذا صدر عن غير ملتفت فالدلالة تصورية ، وإذا صدر من ملتفت فالدلالة تصديقية أولى ، وكذلك لو قال « زيد فقير » فإذا صدرت هذه الجملة من متكلّم نائم أو غافل فهي تصورية وإن صدرت من ملتفت قاصد لإخطار هذه الجملة في ذهن السامع إلا أنه غير جاد وغير قاصد الحكاية والإخبار عن الواقع

ص: 156

بل كان هازلا أو كاذبا ، فهذه دلالة تصديقية أولى ، والمسماّة بالدلالة الاستعمالية.

وبهذا البيان يتّضح معنى الدلالة التصديقية الثانية والتي تسمّى بالدلالة الجدّية ، واتّضح أيضا أن هذه الدلالة لا تستفاد من حاق اللفظ ، بل إنها مستفادة منه ومن شيء آخر وهو العلم بحال المتكلم وأنه جاد فيما يقول وقاصد للحكاية عن الواقع.

والمتحصّل مما ذكرنا أن الدلالة التصورية دلالة لفظية ناشئة عن العلم بالأوضاع اللغوية ، والدلالة التصديقية الأولى والثانية دلالة حالية مستفادة من معرفة حال المتكلّم فإن كان المتكلّم مريدا لإخطار المعاني من الألفاظ فحسب فهي دلالة تصديقية أولى ، وإن كان مريدا - بالإضافة إلى ذلك - الحكاية عن الواقع وجادّا في حكايته فالدلالة تصديقيّة ثانية.

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة
اشارة

ذكرنا في البحث السابق أن الدلالة التصورية هي الدلالة الموجبة لتصوّر المعنى عند إطلاق اللفظ ، فاللفظ بمثابة السبب لخطور المعاني في الذهن ، وهنا نتساءل عن ما هو المنشأ لهذه السببية الواقعة بين الألفاظ ومعانيها وما هو السرّ في هذه العلاقة.

وهنا نشأت مجموعة من النظريات لغرض الكشف عن منشأ هذه العلاقة.

النظرية الأولى : السببيّة الذاتية :
اشارة

هي أن العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى هي علاقة السببيّة الذاتية ،

ص: 157

فاللفظ سبب ذاتي لوجود المعنى.

وبعبارة أخرى : إن المعنى لازم ذاتي للفظ ، واللازم الذاتي - كما ذكرنا في بحث القطع - هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها بحيث يستحيل تخلّفه عنها ، فعلاقة اللفظ بالمعنى كعلاقة النار بالحرارة ، فكما أنّ الحرارة لازم ذاتي للنار ، كذلك المعنى لازم ذاتي للفظ ، وهذا يقتضي استحالة تخلّف انخطار المعنى عند إطلاق اللفظ لأن ذلك خلف الذاتيّة الواقعة بينهما.

والجواب على هذه النظريّة :

هو أننا بالوجدان نرى أن انخطار المعاني من الألفاظ يحتاج إلى اكتساب ، فغير العالم بالأوضاع اللغوية لا ينقدح في ذهنه المعنى عند إطلاق لفظه وما ذلك إلا لأن تصوّر المعاني عن الألفاظ مفتقر إلى دراسة الأوضاع اللغوية وهذا ما ينافي الذاتية المدعاة ، إذ أن الذاتية تقتضي كفاية تصوّر اللفظ لانقداح المعنى في الذهن ، كما هو الشأن في سائر اللوازم الذاتية بالنسبة لملزوماتها.

وبهذا اتّضح فساد هذه النظرية التي تبنّاها مجموعة من الأدباء.

النظريّة الثانية : السببية الوضعية الاعتبارية :
اشارة

إنّ العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى نشأت عن الأوضاع اللغوية وذلك أن الواضع يضع لفظا بإزاء معنى من المعاني فيكون هذا الوضع سببا في نشوء هذه العلاقة وانتقال ذهن السامع إلى المعنى حين إطلاق اللفظ.

وإذا كانت العلاقة ناشئة عن الوضع فهذا يعني أن هذه العلاقة اعتباريّة وليس لها واقع وراء اعتبار الواضع.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ مجموعة من الأعلام « رضوان اللّه تعالى

ص: 158

عليهم » تبنّوا هذه النظرية وأن منشأ هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع إلا أنهم اختلفوا في كيفيّة الاعتبار الذي أنشأ العلاقة ، فهل هو اعتبار السببيّة أو اعتبار الآلية أو أنه اعتبار اللفظ علامة على المعنى.

ولتوضيح هذه المسالك الثلاثة لا بدّ من إفراد كل واحد منها ببيان.

المسلك الأول :

والذي هو مسلك السببيّة وهو عبارة عن أنّ الواضع يعتبر اللفظ سببا في تصوّر المعنى ، فكأنّ اللفظ علّة لانخطار المعنى في الذهن والمعنى المتصوّر عن اللفظ معلول لها ، غايته أنها عليّة ومعلوليّة اعتباريّة.

ويمكن إيضاح ذلك ببعض الاعتبارات الشرعيّة مثل أن يقول المولى : ( إذا قالت المرأة للرجل زوّجتك نفسي ، وقال الرجل للمرأة قبلت الزواج ) فإنّ المرأة بهذا الكلام تصبح زوجة والرجل يصبح زوجا لها ، فكأنّما المولى اعتبر هذه الألفاظ سببا لتحقّق الزوجيّة ، فكذلك المقام فإنّ الواضع إذا اعتبر اللفظ سببا في تصوّر المعنى فإن ذلك يقتضي تصوّر المعنى عند إطلاق اللفظ إذ أنّ تصوّر المعنى يصبح مسبّبا عن اللفظ.

المسلك الثاني :

والذي عبّرنا عنه بمسلك الآليّة ، وهو عبارة عن اعتبار الواضع اللفظ آلة في تفهيم المعنى.

والفرق بين الآلية والسببيّة هو : أنّ الآلة ليست أكثر من الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الغرض ، فهي كالمنشار بالنسبة للنجار ، فكما أنّ المنشار قد توجد وبإزائها الخشبة ومع ذلك فهي لا تنشر الخشبة إلاّ أن يأتي النجار فينشر الخشبة بها ، فكذلك اللفظ ليس له أن يخطر المعنى في الذهن إلاّ أن

ص: 159

يستعمله مستعمل فعند ذلك يحصل الانخطار.

وهذا بخلاف السببية فإنّ السببية تقتضي تحقّق المسبّب بمجرّد وجود سببه التام. ومن هنا فإنّ اللفظ يوجب تصوّر المعنى مطلقا بناء على السببية ولا يوجبه بغير الاستعمال بناء على الآلية.

المسلك الثالث :

والذي عبّرنا عنه بمسلك العلاميّة ، والذي هو عبارة عن اعتبار الواضع اللفظ علامة على المعنى فهو بمثابة الإشارات التي يحدثها الأخرس لغرض تفهيم مراداته وكالعلامات الموضوعة على الطرقات لبيان أنّها مغلقة أو سالكة.

وباتّضاح هذه المسالك الثلاثة ، نجد أنها وإن كانت تختلف في بيان كيفيّة الاعتبار إلاّ أنّها تشترك في أنّ المنشأ للعلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع.

والجواب على هذه النظريّة بتمام مسالكها :

إنّ هذه النظريّة تفترض أن المنشأ لحدوث العلاقة بين اللفظ والمعنى هو الاعتبار ، والاعتبار ليس له واقع إذ أنّه ليس له وجود وراء اعتبار المعتبر في حين أننا نرى وبالوجدان أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة واقعيّة حتى لو قطعنا النظر عن الاعتبار والمعتبر ، فلو كانت العلاقة اعتباريّة محضة فإنّ ذلك يقتضي انتهاء العلاقة بمجرّد قطع النظر عن الاعتبار إذ أنّ الاعتبار متقوّم بالالتزام به فلو ألغيناه أو تجاوزناه فإن ذلك يفضي إلى انعدام العلائق الناشئة عنه.

ومن هنا نقول : إنّ هذه النظريّة لم تقف على السر في نشوء هذه

ص: 160

العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى ، إذ أنّ الاعتبار أقصى ما يمكن أن يفسّره هو أن الوضع نشأ عن الاعتبار ، أمّا كيف تحققّت بعد ذلك العلاقة الواقعيّة والتي لا تنتهي بانتهاء وبإلغاء الاعتبار.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّه يمكن تنظير العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى بالماء والحرارة والذي نشأت حرارته عن النار ثم رفعناه عن النار ، فإنّ علاقة النار بالحرارة علاقة واقعيّة كما أنّه لا يمكن تفسير بقاء هذه العلاقة بالنار ، بأن نقول : إن النار هي السبب في بقاء الحرارة للماء إذ أنّ الفرض هو رفع الماء عن النار ومع ذلك بقيت الحرارة للماء على حالها ، ترى ما هو تفسير بقاء الحرارة للماء؟

هذا التفسير هو الذي نبحث عنه في علاقة اللفظ بالمعنى إذ أننا لو سلّمنا أن المنشأ في حصول العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع إلاّ أنّ ذلك لا يفسّر لنا سرّ بقاء العلاقة على حالها حتى مع رفع اليد عن هذا الاعتبار.

إذن لا بدّ من البحث عن نظرية أخرى تفسّر لنا حقيقة هذه العلاقة الواقعيّة.

النظريّة الثالثة : التعهّد
اشارة

وهذه النظريّة تحتفظ بدعوى أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى نشأت عن الوضع إلاّ أنها تفسّر هذه العلاقة بما يتناسب مع واقعيّتها.

وبتعبير آخر : هذه النظرية تطرح تفسيرا للعلاقة بين اللفظ والمعنى ينسجم مع واقعية هذه العلاقة.

والمراد من التعهّد - والذي جعلته هذه النظرية مبررا للعلاقة بين

ص: 161

اللفظ والمعنى - المراد منه الالتزام والتباني النفساني من الواضع بأن لا يتلفظ بهذا اللفظ إلاّ إذا كان مريدا لتفهيم هذا المعنى ، فيكون قصد تفهيم المعنى هو المبرّر للوضع ولولاه لما نشأ الوضع ولما كان للواضع أيّ غرض في اعتبار لفظ بإزاء معنى.

وبتعبير آخر : لو لا تعلّق الغرض عند الواضع بإبراز مقاصده وحاجاته لما كان ينشأ الوضع ويعتبر ألفاظا دالّة على معان ، فكما أنّ الأخرس يحدث إشارات لتفهيم مقاصده ولو لم يكن له قصد لما أحدث هذه الإشارات فكذلك الواضع لو لا أنّه يحتاج إلى إيصال مقاصده لما أنشأ الوضع ، فهذا إذن هو السرّ في العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى ، إذ أن هذه العلاقة مرتبطة بواقع نفس الواضع وحاجته في إيصال أغراضه ومراداته ، فإذن العلاقة بين اللفظ والمعنى بناء على هذه النظرية ليست جزافية بل لها منشأ يرتبط بواقع النفس ، وهذا الواقع لا يمكن تجاوزه كما هو الحال بناء على مسلك الاعتبار إذ أن تجاوز الاعتبار يكون عن أحد أمرين إما أن يتنازل الواضع عن غرضه في تفهيم مقاصده وهذا إن حصل فهو يعنى انتهاء العلاقة بين اللفظ والمعنى - وهذا ما يؤكد أن منشأ العلاقة هو تعلّق غرض الواضع بتفهيم مقاصده - في حين أنّنا على مسلك الاعتبار نرى بالوجدان عدم انعدام العلاقة برفع اليد عن الاعتبار مما يؤكّد أن الاعتبار ليس هو المبرّر للعلاقة.

الثاني من الأمرين اللذين يتصوّر بهما تجاوز الاعتبار هو أن يكون المتجاوز للاعتبار غير الواضع ، وهذا لا يكون على مسلك التعهّد إذ أنّ كلّ متكلّم واضع كما سيأتي ، نعم هو متصوّر بناء على مسلك الاعتبار ، إذ أنّ

ص: 162

المعتبر قد يكون غير المستعمل.

ومع اتّضاح مسلك التعهّد تتّضح الثمرة المترتّبة بينه وبين مسلك الاعتبار ، فبناء على مسلك التعهّد يكون كلّ متكلّم واضعا ؛ وذلك لأن التعهد - كما قلنا - عبارة عن التباني النفساني بأن لا يتلفّظ بهذا اللفظ إلا إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، وهذا التباني لا يتصوّر إلا في حالة يكون فيها كل متكلّم واضعا إذ أن المتكلّم إذا لم يكن واضعا فهذا يعني أنه غير ملتزم ومتعهّد وإنما المتعهد غيره وهو خلف الفرض.

أما بناء على مسلك الاعتبار ، فيمكن أن يكون الواضع غير المتكلّم إذ أن الواضع يعتبر اللفظ علامة على المعنى فتنشأ عن ذلك علاقة بين اللفظ والمعنى يستفيد منها كلّ متكلّم.

وهناك ثمرة أخرى مهمّة تترتّب على الفرق بين المسلكين ، وهي : أن الوضع بناء على التعهّد هو الذي ينشأ الدلالة التصديقية الأولى « الاستعمالية » إذ أن الدلالة التصديقية الأولى « كما قلنا » هي ما يكون فيها المتكلّم قاصدا لتفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا هو معنى التعهّد المحقّق للوضع ؛ ولذلك لا تتعقّل بناء على مسلك التعهّد الدلالة التصوّرية التي هي مستفادة من حاق اللفظ إذ أن اللفظ بناء على هذا المسلك لا يكشف عن المعنى ما لم يكن المتكلّم متعهّدا باستخدام هذا اللفظ لغرض تفهيم المعنى فاللفظ وحده بناء على التعهّد غير كاف في تحقيق الدلالة ؛ فلذلك ليس عندنا بناء على هذا المسلك إلاّ دلالتان ، الأولى : هي الدلالة التصديقيّة الأولى ، والثانية : هي الدلالة التصديقيّة الثانية.

وأما بناء على مسلك الاعتبار ، فالدلالة التصديقية الأولى ليست

ص: 163

ناشئة عن الوضع بل هي ناشئة عن معرفة حال المتكلّم وأنه ملتفت وقاصد لإخطار المعنى في الذهن ، فالدلالة التصديقية الأولى بناء على هذا المسلك دلالة حالية سياقية ، والذي هو ناشئ عن الوضع بناء على هذا المسلك هو الدلالة التصوّرية حيث إن الدلالة بناء على الاعتبار نشأت عن اعتبار اللفظ مفيدا لتصور المعنى.

الإشكال على مسلك التعهّد :

أورد المصنّف رحمه اللّه على مسلك التعهّد بإيرادين :

الأول : إن مسلك التعهّد لا يستطيع تفسير الاستعمالات المجازيّة والتي يستعمها كل متكلّم إذ أن المتكلّم إذا كان بانيا على عدم الإتيان بهذا اللفظ إلا إذا كان مريدا لتفهيم هذا المعنى فهذا يعني أن استعمالاته المجازية تكون على خلاف ما تعهّد به إذ أنّه في الاستعمال المجازي يأتي باللفظ ولا يكون قاصدا لتفهيم ذلك المعنى - الذي تعهّد بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلاّ لتفهيمه - بل يكون قاصدا لتفهيم معنى آخر.

وقد تقول إن المتكلّم وإن كان متعهّدا بألاّ يأتي بهذا اللفظ إلا إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى إلا أنه ملتزم ضمنا بأن ذلك التعهّد في غير حالات الاستعمال المجازي بأن يقول هكذا : « أنا متعهّد بأن لا آتي بهذا اللفظ إلاّ إذا كنت مريدا لتفهيم هذا المعنى ما عدا حالات الاستعمال المجازي ».

الثاني : إن مسلك التعهّد يفترض أن المتكلم وقبل أن يتكلم يتصوّر معنى ثم يضع بإزاء هذا المعنى لفظا ثم يتعهّد بينه وبين نفسه بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلا أن يكون قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، ويفترض أيضا أن المتكلّم حينما يريد استعمال هذا اللفظ لتفهيم هذا المعنى يرجع إلى نفسه ليرى بأيّ

ص: 164

شيء هي التزمت ، ثم يطابق بين ما التزم به وبين هذا اللفظ وهذا المعنى الذي يريد تفهيمه الآن ، فإذا رأى ذلك مطابقا لما التزم به استعمله وإلاّ لا يستعمله ، فكأنه يشكّل قياسا استثنائيا هكذا.

هذا اللفظ قد تعهّدت أن لا استعمله إلا في تفهيم هذا المعنى ، وهذا المعنى الذي أريد تفهيمه الآن مطابق للمعنى الذي تعهّدت به إذن يصح أن أستعمل هذا اللفظ لتفهيم هذا المعنى.

وفي حالات أخرى تنعكس النتيجة هكذا.

إن هذا اللفظ قد تعهّدت أن لا أستعمله إلا لتفهيم هذا المعنى ، والمعنى الذي أريد تفهيمه الآن يغاير المعنى الذي تعهدت بأن لا آتي بهذا اللفظ إلا لتفهيمه ، إذن هذا اللفظ لا أستعمله لتفهيم هذا المعنى الثاني.

إذن المتكلّم بناء على هذا المسلك حينما يضع لفظا بإزاء معنى وحينما يريد استعمال اللفظ في المعنى يحتاج إلى تشكيل أقيسة منطقيّة ويحتاج أيضا إلى إدراك معنى الملازمة ؛ لأنه في تعهّده يجعل اللفظ ملزوما والمعنى لازما كما يفترض أن يكون المتكلّم قادرا حين الاستعمال على الانتقال من الملزوم إلى اللازم.

كل ذلك يحتاجه المتكلّم بناء على مسلك التعهّد في حين أن ذلك لا يتناسب مع المتكلّم في مرحلة طفولته فإمّا أن نتنازل عن مسلك التعهّد في مرحلة الطفولة لعدم تعقّله في هذه المرحلة ، ولا نحتمل أن صاحب هذه النظرية يقبل ذلك لأنه يعنى عدم الإجابة عن منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى إذ أن منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى لا تتفاوت بتفاوت عمر الإنسان.

ص: 165

النظرية الرابعة : نظرية القرن الأكيد :

وهي التي تبنّاها المصنّف رحمه اللّه ، وهذه النظرية تقف على جذور العلاقة الواقعية بين اللفظ والمعنى ، فهي وإن كانت تقبل بأن الوضع قد ينشأ عن اختراع الواضع لفظا واعتباره دالا على معنى من المعاني ، إلاّ أنها تعتبر ذلك وسيلة من وسائل نشوء العلاقة وليس هو السبب في واقعيّة هذه العلاقة ، وإنّما السبب في واقعيّة هذه العلاقة هو الاقتران الأكيد في ذهن الإنسان بين اللفظ والمعنى إذ أنّ فكر الإنسان ركّب تكوينا على أنّه إذا ارتبط شيء في ذهنه بشيء واستوثق ذلك الارتباط فإنّ ذلك يؤدي إلى انخطار الثاني بتصوّر الأول ، مثلا حينما يصاب الإنسان بمشكلة مستعصية ويكون سبب هذه المشكلة هو زيد من الناس فهنا يحدث ذهن الإنسان - بحسب - طبعه - ربطا بين هذه المشكلة المستعصية وبين زيد من الناس ، ثم إنّ هذا الارتباط يظلّ مختزنا في ذهن هذا الإنسان بحيث لو مضى على هذه المشكلة عقود من الزمن فإنّه كلّما تذكّر المشكلة انقدحت في ذهنه صورة زيد وكذلك العكس ، وما ذلك إلاّ للإرتباط الذهني الوثيق بين المشكلة وبين زيد.

والارتباط بين الألفاظ والمعاني من هذا القبيل إذ أنّ هذا الارتباط يحدث في ذهن الإنسان نتيجة عوامل معيّنة توجب توثيق الربط بين اللفظ والمعنى ، وهذه العوامل وإن كانت تختلف في طبيعتها إلاّ أنها تشترك في إحداثها للربط الوثيق بين اللفظ والمعنى ، فقد تكون هذه العوامل اتفاقية ، وقد تكون عنائية مقصودة.

ويمكن تنظير ذلك بتعليم الطفل اللغة ، فتارة يتم تعليمه عن طريق تكرار لفظ معيّن عند مشاهدة شيء معيّن فيحصل في ذهن الطفل اقتران

ص: 166

بين هذا اللفظ وبين ذلك الشيء ، وهذا الاقتران إنما هو من مقتضيات طبع الإنسان وتكوينه ، وتارة أخرى يكون التعليم عن طريق تلقين الطفل وتفهيمه بأنّ هذا الشيء يسمّى كذا وذاك يسمّى كذا ، وبهذا التلقين ينحدث ربط واقتران في ذهنه بين اللفظ وذاك المعنى ، وهذا الربط والاقتران أيضا من مقتضيات تكوين الإنسان وطبعه الذي طبعه اللّه عزّ وجلّ عليه.

إذن يمكن إجمال هذه النظرية بأن يقال : إنّ السرّ في واقعيّة العلاقة بين اللفظ والمعنى هو ما طبع عليه ذهن الإنسان من القدرة على تشكيل علائق وروابط بين الأشياء ، وتكون طبيعة هذه العلائق بعد ذلك أنّه كلما خطر في ذهنه أحد الشيئين المقترنين ينقدح الآخر حتى ولو لم يكن مريدا لذلك.

ومع اتضاح معنى هذه النظرية يتّضح أنها تتّفق مع نظرية الاعتبار في أنّ الوضع سبب للدلالة التصورية فحسب ؛ وذلك لأنّ الاقتران لا يوجب أكثر من تصوّر المعنى عند صدور اللفظ ، أمّا أنّ الآتي باللفظ قاصد لتفهيم المعنى فهذا خارج عمّا تقتضيه نظرية القرن وعليه تكون الدلالة التصديقيّة مستفادة - بناء على هذه النظرية - من حال المتكلّم.

الوضع التعييني والتعيّني :
اشارة

ذكروا أنّ الوضع بلحاظ ما يسبّبه ويحقّقه ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : الوضع التعييني : وهو ما يتصدّى فيه الواضع لجعل لفظ دالا على معنى بحيث يبذل عناية خاصة ومقصودة لهذه العملية كأن يقول : وضعت لفظ الأسد للحيوان المفترس.

ص: 167

الثاني : الوضع التعيّني : وهو ما يكون تحقّقه إتفاقيّا بحيث يكون ناشئا عن كثرة استعمال لفظ في معنى فينتج عن هذه الكثرة في الاستعمال أنس ذهني يوجب الانتقال من اللفظ إلى المعنى.

وهنا تظهر ثمرة - بين نظرية القرن الأكيد وبين نظريّتي الاعتبار والتعهّد - وهي أنّه بناء على نظرية القرن الأكيد يمكن تبرير القسم الثاني من قسمي الوضع ؛ وذلك لأننا قلنا إنّ القرن الأكيد هو عبارة عن ربط يحدثه ذهن الإنسان - بمقتضى طبعه وتكوينه - بين اللفظ والمعنى ، وهذا الربط الذهني يكون ناشئا عن اقتران خارجي أيّا كانت طبيعة هذا الاقتران ، فإذا كان كذلك فمن الواضح أنّ كثرة استعمال لفظ في معنى نوع اقتران خارجي بين اللفظ والمعنى ، هذا الاقتران الخارجي يوجب نشوء ارتباط في الذهن بين اللفظ والمعنى وبه تكون كثرة الاستعمال موجبة للوضع التعيّني بناء على نظريّة القرن الأكيد.

وأمّا بناء على نظريّتي الاعتبار والتعهّد فلا يتعقّل فيهما الوضع التعيّني إذ الاعتبار متقوّم ببذل العناية المخصوصة والمقصودة لغرض جعل اللفظ دالا على المعنى في حين أنّ كثرة الاستعمال عملية عفويّة لم يتصدّ أحد لإيجادها ، فلا اعتبار ولا معتبر.

وكذلك الكلام في التعهّد إذ هو متقوّم بالتباني النفساني على أن لا يأتي باللفظ إلاّ أن يقصد تفهيم المعنى ، فإذن هو متقوّم بوجود تعهّد ومتعهّد ، وكثرة الاستعمال ليست إلاّ عملية اتفاقية ، بل إنّه بناء على التعهّد لا يوجد استعمال إلاّ بتعهّد مسبق ولا يشذ عن ذلك أحد كما اتضح مما تقدّم.

ص: 168

نعم ، يمكن أن تكون كثرة الاستعمال كاشفة عن وجود اعتبار وتعهّد ، فيكون الفرق بين نظرية القرن الأكيد وبين النظريّتين أنّه بناء على القرن الأكيد تكون كثرة الاستعمال موجده للوضع ، فلذلك يكون الوضع متأخّرا عنها ، وأمّا بناء على النظريّتين - الاعتبار والتعهّد - فدور كثرة الاستعمال هو دور الكاشف عن وجود تعهّد واعتبار.

وبهذا يتّضح أنّ الوضع التعييني والتعيّني ليسا موجدين للوضع وإنما لهما دور الكشف عنه ، غاية ما في الأمر أنّ كيفيّة الكشف مختلفة ، فهي في التعيّني تكون كثرة الاستعمال كاشفة ، وأمّا في التعييني فالكاشف عن الوضع هو تصريح الواضع بأنه قد وضع اللفظ بإزاء هذا المعنى.

توقّف الوضع على تصوّر المعنى :

قلنا : إن الوضع عبارة عن جعل اللفظ دالا على معنى من المعاني ، فالوضع بهذا حكم على المعنى كما هو حكم على اللفظ ، فيكون المعنى واللفظ محكوما عليهما ، أي أن المعنى واللفظ كلا منهما يمثّل جزء موضوع لقضيّة يكون المحمول فيها الوضع ، فكأنّما الواضع يشكّل قضية هذه صورتها « اللفظ والمعنى يدلّ الأوّل منهما على الثاني » ، فاللفظ والمعنى يمثّلان موضوع القضية « ويدل الأول على الثاني » هو محمول القضية وهو عين الوضع كما هو واضح ، فإذا كان الوضع هو الحكم على اللفظ والمعنى فهذا يقتضي أن يتصوّر الحاكم اللفظ والمعنى في رتبة سابقة على جعل الحكم - أي جعل الوضع - ؛ وذلك لاستحالة جعل الأحكام قبل تقرر موضوعاتها كما ذكرنا ذلك في بحث القطع الموضوعي.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول : إن الوضع ينقسم إلى عدّة تقسيمات ،

ص: 169

منشأ هذه التقسيمات هو ملاحظة الوضع في كل تقسيم بلحاظ يختلف عنه في التقسيم الآخر ، فحينما نلحظ الوضع من جهة ما يسببه ويحققه ، فالوضع ينقسم إلى وضع تعييني ووضع تعيّني ، وحينما نلاحظه من جهة اللفظ الذي يراد جعله دالا على المعنى ، فالوضع ينقسم إلى وضع شخصي ووضع نوعي ، وهكذا تختلف تقسيمات الوضع باختلاف الحيثية الملحوظة فيه عند التقسيم.

وهنا نتعرّض لبيان أحد تقسيمات الوضع ، والذي هو تقسيم بلحاظ المعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، فهو إذن تقسيم الوضع بلحاظ موضوعه وهو المعنى ، فنقول : إن المعنى الذي يمكن تصوّره حين الوضع على نحوين :

النحو الأول : أن نتصوّر المعنى - الذي نريد جعل اللفظ دالا عليه - بنفسه بحيث نستحضره في ذهننا كاملا ومن تمام حيثيّاته وبما له من سعة أو ضيق وذلك مثل أن نستحضر ونتصوّر معنى زيد بما له من مشخّصات ، ثم نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المتشخّص والمحدّد ، وكذلك مثل أن نتصوّر معنى الإنسان بما له من حيثيّات تميّزه عن سائر المعاني وبما له من سعة بحيث يشمل أفراده ، ثم نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المحدّد.

النحو الثاني : أن نستحضر ونتصوّر المعنى ولكن ليس بنفسه وإنما بعنوانه المنطبق عليه ، فيكون هذا العنوان العام مشيرا ومنوّها بالمعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، وذلك مثل أن نتصوّر معنى زيد ولكن ليس بنفسه وبمشخّصاته الخاصة به وإنما بعنوان هذا العنوان صالح لأن ينطبق عليه ، وهو مثلا عنوان الإنسان أو عنوان الرجل ، فهنا نكون قد تصوّرنا

ص: 170

معنى زيد بعنوان كلّي صالح للانطباق عليه.

ومع اتّضاح هذين النحوين من تصوّر المعنى ، نكون قد توفّرنا على الشرط الذي يصحّح لنا الوضع ، إذ قلنا إن الوضع لا يمكن إلا بعد تقرّر الموضوع. والمعنى أحد جزئي الموضوع ، وإذا ما تقرّر الموضوع عندنا وتصوّرناه أمكن جعل لفظ دالا عليه.

ومن هنا يكون الوضع بلحاظ المعنى المتصوّر منقسما إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الوضع العام والموضوع له العام :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الكلّيّة ويحدّده في ذهنه بما له من جنس وفصل ثم يجعل لفظا بإزاء هذا المعنى الكلي المحدّد ، مثل أن يتصوّر معنى الحيوان الناطق ويميّز هذا المعنى عن المعاني الكليّة الأخرى ، ثم بعد ذلك يجعل لفظا من الألفاظ دالا عليه كلفظ الإنسان فيكون لفظ الإنسان دالا على المعنى الكلّي والذي هو الحيوان الناطق.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الكلي المتصوّر في الذهن قبل الوضع ، والمراد من الموضوع له أي الذي وضع له اللفظ ، فالضمير في « له » راجع إلى اللفظ.

والمراد من الوضع العام هو هذه العملية التي يتصدّى لها الواضع والتي هي جعل اللفظ بإزاء المعنى ؛ وسمّي وضعا عاما لأن اللفظ الذي جعله الواضع بإزاء المعنى لفظ جعل دالا على معنى كلّي عام ، فاتّصاف الوضع بالعموم إنما هو بلحاظ المعنى الموضوع له اللفظ والذي هو في المثال الحيوان الناطق.

ص: 171

القسم الثاني : الوضع الخاص والموضوع له الخاص :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الجزئيّة ويشخّصه ويحدّده في ذهنه ، ثم يجعل لفظا بإزاء هذا المعنى الجزئي المشخّص ، مثل أن يتصوّر الواضع فردا من أفراد الإنسان ويحدّده في ذهنه بتمام مشخّصاته الخاصّة به ، ثم يجعل لفظ زيد دالا على هذا المعنى الخاص المتصوّر في الذهن.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الجزئي المتشخّص في الذهن والذي عبّر عنه بالخاص.

وسمّي هذا الوضع خاصّا لأن اللفظ الذي جعله الواضع بإزاء المعنى لفظ جعل دالا على معنى جزئي متشخّص.

الوضع العام والموضوع له الخاص :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الجزئيّة ولكن عن طريق تصوّر عنوان كلي صالح للانطباق على المعنى الجزئي ، ويكون دور العنوان الكلّي دور المشير والملفت للمعنى الجزئي المشمول لهذا العنوان الكلي.

كأن يتصوّر الواضع فردا من أفراد الإنسان إلا أن هذا التصوّر يتم عن طريق تصوّر عنوان هذا الفرد الذي يكون هذا الفرد داخلا تحته ، ثم يضع لهذا الفرد من أفراد الإنسان لفظا يدل على هذا الفرد ، ولكن بعنوانه الكلي لا بحدوده الخاصّة به ، فيقول هذا هذا الفرد - المتصوّر عن طريق تصوّر عنوانه - إنسان فلفظ الإنسان جعل دالا على الفرد المتصوّر ولكن بما هو مشمول لعنوانه العام.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الجزئي غير المتشخّص بمشخّصاته الخاصّة به ، وإنما بعنوانه الكلي الصادق عليه ، ولذلك صار

ص: 172

الموضوع له في هذا القسم خاصّا ، أي الذي وضع له اللفظ هو معنى خاص.

وسمّي الوضع هنا عامّا لأن اللفظ الذي جعله الواضع دالا جعله دالا على معنى خاص متعنون بعنوان عام.

ومع اتّضاح هذه الأقسام الثلاثة نعرف أن المناسب للقسم الأول هو وضع أسماء الأجناس ، مثل وضع لفظ الأسد دالا على معنى الحيوان المفترس ، والمناسب للقسم الثاني هو وضع الأعلام الشخصيّة ، كوضع لفظ « مكّة » بإزاء تلك البقعة المباركة.

وأما القسم الثالث فقد وقع الخلاف فيما يناسبه وهل أن وضع الحروف مما يناسب هذا القسم أو لا؟ وهذا ما سنبحثه في المعاني الحرفية إن شاء اللّه تعالى.

هذا تمام الكلام في الأقسام الممكنة في الوضع ، ويقع الكلام في قسم رابع من الوضع وهو :

الوضع الخاص والموضوع له العام :

ويفترض في هذا القسم من الوضع أن الواضع يتصوّر معنى جزئي غير صالح للانطباق إلاّ على نفسه ، ثم بعد ذلك يضع اللفظ بإزاء معنى كلي عام ، فالموضوع له اللفظ هو المعنى الكلي العام وإن كان المتصوّر حين الوضع هو المعنى الجزئي.

وتلاحظون أن هذا مستحيل إذ أنّ الوضع كما قلنا هو حكم على المعنى وهذا يقتضي أن يكون المعنى متصوّرا قبل الوضع ، وفي هذا القسم يكون المعنى المتصوّر غير المعنى المحكوم عليه ، أي غير المعنى الموضوع له

ص: 173

اللفظ ، فالمعنى الموضوع له اللفظ هو العنوان الكلي أو قل هو المفهوم الكلي ، والمعنى المتصوّر للواضع حين الوضع هو المعنى الجزئي ، ومن الواضح أن المعنى الجزئي لا يوجب تصوّر المعنى الكلّي ، فهو غير مساو للكلّي إذ أنّ هذا خلف جزئيته ، كما لا يصلح للإشارة إلى العنوان الكلّي إذ أنّ العنوان الكلّي ليس داخلا تحت الجزئي وصلوح المعنى لأن يشير إنما هو في حالة يكون المعنى المشار إليه مشمولا وداخلا تحت العنوان المشير.

ويمكن أن نمثّل لذلك بما لو تصوّر الواضع مفهوم الحيوان الناطق بما له من سعة ثم وضع لفظ زيد بإزاء ذات من أفراد هذا المفهوم العام ، فهنا يكون المعنى المتصوّر غير المعنى الموضوع له لفظ زيد إذ أن المعنى المتصوّر حين الوضع هو مفهوم الحيوان الناطق بما له من السعة والمعنى الذي وضع اللفظ بإزائه وللدلالة عليه هو ذات من أفراد هذا المفهوم الكلّي ، وهذا يعني أن الذي وضع بإزائه اللفظ هو معنى جزئي ، والمعنى الجزئي لا يصلح للإشارة إلى المعنى الكلّي لعدم مساوته له وعدم دخوله تحت عنوان جزئي كما هو واضح.

وبهذا اتّضح استحالة هذا القسم ، وهو الوضع الخاص والموضوع له العام.

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ :

قلنا فيما سبق إنّ الوضع حكم على اللفظ والمعنى ، وهذا يقتضي تصوّر اللفظ والمعنى قبل الوضع.

وقد ذكرنا فيما سبق أقسام الوضع بلحاظ تصوّر المعنى الذي يراد

ص: 174

وضع اللفظ دالا عليه ، ويقع الكلام في المقام عن تقسيم الوضع بلحاظ تصوّر اللفظ الذي يراد جعله دالا على المعنى.

فنقول : إنّ الوضع بهذا اللحاظ ينقسم إلى قسمين :

الأول : الوضع الشخصي : وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بنفسه ، وذلك بأن يتصوّر الواضع لفظا بمادّته وهيئته ثم يضعه بإزاء معنى من المعاني ، ويمكن التمثيل لهذا القسم من الوضع بأسماء الأجناس وبأسماء الأعلام الشخصيّة ، وذلك مثلا بأن يتصوّر الواضع لفظ أسد بمادته والتي هي ( أ ، س ، د ) وبهيئته والتي هي ( فعل ) بفتح الفاء والعين ، ثم يضع هذا اللفظ بإزاء معنى كلّي وهو الحيوان المفترس ، وهذا هو وضع أسماء الأجناس ، وأما وضع أسماء الأعلام الشخصية فمثاله أن يتصوّر الواضع لفظ زيد بمادّته وهيئته ثم يضعه بإزاء معنى جزئي وهو في المثال ذات من أفراد الإنسان.

الثاني : الوضع النوعي : وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بعنوان عام ومشير ، وذلك بأن يتصوّر الواضع مادّة في هيئة من الهيئات ، تكون هذه المادة عنوانا مشيرا إلى الهيئة ، ثم يضع المادّة المتهيّئة بهيئة خاصّة بإزاء معنى كلّي وليس غرضه من الوضع سوى تحديد هيئة للمعنى الكلّي ، وإنّما جعل الهيئة في ضمن مادة لأجل الإشارة إلى الهيئة لعدم قدرة الواضع على إحصاء كل المواد المتهيّئة بهذه الهيئة ، ومثال ذلك أن يتصوّر الواضع هيئة الفعل الماضي في ضمن عنوان مشير إليها - وهو ( فعل ) « الفاء والعين واللام فتح الثلاثة » وهو إنّما احتاج في تصوّر هيئة الفعل الماضي إلى المادّة لأنّ الهيئة لا تكون إلاّ في ضمن مادة من المواد - ثم يضع هذه المادّة المتهيّئة بهذه

ص: 175

الهيئة المخصوصة بإزاء معنى كلّي عام وهو في المثال ( الحدث الذي مضى زمانه ).

فهذا هو الوضع النوعي وسمّي هذا الوضع نوعيّا لأنّ اللفظ المتصوّر حال الوضع لفظ غير مقصود بنفسه وإنّما بهيئته التي لها سريان في سائر المواد المتهيّئة بمثل هذه الهيئة.

المجاز :

يعرّف المجاز عادة : بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، أي : في معنى ليس ذلك اللفظ موضوعا للدلالة عليه بل إنّ اللفظ الموضوع للدلالة عليه غيره ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الرجل الشجاع ليس موضوعا له لفظ الأسد.

والمصحّح للمجاز عادة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فالمعنى الذي وضع الواضع اللفظ للدلالة عليه إذا شابهه معنى آخر تكون هذه المشابهة مبرّرة لاستعمال ذلك اللفظ الذي وضع للمعنى المشابه - بفتح الباء - في المعنى المشابه - بكسر الباء - وذلك مثل استعمال لفظ السواد للتعبير عن الكراهة وعبوس الوجه ، فإن لفظ السواد لم يوضع لذلك وإنما وضع للون من الألوان ، ولكن المشابهة بين معنى لفظ السواد - وهو اللون الخاص - وبين الكراهة وعبوس الوجه سوّغ استعماله في المعنى المشابه للمعنى الموضوع له لفظ السواد ، قال اللّه تعالى : ( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى

ص: 176

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (1).

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الوضع - وبسبب القرن الأكيد - يحدث علاقة بين المعنى وبين اللفظ الذي وضع لغرض الدلالة على ذلك المعنى ، وهذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ. ولمّا كان لهذا المعنى ما يشابهه من معان أخرى - بحيث تكون هذه المشابهة نحو علاقة موجبة للتقارن في الذهن - هذه المشابهة تكون مبرّرا لاستعمال اللفظ في المعنى الآخر المشابه للمعنى الموضوع له اللفظ ، فيكون الاقتران الذهني بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المشابه له محققا للاقتران بين اللفظ المقترن بمعناه الحقيقي وبين المعنى المشابه والذي هو المعنى المجازي.

وبعبارة أخرى : المشابهة بين معنى ومعنى آخر تولّد اقترانا بين اللفظ - الذي هو للمعنى الأوّل - وبين المعنى الثاني فتكون المشابهة سببا في نشوء علاقة بين اللفظ والمعنى الثاني إلاّ أن هذه العلاقة ليست في استيثاقها واستحكامها كالعلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى الأول الموضوع له ذلك اللفظ ؛ فلذلك عندما يطلق اللفظ يكون المنسبق منه إلى الذهن هو المعنى الأول ، بل استحكام العلاقة بين المعنى واللفظ الموضوع لذلك المعنى توجب انسباق المعنى الأول من اللفظ حتى في موارد العلم بعدم إرادته وقد بيّنّا ذلك فيما سبق.

إذن العلاقة بين اللفظ والمعنى المجازي في طول العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، نعم عند ما نستعمل اللفظ في المعنى الثاني المجازي مع القرينة تكون

ص: 177


1- سورة النحل : آية 58

دلالة اللفظ بإضافة القرينة على المعنى المجازي دلالة فعلية يمكن الاعتماد عليها.

ثم إن الكلام في احتياج دلالة اللفظ على المعنى المجازي إلى وضع جديد ، فنقول : إن من الواضح عدم الحاجة إلى ذلك لكفاية المعنى الحقيقي في الربط بين المعنى المجازي واللفظ ، فيكون المعنى الحقيقي واسطة في ثبوت العلاقة بين اللفظ والمعنى المجازي ، وبالتالي يكون اللفظ صالحا للدلالة على المعنى المجازي ، وهذا المقدار لا إشكال فيه.

إنما الإشكال في استعمال اللفظ في المعنى المجازي بدون وضع جديد ، بأن يقال : إن صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي متوقّفة على إنشاء وضع جديد بين اللفظ وبين المعنى الثاني المجازي ؛ وذلك لأنّ دلالة اللفظ على المعنى المجازي غير كافية وحدها لتصحيح الاستعمال ما لم يكن هناك وضع ؛ إذ المصحح للاستعمال هو الأوضاع اللغوية ، وبهذا يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي - بناء على هذا القول - مفتقرا إلى الوضع.

وفي مقابل هذا القول قول بكفاية دلالة اللفظ على المعنى المجازي في تصحيح الاستعمال.

وبتعبير آخر : إن العلاقة بين المعنى الأول والذي وضع اللفظ له والمعنى الثاني كافية في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى الثاني المجازي.

ثم إن القائلين بلا بدّيّة الوضع في الاستعمال المجازي مسؤولون عن تصوير كيفيّة هذا الوضع الجديد ، إذ أنه لا بدّ من أن يكون الوضع الجديد مشتملا على حيثيّة تحتفظ بمجازيّة الوضع الجديد ، وبأنه في طول الوضع الأول وإلا لصار استعمال اللفظ في المعنى الثاني استعمالا حقيقيّا ويكون

ص: 178

بذلك اللفظ موضوعا بوضعين كل وضع على حدة ، وهذا ما يحوّل المجاز إلى مشترك لفظي وهو خلف الفرض إذ أن الدعوى هي الاحتفاظ بمجازية المعنى المجازي بعد الوضع الجديد.

ولذلك قال بعضهم - في مقام تصوير وضع جديد يحتفظ بهذه الحيثية المذكورة - إن الواضع يضع اللفظ بإزاء المعنى المجازي ، ولكن بشرط اشتماله على القرينة ، وبهذا يحتفظ المعنى المجازي بمجازيّته وطوليّته للوضع الأول.

ومع ذلك لم يقبل المصنّف رحمه اللّه بدعوى احتياج الاستعمال المجازي إلى وضع جديد وأن دلالة اللفظ على المعنى المجازي الناشئة عن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي كافية لتصحيح الاستعمال في المعنى المجازي ؛ وذلك لأنّه ما المراد من صحّة الاستعمال التي تمسك بها القائلون بلزوم الوضع الجديد في المعنى المجازي؟

نقول : إنّ مرادهم من صحّة الاستعمال لا يخلو عن أحد معنيين :

المعنى الأوّل : أنّ صحة الاستعمال حسنه ، فقولهم لا يصح الاستعمال بغير وضع أي لا يحسن الاستعمال بغير وضع.

المعنى الثاني : أن المراد من صحة الاستعمال أنه لا يكون هذا الاستعمال منسوبا إلى لغة إلا إذا كان واضع هذه اللغة قد وضع هذا اللفظ دالا على هذا المعنى وبه تصحّ نسبة استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى إلى هذه اللغة. وكلا هذين المعنيين لا يقتضيان لزوم وضع جديد.

أما المعنى الأوّل : - وهو أن المراد من صحة الاستعمال حسنه وأنّه لا يحسن الاستعمال بغير وضع - فلا نسلم أنّ حسن الاستعمال متوقّف على خصوص الوضع ، إذ أن الغرض من الوضع هو إيجاد الدلالة على المعنى من

ص: 179

اللفظ الموضوع فإذا كانت الدلالة موجودة فأيّ حاجة إلى الوضع ، وهل هو إلا من تحصيل الحاصل إذ قلنا بكفاية العلاقة بين المعنى الأول الحقيقي والمعنى المجازي لتحقق الدلالة على المعنى المجازي باللفظ الموضوع للمعنى الأول الحقيقي.

وأما المعنى الثاني : - وهو أن المراد من صحة الاستعمال هو صحة انتسابه إلى لغة - فهذا غير مسلّم أيضا إذ أنّ صحة الانتساب إلى اللغة التي يتكلّم بها المتكلّم غير متوقّف على الوضع الجديد ؛ إذ أن استعمال اللفظ في المعنى المشابه - بصيغة الفاعل - للمعنى الموضوع له اللفظ مصحّح لانتساب هذا الاستعمال إلى تلك اللغة.

علامات الحقيقة والمجاز :
اشارة

لمّا لم نكن مطّلعين على كل الأوضاع اللغوية حيث تستوقفنا كثير من الألفاظ المستعملة في معان معيّنة ولا ندري أنّه استعمال فيما وضعت له هذه الألفاظ حتى يكون الاستعمال حقيقيّا أو أنّه استعمال في غير ما وضعت له هذه الألفاظ فيكون الاستعمال مجازيّا ، لمّا لم نكن مطّلعين على ذلك نشأت الحاجة إلى البحث عمّا يميّز الاستعمال الحقيقي عن الاستعمال المجازي.

وهذا البحث يتصدّى لبيان هذه العلائم التي تميّز الحقيقة عن المجاز وهي كما يلي :

الأوّل : التبادر :

والمراد منه تصوّر معنى من المعاني بمجرّد إطلاق اللفظ بحيث يكون هذا اللفظ هو المتصوّر الأول في الذهن دون بقيّة المعاني - التي يمكن أن

ص: 180

يكون هذا اللفظ دالا عليها - وهذا الانسباق والتصوّر السريع الحاصل من اللفظ يكون علامة على أنّ هذا المعنى هو الموضوع له ذلك اللفظ ، ولو لا ذلك لاحتجنا في تصوّره من اللفظ إلى قرينة خارجة عن حاق اللفظ تدل على أنّ هذا اللفظ استعمل في ذي القرينة.

الإشكال على علاميّة التبادر :

وقد أورد على هذه العلامة بأنّ جعل التبادر علامة الحقيقة يلزم منه الدور ؛ وذلك لأنّ التبادر متوقّف على العلم بالوضع ، وهنا نريد أن نحصّل العلم بالوضع عن طريق التبادر فيكون التبادر متوقّف على عين المتوقّف عليه - وهو العلم بالوضع -.

وبتعبير آخر : تنشأ العلاقة الدلاليّة بين اللفظ والمعنى عن طريق العلم بالوضع لأنّه ما لم نعلم بالوضع لا يكون اللفظ عندنا دالا على المعنى ، نعم إذا علمنا بالوضع تبادر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ ، وهذا يعني أن التبادر معلول للعلم بالوضع ، ونحن في مفروض البحث نجهل بالوضع ونبحث عن ما يرفع عنّا الجهل بالوضع فإذا ادّعينا أن التبادر يرفع الجهل بالوضع فهذا خلف ما ذكرناه من أنّ التبادر معلول للعلم بالوضع إذ أنّ التبادر بناء على هذه الدعوى يكون علّة لتحصيل العلم بالوضع ، وهذا مستحيل بعد افتراض كونه معلولا للعلم بالوضع إذ يلزم منه أن يكون التبادر معلولا وعلّة لشيء واحد ، فهو علّة للعلم بالوضع ومعلول للعلم بالوضع. وهذا هو معنى أن التبادر متوقّف على المتوقّف عليه إذ أنّه متوقّف على العلم بالوضع الذي هو متوقّف على التبادر ، فالتبادر متوقّف ومتوقّف عليه ، أي : معلول وعلّة لشيء واحد وهو العلم بالوضع كما أنّ العلم بالوضع معلول وعلّة لشيء واحد وهو التبادر.

ص: 181

الجواب الأوّل :

وقد أجيب عن هذا الإيراد بنفي الدور ، وذلك بأنّ المتوقّف غير المتوقّف عليه ، وبيان ذلك :

إنّ التبادر وإن كان متوقّفا على العلم بالوضع إلاّ أنّه العلم الارتكازي بالوضع والذي ينسجم مع الغفلة والذهول عن تفاصيل الوضع. والذي يحقّقه التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع.

إذن التبادر علّة لشيء ومعلول لشيء آخر فهو علّة للعلم التفصيلي بالوضع ومعلول للعلم الارتكازي الإجمالي بالوضع. وكذلك العلم بالوضع العلّة غير العلم بالوضع المعلول إذ أنّ العلم بالوضع العلّة هو العلم الارتكازي بالوضع والعلم بالوضع المعلول هو العلم التفصيلي بالوضع.

وحتى يكون الجواب مأنوسا أكثر نقول : إنّ هناك فرقا بين العلم التفصيلي وبين العلم الارتكازي ، فالعلم التفصيلي هو ما يكون المعلوم فيه جليّا وواضحا من تمام حيثيّاته ، بحيث لا يكون على ذلك المعلوم أي غشاوة مهما رقّت.

ونمثّل على ذلك بقول اللّه تعالى حاكيا عن أحبار اليهود ورهبانهم في أنّهم يعرفون النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأنّه النبي الموعود ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) (1) ، فالقرآن الكريم يشير إلى أنّ أحبار اليهود يعرفون النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله معرفة تفصيليّة لا يشوبها أدنى شكّ كما أنّ معرفتهم لأبنائهم معرفة تفصيليّة.

ص: 182


1- سورة الأنعام : آية 40

أمّا العلم الارتكازي فهو ما يكون المعلوم فيه مبتليا بالإبهام والغموض من بعض حيثيّاته بحيث يكون أصل الشيء معلوما إلاّ أنّ فيه تشويشا وإبهاما أو تكون هذه الحيثيّات المبهمة مختزنة في دفائن النفس نحتاج في إبرازها إلى منطقة الوعي إلى بعض المنبّهات.

ومثال ذلك معرفة اللّه عزّ وجلّ ، فإن كلّ أحد من الناس مفطور على معرفة اللّه جلّ وعلا ، إلاّ أنّ هذه المعرفة مكتنفة بشيء من الغموض نتيجة الحجب المكتسبة عن الشبهات والأوهام المثارة من اللذين طبع اللّه على قلوبهم ، فلذلك يكون دور الأنبياء علیهم السلام دور التنبيه على الفطرة المختزنة في كلّ نفس ، قال اللّه تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (1) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم علیه السلام : ( فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) (2) ، وما هذا القول من إبراهيم إلاّ تنبيه على ما هو مغروس في جبلّة الإنسان.

ومع اتّضاح الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الارتكازي يتّضح الجواب على إشكال الدور ، إذ تكون مهمّة التبادر هي التنبيه على ما هو مرتكز في النفس من العلاقة بين اللفظ والمعنى ، فصحّ أن يكون التبادر علّة للعلم بالوضع ولكن التفصيلي منه وأنّه معلول للعلم بالوضع ولكنّه الارتكازي منه.

ص: 183


1- سورة لقمان : آية 25 ، سورة الزمر : آية 38
2- سورة البقرة : آية 258
الجواب الثاني على إشكال الدور :

إنّ إشكال الدور يكون له وجه لو كان الباحث عن المعنى الحقيقي هو عين الذي حصل له التبادر ، أما إذا كان الباحث عن المعنى الحقيقي للفظ هو غير الذي حصل له التبادر ، ففي مثل هذه الحالة لا يكون الدور متصوّرا إذ أن الذي حقّقه التبادر وإن كان هو الكشف عن المعنى الحقيقي ولكن لطرف ثان وهو الجاهل بأصل الوضع ، فيكون التبادر معلولا للعلم بالوضع لمن حصل له التبادر ويكون علة للعلم بالوضع بالنسبة للطرف الثاني وهو الباحث عن المعنى الحقيقي.

وهذا هو الذي يحصل للباحثين عن معاني بعض مفردات لغة من اللغات ولم يكونوا من أهل تلك اللغة ، فإنهم يرجعون إلى ما يتبادر في أذهان أهل تلك اللغة عند إطلاق هذه المفردات لغرض التعرّف على المعاني الحقيقيّة لتلك المفردات.

الجواب الثالث على إشكال الدور :

وهو يتناسب مع نظرية القرن الأكيد وحاصله : أننا ذكرنا - فيما سبق - أن الاقتران الخارجي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن يحدث الذهن - وبحسب طبعه وتكوينه - ربطا وعلاقة بين اللفظ والمعنى هذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد سماع اللفظ.

إذن تصوّر المعنى من اللفظ بناء على هذه النظرية لا يتوقّف على العلم بالوضع بل هو متوقّف على نفس الوضع ، وهي تلك العلاقة التي أحدثها الذهن بحسب طبعه عندما رأى الاقتران الخارجي مستوثقا بين اللفظ والمعنى.

ص: 184

وبهذا يتّضح أن التبادر ناشئ عن نفس الوضع - وهي العلاقة الوثيقة بين اللفظ والمعنى في الذهن - فهو إذن ينشأ عن واقع العلاقة وإن لم يعلم أنها وضع كما هو الحال في الأطفال ، وكذلك الغافل عن الأوضاع اللغويّة.

والمتحصّل من الكلام : أن التبادر ينشأ عن واقع الوضع - وهي تلك العلاقة الوثيقة بين اللفظ والمعنى في الذهن - والذي يكون التبادر علّة في إيجاده هو العلم بالوضع إذ أنه قبل التبادر يكون غافلا عن كون هذا اللفظ موضوعا لهذا المعنى وإن كان يستفيد من اللفظ الدلالة على المعنى ولكنه غير متوجّه إلى أنّ هذه الاستفادة ناشئة عن الوضع والعلاقة الذهنيّة الوثيقة.

الثاني : صحّة الحمل :

والمراد من صحّة الحمل هو : أن المعنى الذي نبحث عن أنه حقيقة في هذا اللفظ أو مجاز إذا صحّ أن نجعله محمولا على اللفظ ويكون اللفظ موضوعا له فهذا يدلّ على أن اللفظ حقيقة في هذا المعنى الذي صح حمله على اللفظ ، مثلا لو كنّا نبحث عن أن لفظ الأسد هل هو حقيقة في الحيوان المفترس أو لا؟ ومن أجل معرفة الجواب لهذا السؤال نشكل قضية نجعل فيها اللفظ موضوعا والمعنى محمولا ، فإذا صحّ الحمل فهذا دليل على أن هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى وإلا فلا.

هكذا « الأسد حيوان مفترس ».

ثم بعد أن شكّلنا هذه القضية نرجع إلى وجداننا لنرى أن هذه القضية متناسبة أو لا؟ فإن كانت متناسبة فهذا يعني أن اللفظ الموضوع في القضية حقيقة في المعنى الذي صحّ حمله عليه وإلا فلا.

ص: 185

ثم إن الحمل تارة يكون حملا أوليّا ذاتيّا - وهو ما يكون الاتحاد فيه بين المحمول والموضوع في المفهوم - وتارة يكون الحمل حملا شايعا صناعيا - وهو ما يكون الاتحاد فيه بين المحمول والموضوع في الوجود.

فإن صحّ الحمل الأول فهذا يعني أن اللفظ حقيقة في المعنى المحمول عليه ، وإن صحّ الحمل الشايع الصناعي فهذا يعني أن معنى اللفظ مصداق للمعنى المحمول عليه.

ومثال الأول « الأسد حيوان مفترس » ، فإن الحمل فيه حمل أولي ؛ لأن الاتحاد بينهما في المفهوم ، إذ أنّ مفهوم الأسد متّحد مع مفهوم الحيوان المفترس ، ومع صحّة الحمل يكون الأسد حقيقة في الحيوان المفترس المحمول على الأسد.

ومثال الثاني « النرجسة وردة » ، فإنّ الحمل فيها حمل شايع صناعي ؛ لأن الاتحاد بينهما إنما هو في الوجود ، إذ أن مفهوم « النرجسة » غير مفهوم « الوردة » إلا أن « النرجسة » متّحدة وجودا وخارجا مع « الوردة ». ومع صحّة هذا الحمل تكون النرجسة مصداقا لعنوان الوردة المحمول على النرجسة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن صحّة الحمل ليس علامة على الحقيقة ، وغاية ما يكشف عنه صحّة الحمل هو صحّة استعمال اللفظ في المعنى الذي يصحّ حمله على اللفظ ، وصحة الاستعمال ناشئة عن وجود نحو دلالة للفظ على المعنى ، أمّا ما هو واقع هذه الدلالة؟ وهل هي ناشئة عن الوضع أو أنها ناشئة عن مشابهة المعنى الموضوع له اللفظ للمعنى المستعمل فيه اللفظ؟

وبهذا البيان تعرف أن صحّة الحمل لا تكشف عن أكثر من أنّ

ص: 186

المحمول عليه هو عين المعنى المحمول أو أن المحمول عليه مصداق لعنوان المحمول ، أما أن اللفظ في المحمول عليه « الموضوع » حقيقة في المعنى المحمول فهذا ما لا يمكن استكشافه من صحّة الحمل ، إذ أن الاتحاد في المفهوم لا يعني أن اللفظ في المحمول عليه حقيقة في المحمول إذ أن الاتحاد في المفهوم من شئون واقع المفهومين المتّحدين وكون اللفظ حقيقة في المعنى المحمول من شئون الأوضاع اللغوية ، وكذلك الكلام في الاتحاد في الوجود فإن ذلك من شأن الواقع ولا صلة له بالوضع والواضع.

الثالث : الاطّراد :

إذا صحّ استعمال لفظ في معنى من المعاني وكانت صحة الاستعمال ثابتة في جميع حالات المعنى بحيث لا تشذ حالة من حالاته عن ذلك ، وكذلك لو كانت للمعنى أفراد ورأينا أنّ كل فرد من هذه الأفراد يصح حمله على ذلك اللفظ فإنّ ذلك هو الاطّراد ، وبه يستكشف أنّ اللفظ الذي تطّرد دلالته على معنى يكون استعماله في ذلك المعنى حقيقيّا.

ومثال ذلك : الأسد والحيوان المفترس ، فإنّ لفظ الأسد يصح استعماله في الحيوان المفترس مطلقا صغيرا كان الحيوان المفترس أو كبيرا ، مفترسا أو مفترسا - بصيغة المفعول - ، صحيحا أو مريضا ، وكذلك أفراد الحيوان المفترس يصح استعمال لفظ الأسد فيها مطلقا فتقول : ( الأسد لبؤة ) و ( الأسد شبل ) وهكذا. وهذا بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الاستعمال لا يصحّ في تمام الحالات ، فلا يقال عن الرجل الشجاع إذا صار جبانا إنّه أسد.

ويمكن الإشكال على علاميّة الاطّراد بما حاصله :

ص: 187

ذكر علماء المعاني أنّ كلّ لفظ يصحّ استعماله في المعنى الغير الموضوع له إذا اشتمل ذلك المعنى على خصوصيّة من الخصوصيّات المذكورة عندهم والمصحّحة للاستعمال ، فما دام هو مشتملا على تلك الخصوصيّة فيصح استعماله في ذلك المعنى مطلقا ، مثلا استعمال الأسد في الرجل الشجاع يصح مطلقا ولكن في كل استعمال من هذه الاستعمالات لا بد من أن تكون هناك خصوصيّة مصحّحة لهذا الاستعمال ، فإطلاق الأسد على الرجل الشجاع في حال شجاعته صحيح باعتبار فعليّة المشابهة وفي حال انتفاء الشجاعة عنه يكون المصحّح باعتبار ما كان وفي حال عدم تلبّسه بعد يكون المصحّح بلحاظ ما يؤول وفي حالة النوم يكون المصحّح باعتبار الشأنيّة وهكذا.

إذن كما تطرد صحّة الاستعمال في المعنى الحقيقي كذلك هي في المعنى المجازي.

فالنتيجة من كل ما تقدّم أنّ الصحيح من علامات الحقيقة هو التبادر.

تحويل المجاز إلى حقيقة :

ذكر السكّاكي أنّ هناك مجازا يمكن تسميته بالمجاز العقلي ، وهذا المجاز غير المجاز في الكلمة ، إذ أنّ المجاز في الكلمة هو أنّ تستعملها في غير المعنى الموضوع لها كاستعمال لفظ الحجر في الحديد الصلب.

أمّا المجاز العقلي فهو أن نفترض أنّ المعنى المجازي مصداق حقيقي لمعنى ذلك اللفظ ، وهذا الافتراض ينشأ عن عناية نفسانيّة يعتبر فيها المفترض - بصيغة الفاعل - المعنى المجازي أحد أفراد المعنى الحقيقي للفظ ،

ص: 188

فكأنّما المعنى المجازي فرد من أفراد المعنى الحقيقي ، فالتصرّف هنا لم يقع على الكلمة وإنما هو في تطبيقها على المعنى المفترض ( المجازي ) فكأنّما يقول : « اعتبرت هذا المعنى المجازي فردا من أفراد المعنى الحقيقي » ، وهذا النوع من المجاز أبلغ في التشبيه - بين المعنى الحقيقي والمجازي - من المجاز في الكلمة.

وبتعبير آخر : إنّ المجاز العقلي هو عبارة عن تنزيل المعنى المجازي منزلة المعنى الحقيقي ، ومثال ذلك تنزيل الرجل الشجاع منزلة الفرد من الأسد.

وهذا هو معنى تحويل المجاز إلى حقيقة.

استعمال اللفظ وإرادة الخاص :

تارة نستعمل اللفظ في المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ فهذا استعمال حقيقي ، وأخرى نستعمل اللفظ في معنى مغاير للمعنى الموضوع له اللفظ فهذا استعمال مجازي ، وثالثة نستعمل اللفظ الدال على المعنى الكلّي في معناه الكلي وهذا أيضا استعمال حقيقي ، وفي حالة أخرى نستعمل اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراد ذلك الكلّي وهذا ما يحتاج إلى تفصيل بين استعمال اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراده دون أن نردفه بلفظ يدل على الفرد فهذا استعمال مجازي إذ أنّ استعمال الكلّي في جزئه استعمال في غير ما وضع له اللفظ ، وبين استعمال اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراده ولكن مع إضافة ما يدل على خصوص ذلك الفرد ، فهذا الاستعمال حقيقي ، غايته أنّ هنا استعمالين : الأول استعمال الكلّي في معناه الموضوع له ، والثاني استعمال اللفظ الدال على الفرد في معناه الموضوع له

ص: 189

على سبيل تعدد الدال والمدلول.

ومثال الأول : الإنسان فإنه دال على معنى كلي وهو الحيوان الناطق ، فإذا استعملت لفظ الإنسان في خصوص الذكر دون أن تأتي بلفظ الذكر بأن قلت « أكرم الإنسان » وأنت تقصد خصوص الذكر ، فهذا استعمال مجازي إذ أن الإنسان موضوع للأعم من الذكر والأنثى وأنت استعملته في خصوص الذكر ولم تأت بدالّ يدلّ عليه.

ومثال الثاني : أن تستعمل الإنسان في خصوص الذكر ولكن تأتي بما يدل على ذلك كأن تقول مثلا « أكرم الإنسان الذكر » ، فهذا الاستعمال حقيقي إذ أنك استعملت الإنسان في معناه الكلي وإنما استفدنا خصوص الذكر باعتبار وجود دالّ آخر يدل عليه وهو لفظ الذكر فنكون قد استفدنا معنيين ولكن بدالّين ، المعنى الأول هو كلي الحيوان الناطق والدال عليه هو لفظ الإنسان ، والمعنى الثاني هو حصّة خاصّة من الإنسان والدال عليه هو لفظ الذكر ، وهذا هو معنى تعدد الدال وتعدد المدلول ، فالدال المتعدد هو لفظ الإنسان ولفظ الذكر والمدلول المتعدد هو كلي الحيوان الناطق والحصة الخاصة منه.

الاشتراك والترادف :

المترادف هو : ما يكون فيه المعنى قد وضع له أكثر من لفظ لغرض الدلالة عليه ، ومثاله الحيوان المفترس فإنّ له مجموعة من الألفاظ وضعت للدلالة عليه مثل الأسد والليث والهزبر.

والمشترك اللفظي هو ما يكون فيه اللفظ قد وضع بوضعين أو أكثر

ص: 190

كل وضع يكون فيه المعنى الموضوع له اللفظ مغايرا للمعنى الموضوع له نفس اللفظ في الوضع الآخر ، ومثاله : لفظ « القرء » ، فإنه موضوع بوضعين ، فهو موضوع بالوضع الأول لمعنى الطهر ، وموضوع في الوضع الثاني لمعنى الحيض.

وبه يكون المشترك اللفظي محتاجا في مقام تعيين المراد منه إلى قرينة ، وهذا يقتضي الإجمال في المعنى المراد مع فقدان القرينة ، وهذا المقدار لا محذور فيه ؛ وذلك لأنه قد يتعلّق غرض المتكلّم بالإجمال في مراده ثم إنه يمكن أن يتحقّق الغرض من الوضع - وهو تفهيم المراد - عن طريق وضع قرينة على المراد ، نعم صاحب مسلك التعهّد يحتاج إلى تفسير لوجود المشتركات اللفظية وكذلك المترادفات في اللغة العربية وسائر اللغات.

وذلك لأن التعهّد - كما قلنا - هو التباني النفساني على ألاّ يأتي باللفظ إلاّ إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، وفي المشترك اللفظي لا يكون هناك التزام بهذا التعهّد ؛ وذلك لأنه إذا كان قد تعهّد بأن لا يأتي بلفظ العين إلا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الجارحة الباصرة فإنه متى ما جاء بالعين وقصد تفهيم الماء النابع فهذا يعني عدم الالتزام بما تعهّد به إلا أن يكون قد تعهّد بان لا يأتي بلفظ « العين » إلا أن يكون قاصدا لتفهيم كلا المعنيين وهذا لا يكون لأنه يلزم أن يكون قد تعهّد باستعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى في آن واحد ، وهذا إن لم يكن مستحيلا فلا أقل أنه خلاف المتعارف عند أهل المحاورة ، كما أنه مناقض لما هو الغرض من التعهّد وهو تفهيم المراد ، إذ لا يمكن تفهيم المراد بالمشترك اللفظي مع قصد كلا المعنيين.

وكذا الكلام في المترادف إذ أن المتعهّد إذا التزم بأن لا يقصد تفهيم هذا

ص: 191

المعنى إلا إذا جاء بهذا اللفظ ، فهذا يعني أن لا يكون ملتزما بتعهّده إذا جاء باللفظ الآخر المرادف وقصد تفهيم نفس المعنى ، إلا أن يكون قد التزم بالتزامين وهو أنه لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا أن يأتي بهذا اللفظ ، ثم يلتزم التزاما آخر بأن لا يقصد تفهيم نفس المعنى إلاّ إذا جاء باللفظ الآخر ، ولا يخفي التهافت بين الالتزامين إذ أن أحد الالتزامين ينافي الآخر ، نعم يمكن أن يلتزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا إذا جاء بكلا اللفظين وهذا الالتزام غير ممكن لأنه خلاف المتعارف ، إذ لا نجد أن المتكلّم يأتي بكلّ المترادفات لغرض تفهيم معنى واحد ، فلا يأتي المتكلّم بلفظ الأسد الهزبر والليث لغرض تفهيم معنى الحيوان المفترس ، مما يكشف عن أن المتكلّم غير متعهّد بذلك.

ويمكن التفصّي عن كلّ ما ذكرناه بأحد هذه الحلول :

الأول : أن يكون لكلّ تعهّد - باستعمال لفظ في أحد المعاني أو باستعمال أحد الألفاظ في المعنى - متعهّد مستقل وذلك بأن يكون المتعهّد - بأن لا يأتي بلفظ العين إلا لغرض تفهيم الجارحة الباصرة أو أن لا يقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا إذا جاء بلفظ الأسد - غير المتعهّد بأن لا يأتي بلفظ العين إلا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الماء النابع أو أن لا يقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا أن يأتي بلفظ الليث.

وهذا الجواب - إذا تم - فإنه يصلح لتفسير وجود المشتركات اللفظية والمترادفات في اللغة العربية وسائر اللغات بناء على مسلك التعهّد.

الثاني : الالتزام باتّحاد المتعهّد ولكن يكون التعهّد في المشترك والمترادف بهذه الكيفيّة :

ص: 192

ص: 193

ص: 194

ص: 195

ص: 196

ص: 197

ص: 198

ص: 199

ص: 200

ص: 201

ص: 202

ص: 203

ص: 204

ص: 205

ص: 206

ص: 207

ص: 208

الأمر والنهي

الأمر :
اشارة

ويقع الكلام أولا حول الأمر :

والأمر ينفهم عن طريق أسلوبين من الكلام.

الأسلوب الأول :

مادّة الأمر : فإنّ مادة الأمر مفيدة لمعنى الأمر بأيّ صيغة أنشأت ، فهي مفيدة لمعناها إذا وقعت في إطار هيئة الفعل الماضي كقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) (1) ، وكذلك إذا وقعت في إطار هيئة الفعل المضارع كقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) ، وهكذا إذا وقعت بصيغة فعل الأمر كقوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (3) ، غايته أنه في هذه الحالة يكون مدلول الأمر استفيد من المادّة والهيئة بخلافه في سائر الصيغ والهيئات ، فإنّ مدلول

ص: 209


1- سورة البيّنة : آية 5
2- سورة آل عمران : آية 110
3- سورة طه : آية 132

الأمر يستفاد من مادّة الأمر فحسب.

والكلام عن سائر الهيئات والصيغ عينه الكلام عن الصيغ والهيئات التي مثلنا لها والتي قلنا إنّ مادّة الأمر مفيدة لمعناها بأيّ صيغة وقعت.

الأسلوب الثاني :
اشارة

صيغة الأمر : وصيغة الأمر - وكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر - مفيدان لمعنى الأمر بأيّ مادة وقعتا ، مثلا قوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (1) فإنّ صيغة « افعل » في صلّ مفيدة لمعنى الأمر وإن كانت المادة التي وقعت الصيغة في إطارها غير مادّة الأمر ، وكذلك الكلام في الفعل المضارع المقرون بلام الأمر مثل قوله تعالى : ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) (2).

ومع اتّضاح ذلك يقع البحث أولا عن مادّة الأمر وهو في جهات :

الجهة الأولى :

فيما وضعت له مادّة الأمر : لم يقع خلاف في أنّ مادّة الأمر وضعت لحصّة خاصّة من مفهوم الطلب ، فهي تفيد معنى الطلب الخاصّ وهو الطلب التشريعي الصادر من العالي.

والمراد من الطلب التشريعي المأخوذ في تعريف مادّة الأمر يمكن توضيحه بهذا البيان : وهو أنّ كلّ أحد إذا تعلّقت إرادته التامّة بشيء فإنّه

ص: 210


1- سورة التوبة : آية 103
2- سورة البقرة : آية 282

يبادر نحو إيجاد متعلّق إرادته عن طريق وسيلتين :

الوسيلة الأولى : أن يبادر هو بنفسه لتحصيل مراده ومطلوبه ، وذلك كتحرّك العطشان نحو تحصيل الماء ، وهذا النوع من التحرّك نحو المراد والمطلوب يعبّر عنه بالطلب التكويني ، ومادّة الأمر لم توضع لإفادة هذا المعنى من الطلب ، وهذا النوع من الطلب هو المراد من قوله تعالى : ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (1) ، وقوله تعالى : ( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) (2).

الوسيلة الثانية : أن يطلب من غيره تحقيق مراده ومطلوبه ، وهذا ما يعبّر عنه بالطلب التشريعي ، وهو يصدق في تمام الموارد التي يطلب فيها المريد من غيره تحصيل إرادته بقطع النظر عن كون الطالب عاليا أو مستعليا أو ملتمسا أو راجيا أو ما إلى ذلك فإنّ كل هذا يصدق عليه طلب تشريعي.

وبهذا البيان اتّضح المراد من الطلب التشريعي المأخوذ في تعريف مادّة الأمر واتّضح أنّ مادّة الأمر مشمولة للطلب التشريعي ولكنّها غير مختصّة به ، بل إنّ الطلب التشريعي يصدق عليها وعلى غيرها ، ولذلك قلنا في التعريف إنّ الأمر لا يتحقّق إلاّ بالطلب التشريعي الصادر من العالي.

الجهة الثانية :

فيما وضعت له مادّة الأمر من معان أخرى : فقد ذكر اللغويّون أنّ

ص: 211


1- سورة المؤمنون : آية 73
2- سورة الكهف : آية 41

مادة الأمر وضعت لمجموعة من المعاني :

منها : أنها وضعت لمعنى الشيء فإذا قلت : « وجدت أمرا » فهذا يعني « وجدت شيئا » ، ولعلّ منه قوله تعالى : ( وَإِلَى اللّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (1) أي الأشياء.

ومنها : أنّها وضعت لمعنى الحادثة ، كأن تقول : « حصل أمر » أي حادثة ، وكانت العرب إذا فاجأها حدث غريب غير متوقّع قالت : « أمر دبّر بليل » أي حادث خطّط له بليل.

ومنها : أنها وضعت لمعنى الغرض ، كما تقول : « عندي أمر أريد تحقيقه » أي عندي غرض ، ولعلّ منه قوله تعالى : ( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (2) أي ثم لا يكن غرضكم من البغي عليّ مخفيّا.

وبهذا تكون مادّة الأمر من المشتركات اللفظيّة ، وإذا كان كذلك فهي لا تدل على الطلب الخاص إلاّ إذا قامت القرينة على تعيينه دون سائر المعاني.

الجهة الثالثة :

هل أنّ مادّة الأمر دالّة على مطلق الطلب الخاص وبذلك تشمل المستحب أو أنها دالّة على خصوص الوجوب منه؟

وقع الكلام في ذلك بين الأعلام وذهب المشهور منهم على دلالتها

ص: 212


1- سورة لقمان : آية 22
2- سورة يونس : آية 71

على الوجوب واستدلّ لذلك بمجموعة من الأدلّة :

الدليل الأول : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) ، وتقريب الاستدلال على الوجوب أنّ مطلق الأمر وقع متعلّقا للتحذير ولو كان الأمر صادقا على المستحب لما كان هناك أيّ مبرّر للتحذير عن مخالفته ؛ إذ أنّ التحذير عن المخالفة إنّما يناسب التكاليف الإلزاميّة.

وبتعبير آخر : التحذير عن المخالفة وقع على مطلق الأوامر الإلهيّة ولا معنى للتحذير عن مخالفة المستحبّات إذ أنّ ذلك خلف كونها مستحبّات مما يكشف عن أنّ الأوامر الإلهيّة خاصّة بالواجبات ، ثبت المطلوب.

الدليل الثاني : وهو قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك » (2) ، وتقريب الاستدلال على الوجوب هو أنّ المستحبّات لا مشقّة في جعلها على المكلّف لأنّه في سعة من جهتها ، فلو كان الأمر صادقا على المستحب فلا معنى لمراعاة الرسول صلی اللّه علیه و آله للأمّة بعدم أمرها بالاستياك بعد أن كان الاستياك متوفّرا على ملاك يقتضي جعله على الأمّة ، نعم المناسب لمراعاة الرسول صلی اللّه علیه و آله في عدم إيقاع الأمّة في المشقّة من جهة الاستياك - رغم توفّره على الملاك - هو الوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ مراعاة الرسول صلی اللّه علیه و آله للأمّة في عدم أمرها بالاستياك باعتبار أنّ الأمر فيه مشقّة على الأمّة مما يعني أنّ الأمر يقتضي الإلزام إذ أنّه لا مشقّة مع عدم الإلزام.

ص: 213


1- سورة النور : آية 63
2- وسائل الشيعة : ج 4 الباب 3 من أبواب السواك ، وقد أرسلها الشيخ الصدوق عن النبي صلی اللّه علیه و آله معبّرا ب- « قال النبي صلی اللّه علیه و آله » مما يشعر بجزمه باعتبار الرواية

الدليل الثالث : هو التبادر : وهي علامة الحقيقة بتقريب أنّ المنسبق إلى الذهن عند إطلاق المولى للأمر هو الوجوب ، والانسباق من اللفظ هو التبادر.

البحث الثاني : في صيغة الأمر :
اشارة

وهي هيئة فعل الأمر بقطع النظر عن المادّة الواقعة في إطارها ، ويقع البحث عنها في جهات :

الجهة الأولى : فيما وضعت له صيغة الأمر :

ذكروا أنّ صيغة الأمر وضعت لمجموعة من المعاني بالإضافة إلى معنى الطلب.

منها : أنّها وضعت للتمنّي ، كقوله تعالى : ( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (1).

ومنها : أنّها وضعت للترجّي ، كقوله تعالى : ( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) (2).

ومنها : أنّها وضعت للتهديد ، كقوله تعالى : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) (3).

ومنها : أنّها وضعت للتعجيز ، كقوله تعالى : ( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ

ص: 214


1- سورة المؤمنون : آية 99 و 100
2- سورة المؤمنون : آية 107
3- سورة الإسراء : آية 64

مِثْلِهِ ) (1).

إلاّ أن هذه المعاني لا يمكن أن تكون صيغة الأمر موضوعة لها ؛ وذلك لأننا حين نبحث عن وضع كلمة لمعنى إنما نبحث عن مدلولها التصوّري إذ أنه هو المدلول الوضعي ، وهذه المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر إنما تناسب المدلول التصديقي إذ أنّ المدّعي لكونها موضوعة لهذه المعاني لاحظ وقوعها في إطار جملة تامّة ومرادة من المتكلّم بالمراد الجدّي ، وهذا إنما يناسب المدلول التصديقي الجدّي والذي هو غير مستفاد من الوضع بل إنّه مستفاد من حال المتكلّم وأنه في مقام الطلب أو التمنّي أو الترجّي أو ما إلى ذلك ، ونحن هنا نبحث عن مدلول الصيغة التصوّري الذي ينشأ عن الوضع.

فحقّ البحث أن يتّجه نحو ملاحظة الصيغة باعتبارها معنى حرفيا إذ أنّها من الهيئات وقد قلنا إن الهيئات من المعاني الحرفية ، فالبحث عن الصيغة يقع من حيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : ملاحظة صيغة الأمر باعتبارها معنى حرفيّا والمعنى الحرفي كما ذكرنا موضوع للنسبة الربطيّة بين الطرفين غايته أن هذه النسبة تختلف باختلاف الهيئات والحروف كما اتّضح ذلك مما سبق ، وإذا لاحظنا صيغة الأمر وجدنا أنّها تدل على النسبة الربطيّة الطلبيّة بين متعلّق الصيغة وبين المطلوب منه الأمر ، فقول المولى « صلّ » تدلّ فيه هذه الصيغة على النسبة الطلبية بين متعلّق الصيغة وهو الصلاة المطلوبة وبين المأمور

ص: 215


1- سورة يونس : آية 38

بالصلاة ، أو تكون هذه الصيغة مفيدة للنسبة الإرساليّة بين المرسل « بصيغة المفعول » والمرسل إليه - بصيغة المفعول وهي الصلاة ، فعليه تكون النسبة الإرسالية أو الطلبيّة مفيدة لنحو من أنحاء الربط وهو الربط الواقع بين المأمور به والمأمور « وهو المكلّف » وكذلك متعلّق الأمر.

هذا هو المستفاد من صيغة الأمر إذ أنه هو المناسب لكون الصيغة من المعاني الحرفية.

وبهذا يتّضح أنّ صيغة الأمر ليست موضوعة لمفهوم الطلب أو الإرسال إذ أن ذلك لا يتناسب مع كونها معنا حرفيّا ، فالمعنى الحرفي لا يكون مدلوله معنى اسميّا ، نعم يمكن أن يكون للمعنى الحرفي ما يماثله في المعاني الاسميّة كما ذكرنا ذلك ، إلا أنّ هذا لا يعني أن المعنى الحرفي مرادف للمعنى الاسمي.

فكما قلنا إنّ « في » لا يرادف مفهوم الظرفيّة وإنما يماثلها ويوازيها فكذلك الكلام في صيغة الأمر فهي لا ترادف مفهوم الطلب أو الإرسال وإنما توازيه وتماثله مع الاحتفاظ بكون صيغة الأمر معنى حرفيّا مفيدا للنسبة وأنّ مفهوم الطلب معنى إسميّاً.

الحيثيّة الثانية : ملاحظة صيغة الأمر باعتبارها واقعة في إطار جملة تامّة مشتملة على فعل وهو صيغة الأمر وفاعل وهو المأمور وبهذا الاعتبار يمكن أن يكون للصيغة الواقعة في الجملة التامّة مدلول تصديقي ثان إلا أنّ هذا المدلول مستفاد من معرفة حال المتكلم وأنّه جادّ في الحكاية عن واقع نفسه ، فإذا جاء المتكلّم بصيغة الأمر في إطار جملة تامّة نبحث عن ما هو الداعي الذي دعاه لاستعمال الصيغة في الجملة التامّة وسنجد أنّ هذا الداعي

ص: 216

هو أحد المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر.

ومن هنا لا تكون هذه المعاني موضوعة لصيغة الأمر ، وإنّما هي مستفادة من معرفة الداعي الذي دعى المتكلّم أن يستعمل صيغة الأمر في الجملة التامّة ، وهذا يعني أنها مستفادة من معرفة حال المتكلّم والذي هو منشأ المدلول التصديقي الثاني.

إذن فهذه المعاني ليست أكثر من دواع يبرزها المتكلّم عن طريق صيغة الأمر فتبقى محتفظة بمدلولها التصوّري مع اكتسابها معنى زائدا هو الطلب أو التعجيز أو التمنّي وهكذا.

هذا بناء على ما هو المعروف من أنّ الدلالة التصوّرية هي الدلالة الوضعيّة ، وأما بناء على مسلك التعهّد - النافي لكون الدلالة التصوّرية هي الدلالة الوضعية وأنّ الدلالة الوضعيّة إنما هي الدلالة التصديقيّة وأنها تكون في الجمل التامة - يكون المدلول الوضعي فيها هو المدلول الجدّي ، فهنا لا محالة تكون صيغة الأمر الواقعة في إطار الجملة التامّة موضوعة لمجموع هذه المعاني على نحو الاشتراك اللفظي ، وقد بيّنّا فيما سبق كيفيّة الوضع في الجملة التامّة بناء على مسلك التعهّد وأنها موضوعة للمدلول التصديقي الثاني فراجع.

الجهة الثانية : فيما هو الظاهر من صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الثاني :

والظاهر من صيغة الأمر في هذه المرحلة هو الطلب ؛ وذلك لأن المدلول التصوّري لصيغة الأمر هو إما النسبة الطلبية أو النسبة الإرساليّة وكلاهما يقتضي أن تكون صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الثاني

ص: 217

هو الطلب دون غيره من الدواعي المذكورة.

وتوضيح ذلك :

أما بناء على كون المدلول التصوّري هو النسبة الطلبيّة فلأنّ واقع الطلب فرد حقيقي للنسبة الطلبيّة بل إنّ واقع النسبة الطلبيّة ليس شيئا آخر غير مصداق الطلب ، فإرادة غير الطلب من النسبة الطلبيّة حينئذ خلاف الظاهر إذ أنّ ظاهر المتكلّم أنّه يستعمل الكلام فيما وضع له وهذا هو مدرك أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي.

وأما بناء على أن المدلول التصوّري هو النسبة الإرساليّة ؛ فلأنّ الإرسال يعني البعث والتحريك نحو الغاية والهدف ، فإذا قلت : « أرسلت زيدا » فإن المتفاهم من هذا التعبير هو بعث زيد نحو المطلوب.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ صيغة الأمر إذا كانت موضوعة للنسبة الإرساليّة فهي ظاهرة في الطلب دون سائر المعاني ؛ وذلك لأن النسبّة الإرسالية والتي هي الربط المخصوص بين المرسل - بصيغة المفعول - والمرسل إليه إنما تنشأ غالبا عن تعلّق إرادة المستعمل للصيغة بالمرسل إليه ، وهذه الغالبية هي التي تكوّن الظهور في الطلب لكلّ صيغة أمر وقعت في إطار جملة تامّة.

وإذا تم ما ذكرناه فإنّ كلّ مورد من موارد استعمال الصيغة في إطار جملة تامّة يكون ظاهرا في الطلب ما لم تقم قرينة على الخلاف.

الجهة الثالثة : ظهور صيغة الأمر في الوجوب :

اتّضح - ممّا سبق - أنّ صيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبيّة أو الإرساليّة ، وظاهرة في الطلب في مرحلة المدلول الجدّي إلاّ أنّ الكلام يقع

ص: 218

في أنّ هذا الطلب الذي هو المدلول الجدّي للصيغة هل هو مطلق الطلب أو خصوص الطلب الوجوبي؟

نقول : إنّ المشهور بين الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) هو أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي ظاهرة في خصوص الطلب اللزومي وأنّ المتكلّم الجاد حين استعمال الصيغة يريد الطلب الوجوبي واستدلّ على ذلك بما هو المتفاهم عرفا من صيغة الأمر عندما يكون المستعمل لها جادّا.

وبعبارة أخرى : إنّ المتبادر من صيغة الأمر عند أهل المحاورة هو الوجوب.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّه وقع الكلام في الأفعال المفيدة للطلب والتي لا تكون من قبيل فعل الأمر ، وهذه الأفعال يمكن تصنيفها إلى صنفين :

الأول : الفعل المضارع المقرون بلام الأمر : كقوله تعالى : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (1) ، فإنّ ( يستعفف ) في الآية الشريفة وإن كان فعلا مضارعا إلاّ أنّه مفيد للطلب ببركة اقترانه بلام الأمر ، وهذا النوع من الأفعال لم يختلف الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) في كونه مشمولا لتمام الأحكام الواقعة على صيغة الأمر ، فكما أنّ صيغة الأمر مثلا موضوعة للنسبة الإرساليّة أو الطلبيّة فكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر ، وكما أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول الجدّي ظاهرة في الطلب الوجوبي فكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر.

ص: 219


1- سورة النور : آية 33

الثاني : الفعل المضارع المجرّد والفعل الماضي : كقوله علیه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس ... » (1) ، وكذلك قوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (2) ، هذا في الفعل المضارع ، وأمّا الفعل الماضي فيمكن أن نمثّل له بما لو سأل سائل عمّن صلّى قبل الوقت فجاء الجواب « أعاد صلاته » فإنّ هذه الجملة المشتملة على الفعل وكذلك الجمل السابقة جمل خبريّة إلاّ أنّها استعملت لغرض الإنشاء والطلب ، فهي خبريّة صورة إلاّ أنّها إنشائيّة طلبيّة روحا. وهذا النوع من الأفعال المفيدة للإنشاء والطلب وقع الكلام عنها من حيث دلالتها على الوجوب أو عدم دلالتها ، وهذا ما أرجأ المصنف بحثه إلى الحلقة الثالثة.

الجهة الرابعة : والكلام فيها عن الأوامر الإرشاديّة :

تنقسم الأوامر سواء المدلول عليها بالصيغة أو بالمادّة أو بشيء آخر إلى قسمين : أوامر مولويّة وأوامر إرشاديّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تكشف عنه الأوامر.

أمّا الأوامر المولويّة : فهو ما يكون مدلولها حكما من الأحكام التكليفيّة الطلبيّة والتي هي الوجوب والاستحباب ، ومولويّتها ناشئة عن أنّ المولى يجعل هذه الأحكام على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلّف مبعوثا نحو تحقيق متعلّقاتها أداء لحقّ المولويّة للمولى ، غايته أنّ المولى قد

ص: 220


1- معتبرة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام ، وسائل الشيعة : الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة الحديث 14
2- سورة التوبة : آية 71

يرخّص في ترك بعض متعلّقات هذه الأوامر إلاّ أنّ الترخيص لا يسقطها عن الطلب.

وأمّا الأوامر الإرشاديّة : فهي ما يكون مدلولها حكما عقليّا أو حكما شرعيّا وضعيّا.

وتوضيح ذلك : أنّ الأمر سواء المدلول عليه بالصيغة أو بالمادّة ظاهر - كما قلنا - في الوجوب أي ظاهر في الأمر المولوي إلاّ أنّه قد تقوم قرينة تصرف هذا الظهور إلى مدلول آخر تبعا للقرينة. فمن الموارد التي استعمل فيها في غير الأوامر المولويّة الوجوبيّة هو هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو : ( الأوامر الإرشادية ) وهي التي لا يكون متعلقها مبعوثا نحوه ومطلوبا من المكلّف تحصيله ، وإذا كان فيه طلب فهو ليس من مقتضيات نفس الأمر الإرشادي ؛ إذ الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

وبتعبير آخر : الأمر الإرشادي دوره دور الكاشف وليس له دور البعث نحو متعلّق الأمر كما في الأوامر المولويّة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الأوامر الإرشاديّة يمكن تقسيمها إلى قسمين :

القسم الأول : ما يكون فيه الأمر كاشفا عن مدرك من المدركات العقليّة ، أو قل عن حكم من الأحكام العقليّة والتي يكون لها تقرر وثبوت في مرحلة سابقة على صدور الأمر ويكون دور الأمر الإرشادي فيها دور المنبّه والمرشد إلى الحكم العقلي وبالتالي يكون المطلوب في مثل هذه الأوامر ليس مطلوبا مولويّا بل هو مطلوب يقتضيه العقل ، وذلك كقوله تعالى :

ص: 221

( وَأَطِيعُوا اللّهَ ) (1) ، فإنّ صيغة الأمر هنا استعملت في الأمر الإرشادي ، والذي صرف ظهور هذه الصيغة عن الأمر المولوي الوجوبي هو وجود قرينة عقليّة تمنع من هذا الظهور بل وتكوّن ظهورا آخر وهو الظهور في الإرشاديّة ، وهذه القرينة هي حكم العقل باستحالة أن يكون هذا الأمر مولويّا إذ لو كانت طاعة اللّه عزّ وجلّ مستندة إلى أمر اللّه جلّ وعلا لكنّا قد احتجنا إلى أمر يبعثنا نحو طاعة أمر اللّه الذي يقتضي طاعة اللّه.

وهكذا الكلام في هذا الأمر الأخير ، فإما أن يدور أو يتسلسل وكلاهما مستحيل ، أما إذا استندت طاعة اللّه عزّ وجلّ إلى ما يقتضيه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا انتفى كلا المحذورين ، وهذه القرينة هي التي صرفت صيغة الأمر عن ظهورها في الوجوب وكوّنت ظهورا جديدا للأمر وهو الإرشاديّة ، فالمراد من الإرشاديّة إذن في المقام هو التنبيه على ما يحكم به العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا ، إذن الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

القسم الثاني : - من الأوامر الإرشاديّة - ما يكون مدلوله حكما وضعيّا - وقد قلنا - إن الأحكام الوضعيّة هي مجعولات شرعيّة لا تتّصل بفعل المكلّف مباشرة أي أنها ليست حكما تكليفيّا مجعولا على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلف مبعوثا نحوها ومطلوبا منه إيجادها ، نعم قد تكون موضوعا لحكم تكليفي - كما بيّنّا ذلك في محلّه - ، والأحكام الوضعيّة هي مثل الطهارة والنجاسة والملكية والصحة والفساد لأن هذه المجعولات

ص: 222


1- سورة التغابن : آية 12

الشرعيّة لا يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها ، ولهذا لو صدر أمر وكان متعلّقه أحد هذه المجعولات الشرعيّة فإنّ هذا الأمر يكون إرشاديّا ، والقرينة على إرشاديّته هي معرفة عدم مطلوبيّته بنفسه من المكلّف ، فلو قال المولى « طهّر ثوبك من الدم بالماء » فإنّ هذا الأمر ليس ظاهرا في الوجوب وذلك لوجود قرينة صارفة عن ظهور هذا الأمر في الوجوب ، وهذه القرينة هي أنّ متعلّق الأمر وهو الطهارة ليس مطلوبا من المكلّف تحصيله إذ أن للمكلّف أن لا يطهّر الثوب عن الدم ولا يكون بذلك قد خالف أمر المولى ، إذن يكون هذا الأمر مرشدا إلى حكم وضعي وهو أنّ الدم من النجاسات وأنّ الماء من المطهّرات.

دلالات أخرى للأمر :
اشارة

والكلام عنها يقع في مباحث :

المبحث الأول : الأمر بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر :

إذا ورد أمر بفعل من الأفعال وقد كان هذا الفعل ممنوعا عنه في مرحلة سابقة أو كان متوهّم المنع فقد وقع الكلام في احتفاظ هذا الأمر بدلالته على الوجوب أو أنّ وروده بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر قرينة عامّة على انهدام الظهور في الوجوب.

وقبل بيان ما هو الصحيح في ذلك نمثّل لكلا الموردين حتى يكون البحث أكثر وضوحا.

أما المورد الأول : - وهو ورود الأمر بعد الحظر - فيمكن أن يمثّل له

ص: 223

بقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (1) فان الأمر بالاصطياد ورد بعد المنع عنه بقوله تعالى : ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (2) وهذا المثال وإن لم يكن دقيقا - إذ أن موضوع الحكمين مختلف - إلا أنه يصلح للتوضيح من حيث إن الأمر بالاصطياد وقع بعد المنع عنه.

المورد الثاني : - ورود الأمر بعد توهّم الحظر - ويمكن أن يمثّل له برواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة وأحبّ أن ينظر إليها ، قال علیه السلام : « تحتجز ثم لتقعد وليدخل فلينظر » (3) فإن الأمر بالنظر إلى المرأة قبل الزواج ورد بعد توهّم السائل الحظر والمنع عن النظر.

وإذا اتّضح هذا فنقول : إنّ الأمر الوارد بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر تارة يلحظ من حيث مدلوله التصوّري وأخرى من حيث المراد الجدّي والمدلول التصديقي.

أمّا من حيث المدلول التصوّري فالصحيح هو عدم تبدل دلالته على النسبة الطلبيّة وذلك لأن المدلول التصوّري يبقى منحفظا حتى في موارد العلم بعدم إرادة المستعمل للمعنى الموضوع له اللفظ - كما ذكرنا ذلك فيما سبق - فلو قال المتكلّ مثلا : « رأيت أسدا يرمي » فإنّ الأسد هنا لم يرد

ص: 224


1- سورة المائدة : آية 2
2- سورة المائدة : آية 95
3- وسائل الشيعة : الباب 36 من أبواب مقدّمات النكاح الحديث 10 ، وقد رواها الشيخ في التهذيب بسنده عن علي بن الحسن بن فضال ، فيكون اعتبارها مبنيّا على تماميّة نظريّة التعويض

المتكلّم منه المعنى الموضوع له لفظ الأسد ، ومع ذلك يبقى لفظ الأسد دالا على معناه الموضوع له ، ولذلك يخطر معناه في ذهن السامع رغم العلم بعدم إرادة المتكلّم للمدلول الوضعي التصوّري.

وأمّا من حيث المدلول الجدّي التصديقي فالصحيح هو انهدام ظهور صيغة الأمر في الوجوب وتبدّله من الظهور إلى الإجمال ، فلا يكون الأمر ظاهرا في الوجوب كما لا يكون ظاهرا في خصوص نفي الحرمة ؛ وذلك لأن ورود الأمر بعد الحظر يصلح أن يكون قرينة على صرف ظهور الأمر في الوجوب كما يصلح أن يكون قرينة على خصوص نفي الحرمة ، نعم لا نحرز قرينيّة الورود بعد الحظر أو بعد توهّمه على صرف الظهور عن الوجوب أو نفي الحرمة.

وفرق بين كون الأمر بعد الحظر قرينة على صرف الظهور عن الوجوب وانعقاد الظهور في نفي الحرمة وبين أن يكون الأمر بعد الحظر صالح للقرينيّة ، فإنّ إحراز القرينيّة يوجب سلب الظهور عن الوجوب وانعقاد الظهور في الاختصاص بنفي الحرمة أما صلوح الأمر بعد الحظر أو توهّمه للقرينيّة فإن غايته إجمال المراد من الأمر ، وهل أنّ هذا الأمر ظاهر في الوجوب أو ظاهر في خصوص نفي الحرمة ، وهذا التردد في المراد من الأمر هو ما يعبّر عنه بالإجمال.

المبحث الثاني : دلالة الأمر الموقّت على لزوم القضاء :

وموضوع البحث في المقام هو أنّ توقيت الواجب بوقت محدد هل هو قرينة عامّة على لزوم القضاء في خارج الوقت فيما لو فات المكلّف امتثال

ص: 225

الواجب في وقته ، مثلا قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (1) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على وجوب إيقاع الصوم في شهر رمضان المبارك ، وهذا لا كلام فيه إنما الكلام في أنّ توقيت الوجوب بشهر رمضان هل يدل على لزوم قضاء هذا الواجب فيما لو فات المكلّف امتثاله في الوقت المعيّن أو لا؟

ومن أجل أن يكون الجواب واضحا نقول : إنّ الأوامر الموقّتة على نحوين :

النحو الأوّل : ما يكون الواجب فيها حصّة خاصّة من الفعل وهو الفعل الكائن في الوقت المعيّن ، وبعبارة أخرى : ما يكون الأمر دالا على مطلوب واحد وهو الفعل المقيّد بالوقت وذلك مثل صلاة الجمعة في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) (2) ، فإنّ الأمر بصلاة الجمعة المستفاد من قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا ) أمر بحصّة خاصّة من الصلاة وهي الكائنة في يوم الجمعة ، وفي مثل هذا النحو من الأوامر الموقّتة لا يكون التوقيت دالا على لزوم القضاء لو فات المكلّف امتثال المأمور به في وقته ، فعليه يكون ثبوت القضاء على المكلّف يقتضي خطابا آخر من المولى ، إذ لا يكون الخطاب الأول كافيا في ثبوت القضاء في ظرف الفوت ، هذا هو معنى عدم تبعيّة القضاء للأداء.

النحو الثاني : ما يكون مدلولها منحلا إلى أمرين على نحو تعدّد

ص: 226


1- سورة البقرة : آية 185
2- سورة الجمعة : آية 9

المطلوب ، وذلك بأن يكون الخطاب الدال على الوجوب الموقّت مشتملا على أمرين :

الأول : الأمر بالفعل على سعته ، والثاني هو : لزوم امتثاله في وقت معيّن ، ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) (1) ، فإنّ الخطاب في هذه الآية يمكن أن يقال إنّه منحلّ إلى أمرين : الأوّل الأمر بذات الصوم ، والثاني الأمر بلزوم امتثاله في الأيام المعدودات - شهر رمضان - ، وهذا النحو من الأوامر هو محل النزاع في المسألة إذ أنّه هو الذي يمكن أن يقال فيه بأن سقوط الأمر الثاني بفواته أو معصيته لا يقتضي سقوط الأول بل يبقى الخطاب بامتثاله على حاله إذ لا مقتضي لسقوطه وزوال فعليّته ولذلك لا يكون الأمر بالقضاء محتاجا إلى خطاب جديد ، إلاّ أنّ ذلك لا يتم إلا مع قيام القرينة على تعدّد المطلوب وأن خروج الوقت لا يوجب سقوط الأمر عن الفعليّة ، وأمّا مع فقدان القرينة فالظاهر في الأوامر الموقّتة هو وحدة المطلوب إذ أنّ الظاهر من التوقيت هو أخذ الوقت في متعلّق الأمر أي أن المأمور به هو الحصّة المقيّدة بالوقت لا أنّ الحصّة المقيّدة بالوقت هي أكمل الأفراد مثلا ؛ فلذلك تكون مطلوبة لمزية فيها ويكون مطلق الفعل الشامل لهذه الحصّة مطلوبا آخر حتى تكون ثمرة ذلك هو عدم سقوط الأمر بفوات الحصّة الخاصّة.

ص: 227


1- سورة البقرة : آية 183 و 184
المبحث الثالث : الأمر بالأمر :

يقع الكلام في هذا المبحث عن أنّ الأمر بالأمر بشيء هل يدلّ على أنّ متعلّق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني بحيث يكون مسؤولا عنه ، كما لو كان قد توجّه إليه الأمر مباشرة.

وبتعبير آخر : لو أنّ المولى أمر مكلّفا بأن يأمر مكلّفا آخر بفعل شيء ، فإنّه لا كلام في تنجّز الأمر الأول على المكلّف الأوّل - أي أنّ المكلّف الأوّل مسؤول عن امتثال الأمر بالأمر - وإنّما الكلام في تنجّز متعلّق الأمر الثاني على المكلّف الثاني.

وهنا ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني مطلقا.

الاحتمال الثاني : أن لا يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني مطلقا.

الاحتمال الثالث : أن يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني فيما لو امتثل المكلّف الأوّل الأمر الأوّل ولا يكون مسؤولا في حالة عدم الامتثال.

ومنشأ الاحتمال الأول : هو استظهار طريقيّة الأمر الأوّل للأمر الثاني ، وأنّ إرادة المولى قد تعلّقت بإيجاد المأمور به الثاني من المكلّف الثاني ، وبهذا لا يكون للأمر الأوّل والمكلّف الأوّل سوى دور الوساطة ، ولو تمّ هذا الاستظهار فإنّه ينتج مسؤولية المكلّف الثاني عن متعلّق الأمر الثاني حتى لو لم يمتثل المكلّف الأول بالأمر الأول.

ص: 228

مثلا قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (1) ، فإنّ الخطاب هنا موجّه للمكلّف الأوّل بأن يأمر أهله ( المكلّف الثاني ) بالصلاة ، فلو كنّا نبني على الاحتمال الأوّل ، فهذا معناه تنجّز الصلاة على الأهل مطلقا سواء امتثل المكلّف الأول - وأمر أهله بالصلاة - أو لم يمتثل ، فإنّ الأهل مسؤولون عن الصلاة لو اطّلعوا على أن المولى قد أمر المكلّف الأوّل بأن يأمرهم بالصلاة.

ومنشأ الاحتمال الثاني : هو استظهار اختصاص تعلّق غرض المولى بامتثال المكلّف الأوّل للأمر الأوّل دون أن يكون له أيّ غرض بمتعلّق الأمر الثاني ، بمعنى أن يكون مصبّ الغرض المولوي هو امتثال المكلّف الأوّل للأمر الأوّل.

وهذا ما يتّفق كثيرا عند الموالي العرفيّين كأن يأمر المولى ابنه بأن يأمر العبيد بأمر معيّن ولا يكون للمولى غرض سوى تعليم ابنه طريقة الأمر والنهي.

ولو كان هذا الاستظهار هو المتعيّن فإنّ المكلّف الثاني لا يكون مسؤولا عن متعلّق الأمر الثاني سواء امتثل المكلّف الأول الأمر بالأمر أو لم يمتثل.

ومنشأ الاحتمال الثالث : هو استظهار تعلّق غرض المولى بمتعلّق الأمر الثاني ، إلاّ أنّ تعلّق غرضه بذلك منوط بامتثال المكلّف الأول للأمر بالأمر ، فيكون لامتثال المكلّف الأول موضوعيّة بمعنى أنّ التكليف المتوجّه للمكلّف الثاني رتّب على موضوع مقدّر الوجود وهو امتثال المكلّف الأوّل

ص: 229


1- سورة طه : آية 132

للأمر بالأمر.

ولو تمّ هذا الاستظهار فمعناه أنّ المكلّف الثاني لا يكون مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني إلاّ حين يمتثل المكلّف الأول الأمر الأول.

ويترتّب على نتيجة هذا البحث ثمرات مهمّة في الفقه ، ولعلّ من أهمّها مسألة مشروعيّة عبادات الصبي ، حيث وردت مجموعة من الروايات مفادها أمر الأب أو الولي بأن يأمر الصبي بالصلاة أو الصوم. منها معتبرة الحلبي : « ... فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين » (1) ، ومنها : معتبرة الحلبي : « ... فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم » (2).

فلو كنّا نستظهر الاحتمال الأول وأنّ الأمر بالأمر يدلّ على مطلوبيّة متعلّق الأمر الثاني من المأمور الثاني فهذا يقتضي البناء على مشروعيّة عبادات الصبي إذ أنّ المأمور به الثاني وهو الصلاة أو الصوم يصبح حينئذ مطلوبا من الصبي ، وطلبه من الصبي يعني مشروعيّته كما هو واضح ، وكذلك لو كنّا نستظهر الاحتمال الثالث ، غايته أنّ فعلية الأمر الثاني تكون منوطة بامتثال الولي الأمر الأوّل.

أمّا لو كنّا نستظهر الاحتمال الثاني وأنّ الأمر بالأمر لا يدلّ على أنّ متعلّق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني ، فهذا يقتضي عدم صلاحيّة الأمر بالأمر للدلالة على مشروعيّة عبادات الصبي.

ص: 230


1- وسائل الشيعة : 4 / 19 الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض الحديث 5
2- معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، الباب 29 من أبواب من يصح منه الصوم الحديث 3
النهي
اشارة

قلنا إنّ للأمر أسلوبين من الكلام ، الأوّل هو الأمر بواسطة مادّته ، والثاني هو الأمر بواسطة هيئته ، وهذا البيان يجري أيضا في النهي إذ أنّه يتم تارة عن طريق مادّة النهي وتارة بواسطة هيئة النهي.

أمّا النهي بواسطة المادّة فهو يتمّ عن طريق استعمال لفظ النهي في إطار أي هيئة من الهيئات ، وذلك مثل قوله تعالى : ( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) (1).

وأمّا النهي بواسطة الهيئة فهو يتمّ عن طريق استعمال الفعل المضارع المدخول ل- « لا » الناهية ، وذلك مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (2).

ثم إنّ الكلام في مدلول النهي بإسلوبيه :

وفي المقام ثلاثة اتجاهات في تفسير معنى النهي :

الاتجاه الأول : هو أنّ معنى النهي طلب الترك ، أي أنّ المطلوب في النواهي هو ترك متعلّقاتها ، فلو قال المولى : لا تشرب الخمر ، فإنّ هذا

ص: 231


1- سورة النحل : آية 90
2- سورة الأنعام : آية 152 ، سورة الإسراء : آية 34

يعني طلب ترك شرب الخمر ، وبتعبير آخر : هذه الجملة تساوق أن نقول : ( اترك شرب الخمر ).

وباتّضاح هذا يتّضح أنّ متعلّق النهي من سنخ الأمور العدميّة إذ أنّ الامتثال بناء على هذا المعنى يتحقّق بمجرّد عدم ارتكاب الفعل المنهي عنه حتى لو كان عدم الارتكاب ناشئا عن مناشئ قهريّة كما لو قصد شرب الخمر وشرب سائلا باعتقاد أنّه خمر ثم اتّفق عدم خمريّة ذلك السائل فإنّه - بناء على هذا القول - لا يكون المكلّف عاصيا للنهي المولوي بل هو ممتثل للنهي إذ أنّه ليس أكثر من عدم إيقاع المكلّف المنهي عنه ، ومن الواضح أنه لم يتّفق وقوع الفعل المنهي عنه من المكلّف وإن كان عدم الوقوع نشأ عن أمر قهري.

الاتجاه الثاني : هو أنّ معنى النهي طلب الكفّ عن الفعل المنهي عنه ، والكفّ هو حالة من إعمال النفس وتوطينها وحملها على فعل شيء أو تركه ، وبهذا يكون النهي من سنخ الأمور الوجوديّة ؛ إذ أنّ امتثاله لا يتمّ إلاّ عبر هذه الحالة من التوطين النفساني على الترك ، فإنّ المكلّف إذا أراد أن يمتثل فإنّه لا يكتفي بعدم شرب الخمر ، بل لا بدّ أن يكون عدم الشرب ناشئا عن إعمال النفس.

ومع اتّضاح هذين الاتجاهين في معنى النهي يقع الكلام في الدليل على كل واحد منهما ، وقد استدلّ كلّ واحد من أصحاب هذين الاتجاهين بما يسقط الاتّجاه الآخر ، حيث استدل أصحاب الاتجاه الثاني على فساد الاتجاه الأول بما حاصله :

إنّ الترك لمّا كان من سنخ الأمور العدميّة فهو ثابت من الأزل

ص: 232

فيستحيل أن يتعلّق به الطلب ؛ إذ أنّ تعلّق الطلب به يكون من تحصيل الحاصل ، أو قل إعدام المعدوم ، فمثلا « لا تشرب الخمر » لو كان المراد منه لزوم إعدام شرب الخمر فإنّ ذلك يعني إعدام ما هو عدم من الأزل وهو مستحيل لعدم القدرة على إعدام ما هو عدم.

ولمزيد من التوضيح نقول : لو أنّ إنسانا لم يشرب الخمر منذ أن ولد إلى أن بلغ وخوطب بالنهي عن شرب الخمر فإنّه لو كان النهي عن شرب الخمر يعني مخاطبة المكلّف بإعدام شرب الخمر فإنّ ذلك ثابت للمكلّف من الأزل إلى أن ولد إلى أن بلغ وخوطب بالنهي عن شرب الخمر ، فتكليفه بإعدام شرب الخمر تكليف بغير المقدور ؛ إذ أنّ التكليف بالمنع عن شرب الخمر - بناء على هذا الاتجاه - تكليف بإعدام المعدوم إذ كيف يعدم ما هو معدوم والحال أنّه فرع الوجود للشيء الذي يراد إعدامه.

لا يقال : إنّ هذا الإشكال إنّما يتم في فرض المثال وهو عدم شرب المكلّف للخمر من الأزل إلى البلوغ ، أمّا في ظرف شرب المكلّف للخمر قبل البلوغ أو حين البلوغ مثلا لا يكون إعدامه لشرب الخمر من قبيل إعدام المعدوم.

فإنّه يقال : إنّ هذا الكلام لا يتم وعلى فرض تماميّته فإنّه يكفي في التنبيه على فساد هذا المبنى تماميّة الإشكال ولو في مثل ما افترضناه ، إذ أنّه لا يتعقّل وجود معنيين للنهي ، معنى يناسب ما افترضناه في المثال ومعنى آخر هو طلب الترك.

هذا ما استدل به أصحاب الاتجاه الثاني لإثبات مدّعاهم ، وتلاحظون أنهم استدلوا لإثبات دعواهم عن طريق إسقاط الاتجاه الأول

ص: 233

وكأنهم يرون أنّ معنى النهي لا يخلو عن أحد هذين المعنيين فإذا سقط أحدهما تعيّن الآخر.

وكيف كان فالدليل الذي استدلّوا به على إثبات مدّعاهم ليس تاما ؛ وذلك : لأنّ الترك وإن كان ثابتا من الأزل إلاّ أنّ انقطاعه مقدور للمكلّف ، وهذا هو المصحّح للتكليف بالترك - أي الاستمرار على الترك - إذ أنّه كل ما كان أحد النقيضين مقدورا كان نقيضه أيضا داخلا تحت القدرة ، فالقادر على الفعل قادر على نقيضه وهو الترك وإلاّ لما كان الفعل مقدورا له ، وفي المقام لمّا كان فعل المنهي عنه مقدورا فهذا يعني أنّ تركه أيضا مقدور لعدم إمكان تحقّق القدرة في أحد طرفي النقيضين دون الآخر ؛ وذلك لأن القدرة هي ما كان فيها كلا النقيضين داخلين تحت الاختيار.

وأمّا ما استدلّ به أصحاب الاتجاه الأول لإسقاط الاتجاه الثاني - القائل بأنّ النهي هو الكفّ وتوطين النفس على ترك الفعل المنهي عنه - فهو أنّه لا إشكال في أنّ الذي ترك الفعل لا عن توطين وإعمال من النفس على الترك - بل عن دافع آخر - لا يعدّ بنظر العرف مخالفا للمولى وعاصيا له.

الاتجاه الثالث : وهو مختار المصنّف رحمه اللّه ، وحاصله : أنّ النهي يعني الزجر عن الفعل الذي وقع متعلّقا للنهي أو قل إنّه الإمساك من قبل المولى عبده عن أن يقع في مخالفة المنهي عنه ، غايته أنّ النهي تارة يستفاد من المادة فيكون معناه الزجر والإمساك بالمعنى الاسمي وتارة يستفاد من الهيئة فيكون مفاده النسبة الزجريّة الواقعة بين المزجور - وهو المكلّف - والمزجور عنه - وهو الفعل المنهي عنه - أو النسبة الإمساكيّة الواقعة بين الممسوك والممسوك عنه - وهو متعلّق النهي -.

ص: 234

وبناء على هذا يكون متعلّق النهي هو الفعل والذي هو الانزجار والامتناع والانمساك إذ أنّ متعلّق الزجر هو الانزجار ، والامساك متعلّقه الانمساك عن الفعل ومتعلّق المنع هو الامتناع ، وكل هذه المتعلّقات من سنخ الأفعال كما هو واضح.

ظهور النهي في الحرمة :

لم يقع إشكال في ظهور النهي بمادّته وهيئته في الحرمة ، وإن وقع الخلاف في كيفيّة نشوء هذا الظهور ، وكل المناشئ المذكورة يدّعى توليدها للظهور.

وكيف كان فإنّ الحرمة هي مقتضى المتفاهم العرفي من النهي المولوي وهي المنسبقة منه عند إطلاقه ، وهذا هو التبادر.

ص: 235

الاحتراز في القيود

وقبل بيان ما هو الغرض من عقد هذا البحث نذكر مقدّمة نبيّن فيها أنحاء القيود المرتبطة بالحكم ونشرح فيها كيفيّة ارتباطها به.

فنقول : إنّ القيود التي أشار إليها المصنّف رحمه اللّه خمسة :

النحو الأول : هو متعلّق الحكم : والمراد من متعلّق الحكم هو ما يكون ناشئا عن الحكم ومترتّبا عليه ومتولّدا منه ، فمتعلّق الوجوب هو المطلوب تحصيله ومتعلّق الحرمة هو المطلوب تركه أو قل المزجور عنه ومتعلّق الإباحة هو الفعل الذي للمكلّف تركه أو ارتكابه.

ومن الواضح أنّ كلّ ذلك إنما ينشأ عن فعليّة الحكم ، فمتى ما تحققت الفعليّة صار متعلّقه - أي الفعل الذي وقع مصبا للحكم - مطلوبا أو مزجورا عنه أو موسعا على المكلّف فعله أو تركه.

ومثال ذلك لو قال المولى « صلّ » فإنّ متعلّق الأمر هو الصلاة إذ هي المطلوب بالأمر وهي التي لم تكن مطلوبة قبل الأمر ، وهكذا لو قال المولى « لا تشرب الخمر » فإنّ المزجور عنه هو شرب الخمر فهو إذن متعلّق النهي.

هذا فيما يتّصل بالأحكام التكليفيّة ، وأمّا ما يتّصل بالأحكام الوضعيّة فكذلك تجري عليه نفس الضابطة المذكورة وهي كلّ ما نشأ عن الحكم وكان مصبّا له فهو متعلّق الحكم.

ص: 236

ومثال ذلك : الإيجاب والقبول في البيع العقدي فإنّ المكلّف إذا ما أراد تحقيق البيع العقدي فإنّه ملزم بالإتيان بالإيجاب والقبول.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ متعلّق الحكم يشمل قيود الواجب إذ أنّها تنشأ عن الحكم وتكون لازمة التحصيل.

النحو الثاني : موضوع الحكم : وهو ما يكون الحكم مترتّبا عليه ومتأخرا عنه من غير فرق بين كون الموضوع متقرّرا خارجا وقبل عروض الحكم عليه وبين كونه مفترض الوجود فإنّه في كلا الحالتين يكون الحكم مترتّبا عليه.

ومثاله ما لو قال المولى « لا تشرب الخمر » فإنّ موضوع الحكم في هذه القضية هو الخمر وكذلك المكلّف المخاطب بالمنع عن شرب الخمر ، ولو أردنا أن نطبق الضابطة عليهما لوجدناها منطبقة تماما حيث إنّ المولى حينما جعل الحرمة على شرب الخمر افترض وجود الخمر والمكلّف ثم جعل الحرمة على المكلّف والخمر ، غايته أنّ نسبة الحرمة إلى المكلّف هي نسبة الزجر إلى المزجور ونسبتها إلى الخمر نسبة الزجر إلى المزجور عنه.

وبتعبير أدق وأشمل لبيان الضابطة : إنّ كلّ شيء أنيطت فعليّة الحكم به فهو موضوع الحكم ، وهذا لا يكون إلاّ في حالة يؤخذ فيها الموضوع مقدّر الوجود أي متى ما اتفق وجوده ترتّبت الفعليّة للحكم.

وبهذا تكون قيود الوجوب مشمولة للموضوع ، فالاستطاعة للحج من قيود الوجوب فهي إذن موضوع الحكم بالوجوب وكذلك البلوغ من قيود الحكم فهو إذن موضوع للحكم.

النحو الثالث : الشرط : وهو روحا عين الموضوع في القضايا

ص: 237

الحمليّة أو قل إنّ الموضوع في القضايا الحمليّة يؤول إلى الشرط فحينما تقول : أكرم العالم فكأنّك قلت : أكرم الإنسان إذا كان عالما ، وكيف كان فالموضوع والشرط يشتركان في كون الحكم مترتّبا عليهما ، والاختلاف بين الموضوع - في القضايا الحمليّة - والشرط - في القضايا الشرطيّة - إنّما هو في الصياغة.

النحو الرابع : الغاية : والمراد منها الأمد الذي تنتهي معه فعليّة الحكم ، وهي روحا جزء موضوع الحكم إذ أنّ القطعة الزمنيّة التي تبدأ مع بدايتها فعليّة الحكم وتنتهي مع نهايتها فعليّة الحكم هي الموضوع الذي افترض وجوده ثم رتّب عليه الحكم ، والغاية إنما هي الحد الأخير للموضوع الذي رتّب عليه الحكم.

النحو الخامس : الوصف : وهو القيد المضيّق لدائرة الموضوع فهو يشمل مثل النعت النحوي والحال والتمييز فإنها جميعا تشترك في كونها مضيّقة لموضوع الحكم ، مثلا : « أكرم الفقير العالم » ، و « أكرم الفقير عالما » ، و « أكرم الفقير الأكثر علما » ، كلّها تشترك في أنّها مضيّقة لموضوع الحكم وهو الفقير.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نرجع إلى ما هو الغرض من عقد هذا البحث وهو أنّ القيود المأخوذة في الأحكام في مرحلة المدلول التصوّري هل تكون مرادة في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي بحيث تكون تلك القيود المفادة بالألفاظ دخيلة في الحكم جدّا وواقعا أو أنّ هذه القيود ذكرت لغرض التوضيح أو التمثيل مثلا ، بحيث لا يكون وجودها وعدمها مؤثرا في ترتّب الحكم.

ص: 238

والصحيح أنّ ما يقتضيه الظهور العرفي والذي عليه أهل المحاورة هو التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي ، فكلّ القيود المرتبطة بالحكم في مرحلة الدلالة الوضعية التصوّرية تكون مرادة في مرحلة الدلال التصديقية الثانية ، إذ أنّ ظاهر حال كل متكلّم أنّه مريد لكل ما يخطره من معان بواسطة الألفاظ الموضوعة لها ، فإذا أخطر المتكلم قيدا لحكم بواسطة اللفظ الموضوع له فإنّ ظاهر حاله أنّه مريد وقاصد لجعل ذلك الحكم مرتبطا بذلك القيد ، مثلا قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1) ، فإنّ الحكم بالتيمّم ارتبط بحسب المدلول التصوّري بالصعيد الطيّب فلا يشمل بحسب هذا المدلول غير الصعيد كما لا يشمل الصعيد غير الطيّب ، وإذا كان كذلك بحسب المدلول التصوّري فهو أيضا كذلك بحسب المدلول الجدّي وذلك لأصالة التطابق بين المدلولين المستفادة من ظهور حال كل متكلّم في أنّ ما يقوله ويخطره من معان فهو يريده جدّا وواقعا. ومنشأ هذا الظهور هو أنّ كل عاقل يريد أن يؤدي مقاصده يؤديها عن طريق الوسائل المتعارفة إذ أنّه قد لا يحقق مقاصده فيما لو استعمل غير الوسائل المتعارفة ، ومن الواضح أنّ المتكلّم لو لم يكن مريدا لتقييد الحكم بقيد ومع ذلك استعمل القيد لغرض التمثيل أو التوضيح ، فهذا يعني أنّه أراد التوصل لأغراضه بغير الطريقة المتعارفة إذ أنّ الطريقة المتعارفة حين إرادة التوضيح أو التمثيل هو إبراز قرينة تدلّ على ذلك لا أن يأتي بلفظ ويريد غير معناه

ص: 239


1- سورة المائدة : آية 6

فإنّ ذلك خلاف ما تبانى عليه العقلاء من تأدية مقاصدهم بالوسائل المتعارفة.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من قاعدة احترازيّة القيود ، وهي أنّ كل القيود المتحيّث بها الحكم في مرحلة المدلول التصوّري فهي مرادة للمتكلّم بحسب المدلول الجدّي.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ الألفاظ الموضوعة لإفادة تقييد الحكم بقيد فإنّ مفاداتها مرادة للمتكلّم ، فكما أنّها قيود بحسب مدلولاتها الوضعيّة فكذلك هي قيود واقعا وبحسب مراد المتكلّم.

ومنشأ هذه القاعدة كما ذكرنا هي ظهور حال كلّ متكلّم أنّ ما يقوله ويخطره من معان بواسطة الألفاظ فإنّه مريد لهذه المعاني في مقام الجدّ.

وإذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ الحكم المرتبط بهذه القيود لا يشمل الفاقد لها وإلاّ لما كان القيد قيدا إذ أنّ طبيعة كل قيد نفي الحكم عن غير المتقيّد به فلو قال المولى مثلا « السائل الخمري نجس » فهذا يعني أنّ السائل غير المتقيّد بعنوان الخمريّة لا يكون مشمولا للحكم بالنجاسة ، نعم قد تثبت لسائل آخر النجاسبة ولكن بغير هذا الحكم المفاد بهذا الخطاب ، فشخص الحكم بالنجاسة الثابت للسائل الخمري لا يشمل غير المتقيّد بالخمريّة ، فشأن القيود وإن كان هو نفي الحكم الشخصي عن الموضوعات غير المتقيّدة بها إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ هذه القيود تنفي ثبوت مثل هذا الحكم لتلك الموضوعات بقيود أخرى أو ملاكات أخرى.

وبهذا يتّضح معنى الاحترازيّة في القيود وأنّها تعني المانعيّة من شمول الحكم لغير المتقيّد بتلك القيود إلاّ أنّ المانعيّة التي توجبها القيود هي المانعيّة عن شمول شخص الحكم لغير المتقيّد بتلك القيود.

ص: 240

الإطلاق

اشارة

ويقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في تحديد معنى الإطلاق :

الإطلاق بحسب مدلوله اللغوي يعني الإرسال بحيث يكون المطلق في سعة وفسحة ، فحينما يقال دابّة مطلقة فهذا يعني أنّها مرسلة وغير معقولة بعقال يمنعها عن الاسترسال في الحركة ، وكذلك حينما يقال أطلق الرجل عنان دابّته أي رفع عنها القيد المانع لها عن الاسترسال.

وهذا المعنى اللغوي للإطلاق لا يختلف كثيرا عن معناه في مصطلح الأصوليّين بل إنّ كلّ التعاريف المذكورة للإطلاق تحوم في حمى المعنى اللغوي ، وهذا واضح لمن تأمّل في التعاريف التي ذكروها للإطلاق.

وكيف كان فقد عرّف المصنّف رحمه اللّه الإطلاق بما يقابل التقييد ، ولمّا أن كان المراد من التقييد هو ملاحظة موضوع الحكم أو متعلّقه مكتنفا بقيد أو قيود موجبة لتضييق دائرة الموضوع أو المتعلّق فالإطلاق هو عدم ملاحظة تلك القيود.

فموضوع الحكم مثلا في كلّ من التقييد والإطلاق واحد غايته أنّ التقييد يضيف للموضوع قيودا زائدة توجب تضيّقه ، وهذا بخلاف الإطلاق

ص: 241

حيث إنّ الموضوع معه يكون عاريا عن كل قيد حتى لحاظ عدم القيد إذ أنّ لحاظ عدم القيد قيد ، في حين أنّه قد افترضناه عاريا عن كل قيد.

وبهذا يصحّ أن يقال إنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد للطبيعة الواقعة موضوعا أو متعلّقا لحكم من الأحكام ، فالحكم قد جعل في حالات الإطلاق على الطبيعة المجرّدة عن كل القيود ، وهذا هو معنى أنّ الإطلاق من سنخ الأمور العدميّة إذ أنّ معناه عدم اللحاظ للقيد فكأنّ المطلق - بصيغة الفاعل - لم يلاحظ القيود من رأس ، وإنما جعل الحكم على الطبيعة المجرّدة دون أن يكون له التفات إلى القيود حتى يثبتها أو ينفيها إذ أنّ إثبات القيد أو نفيه هو معنى التقييد ، فإنّ نفي القيد معناه أنّ الطبيعة - الواقعة موضوعا أو متعلّقا للحكم - مقيدة بعدم القيد وبه لا يكون موضوع الحكم هو الطبيعة المجرّدة ، فحينما يقول المولى : « الميتة بشرط عدم الاضطرار والإكراه حرام » فإنّ المجعول عليه الحرمة في المثال ليس هو الطبيعة المجرّدة والمرسلة بل هي الطبيعة المقيّدة بعدم هذه القيود.

وبعبارة أخرى : إن الطبيعة المجعول عليها الحرمة ليست هي الميتة بما هي بل هي حصّة خاصّة من الميتة وهي الميتة المتّصفة بعدم الاضطرار والإكراه.

والمتحصّل ممّا ذكرنا أن الإطلاق يقابل التقييد تقابل التناقض حيث قلنا أنّ التقييد هو لحاظ القيود في مقام جعل الحكم على موضوعه أو متعلّقه ، والإطلاق هو عدم لحاظ القيود بل يكون الحكم مجعولا على الطبيعة المجرّدة عن القيود.

فالتقابل بين لحاظ القيد وعدم لحاظ هو تقابل التناقض كما هو

ص: 242

واضح.

إذا اتّضح معنى الاطلاق ومعنى التقييد نقول : إنّ الإطلاق يمكن تصوّره في الموضوع كما يمكن تصوّره في المتعلّق ، وكذلك التقييد يمكن تصوّره في الموضوع والمتعلّق ، ومن أجل أن يتّضح المطلب نذكر لكل صورة من هذه الصور الأربع مثالا :

الصورة الأولى : الإطلاق في الموضوع : ومثاله قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (1) ، فالميتة هي موضوع الحرمة في الآية الشريفة ، وتلاحظون أن الحكم قد جعل على الطبيعة المرسلة والمجرّدة عن القيود إذ لم يلحظ معها أيّ قيد ، أي أنّ مصبّ النظر في الآية الشريفة مقتصر على طبيعة الميتة بما هي.

الصورة الثانية : الإطلاق في المتعلّق : ومثاله « أكرم العلماء » فإنّ الإكرام هو متعلّق الوجوب الثابت بصيغة الأمر ، وتلاحظون أن متعلّق الحكم هو طبيعة الإكرام العاري عن تمام القيود ولذلك فهي تصدّق على كل أنحاء الإكرام.

الصورة الثالثة : التقييد في الموضوع :ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (2) فإن الموضوع للحرمة في الآية الشريفة هو طبيعي المال ولكن بإضافة قيد وهو اليتيم.

الصورة الرابعة : التقييد في المتعلّق : ومثاله أيضا قوله تعالى :

ص: 243


1- سورة المائدة : آية 3
2- سورة الانعام : آية 152

( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) فالمتعلّق للحرمة في الآية الشريفة هي طبيعي التصرّف في مال اليتيم ولكن لوحظ مع هذه الطبيعة قيد زائد وهو المستفاد من قوله تعالى : ( إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) إذ أنّ هذا تقييد لمتعلّق الحرمة فكأنّه قال : أنهاكم عن التصرّف بغير حق ، ف- « بغير حق » قيّد به التصرّف الذي هو متعلّق النهي في الآية الشريفة.

الجهة الثانية : هل الإطلاق مستفاد من الوضع أو من دالّ آخر؟
اشارة

ويتحدّد الجواب عن هذا السؤال بتحديد ما هو الموضوع لألفاظ المفاهيم الواقعة موضوعا أو متعلّقا للأحكام ، فإذا قلنا إنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي دون أن يكون الإطلاق والتقييد دخيلا فيما هو الموضوع لها فهذا يعني أنّ الإطلاق غير مستفاد من الوضع ، وإذا قلنا إنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بنحو الإطلاق فهذا يعني أنّ الإطلاق مستفاد من الوضع ، مثلا لو قلنا إنّ لفظ الإنسان أو لفظ الإكرام موضوعان لطبيعة الإنسان بما هي ولطبيعة الإكرام بما هو دون أن يلحظ مع هذه الطبيعة شيء آخر فهذا يعني أنّ الإطلاق كالتقييد يعرضان على الطبيعة وليس للفظ الإنسان أو للفظ الإكرام أيّ دلالة عليهما وإنّما يستفادان من دالّ آخر ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان » فإنّ هنا مدلولين ، الأول طبيعة الإنسان والآخر الإطلاق ، والمدلول الأوّل مستفاد من لفظ الإنسان والمدلول الثاني مستفاد من دال آخر غير مفهوم الإنسان كما هو الحال في

ص: 244


1- سورة الانعام : آية 152

التقييد ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان العالم » فإنّ مفهوم الإنسان أفاد معنى الطبيعة بما هي ، والعالم أفاد التقييد على نحو تعدد الدال والمدلول.

وهذا بخلاف ما لو قلنا إنّ لفظ الإنسان موضوع للطبيعة المطلقة فإنّ الإطلاق حينئذ مستفاد من نفس لفظ الإنسان ولا نحتاج إلى دالّ آخر لإفادته ، وبه يكون استعمال لفظ الإنسان في خصوص العالم استعمالا مجازيّا لأنّه استعمال في غير ما وضع له لفظ الإنسان ؛ إذ أنّه وضع للطبيعة المطلقة وقد استعمل في الطبيعة المقيّدة بالعالميّة.

الثمرة المترتّبة على ما هو الدالّ على الإطلاق :

ويترتّب على الخلاف فيما هو الدال على الإطلاق ثمرتان :

الثمرة الأولى : وقد أشرنا إليها فيما سبق ونذكرها لمزيد من التوضيح وهي أنّه بناء على أنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي فهذا يعني عدم وجود أيّ تجوّز في استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في المقيّد بنحو يكون الدالّ على القيد لفظا آخر ، فيكون لفظ المفهوم محتفظا بمعناه وهو الطبيعة بما هي والقيد مستفاد من لفظ آخر على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

وأمّا بناء على أنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع المطلقة ، فهذا يعني أنّ استعمال ألفاظ المفاهيم وإرادة الطبايع المقيّدة استعمال مجازي إذ أنّه استعمال في غير ما وضعت له ألفاظ المفاهيم.

الثمرة الثانية : لو استعمل لفظ من ألفاظ المفاهيم في قضية من القضايا ولم ندر أنّه استعمل في الطبيعة المطلقة أو في حصة خاصة منها ، فإنّه بناء على القول الأول لا يمكن تحديد ما هو المراد من هذا اللفظ بواسطة

ص: 245

الوضع إذ أنّ الوضع بناء على هذا القول لا يدلّ على أكثر من الطبيعة بما هي ، والإطلاق والتقييد أمران يعرضان عليها فنحتاج لإثبات أحدهما إلى دالّ آخر غير اللفظ الدال على الطبيعة.

وأمّا بناء على القول الثاني فإنّه في مثل هذا الفرض نحمل اللفظ على الطبيعة المطلقة إذ أنّه هو المعنى الموضوع له لفظ المفهوم حيث قلنا إنّ الإطلاق قد أخذ في المعنى المدلول عليه بلفظ المفهوم.

وبهذا تكون الدلالة الوضعيّة التصوّرية للفظ المفهوم هي الطبيعة المطلقة ومنه نحرز أنّ المتكلّم أراد من لفظ المفهوم الطبيعة المطلقة وذلك لقاعدة احترازية القيود.

الجهة الثالثة : الصحيح من القولين بنظر المصنّف رحمه اللّه :

وقد استوجه المصنّف رحمه اللّه من هذين القولين القول الأول القاضي بكون ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي دون أن يكون لهذه الألفاظ دلالة على الإطلاق.

واستدلّ على ذلك بما عليه أهل المحاورة وبما هو المتفاهم عندهم من عدم عدّ استعمال لفظ المفهوم في الحصّة الخاصّة - على سبيل تعدّد الدال والمدلول - مجازا مما يكشف عن أنّ الموضوع له لفظ المفهوم هو الطبيعة فحسب دون أن تكون له دلالة على الإطلاق بالإضافة للطبيعة.

قرينة الحكمة : وبعد أن لم يكن الوضع دالا على الإطلاق يقع الكلام عمّا هو الدالّ على الإطلاق فنقول : إنّ الإطلاق - كما ذكرنا - هو عدم لحاظ القيود في الموضوع الذي يراد جعل الحكم له وإذا كان كذلك ففي

ص: 246

كل مورد لا يذكر فيه المتكلّم أيّ قيد للموضوع المجعول عليه الحكم رغم أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام غرضه ، وليس هناك مانع يمنعه عن بيان تمام مراده ، فهذا يعني أنّ الحكم قد جعل على الموضوع المطلق والمجرّد عن تمام القيود ، ولو لم يكن كذلك لذكر القيود المضيّقة لدائرة الموضوع ، وإلاّ لكان ذلك خلف كون المتكلّم في مقام البيان لتمام غرضه والذي استفدناه من ظهور حال كلّ متكلّم وأنّه يبيّن تمام مراده.

وبهذا يتّضح أنّ الإطلاق مستفاد من ظهور حال كلّ متكلّم في أنّ ما ذكره هو تمام مراده وأنّ الذي لم يذكره في كلامه فهو غير مراد له إذ أنّه لو كان مرادا لذكره ، فعدم ذكره له كاشف عن عدم إرادته ، إذ لو كان مريدا له ولم يذكره لكان ذلك نقضا للغرض ، والحكيم لا ينقض غرضه.

وبهذا البيان - المعبّر عنه بقرينة الحكمة - ينعقد الظهور للإطلاق.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الدالّ على الإطلاق هو قرينة الحكمة وهي تعني ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيود التي لم يذكرها في كلامه.

ومنشأ هذا الظهور هو مجموعة من المقدمات ينعقد عن ترتيبها هذا الظهور الحالي السياقي وهذه المقدّمات هي :

أولا : افتراض الموضوع - الذي جعل المتكلّم له الحكم - مجرّدا عن أيّ قيد.

ثانيا : افتراض عدم وجود مانع يمنع عن بيان تمام المراد من تقيّة أو نحوها.

ثالثا : إنّ الأصل في كلّ متكلّم أن يكون في مقام بيان تمام أغراضه.

رابعا : إنّ كلّ متكلّم عاقل إذا تعلّق غرضه بشيء يسعى لتحقيق

ص: 247

غرضه.

خامسا : إنّ عدم السعي لتحقيق الغرض نقض للغرض.

سادسا : إنّ الحكيم لا ينقض غرضه ولا يسمح بفوات وتضييع مراداته.

سابعا : إنّ عدم ذكر القيد مع عدم إرادته نقض للغرض وتفويت للمصالح المرادة كما أنّه خلف كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده.

ولو تأمّلنا هذه المقدّمات ورتّبناها على شكل أقيسة منطقيّة لوجدنا أنّها هي التي أوجبت ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيود التي لم يذكرها وهذا هو عين قرينة الحكمة الموجبة لانعقاد الظهور في الإطلاق.

وخلاصة الكلام : إنّ قرينة الحكمة التي ينعقد بها الظهور في الإطلاق لا تكون إلاّ في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي كما هو الحال في قاعدة احترازية القيود إذ أنّهما يشتركان في أنّ استفادتهما لا تتمّ إلاّ من خلال معرفة حال المتكلّم وأنّه جادّ في تفهيم مقاصده عن طريق ما جاء به من خطاب.

غاية ما في الأمر أنّ قاعدة احترازية القيود تفترق عن قرينة الحكمة في أنّ الاولى توجب انعقاد ظهور حال المتكلّم في أنّ ما ذكره من قيود في مرحلة المدلول الوضعي التصوّري هي مرادة في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي.

أمّا قرينة الحكمة فهي توجب ظهور حال المتكلّم في أنّ الذي لم يذكره في خطابه في مرحلة المدلول الوضعي التصوّري فهو غير مراد له ، وبهذا ينعقد الظهور في الإطلاق إذ أنّ القيود التي لم يذكرها إذا لم تكن مراده

ص: 248

فهذا يعني أنّ المراد هو الطبيعة المجرّدة فحسب إذ أنّها هي التي ذكرها المتكلّم في خطابه ، فبضمّ أنما ذكره من لفظ دالّ على الطبيعة فهو مريد له ، وأنّ الذي لم يذكره من قيود للطبيعة فهو غير مراد له ينعقد الظهور في الإطلاق.

وهنا إشكال قد يرد على انعقاد الظهور في الاطلاق بواسطة قرينة الحكمة وحاصله :

إنّ قرينة الحكمة تعتمد فيما تعتمد على استظهار كون المتكلّم في مقام البيان لتمام مراده ، وهذه المقدّمة غير حاصلة ؛ وذلك لأنّ المتكلّم إذا لم يبيّن ما يدلّ على الإطلاق فهو لم يبيّن تمام مراده ، إذ غاية ما بيّنه هو جعل الحكم على الطبيعة وهي بنفسها لا تقتضي الإطلاق كما لا تقتضي التقييد ، والحال أنّه إمّا أن يكون مريدا للإطلاق أو يكون مريدا للتقييد ، فما بيّنه إذن ليس تمام مراده إذ أنّ مراده لو كان التقييد فهو لم يأت بالتقييد كما هو الفرض ، ولو كان مراده الإطلاق فأيّ شيء يدلّ على الإطلاق؟ في حين لم يأت في كلامه إلاّ بما يدلّ على الطبيعة ، والطبيعة - كما هو مقتضى هذا المبنى - لا تستبطن هذا الإطلاق.

والجواب عن هذا الإشكال يتمّ بملاحظة ما ذكرناه من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيود ، فإذا كان المتكلّم قد جعل الحكم على الطبيعة ولم يقيّد هذه الطبيعة بأيّ قيد فإنّ هذا يعني عدم إرادة هذه القيود إذ أنّه لو كان مريدا لها ولم يذكرها فقد نقض غرضه والحكيم لا ينقض غرضه ، وبهذا ينعقد الإطلاق ، إذ أنّ الإطلاق كما قلنا ليس أكثر من عدم لحاظ القيود ، وقد ثبت بالمقدّمة السابقة أنّ المتكلّم لم يلاحظ القيود حينما جعل الحكم على الطبيعة.

ص: 249

إذن فالذي هو مفتقر إلى مؤنة زائدة على ذكر الطبيعة هو التقييد إذ أنّه يعني لحاظ القيود ولا مثبت للحاظ القيود إلا ذكرها.

وهذا بخلاف الإطلاق فإنّ ذكر الطبيعة وحدها مع الظهور الحالي للمتكلّم في أنّ الذي لم يذكره لا يريده كاف في انعقاد الإطلاق.

وبعبارة أخرى : كاف في إثبات عدم إرادة القيود وهو معنى ثان للإطلاق إلا أن يقال بأنّ الإطلاق لا ينعقد إلاّ بتصريح المتكلّم بعدم إرادة القيود ، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب وذلك لأنّه يستبطن أنّ المتكلّم لا بدّ أن يذكر كل ما يريد وكل ما لا يريد وإلاّ لا ينعقد لكلامه ظهور ، وهذا باطل حتما إذ أنّ المتفاهم العرفي من حال كلّ متكلّم أنّ الذي لم يذكره في خطابه فهو لا يريده وأنّ مقدار ما يريده هو مقدار ما بيّنه في خطابه.

وبهذا اتضح أنّ قرينة الحكمة هي الدالّ على الإطلاق ولهذا لا ينعقد للإطلاق ظهور فيما لو اختلّت بعض مقدمات قرينة الحكمة ، فلو أحرزنا من الخارج مثلا أنّ المتكلّم ليس في مقام البيان لتمام موضوع حكمه فإنّه لا ينعقد للإطلاق ظهور إذ لا يمكن في هذه الحالة استظهار أنّ الذي لم يذكره المتكلّم فهو غير مريد له إذ لعلّ بعض الذي لم يذكره مراد له ، ولا نافي لهذا الاحتمال بعد أن أحرزنا أن المتكلّم ليس في مقام البيان لتمام موضوع حكمه ، وهذا بخلاف ما لو كان الإطلاق مستفادا عن الوضع فإنّ ذكر الطبيعة وحدها كاف في انعقاد الظهور في الإطلاق حيث إن الطبيعة - بناء على هذا المبنى - تستبطن معنى الإطلاق وذلك لأنّ اللفظ الدال عليها موضوع للطبيعة المطلقة ، وبذكر اللفظ الدالّ على الطبيعة المطلقة تتنقّح الدلالة الوضعيّة التصوّرية ، وبضم هذه الدلالة إلى قاعدة احترازية القيود

ص: 250

- التي تنشأ عن أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي - ينعقد الظهور في الإطلاق أي أنّ المتكلّم مريد للإطلاق.

وبتعبير آخر : إنّه لمّا كان معنى احترازيّة القيود هو أنّ كلّ ما ذكره في خطابه فهو مريد له ، فهذا يعني أنه مريد للإطلاق إذ أنّ ذكر ما يدلّ على الطبيعة ذكر للإطلاق حيث إنّ اللفظ الدال عليها موضوع للطبيعة المطلقة ، وهذا بخلاف المبنى الآخر حيث إنّ اللفظ الدال على الطبيعة لا يدلّ على أكثر منها وإنّ الإطلاق إنما هو مستفاد من قرينة الحكمة ولمّا كانت بعض مقدّمات قرينة الحكمة مفقودة في المقام فلا دالّ على الإطلاق.

الجهة الرابعة : أقسام الإطلاق :
اشارة

ويمكن تقسيم الإطلاق إلى قسمين :

الأول : الإطلاق الشمولي.

الثاني : الإطلاق البدلي.

وكل واحد من هذين القسمين يمكن تقسيمه إلى قسمين فحاصل أقسام الإطلاق أربعة :

القسم الأول : الإطلاق الشمولي :

وهو ما كان الإطلاق فيه مستوعبا لتمام أفراد أو أحوال الطبيعة المطلقة بحيث يكون الحكم المجعول على الطبيعة المطلقة منحلاّ إلى أحكام بعدد أفراد أو أحوال تلك الطبيعة.

وبتعبير آخر : يكون الحكم مجعولا على كل أفراد أو أحوال الطبيعة على سبيل العطف بالواو.

وهذا القسم من الإطلاق يمكن تقسيمه إلى قسمين :

ص: 251

الأول : الإطلاق الشمولي الأفرادي : وهو ما كان مصب الحكم فيه هو أفراد الطبيعة ، فهو شمولي باعتبار استيعابه للطبيعة وأفرادي باعتبار أنّ مصبّه أفراد الطبيعة. ومثاله قوله تعالى : ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (1) فإنّ الحكم - وبواسطة قرينة الحكمة - مجعول على تمام أفراد الطبيعة « وهي الزور » فلذلك يمكن تحليل هذا الخطاب إلى قضايا - موضوعها فرد من أفراد الزور ومحمولها لزوم الاجتناب - بعدد أفراد الطبيعة.

الثاني : الإطلاق الشمولي الأحوالي : وهو ما كان مصبّ الحكم فيه أحوال الطبيعة الواقعة موضوعا أو متعلّقا لذلك الحكم ، فهو شمولي باعتبار استيعابه للطبيعة وأحوالي باعتبار أنّ الحكم وقع على أحوال الطبيعة ، ومثاله قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (2) فإن الحكم - وبواسطة قرينة الحكمة مجعول على تمام أحوال طبيعة اليتيم أي سواء كان رضيعا أو مراهقا وسواء كان سفيها أو عاقلا غنيا أو فقيرا وهكذا.

القسم الثاني : الإطلاق البدلي : وهو ما كان الحكم واقعا على أحد أفراد أو أحوال الطبيعة على سبيل البدل بحيث يمكن تحليل الطبيعة إلى أفرادها وجعل الحكم على الأفراد بنحو العطف « بأو » ، ولذلك يتحقق الامتثال بمجرّد الإتيان بفرد من أفراده.

وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نفس القسمين اللّذين ينقسم عليهما الإطلاق الشمولي ، غايته أنّ الإطلاق هناك شمولي وهنا بدلي ويمكن التمثيل

ص: 252


1- سورة الحج : آية 30
2- سورة الانعام : آية 152

للأول بقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) (1) فإنّ الإطلاق هنا بدلي أفرادي حيث إنّ الحكم قد وقع على أحد أفراد الطبيعة « وهي الصلاة » على سبيل البدل.

ويمكن التمثيل للثاني بقوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ ... ) (2) فإنّ امتثال الأمر يتحقق ببعث حكم سواء كان عالما أو جاهلا شيخا أو كهلا.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الطبيعة الواحدة قد يعرضها في وقت واحد إطلاق أفرادي وإطلاق أحوالي كما في الآية الشريفة حيث يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات إجزاء أيّ فرد من أفراد الأهل كما يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات أيّ حالة يكون عليها الحكم المبعوث. الإطلاق في المعاني الحرفية :

لا ريب في إمكان بل وقوع الإطلاق في المعاني الاسمية - والتي هي مستفادة من ألفاظها استقلالا - وذلك مثل : ( تصدّق على الفقير ) فإنّه يمكن بقرينة الحكمة أن يعرض الإطلاق طبيعة الفقير والذي هو من المعاني الاسمية إذ أنّ لفظ الفقير يدلّ على معناه استقلالا وكذلك الكلام في مثل : ( لا تكذب ) فإنّ طبيعة الكذب من المعاني الاسمية إذ هو دال على معناه استقلالا ، وهذا المقدار كما قلنا من صلاحية قرينة الحكمة لخلق الإطلاق لا ريب فيه ، إنّما الإشكال في صلاحية قرينة الحكمة لخلق الإطلاق في المعاني

ص: 253


1- سورة الإسراء : آية 78
2- سورة النساء : آية 35

الحرفية - والمستفادة من الهيئات الواقعة في إطار الجمل التامّة والناقصة وذلك مثل الحرمة المستفادة من هيئة ( لا تكذب ) فإنّ الكلام يقع فيها من حيث إمكان جريان قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق في النسبة الزجريّة أو عدم إمكان ذلك.

وهذا ما أرجأ المصنّف البحث عنه إلى الحلقة الثالثة ، وسيتّضح هناك إمكان جريان قرينة الحكمة في المعاني الحرفيّة.

التقابل بين الإطلاق والتقييد :

وقبل البحث عن نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد لا بدّ من بيان أقسام التقابل. وهي كما ذكر المناطقة على أربعة أقسام :

الأول : تقابل التضاد : وهو ما يكون بين الأمرين الوجوديين اللّذين يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد ولا يكون تصوّر أحدهما مستدعيا لتصوّر الآخر. وإن حصل التداعي من تصوّر أحدهما لتصوّر الآخر فهو لأمر خارجي لا يقتضيه نفس تصوّر الضد.

ويمكن التمثيل لذلك بالحسن والقبح والحب والبغض الذكاء والغباء ، فإنّ كلاّ من الحسن والقبح أمران وجوديّان يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد كما لا يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر.

الثاني : تقابل التضايف : وهو يكون أيضا بين الأمرين الوجوديّين اللّذين يستحيل عروضهما على موضوع واحد ومن حيثيّة واحدة ، وجهة الافتراق بين التضاد والتضايف أنّ الأول لا يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر بخلاف الثاني فإنّ تصوّر أحد المتضايفين يلزم منه تصوّر الآخر ، ومثاله : الأب والابن وأخوة زيد لعمرو وأخوة عمرو لزيد والقريب والبعيد

ص: 254

والصغير والكبير وهكذا.

فإنّ التقابل بين الأب والابن تقابل التضايف ؛ وذلك لأنّهما أمران وجوديّان يستحيل اجتماعهما على موضوع واحد من حيثيّة واحدة إذ أنّه لا يمكن أن يكون زيد أبا لعمرو وابنا لعمرو نفسه ، وإلى هذا المقدار يكون تقابل التضايف هو عين تقابل التضاد إلاّ أنّهما يفترقان من حيث إنّ تقابل التضايف لا يكون إلاّ في العنوانين الذين يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر كما في مثالنا ، فإنّ تصوّر عنوان الأب يستلزم تصوّر عنوان الابن وما ذلك إلاّ لأنّ العناوين المتضايفة عناوين نسبيّة إضافية أي أنّها تنتزع من إضافة أحد العنوانين إلى الآخر.

الثالث : تقابل التناقض : وهو ما يكون بين الوجود والعدم لذلك الوجود ، واستحالة اجتماعهما يعدّ من الأوليّات التي لا تفتقر إلى برهان ، كما أنّه يستحيل ارتفاعهما إذ أنّه ليس هناك حالة ثالثة ليست وجودا وليست عدما بل الأشياء لا تخلو إمّا أن تكون موجودة أو معدومة ، ومثاله : وجود الحيوان وعدم وجوده ، ووجود الكرم وعدم وجوده ، وهكذا.

إذن يفترق التقابل بين النقيضين عن التقابل بين الضدّين والمتضايفين أنّ النقيضين يستحيل خلو الواقع عنهما معا ، وهذا بخلاف الضدّين والمتضايفين.

وهناك فارق آخر وهو أنّ تقابل التناقض يتعقّل في الجواهر كما يتعقّل في الأعراض - كما اتضح ذلك من التمثيل السابق - وهذا بخلاف تقابل التضاد والتضايف فإنّه لا يكون إلاّ من الأعراض ، ولذلك قلنا ( إنهما يعرضان على موضوع واحد ).

ص: 255

الرابع : تقابل الملكة وعدمها : وهو التقابل الواقع بين الوجود والعدم في موضوع يمكن أن يتّصف بذلك الوجود ؛ فلذلك لا يكون التقابل بين الملكة والعدم إلاّ في الأعراض إذ أنّ الملكة لا تجعل بجعل الذات بل هي تعرض على الذات أو لا تعرض ؛ وذلك لأنّ الذات تجعل بنحو الجعل البسيط والذي هو إيجاد نفس الذات ، وهذا بخلاف جعل الملكة فإنّه يكون بنحو الجعل التأليفي أي اتصاف الذات بشيء بعد تقرّر الذات في رتبة سابقة ، ومن هنا يتّضح إمكان خلوّ الواقع عن الملكة وعدمها بأن لا يكون الموضوع متّصفا بالملكة أو بعدمها إلاّ أنّ خلو الواقع منهما لا يتصوّر إلاّ في الموضوعات التي ليس لها شأنية الاتّصاف بالملكة ، أمّا في الموضوع الذي له شأنيّة الاتّصاف بالملكة فإنّه لا يمكن أن يخلو واقعه من الملكة وعدمها.

ويمكن التمثيل لهذا النوع من التقابل بالنطق وعدمه والشجاعة وعدمها ، فإنّ النطق هو الملكة وعدم النطق هو عدم الملكة ولا يمكن اجتماعهما على موضوع واحد في آن واحد ، كما أنّ عدم ملكة النطق مثلا لا يتّصف بها غير الإنسان كالنبات إذ أنّه غير متّصف بالملكة فلا يتّصف بعدمها ، وبهذا يتّضح إمكان خلوّ الواقع منهما فإنّ النبات لمّا لم يكن له شأنية الملكة فلا يتّصف بعدمها.

إذا اتّضحت أنحاء التقابل ، يقع الكلام فيما هو نوع التقابل بين الإطلاق والتقييد ، والبحث عنه تارة يقع في مقام الثبوت وأخرى في مقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت : فتوضيحه أنّ واقع التقابل يمكن تحديده وتضييق دائرة احتمالاته عن طريق ما ذكرناه في بيان معنى التقييد والإطلاق ، حيث

ص: 256

قلنا إنّ التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق هو عدم لحاظ القيد ، وإذا كان كذلك فنحو التقابل بينهما لا يمكن أن يكون من قبيل تقابل الضدّين أو تقابل المتضايفين لأنّ التقابل بين الضدّين وكذلك المتضايفين لا يكون إلاّ بين الأمرين الوجوديين ، والإطلاق ليس من سنخ الأمور الوجوديّة إذ أنّه كما قلنا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، وبذلك تنحصر دائرة الاحتمالات عن واقع التقابل بين الإطلاق والتقييد في احتمالين :

الاحتمال الأول : هو تقابل التناقض : إذ أنّه يمكن أن ينسجم مع تعريف الإطلاق والتقييد كما هو واضح ، فيكون التقييد والإطلاق من قبيل وجود زيد وعدم وجوده ، ويترتّب على هذا الاحتمال أنّه في كلّ مورد يثبت فيه التقييد فهو يعني عدم الإطلاق وكذلك العكس ؛ وذلك لأنّ الواقع لا يخلو من أحد النقيضين كما اتّضح مما سبق.

الاحتمال الثاني : هو تقابل الملكة وعدمها : وهذا الاحتمال أيضا يمكن انسجامه مع تعريف الإطلاق والتقييد بحيث يكون التقييد هو الملكة والإطلاق هو عدم الملكة ، ويترتّب على ذلك أنّ الإطلاق لا يتصوّر إلاّ في مورد يمكن فيه التقييد كما هو الحال في النطق وعدمه.

أمّا مقام الإثبات : فالمتعيّن فيه هو تقابل الملكة وعدمها ، فالتقييد هو الملكة والإطلاق عدمها ؛ وذلك لأنّ مقام الإثبات يعني مقام ما يثبت الإطلاق والتقييد في مرحلة الدلالة على مقام الثبوت ، إذ أنّ وظيفة مقام الإثبات والدلالة هي الكشف عن مقام الثبوت والواقع ، ومن الواضح أنّ الذي يكشف عن التقييد الثبوتي هو ذكر القيد في مقام الدلالة ، وأنّ الذي يكشف عن الإطلاق الثبوتي هو عدم ذكر القيد في مورد يمكن فيه التقييد

ص: 257

أي له شأنيّة أن يقيد ، ولو لم يكن المورد قابلا للتقييد لما كان عدم ذكر القيد دالا على الإطلاق الثبوتي ؛ وذلك لأننا بالوجدان نرى أنّ الموارد التي لا تقبل التقييد لا يكون عدم ذكر القيد لها كاشفا عن الإطلاق ، وهذا ما يدلّ على أنّ نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد في مرحلة الإثبات هو تقابل العدم والملكة.

الحالات المختلفة لاسم الجنس :

وقبل بيان هذه الحالات لا بدّ من تشخيص معنى اسم الجنس فنقول :

إنّ اسم الجنس هو ما يوضع بإزاء الطبيعة التي يمكن أن تنطبق خارجا على كثرين ، باعتبارها الحقيقة المشتركة بينهم ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة بقيد الانطباق على ما تصدق عليه من أفراد لأنّ ذلك يعني أنّ الإطلاق مأخوذ فيما وضع له اسم الجنس ، وقد قلنا إنّ الإطلاق كالتقييد يعرض على الطبيعة أو لا يعرض.

ويمكن التمثيل لاسم الجنس بكل المفاهيم المعبّر عنها في المنطق بالمفاهيم الكليّة ، والتي يكون لها مصاديق أو لا يكون لها مصاديق في الخارج كالإنسان والأسد والرجل والنار والحجر والشجر ، وهكذا فإنّ كلّ هذه العناوين مفاهيم كلّية لها مصاديق أو يمكن أن لا يكون لها مصاديق في الخارج.

وإذا اتّضح المراد من اسم الجنس ، فنقول : إنّ لاسم الجنس ثلاث حالات :

الحالة الأولى : وهي أن يكون اسم الجنس معرّفا باللاّم ، وذلك مثل

ص: 258

قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (1) وقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (2) ، فإنّ الميتة والدم والصلاة كلّها أسماء أجناس معرّفة بالألف واللام ، وقد أضفت لام التعريف على هذه الأسماء خصوصية زائدة على ما هو الموضوع له اسم الجنس ، وهذه الخصوصية الزائدة هي التعريف إذ أنّه لا تستفاد هذه الخصوصيّة من حاقّ اسم الجنس.

ولام التعريف على أنحاء ، فتارة تفيد العهد الحضوري وتارة تفيد العهد الذكري ، وتارة تفيد العهد الذهني الخاص ، وأخرى تفيد العهد الذهني العام ويعبّر عنها في النحو الرابع بلام الجنس.

وهذه الأنحاء الأربعة للام التعريف تشترك في أنّها مفيدة للإشارة إلى ما هو متعيّن ومعهود عند المخاطب ، فدورها دور اسم الإشارة ، فكما أنّ اسم الإشارة توجّه المخاطب نحو ما هو معهود ومتعيّن عنده من معنى المشار إليه ، فكذلك لام التعريف ، فقولنا الأسد في قوّة قولنا « هذا أسد » من حيث إنّ اللام واسم الإشارة « هذا » يشيران إلى ما هو المتعيّن في الذهن عند المخاطب نيتجة ملابسات وعوامل اقتضت ذلك التعيّن والمعهوديّة ، غايته أن نوع التعيّن تختلف باختلاف أنحاء لام التعريف.

أمّا النحو الأول : للام التعريف - وهي العهديّة الحضوريّة - فتتحقّق في حالة يكون فيها اسم الجنس مذكورا في الخطاب قبل تعريفه ، فتعريف اسم الجنس بعد ذلك وفي نفس الخطاب يفيد العهد الحضوري لحضور اسم

ص: 259


1- سورة المائدة : آية 3
2- سورة الاسراء : آية 78

الجنس بنفسه في الخطاب ، وذلك مثل قوله تعالى : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ ) (1) فإنّ لام المصباح ولام الزجاجة هي لام العهد الحضوري ؛ وذلك لأنّ اسم الجنس وهو « مصباح وزجاجة » قد ذكر في نفس الخطاب منكّرا قبل ذكره معرّفا باللام ، فلذلك تكون اللام في المصباح والزجاجة مشيرة لما هو متعيّن ومعهود عند المخاطب من معنى مصباح وزجاجة بسبب ذكر المتكلّم لهما في خطابه قبل ذكرهما معرّفين باللاّم.

وأمّا النحو الثاني : للام التعريف - وهي اللام المفيدة للعهد الذكري - فتتحقّق في حالة يكون فيها اسم الجنس مذكورا في خطابات سابقة على الخطاب الذي عرّف فيه اسم الجنس باللام ، كأن يقول المتكلّم « رأيت أسدا » ثم يقول بعد ذلك لنفس المخاطب « إنّ الأسد كان كبيرا » فإنّ اللام في هذا الخطاب هي لام العهد الذكري ، وهي تشير إلى ما هو المتعيّن والمعهود عند المخاطب بسبب ذكر اسم الجنس مجرّدا عن لام التعريف في خطاب سابق.

وأمّا النحو الثالث : للام التعريف - وهي اللام المفيدة للعهد الذهني الخاص - فهو ما إذا كانت هناك قرائن موجبة لمعهوديّة اسم الجنس وتعيّنه في ذهن المخاطب فتكون اللام الداخلة على اسم الجنس في الخطاب مشيرة إلى ذلك المعهود والمتعيّن في ذهن المخاطب بسبب تلك القرائن ، وذلك مثل

ص: 260


1- سورة النور : آية 35

قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) فاللام هنا مفيدة لتعيّن ما هو معهود في ذهن المخاطب من جرّاء قرائن معيّنة من قبيل أنّه لا نبي في زمن الخطاب إلا النبي صلی اللّه علیه و آله المعهود ، وبهذا تكون اللام مشيرة إلى ما هو المتعيّن في الذهن.

وسمّي العهد الذهني بالخاص لأنّ المعهود في الذهن هو حصّة خاصّة من الطبيعي.

وأمّا النحو الرابع : للام التعريف - وهي اللام المفيدة للعهد الذهني العام - فهو ما إذا كان اسم الجنس بسعته معهودا في ذهن المخاطب نتيجة معرفة أصل وضعه مثلا أو نتيجة استعماله كثيرا عند أهل المحاورة في معناه السعيّ مما أوجب تعاهده في الذهن بهذا النحو من السعة ، وفي مثل هذه الحالة لو أدخلت لام التعريف على اسم الجنس ودلّت القرينة على أنّ هذه اللام هي لام الجنس فإنّ هذا يقتضي إفادة اللام للإشارة لما هو معهود ومتعيّن في الذهن من المعنى على سعته والناشئ عن ملابسات خاصة أوجبت تعيّنه وهي كما قلنا مثل معرفة أصل الوضع.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) (2) ، وقوله تعالى : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) (3) ، فإنّ اللام في مثل الإنسان تشير إلى ما هو معهود ومتعيّن في الذهن من معنى اسم الجنس على سعته.

إذا اتّضح ما ذكرناه فنقول : إنّ اسم الجنس المدخول للام التعريف له

ص: 261


1- سورة الأحزاب : آية 6
2- سورة العاديات : آية 6
3- سورة آل عمران : آية 36

الصلاحيّة لأن يعرض عليه الإطلاق إذا اكتنف استعماله بما يوجب ظهور حال المتكلّم في إرادة الإطلاق.

والإطلاق المناسب لاسم الجنس المدخول للام التعريف هو الإطلاق الشمولي القاضي باستيعاب اسم الجنس المعرّف باللام لتمام ما يصدق عليه من أفراد.

الحالة الثانية : لاسم الجنس هي أن يكون اسم الجنس منوّنا بتنوين التنكير ، وذلك مثل قوله تعالى : ( رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) (1) ، وقوله تعالى : ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ) (2) ، فإنّ اسم الجنس « مائدة وقبس » قد أضفي عليه معنى زائد على المعنى الموضوع له اسم الجنس بسبب تنوين التنكير ، وهذا المعنى هو قيد الوحدة فيكون اسم الجنس المنوّن بتنوين التنكير يدلّ على الطبيعة المقيّدة بالوحدة على نحو تعدّد الدالّ والمدلول ، فاسم الجنس دالّ على الطبيعة بما هي ، وتنوين التنكير دال على تقيّد الطبيعة بالوحدة ، فيكون اسم الجنس محتفظا بمعناه الموضوع له ويبقى صالحا للانطباق على أفراده ، وغاية ما يصنعه تنوين التنكير هو تقييد الطبيعة بقيد الوحدة والذي يقضي بإرادة أحد أفراد الطبيعة على نحو البدل دون أن يكون لتنوين التنكير أيّ دلالة على تعيين فرد من أفراد الطبيعة.

ومن هنا يتّضح أنّ اسم الجنس المنوّن بتنوين التنكير يصلح لأن

ص: 262


1- سورة المائدة : آية 114
2- سورة طه : آية 10

يعرض عليه الإطلاق ، إلاّ أنّ الإطلاق المناسب للعروض عليه هو خصوص الإطلاق البدلي وذلك لمكان التنوين المفيد لقيد الوحدة ، فمثلا قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (1) فإنّ اسم الجنس ( بقرة ) وإن كان موضوعا للطبيعة الصالحة للانطباق على أفرادها إلاّ أنّ تنوين التنكير أضفى عليها معنى زائدا - وهو قيد الوحدة - فأوجب ذلك عدم صلوح اسم الجنس لأن يعرض عليه الإطلاق الشمولي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق الشمولي يعني الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة في عرض واحد وهو لا يناسب قيد الوحدة المفاد بواسطة تنوين التنكير ، إذ أنّ المناسب لقيد الوحدة هو الإطلاق بنحو العطف ( بأو ) فقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (2) في قوة أن يقول : ( يأمركم أن تذبحوا هذه البقرة أو هذه أو هذه ).

الحالة الثالثة : - لاسم الجنس - أن لا يكون معرّفا ولا منوّنا بتنوين التنكير كما لو كان منوّنا بتنوين التمكين أو مضافا.

والمراد من تنوين التمكين هو ما يعرض الأسماء المعربة لغرض تشخيصها عن الأسماء المبنيّة ، وليس لهذا النوع من التنوين أيّ معنى يمكن أن يضاف إلى المعنى الموضوع له اسم الجنس ، ويمكن أن يمثّل له بقوله علیه السلام : « من تزوّج امرأة لمالها وكلّه اللّه إليه » (3) ، فإنّ التنوين في اسم الجنس ( امرأة ) هو تنوين التمكين بدليل أنّ العرف لا يفهم من اسم الجنس الواقع في

ص: 263


1- سورة البقرة : آية 67
2- سورة البقرة : آية 67
3- وسائل الشيعة : الباب 14 من أبواب مقدّمات النكاح الحديث 5

هذه الجملة إلاّ معناه الموضوع له ، وهذا يعني أنّ التنوين لم يضف معنى زائدا على المعنى الموضوع له اسم الجنس ، ولو كان هذا التنوين هو تنوين التنكير لكان هذا يقتضي إضافة قيد الوحدة لمعنى اسم الجنس ، ويمكن أن نمثّل له أيضا بقوله تعالى : ( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) (1) فإنّ التنوين في اسم الجنس ( ليل ) هو تنوين التمكين بنفس التقريب السابق.

وبالجملة الذي يميّز تنوين التمكين عن تنوين التنكير هو سياق الجملة التي استعمل فيها اسم الجنس ، فإن كان التنوين في اسم الجنس مفيدا لمعنى زائد - هو قيد الوحدة - فهذا يعني أنّه تنوين التنكير وإن لم يضف أيّ معنى للمعنى الموضوع له اسم الجنس فهذا هو تنوين التمكين.

أمّا اسم الجنس العاري عن التعريف باللام وعن مطلق التنوين فإنّه لا يفيد أكثر من معناه الموضوع له كما هو الحال في المنوّن بتنوين التمكين ، ويمكن التمثيل له بقول الإمام علي علیه السلام : « من سلّ سيف البغي قتل به » (2) ، ومحلّ الشاهد في هذه الرواية هو اسم الجنس ( سيف ) حيث وقع موقع المضاف.

ومع اتضاح هذه الحالة من حالات اسم الجنس يتّضح أيضا صلاحيّته لعروض الإطلاق الشمولي عليه ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (3) ، فإنّ اسم الجنس

ص: 264


1- سورة القصص : آية 72
2- وسائل الشيعة : الباب 19 من أبواب أحكام العشرة الحديث 7
3- سورة البقرة : آية 185

( مريضا ) وكذلك ( سفر ) قد عرض عليهما الإطلاق الشمولي بعد أن دلّت قرينة الحكمة على عدم إرادة القيود حيث لم تذكر.

كما يمكن التمثيل لاسم الجنس الواقع موقع المضاف بالحديث النبوي صلی اللّه علیه و آله : « نهى رسول اللّه عن بيع الغرر » (1) بنفس التقريب.

الانصراف :

وهو عبارة عن انسباق بعض أفراد الطبيعة إلى الذهن عند إطلاق ما يدلّ على الطبيعة ، وذلك نتيجة عوامل خارجة عن أصل الوضع كأن تكون هذه الأفراد أجلى مصاديق تلك الطبيعة بنظر العرف أو تكون أكثر تداولا عند المخاطب أو تكون مستعملة كثيرا في خصوص هذه الأفراد أو يكون الموجب للانصراف هو غلبة الوجود لهذه الأفراد أو انعدام بعض الأفراد عند صدور الخطاب أو ندرتها أو تكون الأفراد المنصرف إليها هي القدر المتيقّن في مقام التخاطب كما لو كانت هذه الأفراد هي مورد السؤال الذي وقع جوابه مطلقا.

هذه بعض العوامل التي قد تساهم في انسباق الذهن إلى بعض أفراد الطبيعة عند إطلاق ما يدل عليها ، وقد ذكر المصنّف عاملين من هذه العوامل لغرض البحث عن صلاحيّتهما للمنع عن انعقاد الإطلاق وعدم صلاحيّتهما لذلك.

العامل الأوّل : هو غلبة وجود بعض أفراد الطبيعة في الخارج بحيث تكون هذه الغلبة موجبة لانسباق هذه الأفراد إلى الذهن عند إطلاق ما

ص: 265


1- وسائل الشيعة : الباب 40 من أبواب آداب التجارة الحديث 3

يدلّ على الطبيعة باعتبارها القدر المتيقّن من الخارج.

ويمكن التمثيل له برواية الخصال عن الإمام الصادق عن أبيه علیهماالسلام قال : « لا تحلّ الصدقة لبني هاشم » (1) فإن المنسبق بدوا عند إطلاق عنوان بني هاشم هم أولاد علي وفاطمة علیهماالسلام ، وذلك لغلبة وجودهم خارجا بحيث أوجبت هذه الغلبة صيرورتهم القدر المتيقّن لعنوان بني هاشم ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب المنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق وذلك لأنّ هذا الانصراف لم ينشأ عن علاقة بين هذه الأفراد من الطبيعة وبين اللفظ الدال على الطبيعة ، بل يبقى اللفظ محتفظا بصلاحيّته للدلالة على الطبيعة بسعتها ، وغاية ما أوجبته غلبة الوجود هو حصول الاستئناس الذهني بين واقع الطبيعة وبين بعض أفرادها دون أن يؤثّر ذلك على علاقة لفظ الطبيعة بمعناها الوسيع.

وبعبارة أخرى : لمّا كان الانصراف ناشئا عن مناسبات خاصة أوجبت تداعي معنى أفراد خاصّة من الطبيعة بمجرّد تصوّر الطبيعة ، فهذا يعني أنّ العلاقة الذهنيّة إنما هي بين هذه الأفراد وبين واقع الطبيعة وليس للّفظ أيّ مدخليّة في انقداح خصوص هذه الأفراد مما يعبّر عن أنّه لم يقع أيّ تصرّف في دلالة اللفظ على معناه ، وأنّ العلاقة الوضعيّة بينهما لا زالت صالحة للكشف عن المدلول الوضعي للفظ الطبيعة ، وإذا كان كذلك فالانصراف الحاصل حين إطلاق اللفظ إنما هو انصراف بدوي يزول بمجرّد الالتفات إلى أنّ العلاقة الوضعية بين اللفظ والطبيعة بمعناها السعي لا زالت

ص: 266


1- وسائل الشيعة : الباب 22 من أبواب المستحقّين للزكاة الحديث 7

على حالها بحيث يمكن للمتكلّم أن يعتمد عليها لو أراد الإطلاق دون الحاجة إلى التوسّل بقرائن مفيدة لنفي القيود غير قرينة الحكمة فإمكان اعتماده على صلاحية اللفظ لعروض الإطلاق عليه دليل على عدم تأثير غلبة الوجود على العلاقة الوضعية بين لفظ الطبيعة ومعناها السعي.

العامل الثاني : هو كثرة استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في بعض أفراده على نحو تعدّد الدال والمدلول بأن يأتي بالإضافة إلى لفظ الطبيعة بما يدل على إرادة بعض الأفراد فيكون هناك دالان ومدلولان ، فالدال الأول هو لفظ الطبيعة الموضوع لإفادة معنى الطبيعة ، والدال الثاني هو القيد الموجب لإفادة بعض أفراد الطبيعة دون غيرها.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ... ) ( إلى قوله ) ( وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) (1) فإنّ عنوان أهل الكتاب يدلّ بحسب سعته اللفظية على كل من نزل عليهم كتاب من اللّه عزّ وجلّ ، فهو يشمل المسلمين إلا أنه كثر استعمال هذا العنوان مع القرينة - كما في الآية الشريفة - في اليهود والنصارى حتى صارت هذه الكثرة موجبة لانصراف الذهن إلى خصوص اليهود والنصارى عند إطلاق هذا العنوان حتى وإن كان مجردا عن القرينة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن كثرة الاستعمال الموجبة للانصراف يمكن تصنيفها إلى ثلاث مراتب.

المرتبة الأولى : أن تؤدي كثرة الاستعمال إلى نقل اللفظ من معناه

ص: 267


1- سورة آل عمران : آية 71 ، 72

الموضوع له إلى خصوص الحصّة التي كثر استعمال اللفظ فيها بحيث تكون تلك الكثرة موجبة لهجران المعنى الأول.

وفي مثل هذه الحالة تكون الكثرة في الاستعمال مانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، بل إنّ الظهور يتحوّل إلى المعنى الثاني الذي كثر استعمال اللفظ فيه.

ويمكن التمثيل لهذه المرتبة من الكثرة بالمثال السابق وهو عنوان « أهل الكتاب » فإنّ كثرة استعماله في مثل اليهود والنصارى أوجب انتقال هذا اللفظ من معناه الوسيع إلى بعض حصصه.

المرتبة الثانية : أن تؤدي كثرة الاستعمال إلى نشوء وضع ثان للّفظ فيكون من قبيل المشتركات اللفظية ، وذلك بأن تكون كثرة الاستعمال موجبة لتحقّق وضع تعيّني للّفظ يكون بإزاء بعض أفراد الطبيعة.

وإذا كانت كذلك فلا يمكن استظهار أحد المعنيين إلاّ مع قيام القرينة الخاصة على إرادة أحدهما كما هو الحال في المشتركات اللفظية ، وقرينة الحكمة غير نافعة في المقام لإثبات الإطلاق وذلك لتقوّمهما بصلاحية اللفظ لعروض الإطلاق عليه ، ومن الواضح أنّ اللفظ بحسب الفرض يحتمل أن لا يكون صالحا لعروض الإطلاق عليه كما لو كان مستعملا في المعنى الثاني وهو الحصّة الخاصّة.

ويمكن التمثيل لهذه المرتبة بلفظ الدابّة فإنّها موضوعة بحسب سعتها اللفظية لمطلق ما يدبّ على الأرض ، إلاّ أنّ كثرة استعمال لفظ الدابّة في خصوص الخيل والبغال بحيث يمكن أن يدعى أنّ تلك الكثرة أوجبت نشوء وضع تعيّني ثان للفظ الدابّة.

ص: 268

المرتبة الثالثة : وهي أن تكون كثرة الاستعمال مؤدّية إلى نشوء علاقة بين اللفظ وبين الحصّة الخاصة من معناه إلاّ أنّ هذه العلاقة لا تبلغ مرتبة النقل أو الاشتراك اللفظي ولكنّها من الوثاقة بحيث يمكن أن يعوّل عليها المتكلّم لو أراد التقييد دون الحاجة إلى إبراز قرينة على إرادة الحصّة الخاصّة.

وفي مثل هذه الحالة لا ينعقد أيضا ظهور في الإطلاق وذلك لأنّ قرينة الحكمة - كما ذكرنا - مبنيّة على إحراز عدم وجود قرينة على التقييد وفي المقام لا يمكن إحراز ذلك إذ أنّ كثرة الاستعمال وإن كنّا لا نحرز قرينيّتها على التقييد إلاّ أنها صالحة للقرينيّة فيكون ذلك موجبا لإجمال المراد وعدم انعقاد الظهور في الإطلاق أو التقييد. الإطلاق المقامي :

الإطلاق الذي تحدّثنا عنه وقلنا إنّه متقوّم بقرينة الحكمة الدالّة على أنّ القيود التي لم يذكرها المتكلّم فهو لا يريدها ، هذا الإطلاق هو الإطلاق اللفظي الحكمي.

وهناك إطلاق آخر يعبّر عنه بالإطلاق المقامي ، وهو يختلف عن الإطلاق اللفظي الحكمي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق اللفظي متقوّم بحيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : هي أنّ المتكلّم بصدد جعل حكم على طبيعة يمكن أن يعرض علها التقييد ويمكن أن لا يعرض لها التقييد ، ومن الواضح أنّ المتكلّم إذا كان بصدد ذلك فهو يعني أنّه قد تصوّر الطبيعة التي يريد جعل الحكم عليها وتصوّر القيود التي يمكن أن تعرض عليها فإمّا أن يأخذ هذه القيود أو بعضها في الطبيعة التي يريد جعل الحكم عليها وإمّا أن يجعل

ص: 269

الحكم على الطبيعة دون أن يقيدها بأيّ قيد من تلك القيود.

الحيثيّة الثانية : هي ظهور حال كلّ متكلّم يريد جعل حكم لموضوع أن يحدد الموضوع الذي يريد جعل الحكم له ، فكل قيد لم يذكره للموضوع في حال جعل الحكم عليه فهو يعني أنّه لا يريده ، ولو كان يريده لذكره في كلامه وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، والحكيم لا ينقض غرضه ، وهذه هي قرينة الحكمة الموجبة لانعقاد الظهور في الإطلاق.

إذن كل متكلّم يريد جعل حكم لموضوع ، فإنّ ظاهر حاله أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فإذا لم يذكر أيّ قيد لذلك الموضوع فهذا يقتضي عدم إرادة أيّ قيد للموضوع الذي رتّب عليه الحكم.

فقرينة الحكمة وظيفتها نفي القيود المحتمل عروضها على الموضوع المترتّب عليه الحكم.

أمّا الإطلاق المقامي فليس من هذا القبيل إذ أنّ الغرض منه نفي موضوع مستقل عن أن يكون مشمولا لحكم من الأحكام.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ المولى قد يكون بصدد بيان مركّب من المركّبات العباديّة فيعدد أجزاء وشرائط ذلك المركّب ، فلو شككنا بعد أن انتهى المولى من تعداد تلك الأجزاء والشرائط في وجود جزء أو شرط لهذا المركّب إلاّ أنّ المولى أهمله ولم يذكره ، ففي مثل هذه الحالة ينعقد ظهور يقتضي نفي وجود شرط أو جزء زائد على ما ذكره المولى ، وهذا ما يعبّر عنه بالإطلاق المقامي.

وبهذا يتّضح أن الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا عن أن يكون مشمولا للمركّب العبادي ، إذ لو كان هذا الموضوع - المنفي بالإطلاق

ص: 270

المقامي - ثابتا لكان موضوعا مستقلا للوجوب وذلك لأنّ المركّب العبادي ينحلّ - روحا - إلى مجموعة من الوجوبات بعدد الأجزاء والشرائط المأخوذة في ذلك المركّب ، فكل جزء أو شرط في المركّب العبادي فهو موضوع مستقل للوجوب ، وهذا بخلاف الإطلاق اللفظي ، فإنّ القيود التي ينفيها هذا الإطلاق لو كانت ثابتة لما كانت أكثر من قيد يوجب تضييق دائرة الموضوع ، فما ينفيه الإطلاق اللفظي إنّما هو قيود الموضوع الذي يجعل له الحكم ، والتي لا تصوّر لها ولا وجود لو لا وجود موضوعها.

أمّا المنفي بالإطلاق المقامي فلا صلة له بالموضوعات الأخرى التي تثبت أو لا تثبت للحكم ، فثبوت الوجوب لهذا الجزء أو عدم ثبوته لا صلة له بثبوت أو نفي الوجوب للجزء الآخر بل إنّ الحكم قد يثبت لهما معا وقد ينتفي عنهما معا ، وقد يثبت لأحدهما دون الآخر ، فإذا ثبت لأحدهما وانتفى عن الآخر ثبت لموضوع مستقل وانتفى عن موضوع آخر مستقل.

وبهذا البيان يتّضح أنّ الإطلاق المقامي ينفي وجود موضوع زائد للحكم الثابت للموضوعات المذكورة في كلام المتكلّم ، واتّضح أيضا مما ذكرناه أنّ الإطلاق المقامي لا ينعقد له ظهور إلا مع إحراز كون المتكلّم بصدد بيان تمام الموضوعات المجعول لها الحكم المذكور.

وبتعبير آخر : إذا أحرزنا أنّ المولى بصدد تعداد تمام الأجزاء والشرائط للمركّب العبادي فإنّ هذا الإحراز هو الموجب لانعقاد الظهور في نفي الأجزاء والشرائط التي لم يذكرها المولى.

ويمكن التمثيل لذلك بالوضوءات البيانيّة مثل رواية ميسر عن أبي جعفر علیه السلام قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم أخذ كفّا من

ص: 271

ماء فصبّها على وجهه ، ثم أخذ كفّا فصبّها على ذراعه ، ثم أخذ كفّا آخر فصبّها على ذراعه الأخرى ، ثم مسح رأسه وقدميه ... » (1) ، فقوله علیه السلام : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) قرينة على أنّ الإمام علیه السلام في صدد تعداد الأجزاء لهذا المركب ، ومع إحراز ذلك ينعقد ظهور في الإطلاق المقامي القاضي بنفي وجوب جزء آخر لم يذكره الإمام علیه السلام ، فلو احتملنا وجوب غسل الأذن فإن الإطلاق المقامي ينفي ذلك الوجوب ، أو قل ينفي جزئيّة غسل الأذن لهذا المركّب؟ وذلك لأن غسل الأذن لو كان جزءا لهذا المركّب لكان على الإمام علیه السلام أن يذكره ، فعدم ذكره - مع أنه جزء للمركّب - ينافي كون الإمام في صدد تعداد جميع أجزاء هذا المركّب.

وبهذا المثال يتّضح كلّ ما ذكرناه آنفا ، حيث قلنا : إن الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا عن الموضوعات الثابت لها الحكم في كلام المتكلّم إذ أن جزئية غسل الأذن لو كانت ثابتة لكانت موضوعا مستقلا عن بقيّة الأجزاء المذكورة في كلام الإمام علیه السلام ، فحينما نفى الإطلاق المقامي جزئيّته فقد نفى موضوعا مستقلا ولم ينف قيدا لموضوع ثبت له الحكم كما هو الحال في الإطلاق اللفظي.

وكذلك اتّضح أنّ الإطلاق المقامي إنما ينعقد له ظهور في حال وجود قرينة خاصّة على أن المتكلّم بصدد تعداد تمام الموضوعات الثابت لها الحكم المذكور في كلامه ، إذ أنّ قول الإمام علیه السلام ( ألا أحكي لكم وضوء رسول

ص: 272


1- وسائل الشيعة : الباب 15 من أبواب الوضوء الحديث 9 ، والظاهر أنّ ميسر في الرواية هو ميسر بن عبد العزيز المدائني ، وبذلك تكون الرواية معتبرة.

اللّه صلی اللّه علیه و آله ) يشكّل قرينة على أنّ الامام بصدد ذلك.

وبهذا اتّضح أن الإطلاق المقامي قوامه قرينة خاصّة على أنّ المتكلّم بصدد تعداد تمام موضوعات حكم من الأحكام ، ووظيفته نفي موضوع مستقل عن أن يكون مشمولا للحكم المذكور في كلام المتكلّم.

ولهذا فهو يختلف عن الإطلاق اللفظي اختلافا جوهريّا ، إذ أن قوام الإطلاق اللفظي هو قرينة الحكمة ووظيفته هي نفي القيود غير المذكورة عن الموضوع الثابت له الحكم في كلام المتكلّم.

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة :
اشارة

ذكر المصنّف رحمه اللّه في المقام موردين من موارد انعقاد الظهور في الإطلاق بواسطة قرينة الحكمة.

المورد الأوّل :

وهو التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار الوجوب من الأوامر.

وبيان ذلك : أن الأمر كما ذكرنا ظاهر في الطلب الوجوبي ، وهذا لا إشكال فيه وانّما الإشكال فيما هو المنشأ في انعقاد ظهور الأمر في الطلب الوجوبي ، فقد ذكر البعض أن منشأ ذلك هو الوضع ، وذكر آخرون أن المنشأ لظهور الأمر في الطلب الوجوبي هو الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأن لفظ الأمر موضوع لطبيعة الطلب ، والوجوب والاستحباب خارجان عما هو موضوع له لفظ الأمر ، نعم قد يعرض أحدهما على الطبيعة « الطلب » ولكن ذلك لا يثبت إلا بدالّ آخر غير لفظ الأمر ، وإذا كان كذلك فالدالّ على الاستحباب يتمّ بقرينة خاصة ، وأما الدالّ على الوجوب

ص: 273

فيثبت بواسطة قرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الاستحباب مشتمل على مؤنة زائدة على مفهوم الطلب ، إذ أنه يعنى تقييد الطلب بقيد وهو الترخيص في الترك ، ومن الواضح أن هذا القيد يحتاج إلى بيان زائد على بيان أصل الطلب ، فإذا لم يذكر هذا القيد في الكلام رغم أن المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه فهذا يقتضي انعقاد ظهور لحال المتكلّم في عدم إرادة ذلك القيد الموجب للاستحباب.

وبذلك يتعيّن الوجوب لأنه لا يعني أكثر من أن الطبيعة غير مقيّدة بالترخيص في الترك ، وقد ثبت عدم تقيدها بذلك ببركة قرينة الحكمة.

المورد الثاني :
اشارة

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار النفسية التعيينيّة العينيّة للطلب.

وقبل بيان ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة نذكر فيها ما ينقسم عليه الطلب ، فنقول :

يمكن تقسيمه إلى ثلاثة تقسيمات :

الأول : انقسامه إلى الطلب النفسي ، والطلب الغيري :

أمّا الطلب النفسي : فهو ما كان متعلّق الطلب مطلوبا لنفسه لكونه هو المشتمل على الملاك الموجب لطلبه ، وذلك مثل : ( الصلاة ) حيث إنّ منشأ طلبها هو اشتمالها على مصلحة أوجبت جعل الطلب عليها.

أمّا الطلب الغيري : فهو ما كان متعلّق الطلب غير مطلوب لنفسه لعدم اشتماله على ملاك يوجب جعل الطلب عليه استقلالا ومباشرة ، ولكن لمّا كان هذا المتعلّق صالحا للتوسّل به إلى المطلوب الأصلي فإنّ ذلك هو الذي أوجب جعل الطلب عليه ، وذلك مثل السفر لأداء مناسك الحج فإنّ

ص: 274

السفر ليس مطلوبا بنفسه للمولى لكنّه لمّا لم يكن بالإمكان أداء مناسك الحج دون السفر إلى مكّة المكرّمة فإنّ ذلك يسبّب تعلّق الإرادة والطلب بالسفر ، وإلاّ فالسفر في حدّ نفسه غير مطلوب للمولى.

الثاني : انقسامه إلى الطلب التعييني ، والطلب التخييري :

أمّا الطلب التعييني : فهو ما كان متعلّق الطلب واحدا بحيث لا يقوم شيء مقامه في تحقيق الغرض ، بل إنّ تحقق الغرض منحصر بالإتيان بهذا المتعلّق ، وذلك مثل : ( الصلاة ) حيث لا يحقّق الغرض الذي أوجب جعلها شيء آخر غير الإتيان بها.

أمّا الطلب التخييري : فهو ما كان متعلّق الطلب عدّة أشياء بحيث يكون واحد منها محقّقا للغرض من جعل الطلب.

وبعبارة أخرى هو ما كان المطلوب فيه أحد أشياء على سبيل البدل بحيث يكون امتثال أحدها كافيا في تحقق المطلوب ، ويمكن التمثيل له بخصال كفارة التخيير فإنّ المطلوب يتحقق بمجرّد إيجاد أحد خصال الكفارة.

الثالث : انقسامه إلى الطلب العيني ، والطلب الكفائي :

أمّا الطلب العيني : فهو ما كان الغرض فيه متعلّقا بامتثال نفس المكلّف بحيث لا يكون امتثال غيره موجبا لسقوطه عن المكلّف الذي تعلّق الطلب بعهدته.

وبعبارة أخرى : هو ما كان المطلوب فيه مباشرة المكلّف للامتثال بنفسه ، ولا يكون امتثال الآخرين كافيا لتحقق الغرض وسقوط الأمر المتوجّه لذلك المكلّف ، ومثاله : ( صوم شهر رمضان المبارك ) فإنّ غرض

ص: 275

المولى فيه لا يتحقّق إلا بأن يباشر المكلّف الصوم بنفسه.

وأمّا الطلب الكفائي : فهو ما كان المطلوب المولوي فيه هو تحقّق المأمور به خارجا دون أن يكون للمولى أيّ غرض في امتثال مكلّف بعينه.

وبعبارة أخرى : الطلب الكفائي هو ما كان الخطاب فيه متوجّها لكافة المكلّفين إلاّ أنّ امتثال أحدهم موجب لسقوطه عن البقيّة ، وذلك مثل : دفن الميّت المسلم ، فإنّ الأمر بدفن الميّت متوجّه لكل مكلّف إلاّ أنّ امتثال أحدهم موجب لسقوطه.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة يقع الكلام فيما هو منشأ استظهار النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة من الطلب حين عدم القرينة على الخلاف ، فنقول :

أمّا استظهار النفسيّة فيتم بهذا التقريب ، وهو : أنّ إثبات النفسيّة للطلب لا يحتاج إلى بيان زائد على ذكر ما يدل على الطلب ، إذ أنّ طبع كل طلب أن يكون متعلّقه مطلوبا بنفسه ، وهذا بخلاف الطلب الغيري ، فإنّ إثباته يحتاج إلى بيان زائد عن ذكر الطلب ، إذ أنّ مطلوبيّته منوطة بمطلوبيّة ما وجب لأجله ، ومن هنا يحتاج الطلب الغيري إلى ذكر قيد وهو كون الواجب الذي وجب الغيريّ لأجله مطلوبا ، فإذا لم يذكر القيد رغم أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فهذا يوجب ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيد ، وإذا لم يكن القيد مرادا فهذا يقتضي النفسيّة إذ أنّ ثبوتها ليس معلّقا على شيء من القيود.

وبهذا تثبت النفسيّة بواسطة الإطلاق وقرينة الحكمة.

وبتعبير آخر : لمّا كانت النفسيّة غير معلّقة على أي قيد ، وكانت

ص: 276

الغيريّة معلّقة على مطلوبيّة الغير ، فهذا يعني أنّ إرادة الغيريّة تستوجب ذكر القيد المعلّق ثبوتها عليه ، ومع عدم ذكر القيد يستكشف عدم إرادته إذ المفترض أنّ المتكلّم في مقام البيان ، ومع استظهار عدم إرادة القيد تتعيّن النفسيّة إذ أنّ هذا هو مقتضى الإطلاق الذي يعني عدم لحاظ القيد.

وأمّا استظهار التعيينيّة وكذلك العينيّة ، فيتّضح مما ذكرناه في استظهار النفسية ، وذلك أنّ الطلب التخييري يحتاج إلى بيان زائد على الطلب وهو التقييد بعدم امتثال البدل ، وكذلك الطلب الكفائي فإنّه يستوجب التقييد بعدم امتثال مكلّف آخر للطلب ، فمع عدم ذكر القيد يستظهر الإطلاق والذي يقتضي التعيينيّة العينيّة ، إذ أنّ ثبوتهما لا يحتاج إلى بيان زائد على ذكر أصل الطلب.

ص: 277

ص: 278

العموم تعريف

اشارة

العموم :

المراد من العموم هو : الاستيعاب المفاد بالوضع ، فلو قال المتكلّم ( أكرم كل عالم ) فإنّ لفظ كلّ عالم يستوعب كل فرد من أفراد طبيعة العالم ، وهذا الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة استفيد من وضع لفظ كل بإزاء مفهوم الاستيعاب ، فكل مفيدة لاستيعاب مدخولها بواسطة الوضع ، وهذا بخلاف الإطلاق فإنّه وإن كان يفيد الاستيعاب لجميع أفراد الطبيعة إلاّ أنّ الدال على الاستيعاب إنّما هو قرينة الحكمة ، فحينما يقول المتكلّم ( أكرم العالم ) فإنّ لفظ العالم يشمل ويستوعب جميع أفراد طبيعة العالم إلاّ أنّ هذا الاستيعاب والشمول استفيد بواسطة قرينة الحكمة والتي تعني ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيد الموجب لتضييق دائرة الطبيعة.

فكلّ من الإطلاق والعموم يوجبان انحلال الحكم إلى أحكام بعدد أفراد الطبيعة المجعول لها ذلك الحكم ، إلاّ أنّ ما أوجب الانحلال في الإطلاق هو قرينة الحكمة ، وما أوجب الانحلال في العموم هو الوضع ، فحينما يقول المتكلّم ( أكرم كلّ عالم ) تنحلّ هذه القضية إلى قضايا بعدد أفراد الطبيعة المجعول لها الحكم ، فيكون موضوع كل قضية فرد من أفراد طبيعة العالم ، ويكون محمولها وجوب الإكرام ، وهذا الانحلال استفيد بواسطة وضع لفظ

ص: 279

( كل ) للاستيعاب والشمول.

وكذلك الكلام لو قال المتكلّم ( أكرم العالم ) فإن هذه القضية تنحلّ إلى قضايا بعدد أفراد طبيعة العالم ، ويكون محمول هذه القضايا هو وجوب الإكرام ، إلا أن هذا الانحلال استفيد بواسطة أنّ المتكلّم لم يذكر أيّ قيد للطبيعة في حين أنّه في مقام بيان تمام موضوع الحكم ، مما يكشف عن عدم إرادة القيد ، وبهذا تكون الطبيعة على سعتها مشمولة للحكم.

وبما ذكرناه من معنى العموم يتّضح خروج أسماء الأعداد عن العموم ، فإنّ أسماء الأعداد وإن كانت مستوعبة لوحداتها إلا أن ذلك هو مقتضى طبع اسم العدد ، فليس الاستيعاب مستفادا من وضع اسم العدد لذلك ، وإنما هو موضوع لمعناه ، والاستيعاب فيه إنما هو أثر تكويني له أو قل لازم ذاتي له ، فكما أن الزوجيّة أو الفردية أثر تكويني ولازم ذاتي لاسم العدد ، فكذلك الاستيعاب لوحداته.

ويمكن تنظير الاستيعاب لاسم العدد بالحرارة للنار ، فكما أنّ النار ليست موضوعة لإفادة معنى الحرارة وإنما الحرارة لازم ذاتي للنار فكذلك الاستيعاب بالنسبة لاسم العدد.

فمثلا العدد عشرة يدلّ على مرتبة من مراتب الأعداد ، هذه المرتبة هي المتكوّنة من مجموعة من الأعداد الفردية تساوي عشر وحدات ، هذا ما وضع له لفظ العشرة ، وأما انقسامه إلى متساويين ووقوعه بين مرتبتين من مراتب العدد ، وكذلك استحالة انقسامه على الثلاثة بدون كسر فهذا ما يقتضيه واقع العدد عشرة وليس هو من المدلولات الوضعيّة للفظ العشرة ، وبهذا يتّضح أن استيعاب اسم العدد عشرة لوحداته ليس هو من مدلولات

ص: 280

لفظ عشرة ، وإنما هو من مقتضى واقع اسم العدد عشرة ، وهذا بخلاف لفظ ( كل ) و ( جميع ) فإنها موضوعة لإفادة الاستيعاب والشمول.

أدوات العموم ونحو دلالاتها :

الكلام حول دلالة بعض الألفاظ على العموم والاستيعاب ، لم يقع محلا للإشكال حيث إنّه وبدون شكّ قد وضعت مجموعة من الألفاظ لإفادة معنى العموم والاستيعاب مثل ( كل ) ( جميع ) و ( كافة ) وهكذا.

وإنما الإشكال في أنّ شمول الحكم لكل أفراد مدخول هذه الألفاظ هل هو مستفاد من قرينة الحكمة أو هو مستفاد من نفس هذه الألفاظ الموضوعة لإفادة العموم؟

فحينما يقال ( أكرم كلّ عالم ) فإن المتفاهم العرفي منه هو استيعاب الحكم لكل أفراد الطبيعة المجعول لها ذلك الحكم إلا أنّ الإشكال فيما هو المنشأ لهذا الاستظهار والمتفاهم العرفي ، هل هو قرينة الحكمة أو هو أداة العموم؟

وقد طرح في المقام اتّجاهان :

الاتّجاه الأول : هو أن المنشأ لاستظهار شمول الحكم لتمام أفراد مدخول الأداة ( الطبيعة ) هو قرينة الحكمة ؛ وذلك لأن أداة العموم إنما وضعت لإفادة استيعاب وشمول ما يراد من الطبيعة ، وهذا يستدعي أن نستظهر أولا حدود ما يراد من الطبيعة ، ومن الواضح أن المتكفّل لبيان حدود المراد من الطبيعة هو قرينة الحكمة والتي تستفاد من عدم ذكر المتكلّم للقيد رغم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فإذا استظهر من

ص: 281

حال المتكلّم - بواسطة قرينة الحكمة - أنّه لا يريد القيود فهذا يعني أن الحكم المجعول على الطبيعة مجعول على تمام أفرادها.

ومن هنا يتّضح أن المنشأ لاستيعاب الحكم لكل أفراد مدخول الأداة إنما هو قرينة الحكمة.

الاتّجاه الثاني : هو أنّ المنشأ لاستظهار شمول الحكم لكلّ أفراد مدخول ألفاظ العموم هو ما وضعت له ألفاظ العموم ، إذ أنّ ألفاظ العموم وضعت لاستيعاب كل فرد تصدق عليه الطبيعة الواقعة مدخولا لأداة العموم ، ومن هنا لا نحتاج إلى قرينة الحكمة لإفادة الشمول والاستيعاب لكل أفراد الطبيعة المدخولة للأداة ؛ وذلك لأنّ نفس أداة العموم تتكفّل بتحقيق ذلك بعد أن كانت موضوعة لاستيعاب كل أفراد الطبيعة ، نعم لو كانت موضوعة لاستيعاب ما يريده المتكلّم من أفراد الطبيعة لكان ذلك يستدعي تنقيح ما هو المراد من أفراد الطبيعة التي يريد المتكلّم جعل الحكم عليها وهذا ما تتكفّل به قرينة الحكمة.

إذن المنشأ للاتجاهين هو تحديد ما وضعت له ألفاظ العموم فإن كانت قد وضعت لاستيعاب ما هو المراد من الطبيعة المدخولة للأداة فهذا يستوجب تبني الاتجاه الأول إذ أنّ تحديد المراد من حيث عدم إرادة القيد لا يتم إلاّ عن طريق قرينة الحكمة.

وأمّا إذا كانت ألفاظ العموم قد وضعت لاستيعاب كل ما تصدق عليه الطبيعة من أفراد ، فهذا يستوجب تبنّي الاتجاه الثاني إذ أنّ الأداة تتكفّل بالدلالة على الاستيعاب والشمول ويكون تحديد أنّ هذا مما تصدق عليه الطبيعة أو لا تصدق من شؤون المكلّف إذ أنّ القضايا لا تتكفّل بتنقيح

ص: 282

موضوعاتها.

وقد تبنّى صاحب الكفاية رحمه اللّه الاتجاه الثاني (1) - بعد أن اعترف بمعقوليّة كلا الاتجاهين - وذلك لأنّه مقتضى الظهور العرفي.

ثم إنّ المصنّف رحمه اللّه بعد أن استوجه مبنى صاحب الكفاية رحمه اللّه قال : إنّه يمكن البرهنة على بطلان الاتجاه الأول فيتعيّن الاتجاه الثاني ، وحاصل ما أفاده من برهان على بطلان الاتجاه الثاني :

هو أنّ دعوى استفادة الاستيعاب من قرينة الحكمة يستوجب لغويّة ألفاظ العموم وذلك لأنّ قرينة الحكمة توجب ظهور استيعاب الحكم لأفراد الطبيعة دون الحاجة إلى أداة العموم ، بل إننا قد ذكرنا في بيان الاتجاه الأول أنّ تنقيح الظهور في الاستيعاب لأفراد الطبيعة بواسطة قرينة الحكمة لا بد أن يتم في مرحلة سابقة وقبل ملاحظة كون الطبيعة مدخولة للأداة ، إذ أنّ الأداة لا يكون لها دور الإفادة للاستيعاب إلاّ بعد أن نحدد ما هو المراد من الطبيعة والذي يتم عن طريق قرينة الحكمة ، وإذا كان كذلك فوجود الأداة لغو محض أي لا تصلح حتى للتأكيد إذ أننا بعد أن فرغنا عن تحقّق الظهور

ص: 283


1- المستظهر من عبائر صاحب الكفاية رحمه اللّه هو تبني الاتجاه الأول ، وهذا ما فهمه الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) كالسيد الخوئي رحمه اللّه ، نعم قد يكون مراد المصنف رحمه اللّه هو الاستدراك الذي استدركه صاحب الكفاية بعد تبنّي الاتجاه الأول حيث قال : « نعم ، لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها » فهذا الاستدراك يعبّر عن أنّ صاحب الكفاية لا يستبعد أن يكون ( لكل ) خصوصية تقتضي استظهار الاستيعاب لمدخولها حتى في موارد كون الطبيعة المدخولة ( لكل ) مهملة وغير صالحة لأن تجري قرينة الحكمة في موردها.

في الاستيعاب بواسطة قرينة الحكمة فما هو معنى مجيء أداة العموم ، وهل أنّ دورها إلاّ دور تحصيل الحاصل ، نعم لو كان استظهار الاستيعاب بواسطتهما معا وفي عرض واحد لأمكن أن يقال إنّ لها دور التأكيد ، إلاّ أنّ هذا خلف ما ذكرناه من أنّ دور قرينة الحكمة يأتي أوّلا.

دلالات الجمع المعرّف باللام :

ومن الموارد التي ذكر أنها مفيدة للعموم هي موارد الجمع المحلّى باللاّم مثل « العلماء » في قولنا « أكرم العلماء » حيث ادّعي دلالته على استيعاب الحكم - المجعول عليه - لتمام أفراد الطبيعة المستفادة من مادة الجمع.

والبحث عن دلالة الجمع المحلّى باللام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تصوير كيفيّة استفادة العموم منه ، وقد ذكر لذلك عدة تصويرات وقد اختار المصنّف رحمه اللّه هذا التصوير وحاصله : إنّ ما يمكن أن يكون منشأ لدلالة الجمع المعرّف باللام على العموم والاستيعاب هو اشتماله على ثلاث دلالات من ثلاثة دوال تساهم بمجموعها في إفادة العموم.

الأول : هو مادّة الجمع : ومدلولها الطبيعة التي نبحث عن شمول الحكم لأفرادها.

الثاني : هيئة الجمع : ومدلولها الجمع المتقوّم بثلاثة أفراد أو يزيدون.

الثالث : اللاّم الداخلة على الطبيعة المتهيّئة بهيئة الجمع : ويمكن أن يكون مدلولها استيعاب وشمول الحكم لتمام أفراد الطبيعة.

فهذه الدوال الثلاث ، أو قل الدالّين الثاني والثالث هي التي يمكن أن

ص: 284

تكون مرتكز الدلالة على العموم ثبوتا.

المقام الثاني : وهو مقام الإثبات والدلالة بعد الفراغ عن صلاحيّة الجمع المعرّف باللاّم للدلالة على العموم.

وفي المقام اتجاهان لإثبات دلالة الجمع المعرّف باللاّم على العموم :

الاتجاه الأوّل : أنّ اللاّم الداخلة على الجمع قد وضعت لإفادة العموم مباشرة وابتداء ، أي دون الحاجة في استظهار العموم منها إلى قرينة الحكمة مثلا أو غيرها من القرائن ، وإذا كان كذلك ففي كلّ مورد تدخل اللاّم على الطبيعة المتهيّئة بهيئة الجمع تنشأ دلالة على العموم ، وإنّ الحكم المجعول على مادّة الجمع يستوعب كل أفراد المادّة.

ويمكن النقض على هذا الاتجاه بحالات استعمال اللاّم الداخلة على الجمع في العهد ، فإنّه في مثل هذه الحالة لا تكون اللاّم دالّة على استيعاب كل أفراد الطبيعة المدخولة لها ، إذ أنّ أقصى ما تدلّ عليه اللاّم في مثل هذه الحالة هو استيعاب الأفراد المعهودة فحسب ، فمثلا لو قال المتكلّم « أكرم العلماء » وقامت القرينة على أنّ اللاّم في هذا الاستعمال هي لام العهد الحضوري مثلا ، فإنّ اللام في مثل هذه الحالة لا تفيد أكثر من استيعاب الحكم للأفراد المعهودة من الطبيعة عند المخاطب.

ومن هنا لا بدّ - بناء على هذا الاتجاه - من الالتزام بأحد لازمين أو التنازل عن هذا الاتّجاه.

وهذان اللازمان هما : إما أن يلتزم بمجازيّة استعمال اللام في العهد ، وإما أن يلتزم بكون اللام مشتركا لفظيّا ، فتكون قد وضعت لإفادة الاستيعاب والشمول لتمام أفراد مدخولها ، ووضعت بوضع ثان - في

ص: 285

حالات العهد - لإفادة الاستيعاب لخصوص الأفراد المعهودة من الطبيعة.

وكلا هذين اللازمين لا يمكن الالتزام بهما لمنافاتهما مع ما هو مقتضى المتفاهم العرفي ، فإنّهم لا يرون أيّ تجوّز في استعمال اللاّم في العهد كما أنهم لا يرون أنّ للام الجمع معنيين ووضعين.

إذن فالوجدان العرفي قاض بوجود معنى واحد للام الجمع في تمام حالات استعمالها.

وبهذا يتّضح فساد هذا الاتّجاه.

الاتجاه الثاني : أنّ اللاّم الداخلة على الجمع وضعت للإشارة لما هو المتعيّن من مدخولها ، فاللام هنا هي نفس لام التعريف الداخلة على اسم الجنس ، ولمّا كانت لام التعريف بأنحائها الأربعة موضوعة للإشارة إلى ما هو المتعيّن من مدخولها ، فكذلك اللاّم الداخلة على الجمع ، فدور اللاّم دور اسم الإشارة وحيث إنّ اسم الإشارة يشير ويوجّه المخاطب إلى ما هو المعهود والمعروف عنده في مرحلة سابقة على الاستعمال نتيجة ملابسات وعوامل أوجبت معروفيّة ذلك الشيء عنده ، فكذلك لام التعريف سواء الداخل منها على اسم الجنس أو الجمع ، فحينما نقول « هذا أسد » و « هؤلاء علماء » فإنّ اسم الإشارة في الحالتين يوجّهان المخاطب إلى ما هو المعهود والمتعيّن عنده من معنى الأسد ومعنى العلماء ، فكذلك لام التعريف الداخلة على اسم الجنس وهيئة الجمع ، غاية ما في الأمر أنّ لام التعريف الداخلة على اسم الجنس تشير إلى ما هو المتعيّن في الذهن نتيجة أحد المناشئ المذكورة في محلّها ، أما لام التعريف الداخلة على الجمع فتشير إلى ما هو المتعيّن في الخارج من مراتب الجمع ، إذ أنّ المتعيّن من مراتب الجمع

ص: 286

وإن أمكن تصوّره في مقام الواقع إلاّ أنه غير مراد حتما في مقام الاستعمال ، إذ أنّ للجمع تعيّن في مقام الواقع والذهن عند المتكلّم ، ولكن لا سبيل إلى معرفته ما لم تقم قرينة خاصّة عليه ، وقيام القرينة الخاصّة عليه خارج عن محلّ البحث.

وبعبارة أخرى : إنّ المتعيّن من مراتب الجمع في مقام الواقع هو إمّا مرتبة الثلاثة أو الأربعة وهكذا ، ولكن هذا لا يعني تعيّنه في مقام الخارج وعند المخاطب ، إذ أنّه من أين له معرفة ما هو المراد في مقام الاستعمال من هذه المراتب ، وهذا بخلاف المرتبة الأخيرة للجمع والتي تقتضي الاستيعاب لتمام أفراد مدخول اللاّم فإنها هي المتعيّنة في مقام الاستعمال إذ أنها هي التي تنطبق على تمام المراتب ولا يكون أيّ تردد فيها إذ أنّها لو لم تكن هي المرادة لكان المخاطب متردّدا في استظهار ما هي المراتب المرادة من الجمع هل هي مرتبة الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة؟ وهكذا ، وهذا التردد ينافي كون اللام قد وضعت للإشارة والتوجيه إلى ما هو المتعيّن والمعهود عند المخاطب إذ أنّه كيف يكون تعين ومعهودية والحال أنّ المخاطب متردد في أيّ المراتب هي المرادة من الجمع المدخول للاّم.

ومن هنا يتّضح أن اللاّم لا تدلّ مباشرة على الاستيعاب لتمام أفراد مدخولها ، بل إنها تدل عليه بواسطة أنّ التعين الذي تشير إليه اللام لا يمكن أن يكون إلاّ المرتبة الأخيرة من الجمع القاضية بإرادة تمام أفراد الطبيعة.

وبما ذكرناه تعرف فساد ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه في مقام الردّ على هذا الاتجاه ، حيث ذكر رحمه اللّه أنّ الإشارة إلى المتعيّن الذي ادّعي دلالة اللام عليه لا تقتضي المرتبة الأخيرة إذ من الممكن أن تكون اللام مشيرة

ص: 287

إلى ما هو المتعيّن من المراتب الأخرى للجمع إذ أنّ التعيّن والمعهوديّة موجودة في تمام المراتب للجمع.

وبعبارة أخرى : إنّ ذهن المخاطب يحتفظ برؤية متكاملة عن مرتبة الثلاثة مثلا من حيث عدد وحدات هذه المرتبة وموقعها بين المراتب وما هو حقيقة هذه المرتبة ، وهكذا سائر المراتب للجمع.

وأنت خبير أنّ هذا ليس هو مقصودنا من التعيّن الذي تشير إليه لام التعريف الداخلة على الجمع ، إذ أن مقصودنا هو التعيّن في مقام الاستعمال والذي هو تحديد ما هي الأفراد المشمولة للجمع وما هي الأفراد الخارجة ، ومن الواضح أنّ أيّ مرتبة من مراتب الجمع غير المرتبة الأخيرة لا تتمكّن من تحديد ذلك ؛ إذ أن التردد فيما هو المراد وما هي الأفراد المشمولة للجمع يبقى على حاله ، وهذا بخلاف المرتبة الأخيرة فإنّها إذا كانت هي المشار إليها بلام التعريف فإنّها كفيلة برفع التردد وموجبة لتحديد ما هو المراد.

وهذا هو المناسب للام التعريف بعد أن قلنا إنها موضوعة للإشارة إلى ما هو معهود ومتعيّن عند المخاطب.

ص: 288

المفاهيم

تعريف المفهوم :

عرّف المفهوم بأنّه انتفاء وانعدام سنخ الحكم وطبيعيّه بانتفاء قيده المذكور في المنطوق.

وهذا التعريف يستوجب بيان أمور :

الأمر الأوّل : إنّ المراد من المنطوق هو المدلول المطابقي للكلام بحيث تكون دلالة الكلام مستفادة من نفس الملفوظ بمواده وهيئاته التركيبيّة ، فحينما يقال ( زيد عالم ) فإن لهذه الجملة مدلولا مطابقيّا وهو ثبوت العالمية لزيد ، وهذا المدلول استفيد من نفس مواد هذه الجملة وهيئاتها التركيبيّة وليس هناك دالّ على ثبوت العالميّة لزيد غير ما نطق به من ألفاظ بهذا الترتيب الخاص.

ومع اتضاح معنى المنطوق يتّضح أنّ كلّ دلالة تستفاد في عرض هذا المدلول أو في طولها فهي ليست من المنطوق ويطلق المناطقة على مثل هذه المدلولات المدلولات الالتزاميّة.

الأمر الثاني : إنّ المراد من طبيعي الحكم هو الحكم الكلّي الجامع لأفراده والذي يكون في موقع الحقيقة المشتركة بينها فهو بمثابة اسم الجنس الصادق على أفراده صدق الكلي على مصاديقه ، فكما أنّ انتفاء طبيعي

ص: 289

الأسد يقتضي انتفاء وانعدام جميع أفراده ، فكذلك انتفاء طبيعي الحكم يقتضي انتفاء جميع أفراده.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الأحكام حقائق متباينة ، كلّ حكم يمثّل نوعا له حدوده المانعة عن تداخله مع غيره ، فالوجوب حقيقة وطبيعة متباينة تمام التباين مع حقيقة الحرمة وهكذا سائر الأحكام ، وإذا كان كذلك فالحكم حقيقة كلّية يكون لها أفراد متسانخة ومتماثلة من حيث اشتراكها في حقيقة واحدة وإن كان كلّ فرد منها له مشخّصاته الخاصة به ، فوجوب الإكرام بملاك الفقر غير وجوب الإكرام بملاك العلم ، ووجوبه بملاك العلم غير وجوبه بملاك القرابة ، إلاّ أنّ هذه الوجوبات الشخصيّة تشترك في حقيقة واحدة هذه الحقيقة هي المعبّر عنها بطبيعي الوجوب ، فلذلك يكون الفرق بين شخصي الوجوب وبين طبيعيه هو أنّ انتفاء شخص الوجوب لا يقتضي انتفاء فرد آخر للوجوب ، فحينما ينتفي وجوب الإكرام بملاك القرابة لا يكون ذلك مقتضيا لانتفاء وجوب الإكرام بملاك الفقر ، وهذا بخلاف انتفاء طبيعي الوجوب فإنّ ذلك يقتضي انعدام الوجوب بتمام أفراده وأشخاصه ؛ لأن الطبيعي لا ينتفي إلا عند انتفاء تمام أفراده ، فإذا قام الدليل على انتفاء الطبيعي فهذا يكشف عن انتفاء تمام أفراده.

الأمر الثالث : المراد من المفهوم في المتفاهم العرفي هو مطلق المدلول المنطبع في الذهن بقطع النظر عن منشئه إذ قد يكون المنشأ هو الأوضاع اللغوية وقد يكون المنشأ هو الإشارة وقد يكون المنشأ هو الملازمات العقلية أو العادية أو الطبعية للفظ ، وقد تكون المشاهد الخارجية التي تقع تحت الحواس وقد يكون منشأ ذلك هو التصوّرات النفسانية وقد يكون

ص: 290

غير ذلك ، فمثلا قوله تعالى : ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) (1) الظاهر أن الوسيلة التي فهّم بها سليمان علیه السلام هي الوحي.

إذن المفهوم بحسب استعمال أهل المحاورة هو مطلق المداليل والمعاني المستفادة من دوالّها ، ويبدو أنّ هذا المعنى بسعته للمفهوم هو المستعمل عند أهل المعقول ، ولذلك قال الحكيم السبزواري في مقام بيان ما هو المراد من الوجود :

مفهومه من أوضح الأشياء *** وكنهه في غاية الخفاء

الأمر الرابع : المدلول الالتزامي اللفظي هو المعنى الخارج عن اللفظ اللازم له ، وهذه الملازمة بين المدلول اللفظي والمدلول الالتزامي تنشأ عن علاقة واقتران بينهما في الذهن نتيجة ملابسات خاصة من قبيل تلازمهما في الواقع الخارجي أو يكون التلازم الذهني ناشئ عن علاقة يختلقها المتكلّم عن طريق استعمال أدوات لغويّة وضعت لإفادة الربط بين المعاني ، ولمّا كانت طبيعة العلاقة - بين كل ملزوم ولازمه - هو ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم وانتفاء اللازم عند انتفاء الملزوم ، فهذا يعني أنّ العلاقة التلازميّة التي اختلقها المتكلّم بواسطة أدوات الربط أراد منها الربط بين المعنيين في حالات الوجود والعدم.

ويمكن التمثيل لذلك بالجمل الشرطيّة التي وضعت لإفادة التلازم بين المشروط وشرطه في الوجود والعدم ، فتكون أداة الشرط مفيدة لثبوت المشروط ( اللازم ) عند ثبوت شرطه ( الملزوم ) وانتفاء المشروط عند انتفاء

ص: 291


1- سورة الأنبياء : آية 79

شرطه.

ومع اتّضاح هذه الأمور الأربعة نصل لبيان تعريف المفهوم في مصطلح الأصوليّين ، فنقول : إنّ المفهوم عندهم لا يباين المفهوم في المتفاهم العرفي ولكنّه أخصّ منه إذ أنّ المفهوم في مصطلح الأصوليّين يعني المدلول المستفاد من دالّ خاصّ ، إذ أنّه يعني المدلول المستفاد عن الربط بين الحكم المذكور في المنطوق وبين حالة خاصة للموضوع المذكور أيضا في المنطوق ، فإنّ هذا الربط المختلق - بواسطة أدواته الموضوعة لذلك - ينشأ علاقة تلازميّة بين الحكم المذكور في المنطوق وبين موضوعه المتحيّث بحيثيّة خاصة ، ومع تحقق الملازمة بينهما فهذا يقتضي انتفاء الحكم الملزوم بانتفاء هذه الحيثيّة ، وهذا الانتفاء عند الانتفاء هو المدلول الالتزامي وهو المفهوم باصطلاح الأصوليّين.

وهنا خصوصيّة إضافيّة مأخوذة في تعريف المفهوم عندهم ، وهذه الخصوصيّة هي أنّ المفهوم لا يتحقّق إلاّ بانتفاء طبيعي الحكم بانتفاء ما أخذ في الموضوع ، أمّا إذا كان المنتفي هو شخص الحكم ، فهذا لا يسمّى مفهوما عندهم.

وبما بيّناه يتّضح أنّ المفهوم يتحدّد بمجموعة أمور :

الأوّل : أنّه مدلول التزامي لفظي ، وبهذا الحدّ يخرج المنطوق ويخرج المدلول الالتزامي غير اللفظي.

الثاني : إنّ هذا المدلول هو انتفاء الحكم المذكور في المنطوق بانتفاء قيده ، وبهذا يخرج المدلول الالتزامي الذي لا يتوقّف على انتفاء الحكم المذكور في المنطوق ، مثلا إذن المالك لشخص بالمكث في داره يلازم الإذن

ص: 292

له بدخول بيت الخلاء ، فإنّ المدلول الالتزامي في المثال لا يعني انتفاء الإذن بالمكث في الدار ، وهذا بخلاف المفهوم المبحوث عنه في المقام فإنّه يعني انتفاء الحكم المذكور في المنطوق ، مثلا لو قال المتكلّم « إذا جاء زيد فأكرمه » فإنّ المدلول الالتزامي لهذه الجملة هو انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء مجيء زيد ، فنلاحظ أن المدلول الالتزامي في المثال هو عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق ، وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

الثالث : أن يكون المنفي عند انتفاء القيد المذكور هو طبيعي الحكم إذ قد يكون المنفي عند انتفاء الموضوع ( القيد ) هو شخص الحكم وذلك بواسطة قاعدة احترازيّة القيود.

فحينما يقال « أكرم زيدا الفقير » ، فإنّ انتفاء الفقر عن زيد وإن كان يوجب انتفاء الحكم وهو وجوب الإكرام إلاّ أنّ هذا المنفي إذا كان هو شخص الوجوب فإنّ هذا لا يقتضي انتفاء شخص آخر للوجوب بملاك القرابة أو العلم ، وهذا الانتفاء لشخص الحكم إنما نشأ عن قاعدة احترازيّة القيود والتي تعني تبعيّة الحكم لقيوده ، وهذا المقدار لا يحقق المفهوم إذ أنّ المنفي في المفهوم هو طبيعي الحكم ، وهذا يستدعي وجود خصوصيّة إضافيّة للربط بين الحكم في المنطوق وبين قيوده المأخوذة في المنطوق أيضا.

وهذا ما سنبحث عنه في ضابطة المفهوم.

قوله رحمه اللّه : « تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود » ، والتي تقتضي انتفاء المقيد عند انتفاء قيده ، ومنشؤها أنّ القيد بمثابة الموضوع ، والأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، فمتى ما انتفى الموضوع ( القيد ) انتفى بتبعه الحكم

ص: 293

المجعول عليه ، فالمتكلّم حينما جعل الحكم منوطا بقيده فهذا يكشف عن أنّه أراد أن يكون القيد هو مدار وجود الحكم وانتفائه.

ضابطة المفهوم :

ولكي يكون المفهوم بحدوده متحقّقا لا بدّ أن يكون المنطوق متوفّرا على ركنين أساسيّين :

الركن الأوّل : أن يكون القيد المرتبط بالحكم في المنطوق علّة منحصرة للحكم بحيث لا يقوم شيء مقام القيد لتحقيق الحكم.

وبعبارة أخرى : لا بدّ أن تكون الجملة متهيّئة بهيئة يستظهر منها العرف كون الربط بين الحكم وقيده ربطا عليّا انحصاريّا بحيث ينفهم منها انتفاء الحكم المقيّد عند انتفاء قيده المأخوذ في المنطوق.

ومن الواضح أن انتفاء الحكم بانتفاء قيده يتقوّم بثلاث ركائز :

الأولى : وجود ملازمة بين الحكم وقيده.

الثانية : أن تكون هذه الملازمة بنحو العلّيّة.

الثالثة : أن تكون علّيّة القيد للحكم علّية انحصارية ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لأمكن أن ينتفي القيد ولا ينتفي معه الحكم لجواز أن يكون للحكم علّة أخرى.

الركن الثاني : أن يكون الربط في المنطوق بين كلّيّ الحكم وطبيعيّه وبين القيد إذ لو كان الربط بين شخص الحكم والقيد لكان ذلك يقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء قيده ، وهذا ليس من المفهوم المبحوث عنه.

وبعبارة أخرى : لا بدّ من أن تكون الجملة التي لها مفهوم ظاهرة في

ص: 294

أنّ الربط فيها إنما هو بين طبيعي الحكم وبين القيد حتى يكون انتفاء القيد مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم ؛ لأن هذا هو مقتضى الربط الواقع في المنطوق.

ومع توفّر هذين الركنين في أيّ جملة من الجمل يثبت المفهوم لتلك الجملة.

الإشكال على الركن الأوّل : وقد أورد المصنّف رحمه اللّه على الركن الأوّل إيرادين :

الإيراد الأول : ذكرنا في الركن الأول أنّ القيد المرتبط بالحكم لا بدّ من أن يكون علّة للحكم ، وهذا غير لازم في تحقق المفهوم ، إذ المفهوم يمكن أن يتحقّق لو كان القيد جزء علّة للحكم إذا كان جزء علّة منحصرة ، مثلا لو قال المتكلّم « إذا جاء زيد راكبا فأكرمه » فإنّ ظاهر الجملة أنّ العلّة لوجوب الإكرام مركّبة من جزءين ، الأول المجيء ، والثاني كون المجيء بهيئة الركوب ، فلو انتفى أحد الجزءين فإن هذا ينتج انتفاء الحكم ؛ وذلك لأن المنتفي هو جزء العلّة المنحصرة ، وهذا يكشف عن أنّ المنشأ لتحقق المفهوم هو انحصار تحقق الحكم بقيده سواء كان القيد الذي هو العلّة متّحدا أو متعدّدا ، وكذلك يكفي أن يكون أحد جزءي العلّة منحصرا وإن كان الجزء الآخر من قبيل جزء العلّة ذات البديل ، ففي مثالنا السابق لو استظهرنا أن الركوب جزء علّة لوجوب الإكرام ولكن بنحو جزء العلّة ذات البديل بحيث يمكن استبدالها بجزء علّة أخرى ولكنّ الجزء الآخر للعلّة وهو المجيء جزء علّة منحصرة أي لا يقوم مقامها شيء آخر فإنّ ذلك يكفي في تحقق المفهوم لهذه الجملة ، أي إذا افترضنا انتفاء جزء العلّة

ص: 295

المنحصر.

فهنا إذن معنيان للعلّة المنحصرة : الأولى : هي ما يقابل العلّة المركّبة من أجزاء متعدّدة كلّ جزء منها يمثّل جزء علّة ، الثانية : هي ما يقابل العلّة ذات البديل.

فالمعنى الأول هو عبارة عن العلّة البسيطة أي غير المركّبة من أجزاء.

المعنى الثاني : هي عبارة عن العلّة التي لا يقوم مقامها علّة أخرى في تحقيق المعلول فهي في مقابل العلّة ذات البديل وهي التي يمكن أن يقوم مقامها علّة أخرى لتحقيق نفس المعلول.

والذي يظهر من عبارة المصنّف رحمه اللّه أنّ الذي هو ليس أساسيّا في تحقق المفهوم هو المعنى الأول للعلّة المنحصرة إذ أنّه يمكن أن تكون العلّة مركّبة ولكنها إذا كانت منحصرة بالمعنى الثاني فهذا يكفي في تحقق المفهوم ، فالعبرة في تحقق المفهوم هو ألا تكون العلّة للحكم ذات بديل ، إلا أنه يمكن أن يكون المصنّف رحمه اللّه مريدا لصورة أخرى بالإضافة إلى ما ذكرنا وهو أنه لو كانت العلّة مركّبة وكان أحد أجزائها من قبيل العلّة ذات البديل فإنّ ذلك لا يضرّ في تحقق المفهوم إذا كان الجزء الآخر من قبيل العلّة المنحصرة بالمعنى الثاني ، إذ أنّ الانحصار المحقّق للمفهوم هو الانحصار بالمعنى الثاني ولو في جزء العلّة.

الإيراد الثاني : إن أصل العلّيّة غير معتبر في تحقق المفهوم ، إذ يكفي في تحقق المفهوم كون الحكم مرتبطا بالقيد ارتباطا وثيقا بحيث يكون ذلك الحكم متوقّفا على القيد توقّف اللازم على ملزومه إذ أن التوقف والتلازم

ص: 296

بين الشيئين لا يقتضي أن العلاقة بينهما علاقة العلّية دائما ، فقد تكون العلاقة بين المتلازمين ناشئة عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وقد تكون ناشئة عن تلازم علّتين في الوجود والعدم ينتجان معلولين يكون بينهما تلازم في الوجود والعدم أي كلّما أوجبت العلّة الأولى معلولها أوجبت العلة الأخرى معلولها ، وهذا ينتج التلازم بين المعلول الأول والمعلول الثاني.

ومثال الأول : التلازم بين الحرارة والإحراق رغم عدم وجود أي علّية بينهما بل إن كلاهما معلولان لعلّة واحدة هي النار.

ومثال الثاني : سقوط قرص الشمس وبروز القمر في الليالي المقمرة فإنّهما علّتان متلازمتان وجودا وعدما وينتجان معلولين متلازمين في الوجود والعدم وهما ذهاب النهار وضوء القمر.

ومن هنا قلنا إن الربط الذي تحدثه الجملة لا يستوجب أن يكون بنحو العلّية بل يكفي في هذا الربط أن يكون موجبا للتلازم بين الحكم وقيده.

بل إنّ التلازم بين الحكم وقيده غير ضروري في تحقق المفهوم إذ أنّه يكفي في تحقق المفهوم للجملة هو إفادتها توقف الحكم على قيده ولو اتفاقا ، أي ولو لم يكن بين الحكم وقيده تلازم واقعي ، إذ أن المناط في تحقق المفهوم هو استفادة التوقّف والتلازم من حاقّ المنطوق بقطع النظر عن واقع العلاقة بين الحكم وقيده ، فلو قلنا إن مجيء زيد متوقّف على مجيء عمرو دون أن يكون لذلك التوقّف أي سبب ، لكانت هذه الجملة مفيدة لانتفاء مجيء زيد عند انتفاء مجيء عمرو.

وبهذا يتّضح أن التلازم الواقعي بين الحكم وقيده وإن كان يوجب تحقق المفهوم إلا أن ذلك ليس هو المناط في تحقق المفهوم بل إن المفهوم

ص: 297

يتحقق بأقلّ من ذلك ، إذ يكفي فى تحقق المفهوم أن يكون الربط بين الحكم وقيده بنحو يكون الحكم متوقّفا على قيده ولو اتفاقا.

قوله رحمه اللّه : « ملتصقا بالشرط ومتوقّفا عليه » الواو هنا عطف تفسير ، فالتوقّف والالتصاق يعبّران عن معنى واحد وهو حالة التلازم ولو كان ذلك التلازم مختلقا ومعتبرا بواسطة الجملة وليس وراءه واقع أو ليس في الجملة ما يدل على عليّة أحدهما للآخر بنحو العليّة الانحصاريّة.

« مفهوم الشرط »
اشارة

وبعد أن اتضح ما هو المراد من المفهوم وما هي ضابطته يقع الكلام حول بعض الجمل التي ادعي دلالتها على المفهوم.

ولا بدّ أن يكون مسار البحث هو عن توفّر هذه الجمل على ضابطة المفهوم وعدم توفّرها عليها.

ونبدأ أولا بالجملة الشرطية والتي علّقت فيها قضية حمليّة على قضية حمليّة أخرى بطريقة خاصّة اقتضت انفهام التعليق عرفا ، ولذا لم يقع الإشكال في دلالة الجملة الشرطية على الربط والتعليق ، نعم وقع الكلام في ما هو الدال على الربط والتعليق فيها.

وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه في ذلك اتجاهين :

الاتّجاه الأول : هو أن الدال على الربط بين الشرط والجزاء هو أداة الشرط ، مثلا « إذا جاء زيد فأكرمه » هذه الجملة الشرطية دلّت على ربط

ص: 298

وجوب الإكرام بنحو التعليق على مجيء زيد ، وهذا التعليق والربط بين الشرط « وهو مجيء زيد » والجزاء « وهو وجوب الإكرام » استفيد من أداة الشرط وهي « إذا » في هذه الجملة إذ وضعت لإفادة هذا النحو من الربط.

وهذا هو الاتّجاه المعروف.

الاتجاه الثاني : وهو الذي تبناه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، وحاصله :

إن الدال على الربط بنحو التعليق بين الشرط والجزاء هو هيئة الجملة الشرطية حيث إنها وبهذه الكيفية الخاصة التي رتّب فيها الجزاء على الشرط مفيدة للنسبة الربطيّة التعليقيّة بين ركني الجملة وهما الشرط والجزاء ، وليس لأداة الشرط دلالة على الربط والتعليق بل إنها وضعت للدلالة على أن الشرط الذي هو مدخولها قد لوحظ مقدر الوجود وليس لمنشأ الجملة أيّ تصد لإحرازه خارجا بل إنّه افترضه افتراضا وعلّق عليه الجزاء بنحو القضية الحقيقية فأداة الشرط ليس لها دور إلا دور الدلالة على أنّ الجمل الشرطية مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة.

وكيف كان فالاتّجاهان متّفقان على دلالة الجملة الشرطية على الربط والتعليق ، إلاّ أنّ هذا المقدار غير كاف لإثبات المفهوم للجملة الشرطية بل لا بدّ من إثبات أنّ الجملة الشرطية متوفّرة على ضابطة المفهوم.

ومن هنا يقع البحث في الجملة الشرطية عن جهتين :

الجهة الأولى : أن الحكم المعلّق على الشرط هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم؟ ولا بدّ من إثبات أن المعلّق على الشرط هو الطبيعي وإلا لم تكن الجملة دالّة على المفهوم.

ص: 299

وقد قرّبت دعوى كون المعلّق على الشرط هو الطبيعي بهذا التقريب ، وهو : أنّ مقتضى الإطلاق في الجزاء المعلّق على الشرط هو أن المعلّق طبيعي الحكم إذ لو كان المعلّق هو فرد خاص من الحكم لكان على المتكلّم أن يأتي بالقيد الدال على الحكم الخاص ، فعدم ذكر القيد - رغم أنّه في مقام بيان ما هو المعلّق على الشرط - كاشف عن عدم إرادة أي قيد في الحكم ، وهذا يقتضي إرادة طبيعي الحكم ، مثلا قول الإمام علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين » (1) أي صلاة الظهر وصلاة العصر ، فالإمام علیه السلام قد علّق وجوب الصلاتين على زوال الشمس ، والسؤال هو أنّ الوجوب الثابت للصلاتين هل هو طبيعي الوجوب أو شخص الوجوب بحيث يمكن أن تجب صلاة الظهر ، وكذلك العصر بموجب آخر غير زوال الشمس ، والجواب أنّ مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة أنّ المعلّق على زوال الشمس هو طبيعي الوجوب بحيث إذا انتفى الزوال تنتفي تمام أفراد الوجوب للصلاتين ، فلا موجب آخر لأيّ فرد من أفراد الوجوب ؛ وذلك لأنه لو كان المعلّق على الزوال هو فرد خاص من وجوب الصلاتين لكان على الإمام علیه السلام أن يذكر القيد الدالّ على ذلك ، إذ أنّ الإمام في مقام بيان ما هو المعلّق على الزوال فلمّا لم يذكر ما يدل على إرادة الفرد الخاص للوجوب كشف ذلك عن عدم إرادة القيد ، وهذا يعني إرادة طبيعي الوجوب للصلاتين.

ص: 300


1- معتبرة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، وسائل الشيعة : الباب 4 من أبواب المواقيت الحديث 21.

وبهذا البيان اتّضح توفّر الجملة الشرطية على الركن الأول للمفهوم.

الجهة الثانية : أنّ الشرط المعلّق عليه الجزاء هل يظهر منه أنه علة انحصاريّة للجزاء وأنه لا توجد علة أخرى للجزاء أو لا؟

فإن تم إثبات ظهور الشرط في العليّة الانحصارية ثبت أنّ للجملة الشرطية مفهوم.

وقد طرحت لإثبات ذلك محاولتان.

المحاولة الأولى : إنّ الدال على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء هو أداة الشرط ، ومنشأ دلالتها على ذلك هو الوضع ، وإذا كان كذلك فاستعمال أداة الشرط في حالة كون الشرط علة غير منحصرة يعني أنه استعمال لها في غير ما وضعت له « الأداة » وهو يقتضي مجازيّة الاستعمال.

ومن هنا نشأ الإشكال على هذه الدعوى إذ أنّ الوجدان قاض بفسادها ، فالعرف لا يرى أيّ تسامح وتجوّز في استعمال أداة الشرط في مورد لا يكون فيه الشرط علّة منحصرة للجزاء مما يكشف عن عدم مجازية استعمال الأداة في حالات عدم كون الشرط علّة منحصرة.

المحاولة الثانية : - لإثبات أنّ الشرط علة منحصرة للجزاء - وهي أنّ إثبات العليّة الانحصاريّة للشرط تتم بثلاث دوال يشكلون بمجموعهم ظهورا في انحصار الجزاء بالشرط :

الدالّ الأول : هي أداة الشرط ومدلولها الوضعي هو التلازم بين الشرط والجزاء دون تحديد هويّة هذا التلازم ، فلو كنّا وهذا المقدار لما كان للجملة الشرطيّة أيّ دلالة على أكثر من كون الجزاء لازما للشرط ، أمّا أنّ هذا اللزوم هو لزوم علّي أو غير علّي وعلى فرض ثبوت العلّية فهل هي

ص: 301

علّية انحصاريّة أو لا؟ فهذا خارج عن مفاد الأداة.

الدالّ الثاني : هي فاء التفريع - والتي يقع الجزاء مدخولا لها - ومدلولها الوضعي هو علّية الشرط للجزاء ، إذ أنّ هذا هو مقتضى تفرّع الجزاء عن الشرط ، وتفرع شيء عن شيء يعني أن المتفرّع عنه علّة للمتفرّع ، « فالفاء » تدل على التفريع والتفريع يقتضي العلّية كما ذكرنا.

وما ذكرناه من دلالة « الفاء » وضعا على التفريع لا فرق فيه بين كون الفاء مذكورة أو مقدّرة.

الدالّ الثالث : وهو الإطلاق في الشرط فإنّه دالّ على الانحصار وعدم وجود بديل يحقّق الجزاء ؛ وذلك لأن الشرط المذكور إمّا أن يكون علّة منحصرة للجزاء وإما أن يكون العلّة للجزاء هو أو غيره ، ولمّا كان المتكلّم في مقام بيان ما يوجب الجزاء ويحقّقه فهذا يستوجب ذكر كل ما يحقق الجزاء ، فإذا لم يذكر إلاّ هذا الشرط فهذا يقتضي عدم وجود شرط آخر يمكن أن يحقق الجزاء إذ لو كان موجودا ومع ذلك لم يذكره - وهو في مقام بيان ما يوجب ويحقق الجزاء - لكان ناقضا لغرضه.

وبهذا البيان يثبت أنّه لا يوجد شرط آخر يكون بديلا عن الشرط المذكور ، وهذا هو الانحصار المطلوب إثباته.

وبهذه الدوالّ الثلاثة يثبت أن الشرط في الجملة الشرطيّة علّة منحصرة للجزاء.

ومن أجل أن يتّضح المطلب أكثر نطبّق هذه الدوال الثلاثة على هذا المثال « إذا جاء زيد فأكرمه » ، فأداة الشرط « إذا » دلّت على التلازم بين الشرط وهو « المجيء » والجزاء « وهو وجوب الإكرام ».

ص: 302

و « الفاء » التي دخلت على الجزاء دلّت على تفرّع الجزاء وهو وجوب الإكرام على الشرط وهو المجيء ، وتفرّع الوجوب على المجيء دالّ على أنّ المجيء علّة للوجوب.

ثم إن مقتضى الإطلاق في الشرط - وهو مجيء زيد - يثبت الانحصار ؛ وذلك لأنه لو كان للشرط بديل يوجب الجزاء لذكره المتكلّم إذ أنه في مقام بيان ما يحقق وجوب الإكرام ، فعدم ذكر بديل للشرط كاشف عن عدم وجوده ، وهذا هو الانحصار في الشرط الذي نروم إثباته.

وبهذا تكون الجملة الشرطيّة دالّة على المفهوم لتوفّرها على كلا الركنين المعتبرين في تحقّق المفهوم في الجمل.

الشرط المسوق لتحقق الموضوع :

يمكن تصنيف الشرط في الجملة الشرطيّة إلى قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يثبت لموضوع الحكم مع إمكان زواله عن الموضوع ، ومع ذلك يبقى الموضوع منحفظا.

وبتعبير آخر : يكون الشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع المتقرّر في مرحلة سابقة عن عروض الشرط عليه ؛ فلذلك لا يكون للشرط دخالة في وجود الموضوع ، بل إنّه إذا اتفق عروضه على الموضوع يثبت الحكم للموضوع ، مثلا : ( إذا كان زيد فقيرا فتصدّق عليه ) فوجوب التصدّق ثبت لموضوعه وهو زيد بواسطة عروض الشرط عليه ، وهذا الموضوع متقرّر وثابت بقطع النظر عن الشرط ، فهو لا يساوي الشرط وجودا وعدما ، فقد يوجد زيد ولا يكون فقيرا ، وقد يثبت له الفقر ثم

ص: 303

يزول عنه.

فإذا كانت علاقة الشرط بموضوع الحكم من هذا القبيل فالجملة الشرطية لها مفهوم.

القسم الثاني : أن يكون الشرط مساويا لموضوع الحكم وجودا وعدما ، فحيثما وجد الشرط وجد معه الموضوع ، وحيثما انعدم الشرط انعدم معه الموضوع ، فليس للموضوع تقرر وثبوت في صورتي وجود الشرط وعدمه ، وهذا النحو من الشروط في الجمل الشرطية قد يكون غير الموضوع إلاّ أنّه مساو للموضوع في الوجود والعدم وقد يكون هو عين الموضوع ، وفي كلا الحالتين لا يكون للجملة الشرطية مفهوم ؛ وذلك لأنّ المفهوم - كما قلنا - هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، فإذا كان الموضوع منتفيا بانتفاء الشرط أو كان الشرط هو الموضوع فأيّ موضوع نبحث عن انتفاء الحكم عنه ، وهل هو إلاّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع؟!

وبعبارة أخرى : إنّ الثمرة التي نستفيدها من المفهوم هي أنّ الحكم في ظرف انتفاء الشرط منتف عن الموضوع فإذا لم يكن هناك موضوع في ظرف انتفاء الشرط فلا حاجة للمفهوم في إثبات انتفاء الحكم لأنّ الحكم في مثل هذه الحالة منتف حتما لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، نعم لو كان للموضوع تقرر وثبوت حتى في ظرف انتفاء الشرط يكون للمفهوم فائدة إذ قد ينتفي الشرط ولا ينتفي الحكم عن الموضوع فيكون دور المفهوم هو إثبات انتفاء الحكم عن موضوعه في ظرف انتفاء الشرط.

ويمكن التمثيل للشرط المساوي للموضوع بهذا المثال : ( إن رزقت

ص: 304

ولدا فاختنه ) فإنّ الموضوع مساو للشرط المعلّق عليه الأمر بالختن وهو أن يرزق المكلّف ولدا.

فإنّ عدم رزق اللّه المكلّف للولد معناه عدم الولد أي عدم الموضوع ، وبهذا ينتفي الحكم وهو الأمر بالختن بانتفاء موضوعه وهو الولد ، وذلك لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها وليس انتفاء الحكم بسبب المفهوم إذ أنّ المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند انتفاء الشرط.

« مفهوم الوصف »
اشارة

ومن الجمل التي ادعي دلالتها على المفهوم هي الجمل الوصفيّة.

والمراد منها مطلق الجمل التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود ، وليس للمفهوم الذي ادعي دلالة الجمل الوصفيّة عليه اختصاص بالجمل النعتية في مصطلح النحاة ، بل يشمل كل قيد موجب لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم ، فلذلك فهو يشمل الحال والتمييز والإضافة وغيرهما مما يوجب التضييق في موضوع الحكم أو متعلّقه.

ومثال ما فيه تضييق لموضوع الحكم قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) (1) فإنّ الصيد هو موضوع الحكم في الآية الكريمة وقد ضيّقت دائرة هذا الموضوع بقيد وهو البحر ، وبه أصبح موضوع الحكم ( الحلّية ) غير شامل لصيد البر.

ص: 305


1- سورة المائدة : آية 96

ومثال ما فيه تضييق لمتعلّق الحكم قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) فإنّ الاعتداء هو متعلق الحكم وقد ضيّقت دائرته بقوله تعالى : ( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وبه أصبح متعلّق الحكم غير شامل للاعتداء بأكثر أو بغير سنخ الاعتداء الواقع على المخاطب.

وبعد اتّضاح موضوع البحث يقع الكلام في دلالة الجمل الوصفيّة على المفهوم ، وقد ذكر لإثبات ذلك وجهان :

الوجه الأوّل : أنّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم أو متعلّقه إما أن تكون دخيلة في ترتّب الحكم على الموضوع أو المتعلّق وإمّا ألا تكون دخيلة في ذلك ، وعدم دخالتها مناف لما هو مقتضى الظهور العرفي ، إذ أن المتفاهم من أخذ قيد في موضوع أنّ ذلك القيد دخيل في ترتّب الحكم على موضوعه ، بمعنى أن الحكم لا يثبت لو اتفق انتفاء قيد الموضوع كما هو الحال لو قدّر انتفاء أصل الموضوع ، مثلا قول الإمام الصادق علیه السلام « لا تأكل اللحوم الجلاّلة » (2) فإنّ الظاهر من أخذ القيد في موضوع الحكم « اللحوم » أنّ ذلك القيد « الجلاّلة » دخيل في ترتّب الحرمة على الموضوع.

والإشكال على هذا الوجه : هو أن هذا المقدار لا يفي بإثبات المفهوم للجمل الوصفيّة ؛ وذلك لأنّ غاية ما يثبته هذا الوجه هو انتفاء شخص

ص: 306


1- سورة البقرة : آية 194
2- معتبرة هشام بن سالم ، وسائل الشيعة : الباب 15 من أبواب النجاسات الحديث 1

الحكم بانتفاء القيد المأخوذ في الموضوع أو المتعلّق ، ولذلك يمكن أن يثبت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد.

وبعبارة أخرى : إنّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد إنما نشأ عن قاعدة احترازيّة القيود القاضية بتطابق المدلول التصوري مع المدلول التصديقي الجدّي أي أنّ كل مدلول وضعي تصوّري مستفاد مما ذكره المتكلّم فهو مراد جدّي له ، فإذا ذكر المتكلّم قيدا لموضوع حكمه ، فهذا القيد مراد جدّا أي أنّ قصد المتكلّم جعل القيد دخيلا في ترتّب الحكم ، وهذا يقتضي انتفاء الحكم بانتفاء ذلك القيد إلاّ أنّ الحكم المنتفي بانتفاء القيد هو شخص الحكم المذكور في الخطاب ؛ ولذلك يمكن أن يثبت مثل ذلك الحكم لنفس الموضوع المجرّد عن ذلك القيد سواء كان ثبوت مثل الحكم بقيد آخر أو بدون قيد أصلا ، والمفهوم الذي نبحث عن دلالة الجملة الوصفيّة عليه هو انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء القيد ، والذي يقتضي انتفاء تمام أفراد الحكم عن الموضوع حين انتفاء القيد ، ففي المثال الذي ذكرناه وهو قول الإمام علیه السلام « لا تأكل اللحوم الجلالة » لو انتفى الجلل عن اللحم ، فهذا يقتضي انتفاء شخص الحرمة المذكورة في هذا الخطاب إلا أنّ ذلك لا يعني انتفاء الحرمة على اللحوم غير الجلالة مطلقا ، فقد تثبت الحرمة للّحم بملاك آخر وهو كون اللحم من موطوء الإنسان أو ممن تغذّى على لبن خنزيرة ، وهذا بخلاف المفهوم فإنّه يقتضي انتفاء طبيعي الحرمة عن اللحم إذا انتفى عنه قيد الجلل.

الوجه الثاني : أن ذكر القيد لو لم يكن دالا على انتفاء طبيعي الحكم بانتفائه ، لكان أخذه في الموضوع أو المتعلّق لاغيا ، وهو مناقض لما هو

ص: 307

المفترض من حكمة المتكلّم.

وحتى لا يحمل فعل المتكلّم على ما هو مناف لمقتضى الحكمة لا بد من حمل كلامه على إرادة المفهوم وأنّ المنتفي عند انتفاء القيد هو طبيعي الحكم.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّه لو كان المنتفي عند انتفاء القيد هو شخص الحكم فقط لكان ذلك يقتضي إمكان ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن ذلك القيد ، فلو كان الموضوع المجرّد محكوما بمثل ذلك الحكم فما معنى أن يأتي المتكلّم بخطابين يثبت للموضوع المقيّد فردا من الحكم ويثبت للموضوع المجرد فردا آخر مثله ، وهل هذا إلا من قبيل الأكل من القفا! إذ كان بإمكان المتكلّم أن يأتي بخطاب واحد يدل بإطلاقه على ثبوت الحكم للموضوع الشامل للفرد المقيّد.

فلو أن وجوب الإكرام ثابت للعالم المجرّد عن العدالة فلا معنى لأن يأتي المتكلّم بخطابين يجعل في الأوّل وجوب الإكرام للعالم العادل ويجعل في الآخر وجوب الإكرام للعالم المجرّد عن العدالة ، إذ يكفيه أن يأتي بخطاب واحد يدل بنحو الإطلاق على وجوب الإكرام للعالم الشامل للعادل وغير العادل.

والجواب عن هذا الوجه :

إن هذا الوجه غير قادر أيضا على إثبات المفهوم - بالمعنى المبحوث - للجملة الوصفية إذ أنّ المفهوم الذي نبحث عن ثبوته للجملة الوصفيّة هو انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء قيده بحيث لا يثبت مثل الحكم - ولو بنحو الموجبة الجزئيّة - للموضوع حين انتفاء قيده ، وغاية ما ينتجه هذا الوجه هو أن مثل الحكم للجمل الوصفيّة لا يثبت للموضوع مطلقا في حالات

ص: 308

انتفاء القيد ، وهذا يعني إمكان ثبوت مثل الحكم للموضوع في بعض حالات انتفاء القيد وذلك لأن عمدة ما يرتكز عليه هذا الوجه هو أنّ مثل الحكم لو كان يثبت للموضوع في حال انتفاء القيد لما كان لذكر القيد أيّ فائدة ، فإذا ما ثبت أنّ لذكر القيد فائدة - حتى مع افتراض ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد - وهي عدم ثبوت مثل الحكم في بعض حالات انتفاء القيد فإنّ هذا الوجه يكون حينئذ عاجزا عن إثبات المفهوم للجملة الوصفيّة بالمعنى المبحوث.

وبتعبير آخر : إنّ المسلّم به أن يكون لذكر القيد فائدة وإلاّ لم يؤخذ في موضوع الحكم ، إلا أنّه لا يتعيّن أن تكون فائدة القيد هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد المذكور ، فإنّه يمكن أن تكون فائدة من ذكر القيد هي انتفاء مثل الحكم في بعض حالات انتفاء القيد عن الموضوع فلا يكون ذكر القيد وعدم ذكره سواء ، ومن الواضح أنّ هذا المقدار لا يثبت المفهوم الذي هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد ، نعم بناء على هذا الوجه يكون ذكر القيد معبّرا عن أنّ مثل الحكم لا يثبت للموضوع مطلقا في حالات انتفاء القيد بل لا بدّ أن تكون هناك حالات للموضوع - عند انتفاء القيد - لا يكون مثل الحكم ثابتا لها ، وبهذا يكون ذكر القيد صالحا للدلالة على انتفاء مثل الحكم عند انتفائه لكن بنحو الانتفاء الجزئي ، ففي الرواية التي ذكرناها وهي قول الإمام علیه السلام « لا تأكل اللحوم الجلالة » تكون فائدة ذكر القيد « الجلالة » هو أنه لا يمكن أن يثبت مثل الحكم لمطلق الموضوع « اللحوم » عند انتفاء القيد ، إذ يصبح ذكر القيد عندئذ بلا فائدة ، إلا أنّ هذا الوجه عاجز عن إثبات انتفاء طبيعي الحرمة عن اللحوم عند انتفاء قيد

ص: 309

الجلل.

وبما بيّناه يتّضح أن للجملة الوصفيّة مفهوما ولكن بنحو جزئي أي أن الجملة الوصفيّة تنفي ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد في بعض حالاته ، إلا أنّ هذه الحالات لا تكون مشخصة عندنا فلذلك يكون كل مورد ثبت فيه مثل الحكم للموضوع لا يكون منافيا للمفهوم في الجملة الوصفية ، نعم في حالة واحدة يحصل التنافي بين الجملة الوصفية وبين الجملة التي ثبت فيها مثل الحكم للموضوع ، وهذه الحالة هي ما لو كان مثل الحكم ثابتا للموضوع بنحو مطلق ، أي أنه لو كانت الحرمة في المثال ثابتة لمطلق اللحوم وبدون استثناء فإنّ هذا ينافي ذكر القيد في الجملة الوصفية ، أما لو ثبت مثل الحكم للحوم التي تكون من موطوء الإنسان أو مما تتغذّى على لبن خنزيرة فإنّ ذكر القيد للجملة الوصفيّة لا يكون منافيا لذلك.

أقسام الجملة الوصفية : ثم إنّ الجملة الوصفيّة تارة يصرّح فيها بذكر الموصوف ، وهذا ما تمّ الحديث عنه ، وتارة لا يصرّح فيها بذكر الموصوف بل يقتصر على ذكر الوصف كما في قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (1) فإنّ الآية الكريمة لم تصرّح بذكر الموصوف وهو النساء بل اقتصرت على ذكر الوصف وهو المطلّقات.

والوجه الأول الذي ذكرناه في مقام الاستدلال على ثبوت المفهوم للجمل يمكن تعديته لهذا القسم من الجمل الوصفيّة ، والجواب هو الجواب.

ص: 310


1- سورة البقرة : آية 228

وأما الوجه الثاني فلا يمكن الاستدلال به على هذا القسم ؛ وذلك لأن الوصف حينئذ يكون هو موضوع الحكم في الجملة ، فيكون لذكره فائدة وهي ترتّب الحكم عليه ، فيكون الموضوع الفاقد لهذا الوصف مسكوتا عنه فعلا.

ومن هنا لا يكون انتفاؤه دالا - ولو في الجملة - على انتفاء مثل الحكم للموضوع المجرّد عن الوصف ، فقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (1) لا يقتضي انتفاء وجوب التربّص عن النساء اللاتي لم يكنّ مطلّقات فيمكن أن يتوجّه لهن خطاب بوجوب التربّص مطلقا أو حينما يوطأن وطأ شبهة مثلا.

ص: 311


1- سورة البقرة : آية 228

ص: 312

جمل الغاية والاستثناء

ومن الجمل التي ادّعي دلالتها على المفهوم الجمل الغائية والجمل الاستثنائية والبحث فيهما يقع عن انتفاء طبيعي الحكم بانتهاء الغاية التي حدّد بها الحكم ، وكذلك انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المستثنى عنه الحكم.

ويمكن التمثيل للحكم المغيّى بغاية بقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) فإنّ وجوب الصوم المستفاد من صيغة الأمر قد حدّد بغاية وهي الليل ، والبحث يقع عن أنه بعد بلوغ الغاية هل ينتفي طبيعي الوجوب للصوم عن المكلّف بحيث يكون بلوغ الغاية مقتضيا لانعدام تمام أفراد الوجوب للصوم.

ويمكن التمثيل للحكم المستثنى عن موضوع بما لو قال المولى « إن الصلاة واجبة على كل ذكر وأنثى إلاّ الصبيان » فإنّ الحكم بوجوب الصلاة مستثنى عن الصبيان ، أي أنّ أداة الاستثناء أفادت عدم شمول الحكم لمدخولها « الصبيان ».

ولمزيد من التوضيح نقول : إن المراد من الاستثناء هو إخراج بعض

ص: 313


1- سورة البقرة : آية 187

أفراد موضوع عن أن تكون مشمولة للحكم المجعول على ذلك الموضوع ، فالأفراد المستثناة مشمولة للموضوع أساسا إلا أنها خارجة عنه حكما.

فالجملة الاستثنائية مشتملة على ثلاثة أركان :

الركن الأول : المستثنى منه : وهو الموضوع الكلّي والذي يمثّل الحقيقة المشتركة لأفراده ، وهو الذي يقع موضوعا للحكم ، وهو في مثالنا الذكر والأنثى.

الركن الثاني : المستثنى : وهي بعض أفراد الموضوع المجعول له الحكم إلاّ أنّها خرجت بواسطة الاستثناء وهو في مثالنا ( الصبيان ) فهم وإن كانوا

مشمولين لموضوع الحكم إلاّ أنهم خرجوا عن الموضوع حكما.

الركن الثالث : أداة الاستثناء : وهي الأدوات الموضوعة لإفادة إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم الواقع على الموضوع المستثنى منه وذلك مثل : ( إلاّ ) و ( سوى ) و ( عدا ).

ومع اتضاح هذا نقول : إنّ المنفي عن المستثنى هل هو طبيعي الحكم الثابت للمستثنى منه أو أنّ المنفي هو شخص الحكم بحيث يكون وجوب الصلاة المنفي عن الصبيان هو شخص الوجوب الثابت في هذا الخطاب ، ويمكن أن يثبت فرد آخر للوجوب يشمل الصبيان أو يخصّهم.

ومن الواضح أننا إذا أردنا أن نثبت للجمل الاستثنائيّة وكذلك الغائية مفهوما لا بدّ أن نثبت أنّ الحكم المنفي عن المستثنى وكذلك الحكم المنفي عن موضوعه بعد بلوغ الغاية هو طبيعي الحكم لا شخصه إذ أنّ انتفاء شخص الحكم عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية متحقّق حتما ، وذلك لقاعدة احترازيّة القيود والتي تعني أنّ كل ما يذكره المتكلّم يريده جدّا ،

ص: 314

وهذا يقتضي دخالة تلك القيود المذكورة في ترتّب ذلك الحكم وإذا كان كذلك فالحكم لا يترتّب إذا انتفت تلك القيود ، إلاّ أنّ الحكم الذي لا يترتّب مع عدم تلك القيود هو شخص الحكم المذكور في ذلك الخطاب إذ أنّه قد يثبت مثل ذلك الحكم بخطاب آخر ولداع آخر.

ولذلك لا يعوّل المثبتون للمفهوم في الجمل الغائية والاستثنائية على قاعدة احترازيّة القيود ، بل إنهم يستدلّون بدليل آخر وهو الوجه الثاني الذي ذكرناه في مفهوم الجمل الوصفيّة ، وحاصله : أنّه لو كان الحكم المنفي عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية هو شخص الحكم بحيث يكون مثل الحكم ثابتا للمستثنى والموضوع بعد تحقّق الغاية ولكن بخطاب آخر لكان ذلك أشبه بالعمل العبثي الذي ليس له أيّ مبرّر عقلائي ، إذ ما معنى أن تخرج بعض الأفراد عن الحكم وأن يغيّى الحكم بغاية ثم يثبت مثل ذلك الحكم للمستثنى وللموضوع بعد تحقق الغاية ، إذ كان بإمكان المتكلّم أن يجعل الحكم من البداية على الموضوع بنحو مطلق بحيث يشمل المستثنى منه والمستثنى ، وأن يجعل الحكم على الموضوع دون أن يجعل للحكم غاية ثم يجعل مثله بعد بلوغ الغاية.

وهذا الوجه وإن كان وجيها إلاّ أنّه لا يثبت المفهوم بالمعنى الذي ذكرناه إذ أنّ أقصى ما يثبته هذا الوجه هو انتفاء طبيعي الحكم عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية بنحو السالبة الجزئيّة ، أيّ أنّ طبيعي الحكم لا بدّ أن يكون منتفيا عن بعض حالات المستثنى والموضوع بعد بلوغ الغاية بحيث لا يثبت الحكم لبعض حالاتهما ولو بخطاب آخر وملاك آخر ، ولهذا يكون للاستثناء والغاية مبرّر ، ففي مثالنا الأول يكون المبرّر للغاية هو أنّ

ص: 315

طبيعي وجوب الصوم منتف عن الموضوع وهو المكلّف بعد بلوغ الغاية في بعض حالات الموضوع ، ولتكن تلك الحالة التي ينتفي فيها طبيعي الوجوب هي حالة عدم وجود ملاك خاص لوجوب الصوم بعد الغاية ، ومن الواضح أنّه لا يكون ذكر الغاية حينئذ عملا عبثيا ولغويّا بل يكون الغرض منه الاحتراز عن مثل هذه الحالة.

وكذلك الكلام في المثال الثاني فإنّ مبرّر الاستثناء هو أنّ طبيعي الوجوب للصلاة منتف عن بعض حالات المستثنى ولتكن تلك الحالة هي عدم وجود ملاك خاص يوجب الصلاة على الصبيان ، وهذا لا يقتضي أكثر من انتفاء الطبيعي عن تلك الحالة ولا يمنع من ثبوت مثل الوجوب للصلاة على الصبيان في حالات خاصّة مثل التمرين.

قوله رحمه اللّه : « لحكم مغيّى » أي رجوع الغاية إلى الحكم ، فالغاية هي الأمد أو المكان المحدّد ، والمغيّى هو المحدود بذلك الزمن أو المكان ، فحينما يقال : ( نام زيد إلى الليل ) فالليل هو الغاية والنوم هو المغيّى ، أي أنّ لنوم زيد حدّا هو الليل والنوم محدود بالليل ، وظاهر عبارة المصنّف رحمه اللّه أنّ المغيّى والمحدود بالغاية هو الحكم إلاّ أنّه جاء بمثال يتناسب مع كون المغيّى هو متعلّق الحكم حيث مثل بقوله : ( صم إلى الليل ) فالليل غاية وحد للصوم لا لوجوب الصوم إلاّ أن يقال أنّ الغاية راجعة إلى الحكم المستفاد من هيئة فعل الأمر ( صم ) فتكون الغاية راجعة إلى الحكم المستفاد من المعنى الحرفي ، وهذا مبني على إمكان تقييد المعاني الحرفيّة.

وبيان ذلك : أنّ الغاية قد ترجع إلى الموضوع وقد ترجع إلى المتعلّق وقد ترجع إلى الحكم.

ص: 316

أمّا مثال رجوع الغاية للموضوع فقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) ، فالغاية في الآية الكريمة وهي مدخول « إلى » راجعة إلى الأيدي وهي موضوع وجوب الغسل فيكون مفاد الآية الكريمة إنّ الذي يجب غسله هو ما بين المرفق والأصابع.

وأمّا مثال رجوع الغاية إلى المتعلّق ، فقوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (2) ، فإنّ المغيّى في هذه الآية الكريمة هو متعلّق الأمر وهو القرب ، والغاية هي الطهر.

وأوضح منه قوله تعالى : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) (3) ، فإنّ الغاية في هذه الآية الكريمة راجعة إلى المتعلّق في الأمر الأول والثاني وهما العفو والصفح.

وأمّا مثال رجوع الغاية إلى الحكم ، فقوله علیه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (4) ، فإنّ الغاية في هذه الرواية الشريفة راجعة إلى الحكم وهو الجواز.

ثم إنّ الذي يظهر من عبائر المصنّف رحمه اللّه في تقريرات بحثه هو أنّ رجوع الغاية إلى الحكم تارة يكون مستفادا من مفهوم اسمي كما في المثال الذي ذكرناه وتارة يكون مستفادا من الهيئة والنسبة التامّة ، وعلى هذا يمكن

ص: 317


1- سورة المائدة : آية 6
2- سورة البقرة : آية 222
3- سورة البقرة : آية 109
4- مرسلة الصدوق ، وسائل الشيعة : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 67

أن تكون الغاية في قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) ، وكذلك قوله تعالى : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) (2) ، راجعة إلى الحكم المفاد بواسطة هيئة الفعل المضارع المدخول للا الناهية وهيئة فعل الأمر.

وكيف كان فالمسألة غير محسومة عند الأعلام « رضوان اللّه عليهم » وقد جرينا في الشرح على طبق ما استظهرناه من عبارة المصنّف رحمه اللّه وأنّ الغاية راجعة إلى الحكم والذي يهوّن الخطب أنّ المصنّف رحمه اللّه أراد أن يجعل الطالب في الصورة فحسب.

ص: 318


1- سورة البقرة : آية 222
2- سورة البقرة : آية 109

التطابق بين الدلالات

اشارة

ذكرنا فيما سبق أنّ هناك ثلاث دلالات للكلام ، والدلالة الأولى منها دلالة وضعيّة مستفادة من الوضع ، وهذه الدلالة تتحقّق بسماع اللفظ حتى من غير ذي الشعور وحتى مع العلم بعدم إرادة اللافظ للمعنى الموضوع له ذلك اللفظ ، وهذه الدلالة هي المعبّر عنها بالدلالة التصوّرية والتي توجب انقداح المعنى في الذهن بمجرّد إطلاق اللفظ.

وأمّا الدلالتان الثانية والثالثة فمستفادتان من الظهور الحالي السياقي للمتكلّم ؛ فلذلك لا تتعقّل هاتان الدلالتان إلاّ من المتكلّم العاقل الملتفت لما يقول ، وهاتان الدلالتان يعبّر عن الأولى منهما بالدلالة التصديقية الأولى ، وهي الموجبة لإحراز كون المتكلّم قاصدا لإخطار المعنى الموضوع له ذلك اللفظ المستعمل.

ويعبّر عن الثانية بالدلالة التصديقية الثانية ، وهي التي توجب إحراز كون المتكلّم جادّا في الحكاية عمّا أخطر من معان بواسطة ألفاظها الموضوعة لإفادتها ، وبهذا تختلف عن الدلالة التصديقية الأولى ، إذ أنّ غاية ما تثبته هذه الدلالة هو أنّ المتكلّم قاصد لإخطار المعنى من اللفظ حتّى ولو كان هازلا إذ أنّ الهازل قاصد أيضا لإخطار المعاني إلاّ أنّه ليس جادّا في الحكاية عمّا أخطره من معان.

ص: 319

ومع اتضاح الفرق بين الدلالات الثلاث نصل إلى ما هو الغرض من عقد هذا البحث ، وهو البحث عن ما هو المرجع في حالات الشك في إرادة المتكلّم وأنّه هل أراد المعنى الموضوع له اللفظ وهل قصد الحكاية عنه أو أنه أراد معنى آخر غير المعنى الحقيقي وقصد الحكاية عن معنى آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ « الحقيقي »؟

فأولا : نبحث عمّا هو المرجع في حالات الشك في الإرادة الاستعمالية ، وهل أن المتكلّم استعمل اللفظ في معناه الحقيقي وقصد إخطار المعنى الحقيقي أو لا؟

فنقول : إن المخاطب حينما يتلقّى كلاما من متكلّم عاقل ملتفت فإنّ له ثلاث حالات ، فتارة يحرز إرادة المتكلّم لإخطار المعنى الموضوع له اللفظ ، فالاستعمال هنا حقيقي ، وتارة يحرز أنّ المتكلّم أراد معنى آخر غير المعنى الموضوع اللفظ وحينئذ يكون الاستعمال مجازيّا ، والحالة الثالثة يقع الشك في إرادة المتكلّم ، وأنّه هل أراد من اللفظ معناه الموضوع له أو أراد معنى آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ.

وهذه الحالة لا تتصوّر إلا مع فقدان القرينة على ما هو المراد ، وعندئذ يقع البحث عمّا هو المرجع في هذه الحالة ، فهل المرجع هو أصالة الحقيقة أو أنّ الإرادة الاستعمالية تكون في مثل هذه الحالة مجملة؟

والجواب : أنّ المصنّف رحمه اللّه - وكما هو المذهب المعروف - ذهب إلى أنّ المرجع في هذه الحالة هو أصالة الحقيقة والتي تعني أصالة التطابق بين الدلالة الوضعية التصورية والدلالة التصديقية الأولى ، وأن المتكلّم حين يستعمل اللفظ ، فإنه قاصد لإخطار معناه الموضوع له ذلك اللفظ ، فإنّ

ص: 320

استعمال اللفظ في المعنى المجازي يحتاج في إثباته إلى قرينة ، ولمّا كان فرض الكلام عدم وجود قرينة على المجاز فأصالة الحقيقة هي المحكّمة في مثل هذه الحالة ، وبهذا ينعقد ظهور لحال المتكلّم بأنّه مريد لإخطار المعنى الحقيقي من اللفظ.

وإذا تنقّح الظهور في الدلالة التصديقية الأولى يقع الكلام عن استظهار الدلالة التصديقية الثانية.

والمتلقي للّفظ المستعمل هنا أيضا له ثلاث حالات ، فتارة يحرز عدم جدّية المتكلّم في الحكاية عن ما أخطره من معان بواسطة ألفاظها ، وتارة يحرز جديّته في ذلك ، والحالة الثالثة يشك في إرادته الجدّية وعدم إرادته ، وفي مثل هذه الحالة يتمسّك بأصالة ظهور حال المتكلّم في أنّه جادّ في الحكاية عما أخطره من معان ؛ وذلك لأصالة التطابق بين الدلالتين التصديقة الأولى والثانية ، إذ أنّ الظاهر عرفا من حال كل متكلّم أنه جادّ في الحكاية عن مقاصده ، وهذا هو المعبّر عنه بأصالة الظهور.

وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه تطبيقين لأصالة الظهور :

التطبيق الأول : أصالة الظهور في العموم : فإنّه بعد تنقّح ظهور حال المتكلّم - المستعمل لأحد ألفاظ العموم - في أنّه قاصد لإخطار معنى العموم يقع البحث عن ظهور آخر وهو أنّ المتكلّم جادّ في الحكاية عما أخطره من معنى العموم ، وهذا الظهور هو الذي يمكن ترتيب الأثر عليه ، والاحتجاج به على المتكلّم ، وكذلك احتجاج المتكلّم به على المخاطب.

وهذا الظهور ينعقد بواسطة أصالة التطابق بين الدلالة التصديقية الأولى وبين الدلالة التصديقية الثانية ، وأن كلّ متكلّم جاء بلفظ العموم

ص: 321

وقصد منه إخطار معناه في ذهن المخاطب ولم ينصب قرينة على عدم الإرادة الجديّة للعموم ، فإنّ أهل المحاورة يبنون على أن المتكلّم مريد جدّا لواقع العموم ، لذلك فهم يرتبون آثار العموم حتى في موارد عدم قيام القرينة الخاصة على إرادة العموم ، ومنشأ هذا التباني هو أنّه لمّا كان ظاهر حال المتكلّم قصد إخطار معنى العموم من لفظه سبّب ذلك انعقاد ظهور آخر لحال المتكلّم في أنّه مريد جدّا لمعنى العموم ولو لم يرد ذلك لكان عليه أن ينصب قرينة على عدم التطابق بين مراده الاستعمالي ومراده الجدّي ، أمّا مع عدم نصب القرينة فالمحكّم هو أصالة التطابق والتي هي أصل عقلائي تبانى عليه أهل المحاورة في كلّ لغة ، ولو لا ذلك لما انعقد ظهور لكلام أي متكلّم إلا في موارد محدودة ، إذ أن أكثر مرادات المتكلّمين تعرف بواسطة هذا الأصل.

فلو قال المولى : « تصدّق على كل الفقراء » واستظهرنا من حاله أنّه قاصد لإخطار معنى العموم من لفظه ولم تقم قرينة على عدم جدّيّة المولى فيما أخطره فإنّ ذلك يستوجب ظهورا آخر لحال المولى هو أنّه مريد جدّا لمعنى العموم.

وهذا الظهور هو المعبّر عنه بأصالة الظهور في العموم وهو حجّة أي أنه منجّز ومعذّر على ما سيأتي إثبات ذلك في بحث حجّية الظهور إن شاء اللّه تعالى.

التطبيق الثاني : أصالة الجهة : ويستفاد من هذا الأصل العقلائي في موارد الشك في الإرادة الجديّة للمتكلّم من حيث إنّ الكلام هل صدر تقيّة أو لبيان الواقع.

ص: 322

وهذا الأصل لا يختلف عن أصالة الظهور في المراد الجدّي للمتكلّم بل هو عينه ، غاية ما في الأمر أننا تارة نستفيد منه نفي التخصيص فنعبّر عنه بأصالة الظهور في العموم وتارة نستفيد منه نفي التقييد فنعبّر عنه بأصالة الظهور في الإطلاق وتارة أخرى نستفيد منه نفي التقية فنعبّر عنه بأصالة الجهة وهكذا.

وبهذا يتّضح أنّ التقريب المذكور في أصالة الظهور في العموم جار هنا أيضا ، فلو قال المولى : ( أكرم العلماء ) وشككنا في المراد الجدّي للمولى من حيث إنّ هذا الخطاب هل صدر لبيان الحكم الواقعي أو أنّه صدر تقيّة ، فإنّ أصالة الجهة - والتي تعني أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي - تنفي صدور هذا الخطاب تقيّة ، وبذلك يتنقّح ظهور لحال المولى بأنّه جادّ في ما أخطره من معنى في هذا الخطاب ، وهذا الظهور حجّة يجب ترتيب الأثر عليه.

دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث :

عرفنا - ممّا سبق - أنّ الدلالة التصوّريّة الناشئة عن الوضع تظلّ ثابتة حتّى في موارد العلم بعدم إرادة المتكلّم للمعنى الموضوع له اللفظ المستعمل ، إذ أنّ الدلالة التصوريّة لمّا كانت ناشئة عن الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى فإنّ هذا الاقتران يوجب انسباق المعنى للذهن بمجرّد إطلاق اللفظ دون أن يتوقّف تصوّره على شيء آخر غير إطلاق اللفظ ، ولذلك لو قامت القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة على عدم إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي ، فإنّ ذلك لا يؤثّر على تحقّق الدلالة التصوّرية بل إنّ الذهن يتصوّر المعنى

ص: 323

الحقيقي من لفظه وإن كان لا يترتّب على هذا التصوّر أيّ أثر من قبيل إدانة المتكلّم بما أفاده من معنى تصوّري.

وأمّا الدلالة التصديقية الأولى وكذلك الثانية فإنّه لا ينعقد لهما ظهور في حال قيام القرينة المتّصلة على عدم الإرادة الاستعمالية أو الإرادة الجديّة ، فلو قامت القرينة المتّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ المستعمل فإنّه لا ينعقد ظهور في الإرادة الاستعمالية والتي هي الدلالة التصديقية الأولى بل إنّ الظهور ينعقد في المعنى الذي تقتضيه القرينة المتّصلة.

وكذلك الكلام لو قامت قرينة على عدم الإرادة الجدّية فإنّه لا ينعقد ظهور في الدلالة التصديقيّة الثانية ، بل إنّ الظهور يكون مع مدلول القرينة المتّصلة.

أمّا لو قامت القرينة المنفصلة على عدم الإرادة الاستعماليّة أو الإرادة الجديّة فإنّ الظهور في الدلالة التصديقية الأولى وكذلك الثانية يظلّ على حاله دون أن ينهدم بالقرينة المنفصلة.

وبهذا تكون القرينة المنفصلة منافية للظهور في الدلالتين ، فلا بدّ من الجمع بين ما هو مقتضى الظهور في الدلالتين وبين ما هو مقتضى ظهور القرينة المنفصلة ولا بدّ أن يكون الجمع متناسبا مع ما هو المتفاهم العرفي.

ولنذكر مثالا نطبّقه على ما ذكرناه من دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث :

لو قال المتكلّم : ( رأيت أسدا يرمي ) فإنّ ( يرمي ) قرينة متّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي للفظ الأسد ، إلاّ أنّ ذلك لا يؤثّر على الدلالة

ص: 324

التصورية الوضعية ، بل إنّ استعمال لفظ الأسد موجب لتصوّر معناه وإن كنّا نعلم بعدم إرادته استعمالا وجدا.

وأمّا الظهور في الإرادة الاستعمالية وكذلك الإرادة الجديّة للمعنى الموضوع له لفظ الأسد ، فإنّه لا ينعقد ، وذلك لاقتران الكلام بما يصرفه عن المعنى الحقيقي إلى ما يتناسب مع مقتضى القرينة.

ولو كانت القرينة ( يرمي ) جاءت في كلام آخر بأن قال المتكلّم أولا : ( رأيت أسدا ) ثم قال بعد ذلك ( وكان الأسد الذي رأيته يرمي ) فإنّ الظهور في الإرادة الاستعماليّه وكذلك الجدية لا ينهدم بعد انعقاده ، بل يبقى على حاله ، ولذلك يحصل نوع تناف بين ما هو مقتضى الظهور في الدلالتين ( الاستعماليّة والجديّة ) وبين ما هو مقتضى ظهور القرينة المنفصلة ، وهنا لا بدّ أن يكون الجمع بين الظهورين متناسبا مع ما هو مقتضى الفهم العرفي.

ص: 325

ص: 326

مناسبات الحكم والموضوع

إنّ الأحكام المجعولة على موضوعاتها أو متعلّقاتها تكون عادة مجعولة على حالة من حالات ذلك الموضوع أو المتعلّق أو على حيثيّة من حيّثيّاتهما ، وهذه الحيثيّة الملحوظة تارة تستوجب تعميم الحكم وتارة تستوجب التضييق من دائرته ، غاية ما في الأمر أنّه قد يصرّح في الخطاب بالحيثيّة التي انصبّ الحكم على الموضوع أو المتعلّق بلحاظها وقد لا يصرّح بذلك اتكالا على ما هو مرتكز في ذهن أهل المحاورة من تناسب بين الموضوع وبين الحكم المجعول عليه ، فنلاحظ العرف - ونتيجة لملابسات خارجيّة أو مستفادة من أجواء الخطاب أو من مناشئ أخرى - يلغي في بعض الأحيان بعض خصوصيّات الموضوع ، وفي أحيان أخرى يجزم بالخصوصيّة ، وفي حالات يعدّي الحكم من موضوعه المذكور في الخطاب إلى موضوعات أخرى ، وهكذا.

كل ذلك ناشئ عن أنّ مناسبات بين الحكم والموضوع نشأت - كما قلنا - عن ملابسات خارجيّة من قبيل عدم إمكان ثبوت الحكم للموضوع من جهة معيّنة ، ويمكن التمثيل لذلك بما روي عن أبي الحسن علیه السلام أنّ كلثم بنت مسلم ذكرت الطين عند أبي الحسن علیه السلام فقال : « أترين أنّه ليس من مصائد

ص: 327

الشيطان ، ألا إنّه لمن مصائده الكبار وأبوابه العظام » (1) ، فإنّ المستظهر من هذه الرواية هو حرمة الطين إلاّ أنّ الحيثيّة التي جعلت عليها الحرمة غير مصرّح بها في الرواية إلاّ أنّه من غير الممكن أن تكون الجهة الملحوظة في الموضوع هي وطأ الطين مثلا.

أو تكون مستفادة من أجواء الخطاب كما في قوله علیه السلام : « حرّمت الخمرة لإسكارها » (2) ، فإنّ الموضوع وهو الخمرة لها حيثيّات كثيرة من قبيل المعاوضة عليها ومن قبيل الاحتفاظ بها وهكذا ، إلا أنّ التعليل المذكور في الخطاب يناسب أن يكون الحكم مجعول على الشرب إذ هو الذي يوجب الإسكار دون بقيّة حيثيّات الموضوع.

أو تكون مستفادة عن معرفة المناطات والملاكات التي يعوّل عليها المولى في جعل الأحكام لموضوعاتها ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (3) ، فإنّ موضوع الحرمة له حيثيّات كثيرة ، كالنظر واللمس والتكلّم وهكذا ، إلاّ أنّ العرف لمّا كان مطّلعا على محبوبيّة الشارع للنظر إلى الأم برحمة ، ومحبوبيّة خدمتها المستلزمة للمسها والتحدّث معها وهكذا سائر الحيثيّات ، فإنّ العرف إما أن يكون مطّلعا على مطلوبيّتها أو عدم مبغوضيّتها ، أو يكون مطّلعا على مبغوضيّتها إلا أنها ليست خاصة بعنوان الأم ، كلّ ذلك أوجب استظهار أنّ الحيثيّة التي انصبّ عليها الحكم بالحرمة هي حيثيّة النكاح.

ص: 328


1- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9
2- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9
3- سورة النساء : آية 23

وبهذا يتّضح أن مناسبات الحكم والموضوع تنشأ عن قرائن خاصّة إلا أنها ليست من قبيل القرائن اللفظية بل هي من قبيل القرائن الحاليّة أو المقاميّة.

ولمزيد من التوضيح نذكر بعض التطبيقات :

التطبيق الأوّل : لو قال المولى « اغسل ثوبك من دم ذي النفس السائلة » ، فإنّ العرف يلغي خصوصيّة الثوب ويرى أنّ الحكم بالنجاسة ثابت لمطلق الملاقي للدم ، وإنما ذكرت الثوب لغرض التمثيل لمطلق الملاقي للدم.

وهذا التعميم المستظهر عرفا من المثال نشأ عن مناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المثال وإن لم يصرّح فيه بالحيثيّة الملحوظة في الموضوع حين جعل الحكم عليه إلاّ أنّ استبعاد العرف وجود خصوصيّة للموضوع المذكور في الخطاب أوجب استظهار كون الحيثيّة المذكورة في الموضوع المذكور هي التمثيل.

ومنشأ استظهار المثاليّة واستبعاد الخصوصيّة هو ظهور الخطاب في أنّ الأثر الشرعي للدم هو التنجيس وإذا كان كذلك فأيّ فرق بين الثوب وبين سائر ما يلاقيه الدم.

التطبيق الثاني : قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (1) فإنّ العرف يفهم من الحرمة الثابتة للميتة هي حرمة أكلها.

ومنشأ فهم العرف اختصاص الحرمة بالأكل هي مناسبات الحكم

ص: 329


1- سورة المائدة : آية 3

والموضوع وذلك لأن الأكل هو الفائدة الغالبة المتصوّرة من لحم الميتة.

التطبيق الثالث : قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن أمّتي ... ما اضطرّوا إليه » (1) ، فكل فعل صدر عن المكلّف وكان منشؤه الاضطرار فإنّ ذلك الفعل قد رفعت آثاره الشرعيّة التي لو لم يكن المكلّف مضطرّا لترتّبت تلك الآثار على فعله ، فلو شرب المكلّف الخمر فإنّ الأثر الشرعي لهذا الفعل هو إقامة الحدّ عليه وعدم قبول شهادته ، لكنّ هذه الرواية الشريفة قد رفعت هذه الآثار في حالة صدور هذا الفعل من المكلّف اضطرارا ، إلاّ أنّه وبمناسبات الحكم والموضوع يستظهر العرف عدم ارتفاع الأثر الشرعي عن البيع الذي أجراه المكلّف اضطرارا ، فإنّ الأثر الشرعي للبيع وهو تملّك البائع للثمن يكون ملغيّا لو كنّا نحن والسعة اللفظية للرواية ، إلاّ أنّه وباعتبار أن إلغاء الأثر الشرعي للبيع يكون منافيا للامتنان على الأمّة فإنّ هذا يشكّل قرينة على عدم شمول الرفع لهذا المورد باعتبار أنّ مقتضى الظهور في الرواية هو أنها في مقام الامتنان على الأمة ، وإلغاء الأثر الشرعي لبيع المضطر لا يتناسب مع الامتنان ، فإنّ المضطر حينما يبيع ما عنده يقصد رفع الاضطرار عن نفسه ، فلو كانت آثار هذا البيع ملغية فإنّ هذا نقيض الغرض من الرفع الوارد في الرواية.

وببيان أوضح : لو أن المكلّف بلغ به الجوع حدّ الاضطرار ، فباع ما عنده واشترى بثمنه طعاما ، فلو كان البيع في هذه الحالة مشمولا لحديث الرفع ، فمعناه أنّ هذا البيع لاغ ولم يترتّب عليه تملّك المضطر للثمن ، فيكون

ص: 330


1- وسائل الشيعة : الباب 56 من أبواب جهاد النفس الحديث 1

عاجزا شرعا عن تملّك الطعام ، وهذا مناف للامتنان الذي أرادته الشريعة وكشفت عنه بواسطة هذه الرواية الشريفة ، وإذا كان كذلك فالرفع غير شامل لمثل هذه الموارد.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه أن العرف حينما يتلقى خطابا فإنّه يلاحظ نوعية الحكم المجعول في الخطاب ويلاحظ موضوع ذلك الحكم ثم يناسب بينهما اعتمادا على ما هو مركوز في ذهنه نتيجة ملابسات اقتضتها معرفته بملاكات الأحكام أو طبيعة الحكم المجعول أو اقتضتها أجواء الخطاب أو ما إلى ذلك.

ص: 331

ص: 332

إثبات الملاك بالدليل

ذكرنا - فيما سبق - أن الاماميّة « أعزّهم اللّه » يذهبون إلى أنّ أحكام اللّه تعالى تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، أي أن الأحكام الشرعية ليست أحكاما جزافيّة ، وإنما هي ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها ، فالحكم بحرمة شرب الخمر ناشئ عن مفسدة شديدة في متعلّق الحرمة « وهو الشرب » هذه المفسدة بلغت حدّا أنشأت مبغوضيّة بحجم تلك المفسدة ، ومن هنا نشأت الحرمة والتي تقتضي مسؤولية المكلّف عن ترك متعلّقها.

وهكذا سائر الأحكام الشرعيّة فإنّها ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها.

ومن هنا فالدليل الكاشف عن الحكم الشرعي كاشف بالملازمة عن ملاكه ، وهذا لا كلام فيه ، إنما الكلام لو اتّفق سقوط المدلول المطابقي في الدليل الشرعي ، أي سقط الخطاب بالحكم الشرعي بسبب تعذّر امتثاله على المكلّف مثلا أو مزاحمته بحكم أهم ملاكا منه ، فإنّ التكليف بما هو خارج عن القدرة أو التكليف بما هو مزاحم بحكم أهم ملاكا منه غير ممكن.

ومن هنا يسقط الخطاب بالحكم عن المنجّزيّة ، والكلام أنّه في حالة من هذا القبيل هل يسقط المدلول الالتزامي الكاشف عن وجود الملاك في

ص: 333

متعلّق الحكم أو أنه يظلّ ثابتا حتى في حالات سقوط الخطاب بالحكم والذي هو المدلول المطابقي للدليل.

وهذا البحث تظهر له ثمرة لو كان لوجود الملاك أثر شرعي كالقضاء مثلا.

مثلا لو قام الدليل على وجوب الصوم في نهار شهر رمضان فإنّ لهذا الدليل مدلولين ، الأول هو الحكم بالوجوب وهذا هو المدلول المطابقي للدليل ، والثاني هو اشتمال متعلّق الوجوب « الصوم » على الملاك ، فلو عجز المكلّف عن امتثال الحكم فإنّ المدلول المطابقي لهذا الدليل يكون ساقطا عن الحجيّة ، والمفروض أنه لا يتّسع لإفادة وجوب القضاء في حالة ارتفاع العجز ، إلا أنّه يقع الكلام في المدلول الالتزامي لهذا الدليل - وهو اشتمال الصوم على الملاك التام - من حيث إن سقوط المدلول المطابقي للدليل هل يوجب سقوط كاشفيّته على وجود الملاك أو أنّ سقوط المدلول المطابقي لا يستلزم سقوط المدلول الالتزامي بل يبقى الدليل الشرعي صالحا للكاشفيّة عن المدلول الالتزامي ، وبهذا لو كان لبقاء المدلول الالتزامي أثر - وهو وجوب القضاء مثلا في حالة ارتفاع العجز - لكان هذا الأثر مترتّبا ومقتضيا لثبوت القضاء على المكلّف.

والجواب في المقام يتحدّد بالنتيجة التي تبنّاها السيد الشهيد قدس سره في بحث تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجيّة ، حيث تبنّى السيد الشهيد هناك التبعيّة ، وأنّ سقوط المدلول المطابقي يستوجب سقوط المدلول الالتزامي ، وبهذا تكون كاشفيّة الدليل عن المدلول الالتزامي ساقطة عن الحجيّة ، وذلك للملازمة بين المدلولين في الثبوت والسقوط.

ص: 334

وبهذا لا تترتّب الثمرة إذ أنّ موضوعها - وهو ثبوت الملاك - غير متحقّق بناء على هذا المبنى.

وهذا بخلاف ما لو كان المبنى هو عدم التبعيّة في السقوط - وإن كان المدلول الالتزامي تابعا للمطابقي في الثبوت - فإنّه يمكن الاستفادة من بقاء المدلول الالتزامي لإثبات ترتّب الآثار الشرعيّة إن كانت هناك آثار.

واختلاف المبنى من حيث التبعيّة وعدمها مؤثّر أيضا في حالات استكشاف حكم بواسطة المدلول الالتزامي للدليل.

فلو قام الدليل على وجوب شيء فإنّ لازمه جواز ذلك الشيء ، وحينئذ لو نسخ الحكم المفاد بواسطة مدلول الدليل المطابقي فإنّه بناء على التبعيّة يسقط الحكم المستكشف بواسطة مدلول الدليل الالتزامي ، ومن هنا لا يكون ذلك الدليل صالحا لإثبات الجواز.

أما بناء على عدم التبعيّة ، فإنّ نسخ الحكم لا يستوجب سقوط دلالة الدليل على المدلول الالتزامي ، وبهذا يظلّ الحكم المستكشف بواسطة المدلول الالتزامي باقيا دون أن يؤثّر سقوط المدلول المطابقي في سقوطه.

ص: 335

ص: 336

الدليل الشرعي غير اللفظي

اشارة

ذكرنا - فيما سبق - أنّ الدليل الشرعي ينقسم إلى قسمين :

الأول : هو الدليل الشرعي اللفظي ، وهو الدليل الذي يستفاد منه الحكم الشرعي بواسطة الخطابات اللفظية ، كالقرآن الكريم ، والخطابات الصادرة عن المعصوم علیه السلام .

الثاني : هو الدليل الشرعي غير اللفظي ويمكن تصنيفه إلى قسمين :

الأول : وهو الدليل الذي يستفاد منه الحكم الشرعي بواسطة الموقف العملي الذي يمارسه المعصوم علیه السلام .

الثاني : وهو الدليل الذي يكشف عن الحكم الشرعي بواسطة تقرير المعصوم أو سكوته عن موقف عام أو خاص.

والبحث يقع عن الدليل الشرعي غير اللفظي بكلا قسميه.

القسم الأول : وهو دليليّة الموقف العملي الصادر عن المعصوم على الحكم الشرعي :

قبل بيان ما يستكشف من أحكام شرعيّة من فعل المعصوم لا بدّ من بيان مسألتين لهما دخل في دليليّة فعل المعصوم على الحكم الشرعي ، ومقدار تلك الدليليّة.

ص: 337

المسألة الأولى :

وهي أنّه قد يقال إنّ فعل المعصوم علیه السلام لا يمكن الاستدلال به على الحكم الشرعي ؛ وذلك لأنّ جميع أفعال المعصوم علیه السلام تحتمل الخصوصيّة باعتبار نبوّته أو إمامته ، وذلك الاحتمال يمنع من استكشاف الحكم الشرعي من أفعاله علیه السلام ، نعم لو قام دليل خاص على عدم اختصاص فعل من أفعاله به علیه السلام ، فإنّه في مثل هذه الحالة يمكن الاستدلال بذلك الفعل على الحكم الشرعي إلا أنّ ذلك يقتضي أنّ الحالة العامّة لفعل المعصوم هي عدم الدليليّة على الحكم الشرعي.

وبهذا تسقط دلالة فعل المعصوم علیه السلام على الحكم الشرعي إلاّ في موارد نادرة.

والجواب عن الإشكال :
اشارة

إلاّ أنّ هذا الإشكال غير تام ، وذلك لنفي الأدلّة لاحتمال الخصوصيّة في فعل المعصوم علیه السلام ، وأنّه يمارس أفعاله بما هو مكلّف من المكلّفين ، وتكون دليليّة فعله على الحكم الشرعي باعتبار كونه معصوما.

ومن الأدلّة التي استدلّ بها على نفي احتمال الخصوصيّة لفعل المعصوم علیه السلام قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تعني مطلوبيّة متابعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في كلّ ما يصدر عنه من أفعال ، وقد دلّت روايات كثيرة على مطلوبيّة الاستنان بسنّة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين علیهم السلام ، وبهذه الأدلّة ينتفي احتمال

ص: 338


1- سورة الأحزاب : آية 21

الخصوصيّة لفعل المعصوم علیه السلام ، فيكون اختصاص المعصوم بفعل يحتاج إلى دليل خاص وليس العكس.

المسألة الثانية :

إنّ دليليّة فعل المعصوم علیه السلام على الحكم الشرعي تتوقّف على إحراز الظروف المكتنفة بالفعل الصادر عن المعصوم علیه السلام ، إذ لا يمكن استكشاف حكم شرعي من فعل المعصوم علیه السلام مطلقا ، وذلك لاحتمال مدخليّة الظروف المكتنفة بالفعل الصادر عنه في تقرّر الحكم الشرعي ، وهذا الاحتمال لا دافع له بعد أن لم يكن الفعل دليلا لفظيّا تعرف من خلاله سعة موضوع الحكم أو ضيقه.

وبعبارة أخرى : دليليّة الفعل على الحكم الشرعي من قبيل الأدلّة اللبيّة التي لا لسان لها ، فلا طريق لاستكشاف الإطلاق منه ، ومن هنا يكون كل قيد يحتمل دخالته في ثبوت الحكم للموضوع فإنّ ذلك القيد المحتمل لا دافع له ولا سبيل إلى نفيه ، وهذا هو معنى دلالة الأدلّة اللبيّة على القدر المتيقّن من مدلولها ، فالإجماع مثلا لمّا كان دليلا لبيّا فإنّ معقده هو مقدار دليليّته لأنّه هو القدر المتيقّن منه ، ومن هنا قلنا إنّ كل الظروف المحيطة بالفعل الصادر من المعصوم علیه السلام لمّا كنّا نحتمل دخالتها في ثبوت الحكم لموضوعه ، ولا طريق لنفي هذا الاحتمال فإنّ ذلك يقتضي إحراز وحدة الظروف المحيطة بالفعل الصادر عنه علیه السلام من أجل تقييد الحكم المستكشف بها ، ومع عدم إحراز تلك الظروف فإنّ تمام القيود المحتملة تكون معتبرة في الحكم المستكشف عن الفعل إذ أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من دليليّة الفعل.

ص: 339

ومع اتّضاح هاتين المسألتين نصل لبيان ما يكشف عنه الفعل من أحكام شرعيّة فنقول :

إنّ الفعل الصادر عن المعصوم علیه السلام تارة يكون مكتنفا بما يدلّ على أنّ المعصوم في مقام التعليم للمكلّفين ، كقول الإمام علیه السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1) ، ثم أخذ في بيان الوضوء عملا ، أو كما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه قال قبل الشروع في مناسك الحج : « خذو منّي مناسككم » (2) وكقوله صلی اللّه علیه و آله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وكذلك لو قامت القرينة الحاليّة على أنّ المعصوم علیه السلام في مقام التعليم العملي للمكلّفين فإنّه في حالة من هذا القبيل تكون دلالة فعل المعصوم على الحكم الشرعي تابعة لمقدار دلالة تلك القرينة اللفظية أو الحاليّة ، وهذا خارج عن محل الكلام.

إنّما الكلام عمّا يكشف عنه الفعل المجرّد عن مثل هذه القرائن ، فنقول : إنّه تارة يراد استكشاف الحكم من فعل المعصوم وأخرى يراد استكشافه من ترك الفعل ، وكل من الفعل والترك تارة يصدر عن المعصوم في مورد أو موردين وتارة يكون بنحو المداومة والالتزام ، فيمكن تقسيم الفعل وتركه إلى أربعة أقسام :

القسم الأول : صدور الفعل عن المعصوم في موارد محدودة ، وهنا لا يدلّ ذلك الفعل على أكثر من عدم حرمة ذلك الفعل الصادر عنه علیه السلام ، فإنّ

ص: 340


1- وسائل الشيعة : الباب 15 من أبواب الوضوء الحديث 9
2- مستدرك الوسائل : 9 / 420 الباب 54

هذا هو مقتضى عصمته إذ أنّ العصمة لا تتنافى مع ارتكاب المكروه في حالات نادرة كما أنّ العصمة لا تستلزم عدم صدور غير المستحب عنه ، نعم لو كان الفعل الصادر عنه فعلا عباديّا فإنّ صدوره عنه يستلزم كونه راجحا شرعا ، إذ أنّ الفعل العبادي لا يخلو عن أحد حالتين إمّا أن يكون محرّما أو يكون راجحا ، فإذا صدر عن المعصوم علیه السلام فإنّ ذلك يقتضي مشروعيّته ، ومشروعيّة الفعل العبادي هي عين راجحيّته شرعا ، ومن هنا يكون الفعل العبادي الصادر عن المعصوم يكشف عن راجحيّته ، إلاّ أنّ استكشاف الراجحيّة هنا لا تستفاد من حاقّ الفعل الصادر عنه علیه السلام إذ أنّ صدور الفعل عنه لا يكشف عن أكثر من عدم الحرمة ، غاية ما في الأمر أن عدم الحرمة هنا تستلزم الراجحيّة الشرعيّة.

وما ذكرناه من عدم دلالة الفعل على أكثر من عدم الحرمة مبني على أنّ العصمة لا تقتضي عدم صدور الفعل المرجوح في موارد محدودة ، أمّا لو بنينا على أن المعصوم لا يصدر منه ما ينافي الأولى ولو في موارد محدودة فإنّ صدور الفعل عنه حينئذ يدلّ - بالإضافة الى عدم الحرمة - على راجحيّة ذلك الفعل ، ولو لم يكن من قبيل الأفعال العباديّة.

القسم الثاني : ترك المعصوم لفعل من الأفعال في موارد محدودة ، فهنا لا يدلّ تركه علیه السلام على أكثر من عدم الوجوب ، ودلالته على ذلك هو مقتضى عصمته ، فإنّ العصمة لا تقتضي عدم ترك المستحب في حالات نادرة ، نعم بناء على أنّ العصمة تعني عدم صدور مطلق المرجوح وعدم ترك مطلق الراجح ولو في موارد محدودة ، فإنّ ذلك يقتضي دلالة ترك الفعل على عدم راجحيّته.

ص: 341

القسم الثالث : صدور الفعل منه علیه السلام بنحو المداومة والالتزام ، وهذا يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال العباديّة ، وهذا النحو من الأفعال لا إشكال في دلالتها على الرجحان إذ أن صدورها عن المعصوم علیه السلام يدلّ على عدم حرمتها ، وعدم الحرمة في الأفعال العباديّة يساوق الرجحان - كما قلنا - ، وهذا النحو من الأفعال يدلّ على الرجحان مطلقا حتى لو كان صدور الفعل منه علیه السلام في موارد محدودة.

النحو الثاني : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي لا يقتضي الطبع العقلائي ممارسته بنحو المداومة والالتزام ، كالتحنّك في السفر ، أو الابتداء بالقدم اليسرى عند دخول بيت الخلاء ، فإنّ المداومة على فعل من هذا القبيل يكشف عن راجحيّته بناء على منافاة العصمة للمداومة على الفعل غير الراجح ، أما بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ارتكاب المحرّم فإنّ المداومة على الفعل كعدم المداومة عليه من حيث دلالته على خصوص نفي الحرمة عن الفعل الصادر.

النحو الثالث : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي يقتضي الطبع العقلائي مزاولتها بنحو المداومة ، مثل البيع أو الذهاب إلى السوق ، فهذا النحو من الأفعال يدلّ على نفي الحرمة ، وهو يدلّ على نفي المرجوحيّة أيضا بناء على اقتضاء العصمة عدم ارتكاب المعصوم علیه السلام مخالفة الأولى ، ويدلّ على الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على الفعل غير الراجح.

القسم الرابع : المداومة على ترك فعل من الأفعال ، فإن ذلك يدلّ

ص: 342

على عدم وجوبه بلا إشكال ، وهو يدلّ على عدم راجحيّة الفعل بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على ترك الراجح ، وكذلك يدلّ على عدم الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم ترك الراجح ولو في موارد محدودة ، أمّا بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ترك الواجب فإنّ المداومة على ترك الفعل كتركه في موارد محدودة من حيث إنّهما يشتركان في الدلالة على خصوص نفي الوجوب.

وما ذكرناه من دليليّة الفعل والترك على الحكم الشرعي إنّما هو في حالة عدم قيام الدليل الخاص على اختصاص المعصوم علیه السلام بذلك الفعل أو الترك ، كصلاة الليل ، وصوم الوصال ، والزواج بأكثر من أربع ، فإن الدليل الخاص دلّ على أنها من مختصّات النبي صلی اللّه علیه و آله . القسم الثاني : دلالة السكوت والتقرير :

فإنّ المعصوم علیه السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا أو عاما فيصرّح برأي الشريعة في ذلك الموقف ، فهنا تكون الدلالة على الحكم الشرعي من قبيل دلالة الدليل الشرعي اللفظي.

وقد يشاهد أمامه ذلك الموقف فلا يبدي تجاهه بأيّ تصريح لا سلبا ولا إيجابا بل يسكت عنه ، وهذا هو محلّ الكلام إذ يقع البحث عن دلالة سكوت الإمام علیه السلام عن ذلك الموقف على الإمضاء ، وأن ذلك الفعل يتناسب مع الغرض الشرعي أو لا ينافيه.

وقد استدلّ على ذلك بدليلين ، الأول منهما عقلي ، والآخر استظهاري :

ص: 343

أما الدليل العقلي :
اشارة

فقد ذكر له تقريبان :

التقريب الأول : هو أنّ المعصوم علیه السلام لمّا كان من سائر المكلّفين ، فهذا يقتضي مسؤوليّته عن النهي عن المنكر لو كان الفعل الذي شاهده منافيا للشريعة ، إذ أنّ النهي عن المنكر واجب على كلّ مكلّف ، والمعصوم علیه السلام لا يترك واجبا بمقتضى عصمته ، فعدم ردعه عن ذلك الفعل يستلزم عدم منافاة ذلك الفعل لما عليه الشريعة ، وهذا هو معنى دلالة السكوت عقلا على الإمضاء ، وكذلك يجب على المكلّفين تعليم الجاهل ، فلو لم يكن موافقا لما عليه الشارع المقدّس لنبّه الإمام علیه السلام على ذلك لأنّ ذلك هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ المعصوم علیه السلام لا يترك واجبا ، فعدم تنبيه الإمام علیه السلام على منافاة الفعل الذي شاهده لما عليه الشريعة يكشف عقلا عن عدم المنافاة.

وهذا التقريب - لو تمّ - فإنّه منوط بإحراز توفّر شرائط النهي عن المنكر حين مشاهدة المعصوم علیه السلام لذلك الموقف ، ويمكن التمثيل للصورتين بمثالين :

المثال الأوّل :

إن المعصوم علیه السلام لو شاهد رجلا يشرب العصير التمري ، ومع ذلك سكت ولم يردعه ، فإن ذلك يكشف عن عدم حرمته ، وإلاّ كان على الإمام علیه السلام بمقتضى وجوب النهي عن المنكر أن يردعه ، إذ أن عصمة الإمام علیه السلام تمنع من تركه للواجب.

ص: 344

المثال الثاني :

لو شاهد مكلّفا يمسح رأسه في الوضوء نكسا ومع ذلك لم ينبّه الإمام علیه السلام ذلك المكلّف على منافاة فعله لما هو المعتبر شرعا ، فهذا يقتضي عدم منافاة المسح نكسا لما هو المعتبر شرعا في الوضوء ، وإلاّ كان على الإمام علیه السلام بمقتضى وجوب تعليم الجاهل أن ينبّه المكلّف على منافاة فعله لما هو المطلوب شرعا ، وإلاّ كان الإمام علیه السلام مخالفا لفريضة من فرائض الدين ، وهذا لا يناسب العصمة.

التقريب الثاني : إنّ المعصوم لمّا كان مشرّعا ، فإن ذلك يقتضي عقلا عدم السماح بتفويت وتضييع أغراضه ، فسكوته عن الفعل إذا كان موجبا لتفويت أغراضه بما هو شارع يعني أنّ الإمام علیه السلام ينقض غرضه ويضيّعه بنفسه ، وهذا لا يتناسب مع عقلانيّته ، إذ أنّ الحكيم لا يضيّع غرضه بل يسعى للمحافظة على أغراضه ، وهذا التقريب - إذا تم - فإنّه منوط بإحراز ناقضيّة الفعل - على افتراض منافاته للشارع - لغرض الشارع إذ أنّ الفعل قد يكون منافيا لما عليه الشارع إلاّ أنّ ارتكابه لا يؤدي إلى تفويت أغراض الشارع.

ولمزيد من التوضيح نذكر لكل من الحالتين مثالا :

ونذكر أولا مثالا على كون السكوت لا يوجب نقض الغرض في بعض الحالات ، وهذا المثال هو : أنّ المعصوم علیه السلام قد يشاهد مكلّفا يمتنع عن ارتكاب فعل بتوهّم أنه حرّم شرعا وهو في واقعه مكروه ، فإنّ هذا الامتناع من المكلّف ينافي ما عليه الشارع إلا أنّ السكوت عنه لا يعدّ نقضا للغرض ، فلا يكون السكوت في حالة من هذا القبيل كاشفا عن الإمضاء.

ص: 345

وأمّا مثال ما يكون السكوت نقضا للغرض فهو مشاهدة المعصوم علیه السلام اعتماد المكلّفين على خبر الثقة في الوصول إلى الأحكام الشرعية ، فإنّ سكوته يكشف عن الإمضاء ، إذ أنّ ذلك لو كان منافيا لما عليه الشارع لكان السكوت نقضا للغرض ، فلو كان نظر الشارع هو عدم جواز الاعتماد على أخبار الثقات ومع ذلك سكت ولم ينبّه على عدم الجواز مع أنه يشاهد المكلّفين يعوّلون على خبر الثقة في مقام التعرّف على الأحكام الشرعيّة ، فهذا من أجلى مصاديق تفويت الغرض والذي هو مستحيل على العاقل الملتفت.

وكذلك لو كان العقلاء يرتّبون الأثر على خبر الثقة في شؤونهم اليوميّة ، وكانت هذه الممارسة تنذر بالسريان إلى الشرعيّات ، فإنّ عدم تنبيه الشارع على عدم صحّة الاتّكال على خبر الثقة في معرفة الأحكام الشرعيّة يعدّ نقضا للغرض المنفي عن العاقل الملتفت.

وأمّا الدليل الاستظهاري :

على دليليّة السكوت على الإمضاء ، فهو أنّ المعصوم علیه السلام لمّا كان منصوبا من قبل اللّه عزّ وجلّ لغرض تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس إلى الصواب في جميع سلوكيّاتهم وتقويم ما انحرف منها عن جادّة الحق اقتضى ذلك استظهار الإمضاء من سكوت المعصوم علیه السلام عن الردع عن ممارسة المكلّف لسلوك بمرأى منه علیه السلام .

ويمكن تنظير ذلك بالمشرف على عمل من الأعمال ، فإنّ العامل حينما يمارس وظيفته بمرأى من المشرف ومع ذلك يظلّ المشرف ساكتا رغم أنّه في

ص: 346

مقام تقويم الأخطاء التي يرتكبها العامل ، فإنّ العرف حينئذ يستظهر من حال المشرف الإمضاء لعمل العامل ، وإلاّ كان عليه بحكم كونه في مقام التقويم - أن ينبّه العامل على خطئه.

وإذا تم هذا الدليل الاستظهاري فهو لا يفتقر إلى إحراز شرائط النهي عن المنكر كما هو مقتضى التقريب الأول من الدليل العقلي ، كما لا يفتقر إلى إحراز ناقضيّة السكوت للغرض كما هو مقتضى التقريب الثاني من الدليل العقلي.

السيرة :

والبحث عن السيرة العقلائيّة بحث عن تنقيح أحد موضوعات دليليّة السكوت على الحكم الشرعي ، إذ أنّ المعصوم علیه السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا فيسكت عنه ، وقد يشاهد حالة اجتماعيّة وتبانيا عقلائيا عاما ، وهذا ما يعبّر عنه بالسيرة العقلائيّة ، ودليليّتها على الحكم الشرعي ترجع إلى دليليّة السكوت ، إذ أنّ المعصوم لو ردع عن هذه السيرة لسقطعت دليليّتها على الحكم الشرعي ، فمناط دليليّة السيرة هو سكوت المعصوم علیه السلام وعدم التنبيه على منافاتها للشريعة ، وهذا هو معنى ما يقال من أن مناط حجيّة السيرة العقلائيّة هو الإمضاء إذ أنّ الإمضاء غالبا ما يكون بواسطة السكوت ، وبهذا يتّضح أنّ ما استدلّ به على دليليّة السكوت على الحكم الشرعي جار في المقام ، غاية ما في الأمر أنّ المعصوم علیه السلام قد يمضي موقفا عمليا خاصا بواسطة السكوت ، وقد يمضي سلوكا عمليّا عاما.

ص: 347

فكلا الدليلين العقلي بتقريبيه والاستظهاري ، هما دليل إمضاء السيرة العقلائيّة ، فلا يكون البحث عن السيرة العقلائيّة بحثا مستقلا عن بحث دليليّة السكوت على الحكم الشرعي ، وإفراد السيرة العقلائيّة بالبحث ناشئ عن أن تنقيح موضوعيّتها لدليليّة السكوت يحتاج إلى شيء من البيان.

ومن هنا وقع البحث عن مقدار ما يقع منها موضوعا لدليليّة السكوت ، فهل أنّ الإمضاء المستفاد من السكوت واقع على خصوص التباني العملي العقلائي ، أو هو يتّسع ليشمل النكتة التي نشأ عنها ذلك التباني.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ السيرة العقلائيّة لا تنشأ جزافا بل إنّ لها مناشئ ومبرّرات تكون هذه المناشئ هي نكتة التباني على عمل معيّن ، ولذلك يكون كل مورد متوفّر على تلك المبرّرات مؤهلا للجرى عليه من قبلهم ، ويكون عدم الجري عليه في وقت من الأوقات مسبّب عن عدم الحاجة إليه في ذلك الوقت.

ويمكن التمثيل لذلك بالسيرة العقلائيّة الجارية على تقديم قول الأعلم في موارد الاختلاف ، فإنّ هذه السيرة لم تنشأ جزافا وإنما نشأت عن مبرّر وهو أقربيّة رأي الأعلم للواقع ، ولذلك يكون كل مورد متوفّر على هذه النكتة يصلح لأن يجري العقلاء على وفقه ، فلو كان رأي المشهور متوفّرا على هذه النكتة فهذا يعني صلاحيّة رأي المشهور للجري عليه من قبل العقلاء في موارد الاختلاف فيما هو الواقع.

وهنا أمر آخر لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو أن الإمضاء المستفاد عن

ص: 348

السكوت إذا كان واقعا على السيرة بنكتتها ، فهذا يقتضي ملاحظة النكتة ، وما تقتضيه من حكم تكليفي أو وضعي ، فلو كانت نكتة السيرة الجارية على الرجوع إلى قول الأعلم تقتضي لزوم الرجوع إلى الأعلم ، فهذا يعني أنّ الإمضاء كاشف عن حكم تكليفي إلزامي ، وهو وجوب الرجوع إلى الأعلم.

وكذلك لو كان إمضاء الشارع السيرة الجارية على الالتزام بالعقود المعاطاتيّة ، فإنّ ذلك يستوجب ملاحظة ما تقتضيه نكتة هذه السيرة ، فلو كانت النكتة هي تقبيح العقلاء مخالفة مقتضى العقود ، فإنّ ذلك يستلزم كون الإمضاء مفيدا لحكم وضعي وهو اللزوم في العقود المعاطاتيّة.

ومما ذكرناه يتّضح أنّ هناك ثمرتين تظهر من الفرق بين المبنيين :

الثمرة الأولى : أنّه إذا كان الإمضاء المستفاد عن السكوت واقعا على خصوص السيرة العمليّة بقطع النظر عن مبرّرها ، فهذا يقتضي الجمود على ما وقع التباني عليه ، ولا تكون لنكتة التباني أيّ حجيّة ، وهذا بخلاف ما لو كان الإمضاء واقعا على السيرة بمالها من مبرّرات ومناشئ ، فإنّ ذلك يعني أنّ الشارع قد أمضى كل مورد توفّر على تلك المبرّرات حتى ولو لم يكن هناك تبان فعلي جار في ذلك المورد ، مثلا : لو كان المبرّر لاعتماد العقلاء على خبر الثقة هو الوثوق ، فإنّه لمّا كان إمضاء الشارع لتلك السيرة يعني إمضاءه لكبرى هذه السيرة - وهي الوثوق - فإنّ ذلك يقتضي إمضاء كل مورد توفّر على كبرى تلك السيرة ، فخبر الضعيف لو احتفّ بقرائن موجبة للوثوق فإنّ هذا الخبر يكون ممضى لتوفره على الكبرى الكلّية وهي الوثوق ، والتي استفيد إمضاؤها من إمضاء الشارع للسيرة الجارية على

ص: 349

العمل بخبر الثقة ؛ وذلك لأنّ الإمضاء إنّما يقع على مبرّر السيرة وليست السيرة إلاّ أحد صغريات ذلك المبرّر.

الثمرة الثانية : إنّ الإمضاء لو كان واقعا على خصوص السيرة العقلائيّة بقطع النظر عن منشئها ، فإنّ ذلك لا يدلّ على أكثر من جواز العمل بمقتضى السيرة ، إذ أن الإمضاء على هذا المبنى إمضاء لموقف عملي لا لسان له فيتمسّك بالقدر المتيقّن منه وهو عدم حرمة الجري على ما تقتضيه تلك السيرة ، فمثلا لو كانت سيرة العقلاء قاضية بمسؤوليّة الزوج عن النفقة على الزوجة ، فإنّ إمضاء هذه السيرة - على هذا المبنى - لا تدلّ على أكثر من جواز العمل بمقتضى هذه السيرة ، إذ أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من الإمضاء ، إذ أنّ سكوت الشارع عن هذه السيرة لا يكشف عن وجوب العمل بمؤدّاها أو استحبابه كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.

أما لو كنّا نبني على أنّ إمضاء السيرة إمضاء لمنشأ وقوعها - وهي الكبرى الكلية التي تولّدت عنها السيرة - فإنّ ذلك يقتضي ملاحظة ما تقتضيه تلك الكبرى الممضاة فقد تقتضي حكما تكليفيّا وقد تقتضي حكما وضعيّا ، كما مثّلنا لذلك فيما سبق.

ومع اتّضاح ما ذكرناه فالمبنى الذي يصحّحه المصنّف رحمه اللّه هو المبنى الثاني ، وهو أنّ الإمضاء يقع على الكبرى الكلّية للسيرة والتي هي منشأ وقوع السيرة خارجا ؛ وذلك لأنّ السيرة العقلائيّة ليست موقفا عفويّا ساذجا ، وإنّما هي حصيلة مبرّرات أوجبت نشوء ارتكاز متأصّل في أذهان العقلاء ، هذا الارتكاز المتأصّل يمكن سريانه لموارد كثيرة ، فلو كان هذا الارتكاز منافيا لما عليه الشارع المقدّس لردع عنه ، إذ أن امتداده لغير

ص: 350

مورد السيرة يهدّد أغراض الشارع ، فيكون سكوته عنه تفويتا لها ، بل إنّ السكوت في مثل هذه الحالات من أجلى مصاديق نقض الغرض.

وكذلك هو مقتضى ظهور حال المعصوم علیه السلام عند عدم المواجهة لهذا الارتكاز المتأصّل ، فإنّه لمّا كان هو المتصدّي لتبليغ أحكام الشريعة ، والمصحّح لما عليه المجتمع من أخطاء والمقوّم لما اعوجّ من طائقهم وسيرهم ، فإنّ هذه المرتكزات لو كانت منافية للشريعة لكان قد تصدّى لبيان فسادها ، إذ أنّ هذا هو مقتضى مسؤوليّته الملقاة عليه من قبل الشارع ، فيكون ظاهر حال المعصوم علیه السلام هو قبول هذه المرتكزات العقلائيّة في حال عدم الردع عنها.

وبهذا يتّضح أنّ دليل حجيّة السيرة العقلائيّة هو عين ما استدل به على دليليّة السكوت على الحكم الشرعي.

ومن هنا يتّضح فساد ما وقع من بعض الأصوليّين ، من أنّ مناط حجيّة السيرة العقلائيّة هو أنّ الشارع سيّد العقلاء ، وإذا كان كذلك فكلّ ما يتبانى عليه العقلاء فهذا يعني مشموليّة الشارع لذلك التباني ، إذ أنّه من العقلاء بل هو أولاهم به لكونه سيّدهم وملهمهم ، ولو تمّ هذا البيان لكانت السيرة العقلائيّة حجّة برأسها لا تحتاج إلى إمضاء فلا تكون من صغريات دليليّة السكوت.

إلاّ أنّ هذا البيان فاسد وذلك لأنّ افتراض الشارع سيّد العقلاء بنفسه يوجب نشوء احتمال اختصاصه بمدركات لاتصل إليها مدركات سائر العقلاء ، وبذلك تكون كلّ سيرة عقلائيّة تحتمل عدم مقبوليّتها من قبل الشارع ، لاحتمال اشتمال منشئها على بعض الثغرات المدركة من قبل الشارع

ص: 351

لافتراض تفوّقه عليهم في الإدراك ، وبهذا لا يكون الشارع راضيا عن تلك السيرة ، نعم في السيرة التي يكون منشؤها المدركات الأوليّة التي لا يشوبها أيّ غموض وهي القضايا التي تكون قياساتها معها ، هذا النوع من السيرة يمكن التمسّك بها لإثبات حكم شرعي.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة التي يكون لها كاشفيّة عن الحكم الشرعي هي السيرة العقلائيّة المعاصرة لزمن المعصوم علیه السلام ، إذ هي التي يكون السكوت عنها كاشفا عن الإمضاء ، وهي التي يجري فيها كلا الدليلين العقلي بتقريبيه ، والاستظهاري.

والمراد من السيرة المعاصرة هي السيرة التي تكون بمرأى من المعصوم علیه السلام في زمن حضوره ، أمّا السيرة العقلائية الواقعة في زمن الغيبة فلا يكشف سكوت الإمام الغائب علیه السلام عنها عن إمضائها ، لعدم جريان كلا الدليلين في موردها ، إذ أنّ الإمام علیه السلام في ظرف منافاة السيرة للشارع ليس مكلّفا بالردع عنها بحكم غيبته.

وبهذا يسقط التقريب الأول من الدليل العقلي ، إذ أنّه يفترض المعصوم مكلّفا بالنهي عن المنكر وبوجوب تعليم الجاهل ، وكذلك التقريب الثاني ساقط إذ أنّ نقض الغرض إنّما يتحقّق في حالة يكون هناك وسيلة طبيعيّة يتمكّن فيها العاقل من المحافظة على غرضه ، أمّا إذا تعذّرت الوسائل الطبيعيّة فلا يكون السكوت نقضا للغرض ، إذ أنّه لا يكشف عن الإمضاء ، وليس الغرض بمرتبة من الأهميّة تستوجب استعمال الوسائل الإعجازيّة للمحافظة عليه.

على أنّ نفس تسبيب الناس لغيبة الإمام علیه السلام وحرمانهم من بركات

ص: 352

حضوره علیه السلام مانعا عن التمسّك بالسكوت لاستكشاف الإمضاء ، إذ أنّ العقلاء يدركون أنّ الإمام علیه السلام لمّا كان عاجزا عن المحافظة على أغراضه بالوسائل الطبيعيّة فلا يمكن الاستدلال بنقض الغرض على إمضاء سيرتهم.

كما أنّه لا يمكن الاستدلال بالدليل الاستظهاري على إمضاء السيرة في ظرف الغيبة ، وذلك لعدم تصدّيه مباشرة في ظرف الغيبة لتصحيح أخطاء المجتمع ، فلا يكون سكوته عن السيرة موجبا لانعقاد ظهور حالي للإمام علیه السلام في إمضاء تلك السيرة.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة العقلائيّة التي يمكن أن تكون ممضاة من قبل الشارع هي السيرة المعاصرة لزمن الحضور.

قوله رحمه اللّه في بحث دلالة الفعل : « وهل يدلّ الفعل على عدم كونه مرجوحا إمّا مطلقا » أي سواء تكرّر صدور الفعل عنه أو صدر عنه في مورد أو موردين.

فالمراد من هذه الفقرة هو أنّه هل يكون لصدور الفعل عن المعصوم علیه السلام دلالة على أنه ليس مكروها ، ولو كان ذلك الفعل الصادر لم يتكرّر منه ، كما لو أكل مرّة طعاما معيّنا ولم يتكرّر منه ذلك.

قوله : « ترك الأولى » أي ترك الراجح شرعا ، وقد يطلق ترك الأولى على فعل المرجوح شرعا ؛ وذلك لأنّ ترك فعل المرجوح يكون راجحا ، فحينما يفعل المكلّف المرجوح فهذا يعني أنّه ترك الأولى ، أي لم يلتزم بالترك الراجح.

قوله : « لمّا كان دالا صامتا » يطلق الدليل الصامت على كلّ الأدلّة اللبيّة والتي هي ليست من قبيل الأدلة اللفظية التي يمكن استفادة التعميم منها بواسطة الإطلاق اللفظي أو العموم.

ص: 353

ص: 354

إثبات صغرى الدليل الشرعي

اشارة

1 - وسائل الإثبات الوجداني.

2 - وسائل الإثبات التعبّدي.

ص: 355

ص: 356

تمهيد

قلنا إنّ الدليل الشرعي هو ما يصدر عن الشارع وتكون له دلالة على الحكم الشرعي.

وقد تقدّم أنّ البحث عن الدليل الشرعي يقع في ثلاثة مباحث ، والبحث الأول منها حول دلالات الدليل الشرعي ، وقد ذكرنا فيه مجموعة من الضوابط الدلاليّة والتي تساهم في فهم ما يصدر عن الشارع المقدّس.

وهنا نتحدّث عن المبحث الثاني للدليل الشرعي ، وهو البحث عن إثبات صغرى الدليل الشرعي ، وقد بيّنّا ما هو المراد من صغرى الدليل الشرعي.

والبحث فيه يقع عن الوسائل التي يثبت بها صدور الدليل الشرعي ، وهي على نحوين :

النحو الأول : وهي الوسائل التي يحرز بها الدليل الشرعي بنحو اليقين ، وهذه الوسائل لا حصر لها ؛ إذ أنّ موجبات اليقين تتعدّد بتعدّد موادّه ومقدّماته ، ومع ذلك فهناك وسائل نوعيّة أساسية يمكن استفادة غير المعاصرين للمعصوم منها.

وقد بحث المصنّف رحمه اللّه ثلاث وسائل منها :

الأولى : الإخبارات الحسيّة التي بلغت حدا يحصل اليقين لنوع المطلعين عليها ، وهذه هي المعبّر عنها بالأخبار المتواترة.

ص: 357

الثانية : الإخبارات الحدسيّة التي هي من قبيل توافق جمع من أهل فن على رأي يتّصل بذلك الفن ، هذا التوافق قد يبلغ حدا يوجب حصول اليقين ، وهذا هو المعبّر عنه بالإجماع.

الثالثة : الاستفادة من الآثار التي تكشف بطريق الإن عن الدليل الشرعي ، كالسيرة المتشرعيّة التي توجب الانتقال منها إلى الدليل الشرعي على ما سيأتي إيضاح ذلك.

وسيقع البحث عن كل واحد من هذه الوسائل العلميّة بالترتيب المذكور.

ص: 358

الخبر المتواتر

وقد تعارف تعريفه بأنّه إخبار جماعة يبلغون من الكثرة حدا يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.

وقد سلك المصنّف رحمه اللّه مسلكا آخر في بيان المراد من الخبر المتواتر ، إذ أنّه جعل مناط تحقق التواتر في الخبر هو حساب الاحتمالات ، وبهذا لا تكون كثرة المخبرين هي المناط في تحقق التواتر للخبر ، ولكي يتّضح مناط التواتر للخبر نقول :

إنّ محلّ البحث في المقام هو الخبر الحسّي وهو الذي يكون متعلّقه مستفادا بواسطة المدارك الحسيّة ، واذا كان كذلك فكلّ خبر فهو محتمل للمطابقة مع الواقع ومحتمل لعدم المطابقة ، واحتمال عدم المطابقة ناشئ عن احتمال تعمّد كذب المخبر أو اشتباهه ، وهذا يعني أنّ كل خبر فيه نسبة مئويّة من احتمال عدم مطابقة الخبر للواقع المحكي ، وهذا النسبة المئويّة تتفاوت بتفاوت المخبرين من حيث الضبط والوثاقة ، وتتفاوت بتفاوت مضمون الخبر ، فقد يكون مضمون الخبر غريبا ، وقد يكون اعتياديّا ، وقد يكون المخبر به منافيا لمصلحة المخبر وقد يكون متلائما مع مصلحته ، كلّ ذلك يساهم في ارتفاع وانخفاض نسبة احتمال عدم المطابقة.

وكيف كان فتعدّد المخبرين لخبر ذي مضمون واحد يقلّل من احتمال عدم المطابقة ، وذلك ناشئ عن ضرب مستوى احتمال الكذب والاشتباه في

ص: 359

الخبر الأول مع مستوى احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني ، فإنه ينتج تضاؤل مستوى احتمال عدم المطابقة ، فلو كان احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الأول هو 50% ، واحتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني هو 50 % أيضا ، فقيمة احتمال عدم المطابقة في الخبر الأول تساوي الكسر

، وكذلك الخبر الثاني فإنّ قيمة احتماله تساوي الكسر

، فلو ضربنا قيمة كلّ من الاحتمالين في الآخر لوجدنا أنّ مستوى الاحتمال لعدم المطابقة يتضاءل هكذا

=

فإنّ نسبة الكسر

إلى الواحد أقل كما هو واضح من نسبة الكسر

إلى الواحد ، وهكذا ينخفض مستوى احتمال عدم المطابقة ويرتفع معه مستوى احتمال مطابقة الخبر للواقع ، إذ أنّ العلاقة بين الاحتمالين طرديّة.

وهكذا لو تعدّد الخبر ذو المضمون الواحد إلى أكثر من الاثنين فإنّ قيم الاحتمالات تضرب في بعضها وسنجد أنّ مستوى الاحتمال يتضاءل أكثر كلّما كان العدد أكبر ، فإذا بلغ العدد حدّا يكون احتمال عدم المطابقة فيها ضئيلا جدا بحيث لا يعتدّ العقلاء بهذا المستوى من الاحتمال لعدم المطابقة ، فهذا هو الخبر المتواتر.

إذن الخبر المتواتر هو ما يكون نسبة الاحتمال فيه لعدم المطابقة ضئيلا جدّا بحيث يحصل الاطمئنان أو القطع بمطابقة مضمون الخبر للواقع على أن تكون ضالة الاحتمال ناشئة عن حساب الاحتمالات.

وبهذا اتّضح أنه ليس هناك حدّ للعدد في الخبر المتواتر ، فقد يتحقّق التواتر للخبر بثلاثة مخبرين فيما لو كانت نسبة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ واحد ضئيلة.

ص: 360

وقد لا يتحقّق بالثلاثة وذلك فيما لو كانت قيمة احتمال عدم المطابقة في كلّ واحد كبيرة.

فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ خبر من الأخبار الثلاثة هي قيمة الكسر

فإنّ ضرب كلّ قيمة من هذه القيمة الثلاثة في بعضها ينتج ضالة الاحتمال إلى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثل هذا المستوى من الاحتمال ، إذ أنّ ناتج ذلك يساوي الكسر

.

وهذا بخلاف ما لو كانت قيمة الاحتمال هي الكسر

فإنّ ضربها في مثلها ثلاث مرات يساوي الكسر

ومن الواضح أنّ مستوى الاحتمال الناتج عن الكسر

مما يعتدّ العقلاء بمثله ، فلذلك نحتاج في تكوين التواتر إلى عدد أكبر من المخبرين.

على أنّ نسب الاحتمال في كلّ خبر تخضع لمجموعة من المبرّرات تتصل بحالة كلّ مخبر ، فقد يكون المخبر ثقة وقد لا يكون كذلك ، وقد يكون ضبطا وقد لا يكون كذلك ، كما أنّ مستوى النسبة تخضع لمبرّرات تتّصل بمضمون الخبر ، فقد يكون غريبا وقد يكون متعارفا مألوفا ، فلو كان المخبر ثقة ضبطا وكان مضمون خبره مألوفا ولم يكن فيه نفع يعود على المخبر ، فإنّ العدد الذي نحتاجه في تكوين التواتر يكون قليلا ، كما أنّ سرعة الوصول إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان تتفاوت بتفاوت حال المخبرين ، فقد تتضاءل نسبة احتمال عدم المطابقة من خبر مخبر بمستوى أكبر من تضاءلها بخبر مخبر آخر ، فلو كان المخبر الأول ثقة ضبطا ولم يكن مضمون الخبر ملائما لغرضه فإنّ نسبة احتمال عدم المطابقة في خبره أقل بكثير من نسبة احتماله في خبر المخبر الثاني إذا لم يكن ثقة أو لم يكن ضبطا أو كان

ص: 361

مضمون الخبر ملائما لغرضه ، فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في خبر المخبر الأول هي

فإنّ قيمة الاحتمال في خبر المخبر الثاني هي

ومن الواضح أنّ الأول يسرع بنا إلى الوثوق بمضمون الخبر أكثر من الثاني ، وبهذا السير السريع تارة والبطيء أخرى نصل إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان ، والأول عبّر عنه المصنّف بزوال الاحتمال واقعا ، والثاني بزوال الاحتمال عمليّا.

إذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ هناك عوامل كميّة وأخرى نوعيّة تتصل بالمخبر ، تساهم في سرعة أو بطأ الوصول إلى مرتبة التواتر في الخبر ، وكذلك هناك عوامل نوعيّة تتصل بمضمون الخبر تساهم أيضا في سرعة أو بطأ الوصول إلى مرتبة التواتر في الخبر. أما العوامل الكميّة والنوعية التي تتصل بالمخبر فيمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام.

الأول : عدد المخبرين ، فهو وإن كان يخضع قلة وكثرة للعوامل المضمونيّة والعوامل المتصلة بصفات المخبرين ، إلا أنّه لا بدّ في تحقق صفة التواتر في الخبر من تعدّد المخبرين.

الثاني : ويمكن التعبير عنه بالعوامل الصياغيّة إذ قد تكون الإخبارات المتعدّدة ذات صياغة لفظية واحدة ، وقد تكون ذات صياغات لفظية مختلفة إلا أن مؤداها واحد ، وقد لا تكون متّحدة لا من حيث الصياغة اللفظية ولا من حيث المضمون إلا أنّها تشترك في إمكان انتزاع معنى واحد منها ، كما ورد أن الإمام علي علیه السلام قتل الفارس الشجاع عمرو بن ود ، وورد أيضا أنه فتح حصن خيبر وقتل فارسهم « مرحب » اليهودي ، وورد أيضا أنّه

ص: 362

ضمن العشرة الذين لم يفرّوا في غزوة حنين ، وورد أيضا أن جبرئيل علیه السلام نادى بين السماء والأرض في غزوة أحد أنّه « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي علیه السلام » ، فإنّ هذه الإخبارات وإن كانت مختلفة لفظا ومضمونا ، إلاّ أنه يمكن انتزاع معنى واحد منها وهو أنّ الإمام علي علیه السلام كان شجاعا وكان فارس الإسلام.

والحالة الأولى من الإخبارات تسمّى بالتواتر اللفظي ، والثانية تسمّى بالتواتر المعنوي ، والثالثة تسمّى بالتواتر الإجمالي ، ومن الواضح أنّ التواتر اللفظي يحتاج إلى عدد من المخبرين أقل مما يحتاجه التواتر المعنوي والإجمالي ؛ وذلك لأنّ التطابق بهذا النحو من التطابق رغم تفاوت المخبرين من حيث خصائصهم الشخصية ، واستبعاد أن تتّفق مصلحتهم في المحافظة على صياغة خاصّة للخبر ، كل ذلك يكون مبعّدا آخر بالإضافة إلى المبعّدات التي يشترك فيها مع التواتر الإجمالي والمعنوي.

وكذلك الكلام في التواتر المعنوي بالنسبة إلى التواتر الإجمالي إذ أنّ التواتر المعنوي مشتمل على خصوصية يفتقر إليها التواتر الإجمالي ، وهو كون مصب الإخبارات في التواتر المعنوي واحدا ، وهذا يساهم في سرعة الوصول إلى الاطمئنان أو اليقين ، وهذا بخلاف التواتر الإجمالي إذ لا يكون المعنى الذي يراد تصيّده من كلّ خبر هو الدافع الأساسي للمخبر من إيراد الخبر وهذا يستوجب اقتناص المعنى مما وراء الخبر ، فقد يكون المعنى المتصيّد واضحا وقد يكون خفيّا.

الثالث : وهو ما يتّصل بصفات المخبرين من حيث الوثاقة والضعف ، وقوّة الحافظة والضبط ، أو كثرة النسيان والخلط ، أو ما إلى ذلك من

ص: 363

الصفات الدخيلة في تحديد نسبة احتمال عدم المطابقة ، وقد تقدّم بيان ذلك.

العوامل التي تتّصل بمضمون الخبر ، وهي على قسمين :

الأول : العوامل العامّة : وهي التي إذا توفّرت في مضمون خبر ساهمت - وبقطع النظر عن نوعيّة المضمون ، في تقليل أو رفع نسبة احتمال عدم المطابقة ، وذلك مثل أن يكون الخبر مألوفا أو غريبا ، فإنّه إذا كان مألوفا ومتوقّعا ومتناسبا مع المجريات الطبيعيّة فإنّ ذلك يساعد على سرعة الوصول إلى الاطمئنان أو اليقين وبعدد أقل ، وهذا بخلاف ما لو كان الخبر غريبا وغير متوقّع فإنّ احتمال عدم المطابقة يكون أكبر فنحتاج في الوصول إلى الاطمئنان بصدقه إلى عدد أكبر ممّا نحتاجه في الخبر المألوف.

الثاني : العوامل النسبيّة : وهي العوامل التي يلاحظ فيها المضمون بالإضافة إلى نوعية المخبر ، كما لو كان مضمون الخبر منافيا لمعتقدات المخبر ، فإنّ إخباره بما ينافي عقيدته يكون عاملا من عوامل تقليل احتمال عدم المطابقة لاستبعاد أن تكون هناك مصلحة دعت المخبر بأن يخبر بما ينافي معتقداته.

وكذلك لو كان الخبر يصب في منفعة المخبر فإنّ ذلك يساهم في رفع احتمال عدم المطابقة.

وقد يتّفق اجتماع العاملين في مورد واحد كما لو كان مضمون الخبر غريبا ويصب في مصلحة المخبر ، فإنّ مستوى احتمال عدم المطابقة يكون أكبر ممّا لو كان الخبر مشتملا على عامل واحد من العاملين.

وكذلك لو اتفق أن كان مضمون الخبر جيء به في ظرف يصعب فيه إيراد مثل ذلك الخبر ، وكان مضمونه منافيا لمصلحة المخبر ، كما لو أخبر

ص: 364

غير الإمامي بخبر يناسب مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وكان إيراده للخبر في مجلس حضّاره من أعداء أهل البيت علیهم السلام ، فإنّه قد اجتمع في هذا الخبر عامل من العوامل النسبيّة ، وهو كون مضمون الخبر منافيا لمصلحة المخبر ، وعامل من العوامل العامّة ، وهو صعوبة الظرف الذي أورد فيه الخبر.

وفي حالة من هذا القبيل تكون نسبة احتمال عدم المطابقة أضعف ممّا لو كان مضمون الخبر مشتملا على عامل واحد من هذين العاملين.

قوله رحمه اللّه : « بل واقعيّا لضآلته » : في كلّ حالة تضرب فيها القيم الاحتماليّة في بعضها فإنّها لا تنتج بأيّ حال اليقين الرياضي مهما تكثّرت القيم الاحتمالية المضروبة في بعضها ومهما كانت ضآلة تلك القيم ، فلو كان عدد الإخبارات مئة وكانت نسبة احتمال عدم المطابقة ضئيلة جدّا ، فإنّ ضرب هذه القيم في بعضها لا ينتج اليقين الرياضي ، فيبقى احتمال عدم المطابقة موجودا إلاّ أنّ هذا الاحتمال لا يمنع من حصول اليقين ؛ إذ أنّ الذهن البشري لا يحتفظ بهذا المستوى الضئيل من الاحتمال.

ص: 365

ص: 366

الإجماع

وهو اتفاق جمع كبير من الفقهاء على رأي واحد في مسألة من المسائل الشرعيّة.

وهذا يعني أنّ الإجماع هو مجموعة من الفتاوى الصادرة عن أهلها ، وكل فتوى من هذه الفتاوى نشأت عن التأمّل في المدارك المتّصلة بها ، فهي إذن من الإخبارات الحدسيّة المستفادة بواسطة النظر في الأدلّة ، وهذا ما يميّزها عن الإخبارات الحسيّة والتي تعتمد على المشاهدة والمعاينة.

وكيف كان فالخبر الحدسي يمثّل أيضا قيمة احتمالية لواقعيّة مفاده ، فإذا ما تعدّدت الإخبارات الحدسيّة ذات المضمون الواحد فإنّ قيمة احتمال المطابقة للواقع تتصاعد ، وقيمة احتمال المخالفة تسير في التضاءل إلى أن يصل مستوى احتمال المخالفة إلى حدّ لا يعتدّ بمثله ، وهذا هو الإجماع.

إذن فالمسار الذي يسلكه الخبر الحسّي إلى أن يصل إلى مرتبة التواتر هو عينه المسار الذي يسلكه الخبر الحدسي إلى أن يصل إلى الإجماع ، غايته أنّ حركة السير في الخبر الحدسي للوصول إلى الإجماع أبطأ منها في الخبر الحسّي للوصول إلى التواتر ، وذلك لمجموعة من المبرّرات ذكر المصنّف رحمه اللّه منها خمسة :

الأوّل : إنه لما كانت نسبة الاشتباه في الأمور الحدسيّة أكبر من نسبتها في الأمور الحسيّة ، فإنّ هذا يقتضي كون مستوى الاحتمال الحاصل من

ص: 367

الأمور الحدسيّة أضعف منه في موارد الأمور الحسيّة ، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى عدد أكبر من الإخبارات الحدسيّة لغرض الوصول إلى مستوى الاطمئنان واليقين.

الثاني : إن مناشئ الاشتباه في الإخبارات الحدسيّة كثيرة ، وهذا ما يقتضي ارتفاع مستوى احتمال الاشتباه فيها أكثر منها في الإخبارات الحسيّة والتي يكون منشأ احتمال الاشتباه فيها محدّدا وهو الغفلة أو النسيان ، وهذا ما يقتضي استبعاد وقوع جميع المخبرين في الغفلة أو النسيان ، أمّا إذا كانت المناشئ متعددة ، فلا يستبعد وقوع كل واحد منهم في الاشتباه بسبب الاعتماد على منشأ غير الذي اعتمد عليه الآخر.

فمثلا : لو اتفقت آراء جمع من الفقهاء على حرمة العصير الزبيبي وكانوا مخطئين في ذلك فإنّ منشأ الخطأ قد لا يكون متّحدا ، إذ من الممكن أن يكون المدرك لأحدهم هو رواية ضعيفة السند ، ويكون مدرك الآخر رواية ليس لها ظهور في الحرمة ، ويكون مدرك الثالث هو الاعتماد على أصالة الاحتياط في الشبهات التحريميّة ، ويكون مدرك الرابع هو الاستصحاب التعليقي ، ويكون مدرك الخامس هو الوثوق بفتوى مجموعة من الأعلام بالحرمة ، وهكذا.

ومن هنا ساغ التطابق في الرأي على الخطأ إذ لا يستبعد اتفاق أهل النظر على رأي خاطئ إذا كانت مناشئ الوقوع في الخطأ متعدّدة.

وهذا ما يجعل مستوى احتمال الاشتباه في الخبر الحدسي أكبر من مستوى احتمال الخطأ في الخبر الحسّي.

الثالث : إن من الملاحظ تأثّر أصحاب النظر ببعضهم البعض ، فحينما

ص: 368

يذهب جمع منهم إلى رأي معيّن ، أو يذهب أحد الأساطين إلى رأي فإنّ ذلك يساهم في تبنّي آخرين من أصحاب النظر لنفس ذلك الرأي ، وذلك لوثوقهم بصوابيّة ما ذهب إليه ذلك الجمع من أهل النظر ، أو انبهارهم بتلك الشخصية العلميّة المتميّزة أو تأثرهم بمبانيه نتيجة تتلمذهم عليه ، حتى قال بعض الأعاظم : إنّ اتفاق ثلاثة وهم الشيخ الأنصاري ، والسيد الكبير الشيرازي ، والميرزا محمد تقي الشيرازي رحمهم اللّه يورث القطع بواقعيّة ما اتفقوا عليه.

وهذه الحالة لا توجد في الإخبارات الحسيّة ؛ إذ أن المخبر حسّا يحكي ما وقع تحت حواسّه دون أن يكون له أي ملاحظة للمخبر الآخر عن حس.

الرابع : إن احتمال الاشتباه في الإخبارات الحسيّة غالبا ما يكون ناشئا عن احتمال طروء العارض المانع من أن يؤثر المقتضي للإصابة أثره ، وهذا بخلاف الإخبارات الحدسيّة ، فإنّ احتمال الاشتباه يمكن أن يكون منشؤه عروض المانع ، ويمكن أن يكون منشؤه عدم المقتضي.

وبيان ذلك :

إنّ مطابقة الخبر أو النظر للواقع يستوجب وجود المقتضي وانتفاء المانع ، أما مقتضي مطابقة الخبر الحسي للواقع فهو سلامة حواس المخبر المناسبة لمضمون الخبر ، فإذا كان مضمون الخبر من المرئيّات فلا بدّ من افتراض سلامة البصر ، وإذا كان من المسموعات فهذا يستوجب سلامة السمع ، وهكذا.

هذا هو المقتضي لمطابقة الخبر للواقع ، إلاّ أنّ المقتضي لا يكفي وحده

ص: 369

للمطابقة فلا بدّ من انتفاء المانع والذي هو من قبيل عدم الغفلة وعدم النسيان.

وأمّا مقتضي المطابقة في الأمور النظريّة الحدسيّة فهو أن يكون المخبر من أصحاب الفهم والتخصّص فيما أخبر عنه حدسا ، وإذا تم المقتضي فلا بدّ من انتفاء المانع ، والذي هو من قبيل الذهول والابتلاء الموجب لتشتّت الذهن.

ومع اتّضاح ذلك نقول : إنّ منشأ احتمال الاشتباه في موارد الإخبارات الحسيّة غالبا ما تكون ناشئة عن احتمال عروض المانع الموجب لعدم تأثير المقتضي لأثره ، أما المقتضي - وهو سلامة الحواس - فغالبا ما يكون محرز الوجود في المخبر عن حس.

وهذا بخلاف الإخبار عن حدس ، فإنّ احتمال الاشتباه يمكن أن يكون ناشئا عن عدم المقتضي ، أي عدم أهلية المخبر عن حدس ، ويمكن أن يكون ناشئا عن عروض المانع ، وهو ابتلاء المخبر عن حدس بتشتت الذهن أو الغفلة عن بعض المقدمات المؤثّرة في النتيجة التي وصل إليها وهكذا.

الخامس : إذا كان المركز الذي يحتمل أن يكون نشأ عنه الاشتباه واحدا فإنّ الإخبارات - سواء كانت حسيّة أو حدسيّة - لا يحصل منها القطع حتى وإن بلغت من الكثرة حدا كبيرا ، فلو أخبر عدد كبير من الناس أنّ حريقا نشب في بيت زيد ، واحتملت أن منشأ الإخبار هو رؤيتهم الدخان الكثيف المتصاعد من بيت زيد ، وكنت تعلم أنه لو كان هذا هو المنشأ للإخبارات لكان مضمون الخبر منافيا للواقع إذ أنّ في بيت زيد - ذلك اليوم - ضيوفا كثيرين ، وهو قد أشعل النار لطهي الطعام ، نعم من

ص: 370

المحتمل أنّ بيت زيد قد احترق من جرّاء ذلك إلاّ أنّه لمّا كان من المحتمل أن يكون سبب الإخبارات هو ذلك المنشأ الخاطئ فإنّ القطع لا يحصل من هذه الإخبارات ، أي أن القيم الاحتمالية الناشئة عن كلّ خبر تكون ضعيفة فيكون نموّ الاحتمال وتصاعده بطيئا ، وهذا بخلاف ما لو كان المتلقي للخبر خالي الذهن أي لا يعلم أنّ لزيد ضيوفا ، فإنّ حصول اليقين من الإخبارات يكون سريعا.

ومع اتضاح هذا نقول : إن الإخبارات الحدسيّة كثيرا ما يكون المنشأ لها ذا مركز واحد ، فإذا ما كان المنشأ المحتمل اعتمادهم عليه خاطئا ، فإنّ احتمال المطابقة الناشئ عن كل خبر يكون ضعيفا ، ومن هنا يكون مسار الاحتمال إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان بطيئا.

وهذا ما نشاهده في النظريّات العلميّة التي تعتمد على مقدمة هذه المقدمة إذا كانت خاطئة فإنّ اتفاق العلماء على نتيجتها لا يصيّر هذه النتيجة قطعيّة ، فلو احتملنا أنّ منشأ تبني العلماء لهذه النتيجة هو تلك المقدّمة الخاطئة فإنّ نمو الاحتمال ووصوله إلى مرتبة القطع أو الاطمئنان بالنتيجة يكون بطيئا.

ويمكن التمثيل لذلك بنظريّة العقول الطوليّة والتي تبنّاها كثير من الفلاسفة ، فإنّ هذه النظرية لمّا كان مركز نشوئها هو قاعدة أنّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، فلو كنا نعلم بخطأ هذه المقدّمة في العلل الإراديّة فإنّ اليقين بصحة نظرية العقول الطولية لا يتحقق ، ولو كنا نحتمل أنّ منشأ هذه النظرية هو تلك المقدمة الخاطئة فإنّ مسار احتمال المطابقة إلى مرحلة اليقين يكون بطيئا.

ص: 371

ولما كانت الإخبارات الحدسيّة المتطابقة كثيرا ما تنشأ عن مقدمات ذات مركز واحد ، فإنّ نمو الاحتمال بصوابيّة هذه الإخبارات يكون بطيئا ويكون اشتباه تمام الإخبارات الحدسية معقولا جدا.

وهذا بخلافه في الإخبارات الحسيّة ، فإنّها كثيرا ما لا تكون ذات مركز واحد ، بل كلّ مخبر يخبر عما شاهده بواسطة حواسّه ، فالمخبرون عن حس وإن كانوا يتفاوتون من جهة قوة وضعف مداركهم الحسية ومؤهّلاتهم الشخصية إلا أنّ اختلاف هويّاتهم وأغراضهم يوجب الوثوق بتعدّد المركز الذي نشأت عنه الإخبارات وهذا ما يجعل سير الاحتمال للمطابقة متسارعا ومتصاعدا إلى أن يصل إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان.

ثم إن هناك عوامل تساهم في انخفاض مستوى احتمال عدم المطابقة للواقع في الإجماع ، ذكر المصنّف منها أربعة :

العامل الأول : وهو ما يتّصل بأشخاص المجمعين ، فإذا كان المجمعون من أساطين الفقهاء وممّن لهم تميّز علمي ، وكذلك إذا كانوا قريبين من عصر النصّ كفقهاء الغيبة الصغرى ، فإنّ احتمال الاشتباه في مثلهم أضعف من احتماله في غيرهم ممن هو غير متوفّر على إحدى هاتين الصفتين أو مجموعهما ، إذ أنّ المتميّز علميا لمّا كان أكثر إحاطة بالمقدمات المؤثرة في صوابيّة النتيجة فإنّ هذا يقتضي أقربية رأيه للواقع ، وكذلك القريب من زمن المعصوم علیه السلام فإنّ احتمال إطلاعه على كثير من المدارك التي عادة ما يخفى بعضها بتمادي الأزمان موجب لارتفاع احتمال صوابية ما يتبناه من رأي.

العامل الثاني : وهو ما يتصّل بنوعيّة المسألة ، فقد تكون من

ص: 372

المسائل الابتلائيّة والّتي تتصل بأكثر المكلّفين ، فلو كان الواقع على خلاف ما تبنّاه المجمعون لشاع بين المكلّفين لافتراض كون المسألة ممّا تعم بها البلوى مع افتراض انتفاء ما يوجب خفاء الواقع كأن لم تكن المسألة - أيّا كان حكمها - منافية لمصالح من له القدرة على إخفاء الحقائق.

وذلك مثل قيام الإجماع على لزوم جعل الجانب الأيسر باتّجاه الكعبة المشرفة في الطواف ، فإنّه لو كان الحكم الواقعي منافيا لما عليه الإجماع لشاع بين المسلمين وذلك لكون المسألة ممّا تعم بها البلوى ومن البعيد جدا أن يجري جميع المسلمين على هذا الحكم دون أن يكون لهم مدرك شرعي على ذلك وليس هناك ما يوجب إخفاء الحكم الواقعي لو كان منافيا لما عليه الإجماع.

العامل الثالث : وهو ما يتّصل بالمبرز الصياغي للإجماع في مقام الاستدلال به على حكم شرعي ، إذ فرق بين إبراز الإجماع بنفي العلم بالخلاف وبين إبرازه بدعوى اتّفاق المسلمين ، فإنّ عدم الإطّلاع على المخالف ليس كإحراز تبنّي الجميع لمعقد الإجماع ، وكذلك إبراز الإجماع باتّفاق العلماء ليس كإبرازه باتّفاق الطائفة فإنّ الثاني يعبّر عن سعة دائرة المجمعين بشكل أوضح من تعبير الأوّل عن ذلك.

العامل الرابع : وهو ما يتّصل بمعقد الإجماع من حيث احتماله للمدركيّة وعدم احتماله لها ، ففي حال احتماله للمدركيّة وكون المدرك على افتراضه معتمد المجمعين غير تام يقتضي انخفاض مستوى احتمال الإصابة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن للإجماع مدرك محتمل فإنّ احتمال كونه تعبّديا ومتلقى من الشارع قريب جدا ، فلذلك قالوا إنّ الإجماع كلما كان منافيا

ص: 373

للأصول والقواعد العامة كان أقرب للمطابقة للواقع ؛ إذ لا يحتمل له مدرك إلاّ التلقي من الشارع المقدّس بخلاف محتمل المدركيّة فإنّ احتمال كون المدرك هو معتمد المجمعين وارد جدا.

ثمّ إنّ الإجماع لمّا كان إحرازه القطعي للحكم الشرعي منوطا بحساب الاحتمالات فهذا يقتضي عدم تأثّره بوجود المخالف إذا لم يكن ذلك مضرا بمسار تضاؤل الاحتمال الناتج عن ضرب القيم الاحتماليّة والناشيء عن تكثر مفردات الإجماع وتطابقها ، وهذا يعني عدم وجود موضوعيّة للإجماع إذ أنّ الإجماع إذا كان يعني اتّفاق الجميع فهذا غير حاصل في موارد وجود المخالف ، ومع ذلك قد يتفق حصول اليقين من الإجماع الناقص إذا تضاءل الإحتمال إلى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثله عمليّا كما في الاطمئنان أو واقعيّا كما في اليقين ، وهذا يتفق في حالات كون المخالف ممن لا يعبأ بخلافه لبعد عصره مثلا عن زمن النص أو كونه لا يتميّز بمستوى علمي يوجب الاعتداد بخلافه.

ثمّ إنه لمّا لم تكن للإجماع موضوعيّة فهذا يوجب إمكان التوسّل بقرائن لا تتّصل بالإجماع لغرض الوصول إلى اليقين أو الاطمئنان ، ففي حالة كون الإجماع وحده غير كاف للوصول إلى اليقين فإنّه يمكن تجميع بعض القرائن وضمها إلى الإجماع للحصول على الإثبات القطعي للحكم المبحوث عنه.

ص: 374

سيرة المتشرّعة

اشارة

والفرق بين السيرة المتشرعيّة والسيرة العقلائيّة هو أن التباني على موقف في موارد السيرة المتشرعيّة يصدر عن المتشرّعة باعتبار كونهم متشرّعة وملتزمين بما يمليه عليهم الشارع المقدّس ، وهذا بخلاف السيرة العقلائيّة فهي تصدر عن العقلاء باعتبار كونهم عقلاء وملتزمين بمقتضى المرتكزات المبرّرة عقلائيا.

والذي يكشف عادة عن أنّ السيرة عقلائيّة أو متشرعيّة هو نوع الموقف الملتزم به ، فقد يكون الموقف ممّا يقتضيه الطبع العقلائي فالتباني عليه يكون سيرة عقلائية ، وهذا كالالتزام بمقتضى العقود ، وقد لا يكون الموقف الملتزم مناسبا لمقتضى الطبع العقلائي بل إنّ الالتزام به - لو لم يكن ناشئا عن الشارع - يعدّ سفهيّا كمسح الجبين وظاهر الكفين بما يعلق من تراب في التيمّم فإنّه لا يتعقل لهذا الالتزام مبرّر لو لم يكن ناشئا عن التعبّد الشرعي. وهذا النحو من الالتزام يكشف عن أنّ السيرة متشرعيّة.

ومن هنا يكون الفارق الدلالي بين السيرتين هو أنّ السيرة العقلائيّة تكون دلالتها على الحكم الشرعي منوطة بالإمضاء المنكشف عن السكوت. وأمّا السيرة المتشرعيّة فهي بنفسها كاشفة عن وجود دليل شرعي ، وهذا ما يجعلها مسانخة - بنحو ما - للإجماع ؛ إذ أنّ كلا منهما يعبّر عن وجود الدليل الشرعي بحساب الاحتمالات ، غاية ما في الأمر أنّ الإجماع

ص: 375

يتشكل عن تطابق آراء الفقهاء بسبب التأمّل والنظر في المدارك المتّصلة بالحكم المبحوث عنه.

أمّا السيرة المتشرعيّة فهي سلوك عملي لا مبرّر له غالبا إلاّ التلقي عن الشارع المقدس ، وعادة ما يكون مدرك الإجماع - خصوصا إذا لم يكن مدركيّا أو محتمل المدركيّة هو السيرة المتشرّعيّة إذ أنّ الإجماع في غالب الأحيان يكشف بنحو الإن عن وجود تبان عملي مستوحى من الشارع ، وهذا التباني العملي المتشرّعي يكشف - وبحساب الاحتمالات - عن رواية معتبرة لم تصل إلينا وإنّما وصل إلينا أثرها بواسطة ما نجده من ارتكاز متغلغل في أذهان المتشرّعة ، عبّر عن ذلك الارتكاز سلوكهم العملي.

المبرّر لكون السيرة المتشرعيّة من وسائل الإثبات الوجداني :

والذي يبرّر كون السيرة من وسائل الإثبات الوجداني هو تضاؤل الاحتمال لعدم الإصابة للواقع بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها الناشئة عن ترسّخ صوابية الموقف العملي في ذهن كلّ واحد من الجمع الكبير من المتشرّعة ، وهذا ما يكشف عن وجود دليل شرعي مستوحى عن الشارع فيكون احتمال الغفلة عن التعرّف على الدليل الشرعي من المعصوم أو احتمال عدم فهم الصادر عن الشارع موهوما جدا ، إذ احتمال عدم استعلام الجميع لا يعتدّ به عند العقلاء لندرة اتفاق مثل هذه الحالة حيث إنّ من محتمل وجود عدد كبير من المتشرّعة ممن هو حريص على الاستعلام وفيهم من هو جيّد الفهم.

ص: 376

الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي :

اشارة

من الواضح أنّ السيرة العقلائيّة كالسيرة المتشرعيّة من حيث أهليّتها لأن يثبت بها الحكم الشرعي بنحو القطع ، وقد قلنا إنّ السيرة العقلائيّة تتأهّل للدليليّة على الحكم الشرعي بركنين أساسيّين :

الأوّل : هو إحراز معاصرة السيرة لزمن المعصوم علیه السلام .

الثاني : الإمضاء من قبل المعصوم علیه السلام المنكشف عن السكوت.

ومن هنا نواجه مشكلة ، وهي أنّه كيف يمكن التعرّف على معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام ، والحال أنّ الفاصلة الزمنيّة بيننا وبين المعصوم علیه السلام كبيرة ، وهذا ما دعى الأعلام لطرح مجموعة من المحاولات لإثبات معاصرة السيرة المعاشة وجدانا لزمن المعصوم علیه السلام . وهذه المحاولات إذا تمّت فإنّه يمكن الاستفادة منها لإثبات معاصرة السيرة المتشرعيّة - الموجودة فعلا - لزمن المعصوم علیه السلام . والمحاولات كما يلي :

المحاولة الأولى :

إنّه لمّا كانت السيرة العقلائيّة ناشئة عن مرتكزات عقلائيّة متأصّلة وراسخة في جبلّة العقلاء بحيث يكون كلّ عاقل مهما كان موقعه التاريخي مجبولا عليها فإنّ ذلك يقتضي استبعاد تحوّل السيرة وانقلابها إلى الضد أو ما يقاربه ، وهذا يكشف عن أنّ السيرة المعاشة وجدانا لها امتداد تاريخي يتصل بزمن المعصوم علیه السلام.

والجواب : أنّ هذه المحاولة غير تامّة ، وذلك لفساد دعوى أنّ السيرة العقلائيّة دائما تكون ناشئة عن مرتكزات تقتضيها جبلّة كلّ عاقل ، إذ أنّ

ص: 377

السيرة قد يكون بعضها ناشئا عن ذلك وقد تكون ناشئة عن مبرّرات أخرى تقتضيها طبيعة الثقافة السائدة في ذلك الزمن أو الظروف البيئيّة والاجتماعيّة أو ما إلى ذلك من المبرّرات الموجبة لانخلاق سيرة مناسبة لمبرّراتها. ومن الواضح أنّ مثل هذه المبرّرات ليس لها ثبات ، وهذا ما يقتضي تبدّل السير المتخلّقة عنها.

على أنّ التحوّل المستبعد في السير العقلائيّة إنّما هو التحوّل العشوائي والذي لا يخضع لضوابط يقتضيها نظام التركيبة الاجتماعية وما يحوطها من ظروف ، وهذا من قبيل التحوّل الفجائي إذ من المستبعد - إن لم يكن من المستحيل - انقلاب السيرة عمّا هي عليه مع انخفاظ مبرّراتها. أمّا التحوّل الناشئ عن تبدّل الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة فهو غير مستبعد إذ من الطبيعي زوال السيرة بزوال مبرّراتها ، وهذا ما يتمّ عادة بنحو التدرّج ، إذ أنّ انسلاخ المجتمعات عن متبنياتها يحتاج إلى وقت. وبهذا يتّضح فشل هذه المحاولة.

المحاولة الثانية :

الاستعانة على إثبات معاصرة السيرة الفعليّة لزمن المعصوم علیه السلام بما هو مأثور في التاريخ سواء منه التاريخ العام - الذي يتكفّل ببيان أحوال المجتمعات الماضية والتي تتّصل بأنظمتهم وثقافتهم ومناهجهم المعتمدة في الحرب والسلم وأحوالهم الشخصيّة ومعاملاتهم اليوميّة والوسائل التي يتوسّلون بها للوصول إلى مراداتهم - أو المستفاد من المنقولات الخاصّة والتي تتّصل بالروايات الفقهيّة وما هي المسائل المثارة عند الرواة وكيفية تلقيهم لما يصدر عن الشارع المقدّس والطريقة المعتمدة عندهم في فهم

ص: 378

الخطابات الشرعيّة ، وما هو السائد عند العامة من الفتاوى وبالأخص المتّصل منها بالمعاملات إذ هي التي يمكن أن يتصيّد منها ما هو مرتكز عقلائيا في تلك الحقبة الزمنيّة.

وهذه المحاولة لو تمّت من حيث إمكان الوقوف على السيرة العقلائية السائدة في زمن المعصوم علیه السلام فهي تحتاج إلى الاطمئنان بهذه المنقولات التاريخيّة العامة ، وكذلك بما يؤثر من روايات تتصل بالفقه ؛ نعم يمكن الاكتفاء بما يؤثر من روايات بالظنّ المعتبر إلاّ أنّ ذلك يخرج السيرة عن كونها من وسائل الإثبات الوجداني.

المحاولة الثالثة :

أن يلزم من عدم تطابق السيرة في زمن المعصوم علیه السلام لما عليه التباني العملي فعلا لازم ، هذا اللازم منفي بالوجدان. مثلا : لو كان المتبانى عليه فعلا هو الاكتفاء بالسعي بين الصفا والمروة دون وضوء فإننا لو أردنا أن نثبت أنّ ذلك هو المتبانى عليه عملا في زمن المعصوم علیه السلام فإنّه يمكن التوسّل بهذه المقدمات :

المقدّمة الأولى : أنّه لو افترض أنّ الجري العملي كان كذلك أي الاكتفاء بالسعي دون وضوء لكان ذلك كاشفا عن عدم اعتبار الوضوء في السعي ، ولذلك يمكن للجاهل أن يستغني بذلك عن السؤال. ومن هنا يكون عدم وصول الأسئلة والأجوبة عن هذه المسألة مبرّرا.

المقدّمة الثانية : أنّه لو افترض أنّ سلوك المتشرّعة كان على خلاف ذلك بحيث كانوا ملتزمين بالسعي عن وضوء فإنّ هذا لا يكشف عن اعتبار الوضوء في السعي ، إذ من الممكن جدا أن يلتزم المتشرّعة بما هو

ص: 379

مستحب. ومن هنا يكون التعرّف على اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره في السعي متوقفا على السؤال أو الوقوف على الروايات المتّصلة بهذه المسألة.

المقدّمة الثالثة : أنّه لمّا كانت هذه المسألة عامة البلوى ولا طريق للتعرّف عليها عن طريق السيرة المتشرعيّة - كما اتّضح من المقدّمة الثانية - فلا محالة تكون الأسئلة عنها كثيرة وبالتالي تكون الأجوبة كثيرة أيضا أو تكون الروايات الابتدائيّة المتصدّية لبيان حكم المسألة كثيرة.

المقدّمة الرابعة : ومع افتراض عدم وصول شيء من هذا القبيل ولو بشكل محدود رغم أنّ المقتضي للوصول موجود وليس هناك ما يستوجب عدم الوصول بعد افتراض كون المسألة أيّا كان حكمها - اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره - لا تضرّ بمصالح من له القدرة على إخفاء الحقائق.

ومن هنا نستكشف تطابق السيرة المتشرّعيّة المنعقدة في زمن المعصوم علیه السلام لما عليه المتشرّعة فعلا من عدم الالتزام بالوضوء في السعي وإلاّ لو كانت السيرة على الالتزام بالوضوء للسعي لكثرت الأسئلة والأجوبة أو الروايات الابتدائيّة المتصدّية لبيان حكم المسألة بعد أن لم تكن تلك السيرة دالّة على اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره وبعد أن كانت المسألة مما تعمّ بها البلوى وعدم وجود ما يقتضي اختفاؤها.

ومع اتضاح ما ذكرناه يتّضح أنّ هذه المحاولة إنّما تنفع في الكشف عن خصوص السير المتشرّعيّة لأنّها تفترض كون الجري العملي - الذي يراد استكشافه بهذه المحاولة - مما لا يقتضيه الطبع العقلائي إذ لو كانت السيرة التي يراد استكشافها هي سيرة عقلائيّة لاختلّت بعض المقدّمات كالمقدّمة الأولى والتي تفترض استكشاف عدم الوجوب من عدم الالتزام بالوضوء

ص: 380

في السعي إذ أنّ عدم التزام العقلاء لا يكشف ابتداء عن عدم الوجوب وإنّما يفتقر إلى الإمضاء المستكشف من السكوت ، وكذلك المقدّمة الثانية وهي انحصار التعرّف على الحكم الشرعي بالسؤال أو الوقوف على الروايات المتصدّية لبيان الحكم الشرعي المبحوث عنه في حين أنّ معرفة الحكم الشرعي في السير العقلائيّة لا ينحصر بذلك إذ يكفي الرجوع إلى كبرى السيرة العقلائيّة والتي هي النكتة التي برّرت نشوء تلك السيرة ، إذ أنّ السيرة العقلائيّة يمكن أن تكشف عن حكم شرعي غير الجواز بناء على أنّ الإمضاء للسيرة العقلائيّة إنّما يقع على ما هو منشأ وكبرى تلك السيرة.

وبهذا يتضح اختلال المقدّمة الثالثة أيضا ؛ إذ لا حاجة لتكثر الأسئلة والخطابات المبيّنة لحكم المسألة المبحوث عنها مع افتراض كون السيرة عقلائيّة يمكن معرفة حدودها من خلال البحث عن مبرّراتها.

المحاولة الرابعة :

أن يكون بديل السيرة الفعليّة - والتي نريد أن نستدلّ على معاصرتها للمعصوم علیه السلام - منافيا لما هو مقتضى الطبع العقلائي العام بحيث لو كان هو المتبانى عليه آنذاك لكان بديلا شاذّا ، وهذا ما يقتضي احتفاظ التاريخ به كما حفظ لنا التاريخ كثيرا من الظواهر الاجتماعيّة الشاذّة ، ولمّا لم ينقل لنا التاريخ ما هو المتبانى عليه في زمن المعصوم في الإطار المبحوث عنه فهذا يكشف عن أنّه لا يختلف عمّا هو عليه الآن إذ أنّ افتراض كون التزام العقلاء آنذاك بما هو شاذّ عن طبع العقلاء يبرّر وصول ذلك إلينا ولو بشكل محدود ، بعد أن كان المفترض أنّه هو البديل الوحيد عمّا هو ملتزم به فعلا.

ويمكن التمثيل لذلك بالسيرة العقلائيّة الفعليّة القاضية بأحقيّة الدائن

ص: 381

في الاستيثاق على أمواله المدينة برهن أو كتابة أو شهود ، وهذه السيرة هي ما يقتضيه الطبع العقلائي العام ؛ إذ أنّ الذي يخاف على أمواله من الضياع هو الدائن أما المدين فلا خوف على أمواله بعد أن كانت أمواله وأموال الدائن تحت يده.

وإذا أردنا أن نستدلّ على امتداد هذه السيرة لزمن المعصوم علیه السلام فإنّه يقال إنه لو لم تكن هذه السيرة هي الجارية في زمن المعصوم علیه السلام لكانت السيرة الجارية هي بديلها ، وبديلها الوحيد هو عدم أحقيّة الدائن في الاستيثاق على أمواله ، وهذه السيرة على افتراض وجودها تكون شاذة ؛ إذ أنّها تقتضي أن تكون أموال الدائن في مهبّ الريح وهذا يستوجب انسداد باب المداينة المقطوع بوجوده في زمن المعصوم علیه السلام ، وشذوذ هذه السيرة يستدعي احتفاظ التاريخ بها ، ونحن بالوجدان لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا ، مما يكشف عن عدم وجود هذه الظاهرة الاجتماعيّة الشاذّة فيتعيّن تطابق ما عليه السيرة في زمن المعصوم علیه السلام مع ما عليه السيرة فعلا.

المحاولة الخامسة :

أن نسبر أغوار السيرة الفعليّة وذلك عن طريق الرجوع إلى ما هو مرتكز في أذهاننا من مرتكزات تمثل هذه المرتكزات كبرى هذه السيرة ، فإذا وجدنا أنّ هذه المرتكزات مناسبة لما هو مقتضى الطبع العقلائي والفطرة السليمة بحيث لا يكون ذلك ناشئا عن رواسب التربية أو الثقافة الاجتماعيّة السائدة والتي لا يكتب لها الثبات والاطراد لتمام المجتمعات العقلائيّة ، ففي حالة من هذا القبيل يحصل الوثوق بكون السيرة الفعليّة هي السيرة الجارية في زمن المعصوم علیه السلام ، ويمكن أن نحرز ما وصلنا إليه عبر هذا

ص: 382

التحليل الوجداني بملاحظة ما عليه المجتمعات العقلائيّة على اختلاف مشاربها ومنابع ثقافتها وظروفها ، فإذا وجدناها متفقة مع ما وصلنا إليه من نتيجة فإنّ ذلك يؤكّد أنّ ما وصلنا إليه لم يكن خاضعا لرواسب التربية والثقافة والتي قد تخلق جوا ذهنيّا خاصّا دون أن يشعر الإنسان أنّه واقع تحت هيمنة تلك التربية أو الثقافة التي نشأ في محيطها.

وهذه المحاولة وإن كانت موجبة للوثوق بتطابق السيرة المعاصرة للمعصوم علیه السلام مع ما عليه السيرة فعلا إلاّ أنّها ليست طريقة موضوعيّة يمكن التوسّل بها لإثبات المطلوب للخصم بمعنى أنّها ليست برهانية لأنّها تعتمد خطوات لا توصل إلاّ من سار عليها والبرهان ليس من هذا القبيل ؛ إذ أنّ البرهان يعتمد مقدّمات محرّرة في مرحلة سابقة يتمّ عن طريق ضمّها إثبات المطلوب.

نعم الاستدلال على المطلوب بما عليه المجتمعات العقلائيّة على اختلاف مشاربهم وثقافتهم يكون برهانيا.

وكيف كان فالوثوق بمعاصرة السيرة الفعليّة لزمن المعصوم علیه السلام لا ينهي البحث ، إذ تبقى مشكلة لا بدّ من حلّها ، وهي أنّه كيف نثبت أنّ هذه السيرة كانت ممضاة من المعصوم علیه السلام ؟ إذ لعلّه ردع عنها ولم نقف نحن على الردع ، وغاية ما يمكن أن نثبته هو عدم وجدان الردع ، إلاّ أنّ ذلك لا يكشف عن عدم وجود الردع المقتضي للإمضاء.

ويمكن حلّ هذه المشكلة بهذا البيان :

وهو ادّعاء الوثوق بعدم وجود الردع لعدم وصوله بالوجدان ، ومبرّر هذا الادّعاء هو انّ افتراض السيرة العقلائيّة المبحوث عن إمضائها متجذّرة

ص: 383

ومترسّخة في أذهان العقلاء يقتضي أن يكون مستوى الردع عنها مناسبا لما هي عليه من تأصّل وتجذّر ، وهذا هو مقتضى تحفّظ العقلاء على أغراضهم ، إذ لا يمكن إلغاء سلوك عملي عام له امتداد في أعماق كلّ واحد من أفراد ذلك المجتمع العقلائي كما له مبرّرات مترسّخة ومتوارثة كابرا عن كابر لا يمكن إلغاء مثل هذه السيرة بردع باهت يتم في مجلس محدود ، بل إنّ مثل هذه السيرة يستوجب ردعا مركّزا ومكثّفا بحيث يكون ذلك الردع مناسبا لما عليه تلك السيرة من تجذّر ، وهذا ما يستدعي عادة إثارة الرواة إذ ينساقون للاستفهام عن حيثيّات ذلك الردع ومقداره وما هو البديل عنه ، وهذا ما يقتضي تكثّر الأسئلة والأجوبة ، فإذا لم يصل إلينا شيء من ذلك لا من الردع الابتدائي ولا من الردع المستفاد من لحن الأسئلة والأجوبة رغم أنّ المقتضي للوصول - ولو بنحو مناسب لطول الفاصلة الزمنيّة بيننا وبين المعصوم علیه السلام - موجود إذ أنّ المفترض هو أنّ السيرة متأصّلة ومتجذّرة في مرتكزات العقلاء وهذا ما يثير اهتمام الناس فضلا عن المهتمين بحفظ ما يرد عن أهل البيت علیهم السلام .

كما أنّ المانع عن الوصول - ولو بشكل محدود - مفروض الانتفاء بعد أن لم يكن الردع ضارّا بمن له القدرة على الإخفاء.

ومن هنا يستكشف عدم صدور الردع عن السيرة المبحوث عنها.

وبهذا تتوفّر السيرة على كلا الركنين الأساسيّين اللّذين يؤهلانها للدليليّة ، وهما معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام وإمضاء المعصوم علیه السلام لها.

درجة الوثوق في وسائل الإحراز الوجداني :

إنّ الأدلّة المستكشفة بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها يكون

ص: 384

ناتجها إما القطع أو الاطمئنان أو الظن ، إذ أنّ ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها قد ينتج تضاؤل احتمال عدم المطابقة إلى حدّ يكون الاحتمال موهوما جدا بحيث لا ينافي القطع بالطرف المقابل ، وقد ينتج ضرب القيم الاحتماليّة تضاؤل احتمال عدم المطابقة إلى حدّ يوجب استقرار النفس بمطابقة الطرف المقابل للواقع ، وقد ينتج تضاؤل الاحتمال الظنّ القوي بمطابقة الطرف المقابل للواقع مع الاحتفاظ بمستوى معتدّ به من احتمال عدم المطابقة للواقع.

ولا إشكال في الحالة الأولى من حيث صلاحيّة الناتج « القطع » لتنجيز المقطوع والتعذير عنه.

وأمّا الحالة الثانية فقد يقال بعدم صلاحيّته بنفسه للدليلية ، بل إنّ دليليته منوطة بقيام الدليل التعبّدي على حجيّته ، ومن هنا قيل إنّ الدليل التعبّدي على حجيّة الاطمئنان هو السيرة العقلائيّة الممضاة من المعصوم علیه السلام ، وهذا ما يقتضي القطع بمعاصرة السيرة على العمل بالاطمئنان للمعصوم علیه السلام والقطع بإمضاء الشارع لهذه السيرة ؛ إذ أنّ الاطمئنان بتحقّق هذين الركنين لا يثبت حجيّة الاطمئنان للزومه الدور المستحيل ، إذ أنّنا في مقام الاستدلال على حجيّة الاطمئنان فإذا كان دليل الحجيّة هو الاطمئنان فهذا يعني توقف حجيّة الاطمئنان على حجيّة الاطمئنان.

وفي مقابل هذا القول قد يقال بحجيّة الاطمئنان بنفسه كالقطع وذلك لأنّ حق الطاعة - أداء لحق المولويّة - موجب للجريان على وفق متعلّق الاطمئنان كما هو الحال في القطع ومعذّر عن مخالفة الواقع في موارد الاطمئنان بعدم التكليف كما هو الحال في القطع ، إلاّ أنّ المميّز للاطمئنان

ص: 385

عن القطع هو إمكان ردع المولى عن الاطمئنان وهو غير ممكن في القطع.

وأمّا الحالة الثالثة فلا إشكال في عدم صلاحيّتها لإثبات الدليليّة بنفسها إذ أنّ الأصل عدم حجيّة الظن - كما ذكرنا ذلك في بحث أنّ الشكّ في الحجيّة يساوق القطع بعدم الحجيّة - ، نعم لو قام الدليل القطعي على حجيّة ظنّ من الظنون فإنّ ذلك يكسبه الدليليّة إلاّ أنّ ذلك يصيّر هذه الوسائل في موارد الإحراز التعبّدي.

ص: 386

وسائل الإحراز التعبّدي

اشارة

وهي الأدلّة الظنيّة التي تكون دليليتها على الحكم الشرعي منوطة بقيام الدليل القطعي الشرعي على ثبوت الحجيّة والدليليّة لها.

وهذه هي المعبّر عنها عند علماء الأصول بمباحث الظنّ ، وهي كثيرة منها ظواهر الخطاب الشرعي ، ومنها قول اللّغوي ، ومنها الشهرة الفتوائيّة ، ومنها خبر الواحد ، وهو كلّ خبر لا يكون مقطوع الصدور ، وقد خصّه المصنّف رحمه اللّه بالبحث في المقام دون بقيّة الأدلّة الظنيّة لعظم فائدته لو تمّت حجيّته ؛ إذ أنّ أكثر الأحكام الشرعيّة الفرعيّة وصلتنا بواسطة خبر الواحد.

وقد تعرّض المصنّف رحمه اللّه في بحثه عن خبر الواحد للأدلّة التي استدل بها على حجيّته والأدلة النافيّة للحجيّة ثمّ بحث بعد ذلك حدود الحجيّة لخبر الواحد وشرائطها بعد افتراض تماميّة الأدلّة المثبتة للحجيّة.

أدلّة حجيّة خبر الواحد :

والبحث عنها يقع تارة في أدلّة الكتاب العزيز على الحجيّة ويقع تارة أخرى عن الأدلّة المستوحاة من السنّة الشريفة على الحجيّة. أمّا أدلّة الكتاب العزيز فآيات :

منها ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا

ص: 387

قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).

والاستدلال بالآية الكريمة يتمّ بواسطة المفهوم ، إذ أنّ الجملة فيها شرطية ، وقد ثبت أنّ الجمل الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وبيان ذلك :

أنّ الآية ظاهرة في تعليق طبيعي الحكم - وهو وجوب التبيّن - على الشرط والذي هو مدخول أداة الشرط « إن » والشرط هو مجيء الفاسق وموضوع الحكم هو النبأ ، وهو منحفظ في حالتي تحقق الشرط وانتفائه ، وبهذا يكون انتفاء الشرط عن الموضوع يقتضي انتفاء الحكم ؛ أي أنّ انتفاء مجيء الفاسق عن النبأ بأن يكون الآتي به غير فاسق يقتضي انتفاء وجوب التبيّن عن ذلك النبأ.

وبهذا يثبت عدم وجوب التبيّن عن نبأ العادل لانتفاء شرط وجوب التبيّن.

وهذا يقتضي حجيّة نبأ العادل إذ لا معنى لعدم وجوب التبيّن عن نبئه إلاّ ثبوت الحجيّة له وإلاّ كان مساويا لنبأ الفاسق أو أسوأ حالا منه ، وكلاهما منفيّان فيتعيّن ثبوت الحجيّة لنبئه. أمّا افتراض المساواة فمنفي بمفهوم الشرط ، وأمّا افتراض كونه أسوء حالا من الفاسق فلأنّ نبأ الفاسق يمكن أن تثبت له الحجيّة إذا تبيّن صدقه أمّا نبأ العادل - بناء على الفرض - فلا تثبت له الحجيّة وإن ثبت صدقه.

وبهذا يتضح تعيّن الحجيّة لنبأ العادل بمقتضى مفهوم الشرط.

ص: 388


1- سورة الحجرات آية 6

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادين :

الإيراد الأوّل : أنّ الجملة الشرطية في الآية الكريمة لا مفهوم لها ؛ لأنّ الشرط فيها سيق لبيان تحقّق الموضوع وفي كلّ حالة من هذا القبيل لا يثبت للقضيّة الشرطيّة مفهوم.

وبيان ذلك : أنّ الشرط وهو مجيء الفاسق هو المحقّق للموضوع « النبأ » ولا يمكن افتراضه في ظرف انتفاء الشرط ؛ إذ أنّ الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ - هو الموجد للنبأ ولولاه لما كان للنبأ وجود ، فلو أنّ للجملة مفهوم لكان مساقها هكذا « إذا لم يجيء الفاسق بالنبأ فلا يجب التبيّن عنه » وهذه قضيّة حتميّة إذ أنّها من السالبة بانتفاء الموضوع ، فمن الطبيعي أنّ الموضوع - وهو النبأ - لمّا كان منتفيا فينتفي بتبعه الحكم. وهذا بخلاف المفهوم فإنّ الموضوع يظلّ ثابتا ومن هنا يتصوّر انتفاء الحكم عنه لإمكان تصوّر ثبوت الحكم له.

فمثلا الجملة الشرطيّة التي هي من قبيل « إذا جاءك زيد فأكرمه » فإنّ الموضوع وهو زيد له تقرّر وثبوت بغض النظر عن

الشرط وهو المجيء ، ومن هنا يتعقل ثبوت المفهوم لمثل هذه القضيّة إذ أنّ الموضوع في ظرف انتفاء الشرط يتصوّر ثبات الحكم له ، ومن هنا يكون انتفاء الحكم متصوّرا أيضا.

وقد أجاب صاحب الكفاية رحمه اللّه عن هذا الإيراد بما حاصله :

إننا وإن كنّا نسلّم بتماميّة الإيراد - بناء على أن الشرط هو مجيء الفاسق

ص: 389

والموضوع هو النبأ - إلا انّه يمكن افتراض كون الموضوع هو الجائي بالنبأ والشرط هو الفسق وبالتالي لا يكون الشرط محقّقا للموضوع ؛ إذ أنّ الموضوع وهو الجائي بالنبأ فرض متقرّرا بقطع النظر عن الشرط وهو مجيء الفاسق به أو عدم ذلك ، فالموضوع ثابت سواء كان الشرط ثابتا أو منتفيا ، وحينئذ يكون مساق الآية الكريمة « إن كان الجائي بالنبأ فاسقا فتبيّنوا » ومن هنا يمكن أن يتصوّر انحفاظ الموضوع مع انتفاء الشرط هكذا : « إن لم يكن الجائي بالنبأ فاسقا فلا يجب التبيّن » وهذا يعني أنّ الجائي بالنبأ إذا كان عادلا فلا يجب التبيّن من نبئه ، وهو معنى الحجيّة لنبأ العادل.

والإشكال على صاحب الكفاية أنّه لم يشر إلى النكتة الاستظهاريّة الموجبة لتعيّن هذا الافتراض ، فهذا الافتراض وإن كان يدفع الإيراد السابق إلاّ انّه لا يحلّ الإشكال من حيث إنه لم يبيّن ما يوجب استظهار هذا الافتراض دون الافتراض الأوّل المبتلي بإشكال محقّقيّة الشرط للموضوع.

الإيراد الثاني : أنّ الآية الكريمة مذيّلة بعلّة الحكم بوجوب التبيّن من خبر الفاسق ، وهذه العلة تشمل بإطلاقها خبر العادل. ومن هنا تكون هذه العلّة قرينة أو صالحة للقرينيّة على عدم إرادة المفهوم من الآية الكريمة.

وبيان ذلك : أنّ الآية الكريمة قد علّلت وجوب التبين من خبر الفاسق بأن عدم التبيّن عمل بغير علم ، ومن الوضوح أنّ هذه العلّة لا تختص بخبر الفاسق بل هي شاملة لخبر العادل لكونه من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم ، والعلّة كما قيل تكون معمّمة وتكون مخصّصة ، فحينما يقال « حرّمت الخمرة لإسكارها » فهذا يعني أنّ مطلق ما يوجب الإسكار

ص: 390

حرام وإن كان من غير سنخ الخمرة وذلك لعموم التعليل.

والمقام من هذا القبيل ولذلك تكون هذه العلّة المعمّمة قرينة على عدم إرادة المفهوم من الآية الكريمة أو لا أقلّ أنّها صالحة للقرينيّة ؛ إذ أنّ العلل المنصوصة - كما قلنا - صالحة لتعميم الحكم لغير موردها. وإذا كانت العلّة صالحة للقرينيّة فهذا يقتضي إجمال المراد وأنّ المولى هل أراد المفهوم من الآية الكريمة أو لا؟

الجواب عن هذا الإيراد :

وقد أجيب عن هذا الإيراد بثلاثة أجوبة :

الأوّل : إنّ الإصابة بجهالة - والتي هي علّة الحكم - تعني العمل السفهي ، فكلّ عمل لا يستند إلى الضوابط العقلائيّة يطلق عليه العرب عمل بجهالة ولذلك قال الشاعر عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل مثل جهل الجاهلينا

فأطلق على التعدّي بغير حق عنوان الجهالة ، والمقام من هذا القبيل إذ أنّ ترتيب الأثر على خبر الفاسق والذي لا يتحرّز عن الكذب ينافي ما عليه العقلاء ولذلك يكون العمل به عملا بجهالة.

ومع اتّضاح معنى الجهالة في استعمالات العرب يتّضح عدم شمول الحكم المعلّل بالجهالة لخبر العادل إذ أنّ سيرة العقلاء جاريّة على ترتيب الأثر على خبره ممّا يكشف عن أنّه متوفّر على الضوابط العقلائيّة ؛ إذ أنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يجرون إلاّ على ما هو مناسب لمقتضى المرتكزات المبرّرة عقلائيا.

ص: 391

الثاني : إنّنا لو سلّمنا بعموم التعليل وأنّه شامل لخبر العادل إلاّ أنّ ذلك لا يوجب إلغاء المفهوم ؛ إذ أنّ علاقة المفهوم - وهو عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل - مع عموم التعليل علاقة الإطلاق والتقييد وهو ما يقتضي حمل المطلق - والذي هو عموم التعليل - على المقيّد والذي هو المفهوم.

وبيان ذلك : أنّ عموم التعليل يشمل مطلق أخبار الآحاد ومقتضى مفاد المفهوم هو عدم وجوب التبيّن عن خبر خصوص العادل ، وهذا ما يقتضي بموجب قاعدة حمل المطلق على المقيّد حمل عموم التعليل على المفهوم.

الثالث : إنّ مفاد المفهوم هو أنّ خبر العادل بيّن بنفسه فلا يحتاج إلى التبيّن من صدقه أو كذبه ، وهذا ما يقتضي خروجه موضوعا عن عموم التعليل ؛ إذ أنّ موضوع التعليل هو عدم العلم وخبر العادل يعطي العلم ولو تعبدا ، ومع تباين الموضوعين لا يمكن تعدية الحكم المعلّل بعلّة لموضوع مباين لموضوع تلك العلّة.

وبعبارة أخرى : لمّا كان مفاد المفهوم هو علميّة مؤدى خبر العادل فهذا يعني عدم شمول الحكم المعلّل في المنطوق له ؛ وذلك لأنّ موضوع علّة الحكم في المنطوق هو عدم العلم وقد قلنا إن الشارع قد افترض مؤدى خبر العادل علما ، وهذا ما يقتضي مباينة موضوع العلّة مع موضوع مؤدّى خبر العادل.

ومنها قوله تعالى ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

ص: 392

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

والاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة أنّ ذلك هو مقتضى إطلاق مطلوبيّة الحذر عند إنذار المنذر سواء أفاد إنذاره العلم أو لم يفد العلم ، إذ لا معنى لمطلوبية الحذر عند إنذاره إلاّ جعل الحجيّة لإنذاره.

وبيان ذلك : أنّ مفاد « لعل » هو الترجي والذي هو من أقسام الطلب ، وهذا يعني أنّ مدخول لعلّ يكون مطلوبا ، وإذا كان كذلك فالحذر لمّا وقع مدخولا ل- « لعل » فهو إذن مطلوب للمولى ، ومطلوبيّته بمقتضى سياق الآية الكريمة هو غاية الإنذار الواجب ، وبهذا يثبت أنّه كلّما تحقّق الإنذار فالحذر مطلوب ، سواء كان الإنذار موجبا للعلم بمطابقة مؤداه للواقع أو غير موجب للعلم ، وبهذا الإطلاق تثبت مطلوبيّة الحذر من إنذار المنذر الواحد ، ولا معنى لمطلوبيّة الحذر عند إنذار المنذر إلاّ صحّة التعويل على إنذاره والاحتجاج به على العبد عند المخالفة إذ أنّ الحذر إذا كان مطلوبا ومع ذلك لا يصح التعويل عليه فهذا أشبه شيء بالالتزام بالضدّين.

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

اشارة

وقد أورد المصنّف رحمه اللّه على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بثلاثة إيرادات :

الإيراد الأوّل :

إنّ الإنذار لمّا كان يعني الترهيب والتخويف من مخالفة ما تستتبع

ص: 393


1- سورة التوبة آية 122

مخالفته العقوبة فهذا يعني أنّ منجزيّة المنذر به افترضت متقرّرة في رتبة سابقة ، وليس الموجب لتنجز المنذر به هو نفس الإنذار وإنّما وظيفته هي التذكير - وبأسلوب وعظي - بما ثبتت منجزيّته وموجبيّته للعقاب بمثبت آخر ليس المولى في مقام بيانه.

ومن هنا لا تكون مطلوبيّة الحذر الواقعة غاية للإنذار كاشفة عن حجيّة خبر المنذر ؛ وذلك لأنّ الإنذار لا يولّد الحجيّة لمتعلقه بل إنّ متعلّقه ثابت بحجّة أخرى. فمثلا لو ثبتت حرمة الخمر ، وأنّ شربه حرام يستوجب عقاب المولى فإنّ التذكير بالحرمة وبما يترتّب على مخالفتها من عقوبة هو معنى الإنذار.

ويمكن التمثيل أيضا بالعلم الإجمالي وبالشبهات الحكميّة قبل الفحص فإنّه قد ثبت بحكم العقل منجزيّة الحكم الواقعي في هذين الموردين ، ففي حالة التذكير بهذه المنجزيّة والترهيب من مخالفة مقتضاها يكون مثل هذا التذكير إنذارا ، ومطلوبيّة الحذر حينئذ لا تعني حجيّة خبر المنذر ؛ لأنّ الإنذار لم يولّد المنجزيّة لمتعلقه إذ أنّ الكاشف عن المنجزيّة في الموردين هو العقل ، نعم لو كان الإنذار هو المحقق للمنجزيّة لمتعلقه ومؤدّاه لأمكن تتميم الاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر المنذر ، إلاّ أن ذلك خلف ما هو المستفاد من معنى الإنذار.

الإيراد الثاني :

لو تنزّلنا وقلنا إنّ الإنذار يصدق في موارد عدم تنجّز متعلقه في رتبة سابقة بحيث يكون خبر المنذر هو المولّد للتنجيز إلاّ أنّه مع ذلك لا تثبت الحجيّة لخبر المنذر بالمعنى المبحوث - والتي تعني المنجزيّة في موارد مطابقة

ص: 394

الخبر للواقع والمعذريّة في موارد مخالفة الخبر للواقع ، إذ أن أقصى ما يثبت من حجيّة لخبر المنذر هو المنجزيّة والتي تعني نفي البراءة الشرعيّة عن التكليف المحتمل. وهذا المقدار من الحجيّة ناشيء عن أنّ إخبار المنذر بالتكليف الإلزامي يولّد احتمالا بوجود تكليف إلزامي مولوي ، وبه تتحقّق صغرى الحكم العقلي القاضي بمنجزيّة التكاليف المحتملة.

وبهذا يتنقح أنّ الحجيّة الثابتة لخبر المنذر ليس منشؤها الجعل الشرعي وإنّما هو حكم العقل بمنجزيّة التكاليف المحتملة ، وهذا ما يقتضي أنّ المنجزيّة الثابتة له معلّقة على عدم الترخيص ، نعم لو كنّا نذهب إلى جريان البراءة العقليّة في موارد التكاليف المحتملة اعتمادا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأمكن تتميم الاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر المنذر ؛ إذ لو لا المنجزيّة الثابتة بالآية الكريمة لجرت البراءة العقليّة عن التكليف المحتمل المفاد بواسطة خبر المنذر.

الإيراد الثالث :

إنّنا لو تنزّلنا وقلنا إنّ الآية الكريمة تثبت حجيّة إنذار المنذر بالمعنى المبحوث إلاّ أنّ هذه الحجيّة لم تثبت لإنذار المنذر باعتباره خبرا حسيّا - والذي هو محل البحث - وإنّما تثبت الحجيّة لإنذار المنذر باعتباره خبرا حدسيّا ؛ إذ أنّ الإنذار يستوجب صياغة الخبر بأسلوب وعظي مؤثر ، وهذا ما يعني أنّ المنذر حينما يتلقى الخبر لا يلقيه كما هو بل يعرضه على فهمه وعلى المقدّمات المتناسبة مع مستوى إدراكه ثمّ يستنتج من الخبر وبضمه إلى المقدمات المدركه نتائج يصوغها بأسلوب مؤثر ، وإذا كان هذا هو معنى الإنذار فالحجيّة الثابتة له أجنبيّة عن محلّ البحث ؛ إذ أنّ المبحوث عنه هو

ص: 395

حجيّة خبر الثقة الحسّي ، والحجيّة الثابتة في المقام إنّما هي للخبر الحدسي.

ومنها : قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1).

والاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة يتم بواسطة الملازمة العقلائيّة بين إطلاق حرمة الكتمان المستفاد من الآية الكريمة وبين القبول من المتلقي للخبر عند امتثال العالم حرمة الكتمان.

وبيان ذلك : أنّ المستفاد من الآية الكريمة هو حرمة كتمان الحق والهدى بنحو مطلق سواء كان بيان الحقّ موجبا للعلم عند المتلقي للخبر أو غير موجب للعلم ، وإذا كان كذلك فإمّا أن يجب القبول والتعويل على ذلك البيان أو لا يصح التعويل والقبول في حالة عدم حصول العلم ، والثاني باطل فيتعيّن الأول.

أمّا بطلان الثاني وهو عدم صحّة القبول في ظرف عدم العلم فلأنّه يلزم منه محذور لا يلتزم به العقلاء ، وهو لغويّة حرمة الكتمان ووجوب البيان في حالة عدم ترتّب العلم على البيان ؛ إذ من العبثية بمكان أن يجب البيان ومع ذلك لا يترتّب عليه أثر. ومن هنا يتعيّن الأول وهو وجوب القبول عند عدم الكتمان وبيان العالم ما عنده من البيّنات والهدى ، وبهذا يثبت المطلوب ، إذ أنّ وجوب القبول في ظرف عدم اقتضاء البيان للعلم معنى آخر للحجيّة.

ص: 396


1- سورة البقرة آية 159

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

اشارة

وقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادين :

الإيراد الأوّل :

إن المراد من الكتمان هو إخفاء الحقائق في مورد يكون بيانها موجبا لتجلّيها واتّضاحها عند المخاطب ، أمّا في الموارد التي لا يكون البيان كاشفا عن الحقائق بنحو العلم ، وذلك لانتفاء المبرّرات المساعدة على اتّضاح الرؤية بشكل تامّ للمخاطب فلا يسمّى عدم البيان - في مثل هذه الحالات - كتمانا فيكون خارجا موضوعا عن الحرمة ، وذلك لأنّ موضوع الحرمة هو الكتمان ولا كتمان في مورد عدم ترتّب العلم على البيان.

الإيراد الثاني :

لو تنزّلنا وقلنا إنّ السكوت عن بيان الحقائق في موارد عدم ترتّب العلم يعدّ كتمانا إلاّ أنّ ذلك لا يلزم منه حجيّة خبر الواحد غير الموجب للعلم ، وذلك لاحتمال أن يكون الدافع من تحريم الكتمان بنحو مطلق هو تحفّظ المولى على غرضه من عدم الكتمان في موارد ترتّب العلم ، ولمّا كان من الصعب تشخيص الموارد التي يترتّب عن البيان فيها العلم والتي لا يترتّب عنه العلم ؛ وذلك لأنّ موارد ترتّب العلم عن البيان لا تخضع لضوابط محدّدة بل إنها ترتبط بقرائن خاصة قد لا يحسن تشخيصها كلّ أحد وهي تختلف من ظرف لآخر ، وهذا ما قد يوجب تفويت غرض المولى في حالات كثيرة ، ومن هنا احتاط المولى لغرضه فحرّم الكتمان مطلقا ، وبهذا ينحفظ غرض المولى وهو عدم كتمان الحقائق في موارد ترتّب

ص: 397

العلم.

وبهذا تنتفي الملازمة المذكورة في تقريب الاستدلال بين حرمة الكتمان مطلقا وبين الحجيّة لخبر الواحد ؛ وذلك لأنّ قوام الملازمة المذكورة هو لزوم اللغويّة من تحريم الكتمان مطلقا لو لم نقل بلزوم القبول ، وهذه الملازمة لا تتمّ مع هذا الاحتمال إذ أنّه لا لغويّة لو كان الغرض من إطلاق حرمة الكتمان هو احتياط المولى لأغراضه وتحفّظه عليها ؛ إذ من القريب جدا أن يجعل المولى موضوع حكمه أوسع من مقدار الغرض وذلك بدافع التحفّظ على ذلك الغرض.

ومنها : قوله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

ودلالة الآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة مستفاد من الملازمة العقلائيّة العرفيّة بين إطلاق الأمر بالسؤال ، وبين قبول الجواب وترتيب الأثر عليه ، وإلاّ فوجوب السؤال دون أن يصح التعويل على جوابه لغو لا يصدر من الحكيم. وبتعبير آخر : إنّ إطلاق إيجاب الأمر بالسؤال عند عدم العلم يقتضي عقلائيا لزوم ترتيب الأثر على جواب ذلك السؤال وإلاّ فأيّ فائدة تستوجب الأمر بالسؤال في موارد عدم ترتّب العلم من الجواب لو لا أنّ الشارع جعل الحجيّة تعبدا في حالات عدم ترتّب العلم من الجواب.

وبهذا تثبت الحجيّة لجواب العالم حتى لو لم يحصل من جوابه العلم ، ومع إلغاء خصوصيّة وقوع الخبر موقع الجواب تثبت الحجيّة لمطلق خبر

ص: 398


1- سورة النحل آية 43

الثقة ولو كان ابتدائيا.

الإشكال على الإستدلال بالآية الكريمة :

اشارة

والإيرادات السابقة التي أوردت على الإستدلال بآية الكتمان صالحة للورود على الإستدلال بهذا الآية الكريمة ، وتختص هذه الآية الكريمة بإيرادات أخرى :

الإيراد الأوّل :

انّ المتفاهم العرفي من الأمر بالسؤال في الآية الكريمة انّه نحو احتجاج على المنكرين للرسالة وانّه إرشاد لوسيلة من وسائل التعرّف على حقّانيّة نبوة النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وذلك لانّ الخطاب بالأمر بالسؤال انّما هو متوجّه إلى المنكرين للرسالة والمشكّكين في صوابيتها ، وهذا ما يقتضي كون الأمر بالسؤال سيق لغرض التنبيه والإرشاد إذ أنّ الرجوع إلى أهل الذكر يوجب خصم المنكرين واتّضاح الرؤية للمشكّكين.

وهذا هو المناسب لمساق الآية الكريمة إذ انّ المخاطب فيها - كما قلنا - هم المنكرون والمرتابون وليس من المعقول أن يحتج عليهم بجواب أهل الذكر إذا لم يكن جوابهم مفيدا للعلم ، إذ أنّ الإحتجاج بغير العلم يحتاج إلى جعل شرعي والمخاطب في الآية لمّا لم يكن متعبدا بالمجعولات الشرعيّة فهذا ما يكشف عن أنّ المولى لم يكن بصدد بعث المخاطب مولويا ، وإذا لم يكن الأمر في الآية مولويّا فلا كاشفيّة له عن حجيّة الجواب إذا لم يفد العلم ، إذ انّ ذلك يحتاج إلى جعل شرعي تعبدي وهذا ما يقتضي كون الخطاب صادرا عن المولى بما هو شارع ، وهو خلف ما استظهرناه من الآية وانّ

ص: 399

المولى في مقام التنبيه والإرشاد.

الإيراد الثاني :

انّ الفاء التي وقع الأمر مدخولا لها مفيدة لتفرّع الأمر بالسؤال على المتفرّع عنه وهو الكلام الذي سبق الفاء. وهذا ما يقتضي اختصاص متعلّق السؤال - المأمور به - بمورد المتفرّع عنه ، فليس كل ما لا يعلم يجب السؤال عنه بل الذي يجب السؤال عنه هو ما تفرّع الأمر بالسؤال عليه ، ولمّا كان المتفرّع عليه الأمر هو إرسال اللّه عزّ وجلّ للرسل بواسطة الوحي إليهم يكون مساق الآية هكذا « انّ اللّه أرسل الرسل بواسطة الوحي إليهم فإذا لم تصدقوا بذلك فاسئلوا أهل الذكر » فمتعلق الأمر بالسؤال ليس فيه إطلاق ، وعليه لا تكون الآية الكريمة دالّة على وجوب السؤال عن كل ما هو غير معلوم لكي يستكشف بالملازمة العقلائيّة العرفيّة وجوب القبول.

الإيراد الثالث :

انّه قد اتضح ممّا تقدّم انّ الآية الكريمة ترتبط باصول الدين ، ولا إشكال في عدم حجيّة خبر الواحد فيما يرتبط باصول الدين.

الإيراد الرابع :

انّ من المحتمل قريبا ان المراد من أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى وإذا تمّ هذا الإحتتمال فالإستدلال بالآية على حجيّة خبر الثقة ساقط إذ انّ الآية - بناء على هذا الإحتمال - تكون أجنبيّة عن محلّ البحث ، نعم لو كان المراد من أهل الذكر هم أهل العلم والرواية لأمكن تتميم الإستدلال بالآية الكريمة إلاّ أنّه لمّا كان الإحتمال الأول قريبا فإنّه يوجب إجمال المراد من أهل الذكر. وبهذا لا تكون الآية صالحة للإستدلال بها

ص: 400

على حجيّة خبر الثقة.

وأمّا السنّة الشريفة :

اشارة

والإستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لا بدّ أن لا يتم بواسطة خبر الواحد إذ يلزم من ذلك الدور المستحيل إذ انّ الإستدلال على حجيّة خبر الواحد بخبر الواحد يعني توقف الشيء على نفسه.

ومن هنا لا بدّ من التوسّل لإثبات الحجيّة لخبر الواحد بالسنّة الشريفة بوسائل أخرى لا يلزم منها محذور الدور.

وقد استدلّ المصنّف على حجيّة خبر الثقة بالسنّة الشريفة بدليلين :

الدليل الأول : التواتر :

وتقريب الإستدلال به هو انّه قد تكثّرت الروايات التي يمكن اقتناص الحجيّة منها لخبر الواحد ، فهي وإن لم ترد بلسان واحد ومضمون واحد ولم تكن مسوقة لغرض واحد إلاّ انه يمكن استفادة جعل الحجيّة للخبر من مجموعها. ومن هنا يكون التواتر المدّعى تحقّقه في المقام هو التواتر الإجمالي والذي يقتضي التمسّك بالمقدار المشترك من مضامين هذه الروايات إذ أنّ المقدار المختص برواية أو روايتين لا يشكّل تواترا وبهذا يكون الإعتماد عليه في إثبات الحجيّة اعتمادا على خبر الواحد الذي نبحث عن حجيّته. ولهذا لو وردت بعض الروايات على حجيّة خبر الواحد بنحو مطلق ودلّت روايات أخرى على حجيّة خبر الثقة ودلّت طائفة ثالثة من الروايات على حجيّة خبر الإمامي وروايات أخرى على حجيّة خبر العدل فإنّ المقدار المشترك من مجموع هذه الروايات هو خبر الإمامي العدل ، فهذا هو الذي تثبت له

ص: 401

الحجيّة بواسطة ما يشكّله مجموع هذه الروايات من تواتر إجمالي.

وقلنا القدر المشترك ولم نقل القدر المتيقّن باعتبار أنّ القدر المشترك قد يفترق عن القدر المتيقّن وبهذا تثبت الحجيّة لما هو أوسع من القدر المتيقّن كما لو كان القدر المشترك من مجموع الروايات هو خبر الثقة كأن لم يكن هناك ما يثبت اختصاص الحجيّة بخبر العدل الإمامي أو كان المقدار الذي يمكن اقتناص حجيّة خبر الثقة منه يشكّل تواترا إجماليا فإنّ الحجيّة حينئذ تكون ثابتة لما هو أوسع من القدر المتيقّن.

الدليل الثاني : السيرة :

انعقاد السيرة على العمل بخبر الثقة ، وبيان ذلك : أنّه إذا أردنا أن نستدلّ بالسيرة على حجيّة خبر الثقة فلا بدّ أولا من إثبات معاصرتها للمعصوم علیه السلام ، وإذا كانت السيرة من سنخ السير العقلائيّة فدليليتها منوطة بإمضاء الشارع لها ، وهذا ما يحتاج إلى إثبات أيضا ، ومن هنا يتّجه البحث أولا عن أنّ هذه السيرة المدعاة هل هي معاصرة للمعصوم علیه السلام أو لا؟

ويمكن إثبات معاصرتها بهذا البيان :

وهو أنّ من المقطوع به اطّلاع المتشرّعة المعاصرين للمعصوم على روايات كثيرة جدا لا تكون موجبة للعلم بمؤداها أو الاطمئنان الشخصي من كلّ واحد من المتشرّعة بها ، بل إنّ هذا النحو من الروايات يمثّل الجزء الأكبر ممّا يصل عن أهل البيت علیهم السلام ، وذلك لشحّة الوسائل الموجبة لتحصيل العلم آنذاك ، وغالبا ما يبيّن الإمام علیه السلام الأحكام الشرعيّة في مجالس خاصة.

ومع الإذعان بهذه المقدمة يقع التساؤل عما هو الموقف العملي

ص: 402

للمتشرّعة تجاه هذه الروايات والّتي ترتبط بهم أشد ارتباط باعتبارهم متشرّعة ، فهل أنّ سيرتهم جارية على العمل بمثل هذه الروايات أو أنّ الموقف تجاه هذه الروايات كان التوقّف وعدم العمل ما لم يحصل العلم بمؤدّاها.

الظّاهر هو الأول ؛ وذلك لأنّ الثاني يلزم منه ما هو منفي بالوجدان ؛ إذ لو كان سلوكهم جاريا على عدم العمل بمثل هذه الروايات لكان ذلك ناشئا إمّا عن الردع من أهل البيت علیهم السلام عن العمل بمثل هذه الروايات ابتداء وإمّا أن يكون ذلك ناشئا عن أجوبة الاستفسارات الواردة عن المتشرّعة ؛ وذلك لمسيس الحاجة للتعرّف على موقف الشارع من هذه الروايات والتي - كما قلنا - تمثّل الجزء الأكبر ممّا يصل عن أهل البيت علیهم السلام ، والذي يعزّز ذلك أنّ عدم العمل بمثل هذه الروايات ينافي ما هو مرتكز في جبلّة المتشرعة بما هم عقلاء ؛ إذ أنّ سيرة العقلاء جارية على العمل بأخبار الثقات والتي لا تورث العلم بمطابقة مضمونها للواقع.

وكيف كان فلو أنّ الموقف من هذه الروايات هو عدم العمل بها لوصلتنا - ولو بمستوى محدود - البيانات الصادرة عن أهل البيت علیهم السلام لغرض الردع عنها أو وصلتنا مجموعة من الأسئلة والأجوبة المتضمّنة للردع في حين أنّنا لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا ، ولو كان شيء من هذا القبيل موجودا لبلغنا ولو الشيء اليسير منه ، خصوصا وأنّ هذه المسألة على درجة كبيرة من الأهميّة وليس هناك ما يبرّر الاختفاء لو كان ، وإذا كان الواصل هو ما يؤكد الحجيّة أو يدلّ عليها فهذا موهن آخر للاحتمال الثاني.

وبهذا يثبت أنّ السيرة الجارية آنذاك للمتشرّعة هي عين ما عليه

ص: 403

الآن من العمل بأخبار الثقات.

وما ذكرناه يصلح لإثبات معاصرة السيرة العقلائيّة للمعصوم علیه السلام على العمل بأخبار الثقات لو كانت السيرة العقلائيّة الفعليّة جارية على العمل بأخبار الثقات وأردنا إثبات امتدادها لزمن المعصوم علیه السلام ، غاية ما في الأمر أنّنا نحتاج لإثبات دليليّة السيرة العقلائيّة على الحجيّة إلى أمر آخر وهو الإمضاء في حين أنّ دليليّة السيرة المتشرعيّة لا تتوقّف على إثبات الإمضاء.

وإذا أردنا في المقام أن نثبت الإمضاء للسيرة العقلائيّة فإنّه يمكن استكشاف ذلك من عدم الردع إذ أنّ الردع الذي نحتاجه لإلغاء مثل هذه السيرة لا بدّ أن يكون ردعا مركّزا ومكثفا ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى ترسّخ هذه السيرة وتجذرها وهو المناسب لأهميّتها وخطورتها لو كانت منافية لأغراض الشارع المقدّس ، وهذا ما يقتضي وصول شيء من ذلك الردع إذ من المستبعد جدا صدور الردع بالنحو المناسب لمستوى تأصّل هذه السيرة ولا يصل شيء من ذلك الردع إلينا رغم عدم وجود ما يقتضي خفاء الردع لو كان ، ممّا يؤكّد عدم وجود الردع.

ومن هنا يستكشف الإمضاء.

الأدلّة التي استدلّ بها على الردع :

اشارة

أولا : الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، فإنّه يمكن أن يدّعى كفاية الاعتماد عليها في الردع عن مثل هذه السيرة دون الحاجة لأن يفرد لها

ص: 404

ردعا خاصا ؛ إذ أنّ مقتضى إطلاق النهي عن العمل بالظن هو أنّ الشارع لم يجعل الحجيّة لمطلق الظنّ والذي منه السيرة ، إذ أنّها لا تكشف عن الحكم الواقعي كشفا قطعيّا.

ثانيا : التمسّك بإطلاق الأدلّة التي دلّت على جريان البراءة في موارد عدم العلم ، ومن الواضح أنّ خبر الثقة لا يورث العلم بمؤدّاه.

ومن هنا تكون أدلّة البراءة صالحة للردع عن العمل بأخبار الثقات.

والجواب :

إلاّ أنه يمكن الجواب على دعوى رادعيّة هذين الأمرين للسيرة بما حاصله :

إنّه قد ثبت ممّا تقدم معاصرة السيرة المتشرعيّة - على العمل بأخبار الثقات - للمعصوم علیه السلام ، فإذا كان ما ذكر رادعا رغم انعقاد السيرة المتشرعيّة على العمل وعدم الجري على ما هو مقتضى دعوى الردع فهذا ما يوجب انقداح مجموعة من الاحتمالات :

الاحتمال الأول : أنّ المتشرعة كانوا ملتفتين إلى أنّ هذه الآيات وكذلك أدلّة البراءة الصادرة لغرض الردع عن مثل هذه السيرة إلاّ أنّهم عصوا واستمرّوا على العمل بأخبار الثقات.

الاحتمال الثاني : أنّ المتشرّعة لم يكونوا ملتفتين إلى صلاحية هذه الآيات وأدلّة البراءة إلى الردع عن السيرة وهذا سرّ استمرارهم على العمل بأخبار الثقات.

الاحتمال الثالث : أنّ هذه الأدلّة ليست بصدد الردع عن السيرة واقعا.

أمّا الاحتمال الأوّل فمستبعد جدّا ؛ وذلك لافتراضهم متشرعة وأنهم

ص: 405

يجرون على وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة وافتراض المعصية في حقّهم خلف الفرض إذ أنّهم حينما يخرجون عن سلك الطاعة فمعناه انسلاخهم عن عنوان المتشرّعة وقد افترضنا أنّ السيرة المنعقدة في زمن المعصوم علیه السلام كانت سيرة متشرّعيّة.

وبهذا يتعيّن الاحتمال الثاني أو الثالث وكلاهما يصبّان في صالح النافين للردع ، إذ أنّ الاحتمال الثاني لو كان هو المتعيّن لكان ذلك يقتضي أنّ الردع لم يكن متناسبا مع حجم السيرة وإلاّ لما غفل عنه المتشرّعة رغم حرصهم على التعرّف على كلّ ما يصدر عن الشارع خصوصا في مثل هذه الموارد التي تبلغ من الأهميّة درجة لا يتعقّل معها غفلة المتشرّعة عن موقف الشريعة.

وأمّا الاحتمال الثالث فيثبت به المطلوب وهو أنّ هذه الأدلّة ليست رادعة واقعا عن هذه السيرة.

أدلّة نفي الحجيّة :

اشارة

ويمكن أن يستدل على عدم حجيّة أخبار الثقات بالكتاب العزيز والسنّة الشريفة :

أمّا الكتاب العزيز :

فمثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) حيث نهت هذه الآية الكريمة عن العمل بكلّ ما هو غير علمي والذي منه خبر الواحد.

ص: 406


1- سورة الإسراء آية 36

والجواب عن الاستدلال بهذه الآية الكريمة أنّ هذه الآية دلّت على النهي عن العمل بالظنّ بنحو الإطلاق ، والأدلّة التي استدل بها على حجيّة خبر الثقة صالحة لتقييد هذا الإطلاق بمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيد.

وتقييد هذا الإطلاق إمّا أن يكون بالأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجيّة خبر الثقة مثل الآيات أو الروايات المتواترة. وإمّا بالدليل اللبي وهو السيرة بعد أن لم تكن هذه الآيات صالحة للردع عنها كما اتضح مما ذكرناه سابقا.

وأمّا السنّة الشريفة :

فقد ذكر المصنّف رحمه اللّه طائفتين من الروايات التي يمكن أن يستدل بها على نفي الحجيّة عن خبر الثقة :

أمّا الطائفة الأولى : فهي الروايات التي دلّت عدم حجيّة الأخبار التي لا تورث العلم.

منها : ما رواه محمّد بن إدريس في آخر السرائر نقلا عن كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمّد علیه السلام أنّ محمّد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك علیهم السلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الرد إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب علیه السلام « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا » (1).

والذي يرد على هذه الطائفة :

أوّلا : إنّها ساقطة عن الاعتبار لضعف سندها ، فالرواية التي ذكرناها

ص: 407


1- وسائل الشيعة : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36

مثلا نقلها الشيخ ابن إدريس رحمه اللّه عن كتاب مسائل الرجال المنسوب إلى محمّد بن علي بن عيسى وهذا الرجل لم يذكر له توثيق ، نعم ذكر النجاشي أنّه كان وجها بقم وأميرا عليها من قبل السلطان ، وهذا لا يعبّر عن وثاقة الرجل ، كما أنّ طريق الشيخ ابن إدريس للكتاب مجهول حيث إنّ جميع الكتب التي نقل عنها في آخر كتابه السرائر لم يذكر طرقه إليها ، وبهذا تكون جميعها ساقطة عن الاعتبار لمجهولية الطرق التي اعتمد عليها للوصول إلى هذه الكتب ، فهو وإن كان يذهب إلى عدم حجيّة أخبار الآحاد مما يشعر بأن كل الروايات التي استطرفها في آخر كتابه السرائر كانت متواترة إلاّ أنّه لا سبيل إلى إثبات ذلك بعد احتمال اعتماده في الوثوق بالروايات التي نقلها على قرائن توجب بنظره الوثوق بصدور هذه الروايات ، وهي ليست حجة على غيره ، كما أنّها لو كانت متواترة فهي متواترة بنظره ؛ إذ أنّ تحديد مناط التواتر أمر حدسي تتفاوت فيه أنظار العلماء إن لم يكن كبرويا فصغرويا ، ثم إنّه من البعيد أن يكون الشيخ ابن إدريس وقف على طرق تبلغ حدّ التواتر لكتاب مسائل الرجال ، فإنّ الطرق التي وصلتنا لهذا الكتاب هي طريق النجاشي وهو ضعيف وطريق الشيخ الطوسي رحمه اللّه وهو ضعيف أيضا ، وكذلك طريق الشيخ الصدوق رحمه اللّه والذي عرفناه بواسطة الشيخ الطوسي وهو ضعيف أيضا.

وثانيا : إنّها أخبار آحاد ظنية لا تورث العلم ، فما الفرق بينها وبين ما نبحث عن حجيّته ، فهي إذن ليست حجّة في نفي الحجيّة عن خبر الثقة ؛ وذلك لأنّ حجيّتها تقتضي نفي الحجيّة عن نفسها إذ أنّها تنفي الحجيّة عن شيء هي مشمولة له ، ففي الوقت التي تنفي الحجيّة عن الخبر الظنّي لا تعدو

ص: 408

هي عن أن تكون خبرا ظنيّا فلو تمّت حجيّتها في نفي الحجيّة فهي تنفي حجيّة نفسها ، فكلّ شيء يلزم من حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل الاستدلال به على نفي الحجيّة ؛ إذ أن كلّ شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

وأمّا الطائفة الثانية : فهي الروايات الدالّة على حرمة العمل بالخبر الذي لا شاهد عليه من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، أي أنّ كلّ خبر لا يكون مضمونه موافقا لما في الكتاب العزيز بأن كان الكتاب ساكتا عن ذلك المضمون فهذا الخبر لا يجوز التعويل عليه والعمل بمؤدّاه.

ومن هذه الروايات ما روي عن أبي جعفر علیه السلام في حديث قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به وإلاّ فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم » (1).

والجواب عن هذه الطائفة هو أنّ دلالتها على نفي الحجيّة - عن الخبر الذي لا شاهد عليه من كتاب اللّه - بالإطلاق فهي تنفي الحجيّة عن الخبر الذي يتصل مضمونه بأصول الدين وتنفي بمقتضى إطلاقها الحجيّة عن الخبر الذي يكون مضمونه متصلا بالأحكام. ومن هنا يمكن تقييد إطلاق هذه الروايات بالأدلّة الدالّة على حجية خبر الثقة في الأحكام.

وبهذا اتّضح عدم تمامية الأدلّة التي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن خبر الثقة.

ص: 409


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 18
تحديد دائرة الحجيّة :

وبعد أن ثبتت الحجيّة لخبر الواحد في الجملة ، يقع الكلام حول مقدار هذه الحجيّة سعة وضيقا.

والكلام حول هذا البحث يقع في جهتين :

الأولى : في مقدار الحجيّة من جهة الراوي.

الثانية : في مقدارها من جهة المضمون.

أمّا الجهة الأولى : فلو كان دليل الحجيّة هو آية النبأ فهذا يقتضي تضييق دائرة الحجيّة واختصاصها بخبر العدل ، إذ أنّ هذا هو المقدار الذي يمكن أن يستفاد من المفهوم في آية النبأ كما اتّضح ممّا تقدّم.

أمّا لو كان المثبت للحجيّة هو الروايات والسيرة فدائرة الحجيّة تكون أوسع ؛ إذ أنّ مقتضاها هو أنّ الحجيّة ثابتة لمطلق خبر الثقة ولو كان فاسقا أي أنه يكفي في الاعتماد على الخبر أن يكون المخبر متحرّزا عن الكذب ولو لم يكن متحرّزا عن ارتكاب المعصية.

وهذا هو الذي استقرّ عليه معظم الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) إلاّ أنه وقع الكلام بينهم في أنّ وثاقة الراوي هل هي معتبرة بنفسها بحيث يكون المناط في حجيّة الخبر هو وثاقة الراوي - سواء أفاد خبره الوثوق أو لم يفده - أو أنّ الحجيّة الثابتة لخبر الثقة باعتبار أنّ الوثاقة غالبا ما تكون موجبة للوثوق والاطمئنان بصدور الخبر ، ولهذا لو لم يحصل الوثوق بالصدور لوجود ما يوجب وهن الخبر والتشكيك في صدوره فإنّ ذلك يوجب سقوطه عن الاعتبار وإن كان راويه ثقة.

والمبنى الأول يعني أنّ وثاقة الراوي أخذت بنحو الموضوعيّة ، أي أنّ

ص: 410

وثاقة الراوي لمّا كانت موضوعا للحجيّة فمتى ما تحقق الموضوع ترتبت عليه الحجيّة.

والمبنى الثاني يعني أنّ وثاقة الراوي أخذت بنحو الطريقيّة ، أي أنّ وثاقة الراوي لمّا كانت من أهم وسائل الوثوق فإنّ ذلك يبرّر جعل الحجيّة لها ، وإلاّ فموضوع الحجيّة - على هذا المبنى - هو الوثوق ، ووثاقة الراوي ما هي إلاّ طريق من طرق تنقيح موضوع الحجيّة ، ففي كل مورد لا تكون وثاقة الراوي طريقا للوثوق فهذا يقتضي عدم ثبوت الحجيّة للخبر في ذلك المورد.

والثمرة المترتبة على المبنيين أنّه بناء على موضوعيّة وثاقة الراوي تكون الحجيّة ثابتة بمجرّد إحراز الوثاقة دون الحاجة إلى ملاحظة الحيثيات الأخرى التي قد تساهم في التشكيك في صدور الخبر ، كما لو أعرض مشهور القدماء عن خبر ولم يعملوا به وأحرزنا - بطريقة وأخرى - أن ذلك الإعراض لم يكن ناشئا عن حدس يتّصل مثلا بمضمون الخبر بأن كانوا يرونه مجملا أو أنّ فيه إشكالا جهتيا أو أنّه معارض بما هو راجح عليه وهكذا.

وأمّا بناء على طريقيّة الوثاقة فإنّ ذلك يقتضي عدم ثبوت الحجيّة إلاّ أن يحصل الوثوق بالصدور ؛ ولهذا يكون الإعراض من القدماء موجبا لسقوط خبر الثقة عن الاعتبار والحجيّة.

ومن هنا ينجرّ البحث إلى الخبر الذي لا يكون راويه ثقة ، وهذا النحو من الأخبار له حالتان ، إذ قد يكون مكتنفا بقرائن موجبة للظن بصدوره ، وقد يكون مجرّدا عن كلّ قرينة موجبة للظن بالصدور.

أمّا الحالة الثانية فالخبر فيها ساقط عن الاعتبار والحجيّة من غير فرق بين مبنى موضوعيّة الوثاقة أو طريقيّتها ؛ وذلك لأنّه إذا كان المبنى هو

ص: 411

موضوعيّة وثاقة الراوي للحجيّة فهو مفروض العدم ، وإن كان المبنى هو طريقيّة وثاقة الراوي لموضوع الحجيّة - والذي هو الوثوق - فكذلك لا تكون مثل هذه الأخبار متوفّرة على موضوع الحجيّة ؛ إذ أنّه لا وثوق بعد أن لم يكن الراوي للخبر ثقة ولا أنّ الخبر محتفّ بما يوجب الوثوق بصدوره ، إذ أنّ الفرض في هذه الحالة هو تجرّد الخبر عن كل قرينة.

وأمّا الحالة الأولى فتارة تكون القرائن المحتفّة بالخبر موجبة للاطمئنان الشخصي بالخبر من قبل المطّلع عليها وعلى الخبر ، وهنا تثبت الحجيّة للخبر بواسطة الاطمئنان ، وذلك لحجيّة الاطمئنان كما ثبت في محلّه.

وتارة لا تحقق القرائن اطمئنانا شخصيا للمطلع عليها ، وفي حالة من هذا القبيل تكون الحجيّة منوطة بما هو المبنى في موضوع الحجيّة لخبر الثقة ، فإن كان البناء هو أنّ موضوع الحجيّة هو وثاقة الراوي على نحو يكون هو المناط الوحيد في ترتّب الحجيّة بحيث لا يعتبر معها شيء آخر - وهذا ما يعبّر عنه بأخذ الوثاقة في الحجيّة بنحو الموضوعيّة - فهذا يقتضي عدم حجيّة الخبر الذي لا يكون راويه ثقة وإن كان الخبر مشتملا على ما يوجب الوثوق النوعي بصدوره ؛ إذ أنّ ذلك لا يكفي في ثبوت الحجيّة لمثل هذا الخبر بعد افتراض انتفاء موضوعها.

وإن كان البناء هو أن موضوع الحجيّة هو الوثاقة والوثوق معا بحيث يكون المعتبر في ترتّب الحجيّة على الخبر هو وثاقة الراوي وفعليّة الوثوق.

وبتعبير آخر إن الوثاقة لمّا كانت طريقا غالبيا للوثوق فهذا يقتضي اتّفاق عدم تحقّق الوثوق في بعض الحالات ، والمعتبر في ثبوت الحجيّة

ص: 412

للخبر هو تحقّق الأمرين ، الوثاقة والتي هي السبب والوثوق والذي هو المسبب ، وتحقق الوثاقة دون الوثوق أو تحقّق الوثوق بسبب آخر غير الوثاقة يعني عدم تحقّق تمام الموضوع للحجيّة.

ومن هنا يتضح عدم ثبوت الحجيّة للخبر الذي لا يكون راويه ثقة بناء على هذا المبنى أيضا وإن كان محتفّا بما يوجب الوثوق بصدوره ؛ وذلك لاختلال أحد جزئي موضوع الحجيّة - على هذا المبنى - فهو وإن كان موثوقا بصدوره إلاّ أنّه لمّا كان الوثوق مسببا عن غير الوثاقة فهذا يقتضي انتفاء ما هو دخيل في موضوع الحجيّة وبذلك لا تثبت الحجيّة.

أما إذا كان البناء هو أن موضوع الحجيّة هو الوثوق فحسب والوثاقة المعتبرة في الحجيّة إنما هي طريق وليس لها أيّ موضوعيّة ، فهذا يقتضي الحجيّة للخبر المحتف بقرائن موجبة للوثوق بصدوره وإن كان راويه غير ثقة ؛ وذلك لأنّ وثاقة الراوي أخذت في موضوع الحجيّة بنحو الطريقيّة المحضة باعتبارها وسيلة غالبية لتحقّق الوثوق ، فإذا اتّفق أن حصل الوثوق بموجب آخر فقد تحقّق موضوع الحجيّة.

وهذه المباني الثلاثة هي منشأ الخلاف بين الأعلام في جابرية الشهرة العمليّة للخبر الضعيف وعدم جابريتها بعد الفراغ صغرويا عن أنّ شهرة العمل بالرواية الضعيفة من القدماء قرينة موجبة للوثوق بالصدور.

أمّا الجهة الثانية : - في مقدار الحجيّة من جهة المضمون - فإن الحجيّة لا تثبت لمطلق الخبر أيّا كان مضمونه ؛ إذ أنّ أدلّة الحجيّة لا تتّسع لذلك ، فهي لا تشمل الخبر الحدسي ، كما أنّها لا تشمل الخبر الحسّي الذي يكون مضمونه مخالفا لكتاب اللّه عزّ وجلّ أو السنّة القطعية.

ص: 413

أمّا عدم شمول الحجيّة للأخبار الحدسيّة فيعرف من خلال ملاحظة الأدلّة التي استدلّ بها على حجيّة خبر الثقة مثل آية النبأ ، إذ النبأ هو موضوع الحجيّة في الآية الكريمة ، وهو غير صادق على الخبر الحدسي المستفاد بواسطة الاجتهاد والنظر ، وكذلك في الروايات والسيرة فإنّ موضوعها جميعا هو الخبر الحسّي.

وأمّا عدم شمول الحجيّة للأخبار المخالفة لكتاب اللّه والسنّة فمنشؤه تكثّر الروايات الدالّة على عدم حجيّة ما خالف كتاب اللّه وسنة نبيّه صلی اللّه علیه و آله . ومن الواضح أنّ النسبة بين أدلّة الحجيّة وبين هذه الروايات هي نسبة الإطلاق والتقييد ، وبمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد نقيّد أدلّة الحجيّة بهذه الروايات النافية للحجيّة عن قسم خاص من الأخبار وهي المخالفة للكتاب والسنة القطعيّة.

ص: 414

قاعدة التسامح في أدلّة السنن

والمراد من هذه القاعدة هو أنّ ما يعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر من وثاقة الراوي أو احتفاف الخبر بما يوجب الوثوق بصدوره غير معتبر في الأخبار المتضمّنة للمستحبات وكذلك المكروهات - على قول - ، فالمراد من التسامح هو التساهل وعدم متابعة السند للتعرّف على وثاقة الواقعين في سلسلته أو عدم وثاقتهم وكذلك التساهل في تحصيل القرائن الموجبة للوثوق.

والمراد من أدلّة السنن هي الروايات الواردة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام والمتصديّة لبيان المستحبات والمكروهات.

ومدرك هذه القاعدة مجموعة من الروايات وفيها ما هو معتبر سندا كمعتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه » (1) ، وهذه الروايات يعبّر عنها بروايات من بلغ ومفادها كما اتّضح من معتبرة هشام أن كلّ من بلغه أنّ الفعل الكذائي يترتّب على الإتيان به الثواب ففعله ، فإنّ له ذلك الثواب وإن كان ما بلغه لا يطابق الواقع.

وتقريب الاستدلال بروايات من بلغ على القاعدة أنّ هذه الروايات

ص: 415


1- الوسائل باب 18 من أبواب مقدّمات العبادات ح 6

تصحّح العمل بكلّ رواية متضمّنة لحكم استحبابي. وهذا هو معنى جعل الحجيّة لأخبار السنن أيّا كان إسنادها ودرجة الوثوق بصدورها.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ روايات ( من بلغ ) غير متعينة في المعنى المذكور ، بل إنّها محتملة لمعان يكون المعنى المذكور أحدها. وبيان ذلك :

أنّ المعاني المحتملة من روايات « من بلغ » أربعة :

المعنى الأوّل : أنّ روايات « من بلغ » متصدّية لجعل الحجيّة لمطلق الخبر الواصل إذا كان مضمون الخبر استحباب فعل. وهذه الحجيّة إنما هي مجعولة في ظرف الشك وعدم العلم بمنافاة مضمون الخبر للواقع.

وبهذا يتّضح أنّ الإستحباب الثابت للخبر بروايات « من بلغ » هو استحباب ظاهري.

المعنى الثاني : أن تكون روايات « من بلغ » متصديّة لبيان حكم واقعي وهو استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب ، وهذا الحكم الواقعي المنشأ بواسطة روايات « من بلغ » هو حكم واقعي ثانوي ، أي أنّ تعنون الفعل بكونه قد بلغ عليه الثواب موجب لاستحباب ذلك الفعل واقعا وإن كان الفعل في حدّ نفسه لو لم يبلغ عليه الثواب لما كان مستحبا.

ويمكن تنظير ذلك بالفعل المنذور فإنّه في حدّ نفسه لو لم يقع متعلّقا للنذر لا يكون واجبا ولكن لوقوعه متعلّقا للنذر صار واجبا ، فالوجوب الثابت للفعل المنذور وجوب واقعي إلاّ أنه ثانوي ، والمراد من الثانوي أنّه لو خلّي ونفسه لما اقتضى عروض الوجوب عليه ، وكونه واقعيا باعتبار أنّ ثبوت الوجوب له ليس في ظرف الشك في الحكم الواقعي له بل إنّ الوجوب ثابت له دون واسطة.

ص: 416

إذن الفعل الذي بلغ عليه الثواب مستحب واقعا إلا أنّه ثانوي ، أي أنّه لو خلّي ونفسه ولم يتعنون بعنوان أنه مما بلغ عليه الثواب لما اقتضى عروض الاستحباب عليه ، إلاّ أنّه لمّا بلغ على فعله الثواب أوجب ذلك عروض الاستحباب عليه واقعا.

المعنى الثالث : أن تكون روايات « من بلغ » متصدّية للتنبيه والإرشاد إلى ما يقتضيه العقل من حسن الاحتياط والتحفّظ على مرادات المولى جلّ وعلا ، وإن كلّ من يفعل ما بلغه أنّه مطلوب للمولى - رجاء مطلوبيته واقعا - يكون مستحقّا لمثوبة المولى جلّ وعلا.

المعنى الرابع : أن تكون روايات « من بلغ » متصدّية للإخبار والكشف عن وعد إلهي لعباده وأنّه يثيب على كلّ فعل بلغهم أنّه مطلوب للمولى ، على أن يكون الغرض من هذا الوعد - المنكشف بروايات « من بلغ » - متعلّق بنفس الوعد دون أن يكون للأفعال التي بلغ عليها الثواب أي مصلحة تقتضي جعل الاستحباب لها ، نعم قد تكون المصلحة من الوعد هو الترغيب في الاحتياط إلاّ انّ ذلك لا يغيّر من واقع تلك الأفعال التي يقع عليها الثواب بحيث يثبت لها الاستحباب بسبب البلوغ.

والظاهر من هذه المعاني المحتملة هو المعنى الثالث ، وهو أنّ روايات « من بلغ » متصدّية للتنبيه والإرشاد إلى ما يقتضيه العقل من حسن الاحتياط وترتّب الثواب عليه ، وذلك لسقوط المعنى الأول والمعنى الثاني.

أمّا المعنى الأوّل فلأنّه لمّا كان منشأ استظهاره هو أنّ ترتّب الثواب على الفعل الذي بلغ عليه الثواب كاشف عن أنّ الشارع قد جعل له الاستحباب ، إذ لا معنى لترتّب الثواب على فعل إلاّ أنّ الشارع جعل له

ص: 417

الاستحباب ، ولو كان هذا الاستظهار تاما فما معنى ترتّب الثواب حتى في موارد مخالفة ما بلغ للواقع ، وهذا ما يكشف عن أنّ الثواب ليس ناشئا عن جعل الاستحباب للفعل الذي بلغ عليه ثواب ، ومنه يتّضح عدم تصدّي الإمام علیه السلام لجعل الحجيّة وإنشاء الاستحباب الظاهري لكل فعل بلغ عليه الثواب ؛ وذلك لأنّ منشأ استظهار هذا الاحتمال فاسد.

وأمّا المعنى الثاني فليس هناك ما يبرّر استظهاره من روايات « من بلغ » فيبقى احتمالا محضا لا شاهد على إرادته ، نعم قد يقال إنّ ترتّب الثواب على فعل كاشف عن مطلوبيته للمولى واقعا وهذا ما يعيّن المعنى الثاني ، إلاّ أنّ هذا القول لا يصغى إليه بعد أن لم تكن مطلوبية الفعل هي المنشأ الوحيد لترتب الثواب ؛ إذ أنّ الثواب قد ينشأ عن الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه ، وبهذا يتعيّن المعنى الثالث ، إلاّ أنّه تبقى مشكلة تواجه استظهار المعنى الثالث من روايات « من بلغ » ، إذ أنّ ظاهرها أنّ الثواب المترتّب على العمل بالفعل الذي بلغ عليه الثواب هو مقدار الثواب المذكور في الرواية وهذا ما لا يتكفّل المعنى الثالث لبيانه إذ أنّه لا يثبت به أكثر من ترتّب الثواب أمّا مقداره فليس له تصد لبيانه.

وعلاج هذه المشكلة يستوجب تعديل المعنى الثالث بالمعنى الرابع بأن يقال إنّ روايات « من بلغ » وإن كان ظاهرها الإرشاد لما يحكم به العقل من حسن الاحتياط إلاّ أنّها متضمّنة لوعد إلهي بترتّب نفس الثواب الموعود به.

ص: 418

إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي

اشارة

1 - تمهيد

2 - حجية الظهور

3 - موضوع الحجيّة

4 - ظواهر الكتاب الكريم

ص: 419

ص: 420

تمهيد

ويقع الكلام فيه عن أنحاء الدلالة للدليل الشرعي ، والنتائج المترتّبة على التفاوت في أنحاء الدلالة :

النحو الأوّل : أن تكون دلالة الدليل الشرعي على الحكم الشرعي دلالة بيّنة لا يشوبها شيء من الغموض والشكّ بحيث يحصل اليقين أو الاطمئنان بتطابق المستفاد من الدليل مع ما هو المراد جدا للشارع.

وهذا النحو من الدلالة ينشأ عادة من أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : - وهو مختص بالدليل الشرعي اللفظي - وهو أن تكون الألفاظ المستعملة في الكشف عن الحكم الشرعي واضحة ومعلوم وضعها لمعانيها وليس هناك ما يوجب صرفها عن معانيها الموضوعة لها. ومن هنا لا ينقدح أي احتمال - ولو بمستوى ضئيل - أن المعاني المستفادة من تلك الألفاظ ليست مرادة وهذا ما يعبّر عنه بالنص ، كما أنّه قد تنشأ النصوصية عن طريق احتفاف الدليل بقرائن لفظية موجبة للقطع أو الاطمئنان بالمراد.

الثاني : - وهو مختص أيضا بالدليل اللفظي - وهو أن تكون الألفاظ والصياغة المستعملة في الكشف عن الحكم الشرعي غير دالّة على الحكم الشرعي بنحو النصوصيّة بنفسها إلاّ أنّه يحصل القطع أو الاطمئنان بتطابق المستفاد مع الواقع بواسطة انضمام قرائن حاليّة أو عقلية مع الدليل الشرعي اللفظي.

الثالث : أن يكون منشأ اليقين أو الاطمئنان بالدلالة هو قرينة عقلية

ص: 421

توجب الانتقال ممّا هو محرز بالوجدان إلى الحكم الشرعي بنحو الدليل الإنّي.

ومثاله - كما اتّضح ممّا تقدّم في بحوث سابقة - ترك المعصوم علیه السلام لفعل أو ممارسة المعصوم علیه السلام لفعل ، فإنّ الأول يدلّ بلا أدنى ريب على عدم والوجوب والثاني يدلّ على عدم الحرمة.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ المناشئ الثلاثة من هذا النحو من الدلالة تشترك في ترتّب اليقين أو الاطمئنان بالمدلول. ومن هنا تثبت الحجيّة لهذا المدلول.

النحو الثاني : أن تكون دلالة الدليل محتملة لأكثر من معنى بحيث تكون المحتملات الناشئة من الدليل متساوية من حيث درجة احتمال إرادتها. وهذا النحو من الأدلّة يعبّر عنه بالدليل المجمل.

ويمكن أن يتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن تكون المحتملات الناشئة عن الدليل المجمل مشتركة في جامع قابل للتنجيز ، كما لو كان مفاد الدليل المجمل ظاهرا في الحرمة إلاّ أنّ متعلّق الحرمة مردد بين شيئين بحيث لا يمكن استظهار أحدهما من الدليل.

ففي حالة من هذا القبيل يتنجّز الجامع وهو أحدهما ، فلا يجوز ارتكابهما معا. وهذا هو معنى أنّ المجمل حجة في الجامع.

وهذا المقدار من الحجيّة هو الثابت للمجمل ، أمّا المحتملات الناشئة عن الدليل المجمل فلا حجيّة لها بعد عدم إحراز إرادتها بأحد أنحاء الإحراز كاليقين أو الاطمئنان أو الظهور.

الحالة الثانية : أن يكون أحد المحتملات الناشئة عن الدليل له ما يعيّنه

ص: 422

من الخارج كقرينة عقلية أو لفظية منفصلة ، وفي حالة من هذا القبيل يتنجّز ذلك المحتمل من غير فرق بين أن يكون للدليل المجمل جامع قابل للتنجيز أو غير قابل للتنجيز ، فإنّ المنجّز في مثل هذا الدليل هو المحتمل الذي قامت القرينة على تعيّنه.

الحالة الثالثة : أن لا يكون للمحتملات الناشئة عن الدليل المجمل جامع قابل للتنجيز كما أنّه ليس هناك ما يعيّن أحد المحتملات من قرائن خارجية. وفي مثل هذه الحالة لا يكون للدليل المجمل أيّة حجيّة.

النحو الثالث : أن تكون دلالة الدليل الشرعي تحتمل أكثر من معنى أيضا إلاّ أن أحد تلك المعاني هو المنصرف إليه من ذلك الدليل وهذا هو المعبّر عنه بالظهور. فالظهور إذن هو انسباق أحد المعاني المحتملة من الدليل بحيث ينقدح في الذهن خصوص ذلك المعنى من الدليل اللفظي ، ثمّ تستقر النفس على أنّ ذلك هو المراد الجدّي من الدليل. وهذا هو معنى قول المصنّف رحمه اللّه إنّ الظهور هو انسباق الذهن إلى أحد المعاني تصوّرا وتصديقا ، إذ أنّ الظهور قد يكون على مستوى الدلالة التصوريّة فحسب ويكون الظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة في معنى آخر أو لا يكون هناك ظهور في مرحلة المدلول التصديقي ، فهنا إذن ثلاث حالات :

الأولى : تطابق الظهورين في مرحلتي الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة على معنى واحد ، كما لو قال المولى « صلّ » فإنّ المدلول الوضعي التصوري لصيغة الأمر هو الوجوب ، فلو استظهرنا من حال المتكلّم أنّه جاد فيما أفاد فهذا هو التطابق بين الظهورين.

الثانية : أن يكون المنصرف من الدليل بحسب الأوضاع اللغويّة معنى معيّن إلا أنّنا نعلم أنّ المتكلّم غير مريد لذلك المعنى وإنّما يريد معنى آخر غير

ص: 423

المعنى الموضوع له اللفظ كما لو دلّت القرينة الحاليّة للمتكلم على ذلك.

فلو قال المتكلّم مثلا « رأيت أسدا » وعلمنا بواسطة القرينة الحاليّة إرادة المتكلّم للرجل الشجاع. فهنا لم يتطابق الظهور في المعنى الوضعي التصوري مع المراد الجدي للمتكلم.

الحالة الثالثة : أن تكون للدليل دلالة تصوّريّة إلاّ أنه لم ينعقد ظهور لحال المتكلم في إرادة ذلك المدلول التصوري كما لو قال المتكلم « رأيت أسدا » ولم يعلم أنّ المتكلّم كان ملتفتا أو ذاهلا واتفق عدم وجود وسيلة لتعيين أحد الاحتمالين ، فهنا لا ينعقد الظهور التصديقي رغم انعقاد الظهور التصوري.

والحالة الأولى لا إشكال في ثبوت الحجيّة لمدلول الدليل فيها وذلك لحجيّة الظهور كما سيتّضح فيما بعد.

والحالة الثانية تثبت الحجيّة لمدلول الدليل ، إلاّ أنّها إنما تثبت للظهور في المدلول التصديقي دون الظهور في المدلول التصوري ، إذ أنّ الظهور الذي دلّ الدليل على حجيّته هو الظهور المعيّن للمراد وهو إنّما يناسب المدلول التصديقي إذ هو المعيّن للمراد.

وبهذا يتّضح عدم حجيّة الدليل في الحالة الثالثة ؛ إذ لا تعيين فيه للمراد بعد أن كان الظهور في خصوص المدلول التصوري الوضعي.

وكيف كان فالحجيّة الثابتة للظهور لم تنشأ عن إفادته للعلم بمطابقة المستفاد من الدليل مع المراد الجدّي للمتكلّم ؛ إذ أنّ الظهور - كما اتّضح - لا يولّد العلم.

ومن هنا نحتاج لإثبات الحجيّة للظهور إلى دليل شرعي وهذا ما سيتمّ بحثه.

ص: 424

الاستدلال على حجيّة الظهور

اشارة

وقد استدلّ على حجيّة الظهور بالسيرة العقلائيّة والسيرة المتشرعيّة.

أما تقريب الاستدلال بالسيرة العقلائيّة :

فهو أنّه لا ريب في تباني العقلاء على التوسّل بالظهور للتعرّف على مرادات المتكلّمين والجري على مقتضياتها دون توقّف لغرض التأكد من تلك المفادات الحاصلة بواسطة الظهور ؛ ولذلك نراهم يحتجّون على المتكلّم بظاهر كلامه كما ويحتج المتكلّم بظاهر كلامه على المخاطب دون أن يعترض المتكلّم على المخاطب بأنّه لم يكن مريدا لذلك المعنى الظاهر أو يعترض المخاطب على المتكلّم بأنّه احتمل إرادة معنى آخر غير المعنى الظاهر. كلّ ذلك يعبّر عن ترسّخ هذه السيرة وتجذّرها في جبلّة العقلاء ، وبطبيعة الحال يكون ذلك موجبا لامتداد هذه السيرة للقضايا الشرعية ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى تجذّر السيرة ، وإذا كان كذلك فهي تهدّد أغراض الشريعة لو لم تكن مرضيّة من قبل الشارع المقدّس ، وهذا ما يكشف عن الإمضاء في حال عدم الردع.

وقد ذكرنا في بحث دليليّة السكوت على الدليل الشرعي وجهين لإثبات تلك الدليليّة أحدهما عقلي وله تقريبان والآخر استظهاري.

ص: 425

أمّا الدليل العقلي بتقريبيه فهو صالح لتطبيقه هنا كما يتضح ذلك بالمراجعة.

وأمّا الوجه الاستظهاري فلا يمكن تطبيقه في المقام لاستلزام تطبيقه هنا للدور المستحيل ؛ لأنّنا في مقام الاستدلال على حجيّة الظهور ، فإذا كان الدليل على إمضاء السيرة العقلائية هو ظهور حال المعصوم علیه السلام في الإمضاء فهذا معناه إثبات حجيّة الظهور بالظهور.

وأمّا تقريب الاستدلال بالسيرة المتشرّعيّة :

فهو أن الفقهاء والرواة المعاصرين لزمن المعصوم كانت سيرتهم جارية على العمل بظهورات الأدلّة الشرعيّة في مقام فهم واستنباط الأحكام الشرعيّة ، وهذا ما يعبّر عن تلقيهم ذلك عن الشارع ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى كونهم متشرّعة وملتزمين بمناهج الشريعة في أمورهم الشخصية فضلا عن الأمور الخطيرة التي لو تبرّعوا فيها بسلوك من عند أنفسهم لكان من المحتمل قويا أن يكون ذلك موجبا لتفويت أغراض الشريعة والحال أنّهم أحرص الناس على التحفّظ عليها.

ومن هنا نستكشف بطريق الإن أنّ سيرتهم متلقاة أو ممضاة من قبل الشارع المقدّس دون أن نحتاج إلى الاستعانة بالسكوت لإثبات الإمضاء إذ أنّ الذي يحتاج إلى ذلك هو السيرة العقلائية كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.

نعم نحتاج إلى إثبات وجود هذه السيرة في زمن المعصوم علیه السلام وقد ذكرنا طرقا خمسة لإثبات معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام .

والطريق الذي يمكن الاستفادة منه في المقام هو الطريق الرابع ، ويمكن

ص: 426

الاستفادة من غيره ، وهذا يتّضح بمراجعة تلك الطرق.

أدلّة نفي الحجيّة عن الظهور :

وقد استدل على نفي الحجيّة عن الظهور بنفس الأدلّة التي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن خبر الواحد ، وهو أنّ السيرة لو كانت فهي مردوع عنها بالأدلّة الناهية عن العمل بالظن وكذلك بالإطلاق في أدلّة الأصول كما اتّضح ممّا تقدّم. والجواب هناك هو الجواب في المقام ، ويمكن أن يختص المقام بجواب آخر.

وهو أن الأدلّة النّاهية عن العمل بالظنّ إنّما تشمل المقام بواسطة الإطلاق ، والإطلاق أحد مصاديق الظهور ، فيكون نفيها للحجيّة عن الظهور نفيا لحجيّة نفسها ؛ إذ لا نحتمل اختصاصها بالحجيّة دون سائر الظهورات. ومن هنا يكون ثبوت الحجيّة لها في نفي الحجيّة عن الظهور نفيا لحجيّة نفسها ؛ إذ أنها تنفي الحجيّة عن الظهور ودلالتها على نفي الحجيّة إنّما هو بالظهور فإذا ثبت نفيها للحجيّة فهذا يعني أنّها تنفي الحجيّة عن نفسها.

وكلّ شيء يلزم من ثبوت حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل التعويل عليه ، إذ كل شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

وبهذا يتّضح عدم صلاحيّة الأدلّة الناهيّة عن الظنّ للردع عن السيرة الجارية على العمل بالظهورات.

موضوع الحجيّة :

والغرض من هذا البحث هو تحديد دائرة الموضوع الذي ثبتت له الحجيّة ، وهل أنّ الحجيّة ثابتة في حال تطابق الظهورين في معنى واحد فحسب؟ أو أنّ موضوع الحجيّة هو الظهور في مرحلة المدلول التصديقي

ص: 427

سواء طابق الظهور في المدلول التصوري أو لم يطابقه؟ أو أنّ الحجيّة تتسع لتشمل الظهور التصوري ولكن في حال عدم انعقاد أيّ ظهور في المدلول التصديقي.

فهنا ثلاثة احتمالات لموضوع الحجيّة ، وقبل بيانها لا بأس بإعادة بيان الفرق بين الظهور على مستوى المدلول التصوري والظهور على مستوى المدلول التصديقي.

أمّا الظهور على مستوى المدلول التصوري :

فهو انسباق أحد المعاني المحتملة إلى الذهن من إطلاق اللفظ ، ويكون منشأ ذلك الانسباق هو الوضع ، وقد قلنا إن الظهور لا يأبى عن بقاء المحتملات الأخرى إلاّ أنّها لا تكافئ المعنى المنسبق إلى الذهن من حيث استقراره وركون النفس بتعيّنه ، إذ أنّ لانسباقه واستقراره مبرّرا وهو الوضع بخلاف سائر المحتملات إذ أن مبرّراتها لا تكون منتظمة ومطّردة.

وأما الظهور على مستوى المدلول التصديقي :

فهو لا يتّصل بالأوضاع اللغويّة وإنّما هو معنى ينسبق إلى الذهن ومنشؤه معرفة حال المتكلم ، ودوره الكشف عن مراده الجدّي ، فالظهور التصديقي إذن هو ما يكشف عن مراد المتكلّم من خلال ملاحظة حاله ، وهذا النحو من الظهور لا ينافي وجود محتملات أخرى وأنّها هي المرادة واقعا ، إلاّ أنّ هذه المحتملات لا اعتداد بها عند العقلاء بعد أن لم يكن لها مبرّر سوى أنّ الظهور لا يوجب العلم.

وبعد اتّضاح الفرق بين الظهور التصوري والظهور التصديقي نصل لبيان تحديد الموضوع الذي ثبتت له الحجيّة ، وقد قلنا إنّ فيه ثلاثة

ص: 428

احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أنّ دائرة موضوع الحجيّة تختصّ بمورد تطابق الظهورين على معنى واحد كما لو كان مقتضى المدلول الوضعي يطابق ما هو مقتضى المدلول الجدّي للمتكلّم.

والصحيح هو عدم اختصاص الحجيّة بهذا المورد ، فهو وإن كان القدر المتيقّن من موضوع الحجيّة إلاّ أنّه لمّا كان منشأ ثبوت الحجيّة لهذا المورد هو الظهور التصديقي فهذا يقتضي عدم اختصاصه بالحجيّة.

وبيان ذلك : أنّ الحجيّة إنّما تثبت للظهور الكاشف عن مراد المتكلّم ؛ إذ هو المصحح للاحتجاج لا ما ينسبق إلى الذهن بسبب الأوضاع اللغويّة.

كما أنّ الذي يحكم العقل بوجوب تحصيله وامتثاله هو إرادة المولى ، ومن الواضح أن الذي يكشف عن إرادة المولى إنما هو الظهور التصديقي المستفاد من معرفة حال المتكلّم ، أمّا الظهور التصوري فليس أكثر من انقداح معان خاصة في الذهن بسبب استعمال ألفاظها الموضوعة لإفادتها.

ومن البديهي أنّ الألفاظ لا تكشف وحدها عن المراد ، نعم الدلالة الوضعيّة التصوريّة كثيرا ما تساهم في التعرّف على المراد الجدّي والظهور التصديقي إلاّ أنّ هذا إنّما يقتضي كون الدلالة التصوريّة وسيلة من وسائل الوصول إلى مرحلة الظهور في المدلول التصديقي. ومنشأ مساهمتها هو أصالة التطابق بين الدلالة التصوريّة الناشئة عن الأوضاع اللغويّة وبين الدلالة التصديقيّة والتي تعني أنّ ما يفيده المتكلّم بواسطة الألفاظ فهو يريده جدّا وواقعا. وقد أوضحنا ذلك فيما سبق.

الاحتمال الثاني : أنّ دائرة موضوع الحجيّة تتّسع لتشمل الظهور

ص: 429

التصديقي حتى في مورد منافاته لما هو مقتضى الظهور في المدلول التصوري.

وقد اتّضح ممّا تقدم ثبوت الحجيّة للظهور في المدلول التصديقي ، إذ أنّه هو الكاشف عن المراد ، ويبقى الظهور التصوري عاريا عن الحجيّة إذ لا كشف له عن المراد كما لا مساهمة له في تنقيح الظهور التصديقي. وهذا ما يوضح أنّ الحجيّة ثابتة للظهور التصديقي حتى في موارد عدم وجود دلالة تصوريّة لفظيّة كما هو الحال في الظهور التصديقي الناشيء عن الفعل الصامت.

الاحتمال الثالث : أن دائرة موضوع الحجيّة لا تختص بالظهور التصديقي بل لو لم يكن هناك ظهور تصديقي وكان هناك ظهور تصوري فإنّ الحجيّة تثبت له.

وهذا الاحتمال اتّضح حاله ممّا تقدّم وأنّه لا يمكن البناء على أنّ الظهور التصوري مشمول لموضوع الحجيّة ؛ وذلك لعدم كاشفيّته عن المراد فهو مجرّد تصوّر ينشأ عن الأوضاع اللغويّة ؛ ولذلك يحصل هذا الظهور من كلام متكلّم غير عاقل كما لو اتّفق صدوه من البهيمة.

ومن أجل أن يتضح هذا الاحتمال أكثر نقول :

إنّ المتكلّم قد يأتي بكلام له ظهور في مرحلة المدلول التصوري إلاّ أنّه نصب قرينة على إرادة معنى آخر غير المعنى المستفاد من الدلالة الوضعية التصوريّة ، كأن يقول « رأيت أسدا » ثم يأتي بما يدلّ على إرادة الرجل الشجاع ، وقد اتّضح الحال من هذه الصورة في الاحتمال الثاني وأنّ الحجيّة إنّما تثبت للمدلول التصديقي فحسب.

وقد يأتي بكلام له ظهور تصوري إلاّ أنّه من المحتمل أنّه نصب قرينة

ص: 430

على عدم إرادة الظهور التصوري جدا ، ومناشئ الاحتمال كثيرة ، منها إحرازنا لوقوع الغفلة عن متابعة المتكلّم إلى أن انتهى من كلامه فإنّه في مثل هذه الحالة وإن كان يمكن إجراء أصالة عدم الغفلة للمتكلّم إلاّ أنّ هذا الأصل العقلائي لا يجري في حقّنا لإحراز وقوع الغفلة منّا عن متابعة المتكلّم إلى آخر كلامه ، فلعلّه في أثناء غفلتنا نصب قرينة على إرادة معنى آخر غير المعنى المفاد بواسطة الدلالة الوضعيّة التصوريّة ، وهذا الاحتمال لا دافع له بعد إحراز الغفلة.

ومن هنا لا ينعقد ظهور تصديقي للكلام ، فلا وسيلة لنا للكشف عن مراد المتكلّم.

فتكون نتيجة هذا الاحتمال تساوق القطع بوجود القرينة المنافية لمقتضى الظهور التصوري ، وبهذا يتّضح هذا الاحتمال وأنّه هل تثبت الحجيّة للمدلول التصوري بعد أن لم يكن هناك ظهور في المدلول التصديقي. وقد عرفت عدم ثبوت الحجيّة له لعدم كاشفيّته عن مراد المتكلّم.

ص: 431

ص: 432

ظواهر الكتاب الكريم

اشارة

اتّضح ممّا تقدّم حجيّة الظهور وأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور في مرحلة المدلول التصديقي. ومقتضى أدلّة حجيّة الظهور هو حجيّته بنحو مطلق من غير فرق بين متكلّم وآخر وبين السنّة الشريفة والقرآن الكريم ، إلاّ أنّ عددا من العلماء استثنوا ظواهر الكتاب الكريم من الحجيّة اعتمادا على أدلّة تقتضي في نظرهم حرمة التعويل على ما ينفهم من القرآن الكريم بواسطة الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة وأن فهم القرآن الكريم مختص بمن خوطب به وهم النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، فلذلك تكون الوسيلة الوحيدة للتعرّف على مرادات القرآن الكريم هو ما يرد عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، أو أن تكون دلالة القرآن الكريم على المعنى بنحو النصوصيّة.

ومن الأدلّة التي ذكرت لإثبات هذه الدعوى هي :

الدليل الأوّل :

قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي

ص: 433

الْعِلْمِ ) (1).

وتقريب الاستدلال لصالح النافين لحجيّة ظواهر الكتاب : هو أنّ الآية الكريمة صنّفت آيات القرآن الكريم إلى قسمين : الأوّل هو الآيات المحكمة ، وقد فسّروها بالآيات التي تكون دلالتها على المعنى بنحو النصوصيّة.

والقسم الثاني هو الآيات المتشابهة ، وهي كلّ آية لا تكون دلالتها نصا في المعنى ، وبهذا تكون الظواهر من المتشابه - الممنوع عن العمل به - ؛ وذلك لأنّ الظاهر كالمجمل من حيث إنّه يتحمّل أكثر من معنى ، وكونه يختلف عن المجمل من جهة عدم ككافؤ المحتملات الناشئة عنه لا يخرجه عن حد المتشابه ؛ إذ أنّ المتشابه هو ما يحتمل أكثر من معنى ، كلّ معنى له نحو علاقة مع اللّفظ تكون تلك العلاقة موجبة لاحتمال إرادته ، وبهذا يكون المتشابه صادق على الظاهر ؛ إذ أنّ الظاهر يكون له أكثر من معنى محتمل ، غايته أنّ أحد المعاني يكون هو المنسبق إلى الذهن إلاّ أنّه مع ذلك تبقى المعاني الأخرى محتفظة باحتمال إرادتها.

والجواب على هذا الدليل :

وقد أجاب المصنّف رحمه اللّه على هذا الدليل بثلاثة أجوبة :

الجواب الأوّل : هو نفي كون الظاهر داخلا تحت عنوان المتشابه ؛ وذلك لأنّ الظاهر وإن كان يحتمل أكثر من معنى إلا أنّ المعنى غير المنسبق من اللفظ عند إطلاقه معنى موهوم لا اعتداد له بنظر العقلاء ؛ وذلك لأنّ

ص: 434


1- سورة آل عمران آية 7

العلقة التي تربطه باللفظ ضعيفة جدا بحيث لا تؤثر على مستوى وثاقة العلاقة بين المعنى الظاهر ولفظه وهذا ما يجعل المعنى الظاهر متعيّنا وواضحا لا تشابه فيه.

وبعبارة أخرى المتشابه هو ما يكون تشابه محتملاته من حيث مستوى علاقتها باللّفظ موجبا لحيرة المخاطب أو السامع وعدم استقراره على معنى من المعاني ؛ وذلك لتساوي احتمال إرادتها.

ومن هنا يكون المراد من المتشابه هو خصوص المجمل.

الجواب الثاني : أن المتشابه حتى لو افترضنا صدقه على الظاهر إلاّ أنّ ذلك لا يثبت دعوى القوم في نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب الكريم ؛ إذ أنّ الآية بصدد النهي عن التوسّل بالمتشابهات وفصلها عن الآيات المحكمة لغرض التعمية وإثارة الشبهات المضلّة ، فكأنّما الآية الشريفة تنهى عن التدليس في النقل والبيان ، إذ أنّ فصل كلام اللّه عن القرائن المحتفّة به أو عن بعض حيثيّاته - التي لها اتّصال بتوضيح مراده - موجب للتشويش على ما هو المراد الواقعي للمتكلّم ، وهو من أقبح مصاديق التدليس.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية المباركة متصديّة لبيان مطلب آخر غير الذي يروم القوم إثباته.

ويمكن تأييد هذا الفهم للآية بما روي عن الإمام الرضا علیه السلام قال « من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم » ثم قال علیه السلام « إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا

ص: 435

متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » (1).

الجواب الثالث : أنّه لو سلّمنا أنّ الظاهر من قسم المتشابه وأنّ الآية في صدد نفي الحجيّة عن المتشابه إلاّ أنّه لا يمكن التسليم بأنّ الآية المباركة نص في ذلك وبالتالي تكون دلالتها على نفي الحجيّة - على أحسن الأحوال - بنحو الظهور ، وإذا كان كذلك فيستحيل صلوحها لنفي الحجيّة ؛ إذ أنّ نفيها لحجيّة ظواهر الكتاب مستوجب لنفي الحجيّة عن نفسها بعد أن لم تكن دالّة على نفي الحجيّة بأكثر من الظهور. وكلّ شيء يلزم من حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل التعويل عليه في النفي والردع ؛ إذ كلّ شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

الدليل الثاني :

هو ما ورد عن أهل البيت علیهم السلام من النهي عن العمل بظواهر الكتاب. وهي على ثلاث طوائف.

الطائفة الأولى : ما ورد من أن القرآن الكريم لا يفهمه إلاّ النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام وذلك لاشتماله على معان رفيعة لا يمكن أن تدركها عقول الرجال ، وأنّ اللّه عزّ وجلّ جعل فهمه مختصّا بالنبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام لتشتدّ حاجة الناس إليهم.

ومن الروايات ما رواه جابر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام « يا جابر إنّ للقرآن بطنا وللبطن ظهرا وليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ، إنّ

ص: 436


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 22

الآية لينزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء ، وهو كلام متصرّف على وجوه » (1).

ومنها : ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق علیه السلام قال « إنّ اللّه بعث محمّدا صلی اللّه علیه و آله ... وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده ... فجعله النبي صلی اللّه علیه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على كلّ زمان .. ثمّ ذكر كلاما طويلا في تقسيم القرآن إلى أن قال : إن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق ... ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه تعالى إلاّ نبيّه وأوصياؤه علیهم السلام » (2).

ومنها : ما عن سعيد بن طريف عن أبي جعفر علیه السلام « .. فإنّما على الناس أن يقرؤوا القرآن كما أنزل فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا » (3).

ومنها : ما رواه المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه علیه السلام « ... ولذلك قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّه ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ... وإنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك ... وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه والناطقين عن أمره ... » (4).

والجواب عن هذه الطائفة :

ذكر المصنّف رحمه اللّه في مقام الجواب عن هذه الطائفة وجهين :

ص: 437


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 74
2- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 62
3- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 64
4- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 38

الوجه الأوّل :

هو أنّ روايات هذه الطائفة غير معتبرة سندا ؛ وذلك لأنّها لا تخلو إمّا أن تكون مرسلة ، وإمّا أن يكون سندها مشتملا على رواة قد ثبت ضعفهم أو لم تثبت وثاقتهم.

وبهذا تسقط هذه الطائفة عن الحجيّة ولا يصح التعويل عليها لنفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب الكريم ، على أنّه يمكن دعوى الوثوق والاطمئنان بكذب هذه الطائفة من الروايات ، وذلك إذا ما حصل التوجه إلى مقدّمتين :

المقدّمة الأولى :

إنّ أغلب روايات هذه الطائفة مشتملة أسنادها على من ثبت ضعفه أو فساد مذهبه وميله إلى الغلوّ وسلوكه المسلك الباطني والذي كان يفهم أحكام الشريعة على أساس أنّها مجموعة من المفاهيم الغامضة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس ، وأن كل ظواهر الشريعة ليست مرادة ، وكانوا يضعون لتلك الظواهر تفسيرات غريبة أشبه بالخرافات التي يعتقدها المعقّدون من الناس ، وكانوا يبرّرون غرابتها بأنّ فهم ذلك ليس ميسورا لكلّ أحد ، وأنّ تلك المعاني لا تدرك بالعقول ، ومن هنا لا بدّ من تلقّيها بالتسليم والقبول ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى الإيمان الحقيقي ، ولهذا لا تعرض هذه المفاهيم إلا على من محض الإيمان.

ومن أصحاب هذا المسلك هو جابر بن يزيد الجعفي أو لا أقلّ أنّ أصحاب هذا المسلك قد استفادوا من بعض روايات جابر وأضافوا عليها من عند أنفسهم لغرض تشييد هذا المذهب الباطل ، ولعلّ هذا هو الذي يشير إليه النجاشي في ترجمة جابر حيث قال « روى عنه جماعة غمّز فيهم

ص: 438

ضعّفوا ، منهم عمرو بن شمر ومفضل بن صالح ومنخّل بن جميل ويوسف بن يعقوب وكان في نفسه مختلطا وكان شيخنا أبو عبد اللّه محمد بن محمد النعمان رحمه اللّه ينشد أشعارا كثيرة في معناه تدلّ على الاختلاط » (1) أي تدلّ على اختلاط جابر.

وقد ذكر الكشي في ترجمة جابر رواية وصلتنا بواسطة عمرو بن شمر أنّ جابر قال : دخلت على الإمام أبي جعفر علیه السلام وأنا شابّ ... قال : دفع إليّ كتابا .. ثم دفع إليّ كتابا آخر ثم قال علیه السلام « وهاك هذا فإنّ حدثت بشيء منه أبدا فعليك لعنتي » (2).

وذكر الكشي أيضا رواية منقولة عن أبي جميلة المفضّل بن صالح عن جابر الجعفي قال : حدّثني أبو جعفر تسعين ألف حديث لم أحدّث به أحدا قط ولا أحدّث به أحدا. قال جابر : فقلت لأبي جعفر علیه السلام جعلت فداك ، إنّك حملتني وقرا عظيما حدثتني به من سرّكم الذي لا أحدّث به أحدا فربّما جاش صدري حتى يأخذني منه شبه الجنون. قال علیه السلام : « يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبال واحفر حفيرة ودلّ رأسك فيها ثم قل حدثني محمّد بن علي بكذا وكذا » (3).

ومن أصحاب هذا المسلك - المعبّر عنهم بأصحاب الأسرار - هو سعيد بن طريف أو ظريف وهو أيضا ممن يروي المناكير والغرائب وقد عبّر عنه النجاشي بأنّه « يعرف وينكر » (4) وهو الذي روى لنا في مقام تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (5) أنّ الصلاة تتكلّم وأنّ

ص: 439


1- رجال النجاشي ص 128
2- اختيار معرفة الرجال ، الشيخ الطوسي ج 2 ص 438
3- خاتمة المستدرك ج 4 ص 204
4- رجال النجاشي ص 468
5- سورة العنكبوت آية 89

الفحشاء رجل والمنكر رجل. (1)

أمثال هؤلاء هم الواقعون في أسناد هذه الطائفة من الروايات.

المقدّمة الثانية :

إنّه لو كان حقّا عدم حجيّة ظواهر الكتاب وأنّ أهل البيت علیهم السلام قد عرّفوا الناس بذلك فلماذا لم يصل إلينا نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب إلاّ عبر أصحاب هذا المسلك الذي هو ليس محل قبول عند أصحاب الأئمّة علیهم السلام وعند فقهاء الطائفة؟ رغم أنّ هذه المسألة على درجة كبيرة من الخطورة ؛ إذ أنّه لو كان نظر الشارع هو نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب وأنّ ظواهر الكتاب غير مرادة من قبل الشارع لكان العمل بالظواهر تضييعا لكثير من أغراض الشريعة ، وهذا يقتضي أن يكون التنبيه على نفي الحجيّة متناسبا مع مستوى ما يترتّب على عدم تعرّف الناس على ذلك من ضياع لكثير من أهداف الشريعة خصوصا وأن العمل بالظواهر هو السلوك المتعارف عند العقلاء في مقام استكشاف مرادات المتكلّمين ، وأنّ الطريقة المتّبعة عند المتشرّعة في مقام استنباط الأحكام الشرعيّة من السنّة الشريفة هي الظهور.

كلّ ذلك يؤكد اختلاق أصحاب هذا المسلك لهذه الطائفة من الروايات وإلاّ لاطّلع عليها فقهاء الرواة ، وهذا يقتضي وصولها إلينا بواسطتهم حيث إنّهم المرجع في معرفة الأحكام وهم حفظة السنّة وأوتاد الأرض - كما عبّرت عنهم الروايات المعتبرة ، أمثال زرارة بن أعين ومحمّد

ص: 440


1- اصول الكافي كتاب فضل القرآن ح 1

بن مسلم وبريد العجلي وأبان بن تغلب وابن أبي عمير وصفوان بن يحيى.

ومن المثير للانتباه أنّ أمثال هذه الروايات لا تصل إلينا إلاّ عن طريق أصحاب هذا المسلك الباطني ولا يصل عن هؤلاء من مسائل الحلال والحرام إلاّ النزر القليل. وهذا ما يشير إليه النجاشي في ترجمته لجابر بن يزيد الجعفي حيث قال « قلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام ».

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّه مع التوجه لكلا المقدّمتين يحصل الوثوق والاطمئنان بكذب هذه الطائفة من الروايات.

الوجه الثاني : إنّ هذه الطائفة من الروايات منافية لما هو صريح القرآن الكريم من أنّه تبيان لكلّ شيء ، قال اللّه تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1).

وإذا كان كذلك فهي ساقطة عن الحجيّة لما دلّ من الروايات على أنّ ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف ، وأنّنا لم نقله ، وأن قائله أولى به.

الطائفة الثانية : والتي مفادها عدم صحّة التعويل على ما ينفهم من ظواهر الكتاب الكريم دون مراجعة النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام .

ومن هذه الروايات ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال يوم الغدير : « ... فو اللّه لن يبيّن زواجره ولا يوضح لكم عن تفسيره إلاّ الذي أنا آخذ بيده » (2).

ص: 441


1- سورة النحل آية 89
2- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 43

ومنها : ما رواه موسى بن عقبة عن الإمام الحسين علیه السلام « ... والمعوّل علينا في تفسيره لا نتظنى تأويله بل نتّبع حقائقه فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة » (1).

والجواب عن هذه الطائفة :

أنّ أقصى ما تدلّ عليه هذه الطائفة من الروايات هو أنّه لا يجوز الاعتماد على ما ينفهم من ظواهر الكتاب في مقابل ما يبيّنه أهل البيت علیهم السلام من معاني القرآن الكريم ، وغاية ما يقتضيه ذلك هو عدم صحة التعويل على ما يستظهر من آيات القرآن دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام فإن كان ما استظهرناه مطابقا مع ما ورد عن أهل البيت علیهم السلام فلا كلام ، وإن كان منافيا فلا يصحّ التمسّك بما استظهرناه في مقابل ما ورد عنهم علیهم السلام ، وإن لم يكن في الروايات ما ينافي مقتضى الظهور العرفي فليس في هذه الطائفة من الروايات ما يدلّ على عدم جواز التمسّك به. وبهذا يصحّ التعويل على ما يظهر من آيات القرآن اعتمادا على أدلّة حجيّة الظهور.

الطائفة الثالثة : وهي التي منعت عن التفسير بالرأي وهي روايات كثيرة جدا.

منها : ما رواه الكليني بسند متّصل عن زيد الشحّام عن أبي جعفر علیه السلام « ... ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك

ص: 442


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 45

فقد هلكت وأهلكت » (1).

ومنها : ما رواه في الخصال بسند متصل عن عبد الرحمن بن سمرة « ... ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب » (2).

ومنها : حديث الريّان بن الصلت عن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال :

قال اللّه عزّ وجلّ - في حديث قدسي - : « ما آمن بي من فسّر القرآن برأيه .. » (3) الحديث.

والجواب عن هذه الطائفة :

وقد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة على نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب بما حاصله :

إنّ فهم القرآن على أساس ما هو مقتضى الظهور العرفي لا يعدّ تفسيرا ؛ وذلك لأنّ التفسير يعني التوضيح والكشف عمّا خفي ورفع الستار عمّا أبهم من مراد ، وهذا إنّما يناسب المجمل من الألفاظ والمركبات اللّفظيّة والتي تكون المعاني المحتملة فيه متكافئة من حيث احتمال إرادتها.

أمّا فهم المعنى على أساس ما هو المتفاهم العرفي عند أهل المحاورة والذي يعتمد ضوابط مطّردة وملتزم بها عند كل من أراد أن يتكلّم بهذه اللغة فهذا ليس من التفسير في شيء ، إذ أن كل من اطّلع على تلك الضوابط وأنس بها فإنّه يفهم مرادات المتكلّمين بواسطة تلك الألفاظ والتراكيب المستعملة لغرض الكشف عمّا هو مختلج في النفس من معاني ، ولا يكون ثمّة

ص: 443


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 25
2- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 37
3- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 28

تردّد في ذلك الفهم إذا ما قام على أساس تلك الضوابط المتبعة عند أهل المحاورة من ذلك اللسان.

وهذا الإيراد وإن كان وجيها إلاّ أنّه ليس حاسما وذلك لعدم اطراده إذ أنّ بعض الاستظهارات تقوم على أساس نكات دقيقة وخفيّة يتطلّب دركها تأنّيا وإمعانا وتسلّطا على الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، ومن هنا يكون الكشف عن تلك النكات كشفا عمّا هو خفي وبه يكون هذا النحو من الاستظهار تفسيرا.

ولمزيد من التوضيح نقول :

إنّ بعض المركّبات اللّفظيّة تقتضي أكثر من ظهور ، وهذه الظهورات التي يقتضيها ذلك المركّب اللّفظي تنشأ عن أسباب متفاوتة كل سبب من تلك الأسباب يقتضي شأنا ظهورا خاصا. فالأوضاع اللغويّة مثلا قد تقتضي ظهورا معينا ومناسبات الحكم والموضوع تقتضي ظهورا آخر ، وقد تكون هناك قرينة داخليّة تستوحى من نفس المركّب المستعمل تقتضي ظهورا مغايرا للظهورين.

ومن هنا يكون استكشاف ما هو مقتضى الظهور الجدّي واقعا يحتاج إلى تشييد القرينة المقتضية لغلبة ما توجبه من ظهور على سائر القرائن الأخرى والمقتضية لظهورات أخرى ، ويحتاج أيضا إلى إبراز ما يوهن القرائن المقتضية شأنا للظهورات الأخرى.

وكلّ ذلك لا يكون ميسورا لكلّ أحد ، وهذا هو السرّ في اختلاف الفقهاء في فهم الأدلّة الشرعيّة فلو كان الاستظهار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كشف فلماذا هذا الاختلاف من الفقهاء وكذلك أهل المحاورة في

ص: 444

فهم الخطابات الصادرة عن الشارع وعن غيره من المتكلّمين.

ومن هنا يتّضح أن بعض الاستظهارات تكون من قبيل الكشف عمّا هو خفي ، وهذا هو التفسير الذي أدّعي عدم تناسبه مع الظهور.

ومع اتّضاح عدم تماميّة الإيراد السابق نحتاج إلى جواب آخر على الاستدلال بالطائفة الثالثة والتي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب ، وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه ثلاثة أجوبة لذلك :

الجواب الأوّل :

إنّ الظاهر من روايات هذه الطائفة هو التصدّي للردع عمّا كان رائجا في زمن الإمامين الباقر والصادق علیهماالسلام من اعتماد الرأي المبني على الحدس والتخمين والاستحسان والقياس والمصالح المرسلة وسد الذرايع كوسيلة لفهم النصوص الشرعيّة سواء منها النصوص القرآنية أو السنّة الشريفة.

وهذا هو المبرّر لاستظهار هذا المعنى من هذه الطائفة من الروايات ؛ إذ من المعروف الذي لا ريب فيه استيحاش أهل البيت علیهم السلام من هذه الطريقة في فهم النصوص الشرعيّة ، وتصدّيهم بشتى الوسائل لتوهين هذه المدرسة الغريبة في متبنياتها عن الإسلام ، وهذا بخلاف فهم النصوص الشرعيّة على أساس ما هو المتفاهم العرفي وما تقتضيه سليقة أهل المحاورة في كيفيّة التعرّف على مرادات المتكلّمين ، فإنّ هذه الطريقة هي المتّبعة حتّى عند أهل البيت علیهم السلام .

والذي يؤكّد ما استظهرناه من أنّ هذه الروايات بصدد الردع عن مدرسة الرأي الرائجة آنذاك هي الحوارات التي كان يجريها الإمامان الباقر والصادق علیهماالسلام مع أئمّة هذه المدرسة لغرض صرفهم عن هذا السلوك الذي

ص: 445

يهدّد أغراض الشريعة ، ولنذكر لذلك مثالين :

الأوّل : ما رواه زيد الشحام قال : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر علیه السلام فقال : « يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر علیه السلام : بلغني انّك تفسّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم فقال له أبو جعفر علیه السلام « فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ، أنا أسألك ( إلى أن قال ) : إن كنت تفسّر القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلك وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (1).

الثاني : ما رواه شبيب عن أنس عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث .. إنّ أبا عبد اللّه قال لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، ( إلى أن قال ) : يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب اللّه ولم تأت به الآثار والسنّة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك اللّه أقيس وأعمل برأيي. فقال علیه السلام : يا أبا حنيفة إنّ أوّل من قاس إبليس الملعون ، قاس على ربّنا تبارك وتعالى فقال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال : فسكت أبو حنيفة ، فقال علیه السلام : يا أبا حنيفة أيّما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال البول فقال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ، فقال : يا أبا حنيفة أيّما أفضل الصلاة أو الصوم؟ فقال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ فسكت » (2).

ص: 446


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 25
2- الوسائل باب 6 من أبواب صفات القاضي ح 27

الجواب الثاني :

إنّنا لو تنزّلنا وقلنا إنّ إطلاقات هذه الطائفة من الروايات شاملة لظواهر الكتاب الكريم فإنها مع ذلك قاصرة عن إثبات الردع عن السيرة العقلائيّة باعتبار أنّ الردع لا بدّ أن يكون بمستوى تجذّر السيرة وتأصّلها في سلوك العقلاء ، ونحن لو قايسنا هذه الطائفة من الروايات مع مستوى ترسّخ هذه السيرة في جبلّة العقلاء وسلوكهم لوجدنا أنّه لا تناسب بينهما أصلا.

فمع أنّنا نجد العمل بما هو مقتضى الظهور هي الطريقة الوحيدة التي يستكشف العرف منها مرادات المتكلّم وأنّ سلوك غير هذه الطريقة يعدّ شذوذا وخروجا عمّا هو المألوف والمتعارف نجد أنّ هذه الروايات ليست من الوضوح بحيث يمكن التعويل عليها في إلغاء هذه السيرة المستحكمة.

وأمّا قصورها عن الردع عن السيرة المتشرّعيّة فلأنّه لو كان هذه الروايات متصديّة للردع لانعكس ذلك على سلوك المتشرعة في حين أنّنا لا نجد وسيلة أخرى عندهم لفهم النصوص القرآنيّة غير هذه الوسيلة ، ولو كانت هذه الروايات متصديّة للردع لأثّر ذلك ولو على بعض المتشرّعة والحال أنّنا لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا مما يؤكّد أنّ إطلاقات هذه الروايات - لو تمت - مقيدة بالسيرة ، ولمزيد من البيان راجع ما ذكرناه في بحث حجيّة خبر الواحد في مقام الاستدلال على الحجيّة بالسيرة.

الجواب الثالث :

إنّ هناك مجموعة من الروايات يمكن التمسك بها لإثبات حجيّة ظواهر الكتاب وإذا تمّت دلالتها فهي صالحة لإسقاط الروايات النافية

ص: 447

للحجيّة عن الدليليّة أو لا أقل تكون صالحة لمعارضتها.

ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث طوائف :

الطائفة الأولى : هي الروايات الآمرة بالتمسّك بالقرآن وأنّه المرجع في كلّ ما يعترض المسلمين من بلايا وفتن.

وهذه الروايات من قبيل حديث الثقلين والّذي ثبت تواتره عن الفريقين.

ومن قبيل ما ورد عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّها إذا عرضت عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات واضح ؛ إذ أنّ الأمر بالتمسّك بالقرآن معناه الالتزام بمضامينه وما يشتمل عليه من مفاهيم وأحكام. واستكشاف هذه المضامين والمفاهيم لا يكون إلاّ بواسطة الظهور ؛ إذ أنّها الوسيلة المتعارفة في مقام التعرّف على مرادات المتكلّمين وسيتضح هذا التقريب أكثر في تقريب الاستدلال بالطائفة الثانية.

الطائفة الثانية : وهي الروايات الآمرة بعرض الشروط في العقود على القرآن فما خالف كتاب اللّه فهو مردود ، وهذا من قبيل ما ورد « من أن كلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو باطل ».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات حاصله : أنّه إن كان المقصود من مخالفة الشرط للكتاب مخالفته لما هو مقتضى الإطلاق اللّفظي للقرآن فهذا يعني أنّ المخالفة لكتاب اللّه هي المخالفة لظواهر الكتاب ، إذ أنّ الإطلاق اللّفظي من مصاديق الظهور ، وبذلك يثبت المطلوب.

وإن كان المقصود من مخالفة الشرط للكتاب هو منافاة الشرط واقعا

ص: 448

فلا بدّ من وسيلة للتعرّف على واقع المضمون المراد من قبل اللّه جلّ وعلا.

والاحتمالات في المقام ثلاثة ؛ إمّا أن لا يكون هناك وسيلة للتعرّف على المضمون الواقعي. وهذا الإحتمال ساقط حتما ؛ إذ ما معنى إرجاع الشروط إلى كتاب اللّه جلّ وعلا إذا لم تكن وسيلة لمعرفة مقاصد القرآن الكريم.

وإمّا أن تكون هناك وسيلة اخترعها الشارع لغرض الوصول بها إلى مقاصده. وهذا الاحتمال ساقط أيضا ، إذ لو كان لبان كما اتّضح ذلك في بحث حجيّة الظهور.

والاحتمال الثالث أنّ الشارع لم يتصدّ لبيان الوسيلة التي يتوصّل بها إلى مقاصده ، وهذا ما يكشف عن قبوله للوسيلة المتعارفة عند المخاطبين بالقرآن.

ولمّا كانت الوسيلة المتعارفة عند المخاطبين بالقرآن - وهم العرف - هي العمل بما يقتضيه الظهور فهذا ما يثبت حجيّة ظواهر الكتاب.

وقد لا حظتم أنّنا استفدنا من الإطلاق المقامي لإثبات إمضاء الشارع لما عليه العرف في مقام استكشاف مقاصد الشريعة.

وقد أوضحنا المراد من الإطلاق المقامي في محلّه ، وقد طبقناه في المقام وقلنا إنّ المولى لو كانت له وسيلة أخرى غير المتّبعة عند العرف لكان ذلك يقتضي بيانها ، فعدم بيانها كاشف عن أنّ العمل بظواهر الكتاب لم يقع موضوعا للردع ، حيث إنّ الشارع وبحكم قيوميّته دائما يكون في مقام الرّدع عن كلّ ظاهرة اجتماعيّة غير مرضية عنده ، وحيث إنّه ردع عن مجموعة من الظواهر ، ولم يردع عن هذه الظاهرة رغم أنّه في مقام الردع

ص: 449

عن كلّ ما هو غير مرضي فهذا يكشف عن عدم كون العمل بظواهر الكتاب موضوعا للردع وهذا هو معنى ما قلنا من أنّ الإطلاق المقامي ينفي موضوعا عن أن يكون مشمولا لحكم.

الطائفة الثالثة : وهي أوضح الطوائف الثلاث ، وهي الروايات الآمرة بعرض ما يرد عن أهل البيت علیهم السلام على الكتاب ، فما خالف كتاب اللّه فهو لم يصدر عن أهل البيت علیهم السلام ، وأنّ ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف وقائله أولى به وأنّه يرمى به عرض الجدار. وهي روايات كثيرة بل متواترة.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة :

أنّ الاحتمالات المتصوّرة في فهم المراد من هذه الروايات ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أنّ المراد من المخالف لكتاب اللّه هو المخالف لمقاصد القرآن المستفادة بواسطة الأخبار ، أي أنّ الخبر الساقط عن الحجيّة هو الخبر المنافي لمضامين القرآن إلاّ أنّ التعرّف على المنافاة وعدم المنافاة لا يتمّ بواسطة ملاحظة القرآن الكريم مباشرة ، بل إنّ معرفة المنافاة لمضامين القرآن إنّما تستكشف بواسطة الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام .

وهذا الاحتمال ساقط حتما ؛ إذ أنّ هذه الطائفة من الروايات إنّما هي في مقام بيان ما هو المميّز للروايات المعتبرة من الروايات غير المعتبرة ، ومن الواضح أنّ كلّ الروايات بما فيها الروايات المبيّنة لمضامين الكتاب العزيز داخلة تحت هذا المميز ؛ ولهذا كيف يكون الكاشف عن الاعتبار هو الذي يراد استكشاف اعتباره؟

الاحتمال الثاني : أنّ المراد ممّا خالف كتاب اللّه جلّ وعلا هو ما خالف نصوص الكتاب فحسب ، وهذا الاحتمال ساقط أيضا ؛ وذلك لأنّ الظاهر

ص: 450

من هذه الطائفة أنّها تعالج مشكلة كانت سائدة ويمكن أن يكتب لها الدوام والاستمرار ، وهذه المشكلة هي تصدّي أصحاب الأهواء الفاسدة لوضع الحديث ونسبته إلى أهل البيت علیهم السلام ، ولم يكن هؤلاء من الغباء بحيث يلفّقون على أهل البيت علیهم السلام أحاديث منافية لصريح القرآن ، إذ أنّه لن يصدّقهم أحّد في ذلك ، وهذا ينافي غرضهم من الوضع والتدليس ، ولهذا نجد أنّ الروايات المناقضة لصريح القرآن قليلة جدّا بل لا تكاد تذكر.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من المخالف لكتاب اللّه هو ما خالف نصوص القرآن وظواهره. وهذا هو المتعيّن من الاحتمالات بعد اتّضاح فساد الاحتمالين السابقين.

وبهذا تثبت حجيّة ظواهر الكتاب إذ لو لم تكن حجّة لما جعلها الشارع وسيلة لتمييز الروايات المعتبرة من غير المعتبرة وهذه الطوائف الثلاث من الروايات إمّا أن تكون موجبة لإسقاط الروايات النافية للحجيّة عن ظواهر الكتاب ، وبهذا يثبت المطلوب ، أو تكون معارضة لها وحينئذ تسقط كلّ الروايات - النافية والمثبتة - عن الحجيّة ، ويكون المرجع عند ذلك هو السيرة ، ولا تكون الروايات النافية للحجيّة صالحة للردع عنها بعد افتراض سقوطها بالتعارض.

وهذه السيرة إمّا أن تثبت حجّتها بوسائل وجدانيّة ، كأن يكون هناك إحراز لإمضائها ، أو تثبت بواسطة الاستصحاب كأن يكون الإمضاء محرزا ثمّ عرض على بقائه الشكّ.

الدليل الثالث :

أنّه قد تعلّقت إرادة المولى جلّ وعلا بأن يتّصل الناس بأهل

ص: 451

البيت علیهم السلام ويرتبطوا بهم ؛ إذ أنّ في الارتباط بهم تكون الهداية وفي الانفصال عنهم تكون الضلالة ، ومن الواضح أنّ هذه الإرادة تقتضي أن يخلق المولى مبرّرات توجب ارتباط الناس بأهل البيت علیهم السلام .

ومن هنا تعمّد المولى إجمال وإبهام آيات الكتاب حتّى تلجأ الناس لأهل البيت علیهم السلام لغرض الاستيضاح والتعرّف على مقاصد القرآن ، وهذا ما يوجب اشتداد علاقة الناس بهم علیهم السلام .

ثمّ إنّ هناك منشأ آخر لإجمال مقاصد الكتاب العزيز وهو أنّه لمّا كانت المعاني المشتمل عليها القرآن الكريم عالية ومقاصده ذات مضامين رفيعة فهذا يستوجب ألا تكون مفهومة.

فبهذين المنشأين أو بأحدهما يثبت الإجمال لآيات الكتاب ، ومن هنا تخرج آيات الكتاب العزيز عن حجيّة الظهور موضوعا وتخصّصا.

والجواب عن هذا الدليل :

والجواب يتمّ بواسطة إسقاط دليليّة المنشأين المذكورين عن إثبات الإجمال لآيات الكتاب العزيز.

أمّا المنشأ الأوّل : فجوابه أنّ من المقطوع به أنّ الغرض من إنزال القرآن الكريم هو هداية الناس ، وهذا ما يقتضي أن يكون واضحا وميسور الفهم ، ودعوى إبهامه وإجماله ينافي ما هو الغرض من إنزاله ، والحكيم لا ينقض غرضه ، ونحن وإن كنّا نسلّم أنّ المولى جلّ وعلا قد تعلّقت إرادته بأن يتمسّك الناس بأهل البيت علیهم السلام ويرتبطوا بهم أشد ارتباط ، إلاّ أنّه من أين حصل لنا العلم بتعلّق إرادة المولى بذلك؟ فإمّا أن يكون العلم بذلك حصل بواسطة القرآن الكريم أو بواسطة الرسول صلی اللّه علیه و آله وبكلّ منهما يثبت

ص: 452

المطلوب.

إذ أنّه لو كان الموجب للعلم بتعلّق إرادة المولى جلّ وعلا بلزوم الارتباط بأهل البيت علیهم السلام هو القرآن الكريم فهذا يقتضي أن يكون واضحا ومفهوما حتى يمكن استفادة ذلك منه.

وإمّا أن يكون الموجب للعلم بهذه الإرادة المولويّة هو الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهذا يحتاج إلى إثبات حجيّة كلام الرسول صلی اللّه علیه و آله وأنّه مبعوث من اللّه جلّ وعلا الذي هو الإله الحق.

وهذه هي أصول الدين المحتاج ثبوتها إلى معجزة ، إذ لا سبيل لإثبات الرسول والرسالة إلاّ المعجزة. والمعجزة التي أثبتت الرسالة الإسلامية وأنّ الصادع بها هو محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله هي القرآن الكريم ، فإذا كان القرآن هو الحجّة في إثبات ذلك فهذا يقتضي أن يكون واضحا وجليّا وإلاّ لا يمكن أن تثبت به الأصول الاعتقاديّة.

وأمّا المنشأ الثاني : فجوابه أنّ المناسب لكون القرآن كتاب هداية أن يكون في متناول الجميع ، وهذا هو مقتضى طبع كلّ حكيم أن يتناسب فعله مع هدفه لا أن يكون فعله مفوّتا لهدفه ، فإذا كان الغرض الإلهي قد تعلّق بهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، فهذا يستوجب أن تكون الوسيلة التي جعلها من أجل الوصول لهذا الغرض متوفّرة على المؤهّلات الكفيلة بتحقيق الغرض المنشود على أتمّ وجه.

ولمّا كان القرآن الكريم هو الوسيلة المجعولة من اللّه جلّ وعلا لتحقيق هذا الغرض فهذا يستوجب أن يكون واضحا وبينا يمكن الاسترشاد به والخروج به من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى ، وإلاّ لو لم يكن كذلك فأي

ص: 453

هداية يمكن أن تؤخذ عنه وهو مبهم ومجمل؟!

وكون القرآن مشتملا على مضامين عالية لا يوجب إبهامه ؛ إذ أنّ الحكيم لا يجازف بأهدافه ، ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم رغم اشتماله على ما لا تصل إليه عقول الرجال مجتمعة مع ذلك فهو يصبّ تلك المضامين الشامخة في قوالب لفظيّة بديعة ومفصحة عمّا هو المراد.

اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الأوصياء

الراضين المرضيّين بأفضل صلواتك ، وبارك عليهم

بأفضل بركاتك ، والسلام عليهم وعلى أرواحهم

وأجسادهم ورحمة اللّه وبركاته.

والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 454

المحتويات

المقدّمة... 5

تعريف علم الأصول ... 9

التعريف على مختار المصنّف رحمه اللّه :... 12

موضوع علم الأصول... 13

فائدة علم الأصول... 19

الحكم الشرعي وتقسيمه... 23

الأحكام التكليفيّة... 24

الأحكام الوضعية... 25

مبادئ الحكم التكليفي ... 26

مبادئ الأحكام التكليفيّة الخمسة ... 29

التضاد بين الأحكام التكليفية :... 31

استحالة اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد ... 34

ص: 455

شمول الحكم الشرعي لجميع وقائع الحياة ... 35

الحكم الواقعي والحكم الظاهري ... 37

الأمارات والأصول ... 40

اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ... 44

القضية الحقيقة والقضية الخارجية ... 46

تنويع البحث... 49

حجّيّة القطع... 55

المبحث الأوّل : المراد من معنى القطع :... 55

المبحث الثاني : محركيّة القطع :... 57

المبحث الثالث : حول حجّية القطع :... 60

الجهة الأولى : في معنى الحجيّة ... 60

الجهة الثانية : التلازم بين الحجيّة وبين الكاشفيّة والمحركيِّة ... 62

الجهة الثالثة : الحجية هل هي ثابتة للقطع أو لا؟... 63

الجهة الرابعة : حدود حق الطاعة للمولى ... 65

الجهة الخامسة : هل للمولى أن يمنع عن العمل بالقطع؟ ... 68

الجهة السادسة : معذِّرية القطع... 70

المبحث الرابع : في التجرّي ... 74

المبحث الخامس : في العلم الإجمالي... 76

القطع الطريقي والقطع الموضوعي... 82

جواز الإسناد للمولى... 87

ص: 456

تحديد المنهج في الأدلة والأصول... 93

المنهج بناء على مسلك حق الطاعة... 94

المنهج على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان... 101

الأدلّة المحرزة... 107

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة... 107

تقسيم آخر للأدلة المحرزة... 109

تقسيم الدليل الشرعي... 111

المطلب الأول : الأصل عند الشك في الحجّة... 118

المطلب الثاني : مقدار ما يثبت بالأدلّة المحرزة... 124

المطلب الثالث : تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة... 131

المطلب الرابع : وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي... 138

المطلب الخامس : إثبات الدليل لجواز الإسناد... 145

المبحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي... 151

الدليل الشرعي اللفظي - تمهيد -... 153

الظهور التصوّري والظهور التصديقي :... 154

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة... 157

النظرية الأولى : السببيّة الذاتية :... 157

النظريّة الثانية : السببية الوضعية الاعتبارية :... 158

ص: 457

النظريّة الثالثة : التعهّد... 161

الإشكال على مسلك التعهّد... 164

النظرية الرابعة : نظرية القرن الأكيد... 166

الوضع التعييني والتعيّني... 167

توقّف الوضع على تصوّر المعنى... 169

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ... 174

المجاز ... 176

علامات الحقيقة والمجاز... 180

تحويل المجاز إلى حقيقة... 188

استعمال اللفظ وإرادة الخاص... 189

الاشتراك والترادف... 190

تصنيف اللغة... 194

المقارنة بين الحروف والأسماء الموازية لها ... 200

تنوّع المدلول التصديقي ... 201

المقارنة بين الجمل التامّة والجمل الناقصة... 205

الأمر والنهي... 209

مادة الأمر... 209

صيغة الأمر ... 214

الأوامر الإرشاديّة... 220

ص: 458

الأمر بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر ... 223

دلالة الأمر الموقّت على لزوم القضاء ... 225

الأمر بالأمر ... 228

النهي... 231

الاتجاهات في تفسير معنى النهي... 231

الاحتراز في القيود... 236

الإطلاق... 241

هل الإطلاق مستفاد من الوضع أو من دالّ آخر ... 244

الثمرة المترتّبة على ما هو الدالّ على الإطلاق ... 245

قرينة الحكمة... 246

أقسام الإطلاق ... 251

الإطلاق في المعاني الحرفية... 253

التقابل بين الإطلاق والتقييد ... 254

الحالات المختلفة لاسم الجنس ... 258

الانصراف ... 265

الإطلاق المقامي ... 269

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة ... 273

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار الوجوب من الأوامر... 273

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار النفسية التعيينيّة العينيّة للطلب... 274

ص: 459

العموم... 279

تعريف العموم ... 279

أدوات العموم ونحو دلالاتها ... 281

دلالات الجمع المعرّف باللام ... 284

المفاهيم... 289

تعريف المفهوم... 289

ضابطة المفهوم... 294

مفهوم الشرط... 298

الشرط المسوق لتحقق الموضوع ... 303

مفهوم الوصف... 305

أقسام الجملة الوصفية... 310

جمل الغاية والاستثناء... 313

التطابق بين الدلالات... 319

أصالة الظهور في العموم... 321

أصالة الجهة... 322

دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث ... 323

مناسبت الحكم والموضوع... 327

بعض التطبيقات لمناسبات الحكم والموضوع... 329

ص: 460

إثبات الملاك بالدليل... 333

الدليل الشرعي غير اللفظي... 337

دليليِّة الموقف العملي الصادر عن المعصوم على الحكم الشرعي ... 337

دلالة السكوت والتقرير ... 343

السيرة :... 347

مقدار دليليِّة السيرة العقلائية ... 348

الثمرة المترتِّبة على ما هو المبنى في دليليّة السيرة... 349

إثبات صغرى الدليل الشرعي... 355

الخبر المتواتر - تمهيد -... 359

العوامل الكميّة والنوعية التي تتصل بالمخبر... 362

العوامل التي تتصل بمضمون الخبر... 364

الإجماع... 367

مبرِّرات ارتفاع قيم الاحتمال في الخبر الحسِّي وانخفاضها في الحدسي... 367

العوامل التي تساهم في انخفاض مستوى احتمال عدم المطابقة في الاجماع... 372

ص: 461

سيرة المتشرّعة... 375

الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي ... 377

طرق إثبات معاصرة السيرة الفعليّة للمعصوم علیه السلام ... 377

درجة الوثوق في وسائل الإحراز الوجداني ... 384

وسائل الإحراز التعبّدي... 387

أدلّة حجيّة خبر الواحد ... 387

الاستدلال بآية النبأ ... 387

الاستدلال بآية النفر ... 392

الاستدلال بآية الكتمان ... 396

الاستدلال بآية ( فاسألوا أهل الذكر ) ... 398

الاستدلال بالسنّة الشريفة :... 401

الدليل الأول : التواتر ... 401

الدليل الثاني : السيرة ... 402

الأدلّة التي استدلّ بها على الردع ... 404

أدلّة نفي الحجيّة ... 406

تحديد دائرة الحجيّة ... 410

قاعدة التسامح في أدلّة السنن... 415

إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي... 419

أنحاء الدلالة للدليل الشرعي... 421

ص: 462

الاستدلال على حجيّة الظهور... 425

أدلّة نفي الحجيّة عن الظهور ... 427

موضوع الحجيّة للظهور... 427

ظواهر الكتاب الكريم... 433

أدلّة النافين الحجيِّة ظواهر الكتاب ومناقشتها... 433

المحتويات... 455

ص: 463

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.