الملخّص في أُصول الدين المجلد 1

هویة الکتاب

سرشناسه : سیدمرتضی، علی بن حسین ، ‫ 355 - 436 ق.

عنوان و نام پديدآور : الملخص فی اصول الدین/ علی بن الحسین الموسوی علم الهدی ؛ تحقیق عده من المحققین؛ اشراف محمدحسین الدرایتی؛ [تهیه کننده] مرکز همایش های علمی و پژوهش های آزاد دارالحدیث.

مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی ‫، 1441ق. ‫= 1398.

مشخصات ظاهری : ‫2ج.

فروست : الموتمرالدولی لذکری الفیه الشریف المرتضی. مولفات الشریف المرتضی ‫؛ 8.

شابک : دوره ‫: 978-600-06-0396-0 ؛ ‫ج.1 : ‫ 978-600-06-0397-7

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

يادداشت : عربی.

موضوع : توحید

*Tawhid (Unity of God)

خدا -- صفات

God-- Attributes

شیعه امامیه -- عقاید

*Imamite Shi'ah -- Doctrines

‫عدل (اصول دین)

*Justice (Pillars of Islam)

شناسه افزوده : درایتی ، محمدحسین ، ‫1343 -

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

شناسه افزوده : Islamic Research foundation

شناسه افزوده : موسسه علمی فرهنگی دارالحدیث ‫. مرکز همایش های علمی و پژوهش های آزاد

رده بندی کنگره : ‫ BP217/4

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/42 ‮

شماره کتابشناسی ملی : 5559722

اطلاعات رکورد کتابشناسی : فاپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الملخّص في أُصول الدين الشريف المرتضى

عليّ بن الحسين الموسوي، علم الهدى

(355-436 ه)

المجلّد الثاني

تحقيق

عدّة من المحقّقين

مؤلّفات الشريف المرتضى / 9

ص: 3

ص: 4

الفهرس الإجمالي

مقدّمة التحقيق... 7

نماذج من تصاوير النسخة... 43

الملخّص في أُصول الدين

الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع... 51

الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ... 53

الفصل الثاني: في الدَّلالةِ علىٰ إثباتِ المُحدِثِ ... 99

الباب الثاني: الكلام في الصفات... 115

القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة... 115

الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ... 117

الفصلُ الثاني: في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ... 127

الفصل الثالث: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ ... 137

الفَصلُ الرابع: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ... 155

الفصلُ الخامس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ موجودٌ... 179

الفصلُ السادس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ ... 191

الفصلُ السابع: في بيانِ أحكامِ الصفاتِ الثبوتيّةِ الذاتيّةِ ... 227

ص: 5

القسم الثاني: الصفات السلبيّة... 347

الفَصلُ الأوّل: في نَفيِ الحاجَةِ عنه تَعالىٰ و إثباتِه غَنيّاً... 349

الفصلُ الثاني: في نَفي الجسميّةِ عنه تَعالىٰ ... 361

الفصلُ الثالث: الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ ... 405

فهرس المطالب... 483

ص: 6

مقدّمة التحقيق

اشارة

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

لقد مرّ علم الكلام خلال تاريخه الطويل بمراحل متعدّدة، تنقّل فيها بين مراحل بدائيّة ليصل إلى مراحل أكثر تطوّراً، و لينتهي إلى مراحل شهدت تطوّراً مذهِلاً على يد كبار المتكلّمين من مختلف الفرق الإسلاميّة.

فقد بدأ علم الكلام بطرح مسائل جزئيّة مثل شرعيّة إمامة بعض الأشخاص، أو كفر و إيمان أشخاص آخرين، ليصل فيما بعد إلى طرح نظريّات عامّة حول الإمامة و صفات الإمام، و حقيقة الإيمان و الكفر، و غير ذلك من الأبحاث، لينتهي إلى طرح أفكار و آراء غاية في العمق و الدقة، ممّا عكست مدى الثراء العلمي و الخصوبة الفكريّة التي كان يعيشها المسلمون في عصرٍ كانوا يتربّعون فيه على عرش العالَم.

و قد مرّ علم الكلام عند الإماميّة بنفس المراحل الفكريّة، بدأت من مراحل بدائيّة لتصل إلى مرحلة التنظير على يد كبار المتكلّمين، و على رأسهم هشام بن الحكم (ق 3 ه) أكبر و أبرز و أخطر متكلّمٍ إماميٍّ في عصره بلا منازع، و غيره من المتكلّمين من أمثال عليّ بن إسماعيل المِيثمي (أوائل القرن 3 ه)، و يونس بن

ص: 7

عبد الرحمن (ت 280 ه)، و الفضل بن شاذان (ت 260 ه)، و أبي سهل النوبختي (ت 311 ه)، و غيرهم ممّن تطول بهم قائمة الأسماء... حتّى وصلت النوبة إلى الشيخ المفيد (ت 413 ه) كي يشهد علم الكلام تطوّراً جديداً لم يتوقّف مع وفاته، بل استمرّت و تيرة تطوّره على يد أعلام كبار من تلاميذه، و على رأسهم الشريف الأجلّ المرتضى علم الهدى رحمه اللّٰه.

لقد شهد علم الكلام على يد الشريف المرتضى قفزةً نوعيّةً ، و تطوّراً كبيراً من حيث عمق الطرح، و دقّة الاستدلال، و تفصيل المطالب، فقد أسّس لمدرسةٍ كلاميّة ألقت بظلالها على مَن جاء بعده من متكلّمي الإماميّة في بغداد، و الريّ ، و حلب، و غيرها، و فرضت هيبتها عليهم مدّة قرنَيْن من الزمان أو أكثر من ذلك، إنّها مدرسة الشريف المرتضى.

منهجية البحث عند الشريف المرتضى

قرّر الشريف المرتضى بناء منظومته الفكريّة الكلاميّة على أساس قاعدة محكمة و رصينة، فكان أفضل أساس لذلك هو «العلم»، فإنّ اعتماد العلم و اليقين و اتّباعهما ممّا قد قرّره الإسلام بكلّ وضوح، قال تعالى: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(1) ، فقد نهى عن اعتماد غير العلم.

و بذلك جعل الشريف المرتضى من العلم وجهته التي يتوجّه إليها، و رائده الذي يسير على هداه، فكلّ ما أدّى به إلى العلم أخذ به و تبنّاه، و كلّ ما لم يؤدّ به إلى ذلك رفضه و أعرض عنه. فصار «العلم» يمثّل الهدف الأسمى الذي تتحرّك

ص: 8


1- . الإسراء (17):36.

مدرسة الشريف المرتضى نحوه، و الأساس الذي تتعامل من خلاله مع مختلف النظريّات و الأدوات الفكريّة.

و قد ظهر أثر اتباع هذه المنهجيّة العلميّة بجلاء في تعامل الشريف المرتضى مع الأدوات الفكريّة المتّبعة في البحث الكلامي، فرفض اعتماد خبر الواحد لمجرّد أنّه لا يفيد العلم، بينما اعتمد على الخبر المتواتر، و الإجماع، و العقل، لكونها أدوات تمهّد السبيل للمتكلّم للوصول إلى العلم.

و هكذا نرى أثر ذلك في إيمانه بنظريّة الصرفة مثلاً؛ فإنّها باعتقاده تؤمّن عنصر العلم بكون القرآن معجزة، بحيث تجعل الباحث يجزم و يقطع بذلك، خلافاً للنظريّات الأُخرى المطروحة في هذا المجال كالفصاحة و النظم؛ فإنّها برأيه لا توفّر هذا العنصر(1).

و من جهةٍ أُخرى، فإنّ عدم إيمان الشريف المرتضى بقيمة الخبر الواحد لا يعني إعراضه عن اتّباع السنّة بالمرّة، فإنّ خبر الواحد لا يمثّل الطريقَ الوحيد للوصول إلى السنّة، بل لقد اتّبع الشريف المرتضى طرقاً بديلة مكّنَتْهُ من تحصيل السنّة من دون الرجوع إلى خبر الواحد، و ذلك من خلال الاعتماد على الخبر المتواتر و الإجماع.

أمّا الخبر المتواتر فقد تقدّم أنّه يوفّر عنصر العلم، و لذلك سُمح له بالدخول إلى منظومة الشريف المرتضى كأداة من أدوات التعرّف على الآراء الكلاميّة الموجودة في السنّة.

و أمّا الإجماع فقد كان له دورٌ مهمٌّ في استنباط جملة من النظريّات الكلاميّة

ص: 9


1- . الموضح عن جهة إعجاز القرآن (الصرفة)، ص 94-95، 119.

التي آمن بها الشريف المرتضى، فهو لم يكن يعتمد على الإجماع في مجال الفقه فحسب، بل تعدّاه إلى مجال علم الكلام، فقام بالاستدلال على عددٍ كبير من الآراء الكلاميّة بالإجماع(1).

و الإجماع برأيه يكشفُ عن رأي الإمام المعصوم الغائب عليه السلام، و بذلك يكون كاشفاً عن السنّة؛ باعتبار أنّ رأي المعصوم سواءً كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أو أحد الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام يمثّل رأي السنّة، فإنّ السنّة عند الإماميّة غير منحصرة بالرسول صلّى اللّٰه عليه و آله بل تشمل الأئمّة عليهم السلام أيضاً. و بذلك انفتح المجال أمام الشريف المرتضى للوصول إلى السنّة، الأمر الذي عوّض له بعض ما فقده من آراء نتيجةَ رفضه لقيمة خبر الواحد.

و أمّا العقل فهو الأداة العلميّة المهمّة التي كان لها دورٌ أساس في استنباط الكثير من الآراء الكلاميّة في مدرسة الشريف المرتضى، و كان لها بروزٌ و ألقٌ خاصّ ممّا سمح للكثيرين أن ينعتوا هذه المدرسة بالعقلانيّة. و هو وصف تستحقّه هذه المدرسة بامتياز، فهو يعكس إلى حدٍّ كبير أهمّ معالم هذه المدرسة.

و لكن ينبغي التنويه إلى نقطةٍ مهمّة، و هي هل كان اعتماد الشريف المرتضى على العقل اعتماداً مطلقاً شاملاً لكل المسائل الكلاميّة، أم أنّ هناك دائرةً معيّنةً يتحرّك العقل في داخلها، و لا يتجاوز حدودها؟

قد لا نجد جواباً صريحاً على هذا السؤال في كتب و رسائل الشريف المرتضى، و لكن إذا راجعنا مجمل أفكاره، و أجَلنا النظر في الأُسس التي ابتنت عليها مدرسته الكلاميّة لوجدنا - كما تقدّم - أن هناك أدواتٍ أُخرى يعتمد عليها في استنباط الأفكار الكلاميّة، و هي الخبر المتواتر و الإجماع، و الخاصيّة

ص: 10


1- . مجلّة العقيدة، العدد 3، ص 267.

التي تتمتّع بها هاتان الأداتان هي كشفهما عن رأي السنّة - أي رأي الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله أو الإمام عليه السلام - بصورةٍ قطعيّة، أيّ أنّهما تكشفان عن رأي المعصوم عليه السلام و كأنّنا جُلوس أمامه نستمع كلامه الشريف.

و الذي يعرف الشريف المرتضى كمتكلّمٍ مؤمن، يعرف أنّه لا يجرؤ على مخالفة قول الإمام عليه السلام الذي يؤمن بعصمته، و يرى أنّه على حقٍّ في كلّ ما يقوله و يعتقد به(1).

و مع معرفة رأي المعصوم عليه السلام لا يبقى مجالٌ لإعمال العقل، و هذا لا يعني أنّ ما يُؤخذ من الدين قد يخالف العقل، لا أبداً، بل معناه أنّه مع معرفة رأي المعصوم عليه السلام المطابق للواقع، لا يبقى مبرّر لاعتماد العقل، و خاصّة في المجالات التي يُحجم العقل عن مساسها و الدخول فيها.

و بذلك يبقى المجال أمام العقل مفتوحاً في المجالات التي ليس فيها خبرٌ متواتر أو إجماع، ليدلو بدلوه و يبدي رأيه، و هي مجالاتٌ واسعة و آفاقٌ رحبة، تتّضح للقارئ لمدرسة الشريف المرتضى الكلاميّة التي اعتمدت على العقل بصورةٍ كبيرةٍ حتّى استحقّت أن توصف - كما تقدّم - بالعقلانيّة.

علاقة الشريف المرتضى بالمعتزلة

من المسائل التي طال الحديث حولها، و التي يرجع تاريخها إلى ما يقارب عصر الشريف المرتضى، و ربّما إلى عصره، هي مسألة علاقته بالمعتزلة، و خاصّة معتزلة البصرة، و مدى تأثّره بهم، حتّى عدّه البعض من المعتزلة، و وضعه في ضمن طبقاتهم(2).

ص: 11


1- . رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 15، 205.
2- . شرح العيون (في ضمن كتاب: طبقات المعتزلة)، ص 383.

و ما زال الكلام حول هذا الموضوع مستمرّاً، فصار يحلو لبعض المعاصرين أن يصف الشريف المرتضى بأنّه «بهشمي» نسبةً إلى أبي هاشم الجبّائي، و لعلّه لا نجد من سمّى الشريف المرتضى بهذه التسمية قبل زماننا.

و للبتّ في هذا الموضوع ينبغي تحديد ما يسمّى بمحل النزاع كي لا يتشتّت البحث و يخرج من إطاره العلمي إلى دائرة الاتّهام و سوء الطويّة.

و قبل كلّ شيءٍ يجب معرفة معنى الاعتزال، فقد عرّف أبو الحسين الخيّاطُ (ت بعد 300 ه) المعتزليَّ بأنّه الذي يؤمن بأُصول الاعتزال الخمسة، و هي: التوحيد، والعدل، و الوعيد، و المنزلة بين المنزلتَيْن، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنّ من لا يؤمن بواحدٍ منها فهو خارج من دائرة الاعتزال، حيث قال الخيّاط: «و ليس يستحقّ أحدٌ منهم اسم الاعتزال حتّى يجمع القول بالأُصول الخمسة... فإذا كملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي».(1)

و من الواضح للمُراجع لأفكار الشريف المرتضى يجده يرفض أصلَيْن من أُصول المعتزلة رفضاً باتّاً، و هما الوعيد، و المنزلة بين المنزلَتيْن(2)، و بقي إلى آخر لحظةٍ من حياته مصرّاً على رفضهما و اعتبارهما أصلين باطلين. و بذلك لا يمكن اعتباره معتزليّاً و ذلك وفقاً للتعريف الآنف للاعتزال.

و هناك تعريف آخر للاعتزال جعل كلّ مَن يؤمن بالتوحيد و العدل، و لم يؤمن بما يوجب العداوة معتزلياً، فقد قال أبو القاسم البلخي (ت 327 ه):

و الاعتزال - رحمك اللّٰه -... فقد صار في يومنا هذا سمةً لمن قال بالتوحيد و العدل، و لم يَعتقد مِن سائر المقالات ما يزيل الولاية و

ص: 12


1- . الانتصار، ص 188. و راجع: مروج الذهب، ج 3، ص 222-223.
2- . الذخيرة في علم الكلام، ص 504، 536 و ما بعدها.

يوجب العداوة، و زال عمّن خالف التوحيد و العدل، و إن قال بالمنزلة بين المنزلتَيْن، هذا ضرار و أصحابه يقولون بذلك، و ليس تلزمهم سمة الاعتزال، و لا يقبلهم أهله(1).

و من الواضح أنّ القيد الذي وضعه البلخي، و هو أنْ يَعتقد مِن سائر المقالات بما يزيل الولاية و يوجب العداوة، أنّ هذا القيد يُخرج الشريف المرتضى من حقيقة الاعتزال، فهو يختلف في العديد من المقالات مع المعتزلة بنحوٍ يُخرجه عن ولايتهم، و يُدخله في عداوتهم.

و من أبرز تلك المقالات الإمامة، فقد وقف الشريف المرتضى في هذه المسألة وجهاً لوجه مع المعتزلة، و لم يتهاون في مخالفتهم و ردّ مقالتهم في الإمامة، و طرح رؤيته التي تمثّل رؤية الإماميّة حول هذا الموضوع، و كتابه الشافي في الإمامة خيرُ شاهدٍ على ذلك، و هو كفيل بجلب عداوة المعتزلة.

و يبدو أنّ كلّ هذا كان واضحاً لدى الكثيرين ممّن وسم الشريف المرتضى بالاعتزال، و لكنّهم مع ذلك أصرّوا على دعواهم، و هذا الأمر يرجع إلى أنّهم وجدوا شَبَهاً كبيراً بين آراء الشريف المرتضى في مجالي التوحيد و العدل و مسائل ما يسمّى ب: لطيف الكلام، و بين آراء المعتزلة و خاصّة معتزلة البصرة.

و هذا على فرض تسليمه فهو استحداثٌ لاصطلاح جديد يجعل كلّ مَن يؤمن بالتوحيد و العدل بأيّ نحوٍ من الأنحاء معتزليّاً.

و لكن ينبغي لمن أراد إطلاقه على مثل الشريف المرتضى أن يبيّن مراده منه، و في المقابل يحقّ للآخرين أن يقبلوا بهذا الاصطلاح أو أنْ ينكروه.

ص: 13


1- . مقالات الإسلاميّين (في ضمن كتاب: طبقات المعتزلة)، ص 75.

و هذا بالطبع على فرض التسليم بتأثّر الشريف المرتضى بالمعتزلة في مجالَي التوحيد و العدل، لكنّه أمر غير مسلّم بصورةٍ مطلقة، و لا بدّ من تفصيل القول فيه:

أمّا أصل القول بالتوحيد و العدل، فإنّ هذين الأصلين من الأُصول العريقة في مدرسة أئمّة أهل البيت عليهم السلام التي ينتمي إليها الشريف المرتضى، فهذه المدرسة هي الوِرْدُ الذي يصدر منه المرتضى، و النبعُ الذي يَغرف منه، فهو قد اقتبس هذَيْن الأصلَيْن من المدرسة التي ينتمي إليها، و لا يوجد أيّ مبرّرٍ معقولٍ لافتراض أخذه لهما من المعتزلة.

ثمّ إنّ هذَيْن الأصلَيْن لم يكونا يوماً حكراً على المعتزلة، و ما كانا قطّ من بنات أفكارهم؛ كي يصبح كلّ مَن آمن بهما تبعاً لهم. و قد قال الشريفُ المرتضى رحمه اللّٰه كلمتَه المشهورة:

اعلم أنّ أُصول التوحيد و العدل مأخوذةٌ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، و خُطبه، و أنّها تتضمّن من ذلك ما لا مزيد عليه، و لا غاية وراءه. و مَن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه عَلم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه و جمعه إنّما هو تفصيلٌ لتلك الجُمَل، و شرحٌ لتلك الأُصول، و روي عن الأئمّة من أبنائه عليهم السلام من ذلك ما لا يكاد يُحاط به كثرة.

و من أحبّ الوقوف عليه و طلبه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، و نتاج للعقول العقيمة(1).

و أمّا تفاصيل مسائل التوحيد و العدل، فالكثير منها ممّا تواترت به الأخبار عن

ص: 14


1- . أمالي المرتضى، ج 1، ص 103.

أئمّة أهل البيت عليهم السلام، أو قام عليه إجماع الإماميّة، أو كان له وجودٌ بين الإماميّة، مثل نفي الرؤية، أو نفي التكليف بما لا يطاق، و غيرها، فإنّ مجرد وجود تشابه بين هذه المسائل عند الشريف المرتضى و المعتزلة لا يعني أنّه صار تابعاً لهم، بل إنّ تَبَنِّيهِ لهذه المسائل ناشئٌ من وجود أصلٍ لها في تراث الإماميّة، فيكون بذلك تابعاً للمدرسة الإماميّة، لا للمعتزلة؛ فقد تقدّم أنّه مع وجود خبرٍ متواتر أو إجماعٍ حول مسألة فهذا يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام الذي لا يخالفه الشريف المرتضى في أيّ حالٍ من الأحوال، و لا تسمح له مدرسته الفكريّة بذلك، فيكون بذلك تابعاً لقول المعصوم عليه السلام بدلاً من المعتزلة.

و أمّا وجه التشابه بين آراء الإماميّة المُجمَع عليها بينهم و بين المعتزلة، فينبغي إرجاعها إلى اتّحاد المصادر الفكريّة لكلا المدرستَيْن، و هذا المصدر هو مدرسةُ أئمّة أهل البيت عليهم السلام، و خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام الذي يفاخر الإماميّة و المعتزلة بالانتماء إليه.

قال الشيخ المفيد:

ما رأيتُ أعجب منكم يا معاشر المعتزلة، تتكلّمون فيما قد شارككم الناس فيه من العدل و التوحيد أحسن كلام، حتّى إذا صرتم إلى الكلام في الإمامة و الإرجاء صرتم فيهما عامّةً حشويّةً تخبطون خبطَ عشواء، لا تدرون ما تأتون و ما تذرون، و لكن لا أعجب العجب من ذلك، و أنتم إنّما جوّدتم فيما عاونكم عليه غيركم، و استفدتموه من سواكم، و قصرتم فيما تفرّدتم به، لا سيّما في نصرة الباطل الذي لا يقدر على نصرته في الحقيقة قادر(1).

ص: 15


1- . الفصول المختارة، ص 79.

بقي عددٌ من المسائل التي آمن بها الشريف المرتضى و المعتزلة، و لم نجد لها مصدراً محدّداً في تراث الإماميّة، ففي هذه الحالة لا مناصَ من القول بمتابعة الشريف المرتضى لهم، و لكن هذه المسائل محدودة و قليلة، فممّا وقفنا عليه من المسائل الكلاميّة في مجال التوحيد و العدل و التي قد حصل فيها تأثّر من المعتزلة هي مسألة حقيقة الإرادة، و حقيقة السمع و البصر، و لكن هذا العدد الضئيل من المسائل لا يسمح لنا بأنْ نصفَ الشريفَ المرتضى بأنّه معتزليٌّ أو بهشميٌّ ، حتّى على فرض إمكان جعل معنى جديد للاعتزال، بحيث يشمل مسألتَيْن أو مسائل محدودة يحصل فيها تأثّرٌ بالمعتزلة.

و أمّا مسألة الأحوال فهي غير واضحة في فكر الشريف المرتضى، فهو لا يرفضها و لا يقبل بها بصراحة، و عباراته تحتمل الطرفين، أي تحتمل القول بالأحوال، و القول بعينيّة الذات و الصفات، فلا يمكن الجزم بأنّه قد تبنّى القولَ بالأحوال، و أنّه قد تأثّر بذلك بالمعتزلة، و لنذكر بعض عباراته في هذا المجال، فقد قال:

فصلٌ : في كيفيّة استحقاقه تعالى ما تقدّم ذكره من الصفات، و أنّه يستحقها لذاته لا لمعانٍ ... و إذا بطلت أقسام المعاني كلّها لم يبقَ إلّاأن يكون مستحقّاً لها لذاته، أو لما هو عليه في ذاته.(1)

فإنّ قوله: «مستحقّاً لها لذاته» يناسب القول بالعينيّة، و قوله: «أو لما هو عليه في ذاته» يناسب القول بالأحوال.

و هكذا قال حول صفة القدرة: «... وجب أنْ يكون قادراً لنفسه، أو لما عليه في

ص: 16


1- . الملخّص في أُصول الدين، ج 1، ص 254؛ و انظر: ج 1، ص 330.

نفسه»(1). و قال: «و قد بيّنا أنّ كونه قادراً إذا كان للنفس، أو لما يرجع إلى النفس»(2).

إلى غير ذلك من أقواله التي تحتمل الوجهَيْن.

هذا كلّه بالنسبة إلى دعوى تأثّر الشريف المرتضى بالمعتزلة في مجال المسائل الكلاميّة، و أمّا متابعته لهم في بعض الأدلّة التي أقاموها، فهو لا يعني أنّه متأثّرٌ بهم في أصل الفكرة، فقد تكون له أدلّة معيّنة، مثل التواتر أو الإجماع هي التي دَعَتْهُ إلى تبنّي الفكرة، سوى أنّه استعان بأدلّة المعتزلة لتأييدها، و هذا لا يعني أنّه متأثّرٌ في أصل الفكرة بهم.

نعم، إذا تمّ التأكد من أنّ السبب الوحيد الذي دعاه لتبنّي الفكرة هو الأدلّة التي أخذها من المعتزلة، فهذا يعني أنّه متأثّرٌ بهم في تبنّيها أيضاً.

و أمّا تأثّره بأدبيّاتهم، و لغتهم، و أُسلوبهم في طرح الأفكار و مناقشتها و الاستدلال عليها، فلا ضير في ذلك، و هو لا يعني تأثّره بهم، بل هو أمرٌ متعارفٌ في كلّ عصرٍ أن يتمّ الاستعانة بأدبيّات ذلك العصر و لغته، و قد كانت لغة العلم العقلانيّة السائدة في عصر الشريف المرتضى و التي تتلائم مع فكره و مدرسته هي لغة المعتزلة، و هذا لا يعني أنّه صار معتزليّاً لمجرّد متابعته لهم في ذلك.

إذن، ينبغي التريّث قبل اتّهام الشريف المرتضى بالاعتزال، أو إطلاق اسم معتزليّ أو بهشميّ عليه.

هذا الكتاب

عندما بدأ الشريف المرتضى بإملاء كتاب الملخّص كانت نيّته أن يقوم باستعراض جميع المسائل الكلاميّة بصورة تفصيليّة. و لو كان قد تمّ له ما أمّل

ص: 17


1- . الملخّص، ج 1، ص 227.
2- . الملخّص، ج 1، ص 194.

لكان يتحوّل الكتاب إلى أوسع كتابٍ كلاميّ - موافق لمذهب الإماميّة - إلى عصر الشريف المرتضى، فنحن لم نعهد كتاباً كلاميّاً بهذا الحجم و العمق و التفصيل قد كُتب قبل ذلك بين الإماميّة، فهي إذن محاولةٌ رائدةٌ و جريئةٌ و فريدةٌ من نوعها.

و لكن ممّا يؤسف له أنّ الشريف المرتضى لم يوفّقْ لإكمال إملاء الكتاب؛ فقد نصّ البُصروي و الشيخ الطوسي على أنّه ناقصٌ و لم يتمّ (1)، كما جاء في نهاية الكتاب في نهاية فصل «في تمييز وجوه الأفعال الراجعة إلى فاعلها» ما يلي: «هذا آخر ما خرج من هذا الكتاب»، حيث ينقطع البحث فجأة، و هو صريح في عدم تمام الكتاب.

و لا نعرف السبب الذي منع من إتمام الكتاب بالدقّة، و قد أشار الشريف المرتضى في خاتمة كتاب الذخيرة إلى سبب ذلك و لكن بصورة مغلقة، حيث قال: «فلمّا وقف تمام إملاء الملخّص - لعوائق الزمان التي لا تُملك - تغيّرت النيّة...»(2).

و لعل من تلك العوائق كثرة الاشتغالات التي كانت تفرضها عليه مكانته الاجتماعيّة، كنقيب للطالبيّين، و متولٍّ لشؤون الحجّ و المظالم(3)، أو النزاعات الطائفيّة التي كانت تنشب بين الفينة و الأُخرى في بغداد.

و يبدو أنّه لم يوفّق أبداً لإتمام الكتاب، فقد أشار في الذريعة الّذي ألّفه في أُخريات حياته، أي في سنة 430 ه، إلى الملخّص و قال: «و استقصاء هذه الجملة لا يليق بهذا الموضع، و قد بسطناه في كتاب الذخيرة، و فيما خرج

ص: 18


1- . مجلّة العقيدة، العدد 3، ص 381؛ الفهرست، ص 164.
2- . الذخيرة في علم الكلام، ص 607.
3- . المنتظم، ج 15، ص 111.

من كتاب الملخّص»(1). فقوله: «و فيما خرج» صريحٌ بأنّ الكتابَ لم يتمّ إلى ذلك الحين.

نعم، لقد قام الشريفُ المرتضى بإكمال كتابه من خلال إملاء كتابٍ آخر، و هو كتاب الذخيرة، فعندما كان مشغولاً بإملاء كتاب الملخّص - و هي دورةٌ كلاميّةٌ مفصّلة كما تقدّم - بدأ بإملاء دورةٍ كلاميّةٍ مختصرةٍ ، و التي ظهرت فيما بعد بصورة كتاب الذخيرة، و لكن عندما انقطع إملاء الملخّص، قرّر أن يقوم بتفصيل أبحاث الذخيرة - من الموضع الذي انقطع فيه إملاء الملخّص - بنفس المستوى من التفصيل الذي قام به في الملخّص، و ذلك لكي يسدّ الفراغ الذي تركه انقطاعُ إملاء الملخّص.

و بهذا صار ما خرج من كتاب الملخّص و القسمُ المفصّل من الذخيرة يشكّلان بمجموعهما دورة كلاميّة تفصيليّة كاملة، لا يخلو منها بحثٌ من الأبحاث الكلاميّة المهمّة، حتّى يمكن اعتبارهما كتاباً كلاميّاً واحداً.

و قد أشار الشريف المرتضى في خاتمة الذخيرة إلى كلّ هذه الأُمور، حيث قال:

و بين أوائل هذا الكتاب [يعني الذخيرة] و أواخره تفاوتٌ ظاهر؛ فإنّ أوّله على غاية الاختصار، و البسطُ و الشرحُ معتَمَدان في أواخره.

و العذر في ذلك أنَّا بدأنا بإملائه، و النيّة فيه الاختصار الشديد؛ تعويلاً على أنّ الاستيفاء و الاستقصاء يكونان في كتاب الملخّص، فلمّا وقف تمام إملاء الملخّص - لعوائق الزمان التي لا تُملك - تغيّرت النيّة في كتابنا هذا، و زدنا في بسطه و شرحه.

و إذا جُمع بين ما خرج من كتاب الملخّص، و جُعل ما انتهى إليه كأنّه

ص: 19


1- . الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 566.

أوّل لهذا الكتاب، وُجد بذلك الكلام في جميع أبواب الأُصول مستوفىً و مستقصىً (1).

كما جاء في بداية الجزء الرابع من النسخة الوحيدة للملخّص - بعد انتهاء استنساخ ما خرج من الملخّص - ما يلي:

نبدأ بعون اللّٰه و قوّته في هذا الجزء بذكر أوّل الكلام المبسوط من الكتاب الموسوم ب: الذخيرة، المخالِف لما بُني عليه صدرُه من الإيجاز و الاختصار، ليكون تماماً للكتاب الملخّص، من حيث انتهى الإملاء منه، حسبما رآه مصنّفهما و رَسَمَه.

و كلّ هذا صريح في أنّ الذخيرة تكملةٌ للملخّص، و أنّ زمان تأليفهما كان متلاصقاً، فالجزء المختصر من الذخيرة كان متزامناً مع إملاء الملخّص، و أمّا الجزء المفصّل منه فقد بدأ بعد انقطاع إملاء الملخّص.

و على أيّ حال، فالقدر الذي خرج من الكتاب الملخّص يشكّل حوالي نصف المشروع الذي بدأه الشريف المرتضى، و هو يعكس إلى حدٍّ كبير آراء الشريف المرتضى بصورة تفصيليّة في مجال التوحيد، و الصفات الإلهيّة، و شيء مهمّ من مباحث العدل، كما يعكس النضج الذي بلغه العقل الإمامي في ذلك العصر.

و الظاهر أنّ الشريف المرتضى كان يملي مطالب هذا الكتاب من خلال دروس يلقيها على تلامذته، كما هو ظاهر كلمة «إملاء» التي جاءت في عبارته الآنفة. و لعلّه كان يكتب البحث قبل إلقائه ثمّ يقرؤه على تلاميذه، أو يلخّص مطالبه لهم، كما يحتمل أنّه كان يكتب البحث بعد إلقائه شفهيّاً على الطلّاب، و مناقشتِه من قِبَلهم.

ص: 20


1- . الذخيرة في علم الكلام، ص 607.

فهرسة أبحاث الكتاب

ثمّ إنّ الكتابَ مقسّمٌ إلى ثلاثة أبواب رئيسيّة، و كلٌّ منها يحتوي على فصول، و هي:

الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع.

و ينقسم إلى فصلَيْن:

الأوّل: في الدلالة على حدوث الأجسام.

الثاني: في الدلالة على إثبات المُحدِث.

الباب الثاني: الكلام في الصفات.

و ينقسم إلى قسمَيْن رئيسيَّيْن، و كلّ قسمٍ يحتوي على فصول:

القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة الذاتيّة.

و يحتوي على فصول تعرّضت إلى صفات القدرة، و العلم، و الحياة، و الإدراك (السمع و البصر)، و الوجود، و القِدَم، و أحكام هذه الصفات.

القسم الثاني: الصفات السلبيّة.

و يحتوي على فصول تعرّضت إلى البحث عن نفي الحاجة (الغنى)، و نفي الجسميّة، و نفي الرؤية، و نفي الثاني (التوحيد)، و الردّ على الأديان المخالِفة في الصفات.

الباب الثالث: الكلام في العدل.

و يحتوي على فصول دارت أبحاثها حول بيان ضروب الأفعال و أقسامها، و أنّه تعالى قادرٌ على القبيح، إضافةً إلى بحوث مفصّلة حول الإرادة، و الكلام، و المخلوق.

ص: 21

و قد تعرّض في الفصل الأخير - أي فصل المخلوق - إلى معظم أبحاث الفعل المباشر، و أمّا الفعل المتولد فلم يبحثه بسبب انقطاع إملاء الكتاب، و لكنه قام بالبحث عنه في كتاب الذخيرة.

كما بقيتْ أبحاث أُخرى كان الشريف المرتضى قد وعد ببحثها في باب العدل - كما أشار إلى ذلك في تمهيد هذا الباب - إلّاأنّه لم يوفّقْ لذلك لانقطاع الكتاب، مثل أبحاث: الأصلح، و اللطف، و العوض، و التكليف، و هي أبحاث قام بتفصيل البحث عنها في الذخيرة أيضاً، ليتمّ بذلك باب العدل.

عنوان الكتاب

اشارة

سمّاه البُصروي: «الملخّص» و وصفه بأنّه ناقصٌ (1). فيما ذكر النجاشيُّ اسمه الكامل، فقال: «الملخّص في أُصول الدين»(2). و سمّاه الطوسي: «الملخّص في الأُصول»، و قال: «لم يتمّه»(3). و هكذا سمّاه ابن شهر آشوب تبعاً للطوسي، و أضاف عليه كلمةً واحدةً ، حيث قال واصفاً الكتاب بأنّه حَسَنٌ (4).

و أمّا الشريف المرتضى فقد سمّاه في كتبه و رسائله بهذه الأسماء كلّها، فسمّاه في أكثر الأحيان: «الملخّص»(5)، و سمّاه أيضاً: «الملخّص في الأُصول»(6)، كما سمّاه:

ص: 22


1- . مجلّة العقيدة، العدد 3، ص 381.
2- . فهرست (رجال) النجاشي، ص 270.
3- . الفهرست، ص 164.
4- . معالم العلماء، ص 104.
5- . الذخيرة في علم الكلام، ص 149، 607؛ رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 363، 371، 390، 376، ج 3، ص 81؛ الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 566، 569؛ كنز الفوائد، ج 1، ص 45.
6- . المسائل الطرابلسيّات الأُولى (مخطوطة)، المسألة الرابعة.

«الملخّص في أُصول الدين»(1). و الظاهر أنّ الاسم الأخير هو الأفضل و الأكمل، و إنّما سمّي بالأسماء الأُخرى بهدف الاختصار.

فالراجح تسميته: الملخّص في أُصول الدين.

الوجه في تسميته ب «الملخّص»:

ثمّ إنّ كلمة «الملخّص» لا تعني هنا الاختصار، و إنّما تعني التهذيب و الترتيب و التبيين، فإنّ هذا أحد معنيَي التلخيص، قال ابن منظور في مادّة «لخص»:

التلخيص: التبيين و الشرح، يقال: لخصت الشيء و لحصته - بالخاء و الحاء - إذا استقصيت في بيانه و شرحه و تحبيره. يقال: لخِّص لي خبرك، أي بيِّنه لي شيئاً بعد شيء.

و في حديث عليّ عليه السلام أنّه قعد لتلخيص ما التبس على غيره. و التلخيص: التقريب و الاختصار، يقال: لخّصت القول، أي اقتصرت فيه، و اختصرت منه ما يُحتاج إليه(2).

و الذي يدلّ على أنّ المراد بالتلخيص في كتاب الملخّص هو التبيين و التهذيب، لا الاختصار، ما تقدّم من أنّه قد قام بتفصيل الأبحاث في هذا الكتاب و لم يقم باختصارها، فقد تقدّم كلامه في خاتمة الذخيرة بأنّه اختصر الذخيرة في البداية؛ تعويلاً على أن يكون الاستيفاء و الاستقصاء في الملخّص، كما صرّح بذلك في خاتمة جُمَل العلم و العمل، و قال: «فمن أراد التزيّدَ في علم أُصول الدين، و الغوصَ إلى أعماقه و تغلغل شعابه، فعليه بكتابنا الموسوم ب: الذخيرة،

ص: 23


1- . رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 143.
2- . لسان العرب، ج 7، ص 86-87.

فإن آثر الزيادةَ و الاستقصاء فعليه بكتابنا الملخّص(1). إذن لم يقم الشريفُ المرتضى باختصار الأبحاث الكلاميّة في كتابه الملخّص، و إنّما قام بترتيب تلك الأبحاث و تهذيبها و تبيينها، و هو المقصود بالتلخيص.

نسبة الكتاب إلىٰ مصنّفه

لا شكّ في نسبة الملخّص إلى الشريف المرتضى؛ فقد نسبه إليه تلامذَتُهُ أعني:

البُصروي، و النجاشي، و الطوسي، كما تقدّم، و هُم أدرى بكتب شيخهم و أُستاذهم.

أضفْ إلى ذلك لقد أرجع إليه الشريف المرتضى في كتبه الأُخرى المعلوم نسبتها إليه، مثل الذخيرة(2)، و جُمَل العلم و العمل(3)، و الذريعة(4).

كما أنّه أرجع في الملخّص إلى بعض رسائله المعلومة نسبتها إليه، مثل رسالة الكلام فيما يتناهى و لا يتناهى التي ردّ فيها على يحيى بن عدي (ت 364 ه)(5)، و هي من رسائله التي لا شكّ فيها، فقد نسبها البُصروي إليه و سمّاها: مسألة في الردّ على يحيى بن عدي النصراني فيما يتناهى و لا يتناهى(6). كما أرجع إلى رسالةٍ أُخرى له ردّ فيها أيضاً على رسالة ليحيى بن عدي في طبيعة الممكن(7)، و التي سمّاها البُصروي: مسألة [في الردّ] على يحيى في طبيعة الممكن(8).

ص: 24


1- . رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 81.
2- . الذخيرة في علم الكلام، ص 149، 607.
3- . رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 81.
4- . الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 566، 569.
5- . الملخّص في أُصول الدين، ج 1، ص 96.
6- . مجلّة العقيدة، العدد 3، ص 381، «فهرس مصنّفات الشريف المرتضى».
7- . الملخّص في أُصول الدين، ج 1، ص 238.
8- . مجلّة العقيدة، العدد 3، ص 381، «فهرس مصنّفات الشريف المرتضى».

و أرجع أيضاً إلى إحدى رسائله حول نفي الرؤية بالأبصار(1)، و هذه الرسالة موجودة في نهاية المجلس الثاني من أماليه التي لا شكّ في نسبتها إليه(2).

و بذلك لا يبقى مجال للشكّ في نسبة الكتاب إلى الشريف المرتضى.

تاريخ تأليف الكتاب

لا يوجد دليلٌ واضحٌ يحدّد لنا تاريخ تأليف الملخّص بصورة دقيقة، و لكن يمكن ترجيح أن يكون قد تمّت كتابته ما بين السنوات 410 و 415 ه، أو قبل ذلك أو بعده بقليل، ويمكن أن نقيم على ذلك بعض الشواهد الاحتماليّة:

1. لقد أرجع الشريف المرتضى في كتاب الذخيرة إلى كتابيه الأمالي(3) (الذي فرغ منه سنة 413 ه)، و المقنع في الغيبة(4) (الذي كتبه للوزير المغربي(5) الذي صار وزيراً في بغداد بين سنتي 414 و 415 ه)، و هذا يعني أنّه تمّ تأليف الذخيرة بعد هذه السنوات تقريباً، فيكون تأليف الملخّص متزامناً تقريباً مع هذه السنوات؛ فقد تقدّم أنّ تأليف الملخّص متقدّم على الذخيرة، و أنّ زمانَي تأليفهما متلاصقان.

2. لقد أرجع الشريفُ المرتضى إلى الملخّص في جواب سؤال حول قِدَم العالم أرسله إليه المحقق الكراجكي، و كان سبب إرسال الكراجكي للسؤال هو دخوله في مناظرة مع أحد الأشخاص عندما كان في الرملة، فوجّه ذاك الشخص إشكالاً، أجاب عنه الكراجكي، و لكنه لم يكن مقتنعاً بالجواب، فأرسل الإشكال

ص: 25


1- . الملخّص في أُصول الدين، ج 1، ص 445.
2- . أمالي المرتضى، ج 1، ص 49.
3- . الذخيرة في علم الكلام، ص 245.
4- . الذخيرة في علم الكلام، ص 423.
5- . معالم العلماء، ص 105.

إلى الشريف المرتضى في بغداد كي يجيب عليه(1).

و عند مراجعتنا لحياة الكراجكي (ت 449 ه) نجد أنّه كان موجوداً في الرملة بين السنوات 410 و 416 ه تخلّلتها زيارة إلى بيت اللّٰه الحرام(2). فإذا كانت مناظرة الكراجكي مع ذلك الشخص التي وقعت في الرملة، قد وقعت في هذه السنوات، و أنّ الشريف المرتضى قد أرجع في جوابه لسؤال الكراجكي إلى الملخّص، فهذا يعني أنّ تأليف الملخّص قد تمّ في هذه السنوات تقريباً.

إذن الراجح أنّ تأليف الملخّص قد تمّ تقريباً في بدايات العقد الثاني من القرن الخامس، أو في منتصف هذا العقد.

و يمكن أن نضيف إلى ذلك أنّ تأليف الملخّص قد تمّ بعد الشافي؛ فقد تقدّم أنّ تأليف كتاب الملخّص متقدّم زمنيّاً على تأليف كتاب الذخيرة، و لكن قبل انتهاء الملخّص كان الشريف المرتضى قد بدأ بكتابة الذخيرة، و هذا يعني أنّ الملخّص متقدّم زمنيّاً على الذخيرة، و لكن في فترةٍ حصل تداخل في زمن تأليف الكتابَيْن، أي أنّ تاريخَي تأليف الكتابَيْن كانا متلاصقَيْن، و لا يوجد بينهما فاصل زمني، هذا من جهة.

و من جهة أُخرى، لقد أرجع الشريف المرتضى في الذخيرة إلى كتابه الصرفة(3)، و هذا يعني أنّ تأليفَ الصرفة متقدّمٌ زمنيّاً أيضاً على الذخيرة، فيمكن أن يكون تأليف الصرفة متزامناً مع تأليف الملخّص المتقدّم أيضاً على الذخيرة، كما يمكن أن يكون الصرفة متقدّماً على الملخّص أيضاً.

ص: 26


1- . كنز الفوائد، ج 1، ص 45.
2- . الكراجكي، ص 92.
3- . الذخيرة في علم الكلام، ص 378 و ما بعدها.

و لكن لا يمكن أن يكون الصرفة متأخّراً عن الملخّص؛ لأنه تقدّم أنّ الملخّص و الذخيرة كانا متلاصقين من حيث تاريخ التأليف، فإذا صار الصرفة متأخّراً عن الملخّص، فهذا يعني أنّ تأليفه متزامنٌ مع تأليف الذخيرة، و هو لا يتلائم مع الإرجاع إلى الصرفة في الذخيرة.

و من جهةٍ ثالثة، لقد أرجع الشريفُ المرتضى في كتاب الصرفة إلى كتابه الشافي(1) الذي انتهى من تأليفه سنة 398 ه(2)، و هذا يعني أنّ تأليف الصرفة متأخّرٌ عن هذا التاريخ.

فإذا صحّ ما تقدّم من أنّ تأليفَ الصرفة و الملخّص متزامنان، أو أنّ الصرفةَ متقدّمٌ على الملخّص لا متأخّر، فهذا يعني أنّ تأليفَ الملخّص تمّ بعد سنة 398 ه أيضاً، أي بعد تأليف كتاب الشافي.

جهود حول الكتاب

يمكننا من خلال التتبّع في مطاوي الكتب أن نرصدَ بعض الأعمال التي دارت حول كتاب الملخّص من خلال إتمامه أو شرحه. و قد كان أوّل مَن حاولَ إكمال الكتاب هو الشريف المرتضى نفسه، فقد قام بإكماله من خلال تأليف كتابٍ آخر، و هو الذخيرة في علم الكلام كما تقدّم.

و يمكن أن نشير إلى عملَيْن تعرّضا إلى الملخّص بالإتمام و الشرح، و هما:

1. تتمّة الملخّص(3). ذكر الميرزا عبد اللّٰه الأفندي (من أعلام القرن الحادي عشر)

ص: 27


1- . الموضح عن جهة إعجاز القرآن (الصرفة)، ص 248.
2- . راجع: مجلّة كتاب شيعة، العدد المزدوج 9-10، ص 125، بحث «مكتبة الشريف المرتضى».
3- . سمّاه المحقق الطهراني: تتميم الملخّص في أُصول الدين (الذريعة، ج 3، ص 343).

هذا الكتاب عن بعض الفضلاء الذي قال: «الشيخ أبو يعلى حمزة بن محمّد، المعروف بسلّار، و هو ديلميّ من تلاميذ المرتضى، و له تتمّة الملخّص للمرتضى و غيره من التصانيف، و مات بعد وفاة المرتضى»(1).

إلّاأنّ الأفندي شكّك في نسبة هذا الكتاب إلى سلّار، و احتمل أن يكون المؤلّف هو أبو يعلى حمزة بن محمّد الجعفري، و أنّه قد حصل خلطٌ بينه و بين سلّار بسبب تشابه كنيتهما(2). كما استظهر قبل ذلك أنّ أبا يعلى حمزة بن محمّد الجعفري صهر الشيخ المفيد هو نفس أبي طالب حمزة بن محمّد بن أحمد بن عبد اللّٰه الجعفري(3).

و لكن الملاحَظ أنّ صهر الشيخ المفيد هو أبو يعلى محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري(4)، و ليس أبا يعلى حمزة بن محمّد الجعفري، و الظاهر أنّه قد حصل خلطٌ بين الشخصَيْن، كما احتمل الأفندي أيضاً ذلك(5).

و على أيّ حالٍ ، فهناك ثلاثة احتمالات حول مؤلّف تتمّة الملخّص:

الأوّل: أنه الشيخ أبو يعلىٰ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، المعروف ب: «سلّار» (ت 448 ه)، و لكنّ الذي يضعّف هذا الاحتمال أنّ اسم سلّار هو حمزة بن عبد العزيز، لا حمزة بن محمّد. إلّاأنّ المحقّق الطهراني استقرب احتمال أن يكون المؤلّف هو سلّار، و أكّد على أنّ خطأ ذلك الفاضل في اسم أب سلّار، لا يدلّ على

ص: 28


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 214-215، 440.
2- . رياض العلماء، ج 2، ص 215.
3- . رياض العلماء، ج 2، ص 214، و قد تقدّم ذكر أبي طالب الجعفري في ص 213.
4- . لسان الميزان، ج 5، ص 135.
5- . رياض العلماء، ج 2، ص 214.

عدم كون سلّار مؤلّفاً للكتاب؛ فإنّ تتلمذ سلّار على الشريف المرتضى و تتّبعه لتصانيفه و انتصاره له مشهورٌ، فإنّه الرادّ على أبي الحسين البصري في نقضه للشافي تأليف أُستاذه المرتضى(1).

الثاني: أنّه محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري (ت 463 ه) صهر الشيخ المفيد، و الذي قد يؤيّد أن يكون هذا الجعفري مؤلّفاً للتتمّة هو أنّ النجاشي قد نسب إليه كتاباً سمّاه: التكملة(2)، و لعلّه نفس تتمّة الملخّص. و الذي يضعّفه أنّ اسم الجعفري هو محمّد بن الحسن بن حمزة، لا حمزة بن محمّد.

الثالث: أنّه أبو طالب أو أبو يعلى حمزة بن محمّد بن أحمد بن عبد اللّٰه الجعفري (القرن 6 ه)، ولكن ذهب المحقّق الطهراني إلى أنّه من معاصري الشيخ منتجب الدين الرازي المتوفّى (ت 585 ه)(3)، و هذا لا يتناسب مع عبارة ذلك الفاضل التي نقلها الميرزا الأفندي، حيث قال عن المؤلّف: إنّه من تلاميذ الشريف المرتضى، كما يظهر منها معاصرة المؤلّف للمرتضى، حيث قال عنه: «و مات بعد وفاة المرتضى»، بينما الجعفري المذكور هنا متأخّرٌ عنه بقرنٍ من الزمان تقريباً.

إذن، من المحتمل أنّ مؤلّف التتمّة هو الشيخ سلّار، كما يحتمل أنّه شخصٌ آخر يُدْعى «الشيخ أبو يعلى حمزة بن محمّد».

2. شرح الملخّص: لأبي عليّ الحسن بن أحمد بن عليّ بن المعلّم الحلبي (كان حيّاً سنة 453 ه). قال: ابن العديم في ترجمته: «و له كتابٌ في الأُصول شَرَحَ فيه الملخّص»، و احتمل محقّق الكتاب أنْ يكون المقصود بالملخّص هو كتاب

ص: 29


1- . الذريعة، ج 3، ص 343-344.
2- . فهرست (رجال) النجاشي، ص 404.
3- . الذريعة، ج 3، ص 344.

الملخّص في أُصول الدين للشريف المرتضى(1).

و الذي يعرف علماء حلب من الإماميّة، و مدى تأثّرهم بأفكار الشريف المرتضى، و متابعتهم لآرائه، و اهتمامهم بتراثه، يستطيع أنْ يطمئنَّ بأنّ المراد بكتاب الملخّص المذكور في عبارة ابن العديم هو ملخّص الشريف المرتضى، خاصّة و أنّ الشيخ ابن المعلّم الحلبي الشارح لكتاب الملخّص هو من تلامذة الشيخ أبي الصلاح الحلبي(2)، أحد أبرز تلامذة الشريف المرتضى و المتأثّرين بفكره.

و هناك كتاب آخر من المحتمل أن يكون ناظراً إلى كتاب الملخّص، و هو كتاب التعليق في علم الكلام، للشيخ قطب الدين أبي جعفر محمّد بن الحسن المُقري النيسابوري (ق 6 ه)، فقد احتمل محقّق الكتاب أنْ يكون تعليقاً على كتاب الملخّص؛ و ذلك للتطابق بين فصوله و عناوينه، و أُسلوب مطالبه و سياقها(3).

و الذي يطالع هذا الكتاب و يعرف مدى تأثّر مؤلّفه بأفكار الشريف المرتضى، لا يستبعد هذا الاحتمال.

ثمّ إنّ للعلّامة الحلّي (ت 726 ه) كتاباً سمّاه: تحصيل الملخّص(4)، و لكن الظاهر أنّه لا علاقة له بملخّص الشريف المرتضى، بل هو ناظرٌ إلى كتاب الملخّص للفخر الرازي في الحكمة و المنطق(5)، و كأنّ العلّامة الحلّي أراد بعنوان (تحصيل

ص: 30


1- . بغية الطلب، ج 5، ص 2276.
2- . نفس المصدر.
3- . التعليق (مقدمة المحقق)، الصفحة الثامنة و العشرون.
4- . الذريعة، ج 3، ص 397.
5- . أعيان الشيعة، ج 5، ص 406.

الملخّص) محاكاة كتاب (تلخيص المحصّل) الذي كتبه أُستاذه الخواجة الطوسي (ت 673 ه) و لخّص فيه كتاباً آخر من كتب الفخر الرازي.

و الأمر بحاجة إلى دراسة فكر و تراث العلّامة الحلّي لمعرفة الفرق الموجود بين أفكاره و أفكار الشريف المرتضى، فإنّ الدارس لذلك يضعف عنده احتمال أن يقوم العلّامة بالاهتمام بكتابٍ كلامي للمرتضى من هذا النوع.

مَن اقتنى الكتاب و اهتمّ به

على الرغم من كون كتاب الملخّص ناقصاً، إلّاأنّ المقدار الذي خرج منه كان جديراً باهتمام العلماء به من خلال إتمامه أو شرحه كما تقدّم.

و كان الشريف المرتضى مِنْ أوّل مَن اهتمّ بهذا الكتاب من خلال إرجاعه إليه في مختلف كتبه و رسائله، فقد أرجع إليه في الذخيرة(1)، و جُمَل العلم و العمل(2)، و الذريعة(3)، و المسائل الطبريّات(4)، و الطرابلسيّات الأُولى(5)، و الثالثة(6)، و في جواب مسألةٍ حول قِدَم العالم نقلها الكراجكي في كتابه(7).

و أمّا مَن تلا الشريفَ المرتضىٰ في الاهتمام بالملخّص، و الاشارة إليه، فمنهم:

1. الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، فقد أشار إلى الملخّص في كتابه تمهيد الأُصول(8).

ص: 31


1- . الذخيرة في علم الكلام، ص 149، 607.
2- . رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 81.
3- . الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 566، 569.
4- . رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 143.
5- . المسائل الطرابلسيات الأُولى (مخطوطة)، المسألة الرابعة.
6- . رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 363، 365، 371، 376، 390.
7- . كنز الفوائد، ج 1، ص 45.
8- . تمهيد الأُصول، ص 1.

2. و قد تقدّم أنّ الشيخ سلّار (ت 448 ه) أو شخصاً يدعى «الشيخ أبو يعلى حمزة بن محمّد» قام بتأليف تتمّة الملخّص، و قد تقدّمت الاحتمالات الموجودة حول مؤلّف هذه التتمّة.

3. و ممن تأثّر بالملخّص ابن سنان الخفاجي الحلبي (ت 466 ه)، فقد تعرّض في كتابه سرّ الفصاحة إلى بحوث كلاميّة حول حقيقة الكلام، و إذا قمنا بمقارنة ما جاء في هذا الكتاب مع بحث الكلام الإلهي من الملخّص، لوجدنا تطابقاً كبيراً بين الآراء و حتّى ألفاظ الكتابَيْن، حتّى لقد تمّت الاستعانة في فصل الكلام الإلهي من التحقيق الجديد لكتاب الملخّص بهذا الفصل من كتاب سرّ الفصاحة، و هو يدلّ على مدى تأثّر ابن سنان بالملخّص.

و ممّا يزيد احتمال تأثّره هو أن المُراجع لكتابه سرّ الفصاحة يجد تطابقاً كبيراً بين آرائه و آراء الشريف المرتضى، مثل رأيه حول حقيقة الصوت و الكلام و ما يتعلّق بذلك، و القول بالصرفة، و نفي حجّيّة المفاهيم(1).

4. و تقدّم أنّ الشيخ أبا عليّ الحسن بن أحمد بن عليّ بن المعلّم الحلبي (كان حيّاً سنة 453 ه) قام بشرح الملخّص، و هو يدلّ على اهتمامٍ خاصٍّ بالكتاب.

5. و ممّن اهتمّ بالكتاب، و نقل نصوصاً منه المُقري النيسابوري (ق 6 ه)، فقد أشار إلى الملخّص و نقل منه نصَّين(2)، و المُراجع لكتب المُقري يجد مدى تأثّره بالشريف المرتضى، و تطابق آرائهما الكلاميّة.

6. كما تقدّم أنّ الشيخ ابن شهر آشوب (ت 588 ه) وصف الملخّص بأنّه «حَسَن»، و يظهر من ذلك أنّه قد شاهد الكتاب.

ص: 32


1- . سرّ الفصاحة، ص 16، 32، 100، 153، 225.
2- . التعليق، ص 13، 49؛ الحدود، ص 28-29.

7. و ممّن اهتمّ بكتاب الملخّص، و بالتراث الكلامي للشريف المرتضى بصورة عامّة، جماعةٌ من اليهود كانوا يعرفون باسم (القَرَّائين)، كانوا مرتبطين بدار العلم القَرَّائينيّة في القدس (أُورشليم)، حيث قاموا في حوالي القرن الخامس أو السادس باستنساخ نسخة من كتاب الملخّص كتبوها بخطٍّ عبري، و لعلّهم استنسخوها في مدينة القدس. و قد بقيت على الأقلّ ورقتان من هذه النسخة ما زالتا محفوظتين في مكتبة سان بطرسبورغ كما سوف يأتي ذلك عند التعريف بها.

و بعد ذلك اختفى الملخّص لعدّة قرون، فلا نجد له ذكراً - حسب تتبّعنا - في الحلّة، و لا في غيرها من مراكز الإماميّة، ليعود إلى ظهورٍ ضعيفٍ في بداية القرن الحادي عشر، حيث قام أحدهم بكتابة نسخةٍ منه، انتهى من كتابة الجزء الثاني منها في سنة 1027 أو 1037 (النسخة غير واضحة)، و لكن يبدو أنّ أحداً لم يهتم بهذا الكتاب، فعاد الاختفاء مرّةً أُخرى، و خاصّة بعد سقوط أوراق من بداية النسخة.

و قد استقرّت هذه النسخة من الملخّص فيما بعد في مكتبة شيخ الإسلام الزنجاني (ت 1373 ه)، و لا ندري مدى انتفاعه بهذا الكتاب في بحوثه و مؤلّفاته.

و قد شاهد المحقّق الطهراني هذه النسخة في مكتبة الشيخ الزنجاني(1).

و منذ طباعة الكتاب حوالي سنة 1423 ه صار محطّاً لاهتمام الباحثين في مجال علم الكلام و تاريخه، إلّاأنّ وجود مشاكل متعدّدة في هذه الطبعة عوّق إمكان الانتفاع الكامل بالكتاب، و نأمل أن تكون الطبعة الجديدة التي بُذلت فيها جهودٌ كبيرة، فاتحةَ عهدٍ جديد للانتفاع بهذا الكتاب الثمين.

ص: 33


1- . الذريعة، ج 22، ص 210.

نسخة الكتاب

لقد تتبّعنا قبل قليل وجود نسخ من الملخّص في بغداد و حلب و الريّ و ربما في القدس، إلى نهايات القرن السادس، إلّاأنّ شيئاً من هذه النسخ لم يصلنا، ما عدا ورقتين من النسخة العبريّة كما تقدّم. و الذي وصل إلينا نسخة واحدة فقط من القرن الحادي عشر.

و فيما يلي تعريفٌ بنسخة الكتاب الوحيدة، و بالورقتين المُشار اليهما:

1. نسخة مجلس الشورى بطهران. لقد وصلت إلينا نسخةٌ واحدة نسخت في سنة 1027 ه، أو 1037 ه بواسطة شخصٍ مجهول، و في مكان مجهول أيضاً، و قد تقدّم أنّ هذه النسخة وصلت إلى مكتبة شيخ الإسلام الزنجاني، إلى أن انتهى بها المطاف إلى مكتبة مجلس الشورى في طهران، حيث هي الآن مودعة فيها، و تحمل الرقم 10073، و تحتوي على 142 ورقة، إضافة إلى صفحةٍ أخيرة واحدة تحتوي على أربعة أسطر، فيكون مجموع صفحات النسخة 285 صفحة، في كلّ صفحة 23 سطراً.(1)

و تحتفظ بمصوّرة هذه النسخة الثمينة:

أ) مكتبة آية اللّٰه السيّد المرعشي، برقم 951.(2)

ب) مركز إحياء الميراث الإسلامي، برقم 391.(3)

و النسخة قد سقط منها شيء من بدايتها، يشتمل على مقدّمة الكتاب و شيءٍ من برهان حدوث الأجسام. و تعتبر هذه النسخة واحدة من أردأ النسخ، من حيث

ص: 34


1- . فهرس مخطوطات مكتبة مجلس الشورىٰ ، ج 32، ص 101.
2- . فهرس مصوّرات مكتبة آية اللّٰه المرعشي النجفي، ج 22، ص 431.
3- . فهرس مصوّرات مركز إحياء الميراث الإسلامي، ج 1، ص 447.

كثرة السقط و التصحيف الذي وصل إلى العشرات بل إلى المئات من الموارد، حتّى عثر على موارد قد تمّ فيها نقل مقاطع كبيرة من الكتاب من مواضعها الأصلية و إلحاقها بمواضع هي أجنبية عنها - كما حدث في ج 2، ص 131 و 148 و 161 و 162 و 258 و 284، و هو أمرٌ لا يمكن التعرّف عليه إلّامن خلال التدقيق في عبارة الكتاب. و قد أدّى هذا الخلل إلى عدم استفادة الباحثين من الكتاب و الإعراض عنه.

و تبدأ النسخة - بعد سقوط ما سقط منها - بقوله: «قِدمُها يرجع إلى ذاتها، و متى ادّعى ذلك في بعض الفعل فلا وجه له...».

و تنتهي فجأة بقوله: «... و أمّا الإلجاء الراجع إلى المضارّ و المنافع فقد يجوز تغيّره و خروج ما هو إلجاء منه عن صفته. ألا ترى أنّ المُلجأ إلى الهرب من الأسد».

و قد قُسّم الكتاب في هذه النسخة إلى أربعة أجزاء، و هو تقسيم غير علمي كما سوف يأتي، و الأجزاء هي كما يلي:

الجزء الأوّل: يبدأ من بداية الكتاب، و جاء في نهايته:

تمّ الجزء الأوّل من الكتاب الملخّص في أُصول الدين، و يتلوه في الجزء الثاني: «و أمّا الذي يدلّ على الاشتراك في صفة من صفات النفس» وقع الفراغ من تسويد هذا الجزء، و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على محمّدٍ و آله، و سلّم تسليماً كثيراً كثيراً كثيراً.

الجزء الثاني: جاء في نهايته:

يتلوه فصل في الدلالة، على أنّه تعالى لا يختار فعل القبيح في الجزء

ص: 35

الثالث. فُرغ من نسخه في رابع شهر ذي قعدة الحرام سنة 1027 أو 1037 هجريّة (النسخة غير واضحة)، و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و العاقبة للمتّقين، و صلّى اللّٰه على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين، و حسبنا اللّٰه كافياً و معيناً و أميناً و هادياً و نصيراً، حسبنا اللّٰه و نعم الوكيل، نعم المولى و نعم النصير.

الجزء الثالث: جاء في آخره:

هذا آخر ما خرج من هذا الكتاب، يتلوه بعون اللّٰه في أوّل الجزء الرابع فصل في إفساد قولهم في الكسب. و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلواته على نبيّه محمّدٍ و عترته الطاهرين.

الجزء الرابع: جاء في بدايته:

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، هو ثقتي و حسبي. نبدأ بعون اللّٰه و قوّته في هذا الجزء بذكر أوّل الكلام المبسوط من الكتاب الموسوم ب: الذخيرة، المخالف لما بُني عليه صدره من الإيجاز و الاختصار، ليكون تماماً للكتاب الملخّص، من حيث انتهى الإملاء منه، حسبما رآه مصنّفهما و رسمه. و باللّٰه عزّ و جلّ التوفيق.

و قد اتّضح من خاتمة الجزء الثالث أنّ كتاب الملخّص قد انتهى بنهاية هذا الجزء، حيث جاء التصريح بأنّه آخر ما خرج من هذا الكتاب. كما تمّ التصريح في بداية الجزء الرابع بأنّ هذا الجزء يبدأ ببداية القسم المفصّل و المطوّل من كتاب الذخيرة؛ لكي يكون تكملةً للمطالب التي لم يتعرّض إليها المصنّف في الملخّص.

إلّا أنّ هذه النسخة لا تحتوي إلّاعلى شيءٍ يسير من بداية الذخيرة، حيث تنتهي عند ص 125 من المطبوع من الذخيرة، أيّ أنّها تحتوي على حوالي 53

ص: 36

صفحة من الذخيرة فقط، فإنّ نصّ الذخيرة المطبوع سابقاً يبدأ من ص 73، و ما قبل ذلك يشتمل على مقدّمة المحقّق.

ثمّ إنّ تقطيع الكتاب إلى أربعة أجزاء تقطيعٌ غير علمي، فقد وُضع نصفٌ من فصل «في أن لا يستحقّ هذه الأحول لمعانٍ قديمة» في نهاية الجزء الأوّل و نصفه الآخر في بداية الجزء الثاني، أي أنّه قد تمّ إنهاء الجزء الأوّل في أثناء البحث عن ذلك الفصل و قبل إكتمال الفكرة، و هو أمرٌ غير علميّ ، و لا يقوم به مثل الشريف المرتضى، بل لعلّه قام به بعض النسّاخ. و لذلك لم يتمّ في هذه الطبعة تقسيم الكتاب إلى أربعة اجزاء، و إنّما أشير إلى ما هو موجود في النسخة في الهامش.

2. ورقتا سان بطرسبورغ. تمّ العثور في ضمن بعض الأوراق المخطوطة المحفوظة في مكتبة سان بطرسبورغ، و التي كتبت فيها كتبٌ عربيّة بخطٍّ عبري، تمّ العثور على ورقتين من نهايات كتاب الملخّص، كان يُتصوّر أنّهما ورقتان من كتاب المحيط في التكليف، و لكن بعد مقارنتهما مع المطبوع من كتاب الملخّص تبيّن أنّهما منه، و لا ندري لعلّ هناك أوراقاً أُخرى من هذه النسخة قد اختلطت مع أوراق كتب أُخرى. و قد قام غريغور شوارب من جامعة برلين الحرّة بالتعريف بهاتَيْن الورقتَيْن من خلال مقال مختصر.(1).

و هاتان الورقتان محفوظتان في ضمن مجموعة فيركوفيتش الثانية في المكتبة

ص: 37


1- . Gregor Schwarb "Short Communication: A Newly Discovered Fragment Of al - Sharif al - Murtadas K. al - Mulakhkhas Fi usul al - din in Hebrew Script" JournalOf intellectual History of the islamicate World 2 (2014) pp . 75 - 79. و الشكر موصول إلى الأخ الفاضل حميد العطائي النظري لأجل تعريفنا بهذا المقال.

الوطنيّة الروسيّة الواقعة في مدينة سان بطرسبورغ، و تحملان الرقم 3034 Ms Yevr. -Arab. rver.-Arab.I الورقتان 11-12. مقياس كلّ صفحة 14 في 18/2 سم، و في كلٍّ منها 20 سطراً. و تمّ تحديد تاريخ نسخها بالقرن الحادي عشر، أو بدايات القرن الثاني عشر الميلاديَّيْن، أي حوالي القرن الخامس أو السادس الهجريَّيْن.

و قد قام شوارب في مقاله المُشار إليه بمقابلة هاتَيْن الورقتَيْن مع الطبعة السابقة للملخّص، و أثبت الاختلافات التي تبلغ حوالي عشرين مورداً، و التي تبدأ من الصفحة 341 من المجلّد الثاني للملخّص، إلى الصفحة 344.

و المُلاحَظ وجود خطأ في أحد هذه الموارد، و هو قوله: «مقدور القدرتين»، حيث كتبها الناسخ العبري بهذه الصورة: «مقدوراً لقدرتين»، فهو قد ظنّ أن الألف متعلقة بكلمة «مقدور» بينما هي متعلقة بكلمة «القدرتين»، فقام بزحزحة الألف، و ألصقها بكلمة «مقدور».

العمل في الكتاب

لقد بُذلت في تحقيق هذا الكتاب جهود كبيرة، فإنّ المطالع للنسخة الوحيدة للكتاب يجد مدى صعوبة العمل؛ و ذلك من عدّة جهات:

منها: عمق المطالب الكلاميّة المطروحة في هذا الكتاب.

و منها: تعرّض الكتاب إلى آراء كلاميّة كانت متداولة في مدرسة بغداد، و هي آراء متقدّمة لم يعتد عليها الكثير من الباحثين في عصرنا ممّن اعتادوا على الآراء الكلاميّة لمدرسة الحلّة، و خاصّة آراء العلّامة الحلّي؛ و لذلك صارت قراءة و فهم الكثير من بحوث هذا الكتاب بحاجةٍ إلى بذل جهود مضاعفة.

و منها: لغة الشريف المرتضىٰ رحمه اللّٰه الصعبة، و أُسلوبه النثري المعقّد.

ص: 38

و منها: الاعتماد على نسخةٍ فريدةٍ لا ثاني لها، حيث لم يُعثر على نسخة أُخرىٰ ، و هو أمر زاد في صعوبة العمل.

و منها: رداءة النسخة كما تقدّم، فقد احتوت على عددٍ كبير جدّاً من موارد السقط، و التصحيف، و البياض، و رداءة الخطّ، و لعلّ ذلك راجع إلى عدم كون الناسخ من أهل العلم. و على أيّ حال فإنّها النسخة الوحيدة المتبقّية لهذا الكتاب، و لولاها لكان الكتاب قد ضاع في متاهات الماضي.

و أمّا الأعمال الذي تمّ القيام بها في هذا الكتاب، فهي كما يلي:

1. مقابلة الكتاب مع نسخته الفريدة مقابلة متأنّية و دقيقة، و ذلك ثلاث مرّات من قبل ثلاث من المحقّقين المتمكّنين؛ زيادةً في الضبط، و تجنّباً من الخطأ و الغلط، و عبّرنا عن النسخة ب: «الأصل».

2. بسبب عدم وجود نسخةٍ أُخرى للكتاب، و وجود مصاعب كثيرة في فهم نصّ الكتاب كما تقدّم، لذلك تمّت الاستعانة بالنصوص الشبيهة بنصّ كتاب الملخّص، مثل كتاب المغني للقاضي عبد الجبّار (ت 415 ه)، و المسائل السلّارية للشريف المرتضى، و تمهيد الأُصول للشيخ الطوسي (ت 460 ه)، و شرح الأُصول الخمسة لأحمد بن الحسين بن أبي هاشم الحسيني الرازي المعروف ب: مانكديم (ت 399 ه)، و التوحيد المنسوب إلى أبي رشيد النيسابوري (ت 415 ه)، و سرّ الفصاحة لابن سنان الخفاجي (ت 466 ه)، و التعليق في علم الكلام للمُقري النيسابوري (القرن 6 ه). و قد ساعدت هذه الطريقة بصورةٍ كبيرة جدّاً على قراءة و فهم نصّ الملخّص بصورةٍ صحيحة.

3. إضافة موارد الخلاف الموجودة في الورقتَيْن التي نقلها شوارب في مقاله المُشار اليه، و إثباتها في المتن أو الهامش، كلّ موردٍ بحسبه، و قد أُشير إلى تلك

ص: 39

الورقتَيْن باسم (نسخة سان بطرسبورغ)، فقيل مثلاً: «هكذا في نسخة سان بطرسبورغ»، و لم يُجعل لها رمز خاص و ذلك لقلّة الموارد.

4. محاولة ترميم ما سقط من بداية النسخة، و ذلك بهدف أن يكون القارئ على بيّنةٍ من أمره عندما يبدأ بقراءة الكتاب، فقد تقدّم أنّ نسخة الكتاب قد سقط منها شيءٌ من بدايتها، ممّا جعل فهم البحث الذي تبدأ به مبهماً، كما تمّ ترميم أجزاء أُخرى مبثوثة في ثنايا الكتاب.

5. إضافة كلمات إلى النصّ بسبب اقتضاء السياق، و وضعها بين معقوفين من دون الإشارة إلى ذلك في الهامش في كثير من الأحيان؛ فإنّ وضع الكلمة بين معقوفَيْن يكفي للدلالة على أنّها ليست من النصّ ، و إنّما تمّت إضافتها.

6. تقطيع النصّ بصورةٍ علميّة، إضافة إلى ترقيم الكثير من محتويات الكتاب، كالاستدلالات، و الإشكالات، و أجوبة الشبهات، و غير ذلك؛ فإنّ الكتابَ مكتوبٌ بصورةٍ مرتّبةٍ و دقيقةٍ جداً، إلّاأنّ خلوّه من الترقيم قد يجعل البعض يظنّ أنّه خالٍ من الترتيب، و لكن من خلال الترقيم سوف يتّضح مدى الترتيب الدقيق لمطالب الكتاب.

7. إضافة عناوين تفصيليّة إلى الكثير من بحوث الكتاب، و وضعها بين معقوفَيْن، ممّا يساعد كثيراً على فهم مطالب الكتاب.

8. تخريج ما استلزم تخريجه من الآيات و الروايات و الأقوال و الآثار، و ما شابه ذلك، اعتماداً على أهمّ المصادر و أقدمها.

9. إضافة تعليقات مهمّة، تساعد علىٰ فهم النصّ ، و توضّح العبارات المعقدة و المبهمة، نظراً لقِدم النصّ و مصطلحاته المنقرضة.

10. تشكيل الكلمات و إعراب الكتاب؛ وفقاً لقواعد اللغة العربية، و هي أيضاً

ص: 40

بدورها تساعد في فهم النصّ بصورة صحيحة.

11. شرح المفردات المشكلة و الكلمات الغريبة، من مصادر اللغة القديمة، و كذلك شرح المصطلحات الكلاميّة.

12. ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في متن الكتاب ترجمةً مختصرةً ، و كذلك التعريف بالفرق و المذاهب الكلاميّة.

13. تقسيم مطالب الكتاب إلىٰ أبواب و فصول، فمع أنّ النسخة غير مبوّبة إلّا أنّ ترتيب مطالبها دقيق جدّاً، فقسّمناها إلى ثلاثة أبواب:

الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع، و فيه فصلان.

الباب الثاني: الكلام في الصفات، و هو ينقسم إلى قسمين: الصفات الثبوتيّة (7 فصول)؛ و الصفات السلبيّة (5 فصول).

الباب الثالث: الكلام في العدل، و فيه خمسة فصول.

14. وضع أرقام صفحات المخطوطة (الأصل) بين معقوفَيْن في داخل النصّ ، و أرقام الطبعة السابقة للملخص في خارج النصّ على جانب الصفحة.

15. إعداد فهارس فنّية عامّة و متنوّعة في آخر الكتاب، تسهيلاً للوصول إلى مطالب الكتاب.

كلمة شكر

و ختاماً ينبغي أن نتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ من اشترك في تحقيق الكتاب، و نخصّ منهم بالذكر:

1. الشيخ جواد الفاضل البخشايشي، حيث قام بمقابلة النسخة و المساهمة في تقويم النصّ ، و تكميل التخريجات، و ترجمة الأعلام المذكورين في الكتاب، و شرح الكلمات و المفردات الصعبة.

ص: 41

2. د. الشيخ حب اللّٰه النجفي، حيث تولّىٰ تقويم النصّ ، و تشكيل الكلمات، و وضع الحركات عليها، مع ملاحظة النسخة و الرجوع إليها.

3. الشيخ محمّد رضا الأنصاري؛ حيث سلّم لنا عمله علىٰ الكتاب مع إجراء بعض التعديلات عليه.

4. الأخ أمير حسين السعيدي لاستخراجه الفهارس الفنيّة.

5. الشيخ محمّد حسين الدرايتي لتولّيه إدارة مشروع تحقيق مصنّفات الشريف المرتضىٰ رحمه اللّٰه عامّة، و هذا الكتاب خاصّة، و متابعته مراحل العمل و الإشراف عليها.

و أمّا نحن فإضافة إلىٰ كتابة المقدّمة، قمنا بالمراجعة النهائية العلميّة مع ملاحظة نسخة الكتاب، كما قمنا بتقطيع الكتاب و وضع عناوين لأهمّ مطالبه، اضافة إلىٰ بعض التعليقات العلميّة و التوضيحات التي أُضيفت إلى الهامش.

و الحمد للّٰه ربّ العالمين

حيدر البياتي (الحسن)

ص: 42

نماذج من تصاوير النسخة

ص: 43

الصورة

ص: 44

الصورة

ص: 45

الصورة

ص: 46

الصورة

ص: 47

الصورة

ص: 48

الملخّص في أُصول الدين

اشارة

ص: 49

ص: 50

[بسم اللّٰه الرحمن الرحيم](1)

البابُ الأوّل الكلامُ في إثبات الصانعِ

اشارة

ص: 51


1- . جاء في بداية المخطوطة: «كتاب الملخّص في علم الكلام للسيّد الأجلّ السيّد المرتضىٰ علم الهدىٰ ، قدّس اللّٰه روحه».

ص: 52

الفصلُ الأوّل في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ

اشارة

[الفصلُ الأوّل] [في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ](1)

الكلام على الدعوى الأُولىٰ

[الكلام على الدعوى الأُولىٰ ](2)

الكلام على الدعوى الثانية
اشارة

[الكلام على الدعوى الثانية](3)

في الدلالة علىٰ أنّ القديم لا يجوز عليه العدم

[في الدلالة علىٰ أنّ القديم لا يجوز عليه العدم](4)

في الدلالة علىٰ أنّ القديم قديم لنفسه
اشارة

[في الدلالة علىٰ أنّ القديم قديم لنفسه](5)

الدليل الأوّل

(3)...(6). قِدَمها يَرجِعُ إلىٰ ذاتِها، و متَى ادُّعيَ ذلكَ في بعضِ العِللِ

ص: 53


1- . تعرّض المصنّف في هذا الفصل إلى إثبات حدوث الأجسام، باعتباره مقدّمة لإثبات المُحدِث. والبرهانُ على حدوث الأجسام مكوّن من أربع مقدّمات أو دعاوي، و قد ذكرها المصنّف كلّها في هذا الفصل، ولكن بما أنّ المخطوطة الوحيدة المُعتَمدة يوجد فيها سقط من بدايتها، لذا فقد سقطت الدعوى الأُولى بكاملها من مخطوطة الكتاب، كما سقط جزء من بداية الدعوى الثانية و بقي جزء منها، و هو الذي تبدأ به المخطوطة. و أمّا الدعوى الثالثة فقد سقط شيء من آخرها، كما سقط شيء من بداية الدعوى الرابعة؛ لأنّ هناك سقطا بين الدعويين الثالثة و الرابعة. و أمّا هذه الدعاوي أو المقدّمات التي أقيمت لإثبات حدوث الأجسام الأربعة فهي تتطرّق إلى إثبات أربعة أُمور، هي: أوّلاً: إثبات وجود معاني غير الأجسام. ثانياً: إثبات حدوث تلك المعاني. ثالثاً: إثبات أنّ الجسم لا ينفكّ من تلك المعاني. رابعاً: إثبات أنّ ما لا يسبق المُحدَث فهو مُحدَث. راجع: تمهيد الأُصول، ص 8.
2- . تقدّم أنّ الدعوى أو المقدّمة الأُولى قد سقطت بكاملها من بداية المخطوطة، و لذا يجب علينابيانها هنا بصورة مقتضبة. و هذه الدعوى تقوم بإثبات وجود معانٍ زائدة على الأجسام، و هذه المعاني على الرغم من كونها غير الأجسام لكنّها موجودة فيها، و قد يعبّر عن هذه المعاني هنا بالأكوان أو الأعراض أو العلل. و المقصود بالمعاني حالة خاصّة تؤدّي إلى اتّصاف الشيء بصفة. و المقصود بالمعاني في هذا البحث ما يُعرف بالأكوان الأربعة، و هي: الحركة، و السكون، و الاجتماع، و الافتراق. فيقال: إنّ هناك معانيَ أو أكواناً أربعة في الجسم تؤدّي إلى أربعة أُمور أُخرى؛ فالمعنى أو الكَون المسمّى ب: «الحركة» يؤدّي إلى تحريك الجسم، و معنى «السكون» يؤدّي إلى تسكين الجسم، و معنى «الاجتماع» يؤدّي إلى اقتراب جسمَين من بعضهما، و معنى «الافتراق» يؤدّى إلى ابتعاد جسمَين من بعضهما. و أمّا الدليل على إثبات هذه المعاني، و كونها غير الجسم - و هو مفاد الدعوى الأُولى - فهو: أنّنا نجد الجسم ينتقل من جهة إلى أُخرى، فلابدّ من وجود أمر جعله ينتقل إلى تلك الجهة المعيّنة، و هذا الأمر لا يخلو من أن يكون نفس الجسم، أو وجوده، أو حدوثه، أو عدمه، أو عدم معنى، أو وجود معنى، أو الفاعل. و لا يجوز أن يكون ذلك الأمر هو نفس الجسم أو وجوده أو حدوثه؛ و ذلك لأنّ هذه الأُمور كانت حاصلة قبل الانتقال إلى تلك الجهة. و لا يجوز أن يكون عدم الجسم؛ لأنّ العدم يمنع من انتقال الجسم. و لا يجوز أن يكون عدمَ معنى؛ لأنّ عدم المعنى لا اختصاص له بجسم دون آخر، و لا بجهة دون أُخرى. و لا يجوز أن يكون الفاعلَ ؛ لأنّ الفاعل إذا كان قادراً على الصفة كان قادراً على الذات، فإنّ مَن يقدر على جعل الكلام خبراً أو أمراً فهو قادر على نفس الكلام، فلو كان الجسم منتقلاً بالفاعل، لوجب أن يكون الفاعل قادراً على إيجاد الجسم نفسه، و قد علمنا خلاف ذلك. فلم يبق من هذه الشقوق إلّاأن يكون الانتقال لوجود معنى في الجسم، و هو المطلوب. راجع: شرح جُمَل العلم و العمل، ص 39-41؛ تمهيد الأُصول، ص 10-11.
3- . تقدّم أن هذه الدعوى أو المقدّمة تتحدّث عن إثبات حدوث المعاني التي ثبت وجودها في الدعوى الأُولى. و الدليل على إثبات حدوثها هو جواز العدم عليها؛ لأنّ الجسم عندما ينتقل من جهة إلى اُخرى، فإمّا أن يكون المعنى الذي كان فيه - و الذي كان الجسم موجوداً بواسطته في الجهة المُنتقَل منها - باقياً في الجسم، أو انتقل عنه، أو عُدم. و لا يمكن أن يكون باقياً؛ لأنّه يقتضي أن يكون الجسم في جهتين. و لا يمكن أن يكون قد انتقل عن الجسم؛ لأنّ الانتقال لا يجوز إلّاعلى الأجسام، و لأنّه لو انتقل لاحتاج إلى معنى آخر ينتقل بواسطته، و يلزم من ذلك إثبات ما لا نهاية له من المعاني. فلم يبق إلّاأنّه عُدم. (شرح جمل العلم و العمل، ص 41؛ تمهيد الأُصول، ص 12-13) و قد سقط هذا الدليل كلّه من المخطوطة.
4- . تقدّم أنّ الدليل على حدوث المعاني هو جواز العدم عليها، و هو يعني أنّها لو كانت قديمة، لَما جاز عليها العدم. و هذا البحث فتح أمام المتكلّمين باباً لإثبات أنّ القديم لا يجوز عليه العدم، و ذلك من خلال إثبات أمرين: أحدهما: أنّ القديم قديمٌ لنفسه، و الآخر: أنّ الصفة النفسيّة لا يخرج عنها الموصوف. (شرح الأُصول الخمسة، ص 64) و قد تعرّض المصنّف في الكتاب إلى كلا الأمرين.
5- . أقام المصنّف دليلين لإثبات ذلك، و قد سقط جزءٌ من الدليل الأوّل من المخطوطة، و بقي جزءٌ منه، و هو الذي تبدأ به مخطوطة الكتاب.
6- . من هنا تبدأ المخطوطة، و قد ذكرنا في مقدّمة الكتاب أنّ النسخة الوحيدة المعتمدة ناقصة من بدايتها و قد حاولنا ترميم بعض ما سقط منها باختصار.

-----

ص: 54

فلا وَجهَ له(1)، إلّالأنّ وجودَها واجبٌ لها(2)، و يَجِبُ عَنهُ (3) إثباتُ القَديمِ الأوّلِ قَديماً لنفسِه و اطِّراحُ إثباتِ شيءٍ مِن العِللِ ؛ لأنّ الصفتَينِ المُستَحَقّتَينِ علىٰ وَجهٍ واحدٍ لا يَجوزُ أن تَختَلفا في المُقتَضي لهما.

و إذا بَطَلَ أن يَكونَ قَديماً لعِلّةٍ أو فاعلٍ ، فلَم يَبقَ إلّاأنّه قَديمٌ لنفسِه، و أنّه لا وَجهَ يَستَحِقُّ مِنه الصفاتِ إلّاما ذَكَرناه.(4)

الدليل الثاني

و الذي يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ القَديمَ قَديمٌ لنفسِه: أنّا نَعلَمُ أنّه بهذه الصفةِ [أو] ما

ص: 55


1- . في هامش الأصل: «أي لهذا الادّعاء، و هو رجوع العدم إلى ذات ذلك البعض».
2- . في هامش الأصل: «أي وجود ذات تلك العلّة واجبٌ لتلك الذّات».
3- . «يجب عنه»، أي يلزم عنه.
4- . مفاد هذا الدليل الذي سقط جزء من بدايته: أنّ القديم إمّا أن يكون قديماً لنفسه، أو لفاعل، أو لمعنىٰ (علّة)، و لا يمكن أن يكون كذلك لفاعل؛ لوجوب تقدّم الفاعل علىٰ فعله، و هو غير ممكن بالنسبة إلى القديم. و لا يمكن أن يكون لمعنىٰ ؛ لأن المعنىٰ لا يخلو مِن أن يكون مُحدَثاً أو قديماً. فإن كان مُحدَثاً فهو باطل؛ لأنّ المعاني المُحدَثة لا توجِب أحكامها في الأزل، و إن كان قديماً فباطل أيضاً؛ لاستلزامه أن يكون المعنىٰ قديماً لمعنى آخر قديم، و يلزم ما لا نهاية له من المعاني القديمة. فإذا بطل أن يكون القديم قديماً لفاعل أو معنىٰ (علّة)، فقد ثبت أنّه قديم لنفسه، و هو المطلوب. تمهيد الأُصول، ص 13.

[تَستَنِدُ إليه](1) يُخالِفُ غَيرَه من المُحدَثاتِ ؛ أ لا تَرىٰ أنّه قد وجبَ الوجودُ له فيما لَم يَزَل مِن غَيرِ فاعلٍ و لا عِلَّةٍ ، و لا يَجِبُ لشيءٍ مِن المُحدَثاتِ الوجودُ إلّابتوَسُّطِ فاعلٍ؟ فلا بُدَّ مِن كَونِ هذه الصفةِ أو ما تَستَنِدُ(2) إليه مِن أخَصِّ أوصافِه. و المستَفادُ بقولِنا: «إنّ الصفةَ نفسيّةٌ و ذاتيّةٌ » هو هذا المعنىٰ بعَينِه، فوجبَ صحّةُ ما ذَكَرناه مِن كَونِه قَديماً لنفسِه.

في الدلالة علىٰ عدم انفكاك الصفة النفسيّة عن الموصوف
اشارة

فأمّا الذي يَدُلُّ على أنّ الصفةَ النفسيّةَ لا يَخرجُ عنها المَوصوفُ : فهو أنّ

المُقتَضِيَ أو الموجِبَ إذا كان حاصلاً مُستمِرّاً في كُلِّ حالٍ ، فلا بُدَّ أن يكونَ ما اقتَضاه أو أوجَبَه حاصلاً في كُلِّ حالٍ . و إذا كان المَرجِعُ في صفةِ النفسِ إلَى الذاتِ التي لا تَخرجُ مِن كَونِها(3) نَفساً و ذاتاً في كُلِّ حالٍ ، فواجبٌ أن لا تَخرُجَ (4) عن الصفةِ التي تَستَنِدُ إلَى النفسِ في كُلِّ حالٍ .

يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ صفاتِ العِللِ متىٰ كان موجِبُها حاصلاً فلا بُدَّ مِن ثُبوتِها، و إنّما تَنتَفي بانتفاءِ موجِبِها. فكذلكَ القولُ في صفاتِ النفسِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ لمّا كانَ سواداً لنفسِه، لم يَخرُجْ عن كَونِه سواداً في حالِ عدمٍ و لا وجودٍ و إن خَرَجَ عن كَونِه موجوداً؟ إلّاأنّه استَحَقَّ كَونَهُ سواداً لنفسِه، و لَم يَستَحِقَّ كَونَه موجوداً لنفسِه، و القَديمُ يَستَحِقُّ كَونَه موجوداً على الوجهِ الذي استَحَقَّ السوادُ كَونَه سواداً.

ص: 56


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و هكذا بالنسبة للموارد الأخرىٰ التي وضعناها بين معقوفين.
2- . في الأصل: «يَستَنِدُ»، و الأنسب ما أثبتناه. انظر: المغني، ج 4، ص 251.
3- . في الأصل: «كونه».
4- . في الأصل: «أن لا يخرج».

فإن قيلَ : ألَيسَ القَديمُ عندَكم مُدرِكاً لنفسِه و إن أُخرجَ [عن] كونِه مُدْرِكاً(1) و جازَ وجودُه و إن لَم يَكُن مُدرِكاً؟ فكَيفَ قَضَيتُم بأنّ صفاتِ النفسِ لا يَخرُجُ عنها المَوصوفُ؟!

قُلنا: أمّا أبو هاشمٍ (2) فلا يَلزَمُهُ هذا الكلامُ ؛ لأنّه لا يُثبِتُ القَديمَ مُدرِكاً لنفسِه، بَل يَقولُ : إنّه مدرِكٌ لا لنفسِه و لا لمعنىً ، [و] إن كانَ [كونُه] حَيّاً يَقتَضي كونَه مُدرِكاً متىٰ وُجِدَ المُدرَكُ .

و مَن قالَ مِن أصحابِه: «إنّ القَديمَ مُدرِكٌ لنفسِه» يُجيبُ عن هذا السؤالِ بأن يَقولَ :

إنّ صفاتِ النفسِ إنّما تَجِبُ إذا صَحَّت، و مَتىٰ خَرَجَت عن الصحّةِ لم تَجِبْ ، بلِ استَحالت، فيكونُ القَديمُ تَعالىٰ مُدرِكاً و إن كانَ [مدركاً] للنفسِ (3)، فهو(4) متىٰ صَحَّ وجبَ ؛ لأنّ المُدرَكَ إذا كانَ مَوجوداً و صَحَّ كَونُه مُدرِكاً له وجبَتِ الصفةُ له، و مَتىٰ لَم يَكُن مَوجوداً لَم تَجِبِ الصفةُ ؛ لأنّ المَعدومَ يَستَحيلُ أن يَكونَ مُدرَكاً.

ص: 57


1- . أي و إن خرج عن فرض كونه مدرِكاً و فرضناه غير مدرِك، و العطف في قوله: «و جازوجوده» للتفسير و إن كان الأَولى عدم الواو؛ ليكون «جاز» جزاءً ل «إن»، و المآل واحد.
2- . أبو هاشم، عبد السلام بن أبي عليّ محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام الجُبّائيُّ ، من عُمد معتزلة البصرة و رؤوسها و منظّريها. ولد سنة 277 ه بالبصرة، و تلقّى العلم فيها، ثمّ هاجر عام 317 ه إلى بغداد و استوطنها إلىٰ حين وفاته. أخذ علم الكلام عن أبيه وفاق عليه بحيث أصبحت لآرائه السيادة على الفرع البصري من مذهب الاعتزال في القرنين الرابع و الخامس الهجريّين، و من أبرز تلاميذه: أبو عليّ بن خلّاد، و أبو عبداللّٰه البصري، و أبو اسحاق العيّاشيّ ، و أبو القاسم السيرافيّ و غيرهم. تُوفّي في شعبان سنة 321 ه. طبقات المعتزلة، ص 94-96؛ الفهرست، ص 247؛ تاريخ بغداد، ج 11، ص 55؛ وفيات الأعيان، ج 3، ص 183؛ سير أعلام النبلاء، ج 15، ص 63.
3- . في الأصل: «و إن كان النفس»، و الصحيح ما أثبتناه، وبه يستقيم المعنى، أي: و إن كان القديم مدرِكاً لنفسه.
4- . «فهو»، أي كونُ القديم مدركاً لنفسه، أو إدراكُه لنفسه.

و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه، و كانَ «وجودُ القَديمِ صحيحاً في كُلِّ حالٍ علىٰ وَجهٍ

معقولٍ » يَقتَضي استحالةَ [عدمِه](1) في بعضِها، وجبَ أن يَكونَ وجودُه حاصلاً في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ الوجودَ [يَقتَضي](2) الصحّةَ في صفاتِ النفسِ .

دليل آخر علىٰ نفي جواز العدم عن القديم

و الذي يَدُلُّ أيضاً(3) علىٰ أنّ القَديمَ لا يَجوزُ عدمُه: أنّ كُلَّ ذاتٍ وُجِدَت أكثَرَ مِن وقتٍ واحدٍ، لَم يَجُز عدمُها إلّابضِدٍّ أو ما يَجرِي مَجرَى الضِّدِّ.

و هذا حُكمُ جَميعِ الذواتِ الباقياتِ ، كالسوادِ و التأليفِ و ما أشبَهَهما.

و إنّما يَجوزُ عدمُ بعضِ الذواتِ بغَيرِ ضِدٍّ، متى اختصَّت في الوجودِ بوقتٍ واحدٍ، كالصوتِ و الإرادةِ و ما أشبَهَهما. (4) و إذا كانَ حُكمُ القَديمِ حُكمَ الذواتِ الباقياتِ ، وجَبَ أن(4) يَستَمِرَّ به الوجودُ، و لا يَنتَفيَ في حالٍ مِن الأحوال؛ لأنّه لا ضِدَّ له.

نفي الضدّ عن القديم
الدليل الأوّل

فإن قيلَ : و لِمَ أحَلتُم أن يَكونَ للقَديمِ ضِدٌّ؟

قُلنا: مِن حَيثُ عُلِمَ أنّ كُلَّ ضِدٍّ فمِن حُكمِه الرّاجِعِ إلىٰ ذاتِه أن يَمنَعَ بوجودِه مِن وجودِ ضِدِّه، و هذا أخَصُّ أوصافِ التَّضادِّ. فلَو كانَ له(5) ضِدٌّ لَوجبَ أن يَكونَ ضِدُّه

ص: 58


1- . في الأصل: «استحالته» بدل «استحالة عدمه».
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، وفي الأصل مكانَه بياضٌ .
3- . لقد سقط الدليل الأوّل من بداية المخطوطة.
4- . في الأصل: «أنّه».
5- . أي القديم.

مُحدَثاً؛ لأنّه لَو كانَ قَديماً لَوجبَ مِنه اجتماعُ الضِّدَّينِ في الوجودِ، و لا يَجوزُ أن يَكونَ مُحدَثاً و هو ضِدٌّ للقَديمِ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ وجودُ القَديمِ الذي هو ضِدُّه فيما لَم يَزَل غَيرَ مانعٍ مِن وجودِه؛ لأنّ وجودَه و هو مُحدَثٌ [فيما لم يزل] مُستَحيلٌ لأمرٍ يَرجِعُ إليه لا إلىٰ ضِدِّه(1)، و قد ثَبَتَ أنّ مِن حُكمِ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَمنَعَ وجودُ كُلِّ واحدٍ مِنهما مِن وجودِ الآخَرِ.

فإن قيلَ : فهَلّا انتَفىٰ (2) بما يَجرِي مَجرَى الضِّدِّ،(3) و قد أقرَرْتُم بأنّه وُجِدَ في الثاني ؟

قُلنا: ما يَنتَفي بوجودِ ما يَجري مَجرَى الضِّدِّ، هو كالعِلمِ الّذي يَنتَفي بوجودِ المَوتِ ، و إن لَم يَكُن ضِدّاً للعِلمِ ، بل هو ضدٌّ للحياةِ التي يحتاجُ إليها(4) العِلمُ . و كانتفاءِ التأليفِ عِندَ انتفاءِ المجاوَرةِ ؛ لِحاجَةِ التأليفِ إليها. و القَديمُ لا يَحتاجُ في وجودِه إلىٰ غَيرِه، فَبَطَلَ فيه هذا الوَجهُ أيضاً. فلَم يَبقَ وجهٌ يَقتَضي بُطلانَه؛(5)فوجبَ أن يَكونَ وجودُه مُستَمِرّاً، و أن لا يُعدَمَ في حالٍ مِن الأحوالِ .

فإن قيلَ : كَيفَ يَصِحُّ أن يَستَدِلّوا بذلكَ علىٰ مَن خالَفَ في قِدَم الأعراضِ ، و مَن يُخالِفُ في ذلكَ يُثبِتُ العَرَضَ قَديماً، و إنِ احتاجَ إلىٰ غَيرِه ؟

قُلنا: مَن خالَفَ في قِدَمِ الكَونِ (6) لا يُمكِنُه أن يُثبِتَه مُحتاجاً إلّاإلىٰ مَحَلِّه فَقَط؛

ص: 59


1- . في تمهيد الاُصول، ص 14: «لأنّ ضدّه إنّما استحال وجودُه في الأزل من حيث [كونه] مُحدَثاً، لا من حيث كان ضدُّه موجوداً، وذلك يَنْقُضُ حقيقة التضادّ».
2- . أي القديم.
3- . إذا احتاج الموجود في وجوده إلى شيءٍ ، و كان لذلك الشيء ضدّ، فإنّه يقال: «إنّه جارٍ مجرى الضدّ له». راجع: شرح الأُصول الخمسة، ص 66.
4- . في الأصل: «لأنّها»، و لا وجه لها.
5- . أي القديم.
6- . الكَون: معنىٰ إذا وُجد يوجب كونَ الجوهر كائناً في جهة. الحدود، ص 34.

لأنّه لا يَحتاجُ إلىٰ أكثَرَ مِن ذلكَ ، [و] إذا كانَ مَحَلُّه مَوجوداً غَيرَ مُنتَفٍ ، فيَجِبُ استمرارُ وجودِه إلّابضِدٍّ يَطرَأُ عَلَيه؛ لأنّ انتفاءَه بما يَجري مَجرَى الضِّدِّ إنّما يَكونُ بأن يَنتَفيَ مَحَلُّه فيَنتَفيَ لأجلِه، و إذا كانَ مَحَلُّه قَديماً فوجودُه مُستَمِرٌّ لا يَخرُجُ عنه إلّا بضِدٍّ.

الدليل الثاني

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ القَديمَ لا ضِدَّ له: أنّ مِن حَقِّ كُلِّ ضِدَّينِ أن يَكونَ لِكُلِّ واحدٍ مِنهما صفةٌ تَرجِعُ (1) إلىٰ ذاتِه بالعَكسِ مِن صفةِ ضِدِّه، و هذا أخَصُّ صفاتِ التَّضادِّ.

فلَو كانَ للقَديمِ ضِدٌّ لَوجبَ ذلكَ فيه، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ ذلكَ الضِّدُّ مَعدُوماً لِما هو(2) عَلَيه في ذاته، حتّىٰ يَكونَ بعَكسِ صفةِ القَديمِ تَعالىٰ ، و هذا محالٌ (3) [؛ لأنّ كون الضدّ المعدوم معدوماً(4)] لا لَهُ ،(5) فَضلاً عن أن يُقالَ : إنّه معدومٌ لِما هو عَلَيه في ذاتِه.(6)

ص: 60


1- . في الأصل: «يرجع».
2- . في الأصل: «هو لما».
3- . في الأصل: «حال».
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و قد أضفناه لمقتضى السياق.
5- . قوله: «لا له»، كذا في الأصل، أي ليس له، أي ليس لنفسه، أي ليس كونه معدوماً مقتضى ذاته؛ فإنّ ممكن الوجود متساوي النسبة إلى الوجود و العدم من حيث الذات، ومن علّته يصير موجوداً أو معدوماً. هذا غاية ما خطر بالبال في توجيه العبارة، واللّٰه تعالى هو العالم.
6- . جاء في شرح الأُصول الخمسة، ص 65-66 تقرير هذا الدليل كما يلي: لو كان له ضدٌّ لكان لابدّ من أن تكون صفتُه بالعكس من صفةِ القديم، فيجبُ إذا كان القديمُ موجوداً لذاته أن يكون ضدّه معدوماً لذاته، و ذلك مستحيل؛ لأنّ المعدومَ ليس له بكونه معدوماً حال، فضلاً عن أن يكونَ للذاتِ أو للغير.

و لأنّه يَجِبُ [حينئذٍ نفيُ ](1) الضِّدِّ المعدومِ ضِدَّه و إن لَم يَخرُجْ عن صفةِ العدمِ ؛ لأنّ خُروجَه عن صفةِ العدمِ يَقتَضي [انتفاءَ ](2) الصفةِ التي تُضادُّ القَديمَ بكَونِه عَلَيها، و في عِلمِنا بِاستحالةِ نَفيِ المعدومِ لغيرِه دَلالةٌ على [صحّةِ ](3) هذا القولِ (4).

الكلامُ علَى الدعوَى الثالثةِ :
اشارة

و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الأجسامَ و الجَواهرَ لا تَخلُو مِن المَعاني التي بها تَكونُ (5)في الجِهاتِ : أنّها لو خَلَت مِنها لَخَلَت مِن أحكامِها،(6) و في عِلمِنا باستحالةِ خُلوِّها مِن الأحكامِ دليلٌ على استحالةِ خُلوِّها مِن الذواتِ ؛(7) لأنّ ما أَوجَبَ أحَدَ الأَمرَينِ موجِبٌ الآخَرَ؛ لتَعلُّقِ كُلِّ واحدٍ مِنهما بصاحبِه.

عدم خلوّ الجسم من الكون في الجهات

فإن قيلَ : بَيِّنوا أنّ الجسمَ و الجَوهرَ لا يَخلُو في حالِ وجودِه مِن أحكامِ هذه المَعاني؛ لِيَتِمَّ ما قَصَدتُموه.

قُلتُ : لَو جازَ وجودُ الجسمِ أو الجَوهرِ و هو غَيرُ كائِنٍ في جِهةٍ من الجِهاتِ ، لَم يَجُز ذلكَ عَلَيه إلّاو هو [غير] مُتَحَيِّزٍ؛ لأنَّ تَحيُّزَه يوجِبُ أن يَكونَ في جهةٍ ما. و لو خَرَجَ (5) عن تَحيُّزِه و هو موجودٌ، لَخرجَ عن كَونِه جَوهَراً؛ لأنّ كَونَه جَوهراً

ص: 61


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و قد أضفناه لمقتضى السياق.
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و قد أضفناه لمقتضى السياق.
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و قد أضفناه لمقتضى السياق.
4- . أي القول بأنّه لا ضدّ للقديم.
5- . في الأصل: «لا يكون».
6- . و هي الكون في الجهات.
7- . كذا في الأصل، و الأنسب: «المعاني».

يوجِبُ تَحيُّزَه بِشَرطِ الوجودِ، [و] في خُروجِه من صفتِه الذاتيّةِ قَلبُ جنسِه، فوجبَ بما ذَكَرناه أن يَكونَ وجودُ الجَوهرِ خالياً(1) مِن الأكوانِ مؤَدّياً(2) - بالترتيبِ الذي رتَّبناه - إلى قَلبِ جنسِه.

وجوب تحيّز الجوهر بذاته

فإن قيلَ : و لِمَ زَعَمتُم أنّه متىٰ وُجِدَ وجبَ أن يَكونَ متحيِّزاً، و أنّ تَحيُّزَه يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه ؟ ثُمَّ لِمَ زَعَمتُم أنّه إذا كان متحيِّزاً وجبَ أن يَكونَ في جهةٍ؟

قُلنا: أمّا الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ :(3) فهو [أنّه] لا يَخلُو مِن أن يَكونَ تَحيُّزُه إنّما وجبَ لوجودِه، أو لحُدوثِه، أو لحُدوثِه علىٰ وَجهٍ ، أو لعدمه، أو لعدمِ معنىً ، أو لوجودِ معنىً ، أو بالفاعلِ ، أو لنفسِه، أو لِما هو عَلَيه في نفسِه.(4)

[1.] و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ متحيِّزاً لوجودهِ (5)؛ لأنّه يَجِبُ مِنه أن يكونَ كُلُّ ما شارَكَه في الوجودِ متحيِّزاً، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ السوادُ و سائِرُ الأعراضِ بِهذه الصفةِ !

على أنّ مَن قالَ بذلكَ فقد سَلَّمَ لنا(6) غرضَنا في هذا البابِ ؛ لأنّه قد اعتَرَفَ بأنّ الجَوهرَ مع وجودِه لا بُدَّ مِن تَحيُّزِه. و هذا [هو] الذي قَصَدناه في المعنى، و إن

ص: 62


1- . خالياً، منصوب على الحالية، و «مؤدياً» خبر «يكون».
2- . في الأصل: «مؤدّ».
3- . أي وجوب تحيّز الجوهر بذاته، و سوف يأتي جواب السؤال الثاني في ص 50، عند قوله: «والذي يدلّ - من بعدُ - علىٰ أنّ المتحيّز وجب أن يكونَ في جهةٍ من الجهات».
4- . فهذهِ تسعة أقسام، و مآل القسمَين الأخيرَين في بحثنا واحد، قال الشيخ الطوسي: «فإذا بطلت الأقسام كلّها، لم يبقَ بعد ذلك إلّاأنّه إنّما كان متحيّزاً لنفسه أو لما هو عليه في نفسه، و أيّهما ثبت أوجَبَ تحيّزه في الوجود». تمهيد الأُصول، ص 16.
5- . في الأصل: + «لأنّه يجب منه أن يكون متحيّزاً لوجوده»، و هو تكرار سهويّ .
6- . في الأصل: «لها».

كانَ مُخالِفاً؛ لأنّه قَصَدَ إلىٰ ما جَعلناه شَرطاً(1)، فجَعَله مُقتَضياً.

[2.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ متحيِّزاً لِحُدوثِه؛ لمِثلِ ما ذَكَرناه في الوجودِ. و لأنّ في وجودِ ذلكَ أيضاً اعترافاً بالحُدوثِ (2) الذي هو المقصودُ.

و إن أُريدَ بالحُدوثِ حالُ حدوثِه التي(3) تجدَّدَ له الوجودُ فيها، فيَجِبُ مِنه استحالةُ تَحيُّزِه في حالِ البقاء، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلك.

[3.] و لا يَجوزُ أنْ يَكونَ كذلكَ (4) لحُدوثِه علىٰ وَجهٍ يُشارُ إليه مِن وجوهِ الحُدوثِ ؛ [لأنّه لا وجهَ يُشارُ إليه من وجوه الحدوث](5) يَقتَضي كَونَه بهذه الصفةِ . و لأنّه أيضاً كانَ لا يَمتَنِعُ حُدوثُه علىٰ وَجهٍ آخَرَ، فلا يَكونُ متحيِّزاً.

و [إذا كان](6) لا بُدَّ مِن اختصاصِه في الوجودِ بصفةٍ يَتميَّزُ بها، فيَجِبُ أن يَكونَ علىٰ هذا - متى وُجِد و لَيسَ هو بمتحيّز - بصفةِ جنسٍ آخَرَ. و لا يَمتَنِعُ علىٰ هذا أن يَحدُثَ علَى الوجهِ الذي يَقتَضي كَونَه مِثلاً؛ لأنّه لا تَنافيَ بَينَ صفةِ السوادِ و بَينَ صفةِ التحيُّزِ.(7) و نحنُ نبيِّنُ فيما يأتي أنّه لا يَجوزُ أن يكونَ بصفةِ جنسَينِ .

ص: 63


1- . و هو «الوجود»، فقد تقدّم أنّه شرطٌ في وجوب تحيّز الجوهر، و ذلك عند قول المصنّف: «لأنّ كونَه جوهراً يوجب تحيّزه بشرط الوجود».
2- . أي حدوث الأجسام، فإنّه هو المقصود الرئيسي من هذا الفصل المعقود لإثبات حدوثها.
3- . في الأصل: «الذي».
4- . أي «متحيّزاً»، و هكذا في الموارد الآتية.
5- . ما بين المعقوفين اقتبسناه من المسألة الأولىٰ من المسائل السلّارية للشريف المرتضىٰ .
6- . ما بين المعقوفين اقتبسناه من المسألة الأولىٰ من المسائل السلّارية للشريف المرتضىٰ .
7- . قال الشريف المرتضىٰ في المسألة الأُولىٰ من المسائل السلّارية عند بيانه للاستدلال الأخير: «و إذا كان لابدّ من أن يتميّز في الوجودِ بصفةٍ ، فيجب أن يكون متىٰ وُجِد علىٰ وجهٍ و لم يكن متحيّزاً أن يكون بصفة جنسٍ آخر؛ لعدم التنافي بين الصفتين، فجائزٌ أن يكون على الصفتين معاً؛ لحدوثه على الوجهَين معاً».

[4.] و لا يَجوزُ أن [يكونَ كذلك لعدمِه؛] (1) لأنّ العدمَ مُحِيلٌ للتحيُّزِ، فَكَيفَ يَجوزُ [أن] يكون موجِباً له ؟

[5.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ كذلكَ لعدمِ معنىً ، و قد [اُريد بكونه متحيّزاً أن](2) يَكونَ في الجهةِ لوجودِ معنىً فيه؛ فإنّ (3) المعنىٰ متى عُدِمَ مِنه لَم يوجِبْ كَونَه علَى الصفةِ (4)؛ لعدمِ أن يَكونَ (5) كُلُّ معنىً معدومٍ يوجِبُ (6) له شيئاً مِن الصفاتِ .

علىٰ أنّه لَو سُلِّمَ (7) أنّه متحيِّزٌ لعدمِ [معنىً ، فقَد سُلِّمَ ](8) لنا ما نريدُه [من استحالة](9)وجودِه مِن غَيرِ أن يَكونَ متحيِّزاً؛ لأنّه لا بَدَلَ (10) لعدمِ ذلكَ المعنىٰ ، فيَجِبُ أن يَكونَ الجَوهرُ مَعَ وجودِه أبَداً متحيِّزاً، فهذا الذي نُريدُه.

[6.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ متحيِّزاً لوجودِ معنىً ؛ لأنّ ذلكَ المعنىٰ لا يوجِبُ كَونَه بهذه الصفةِ ،(11) إلّابأن يَختَصَّه غايةَ الاختصاصِ ، فلا يَخلو ذلكَ الاختصاصُ بَينَهما مِن أن يَكونَ ؛ بالحُلولِ ، أو بالمُجاوَرةِ . و كِلا الأمرَينِ يوجِبُ تَقدُّمَ التحيُّزِ؛ لأنّ ما حَلَّ (12) غَيرَه لا يكونُ إلّامتحيِّزاً، و كذلكَ ما جاوَرَه، فكيفَ يَجوزُ أن يَكونَ

ص: 64


1- . و 2. في الأصل - مكانَ ما بين المعقوفين - بياض، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
2-
3- . في الأصل: «و إنّ ».
4- . وهي التحيّز.
5- . أي لاستحالة أن يكون.
6- . في الأصل: «لا يوجب».
7- . في الأصل: «لم سلم».
8- . في الأصل - مكانَ ما بين المعقوفين - بياض، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
9- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «لن استحاله و».
10- . في الأصل: «لأنّه لا أدلّ ».
11- . أي لا يوجبُ المعنىٰ كونَ الجوهر بصفة التحيّز. و قوله بعد ذلك: «إلّا بأن يختصّه» يعني: أن يختصَّ المعنىٰ بالجوهر.
12- . في الأصل: «لأنّ ما لا حدّ».

التحيُّزُ موجَباً عن أمرٍ يَجِبُ تَقدُّمُ التحيُّزِ له!

و أيضاً: فإنّه لَو كانَ متحيِّزاً لمعنىً ، لَكانَ القولُ في ذلك المعنىٰ كالقولِ فيه؛(1)لأنّه لا بُدَّ مِن استحقاقِ ذلك المعنىٰ صفةً تَقتَضي إيجابَه لتحَيُّزِ الجَوهرِ، فلا يَخلو مِن أن يَكونَ استحقَّها لِمعنىً آخَرَ، فيؤَدّي ذلكَ إلىٰ إثباتِ مَعانٍ لا نهايةَ لها، و إن كان استحقَّها لنفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ التحيُّزُ(2) أيضاً مُستَحَقّاً(3) علىٰ هذا الوجهِ ؛ لأنّ طريقةَ (4) الاستحقاقِ واحدةٌ ، و هذا الوجهُ يُبطِلُ أن يَكونَ الجَوهرُ متحيِّزاً لمعنىً ؛ سَواءٌ كان ذلكَ المعنىٰ حالاًّ فيه، أو في غَيرِه، أو موجوداً(5) لا في مَحلٍّ .

و أيضاً: فلو كان متحيِّزاً لمعنىً لَوجبَ أن يَكونَ السوادُ سواداً لمعنىً ؛(6) لأنّ كيفيّةَ استحقاقِ الصفتَينِ (6) واحدةٌ ، و هذا يؤَدّي إلىٰ جَوازِ كونِ الذاتِ الواحدةِ جَوهراً(7) سواداً؛ بأن يُعقَلَ المعنَيانِ اللّذانِ بهما تَكونُ (8) علىٰ هاتَينِ الصفتَينِ ؛ لأنّه لا تَنافيَ بَينَهما، و لا ما يَجري مَجرَى التنافي. و سنبيِّنُ بَعدَ هٰذا الموضعِ بُطلانَ ذلك، فإن كانا واحدةً (9) لا يَجوزُ أن تكونَ (10) بهاتَينِ الصفتَينِ .

ص: 65


1- . أي في الجوهر.
2- . أي تحيّز الجوهر. و قوله بعد ذلك: «علىٰ هذا الوجه» أي: لنفسه.
3- . في الأصل: «يَستحقّها» و ما أثبتناه اقتبسناه من المسألة الأولىٰ من المسائل السلّارية.
4- . و هما «التحيّز» و «السواد».
5- . في الأصل: «أو في غيرها وموجودة».
6- . أي لوجب أن تتّصف الذات بالسواد لمعنىٰ .
7- . في الأصل: «جوهر».
8- . في الأصل: «يكون».
9- . أي: فإن كان الجوهر و السواد ذاتاً واحدة. و الأنسب: «فإن كانت الذات واحدة».
10- . في الأصل: «يكون».

و أيضاً: لَو كانَ متحيِّزاً لِمعنىً لم يَمتَنِعْ (1) أن يَتزايدَ المَعنىٰ ، فيَتزايدَ حُكمُه،(2) و هذا يَقتَضي أن يَتزايدَ حَجمُ الجَوهرِ و جُثّتُه مِن غَيرِ انضمامِ جَواهرَ إليه.

[7.] فأمّا ما يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَكونُ متحيِّزاً بالفاعل:

[ألف:] أنّه لَو كانَ كذلكَ بالفاعلِ ، لَجازَ أن يَجعلَه الفاعلُ متحيِّزاً سواداً؛ لأنّ صفةَ التصرّف تابعةٌ لِما(3) يَكونُ بالفاعلِ .(4)

و لأنّه إن قيلَ : إنّه متىٰ وُجِدَ كانَ متحيِّزاً، و لَم [يتمكّن الفاعلُ من جَعْله بِ]

خِلافِ ذلكَ (5)، كانَ القائلُ به مسلِّماً للمعنىٰ ، مخالِفاً في عبارةٍ .(6)

و في جوازِ كونِه متحيِّزاً سواداً، ما يؤَدّي إلىٰ كَونِه موجوداً معدوماً في حالةٍ واحدةٍ . و إنّما قُلنا ذلك؛ لأنّه إذا كانَ بهاتَينِ الصفتَينِ ، ثُمّ وُجِدَ البياضُ الذي هو مُنافٍ للسوادِ، فيَجِبُ انتفاءُ هذه الذاتِ مِن حَيثُ كانَت سواداً، و بقاؤها مِن حَيثُ كانَت متحيِّزةً ؛ لأنّ البياضَ لا يُنافي التحيُّزَ، و هذا فاسدٌ. فما أدّىٰ إليه - مِن القولِ بأنّ التحيُّزَ مستَنِدٌ إلَى الفاعلِ - فاسدٌ.

ص: 66


1- . في الأصل: «لكان ممتنع»، و ما أثبتناه اقتبسناه من المسألة الأُولىٰ من المسائل السلّارية.
2- . و هو التحيّز.
3- . في الأصل: «كما».
4- . يريد أن يقول: لأنّ ما كان تابعاً للفاعل، فله التصرّف فيه كما يشاء. استفدنا ذلك من عبارة الشريف المرتضى في المسائل السلّارية.
5- . في الأصل: «و لم يكن خلاف ذلك»، و ما بين المعقوفين استفدناه من المسائل السلّارية.
6- . قال الشريف المرتضى في المسألة الأُولىٰ من المسائل السلّارية عند تقريره لهذا الدليل: «و أمّا الذي يدلّ علىٰ أنّه لا يجوزُ أن يكونَ متحيّزاً بالفاعل أنّه لو جازَ ذلك لم يَمتنع أن يَجمع الفاعلُ بين كونِه متحيّزاً و سواداً؛ لأن مايكونُ بالفاعل له التصرفُ فيه بحسب اختياره، و لا تنافيَ بين هاتين الصفتين، فمتىٰ قيل: وجب كونه متحيّزاً و لم يتمكن الفاعلُ من جَعْله بخلافِ هذهِ الصفة، كان قائلُ ذلك مسلّماً للمعنىٰ و مخالِفاً في العبارة».

فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ [وجود الذات](1) يَنتَفي مِن الوَجهَينِ جَميعاً؛(2)لأنّها [ذاتٌ واحدةٌ ](3) إذا وَجبَ انتفاؤها مِن وَجهٍ وَجَب انتفاؤها مِنَ الآخَرِ علىٰ طريقِ التَّبَعِ له، [...](4) عندَ غَيرِه التضادّ؛ لأنّ العِلمَ يَنتَفي عندَ وجودِ المَوتِ و إن لَم يَكُن ضِدّاً له، و الكَونَ يَنتَفي عندَ عدمِ الجَوهرِ و إن لَم يَكُن [ضِدّاً له، و إنّما ينتفيان بالتبع لا للتضادِّ.](5)

قُلنا: انتفاءُ الذواتِ الباقيةِ لا يَجوزُ أن يَكونَ إلّابالتّضادِّ؛ إمّا بواسطةٍ أو بغَيرِ واسطةٍ . و مَن لَم يَحْرُسْ هذا الأصلَ ، [اقتَضىٰ كلامُه](6) ضَرباً إلَى الجَهالاتِ !

فأمّا انتفاءُ العلمِ عندَ ما ضادَّ الحياةَ فلأنّ (7) العِلمَ يَحتاجُ إلَى الحياةِ في وجودِه، فما نَفاها يجبُ [عندَه] انتفاءُ العِلمِ ؛ لأنّه نَفىٰ ما يَحتاجُ العِلمُ في وجودِه إليه.

و كذلكَ القولُ في الكَونِ : إنّه يَحتاجُ في وجودِه إلَى الجَوهرِ، فما نَفَى الجَوهرَ يَجِبُ أن يَنتَفيَ عندَه.

ص: 67


1- . في الأصل - مكانَ ما بين المعقوفين - بياض، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
2- . اي من حيث كانت سواداً، و من حيث كانت متحيّزة، فلا يلزم التناقض.
3- . في الأصل - مكانَ ما بين المعقوفين - بياض، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
4- . بياض في الأصل بمقدار عدّة كلمات.
5- . في الأصل بياض بمقدار عدّة كلمات، و ما بين المعقوفين أثبتنا بعضه لمقتضى السياق، و استفدنا بعضَه الآخر من عبارة الشريف المرتضىٰ في المسائل السلّارية، حيث قال عند تقريره هذا الإشكال: «فإن قيل: الذات إذا كانت واحدة و انتفت لأجل التضادّ بينها و بين ما يطرأ عليها، وجب انتفاؤها من كل وجهٍ كانت عليه، و يكون انتفاء الصفة التي لا تضادّ بينها و بين صفة الطاري علىٰ سبيل التبع، و يجري ذلك مجرىٰ انتفاء العلم عند وجود الموت، و الكَون عند عدم الجوهر في أنّهما ينتفيان تبعاً، لا للتضادّ».
6- . في الأصل - مكانَ ما بين المعقوفين - بياض، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
7- . في الأصل: «ولأنّ ».

و لَيسَ هذه سبيلَ الذاتِ الواحدةِ إذا(1) كانت متحيِّزةً سواداً؛ لأنّ كَونَها بإحدَى هاتَينِ الصفتَينِ لا يَحتاجُ إلَى الأُخرىٰ ؛ ألا تَرىٰ أنّ جوازَ كَونِها سواداً مِن غَير أن تَكونَ (2) متحيِّزةً ، كجوازِ كَونِها متحيّزةً مِن غَيرِ أن تَكونَ سواداً؟ و امتناعُ ذلك في العِلمِ و الحَياةِ لاستحالةِ كَونِ العالِمِ عالِماً مِن غَيرِ أن يَكونَ حَيّاً.

فإن قيلَ : كونُه متحيِّزاً(3) إن لَم يَحتَجْ إلىٰ كونِه سواداً كحاجةِ العِلمِ إلَى الحَياةِ ، فإنّ كَونَه متحيِّزاً و سواداً معاً يَحتاجُ إلىٰ وجودِه؛ فإذا طرأَ ضِدُّ السوادِ، و انتَفىٰ مِن

حيثُ كانَ سواداً، و خرجَ عن الوجودِ، خرجَ أيضاً عن التحيُّزِ؛ لانتفاءِ الوجودِ الذي تَحتاجُ إليه كُلُّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ .

قُلنا: الذاتُ إذا كانَت بهاتَينِ الصفتَينِ ، فهي مِن حيثُ كانَت متحيِّزةً يَصِحُّ بقاؤها، و يَجِبُ لها استمرارُ الوجودِ إلىٰ أن يَطرأَ ما يُنافي هذه الصفةَ . و كذلك هي مِن حيثُ كانت سواداً. فإذا طرأَ(4) ما يُنافي(5) السوادَ و يَختَصُّ بمُضادّتِه(6)، فقَد جُعِل في هذه الذاتِ وَجهانِ : وَجهٌ يَقتَضي انتفاءَها، و الآخَرُ يَقتَضي استمرارَ وجودِها، فيَجِبُ أن تكونَ (7) موجودةً (7) معدومةً علىٰ ما ألزَمنا؛ لأنّها لَيسَ هي بأن تَنتفيَ (8)

ص: 68


1- . في الأصل: «و إذا».
2- . في الأصل: «يكون».
3- . في الأصل: «متحيّزة».
4- . في الأصل: «ظنّ »، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «إلى أن يطرأ».
5- . في الأصل: «إمّا ينافي».
6- . في الأصل: «مضادّته».
7- . في الأصل: «يكون».
8- . في الأصل: «ينتفي».

لأجلِ الوجهِ المُوجِبِ للانتفاءِ (1) بأَولىٰ مِن أن تَثبُتَ (2) و يَستمِرَّ لها الوجودُ لأجلِ الوجهِ الذي يَقتَضي استمرارَ وجودِها.

فإن قيلَ : ألا قلتُم: «إنّها بالانتفاءِ أَولىٰ ؛ لأنّ الوَجهَ المُقتَضيَ للانتفاءِ طارٍ، و ما يَقتَضي الاستمرارَ باقٍ ، و الطاري أَولىٰ بالتأثير مِن الباقي» كما تَقولونَ في انتفاءِ الضِّدِّ بضِدِّه: «إنّ الطاريَ بالتأثيرِ أَولىٰ مِن الباقي»؟(3)

قُلنا: إنّما نَقولُ بأنّ «الطاريَ أَولىٰ بالتأثيرِ مِن الباقي» في المَوضِعِ الذي تُقابِلُ (4) فيه صفةُ كُلِّ واحدٍ مِن الضِّدَّينِ لصفةِ الآخَرِ و يَترَجَّحُ حُكمُ الطاري، فيَكونُ بالوجودِ أحقَّ لِطُرُوِّه، و هذا بخِلافِ ما تَكلَّمنا عَلَيه؛ لأنّ الذاتَ إذا كانَت متحيِّزةً سواداً، ففيها وَجهانِ ، كُلُّ واحدٍ مِنهما يَقتَضي استمرارَ وجودِها، و الضِّدُّ الطاري إنّما يُقابلُ أحَدَ هاتَينِ الصفَتينِ دونَ الاُخرىٰ ، [و] إنّما كانَ يَجِبُ أن يَترجَّحَ وجودُه لَو لَم يَكُن في هذه الذاتِ ما(5) يَقتَضي استمرارَ وجودِها إلّا هذا الوجهَ الواحدَ الذي يُقابِلُه(6) بصفتهِ ، و يَترجَّحُ عَلَيه بطُروِّه، ففارَقَ

ص: 69


1- . في الأصل: «الانتفاء».
2- . في الأصل: «يثبت».
3- . ذهب أبو عليّ الجبّائي إلىٰ ذلك (انظر: الشامل في أُصول الدين، ص 265؛ أبكار الأفكار، ج 3، ص 215). و قد صيغت هذهِ القاعدة في الكتب الكلاميّة بصيغة أُخرىٰ شبيهة بهذهِ و هي: «الحادث أقوىٰ من الباقي»، و استدلّ المتكلّمون على القاعدة بأنّ الحادثَ يستحيل عدمُهُ و هو حادث؛ لأنه لو عُدم لكان عدمه مُقارناً لوجوده، و هو محال، بخلاف الباقي، فإنّه لا يستحيل عدمُهُ ، و أنّه بتقدير العدم لا يكون عدمُهُ مُقارناً لوجوده. (الكامل في الاستقصاء، ص 380) كما ذكروا أدلّة أُخرىٰ ، راجعها هي و مناقشاتها في المصدر التالي: المحصّل، ص 316.
4- . في الأصل: «يقابل».
5- . في الأصل: «ممّا».
6- . في الأصل: «قابلته».

ذلك ما نَقولُه(1) في الطاري.

فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم علىٰ مَن مَنَعَ مِن كَونِ الذاتِ الواحدةِ جَوهراً سواداً مِن أجلِ أنّه يُؤَدّي إلى ما ذَكَرتُموه مِن وجودِها و انتفائِها في حالةٍ واحدةٍ ؛ لأنّ ما يؤَدّي إلَى المُحالِ يَجِبُ الامتناعُ مِنه ؟

قُلنا: لَيسَ يَجوزُ أن نَمنَعَ مِن القولِ لأجلِ ما يؤَدّي إليه مِن الفاسدِ، [و نَلجأَ] إلَى التَّمسُّكِ بالأصلِ المؤَدّي إلىٰ ذلكَ القولِ ، بل الواجبُ إذا امتَنَعنا مِن الفاسدِ أن

نَمتَنِعَ ممّا يُؤَدّي إليه و يَقتضيهِ .

و لَو لا أنّ الأمرَ علىٰ ما ذَكَرناه لَساغَ لكُلِّ مُبطِلٍ أن يَتمسَّكَ بباطلِه، و يَمتَنِعَ ممّا يؤَدِّيه إليه مِن الفَسادِ، و يَعتَلَّ بمِثلِ ما ذَكَره السائلُ ؛ حتّىٰ يَقولَ قائلٌ : إنّ قُدَرنا تَتعلَّقُ بالأجسامِ ، و إنّما لا يَقَعُ مِنّا فِعلُ الأجسامِ ؛ لِما يؤَدّي إليه مِن اجتماعِ جَوهرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ إن فَعَلناها علىٰ سَبيلِ المُباشَرةِ ، أو امتلاءِ الظروفِ (2)الفارغةِ متَى اعتَمَدنا فيها اعتماداً متّصلاً إن فَعَلناها علىٰ سَبيلِ التوليد. و يَتمسَّكُ هذا بالقولِ المؤَدّي إليه مِن اعتقادِ أنّ القُدرةَ مُعلَّقةٌ بالجسمِ . فلمّا كان هذا باطلاً، وجبَ - علىٰ ما ذَكَرناه - أن يُطرَحَ القولُ بتَعلُّقِ القدرةِ بالأجسامِ ، و لا يُتمسَّكَ بذلكَ مَعَ الامتناعِ ممّا يؤَدّي إليه.

[و] وجبَ أيضاً علىٰ مَن ذهبَ إلىٰ أنّ التحيُّزَ يَكونُ بالفاعلِ - إذا امتَنَعَ ممّا يؤَدّي إليه هذا القولُ مِن الفَسادِ - أن يَمتَنِعَ مِن أصلِ القولِ المؤَدّي إلَى الفَسادِ، و هو إثباتُهُ للتحيُّزِ مُستَنِداً إلَى الفاعلِ .

ص: 70


1- . في الأصل: «يقوله».
2- . في الأصل: «بالظروف» و ما أثبتناه استفدناه من المسائل السلّارية.

فإن قيلَ : أ لَستُم تَمنَعونَ مِن وجودِ الحياةِ في مَوضِعِ الاتّصالِ بَينَ زَيدٍ و عَمرٍو [لِمَا يؤدّي إليهِ من فسادٍ، فكيفَ عِبتُم مِثلَه](1)؟!

[قلنا: إنّا لم نمتنع من وجود الحياة بحيث الاتّصال] لِما(2) يؤَدّي إليه مِن الفَسادِ، بل لوَجهٍ ثابتٍ صحيحٍ ، [و هو أنّ كَونَ ] العُضوِ [الواحدِ] بعضاً لِحَيَّينِ في حُكمِ المتنافي؛ لأنّ مِن شأنِ ما يكونُ بعضاً لزيدٍ ألّايَكونَ بعضاً لغَيرِه، فإن أمكَنَ أن يُشارَ في امتناعِ كَونِ الجَوهرِ سواداً إلىٰ وَجهٍ ثابتٍ يَمنَعُ مِن ذلكَ ، مِن غَيرِ اعتمادٍ علىٰ ما يؤَدّي إليه مِن الفَسادِ، فليُذكَرْ.

[ب:] و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ [أنّ ] التَحيُّزَ لا يَكونُ بالفاعلِ : أنّ كُلَّ صفةٍ تَكونُ عَلَيها الذاتُ بالفاعلِ لا يَختَصُّ بها بعضُ القادرينَ دونَ بعضٍ ، فلَو كان التحيُّزُ بالفاعلِ لَتأَتّىٰ مِنّا أن نَجعَلَ الذاتَ عَلَيه، كما يَصِحُّ مِنّا و يَتأَتّىٰ (3) في كُلِّ ما يَكونُ بالفاعلِ . و في تَعذُّرِ ذلك دليلٌ علىٰ فَسادِ القول(4) بأنّ التحيُّزَ بالفاعلِ .

علىٰ أنّه لَو كانَ متحيِّزاً بالفاعلِ لَكانَ جاعلُه متحيِّزاً موجِداً لذاتِه؛ لأنّا قَد بيّنّا فيما مضىٰ (8) أنّ مَن جَعَلَ الذاتَ علىٰ صفةِ الفاعلِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ هو المُحدِثَ لها.

و إذا آلَ الأمرُ إلىٰ حُدوثِ الجَوهرِ، فهو(5) الذي أَجرَينا بِحَمْلِه هذا الكلامِ إليه.(6)

ص: 71


1- . ما بين هاتين المعقوفتين، و المعقوفات الآتية في هذا الاشكال و الجواب استفدناه من المسائل السلّارية.
2- . في الأصل: «فلِمَا».
3- . في الأصل: «يأتي».
4- . في الأصل: «فساده قول».
5- . في الأصل: «فهي».
6- . فإنّ هذا الفصل كلّه معقود لإثبات حدوث الأجسام و الجواهر.

[9، 8.] و لم يَبقَ بَعدَ ما أفسَدناه مِن الأقسامِ ، إلّاأن يَكونَ متحيِّزاً لنفسِه بلا

واسطةٍ ؛(1) لأنّ كَونَه متحيِّزاً لِما هو عَلَيه في نفسِه هو الصحيحُ المطلوبُ .

و علىٰ هذينِ الوَجهَينِ كانَ تَمَّ ما قَصَدناه مِن أنّ الجَوهرَ متىٰ وُجِدَ وجبَ كَونُه متحيِّزاً، و أنّه مع الوجودِ لا يَجوزُ فيه خلافُ ذلك.

و إنّما(2) يُمكِنُ أن يُتبيَّنَ أنّ التحيُّزَ لا يَرجِعُ إلَى النفسِ بغَيرِ واسطةٍ متىٰ ثَبَتَ حُدوثُ الجَوهرِ، و أنّ له حالَتَينِ : حالةَ عدمٍ و حالةَ وجودٍ، و أنّه كانَ في حالِ العدمِ غَيرَ متحيِّزٍ، ثُمّ اختَصَّ مع الوجودِ بالتحيُّزِ، فيُعلَمُ (3) بذلك أنّ التحيُّزَ لا يَستَنِدُ إلَى النفسِ مِن غَيرِ واسطةٍ .

و ما تَبيَّنَ مِنَ الكلامِ على حُدوثِ الجَوهرِ لا يَجوزُ أن نَستعمِلَه(4) مع مَن يُخالِف في قِدَمِه، لا سيَّما و لمْ [تَثْبُتْ ](5) لنا دَلالةُ الحُدوثِ .

و إذاً ثَبَتَ أنّ التحيُّزَ راجعٌ إلَى الذاتِ ، و أنّه واجبٌ مع الوجودِ.

وجوب كون المتحيّز في جهةٍ
اشارة

و الذي يَدُلّ - مِن بعدُ - علىٰ أنّ المتحيِّزَ وجبَ أن يَكونَ في جهةٍ مِن الجِهاتِ (6):

ص: 72


1- . لعلّ هناك سقطاً في هذا الموضع، فإنّ العبارة بالشكل الموجود غير مستقيمة. و لا بأس هنا بنقل عبارة قريبة من المسائل السلّارية: «و لم يَبقَ بعدما أبطلناه من الأقسام إلّاأن يكونَ التحيّز راجعاً إلىٰ نفس الجوهر بلا واسطة، أو يكون راجعاً إلىٰ ما هو عليه في نفسه، و أيّ الأمرين كان فقد ثبت ما أردناه».
2- . يريد المصنّف هنا إبطال القسم الثامن من الأقسام التسعة المتقدّمة، و هو أنّ الجوهر متحيّزلنفسه بلا واسطة.
3- . في الأصل: «فبعلمه». 4. في الأصل: «يستعمله».
4-
5- . في الأصل - مكان ما بين المعقوفين - بياض، و قد أضفناه لمقتضى السياق.
6- . هذا جواب السؤال الثاني الذي تقدّم في ص 62، و مفادُه مايلي: «ثمّ لِمَ زعمتم أنّه إذا كان متحيّزاً وجب أن يكون في جهة».

هو أنّه معلومٌ ضَرورةً أنّ ما هذه صفتُه مِن الذواتِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ في جهةٍ ما، و لا إشكالَ فيما يَجري هذا المَجرىٰ مِن العلومِ المُستَقِرّةِ في العقولِ . و قد بَيَّن الشيوخُ هذا و قَرَّبوه، بأن قالوا:

معلومٌ ضَرورةً في كُلِّ جَوهرٍ يُشارُ إليه، أنّه لو وُجِدَ جَوهرٌ آخَرُ معه لَكانَ بَعيداً مِنه أو قريباً، و لا يُمكِنُ واسطةٌ بَينَ الأمرَين. و هذا يدلُّ على أنّ الاختصاصَ بالجهةِ مع التحيُّزِ واجبٌ لا نَجِدُ له محيلاً.(1)

فإن قيل: كيفَ تَدَّعونَ عِلمَ الضرورةِ في ذلكَ ، و أصحابُ الهَيولىٰ (2) يَدَّعونَ أنّ الجَواهرَ لمّا كانَت هَيولىٰ غَيرَ مصوَّرةٍ ، كانَت خاليةً مِن الأعراضِ ، و غَيرَ مختصّةٍ بجهةٍ مِن الجِهاتِ؟

قُلنا: لا شُبهةَ أن يكونَ هؤلاءِ القومُ إنّما اعتَقَدوا ما ذَكَرتُموه في الجَواهرِ؛ لأنّهم جَعَلوها في حُكمِ المعدومِ (3) و إن أطلَقوا عَلَيها اسمَ «الموجودِ»؛ فإنّ العبارةَ

ص: 73


1- . في الأصل: «محيل».
2- . صفة لجماعة مِن قُدامَى المتكلِّمينَ و أوائلِ الفلاسفةِ ، الّذين كانوا يَذهَبون إلى أنّ الجسم لفظمشترك بين معنيين: أحدهما: الكمّ المتّصل القارُّ الذات. و الثاني: الجسم الطبيعي، و هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، أي الطول و العرض و العُمق، و هو محلّ للأوّل، و هذا الجسم مركّبٌ من الهيولىٰ ، و هي الجوهر القابل؛ و من الصورة، و هي الجوهر المتّصل بذاته، وقد وجّه الشيخ الرئيس ذلك في إلهيات الشفاء (ص 67) بوجهين: الأوّل: أنّ الجسم قد ثبت أنّه متّصل و يعرض له الانفصال، و المتّصل لا يقبل الانفصال و إلّالكان الشيء قابلاً لعدمه، فلابدّ من شيء قابل للاتّصال و الانفصال و هو الهيولىٰ . الثاني: أنّ الجسم من حيث هو متّصل هو بالفعل، و من حيث هو مستعدٌّ أيّ استعداد كان فهو بالقوّة، فالذي له الفعل غير الذي له القوّة، أعني الهيولى. راجع تفصيل كلماتهم و آرائهم في مناهج اليقين في أُصول الدين للعلّامة الحلّي، ص 29-31.
3- . لعلّه لقولهم: إنّ الهيولىٰ أو المادّة الأُولىٰ محضُ القوّة، و أنّ فعليّتها أنْ لا فعليّة لها.

لا اعتبارَ لها في هذا البابِ . و الموجودُ عند القومِ يَنقَسِمُ أقساماً كثيرةً (1)، و رُبَّما أَثبَتوا المعدومَ موجوداً علىٰ بعضِ مَعاني الوجودِ عندَهم(2)، و لَيسَ نُنكِرُ أن يَنفِيَ قُربَ أحَدِ الجَوهَرَينِ مِن الآخَرِ أو بُعدَه مِنه مَن اعتَقَد فيهما أنّهما معدومانِ .

علىٰ أنّ الخِلافَ في المَعاني غَيرُ الخلافِ في الأحوالِ التي تَجِبُ عن المَعاني، و أصحابُ الهَيولىٰ إنّما خالَفوا في المَعاني، و نَفَوا في «الحالِ » الّتي ادَّعَوها للأجسامِ عنها كُلَّ المَعاني و الصوَرِ، و إن كانوا مع اعتقادِهم وجودَها لا بُدَّ مِن أن

يَعتَقِدوا أنّها في جهةٍ مِن الجِهاتِ . و إذ(3) لَم يَكُن كذلكَ و تلكَ الحال [مُحالٌ ]، فقَد بانَ أنّ تعميمَهم للمَعاني في بعضِ الأحوالِ لا يَقتَضي دَفعَ ما ذَكَرناه من اختصاصِ الأجسامِ بالجهاتِ . و إذا كانَ الدليلُ قد دَلَّ علىٰ أنّ هذه الحالَ لا تَحصُلُ للأجسامِ في وقتٍ مِن الأوقاتِ إلّافي المَعاني، ثَبَتَ أنّ الأجسامَ كما لم تَخلُ مِن هذه الأحوالِ لَم تَخلُ مِن المَعاني، و زالَ الخِلافُ علىٰ كُلِّ حالٍ .

و قد قيلَ في الجوابِ عن هذا السؤالِ : إنّ أصحابَ الهَيولى إنّما جازَ أن يَعتَقِدوا في الأجسامِ في تلكَ الحال أنّها لَم تَكُن مجتَمِعةً و لا متفرِّقةً ، مِن حَيثُ اعتَقَدوا أنّها كالشيءِ الواحدِ، و أنّه لا تأليفَ فيها؛ فيَتبَعُ اعتقادُهم لنفيِ كونِها مجتَمِعَةً أو متفرِّقةً اعتقادَهُم الفاسِدَ أنّها كالشيءِ الواحدِ. و إذا عُلِمَ بالدليلِ أنّ ما هو بصفةِ

ص: 74


1- . و منها انقسامه إلىٰ ما بالقوّة و ما بالفعل.
2- . مثل قولهم: «موجود بالقوّة» و «موجود في العلم» فإنّ هذه الأُمور ليست موجودة في الحقيقة عند المتكلّمين (الاقتصاد، ص 23). و قال الشريف المرتضىٰ في جواب المسألة الرابعة من الطرابلسيات الأُولىٰ عند مناقشتِهِ لأصحاب الهيولىٰ : «و ما نريدُ بالوجود ما تعنونه أنتم بهذهِ اللفظة؛ لأنّ الموجودَ عندكم يكونُ بالفعل و يكونُ بالقوّة، و يكون المعدوم عندكم موجوداً بالقوّة أو في العلم. و إنّما نريد بالوجود هذا الذي نعقِله و نعلَمه ضرورةً عند إدراك الذوات المدرَكات... إلخ».
3- . في الأصل: «و إن».

الجسمِ لا يَجوزُ أن يَكونَ شيئاً واحداً، بَطَلَ ما ذَهَبوا إليه؛ و هذا قَريبٌ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَخلُو مِن الأكوانِ : أنّا وَجَدنا ما يَمنَعُ مِن كَونِ الجَوهرِ (9) أو الجسمِ بحَيثُ كَونُه مِن الخَوارجِ (1) يَمنعُ مِن وجودِه فيه؛ ألا تَرىٰ أنّ الفاعلَ للجَوهرِ لا يُوصَفُ بالقُدَرةِ علىٰ أن يَفعَلَ بفعلِه كَونَه هناكَ؟ و إذا زالَ الجَوهر عن تلك الجِهةِ ، جازَ إيجادهُ فيها مِن حَيثُ صَحَّ إيجادُ كَونِه في تلك الجهةِ ، فوَضَحَ بذلكَ أنّ الجَوهرَ و الكَونَ كالشيءِ الواحدِ، و وجبَ أن لا تخلُوَ الجَواهرُ مِن الأكوانِ في حالٍ من الأحوالِ .

فإن قيلَ : كيفَ تَدَّعون أنّهما كالشيءِ الواحدِ، و عِنْدَكُم أنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَقصِدَ الفاعلُ للجَوهرِ إلىٰ فِعلِه في جهةٍ يَعلَمُ أنّ غَيرَه يَعتَمِدُ في تلكَ الحالِ فيها(2)، و لا يَجِبُ أن يَقصِدَ مع فِعلِ الجَوهرِ إلى فِعلِ الكَونِ؟

قُلنا: هذا إذا جِئنا إليه لا يُخِلُّ بما ذَكَرناه مِن أنّ «الجَوهرَ و الكَونَ كالشيءِ الواحدِ»، و إنِ اختُلِفَ بَينَ الأمرَينِ ، فنَقولُ : قد بيّنّا أنّ الجَوهرَ يَختَصُّ في حالِ وجودِه بصفةٍ (3) مِن الصفاتِ ، و هي كَونُه في جهةٍ ما مِن الجِهاتِ ، و إذا لَم يَكُن في

الجهةِ أن لا يَكونَ قد وجبَ أنّه لا يَخلو - إذا وُجِدَ - مِن الألوان، و لَيسَ للجسمِ و لا للجَوهرِ [حالة غيرها]، فتنتفي(4) الصفاتُ فيها؛ لأنّه(5) لا يَخلُو مِن اللّونِ ، فوجبَ افتراقُ الأمرَينِ .

ص: 75


1- . في هامش الأصل: + «التي. ظ»، و هو غير لازم، بل غلط.
2- . في هامش الأصل: «أي وعندكم أنّه لا يجبُ أن يقصدها، و إن كان الجوهر و الكون كالشيءالواحد، لوجبَ أن يكون يقصد مع فعل الجوهر إلى فعل الكون».
3- . في الأصل: «وروده لصفة»، و الأولى ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «فينتفي».
5- . في الأصل: «إنّه»، و الأولى ما أثبتناه.

فإن قيلَ : و لِمَ زَعمتُم أنّه لا صفةَ له تَقتَضي(1) ما ذَكَرتُموه ؟

قُلنا له: ليس يَخلُو لَو كانَ محتاجاً إلَى اللون، مِن أن يَحتاجَ إليه في وجودِه، [أو صفة زائدة](2) مِن الصفاتِ التي يَجِبُ حُصولُها في حالِ وجودِه، أو في بعضِ الأحكامِ التي تَحصُلُ (3) في الوجودِ و الصّفاتِ ؛ مِثلِ كَونِه متحيِّزاً في جهةٍ مِن الجِهاتِ ، و كَونِه على الصفةِ التي تَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، و هي المُستَفادةُ (4) بقَولِنا «جَوهرُ الأحكام»، [و] مِثلِ كَونِه(5) مُحتَمِلاً للأعراضِ ، و كَونِه مُدرَكاً.

أو يَكونَ الجَوهرُ موجِباً لِلَّوْنِ (6) إيجابَ السببِ للمُسبَّبِ أو العلّةِ للمعلولِ .(7)

إبطال الشقّ الأوّل

[1.] و ليس يَجوزُ أن يَحتاجَ إليه في وجودِه؛ لأنّ اللَّونَ يَحتاجُ إلَى الجَوهرِ في وجودِه، و مُحالٌ أن يَحتاجَ الشيءُ إلىٰ غَيرِه مِن(8) وَجهٍ يَحتاجُ ذلك(9) الغَيرِ إليه مِن

ص: 76


1- . في الأصل: «يقتضي».
2- . ما بين المعقوفين استفدناه من كتاب ديوان الأُصول، ص 150.
3- . في الأصل: «يحصل».
4- . في الأصل: «المستفاد».
5- . في الأصل: «قوله».
6- . تعلق الجوهر و العرض إما أن يكون تعلّق حاجة - و هو مفاد الشقّ الأوّل - أو تعلّق إيجاب، و هو مفاد الشقّ الثاني. انظر: نهاية المرام، ج 2، ص 588.
7- . الفرق بين السبب و العلّة أنّ وجوب المسبَّب يكون عند وجود السبب مع ارتفاع الموانع، بينما إيجاب العلّة للصفة يكون علىٰ نحو الإطلاق، أي أنّه لا يحتاج إلّاإلىٰ وجود العلّة، و لا يحتاج إلىٰ شرط زائد. و من الفروق بين العلّة و السبب أنّ العلّة و إن كانت ذاتاً إلّاأنّها لا توجب إلّاالصفة، أمّا السبب فهو عبارة عن ذات تولّد ذاتاً أُخرىٰ . (الحدود، ص 110، 116) و هناك فروق أخرىٰ ، راجعها: الحدود، ص 117.
8- . في الأصل: «في»، و الأولى ما أثبتناه.
9- . في الأصل: «إلى ذلك».

ذلك الوَجهِ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ حاجةِ الشيءِ إلىٰ نفسِه.

[2.] و لا يَجوزُ أَن يَحتاجَ إليه في كَونِه متحيّزاً؛ لأنّ اللَّونَ يَحتاجُ إلَى الجَوهرِ مِن هذا الوَجهِ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَصِحُّ أن يَحُلَّه إلّابَعدَ أن يَكونَ متحيِّزاً؟

و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَحتاجَ إلىٰ جنسٍ مِن الألوان مخصوصٍ ؛ لأنّه لَيسَ لجُملةِ الألوان صفةٌ مشترَكٌ فيها، يَصِحُّ أن يَحتاجَ الجَوهرُ إلىٰ ما كانَ بتلكَ الصفةِ (1) - كما نَقولُ في حاجةِ التأليفِ إلى الأكوان(2) المُجاوِرةِ ، و أنّ الأكوان(3) المختلفةَ تَقومُ في حاجةِ التَّآلُفِ مَقاماً واحداً؛ مِن حَيثُ كان التأليفُ يَحتاجُ إلىٰ كَونِ الجَوهَرينِ مُتَجاوِرَينِ (2) - و اختلافُ الألوان لا يُخِلُّ بهذه الصفةِ .(3)

و هذا الوَجهُ أيضاً يُبطِلُ حاجتَه إليه في وجودِه، زائداً علىٰ ما تَقدَّمَ .

و أيضاً: فإنّ تَحيُّزَ الجَوهرِ إنّما(4) يوجِبُه صفةُ جنسِه بشَرطِ الوجودِ،(5) فمُحالٌ أن يَكونَ لهذه الصفةِ مؤثِّرٌ(6) آخَرُ سِوى ما ذَكَرناه.

[3.] و لَيسَ يَجوزُ أن يَحتاجَ إليه في كَونِه جَوهراً؛ لأنّ هذه الصفةَ تَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، و يَجِبُ حُصولُه عَلَيها في حالِ العدمِ ،(7) و مُحالٌ أن يَحتاجَ إلَى اللون في الصفةِ الثابتةِ

ص: 77


1- . أي لو كان تحيّز الجوهر باللّون، للزم أن يحتاج في تحيّزه إلىٰ لون معيّن و مخصوص؛ لأنّه ليس للألوان صفة مشتركة تقتضي تحيّز الجوهر. (2و3) . في الاصل: «الألوان»، و ما أثبتناه أنسب للسياق.
2- . في الأصل: «متجاوراً».
3- . أي أنّ تغيّر الألوان لايؤدّي إلى خروج الجوهر عن صفة التحيّز، و هذا يدلّ على عدم حاجته في تحيّزه إلى لون معيّن. انظر: ديوان الأُصول، ص 154.
4- . في الأصل: «الجوهرين» بدل «الجوهر إنّما».
5- . في الأصل: «شرط الوجوب».
6- . في الأصل: «مؤثّراً».
7- . ذهب المصنّف إلىٰ أنّ الجوهر جوهر لا في حال الوجود فقط، بل في حال العدم أيضاً. وهذه هي المسألة المعروفة في علم الكلام ب «مسألة المعدوم».

في حالِ العدمِ ؛ لأنّ اللون لا يَصِحُّ أن يَختَصَّ به و هو معدومٌ .

و لَيسَ يَجوزُ أَن يَحتاجَ إلَى اللونِ في كَونهِ في بعضِ الجِهاتِ (1)؛ لأنّه قد ثَبَتَ حاجتُه

إلَى الكَونِ في هذه الصفةِ ، و مُحالٌ أن يَحتاجَ إلَى الكَونِ و اللون مَعاً في الصفةِ الواحدةِ ؛ لأنّ الجنسَينِ المُختَلِفَينِ لا يوجِبانِ صفةً واحدةً ؛ مِن قِبَلِ أنّ اختلافَ جنسَيهما يَقتَضي اختلافَ ما يَجِبُ عنهما، إذا كانَ الإيجابُ يَرجِعُ إلىٰ ما عَلَيه الذاتُ (2).

و أيضاً: فكانَ يَجِبُ أن يَثبُتَ مِن الألوان بعَددِ الجِهاتِ ، كما يَجِبُ مِثلُه في الأكوانِ ، و قد عَلِمنا اختلافَ ذلك؛ (10) لأنّ الألوان منحصِرَةُ الأجناسِ ، و الجِهاتُ لا انحصارَ لها.

و أيضاً: فيَجِبُ علىٰ هذا القولِ استحالةُ تَنَقُّلِه في الجِهاتِ و هو مُلَوَّنٌ بلَونٍ واحدٍ، و استحالةُ تَعاقُبِ الألوانِ المُختَلفةِ عَلَيه و هو في جهةٍ واحدةٍ . و في جَواز ذلك الدليلُ علىٰ أنّه لا يَحتاجُ إلَى اللون في كَونِه في الجهةِ .

[4.] فأمّا كَونُه مُحتَمِلاً للأعراضِ ،(3) فإن أُريد به اختصاصُه بالصفةِ التي معها يَحتَمِلُ ، فتلكَ الصفةُ هي التحيُّزُ، و قد دَلَلنا علىٰ أنّه لا يَحتاجُ إلَى اللون فيها.

و إن أُريدَ أنّ اللون يَجِبُ وجودُه لاحتمالِه له، و لتَحيُّزِ وجودِه فيه، فذلكَ يوجِبُ وجودَ ما لا نِهايةَ له مِن الجنسِ الواحدِ؛ لاحتمالِه لكلِّ قَدرٍ زائدٍ(4)

ص: 78


1- . كان يجب تقديم هذا البحث على البحث السابق، أي علىٰ قوله: «و ليس يجوز أن يحتاج إليه في كونه جوهراً»؛ لأنّ الكَون في الجهات متعلّق ببحث التحيّز.
2- . في الأصل: «و الذات».
3- . أي كون الجوهر محتاجاً إلى اللون في احتماله للأعراض.
4- . في الأصل: «زائداً».

أُشيرَ إليه، و لأنّ السوادَ أيضاً لا يَكونُ بالوجودِ فيه أَولىٰ مِن البياضِ ؛ لأنّ احتمالَه لهما علىٰ سَواءٍ .

[5] فأمّا كَونُه مُدرَكاً،(1) فإنّما يُدرَكُ لِتحيُّزِه،(2) و قد بيّنّا أنّه لا يَحتاجُ إلى اللون في ذلك.(3)

و لأنّ تَحقِيقَ كونِه مُدرَكاً يَرجِعُ إلىٰ غَيرِه لا إليه، فكيفَ يُعلِّلُه بعِلّةٍ (4)تَرجِعُ (5) إليه ؟

علىٰ أنّ إدراكَ الشيءِ يَرجِعُ إلىٰ ما هو عَلَيه في ذاتِه، و يُدرَكُ علىٰ أخَصِّ أوصافِه، فأيُّ تأثيرٍ للّونِ في إدراكِ الجَوهرِ، و هو مُستَنِدٌ إلىٰ ما ذَكَرناه!

و بَعدُ، فقَد عَلِمنا أنّ الجَوهرَ يُدرَكُ لَمساً كما يُدرَكُ بالبَصَرِ، و إن لَم يَتعلَّقْ إدراكُه لَمساً باللون، فكيفَ يَكونُ اللون مُقتضِياً لإدراكِه ؟(6)

فأمّا قولُهم: «إنّه لا يُدرِكُه إلّاعلىٰ هَيئَتِه» ففيه وَقَعَ النِّزاعُ ، و هو نفسُ الدعوىٰ ؛ لأنّا قد نُدرِكُ ما لا هيئةَ له [بأيّ ] نحوٍ، لِحَقِّ الأجيرِ(7)؛ و لأنّا قد نُدرِكُ الجسمَ بحاسّةِ اللمسِ علىٰ غَيرِ هيئتِه(8).

ص: 79


1- . أي كون الجوهر محتاجاً إلى اللون كي يمكن إدراكه و رؤيته بالبصر.
2- . ذهب المتكلّمون خلافاً للفلاسفة إلىٰ أنّ الجوهر يُدرَك و يُحسّ بحاستَي البصر و اللمس. و سوف يأتي بعد قليل تصريح المصنّف بذلك.
3- . أي في تحيّزه.
4- . في الأصل: «لعلّة».
5- . في الأصل: «يرجع».
6- . أي ادراكه بالبصر. و توضيح ذلك: أنّ إدراك الجوهر بحاسّة اللمس لا يتوقّف على وجود اللون، فكذلك يجب أن لا يتوقّف إدراكه بحاسّة البصر على وجود اللون. ديوان الأُصول، ص 156.
7- . في الأصل: «لحق الأجر نحو»، و الأنسب ما أثبتناه.
8- . في الأصل: «غير هيئة».

علىٰ أنّ قولَهم: «إنّه لا يَخلو مِن اللون؛ لأنّه ذو هَيئةٍ » تَعليلُ الشيءِ بنفسِه؛ لأنّ معنَى الهَيئةِ معنَى اللون، و لَيسَ ذلكَ يَجري مَجرىٰ قولِنا: «إنّه لا يَخلُو مِن الكَونِ ؛

لِاختصاصِه ببعضِ المُحاذِياتِ »؛ لأنّ هذا لَيسَ تعليلاً للشيءِ بنفسِه؛ لأنّ كَونَه في الجِهةِ حالٌ معقولةٌ تَجِبُ (1) له عَلى الكَونِ ، و كونَه ذا هَيئةٍ لا يُعقَلُ مِنه إلّاوجودُ اللونِ فيه.

إبطال الشقّ الثاني

[1] و لا يَجوزُ أن يَكونَ الجَوهرُ مُوَلِّداً للَّونِ ؛(2) لأنّه لَو وَلَّدَه لَم يَكُن بأن يُوَلِّدَ السوادَ أَولىٰ مِن البياضِ ؛ لأنّه لا اختصاصَ له بأحدِهما دونَ الآخَرِ، و هذا يُؤَدّي إلىٰ تَوليدِه في حالةٍ واحدةٍ لألوانٍ مُتَضادَّةٍ !

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : و لَو وَلَّد الاعتمادُ(3) الحَرَكةَ ، لم يَكُن بأن يُولِّدَها في جهةٍ أَولىٰ مِن غيرِها!

و ذلك: أنّ الاعتمادَ يَختَصُّ بالجهةِ ، فيُوَلِّدُ ما يُوَلِّدُه فيها، و ليس كذلك حُكمُ الجَوهرِ لَو كانَ مُوَلِّدَ اللَّونِ .

[2] و لَيسَ يجوزُ أن يَكونَ اللون موجَباً عن الجوهرِ إيجابَ العلّةِ للمعلولِ ؛ لأنّ العلّةَ لا توجِبُ وجودَ الذاتِ ، و إنّما توجِبُ الأحوالَ ،(4) و اللونُ ذاتٌ ؛ فكيفَ يَجِبُ عن علّةٍ؟

ص: 80


1- . في الأصل: «يجب».
2- . أي أن يكون سبباً للّون لا علّة له، و قد تقدّم في بعض الهوامش السابقة الكلام على الفرق بين السبب و العلّة.
3- . الاعتماد: معنىً إذا وُجد أوجب كونَ محلّه في حكم المدافع لما يماسّه مماسّة مخصوصة. الحدود، ص 36.
4- . أي الصفات، و قد تقدّم أنّ العلّة لا توجب إلّاالصفة.

و أنّ (1) كُلَّ (2) ما لا توجِبُه(3) العلّةُ لا يَتعلّقُ (4) بالفاعلِ ، و قد عَلِمنا تَعلُّقَ اللونِ بالفاعلِ ؛ فكيفَ يَكونُ موجَباً عن علّةٍ؟

و أيضاً: و(5) لو وجبَ اللون عن الجَوهرِ إيجابَ العلّةِ ، لَم يَكُنِ السوادُ بأن يَجِبَ عنه أَولىٰ مِن البياضِ ؛ لِنَفيِ الاختصاصِ .

و أيضاً: فإنّ العلّةَ لا توجِبُ بالشيءِ وجودَه، و قد عَلِمنا حُلولَ الألوانِ المُتَضادَّةِ في الجَوهرِ، فكيفَ تَجِبُ مع تَضادِّها عنه ؟

فإن قيلَ : لِمَ اعتَمَدتُم في حُدوثِ الأجسامِ علَى الأكوانِ دونَ الحركةِ و السكونِ و الاجتماعِ و الافتراقِ ، و قد اعتَمَدَ ذلكَ جَماعةُ مَنْ تَقدَّمَ مِنَ الشيوخِ؟ و هَل يَصِحُّ الاعتمادُ علَى الكُلِّ ، أو فيه ما لا يَصِحُّ اعتمادُه ؟(6)

قيلَ له: دليلُ الاعتبارِ فيما يَدُلُّ علىٰ حُدوثِ الأجسامِ مِن المَعاني، [لا] بجنسِه و لا باسمِه، و إنّما الاعتبارُ بإثباتِ حُدوثِه، مع أنّ الجسمَ لم يَخلُ مِنه. و عُدولُنا إلىٰ ذِكرِ الأكوان هو لوَجهٍ صحيحٍ ، و ذلكَ أنّ الجسمَ و الجَوهرَ لا يَخلُو في وقتٍ مِن الأوقاتِ مِن المعنَى الذي يَستَحِقُّ هذه التَّسميةَ ؛ لأنّها عبارةٌ عمّا كانَ به في المكانِ .

ص: 81


1- . قوله: «و أنّ »، أي ولأنّ .
2- . في الأصل: «و أنّما وكلّ ».
3- . في الأصل: «لا يوجبه».
4- . في الأصل: «لا تتعلّق».
5- . الظاهر زيادة الواو.
6- . يتعلّق هذا السؤال بأصل البحث عن إثبات حدوث الأجسام، و مفاد السؤال: لماذا استدللتم علىٰ حدوث الأجسام بحدوث الأكوان بصورة عامّة، و لم تفصلوا و تستدلّوا على ذلك بحدوث الأكوان الأربعة و هي: الحركة و السكون و الاجتماع و الافتراق، كما فعل بعض المتكلّمين ؟ و هل يصحّ الاستدلال بحدوث كلّ هذه الأكوان الأربعة، أو أنّ فيها ما لا يمكن الاستدلال به ؟
الكلام على الدعوى الرابعة
اشارة

[الكلام على الدعوى الرابعة](1)

و إذا كانَ .........................................

...(2)(11) ما لَم يَتقدَّمْه، و اعتقادُ قِدَمِها يَقتَضي عِلماً بوجودِها قَبلَ وجودِ هذه الذاتِ التي أشَرنا إليها، فصارَ اعتقادُ قِدَمِ ما لَم يَتقدَّمِ المُحدَثَ يَقتَضِي اعتقادَ وجودِ الذاتِ و عدمِها في حالةٍ واحدةٍ ، و كلُّ هذا [تنبيهٌ ](3) لا استدلالٌ ؛ لأنّ الأمرَ في ذلكَ أوضَحُ مِن أن يُستَدَلَّ عَلَيه.

و لا فَرقَ في القضيّة التي ذَكَرناها بين كَونِ الجسمِ غَيرَ متقدِّمٍ في الوجودِ لذاتٍ (4) واحدةٍ مُحدَثةٍ أو لذَواتٍ كثيرة. و كذلكَ لا فَرقَ بَينَ أن يُقارِنَ شيئاً مِنها قَبلَ شيءٍ ، أو لا يَكونَ كذلكَ ، في أنّ حُدوثَه واجبٌ علىٰ سائرِ الوجوهِ (5)؛ لأنّ العلّةَ الموجبةَ لذلكَ لا تَختَلِفُ (6) باختلافِ هذه الوجوهِ ، و إن كانَ متىٰ قارَنَ شيءٌ قَبلَ

ص: 82


1- . و هي: «أنّ ما لم يَسبق الحوادث فهو حادث».
2- . سقطٌ و نقصٌ بمقدارٍ لعلّه لا يقلّ عن صفحة واحدة من صفحات المخطوطة التي تحتوي على 23 سطراً. و الجزء الساقط عبارة عن بقيّه الكلام على الدعوى الثالثة و شيء من بداية الكلام علىٰ الدعوى الرابعة. و الجدير بالذكر أنّ الشيخ المُقري النيسابوري أشار إلىٰ شيء سقط من هذا الموضع من مخطوطتنا، حيث قال عند حديثه عن الدعوى الرابعة و التي عبّر عنها بالفصل الرابع: «اعلم أنّ هذا الفصل و إنْ عَدَّه المتكلّمون من الدعاوي، فلا يجوز أن يُعَدَّ منها، علىٰ ما ذكره سيّدنا المرتضىٰ علمُ الهدىٰ (رضي اللّٰه عنه و أرضاه) في الكتاب الملخّص، و إنّما قلنا ذلك؛ لأنّ العلم بأنّ ما لا يسبق المُحدَث يجب أن يكون مُحدَثاً ضروريٌ لا سبيل للاستدلال عليه، غير أنّه عِلم الجُمَل». التعليق، ص 13.
3- . كلمة غير مقروءة، و التي أثبتناها أقرب إلى المعنى المراد.
4- . أي «لمعنى»، فإنّ الكلام في الدعاوي الأربع التي أقيمت لإثبات حدوث الأجسام يدور حول حدوث المعاني، و عدم تقدّم الأجسام علىٰ هذه المعاني الحادثة.
5- . في الأصل: «الوجود».
6- . في الأصل: «لا يختلف».

شيءٍ ، فإنّ الذي يَدُلُّ علىٰ حُدوثِه هو الحادِثُ الذي لَم يَتقدَّمْه إلىٰ سِواه، دونَ ما تَقدَّمَه و قارَنَ غَيرَه.

في بيان حقيقة العلم بأنّ عدم تقدّم الأجسام على الحوادث يستلزم حدوثها

فأمّا الكلامُ في أنّ العِلمَ بذلكَ (1) ضَروريٌّ أو مُكتَسَبٌ ، فالذي يَجِبُ أن يقالَ به:

إنّ العِلمَ بأنّ «ما لَم يتقدَّمِ المُحدَثَ يَجِبُ أن يَكونَ مُحدَثاً(2)» عِلمٌ ضَروريٌّ يَتناوَلُ جُملتَها، [و] يَختصُّ بهذه الصفةِ مِن غَيرِ تفصيلٍ ، فمتىٰ عَلِمنا في ذاتٍ بعَينِها(3)بالتأمُّل أنّها لم تَتقدَّمِ الحَوادثَ ، فلا بُدَّ مِن أن نَفعَلَ (4) اعتقاداً بأنّها(5) مُحدَثةٌ (6)، و يَكونَ عِلماً(7) [مفصَّلاً]؛(8) لتقدّمِ العِلمِ بالجملةِ التي ذَكَرناها،(9) و يَجري ذلكَ مَجرىٰ عِلمِ العاقلِ بأنّ الظلمَ قبيحٌ في أنّ ما عَلِمَه(10) جُملةً يَتناولُ قُبحَ ما اختصَّ مِن

ص: 83


1- . في الأصل: «العلم في ذلك» ثمّ إنّ مراده بقوله: «ذلك» ناظر إلى ما تقدّم من أنّ عدم تقدّم الأجسام على الحوادث يدلّ علىٰ حدوثها. و فصّل المصنّف الكلام، فتكلّم أوّلاً عن أصل القاعدة الكلّية القائلة: «إنّ ما لم يتقدّم المُحدَث يجب أن يكون مُحدَثاً» فذكر أنّ العلم بها ضروريّ ، ثمّ تكلّم ثانياً عن أحد تطبيقات تلك القاعدة، و هي: «أنّ الجسمَ مُحدَثٌ من حيث لم يتقدّم الحوادث»، و ذكر أنّ العلم بها لا ضروريّ و لا مستدَلّ ، بل هو علم مكتَسَب. و سوف يأتي توضيح أكثر لذلك في الهوامش القادمة.
2- . في الأصل: «محدث».
3- . كالجسم، و هو محلّ بحثنا.
4- . في الأصل: «يفعل».
5- . في الأصل: «لأنّها».
6- . في الأصل: + «ويكون علم؛ لتقدّم العلم بالجهة»، و الظاهر أنّها زائدة.
7- . في الأصل: «علم».
8- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق بقرينة قوله: «من غير تفصيل».
9- . و هي القاعدة الكلّية المتقدّمة، و التي مفادها: «أنّ مالم يتقدّم المُحدَث يجب أن يكون مُحدَثاً».
10- . في الأصل: «في أنّ علم»، و الأولى ما أثبتناه.

الأفعالِ بصفةِ الظلمِ ، فإذا عَلِمَ مِن بَعدُ بالدليلِ في فِعلٍ بعَينهِ أنّه بصفةِ الظلمِ ، فَصَّل عَلَيها لقُبحِه(1).

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ العِلمُ بأنّ «الجسمَ مُحدَثٌ مِن حيثُ لَم يتقدَّم الحوادثَ »(2) عِلمَ استدلالٍ ؛ لأنّه لَو كانَ كذلكَ لَجازَ أن لا يَحصُلَ بتَركِ النظَرِ في دليلِه، مع العِلمِ بأنّه لَم يَتقدَّمِ المَعانيَ المُحدَثةَ ، و قد عَلِمنا أنّه لا بُدَّ مِن حُصولِه.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ ضَروريّاً كما قُلناه في العِلمِ المتعلِّقِ بالجُملةِ ؛(3) لأنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَفتَقِرَ إلَى العِلمِ بإثباتِ المَعاني و حُدوثِها، و أنّ الجسمَ لَم يَتقدَّمْها، بل كانَ يَجِبُ حُصولُه في كُلِّ حالٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ العِلمَ بأنّ «ما لَم يَتقدَّمِ المُحْدَثَ مُحدَثٌ » علىٰ سَبيلِ الجُملةِ كانَ ضَروريّاً [حقّاً فهو كان أوّلاً]،(4)و قد عَلِمنا أنّ حدوثَ الجسمِ لا يَعلَمُه إلّامَن عَلِمَ ما ذَكَرناه مِنَ العِلمِ بتَقدُّمِ المَعاني المُحدَثةِ .

علىٰ أنّ أبا هاشمٍ يَقولُ : «[العِلمُ بتَقدُّمِ المَعاني المُحدَثةِ ](5) يَصيرُ مُتَعلِّقاً به بحُدوثِ الجسمِ ، بَعدَ أن لَم يَكُن متعلِّقاً به».

و هذا لا يَجوزُ؛ لأنّه يُؤَدّي إلىٰ قَلبِ جنسٍ مِن حيثُ [يؤدّي إلى ما] عُلِمَ بغَيرِه [مضافاً] إلىٰ جنسِه.

ص: 84


1- . كذا في الأصل، ولكنّ المراد واضح، و هو أنّه حصل له علم تفصيليّ بقبحه بعد أن علم أنّه بعينه على صفة الظلم.
2- . هذا أحد تطبيقات القاعدة الكلّية المتقدّمة.
3- . يعني القاعدة الكليّة المتقدّمة.
4- . في الأصل - مكان ما بين المعقوفين - كلمات مخرومة، تُقْرَأ كما أثبتناه.
5- . في الأصل - مكان ما بين المعقوفين - بياض، وما أثبتناه هو غاية ما يستفاد من السياق. و هكذافي الموضعين فيما بعد.

و إذا بَطَلَ أن يَكونَ ضَروريّاً و مُستَدَلّاً عَلَيه، ثَبَتَ ما قُلناه(1) مِن أنّه مُكتَسَبٌ ؛(2) و معنىٰ قولِنا بِذلكَ المعنىٰ (3) أنّ العاقلَ يَفعَلُه؛ لتَقدُّمِ عِلمِه بما ذَكَرناه كما سَمَّيناه،(4)كما يَفعَلُه المُتَنبِّهُ مِن نَومِه مِن العلومِ التي يَعودُ بها إلىٰ ما كانَ عَلَيه مُكتَسَبةً ؛ مِن حَيثُ فَعَلها؛ لكَونِه ذاكِراً لأحوالِه، و صارَ ما يَفعَلُه مِن(5) الاعتقادِ عِلماً لهذا الوَجهِ ، كما صارَ ما يَفعَلُه المُعتَقِدُ للتفصيلِ مِن بابِ المُحدَثِ عِلماً؛ لتَقدُّمِ عِلمِه بالجُملةِ التي ذَكَرناها.

فلَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا لَم يَكُن هذا العِلمُ ضَروريّاً و كانَ مُكتَسَباً، فألّا جازَ ارتفاعُه، و ألّايَختاره بعضُ العقلاءِ؟

و ذلكَ : أنّ عِلمَ العاقلِ بأنّ «الذاتَ إذا لَم تَتقدَّمِ (6) المُحدَثَ فهي مُحدَثةٌ » الذي(7)قلنا: إنّه عِلمٌ جُمَلٌ (8)، داعٍ قويٌّ (9) إلىٰ فِعلِ اعتقادِ حُدوثِ ما له هذه الصفةُ ؛ ليُطابِقَ التفصيلُ الجُملةَ المُقرَّرةَ في العقلِ .

ص: 85


1- . لم يتقدّم من ذلك شيء فيما بأيدينا من الكتاب، و يبدو أنّه سقط فيما سقط من المخطوطة.
2- . قسّم المتكلّمون العلم تقسيماً أوّلياً إلىٰ : ضروري و كسبي. أمّا الضروري فهو ما لا يمكن للعالِم به نفيَه عن نفسه. و أمّا الكسبي فقسّموه إلىٰ قسمين: الأوّل: يتولّد عن النظر، فإذا نظر في الدليل على الوجه الذي يدلّ ، حصل هذا العلم، و إن أخلّ بالنظر أو ببعض شرائطه، فلا يحصل هذا العلم. و هذا القسم يسمّىٰ : «علم استدلالي». و الثاني: لا يحتاج إلى التأمّل و التفكّر، و هو من فعل العالِم، لكنّه غير مختار في إحداثه. الحدود، ص 90-91.
3- . في الأصل: «بمعنى»، و الأولى ما أثبتناه.
4- . و هو عِلمُهُ بتقدّم المعاني المحدَثة، و أنّ ما لم يتقدّم المحدَث فهو محدَث.
5- . في الأصل: «من أنّ ».
6- . في الأصل: «يتقدّم».
7- . في الأصل: «التي».
8- . «علم جُمَلٌ »، أي علم إجماليّ متعلّق بالجملة. و في الأصل: «علم حمل»، و الصحيح ما أثبتناه.
9- . قوله: «داعٍ قويٌّ » خبر لقوله: «أنّ علم العاقل».

و لا يَجوزُ أن لا يفعلَ ذلكَ إلّابدُخول شُبهةٍ عَلَيه في صفةِ هذه الذاتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ القائلَ لمّا كانَ متقرِّراً في عقلِه أنّ «ما له صفةُ الظلم فهو قَبيحٌ » لا يَجوزُ متىٰ عَلِم في بعضِ الأفعال(1)(12) أنّ له صفةَ الظلمِ أنْ لا يفعل اعتقاداً لقُبحِه، و أنّه إنّما يَصِحُّ أن لا يفعل ذلك [إلّا] بدخول(2) شُبهةٍ عَلَيه في صفةِ الفعل، حتّى تُخرِجَه(3) مِن مطابقَةِ الجُملةِ المتقرِّرةِ في عقلِه ؟(4) فإذا كانَ الأمرُ علىٰ ما ذَكَرناه، لَم يَزَل - إذا كان العِلمُ الذي أشَرنا إليه مُكتَسَباً - أن يَجوزَ ارتفاعُه على كُلِّ حالٍ .

ذهاب ابن الراوندي إلى قِدَم الأجسام مع عدم تقدّمها على المعاني المحدَثة

فإن قيلَ : كيفَ يَكونُ العِلمُ الذي ذَكَرتُموه واجباً حُصولُه(5) مع تَقدُّمِ العلومِ الثلاثةِ التي ذَكَرتُموها، [و] قد خالَفَ بعضُ العقلاءِ في ذلكَ - و هو ابنُ الروَنديِّ (6) -

و اعتَقدَ أنّ الجسمَ قَديمٌ ، و إن لم يَتقدَّمِ المَعانيَ المُحْدَثةَ .

ص: 86


1- . في الأصل: «الأحوال» و الأنسب ما أثبتناه، بقرينة قول بعد قليل: «في صفة الفعل».
2- . في الأصل: «بذلك دخول»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله قبل قليل: «و لا يجوز أن لا يفعل ذلك إلّابدخول شبهة عليه».
3- . في الأصل: «يخرجه»، و الأولى ما أثبتناه.
4- . و هي القاعدة الكلّية المتقدّمة، و التي مفادها: «أنّ ما له صفة الظلم فهو قبيح».
5- . لكونه مكتسَباً، و المراد بهذا العلم هو مفاد الدعوى الرابعة، و المراد من «العلوم الثلاثة» الدعاوي الثلاث المتقدمّة.
6- . أحمد بن يحيىٰ بن إسحاق بن الراوندي: متكلّم مثير للجدل. من أهل مرو الروذ، سكن بغداد، و كان معتزلياً، ثمّ فارق الاعتزال. اتُّهم بالإلحاد، و نُسبت إليه كتب يَطعن فيها بالإسلام. نُسب إلى التشيّع، و ألّف كتاباً في الإمامة، لكن لم يذكره النجاشي و الطوسي في ضمن مصنّفي الشيعة الإمامية، نعم ذكره ابن شهر آشوب، لكنّه قال عنه: «مطعون فيه جدّاً». قيل: إنّه توفّي سنة 298. المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، ص 57؛ لسان الميزان، ج 1، ص 323-324؛ سير أعلام النبلاء، ج 14، ص 59؛ معالم العلماء، ص 178.

قُلنا: خِلافُ ابنِ الروَنديّ في التحقيقِ يَرجِعُ إلىٰ إحدَى(1) الدَّعاوَى المتقدِّمةِ ؛(2)لأنّه يَزعُمُ أنّ الجِسمَ لَم يَزَل يُقارِنُ حادثاً قَبلَ حادثٍ بلا أوّلٍ ، و هذا قولٌ في المعنىٰ بِتَقدُّمِ المَعاني؛ ألا تَرىٰ أنّه قد صَرَّح بأنّ فيها ما وجودُه كوجودِ الجسمِ القديمِ عندَه ؟ و ما وجودُه كوجودِ القديمِ لا بُدَّ أن يَكونَ قديماً. و لا اعتبارَ بإطلاقِه بأنّها مُحدَثةٌ ؛ لأنّه قد سَلَبَ معنىٰ ما أعطاه بالقولِ ، و الاعتبارُ بالمَعاني دونَ العباراتِ .

بيان كيفيّة دلالة «عدم تقدّم المحدَث» على الحدوث

فإن قيلَ : إذا جازَ أن يُقارِنَ الجسمُ العَرَضَ فلا يَكونَ عَرَضاً، فألّا(3) جازَ أن يُقارِنَ المُحدَثَ و لا يكونَ مُحدَثاً؟

قُلنا: هذا سؤالُ مَن لَم يتحقَّقْ مَعنىٰ كلامِنا؛ لأنّا لَم نُوجِبْ «أن يَكونَ الجسمُ مُحدَثاً مِن حَيث ما يَتقدَّمُ الحوادثَ » لأنّ مِن شأنِ كُلِّ شيءٍ لَم يَتقدَّمْ غَيرَه أن يَكونَ بِمِثلِ صفتِه، فَيلزَمنا هذا الكلامُ .

و إنّما أَوجَبنا ذلكَ ؛ لأنّ وَصفَنا القَديمَ بأنّه قَديمٌ يُفيدُ(4) أنّه [ما] وُجِدَ بَعدَ عدمٍ ، و الذاتانِ (5) إذا لَم تَتقدَّمْ (6) إحداهما الأُخرىٰ ، فمُحالٌ أن تَكونَ (7) إحداهما قَديمةً

ص: 87


1- . في الأصل: «أحد»، و المراد بالدعاوى المتقدّمة هي الدعاوى الأربع التي أُقيمت لإثبات حدوث الأجسام.
2- . في الأصل: «المتقدّم».
3- . في الأصل: «و إلّا».
4- . في الأصل: «يعتقد».
5- . في الأصل: «و الذاتَين».
6- . في الأصل: «لم يتقدّم».
7- . في الأصل: «يكون».

و الأُخرىٰ مُحدَثةً ، بل لا بُدَّ مِن كَونِهما معاً إمّا قَديمتَينِ أو مُحدَثتَينِ . و ليسَ هذا سَبيلَ ما سألتم عنه؛ لأنّ واصِفَ العَرَضِ بأنّه عَرَضٌ لَيسَ بمُفيدٍ [لتقدّمٍ أو](1) لتأخُّرٍ، كما ذَكَرناه في وَصفِ القَديمِ و المُحدَثِ ، و إنّما يُفيدُ مِن [فعل](2) مخصوصٍ ، و الشيءُ إذا قارَنَ غَيرَه [و لم يتقدّمه، فهو](3) ممّا لا يَجِبُ أن يَكونَ مِن قَبيلِه، و لا علىٰ

سائرِ صفاتِه؛ ألا تَرىٰ أنّا إذا فَرَضنا [أنّ عَمْراً](4) لَم يَتقدَّمْ ميلادُه ميلادَ [زيدٍ](5)، فواجبٌ أن يَكونَ مقدارُ عُمُرِهما واحداً، و لا يَجِبُ (6) قياساً علىٰ ذلكَ إذا كانَ أحَدُهما فاعلاً [فاعليّةَ الآخر، و هذا](7) يُسار(8) في هذا البابِ بكَونِ الفاعلِ واحداً إذا وجبَ حُصولُ الكَونِ مع حُصولِ الجَوهرِ.

على أنّ أبا هاشم قد مَنَعَ مِن ذلك، و قال: «لا يَجوزُ أن يَكونَ فاعلُ الجَوهرِ غَيرَ فاعلِ الكَونِ ».(9)

و هذه المسألةُ مَبنيّةٌ علىٰ أصلٍ ، و هو أنّه «لَيسَ مِن شَرطِ تَوليدِ الاعتمادِ الكَونَ في المَحَلِّ ، أن يَكونَ مَحَلُّه مُماسّاً لمَحَلِّ الكَونِ ، إلّافي حالِ وجودِهِ ».

فإن صَحَّ هذا الأصلُ ، جازَ خِلافُ قولِ أبي هاشمٍ ؛ لأنّ كُلَّ معنىً احتاجَ إلىٰ غيرِه صَحَّ مِن القَديمِ تَعالىٰ إيجادُه إذا وُجِدَ المُحتاجُ إليه، و إن كانَ مِن فِعلِ غَيرِه.

ص: 88


1- . الكلمة مخرومة في الأصل، و ما أثبتناه هو ما يبدو أن تقرأ عليه الكلمة.
2- . في الأصل مكانَ ما بين المعقوفين بياضٌ ، و ما أثبتناه هو ما يقتضيه السياق.
3- . في الأصل مكانَ ما بين المعقوفين بياضٌ ، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
4- . ما بين المعقوفين مخروم في الأصل، و هكذا يقرأ.
5- . في الأصل مكانَ ما بين المعقوفين بياضٌ ، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
6- . في الأصل: + «ذلك»، و الصحيح ما أثبتناه على ما يظهر من السياق.
7- . في الأصل مكانَ ما بين المعقوفين بياضٌ ، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
8- . تقرأ الكلمة في الأصل «بسارٍ»، و هو لا يلائم السياق.
9- . المغني، ج 6 (التعديل و التجوير)، ص 165.

و إن لَم يَصِحَّ هذا الأصلُ [و] كانَ مِن شَرطِ تَوليدِ الاعتمادِ أن يَكونَ مَحَلُّهُ مُماسّاً لمَحَلِّ الكَونِ قَبلَ حالِ وجودِه، صَحَّ ما قالَه أبو هاشمٍ ، و سَقَطَ السؤالُ مِن أصلِه.

و في صحّةِ ذلك و فَسادِه نظَرٌ، لَيسَ هذا مَوضِعٌ يَقتَضيه؛(1) لأنّا قد بيّنّا صحّةَ ما أَورَدناه علَى الوَجهَينِ معاً.

فإن قيلَ : إذا كانَ الكَونُ عندَكم غَيرَ الجوهرِ، فهَلّا صَحَّ مِن فاعلِ الجَوهرِ أن يَفعلَهَ و إن لَم يَفعَلْ معه الكَونَ ؛ لأنّ هذا حُكمُ كُلِّ غَيرَينِ تَعَلَّقا بقُدرةِ القادرِ؟

قُلنا: مَن قَصَدَ إلى فِعلِ الجوهرِ، و كان مُضمَّناً لغَيرِه، وجبَ أن يَقصِدَ إلىٰ فعلِ ذلكَ الغَيرِ؛ لحاجةِ ما قَصَدَ مِن الجوهرِ إليه. و هذا كمَن قَصَدَ إلىٰ فِعلِ العَرَضِ المُختصِّ ببعضِ المَحالِّ ، في أنّه لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قاصداً إلىٰ فعلِ ذلكَ المَحَلِّ (13) الذي يَتِمُّ ما قَصَدَ به. و كذلكَ مَن(2) قَصَدَ إلىٰ فِعلِ مُسبَّبٍ لا يوجَدُ إلّاعن سببٍ مخصوصٍ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قاصداً إلىٰ فِعلِ ذلك السَّببِ .

و إذا كُنّا قد بيّنّا حاجةَ الجَوهرِ إلَى الكَونِ و أنّهما كالشيءِ الواحدِ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ القاصدُ إلىٰ فِعلِ الجَوهرِ قاصداً إلَى الكَونِ .

فإن قيلَ : إذا احتاجَ الجَوهرُ إلَى الكَونِ ، و الكَونُ مُحتاجٌ إلَى الجَوهرِ بغيرِ شُبهةٍ ، فقَد احتاجَ كُلُّ واحدٍ مِنهما إلَى الآخَرِ، و هذا متَناقِضٌ !

قُلنا: لَيسَ يتعيَّنُ (3) ما يَحتاجُ إليه الجَوهرُ مِن الأكوانِ و يَتخصَّصُ ، كتعيُّنِ ما

ص: 89


1- . سوف: يتعرّض المصنّف إلى هذا البحث في فصل: «في أنّه تعالىٰ يقدر على كلّ جنس من المقدورات».
2- . في الأصل: «ما»، و الأضبط ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «متعيّن».

يحتَاجُ إليه الكَونُ مِن الجَوهرِ؛ لأنّ الجَوهرَ لا يَحتاجُ إلَى كَونٍ (1) بعَينِه، و إنّما يَحتاجُ - إذا وُجِدَ - إلىٰ كَونٍ مّا غَيرِ متعيِّنٍ ، و الكَونُ هو الذي يَحتاجُ إلىٰ جَوهرٍ متعيِّنٍ ؛ و لهذا يَجوزُ وجودُ الجَوهرِ مع عدمِ الكَونِ الذي يَحتاجُ إليه بعَينِه.

فإن قيلَ : ألَيسَ الكَونُ المعيَّنُ الموجودُ في الجَوهرِ يُحتاجُ إليه في هذه الحالِ ، و الكَونُ مع ذلكَ يَحتاجُ إليه(2) بعَينِه ؟ فَقد عادَ الأمرُ إلىٰ حاجةِ كلِّ واحدٍ مِنهما إلَى الآخَرِ!

قُلنا: الجَوهرُ و إنِ احتاجَ إلَى الكَونِ المعيَّنِ الموجودِ فيه، فإنّما احتاجَ إليه ليَكونَ به في جهةٍ مخصوصةٍ لا لوجودِه، و الكَونُ إنّما يَحتاجُ إلَى الجَوهرِ في وجودِه، فاختَلفَت جهةُ الحاجةِ كما تَرىٰ . و إذا اختَلفَت الجهةُ صحَّت الحاجةُ ، و لَم تَجرِ في الفَسادِ مَجرىٰ أن يَحتاجَ كُلُّ واحدٍ مِنهما إلَى الآخَرِ مِن وَجهٍ واحدٍ.

عدم خلوّ الجوهر من الأكوان

فإن قيلَ : فهَبوا(3) أنّه مسلَّمٌ لكم أنّ الجَوهرَ لا يَخلو - مع وجودِه(4) - مِن أن يَكونَ في جهةٍ مِن الجهاتِ ، لِمَ زَعَمتُم أنّ ذلكَ يَقتَضي أنّه(5) لَم يَخلُ في حالٍ مِن الأحوالِ مِن الأكوانِ؟ و ما أَنكَرتُم أن يَكونَ الجَوهرُ في حالِ حُدوثِه إنّما اختَصَّ بالجهةِ بالفاعلِ ، و إن كانَ في حالِ بقائِه و انتقالِه إلَى الأماكنِ يَكونُ فيها لمعنىً (6)؟ فإنّ

ص: 90


1- . في الأصل: «الكون».
2- . أي إلى الجوهر.
3- . في الأصل: «فهب و».
4- . في الأصل: «مع وجودها»، و الضمير راجع إلى الجوهر.
5- . في الأصل: «أنّها».
6- . و هذا المعنىٰ هو «الكَون».

الذي أبطَلتُم به أن يَكونَ في أحوالِ بقائِه مختَصّاً بالجهاتِ بالفاعلِ لا يَتناوَلُ هذا المَوضِعَ .

قُلنا: أوّلُ ما نَقول: إنّ هذا الكلامَ لا يَكونُ شُبهةً لِمَن خالَفَ في حُدوثِ الأجسامِ ؛ لأنّ اعتراضَه مَبنيٌّ علىٰ تَسليمِ حُدوثِها، و إنّما يَصِحُّ أن يَكونَ اعتراضاً ممّن نَفَى الأعراضَ و وافَقَ في حُدوثِ الأجسامِ .

و الذي يُبطِلُه مِن بَعدُ: أنّا قد عَلِمنا أنّ الجَوهرَ إذا نَقَلناه مِن هذه الجهةِ التي ذُكِرَت، ثُمّ أعَدناه إليها، فإنّه لا يَكونُ فيها إلّابمعنىً ؛ لأنّ كَونَه في حالِ البَقاءِ مُستَقِلّاً بالفاعلِ مِن غَيرِ تَوسُّطِ معنىً قد ظَهَرَ بُطلانُه، و سُلِّمَ أيضاً في السؤالِ ، و هو إذا انتَقَلَ إليها لَم يَحصُل مِن الحالِ إلّاما كانَ له في الابتداءِ بعَينِه، و الصفتانِ المتماثِلَتانِ المتّفِقَتانِ في كيفيَّةِ الاستحقاقِ لا يَجوزُ أن يُستَحَقّا مِن وَجهَينِ مختلِفَينِ ، فلا بُدَّ أن يَكونَ المُقتَضي لهما(1) واحداً. و قد عَلِمنا أنّ الحالَ التي تَحصُلُ (2) للجَوهرِ في الجهةِ المخصوصةِ التي كانَ فيها في حالِ الحُدوثِ مُماثِلَةٌ

للحالِ التي تَحصُلُ له فيها في حالِ البَقاءِ ، و كيفيّةُ الاستحقاقِ أيضاً واحدة؛ لأنّه في حالِ الحُدوثِ كانَ يَجوزُ أن يَحصُلَ في غَيرِها بَدَلاً مِنها، كما هو كذلكَ في حالِ البَقاءِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ الموجِبُ للصفتَينِ واحداً غَيرَ مُختَلَفٍ . فإذا بَطَلَ أن يَكونَ في حالِ البقاءِ في الجهةِ بالفاعلِ ، فهو(3) كذلكَ في حالِ الحُدوثِ .

و ما يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ كَونَ الجسمِ في المُحاذاةِ (4) يَصِحُّ التَّزايُدُ فيه؛

ص: 91


1- . في الأصل: «لها».
2- . في الأصل: «يحصل».
3- . في الأصل: «و هو».
4- . أيّ في جهة.

و لهذا يَمنَعُ الأقوىٰ مِنه الأضعَفَ ، و ما صَحَّ التزايُدُ فيه لا يَكونُ بالفاعلِ كالحُدوثِ ، و هذا قد تَقدَّمَ .

و قد أجابَ (14) بعضُهم عن هذِه الشُّبهةِ ، بأن قالَ : لَو فَرَضنا أنّ الجِسمَ في أوّلِ أحوالِ وجودِه يَكونُ في المُحاذاةِ بالفاعلِ ، لَم يَقدَحْ ذلكَ في إثباتِ حُدوثِه و نَفيِ قِدَمِه؛ لأنّه إذا كانَ في الحالِ الثانيةِ لا يَكونُ في المُحاذاةِ إلّابمعنىً مُحدَثٍ ،(1) فحُدوثُه واجبٌ هو؛ لأنّ ما يَتقدَّمُ المُحدَثَ (2) بوقتٍ واحدٍ، لا يَكونُ إلّا مُحدَثاً غَيرَ قَديمٍ .

و هذا لا يُحتاجُ إليه؛ لأنّ السائلَ عن هذهِ المسألةِ قد سَلَّمَ حُدوثَ الجسمِ لَفظاً و معنىً ، و مسألتُه مَبنيّةٌ علىٰ هذا الأصلِ ؛ فأيُّ معنىً لاستخراجِها فيما يَلزَمُه، و مسألتُه مَبنيّةٌ عَلَيه، و هو يُصرِّح به ؟!

[فإن قيل]: إنّه لا يخلو مِنَ الكَونِ ، و إذا أجَزتُم خُلُوَّه مِن الأكوانِ فأَجيزوا خُلوَّه عن الأَلوانِ !(3)

قُلنا: لَو سَوَّينا بَينَ الأمرَينِ و أحَلْنا خُلوَّه مِن الكَونِ و اللَّونِ معاً، لَكانَ ذلكَ غَيرَ قادحٍ فيما نُريدُ إثباتَه مِن حُدوثِه؛ ألا تَرىٰ أنّ السائلَ إذا طالَبَنا(4) بإجازةِ خُلوِّه من اللَّونِ (5)، فالواجبُ - [أن لا نجيز](6) [إن كان أحَدُهما] أسوَدَ أن يَكونَ الآخَرُ كذلكَ ،

ص: 92


1- . و هو «الكَون».
2- . في الأصل: + «إلّا»، و هو زائد.
3- . في الأصل: «الأكوان».
4- . في الأصل: «طالبها».
5- . يبدو أن هنا سقطاً في العبارة في هذا الموضع من الأصل.
6- . هذه الكلمة في الأصل غيرمقروءة.

و لا إذا كانَ أحَدُهما قُرَشيّاً(1) أن يَكونَ الآخَرُ علىٰ صفتِه ؟(2)

و هذا الجَوابُ [جوابٌ ] عن قولِهم: «إذا لَم يتقدَّمِ الجسمُ ما لا يَبقىٰ و لَم يَكُن ممّا لا يَبقىٰ ،(3) فكذلكَ لا يَتقدَّمُ المُحدَثَ و لا يَكونُ مُحدَثاً»(4)، و عن سائرِ ما يَسألونَ عنه علىٰ هذا الوَجهِ .

تناهي الحوادث الماضية و المستقبلة، و بيان الفرق بينها

فإنَ قيلَ : و لِمَ أَنكَرتُم أن تَكونَ الحوادثُ غَيرَ مُتناهِيَةٍ ، و لِمَ زَعَمتُم لها أوّلاً؟

قُلنا: وَصفُها بالحُدوثِ يَقتَضي تَناهِيَها؛ لأنّ المُحدَثَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ فاعِلُه قد(5)فَرَغَ مِنه، و لَم يَبقَ مِنهُ شيءٌ يُنتظَرُ وجودُه(6). و ما تَناهىٰ (7) حُدوثُه و انقطَعَ ، فلا(8) بُدّ

ص: 93


1- . في الأصل: «قرسياً».
2- . عبارة الأصل مبهمة، ولكن يمكن الاستعانة بعبارة شبيهة من كتاب شرح الأُصول الخمسة، ص 69 لرفع الإبهام، فقد جاء في هذا الكتاب: «فإن قيل: أليس أنّ الجسم لم يخلُ من الأعراض و لا يجب أن يكون عرضاً، فهلّا جاز أن لا يخلو من المحدَث و لا يجب أن يكون محدَثاً مثله ؟ قلنا: ما ذكرناه إنّما يقتضي اشتراكها في الوجود لا في الجنس، ألا ترىٰ أنّ السواد و البياض إذا وُجدا معاً فإنّما يجب أن يكونا مشتركين في الوجود، حتّىٰ لو كان أحدهما محدَثاً لكان الآخر أيضاً محدَثاً، فأمّا أن يكون كلّ أحد منهما من جنس الآخر فلا، و كذلك التوأمان إذا وُلِدا معاً و كان لأحدهما عشر سنين، فإنّما ينبغي أن يكون للآخر أيضاً مثلُ هذهِ المدّة، فأمّا اشتراكهما في الجنس حتىٰ إذا كان أحدهما قرشياً يجب أن يكون قرشياً فلا».
3- . مُراده ب «ما لا يبقىٰ » العرض، فإنّ من خصائص العرض أنّه لا يكون له لبث كلبث الأجسام. الحدود، ص 33.
4- . قد تقدم هذا في عبارة شرح الأُصول الخمسة التي نقلناها آنفاً.
5- . في الأصل: «غير» بدل «قد».
6- . في الأصل: «وجودها».
7- . في الأصل: «وما لا يتناهى».
8- . في الأصل: «فلما».

مِن أن يَكونَ له أوّلٌ و آخِرٌ؛ فَمَن وَصفَه بالحُدوثِ و نَفىٰ تناهِيَهُ ظَهَرت مُناقَضتُه.

و لا يَلزَمُ علىٰ هذا تَناهي الحوادثِ المُستقبَلةِ ، و أن يَكونَ نَعيمُ أهلِ الجَنّة و عِقابُ أهلِ النار مُنقَطِعَينِ ، علىٰ ما يَزالُ يُلزِمونَنا(1) إيّاه(2).

و ذلك أنّ الفَرقَ بَينَ الأمرَينِ واضِحٌ ؛ لأنّ المُستَقبلَ مِن الحوادثِ ما(3) دخَلَت(4)حقيقتُه في الوجودِ، و لا فرَغَ فاعلُه منه، و لا يَلزَمُ أن يَكونَ مُتناهِياً. و الماضي مِن الحوادثِ قد انقَطَعَ وجودُه، و فَرَغَ فاعلُه منه، فلابُدَّ مِن تَناهيهِ .

علىٰ أنّا نَقولُ في المُستَقبَل مِثلَ ما قُلناه في الماضي، فنَحكُمُ بتَناهي كُلِّ ما وُجِدَ مِنه، كما حَكَمنا بتناهِي الماضي؛ لأنّ العِلّةَ في تَناهي الجميعِ واحدةٌ .

و معنىٰ قولِنا: «إنّ النعيمَ و العِقابَ غَيرُ مُنقَطِعَينِ »، هو أنّ فاعلَها يَفعلُ مِنهما(5)الشيءَ بَعدَ الشيءِ ، و لا يُريدُ نَفيَ النهايةِ عن الموجود فيهما؛ و لهذا جازَ أن يكونَ لا آخِرَ للأفعالِ . و لا يَجوزُ قياساً علىٰ ذلكَ أن لا يَكونَ لها أوّلٌ ؛ مِن حَيثُ كانَ نَفيُ (6) الآخِرِ لا يَقتَضي وجودُه(7) ما لا يَتناهى، و نَفيُ الأوّلِ يَقتَضي ذلكَ .

ص: 94


1- . في الأصل: «يلزمونا».
2- . الملزِمون هم القائلون بقِدَم الأجسام و العالم، فقد كانوا يُلزمون المتكلّمين - لا خصوص المصنّف - بذلك، و قد سلّم لهم أبو الهذيل العلّاف هذا الإلزام، و ذهب إلى القول بانقطاع نعيم أهل الجنّة و عذاب أهل النار، و عُرفت نظريته هذهِ باسم «سكونُ أهل الخُلْدَين». (الفرق بين الفرق، ص 113) و قيل: إنّه رجع عن هذهِ النظرية. ديوان الأُصول، ص 265.
3- . «ما» هنا نافيه.
4- . في الأصل: «دخل».
5- . في الأصل: «منهم».
6- . في الأصل: «في»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «و نفي الأوّل».
7- . لعلّ كلمة «وجوده» زائدة.

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الحوادثَ أوّلَ أوانِها متناهيةٌ : أنّه لَو كانَ لا أوّلَ لها لَوجبَ أن يَكونَ فاعلُها لَم يَفعَلْ شَيئاً مِنها إلّابَعدَ أن فَعَلَ ما لا نِهايةَ له، و هذا ممّا لا يَصِحُّ ؛ لأنّه لَو صَحَّ ذلكَ ماضياً لَصَحَّ مستقبَلاً، و في عِلمِنا باستحالةِ أن يَبتدئَ بفِعلِ ما لا نِهايةَ له، ثُمّ يَفعلَ بَعدَ ذلكَ فِعلاً مِن الأفعالِ ، دليلٌ علىٰ تَناهي الحوادثِ .

فإن قيلَ : و لِمَ جَمعتُم بَينَ (1) الماضي و المُستَقبَلِ في هذا البابِ؟

قُلنا: لأنّ المُضِيَّ و الاستقبالَ مِن أوصافِ الزمانِ ، لا تأثيرَ له في استحالةِ ما يَجري هذا المَجرىٰ و لا في صحّتِه.

و لأنّه لا ماضيَ إلّاو قَد كان مُستَقبَلاً، كما أنّه لا مُستَقبَلَ إلّاو سَيصيرُ ماضياً، فيَجِبُ أن يكونَ كلُّ شَرطٍ استَحالَ معه إحداثُ الفِعلِ في المستقبَلِ ، يَستَحيلُ معه(2) ذلكَ فيما مَضىٰ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا استَحالَ في المُستَقبَلِ وقوعُ الفِعلِ مِن غَيرِ قادرٍ، استَحالَ مِثلُه في الماضي، و كذلكَ [لمّا] استَحالَ أن يَتعلَّقَ وجودُ الفِعلِ (15) مستَقبَلاً بوجودِ(3) الضِّدَّينِ ، استحالَ ذلكَ ماضياً؟ فلَو جازَ 62

لأحَدٍ أن يُفرِّقَ فيما لا نِهايةَ له بينَ (4) الماضي و المستَقبَلِ ، لَجازَ لغَيرِه أن يُفرِّقَ في سائرِ ما ذَكَرناه.

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ صحّةِ استحالةِ ما ذَكَرتُموه في المُستَقبَلِ ، حتّىٰ يَصِحَّ بِناؤُكم الماضيَ عَلَيه ؟

قُلنا: لَو جازَ مِن بعضِ القادرينَ أن يَبتدئَ فيَفعَلَ ما لا نِهايةَ له، لَصَحَّ مِن كُلِّ

ص: 95


1- . في الأصل: «من».
2- . في الأصل: + «في»، ولا وجه له.
3- . في الأصل: «لوجود».
4- . في الأصل: «مِن»، و الأنسب بالسياق ما ذكرناه.

قادرٍ مِثلُ ذلكَ ؛ لأنّه لا وجهَ معقولٌ يُمكِنُ أن يُذْكَرَ في اختلافِ القادرينَ في هذا البابِ ، و هذا يوجِبُ أن يَصِحَّ مِن أحَدِنا أن يَبتدئَ فيَدخُلَ داراً بَعدَ دُخولِه ما لا نِهايةَ له مِن الدُّورِ، و يَقتَضي أن يُصدَّقَ مَن أخبَرَنا بذلكَ عن نفسِه، أو يُجوَّزَ صِدقُه، كما يُجوَّزُ تصديقُ المُخبِرِ عن كُلِّ أمرٍ جائزٍ وقوعُه. فلمّا كانَ ذلكَ مستَحيلاً مِنّا، و أخبرَ بما(1) يُقطَعُ علىٰ كَذِبِه، عَلِمنا أنّه لَم يَجُز ماضياً؛ لمساواةِ الماضي للمستَقبَلِ في هذا البابِ .

علىٰ أنّ تَعلُّقَهم في هذا المثالِ الذي ذَكَرناه أنّه مستَقبَلٌ و ما أجازَه ماضٍ ، لا يُغني شيئاً مع ما بَيّنّاه مِن تَساوي حُكمِ الماضي و المُستَقبَلِ في هذهِ القضيّةِ .

و لو أبدَلْنا(2) لفظَ المثالِ الذي أَورَدناه إلىٰ لفظِ الماضي، [حتّىٰ ] يدُلَّ بدَلالتِه إذ(3)كانَ بلفظِ الاستقبالِ ، لَعَلِمنا بأنّ القائلَ إذا قالَ : «لَم أدخُلْ هذه الدارَ إلّابَعدَ أن دَخَلتُ ما لا نِهايةَ له مِن الدُّورِ»، أو قالَ : «لَم أدخُلْ داراً إلّابَعدَ أن دَخَلتُ داراً قَبلَها»، فإنّه متىٰ دَخَلَ داراً كاذبٌ في قولهِ ، و إن شَرطَه الذي عَقَدَه في دخولِ الدارِ لَم يَقَعْ . فبانَ وضوحُ الكَلامِ مِن كُلِّ وجهٍ .

و قد استَقصَينا الكلامَ في هذا المعنىٰ ، و ذكرنا فيه وجوهاً كثيرةً و زياداتٍ يَقتَضيها الكلامُ ، في مَقالةٍ ليَحيَى بنِ عَدِيٍّ النَّصرانيِّ المَنطِقيِّ (4)، و سَمَّيناها ب

ص: 96


1- . في الأصل: «به».
2- . في الأصل: «ولو دخلنا».
3- . في الأصل: «لدلالته إذا».
4- . يحيىٰ بن عَديّ : أبو زكريا يحيى بن عدي بن حُميد بن زكريّا النصراني المنطقي التكريتي،

«الكلام فيما يَتناهىٰ و لا يَتناهى»(1)،(2). [و] فيما ذَكَرناه(3) هنا كفايةٌ .

ص: 97


1- . ذكرها البُصروي في فهرسه لمصنّفات الشريف المرتضى، و سمّاها: «مسألة في الردّ علىٰ يحيىٰ بن عديّ النصراني فيما يتناهىٰ و لا يتناهىٰ »، فيما سمّاها ابن شهر آشوب: «نقض مقالة يحيى بن عديّ النصراني المنطقي فيما لا يتناهىٰ ». مجلّة العقيدة، العدد 3، ص 381؛ معالم العلماء، ص 105.
2- . كما أنّ للمصنّف كلاماً آخر حول هذا الموضوع، مذكوراً في مسألة له حول قِدَم العالم، أجاب فيها عَن سؤال وجّهه إليه المحقّق الكراجكي. انظر: كنزالفوائد، ص 7.
3- . في الأصل: «ذكرناها».

ص: 98

ال فصل الثاني في الدَّلالةِ علىٰ إثباتِ المُحدِثِ

اشارة

الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ التصرُّفَ الذي يَظهَرُ مِنّا - كالقيامِ و القعودِ و غَيرِهما - قد ثَبَتَ حُدوثُه بما دَلَلنا به علىٰ حُدوثِ جَميعِ الأعراضِ ، فثَبَتَ تَعلُّقُ ذلكَ بنا، و حاجتُه إلينا في حُدوثِه، دونَ سائِر صفاتِه. و هذا يَقتَضي حاجةَ كُلِّ مُحدَثٍ إلىٰ

مُحدِثٍ ؛ للمشارَكةِ في علّةِ الحاجةِ .

فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ أنّ هذه الأفعالَ تَتعلَّقُ بكم بَعدَ أن تُفسِّروا معنىٰ هذا التعلُّقِ ، و أنّها مُحتاجةٌ إليكم في حُدوثِها دونَ غيرِه(1)، و أنّ ما شارَكَها في الحُدوثِ يَحتاجُ إلىٰ محدِثٍ !(2)

البحث الأوّل: حاجة تصرّفاتنا إلينا، و تعلّقها بنا

قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ تَصرُّفَنا يَجِبُ وقوعُه و انتفاؤه بحَسَبِ أحوالِنا، مع السَّلامةِ و ارتفاعِ المَوانعِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا متىٰ أرادَ القيامَ و دَعا الداعي إليه و كان قادراً عَلَيه و غيرَ ممنوعٍ مِنه، فلا بُدَّ مِن وقوعِ القيامِ منه. و كذلك إذا كَرِهَه و صَرَفَه الصارفُ عنه، لا بُدَّ مِن انتفائِه. و لهذا نَقطَعُ علىٰ وقوعِ الأكلِ مِن الجائعِ الذي يَحضُرُه

ص: 99


1- . في الأصل: «دون غيرها».
2- . فهذهِ ثلاثة أسئلة، و سوف يجيب عنها المصنّف في ضمن ثلاثة بحوث.

الطعامُ ، و يُمَكَّنُ مِن تَناوُلِه، فإن عَرَضَ له عارضٌ و صارفٌ - مِثلُ أن يَعتقِدَ أنّ الطعامَ مسمومٌ - لَم يَقَعِ الأكلُ . و اختَلفَ الأمرُ في وقوعِه و انتفائِه بحَسَبِ أحوالِه في كَونِه عالِماً؛ لأنّ الكتابةَ لا تَقَعُ مِن الأُمّيِّ ؛ لأنّه لا يَعلَمُها، و تَقَعُ ممّن يَعلَمُها(1) مِن نساجةٍ [و تأليفٍ (2)] و غَيرِ ذلكَ . و هذا هو التعلُّقُ الذي نُشيرُ إليه، و هو معلومٌ ضَرورةً لسائرِ العقلاءِ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ التصرُّفَ مُحتاج إلينا: أنّه لَو لَم يكن بهذه الصِّفةِ ، لَم يَجِبْ له هذا التعلُّقُ الذي ذَكَرناه، كما أنّ ألوانَنا و هيئاتِنا لمّا لَم تَكُن مُحتاجةً إلينا لَم تَقَعْ بحَسَبِ أحوالِنا، و لا كانَ لنا معها هذا التعلُّقُ الذي يَحصُلُ مع تَصرُّفِنا. و كذلك أفعالُ غَيرِنا - كقيامِه و قُعودِه - لمّا لَم تَكُن مُحتاجةً إلينا (16) لَم تَتعلَّقْ بأحوالِنا. و كُلُّ هذا يَدُلُّ علىٰ ثُبوتِ حاجةِ التصرُّفِ إلينا.

فإن قيلَ : ألَيسَ قد يُريدُ الإنسانُ مِن أفعالِه ما(3) لا يَقَعُ ، فكيف ادَّعَيتُم وجوبَ ذلكَ؟

قُلنا: لَيسَ يَجوزُ أن يُريدَ ما لا يَقَعُ مع السلامةِ و ارتفاعِ الموانعِ ، و إنّما لا يَقَعُ ما يُريدُه، بأن لا يَكونَ قادراً عليه، أو بأن يَكونَ - مع كَونِه قادراً - ممنوعاً.

و قد سَقَطَ بما اشتَرطناه مِن ذِكرِ «الوجوبِ »(4) اعتراضُهم بوقوعِ (5) تَصَرُّفِ العبد بحَسَبِ إرادةِ المَولىٰ ، و تَصَرُّفِ الرَّعيّةِ بحَسَبِ إرادةِ المَلِكِ ، و وقوعِ

ص: 100


1- . في الأصل: «ويقع ممّا يعلمه».
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين كلمة غير مقروءة، و ما أثبتناه هو الأنسب بما يقتضيه السياق.
3- . في الأصل: «ممّا».
4- . و ذلك عند قوله المتقدّم: «إن تصرّفنا يجب وقوعه و انتفاؤه بحسب أحوالنا».
5- . في الأصل: «لوقوع».

ما يُريدُه أهلُ الجَنّةِ مِنَ اللّهِ تَعالىٰ علىٰ حَسَبِ ما يُريدونَه، [و وقوعِ أفعالِ المُلجَإ بحَسَبِ إرادةِ المُلجِئ](1).

و ذلكَ : أنّ سائِرَ ما طَعَنوا به و إن حَصَلَت فيه الموافَقةُ (2) فهي(3) غَيرُ واجبةٍ . و إنّما اعتبرنا في وُقوعِ أفعالِنا(4) بحَسَبِ أحوالِنا «الوجوبَ » الذي هو غَيرُ حاصلٍ هاهنا؛

ألا تَرىٰ أنّ طاعةَ العبدِ المَولىٰ و الرَّعيةِ المَلِكَ غَيرُ واجبةٍ ، و إنّما تَحصُلُ منهم الطاعةُ بحَسَبِ اعتقادِهم فيها المَنفَعةَ و دَفعَ المَضَرّةِ ، و لهذا لَو اعتَقَدَ العبدُ أو واحدٌ مِن الرعيَّةِ أنّ طاعةَ المَولىٰ أو المَلِكِ تَضُرُّه ضَرَراً عظيماً لا يَتَلافاه لَعَصاه، و كذلكَ لَو ألزَمَه مَولاه الكتابةَ و هو أُمّيٌّ لم يُطِعْه!

فقد عادَ الأمرُ إلىٰ أنّ تَصَرُّفَهم بحَسَبِ أحوالِهم، لا بحَسَبِ أحوالِ مَن يُطيعونَه.

و يَكفي في هذا المَوضِعِ أن نَجِدَ مَن يُخالِفُ مَولاه أو مَلِكَه في فِعلٍ واحدٍ، في الفَرقِ بَينَ الأَمرَينِ ؛ لأنّ المُخالَفةَ لا يمكن(5) أن يُوجِدها(6) بإزاءِ ذلكَ من يُريدُ شيئاً مِن نَفسِه و لا يَقَعُ مع السَّلامةِ .

فأمّا وقوعُ ما يُريدُه(7) أهلُ الجَنّةِ ، فمعلومٌ أنّه غَيرُ واجبِ الوجودِ الذي أرَدناه، و إنّما يَفعَلُه(8) القديمُ بحَسَبِ ما وَعَدَهم به. وَ الذي يُبيِّنُ أنّه غَيرُ واجبٍ ، أنّهم لَو

ص: 101


1- . ما بين المعقوفين أضفناه ليكون عِدْلاً لقوله: «فأمّا الاعتراض بوقوع أفعال الملجأ بحسب إرادة المجلئ».
2- . أي موافقة تصرّف العبد لإرادة المولىٰ ، و هكذا في باقي الأمثلة المتقدّمة.
3- . في الأصل: «فهو».
4- . في الأصل: «أفعاله»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «أحوالنا».
5- . في الأصل: «لا يمكنه»، و الأولى ما أثبتناه.
6- . في الأصل: «أن يوجد»، و الصحيح ما أثبتناه؛ للزوم وجود الرابط، و هو ضمير المفعول.
7- . في الأصل: «يريد»، و الصحيح ما أثبتناه؛ للزوم وجود الرابط، و هو ضمير المفعول.
8- . في الأصل: «يفعل»، و الأولى ما أثبتناه؛ لرجحان عدم تقدير المفعول.

أرادوا أن يُفعَلَ بهم مِنَ الثَّوابِ أكثَرَ ممّا يَستَحِقّونَه، لَم يَقَعْ . و كذلكَ لو أرادَ أحَدُهم أن يُسوّىٰ بَينَه و بَينَ النبيِّ صلّى اللّٰه عليه و آله في الثوابِ ، لَما وَقَعَ ما يُريدُه؛ فبانَ ما ذَكَرناه.

فأمّا الاعتراضُ بوقوعِ أفعالِ المُلجَإ بحَسَبِ إرادةِ المُلجئِ : فغَيرُ صحيحٍ أيضاً؛ لأنّ فِعلَ المُلجَإ لا يَقَعُ إلّابحَسَبِ أحوالِه، و إنّما الإلجاءُ إلَى الفِعلِ يُلجئُ إلىٰ إرادتِه، فالمُلجَأُ لا يَفعَلُ إلّاما أرادَه، و قَوِيَت(1) دَواعيهِ إليه.

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إذا كان المُلجَأُ تَقَعُ أفعالُه بحَسَبِ إرادتِه و إرادةِ مُلجئِه، فَلِمَ حَكَمتُم بتعلُّقِ الفِعلِ به دونَ مُلجِئِه، و جهةُ التعلُّقِ التي(2) اعتمدتُموها حاصلِةٌ فيهما معاً؟

و ذلكَ : أنّ الأمرَ و إن كانَ علىٰ ما ذَكَروه، فالاعتبارُ بأحوالِ المُلجَإ دونَ المُلجئِ ؛ لأنّه لَو كانَ المُلجَأُ(3) علىٰ هذه(4) الحالِ (5) مِن غَيرِ أن يَكونَ المُلجئُ عَلَيها، لَم يُخِلَّ ذلكَ بوقوعِ الفعلِ و وجوبِ وقوعِهِ ، و لَو كانَ المُلجئُ علىٰ هذه الحالِ و لَيسَ المُلجَأُ عَلَيها، لَما وَقَعَ الفِعلُ . فصارَ الاعتبارُ إنّما هو بحالِ المُلجَإ - التي مُخِلٌّ اختلافُها(6) لوقوعِ الفعلِ - دونَ حالِ المُلجئِ .

و يوضِحُ أيضاً ذلكَ ما ذكرناه مِن أنّه لَو أَلجَأَه و هو أُمّيٌّ إلى الكتابةِ ،

ص: 102


1- . في الأصل: «قوي».
2- . في الأصل: «الذي».
3- . في هامش الأصل: «الملجأ له».
4- . في الأصل: «هذا»، و قد غيّرناه لتكون العبارة مع قوله: «لو كان الملجئ على هذه الحال» على سياق واحد.
5- . اي كان مُريداً للفعل.
6- . كذا في الأصل، و الأرجح: «اختلالها».

لَم تَقَعْ (1) مِنه؛ مِن حَيثُ لَم يكُن عالِماً بها.

فإن قيلَ : ألَيسَ قد يَقَعُ بحَسَبِ قُصودِكم ما تَقولونَ : إنّه لَيسَ هو فِعلاً لكُم؛ نَحوُ الحُمْرةِ و الخُضْرَةِ الّتي تَحصُلُ (2) عندَ الضَّربِ؟ و هذا يَقتَضي أحَدَ الأمرَينِ : إمّا

فَسادَ اعتبارِكم بما يَقَعُ عندَ القصدِ، أو أن تَكونَ الألوانُ مِنْ أفعالِكم!

قُلنا: قد تَضَمَّنَ كلامُنا شَرطَينِ :

أحَدُهما: أن يَكونَ الفِعلُ حادثاً.

و الآخَرُ: أن يَجِبَ وقوعُه بحَسَبِ قُصودِنا و أحوالِنا، كالقيامِ و [القُعودِ.

و هذانِ الشَّرطانِ لَم يَثبُتا معاً في اللَّونِ الحاصِلِ ](3) عندَ الضَّربِ ؛ لأنّه لَم يَثبُتْ حُدوثُه (17) و إنّما هو لَونُ (4) الدَّمِ المُنزَعِجِ (5) مِن مَكانِه المُجتَمِعِ إلىٰ مَكانٍ آخَرَ،(6) و لهذا يَختَلِفُ بحَسَبِ صَلابةِ المَوضِعِ و رَخاوتِه، و كَثرةِ الدَّمِ و قِلَّتِه.

و أيضاً، فلَو كانَ حادثاً لَم يَلزَمْ علىٰ ما ذَكَرناه؛ لأنّه غَيرُ واجبٍ وقوعُه بحَسَبِ قُصودِنا؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا لَو ضربَ العَينَ و ما أشبَهَها مِنَ المَواضِعِ الدَّقيقةِ ، و قَصَدَ إلىٰ أنْ لا يَحصُلَ هذا اللَّونُ ، لَما كانَ أيضاً لِقَصدِه تأثيرٌ، فعُلِمَ أنّه مُفارِقُ

ص: 103


1- . في الأصل: «لم يقع».
2- . في الأصل: «يحصل».
3- . ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، ولكنّ السياق يقتضيه كما هو واضح.
4- . في الأصل: «يقولون» بدل «هولون»، و الصحيح ما أثبتناه، كما هو في مصادر اُخرى. راجع: شرح الاُصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار، ص 26 و 227.
5- . أزعَجتُه عن مَوضعِه؛ أي أزَلتُه عنه. المصباح المنير، ج 1، ص 253 (زعج).
6- . أي أنّ لون البشرة الأحمر الحاصل عند الضرب، لم يكن غير موجود قبل الضرب ثمّ حَدَث عنده، بل كان موجوداً قبل الضرب، فإنّه ليس في الحقيقة إلّالون الدم الأحمر الذي تحرّك نتيجة الضرب من مكان إلىٰ مكان، و هذا علىٰ خلاف القيام مثلاً، فإنّه لم يكن موجوداً قبل إرادته، ثمّ حَدَث عندها.

الأفعالِ الواقعةِ بحَسَبِ قُصودِنا.

فإن قيلَ : إذا جازَ عندَكم أن يَفعَلَ القَديمُ تَعالىٰ فيكُم هذا التصرُّفَ بحَسَبِ قُصودِكم، و لَم يُمكِنْكم أن تَمتَنِعوا مِن أحوالِ كَونِه قادراً علىٰ ذلك، فأَلّا يَمنَعُكم(1)ذلكَ مِن القَطعِ علىٰ تَعلُّقِ قُدَرِ(2) التصرُّفِ بكم لهذا التَّجويزِ، و يُشَكِّكُكُم في وقوعِ ما جَزمتمُوه ؟(3)

قُلنا: كُلُّ سؤالٍ لا يَصِحُّ إلّابَعدَ صحّةِ ما يَقدَحُ به فهو باطلٌ ؛ لأنّ صحّتَه تَقتَضي صحّةَ ما اعتَرَضَ بالسؤالِ عَلَيه، و صحّةُ ذلكَ تَقتَضي بُطلانَ السؤالِ .

و تفسيرُ هذه الجُملةِ : أنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَصِحُّ إثباتُه بصِفاتِه إلّابَعدَ أن يَثبُتَ تَعلُّقُ ما يَظهَرُ مِن التصرُّفِ بنا(4)، و حُدوثُه(5) مِن جهتِه(6)؛ لِيَبتَنيَ علىٰ ذلكَ حاجةُ كُلِّ مُحدَثٍ إلىٰ مُحدِثٍ ، ثُمّ يَثبُتَ له مِن الصِّفاتِ ما تَقتَضِيه الأدلّةُ . و لا طريقَ إلىٰ إثباتِ مُحدِثٍ للأجسامِ إلّابذا دونَ غَيرِه.

ص: 104


1- . في الأصل: «تمنعكم».
2- . في هامش الأصل عن بعض النسخ: «هذا» بدل «قدر».
3- . أي أنّ من المحتمل أن يُحدِث اللّٰه تعالى التصرفَ وفقاً لقصد الإنسان، و هذا أمر لا يمكن نفيُ قدرته تعالىٰ عليه، فإذا جاز ذلك لم يمكن الجزم بأنّ تصرّف الإنسان متعلّقٌ به.
4- . متعلّق ب «تعلّق».
5- . جاء في حاشية الأصل: «فإنّا لو جوّزنا أن يكون ما يظهر من التصرّف منّا - مع حدوثه بحسب قصودنا و دواعينا - لم يكن متعلّقاً بنا، ولم نكن نحن مع هذه العلاقة قادرين عليه، كيف يمكننا إثبات أنّه تعالى قادرٌ، أو السبب في ذلك هو حدوث العالَم بحسب قصده و دواعيه، و المفروض أنّه لا يدلّ ذلك عليه ؟! بل نقولُ : هذا التجويز سدٌّ لباب إثبات الصّانع، فإنَّه مع تجويز أن لا يكون ما يظهر من التصرّف - مع كونه حادثاً بحسب قصدنا - متعلّقاً بنا و محتاجاً إلينا، ولا يكونُ لنا فيه تأثيرٌ، لم يمكن الحكم بأنّ الحادث محتاجٌ إلى مُحْدِثٍ . فتأمّل».
6- . في هامش الأصل: «أي من جهة ظهوره منّا».

و قد بَيَّنَ الشُّيوخُ صحّةَ هذا(1) الطريقِ في غَيرِ مَوضِعٍ ، و لَعَلَّنا أن نَشرَحَها في(2)باقي الكتابِ إن عَرَضَ ما يُحتاجُ فيه إلىٰ شَرحِها.(3)

و إذا ثَبَتَ أنّه لا طَريقَ إلىٰ إثباتِ القَديمِ تَعالىٰ بصفاتِه(4) إلّاما ذَكَرناه، فكيفَ يَصِحُّ أن يُعترضَ بما يَتضمَّنُ إثباتَ القَديمِ ، علىٰ ما لَولا ثُبوتُه و صحّتُه لَما ثَبَتَ القَديمُ تَعالىٰ ، و هو تَعلُّقُ التصرُّفِ بمَن ظَهَرَ مِنه ؟ و هذا واضحٌ .

فإن قيلَ : فهَبُوا أنّ السؤالَ فَسَدَ مِن هذا الوَجهِ إذا أُورِدَ هذا المَورِدَ، لكنْ إذا كنتم تُجَوِّزونَ قَبلَ إثباتِ القَديمِ تَعالىٰ بصفاتِه(5) أن يَكونَ مُحدِثُ العالَمِ بهذه الصِّفاتِ ؛ لأنَّ التجويزَ لا يَفتَقِرُ إلى الأدلّةِ ، و إنّما يَفتَقِرُ إليها القَطعُ ، فالسؤالُ باقٍ بحالِه؛ لأنّه يُقالُ : جَوِّزوا أن يَكونَ هذا التصرُّفُ فيكم مِن فِعلِ مَن جَوَّزتُم(6) كَونَه قادراً علىٰ أن يَفعَلَه فيكم علىٰ هذا الوَجهِ !

قُلنا: الجوابُ عن(7) ذلك - إذا أُورِدَ هذا المَورِدَ - هو أنّه قد ثَبَتَ تعلُّقُ هذا التصرُّفِ [بنا]، و وقوعُه بحَسَبِ أحوالِنا، فلَو كانَ له فاعلٌ غَيرُنا، لَم يَكُن بَينَه و بينه مِنْ تَعلُّقٍ (8) أكثَرَ مِن التعلُّقِ الذي له معنا؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُشارَ في تَعلُّقِ الفِعلِ بفاعلِه إلىٰ أوكَدَ ممّا(9) ذَكَرناه. و إذا كُنّا لَو أثبَتنا له فاعلاً لَكانَ تعلُّقُه به علىٰ هذا

ص: 105


1- . في الأصل: «هذه»، و الأنسب ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «من».
3- . سوف يتطرّق المصنّف مرّة أُخرىٰ إلىٰ هذا البحث في أواخر الكتاب، ج 2، ص 316-317.
4- . في الأصل: «بصفاتها».
5- . في الأصل: «لصفاته».
6- . في الأصل: «جوّزكم».
7- . في الأصل: «من».
8- . كذا في الأصل، و الأولى: «من التعلّق».
9- . في الأصل، «ما».

الوجهِ ، وجبَ القَطعُ علىٰ كَونِه فِعلاً لمَن عُلِمَ تعلُّقُه به، دونَ غيرِه، و دونَ مَن جُوِّزَ ذلكَ فيه؛ لأنّه لَيسَ يُمكِنُ أن يَثبُتَ بهما؛ لاستحالةِ وقوعِ الفِعلِ من فاعِلَينِ .

قيلَ في هذا: إنّ حُكمَ الفاعلِ لا بُدَّ أن يَكونَ معقولاً قَبلَ إضافةِ الفِعلِ إلىٰ فاعلٍ مخصوصٍ ، فمَن قيلَ له: جَوِّزْ أن يَكونَ التصرُّفُ الذي يَظهَرُ منكَ فِعلَ غَيرِكَ فيكَ ، لا بُدَّ أن يَكونَ عندَه كَيفيّةُ إضافةِ الفِعلِ إلىٰ فاعلِه و أحكامُه التي بها يَكونُ فِعلاً له، و لَيسَ يَعقِلُ أحَدٌ مِن ذلكَ إذا ما عَقَلَه إلّابتصرُّفِه(1) معه.

و هذا يرجِعُ إلىٰ ما ذَكَرناه و أوضَحناه؛ أنّا قد بينّا وجوبَ وقوعِ تَصرُّفِه بحَسَبِ أحوالِه، فلَو كانَ فِعلاً لغَيرِه فَعَلَه علىٰ هذا الوجهِ فيه اختياراً لَما وَجَب ما ذَكَرناه؛ لأنّ وجوبَه مُنافٍ . و مَن أدخَلَ شُبهةً في وجوبِ ذلكَ ، و عَلَّقَه باختيارِ مُختارٍ، و كذلك سائِرُ الواجباتِ ، فهذا(2) يؤَدّي إلَى التجاهُلِ !

فإنْ قيلَ : لَو كانَ وجوبُ وقوعِ التَّصرُّفِ بحَسَبِ قُصودِكم يَقتَضي (18) كَونَه فِعلاً لكم، لَوجبَ أن يَكونَ ما لَيسَ بهذه الصفةِ لَيسَ بفِعلٍ لكم، و هذا يوجِبُ أن

يَكونَ تصرُّفُ الساهي و النائمِ فِعلاً لغَيرِهما! بل لَوجبَ أن تَكونَ (3) الإرادةُ خارجةً مِن أفعالِ العبادِ!

فَمِثلُ ما ذَكَرناهُ مِنَ الاعتبارِ إنّما هو دَلالةٌ لا حَدٌّ، و الدَّلالةُ لا يَجِبُ فيها العَكسُ (4)، و إنّما يَجِبُ ذلكَ في الحُدودِ(5). و لَيسَ نَمنَعُ إثباتَ الحُكمَينِ المُتَماثِلَينِ بدَليلَينِ مُختَلِفَينِ .

ص: 106


1- . في الأصل: «لتصرّفه».
2- . في الأصل: «هذا».
3- . في الأصل: «يكون»، و الأولى ما أثبتناه بقرينة قوله: «خارجة».
4- . و إنّما يجب فيها الطردُ فقط. ديوان الأُصول، ص 313.
5- . و ما ذكرتموه فإنّه عكس الدلالة. (المصدر السابق).

و وجودُ مِثلِ مدلولِ الدَّلالةِ مع فَقدِها لا يَكونُ نقصاً، و إنّما النقصُ وجودُ الدَّلالةِ مع فَقدِ مدلولِها؛ لأنّ ذلكَ هو الذي يُخرِجُها مِن كَونِها دَلالةً ؛ ألا تَرىٰ أنّا نُثبِتُ حُدوثَ الأجسامِ بدليلٍ لا يَتَأتّىٰ في حُدوثِ الأعراضِ ، و إنّما نُثبِتُ حُدوثَ الأعراضِ بدليلٍ آخَرَ، و لا يَقتَضي ذلكَ فَساداً؟ لأنّ الدلالةَ كاشِفةٌ و لَيسَت بعِلّةٍ موجِبةٍ . و لا يَمتَنِعُ أن تَكشِفَ (1) عن الأشياءِ المُتماثِلِة الأشياءُ المُختَلِفةُ .

فإن قيلَ : فما الذي يَدُلُّ علىٰ إثباتِ تَصرُّفِ الساهي و النائمِ فِعلاً لهما، و علىٰ أنّ الإرادةَ فِعلٌ لكم،(2) إذا كانَ ما ذكرتُموه مِن الطريقةِ لا تَتَأتّىٰ فيه ؟

قُلنا: هذا ممّا لا يَلزَمُ في هذا المَوضِعِ ؛ لأنّ قَصدَنا يَتِمُّ مِن دونهِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا إنّما أجرَينا في هذا الكلامِ إلىٰ إثباتِ حَوادثَ تَتعلَّقُ بِنا مِن حَيثُ كانت مُحدَثةً ؛ لِنَبنيَ علىٰ ذلكَ حاجةَ كُلِّ المُحدَثاتِ إلىٰ مُحدِثٍ؟ و هذا يَتِمُّ و إن لَم يَدُلَّ علىٰ أنّ جميعَ تَصَرُّفِنا في جميعِ الأفعالِ فِعلٌ لنا، غَيرَ أنّا نَتبرَّعُ بذِكرِه حَتّىٰ لا يَدخُلَ مِن جهتِه شُبهةٌ .

[1.] فنقولُ : فِعلُ الساهي أو النائمِ و إن لَم يَقَع بحَسَبِ قُصودِه، فمعلومٌ أنّه لَو كانَ عالِماً بالفِعلِ له و لمن يَقصِدُ إليه(3)، و هو غَيرُ ساهٍ عنه، لَوقعَ بحَسَب قَصدِه، و يُخالِفُ في هذه القضيَّةِ فِعلَ غَيرِه الذي لا يَجِبُ ذلكَ فيه.(4) و لهذا رُبَّما [يُحتَرَزُ](5)

ص: 107


1- . في الأصل: «يكشف». و الأولى ما أثبتناه.
2- . فهذان إشكالان: أحدهما يتعلّق بالساهي و النائم، و الآخر بالإرادة، و سوف يجيب المصنّف عنهما، كلّ علىٰ حدة، بعد تقديم مقدّمة مختصرة.
3- . في الأصل: «إليها». و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ الضمير راجع إلى الفعل في قوله: «فعل الساهي». وهكذا الكلام في قوله: «عنه».
4- . فإنّه لو كان عالماً بفعل غيره و قاصداً إليه، لم يقع بحسب قصده و داعيه.
5- . في الأصل بدلَ ما بين المعقوفين كلمة لا تقرأ، و ما أثبتناه هو ما يقتضيه السياق.

مِن هذا السؤالِ [بالتصرّف] في أصلِ الاستدلالِ بأن يُقالَ : إنّ تَصَرُّفاتِنا يَجِبُ وُقوعُها(1) بحَسَبِ قُصودِنا إمّا حقيقةً أو تقديراً؛ فيُحتَرَزُ(2) بذِكرِ «التقديرِ» مِن تصرُّفِ السّاهي و مَن جَرىٰ مَجراه.

و أيضاً، فإنّ الساهيَ و إن لَم يَقَعْ (3) تصرُّفُه بحَسَبِ قَصدِه، فإنّه [يقع] بحَسَبِ حالٍ له أُخرىٰ ، و هو كونُه قادراً؛ ألا تَرىٰ أنّ القويَّ إذا نامَ كأنّه يَقَعُ منه مِنَ التصرُّفِ و الاعتمادِ علىٰ مقدارِ قوّتِه، و لا يَقَعُ ذلكَ مِن الضعيفِ و المريضِ النائِمَينِ؟ فَعُلِمَ بذلكَ أنّ التصرُّفَ مِن فِعلِه؛ لوقوعهِ بحَسَبِ أحوالِه؛ لأنّ تصرُّفَ غَيرِه لا يَجِبُ وقوعُه بحَسَبِ كَونِه هو قادراً.

فإن قيلَ : و الأصَحُّ الاستدلالُ بهذه الطريقةِ في أصلِ الاستدلالِ .

قلتُ : لا؛ لأنّه إذا لَم يَثبُتْ كَونُ أحَدِنا فاعلاً، لَم يَصِحَّ إثباتُه قادراً؛ لأنّ التوصُّلَ إلىٰ إثباتِ حالِ القادرِ إنّما هو بصحّةِ الفِعلِ ، فإذا لَم نَعلَمْ في أحَدِنا - بمِثلِ ذلكَ الاستدلالِ - صحّتَه، لا سَبيلَ إلى إثباتِه قادراً، فَضلاً عن أن نَعلَمَ وقوعَ تَصرُّفِه بحَسَبِ هذه الحالِ .(4)

و إذا عَلِمنا(5) بالطريقةِ المتقدِّمةِ أنّه فاعلٌ لِما يَقَعُ بحَسَبِ قُصودِه، و أثبتناهُ قادراً بقُدرةٍ يَجوزُ عليها، و عَلِمنا أنّ النَّومَ و السَّهوَ(6) و ما جَرىٰ مَجراهما لا يَنفي القُدَرَ، صَحَّ لنا الاستدلالُ علىٰ أنّ تصرُّفَه في حالِ نَومِه واقعٌ بحَسَبِ الحالِ التي عَلِمنا

ص: 108


1- . في الأصل: «وقوعه».
2- . في الأصل: «فيجوز»، وليس له معنى محصّل.
3- . في الأصل: «لم تقع».
4- . أي كونه قادراً.
5- . في الأصل: «علمناه».
6- . في الأصل: «السهر».

حالَه في حالِ يَقَظَتِه، و أنّ النَّومَ لا يُضادُّها و لا يُخرِجُه عنها. فصَحَّ بذلكَ الاستدلالُ بهذه الطريقةِ في الثاني، دونَ الأوّلِ .

[2.] و أمّا الإرادةُ نَفسُها: فالذي يَدُلُّ علىٰ أنّها فِعلُه، أنّها تَقَعُ تابعةً لدَواعيهِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ الداعِيَ الذي يَدعو إلَى الأكلِ يَدعوه إلىٰ فِعلِ إرادةِ الأكلِ ، و الصارِفَ الذي يَصرِفُ عنه أو عن غَيرِه مِن الأفعالِ يَصرِفُه(1) عَن فِعلِ الإرادةِ ، و يَدعوه إلىٰ فِعلِ (19) الكَراهةِ؟! و هذا واضحٌ .

البحث الثاني: في حاجة تصرّفاتنا إلينا في حدوثها

و إذا ثَبَتَ حاجةُ «التصرُّفِ الذي يَظهَرُ مِنّا» إلينا و تَعَلُّقُه بنا، فالذي يَدُلُّ علىٰ أنّه إنّما احتاجَ إلينا في ذلكَ (2) دونَ غَيرِه: أنّ (3) غَيرَ الحُدوثِ لَيسَ له هذا الحُكمُ الذي ذَكَرناه؛ ألا تَرىٰ أنّ العالِمَ مِنّا لمّا احتاجَ في كونِه عالِماً إلىٰ عِلمٍ ، احتاجَ إليه في الصفة التي تَتجدَّدُ له عندَ وجودِه، و هي كونُه عالِماً، دونَ سائِر صفاتِه. و السَّوادَ لمّا احتاجَ في انتفائِه إلَى البَياضِ ، احتاجَ إليه فيما يَحصُلُ عندَ وجودِه، و هو الانتفاءُ؟! فكذلكَ التصرُّفُ إذا كانَ مُحتاجاً إلينا، فيَجِبُ أن يَكونَ وجهُ حاجتِه مِن الصفةِ المُتجدِّدةِ له عندَ قُصودِنا، و هي الحُدوثُ .

فإن قيلَ : ألّاأثبتُّم حاجةَ التصرُّفِ إليه مِن حيثُ كانَ كَسباً؟

ص: 109


1- . في الأصل: «تصرفه».
2- . في الأصل: «من ذلك» و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما جاء في بداية هذا الفصل من قوله: «و إنّهامحتاجة إليكم في حدوثها دون غيره». و بهذا اتّضح أنّ المراد ب «ذلك» في قوله هنا: «إنّما احتاج إلينا في ذلك دون غيره» هو حدوث التصرّف، و سوف يأتي في العبارة التالية من المتن ما يدلّ على ذلك.
3- . في الأصل: «لأنّ ».

قُلنا: تعليقُ الحاجةِ لصفةٍ مِن صِفاتِ الفِعلِ ، يَقتَضي كَونَ تلكَ الصفةِ معقولةً للعقلِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا لمّا عَلَّقنا الحاجةَ بالحُدوثِ لَم نُحِلْ علىٰ أمرٍ مجهولٍ ، بَل علىٰ ما يَعقِلُه كُلُّ عاقلٍ ، و إنِ احتاجَ في المعرفةِ بتعلُّقِ الحاجةِ به إلىٰ ضَربٍ مِن الاستدلالِ . و لَيسَ يُعقَلُ ما يَدَّعيهِ خُصومُنا مِن مَعنَى الكَسبِ . و علىٰ مَن اعتَرَض بذلكَ أن يُعَقِّلَنا أوّلاً هذه الصفةَ ، ثُمّ يُنازِعَ في تَعلُّقِ الحاجةِ بها. و سنُشبِعُ الكلامَ في الكَسبِ ، و نوضِحُه فيما يأتي مِن الكتابِ ، بعَونِ اللّهِ و مَشيّتِه.(1)

علىٰ أنّ الكَسبَ لَو كانَ معقولاً كما يَدَّعونَ (2)، و جازَ تعلُّقُ الحاجةِ به، لَم يُنافِ ذلكَ تَعلُّقَها بالحُدوثِ ؛ لأنّ غايةَ حالِ الكَسبِ أن يَكونَ لها مع التصرُّفِ مِن العَلاقةِ مِثلُ ما ذَكَرناه مِن الحُدوثِ ؛ فالاعتراضُ بالكَسبِ في هذا المَوضِعِ [مَردودٌ] علىٰ كُلِّ حالٍ .

فإن قيلَ : إذا اعتَبَرتُم في حالِ إضافةِ التصرُّفِ إليكم ما يَتجدَّدُ له عندَ قُصودِكم، فقد يَتجدَّدُ له غَيرَ الحُدوثِ صِفاتٌ كثيرةٌ ؛ نَحوُ كَونِه خَبَراً أو أمراً أو حَسَناً و قَبيحاً و حالاًّ في المَحَلِّ و غَيرَ ذلكَ ، فألا حَكَمتم بحاجتِه إلَى الفاعلِ في كُلِّ ذلك، أو فَرَّقتُم بَينَ ما ذَكَرتُموه و بَينَ الحُدوثِ؟

قُلنا: إذا ثَبَتَت حاجتُه إلينا في الحُدوثِ ، فما يَتبَعُ الحُدوثَ - و هو كالفَرعِ عَلَيه - لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُحتاجاً إلينا فيه،(3) إلّاأنّ الحُدوثَ هو الأصلُ .

ص: 110


1- . يبدو أنّ المصنّف لم يتمكّن من تفصيل البحث عن الكسب في هذا الكتاب بسبب انقطاع إملائه، لكنّه بحث عنه في بداية كتاب الذخيرة الذي يُعدّ تتمة لهذا الكتاب، و ذلك في فصل يَحمل عنوان «في إفساد قولهم بالكسب».
2- . في الأصل: «تدّعون»، و الأنسب للسياق ما أثبتناه.
3- . أي لابدّ أن يكون التصرّف محتاجاً إلينا فيما يتبع الحدوث.

و نَحنُ نُثبِتُ الفِعلَ مُحتاجاً إلى مَن ظَهَرَ منه في كَونِه خَبَراً أو أمراً أو حَسَناً و قبيحاً؛ لأنّ كُلَّ ذلك ممّا يَتبَعُ الحُدوثَ ، و الحاجةُ في الحُدوثِ تَقتَضيهِ (1).

فأمّا حُلولُ الفِعلِ في المَحَلِّ (2) فلَيسَ بصفةٍ زائدةٍ ، و لَيسَ لِمَا حَلَّ المَحَلَّ مِن الأفعالِ صفةٌ زائدةٌ علَى الحُدوثِ ، و تَتعلَّقُ (3) الحاجةُ بها.

البحث الثالث: حاجة كل مُحدَث إلىٰ مُحدِث

فإن قيلَ : فما الدليلُ علىٰ أنّ كُلَّ مُحدَثٍ يَحتاجُ إلى مُحدِثٍ؟ و ما تُنكِرونَ أن تَكونَ الأجسامُ و إن شارَكَت أفعالَكم في الحُدوثِ ، فإنّها تُخالِفُها في الحاجةِ إلى مُحدِثٍ ؛ لمُخالِفَتها لها في الجنسِ؟

قُلنا: إذا ثَبَتَ أنّ أفعالَنا إنّما احتاجَت إلىٰ مُحدِثٍ لِحُدوثِها، لا لكَونِها مِن جنسٍ مخصوصٍ ، و شارَكَتها الأجسامُ في علّةِ الحاجةِ ، وجبَ أن تُشارِكَها(4) في الحاجةِ ؛ لأنّ المُشارَكةَ في العلّةِ تَقتَضي المُشارَكةَ في الحُكمِ الواجبِ عنها.

و بعدُ: فإنّ أفعالَنا أجناسٌ مُختَلِفةٌ ، و هي مع اختلافِ أجناسِها تَحتاجُ إلَى المُحدِثِ ، و لَيسَ مُخالَفةُ الأجسامِ لأجناسِ أفعالِنا بأكثَرَ مِن خِلافِ بعضِها لبعضٍ ، و إذا كانَ اختلافُ أجناسِها لا يَمنَعُ مِن حاجةِ الجميعِ إلَى المُحدِثِ ، وجبَ مِثله في الأجسامِ .

فإن قيلَ : ما تُنكِرون(5) أن تَكونَ أفعالُكم إنّما احتاجَت إلَى المُحدِثِ ؛ لأنّها

ص: 111


1- . في الأصل: «يقتضيه».
2- . هذا جواب ما تقدّم قبل قليل في كلام المستشكِل من قوله: «و حالاًّ في المحلّ ».
3- . في الأصل: «يتعلّق».
4- . في الأصل: «يشاركها». و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «و شاركتها».
5- . في الأصل: «ما ينكرون».

حَدَثَت مع جَوازِ (20) أنْ لا تَحدُثَ (1)؛ لأنّ حُدوثَها لَو وجبَ لَاستَغنَت عن مُحدِثٍ ؛ و لهذا تَحتاجونَ في إثباتِ الحركةِ إلَى الدَّلالةِ علىٰ أنّ الجِسمَ تحرَّكَ مع جَوازِ أن لا يَتحرَّكَ . و هذا يوجِبُ عَلَيكم أن تَدُلّوا علىٰ أنّ الأجسامَ لَم يَجِبْ حُدُوثُها، و إلّا فكلامُكم غَيرُ مُستَمِرٍّ و لا مُنقَطِعٍ .

قُلنا: قد أُجيبَ عن هذا السؤالِ بأن قيلَ : لَيسَ نَحتاجُ في إثباتِ مُحدِثٍ لأفعالِنا إلىٰ ما نَحتاجُ إليه مِن إثباتِ الحركةِ ؛ لأنّ أفعالَنا سَبَقَ العِلمَ بِتعلُّقِها بنا النظَرُ في أنّها حدثت(2) مع جَوازِ أن لا تَحدُثَ ، فيُستَدَلُّ مِن بَعدُ [علىٰ ] أنّها متعلِّقةٌ (3) بنا. علىٰ أنّ حُدوثَها جائزٌ غَيرُ واجبٍ ؛ إذ لَو كانَ واجباً لَم يَحصُلْ هذا التعلُّقُ المخصوصُ . فإذا استَدلَلنا مِن بَعدُ [علىٰ ] أنّها تَعلَّقَت بنا مِن حَيثُ كانَت مُحدَثةً (4)، قَضَينا علىٰ كُلِّ مُحدَثٍ بالحاجةِ إلىٰ مُحدِثٍ قَبلَ النظَرِ في جَوازِ حُدوثِه أو وجوبِه(5)، و إذا عَلِمنا حاجتَه إلَى المُحدِثِ عَلِمنا أنّ حُدوثَه غَيرُ واجبٍ .

و لَيسَ هذا كسَبيلِ (6) الحركةِ ؛ لأنّا نَعلَمُ تَعلُّقَ كَونِ الجسمِ متحرِّكاً [بالحركة] ِ ،(7)كما نَعلَمُ تَعلُّقَ الفِعلِ بالواحدِ مِنّا، فلا بُدَّ مِن أن يُستَدَلَّ علىٰ جَوازِ الصفةِ ، و أنّها غَيرُ واجبةٍ ؛ لِيُعلَمَ استنادُها إلىٰ فاعلِها؛(8) ففارَقَ ذلكَ بابَ إثباتِ المُحدِثِ .

و هذا و إن كانَ صحيحاً، فيُمكِنُ أن يُقالَ فيه: ما تُنكِرونَ - بَعدَ عِلمِكم بتَعلُّقِ

ص: 112


1- . في الأصل: «لأنّها حدث مع الجواز أن لا يحدث».
2- . في الأصل: «أنّه حديث».
3- . في الأصل: «متعلّق».
4- . في الأصل: «كان محدثاً».
5- . في الأصل: «أو وجوده».
6- . في الأصل: «هذهِ للسبيل».
7- . ما بين المعقوفين أوردناه من هامش الأصل، وهو لازم؛ ليتمّ معنى «تعلّق».
8- . في الأصل: «فاعله».

الأفعالِ بكم و حاجتِها إليكم، و استدلالِكم بذلكَ علىٰ أنّ حُدوثَها غَيرُ واجبٍ - أن تَكونَ (1) إنّما احتاجَت إليكم لِحُدوثِها مع جَوازِ أن لا تَحدُثَ (2) لا لِمجرَّدِ حُدوثِها؟! و كيف تَدفَعونَ ذلكَ و أنتم تَقولونَ : إنّ العالِمَ مِنّا لَم يَحتَجْ إلَى العِلمِ لِمجرَّدِ كَونِه عالِماً، بل لأنّه عَلِمَ مع جَوازِ أنْ لا يَعلَمَ ، و كذلكَ تَقولونَ في القادرِ و الحَيِّ (3)؟!

و لَيسَ لكم أن تَقولوا: إنّ الفِعلَ لا يَجوزُ أن يَحتاجَ إلَى الفاعلِ في صفةٍ لا تَتجدَّدُ(4)عندَ قَصدِه، و تَقولونَ (5): إنّ الحُدوثَ هو المتجدِّدُ عندَ القَصدِ، دونَ كَونِه جائزَ(6)الحُدوثِ و ممّا يَجوزُ أن لا يَحدُثَ .

و ذلك: أنّ كُلَّ هذا يَلزَمُكم في العالِمِ و القادِرِ و مَن جَرىٰ مَجراهما.

و يُقالُ لكم: يَجِبُ أن يَحتاجَ العالِمُ مِنّا إلَى العِلمِ في الصفةِ المتجدِّدةِ عندَ وجودِ العِلمِ ، [و] هي(7) كَونُه عالِماً، دونَ كَونِه ممّن يَجوزُ أن يَعلَمَ و أن لا يَعلَمَ .

و كُلُّ هذا يوجِبُ الدَّلالةَ علىٰ أنّ الأجسامَ لا يَجِبُ وجودُها.

و نَحنُ نَدُلُّ علىٰ ذلكَ لِتَزولَ الشُّبهَةُ فيه، فنَقولُ : لَو وجبَ وجودُ الجسمِ لَم يُفصَلْ (8)

مِن سائرِ الصِّفاتِ الراجعةِ إلىٰ ذاتِه. و لَو رَجَعَ وجوبُه(9) إليها لَوجبَ أن يَكونَ مَوجوداً فيما لَم يَزَلْ ، و ذلكَ يَقتَضي قِدَمَه، و قد ثَبَتَ حُدوثُه.

ص: 113


1- . في الأصل: «أن يكون».
2- . في الأصل: «أن لا يحدث».
3- . في الأصل: «الحقّ »، و ما أثبتناه هو الأنسب للبحث.
4- . في الأصل: «لا يتجدّد».
5- . الواو في قوله: «و تقولون» حاليّة.
6- . في الأصل: «لجاز»، والصحيح ما أثبتناه؛ لأنّه خبر لقوله: «كونه».
7- . في الأصل: «هو».
8- . في الأصل: «يقصد». و الذي أثبتناه هو المذكور في هامش الأصل.
9- . في الأصل: «وجوده»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة صدر العبارة.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَجعَلَ وجودَه [مشروطاً]، فإن رَجَعَ إلىٰ كونِه(1) مَشرُوطاً بالتحيّزِ(2)، فإنّ (3) التحيُّزَ له شَرطٌ معقولٌ و هو الوجودُ - فحُصولُه مَوقوفٌ علىٰ شَرطٍ - و الوجودُ(4) مُحالٌ أن يُشرَطَ بالوجودِ.

علىٰ أنّ مَن قَدَرَ أن يَطعَنَ بهذه الشُّبهَةِ في إثباتِ الصانعِ فقَد أخطَأَ؛ لأنّ إثباتَه يَصِحُّ مع تَجويزِ وجوبِ وجودِ الأجسامِ ؛ لأنّها لو وجبَ وجودُها، لَكانَ لا بُدَّ مِن كَونِها في جهةٍ مِن الجهاتِ ، و قد دَلَّلنا على أنّ اختصاصَ الجَوهرِ بالجهةِ لا يَكونُ إلّا موجَباً عن الكَونِ ، فلا بُدَّ مِن إثباتِ فاعلِ الكَونِ في الجَوهرِ الّذي وَجَبَ بالتقديرِ وجودُه، و لا بُدَّ أن يَكونَ مِن غَيرِ قَبيلِ الأجسامِ . فبان أنّ ذلكَ لا يَطعَنُ في إثباتِ الصانعِ .

و مِن وجهٍ آخَرَ: و هو أنّه قد يُمكِنُ إثباتُ الصانعِ بالأعراضِ التي لا تَدخُلُ تَحتَ مقدورِنا؛ كَالألوانِ و الطُّعومِ و ما شاكَلَها. و إذا ثَبَتَ ذلكَ أمكَنَ أن يُجابَ عن الشُّبهةِ في (21) وجوبِ وجودِ الأجسامِ ممّا يُبنىٰ عَلَيه، فنَقولُ : لَو وجبَ وجودُ الأجسامِ ، لَوَجبَ (5) أن تَكونَ مماثِلةً للقَديمِ الذي قد ثَبَتَ وجودُه بما يَخرُجُ (6) عن مقدورِنا مِن الأعراضِ ، فيُجعَلُ ذلكَ طريقةً يَصِحُّ الاعتمادُ [عَلَيها]. و كلُّ هذا واضِحٌ بحَمدِ اللّٰهِ .

ص: 114


1- . في الأصل: «ذاته»، و الصحيح ما أثبتناه كما هو معلوم من سياق البحث.
2- . في الأصل: «كالتحيّز».
3- . في الأصل: «لأنّ »، و الصحيح ما أثبتناه جواباً للشرط.
4- . في الأصل: «فالوجود»، و السياق يؤيّد ما أثبتناه.
5- . في الأصل: «لوجبت».
6- . في الأصل: «يجري»، و الذي أثبتناه هو المذكور في هامش الأصل.

البابُ الثاني الكلامُ في الصِّفاتِ

القسم الأوّل: الصفاتُ الثبوتيّةُ الذاتيّة

اشارة

ص: 115

ص: 116

ال فصلُ الأوّل في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ
اشارة

[ال] فصلُ [الأوّل] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ(1)

الدليل الأوّل

الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا وَجَدنا في الشاهِدِ ذاتاً يتَأتّىٰ مِنها الفِعلُ ، و ذاتاً اُخرىٰ تُشارِكُها في جميعِ صفاتِها المعقولةِ - كنَحوِ كَونِها موجودةً و حَيّةً و عالِمةً - و مع ذلكَ فيَتعذَّرُ منها الفِعلُ .

و لَو لَم يَختَصَّ مَن تَأتّىٰ مِنه الفِعلُ بحالٍ أو صفةٍ لَيسَت لِمَن تَعذَّرَ عَلَيه، لَم يَكُن بالتأتّي أَولىٰ مِنَ التعذُّرِ، و لا كانَ مَن تَعذَّرَ عَلَيه بذلكَ أَولىٰ مِن غَيرِه. فثبَتَ الاختصاصُ بحالٍ لَيسَت حاصلةً لِمَن تَعذَّرَ عَلَيه الفِعلُ .

و وَجَدنا أهلَ اللُّغةِ يُسَمّون مَن كانَ علىٰ هذه الحالِ : «قادِراً». فأَثبَتنا الحالَ بالدَّلالةِ التي ذَكَرناها، و رَجَعنا في التسميةِ إلىٰ أهلِ اللُّغةِ .

و إذا ثبَتَ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قد تأتّىٰ مِنه الفِعلُ ، فيَجِبُ أن يَكونَ قادِراً؛ لأنّ مدلولَ الدَّلالةِ لا يَختَلِفُ .

فإن قيلَ : و مَن هذا الذي وَجَدتُموه في الشاهِدِ يَتعذَّرُ عَلَيه الفِعلُ ، مع مُشارَكتِه

ص: 117


1- . في هامش الأصل: «في إثبات القدرة لمحدث الأجسام».

في الصفاتِ التي ذَكَرتُموها؟

قلنا: قد عَلِمنا أنّ المريضَ المُدْنِفَ (1) قد يَنتَهي به الحالُ في المرضِ إلىٰ أن يَتعذَّرَ عليه تحريكُ أعضائِه، و تصريفُ يَدِه و رِجلِه، مع احتمالِ يَدِه للحركةِ ؛ بدَلالةِ أنّ غَيرَه لَو حَرَّكَها لَتحرَّكَت، فلا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ ذلكَ لِخُروجِ اليَدِ عن احتمالِ الحركةِ . و إذا ثَبَتَ تَعذُّرُ الفعلِ تَمَّ ما أرَدناه.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ المريضَ إنّما لَم يَتَأتَّ مِنه تحريكُ يَدِه لِنُقصانِ قُدَرِه،(2)و إنّه يَحتاجُ في تحريكِها إلىٰ زيادةِ قُدَرٍ، فلهذا لَم يَتأتَّ مِنه التحريكُ ، دونَ خروجِه مِن كَونِه قادراً.

و ذلكَ : أنّ تحريكَ الإنسانِ لِعُضوِ نَفسِه لا يَحتاجُ فيه إلىٰ زيادةِ قُدَرٍ لا يَجري تحريكُه لأعضائِه مَجرىٰ تحريكِه لِغَيرِه.

و الذي يُبيِّنُ ذلكَ : أنّه لا يَثقُلُ عَلَيه - علَى اختلافِ أحوالِه - تحريكُ يَدِه متىٰ لَم يَكُن فيها ما يَجري مَجرَى المانعِ .

علىٰ أنّا لَو سَلَّمنا ذلكَ لَتَمَّ معه أيضاً ما نُريدُ؛ لأنّ المريضَ إذا تَعذَّرَ عَلَيه تحريكُ يَدِه لِنُقصانِ أحوالِه في كَونِه قادراً، فلا بُدَّ مِن أن تَكونَ (3) صحّةُ الفِعلِ في الأصلِ تَقتَضي(4) حالاً بها صَحَّ الفعلُ ؛ لأنّه إذا كانَت زيادةُ الفِعلِ تَقتَضي زيادةَ القُدرَ و أحوالِ القادرِ، فصحّةُ أصلِ الفِعلِ تَقتَضي هذه الحالَ لا مَحالةَ ؛ فإثباتُ المريضِ قادراً لا يَضُرُّ في هذا المَوضِعِ ؛ ألا ترىٰ أنّا و إن لَم نُثبِتْهُ قادراً بما حَلَّ يَدَه، فإنّما نُثبِتُه

ص: 118


1- . رجلٌ دَنِفٌ و مُدْنِف: بَرَاه المرض حتّى أشفىٰ على الموت. لسان العرب، ج 9، ص 107 (دنف).
2- . في الأصل: «قدرة».
3- . في الأصل: «يكون».
4- . في الأصل: «يقتضي».

قادراً بما يَحُلُّ قَلبَه، و إن لَم يَتأتَّ مِنه - لِكَونِه قادراً بقُدَرِ(1) قَلبِه - تحريكُ أعضائِه ؟!

الدليل الثاني

و قَد يُستَدَلُّ بهذه الدَّلالةِ علىٰ وَجهٍ يُطابِقُ الكلامَ الذي ذَكَرناه، فيُقالُ : قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا يَتأتّىٰ مِنه حَملُ الخَفيفِ مِن الأجسامِ دونَ الثَّقيلِ ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ تَعذَّرَ عَلَيه لِنُقصانٍ عَلَيه فيما صَحَّحَ الفِعلَ (2) عمّا يَحتاجُ إليه حَملُ الثَّقيلِ . و إذا كانَ يَحتاجُ في زيادةِ الفِعلِ إلىٰ زيادةِ الصفةِ ، احتيجَ في الأصلِ إلىٰ حُصولِ الصفةِ .

الدليل الثالث
اشارة

و قد يُستَدَلُّ أيضاً علىٰ وجهٍ آخَرَ، فيُقالُ : قد نَجِدُ أحَدَنا يَتعذَّرُ عَلَيه في بعضِ الأوقاتِ بعضُ الأفعالِ ، و يَتأتّىٰ مِنه في وَقتٍ آخَرَ ذلكَ الفِعلُ بِعَينِه، فيُعلَمُ أنّه [قد حَصَلَ له] في حالِ التأتّي ما لَم يَحصُلْ له في حالِ التَعذُّرِ.

و كُلُّ هذه(3) الأدلّةِ تتقرَّرُ(4)، و الجميعُ واضحٌ .

نفي أن يكون تأتّي الفعل للطبع لا لحال القادِر

فإن قيلَ : ما يُنكِرونَ أن تَكونَ المُفارَقةُ بَينَ مَن تَأتّىٰ مِنه الفعلُ و بَينَ مَن تَعذَّرَ عَلَيه (22) إنّما هي لِطَبعٍ أو قُوّةٍ ، لا لِحالِ القادرِ التي يُثبِتونَها؟!

ص: 119


1- . في الأصل: «نقدر».
2- . «فيما صَحَّحَ الفِعلَ »: أي في مقدار القدرةِ التى صحَّحَت الفِعلَ و أَمكَنَت مِنه؛ أي جَعلَته مُمكِناًمقدوراً. و العبارة بهذا المقدار مغلقة، و لعلّه يمكن إصلاحها بحذف: «عليه في»، فتكون العبارة كالتالي: «فلابدّ من أن يكون تعذّر عليه [حَملُ الثقيل] لنقصان ما صَحَّح الفعل عمّا يَحتاج إليه حملُ الثقيل».
3- . في الأصل: «هذا».
4- . في الأصل: «يتقرّب».

قُلنا: الفِعلُ إذا صَحَّ مِن الجُملةِ دونَ آحادِها، فلا بُدَّ له مِن مُصَحِّحٍ يَرجِعُ إلىٰ مَن تَأتّىٰ مِنه الفِعلُ ، و هي الجُملةُ دونَ آحادِها؛ فإنّ الطَّبعَ و القُوّةَ التي تَذكُرونَهما لا تَخلو مِن أحَدِ الامرَينِ :

إمّا أن يَكونَ معنىٰ حُكمِه مقصوراً علىٰ مَحَلِّه لا يَتعَدّاهُ إلَى الجُملةِ ، و [إمّا أن] تَكونَ (1) المُشارَكةُ [مِن الآحادِ](2) للجُملةِ ، حَتّىٰ يَرجِعَ حُكمُه إلَى الجُملةِ ، و يوجِبَ لها حالاً.

فإن كان الأوّل، فهو(3) باطِلٌ بما ذَكَرناه مِن اعتبارِ مَن تَأتّىٰ مِنه الفِعلُ ؛ فإنّه إذا كانَ الجُملةَ دونَ أجزائِها، وجبَ أن يَكونَ المُصَحِّحُ راجعاً إليها.

و إن كان الثاني، فهو خِلافٌ في عبارةٍ ، و المعنى الذي أرَدناه قد صَحَّ ، و العبارةُ لا مُضايَقةَ فيها.(4)

فإن قيلَ : ألَيسَ كَونُ القديمِ قادراً يَقتَضي وجودَه، و مِثلُ المَقضيّ بحالٍ أن يَحصُلَ و لا يَكونَ مَقضيّاً؟ فيَجِبُ علىٰ هذا أن يكون كَونُ أحَدِنا قادراً يَقتَضي أيضاً وجودَه، و هذا يوجِبُ أن يَكونَ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ - و هو كَونُه قادراً - يَقتَضي أن يَرجِعَ إلَى الآحادِ، و هو الوجودُ.

قُلنا: إنّما مَنَعنا أن تَقتَضيَ الصفةُ الراجِعةُ إلَى الجُملةِ ما يَرجِعُ إلَى الأبعاضِ - فيما يَقتَضي - اقتضاءَ التأثيرِ لا اقتضاءَ الدَّلالةِ . و كَونُ القادرِ قادراً إنّما يَقتَضي

ص: 120


1- . في الأصل: «و تكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لتكون عِدْلاً ل «إمّا» السابقة.
2- . في الأصل بدلَ ما بين المعقوفين بياض، و قد أثبتناه لمقتضى السياق.
3- . في الأصل: «فهي».
4- . فإنّهم يكونون حينئذٍ قد سَمَّوُا القدرة طبعاً، و لا مشاحّة في العبارة. انظر: تمهيد الأُصول، ص 25.

وجودَه اقتضاءَ الدَّلالةِ له، لا اقتضاءَ التأثيرِ. و الفِعلُ إذا صَحَّ مِن الجُملةِ ، فلا بُدَّ مِن مؤَثِّرٍ في صحّتِه يَرجِعُ إلَى الجُملةِ .

دلالة تعذّر الفعل علىٰ انتفاء القدرة، و شرط ذلك

فإن قيلَ : إذا كان تَأتّي الفِعلِ يَدُلُّ علىٰ أنّ فاعلَه قادرٌ(1) علَى اختصاصِه بالحالِ التي ذَكَرتُموها، فقولوا: إنّ تَعذُّرَه يَدُلُّ علىٰ نَفيِ ذلكَ .

قُلنا: لَيسَ يَجِبُ في الأدلّةِ العَكسُ ، فلَيسَ يَجِبُ إذا دَلَّ الشيءُ علىٰ حُكمٍ مِن الأحكامِ ، أن يَدُلَّ عَكسُه على عَكسِ ذلكَ الحُكمِ .

علىٰ أنّا نَقولُ : إنّ تَعذُّرَ الفِعلِ بشَرطِ ارتفاعِ المَوانعِ يدُلُّ علىٰ أنّ مَن تَعذَّرَ عَلَيه لَيسَ بقادرٍ.

فإن قيلَ : و كيف الطريقُ إلىٰ أن تَعلَموا ذلكَ مِن حالِه ؟

قُلنا: بأن نَعلَمَ قُوّةَ دواعي أحَدِنا إلَى الفِعلِ و وفورَها، و ارتفاعَ الموانِعِ المعقولةِ ، فنَحكُمَ بالتعذُّرِ، ثُمّ نَنظُرَ إن كان المتعذِّرُ هو جنسَ الفعلِ و مُجرَّدَ وجودِه، حَكَمنا بنَفيِ كَونِه قادراً.

و إن كانَ المتعذِّرُ وقوعَه علىٰ بعضِ الوجوهِ ، حَكَمنا بارتفاعِ ما به يَقَعُ علىٰ ذلكَ الوجهِ ؛ مِن علمٍ أو غَيرِه، و إن كانَ قادراً.(2)

فإن قيل: فألّا شَرَطتُم في صحّةِ الفِعلِ و وقوعِه و دَلالتِه على كونِه قادراً ما اشتَرَطتُموه في تَعذُّرِه مِن ارتِفاعِ المَوانعِ؟

ص: 121


1- . في الأصل: «قادرون».
2- . في الأصل: «حكمنا بارتفاع ما به يقع على ذلك الوجهين: علم أو غيره، فإن كان قادراً». و الأنسب ما أثبتناه؛ فإنّ عبارة الأصل مضطربة كما لا يخفى.

قُلنا: اشتراطُ ذلك فيما ذَكَرتُموه لا معنىٰ له؛ لأنّ وقوعَ الفِعل يَنفي حُصولَ مانِعٍ منه، و لَيسَ كذلك تَعذُّرُه؛ لأنّه قد يَتعذَّرُ لمانِعٍ مع كونِ (1) القادرِ قادراً. و رُبَّما(2)يَتعذَّرُ لغَيرِ مانعٍ ، فيَدُلُّ علَى انتفاءِ حالِ القادرِ. و المَوضِعانِ مختَلِفانِ ، علىٰ ما تَرىٰ .

فإن قيلَ : كيفَ تُثبِتونَ الممنوعَ قادراً، و مُفارَقةُ مَن صَحَّ الفِعلُ [مِنه] له(3)كمُفارَقتِه لغَيرِه ممّن تَنفونَ (4) كَونَه قادراً؟

قُلنا: قد عَلِمنا أنّ الممنوعَ إذا ارتَفَعَ المَنعُ ، فَعَلَ و هو علىٰ ما كانَ عَلَيه مِن غَيرِ تَجدُّدِ حالٍ أُخرىٰ . و مَن لَيسَ بقادرٍ لا يَقَعُ مِنه الفِعلُ مع ارتفاعِ المَوانعِ إلّابتَجدُّدِ حالٍ أُخرىٰ . فبانَ الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ .

نفي أن يكون تعذّر الفعل ناشئاً من ثبوت حالٍ

فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن تكونَ الحالُ (5) إنّما تَثبُتُ [لمَن(6)] تَعذَّرَ عَلَيه الفِعلُ ، و يَصِحُّ الفِعلُ ممَّن لَم يَكُن عَلَيها(7)، بالعَكسِ ممّا(8) تَقولونَه؛ لأنّكم تَزعُمونَ أنّ صحّةَ الفِعلِ تَرجِعُ إلىٰ إثباتِ حالٍ (9)، و تَعذُّرَه يَرجِعُ إلىٰ نَفيِها، و تَزعُمونَ (10)

ص: 122


1- . في الأصل: «مع كونه».
2- . في الأصل: «ما» بدل «ربّما»، و الأصحّ ما أثبتناه بشهادة السياق و إن كان ل «ما» في الأصل وجه على تكلّف.
3- . العبارة مغلقة، و لعلّه يمكن إصلاحها كما يلي: «و مفارقتُه [أي الممنوع] لمن صحّ الفعلُ منه [أي القادر] كمفارقته لغيره».
4- . في الأصل: «ينفون».
5- . أيّ حال العجز، لا القدرة.
6- . في الأصل: «مَن».
7- . يقرأ في الأصل: «علمها»، و لا محصّل له، و الضمير في «عليها» راجع الىٰ «الحال».
8- . في الأصل: «فما».
9- . أيّ حال القدرة، لا العجز.
10- . في الأصل: «يزعمون».

أنّه لا حالَ (23) للعاجزِ بكَونِه عاجزاً؟!(1)

قُلنا: لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما سُئلنا عنه، لَكانَ المعدومُ مِنَ الجَواهرِ لا يَخلو: مِن أن يَكونَ علىٰ هذه الحالِ ،(2) أو أن لا يَكونَ عَلَيها.

فإن لَم يَكُن عَلَيها، وجبَ أن يَصِحَّ الفِعلُ مِنه؛ لأنّ صحّتَه علىٰ هذا الفَرضِ

يَقدَحُ نَفيَ هذه(3) الحالِ .(4)

و إن كانَ عَلَيها، فلا بُدَّ(5) مِن رُجوعِها إلىٰ ذاتِه؛ لاستحالةِ أن يَرجِعَ فيه إلىٰ معنىً لا يوجِبُ لغَيرِه صفةً إلّابأن يَختَصَّ به نِهايةَ الاختصاصِ ، فلا يَصِحُّ أن يَختَصَّ المعنىٰ بالجَوهرِ إلّابأن يَحُلَّه، و الجَوهرُ المعدومُ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مَحَلاًّ لغَيرِه. و لا يَجوزُ أيضاً أن تَرجِعَ الصفةُ فيه إلَى الفاعِلِ ؛ لأنّها غَيرُ متجدِّدةٍ في رُجوعِها إلىٰ ذاتِه، [و] ما يَقتَضي أن تَكونَ (6) [مِن] قَبيل الجَواهر، لا يَصِحُّ مِنها الفِعلُ و إن دَخَلَت في الوجودِ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .(7)

ص: 123


1- . يريد في هذا الإشكال أن يقلب صورة البحث فيقول: لِمَ لا نقول: إنّ العاجز عن الفعل إنّما يعجز عنه لثبوت حال «العجز» فيه، لا لانتفاء حال «القدرة» عنه كما تزعمون ؟ و بناءً عليه إنّما يصح الفعل من القادر لانتفاء حال «العجز» عنه، لا لثبوت حال «القدرة» فيه.
2- . أيّ حال «العجز» التي ادّعاها السائل.
3- . في الأصل: «هذا».
4- . كذا، و المراد واضح، و هو أنّ صحّة الفعل من الجوهر المعدوم مترتّبة علىٰ نفي هذهِ الحال، أيّ حال «العجز». هذا بناءً على الفرض الذي فرضه السائل.
5- . في الأصل: «و لا بدّ».
6- . في الأصل: «يكون».
7- . العبارة الأخيرة مضطربة، و لكنّه يريد أن يقول: لو كانت تلك الحال ذاتيّة لوجب أن لا يصحّ الفعل من الجواهر و إن دخلت في الوجود؛ لأنّها مع الوجود لا تخرج عن تلك الحال الذاتّية، و قد علمنا خلاف ذلك، فإنّ الجواهر إذا دخلت في الوجود صحّ منها الفعل. انظر: تمهيد الأُصول، ص 26.

علىٰ [أنّ ] النَّفيَ (1) و ما يَجري مَجراه، لا يَرجِعُ إلى الجُملةِ ، و صحّةُ الفِعلِ تَرجِعُ (2) إليها، فيَجِبُ أن يَكونَ المُقتَضي لصحّةِ الفِعلِ ما يَرجِعُ إلىٰ مَن صَحّ مِنه، و هو الجُملةُ .

و بَعدُ، فإنّ النَّفيَ لا تَختَصُّ به ذاتٌ دونَ غَيرِها، و هذا يوجِبُ صِحّةَ الفعلِ الواحدِ مِن فاعلينَ كَثيرينَ ، و ذلكَ مُحالٌ .

كيفيّة دلالة صحّة الفعل على القدرة

فإنْ قيلَ : خَبِّرونا عن الفِعلِ ، كَيفَ يَدُلُّ علىٰ أنّ مَن صَحَّ مِنه قادرٌ؟ و في أيِّ الأحوالِ يَقتَضي كَونَه قادراً؟

قُلنا: الفِعلُ إذا كانَ مُبتَدأً، فإنّما يَدُلُّ علىٰ أنّ فاعلَه قادِرٌ قُبَيلَه بحالٍ واحدةٍ . و علىٰ ذلكَ يدُلُّ ما وَقَعَ مِنَ القَديمِ تَعالىٰ مِنَ الأفعالِ ؛ لأنّ مدلولَ الأدلّةِ لا يَختَلِفُ ، و إنّما يُعلَمُ أنّه تَعالىٰ قادرٌ فيما لم يَزَلْ و لا يَزالُ بدَليلٍ آخَرَ، كما يُعلَمُ أنّه - جَلَّ و عَزَّ - يَقدِرُ علىٰ جَميعِ الأجناسِ و مِن كُلِّ جنسٍ علىٰ ما لا يَتناهىٰ بأدلّةٍ أُخَرَ. و سيَجيءُ الكلامُ في ذلك مفصَّلاً بعَونِ اللّٰهِ تَعالىٰ ؛(3) لأنّه مَبنيٌّ علَى استحقاقِه تَعالىٰ هذه الصفاتِ لنَفسِه.

اختصاص دلالة حدوث الفعل على القدرة فقط، لا أكثر
اشارة

فإن قيلَ : فهل يَدُلُّ حُدوثُ الفِعلِ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِ فاعلِه قادراً؟

قُلنا: الذي يَقولُه أبو هاشِمٍ في ذلكَ أنّ الفِعلَ يَدُلُّ علىٰ كَونِ فاعلِه قادراً و حَيّاً

ص: 124


1- . أي نفي حال «العجز» الذي ادّعى السائل أنّه - أي هذا النفي - يقتضي صحّة الفعل.
2- . في الأصل: «يرجع».
3- . يأتي في ج 1، ص 227.

و موجوداً، و رُبَّما مضىٰ في كلامِه ما يَقتَضي خِلافَ هذا.

فالصحيحُ أنّ مجرَّدَ حُدوثِ الفِعلِ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَون فاعلِه قادراً، و إنّما يُعلَمُ كَونُه حَيّاً و موجوداً [بدَلائل أُخرى غيرِ حُدوثِ الفِعلِ ](1).

الدليل الأوّل

و الذي يَدُلُّ على ما ذَكَرناه، أنّ الفِعلَ إنّما يَدُلُّ على الصفةِ التي لِكونِ الفاعلِ عَلَيها صَحَّ مِنه الفِعلُ ؛ لأنّه لا تَعلُّقَ له إلّابهذه الصفةِ . و ما صَحَّحَ الفِعلَ هو كَونُ

القادرِ قادراً دونَ غيرِه، و لَو جازَ أن يُدَّعىٰ دَلالةُ الفِعلِ علىٰ كَونِه موجوداً و حَيّاً - مع أنّه لا تَعلُّقَ له بهاتَينِ الصفتَينِ - لَجازَ أن يُدَّعىٰ دَلالتُه علىٰ صِفاتٍ كثيرةٍ و إن لَم يَكُن بَينَه و بَينَها تَعلُّقٌ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَدَّعيَ أنّ صحّةَ الفِعلِ يؤثِّرُ فيها كَونُه موجوداً و حَيّاً؛ لأنّه لَو كانَ لِهاتَينِ الصفتَينِ تأثيرٌ في صحّةِ الفِعلِ مجتَمِعَةً مفتَرِقةً ، لَوجبَ أن يَصِحَّ الفِعلُ ممّن حَصَلَت له الصفتانِ و إحداهما إذا ارتَفَعَتِ المَوانِعُ كما يَجِبُ صحّةُ الفِعلِ ممّن كانَ قادراً، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .

الدليل الثاني

و يَدُلُّ علىٰ أنّ مجرَّدَ الفِعلِ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِ فاعلِه قادراً: أنّ النظَرَ إذا وَقَعَ في دليلٍ واحدٍ مِن وَجهٍ واحدٍ و إن كَثُرَ(2)، لا يُوَلِّدُ عُلوماً مختَلِفةً ؛ ألَاتَرىٰ أنّ النظَرَ في إحكامِ الفِعلِ و اتِّساقِه مِن وَجهٍ واحدٍ و إن كَثُرَ، لا يُوَلِّدُ عُلوماً مختَلِفةً ؛ مِن

ص: 125


1- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه لاحتياج العبارة في الاستقامة إليه.
2- . أي: و إن كثر النظر.

حَيثُ كانَت الدَّلالةُ واحدةً و [مِن] وجهٍ واحدٍ(1). أنتَجت(2) علىٰ هذا أن يَكونَ النظَرُ إلىٰ مجرَّدِ الفِعلِ لا يُؤَدّي إلىٰ كَونِ فاعلِه قادراً و حَيّاً و موجوداً؛ لأنّ العُلومَ بهذه الصفاتِ مختَلِفةٌ .

ص: 126


1- . في الأصل: «و وجهاً واحد».
2- . الكلمة غير واضحة المعالم، و لعلّها تُقرأ بالصورة التي أثبتناها.
الفصلُ الثاني في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ
اشارة

[الفصلُ الثاني] [في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ](1)

[الذي يدلُّ علىٰ ذلك: أنّا وَجدنا في الشاهدِ ذاتَينِ يَصحُّ من إحداهُما الفعلُ المُحكمُ ، و يَتعذّرُ علىٰ الأُخرىٰ مع مشاركتِها لها في جميعِ صفاتِها مِن كونِها موجودةً حيّةً قادرةً . فلا بدّ مِن أن تختصَّ الذاتُ التي يصحُّ منها الإحكامُ بصفةٍ ليست حاصلةً للأُخرىٰ .

و إذا ثبتَ أنّه لابدّ من صفةٍ ، و وجدنا أهلَ اللغةِ يُسمُّونَ مَن كانَ علىٰ هذهِ الصفةِ «عالِماً»، فقد أثبتنا الصفةَ عقلاً، و رجعنا في التسميةِ إلىٰ أهلِ اللغةِ .](2)

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ علىٰ ما ذَكَرناه بالنظر(3) في مُحكَمٍ مِن الفِعلِ ، و أنّه

ص: 127


1- . العنوان منّا، و هو المطابق لما هو معمول في نظائر هذا الكتاب من كتب المتقدّمين في علم الكلام، حيث يبحثون فيها - بعد الكلام في كونه تعالى قادراً - عن كونه سبحانه عالماً و يعنونونه بعنوان خاصّ مستقلّ . راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 101؛ تقريب المعارف، ص 73؛ الاقتصاد للشيخ الطوسيّ ، ص 54.
2- . قمنا بإضافة الدليل علىٰ صفة العلم من خلال الرجوع إلىٰ دليل صفة القدرة و الحياة، كما رجعنا في ذلك إلى كتاب شرح جمل العلم و العمل، ص 47-48. و السبب الذي دعانا إلىٰ إضافة هذا الدليل هو أنّ المصنّف سوف يشير إليه في موضعين من هذا الكتاب، أي في ج 1، ص 135 و ج 2، ص 288، و هو يدلّ علىٰ سقوط هذا الدليل من نسختنا، كما أنّ المصنّف قام بذكر دليل القدرة و الحياة في بداية الفصل المخصَّص لها، و لذلك قمنا بإضافة دليل العلم في بداية هذا الفصل.
3- . في الأصل: «بالناظر»، و الأنسب - بل الصحيح - ما أثبتناه.

يُستَدَلُّ به علىٰ أنّ فاعلَه قادرٌ و عالِمٌ في الخَبَرِ (24)، و الاستدلالِ (1) علىٰ أنّ فاعِلَه قادرٌ و مريدٌ.

لأنّ الفِعلَ المُحكَمَ لَم يَدُلَّ على الصفتَينِ مِن وَجهٍ واحدٍ، بل مِن وَجهَينِ ؛ ألَا تَرىٰ أنّه دَلَّ بمجرَّدِ وقوعِه علىٰ أنّه قادرٌ، و يَكونُ خَبَراً علىٰ أنّه مريدٌ؟ و قد احتَرَزنا عن هذا السؤالِ في كلامِنا بقَولِنا: «و مِن وجهٍ واحدٍ».

نقل أدلّة أبي هاشم حول مقدار دلالة الفعل، و مناقشتها

و قد تَعلَّقَ أبو هاشِمٍ في نُصرةِ قَولِه الذي حَكَيناهُ (2) بأشياءَ (3):

مِنها: أنّ الفِعلَ كما لا يَصِحُّ إلّامِن قادرٍ، كذلكَ لا يَصِحُّ إلّامِن حَيٍّ موجودٍ، فيَجِبُ أن يدُلَّ علَى الكُلِّ .

[و] مِنها: أنّه لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ أحَدٌ بالذاتِ قادرةً (4)، و هو لا يَعلَمُ صحّةَ كَونِها قادرةً ، و لا يَجوزُ أن يَعلَمَ صحّةَ كَونِها قادرةً و هو لا يَجِدُ(5) أنّها حَيّةٌ ؛ لأنّ العِلمَ بأنّ الحَيَّ حَيٌّ هو العِلمُ بأنّه يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ .

و مِنها: أنّه كما لا يَجوزُ أن يُعلَمَ صحّةُ كَونِها - بكونِ الذاتِ قادرةً - غَيرَ موجودةٍ

و لا حَيّةٍ ، كذلكَ لا يَجوزُ أن تُعلَمَ (6) قادرةً مِن غَيرِ أن تُعلَمَ حَيّةً موجودةً .

ص: 128


1- . «الاستدلال» مجرور عطفاً على «محكمٍ » في قوله: «في محكمٍ »، كما أنّ قوله: «و أنّه يستدلّ به» أيضاً معطوف عليه، أي في محكم من الفعل، و في أنّه يستدلّ به إلى آخره، و في الاستدلال على أنّ فاعله قادر و مريد.
2- . و هو أنّ الفعل يدلّ علىٰ أنّ فاعله قادر و حيّ و موجود. و قد تقدم نقل هذا القول قبل قليل.
3- . في الأصل: «أشياء».
4- . أي يعلم كون الذات قادرة.
5- . في الأصل: «و هو أن يجهد»، و لا محصّل له.
6- . في الأصل: «يعلم».

و الجَوابُ عن أوّلِ ما تَعلَّقَ به: أنّ المُعتَبَرَ فيما يَدُلُّ الفِعلُ عليه هو ما يُصَحِّحُ (1)الفِعلَ ، و لَولا حُصولُه لَما صَحَّ . و لا اعتبارَ بما صَحَّحَ ما صَحَّحَ الفِعلَ ؛ ألا تَرىٰ أنّه كما أنّ القادرَ لَولا كَونُه حَيّاً موجوداً لَما صَحَّ كونُه قادراً، و كذلكَ لَولا وجودُ القُدرةِ - التي لَولا حُصولُها(2) - لما كانَ قادراً؟! و الفِعلُ مع ذلكَ لا يَدُلُّ علىٰ جميعِ ما ذَكَرناه و إن كانَ له(3) حظٌّ(4) في تَصحيحِ ما صَحَّحَه. و كذلك دليلُ حُدوثِ الجسمِ لا يَدُلُّ علىٰ أنّ له مُحدِثاً،(5) و إن كانَ لَولا مُحدِثُه لَما حَدَثَ . فقَد بانَ أنّ الذي تَعلَّقَ به غَيرُ لازمٍ ، و أنّ الفِعلَ إنّما يَجِبُ أن يَدُلَّ علىٰ ما صَحَّحَه بغَيرِ واسطةٍ ، و لا حَظَّ له في الدَّلالةِ علىٰ ما سِوىٰ ذلكَ .

و يُقالُ له فيما تَعَلَّقَ به ثانياً: إنّ العِلمَ بأنّه حَيٌّ لَيسَ مُتعلَّقُه أنّه يَصِحُّ [كَونُه قادراً عالِماً]، و إنّما هو عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ تُصحِّحُ (6) كَونَه قادراً عالِماً. كما أنّ العِلمَ بأنّه عالِمٌ (7) لَيسَ هو عِلماً بصحَّةِ الفِعلِ [المُحكَمِ ]، و إنّما هو عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ يَصِحُّ معها [الفِعلُ ] المُحكم؛ و ذلكَ أنّ الجاهلَ إنّما لَم يَتأتَّ مِنه الفِعلُ المُحكَمُ ؛ لأنّه لَيسَ بعالِمٍ ، و إن كانَ في كَونِه غَيرَ عالِمٍ يُصاحِبُ كَونَه جاهِلاً؛ ألا تَرىٰ أنّه قد يَتعذَّرُ عَلَيه [الفِعلُ المُحكَمُ ] مع انتفاءِ العِلمِ و الجَهلِ جميعاً؟!

ص: 129


1- . في الأصل: «يصحّ »، و ما أثبتناه مؤيّد بالسياق.
2- . كذا، و يبدو أنّ في العبارة سقطاً.
3- . في الأصل: «في» بدل «له»، و ما أثبتناه هو الأولى و الأنسب، بقرينة قوله: «و لا حظّ له».
4- . في الأصل: «حط»، و لا محصّل له، و لعلّه تصحيف لما أثبتناه.
5- . و إنّما لابدّ من استئناف دليل آخر لإثبات حاجة الجسم إلىٰ محدِث كما تقدّم في هذا الكتاب.
6- . في الأصل يقرأ: «تصحيح»، و هو سهو أو تصحيف كما هو واضح.
7- . في الأصل: «قادر» بدل «عالم»، و الصحيح ما أثبتناه؛ بقرينة قوله: «و ذلك أنّ الجاهل لم يتأتّمنه الفعل المحكم».

فإن قيلَ : فبأيِّ طريقٍ يُعلَمُ في الغَيرِ أنّه جاهلٌ؟

قلنا: بأن يُضطَرَّ إلَى اعتقادٍ به يُعلَمُ بُطلانُه، و هذا مِثلُ عِلمِنا باعتقادِ المُجبِرَةِ و المُشَبِّهةِ لِمَناهيها إصراراً،(1) و عَلِمنا بالدليلِ بُطلانَ ذلكَ الاعتقادِ.

عدم قيام الاعتقاد و الظنّ مقام العلم في صحّة الفعل المحكم

فإن قيلَ : ألّاجَوَّزتُم أن يَقومَ الاعتقادُ أو الظَّنُّ مَقامَ العِلمِ (2) في صحّةِ وقوعِ الفِعلِ مُحكَماً(3)، فإذا كانَ تَعذُّرُ(4) الفِعلِ (5) علىٰ بعضِ القادرينَ دونَ بعضٍ يَدُلُّ علىٰ مُفارَقةٍ (6)، فألَّا(7) جازَ أن تَكونَ هذه المفارَقةُ هي الاعتقادَ و الظَّنَّ (8)؟

قُلنا: الاعتقادُ الذي لَيسَ بعِلمٍ و الظَّنُّ ، لا يَقتَضيانِ السُّكونَ (9) الذي معه يَقَعُ

ص: 130


1- . هكذا تقرأ هاتان الكلمتان، و معناهما غير واضح.
2- . الاعتقاد: هو عقد القلب علىٰ ثبوت أمر أو نفيه، فإن كان معتَقَده علىٰ ما تناوله الاعتقادمع سكون النفس كان عِلماً، و إن لم يكن الاعتقاد علماً لم يخرج من أن يكون تقليداً أو تبخيتاً أو جهلاً، أمّا التقليد فهو قبول قول الغير من غير مطالبةٍ بحجّة، و أمّا التبخيت فهو أن يسبق المرءُ إلى اعتقادٍ ابتداءً مع فَقْد كلّ ما يدعو إليه، و أمّا الجهل فهو الاعتقاد الذي لا يكون معتَقَده علىٰ ما تناوله. و أمّا الظنّ فهو ما قَوِي عند الظانّ كون المظنون علىٰ ما ظنّه، مع تجويز أن يكون علىٰ خلافه، و هو ليس من الاعتقادات. الرسائل العشر للشيخ الطوسي، ص 74-75؛ الحدود، ص 90؛ رسائل الشريف المرتضىٰ ، ج 2، ص 263.
3- . يريد السائل إبطال دلالة الفعل المحكم على العلم، و القول بأنّه يدلّ على الاعتقاد أو الظنّ .
4- . في الأصل: «يعذر».
5- . أي الفعل المحكم.
6- . أي مفارقة بين الفواعل، فبعضهم قادر على الفعل المحكم، و البعض الآخر ليس كذلك.
7- . في الأصل: «و ألا».
8- . فالقادر على الفعل المحكم يكون معتقِداً أو ظانّاً، و غير القادر عليه لا يكون كذلك.
9- . في الأصل: «سكون».

التصرُّفُ في إحكامِ الفعلِ و اتّساقِهِ ، فإذا كانَ الفِعلُ هو المُقتَضيَ لذلكَ دونَ غَيرِه، وجبَ أن يَنوبَ غَيرُه مَنابَه.

يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ مَن جُنَّ أو سَكِرَ بَعدَ أن كانَ عالِماً بتَرتيبِ المَذاهِبِ أو

ببعضِ الصَّنائعِ ، لا يَجوزُ أن يَقَعَ مِنه بَعدَ سُكرِه أو جُنونِه(1)، مِن تَرتيبِ المَذاهِبِ و الصَّنعةِ ، ما كانَ يَقَعُ قَبلَ ذلك. و السُّكرُ و الجُنونُ لا يَنفيانِ الاعتقادَ، و إنّما يَنفيانِ العِلمَ .

و أيضاً: مَن(2) ظَنَّ حُروفَ الكتابةِ علَى التفصيلِ ، و لَم يَفعلها، يتَفاوَت حالُه في الكتابةِ ، و كذلكَ إذا كانَ [عار] فاً(3) بالجُملةِ الكتابةَ .

و يُبيِّنُ أيضاً صحّةَ ما ذَكَرناه: أنّ المُمارِسَ (4) الصانعَ لا يَصِحُّ مِنه في أوّلِ وَهلةٍ و بأدنىٰ مُمارَسةٍ ما يَصِحُّ مِنه بَعدَ ذلك. و لَيسَ (25) يَمتَنِعُ أن يَحصُلَ الظَّنُّ بأدنىٰ مُمارَسةٍ ، و إنّما العِلمُ هو الذي يَمتَنِعُ في تلكَ الحالِ .

و أيضاً: فإنّ الفِعلَ المُحكَمَ يَدُلُّ علَى اختصاصِ فاعلِه بصفةٍ ، يَجِبُ إذا حَصَلَ الواحدُ مِنّا عَلَيها أن تَستَمِرَّ(5) مع كمالِ عقلِه، حَتّى إذا زالَت أخَلَّ ذلكَ بكمالِ عقلِه.

و لهذا لا يَجوزُ في أحَدِنا أن تَتأتّىٰ (6) مِنه الكتابةُ بُرهةً مِن الزمانِ ، ثُمّ تَتعذَّرَ مع وُفورِ قُدَرِه و كَونِه مَحَلاًّ كامِلَ العقلِ . و قد ثَبَتَ أنّ استمرارَ الاعتقادِ أو الظَّنِّ لا يَجِبُ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ كمالِ العقلِ ؛ لأنّ الاعتقادَ إن كان واقفاً علىٰ شُبهةٍ ، فإنّ الانتقالَ عنه

ص: 131


1- . أي بعد حصول السكر و الجنون و تلبّسه بهما، لا بعد زوالهما.
2- . في الأصل: «فمن».
3- . بدل ما بين المعقوفين بياض في الأصل.
4- . في الأصل: «الممارين». و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «بأدنى ممارسة».
5- . في الأصل: «يستمرّ».
6- . في الأصل: «يتأتّى».

يَجوزُ مع كمالِ العقلِ . و كذلكَ إن كانَ تقليداً أو تبخيتاً. و لا شُبهةَ أيضاً في أنّ الانتقالَ علَى الظَّنِّ به مع كَمالِ العقلِ سائِغٌ . و إذا ثَبَتَ هذا وجبَ استمرارُ ما له صَحَّ الفِعلُ المُحكَمُ ، و كانَت هذه القضيّةُ لا تَصِحُّ إلّافي العِلمِ دونَ الاعتقادِ؛ لصحّةِ استمرارِ أحَدِنا عالماً بأشياءَ كثيرةٍ مع كمالِ عقلِه، فصَحَّ ما ذَكَرناه.

أدلّة إثبات أنّه تعالىٰ عالِم
الدليل الأوّل

و إذا ثَبَتَت(1) هذه الجُملَةُ التي ذَكَرناها في دَلالةِ الفِعلِ الذي أوضَحناه علىٰ كَونِ فاعلِه عالِماً، و وَقَعَ مِنَ القَديمِ تَعالىٰ مِنَ الأفعالِ ما يَزيدُ(2) في الإحكامِ علىٰ كُلِّ ما يَظهَرُ مِنّا - كالإنسانِ ، و ما فيه مِن بَدائِعِ الحِكمةِ ، و غَيرِه -، وجبَ أن يَكونَ عالِماً؛ لأنَّ مدلولَ الدَّلالةِ لا يَختَلِفُ .

فإن قيلَ : إن كانَ ما يَظهَرُ فيه الحِكمةُ هو التأليفُ و الترتيبُ دونَ مجرَّدِ الذواتِ ، فما أَنكَرتُم أن يَكونَ فاعلُ هذه التأليفاتِ غَيرَ اللّٰهِ تَعالىٰ ، فلا يَدُلَّ خَلقُ الإنسانِ و ما جَرىٰ مجراه علىٰ كَونِه عالِماً؟

قُلنا: هذا السؤالُ سَقَطَ باعتبارِ أوّلِ حَيٍّ مخلوقٍ ؛ لأنّه لا يُمكِنُ أنْ يُدَّعىٰ

في تأليفِه و تركيبِه ما ذُكِرَ مِن كَونِه فِعلاً لغَيرِ اللّٰهِ تَعالىٰ ؛ لأنّا فَرَضنا كَونَه أوّلَ الأحياءِ ، و إذا كانَ تأليفُ أوّلِ حَيٍّ كتأليفِ جَميعِ الأحياءِ في دَلالتِه علىٰ عِلمِ فاعلِه، ثَبَتَ ما أرَدناه.

ص: 132


1- . في الأصل: «ثبت».
2- . في الأصل: «يريد».
الدليل الثاني

و أيضاً:(1) فإنّ التأليفَ لا يَقَعُ مِن غَيرِ القَديمِ تَعالىٰ إلّابآلاتٍ مخصوصةٍ ؛ مِن حَيثُ كانَ القادرُ يَقدِرُ علىٰ بَعضِه(2) لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ ذلكَ إلّاعلىٰ هذا الوجهِ (3).

و هذه الآلاتُ لا تَحصُلُ علَى الوجوهِ المخصوصةِ و التركيبِ حتّىٰ يَصِحَّ استعمالُها فيما ذَكَرناه، إلّامِن فِعلِ عالِمٍ حَكيمٍ ؛ لأنَّ ظُهورَ الحِكمةِ فيها كَظُهورِها(4) فيما يُستَعمَلُ فيها.

و إن كانَ فاعِلُها(5) علىٰ هذا الوَجهِ (6) أحَدَ القادِرينَ مِنّا، كانَ الكلامُ في هذه الآلاتِ كالكلامِ فيما تَقدَّمَها(7)، و اتَّصَلَ ذلكَ [إلىٰ ] ما لا نِهايةَ ؛ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ الفاعلُ لها القَديمَ الذي لا يَقدِرُ بقُدرةٍ (8). و هذا يَدُلُّ أيضاً على أنّهُ عالِمٌ .

ص: 133


1- . هذا جواب آخر عن الإشكال المتقدّم، و هو في نفس الوقت دليل ثانٍ علىٰ أنّه تعالىٰ عالِم كما سيأتي في نهاية هذا الجواب.
2- . يرى المصنّف و الكثير من المتكلّمين أنّ القديم تعالىٰ قادرٌ لنفسه و غير قادر بقدرة زائدة، ولذلك لا يحتاج في أفعاله إلى آلات مخصوصة، بينما كلّ ما كان غير القديم تعالىٰ فهو قادر بقدرة زائدة لا لنفسه، و لهذا يحتاج في أفعاله إلى آلات مخصوصة. هذا ما يريد بيانه هنا، و إن كانت العبارة قاصرة، و لعلّه ناشئٌ من وجود سقط فيها.
3- . أي إلّابآلات مخصوصة.
4- . في الأصل: «لظهورها».
5- . أي فاعل الآلات.
6- . من التركيب و التأليف المحكم.
7- . مرادُهُ أنّنا لو كنّا الفاعلين لتلك الآلات المحكمة، و نحن قادرون بقدرة، لاحتجنا إلىٰ آلات أُخرىٰ كي نتمكّن من فعل هذهِ الآلات، و أدّىٰ ذلك إلىٰ ما لا نهاية له من الآلات.
8- . بل يقدر لنفسه و ذاته؛ فإنّ صفاته تعالى عين ذاته، لا زائدة عليها.
الدليل الثالث

و يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أيضاً - [أي] علىٰ أنّه عالِمٌ -: أنّه لَو لَم يَكُن عالِماً، لَما صَحَّ أن يَخلُقَ القَدْرَ مِن الأجزاءِ التي يُحتاجُ (1) إليها في بِنْيَة الحَيِّ ، و لا القَدْرَ المُحتاجَ إليه مِن الحَياةِ و الرُّطوبةِ و اليُبوسةِ ، و خَلقُ الأجزاءِ المُحتاجِ إليها(2) مِن الحَياةِ و الرُّطوبةِ يَدُلُّ على أنّه عالِمٌ .(3)

الدليل الرابع

و يدُلُّ أيضاً: خَلقُ الثِّمارِ المخصوصةِ (4)، و خَلقُ الأشياءِ المخصوصةِ ، و في أوانٍ مخصوصٍ . و يَجري ذلكَ المَجرىٰ مؤذِّنٌ رَأَيناه يؤَذِّنُ في كُلِّ صَلاةٍ علَى التحديدِ، في أنّه لا بُدَّ أن يَكونَ عالِماً بأوقاتِ الصلاةِ ، [و] لَولا ذلكَ لاختَلَفَ (5) وقتُ أذانِه، و [لَم] يَجرِ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ .

الدليل الخامس

و يَدُلُّ عَلَيه خَلقُه تَعالىٰ في الناسِ شَهَواتٍ [و] غَيرَها، و استمرارُ ذلكَ علىٰ طريقةٍ واحدةٍ غَيرِ مختَلِفةٍ ، و مِثلُ هذا لا يَقَعُ إلّامِن عالِمٍ ؛ لأنّه جارٍ مَجرىٰ مَن أعلَمَ (6) مِنّا علىٰ بَعضِ أجناسِ النباتِ بسَوادٍ، و علىٰ جنسٍ آخَرَ ببَياضٍ ، و استمرَّ ذلكَ مِنه علىٰ طريقةٍ واحدةٍ ، في أنّه لا بُدَّ مِن أن يَكونَ عالِماً حتّىٰ

ص: 134


1- . في الأصل: «تحتاج».
2- . في الأصل: «إليه».
3- . قال تعالىٰ : «إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ». القمر (54):49.
4- . في الأصل: «المخصوص» و كذلك في لفظة «المخصوصة» الآتية.
5- . في الأصل: «لاختلاف».
6- . أي وَضَعَ علامة.

لا يَختَلِفَ وقوعُ العَلامةِ (26) فيه.

فإن قيلَ : ففي أيِّ حالٍ يَدُلُّ الفِعلُ علىٰ أنّ فاعلَه عالِمٌ؟

قُلنا: يَدُلُّ علىٰ أنّه عالِمٌ به في حالِ فِعلِه و قَبلَه بحالةٍ واحدةٍ إن(1) كانَ مُبتَدَأً، و إن كان مُسبَّباً قُبَيلَ إيجادِ سببِه.

و إنّما قُلنا: إنّه يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً به قَبلَ وجودِه؛ لأنّه لَو لَم يكُن كذلكَ ، لَما صَحَّ مِنه القَصدُ إلىٰ إيجادِ المُحكَمِ ، و التعَمُّدُ له دونَ غَيرِه.

و إنّما قُلنا: إنّه يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً في الحالِ ؛ لأنّه لَو لَم يَكُن كذلكَ ، لَم يَقَعِ الفِعلُ المُحكَمُ في تلك الحالِ ، مع صحّةِ وقوعِه غَيرَ مُحكَمٍ . و إذا وَقَعَ علىٰ وَجهٍ مع جَوازِ وقوعِه علىٰ غَيرِه، فلا بُدَّ(2) مِن مُقتَضٍ لذلكَ حاصلٍ في الحالِ . فهذا ما تَقتَضيهِ (3) دَلالَةُ الفِعلِ المُحكَمِ .

و أمّا ما به يَثبُتُ كَونُه تَعالىٰ عالِماً فيما لَم يَزَلْ و لا يَزالُ ، و عالِماً بسائرِ المعلوماتِ ، قادراً(4) [فَسَنذكُرُها] فيما بَعدُ.(5)

ص: 135


1- . في الأصل: «و إن»، و الواو زائدة، و هو واضح.
2- . في الأصل: «و لا بدّ».
3- . في الأصل: «يقتضيه».
4- . في الأصل: «قادر».
5- . راجع: ج 1، ص 230 و 227.

ص: 136

ال فصل الثالث في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ
اشارة

[ال] فصل [الثالث] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ (1)

الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا وَجَدنا في الشاهدِ ذاتَينِ يَصِحُّ مِن إحداهُما أن تَكونَ عالِمةً قادرةً ، و مُستَحيلٌ علَى الأُخرىٰ ذلكَ ؛ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ مَن صَحَّتِ الصفاتُ عَلَيه مُفارِقاً لِمَن استحالَت فيه بصفةٍ مِن الصفاتِ ، علىٰ ما ذَكَرناهُ في بابِ القادرِ و العالِمِ .(2) و إذا كانَ لا بُدَّ مِن صفةٍ ، [و] وَجَدنا أهلَ اللُّغَةِ يُسَمّونَ مَن كانَ على هذه الصفةِ «حَيّاً»، ثَبَتَ ما قَصَدناه مِنَ المعنىٰ و اللفظِ جميعاً.

فإن قيلَ : أشيروا إلىٰ هاتَينِ الذاتَينِ اللتَينِ أشَرتُم أنّ إحداهُما يَصِحُّ (3) أن تكونَ قادرةً عالِمةً ، و الأُخرىٰ يَستَحيلُ ذلكَ عليها.

قُلنا: قد عَلِمنا أنّ الجَماداتِ و ما جَرىٰ مَجراها لا يَجوزُ أن تَكونَ (4) - و هِي علىٰ ما هِي(5) عليه - قادرةً و لا عالِمةً . و مِن كمالِ العقلِ العِلمُ بما ذَكَرناه، و بالتفرقةِ بَينَ مَن يَصِحُّ ذلكَ عَلَيه و بَينَ ما لا يَصِحُّ . و الواحِدُ منّا يَصِحُّ أن يَعلَمَ

ص: 137


1- . في هامش الأصل: «في إثبات الحياة».
2- . تقدّم في ص 117 و 127.
3- . في الأصل: «تصحّ ».
4- . في الأصل: «يكون».
5- . في الأصل: «نفي» بدل «هي».

ما لَيسَ هو الآنَ عالِماً به، و يَقدِرَ علىٰ ما لَيسَ هو الآنَ قادراً عَلَيه. فثَبَتَت المُفارَقةُ التي ذَكَرناها.

عدم كون المفارقة ناشئة من حصول العلم و القدرة

83

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فلَعلَّ المُفارَقةَ بَينَكم و بَينَ الجَمادِ هي راجِعةٌ إلىٰ حُصولِ هاتَينِ الصفتَينِ (1)؛ [فالجَمادُ]: «لَيسَ بقادرٍ و لا عالِمٍ » و الواحدُ مِنكم قادرٌ و عالِمٌ !

و ذلكَ : أنّه لَو كانَ الأمرُ علىٰ هذا، و كانَت المُفارَقةُ هي بحُصولِ الصفتَينِ ، لَما كانَ بَينَنا و بَينَ الجَمادِ فَرقٌ في صحّتِهما. كما أنّ القادرَ و العالِمَ مِنّا لا يُفارِقُ مَن لَيسَ بقادرٍ مِنّا و لا عالِمٍ ، إلّابحُصولِ الصِّفتَينِ دونَ صحّتِهما. و قد عَلِمنا في الجَمادِ خِلافَ ذَلك، و أنّه مُفارِقٌ لنا في الصحّةِ ، و لَولا أنّه كذلكَ لَجَرىٰ مَجرىٰ مُفارَقةِ مَن لَيسَ بعالِمٍ منّا للعالِمِ .

علىٰ أنّ أحَدَنا قد يَخرُجُ مِن(2) كَونِه قادراً و عالِماً، و لا يَخرُجُ مِن صحّةِ كَونِه مُدرِكاً(3)، و أنّه كالشيءِ الواحدِ. و كذلكَ قد يَفقِدُ العِلمَ و القُدرةَ مِن بعضِه، و لا(4) يَخرُجُ مِن صحّةِ الإدراكِ . و كُلُّ هذا يَقتَضي أنّه لَم يَكُن كالشيءِ الواحدِ،

ص: 138


1- . لا إلىٰ صحّة الاتّصاف بهما كما تقدّم في الدليل.
2- . في الأصل: «عن»، و الأولى ما أثبتناه حفظاً للسياق، و هكذا في نظائره الآتية.
3- . سوف يأتي في مبحث الإدراك أنّ الذي يصحِّح صفة الإدراك هو صفة الحياة، فالحيّ فقط هوالذي يصحّ منه الإدراك. و الذي يريد أن يقوله المصنّف هنا هو أنّه قد يَفقد أحدُنا العلم و القدرة لكنّه مع ذلك لا يخرج من صحّة الإدراك، و قد ذكرنا أنّ صحّة الإدراك لا تكون إلّامن الحيّ ، و هذا يعني أنّ أحدنا و إنْ كان فاقداً للعلم و القدرة لكنّه لا يكون فاقداً للحياة، و مقتضىٰ ذلك أنّ فقدان العلم و القدرة لا ينافي الحياة دائماً، و إنّما عدم صحّة العلم و القدرة هوالذي ينافيها، و هو المطلوب.
4- . في الأصل: «فلا»، و الأنسب ما أثبتناه، خاصّة مع ملاحظة قوله قبل قليل: «و لا يخرج من صحّة كونه مدركاً».

و يُفارِقِ الجَمادَ بكَونِه قادراً و عالِماً.

عدم صحّة إثبات صفة أُخرىٰ غير الحياة

فإن قيل: ألَيسَ بعضُ الذَّواتِ يَصِحُّ أن يَكونَ حَيّاً دونَ بعضٍ؟ فإن لَم تُثبِتوا بَينَهما مُفارَقةً تَرجِعُ إلىٰ صفةٍ من الصفاتِ ، فقولوا بمِثلِ ذلكَ فيمَن(1) يَصِحُّ أن يَكونَ قادراً عالماً(2).

قُلنا: أمّا الذاتُ (27) التي يَصِحُّ (3) أن تَكونَ حَيّةً ، فلا بُدَّ فيها مِن أمرٍ مفقودٍ فيما لا يَصِحُّ [فيه، و](4) ذلكَ الأمرُ هو(5) ما يَصِحُّ وجودُ الحياةِ معه مِن البِنيَةِ (6). و لَيسَ كُلُّ مُفارَقةٍ بَينَهما يَجِبُ أن يَكونَ حالاً مِن الأحوالِ ، أو صفةً مِن الصفاتِ .

و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ مِثلُ ذلكَ فيمَن(7) صَحَّ أن يَكونَ قادراً عالِماً؛ لأنّ

ص: 139


1- . في الأصل: «فمن».
2- . مفاد هذا الإشكال هو أنّكم قد أثبتّم صفة الحياة من خلال التفرقة بين مَن يصحّ فيه العلم و القدرة، و مَن يستحيل فيه ذلك، فيمكن أن ننقل الكلام إلىٰ صفة الحياة نفسها، فنقول: بعض الذوات تصحّ فيه الحياة، و بعضها الآخر تستحيل فيه، و هذا يقتضي إثبات صفة أُخرىٰ غير الحياة أدّت إلىٰ هذه التفرقة، و هو يستلزم إثبات صفات لا متناهية. و إن لم تثبتوا صفة جديدة هنا، فيجب أن لا تثبتوا صفة الحياة هناك، فيبطل الدليل المتقدّم علىٰ الحياة. انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 104.
3- . في الأصل: «تصحّ ».
4- . في الأصل: «عن» بدل ما بين المعقوفين، و لا يستقيم به المعنى كما لا يخفى.
5- . في الأصل: + «يصحّ »، و هو زائد لا محصّل له.
6- . أي أنّ التفرقة بين ما تصحّ فيه الحياة و ما لا تصحّ فيه غير راجعة إلىٰ صفة جديدة، بل راجعة إلىٰ محلّ الحياة من بنية مخصوصة، و قدر معيّن من الرطوبة و اليبوسة، و مخارق الروح فيه. انظر: تمهيد الأُصول، ص 41.
7- . في الأصل: «فمن».

المُصَحِّحَ لِهاتَينِ (1) الصفتَينِ الراجعتَينِ إلَى الجُملةِ لا بُدَّ أن تَكونَ صفةً راجعةً إليها؛ لِما قَدَّمنا ذِكرَه(2) مِن أنّ المُصَحِّحَ لصفةٍ أو المُقتَضيَ لها، لا بُدَّ أن يَكونَ راجعاً إلَى الموصوفِ بتلكَ الصفةِ ، و أنّ الصفةَ لا تُصَحِّحُ (3) أُخرىٰ إلّاإذا كانَ الموصوفُ بهما واحداً؛ ألا تَرىٰ أنّ الصفةَ التي يَختَصُّ بها زَيدٌ، لا يَجوزُ أن تَقتَضِيَ (4) و لا تُصَحِّحَ (5)صِفةً لَعمرٍو؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن الموصوفُ بها واحداً. و حُكمُ المَحَلِّ مع الجُملةِ حُكمُ زَيدٍ مع عَمرٍو، و مِثلُ هذا لا يَلزَمُ فيما صَحَّحَ كَونَه حيّاً؛ لأنّ الذاتَ لا تَكونُ جُملةً قَبلَ الحَياةِ ؛ لأنّ الحياةَ هي التي تَدخُلُها في أن تكونَ جُملةً . و الحُكمُ (6) الذي هو صحّةُ كَونِ هذه الأجزاءِ حَيّةً لَيسَ براجِعٍ إلىٰ جُملةٍ ، فبَطَلَ في مُقتَضاه أن(7)يَكونَ راجعاً إلى الجُملةِ ، فلَم يَجِبْ أن يَكونَ ما يُصحِّحُ كَونَها حَيّةً يَجرِي مَجرىٰ

ما يُصحِّحُ كَونَها قادرةً عالِمةً في رُجوعِها إلَى الجُملةِ ، كما ذَكَرناه.

فإن قيلَ : كيفَ تَصِحُّ (8) دَعواكُم أنّ ما يَختَصُّ المَحَلَّ لا يَرجِعُ حُكمُه إلَى الجُملةِ ، و أنتُم تَعلَمونَ أنّ العِلمَ بوَجهٍ في بعضِ الجُملةِ ، يوجِبُ (9) الحالَ للجُملةِ ، و كذلك القُدرةُ و الحَياةُ؟

قُلنا: بَينَ ما ذَكَرتَه و بَينَ ما ذَكَرناه فَرقٌ واضحٌ ؛ لأنّ العِلمَ و ما جَرىٰ مَجراه إنّما

ص: 140


1- . في الأصل: «لها من»، و لا معنى له.
2- . تقدم في ص 120 و 129.
3- . في الأصل: «لا يصحّح».
4- . في الأصل: «أن يقتضي».
5- . في الأصل: «و لا يصحّ ».
6- . في الأصل: «و الحكيم».
7- . في الأصل: «فبطلت في مقتضيان»، و لا محصّل له.
8- . في الأصل: «يصحّ »، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ الدعوى ألفها للتأنيث، فلا تذكّر.
9- . في الأصل: «و يوجب».

وجبَ فيه ذلكَ مِن حَيثُ كانَ عِلّةً في كَونِ الجُملةِ على الصفةِ التي يوجِبُها، و العِلّةُ لا توجِبُ معلولَها لبعضِ الذَّواتِ إلّابَعدَ أن يَختَصَّ بها غايةَ الاختصاصِ ، و ذلكَ لا يَكونُ إلّابالحُلولِ .

و هذا بخِلافِ الذي أنكَرناه؛ لأنّا إنّما أَنكَرنا أن يُصحِّحَ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ ما حُكمُه مقصورٌ علىٰ مَحَلِّه، و بيّنّا أنّ حُكمَ الجُملةِ مع المَحَلِّ حُكمُ زَيدٍ مع عَمرٍو، فكما لا يَجوزُ أن يَصِحَّ (1) مِن زَيدٍ الفِعلُ أو غيرُه مِنَ الأحكامِ الراجعةِ إليه لأمرٍ عَلَيه عَمرٌو؛ مِن حَيثُ احتاجَ في مِثلِ ذلك إلىٰ ما يَرجِعُ إليه دونَ عَمروٍ، فكذلك(2)لا يَجوزُ أن يُصحِّحَ الجُملَةَ ما يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ ، و لا يَرجِعُ إليها. و العِلَّةُ في إيجادِها ما يوجِبُه بخِلافِ ذلكَ ، علىٰ ما ذَكَرناه.

كيفيّة اقتضاء القدرة للوجود

فإن قيلَ : ألَيسَ [كَونُ ] أحَدِنا قادراً يَقتَضي كَونَه موجوداً(3)؟ و كَونُه قادراً مِن الصفاتِ الراجعةِ إلىٰ جُملتِه، و لَيسَ كذلكَ كَونُه موجوداً؛ لأنّه راجعٌ إلىٰ أبعاضِه؛ و هذا بخِلافِ ما قُلتُم!

قُلنا: قد أجَبنا عن هذا السؤالِ فيما تَقدَّمَ ،(4) و ذَكَرنا أنّ المُقتَضيَ لغَيرِه علىٰ سَبيلِ التأثيرِ، بخِلافِ ما يَقتَضي علىٰ سَبيلِ الدَّلالةِ . و كونُ القادرِ قادراً إنّما يَقتضي كَونَه مَوجوداً علىٰ سَبيلِ الدَّلالةِ ، لا علىٰ سَبيلِ التأثيرِ، و الذي أَنكَرناه أن يَقتَضيَ ما يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ اقتضاءَ التأثيرِ؛ فبانَ الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ .

ص: 141


1- . في الأصل: «أن لا يصحّ »، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة: «فكذلك لا يجوز أن يصحّح» إلى آخره.
2- . في الأصل: «و كذلك»، و الصحيح ما أثبتناه تفريعاً على ما سبق.
3- . في الأصل: «موجود» بالرفع، و هو سهو؛ لنصب خبر «كان».
4- . تقدّم في ص 120.

علىٰ أنّ في أصحابِنا مَن يُجيبُ عن هذا السؤالِ ، بأن يَقولَ : كَونُ الواحدِ مِنّا قادراً لا يَقتَضي كَونَه موجوداً؛ لِما(1) قَدَّمناهُ مِن الأصلِ مِن رُجوعِهما إلىٰ مَوصوفَينِ (28) مُختَلِفَينِ .

و يَقولَ : إنّما وجبَ في أحَدِنا أن يَكونَ مَوجوداً مِن حَيثُ كان قادراً بقُدرةٍ ، و كانَت القُدرةُ لا تَختَصُّه إلّاأن تَحِلَّ (2) بَعضَه، و المَحَلُّ لا يَكونُ إلّامَوجوداً.

و يَقولَ : أن يكون القَديمُ تَعالىٰ قادراً يَقتَضي كَونَه موجوداً؛ لأنّ الموصوفَ بالصفتَينِ جميعاً واحدٌ، و هذا أيضاً واضحٌ .

عدم استلزام الدليل على الحياة إثباتَ البِنية و التأليف للقديم

فإن قيلَ : جميعُ ما ذَكَرتُموه في إيجابِ كَونِ القادرِ حَيّاً، يَقتَضي أن يَكونَ (3)القَديمُ جِسماً و مُرَكَّباً مِن جَواهِرَ(4) و مَبنيّاً(5) ضَرباً مِن البِنيَةِ ؛ لأنّه كما أنّ مَن لَيسَ بِحَيٍّ (6) في الشاهدِ، لا يَصِحُّ أن يَكونَ قادراً و لا عالِماً، كذلكَ [مَن] لَيسَ مُرَكَّباً مِن جَواهِرَ(7) مَبنيّاً ضَرباً(8) مِن البِنيةِ ، لا يَصِحُّ أن يَكونَ حَيّاً و لا قادراً و لا عالِماً، فإمّا أن

ص: 142


1- . في الأصل: «ممّا»، و لا موقع له؛ فإنّ الموصول مع الصلة علّة لما سبق، لا بيان له، و هو واضح.
2- . في الأصل: «أن يحلّ ».
3- . في الأصل: «لا يكون» بدل: «أن يكون»، و التأمّل في البحث يؤيّد صحّة ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «جوهر»، و الصحيح ما أثبتناه كما يظهر من قوله: «مركّباً»، و يؤيّده قوله فيما يأتي: «أو مركّباً من جواهر».
5- . في الأصل: «و مُثبتاً»، و هو سهو أو تصحيف، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما سيأتي من قوله: «مبنيّاً».
6- . في الأصل: «يجب»، و الأولى ما أثبتناه بقرينة ما سيأتي من الجواب، و إن كان لما في الأصل وجه مع تكلّف.
7- . في الأصل: «جوهر».
8- . في الأصل: «مثبتاً غيرنا» بدل: «مبنياً ضرباً»، و هو سهو.

يُثبِتوا للقَديمِ تَعالىٰ جَميعَ هذه الصفاتِ ،(1) أو يَمتَنِعوا مِن إثباتِ شيءٍ مِنها!

قُلنا: أوّلُ ما نَقولُه: إنّا لَم نُعَوِّلْ في إثباتِ «كَونِه حَيّاً و قادراً و عالِماً و سائِرِ صفاتِه» علىٰ مُجرَّدِ الوجودِ؛ لِيَلزَمَنا ما ذَكَرتُموه، و إن ثَبَتَ له سائرُ ما وَجَدناه في الشاهدِ، و إنّما عَوَّلنا علىٰ طريقةٍ مِن الاستدلالِ ، إذا تؤُمِّلَت لَم يَلزَم عَلَيها شيءٌ ممّا أُلزِمناه؛ و ذلكَ أنّ صحَّةَ الفِعلِ مِن الفاعلِ إذا اقتَضَت كَونَه علىٰ صفةٍ ، تَرجِعُ (2) إليه مِن حَيثُ كانَت الصحّةُ راجعةً إليه، و كانَ أهلُ اللُّغةِ يُسَمُّونَ مَن كانَ علىٰ هذه الصفةِ قادراً، لمّا صَحَّ مِنه الفعلُ . و كذلك(3) القولُ في صحّةِ الفِعلِ المُحكَمِ و إيجابِها كَونَه عالِماً.

و لمّا اقتَضَت(4) صحّةُ كَونِه بهاتَينِ الصفتَينِ كَونَه حَيّاً، أثبَتناه أيضاً له، فلَم يَثبُتْ إلّا ما دَلَّ عَلَيه الفِعلُ ؛ إمّا بنَفسِه أو بواسطةٍ . و الفِعلُ لا يَدُلُّ علىٰ كَونِ فاعلِه مَبنيّاً و لا مُرَكَّباً و لا علىٰ شيءٍ ممّا ذَكَرناه في السؤالِ ؛ لأنّه لا صفةَ له تَقتَضي ذلكَ ، و لا تَعلُّقَ (5) بَينَه و بَينَ شيءٍ مِن هذه الأُمورِ.

علىٰ أنّ ما ذَكَرناه مُتقدِّماً(6) - مِن أنّ المُقتَضيَ للصفةِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ راجعاً إلىٰ مَن تَرجِعُ إليه الصفةُ - يُبطِلُ ذلكَ ؛ لأنّ البِنيَةَ و التأليفَ و سائرَ ما ذُكِرَ، ممّا لا يَتَعدّىٰ حُكمُه المَحَلَّ ، فكيفَ (7) يَقتَضي صحّةَ الفِعلِ ، أو صحّةَ (8) كَونِ الفاعلِ

ص: 143


1- . و منها الجسميّة و التركيب.
2- . في الأصل: «يرجع».
3- . في الأصل: «و كلّ ».
4- . في الأصل: «اقتضى».
5- . في الأصل: «و لا يقضي»، و لا محصّل له.
6- . تقدم في ص 120 و 129.
7- . في الأصل: «و كيف»، و الصحيح ما أثبتناه تفريعاً على ما سبق.
8- . في الأصل: «صفة»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «صحّة الفعل».

قادراً، و ذلكَ في إحكامٍ؟(1)

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فإذا كانَ لا حَظَّ لِكَونِه مَبنيّاً أو مُرَكَّباً مِن جَواهرَ إلىٰ سائرِ ما ذَكَرناه، مِن تَصحيحِ كَونِه حَيّاً و قادراً، فألا جازَ أن يَكونَ حَيّاً و قادراً و إن لَم يَكُن مُرَكَّباً و لا مبنيّاً؟

و ذلك: أنّ أحَدَنا لَمْ يَحتَجْ (2) في كَونِه قادِراً و حَيّاً، أن يَكونَ مُرَكَّباً و مَبنيّاً مِن جَواهرَ لمُجرَّدِ هاتَينِ الصفتَينِ ، و إنّما احتاجَ إلىٰ ذلكَ لأنّه ممّن لا يَقدِرُ إلّا بقُدرةٍ ، و لا يَحيا(3) إلّابحَياةٍ ، و الحَياةُ و القُدرةُ لا توجِبُ الصفةَ إلّابَعدَ أن تَختَصَّه نِهايةَ الاختصاصِ ، و ذلكَ لا يَكونُ إلّابالحُلولِ ، فالبِنيةُ و التركيبُ يَحتاجُ

إليها [أحَدُنا](4) لِتَحُلَّه هذه المَعاني؛ لأنّها لا تَحُلُّ (5) إلّاما اختَصَّ مِن المَحالِّ ببِنيةٍ (6) علىٰ صفةٍ . و لو كانَ أحَدُنا لا يَحتاجُ إلى الحياةِ في كونِه حَيّاً، و لا إلَى القُدرةِ في كَونِه قادراً،(7) لَما احتاجَ إلَى البِنيةِ ، و لا إلىٰ أن يَكونَ مُرَكَّباً مِن جَواهرَ(8)، فلهذا لمّا استَغنَى القَديمُ تَعالىٰ عن المَعاني و العلَلِ في كَونِه حَيّاً و قادِراً، استَغنىٰ عن جَميعِ ذلكَ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا جازَ لكم أن تَدَّعُوا أنّ حاجةَ أحَدِنا (29) إلى البِنيةِ ،

ص: 144


1- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «و غير ذلك من الأحكام».
2- . في الأصل: «لَم يحتاج»، و هو غلط.
3- . في الأصل: «و لا حيّاً».
4- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و الضمير في قوله: «لتحلّه» يرجع إليه. و قوله: «ولو كان أحدنا لا يحتاج» يؤيّده.
5- . في الأصل: «لأنّه لا يحلّ ».
6- . في الأصل: «بينه».
7- . أي لم يكن حيّاً بحياة، و لا قادراً بقدرة، بل كان حيّاً و قادراً لنفسه، كما في القديم تعالىٰ .
8- . في الأصل: «أن يكون من جواهر مركّبة».

لا يَرجِعُ [إلىٰ ] كَونِه حَيّاً، و إنّما يَحتاجُ إلىٰ ذلكَ لأجلِ الحَياةِ التي تَحُلُّه، فقولوا أيضاً: إنّه لَم يَحتَجْ في كَونِه [قادراً إلىٰ كَونِه](1) حَيّاً، و إنّما تَحتاجُ (2) القُدرةُ إلَى الحَياةِ ممّن لَيسَ بذي قُدرةٍ يَحتاجُ (3) إلىٰ أن يَكونَ حيّاً، كما أنّ مَن(4) لَيسَ بذي قُدرةٍ و لا حَياةٍ يَحتاجُ إلىٰ أن يَكونَ مُؤلَّفاً.

و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا أنّ صحّةَ كَونِ أحَدِنا قادراً، يَقتَضي كَونَه علىٰ صفةٍ تَرجِعُ (5) إليه دونَ أبعاضِه، و أنّه لولا كَونُه علىٰ (6) هذه الصفةِ لَم يَصِحَّ كَونُه قادراً، فاستَحالَ في ذَواتٍ أُخَرَ(7) كَونُها قادرةً ، و هذا يَقتَضي فيه(8) أنّ الصفةَ تَحتاجُ (9) إلَى الصحّةِ ، دونَ المعنَى الذي يوجِبُها، و كَرَّرنا(10) ذلكَ في هذا البابِ ، و فيه إسقاطٌ لهذا السؤالِ .

علىٰ أنّ الذي يَدُلُّ علىٰ بُطلانِ [ما] يوهِمُه المُعارضُ لنا بما حَكَّمناه في هذه المسألة:

أنّا وَجَدنا الإنسانَ مِن جُملةِ العالِمِ القادِرِ؛ لِما في قَلبِه مِن العِلمِ و القُدرةِ ، فإذا فُصِلَت عنه [الحَياةُ ] فقد(11) خَرَجَ (12) مِن جُملةِ العالِمِ القادرِ؛ لخُروجِه(13) مِن جُملةِ

ص: 145


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و ما بعده قرينة عليه.
2- . في الأصل: «يحتاج».
3- . في الأصل: «لا يحتاج»، و الظاهر أنّ النفي لا معنى له، و كذلك في نظيره الآتي.
4- . في الأصل: «ممّن»، و هو سهو.
5- . في الأصل: «يرجع».
6- . في الأصل: «عن»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «يقتضي كونه على صفة».
7- . في الأصل: «آخر»، و هو سهو.
8- . في الأصل بدل «فيه» كلمة لا تقرأ.
9- . في الأصل: «يحتاج».
10- . هكذا تقرأ الكلمة في الأصل.
11- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق بقرينة قوله: «لخروجها من جملة الحيّ ».
12- . في الأصل: «خرجت»، و هو سهو؛ لرجوع الضمير إلى «الإنسان».
13- . في الأصل: «لخروجها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير أيضاً إلى الإنسان.

الحَيِّ ، و إن كانَ (1) العِلمُ و القُدرةُ باقيَينِ في(2) مُخالَفتِهما فِعلَها؛ لخُروجِهما علىٰ هذا الوَجهِ ، [فثَبَتَت] حاجةُ كونِه(3) عالِماً إلىٰ كونِه حَيّاً، و بَطَلَ تَوهُّمُ (4) مَن يَقولُ :

إنّ المَعنىٰ (5) هو الذي [لا] يَحتاجُ (6) إلَى المعنىٰ .

فإنْ قيلَ : فما الدليلُ علىٰ أنّه خَرَجَ (7) مِن جُملةِ العالِمِ الحَيِّ ، على ما ادَّعَينا؟

قُلنا: قد عَلِمنا أنّه مع الاتّصالِ يَصِحُّ مِنه الإدراكُ ، و هذا يَقتَضي تَداخُلَه في جُملةِ الحَيِّ ، و يَصِحُّ وقوعُ الأفعالِ المُبتَدَأةِ فيه، و هذا يَقتَضي كَونَه مِن جُملةِ القادرِ. فإذا انفَصَلَت [القدرة] عنه لَم يَصِحَّ الإدراكُ مِنه و لا الأفعالُ ، فخَرَجَ مِن جُملةِ الحَيِّ القادرِ؛ لبُطلانِ الأَحكامِ التي تَجعَلُه(8) مِن جُملَتِه.

و إذا كانَ خُروجُه مِن جُملةِ الحَيِّ يَتبَعُه خُروجُه مِن جُملةِ القادِرِ العالِمِ ، ثَبَتَ ما أرَدناه مِن حاجةِ هاتَينِ الصفتَينِ إلى صفةِ الحَيِّ .

فإن قيلَ : العُضوُ الواحِدُ إذا خَرَجَ مِن أن يَكونَ جِسماً، خَرَجَ مِن جُملةِ العالِمِ القادِرِ، و لَم يَجِبْ علىٰ هذا أن يَكونَ الذي أدخَلَه في جُملةِ العالِمِ القادِرِ كَونَه جِسماً؛ فألا جازَ أيضاً أن يَخرُجَ مِن جُملَةِ العالِمِ القادرِ، إذا خَرَجَ مِن كَونِه جِسماً؟

ص: 146


1- . في الأصل: «كانت»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لغلبة التذكير، و قوله: «باقيين» قرينة عليه.
2- . كذا في الأصل، و الأنسب «على»؛ لعدم وضوح معنى الظرفيّة هنا، بل المراد الاستعلاء.
3- . في الأصل: «كونها».
4- . في الأصل: «توهّمه».
5- . في الأصل: «معنى».
6- . في الأصل: «يحتاج» بدون «لا»، و هو سهو؛ فإنّ المصنّف أثبت ذلك الاحتياج.
7- . في الأصل: «أنّها خرجت»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضميرين إلى «الإنسان»، و قد سبق نظيره. و كذلك الحال في الضمائر الآتية إلى قوله: «يتبعه خروجها»، فكلُّها مؤنث في الأصل.
8- . في الأصل: «يجعلها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «الأحكام»، و ضمير المفعول إلى «الإنسان».

فلَم يَكُن كذلكَ ، إلّالأنّه لمّا خَرَجَ مِن كونِه جِسماً، خَرَجَ مِن جُملةِ الحَيِّ ، فخَرَجَ مِن جُملةِ العالِمِ ، فالتأثيرُ إنّما هو للخُروجِ مِن صفةِ الحَيِّ دونَ (1) الجسميَّةِ . و لَو جازَ أن يَخرُجَ مِن كَونِه جِسماً و لا يَخرُجَ مِن جُملةِ الحَيِّ [لم يَجُزْ] خُروجُه مِن جُملةِ العالِمِ ، فصارَ التأثيرُ لِما ذَكَرناه.

و لأنّ بدُخولِه بالجسميّةِ لا يَدخُلُ في جُملةِ القادرِ، و بدُخولِه [بالحَياةِ يَدخُلُ ](2)في جُملةِ العالِمِ القادرِ إذا كانَ في قَلبِ الحَيِّ عِلمٌ و قدرةٌ . و يَجري مَجرىٰ خُروجِ المُتحرِّكِ عن كَونِه مُتحرِّكاً لعدمِ الحركةِ و لعدمِ ذاتِه، و مع هذا فالتأثيرُ في كَونِه مُتحرِّكاً إنّما هو لوجودِ الحركةِ دونَ وجودِ ذاتِه، و إن كانَ عند عدمِ الأمرَينِ معاً يَخرُجُ مِن الصفةِ ؛ مِن حَيثُ كانَ في عدمِ الذات عدمُ الحركةِ التي هي المؤثِّرة(3).

و إنّما عَلِمنا أنّ التأثيرَ لها، دونَ جميعِ ما ارتَفَعَتِ الصفةُ عندَ عدمِه، بالطريقِ الذي ذَكَرناه؛ و هو أنّ بوجودِ الحركةِ لا بُدَّ مِن كَونِه مُتحرِّكاً، و مع وجودِ ذاتِه لا يَجِبُ ذلكَ . و صَرَفنا خُروجَه عندَ عدمِ ذاتِه عن الصفةِ ؛ إلّاأنّه لأجلِ عدمِ الحركةِ دونَ غَيرِها.

علىٰ أنّا قد بيّنّا أنّ الصفةَ لا تَقتَضي الأُخرى، إلّاإذا كانَ المَوصوفُ بهما واحداً(4)، فلَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ لِكَونِه جسماً مَدخَلٌ في تصحيحِ كَونِه عالِماً

ص: 147


1- . في الأصل: «كون»، و لا محصّل له.
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «في قلب الحيّ » قرينة عليه.
3- . في الأصل: «هو المؤثّر».
4- . تقدّم في ص 140.

و لا قادراً؛ لأنّ ما (30) به يَكونُ الجسمُ [جسماً](1) يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ و لا يَتَعدّاه، و كَونُ الحَيِّ حيّاً يَرجِعُ إلَى المَوصوفِ بأنّه عالِمٌ قادِرٌ، فجازَ أن يُصَحِّحَ (2) هاتَينِ الصفتَينِ علىٰ ما ذَكَرناه.

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ [أنّ ] القادِرَ العالِمَ لا بُدَّ مِن كَونِه حَيّاً: أنّه قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا يَجِدُ نَفسَه مُدرِكاً، و العِلمُ بذلكَ (3) مِن حالِه(4) ضَرورةٌ ، و لا بُدَّ لذلك مِن مُقتَضٍ .

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ المُقتَضي لذلكَ (5) كَونَه قادراً؛ لأنّ كَونَ القادرِ قادراً يَتَزايَدُ و يَتَناقَصُ ، و كَونُه مُدرِكاً لا يَتَزايَدُ. و لا بُدَّ مِن أن تَكونَ الصفةُ التي يَتعلَّقُ بها التزايُدُ غَيرَ الصفةِ التي لا تَزايُدَ فيها و لا تَفاوُتَ . و الذي ذَكَرناه مِن تَزايُدِ كَونِ

القادرِ قادراً بَيِّنٌ في الذاتِ الواحدةِ (6) و الذَّواتِ الكثيرةِ ؛ لأنّ أحَدَنا قد تَتَزايَدُ(7)أحوالُه في هذه الصفةِ و تَتَناقَصُ ، و كذلكَ قد تَزيدُ بعضُ أحوالِ القادرينَ فيها علىٰ بعضٍ .

و أيضاً: فلَو كانَ الإدراكُ يَصِحُّ مِن الجهةِ [المُصحِّحةِ ] لكَونِها قادرةً ، لَوجبَ أن تَكونَ القُدَرُ مُتَماثِلةً مِن حيثُ وَقَعَ بها الإدراكُ ، و مُختَلِفةً لتَغايُرِ المُتَعلَّقِ .

و كانَ أيضاً يَجِبُ أن يَصِحَّ الفِعلُ بكُلِّ عُضوٍ صَحَّ به الإدراكُ ؛ لأنّ ذلكَ

ص: 148


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، بقرينة قوله: «و كون الحيّ حيّاً يرجع».
2- . في الأصل: «يصحّ »، و هو لا يلائم المعنى المراد، بقرينة نصب لفظتي «هاتين الصفتين». مضافاً إلى أنّ قوله: «فليس يجوز أن يكون لكونه جسماً مَدخَلٌ في تصحيح كونه عالماً و لا قادراً» يؤيّده.
3- . في الأصل: «ذلك» بدون الباء.
4- . في الأصل: «حالة»، و لا محصّل لها.
5- . أي لكونه مُدرِكاً.
6- . في الأصل: «الواحد»، و هو سهو؛ للزوم المطابقة بين الصفة و الموصوف.
7- . في الأصل: «تزايد».

واجبٌ إذا كانَ المَرجِعُ في المُقتَضي إلىٰ أمرٍ واحدٍ، و قد عَلِمنا أنّ شَحمةَ الأُذُنِ يَصِحُّ بها الإدراكُ ؛ - لأنّا نُفرِّقُ بَينَ ما فيها مِن الحارِّ و الباردِ - و لا يَصِحُّ أن يَبتَدئَ الفِعلُ بها(1)، فلَو كانَ ما به يُدرِكُ هو الذي به يَقدِرُ، لَكانَ ابتداءُ الفِعلِ علىٰ هذا الوجهِ بها(2) واجباً.

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ المُقتَضي لِكَونِه مُدرِكاً كَونَه عالِماً؛ لأنّه قد يُدرِكُ (3) مع السَّهوِ و في كثيرٍ مِن الأحوالِ [مع] فَقدِ العِلمِ .

و لا يَجوزُ أن يَرجِعَ كَونُه مُدرِكاً إلىٰ كَونِه مُريداً و كارِهاً و مُعتَقِداً، أو نافِراً و مُشتَهِياً؛ لِما ذَكَرناه في كَونِه قادراً.

و كُلُّ ذلكَ ممّا حَصَلَت(4) الشبهةُ فيه، و إن حَصَلت [أيضاً] فيما تَقدَّمَ .

و إذا ثَبَتَ أنّه لا بُدَّ لهذه الصفةِ (5) مِن مقتَضٍ (6) غَيرِ ما ذَكَرناه، فتلكَ الصفةُ الزائدةُ علىٰ ما عَدَّدناه مِنَ الصفاتِ هي التي سُمّيَ مَن كانَ عَلَيها: حَيّاً.

و إذا ثَبَتَت الصفةُ و عُرِفَت، فالذي يَدُلُّ علىٰ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يُخَصُّ بها: كَونُه عالماً قادراً، و قَد دَلَّلنا علىٰ أنّ كونَ الحَيِّ حَيّاً هو المُصَحِّحُ لكَونِه عالِماً قادراً بما ذَكَرناه مِن حالِ الحَيِّ (7)، و أنّ بخُروجِه(8) مِن جُملةِ الحَيِّ يَخرُجُ مِن جُملةِ العالِمِ القادرِ.

ص: 149


1- . في الأصل: «بهما»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «شحمة الأُذن».
2- . أي بشحمة الأُذن.
3- . في الأصل: «أدرك»، و الأنسب ما أثبتناه كما لا يخفى.
4- . في الأصل: «فعل»، و لا محصّل له.
5- . أي لكونه مُدركاً.
6- . في الأصل: «مقتضي».
7- . في الأصل: «من حال إليه»، و هو مبهم، و يتّضح المعنى بما أثبتناه.
8- . في الأصل: «بخروجها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الحيّ »، و المراد به الإنسان.
عدم صحّة الاستدلال بالعجز على الحياة

فإن قيل: أيَصِحُّ الاستدلالُ علىٰ كَونِ الذاتِ حَيّةً ، بكونِها(1) عاجزةً و جاهلةً ، كما يَصِحُّ أن يَستَدِلّوا علىٰ ذلكَ بكَونِها قادرةً عالمةً؟

فإِن أبَيتُم(2) ذلكَ ، فما الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ في صحّةِ الاستدلالِ ، و أنتُم تَعلَمونَ أنّ العاجزَ الجاهلَ لا بُدَّ أن يَكونَ حيّاً، كما أنّ القادِرَ العالِمَ لا بُدَّ أن يَكونَ حَيّاً؟

و إن أجَبتُم إلىٰ صحّةِ الاستدلالِ في الجميعِ (3)، فلِمَ حَدَّدتُم «الحَيَّ » بأنّه «مَن يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ »، دونَ أن تَقولوا: «مَن يَصِحُّ أن يَعجِزَ و يَجهَلَ »(4)؟

قُلنا: أوّلُ (5) ما نقوله(6) أنّ الذي يَدُلُّ علىٰ كَونِ المَوصوفِ بصفةٍ مِن الصفاتِ ، لا

بُدَّ مِن أن يَجمَعَ بَينَ الأمرَينِ :

أحدُهما: أن يَكونَ ممّا(7) لَولاه لَم يَحصُلِ الموصوفُ علىٰ تلكَ الصفةِ .

و الآخَرُ: أن يَصِحَّ العِلمُ به قَبلَ العِلمِ بتلكَ الصفةِ .

و قد عَلِمنا أنّه لَولا كَونُ أحدِنا حَيّاً لَم يَصِحَّ أنْ يَكونَ قادراً و لا عالِماً، و العلِمُ بكَونِه علىٰ هاتَينِ الصفتَينِ يَتقدَّمُ علَى العِلمِ بكَونِه حَيّاً؛ فصَحَّ الاستدلالُ به، علىٰ ما (31) ذَكَرناه.

ص: 150


1- . في الأصل: «بكونه»، و الصحيح ما أثبتناه، و قوله: «حيّة» و «عاجزة و جاهلة» و «بكونها قادرة عالمة» قرائن تعضد ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «أثبتّم»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة عِدْله، و هو قوله: «و إن أجبتم».
3- . في الأصل: «فالجمع».
4- . في الأصل: «يسهل»، هكذا يقرأ، و هو سهو، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما سبق، و هو قوله: «بكونها عاجزة و جاهلة» و «أنّ الجاهل العاجز».
5- . و ثاني ما سوف يقوله، يأتي عند قوله: «و أما الكلام في الحدّ».
6- . في الأصل: «يقولوا».
7- . في الأصل: «ممّن»، و الأنسب ما أثبتناه.

و كذلكَ يَصِحُّ أن يَستَدِلَّ بكَونِه مُريداً و كارهاً و جاهلاً و مُعتَقِداً و ظانّاً و مُدرِكاً و مُشتَهياً و ناظِراً و نافِراً علىٰ كونِه حَيّاً؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ قد يَعلَمُه(1) الإنسانُ مِن نَفسِه أو مِن غَيرِه، و يَصِحُّ أن يَجعَله طريقاً إلَى الاستدلالِ علىٰ كَونِه حَيّاً؛ مِن حَيثُ لَولا كَونُه حَيّاً لَم يَصِحَّ جَميعُ ذلك.

فأمّا كونُه عاجزاً فبخِلافِ ما ذَكَرناه؛ لأنّه لا حالَ للعاجزِ بكَونِه عاجزاً، و إنّما المُستَفادُ بهذا الوصفِ نَفيُ كَونِه قادراً علىٰ وَجهٍ مخصوصٍ ، ففارَقَ هذا الوَجهُ جَميعَ ما تَقدَّمَ .

فأمّا مَن أثبَتَ مِن الشُّيوخِ للعاجزِ بكَونِه عاجزاً حالاً، فلَم يَتَوفَّقْ إلىٰ (2) إثباتِها، و لا قَطَعَ علىٰ نَفيِها كما فَعَلَ غَيرُه. و لا يُمكِنُه أيضاً الاستدلالُ بهذه الصفةِ علىٰ كَونِه حَيّاً؛ فإنّما(3) يُنظَرُ(4) إلىٰ إثباتِ صفةِ العاجزِ، باعتبارِ خُروجِ القادرِ عن كَونِه قادراً و حالُه(5) واحدةٌ ، فلا بُدَّ مِن أن يُعلَمَ كَونُه حَيّاً مع انتفاءِ كَونِه قادِراً، و لذلك(6) استُغنيَ عن التطرُّقِ إليه بكَونِه عاجزاً، و هو إنّما يَحصُلُ بَعدَ العِلمِ بأنّه حَيٌّ .

و أمّا الكلامُ في الحَدِّ،(7) فمُخالِفٌ لِما تَقدَّمَ ؛ لأنّه لَيسَ كُلُّ ما دَلَّ علىٰ أمرٍ مِن الأُمورِ ساغَ أن يُجعَلَ حَدّاً له. و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يُحَدَّ «الحَيُّ » بكُلِّ

ص: 151


1- . في الأصل: «قد يعلمها».
2- . في الأصل: «فلم يتوقّف على»، و الأولى ما أثبتناه، و إن أمكن أن يُفرَض لما في الأصل وجه وإن كان بعيداً.
3- . في الأصل: «إنّما» بدون الفاء، و هو لازم؛ ليكون علّة لما قبله.
4- . في الأصل: «ينظروا»، و لا وجه لحذف النون مضافاً إلى عدم ملائمته للسياق، فالصحيح ما أثبتناه.
5- . في الأصل: «و حالة».
6- . في الأصل: «ذلك» بدل «و لذلك».
7- . أي تحديد الحيّ بأنّه: «مَن يصحّ أن يَقدر و يَعلم»، و قد تقدّم في الإشكال.

ما يَصِحُّ أن يُستَدَلَّ به علىٰ إثباتِ هذه الصفةِ له. و لا بُدَّ فيما تُحَدُّ(1) به الصفةُ مِن أن يَكونَ حاصلاً لكُلِّ مُختَصٍّ بها؛ لأنّ انتفاءَه عن بعضِ المُختَصّينَ بالصفةِ يَنقُضُ (2) الحَدَّ.

و لا بُدَّ أيضاً مِن أن يَكونَ ما يُحَدُّ(3) به [الشيء] حاصلاً للمَحدودِ في كُلِّ حالٍ ، فلهذا اقتَصَرنا في حَدِّ «الحَيِّ » علىٰ أنّه «مَن يَصِحُّ أن يَقدِرَ و يَعلَمَ » أو «مَن(4)لا تَتعذَّرُ فيه هاتانِ الصفتانِ »؛ لأنّ ذلكَ حُكمٌ حاصلٌ لكُلِّ حَيٍّ قَديمٍ أو مُحدَثٍ ، ممّا لا يَتغيَّرُ و لا يَختَلِفُ عَلَيه مع ثُبوتِ كونِه حَيّاً.

و لا يَجوزُ أن يُحَدَّ «الحَيُّ » [بأنّه] من يَصِحُّ أن يَجهَلَ أو يَشتَهيَ أو يَتفكَّرَ أو يَظُنَّ أو يَعتَقِدَ؛ لأنَّ كُلَّ ذلكَ ممّا قد عَلِمنا بالدليلِ استحالتَه علىٰ بعضِ الأحياءِ ، و هو القَديمُ تَعالىٰ .

فأمّا كونُه مُدرِكاً و مُريداً و كارِهاً: فلا(5) يَجوزُ أيضاً أن نَجعَلَه حَدّاً؛ لأنّه(6) قد ثَبَتَ كَونُه تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ حَيّاً، و إن لَم يَكُن علىٰ هذه الصفاتِ .

اللّهمّ إلّاأن يُقالَ : حُدُّوا بصحّةِ (7) هذه الصفاتِ عَلَيه، كما فَعَلتُم(8) في قادرٍ و عالمٍ .

فالجَوابُ عن ذلكَ : ما ذَكَره بعضُ الشُّيوخِ مِن أنّ فيمَن يُثبِتُه حَيّاً مَن يَنفي

ص: 152


1- . في الأصل: «يُحدّ».
2- . في الأصل: «يعضّ »، و لم يتّضح لنا وجهه إلّامع تكلّف، فالأولى - و لعلّ الصحيح - ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «يحدّه»، و هو لا يلائم السياق.
4- . في الأصل: «ممّن»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «من يصحّ ».
5- . في الأصل: «و لا».
6- . في الأصل: «لأمر»، و لا محصّل له في المقام.
7- . في الأصل: «لصحّة».
8- . في الأصل: «فعلهم».

عنه صحّةَ كَونِه مُريداً و كارهاً و مُدرِكاً، و هم البَغداديّونَ (1). فَنُعَوِّلُ (2) في الحَدِّ علَى الصفاتِ التي لا يُثبته حَيّاً إلّامَن أثبتها عليه(3).

و مَن تَمكَّنَ أن يَحُدَّ الحَيَّ بأنّه «يَصِحُّ أن يُريدَ و يَكرَهَ و يُدرِكَ »، [إنّما يُعوِّلُ في ذلك علىٰ ] أنّه(4) لا يَكونُ حَيّاً(5) إلّاو يَصِحُّ ذلكَ فيه، كصحّةِ (6) كَونِه قادراً و عالِماً. و لا يَجعَلُ خِلافَ مَن خالَفَ مِن البَغداديّينَ مؤثِّراً في هذا الحَدِّ؛ لأنّ الحُدودَ بالِغةٌ (7)لِما ثَبَتَ مِن المَعاني بالأدلّةِ ، و الخِلافُ فيها بالشُّبهةِ لا يُؤثِّرُ، غَيرَ أنّ التعويلَ علىٰ كَونِه قادراً و عالِماً كأنّه أوضَحُ [و] إن كانَ المجموعُ في المعنىٰ واحداً.

ص: 153


1- . المقصود بهم معتزلة بغداد، الذين يشكّلونَ أحد التيّارين الرئيسَين في مذهب الاعتزال، في مقابل التيّار الثاني الذي يشكّله معتزلة البصرة. و بحسب نقل المؤرّخين تعدّ مدينة البصرة منشأ الاعتزال و مَحْتِده و مدرسته لقرون طويلة، إلى أن اختلف بِشْرُ بن المُعْتَمِر (المتوفىٰ سنة 226 ه) مع أبي الهُذيل العلّاف، فهاجر من البصرة و سكن بغداد و بدأ نشاطه هناك، فأسّس الفرع البغدادي لمدرسة الاعتزال. و من مميّزات هذه المدرسة أنّها علويّة الهوىٰ ، في مقابل معتزلة البصرة التي كانت عثمانيّة الهوىٰ ، و لذلك وصفهم بعض المترجمين بأنّهم «متشيّعة المعتزلة»، و مِن أعلام هذه المدرسة: ثمامة بن الأشرس، و أحمد بن أبي دُؤاد، و أبو موسى المردار، و جعفر بن مبشّر، و جعفر بن حرب، و أبو الحسن الخيّاط، و عيسى بن الهيثم الصوفي، و الإسكافي، و أبو القاسم البلخي الكعبي و غيرهم. راجع: الملل و النحل للشهرستاني، ج 1، ص 56-96؛ الانتصار، ص 100؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 7-9؛ الفهرست لابن النديم، ص 205 و 206 و 213؛ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 2، ص 177.
2- . في الأصل: «فنقول»، و الصحيح ما أثبتناه، و قوله: «غير أنّ التعويل على كونه قادراً» قرينة عليه.
3- . في الأصل: «أثبته عليها»، و الصحيح ما أثبتناه، و المعنى: التي لا يثبت الحيَّ حيّاً إلّامَن أثبت تلك الصفات عليه.
4- . في الأصل: «لأنّه»، و الأنسب ما أثبتناه.
5- . قوله: «لا يكون حيّاً»، أي لا يكون الحيّ حيّاً.
6- . في الأصل: «لصحّة»، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ الغرض بيان المشابهة، لا ذكر العلّة.
7- . كذا في الأصل، و الظاهر أنّ الأولى: «جامعة».

فإن قيلَ : كيفَ كانَ حَدُّكم «الحَيَّ » بأنّه(1) الذي «يَصِحُّ أن يَقدِرَ و أن يَعلَمَ » مُستَقيماً، و القَديمُ تَعالىٰ حَيٌّ ، و لا يَجوزُ أن يُقالَ : إنّه «يَصِحُّ أن يَقدرَ و يَعلَمَ »؟

قُلنا: المَعاني إذا فُهِمَت لَم يَكُن للتعلُّق(2) بالعباراتِ (32) معنىً . و معنىٰ قولِنا:

«يَصِحُّ » هو(3) أنّه لَيسَ بمُستَحيلٍ ، و أنّه لا يَتَعذَّرُ. و معلومٌ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يُثبِتونَ كَونَه قادراً و عالماً، فقد(4) حَصَلَتِ الصحةُ التي أَورَدناها، و انتفَىٰ التَعذُّرُ(5)و الاستحالةُ ، و لهذا اختارَ بعضُنا بَدَلاً مِن قَولِنا: «يَصِحُّ »، «لا(6) يَتعَذَّرُ له أن يَكونَ قادراً عالماً».

ص: 154


1- . في الأصل: «فإنّه».
2- . في الأصل: «التعلّق».
3- . في الأصل: «و هو»، و الواو زائدة.
4- . في الأصل: «قد».
5- . في الأصل: «للتعذّر»، و هو سهو؛ فإنّ المراد بيان انتفاء التعذّر و الاستحالة و حصول الصحّة، لا بيان العلّة للانتفاء، مضافاً إلى أنّه بناءً على ما في الأصل يكون الانتفاء بدون متعلَّق، و هو ما ينتفي.
6- . في الأصل: «و لا»، و الظاهر أنّه لا وجه للواو.
ال فَصلُ الرابع في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ
اشارة

[ال] فَصلُ [الرابع] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ(1)

اعلَم أنّ هذا الفصلَ (2) لا يَتِمُّ العِلمُ به إلّابَعدَ أُمورٍ:

منها: الدَّلالةُ علىٰ إثباتِ كَونِ الواحد(3) مِنّا مُدرِكاً(4)، و أنّ له بكَونِه مُدرِكاً حالاً مُخالِفةً للحالِ التي تَجِبُ (5) له بكَونِه قادراً و عالِماً، و سائِر أحوالِ الحَيِّ .

و منها: أنّ المُقتَضيَ لهذه(6) الحالِ كَونُه حَيّاً دونَ سائرِ الأحوالِ ، و أنّه لا مَدخَلَ لها(7)

ص: 155


1- . في هامش الأصل: «في إثبات الإدراك».
2- . في الأصل: «الكتاب».
3- . في الأصل: «الزائد»، و هو سهو، و الصحيح ما أثبتناه؛ إذ الغرض - كما يتبيّن ممّا يأتي من كلامه رحمه اللّٰه - بيان أنّ الإدراك صفة زائدة على العلم فينا، بأنّ الواحد منّا إدراكه زائد على علمه، فيجب أن يكون الباري تعالى كذلك؛ لأنّ المقتضي لكون الإدراك فينا زائداً على العلم موجود للّٰه تعالى، و هو الحياة. و الغرض أيضاً هو بيان أنّ الإدراك البصريّ و السمعيّ زائدانِ على العلم بالمبصر و المسموع في الشاهد و الغائب، فكذا هو تعالى في الأزل سميع لا سامع، و بصير لا مبصِر؛ إذ ليس في الأزل موجود غيره سبحانه، فيدركه. راجع: الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، ص 56-58؛ أنوار الملكوت، ص 65 و 66؛ مناهج اليقين، ص 283؛ إشراق اللاهوت، ص 210 و 211.
4- . اعلم أنّ الإدراك عند المتكلّمين هو الإدراك الحسّي خاصّة، لا مطلق المعرفة، و يُستعمل الإدراك في حقّه تعالىٰ في خصوص السمع و البصر؛ لعدم ثبوت باقي الحواسّ الخمس له عزّ وجلّ .
5- . في الأصل: «يجب».
6- . في الأصل: «لهذا»، و الأولى ما أثبتناه، و قوله: «للحال التي» و «هذه الحال» يؤيّده.
7- . في الأصل: «له»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الحال».

في اقتضاءِ ذلكَ الحَواسُّ و صِفاتُها.(1)

و منها: إثباتُه تَعالىٰ علىٰ هذه الحالِ ، و بيانُ المُرادِ بقَولِنا: «إنّه سَميعٌ بَصيرٌ»

و الدَّلالَةُ علىٰ حُصولِه تَعالىٰ بهذه الصفةِ . و الكلامُ في أنّ (2) السَميعَ و البَصيرَ بِكَونهِ علىٰ هاتَينِ الصفتَينِ حالٌ زائدةٌ علىٰ كَونِه حَيّاً لا آفةَ به؛ أو لا حالَ له يَزيدُ علىٰ ذلكَ .(3)

البحث الأوّل
ألف. إثبات صفة الإدراك فينا

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ إثباتِ هذه الصفةِ فينا، [فإنّ ] مِن أوضَحِ ما(4) يَدُلُّ عليه أنّ أحَدَنا(5) يَجِدُ نفسَه مُدرِكاً، كما يَجِدُ(6) نفسَه مُعتَقِداً و مُريداً و كارهاً و مفكِّراً. و لا شَيءَ أظهَرُ ممّا يَجِدُه الإنسانُ نَفسُه عليه. فإثباتُ هذه الحالِ لا شُبهةَ فيه.

ب. إثبات امتياز صفة الإدراك عن غيرها من الصفات
اشارة

و إنمّا(7) الشُّبهةُ في غَيرِها مِن أحوالِه الباقيةِ ؛ لأنّ في الناسِ مَن يَعتَقِدُ أنّ المَرجِعَ بهذه الصفةِ إلىٰ كَونِه عالِماً(8)، و نحنُ نُبطِلُ ذلكَ . و نُبطِلُ (9) أيضاً أن يَكونَ المَرجِعُ

ص: 156


1- . أي و أنّه لامدخل للحواسّ و صفاتها في اقتضاء ذلك.
2- . في الأصل: «فعل» بدل «أنّ »، و لا محصّل له.
3- . فهذا الفصل يحتوي علىٰ ثلاثة بحوث رئيسة، و كلّ واحد منها يحتوي علىٰ أكثر من مسألة.
4- . في الأصل: «ما وضح من».
5- . في الأصل: «لأحدنا» بدل: «أنّ أحدنا».
6- . في الأصل: «كما يجب».
7- . في الأصل: «و أمّا».
8- . و هم معتزلة بغداد. انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 109.
9- . في الأصل: «و يبطل».

بها إلىٰ كَونِه حَيّاً و قادراً و مُريداً و كارهاً و مُشتَهياً و نافِراً، و إن كانَت(1) الشُّبهةُ [لَم] تُنقَلْ (2) فيما عَدا كَونِه عالِماً و حَيّاً مِن الصفاتِ .

أوّلاً: امتياز صفة الإدراك عن العلم
اشارة

و الذي يَدُلُّ علَى انفصالِ هذه الصفةِ (3)[عن](4) كونِه(5) عالِماً و زيادتِها عَلَيها: أنّه لا شيءَ أبلَغُ في العِلمِ بتغايُرِ(6) الصفتَينِ مِن ثُبوتِ كُلِّ واحدٍ مِنهما مع عدمِ الأُخرىٰ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا جازَ أن يَكونَ قادراً. و إن لَم يَكُن عالِماً، [و أن يَكونَ عالِماً] و إن لم يَكُن قادراً، حَكَمنا بتَغايُرِ الصفتَينِ؟

1. إثبات العلم مع فَقْد الإدراك

و قد عَلِمنا أنّ أحَدَنا يَكونُ عالِماً و إن لَم يَكُن مُدرِكاً؛ بدَلالةِ أنّا(7) نَعلَمُ الصَّوتَ بَعدَ تَقَضّيهِ ، و يَستَمِرُّ كَونُنا عالمينَ به، و إن لَم نَكُن مُدرِكينَ له. و نَعلَمُ المعلومَ و القَديمَ و سائرَ الذواتِ التي لا يَجوزُ عَلَيها الإدراكُ ، و إن لم نَكُن مُدرِكينَ لها. و هذا الوَجهُ ممّا لا يَشتَبِهُ (8).

ص: 157


1- . في الأصل: «كان».
2- . في الأصل: «نقل» بدل «لم تنقل»، و ما أثبتناه هو ما يقتضيه السياق.
3- . أي صفة الإدراك.
4- . في الأصل: «هي»، و ما أثبتناه أنسب؛ فإنّ المراد إثبات انفصال الإدراك عن العلم.
5- . في الأصل: «كونها».
6- . في الأصل: «لتغاير»، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ العلم ضُمِّنَ معنى «شَعَرَ» فدخلت الباء في مفعوله. راجع: المصباح المنير، ص 427 (علم).
7- . في الأصل: «ألّا».
8- . في الأصل: «لا يشتهيه».
2. إثبات الإدراك مع فَقْد العلم

و أمّا إثباتُ الإدراكِ مع فَقدِ العِلمِ : فطريقُه(1) أنّ النائمَ مُدرِكٌ في حالِ نَومِه الأصواتَ و غَيرَها و إن لم يَكُن [عالِماً بها(2)](3)؛ ألا تَرىٰ أنّه قد يَنتَبِهُ بالصَّوتِ الشَّديدِ؟ فلا يَخلو مِن أن يَكونَ أَدرَكَه في حالِ نَومِه، أو بَعدَ انتباهِه، فلَو أدرَكَه بَعدَ الانتباهِ لَم يَكُن هو السَّبَبَ ، فثَبَتَ أنّه أدرَكَه نائماً.

و لهذا رُبَّما تَنَغَّصَ (4) نَومُه و اضطَرَبَ ، و تَحرَّكَ لِقَرصِ (5) البَراغيثِ و غَيرِ ذلكَ ممّا يؤلِمُه. و لَو كانَ لا يُدرِكُ ، ما ثَبَتَ ما(6) ذَكَرناه فيه. و لهذا أيضاً إذا تَحدَّثَ [الإنسان](7) أو حُدِّثَ بحَضرةِ النائمِ ، لَاعتَقَدَ(8) أنّ الحَديثَ الذي يَسمَعُه شَيءٌ يَراهُ في مَنامِه، و لَولا أنّه مُدرِكٌ لَما وجبَ ذلكَ فيه.

و لَيسَ (9) يَجوزُ أن يُقالَ : إنّه يُدركُ و يَعلَمُ ؛ لأنّ النومَ [يَمنَعُ ](10) مِن ثُبوتِ العِلمِ

ص: 158


1- . في الأصل: «بطريقه».
2- . فإنّ النائم إنّما يسمع الأصوات و يدركها بحاسّة سمعه، من دون أن يكون له علمٌ بها بالمعنى الاصطلاحي للعلم الذي يقتضي سكون النفس، فإنّ ذلك بحاجة إلى الانتباه و اليقظة.
3- . ما بين المعقوفين أضفناه بقرينة قوله: «مع فقد العلم».
4- . في الأصل: «تنغّض»، و هو لا يناسب المقام؛ فإنّ «تنغّض» بمعنى تحرّك و اضطرب، و هو لايلائم النوم، و أمّا «تنغّص» بالصاد المهملة، فهو يناسب المقام؛ فإنّه بمعنى تكدّر. راجع: لسان العرب، ج 7، ص 99 (نغص)؛ و ص 238 (نغض).
5- . في الأصل: «العرض»، و ما أثبتناه استفدناه من كتاب التعليق، ص 40. و القَرْص أخذُك لحم الإنسان بإصبعك حتّى تؤلمه، و لَسْعُ البراغيث. راجع: القاموس المحيط، ج 2، ص 478 (قرص). و للمزيد راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 109؛ الحدود، ص 68.
6- . في الأصل: «لما».
7- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق. و للمزيد راجع: الكامل في الاستقصاء، ص 264.
8- . في الأصل: «يعتقد»، و الأولىٰ ما أثبتناه.
9- . في الأصل: «فليس».
10- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض.

بالمُدرَكاتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ النائمَ لَو عَلِمَ ما يُدرِكُه [حقيقةً ]، لَما تَخيَّلَ له في الصَّوتِ الذي يَسمَعُه أنّه شَيءٌ يَراه في مَنامِه، و لَوَجبَ (1) أن يَكونَ النائمُ يَعلَمُ في حالِ نَومِه (33) جَميعَ ما كانَ [يَعلَمُه و هو](2) يَقظانُ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .

و الذي يَدُلُّ أيضاً علىٰ ما ذَكَرناه:(3) أنّ أحَدَنا قد يَعلَمُ الألمَ في جسمِ غَيرِه، [و لا يُدْرِكه](4)، فلا يألَمُ به [إلّا] مَن كانَ في جسمِه مِن حَيثُ أَدرَكَه، فلَو كانَ الإدراكُ لا يَزيدُ علَى العِلمِ (5)، لَوجَبَ أن يَستَويَ حالُ مَن ذَكَرناه في الإدراكِ أو عدمِه(6)؛ مِن حَيثُ استوائهما(7) في العِلمِ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ الذي يَحُلُّ جسمَه الألمُ عَليلٌ (8) مع نُفورِ نفسِه عنه، فلهذا ألِمَ به.(9)

و ذلكَ : أنّ النُّفورَ حاصلٌ في العالِمينَ جميعاً؛(10) ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا مع نُفورِه عن الألَمِ لا يَتألّمُ بما(11) يَعلَمُهُ في جسمِ غَيرِه مِن الألمِ؟ و الاشتراكُ في

ص: 159


1- . في الأصل: «و لو وجب».
2- . في الأصل مكان ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق في المقام.
3- . أي علىٰ انفصال الإدراك عن العلم.
4- . ما بين المعقوفين هو الأنسب؛ لأنّ البحث عن انفصال الإدراك عن العلم.
5- . في الأصل: «العالم».
6- . في الأصل: «في الحال أو بعده»، و ما أثبتناه معلوم بالتأمّل فيما سبق من البيان.
7- . في الأصل: «استواء»، و الصحيح ما أثبتناه، أي من حيث استواء حالتي الإدراك و عدمه.
8- . في الأصل: «عليلاً».
9- . أي أنّ ألم صاحب الألم ناشئٌ من نفوره من الألم، لا من إدراكه له، فيبطل الدليل المتقدّم.
10- . سواء صاحب الألم، أو غيره مع علمه بالألم.
11- . في الأصل: «لا» بدل «بما».

النُّفورِ كالاشتراكِ في العِلمِ و حالتهما(1) مختَلِفةٌ ، فلَولا حُصولُ نُفوره(2) بالإدراكِ لَم يَجِبْ ذلكَ .

عدم رجوع اختلاف حال المتألِّم و غيره إلىٰ اختلاف طرق العلم

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ اختلافَ الحالِ بَينَ (3) المُدرِكِ الألمَ في جسمِه و العالِمِ به، و بَينَ مَن يَعلَمُ ذلكَ في جسمِ غَيرِه، إنّما هو لاختلافِ (4) طريقِ العِلمِ ، لا لِحالٍ زائدةٍ علَى العِلمِ . كما أنّ أحَدَنا يُفرِّقُ بَينَ كَونِه عالِماً بالشيءِ ضَرورةً ، و بَينَ كَونِه عالِماً بالاستدلالِ .

و ذلك أنّ اختلافَ طُرُقِ العِلمِ و جهاتِ حُصولِه، لا يؤثِّرُ فيما(5) يَجِدُه العالِمُ مِن نَفسِه، و لا يَقتَضي اختلافَ حالِه. و لَو لَم يَكُن لِمَن أدرَكَ الألمَ في جسمِه و عَلِمَه، حالةٌ زائدةٌ علىٰ حالِه إذا عَلِمَه حالاًّ في غَيرِه، لَما وُجِدَ هذا الفَرقُ الذي أَشَرنا إليه؛ لأنّ الحَيَّ إنّما يَجِدُ نفسَه علىٰ ما يَختَصُّ به مِن الصفاتِ و [غيرها من](6) أحوالِه، دونَ ما لَيسَ له هذا الحَظُّ. و اختلافُ طَريقِ العِلمِ إذا كانَ لا يَتعلَّقُ بالحَيِّ ، و لا

ص: 160


1- . . في الأصل: «و حالتها»، و الأنسب ما أثبتناه، فإنّ المقصود بيان أنّ المتألّم و العالِم بالألم مشتركان في النفور و العلم مع أنّ حالتهما مختلفة، فإنّ هذا يتألَّم و ذاك لايتألَّم، و لولا كون هذا الاختلاف ناشئاً من الإدراك و عدمه لَما وجب.
2- . في الأصل: «حصول موته»، هكذا يقرأ، و لا محصّل له في المقام، و ما أثبتناه هو غاية ما يمكن أن يُثبَتَ في المقام بقرينة ما سبق.
3- . في الأصل: «و بين» بالواو، و هي زائدة.
4- . في الأصل: «لاختلال»، و ما أثبتناه هو الأنسب بقرينة قوله فيما يأتي: «و ذلك أنّ اختلاف طرق العلم».
5- . في الأصل: «فيها».
6- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «لغير»، و لا محصّل له.

يوجِبُ له صفةً ، فكيفَ يَستَنِدُ(1) الفَرقُ الذي مِن نفسِه إليه(2)؟

اللّهمَّ إلّاأن يُدَّعىٰ أنّ الحَيَّ بهذا الاختلافِ قَد حَصَلَت له صفةٌ تَرجِعُ إليه زائدةٌ ، فيَكونَ وِفاقاً في المعنىٰ و خِلافاً في العبارةِ .

علىٰ أنّه يُمكِنُ أن يُقالَ : في كُلِّ صفتَينِ مُختَلِفتَينِ مِن صفاتِ الحَيِّ يَجِدُ نفسَه عَلَيهما شَواهِدَ؛ فيُقالَ : إنّ كَونَه مُريداً يَرجِعُ في المعنىٰ إلىٰ كَونِه مُعتَقِداً، و إنّما

يَجِدُ الفَرقَ لاِختلافِ الجهاتِ أو غَيرِ ذلكَ ممّا يَقتَضِي اختِلافَ الصفتَينِ في نُفوسِهما. و لا مَخلَصَ مِن ذلكَ إلّابما اعتَبَرناه.

فأمّا الفَرقُ بَينَ العِلمِ الضَّروريِّ و المُكتَسَبِ : فله(3) وجهٌ معقولٌ لا يَقتَضي اختلافَ الصفةِ ، و إنّما فُرِّقَ بَينَهما مِن حَيثُ كانَ أحَدُهما - و هو الضروريُّ - لا يُمكِنُ العالِمَ به إخراجُ نفسِه عنه، و يُمكِنُه(4) ذلك في الآخَرِ علىٰ بعضِ الوجوهِ . فمِن هنا حَصَلَ الفَرقُ ، لا مِنْ حيثُ اختلَفَت(5) الصفةُ ، و هذا لا يُمكِنُ أن يُقالَ في العِلمِ بالألمِ الذي ذَكَرناه، بل لا وَجهَ للفَرقِ هُناكَ إلّااختلافُ الصفةِ .

و يدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ :(6) أنّ كَونَ المُدرِكِ مُدرِكاً يَتعلَّقُ ببَعضِ ما يَصِحُّ أن يُعلَمَ دونَ [جَميعِه]، فيَجِبُ مُخالَفةُ كَونِه مُدرِكاً لِكَونِه عالِماً، كما وجبَ ذلكَ في كَونِه مُريداً و عالِماً.

ص: 161


1- . في الأصل: «يستدلّ ».
2- . لعلّ الصحيح إضافة كلمة «ليس»، فتصير الجملة: «الذي [ليس] من نفسه إليه».
3- . في الأصل: «و له»، و هو سهو؛ للزوم الفاء في جواب «أمّا».
4- . في الأصل: «و تمكنه».
5- . في الأصل: «اختلّت»، و قوله: «إلّا اختلاف الصفة» قرينة على صحّة ما أثبتناه.
6- . أي على انفصال الإدراك عن العلم.

و أيضاً: فإنّ عدمَ المُدرَكِ يُحيلُ تعلُّقَ الإدراكِ به، و لا يُحيلُ (1) ذلك كَونَه(2)متعلَّقَ (3) العِلمِ .

و يَمنَعُ عن إدراكِ المُدرَكِ مَوانِعُ كثيرةٌ لا تَمنَعُ عن العِلمِ به، و فَسادُ الحاسّةِ يؤثِّرُ في الإدراكِ و لا يُؤَثِّرُ في العِلمِ .

و أيضاً: فبعضُ الأجناسِ يَختَصُّ بصحّةِ أن يُدرَكَ ، و بعضُ ما(4) يَختَصُّ بذلكَ إنّما يَصِحُّ أن يُدرَكَ علىٰ أخَصِّ أوصافِه دونَ سائرِ صفاتِه، و إن كانَ الكُلُّ يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ [به] العِلمُ .

فهذا كُلُّه بَيِّنٌ في [أنّ ] الإدراكَ غَيرُ العِلمِ .

ثانياً: امتياز صفة الإدراك عن الحياة

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ [أنّ ] كَونَه مُدرِكاً صفةٌ زائدةٌ علىٰ كَونِه حَيّاً: أنّا قد عَلِمنا أنّ كَونَه (34) مُدرِكاً يَتعلَّقُ بغَيرِه(5)، [و كَونَه حَيّاً لا يَتعلَّقُ بغَيرِه.

ولأنّ كون الحيِّ حيّاً لا يجده الإنسان من نفسِه، و إنّما يَعلمه بالدليلِ و النظرِ، بينما كونُه مدرِكاً ممّا يجده الإنسان من نفسه،](6) فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ما يَجِبُ له النظَرُ غَيرَ ما لا يَجِبُ فيه ذلكَ .

ص: 162


1- . في الأصل: «يحتل».
2- . في الأصل: «في كونه».
3- . في الأصل: «تعلّق».
4- . في الأصل: «بعض و ما به».
5- . في الأصل: + «فلا بدّ من أن يكون ما يجب له النظر غير ما لا يجب فيه ذلك، و لأنّ كونه مدركاً متعلق بغيره»، و هو زائد و مكرّر.
6- . ما بين المعقوفتين قد أضفناه من كتاب تمهيد الأُصول، ص 45، و بدونه يختلّ الكلام.

و لأنّ كَونَه مُدرِكاً يَتجدَّدُ(1)، و كَونَه حَيّاً مُستَمِرٌّ غَيرُ مُتجدِّدٍ، و لا بُدَّ علىٰ هذا اختلافُهما.

و لَيسَ لأحَدٍ [أن] يَدَّعي أنّ كَونَه مُدرِكاً لا يَتجدَّدُ مع استمرارِ كَونِه حَيّاً، بل يَستَمِرُّ استمرارَ هذه الصفةِ .

لأنّه لَو كانَت هذه الصفةُ مُستَمِرّةً (2) - و هي ممّا يَجِدُ نفسَه عَلَيها(3) - لَوجبَ أن

يَجِدَ نفسَه في سائرِ الأحوالِ علَى الحالةِ (4) التي يَجِدُها عندَ إدراكِه المُدرَكاتِ ؛ مِن الأصواتِ و الأشخاصِ و غَيرِها، و قد عَلِمنا(5) خِلافَ ذلكَ .

و أيضاً: فإنّه بكَونِه(6) حَيّاً يَصيرُ كالشيءِ الواحدِ، و هذه الصفةُ هي التي تَجعَلُ الجُملةَ جُملةً ، و كَونُه مُدْرِكاً لا حَظَّ [له] في ذلك.

و أيضاً: فإنّه يَحتاجُ في كَونِه مُدرِكاً لِمُدرِكاتٍ (7) مُختَلِفةٍ ؛ كالسَّمعِ و البَصَرِ و غَيرِهما، و لا يَحتاجُ في كَونِه حَيّاً إلىٰ شَيءٍ مِن ذلكَ .

ثالثاً: امتياز صفة الإدراك عن القدرة

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ صفةَ المُدرِكِ مخالِفةٌ لصفةِ القادرِ: أنّه يَقدِرُ علىٰ ما لا يُدرِكُ ؛ كالاعتقاداتِ و الإرادات و الأكوانِ و غَيرِها، و يُدرِكُ ما لا يَقدِرُ عَلَيه؛ كالألوانِ و الطُّعومِ و الجَواهرِ.

ص: 163


1- . في الأصل: + «و كونه حيّاً لا يتجدّد»، و غير خفيّ أنّه من سهو الناسخ.
2- . في الأصل: «مستمرّاً».
3- . في الأصل: «فيها»، و قوله: «على الحالة» يؤيّد صحّة ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «الحاجة».
5- . في الأصل: «و قد علم بنا»، و لا محصّل له.
6- . في الأصل: «يكون».
7- . أي لآلات مختلفة تساعده على الإدراك الحسيّ . ثمّ إنّ قوله: «لمدرِكات» متعلّق ب «يحتاج» لا ب «مدرِكاً».

[و] أيضاً: فإنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ إلّابالمعدومِ ، و إذا وُجِدَ بَطَلَ تَعلُّقُها به، و الإدراكُ لا يَتعلَّقُ إلّابالموجودِ، و إذا عُدِمَ لَم يَتعلَّقْ به.

و أيضاً: فإنّ صفةَ القادرِ يَقَعُ فيها التفاوتُ و التزايد(1)، و الإدراكُ لا يُتزايَدُ فيه.

و أيضاً: فإنّ القُدرةَ يَخرُجُ بها الشيءُ مِن العدمِ إلَى الوجودِ، و الإدراكُ يَتعلَّقُ بالشيءِ علىٰ ما هو به، و لا يَجعَلُه علىٰ شَيءٍ مِن صفاتِه.

رابعاً: امتياز صفة الإدراك عن الإرادة و الكراهة و الشهوة و النفرة

فأمّا إثباتُ الإدراكِ صفةً زائدةً علىٰ كَونِ المُريدِ مُريداً: فهو أنّه يُريدُ ما لا يُدرِكُ و يُدرِكُ ما لا يُريدُ.

و كذلك القولُ في الكراهة(2) و الشَّهوةِ و النِّفرةِ .

فوَضَحَ بهذه الجُملةِ أنّ كَونَ المُدرِكِ مُدرِكاً(3) صفةٌ زائدةٌ علىٰ جميعِ صفاتِه المعقولةِ .

البحث الثاني
ألف. اقتضاء الحياة لصفة الإدراك بشروطه

و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المُقتَضيَ لهذهِ الصفةِ كَونُه حَيّاً:(4) أنّه قد ثَبَتَ أنّ أحَدَنا إذا

ص: 164


1- . في الأصل: «و الزائد». و السياق يشهد بصحّة ما أثبتناه، و قوله: «و الإدراك لا يتزايد فيه» يؤيّده.
2- . في الأصل: «الإرادة»، و هو خطأ؛ لأنّه قد أثبتَ الآن امتياز الإدراك عن الإرادة، فلا معنىٰ لعطف الإرادة على نفسها. و إنّما أثبتنا: «الكراهة» بقرينة ما تقدّم من قول المصنّف في بداية البحث عن امتياز صفة الإدراك عن غيرها من الصفات: «... المرجع بها إلى كونه حيّاً و قادراً و مريداً و كارهاً و مشتهياً و نافراً».
3- . في الأصل: «مدرك».
4- . هذا البحث لا يتنافىٰ مع ما تقدّم من زيادة صفة الإدراك علىٰ صفة الحياة، فإنّ جهة البحث مختلفة.

كانَ حَيّاً، و وُجِدَ المُدرَكُ ، و ارتَفَعَت المَوانعُ و الآفاتُ ، و صَحَّت حَواسُّه، فلا بُدَّ مِن كَونِه مُدرِكاً؛ فلا يَخلو مِن أنّ المُقتَضيَ لِكَونِه مُدرِكاً هو وجودُ المُدرَكِ ، أو وجودُ معنىً هو الإدراكُ ، أو(1) ارتفاعُ الآفاتِ و المَوانعِ ، أو صحّةُ الحاسّةِ ، أو كَونُه حَيّاً بشَرطِ ما ذَكَرناه.(2)

[1.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ وجودُ(3) مُدرَكٍ مُقتَضياً(4) لهذه الصفةِ ؛ لأنّه كانَ يؤَدّي إلَى استحالةِ كَونِه مُدرِكاً لِذاتَين(5) مُتضادَّتَين(6) في حالةٍ واحدةٍ ، كالسوادِ و البياضِ

و ما أشبَهَهما؛ مِن حَيثُ كانَ يَجِبُ علىٰ (7) هذا القولِ أن يَكونَ علىٰ صفتَينِ مُتَضادَّتينِ .

[و] لأنّه كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ مُدرِكاً و إن لَم يَكُن حَيّاً.

[2. و] لا يَجوزُ أن يَكونَ كذلكَ (8) لوُجودِ معنىً هو إدراكٌ ؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّ المُدرَكَ لا يُدْرَكُ بإدراكٍ .

و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَصِحَّ كَونُه مُدرِكاً للمحجوبِ و البَعيدِ و الدَّقيقِ ؛ لأنّ عَينَه مُحتَمِلةٌ لذلكَ المعنىٰ .

ص: 165


1- . في الأصل: «و» بدل «أو».
2- . فهذه خمسة شقوق، و الأخير هو المطلوب.
3- . في الأصل: «وجوده».
4- . في الأصل: «مقتضي».
5- . في الأصل: «كالذاتين».
6- . في الأصل: «متضادّين»، و هكذا في قوله: «على صفتين متضادّتين»، فإنّها جاءت أيضاً في الأصل بصورة: «متضادّين».
7- . في الأصل: «حتّى».
8- . أي أن يكون المدرِك مدرِكاً.

[3.] و لا يَجوزُ أن يَكونَ المُقتضي لذلكَ ارتفاعَ الآفاتِ و المَوانعِ ؛ لأنّه يَرجِعُ ذلكَ إلَى النَّفيِ ، و النَّفيُ لا اختصاصَ له بهذه الذاتِ دونَ غَيرِها. و الصفةُ المُختَصّةُ ببعضِ الذاتِ لا بُدَّ مِن إثباتِ مُقتَضٍ لها يَختَصُّ بتلك الذاتِ .

[4.] فأمّا صحّةُ الحاسّةِ فمَرجِعُها(1) إلىٰ مَعانٍ تَختَصُّ المَحَلَّ ؛ كالتأليفِ و ما يَجرِي مَجراه ممّا لا يَتَعدّىٰ حُكمُه مَحَلَّه، و قد بيّنّا(2) أنّ ما يَرجِعُ إلَى الجُملةِ (35) مِن الصفاتِ ،(3) لا يَجوزُ أن يَقتَضيَه إلّا(4) ما يَرجِعُ إليها، دونَ ما يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ الذي هو في حُكمِ الغَيرِ لها.

[5.] و إذا بَطَلَ ذلكَ ، ثَبَتَ أنّ المُقتَضيَ لهذه الصفةِ كَونُ الحَيِّ حَيّاً بالشُّروطِ التي ذَكَرنا.

و يدُلُّ علىٰ ذلكَ :(5) أنّا وَجَدنا كُلَّ ما يَدخُلُ الحَيَّ يَصِحُّ الإدراكُ به، و ما يَخرُجُ مِن جُملتِه لا يَصِحُّ الإدراكُ به، فلا وَجهَ (6) لاِستحالةِ الإدراكِ به إلّا(7) خُروجُه مِن جُملةِ الحَيِّ ، كما لا وَجهَ لصحّةِ ذلكَ إلّادُخولُه في جُملتِه.

فإن قيلَ : لِمَ قُلتُم إنّ العُضوَ يَصِحُّ الإدراكُ به لِما ادَّعَيتُم [مِن دخولِه في جُملة الحَيِّ ]؟

ص: 166


1- . في الأصل: «بها» بدل «فمرجعها»، و الأنسب ما أثبتناه بقرينة قوله: «و قد بيّنّا أنّ ما يرجع إلى الجملة من الصفات».
2- . تقدّم في ص 119-120، و ص 139-141.
3- . كالإدراك.
4- . في الأصل: «إلى»، و لا محصّل له.
5- . هذا هو الدليل الثاني على اقتضاء الحياة لصفة الإدراك.
6- . في الأصل: «و لا وجه»، و الأنسب ما أثبتناه تفريعاً على ما سبق.
7- . في الأصل: «و إلّا» بالواو، و الواو زائدة قطعاً، و قوله: «إلّا دخوله» قرينة عليه.

قُلنا: لأنّا قد عَلِمنا أنّ الحَيَّ مِنّا يُدرِكُ بكُلِّ (1) عُضوٍ فيه حياةٌ مُتَّصِلٍ (2)، فلا يَخلُو مِن أن يَكونَ إنّما صَحَّ إدراكُه به: مِن حَيثُ كانَ مُتَّصِلاً، أو لأنّ فيه حَياةً يَرجِعُ إليها(3). فرَجَعَ (4) إلىٰ مَعنىٰ ما قُلناه [من] أنّ المذكورَ(5) دَخَلَ (6) في(7) جُملةِ الحَيِّ ، مِن غَيرِ أن تَكونَ فيه(8) حَياةٌ يَصِحُّ إدراكُه بها. و كذلكَ الأجزاءُ لَو كانت تَصيرُ(9) في حُكمِ الجُملةِ الواحدةِ بحَياةٍ واحدةٍ توجَدُ(10) في بعضِها، لَكانَ يُدرِكُ بسائرِ أبعاضِه، و إن لَم يَكُن في كُلِّ جُزءٍ حَياةٌ .(11)

ب. عدم اقتضاء صحّة الحواسّ للإدراك

فإن قيلَ : إذا كانَ كَونُه حَيّاً هو المُقتَضيَ لِكَونِه مُدرِكاً، فلِمَ افتَقَرَ أحَدُنا إلىٰ صحةِ الحَواسِّ في الإدراكِ؟ و لِمَ إذا فَسَدَت حَواسُّه أخَلَّ فَسادُها بإدراكِه ؟

فدَلَّ (12) علىٰ أنّ لِصحّةِ الحَواسِّ تأثيراً في اقتضاءِ هذه الصفةِ .

ص: 167


1- . في الأصل: «لكلّ ».
2- . قوله: «متّصلٍ » صفة للفظة «عضوٍ».
3- . في الأصل: «إليه».
4- . في الأصل: «يرجع».
5- . «أنّ المذكور»، أي العضو.
6- . في الأصل: «دخلت».
7- . في الأصل: «من».
8- . في الأصل: «يكون فيها».
9- . في الأصل: «لو كان يصير».
10- . في الأصل: «يوجد».
11- . مفاد جواب المصنّف أنّ العضو المتّصل الحيّ - كاليد - يصحّ الإدراك به - كإدراك ألم النار -، و سبب ذلك إمّا أن يكون هو اتّصاله بالجملة، و إمّا أنّ لهذا العضو حياة خاصّة به يرجع إليها و يدرك بها. و بناءً على الأوّل يصحّ ما قلناه من أنّ العضو المذكور إنّما صحّ الإدراك به لدخوله في جملة الحيّ ، من دون أن يكون فيه حياة خاصّة به يصحّ إدراكه بها. و أمّا بناءً على الثاني فسوف يصير ذلك العضو بنفسه جملةً لها أبعاض و أجزاء يدرك بها، و إن لم يكن لتلك الأجزاء حياة خاصّة بها، و إنّما صار العضو يدرك بها لدخولها في جملة ذلك العضو، فعاد الكلام أيضاً إلىٰ ما قلناه؛ هذا ما يبدو من جواب المصنّف، و اللّٰه العالِم.
12- . في الأصل: «و الأوّل» بدل «فدلّ »، و لا محصّل له في المقام.

قُلنا: لَيسَ كُلُّ ما لا تَحصُلُ الصفةُ إلّامعه فيما بينّا يَجِبُ أن يَكونَ المقتضيَ لها(1)؛

ألا تَرىٰ أنّه لَو لَم يَكُن(2) أحَدُنا مُحدَثاً و جَوهَراً مؤَلَّفاً، لَما صَحَّ كَونُه مُدرِكاً؟ و في فَقدِ ما ذَكَرناه أو بعضِه إخلالٌ بإدراكِه، و إن لَم يَكُن لشيءٍ ممّا عَدَّدناه تأثيرٌ(3) في اقتضاءِ هذه الصفةِ .

و كذلكَ القادرُ مِنّا [قد لا يصحّ منه الفعل]؛ لمحلّ (4) عدمِ الآلةِ ، و إفسادِها لكثيرٍ(5)مِن أفعالِه، فإنّه(6) لَم يَكُن لوجودِ الآلاتِ و لا لِصفاتِها تأثيرٌ في صحّةِ الفِعلِ ، بل المُصَحِّحُ لذلك(7) كَونُه قادراً.

فأمّا وَجهُ حاجةِ أحَدِنا إلىٰ صحّةِ الحواسِّ في الإدراكِ : فهو(8) مِن حَيثُ كانَ [حيّاً] بحياة(9) تَحُلُّ أبعاضَه، و للحياةِ تأثيرٌ في وقوعِ الإدراكِ تَحُلُّ (10)، و يُستَعمَلُ مَحَلُّها

ص: 168


1- . في الأصل: «بها».
2- . في الأصل: «لو كان كون أحدنا»، و عليه يكون بين الصدر و الذيل تناقض، و بما أثبتناه يرتفع التناقض، و قوله: «و في فقد ما ذكرناه» قرينة عليه.
3- . في الأصل: «تأثيراً».
4- . في الأصل: «بمحلّ ».
5- . في الأصل: «بكثير».
6- . في الأصل: «فإن»، و لا محصّل له؛ فإنّ المقام مقام التعليل، لا مقام الشرط، و قوله: «بل المصحّح لذلك كونه قادراً» يؤيّد ما ذكرناه.
7- . في الأصل: «ذلك».
8- . في الأصل: «هو».
9- . في الأصل: «لا لحياة»، و هو سهو، فإنّه يريد هنا إثبات حاجتنا إلى الحواسّ في الإدراك، من باب أنّ لنا حياة زائدة، و بما أنّها زائدة فهي بحاجة إلىٰ محلّ لكي يحصل الإدراك، و هذا المحلّ يصير آلة و هي الحواسّ ، فصرنا محتاجين إلى الحواسّ بسبب زيادة الحواسّ علىٰ ذواتنا. و سوف يأتي أنّه تعالىٰ لا يحتاج إلىٰ الحواسّ في إدراكه؛ لأنّ حياته غير زائدة، فهو ليس حيّاً بحياةٍ مثلنا، بل هو حيّ لنفسه. انظر: ديوان الأُصول، ص 562.
10- . في الأصل: «يحلّ ».

في الإدراكِ ، و يَصيرُ كأنّه آلةٌ فيه. و لَيسَ يَمتَنِعُ في الآلاتِ أن تَختَلِفَ صفاتُها، و يُحتاجَ فيها إلىٰ أن تَكونَ (1) علىٰ بعضِ الوجوهِ .

و يَجري أحَدُنا في الحاجةِ في الإدراكِ إلَى الآلةِ مِن حَيثُ كان حَيّاً بحَياةٍ ، مَجراه في حاجتِه في بعضِ الأحوالِ - كالكتابةِ و غَيرِها - إلىٰ آلاتٍ مخصوصةٍ ، مِن حَيثُ كانَ قادراً بقُدرةٍ ؛ فإن كانَ المُقتَضي لِكَونِه مُدرِكاً هو كَونَه حَيّاً، [كانَ ] المُقتَضي لِصحّةِ الفِعلِ كَونَه قادراً، و أن يَرجِعَ الافتقارُ إلَى الحَواسِّ و الآلاتِ إلىٰ معنىً يَخُصُّه؛ فكما أنّ القَديمَ تَعالىٰ يَستغني في جميعِ الأفعالِ عن الآلاتِ مِن حَيثُ كَونُه قادراً لنفسِه، فكذلكَ يَجِبُ أن يَستَغنيَ في إدراكِ جميعِ المُدرَكاتِ عن الحَواسِّ مِن حَيثُ كانَ حَيّاً لنفسِه.

البحث الثالث
ألف. إثبات كونه تعالىٰ مُدْرِكاً عند وجود المدرَكات

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ وجوبِ كَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً عندَ وجودِ المُدرَكاتِ : فهو أنّا قَدَّمنا أنّ كَونَ الحَيِّ حَيّاً هو المُقتَضي لهذه الصفةِ ،(2) و ما يَقتَضي مِن الصفاتِ غَيرَه(3) لا يَقَعُ فيه اختصاصٌ ، بل حَيثُ وُجِدَ لا يَكونُ (4) إلّامُقتَضياً. و وجودُه في بعضِ المَواضعِ غَيرَ مقتَضٍ (5) [يوجِبُ ] خُروجَه(6) مِن أن يَكونَ مُقتَضياً

ص: 169


1- . في الأصل: «يكون».
2- . تقدّم في ص 164.
3- . في الأصل: «غير».
4- . في الأصل: «و لا يكون» بالواو، و لا محلّ للواو في المقام.
5- . قوله: «غير مقتض» حال.
6- . في الأصل: «خرجه»، و الصحيح ما أثبتناه كما لا يخفى. و المعنى: إنّ وجوده في بعض

في حالٍ مِن الأحوالِ ، كما أنّ وجودَ الدَّلالةِ (36) مع ارتفاعِ المدلولِ إخراجٌ لها مِن أن تَكونَ (1) دَلالةً .

و إذا كانَ المُقتَضي حاصلاً، و الشَّرطُ الذي لابُدَّ مِنه - و هو وجودُ المُدرَكِ - ثابتاً، فلا بُدَّ مِن كَونِه مُدرِكاً؛ لأنّ ما عَدا هذا الشرطِ لا يَتأَتّىٰ فيه.

فإن قيلَ : إذا جازَ أن تَختَلِفَ (2) الشُّروطُ في المُدرِكينَ ، فلِمَ لا يَجوزُ أن تَختَلِفَ [المقتَضِياتُ؟

قُلنا: الشروطُ يَجوزُ اختلافُها](3) لأنّها غَيرُ مؤثِّرةٍ ، و المُقتَضي لا يَجوزُ اختلافُه لِتأثيرِه.

[فإن] (4) قيل: فَلِمَ [لَم](5) تُجَوِّزوا أن يَكونَ تَعالىٰ مُدرِكاً لِلمَعدومِ ، و أن يَكونَ

وجودُ المُدرَكِ شَرطاً [يَجوزُ اختلافُه](6)، كما ادَّعَيتُم ذلكَ في الشُّروطِ الباقيةِ؟

قُلنا: مَتَى(7) اقتَضَت الصفةُ أُخرىٰ ، فلا يَصِحُّ دخولُ الاختلافِ (8) في

ص: 170


1- . في الأصل: «يكون».
2- . في الأصل: «يختلف»، و الأولى ما أثبتناه.
3- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و بدونه تختلّ العبارة.
4- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه لمقتضى السياق.
5- . ما بين المعقوفين منّا، و هو لازم، و إلّافلا دليل لحذف نون الإعراب، مضافاً إلى احتياج نظم الكلام و انسجام معنى العبارة إليه.
6- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «منها لا فيه»، و لا معنى مفهوم له.
7- . في الأصل: «من».
8- . في الأصل: «الاختصاص»، و الصحيح ما أثبتناه، و هو واضح لمن تأمّل فيما سبق و فيما يأتي.

[الصفةِ المُقتَضيةِ ، و](1) دخولُ ذلكَ فيها(2) نَقضٌ لاقتضائِها، [علىٰ ] ما تَقدَّمَ ذِكرُه، و تَجري في ذلكَ مَجرَى الدَّلالةِ ، بل هي آكَدُ حالاً؛ لأنّ الدَّلالةَ كاشفةٌ غيرُ مؤثِّرةٍ ، فلا يَجوزُ أن تَنقُصَ حالُ الصفةِ المُقتَضيةِ المؤثِّرةِ عن حالِ الدَّلالةِ التي لا تؤَثِّرُ.

و ليسَ كذلك الشُّروطُ؛ لأنّها رُبَّما اختَلَفَت و رُبَّما لَم تَختَلِفْ ، فحُكمُها مَوقوفٌ علَى الدَّلالةِ ؛ فإن كانَ ما له أثبَتنا الشُّروطَ في بعضِ المَواضِعِ يَقتَضي(3) ذلكَ في كُلِّ موضِعٍ أثبَتناه كذلكَ ، و إن كانَ مُختَصّاً خَصَّصناه؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَ القادرِ قادراً لمّا كانَ هو المقتَضيَ لصحّةِ الفِعلِ ، وجبَ أن يَقتَضِيَ ذلكَ في كُلِّ مَوضِعٍ؟ و لمّا كانَ الشرطُ في كَونِ المقدورِ مقدوراً عدمَه،(4) و كانَ ذلكَ شَرطاً يَرجِعُ إليه لا إلىٰ مَن تَعَلَّقَ به، وجبَ أن نُثبِتَه(5) في كُلِّ قادرٍ. و لمّا كانَ الشرطُ فيه(6) صحّةَ بعضِ الآلاتِ ، و كانَ هذا الشرطُ مُختَصّاً - مِن حَيثُ افتَقَرنا إليه لأمرٍ يَرجِعُ إلَى القُدرةِ ، و لَم يَكُن راجعاً إلَى المقدورِ نَفسِه كالشرطِ الأوّلِ - خَصَّصناه بمَن(7) كانَ قادراً علىٰ هذا الوَجهِ ، و نَفَيناه(8) عمّن يَقدِرُ لِنفسِه.

ص: 171


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض.
2- . في الأصل: «منها».
3- . في الأصل: «و يقتضي» بالواو.
4- . لأنّ القدرة لا تتعلّق إلّابالمعدوم، لأنّ القدرة إنّما يحتاج إليها لإخراج المقدور و نقله من العدم إلى الوجود، و نقل الموجود إلى الوجود محال، فيجب أن تتعلّق بالمعدوم، و تخرج بوجوده من المتعلّق به. راجع: الذخيرة في علم الكلام، ص 88.
5- . في الأصل: «يثبته».
6- . في الأصل: «في».
7- . في الأصل: «فمن».
8- . في الأصل: «و نفينا» بدون ضمير المفعول، و الأولى ذكره.

فكذلكَ القولُ في وجودِ المُدرَكِ و صحّةِ الحَواسِّ ، [و هو] أنّ وجودَ المُدرَكِ لمّا كان أمراً راجِعاً إلى المُدرَكِ [و] لَولاه لَاستحالَ تَعلُّقُ الإدراكِ به، وجب أن يَكونَ شَرطاً في كُلِّ مُدرِكٍ ، و يَجري مَجرىٰ عدمِ المقدورِ. و لمّا كانَ صحّةُ الحَواسِّ شَرطاً فيمَن كانَ حَيّاً علىٰ بعضِ الوجوهِ (1)، لَم يَجِبْ إثباتُه شَرطاً في القَديمِ تعالى؛ لِفَقدِ حاجتِه إليه، و جَرىٰ مَجرَى اشتراطِ الآلاتِ في الأفعالِ . و هذا واضحٌ في الفَرقِ بَينَ الأمرَينِ .

ب. نفي أن يكون للسميع و البصير حال زائدة علىٰ كونه حيّاً لا آفة به
اشارة

فأمّا الدليلُ علىٰ أنّه لا حالَ للسَّميعِ البَصيرِ بكَونِه كذلكَ زائدةً علىٰ كَونِه حَيّاً، لا آفةَ به(2)، فهو أنّه لَو كانَ له حالٌ زائدةٌ علىٰ ما ذَكَرناه، لَجازَ أن يَكونَ حَيّاً لا آفةَ به [، و لا يوصَف بأنّه سميعٌ بصيرٌ، و المعلومُ خِلاف ذلك](3)؛ لأنّه لا تَعَلُّقَ بَينَ هاتَينِ الصفتَينِ مِن وَجهٍ يَقتَضي وجوبَ حُصولِ أحَدِهما مع الأُخرىٰ ، فلمّا استَحالَ ذلكَ ، عَلِمنا أنّه لا حالَ للسَّميعِ و البَصيرِ تَزيدُ علىٰ ما ذَكَرناه.

و لا يَلزَمُ علىٰ هذا ما يَقولُونَ في [صفتَي] وجودِ الجَوهرِ و تحيُّزِه، بأنّ (4) إحداهما لا تَنفَكُّ (5) مِن الأُخرىٰ ، مع أنّهما صفتانِ مُختَلِفَتانِ .

و ذلكَ : لأنّ التحيُّزَ مشروطٌ بالوجودِ، و ما يَقتَضي التحيُّزَ مِن كَونِه جَوهراً

ص: 172


1- . في الأصل: «بعض الوجود».
2- . في الأصل: «لا به آفة».
3- . ما بين المعقوفات أضفناه لمقتضى السياق، و به يتمّ المعنى. و للمزيد راجع: الاقتصاد فيمايتعلّق بالاعتقاد، ص 57.
4- . في الأصل: «فإنّ ».
5- . في الأصل: «لا ينفكّ ».

حاصلٌ في كُلِّ حالٍ ، فلذلكَ لَم تَنفَكَّ (1) كُلُّ واحدةٍ (2) مِن الصفتَينِ مِن الأُخرىٰ . و لَيسَ هذا في كَونِه حَيّاً و سَميعاً و بَصيراً.

علىٰ أنّ الوجودَ قد يَحصُلُ في غَيرِ الجَوهرِ، و لا يَكونُ مُتحيِّزاً، فعُلِمَ بذلك انفكاكُ (3) الصفتَينِ . و لَيسَ يُمكِنُ وجودُ حَيٍّ لا آفةَ به، مِن غَيرِ أن يَكونَ سَميعاً بَصيراً.

و أيضاً: فإنّه لو كانَت له حالٌ زائدةٌ ، لَجازَ أن يَعلَمَه سَميعاً بَصيراً مَن لا يَعلَمُه حَيّاً لا آفةَ به، أو يَعلَمَه حَيّاً لا آفةَ به مَن لا يَعلَمُه سَميعاً بَصيراً، فلمّا فَسَدَ ذلكَ صَحَّ ما ذَكَرناه.

فإن قيلَ : ألَيسَ أحَدُنا قد يَكونُ [حَيّاً] و إن لَم يَكُن سَميعاً [بصيراً]؟ فكيفَ تَدَّعونَ أنّ المُقتَضيَ لِكَونِه علىٰ (37) هاتَينِ الصفتَينِ هو كَونُه حَيّاً؟

قُلنا: قد ذَكَرنا فيما اعتَبَرناه انتفاءَ الآفةِ ، احترازاً [ممّا] ذَكَرتَه؛ لأنّ أهلَ اللُّغةِ إنّما وَضَعوا هذه العبارةَ (4) لِمَن(5) صَحَّ - و هو علىٰ ما هو عَلَيه - أن يُدرِكَ المَسموعاتِ و المُبصَراتِ إذا وُجِدَت، فلا يَحُدّونَ الضَّريرَ بأنّه بَصيرٌ،(6) و الأصَمَّ بأنّه سميعٌ ؛ لأنّهما(7) و إن كانا حَيَّينِ فلا يَصِحُّ أن يُدرِكا المَسموعاتِ و المُبصَراتِ إذا وُجِدَت، و هما علىٰ ما كانا علَيه.

ص: 173


1- . في الأصل: «لم ينفكّ »، و الأولى ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «كلّ واحد».
3- . في الأصل: «إبطال»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «فلذلك لم ينفكّ كلّ واحدة من الصفتين».
4- . أي السميع و البصير.
5- . في الأصل: «بمن».
6- . في الأصل: + «و الأصمّ بأنّه بصير»، و هو زائد.
7- . في الأصل: «و الأصمّ بأنّهما» بدل «لأنّهما».

فأمّا القَديمُ تَعالىٰ ، فإنّه يوصَفُ في كُلِّ حالٍ بأنّه سَميعٌ بَصيرٌ، مِن حَيثُ كانَ في كُلِّ حالٍ حَيّاً، و لَيسَ هو تَعالىٰ ممّن يُدرِكُ بآلةٍ أو حاسّةٍ ، فَيُعتَبَرَ فيه صحّتُها و انتفاءُ الآفةِ عنها، فيَكفي في استحقاقِه الوَصفَ (1) بأنّه سَميعٌ بَصيرٌ كَونُه حَيّاً، و لهذا نَقولُ : إنّه تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ سَميعٌ بَصيرٌ، و لا نَقولُ : إنّه فيما لَم يَزَلْ سامِعٌ أو مُبصِرٌ؛ لأنّ الوَصفَ بأنّه سامِعٌ و مُبصِرٌ يَقتَضي وجودَ المَسموعِ و المُبصَرِ؛ لأنّه يُفيدُ الإدراكَ له، و الإدراكُ لا يَتناوَلُ إلّاالمَوجودَ. و لَيسَ كذلك قولُنا: سَميعٌ و بَصيرٌ.

بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه شامٌّ و ذائقٌ

فإن قيلَ : فإذا وَصَفتُموه تَعالىٰ بأنّه سامِعٌ و مُبصِرٌ مِن حَيثُ كانَ مُدرِكاً للأصواتِ و المَرئيّاتِ ، فإنّما(2) وَصَفتُموه تَعالىٰ بأنّه شامٌّ مِن حيثُ إدراكِ الرَّوائِحِ ، و ذائقٌ مِن حَيثُ إدراكِ الطُّعومِ !

قُلنا: الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ واضحٌ ؛ لأنّ الشَّمَّ و الذَّوقَ لَيسا باسمَينِ للإدراكِ (3)، و إنّما الشامُّ هو(4) المُقرِّبُ للجسمِ المَشمومِ إلىٰ حاسّةِ شَمِّه، و الذائقُ هو(5) المُقرِّبُ للجسمِ المَذوقِ إلىٰ حاسّةِ ذَوقِه علىٰ جهةِ المُماسّةِ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ ما ذَكَرناه: أنّهم يَقولونَ : «شَمَمتُ كَذا فلَم أجِدْ له ريحاً» و «ذُقتُه

فلَم أجِدْ له طَعماً»؛ فلَو كانَ الشمُّ و الذَّوقُ هما الإدراكَ بعَينِه، لَكانَ هذا

ص: 174


1- . في الأصل: «استحقاق الوصف».
2- . في الأصل: «فإنّه».
3- . في الأصل: «الإدراك».
4- . في الأصل: «هي».
5- . في الأصل: «و هو».

الكلامُ مُتناقِضاً مِن حيثُ تَضمَّنَ النَّفيَ وَ الإثباتَ ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لا يَقولونَ : «سَمِعتُ كَذا فلَم أُدرِكْه» و لا «أَبصَرتُه فلَم أُدرِكْه» لمّا كانَ السامِعُ و المُبصِرُ هو المُدرِكَ؟ و نَظيرُ ما ذَكَرناه: «نَظَرتُ إلىٰ كذا فلَم أرَه» في أنّ النظَرَ غَيرُ الرؤيةِ .

فكيفَ يَكونُ الشَّمُّ و الذَّوقُ اسمَينِ للإدراكِ ، - و هُما توصَفُ (1) بِهما الأجسامُ التي لا يَصِحُّ إدراكُها بحاسّةِ الشمِّ و الذَّوقِ - الإدراكَ المختصَّ بهما؟ ألا ترىٰ أنّهم لا يَمتَنِعونَ في أن يَقولُوا: «ذُقتُ العَسَلَ » و «شَمَمتُ الرَّيحانَ » فيُجرونَ الوَصفَ علىٰ نفسِ الأجسامِ؟ فدَلَّ ذلكَ على أنّ المعنىٰ ما ذَكَرناه.

بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه آلِمٌ وَ مُلتذٌّ و مُحِسٌّ

فإن قيلَ : فهَلّا وَصَفتُموه تَعالىٰ أنّه آلِمٌ و مُلتَذٌّ؛ مِن حَيثُ إدراكِ اللذَّةِ و الألمِ ، و ألا وَصَفتُموه أيضاً بأنّه يُحِسُّ؟

قُلنا: [أمّا الآلِم مِنّا](2) فلَيسَ هو المُدرِكَ للألمِ فقط، بل هو المُدرِكُ له مع نُفورِ نفسِه، و كذلكَ المُلتَذُّ هو المُدرِكُ للَّذَّةِ مع شَهوَتِه لها؛ ألا تَرىٰ أنّ التقطيعَ الذي يَحصُلُ في جسمِ الحَيِّ قد يُدرِكُه تارةً و هو نافِرٌ عنه فيَكونُ آلِماً، و يُدرِكُه أُخرىٰ و هو مُشتَهٍ (3) له - كالجَرِبِ الذي يَلتَذُّ بالحَكِّ - فيَكونُ مُلتَذّاً به.

و إذا كان القَديمُ تَعالىٰ لا يَجوزُ عليه الشَّهوةُ و النِّفارُ، لَم يَجُز أن يَكونَ آلِماً و لا مُلتَذّاً، و إن كانَ مُدرِكاً لسائرِ المُدرَكاتِ .

ص: 175


1- . في الأصل: «يوصف»، و الأولى ما أثبتناه.
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه هو غاية ما يمكن أن يدرج في المقام ليستقيم به المعنى.
3- . في الأصل: «مشبه».

فأمّا المُحِسُّ فهو المُدرِكُ بالحاسّةِ ، و القَديمُ تَعالىٰ مُدرِكٌ بغَيرِ حاسّةٍ .

و قد كانَ أبو عليٍّ (1) يُجيبُ عن هذا، بأن يَقولَ : الإحساسُ هو أوّلُ العِلمِ (2) الذي يَحصُلُ فينا بالمُدرَكاتِ ، و إذا كانَ كَونُه تَعالىٰ عالِماً لَيسَ بمتجدِّدٍ، لَم يوصَفْ بأنّه مُحِسٌّ . و كُلُّ ذلكَ بيِّنٌ .

فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ (38) القَديمُ تَعالىٰ فيما لَم يَزَلْ علىٰ صفةِ المُدرِكِ ، و إن كانَ تعلُّقُ هذه الصفةِ يَتجدَّدُ(3) عندَ وجودِ المُدرَكاتِ؟(4) كما تَقولونَه في تَعلُّقِ القادرِ؛ فإنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَخرُجُ بِعدمِ (5) مقدورِه مِن صفةِ القادرِ و إن زالَ التعلُّقُ؟

قُلنا: الذي يُفسِدُ ما ذَكَرتُموه، أنّ أحَدَنا - مع كَونِه حَيّاً لا آفةَ به - يَتجدَّدُ كَونُه مُدرِكاً إذا وُجِدَ المُدرَكُ . و الذي يَدُلُّ علىٰ تَجدُّدِه له: أنّ هذه الصفةَ ممّا يَجِدُه الحَيُّ مِن نفسِه، فلَو كانَت حاصلةً له غَيرَ وُجودِ المُدرَكِ و غَيرَ مُتجدِّدةٍ ، لَوجبَ أنْ

ص: 176


1- . أبو عليّ الجُبّائي، محمّد بن عبد الوهّاب البصريّ (235-303 ه) شيخ المعتزلة بالبصرة ومنظّرها، سعىٰ من خلال آرائه و نظرياته نشر فكرة الاعتزال و كان موفّقاً في ذلك. وصف بالنبوغ و سعة العلم و النباهة و سرعة الجواب و القدرة على الجدل و إفحام الخصم، كان غزير الانتاج، قال عنه أبو الحسين البصري: «كان أصحابنا يقولون: إنّهم حرّروا ما أملاه أبو عليّ فوجدوه مائة ألف و خمسين ألف ورقة». من أبرز تلامذته ابنه أبو هاشم و أبو الحسن الأشعري الذي خالفه لاحقاً و أسسّ المدرسة الأشعريّة. عاش ثمانيَ و ستّين سنة، و مات بالبصرة و دفن بها. الفهرست لابن النديم، ص 217؛ مقالات الإسلاميّين، ج 1، ص 236؛ الوافي بالوفيات، ج 4، ص 74-75؛ طبقات المعتزلة لابن المرتضىٰ ، ص 80-85؛ سير أعلام النبلاء، ج 14، ص 183.
2- . ينبغي الإشارة هنا إلىٰ أنّ «المُحِسّ » يُطلق علىٰ معنين: أحدهما: «المُدرِك بالحاسّة»، و هو الذي أبطله المصنّف. والآخر: «العالِم بما يُدرِكه أوّلاً»، و هو الذي أبطله أبو علي الجبّائي. انظر: ديوان الأُصول، ص 564.
3- . في الأصل: «تتجدّد»، و ضمير الفاعل يرجع إلى لفظ «تعلّق».
4- . نُقل هذا الادّعاء في ديوان الأُصول، ص 569، و نُسب إلىٰ أبي القاسم الواسطي.
5- . في الأصل: «لعدم».

يَجِدَها مِن نَفسِه كما يَجِدُها عندَ حُصولِ المُدرَكِ ، و قد عَلِمنا مِن أنفُسِنا خِلافَ ذلكَ .

و إذا ثَبَتَ أنّ هذه الصفةَ فينا مُتجدِّدةٌ عِندَ وجودِ المُدرَكِ ، ثَبَتَ أنّها في القَديمِ كذلكَ ؛ لأنّ الشرطَ الذي أثبَتناه - مِن وجودِ المُدرَكِ - واجبٌ مِن أجلِ الصفةِ التي يُدرِكُ الذاتَ عَلَيها، فلا بُدَّ(1) أن تَكونَ (2) مشروطةً بالوجودِ، فوجبَ اعتبارُ هذا الشرطِ في كُلِّ مُدرِكٍ .(3)

ص: 177


1- . في الأصل: «لابدّ» بدون الفاء، و الأنسب ما أثبتناه؛ للتفريع على ما قبل.
2- . صفة الإدراك.
3- . حتّىٰ القديم تعالىٰ .

ص: 178

ال فصلُ الخامس في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ موجودٌ
اشارة

قد ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ قادرٌ، و للقادرِ تَعلُّقٌ بالمقدورِ؛ بدَلالةِ صحّةِ وجودِه مِن جهتِه دونَ غَيرِه.(1) و العدمُ يُحيلُ التعلُّقَ ، [و] ما يَتعلَّقُ بغَيرِه إذا كانَ إنّما يَتعلَّقُ به لنفسِه [، فإنّ عَدمَه يُخرِجُه مِن التعلّق](2).

إثبات أنّ العدم يَمنع من تعلُّق ما يتعلّق بغيره لنفسه
الدليل الأوّل

[الدليل الأوّل](3)

و الدليلُ علىٰ ذلكَ أنّ الإرادةَ إذا عُدِمَت خَرَجَت مِن تَعلُّقِها بما كانَت تَتعلَّقُ به

ص: 179


1- . معنىٰ تعلّق القادر بالمقدور صحّة وقوعه منه دون غيره، و لو لا هذا التعلّق المخصوص لصحّوقوعه من غيره كما صحّ منه، و في صحّة وقوع مقدوره منه و استحالة وقوعه من غيره دليلٌ علىٰ أنّ له تعلّقاً به. التعليق، ص 28.
2- . ما بين المعقوفين أضفناه من كتاب: تمهيد الأُصول، ص 36، ثمّ إنّ المصنّف لم يَستدلّ هنا بالشاهد علىٰ الغائب كما فعل في الصفات الأُخر، فلم يقل: إنّ الواحد منّا إذا كان قادراً عالماً فلابدّ من أن يكون موجوداً، و كذلك القديم؛ و ذلك لأنّ لقائلٍ أن يقول: إنّ الواحد منّا قادر بقدرة، و عالم بعلم، و القدرة و العلم يحتاجان إلىٰ محلّ مبني بُنية مخصوصة، و هذا المحلّ لابدّ أن يكون موجوداً، بينما القديم قادر و عالم لذاته، فلا تحتاج قدرته و علمه إلىٰ محلّ مخصوص موجود. انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 115.
3- . سوف يأتي الدليل الثاني في نهاية الفصل، عند قوله: «و الذي يدلّ علىٰ أنّ العدم يَمنع من تعلُّق ما يتعلّق بغيره لنفسه».

و هي موجودةٌ ، و المؤَثِّرُ في خُروجِها هو العدمُ .(1)

و هذه الجُملةُ لا تَتِمُّ إلّابأن يُدَلَّ علىٰ أشياءَ :

أوّلُها: أنّ الإرادةَ لها تَعلُّقٌ بالمُرادِ.

و ثانيها: أنّها عندَ العدمِ تَخرُجُ مِن التعَلُّقِ .

و ثالثُها: أنّ المؤَثِّرَ في خُروجِها عدمُها(2) دونَ غَيرِه.

و رابعُها: أنّ حُكمَ كُلِّ شيءٍ تَعلَّقَ بغَيرِه لنفسِه، حُكمُها(3) في أنّ العدمَ يُحيلُ تَعلُّقَه.(4)

و الدليلُ علىٰ أنّ الإرادةَ مُتعلِّقةٌ : أنّا وَجَدنا المُراداتِ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ تَنحَصِرُ، فلا يَصِحُّ أن نُريدَ(5) المُرادَ بأنْ لا يَتَناهىٰ مُتَّصِلاً، فلَولا تَعلُّقُ الإرادةِ ، و أنّها لا تَتَناوَلُ أكثَرَ مِن مُرادٍ واحدٍ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، لَم يَجِبْ ذلكَ .

فلَم يَبقَ لأحَدٍ [إلّا] (6) أن يَقولَ : إنّما انحَصَرَتِ المُراداتُ المُفصَّلةُ ، لاِنحصارِ كَونِ المُريدِ مريداً، و هو المُتعلِّقُ في الحقيقةِ دونَ الإرادةِ .

و ذلكَ : أنّ انحصارَ الصفةِ لا يَقتَضي مُتعلَّقَها؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَه تَعالىٰ عالِماً صفةٌ واحدةٌ ، و هو مع ذلك يَتعلَّقُ بما لا يَتَناهى ؟

ص: 180


1- . فلزم أن يكون كلّ ما شاركها في العدم، يشاركها في زوال التعلّق. شرح الأُصول الخمسة، ص 115.
2- . في الأصل: «عدمنا»، و الصحيح ما أثبتناه، و سيجيء من المصنّف التصريح به.
3- . في الأصل: «حكمنا»، و الصحيح ما أثبتناه، و سيتّضح ذلك فيما يأتي من المصنّف في توضيح هذا القسم الرابع.
4- . فهذهِ أربع مقدّمات، و بيانُها يستوعب معظم الفصل.
5- . في الأصل: «يريد».
6- . ما بين المعقوفين منّا، و هو لازم، و بدونه لا يبقى معنى للتفريع.

و أيضاً: فإنّ الصفةَ الواجبةَ عن العلّةِ تابعةٌ لها، فإذا كانَت الصفةُ التي تَجِبُ عنها مُتعلِّقةً ، وجبَ فيها أن تَكونَ مُتعلِّقةً .

يُبيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ العِلمَ بأنّه تَعالىٰ لا ثانِيَ له، لَمّا لَم يَكُن مُتعلِّقاً في الحقيقةِ ، لَم تَكُن الصفةُ الواجبةُ عن هذا العِلمِ مُتعلِّقَهُ .

و أيضاً: فإنّ معنىٰ قَولِنا في الشيءِ : «إنّه مُتعلِّقٌ بغَيرِه»، أنّه يَصِحُّ مِن أجلِه ظُهورُ حُكمٍ في ذلكَ الغيرِ أو فيما(1) يَتَّصِلُ به - و هذا بعَينِه قائِمٌ في الإرادةِ ؛ لأنّ بها يَقَعُ الفِعلُ على وَجهٍ دونَ وَجهٍ -، و أن يؤَثِّرَ في أحكامِه.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ التأثيرَ هو كَونُ المُريدِ مُريداً.

لأنّه: و إن كانَ كذلكَ ، [إلّا أنّ الإرادة هي](2) المؤَثِّرةُ في كَونِ المُريدِ مُريداً، فقَد عادَ التأثيرُ إليها و إن كانَ بواسطةٍ .

و أيضاً: فإنّ الحَياةَ لمّا لم تَكُن مُتعلِّقةً بالغَيرِ، لَم توجِبْ صفةً متعلِّقةً ، ففي إيجابِ الإرادةِ صفةً مُتعلِّقةً دَلالةٌ علىٰ أنّها في نفسِها(3) مُتعلِّقةٌ .

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الإرادةَ تَخرُجُ مِن التعلُّقِ عندَ العدمِ ، و هو [الثاني مِن] (4) القِسمةِ :

فهو أنّ أحَدَنا (39) قد يُريدُ الأكلَ مثَلاً أو غَيرَه(5) مِن الأفعالِ [في وقتٍ من الأوقات]، فإذا تَقَضَّىٰ (6) فلا بُدَّ مِن الإرادةِ في الثاني؛ لأنّها لَو كانَت باقيةً علىٰ ما

ص: 181


1- . في الأصل: «ممّا».
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «فهي».
3- . في الأصل: «في نفسه».
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «الباقي».
5- . في الأصل: «غير»، و الأنسب ما أثبتناه.
6- . قد يُقرأ ما في الأصل بهذهِ الصورة، كما قد يُقرأ بصورة: «نَقَضَ »، و الأوفق بالعبارة ما أثبتناه.

كانَت عَلَيه، لَوجبَ أن تَكونَ (1) مُتعلِّقةً بما يَقتَضي(2) الأَكلَ . و لا يَجوزُ تعلُّقُ الإرادةِ بالمُقتَضي؛ لأنّها لَو جازَ ذلكَ فيها، لَجازَ أن يَبتَدئَ إرادةً تَتعلَّقُ علىٰ هذا الوَجهِ أيضاً؛ فإنّها لَو كانَت مُتعلِّقةً [به](3)، لَكانَ المُريدُ لِما كانَ مُريداً له قَبلَ ذلكَ ، و قد عَلِمنا أنّه لا يَجِدُ نَفسَه(4) مُريداً لِما يَقتَضي.

و لا يَجوزُ أن تَكونَ (5) باقيةً و هي غَيرُ مُتعلِّقةٍ بذلكَ المُرادِ و لا بغَيرِه(6)، و لا يَجوزُ أيضاً أن تَتعلَّقَ (7) بعَينِ هذا المُرادِ بَعدَ أن كانَت مُتعلِّقةً به؛ لأنّ علَى الوَجهَينِ جميعاً يَقتَضي ذلكَ قَلبَ جنسِها؛ لأنّ تَعلُّقَها بما(8) تَتعلَّقُ به يَرجِعُ إلىٰ صفةِ نَفسِها، بخُروجِها عنه علىٰ ذلك الوجودِ(9) مع الوُجودِ، [و] لا يَجوزُ إلّابأن تَخرُجَ عن صفةِ

نَفسِها التي تَقتَضي ذلكَ التعلُّقَ بشرطِ الوجودِ.

فوضَحَ بهذه الجُملةِ أنّها(10) تُعدَمُ ، فلا يَخلو إذا عُدِمَت [أن] تَكونَ : مُتعلِّقةً بالمُرادِ كما كانَت، أو مُتعلِّقةً بمعنىً ، أو تَكونَ قد خَرَجَت عندَ العدمِ مِن التعلُّقِ .

ص: 182


1- . في الأصل: «يكون».
2- . في الأصل: «بما يقضى من».
3- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه بقرينة قوله: «و لا يجوز تعلّق الإرادة بالمقتضي»، و الضميريرجع إلى «المقتضي».
4- . في الأصل: «لنفسه».
5- . في الأصل: «يكون»، و ضمير الاسم يرجع إلى لفظة «الإرادة».
6- . في الأصل: «لغيره».
7- . في الأصل: «أن يتعلّق»؛ و الضمير يرجع إلى لفظة «الإرادة».
8- . في الأصل: «ما»، و قوله: «يتعلّق به» قرينة على صحّة ما أثبتناه.
9- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «الوجه».
10- . في الأصل: «أنّما يعدم»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «فلا يخلو إذا عدمت أن تكون» إلى آخره، و الضمائر المؤنّثة ترجع إلى «الإرادة».

و قد أفسَدنا تَعلُّقَها بالمُرادِ، و قد يَقتَضي وَجهَينِ (1)، و أفسَدنا أيضاً تَعلُّقَها بغَيرِه، فلَم يَبقَ إلّاالخُروجُ مِن التعلُّقِ ، و هو الذي قَصَدناه.

علىٰ أنّ القولَ بأنّها - و هي معدومةٌ - مُتعلِّقةٌ بالمُرادِ أو بغَيرِه(2) ظاهرُ البُطلانِ ؛ لأنّها - و هي معدومةٌ - لا تَختَصُّ (3) بالمُريدِ، و إنّما تَختَصُّه بأن توجَدَ(4) في بَعضِه، و ذلكَ لا يَتَأتّىٰ فيها و هي معدومةٌ ، فإذا(5) لَم تَختَصَّ (6) المُريدَ و تؤَثِّرْ في كَونِه مُريداً، فكيف تَتعلَّقُ بالمُرادِ(7)، و تَعلُّقُها به(8) لا يُعقَلُ إلّابتَوسُّطِ كَونِ المُريدِ مُريداً؟

على أنّ الإرادةَ لو تَعلَّقَت في العدمِ بمُرادِها و قد ثَبَتَ أنّ لها ضِدّاً و هي الكَراهةُ ، لَوجبَ أن تُنافِيَها؛ لِاشتراكِهما في الاختصاصِ بالصفةِ التي يَرجِعُ التنافي إليها في حالِ العدمِ ، و هذا يوجِبُ استحالةَ اجتماعِ الإرادةِ و الكَراهةِ للشيءِ الواحدِ علىٰ وَجهٍ واحدٍ في العدمِ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .

علىٰ أنّ معنىٰ قولِنا في الشيءِ الواحدِ: «إنّه متعلّق بغيره(9)» هو أنّه يَصِحُّ لأجلِه

ص: 183


1- . في الأصل: «و قد يقضي بوجهين».
2- . في الأصل: «بغيرها» بدل «أو بغيره».
3- . في الأصل: «لا يختصّ »، و قوله: «لأنّها و هي معدومة» يدلّ على صحّة ما أثبتناه، و الضمائر المؤنّثة كلّها ترجع إلى «الإرادة». و هكذا الكلام في قوله: «و إنّما تختصّه».
4- . في الأصل: «بأن يجد».
5- . في الأصل: «فإذ».
6- . في الأصل: «لم يختصّ »، و الضمير يرجع إلى «الإرادة». و هكذا الكلام في قوله: «و تؤثّر» و «تتعلّق».
7- . في الأصل: «المراد».
8- . في الأصل: «بما».
9- . في الأصل: «الواحد لق بغيره»، و هو كما ترى، و الصحيح ما أثبتناه، و هو عين ما نصّ عليه المصنّف قُبيل هذا في ص 181.

ظُهورُ حُكمٍ في ذلكَ الغَيرِ، أو فيما يَتَّصِلُ (1) به. و قد عَلِمنا أنّ هذا المعنىٰ لا يَتأتّىٰ في الإرادةِ المعدومةِ ؛(2) فكيفَ يُقالُ : «إنّها مُتَعلِّقةٌ بغَيرِها»(3)؟

علىٰ [أنّ ] الإرادةَ [لَو تَعلَّقَت بالغير](4) في حالِ العدم(5) لَوجبَ أن يَكونَ تَعالىٰ مُريداً [و كارهاً](6) للشيءِ الواحدِ، في الوقتِ الواحدِ، علىٰ وَجهٍ واحدٍ؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُريدٌ بإرادةٍ توجَدُ في غَيرِ مَحَلٍّ . و كانَ يَجِبُ أيضاً في الواحدِ مِنّا مِثلُ ذلكَ ؛ يَعني أن يَكونَ مُريداً و كارِهاً للشيءِ الواحدِ، علىٰ وَجهٍ واحدٍ، في وقتٍ واحدٍ. و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ.

فأمّا الكلامُ علَى الفصلِ الثالثِ ، و هو: «أنّ المؤَثِّرَ في خُروجِ الإرادةِ عن التعَلُّقِ ، هو عدمُها دونَ غَيرِه».

فالذي(7) يَدُلُّ عَلَيه: أنّه قد ثَبَتَ خُروجُها عندَ العدمِ عن التعَلُّقِ ، و ثُبوتِه، أمّا مع الوجودِ، فلا يَثبُتُ [إلّا] مِن أربعةِ أقسامٍ :

إمّا أن يَكونَ المؤَثِّرُ في خُروجِها هو عدمَها، أو تَقَضّيَ (8) مُرادِها، أو خُروجَها عن

ص: 184


1- . في الأصل: «يتعلّق»، و ما أثبتناه هو المطابق لما نصّ عليه المصنّف في تلك الصفحة.
2- . في الأصل: «المعلومة»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «على أنّ الإرادة لو تعلّقت في حال العدم».
3- . في الأصل: «إنّها يتعلّق»، و قوله في أوّل البحث: «إنّه متعلّق بغيره» قرينة على صحّة ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «لو تعلّقه»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «إنّها متعلّقة بغيرها».
5- . في الأصل: «القدم»، و لا محصّل له.
6- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و قوله: «يعني أن يكون مريداً و كارهاً» إلى آخره قرينة على صحّة ما أثبتناه.
7- . في الأصل: «و الذي».
8- . في الأصل: «يقتضي»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما يأتي من قوله: «علمنا بتقضّي المراد» و «بما علمناه متقضّياً».

إيجابِ الصفةِ للمُريدِ، أو خُروجَها عن الصفةِ التي تَقتَضي التعلُّقَ .(1)

و لا يَجوزُ أن يَكونَ تَقَضّي(2) المُرادِ هو المؤَثِّرَ في خُروجِها؛ لأنّها قد تُعدَمُ (3) و تَخرُجُ عن التعلُّقِ بخُروجِ المُريدِ مِن أن يَكونَ مُريداً بها، و إن كانَ المُرادُ لَم يَتَقَضَّ (4)؛ لأنّ ما أحالَ تَعلُّقَ الشيءِ بغَيرِه، يُحيلُ كَونَه علَى الصفةِ التي معها يَتعلَّقُ (40) إذا كانَ لا تَعلُّقَ (5) له سِواه؛ ألا تَرىٰ أنّا قد عَلِمنا بأنّ تَقَضّيَ (6) المُرادِ لَمّا أحالَ تَعَلُّقَ (7) الإرادةِ بما عَلِمناه مُتَقَضّياً، أحالَ وجودَ الإرادةِ له، و كَونَ الميّتِ ميّتاً لمّا أحالَ تَعلُّقَ العِلمِ به أحالَ وجودَ العِلمِ في قَلبِه، و عدمَ الجَوهرِ كما أحالَ تَعلُّقَ الكَونِ به أحالَ وجودَه ؟

فلَو كانَت الإرادةُ (8) تَتعلَّقُ في الوجودِ و العدمِ معاً، و إنّما خَرَجَت في حالِ العدمِ مِن التعلُّقِ لِتَقَضّي(9) المُرادِ، لَكانَ ما يُحيلُ تَعلُّقَها يُحيلُ كَونَها علَى الصفةِ التي معها تَتعلَّقُ (10). فكانَ يَجِبُ إذا تَقَضّىٰ مُرادُها، و استَحالَ تَعلُّقُها به، أن يَستَحيلَ عدمُها، و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَستَحيلَ وجودُها؛ لأنّها تَتعلَّقُ في الوجودِ و العدمِ معاً. و هذا يوجِبُ خُروجَها عندَ تَقَضّي المُرادِ مِن الوجودِ و العدمِ جميعاً، و في استحالةِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّها لا تَتعلَّقُ (11) و هي معدومةٌ .

ص: 185


1- . فهذهِ أربعة أقسام، الأوّل منها هو المطلوب، و الثلاثة الباقية يأتي إبطالُها فيما يلي من الكتاب.
2- . في الأصل: «بعض»، و الصحيح ما أثبتناه بالقرينة المذكورة.
3- . في الأصل: «قد تعلم»، و هو سهو.
4- . في الأصل: «لا يقضى»، و الصحيح ما أثبتناه بالقرينة المذكورة.
5- . في الأصل: «يتعلّق».
6- . في الأصل: «بتقضّي» بدل «بأنّ تقضّيَ ».
7- . في الأصل: «التعلّق»، و هو سهو.
8- . في الأصل: «إرادة».
9- . في الأصل: «ليقضى».
10- . في الأصل: «يتعلّق»، و الضمير يرجع إلى «الإرادة».
11- . في الأصل: «لا يتعلّق».

و أمّا الدَّلالةُ علىٰ أنّها لَم تَخرُجْ عن التَعلُّقِ لأجل خُروجِها مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ، و هو(1) القِسم الثالثُ : فهو أنّها عندَ العدمِ تَخرُجُ مِن الأمرَينِ معاً: مِن التعلُّقِ بالمرادِ، و إيجابِ الصفةِ للمُريدِ؛ فيَجِبُ أن يَكونَ العدمُ هو المؤثِّرَ في الأمرَينِ معاً.(2)

و أيضاً فإنّه لَيسَ القولُ بأنّها «خَرَجَت مِن التعلُّقِ بالمُرادِ لِخُروجِها مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ»، [بأولىٰ مِن القولِ بأنّها «خَرَجَت مِن إيجابِ الصفةِ للمُريدِ](3) لأجلِ خُروجِها من التعلُّقِ بالمرادِ»؛(4) لأنّ كِلا(5) الأمرَينِ يَثبُتانِ مع الوجودِ و يَثبُتانِ مع العدمِ .

و أمّا الكلامُ على القِسم الرابعِ : فهو أنّ العدمَ يؤثِّرُ في خُروجِها مِن التعلُّقِ ، كما يؤثِّرُ في خُروجِها عن الصفةِ التي تَقتَضي(6) التعلُّقَ ؛ لأنّ عندَ العدمِ يَنتَفي كِلا الأمرَينِ في الوجودِ، [و عند انتفائِهِ ] يَثبُتانِ معاً؛ فيَجِبُ أن يَكونَ العدمُ علّةً فيهما.

و لا بُدَّ لِمَن تَعلَّقَ بذلكَ إذا قيلَ له: و لِمَ خَرَجَتِ الإرادةُ مِن الصفةِ التي تقتضي التعلُّقَ؟

أن يَقولَ : إنّما خَرَجَت لأجلِ عدمِها، فيَؤولُ الأمرُ إلىٰ أنّ العدمَ هو المؤثِّرُ في الخُروجِ مِن التعلُّقِ : إمّا بنفسِه، أو بواسطةٍ .

علىٰ أنّ ذلك يوجِبُ خُروجَ كُلِّ معدومٍ عن الصفةِ التي تَقتَضي تَعلُّقَه، فيَتِمُّ مِنه

ص: 186


1- . في الأصل: «و هي».
2- . و بذلك يثبت المطلوب، و هو أنّ العدم هو المؤثّر في خروج الإرادة من التعلّق بالمراد.
3- . ما بين المعقوفين منّا، و به تنسجم العبارة و يصير الكلام تامّاً، انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 116.
4- . فلا تتميّز العلّة من المعلَّل به. شرح الأُصول الخمسة، ص 116.
5- . في الأصل: «كلى»، هكذا يقرأ، و هو سهو. و هكذا الكلام في قوله: «ينتفي كلا الأمرين».
6- . في الأصل: «يقتضي».

غَرَضُنا، و يَثبُتُ أنّ صانِعَ العالِمَ لا يَجوزُ أن يَكونَ معدوماً؛ لأنّ عدمَه كانَ يَجِبُ أن يُخرِجَه عن التعلُّقِ ، و عن الصفةِ التي تَقتَضي التعلُّقَ .

و أمّا الكلامُ علَى الفصلِ الرابع و قِسمِه الأوّلِ (1): فظاهرٌ؛ لأنّه إذا ثَبَتَ في الإرادةِ أنّ عدمَها يُخرِجُها مِن تعلُّقِها دونَ غَيرِها، فيَجِبُ في كُلِّ مُتعلِّقٍ بغَيرِه(2) لنفسِه أن يَكونَ عدمُه مُخرِجاً له مِن التعلُّقِ . و في هذا صحّةُ ما أوجَبناه [مِن] وجودِ صانعِ العالَمِ ؛ لِثُبوتِ كَونِه قادراً، علىٰ ما تَقدَّمَ .(3)

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : [إنّ عَدَمَ ](4) الإرادةَ إنّما أحالَ تعلُّقَها بالمُرادِ مِن حَيثُ كانَ وجودُها شَرطاً في تَعلُّقِها، و لَم يَثبُتْ في صانِعِ العالَمِ تَعالىٰ أنّ وجودَه شَرطٌ في تَعلُّقِه.

و ذلكَ : أنّ المُستَفادَ مِن قولِنا: «إنّ الوجودَ شَرطٌ» أنّ ارتفاعَه يُحيلُ الحُكمَ ، فيَصيرُ بحُصولِ الحُكمِ أنّ عدمَ الإرادةِ إنّما أحالَ تَعلُّقَها بِالمُرادِ؛ لأنّ عدمَها يُحيلُ هذا التعلُّقَ ، و هذا تعليلُ الشيءِ بنفسِه.

و لَيسَ له أيضاً أن يَقولَ : إنّ عدمَ الإرادةِ إنّما أحالَ تَعلُّقَها [بالمراد](5) لأنّه(6)يوجِبُ الصفةَ المخصوصةَ للمُريدِ، و لأنّ تَعلُّقَها إنّما يَتعلَّقُ به هذا المُتعلّقُ

ص: 187


1- . في الأصل: «الأولىٰ ».
2- . في الأصل: «لغيره».
3- . في بداية الفصل.
4- . في الأصل ما بين المعقوفين بياض، أضفناه بقرينة ما سوف يأتي بعد قليل في نهاية جواب المصنّف، و في بداية الإشكال التالي.
5- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و قوله: «إنّما أحالَ تعلّقها بالمراد» قرينة على صحّة ما أضفناه.
6- . في الأصل: «لأنّها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ الضمير يرجع إلى «التعلُّق».

المخصوصُ بالإرادةِ (1).

و ذلكَ : أنّ إيجابَ الإرادةِ الصفةَ للمُريدِ تابعٌ لوجودِها، و مشروطٌ به، فلا يَجوزُ أن تُعَلَّقَ استحالةُ عدمِها و وجوبُ وجودِها بأنّها تُوجِبُ الصفةَ للغَيرِ؛ لأنّ هذا يَقتَضي أن يَكونَ وجودُها تابعاً لإيجابها، (41) و قد بيّنّا أنّ إيجابَها تابعٌ لوجودِها، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ الشيءُ تابعاً(2) لِما هو تابِعٌ له، و أن يَتعلَّقَ كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحِبِه.

و هذا بعَينِه هو الجَوابُ عن قولِهم: «إنّ الإرادةَ إنّما وجبَ وجودُها حَتّىٰ تَتعلَّقَ [بأحَدِ مُراداتِها](3) التعلُّقَ المَخصوصَ »؛ لأنّ هذا التعلُّقَ الذي أشاروا إليه مشروطٌ بالوجودِ و تابعٌ له، فكيفَ يُجعَلُ الوجودُ مشروطاً بِه، و يُعلَّقُ (4) كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بالآخَرِ؟ و فَسادُ ذلكَ ظاهرٌ.

الدليل الثاني

[الدليل الثاني](5)

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ العدمَ يَمنَعُ مِن تَعلُّقِ ما يَتعلَّقُ بغَيرِه لنفسِه: أنّ القُدرةَ التي يَقدِرُ بها أحَدُنا لا تَتعلَّقُ (6) إلّاو هي موجودةٌ ، و متىٰ عُدِمَت خَرَجَت عن التعلُّقِ ؛ علىٰ (7) ما ذَكَرناه [من] أنّها لَو تَعَلَّقَت مع العدمِ لَصَحَّ الفِعلُ بها و هي

ص: 188


1- . في الأصل: «الإرادة».
2- . في الأصل: «تابع».
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «لأحد أنّ لها»، و لا محصّل له.
4- . في الأصل: «و تُعلّق».
5- . تقدّم الدليل الأوّل في بداية الفصل.
6- . في الأصل: «لا يتعلّق»، و ضمير الفاعل يرجع إلى «القدرة».
7- . في الأصل: «هي» بدل «على».

معدومةٌ ؛ فكيفَ يَصِحُّ الفِعلُ بها و هي لا تَختَصُّ (1) القادرَ؟ لأنّها إنّما تَختَصُّه بأن توجَدَ في بَعضِه(2).

و لَو صَحَّ أن يَقدِرَ أحَدُنا بقُدرةٍ معدومةٍ ، و قد عَلِمنا أنّ ما في العدمِ مِن القُدَرِ لا يَتَناهى، لَما تَعذَّرَ(3) علىٰ أحَدِنا حَملُ [جسمٍ ] مِن الأجسامِ و إن ثَقُلَ ، و لَما صَحَّ (4)أن يَخِفَّ (5) عَلَيه في بَعضِ الأوقاتِ ما كانَ يَثقُلُ [عليه] في غَيرِه، و استَحالَ أيضاً أن يَكونَ بعضُنا أقدَرَ(6) مِنْ بعضٍ و أمنَعَ مِنه.

و في بُطلانِ كُلِّ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّ القُدَرَ لا تَتعَلَّقُ و هي معدومةٌ . و إذا كانَ العدمُ هو المُقتَضيَ لخُروجِها مِن التعلُّقِ - علىٰ ما ذَكَرناه في الإرادةِ - وجبَ في كُلِّ متعلِّقٍ بغَيرِه لنفسِه مِثلُ ذلكَ .

ص: 189


1- . في الأصل: «لا يختصّ »، و الضمير يرجع إلى «الإرادة»، و لفظة «هي» قرينة عليه.
2- . في الأصل: «بأن يجد بعضه»، و لا محصّل له.
3- . في الأصل: «لما بعدو»، و هو غير مفهوم، و الظاهر أنّه تصحيف ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «و لا يصحّ »، و الأولى - و لعلّ الصحيح - ما أثبتناه بقرينة قوله: «لما تعذّر».
5- . في الأصل: «أن يجب»، و قوله: «ما كان يثقل عليه» قرينة على أولويّة ما أثبتناه أو صحّته.
6- . في الأصل: «قدر»، و الصحيح ما أثبتناه، و قوله: «من بعض» شاهد عليه. و هكذا الكلام في قوله: «أمنع»، و هو في الأصل: «امتنع».

ص: 190

ال فصلُ السادس في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ
اشارة

[ال] فصلُ [السادس] في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ (1)

قد دَلَّلنا علىٰ أنّه تَعالىٰ موجودٌ، فلَو لَم يَكُن قَديماً لَكانَ مُحدَثاً؛ لأنّه لا مَنزِلةَ في الوجودِ بَينَ القِدَمِ و الحُدوثِ . و لَو كانَ مُحدَثاً لأدّىٰ إلىٰ أحَدِ الأمرَينِ :

إمّا إلىٰ وجودِ ما لا نِهايةَ له مِن المُحدِثينَ ، و مُحدِثي المُحدِثينَ .(2)

أو إلىٰ وجودِ مُحدَثٍ لا مُحدِثَ له.

و كِلا الأمرَينِ فاسِدٌ؛ لأنّا قد دَلَّلنا على(3) حاجةِ المُحدَثِ مِن حَيثُ كان مُحدَثاً إلَى المُحدِثِ .(4) و هذه قضيّةٌ مُستَمِرّةٌ في كُلِّ مُحدَثٍ ؛ لاستمرارِ علّتِها.

و وجودُ ما لا يَتَناهىٰ مِن المُحدِثينَ مُحالٌ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ قِدَمِ بَعضِ المُحدَثاتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا بُدَّ مِن إثباتِ قَديمٍ مّا، هو موجودٌ فيما لم يَزَلْ منها؟

و لأنّه كانَ يَجِبُ أنّ العالَمَ ما حَدَث إلّابَعدَ [حُدوثِ حَوادِثَ لا نِهايةَ لها،](5)

ص: 191


1- . في هامش الأصل: «في إثبات القِدَم».
2- . بصيغة اسم الفاعل في الكلّ . للمزيد راجع: الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، ص 59.
3- . في الأصل: + «أنّ »، و هو خطأ.
4- . تقدّم في ص 99.
5- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «وجود الضدّين في حالة واحدة، فإنّ وجوده محال»، وليس هاهنا محلُّه، بل في آخر البحث بُعيد هذا بعد سطرين، و نحن أتينا به - مع تغيير ما - بين

و قد عَلِمنا أنّ أحَدَنا لا يَصِحُّ أن يَبتَدئَ (1) فعلاً مِن الأفعالِ بَعدَ أن يَفعَلَ قَبلَه ما لا

نِهايةَ له، و إذا استَحالَ هذا مُستَقبَلاً، استَحالَ ماضياً [؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا استَحالَ في المُستَقبَلِ وجودُ الضّدَّينِ في حالةٍ واحدةٍ ، فإنّ وجودَه مُحالٌ في الماضي ؟] و قد تَقدَّمَ الكلامُ علىٰ هذا مُستَقصىً في بابِ حُدوثِ الأجسامِ .(2)

و أيضاً: فإنّ المُحدَثَ لا يَقَعُ إلّامِن قادرٍ، و لا بُدَّ(3) مِن تَقدُّمِ كَونِه قادراً علىٰ كَونِه فاعلاً - علىٰ ما سَنَدُلُّ عَلَيه فيما يأتي مِن الكِتابِ ، بعَونِ اللّٰهِ تَعالىٰ (4) -، و ما تَقدَّمَ عَلَيه غَيرُه، فلا بُدَّ و أن يَكونَ له أوّلٌ . [و هذا يُؤدّي إلى] ما لا نِهايةَ له.

[فإن قيلَ : لِمَ قُلتُم: إنّ المُحدَثَ لا يَقَعُ إلّامِن قادرٍ؟](5)

قُلنا: ما اقتَضىٰ حاجةَ المُحدَثِ مِن حَيثُ كانَ مُحدَثاً إلىٰ غَيرِه، يَقتَضي حاجتَه إلىٰ مَن له صفةٌ مخصوصةٌ ، فمَن أثبَتَ مُحتاجاً إلىٰ غَيرِ مَن له [هذه الصفةُ ]، كمَن نَفىٰ حاجتَه علىٰ كُلِّ وَجهٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّا إنّما تَوصَّلنا إلىٰ إثباتِ المُحدِثِ لحاجةِ تصرُّفِنا إليه(6)؟، و قد عَلِمنا أنّ تصرُّفَنا إنّما يَحتاجُ إلىٰ مَن له صفةٌ مخصوصةٌ ، و هي صفةُ المُختارِ القادرِ. فإثباتُ مَن يَحتاجُ التصرُّفُ إليه مِن غَيرِ أن يَكونَ علىٰ هذه

ص: 192


1- . في الأصل: + «الفعل»، و هو زائد كما لا يخفى، و فيما قاله المصنّف في ج 1، ص 95 من الكتاب قرينة عليه.
2- . تقدم في ص 93-97.
3- . في الأصل: «أو لا بدّ»، و لا موقع ل «أو» هاهنا كما لا يخفى.
4- . راجع: الذخيرة، ص 88.
5- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه بالنظر إلى ما سبق و ما يأتي من الجواب، و هو ممّا لا بدّ منه في المقام.
6- . في الأصل: «إلينا»، و هو سهو.

الصفةِ التي بها تَوصَّلنا إلَى المُحدِثِ كنَفيِه(1)، و هذا يُغني عن سائرِ ما تُكُلِّفَ مِن الكلامِ (42) علىٰ أصحابِ الطبائعِ ؛(2) فهو طويلٌ .

إبطال كونِ صانع العالَم محدَثاً
اشارة

فإن قيلَ : هذا الذي اعتَمَدتُموه يَقتَضي إثباتَ قَديمٍ يقتضي(3) الصفةَ ؛(4) فمِن أينَ أنّه(5) هو الذي صَنَعَ العالَمَ (6)؟ و ما تُنكِرونَ أن يَكونَ صانِعُ العالَمِ بعضَ الذَواتِ المُحدَثةِ ، و أن يَكونَ (7) الصانِعُ لتلكَ (8) الذاتِ هو القَديمَ؟

قُلنا: لا بُدَّ مِن كَونِ صانِعِ العالَمِ قادراً، و القادرُ لا يَعدو إحدىٰ مَنزِلتَينِ :

إمّا أن يَكونَ يَستَحِقُّ هذه الصفةَ في حالٍ يَجِبُ استحقاقُه الصفةَ فيها.

أو في حالٍ كانَ يجوزُ أن لا يَستَحِقَّها فيها.

ص: 193


1- . في الأصل: «كيفيّة»، هكذا يقرأ، و هو خطأ، و قوله: «كمن نفى حاجته» قرينة على صحّة ماأثبتناه.
2- . اسمٌ يُطلقه المتكلّمون المسلمون على جماعة من الدهريّين و الذين يقولون بقِدم العالَم و ينكرون وجود القديم تعالىٰ ، و أصحاب الطبائع منهم بالخصوص يقولون بالقديم الموجَب و ينفون الصانع المختار، و يعتبرون الأجسام قديمة، و أنّ الحوادث و الأفعال التي تصدر من الإنسان إنّما هي ناشئة و صادرة من ذات أجسادهم و طبائعها الأربعة - من الحرارة و البرودة و اليبوسة و الرطوبة - لا من الصانع المختار. و هناك أفكار و نظريات و آراء أُخرى تُنسب إلى هذه الجماعة. راجع: مقالات الإسلاميّين لأبي الحسن الأشعري، ص 309، 333، 335، 348؛ و المعتمد في اُصول الدين للملاحمي الخوارزمي، ص 8 و 89، 169.
3- . في الأصل: «منتهى»، و لا معنى له في المقام.
4- . في الأصل: «الصنعة»، هكذا يقرأ، و لا محصّل له في المقام.
5- . في الأصل: «آله»، و هو غير مفهوم.
6- . في الأصل: «للعالم»، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ «صنع» متعدّ بلا واسطة.
7- . في الأصل: «و إن كان».
8- . في الأصل: «لذلك».

و القِسمُ الأوّلُ : يَقتَضي كَونَه قادراً لِنفسِه، أو لِما هو عَلَيه في نفسِه.

و القِسمُ الثاني: يَقتَضي أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ .(1)

أوّلاً: إبطال كونِ المحدَث قادراً لنفسه
الدليل الأوّل

[الدليل الأوّل](2)

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ بعضُ الذواتِ المُحدَثةِ قادراً لِنفسِه و لا لِما هو عَلَيه في نفسِه؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي وجوبَ كَونِه قادراً مع الوجودِ؛ لأنّ صفةَ النفسِ لا تُفارِقُ الذاتَ في كُلِّ حالٍ ، و الصفةَ الراجِعَةَ إليها لا بُدَّ مِن حُصولِها مع الوجودِ. و في هذا وجوبُ كَونِه حَيّاً مع وجودِه؛ لأنّ كَونَه حَيّاً لَو لَم يَجِبْ مَتىٰ وُجِدَ، لَما وجبَ كَونُه قادراً - و قد بيّنّا أنّ كَونَه قادراً إذا كانَ للنفسِ ، أو لِما يَرجِعُ إلَى النفسِ ، فلا بُدَّ مِن وجوبِه في حالِ الوجودِ، و مِن(3) وجوبِ كَونِه حَيّاً مَتىٰ وُجِدَ - و لَجازَ أن يوجَدَ

علىٰ بعضِ الأحوالِ و لا يَكونَ حَيّاً.

علىٰ أنّه لا يُمكِنُ أن يَكونَ حَيّاً بالفاعلِ مِن وجهٍ آخَرَ: و هو أنّ المُشتَرِكَينِ في كيفيّةِ استحقاقِ الصفةِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونا(4) مُشتَرِكَينِ في المُقتَضي لها(5)، و سَنُبَيِّنُ

ص: 194


1- . سوف يأتي في نهاية الفصل ج 1، ص 222 إشكالٌ علىٰ هذه النقطة، و ادّعاء أنّ القادر الذي يجوز أن يستحقّ هذه الصفة، قادرٌ بالفاعل، لا قادر بقدرة و لا قادر لنفسه.
2- . خلاصة هذا الدليل كالتالي: لو كان المحدَث قادراً لنفسه، لوجب أن يكون حيّاً متىٰ وُجد؛ لأنّ القادر يجب أن يكون حيّاً، ولو وجب كونه حيّاً، لوجب أن يكون حيّاً لنفسه، و يلزم منه أن يكون مِثلاً للقديم و مشاركاً له في جميع صفاته. تمهيد الأُصول، ص 27.
3- . في الأصل: «في».
4- . في الأصل: «يكون».
5- . في الأصل: «لهما»، و رجوع الضمير إلى «الصفة» - لا إلى «المشتركين» - يصحّح ما أثبتناه.

هذه الطريقةَ إن شاءَ اللّٰهُ عزَّ و جَلَّ عندَ الكلامِ علىٰ أصحابِ الصفاتِ (1).

و قد عَلِمنا أنّ استحقاقَ أحَدِنا كَونَه حَيّاً، علَى الوَجهِ الذي يَستَحِقُّ لذلكَ المُحدَثُ كَونَه حَيّاً عَلَيه، و هو الاستحقاقُ في حالٍ كانَ يَجوزُ أنْ لا يَحصُل الاستحقاقُ فيها.

فمُحالٌ - علىٰ ما قدَّمناه - أن يَختَلِفا(2) في المُقتَضي للصفةِ . و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ المُقتَضي للأمرَينِ واحِداً. فلمّا استُحِقَّ (3) في أحَدِنا أن يَكونَ حَيّاً إذا وُجِدَ(4)، فلا بُدَّ(5)مِن رُجوعِه إلَى النفسِ ، اقتَضىٰ ذلكَ أن تَكونَ (6) هذه الذاتُ مِثلاً للقَديمِ تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ شارَكَته في صفةِ نفسِه، و هي كَونُه حَيّاً، و ذلكَ يَقتَضي: كَونَها قَديمةً ، أو خُروجَه تَعالىٰ عن كَونِه قَديماً، و كِلا الأمرَينِ فاسِدٌ.

و إنّما عَدَلنا عمّا هي [الطريقةُ المعتَمَدةُ ] كثيراً في الكُتُبِ ، مِن أنّه لَو كانَ المُحدَثُ قادراً لنفسِه لَكانَ مِثلاً للقَديمِ ؛ لأنّ ذلكَ غَيرُ مُستَمِرٍّ؛ مِن حَيثُ لا يَصِحُّ

ص: 195


1- . سَمّى المتكلّمون كلّ من يقول بأنّ اللّٰه بذاته و بصفاته و أسمائه قديم لم يزل ب «الصفاتيّة» و هؤلاء لهم تسميات متنوّعة مثل السلفيّة و أهل الحديث و الحشويّة و الأشاعرة و المشبهة و الكرّاميّة و غيرهم، فهولاء برغم اختلافاتهم الفرعيّة يشتركون في الاعتقاد بأنّ جميع صفات اللّٰه تعالى من العلم و القدرة و الإرادة و السمع و البصر و الكلام أزليّة و قديمة بقدم اللّٰه تعالى، و يقابلهم العدليّة من الإماميّة و المعتزلة. راجع: مقالات الإسلاميّين، ص 169-175. الملل و النحل للشهرستاني، ج 1، ص 104 و 105.
2- . في الأصل: «يختلف»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «أن يكون المقتضي للأمرين واحداً».
3- . في الأصل: «استحال».
4- . في الأصل: «وجب»، و الأنسب للسياق ما أثبتناه، و إن كان لما في المتن وجه مع التكلّف.
5- . كذا في الأصل، و الأنسب وضع واو مكان الفاء؛ لأنّ العبارة ليست جواباً للشرط، بل جوابه قوله: «اقتضى ذلك» إلى آخره.
6- . في الأصل: «أن يكون»، و هو سهو.

اشتراكُ القادرَينِ في صفةٍ مُتَماثِلةٍ مِن حيثُ كانا قادرَينِ ؛ لأنّ مقدورَ كُلِّ قادرٍ غَيرُ مقدورِ صاحبِه. و التماثُلُ إنّما يَقتَضيه الاشتراكُ في صفةٍ مُتَماثِلةٍ مُستَنِدةٍ إلَى النفسِ . و عَدَلنا إلَى اعتبارِ كَونِه حَيّاً؛ لِسَلامَتِه مِن هذا الاعتراضِ ، و وضوحِ الأمرَينِ في أنّ الاشتراكَ فيه يَقتَضي التماثُلَ .

الدليل الثاني

و ممّا يَدُلُّ أيضاً [على] فَسادِ كَونِ المُحدَثِ قادراً لنفسِه، أنّه لَو كانَ كذلكَ ، لكانَت مقدوراتُه غَيرَ مُتَناهيةٍ ؛ لأنّ الذي يَقتَضي تَناهِيَ المقدورِ بحَيثُ يَتَناهىٰ ، هو القُدَرُ المُختَصّةُ في تَعلُّقِها بالمُتَناهي، و مَن كانَ قادراً لنفسِه لا يَتِمُّ ذلكَ فيه.

الدليل الثالث

و في كَونِه قادراً لنفسِه ممّا يوجِبُ صحّةَ مُمانَعَتِه للقديمِ تَعالىٰ ، و ذلكَ ممّا لا خَفاءَ (1) بفَسادِه، و سيأتي مَشروحاً في بابِ نَفيِ الاثنَينِ ،(2) بمشيَّةِ اللّٰه تَعالىٰ .

ثانياً: إبطال كونِ صانِعِ العالَمِ قادراً بقُدرةٍ
الدليل الأوّل
اشارة

[الدليل الأوّل](3)

و لا يجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ؛ لأنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ فِعلُ الأجسامِ بها. و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ أحَدَنا لا يَصِحُّ مِنه فِعلُ الجسمِ (43) بما فيه مِن القُدَرِ، و يتعذَّرُ

ص: 196


1- . في الأصل: «و ذلك من الإخفاء».
2- . يأتي في ج 2، ص 9.
3- . سوف يأتي الدليل الثاني علىٰ ذلك في ج 1، ص 221.

عَلَيه ذلكَ مَتىٰ رامَه [لمانع](1) و لا لوَجهٍ معقولٍ ، بل استَحالَ ،(2) فَيُعلَمُ أنّ القُدَرَ لا تتعلَّقُ بفعلِ الأجسامِ .

فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ هذه الجُملةِ .

قُلنا: أمّا الدليلُ علىٰ أنّ أحَدَنا يَقدِرُ بقُدرةٍ فواضِحٌ ؛ لأنّه يَتجدَّدُ كَونُه قادراً مع جَوازِ أن لا يَتجدَّدَ. و لأنّه يَضعُفُ أحياناً و يَقوىٰ أحياناً.

و في الجُملةِ : فطَريقُ إثباتِ الأكوانِ مُتَأَتٍّ في إثباتِ القُدَرِ(3)، و ما قَدَّمناه مِن [فسادِ] كَونِ المُحدَثِ قادراً لنفسِه يوضِحُ (4) ذلكَ أيضاً.(5)

و الّذي يَدُلُّ علىٰ أنّ فِعلَ الأجسامِ لا يَتَأَتّىٰ بها:(6) أنّا قد عَلِمنا أنّ القادرَ مِنّا لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ الجسمَ إلّاعلىٰ أحَدِ وَجهَينِ :

إمّا مُباشَراً، وحَدُّه ما ابتُدئَ في مَحَلِّ القُدرةِ عليه.

أو(7) مُتولِّداً، و هو الواقع(8) بحَسَبِ غيره.(9)

و الجسمُ لا يَصِحُّ أن يُفعَلَ علَى الوَجهَينِ جَميعاً.(10)

ص: 197


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه هو الأنسب بالمقام. و للمزيد راجع: المغني، ج 4، ص 335.
2- . في الأصل: «استحالة».
3- . أي الأدلّة الجارية في الأكوان جارية في القدرة بعينها.
4- . في الأصل: «و يوضح».
5- . فإنّه إذا بطل كونه قادراً لنفسه، ثبت كونه قادراً بقدرة.
6- . سوف يستغرق هذا البحث عدّة صفحات.
7- . في الأصل: «و» بدل «أو».
8- . في الأصل: «واقع» و الأنسب ما أثبتناه؛ فإنّه في مقام تعريف الفعل المتولّد.
9- . في الأصل: «عادته»، و لا محصّل له، و ما أثبتناه استفدناه من كتاب التعليق، ص 32.
10- . هذا الدليل مكوّن من مقدّمتين: الأُولىٰ : أنّ قدرتنا منحصرة بالأفعال المباشرة و المتولّدة. و
انحصار قدرتنا في الأفعال المباشرة و المتولّدة، دون المخترَعة

فإن قيلَ : و لِمَ أَنكَرتُم أن يَكونَ أحَدُنا يَفعَلُ الأفعالَ مُختَرَعةً ،(1) و لا تَكونَ مُتولِّدةً و لا مُباشَرةً؟

قلنا: أَنكَرْنا مِن قِبَلِ أنَّه يؤَدّي إلىٰ أُمورٍ فاسدةٍ :

مِنها: أن يَكونَ القويُّ مِنّا يَمنَعُ الضعيفَ [مِن المشي] في السُّوق(2) و الحركةِ في الجهاتِ ، و إن كانَ بعيداً منه، و غَيرَ مُماسٍّ له و لا لِما ماسَّه.

و مِنها: أن يَكونَ المريضُ المُدنِفُ ، [الذي] لا قُدرةَ في جَوارحِهِ ، يَختَرِ عُ بقُدَرِ قَلبِه(3) الأفعالَ في جَوارِحِه؛ لانّه قادرٌ في قَلبِه(4)؛ و ذلك أنّا نَعلَمُ أنّ المُدنِفَ قد يُريدُ و يَعتَقِدُ و يُفَكِّرُ(5) بقَلبِه، و إن تَعَذَّرَ عَلَيه تحريكُ جَوارِحِه.

و مِنها: أنّه يؤَدّي إلىٰ أن يَختَرِعَ أحَدُنا بقُدَرِ(6) شِمالِه الفِعلَ في يَمينِه، و هذا يوجِبُ [أن يَقوىٰ أحَدُنا علىٰ أن يَحمِلَ بيَمينِه كُلَّ ما هانَ عَلَيه أن يَحمِلَه بيَمينِه و شِمالِه معاً،](7) [و] قد عَلِمنا ضَرورةً فَسادَ ذلكَ .

ص: 198


1- . الفعل المخترَع هو ما ابتُدئ لا في محلّ القدرة، و لا يصحّ إلّامن القديم تعالى. الحدود، ص 71.
2- . في الأصل: «يمنع الضعيف في الشوق»، و لا محصّل له، و ما أثبتناه استفدناه من كتاب التعليق، ص 33.
3- . في الأصل: «بقدر قلّته»، و لا محصّل له.
4- . في الأصل: «لا قُدر في قلّته».
5- . في الأصل: «يفكّره»، و هو خطأ؛ لأنّا لم نجد مرجعاً للضمير، و السياق يؤيّد ما أثبتناه.
6- . في الأصل: «بعد» بدل «بقدر»، و لا محصّل له.
7- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين هكذا: «أن لا يخفى على أحدنا ما يحمله بيمينه و شماله معاً

فَثَبَتَ أنّ أفعالَنا لا تَكونُ إلّامُباشَرةً أو مُتولِّدةً .

عدم وقوع الجسم منّا، لا بصورة مباشرة و لا متولّدة
اشارة

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الجسمَ لا يَقَعُ مِنّا [مُباشَرةً ](1): أنّا لَو فَعَلنا علىٰ هذا الوجهِ

لَأدّىٰ إلَى اجتماعِ جَوهرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ؛ و هذا يوجِبُ أن لا تَعْظُمَ (2) الأجسامُ بانضمامِ بعضِها إلى بَعضٍ ، و يَقتَضي أيضاً صحّةَ دُخُولِها(3) في الجَبَلِ الأصَمِّ مِن غَيرِ فُرجةٍ تَحصُلُ فيه. و كُلُّ ذلك فاسِدٌ.

الدليل الأوّل علىٰ عدم وقوع الجسم و الجوهر منّا متولّداً
اشارة

[الدليل الأوّل علىٰ عدم وقوع الجسم و الجوهر منّا متولّداً](4)

و أمّا المُتولِّدُ فعلىٰ ضَربَينِ :

مِنه ما يَحصُلُ في مَحَلِّ القُدرةِ .

و مِنه ما يَتَعدّىٰ مَحَلَّ القُدرةِ .

و لَيسَ (5) يجوزُ أن نَفعَلَ (6) الأجسامَ علَى الوجهِ الأوّلِ ؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ ما أفسَدناه مِن اجتماعِ الجَوهَرَينِ في حَيِّزٍ واحدٍ.

ص: 199


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، بقرينة قوله: «و أمّا المتولّد فعلى ضربين».
2- . في الأصل: «يعظم»، و الأولى ما أثبتناه بقرينة «بعضها».
3- . في الأصل: «دخولنا»، و هو سهو.
4- . سوف يأتي الدليل الثاني في ج 1، ص 218.
5- . في الأصل: «فليس» بالفاء، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّه لا معنى للتفريع على ما تقدّم.
6- . في الأصل: «يفعل»، و الأولى بحسب السياق ما أثبتناه، و يشهد له قوله قبل قليل: «لا يقع منّا» و «انّا لو فعلنا».

فلَم يَبقَ (1) إلّاأن يُقالَ : إنّكم تَفعلونَه(2) بسببٍ يَتَعدّىٰ به الفِعلُ عن مَحَلِّ القُدرةِ .

و الّذي يُبطِلُ ذلك: أنّ الذي تَعدَّىٰ بأفعالِنا(3) عن مَحَلِّ القُدرةِ ، هو(4) جنسُ الاعتمادِ؛ لأنّه الذي يَختَصُّ بالجهَةِ مِن بَينِ سائرِ الأجناسِ ، و قد عَلِمنا أنّ أجناسَ الاعتمادِ محصورةٌ بانحصارِ الجِهاتِ السِّتِّ ، و هي أجمَعُ في مقدُورِنا و نَحنُ نَفعَلُها، و لا يَتولَّدُ عن شَيءٍ منها الجَواهرُ.

و يُمكِنُ الاعتراضُ علىٰ هذا الكلامِ (5) مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ :

أحدُها: أن يُقالَ : إنّكُم قادرونَ علىٰ فِعلِ الجَواهرِ، و إنّما لا تَقَعُ (6) مِنكم(7) لِمانِعٍ ، أو ما جَرىٰ مَجرَى المانِعِ ، و يُذكَرُ في ذلكَ إمّا فَقدُ العِلم، أو فَقدُ الآلة، أو فقدُ البِنيةِ ، أو لأنّ العالَمَ لا خَلَأَ(8) فيه.(9)

[ثانيها: أن يُقالَ : ما أنكرتم أن تكون الجَواهرُ إنّما تعذّرت مِنكم؛ لأنّ ما فيكم مِن

ص: 200


1- . في الأصل: «و لم يبق»، و الأنسب ما أثبتناه للتفريع على ما سبق.
2- . في الأصل: «يعطونه»، و لا محصّل له في المقام.
3- . في الأصل: «تعدّى بنا فعالنا»، و ما أثبتناه هو أقرب قراءة بالنسبة إلىٰ ما في الأصل، و إن كان يمكن تعديل العبارة بهذه الصورة: «تتعدّىٰ به أفعالُنا». إلّاأنّ فيه ابتعاداً عمّا في الأصل.
4- . في الأصل: «و هي».
5- . أي علىٰ أصل البحث من أنّ الجسم لا يقع منّا، و أنّنا غير قادرين علىٰ فعله. و سوف تستغرق مناقشة هذه الإشكالات صفحات كثيرة، حيث تستمرّ إلىٰ ص 218.
6- . في الأصل: «لا يقع»، و الأولى ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الجواهر».
7- . تكرّر في الأصل قوله: «أن يقال: إنّكم قادرون على فعل الجواهر، و إنّما لا تقع منكم» خمس مرّات متتالية بإضافة لفظة «أو» في أوّل الثانية إلى الخامسة. و هو سهو من الناسخ.
8- . في الأصل: «لا خلاف فيه»، و هو خطأ، و الصحيح ما أثبتناه، نصّ عليه المصنّف في الصفحة 92 من هذا الكتاب.
9- . فهذهِ أربعة موانع تمنع من القدرة علىٰ فعل الأجسام، و سوف يضيف المصنّف في نهاية البحث عن الخلأ مانعاً خامساً.

القُدَرِ لا يَتعلَّقُ بها؟ و إن جازَ أن يَكونَ في العدمِ قُدرةٌ تَتعلَّقُ بالجَواهرِ، و إن فُعِلَت فيكم لَتَأتّىٰ مِنكم فِعلُها.](1)

و الوَجهُ الآخَرُ(2): أن يُقالَ : إنّكم الآنَ فاعلونَ (44) للجَواهرِ.

فإن قُلتم: لَو فَعَلناها لَأَدركناها و مَيَّزَناها!

قيلَ لكم: يَجوزُ أن تَفعَلوها أجزاءً مُتفرِّقةً ، و علىٰ حَدٍّ مِن اللَّطافةِ لا تُدرَكُ مُعتَمَداً، كما لا تُدرِكُون الهَواءَ و ما جَرىٰ مَجراه.

مناقشة موانع القدرة علىٰ فعل الأجسام و الجواهر

و الجَوابُ عن الأوّل: أنّ المانِعَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ معقولاً؛ لأنّ إثباتَ مانعٍ غَيرِ معقولٍ [يؤدّي](3) إلَى الجَهالاتِ .

المانع الأوّل و الثاني: فَقْدُ العلم و الآلة

و لَيسَ يَجوزُ أن يكونَ المانِعُ هو فَقدَ العِلمِ ؛ لأنَّ العِلمَ لا يُحتاجُ إليه في إيقاعِ جنسِ الفعلِ ، و إنّما(4) يُحتاجُ إليه في إيقاعِه علىٰ بعضِ الوجوهِ .(5) و لَيسَ يَحتاجُ جنسُ الفِعلِ إلىٰ أكثَرَ مِن كَونِ القادرِ قادراً؛ ألا تَرىٰ أنّ الكتابةَ لمّا تَعذَّرَت

ص: 201


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و هو عين ما نصّ عليه المصنّف في ضمن الجواب عن هذا الوجه في ص 212 من هذا الكتاب.
2- . و هو الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة.
3- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، أخذناه من قول المصنّف في ص 416 من الكتاب، قال: «تجويز مانع لا يعقل يؤدّي إلى الجهالات». و للمزيد راجع: الأمالي للمصنّف، ج 2، ص 345؛ الإرادة للشيخ المفيد، ص 8.
4- . في الأصل: «ما» بدل «و انما».
5- . و هو وجه الإحكام و الإتقان.

علَى الأُمِّيِّ لفَقدِ العِلمِ بها، لم يَتعذَّرْ عَلَيه إيقاعُ جنسِها؟ لأنّ كَونَها كتابةً يُنبئُ عن وقوعِها علىٰ بعضِ (1) الوجوهِ . و الجَوهرُ هو جنسُ الفِعلِ ، و معنىٰ قولِنا: «إنّه جنسُ الفِعلِ » أنّه ممّا لا يوجَدُ إلّاجَوهَراً، و لَيسَ كذلكَ الخبرُ و الأمرُ و الحُسنُ و القُبحُ ؛ لأنّ جنسَ كُلِّ ذلك يوجَدُ، و إن لَم يَكُن مُستَحِقّاً لهذه الأوصافِ . و في عِلمنا بِتعذُّرِ الجَوهرِ مِنّا - مع أنّه مِن جنسِ الفِعلِ - دَلالةٌ علَى استحالةِ كَونِه مقدوراً لنا.

و هذا بعَينِه يُعلِمُ أنّه لم يَتعذَّرْ لفَقدِ الآلةِ ؛ لأنّ الآلاتِ علَى اختلافِها إنّما يُحتاجُ إليها في إيقاعِ الأفعالِ علىٰ بعضِ الوجوهِ ، لا في أجناسِها، و قد بيّنّا أنّ الجَوهرَ جنسُ الفِعلِ .

فإن قيلَ : كَيفَ يَصِحُّ ما ذَكَرتُموه مِن أنّ «العِلمَ لا يُحتاجُ إليه في جِنسِ الفعلِ » و النظرُ و الإرادةُ جَميعاً لا يَقَعانِ إلّامِن العالِمِ ، أو ممّن [في] حُكمِ العالِمِ ، و هما جنسُ الفِعلِ؟

قُلنا: إنّ النظَرَ وَ الإرادةَ لا يَحتاجانِ في وجودِهما إلَى العِلمِ ، و إنّما يَحتاجُ كَونُ الناظِرِ ناظِراً إلىٰ أن يَكونَ عالِماً بما يَنظُر فيه، و يَحتاجُ كَونُ المُريدِ مُريداً إلىٰ كَونِه عالِماً أو(2) في حُكمِ العالِم بالمُرادِ؛ فالحالُ هي المُحتاجةُ إلى الحالِ الأُخرىٰ ، دونَ أن تَكونَ الحاجةُ مصروفةً إلىٰ حاجةِ ذاتِ الإرادةِ و النظَرِ إلىٰ ذاتِ العِلمِ . و لَو صَحَّ أن يَفعَلَ أحَدُنا إرادةً في غَيرِه، مِن غَيرِ أن يَكونَ لها مُريداً، لَجازَ أن يَفعَلَها مِن غَيرِ أن يَكونَ عالِماً بالمُرادِ، و لا في حُكمِ العالِمِ به.

علىٰ أنّا قُلنا: إنّ العِلمَ بالفِعلِ إنّما يُحتاجُ إليه لإيقاعِه علىٰ وَجهٍ دُونَ وَجهٍ ،

ص: 202


1- . في الأصل: + «وقوعها»، و لا شبهة في زيادته.
2- . في الأصل: «و» بدل «أو»، و هو خطأ.

و لا يُحتاجُ إليه في(1) إيقاعِ جنسِه، و لَيسَ هذا ممّا عورِضنا به مِن النظَرِ و الإرادةِ ؛ لأنّهما لَيسا يَحتاجانِ إلَى العِلمِ بهما، و إنّما يَحتاجانِ إلَى العِلمِ بالمُرادِ و المَنظورِ إليه، و هذا بخِلافِ ما ذَكَرناه.

المانع الثالث: فَقْدُ البِنية

فأمّا ما يُبطِلُ ما سُئِلنا عنه مِنَ البِنيةِ : فهو أنّ الجَواهرَ لا تَفتَقِرُ في وجودِها إلىٰ بِنيةٍ ؛ لأنّها توجَدُ مُتفرِّقةً كما توجَدُ مُجتَمِعةً .

و أيضاً: فإنّ البِنيةَ تَفتَقِرُ في وجودِها [إلىٰ مَحَلٍّ ](2)، فكيفَ يَحتاجُ المَحَلُّ في وجودِه إليها؟ و هذا يَقتَضي حاجةَ كُلِّ واحدٍ إلىٰ صاحبِه، و يؤَدّي إلىٰ حاجةِ (3)الشيءِ إلىٰ نفسِه.

و أيضاً: فإنّ البِنيةَ إنّما يَحتاجُ إليها ما مِن شأنِه أن يَحِلَّ غَيرَه، و الجَواهِرُ لا تَحتاجُ (4) إلىٰ مَحَلٍّ .

المانع الرابع: عدم وجود الخلأ في العالَم
اشارة

فأمّا الكلامُ علىٰ مَن اعتَرَضَ بأنّ العالَمَ لا خَلَأَ فيه(5)، فهو أنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ وجودِ الخَلَإ.

ص: 203


1- . في الأصل: + «وقوع».
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «فكيف يحتاج المحلّ في وجوده إليها».
3- . في الأصل: «حاجته».
4- . في الأصل: «يحتاج»، و الأولى ما أثبتناه.
5- . بحثُ الخلأ و الملأ من الأبحاث المهمّة في علم الكلام عند المتقدّمين، و قد تعرّض المصنّف إليه هنا بشيء من التفصيل، كما أنّ له رسالةً حول جانبٍ من هذا الموضوع، و هي إحدى رسائل «تكملة الأمالي» و سوف تأتي الإشارة إليها في بعض الهوامش القادمة.
أدلّة وجود الخلأ في العالَم
الدليل الأوّل

و الذي دَلَّ على ذلك: أنّه لَولا الخَلَأُ لَما أمكَنَ أحَداً(1) أن يَتصرَّفَ و يَتحرَّكَ في العالَمِ ؛ لأنّه إذا كانَ مَشحوناً بالجَواهرِ مِن غَيرِ خَلَإٍ(2) قَليلٍ و لا كَثيرٍ، فَالتصَرُّفُ مُتعذِّرٌ. و لا فَرقَ بَينَ أن تَكونَ الأجزاءُ المُجاوِرةُ صُلبةً أو غَيرَ صُلبةٍ ، بَعدَ أن تَكونَ الجِهاتُ مَشحونةً بها؛ ألا تَرىٰ أنّ أحَدَنا لو (45) حُبِسَ في بَيتٍ و شُحِنَ جميعُ ما يَليهِ مِن البَيتِ بالدَّقيقِ لَتعذَّرَ عَلَيه التصرُّفُ و التحرُّكُ ، كما يَتعذَّرُ لَو كانَ مَشحوناً بالرَّصاصِ و ما يَجرى مَجراه ؟

الدليل الثاني

و أيضاً: فإنّ القولَ بذلك يؤَدّي إلَى انتقالِ الجسمِ إلىٰ مَكانِ غَيرِه، في حالِ انتقالِ ذلكَ الغَيرِ إلىٰ مَكانِه، و [هذا] معلومٌ فَسادُه؛ ألا تَرىٰ أنّه يَتعذَّرُ عَلَينا في كوزَينِ مملوءَينِ ماءً أن نَجعَلَ ما في أحَدِهما في الآخَرِ، مِن غَيرِ تَفريغٍ لأحَدِهما؟!

الدليل الثالث

و أيضاً: فإنّ الزِّقَّ (3) الفارِغَ المَشدودَ الرأسِ نِهايةَ الشَّدِّ، إذا كانَ مُنطَبِقَ الجانِبَينِ أحَدِهما علَى الآخَرِ، يُمكِنُ أن يُرفَعَ أحَدُ جانِبَيه عن الآخَرِ، و لا يَتعذَّرُ ذلكَ عَلَينا، فيُعلَم أنّه قد حَصَلَ فيه مَكانٌ فارِغٌ ؛ لأنّه لا طَريقَ للهواءِ و لا لِغَيرِه إلَى الدُّخولِ !

ص: 204


1- . في الأصل: «أحد».
2- . في الأصل: «خلل»، و ما أثبتناه يقتضيه السياق.
3- . الزقّ بالكسر: ظرف. المصباح المنير، ص 254 (زقق).

و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الهواءَ دَخَلَ مِن مَسامِّ الزِّقِّ ، في حالِ ما رَفَعتم بعضَه مِن بعضٍ ؛ لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلىٰ أن [لا](1) يَثبُتَ الهواءُ في الزِّقِّ مُدّةً طويلةً ، و كانَ يَجِبُ إذا مَلَأنا زِقّاً مِن الهواءِ بالنفخِ و أحكَمنا شَدَّ رأسِه، أن نَجِدَهُ بَعدَ ذلكَ فارِغاً!

الدليل الرابع

و ممّا يُبَيِّنُ أيضاً ما ذَكَرنا: أنّ الزِّقَّ الذي يُنفَخُ غايةَ النفخِ ، و يُشَدُّ رأسُه، يُمكِنُ أن يُدخَلَ فيه مِسَلَّةٌ (2)، و لا يَجوزُ أن يَنتَهِيَ مِن الامتلاءِ إلىٰ حَدٍّ يَتعذَّرُ إدخالُ المِسَلّةِ فيه، فَيُعلَمُ بذلك [أنّ بين أجزاء الزقّ المملوء](3) بالهواءِ خلأً.

الدليل الخامس

و أيضاً: فإنّ أحَدَنا إذا أخَذَ قارورةً ضَيِّقةَ الرأسِ ، فوَضَعَها على الماءِ ، لَم يَرتَفِع إليها مِنه شيءٌ ، فإذا مَصَّها و وَضَعَها على الماءِ ، ارتَفَعَ الماءُ إليها، مِن غَيرِ أن تَحدُثَ (4) لها أصواتٌ ، كما تَحصُلُ فيه تلكَ الأصواتُ إذا صَبَبنا الماءَ فيها؛ لأنّ

الهواءَ إذا لاقىٰ أجزاءَ الماءِ [صَعِدَ](5)، فيُعلَمُ أنّا بالمَصِّ استَخرَجنا ما فيها مِن الهَواءِ ،

ص: 205


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، فإنّ مع وجود مَسامّ في الزقّ لا يثبت الهواء فيه مدّة طويلة.
2- . في الأصل: «مسئلة»، و هو خطأ، و كأنّه تصحيف «مِسَلَّة». و هي بكسر الميم: الإبرة العظيمة، والجمع: المَسالّ . راجع: المُغرِب، ج 1، ص 409 (سلل). و هكذا الكلام في «المسلّة» الآتية. و للمزيد راجع: نهاية المرام، ج 1، ص 406.
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه هو غاية ما يمكن أن يدرج في المقام، و به يتمّ المعنى.
4- . في الأصل: «يحدث»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «تلك الأصوات». و هكذا الكلام في قوله: «تحصل فيه».
5- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و بما أضفناه يستقيم المعنى. راجع: نهاية المرام، ج 1، ص 409 و 428.

حتّىٰ سَهُلَ ارتفاعُ الماءِ إليها مِن غَيرِ صَوتٍ .

و لَيسَ لَهم أن يَقولوا: إنّ القارورةِ إذا مَصَصناها حَصَلَ فيها هواءٌ حارٌّ، و الحارُّ سَريعُ الحركةِ ، و هي قَبلَ المَصِّ فيها هواءٌ باردٌ، و البارِدُ بَطيءُ الحركةِ ، فلهذا افتَرَقَ (1) الخلآنِ فيها.

و ذلكَ : أنّ الهواءَ قد يُحمىٰ في القارورةِ بالنارِ و الشمسِ علىٰ وَجهٍ يُعلَمُ ضَرورةً أنّه يَزيدُ علىٰ حَرارةِ هَواءِ الفَمِ و اللَّهَواتِ (2) و مع ذلكَ فلا يَجِبُ فيه مِثلُ ما ذَكَرناه عندَ المَصِّ .

علىٰ أنّ الماصَّ للهَواءِ لا يَكونُ نافِخاً في حالِ مَصِّهِ ، بَل المَصُّ كالمُضادِّ للنفخِ ؛ فكيفَ يَحصُلُ في القارورةِ - في حالِ مَصِّنا للهَواءِ فيها - هَواءٌ مِن أفواهِنا؟ و ذلكَ لا يَكونُ إلّابالنفخِ الذي ما استَعمَلناه!

أدلّة عدم وجود الخلأ في العالَم و مناقشتها

و قد تَعلَّقَ مَن ذَهَبَ إلىٰ أنّ العالَمَ لا خَلَأَ فيه بأشياءَ (3):

مِنها: أنّ الآلةَ المعروفةَ بالسَّحّارةِ ، و هي الآلةُ التي يَكونُ في رأسِها ثَقْبٌ واحِدٌ و في أسفَلِها ثُقوبٌ كثيرةٌ ، إذا مَلَأناها بالماءِ ثُمّ سَدَدنا(4) رأسَها بالإبهامِ ، لَم يَنزِلِ الماءُ

ص: 206


1- . في الأصل: «افترقت».
2- . اللهاة: أقصى الفم، و هي لحمة مشرفة على الحلق. العين، ج 4، ص 88.
3- . في هامش الأصل: «دلائل إبطال الخلإ».
4- . في الأصل «شددنا» و الأنسب ما أثبتناه، و هكذا في قوله بعد قليل: «شدّ رأسها بالإبهام» فإنّ الأنسب: «سدّ»؛ فإنّ هذا الدليل - أي الدليل الأوّل على عدم الخلأ - مذكور بعينه في هامش رسالة المصنّف حول نفي الخلأ و التي تقدّمت الإشارة إليها، و قد جاء هناك التعبير ب «سددنا» و «سدّ».

مِن الثُّقوبِ (1) التي في أسفَلِها، و إذا أزَلنا إبهامَنا نَزَلَ الماءُ ، و لا عِلّةَ لذلكَ إلّاأنّا عندَ سَدِّ رأسِها بالإبهامِ مَنَعنا الهَواءَ مِن أن يَخلُفَ في مكانِ الماءِ .

و مِنها: أنّ الحَجّامَ إذا مَصَّ المِحجَمةَ [انجَذَبَ ](2) اللحمُ مِن الرقَبةِ ، و حَصَلَ في داخِلِ المِحجَمةِ ؛ و لا عِلّةَ لذلك إلّالأنّ المَصَّ لمّا أخرَجَ الهَواءَ ، حَصَلَ اللحمُ في مكانِه.

و مِنها: أنّ القارورةِ الضيِّقةَ الرأسِ إذا مَصَصنا ما فيها مِن الهواءِ ، و قَلَبناها(3) علَى الماءِ ، ارتَفَعَ إليها الماءُ ، مع أنّ (46) مِن شأنِه أن يَذهَبَ سُفْلاً؛ و لا عِلّةَ لذلكَ إلّالأنّ المَصَّ يَجعَلُ فيها(4) هَواءً حارّاً، و الحارُّ سَريعُ الحركةِ ، فإذا خَرَجَ ذلكَ الهَواءُ مِن القارورةِ عندَ كَبِّها علَى الماءِ ، خَلَفَه شَيءٌ مِن الماءِ ، و ارتَفَعَ إلىٰ مكانِه؛ لِعِلّةِ أنّ المكانَ لا يَخلو مِن مُتمكِّنٍ .

فيُقالُ لهم فيما تَعلَّقوا به أوّلاً:(5) ما أَنكَرتُم أنّ العِلّةَ في وقوفِ الماءِ عندَ سَدِّ(6) رأسِ الآلةِ المعروفةِ بالسَّحّارةِ بالإبهامِ غَيرُ ما ظَنَنتم ؟ و هي أنّ رأسَها إذا كانَ مفتوحاً،

ص: 207


1- . في الأصل: «الثقب»، و الظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه؛ لمكان «التي»، و قوله: «ثقوب كثيرة» قرينة عليه. و يُحتمل جواز جمع «الثَّقبْ » علىٰ «ثُقَب»، فيكون ما في الأصل صحيحاً، و هو: «الثُّقَب».
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين كلمة لا تقرأ. و ما في المتن أثبتناه بقرينة قول المصنّف فيمايأتي: «فهو أنّ العلّة في انجذاب اللحم» إلى آخره.
3- . في الأصل: «و قلبناه».
4- . في الأصل: «فيه».
5- . هذا الجواب بأكمله هو جواب أبي هاشم الجبّائي، و قد تبنّاه المصنّف هنا، لكنّه رجع عنه ورفضه و ناقشه في رسالة مستقلّة تحمل عنوان: «مسألة في الاعتراض علىٰ مَن استدلّ بدليل السحّارة علىٰ أن العالم ملأ، و ما أُبطِل به ذلك»، و جاء بجواب آخر علىٰ إشكال السحّارة حيث أرجع عدم نزول الماء منها إلى العادة. و هذه الرسالة هي إحدىٰ رسائل «تكملة الأمالي».
6- . في الأصل: «شَدِّ» و الأنسب ما أثبتناه؛ لِمَا تقدّم في هوامش الدليل الأوّل من أدلّة عدم الخلأ. و هكذا الأمر في أمثال: «شدّ» القادمة، فقد أثبتناها: بصورة «سدّ».

[لاقَى الهَواءُ الماءَ ](1) الذي فيها و دافَعَه، فأَعانَ [علىٰ ] نُزولِه(2) مِن الثُّقوبِ التي في أسفَلِها، فإذا سُدَّ رأسُها، لَم يَجرِ الماءُ مِن تلكَ الثُّقوبِ لمُدافَعةِ الهواءِ (3)؛ لأنّ ما

يَجري في تِلك الثُّقوبِ (4) بضَعفِه و قِلّتِه لا يَقوىٰ علىٰ خَرقِ الهواءِ ؛ فإذا دافَعهُ الهَواءُ مِن أعلَى الآلةِ ، أعان علىٰ نُزولِه. و لا شُبهةَ في أنّ الهَواءَ قد يَمنَعُ ما خَفَّ (5)مِن الأجسامِ مِن النُّزولِ (6)؛ ألا تَرىٰ أنّ الريشةَ و ما جَرىٰ مَجراها مِن الأجسامِ الخِفافِ قد تَقِفُ في الهَواءِ لِخِفّتِها؟ لأنّ الهَواءَ يَمنَعُها مِن النُّزولِ ، و لَو كانَ مكانَها جسمٌ ثَقيلٌ لَنَزَلَ .

و الذي يُبَيِّنُ ذلكَ : أنّا لَو وَسَّعنا الثُّقوبَ (7) لَنَزَلَ الماءُ ، و إن كانَ رأسُ الآلةِ مَسدوداً.

و كذلك لَو مَلَأناها(8) زِئبَقاً و سَدَدنا رأسَها، و الثُّقوبُ علىٰ ما هي عَلَيه مِن الضَّيقِ ، لَنَزَلَ و لَم يَختَلِفِ الحالُ بَينَ سَدِّ الرأسِ و فَتحِه. و إنّما كانَ كذلكَ ؛ لأنّ الثُّقوبَ إذا اتَّسَعَت، قَوِيَ ما يَخرُجُ منها [مِن] الماءُ ، فلم يَقوَ الهَواءُ علىٰ دَفعِه. و الزِّئبَقُ لثِقلِه لا يَستَقِلُّ الهَواءُ أيضاً بمُدافَعتِه، و هذا بَيِّنٌ .

ص: 208


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «في الهواء للماء»، و الصحيح ما أثبتناه، و لولاه لما كان للشرط جواب، و قوله: «دافعه» قرينة عليه؛ فإنّه معطوف على «لاقى».
2- . في الأصل: «نزوله» بدون «على»، و الأولى ما أثبتناه، أي: أعان على نزول الماء. و قوله: «أعان على نزوله» قرينة عليه.
3- . يعني به الهواء الذي في أسفل الآلة، فإنّه يمنع الماء من الخروج من الثقوب، و أمّا الهواء الذي في أعلى الآلة فلا تأثير له؛ لأنّ رأس الآلة مسدود كما تقدّم.
4- . في الأصل: «الثقب»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «تلك».
5- . في الأصل: «خفّف».
6- . في الأصل: «النفوذ»، و الأولى - و لعلّ الصحيح - ما أثبتناه بقرينة قوله: «يمنعها من النزول».
7- . في الأصل: «الثقب».
8- . في الأصل: «ملأها».

فأمّا الجَوابُ عن الثاني: فهو أنّ العِلّةَ في انجِذابِ اللحمِ عندَ المَصِّ بالمِحجَمةِ ، أنّ الهَواءَ يَختَلِطُ بالماءِ و يُشارِكُه، فإذا جُذِبَ هَواءٌ بالمَصِّ انجَذَبَ اللحمُ معه. و لذلكَ لو رَكَّبنا مِحجَمةً علىٰ حَجَرٍ ثُمّ مُصَّتِ الدهرَ الأطوَلَ لَما انجَذَبَ الحَجَرُ إليها لمُخالَفةِ اللحمِ (1) فيما ذَكَرناه(2). و لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما ظَنُّوه، [و أنّ ](3) العِلّةَ في انجِذابِ اللَّحمِ اضطرارُ الخَلَأِ، لَوجبَ انجِذابُ الحَجَرِ؛ لأنّ العلّةَ فيه قائمةٌ .

و يُبَيِّنُ ذلكَ أيضاً: أنّا لَو قَدَّرنا صَفيحةً (4) مُرَكَّبةً مِن أجزاءٍ لا تَتجزَّأُ علىٰ سَبيلِ المِسطَحِ (5)، ثُمَّ رَكَّبنا عليها(6) مِحجَمتَينِ مِن جِهتَينِ مُختَلِفَتينِ و مَصَصنا، لَوجبَ علىٰ قولِهم: إمّا أن تَنجَذِبَ الصَّفيحةُ إلَى الجهتَينِ معاً في حالةٍ واحدةٍ ، و هذا محالٌ ، أو(7) أن تَنجَذِبَ إلىٰ إحدَى الجِهتَينِ ، و هذا أيضاً باطلٌ ؛ لأنّه لَيسَ بَعضُ الجِهاتِ بذلكَ أَولىٰ مِن بَعضٍ .

علىٰ أنّ ذلكَ أيضاً يؤَدّي إلىٰ خُلُوِّ الجهةِ التي انجَذَبَتِ الصَّفيحةُ عنها مِن

ص: 209


1- . «لمخالفة اللحم»، أي لمخالفة الحجرِ اللحمَ .
2- . في الأصل: «فيما ذكرنا».
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «دون»، و لا محصّل له.
4- . الصفيحة: اللوح و كلّ شيء عريض. المغرب، ج 1، ص 475 (صفح).
5- . في الأصل: «السطح» و الصحيح ما أثبتناه، و لفظة «صفيحة» قرينة عليه، و أمّا المسطح فقال الأزهريُّ : المِسطَحُ صفيحةٌ عريضةٌ مِن الصَّخرِ يُحوَّطُ عَلَيها الماءُ ، و رُبَّما خَلَقَ اللّٰهُ عندَ فَمِ الرَّكيّةِ صَفاةً مَلساءَ مُستويةً فيُحوَّطُ عَلَيها بالحِجارة و تُسقىٰ فيها الإبِلُ ؛ شِبهَ الحَوض. و مِنه قولُ الطِّرِمّاحِ : أصابَت نِطافاً وَسْطَ آثارِ أذؤبٍ مِن الليلِ في جَنبَي مَدِيٍّ و مِسطَحِ راجع: تهذيب اللغة، ج 4، ص 164 (سطح).
6- . في الأصل: «ركبتا علىٰ »، و ما أثبتناه أوفق بالسياق، و يدلّ عليه ما تقدّم من قول المصنّف: «لو ركَّبنا مِحجمة علىٰ حجر»، فإنّ المحجمة هي التي تُركَّب على الجسم، لا أنّ الجسم يُركَّب عليها.
7- . في الأصل: «و» بدل «أو»، و هو خطأ؛ لمكان «إمّا»؛ فإنّها تحتاج إلى عِدْل.

كائنٍ فيها(1)، و هذا نَقضُ مَذْهَبِهم. أو يَقولوا: إنّ الصَّفيحةَ تَقِفُ فلا تَنجَذِبُ إلىٰ واحدةٍ مِن الجِهتَينِ ، و هذا يؤَدّي إلىٰ خُلُوِّ الجِهتَينِ .

علىٰ أنّه إن كانَت العِلّةُ في انجِذابِ اللحمِ ما ذَكَروه مِن اضطرارِ الخَلَإ، فلِمَ صارَ

اللحمُ بأن يَنجَذِبَ فيَخلُفَ الهَواءُ أَولىٰ مِن أن يَنعَطِفَ (2) جانِبا المِحجَمةِ و يَلتَقِيا؟

و أمّا الجَوابُ عَمّا ذَكَرُوه ثالثاً: فقد بيّنّا أنّ اعتبارَ القارورةِ في صُعودِ الماءِ إليها، يَدُلُّ علىٰ صحّةِ قولِنا و بُطلانِ قولِهم. و أزَلنا ما تَعلَّقوا به مِن حَرارةِ الهَواءِ و بُرودَتِه، فلا وَجهَ لإعادتِه.(3)

المانع الخامس: تعدُّد القُدرَ في الجارحة الواحدة
اشارة

فإن قيلَ :(4) ما أَنكَرتُم أن يَكونَ المانِعُ لكُم مِن فِعلِ الجَواهرِ - و إن كانَت (47) مقدورةً لكُم - أنّ الأجزاءَ مِن القُدرةِ لا يَصِحُّ أن تَفعَلَ ببعضِها دونَ بعضٍ إذا كانَت في جارحةٍ واحدةٍ؟ و لابُدَّ(5) مِن أن تُفعَلَ (6) اعتماداتٌ كثيرةٌ في كُلِّ جُزءٍ ، فتَتعدَّدَ(7)

ص: 210


1- . و هو يعنى ثبوت الخلأ.
2- . في الأصل: «ينعط»، و هو لا يناسب المقام.
3- . تقدّم كلّ ذلك في الدليل الخامس من أدلّة وجود الخلأ في العالم، انظر ص 205-206. ثمّ إنّه هنا ينتهي البحث عن وجود الخلأ في العالم، و يرجع البحث إلى الإشكال الأوّل المتقدّم في ص 200 علىٰ أنّ الجسم لا يقع منّا، و مفاد ذلك الإشكال: أنّكم قادرون على الأجسام و الجواهر، و لكنّها لا تقع منكم لوجود مانع أو ما جرىٰ مجراه من فَقْد العلم أو الآلة أو البِنية أو عدم وجود الخلأ في العالَم.
4- . يطرح المصنّف هنا مانعاً جديداً من موانع القدرة على فعل الأجسام و الجواهر، لم يُطرح في الإشكال الأوّل المتقدّم.
5- . في الأصل: «فلا بدّ».
6- . في الأصل: «يفعل».
7- . في الأصل: «و تعدّد»، و الأنسب ما أثبتناه؛ للتفريع على ما سبق.

ما في الجارحةِ مِن القُدَرِ. و إذا كانَ الأمرُ كذلكَ ، لَم يَصِحَّ أن يَتولَّدَ الجَوهرُ مِن(1) بعضِها دونَ بعضٍ ، فيَجِبُ أن يُولَّدَ [مِن] الجَميعِ . و مِن شأنِ الاعتمادِ أن لا يُولَّدَ إلّامِن جُملَتِه، وَ جُملتُه هي المكانُ الثاني. فيَجِبُ مِن ذلكَ اجتماعُ الجَواهرِ الكثيرةِ في مكانٍ واحدٍ. و هذا وَجهٌ معقولٌ يَمنَعُ مِن الفِعلِ و إن كانَ مقدوراً.

قُلنا: إذا سَلَّمنا أنّه لا بُدَّ أن يُفعَلَ بكُلِّ قدرةٍ ، لَم يَجِب ما ظَنَنتُم؛ لأنّ جهةَ الاعتمادِ لَيسَ هي المكانَ الثانيَ خاصّةً ، بل جِهاتُ ذلك السَّمتِ كُلُّها(2) هي جهةُ الاعتمادِ، و لهذا يُحَرِّكُ أحَدُنا أوّلَ الرُّمحِ بالاعتمادِ عَلَيه في حالةٍ واحدةٍ ، فيَتحرَّكُ آخِرُه كما يَتحرَّكُ أوّلُه؛ و لَو كانَ بِطولِ الأرضِ !

و أيضاً: فكانَ لا يَمتَنِعُ عَلَيه أن يقَعَ (3) مِنّا الجَواهرُ علىٰ بعضِ الوجوهِ ؛ بأن يُفعَلَ في مَحَلِّ القُدرةِ مِن الاعتماداتِ ما يُعادِلُ كُلَّ ما في ذلكَ المَحَلِّ مِن [القُدَرِ إلّاجُزءً واحداً](4)، ثُمّ يَقَعَ الجَوهرُ بذلكَ الجُزءِ .

علىٰ أنّ بعضَ الشيوخِ لا يُسلِّمُ أنّ الفِعلَ ببعضِ القُدَرِ دونَ بعضٍ لا يَصِحُّ ، و يُجوِّزُ ذلك. و إذا لَم يَسلَمْ هذا الأصلُ ، لَم يَتِمَّ ما بَنَوا عَلَيه السؤالَ . و ليسَ هذا مَوضِعَ استقصاءِ الكلامِ في صحّةِ (5) ذلكَ مِن فَسادِه.

ص: 211


1- . في الأصل: «عن»، و الأولى ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «كلّه».
3- . في الأصل: «أن يقع عليه» بدل: «عليه أن يقع»، و الأولى ما أثبتناه؛ فإنّ لفظة «عليه» - على ما في الأصل - معترضة.
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «الفعل الآخر أو أحداً»، و هو مغلق جدّاً، و الظاهر أنّه تصحيف عمّا أثبتناه. و للمزيد راجع: الذخيرة، ص 75؛ المغني، ج 9 (التوليد)، ص 45.
5- . في الأصل: «صحّته»، و الصحيح ما أثبتناه كما لا يخفى.

فأمّا الجَوابُ عن الاعتراضِ الثاني مِن القِسمةِ الأُولىٰ ، التي ذَكَرناها(1)، و هو المُتَضمِّنُ لقولِهم: «ما أَنكَرتُم أن تَكونَ (2) الجَواهرُ إنّما تَعذَّرَت مِنكم. لأنّ ما فيكُم مِنَ القُدَرِ لا يَتعلَّقُ بها؟ و إن جازَ أن يَكونَ في العدمِ قُدرةٌ تَتعلَّقُ (3) بالجَواهرِ، و إن فُعِلَت فيكم لَتأتّىٰ مِنكُم فِعلُها».

الجواب الأوّل
اشارة

فإنّ الدليلَ قد دَلَّ علَى اختلافِ القُدَرِ كُلِّها، و أنّ مقدُورَها في الجنسِ مُتَّفِقٌ . و

إذا كانتِ القُدرةُ الموجودةُ فينا مختَلِفَةَ الأجناسِ ، و لَم يَتَأَتَّ بشيءٍ منها فِعلُ الجَواهرِ، و عَلِمنا أنّ القُدرةَ المعدومةَ لَيسَ خِلافُها الموجودُ فينا إلّاكاختلافِ القُدَرِ الموجودةِ بعضِها لبعضٍ ، صَحَّ بذلك القَطعُ علىٰ أنّ الجَواهِرَ لا يَتأتّىٰ فِعلُها بشيءٍ مِن القُدَرِ الموجودةِ و المعدُومةِ .

اختلاف أجناس القُدَر

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ القُدَرَ كُلَّها مختَلِفةُ الأجناسِ كما ادَّعَيتُم ؟

قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلكَ تَغايُرُ مُتعلَّقاتِها؛ لأنّ كُلَّ قُدرةٍ لا بُدَّ فيها مِن أن تَكونَ مُتعلِّقةً بغَيرِ مُتعلَّقِ القُدرةِ الأُخرىٰ . و إذا كانَت بهذه الصفةِ ، لَم يَسُدَّ كُلُّ واحدٍ منها مَسَدَّ الأُخرىٰ فيما رَجَعَ إلىٰ ذاتِها. و جَرىٰ وجوبُ اختلافِ أجناسِها لهذه العِلّةِ مَجرَى اختلافِ العِلمَينِ إذا تَغَايَرَ مُتعلَّقُهما، و الإرادتَينِ إذا تَغَاير مُتَعلَّقهما.

ص: 212


1- . تقدّم هذا الإشكال في ص 200-201، و كان قد سقط من نسخة الأصل، فأضفناه اعتماداًعلى ما جاء هنا من بيانٍ لنصّ الإشكال. و هو إشكال علىٰ ما تقدّم من أنّ الجسم لا يقع منّا، و أنّنا غير قادرين على فعل الأجسام و الجواهر.
2- . في الأصل: «يكون»، و الأولى ما أثبتناه؛ فإنّ الاسم هو «الجواهر»، و قوله: «تعذّرت» قرينة عليه.
3- . في الأصل: «يتعلّق».

فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ما يُبقِي أحَدَهما لا يُبقي الآخَرَ. و هذا ظاهرٌ في وجوبِ اختلافِهما.

تغاير مقدور القُدَر

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ مقدُورَ القُدَرِ مُتَغايِرٌ، فعَلَيه بَنَيتُم الاختلافَ؟

قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلك أنّ القُدرتَينِ لو تَعلَّقَتا بمقدورٍ واحدٍ، لَم يُمنَعْ أن تَتعلَّقا(1) به و إن حصلتا لقادرَينِ ، فيؤَدّي ذلكَ إلىٰ كَونِ المقدورِ (48) الواحدِ مقدوراً لقادرَينِ .

و الذي يُبيِّنُ ذلك: أنّه لا جنسَ مِن أجناسِ الأعراضِ إلّاو يَحتَمِلُه كُلُّ مَحَلٍّ يُشارُ إليه، و يُصحِّحُ (2) وجودُه علىٰ بعضِ الوجوهِ وجودَه فيه؛ لأنّ ذلكَ لو لَم يَجرِ(3) لَأدّىٰ إلىٰ تجويزِ وجودِ جَوهرٍ لا يَجوزُ وجودُ جنسِ السوادِ فيه، أو وجودِ جَوهرٍ لا يَصِحُّ كَونُه في مُحاذاةٍ مخصوصةٍ . و إذا استحالَ ذلكَ وجبَ القَطعُ علىٰ أنّ زيداً لَو جازَ أن توجَدَ(4) فيه قُدرَتانِ علىٰ مقدورٍ واحدٍ، لَجازَ أن يوجَدَ في عَمرٍو ما هو مِن جنسِ تلكَ القُدَرِ، قياساً علىٰ سائرِ الأجناسِ . و هذا سنُبيِّنُ فَسادَه فيما يأتي مِن الكتابِ ، عندَ انتهائنا إلىٰ مَوضِعِه، إن شاءَ اللّٰهُ .(5)

ص: 213


1- . في الأصل: «أن يتعلّقا»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «القدرتين»، و قوله: «لوتعلقّتا»، قرينة عليه. و هكذا الكلام في قوله: «حصلتا»، و هو في الأصل: «حصلا».
2- . في الأصل: «يصحّ ».
3- . في الأصل: «لو لم تجر».
4- . في الأصل: «يوجد».
5- . يأتي في مبحث التوحيد و إبطال الثاني، ج 2، ص 9.
اتّفاق مقدور القُدَر في الجنس

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ مقدورَ القُدَرِ في الجنسِ مُتَّفِقٌ ، مع اختلافها في أنفسِها(1)؟

قُلنا: لَو لَم يَكُن مقدورُ القُدَرِ مُتَّفِقاً في الجنسِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يُقدَرَ ببعضِها علىٰ ما لا يُقدَرُ عَلَيه بسائرِها؛ حتّىٰ يَكونَ في القادرينَ مِنّا مَن يَقدِرُ علَى الكَونِ و لا يَقدِرُ علَى الاعتمادِ، أو يَقدِرُ عَلَيهما و لا يَقدِرُ علَى الصوتِ ، أو يَكونُ قادراً علَى التصرُّفِ في بعضِ الأماكِنِ ، و لَو نُقِلَ إلىٰ مكانٍ آخَرَ لَتعذَّرَ عَلَيه التصرُّفُ

فيه. و كُلُّ ذلك ظاهِرُ الفَسادِ، فثَبَتَ أنّ مقدورَ القُدَرِ في الجنسِ مُتَّفِقٌ ، و إن كانَت مختَلِفةً في نُفوسِها.

و هذا الحُكمُ إنّما وجبَ لها لِكَونِها ممّا يَصِحُّ الفِعلُ بها؛ بدَلالةِ أنّ العُلومَ المُختَلِفةَ لا يَجِبُ أن تَكونَ مُتعلِّقاتُها مُتَجانِسةً . و كذلكَ كُلُّ ما يَتعلَّقُ بِمَعانٍ (2)سِوَى القُدَرِ، مع مُشارَكَةِ هذه المعاني للقُدَرِ في الوجودِ و الحُدوثِ و سائر الصفاتِ ، سِوىٰ أنّها ممّا يَصِحُّ بها الفعلُ . فعُلِمَ أنّ القُدَرَ إنّما اختَصَّت بما ذَكَرناه مِن الحُكمِ ؛ لِكَونِها ممّا يَصِحُّ بها الفِعلُ ، فيَجِبُ في كُلِّ قُدرةٍ أن يَكونَ لها هذا الحُكمُ .

الجواب الثاني

و ممّا يُجابُ [به] عن هذا الاعتراضِ أيضاً: أنّه لَو كان في العدمِ قدرةٌ تَتعلَّقُ بالجَواهرِ، لَصَحَّ وجودُها في بعضِ القادرينَ منّا؛ لأنّه لَو لَم يَصِحَّ ذلكَ ، لَم يَصِحَّ

ص: 214


1- . في الأصل: «اختلافهما في أنفسهما»، و الأنسب ما أثبتناه، و يدلّ عليه قولُ المصنّف بعد قليل: «و إن كانت مختلفة في نفوسها».
2- . في الأصل: «بقدره»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «هذه المعاني».

بتلكَ القُدرةِ فِعلُ الجَوهرِ على وَجهٍ مِن الوجوهِ ، و ما لا يَصِحُّ به(1) [فِعلُ الجَوهرِ] كيفَ يَكونُ قُدرةً عَلَيه ؟

و إذا صَحَّ وجودُها، فلا بُدَّ مِن أن يَتأتّىٰ فِعلُ الجَواهرِ علىٰ بعضِ الوجوهِ التي ذَكَرناها و أفسَدناها؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الجَواهرَ لا يَصِحُّ أن تَقَعَ مِنّا علىٰ سبيلِ الاختراعِ و لا المُباشَرةِ و لا التوليدِ(2)، و إذا كانَت كُلُّ الوجوهِ التي يُمكِنُ أن يُفعَلَ الجَوهرُ عليها بتلكَ (3) القُدرَةِ باطلةً ، ثَبَتَ أنّ الجَوهرَ لا يَتأتّىٰ بقُدرةٍ معدومةٍ .

و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : لِمَ لا يُفعَلُ بتلكَ القُدرةِ علىٰ سَبيلِ الاختراعِ؟

لأنّا قد بيّنّا أنّ الاختراعَ بالقُدَرِ الموجودةِ فينا إنّما استَحالَ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ كَونِها قُدَراً، و مِن القَبيلِ الذي يَصِحُّ أن يَقَعَ به(4) الفِعلُ ؛ بدَلالةِ أنّ هذه القضيّةَ واجبةٌ فيها أجمَعَ ، مع اختلافِ أجناسِها، و كُلُّ ما شارَكَها في هذه القضيّةِ وجبَ أن يُشارِكَها في استحالةِ الاختراعِ به.

و لا له أيضاً أن يَقولَ : إنّه يُفعَلُ بتلك القُدرةِ علىٰ سبيلِ التوليدِ(5)!

لأنّا قد بيّنّا(6) أنّ الذي تُعَدَّىٰ (7) به أفعالُنا عن مَحَلِّ القُدرةِ ، هو جنسُ الاعتمادِ؛ مِن حَيثُ كانَ هو المُختَصَّ بالجهةِ مِن بَينِ سائرِ الأجناسِ . و أجناسُ الاعتمادِ محصورةٌ بانحصارِ الجِهاتِ السِّتِّ . فتلك (49) القُدرةُ لَو فَعَلنا بها الجَوهرَ علىٰ

ص: 215


1- . في الأصل: «بها».
2- . تقدم في ص 199.
3- . في الأصل: «تلك».
4- . في الأصل: «بها».
5- . في الأصل: «التولّد»، و الأنسب ما أثبتناه، و سيصرّح به المصنّف في الجواب.
6- . تقدّم في ص 200.
7- . في الأصل: «يعدّى»، و الأنسب ما أثبتناه.

سَبيلِ التوليدِ، لَكُنّا إنّما نَفعَلُه مُتولِّداً عن الاعتمادِ في بعضِ هذه الجِهاتِ السِّتِّ . و إذا كُنّا الآنَ قادرينَ علىٰ أجناسِ الاعتماداتِ ، و كانَ الجَوهرُ لَو تَولَّدَ فإنّما يَتولَّدُ

عنها، فيَجِبُ أن نَكونَ قادرينَ عليهِ ؛ لأنّ القُدرةَ على السببِ قدرةٌ علَى المسبَّبِ . و في عِلمِنا بأنّا نَفعَلُ أجناسَ الاعتماداتِ كُلَّها، و لا يَتولَّدُ عن شيءٍ مِنها الجَوهرُ، دليلٌ علىٰ فَسادِ ما اعتَرَضوا به.

و أمّا الجوابُ عن الاعتراضِ الثالثِ (1)- و هو المُتَضَمِّنُ لقولِهم: «ما أَنكَرتُم أن تكونُوا(2) فاعِلينَ للجَواهرِ، و إن لم تُدرِكوها و تُمَيِّزُوها؛ لِلَطافتِها، و لأنّها تَتفرَّقُ في الهَواءِ؟» - فهو أنّ المانعَ مِن إدراكِها لَو كانَ ما ذَكَروه مِن التفرُّقِ ، لَوجبَ إذا أدخَلَ أحَدُنا يَدَه في جِرابٍ و أوثَقَ سَدَّ رأسِه، و اعتَمَدَ فيه زَماناً طويلاً، أن يَمتَلِئَ بالجَواهرِ بَعدَ أن كانَ فارغاً؛ لأنّ اعتماداتِ يَدِه لا بُدَّ علىٰ قَولِهم أن تُوَلِّدَ مِنَ الجَواهرِ بعَدَدِها في كُلِّ حالٍ .

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ الظرفَ إنّما لا يَمتَلِئُ ؛ لأنّ الجَواهرَ تَخرُجُ مِن خلله.

و ذلك: أنّ الأمرَ لَو كانَ علىٰ ما قالوه، لَوجبَ أنْ لا يَثبُتَ في الزِّقِّ الهواءُ ، بأن يَخرُجَ من خلله، و هذا يَقتَضي أن لَو مَلَأنا زِقّاً بالنَفخِ مِنَ الهواءِ ، أن نَجِدَه بَعدَ قليلٍ فارغاً، و إن لم يَزُلْ سَدُّ رأسِه. و إذا فَسَدَ ذلكَ و عَلِمنا أنّ الجَواهِرَ التي تَتولَّدُ عن الاعتماداتِ ، لا تَزيدُ(3) في اللَّطافةِ علَى الهَواءِ ، ثَبَتَ أنّ الجَواهرَ لا تَتولَّدُ عن

ص: 216


1- . تقدّم في ص 201.
2- . في الأصل: «يكونوا»، و الأنسب ما أثبتناه، فإنّ الإشكال الثالث المتقدّم في ص 201 قد جاءبصيغة المخاطب، و نصّه: «إنّكم الآن فاعلون للجواهر...». و نفس الملاحظة بالنسبة إلىٰ : «تدركوها و تميّزوها» فقد جاءت في الأصل بصيغة الغائب.
3- . في الأصل: «لا يزيد»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الجواهر». و هكذا القول في

الاعتمادِ، علىٰ ما ذَكَرناه.

و قد قيلَ أيضاً في ذلكَ : إنّ الجَواهرَ لَو كانَت في مقدورِنا، لَجازَ أن نَعلَمَها(1) في تألُّفِها(2)؛ لأنّ التأليفَ لا شَكَّ مِن مقدورِنا. و إذا تألَّفَ الجَوهرُ مع غَيرِه لَم يُمنَعْ إدراكُه و العِلمُ به.

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ الجَواهرَ إذا كانَت مُتفرِّقةً ، لَم تُدرِكُوها و لَم تَعلَموها؛ فكيفَ تُؤَلِّفونَها(3)؟

و ذلك: أنّ التأليفَ لا يَفتقِرُ إلَى العِلمِ بالمُؤلَّف، و التمييزِ له.

و لا لهم أن يَقولوا: إنّ التأليفَ إنّما(4) يَحتاجُ إلى بِنيةٍ [و آلةٍ (5)] مخصوصةٍ حتّىٰ يَقَعَ بَينَ الجواهرِ، و أنتُم فاقِدونَ لتلك الآلةِ .

و ذلكَ (6): أنّ جنسَ التأليفِ لا يَحتاجُ إلىٰ آلةٍ ، و إن كانَ بعضُ التأليفِ إذا وَقَعَ علىٰ بعضِ الوُجوهِ يَحتاجُ إلى آلةٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ جنسَ التأليفِ قد يَقَعُ مِن كُلِّ قادرٍ إذا حَلَّ سببُه على كُلِّ حالٍ؟ و أسبابُ التأليفِ - و هي المُجاوَراتُ - في مقدورِنا، فكانَ

ص: 217


1- . في الأصل: «نفعله»، و الصحيح ما أثبتناه، و له قرائن في الكلام كما لا يخفى.
2- . في الأصل: «تألّفه»، و هو خطأ؛ لرجوع الضمير إلى «الجواهر»، و قوله: «إنّ الجواهر لو كانت» قرينة عليه.
3- . في الأصل: «لم يدركوها و لم يعلموها فكيف يؤلّفونها؟» و ما أثبتناه من صيغة المخاطب أنسب، فإنّ الكلام معنا، و يشهد له قول المصنّف قبل هذا بقليل: «مقدورنا».
4- . في الأصل: «لا» بدل «إنّما»، و هو خطأ؛ و قوله: «و أنتم فاقدون لتلك الآلة» قرينة واضحة عليه.
5- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «لتلك الآلة» و «لا يحتاج إلى آلة» قرينة عليه.
6- . في الأصل: «و لذلك»، و هو خطأ؛ لأنّه في صدد الجواب، لا ذكر العلّة لما سبق. و المعنى: بيان ذلك، أي بيان أنّه ليس لهم أن يقولوا... إلى آخره.

يَجِبُ إذا فعَلنا الجَواهرَ و المُجاوَرةَ بَينَ بعضِها و بعضٍ أن تَجتَمِعَ (1) و تَتألَّفَ ، فَتُدرَكَ و تُمَيَّزَ إن كانَ المانِعُ مِن إدراكِها ما ادَّعَوه مِن اللطافةِ . و في فَسادِ ذلكَ دليلٌ علىٰ صحّةِ ما ذَكَرناه.(2)

الدليل الثاني علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً

[الدليل الثاني علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً](3)

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَقَعُ مِن فِعلِنا مُتولِّداً: أنّ الاعتمادَ الذي قد بيّنّاه مِن

قَبلُ أنّه السببُ المُعَدِّي لِلأفعالِ عن مَحَلِّ القُدرةِ ، هو الذي كان يولِّدُه(4) فكانَ مُتولِّداً، و لَو كانَ كذلكَ ، لَم يَكُن بِأن يولِّدَه(5) في بعضِ الجِهاتِ - مِن سَمتِ جهةِ الاعتمادِ - أَولىٰ مِن بعضٍ ، فكانَ (6) يَجِبُ أحَدُ أمرَينِ : إمّا وجودُ الجَوهرِ في سائرِ جِهاتِ ذلكَ الاعتمادِ، أو أن يوجَدَ لا في جهةٍ . و كِلا الأمرَينِ فاسدٌ.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ الجَوهرَ مُتولِّدٌ في أقرَبِ المُحاذِياتِ إلىٰ مَحَلِّ القُدرةِ ، و يَدَّعِيَ أنّه(7) مِن شُروطِ(8) تَوليدِ الاعتمادِ.

ص: 218


1- . في الأصل: «يجتمع»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الجواهر»، و قوله: «من إدراكها» قرينة عليه. و هكذا الكلام في الأفعال الثلاثة الآتية عقيب هذا الفعل.
2- . الىٰ هنا انتهت مناقشة الإشكالات الثلاثة الموجّهة إلىٰ ما تقدّم من أنّ الجسم لا يقع منّا، لا بصورة مباشرة و لا متولَّدة، و قد استغرقت مناقشة هذه الإشكالات صفحات كثيرة، حيث بدأت من ص 200.
3- . تقدّم الدليل الأوّل في ص 199.
4- . في الأصل: «تولّده».
5- . في الأصل: «تولّده».
6- . في الأصل: «و كان»، و الأنسب ما أثبتناه؛ للتفريع على ما تقدّم.
7- . في الأصل: «أنّ ».
8- . في الأصل: «شرط»، و الصحيح ما أثبتناه، و قوله: «فبطل أن يكون من شروط توليد الاعتماد» إلى آخره قرينة عليه.

و ذلك: أنّا قد نولِّدُ (50) [الحركَةَ ](1) في طَرَفِ الرُّمحِ باعتمادِ أيدينا علىٰ أوّلِه؛ بدَلالةِ أنّ التولُّدَ لا يَتَراخىٰ ؛ فبَطَلَ أن يَكونَ مِن شُروطِ تَوليدِ الاعتماد أن يولِّدَ في أقرَبِ المُحاذِياتِ إلَيه.

الدليل الثالث علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَدخُلُ تَحتَ مقدورِنا: أنّه لَو كانَ مِن فِعلِنا، لَكانَ إذا فَعَلَ أحَدُنا [الجوهرَ]، فقَد فَعَلَ كَونَه الذي يَكونُ به في الجهةِ ؛ لأنّ مَن أَوجَدَه فقَد جَعَلَه علَى الصفةِ المُوجَبةِ عن الكَونِ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه فاعلاً لِما كانَ به علىٰ تلكَ الصفةِ ، و الكَونُ لا يَصِحُّ فِعلُه في الجَوهرِ في ابتداءِ حالِ وجودِه؛ لأنّ تَقدُّمَ مُماسّةِ مَحَلِّ الاعتمادِ للمَحَلِّ الذي يولِّدُ فيه، شَرطٌ في تَوليدِه، فيَجِبُ إن كانَ مولِّداً للكَونِ أن يَكونَ مُماسّاً مَحَلَّه قَبلَ وجودِه. و هذا يَقتَضي أن يَكونَ مُماسّاً للمعدومِ . و في فَسادِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّ الجَوهرَ لا يَتولَّدُ مِن الاعتمادِ.

فإن قيلَ : لِمَ قُلتم: إنّ الاعتمادَ لا يولِّدُ إلّابشَرطِ مُماسّةِ مَحَلِّه لِلمَحَلِّ الذي يولِّدُ(2)فيه ؟

قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ المُماسّةَ لا بُدَّ مِنها حتّىٰ يَتِمَّ [تولُّدُ](3) الكَونِ عن الاعتمادِ؛ فإمّا أن

ص: 219


1- . ما بين المعقوفين استفدناه ممّا تقدم في ص 211، حيث جاء فيها: «و لهذا يحرّك أحدُنا أوّلَ الرمحِ بالاعتمادِ عليه...».
2- . في الأصل: «تولّد»، و هو خطأ؛ لرجوع الضمير إلى «الاعتماد».
3- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و لما يأتي بعد قليل من قوله: «في تولُّدِ الكونِ عن الاعتماد».

تَكونَ (1) شَرطاً(2) في وجودِ الكَونِ ، أو في كَونِ الاعتمادِ مولِّداً(3).

و لَيسَ يَجوزُ أن تَكونَ (4) شَرطاً في وجودِ الكَونِ ؛ لصحّةِ وجودِه في الجُزءِ (5)المُنفَرِدِ؛ فثَبَتَ أنّ المُماسّةَ شَرطٌ في تَولُّدِ الكَونِ عن الاعتمادِ. و إذا كانَتِ الحالُ التي «يوجَدُ فيها الاعتمادُ، و يولِّدُ(6) في الثانيةِ (7)» الجَوهرُ فيها معدومٌ ، استَحالَت

مُماسَّتُه(8)، و إذا استَحالَت لَم يَجُز أن يَتولَّدَ الكَونُ عن الاعتمادِ و لا الجَوهرُ؛ لفَقدِ الشَّرطِ في تَوليدِه.

فإن قيلَ : فألَا كانَ ما ذَكَرتُموه جهةَ مَنعٍ ، و إن كانَ الجَوهرُ في مقدورِكم ؟

قُلنا: كُلُّ ما يؤَثِّرُ تأثيرَ المَوانِع، يجِبُ صحّةُ ارتفاعِه علىٰ وَجهٍ من الوجوهِ ، و إلّا التَبَسَ الجائزُ بالمُستَحيلِ .

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: نَحنُ نُقدِّرُ صحّةَ ارتفاعِه، بأن(9) يُصادِفَ فِعلُ أحَدِكم الجَوهرَ فعلَ اللّٰهِ تَعالىٰ فيه الكَونَ ، فيَظهَرُ، و تَزولُ (10) جهةُ المَنعِ .

و ذلكَ أنّ هذا باطلٌ مِن وَجهَينِ :

أحَدُهما: إذا جازَ أن يَحدُثَ الجَوهرُ في كُلِّ جهةٍ علَى البَدَلِ ، و قد صارَ كَونُه

ص: 220


1- . في الأصل: «يكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «المماسّة»، و «منها» قرينة عليه.
2- . في الأصل: «شروطاً».
3- . في الأصل: «مولّد».
4- . في الأصل: «يكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «المماسّة».
5- . في الأصل: «جزء»، و الأولى و الأضبط ما أثبتناه.
6- . في الأصل: «تولّد»، و هو خطأ؛ لرجوع الضمير إلى «الاعتماد».
7- . في الأصل: «الثاني»، و الصحيح ما أثبتناه، و المراد: الحال الثانية.
8- . في الأصل: «استحال مماسّه»، و قوله: «و إذا استحالت» قرينة على صحّة ما أثبتناه.
9- . في الأصل: «أن».
10- . في الأصل: «يزول»، و الأولى ما أثبتناه؛ لمكان لفظة «جهة».

في إحدَى الجهاتِ بمَنزلةِ كَونِ الكلامِ خَبَراً عن زيدٍ دونَ غَيرِه ممّن كانَ يَجوزُ أن يَكونَ خَبَراً عنه. و كما أنّ القادرَ علىٰ ذاتِ الخَبَرِ يَجِبُ أن يَكونَ هو الذي يَجعَلُه خَبَراً، فكذلكَ الجَوهرُ يَجِبُ أن يَكونَ الجاعِلُ له موجوداً هو الجاعِلَ له في بعضِ الجِهاتِ الّتي كانَ يَصِحُّ وجودُه فيها و في غيرِها علَى البَدَلِ . و كما يَجِبُ في الإرادةِ التي بها يَكونُ الخَبَرُ خَبَراً أن تَكونَ (1) مِن فِعلِ فاعلِ الخَبَرِ، كذلكَ يَجِبُ في الكَونِ الذي به يَكونُ الجَوهرُ كائناً في جهةٍ دونَ اُخرىٰ أن يَكونَ مِن فِعلِ فاعلِ الجَوهرِ.

و الوَجهُ الآخَرُ: أنّ الكَونَ في الجَوهرِ الذي يَفعَلُه، لَو كانَ حاصلاً فيه مِن فعلِ اللّٰهِ تَعالىٰ لَوجبَ أن يَكونَ تَعالىٰ قادراً علىٰ ذلك الكَونِ الذي به يَكونُ في تلكَ الجهةِ ، مِن غَيرِ أن يَكونَ قادراً [علىٰ ](2) أن يَفعَلَ فيه في ذلكَ الوقتِ ما يُضادُّ ذلكَ الكونَ ، و هذا مُحالٌ .

و إنّما قُلنا: إنّه يؤَدّي إلىٰ ذلك؛ لأنّه لَو كانَ قادراً علىٰ ضِدِّه و فَعَلَه، لَكانَ الجَوهرُ مُتولِّداً عن الاعتمادِ في خِلافِ جهتِه. و لا يَجوزُ أن يولِّدَ الاعتمادُ في خِلافِ جهتِه إلّا عندَ المُصاكّةِ (3)، و علىٰ وَجهٍ قد عُلِمَ بُعدُه هاهنا.

الدليل الثاني علىٰ إبطال كون صانع العالم قادراً بقدرة
اشارة

[الدليل الثاني علىٰ إبطال كون صانع العالم قادراً بقدرة](4)

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ فاعلَ الأجسامِ لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ : أنّه لا يَخلو مِن أن يَكونَ (51) جسماً، أو مُحدَثاً غَيرَ مُتحيِّزٍ.

ص: 221


1- . في الأصل: «يكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الإرادة».
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «قادراً على ذلك» قرينة عليه.
3- . في الأصل: «الصلة»، و لا محصّل له في المقام، و الصحيح ما أثبتناه. و للمزيد راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 267؛ المغني، ج 4، ص 116؛ و ج 9، ص 28 و 147؛ و ج 12، ص 101؛ الحدود، ص 37 و 38.
4- . تقدّم الدليل الأوّل علىٰ ذلك في ص 196.

و قد دَلَّلنا علىٰ أنّ الجسمَ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ الأجسامَ .

أمّا [ما](1) لَيسَ بمُتحيِّزٍ فلا يَصِحُّ (2) أن تَحُلَّه القُدرةُ ، و إذا لَم تَحُلَّه لَم تَخلُ مِن أن

توجَدَ(3): لا في مَحَلٍّ ، أو في مَحَلٍّ هو غَيرُه.

و يَفسُدُ القِسمُ الأوّلُ بما نُثبِتُه(4) مِن بَعدُ؛ مِن أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ بها الفِعلُ ، إلّابأن يُستَعمَلَ مَحَلُّها فيه أو في نَسبَتِه.

و يُفسِدُ الثانيَ : أنّ القُدرةَ لا تَحُلُّ إلّامَحَلاًّ فيه حَياةٌ ، و يَجِبُ أن تَكونَ (5)قُدرةً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّ مقدوراً واحداً لقادرَينِ ، و ذلكَ فاسدٌ.

إبطال أن يكون القادرُ الذي لا تجبُ له هذه الصفة قادراً بالفاعل

فإن قيلَ : ما الدليلُ علىٰ صحّةِ ما ادَّعَيتُموه أوّلاً(6) مِن أنّ القادرَ إمّا أن يَجِبَ كَونُه قادراً، فتَكونَ هذه الصفةُ للنفسِ ، أو تَكونَ الصفةُ جائزةً ، فيَكونَ قادراً لعِلّةٍ هي القُدرةُ؟ و ما أَنكَرتُم أن يَكونَ قادراً بالفاعلِ ، لا للنفسِ و لا للعِلّةِ؟

قُلنا: لَو كانَ قادراً بالفاعلِ ، لَم يَكُن بأن يَكونَ قادراً علىٰ قُدَرٍ مِن المقدوراتِ أَولىٰ مِن قُدَرٍ؛ لأنّ المُخَصِّصَ ببعضِ المقدوراتِ دونَ بعضٍ إنّما هو القُدَرُ، و إذا فُقِدَت فلا مُقتَضِيَ للتخصيصِ . و هذا يؤَدّي إلى أن يَكونَ قادراً علىٰ ما لا نِهايةَ له،

ص: 222


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله قُبيل هذا: «أو محدثاً غير متحيّز» قرينة عليه.
2- . في الأصل: «لا يصحّ » بدون الفاء.
3- . أي القدرة. و في الأصل: «لم يخلُ مِن أن يوجَد».
4- . في الأصل: «يثبته».
5- . في الأصل: «يكون».
6- . تقدّمت الدعوىٰ في بداية الفصل، ص 193-194.

و في ذلك صحّةُ مُمانَعتِه للقَديمِ ، و ذلكَ ما(1) سيَجيءُ بَيانُ فَسادِه.(2)

فإن قيلَ : و لِمَ زَعَمتُم أنّه لَو كانَ قادراً بالفاعلِ ، يوجِبُ أنْ لا يَتَناهىٰ مقدورُه ؟ و ما أَنكَرتُم أن يَتَناهى و يَختَصَّ مِن حَيثُ يَجعَلُه الفاعِلُ قادراً علىٰ قُدَرٍ(3) دونَ قُدَرٍ؟

قُلنا: لَو كانَ ما ادَّعَيتُموه صحيحاً، لَكانَ المُقتَضي له قَصْدَ الفاعلِ . [و] لا يُمكِنُ أن يَكونَ المقتضي له جَعْلَهُ له؛ لأنّ ذلك يوجِبُ أنّ كُلَّ شيءٍ جَعَلَه فهو قادرٌ.

و لا أن يُقالَ : إنّه كذلكَ لِجَعلِه له قادراً؛ لأنّه تعليلٌ بما يَدخُلُ المُعلَّلُ فيه. فلَم يَبقَ إلّا ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ المؤَثِّرَ هو القَصدُ، و هذا يَقتَضي إذا قَصَدَ كَونَ أحَدِنا قادراً وَ واجِداً مع ذلكَ القُدرةَ فيه، أن يَكونَ قادراً بالقُدرةِ و بالفاعلِ . و كُلُّ شيءٍ يُفسِدُ أن يَكونَ القادرُ قادراً علَى الشيءِ (4) بقُدرتَينِ ، يُفسِدُ أن يَكونَ قادراً عَلَيه مِن وَجهَينِ .

علىٰ أنّ ما يَتعلَّقُ بالفاعلِ يَحصُلُ علىٰ سَبيلِ الاختيارِ، و ما يَتعلَّقُ بالمعنى فالمؤَثِّرُ(5) فيه المعنىٰ علىٰ جهةِ الوجوبِ .

و أيضاً فإنّ ما يَتعلَّقُ بالمعنىٰ ، وجودُ المعنىٰ شَرطٌ [له]، حتّىٰ أنّه مَتىٰ زالَ

المعنىٰ زالَ ذلكَ الحُكمُ . و ما يَتعلَّقُ بالفاعلِ لا يؤَثِّرُ في زَوالِهِ عدمُ الفاعلِ ؛ فكيفَ يَجوزُ - مع ما ذَكَرناه - أن يَحصُلَ قادراً بالفاعِل، [مع] أنّه كانَ لا يَمتَنِعُ في هذه الصفةِ أن لا تَحصُلَ (6) في حالِ الحُدوثِ - لأنّها إن وجبَت مع الحُدوثِ ، لَم يَجُز

ص: 223


1- . في الأصل: «كما».
2- . يأتي في بحث التوحيد و إبطال الثاني، ج 2، ص 9.
3- . في الأصل: «قادر».
4- . في الأصل: + «على الشيء»، و هو زائد.
5- . في الأصل: «و المؤثّر».
6- . في الأصل: «يحصل»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الصفة»، و هكذا الكلام في قوله: «و إذا لم تحصل» و «جاز أن تحصل».

تَعلُّقُها بالفاعلِ - و إذا لَم تَحصُلْ في حالِ الحُدوثِ جازَ أن تَحصُلَ في حالِ البقاءِ ؛ لأنّ تلكَ الذاتَ لا يَمتَنِعُ أن تَكونَ حَيّةً ؛ لأنّ المُصَحِّحَ لِكَونِ الذاتِ قادرةً كَونُها حَيَّةً . و لو حَصَلَت هذه الصفةُ لَم يَصِحَّ (1) أن تَختَلِفَ (2) جهةُ استحقاقِها بأن تَحصُلَ في حالتَينِ . و مُحالٌ حُصولُ هذه الصفة بالفاعلِ في حالِ البقاءِ ؛ [لأنّه بعد أن لم تكن](3) الذاتُ حادثةً مِن الفاعلِينَ ، [بل تحدث بالفاعل] لا يَجوزُ أن تَصيرَ(4) به علىٰ صفةٍ مِن غَيرِ أن يَفعَلَ معنىً موجِباً لذلكَ (5)، و لهذا لَم يَكُن كلامُ غَيرِنا [لنا خَبَراً و لا](6) أمراً؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن [له] بنا مَحَلٌّ ثابتٌ (7)، و هذا قد تَقدَّمَ بَيانُه.

ما يدلّ على نفي وجود قادر محدَث ليس بجوهر

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَجوزُ وجودُ قادرٍ مُحدَثٍ لَيسَ مِن قَبيلِ (8) الجَواهرِ: أنّ ذلك (52) يَقتَضي في الإرادةِ الموجودةِ لا في مَحَلٍّ ، أن يوجِبَ ذلكَ كَونَهُ مُريداً، كما يوجِبُ ذلكَ فيه تَعالىٰ ؛ لأنّه لَيسَ لها معه تَعالىٰ مِن الاختصاصِ ما لَيسَ لها مع ذلكَ القادرِ، و كذلك الكراهةُ . و هذا يَمنَعُ مِن صحّةِ كَونِ أحدِهما مُريداً لِما الآخَرُ كارِهٌ له. و قد عَلِمنا أنّ هذا الحُكمَ لا بُدَّ مِن صحّتِه في كُلِّ حَيَّينِ .

ص: 224


1- . في الأصل: «لا يصحّ ».
2- . في الأصل: «يختلف».
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «لأنّ من لم يكن»، و لا محصّل له.
4- . في الأصل: «أن يصير»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى الذات.
5- . يُحتمل أنّه سقط هاهنا أسطر من كلام المصنّف؛ لأنّ قوله: «و لهذا لم يكن» إلى آخره غيرمفهوم ارتباطه بالمقام. و للمزيد راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 59؛ الكامل في الاستقصاء، ص 132-135؛ نهاية المرام، ج 4، ص 275-279.
6- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «بتأخير أولا»، و الظاهر أنّه تصحيف عمّا أثبتناه.
7- . في الأصل: «ثابتاً»، و هو سهو.
8- . في الأصل: «قبل»، و الصحيح ما أثبتناه كما لا يخفى.

و هذه الطريقةُ تَدُلُّ علىٰ نَفيِ ثانٍ قَديمٍ أيضاً.

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ما ذَكَرناه: أنّ مِن حَقِّ معلولِ العِلّةِ [أن] لا يُعتبَرَ في حُصولِه إلّا وجودُ العِلّةِ ؛ بدَلالةِ أنّه لو اعتَبَرنا أمراً آخَرَ، لَم يُمنَعْ أن تَكونَ في قُلوبِ المَوتىٰ عُلومٌ ، و إنّما لَم تُوجِبِ الأحوالَ لفَقدِ كَونِهم أحياءً . فلَو كانَ قادرٌ مُحدَثٌ مِن غَيرِ قَبيلِ الجَواهرِ لوَجَبَ في الإرادةِ الموجودةِ لا في مَحَلٍّ أن توجِبَ (1) الحُكمَ له علىٰ ما بيّنّا، فَلو لَم تُخلَقْ (2) هذه الذاتُ لَكانَتِ الإرادةُ الموجودةُ لا في مَحَلٍّ يَمتَنِعُ وجودُها؛ لِفَقدِ مَن توجِبُ (3) الحكمَ له، [و] وجبَ (4) أن لا يَمتَنِعَ وجودُها؛ لأنّه تعالى علَى الصفةِ التي يَصِحُّ أن توجِبَ (5) الإرادةُ الحُكمَ له معها بمِثلِه. و بهذه الطريقةِ أحَلنا أن يكونَ المعنى الواحدُ يوجِبُ الصفةَ للجُملةِ و المَحَلِّ .

و هذه الجُملةُ تُبطِلُ (6) أن يَكونَ صانعُ العالَمِ مُحدَثاً؛ سَواءً قيل أنّه جسمٌ أو عَرَضٌ ، أو لم يوصَفْ بإحدى الصفتَينِ ؛ لأنّ القسمةَ التي قَدَّمناها في اعتبارِ كَونِه قادراً، و كيفيّةِ حُصولِه تأتي(7) علىٰ فَسادِ ذلكَ مِن طريقِ المعنىٰ ، و العباراتُ لا اعتبارَ بها مع صحّةِ المَعاني.

ص: 225


1- . في الأصل: «يوجب»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى الإرادة، و لفظة «كانت» قرينة على الصحّة.
2- . في الأصل: «لم يُخلَق».
3- . في الأصل: «يوجب»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «الإرادة».
4- . في الأصل: «وجبت»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّ الفاعل «أن» مع مدخولها.
5- . في الأصل: «يوجب».
6- . في الأصل: «يبطل».
7- . في الأصل: «يأتي»، و الأولى ما أثبتناه.

ص: 226

الفصلُ السابع في بيانِ أحكامِ الصفاتِ الثبوتيّةِ الذاتيّةِ
1 فصلٌ في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُستَحِقَّ الصفاتِ التي ذَكَرناها يَجِبُ أن يَستَحِقَّها
البحث الأوّل: في أنّه تعالىٰ قادر فيما لم يزل
اشارة

اعلَمْ أنّه لَو استَحقَّ كونَه قادراً، بَعدَ أن لَم يَستَحِقَّ ذلكَ ، لَوجبَ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، و سَنُبيِّنُ فَسادَ تَعلُّقِ كَونِه قادراً بمعنىً مُحدَثٍ .(1)

في بيان أنّ القدرة الممكنة لا تكون إلّابقدرة حادثة

فإن قيلَ : بَيِّنوا صحّةَ ما ادَّعَيتُم.

قُلنا: لَيسَ يَخلو استحقاقُه لكَونِه قادراً مِن أحَدِ أمرَينِ : إمّا أن يَكونَ حَصَلَ علىٰ سَبيلِ الوُجوبِ ، أو يَكونَ قادراً مع جَوازِ أن لا يَكونَ بهذه الصفةِ .

فإن كانَ الأوّلُ ، وجبَ أن يَكونَ قادراً لنفسِه، أو لِما عَلَيه في نفسِه؛ و أيُّ الأمرَينِ ثَبَتَ وجبَ كَونُه قادراً فيما لم يَزَلْ .

ص: 227


1- . يأتي في ج 1، ص 263.

و إن كان قادراً مع جَوازِ أن لا يَكونَ كذلكَ ،(1) وَجَبَ أن يَكونَ قادراً لمعنىً مُحدَثٍ .

و إن شئتَ أن تَقولَ : تَجدُّدُ الصفةِ لا يَصِحُّ [إلّا] علىٰ أحَدِ أمرَينِ : إمّا [على] تجدّد مُقتَضيها أو [تَجدُّدِ شَرطِها](2)، و لَن تَتجدَّدَ لأمرٍ معقولٍ سِوىٰ ما ذَكَرناه.

فإن تَجدَّدَ كَونُه قادراً لِتجدُّدِ المُقتَضي، فلَيسَ ذلكَ إلّاالقُدرةُ ، و فَسادُه يأتي بعَونِ اللّٰهِ .(3)

و إن كانَ بتجدُّدِ الشرطِ، فالشرطُ المعقولُ في كَونِ القادرِ قادراً عدمُ المقدورِ، و ذلك غَيرُ مُتجدِّدٍ، بل هو حاصلٌ فيما لَم يَزَل، فيَجِبُ حُصولُ الصفةِ فيما لَم يَزَلْ .

نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة وجود المقدور

و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : الشرطُ في ذلكَ صحّةُ وجودِ المقدورِ، و هذا ممّا يَتجدَّدُ، و لا يَثبُتُ فيما لَم يَزَل.

و ذلك: أنّ صحّةَ وجودِ المقدورِ تابعةٌ لكَونِ القادرِ قادراً، و لا يَصِحُّ أن يُجعَلَ كَونُه قادراً مُفتَقِراً إليها و مَشروطاً بها(4)؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ تَعلُّقَ كُلِّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه و كَونَه(5) مَشروطاً به، و فَسادُ مِثلِ ذلكَ ظاهِرٌ.

علىٰ أنّ الفِعلَ فيما لَم يَزَل كانَ (53) يَصِحُّ أن يَقَعَ في المُستَقبَلِ ، و لَيسَ مِن

ص: 228


1- . و هو الشقّ الثاني كما هو واضح.
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «يتحدّد بشرطها».
3- . سوف يأتي إبطال المعاني - و التي منها معنى «القدرة» - في ج 1، ص 254.
4- . في الأصل: «مفتقِراً إليه و مشروطاً به»، و الأنسب ما أثبتناه من تأنيث الضمائر؛ لرجوعها إلى «صحّة وجود المقدور».
5- . في الأصل: + «به»، و هو زائد.

شَرطِ القادرِ أن يَصِحَّ مِنه الفِعلُ في حالِ كَونِه قادراً، بل وجودُ الفِعلِ في حالِ كَونِ القادرِ قادراً عليه مُحالٌ بما سَيأتي في الكتابِ بمَشيّةِ اللّٰهِ و عَونِه.

نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة الفعل في الوقت الثاني

و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ الشرطَ هو صحّةُ الفِعلِ علَى الوَجهِ الذي لا يَتقدَّمُه(1) كَونُه

قادراً، إلّابوَقتٍ واحدٍ.

و ذلكَ : أنّ أحَدَنا يَقدِرُ علىٰ ما يُقطَعُ (2) أنّ الشرطَ هو صحّةُ الفِعلِ بَعدَ أوقاتٍ ؛ كإصابةِ الغَرَضِ بالسهمِ (3) و ما جَرىٰ مَجراها.

و لأنّ القُدرةَ قد ثَبَتَ (4) بالدّليلِ بَقاؤها(5)، و هي قُدرةٌ علىٰ كُلِّ ما يوجَدُ في الأحوالِ المُستَقبَلةِ .

علىٰ أنّ الفِعلَ إنّما يَستَحيلُ وجودُه فيما لَم يَزَلْ لأمرٍ يَرجِعُ إليه لا إلَى القادرِ، و ما يَرجِعُ إلى الفِعلِ لا يَحُلُّ بما صَحَّحَ الفِعلَ مِن القادرِ؛ ألا تَرىٰ أنّ الممنوعَ قادرٌ و إن تَعذَّرَ [عليه] الفِعلُ لِمانعٍ مؤثِّرٍ في وجودِ الفِعلِ؟

علىٰ أنّ كَونَه قادراً، إن وُجِدَ(6) علىٰ سَبيلِ الوُجوبِ لأجلِ حُصولِ شُبهةٍ ،

ص: 229


1- . في الأصل: «يقدّمه».
2- . في الأصل: «يقع»، و لا محصّل له في المقام.
3- . فإنّ صحّة إصابة الغرض تتأخّر عن القدرة علىٰ اصابته بأوقات لا بوقت واحد، فإنّ وصول السهم إلى الغرض يتطلّب أكثر من وقت واحد، مع أنّ القدرة عليه متقدّمة بأوقاتٍ عليه.
4- . في الأصل: «تمّت»، و ما أثبتناه هو الأنسب للسياق.
5- . هذا مذهب أبي عليّ و أبي هاشم الجبّائيين حيث ذهبا إلىٰ بقاء القدرة، و الظاهر أنّ المصنّف قد تبنّاه هنا، لكنّه سوف يناقش أدلّة هذا المذهب، و يتوقّف في المسألة، و ذلك في كتاب الذخيرة، ص 96.
6- . في الأصل: «إن يجد».

لَم يَخلُ (1) المؤثِّرُ في ذلكَ مِن أن يَكونَ ما هو عَلَيه في نفسِه، أو كَونَه حَيّاً.

و ما عَلَيه الشيءُ في نفسِه لا يَجوزُ أن يَكونَ مشروطاً بأمرٍ منفَصِلٍ . و هذا يَقتَضي وجوبَ الصفةِ و حُصولَها في كُلِّ حالٍ .

و إن كانَ كَونُه حيّاً هو المؤثِّرَ في كَونِه قادراً، وجبَ مِثلُ ذلكَ فينا، و أن نَستَغنيَ في كَونِنا قادرينَ عن القُدرةِ . و قد دَلَّ الدليلُ علىٰ أنّ أحَدَنا لا يَكونُ قادراً إلّا بقُدرةٍ ؛ فيَجِبُ فَسادُ ما أدّىٰ إلىٰ خِلافِه.

البحث الثاني: في بيان أنّه تعالىٰ حيّ و موجود فيما لم يزل

و إذا ثَبَتَ أنّه قادرٌ فيما لَم يَزَل، ثَبَتَ أنّه حَيٌّ بوجودٍ لَم يَزَلْ ؛ لتَعلُّقِ كَونِه قادراً بكَونِه حَيّاً موجوداً.

و لأنّه لَو كانَ حَيّاً بَعدَ [أن] لَم يَكُن حَيّاً، لَوجبَ كَونُه كذلكَ لمعنىً مُحدَثٍ . و لَو تَجدَّدَ وجودُه مع جَوازِ أن لا يَتجدَّدَ، لاحتاجَ إلىٰ مُحدِثٍ ، و لأدّىٰ إلىٰ وجودِ ما لا نِهايةَ له مِن المُحدِثينَ .

البحث الثالث: في بيان أنّه تعالىٰ عالِم فيما لم يزل
اشارة

و الكلامُ في أنّه عالمٌ فيما لَم يَزَلْ يَجري أيضاً على الطريقةِ التي تَقدَّمَت؛ لأنّه لو تَجدَّدَ كَونُه عالِماً، لَكانَ (2) يَتجدَّدُ مع جَوازِ أنْ لا يَتجدَّدَ و الحالُ واحدةٌ ؛ لأنّه لا شَرطَ معقولٌ تَعلَّقَ تَجدُّدُه به، و ذلك يَقتَضي أنّه تَجدَّدَ لِتَجدُّدِ عِلمٍ مُحدَثٍ .

ص: 230


1- . في الأصل: «لم يحلّ ».
2- . في الأصل: «لكادَ»، و هو خطأ؛ لأنّ «كاد» مجرّدة عن الجحد تنبئ عن نفي الفعل، و المقصودهاهنا ثبوت الفعل لا نفيه كما لا يخفى، فالصحيح ما أثبتناه.
1. نفي أن يكون شرط تجدّد كونه عالِماً هو وجود المعلوم
اشارة

[1. نفي أن يكون شرط تجدّد كونه عالِماً هو وجود المعلوم](1)

فإن قيلَ : ألّاأجرَيتُم كَونَه عالِماً مَجرىٰ كَونِه مُدرِكاً، و جَعَلتُم الشرطَ في تَجدُّدِه وجودَ المعلومِ ، كما أنّ الشرطَ عندكم في تَجدُّدِ كَونِه مُدرِكاً وجودُ المُدرَكِ ؛ فلا يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ (2)، كما لا يَجِبُ مِثلُ ذلك في كَونِه مُدرِكاً؟

قُلنا: الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ واضحٌ ؛ لأنّ الإدراكَ يَستَحيلُ تَعلُّقُه بالمَعدومِ ؛ فوجبَ

أن يَكونَ وجودُه شَرطاً في تَعلُّقِ الإدراكِ به. و لَيسَ كذلك العِلمُ ؛ لأنّه يَتعلَّقُ بالمعدومِ و الموجودِ علىٰ سَواءٍ ، و سَنُبيِّنُ ذلكَ .(3)

علىٰ أنّه جَرىٰ كَونُه عالِماً مَجرىٰ كَونِه مُدرِكاً في تَعلُّقِه بشَرطٍ، فيَجِبُ أن يَكونَ المُقتَضي لكَونِه عالِماً هو كَونَه حَيّاً(4) بشَرطِ وجودِ المعلومِ ، كما اقتَضى ذلكَ كَونَه مُدرِكاً، و هذا يوجِبُ أن يكونَ أحدُنا متىٰ وُجِدَ المعلومُ ، يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً به؛ لحُصولِ المُقتَضِي و هو كَونُه حَيّاً، و الشَّرطِ و هو وجودُ المعلومِ ، كما وجبَ ذلكَ في كَونِ أحَدِنا مُدرِكاً، و قد عَلِمنا فَسادَ ذلكَ .

أدلّة صحّة تعلّق العلم بالمعدوم

و الّذي يَدُلُّ علىٰ صحّةِ تَعلُّقِ العِلمِ بالمعدومِ كصحّتِه بالموجودِ، أشياءُ :

مِنها: أنّ الفاعلَ للمُحكَمِ مِن الفِعلِ ، متىٰ لَم يَكُن عالِماً بكيفيّةِ إيقاعِه علىٰ وَجهِ

ص: 231


1- . قام المصنّف بطرح إشكالَين رئيسيَّين علىٰ مسألة العلم الأزلي، و ناقشهما، و قد وضعنا لكلّ إشكال رقماً خاصّاً به.
2- . في الأصل: «الحدث».
3- . يأتي بيانه و الاستدلال عليه بعد قليل.
4- . في الأصل: «جسماً»، و هو خطأ؛ فقد مرّ مراراً أن المقتضي لكون العالم عالماً هو صفة الحياة مع وجود المعلوم، و ستأتي الإشارة إلى هذا أيضاً.

الإحكامِ قَبلَ أن يَفعَلَه (54) لَم يَصِحَّ أن يَقَعَ مِنه مُحكَماً، و هذا يوجِبُ أن يكونَ المعدومُ معلوماً.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ العِلمَ بما ذَكَرتُم مِن الصَّنائعِ المُحكمَةِ ، لا يَتعلَّقُ بالمعدومِ في الحقيقةِ ، و إنّما يَتعلَّقُ بوجودِه.

و ذلكَ : أنّ هذا القولَ يوجِبُ أن لا يَعلَمَ العالِمُ مِن الكتابةِ و غَيرِها مِن الصَّنائعِ المُحكَمةِ إلّاما يوجَدُ لا مَحالَةَ في المُستَقبَلِ ، أو وُجِدَ فيما مَضىٰ ، و قد عَلِمنا خِلافَ ذلكَ .

علىٰ أنّ العِلمَ الذي أُشيرَ إليه لَو كانَ يَتعلَّقُ في حالِ عدمِ العِلمِ بوجودِه، لَاستحالَ مع بقاءِ هذا العِلمِ الجَهلُ بوجودِه؛ مِن حَيثُ كانَ يؤَدّي إلى الجَهلِ بالشيءِ علَى الوَجهِ الذي عُلِمَ عَلَيه. و في صحّةِ كَونِه عالِماً به قَبلَ وجودِه مع جَهلِه به عندَ وجودِه، دَلالةٌ على أنّ العِلمَ الذي ذَكَرناه لا يَتعلَّقُ بوجودِه.

و بَعدُ، فإنّ العِلمَ بكيفيّةِ إيجادِ فِعلِ الكتابةِ به مَثَلاً، عِلمُ جُملةٍ لا يَتعلَّقُ بحُروفٍ مخصوصةٍ ؛ فكيف يُقالُ : إنّه عِلمٌ بما يوجَدُ مِنها؟ و كيفَ يَكونُ العِلمُ بالموجودِ منها و هو علمٌ تفصيليٌّ ، هو العِلمُ المتعلِّقُ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، و اختلافُهما ظاهرٌ؟!

و مِنها: أنّا نَعلَمُ الثوابَ و العِقابَ ، و البَعثَ و النُّشورَ، و كُلُّ ذلك معدومٌ . و أهلُ الجَنّةِ لا بُدَّ أن يَعلَموا أنّ ثَوابَهم دائمٌ متَّصِلٌ و إن كانَ معدوماً.

و منها: أنّ أحَدَنا يَعلَمُ ما تَقَضّىٰ (1) مِن أفعالِ غَيرِه؛ ككَلامِه و قيامِه و قُعودِه و ضُروبِ أفعالِه.

و لا يَجوزُ أن يُقالَ في هذه العلومِ : إنّها تَتعلَّقُ في الحقيقةِ بأنّ هذه الأفعالَ كانَت موجودةً .

ص: 232


1- . في الأصل: «يُقضى»، و المناسب ما أثبتناه بقرينة قوله: «بعد تقضّيها».

و ذلكَ : أنّ العالِمَ بها يُفصِّلُ بَينَ حالةٍ قد كانَ عالِماً بوجودِها مِن قَبلُ و بَينَ عِلمِه الآنَ بها بَعدَ تَقضّيها، كما يُفصِّلُ بَينَ حالتَيه فيما يَعلَمُه مِن وجودِ الجسمِ و كَونِه مُتحرِّكاً، و لا شيءَ أظهَرُ ممّا يَجِدُه الإنسانُ مِن نفسِه.

و ممّا يُقالُ في(1) ذلك أيضاً: إنّا قد فَصَّلنا بَينَ القَديمِ و المُحدَثِ ، و لَو كانَ المعدومُ لَن(2) يَصِحَّ أن يُعلَمَ لَما وَقَعَ هذا العِلمُ ؛ لأنّ العِلمَ بحُدوثِ الذاتِ هو عِلمٌ بعدمِها قَبلَ وجودِها.

و إذا قيلَ : إنّ العِلمَ بتجدُّدِ الوجودِ يَكفي في ذلك.

أمكَنَ أن يُقالَ : إنّ تَجدُّدَ الوجودِ إذا حَصَلَ ، لَم يُعقَلْ مِنه إلّاالوجودُ بَعدَ العدمِ ، و إلّا فهو غَيرُ معقولٍ .

2. بيان حقيقة العلم الأزلي بالموجودات الحادثة
اشارة

فإن قالَ قائلٌ : كيفَ يَصِحُّ القولُ بأنّه تَعالىٰ «عالِمٌ بالمعلوماتِ كُلِّها فيما لَم يَزَلْ »؟ و هو الآنَ عالِمٌ بأنّها موجودةٌ ، و فيما لَم يَزَلْ لا يَصِحُّ وصفُه بالعِلمِ (3) بذلكَ ، بل كانَ عالِماً بأنّها غَيرُ موجودةٍ و أنّها سَتوجَدُ. و كذلكَ كانَ عالِماً فيما لَم يَزَلْ بأنّه غَيرُ فاعلٍ ، و الآنَ لا يُوصَفُ [بالعِلمِ ](4) بذلكَ ، بل يوصَفُ بالعِلمِ بأنّه فاعِلٌ . و هذا يَقتَضي حُدوثَ العِلمِ ، علىٰ ما ذَهَبَ إليه مُخالِفُكُم!

قيلَ له: قد بَيَّنَ عُلماءُ أهلِ التوحيدِ الجوابَ عَن هذا السؤالِ ، و أزالوا الشُّبهةَ به،

ص: 233


1- . في الأصل: «من».
2- . في الأصل: «أن».
3- . في الأصل: «وصفها العلم»، و الصحيح ما أثبتناه، أي وصفه تعالى بالعلم، و فيما يأتي قرينة عليه.
4- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «بل يوصف بالعلم بأنّه فاعل» قرينة عليه.

فقالوا: إنّ العِلمَ بأنّ الشيءَ سيوجَدُ، هو بعَينِه عِلمٌ بوجودِه إذا وُجِدَ، و بأنّه كانَ موجوداً إذا مضىٰ . و إنّ تَعلُّقَ العِلمِ لا يَختَلِفُ باختلافِ العبارةِ ، كما أنّ الوقتَ المخصوصَ تَختَلِفُ العبارةُ عَلَيه؛ فيوصَفُ إذا كانَ مُستَقبَلاً بأنّه غَدٌ، و إذا كان حاضِراً بأنّه يَومٌ ، و إذا مضىٰ بأنّه أمْسِ ، فتَختَلِفُ العبارةُ ، و المُعبَّرُ عنه غَيرُ مختَلِفٍ في نفسِه.

و ذَكَروا أنّ الدَّلالةَ فيما تَتعلَّقُ (1) به تَجري(2) مَجرَى العِلمِ فيما ذَكَرناه.

فأمّا الخَبَرُ الصِّدقُ : فمِن حَيثُ الفائدةِ و المعنى يَجري مَجرَى العِلمِ و الدَّلالةِ ، و يُخالِفُهما مِن حَيثُ الصورةِ (55) و الصيغةِ ، لأنّ صيغةَ الخَبَرِ تَختَلِفُ بالماضي و المُستَقبَلِ .

في بيان أنّ العلم بوجود الشيء في المستقبل هو علمٌ بوجوده

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ العِلمَ ب [أنّ ] الشيءَ سَيوجَدُ، هو [بعينه](3) عِلمٌ بوجودِه إذا

وُجِدَ: أنّه لَو لَم يَكُن كذلكَ ، لَصَحَّ بقاؤه مع الجهلِ بوجودِ ذلكَ الشيءِ ؛ مِثلَ أن يَعلَمَ أنّ زَيداً سيَموتُ في غَدٍ، و يَجهَلُ في غَدٍ مَوتَه مع بقاءِ عِلمِه الأوّلِ . و في عِلمِنا باستحالةِ كَونِه جاهلاً بالمعلومِ مع بقاءِ العِلمِ الأوّلِ دَلالةٌ علىٰ صحّةِ ما قُلناه؛ مِن أنّ مُتعلَّقَ العِلمِ (4) الأوّلِ هو وجودُه.

و إنّما قُلنا: إنّه لا يُنكَرُ وجودُ الجهلِ مُصاحِباً لبقاءِ العِلمِ الأوّلِ ؛ لأنّ مُتعلَّقَهما - على ما يَذهَبُ إليه المُخالِفُ - لا يَتناوَلُ وَجهاً واحداً. و كُلُّ عِلمَينِ تَعلَّقا بالمعلومِ

ص: 234


1- . في الأصل: «يتعلّق».
2- . في الأصل: «و يجري».
3- . ما بين المعقوفين استفدناه ممّا تقدّم قبل قليل.
4- . في الأصل: «علم»، و الصحيح ما أثبتناه، بقرينة قوله: «مع بقاء العلم الأوّل».

علىٰ وَجهَينِ ، جازَ(1) وجودُ كُلِّ واحدٍ مِنهما مع الجهلِ المُضادِّ لِلآخَرِ، إذا لَم يَكُن أحَدُهما أصلاً للآخَرِ.

و لَيسَ هذا الدليلُ مبنيّاً(2) علىٰ وجوبِ بقاءِ العِلمِ ، فَيُرفَضَ (3) بأنّه لا يَبقىٰ ، بل قد يَجوزُ أن يُقالَ : «لَو بَقِيَ كيفَ كانَت تَكونُ (4) الحالُ في جَوازِ مُصاحَبةِ الجَهلِ الذي ذَكَرناه له [و عدمِ جوازِه](5)؛ فإذا عُلِمَ استحالةُ مُصاحَبتِه له لَو بَقيَ ، عُلِمَ أنّه يَتعلَّقُ بوجودِ الذاتِ ؛ لأنّ بقاءَ العِلمِ لا يَقلِبُ مُتعلَّقَه و يَجعَلُه مُتعلِّقاً بغَيرِ ما كانَ مُتعلِّقاً به» لَو(6) قيلَ ، بل لا بُدَّ مِن قولِنا: لَو بَقيَ أو وُجِدَ مِثلُه في الثاني لَصحَّ الكلامُ ؛ لأنّه إذا استحالَ مُصاحَبةُ الجَهلِ (7) لِما هو مِثلُ العِلمِ الأوّلِ ، صَحَّ أنّ الأوّلَ يَتعلَّقُ بما يَتعلَّقُ به الثاني؛ مِن وجودِ الذاتِ في الوقتِ الذي توجَدُ(8) فيه.

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ العِلمَ بأنّه سيوجَدُ، لَو لَم يَكُن عِلماً بوجودِه - علىٰ صفةِ ما ذَكَرناه -، لَكانَ لا يَخلو لَو بَقِيَ إلىٰ حالِ وجودِ ذلكَ الشيءِ المعلومِ ، مِن أن يَكونَ : عِلماً بأنّه سَيوجَدُ، أو عِلماً بوجودِه.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ عِلماً بأنّه سَيوجَدُ و هو موجودٌ؛ لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلَى انقلابِه

ص: 235


1- . في الأصل: + «كلّ »، و هو زائد.
2- . في الأصل: «مبنيّ ».
3- . في الأصل: «فيعرض».
4- . في الأصل: «يكون»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «كانت».
5- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و هو معلوم بالتأمّل فيما يأتي.
6- . في الأصل: «و لو»، و الواو زائدة.
7- . في الأصل: «أن مصاحب الجهل»، و الصحيح ما أثبتناه، و قوله: «فإذا علم استحالة مصاحبته» قرينة عليه.
8- . في الأصل: «يوجد»، و ضمير الفاعل يرجع إلى «الذات».

في حالِ البقاءِ جهلاً، و قد عُلِمَ أنّ بقاءَ الشيءِ لا يَقلِبُ جنسَه، فيَجِبُ أن يَكونَ عِلماً بوجودِه.

و يَدُلُّ أيضاً عَلَيه: أنّ العِلمَ بأنّ زَيداً سَيَقومُ في غَدٍ، لَو لَم يَكُن عِلماً بقيامِه، لَكانَ لا يُنكَرُ أن يَذكُرَ هذا العالِمُ أنّه كانَ عالِماً بذلكَ ، و إن جَهِلَ قيامَه أو لَم يَعلَمْه؛ لأنّ ذِكرَ العِلمِ لَيسَ بأقوىٰ مِن العِلمِ نفسِه. و إذا كانَ العِلمُ الأوّلُ لا يَتعلَّقُ بقيامِه لَو بَقيَ ، فذِكرُه لا يَمنَعُ مِن الجهلِ بقيامِه. و قد عَلِمنا خِلافَ ذلك.

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ صحّةِ ما ذَكَرناه: أنّ النبيَّ صلّى اللّٰه عليه و آله لَو أخبَرَ بأنّ زَيداً سَيَموتُ ، لَكانَ ذلكَ الخَبَرُ دليلاً علىٰ مَوتِه. و يَجِبُ أن يَكونَ مَن استَدَلَّ به قَبلَ

مَوتِه أو في حالِ المَوتِ أو بَعدَه، سَواءً فيما يَتولَّدُ مِن العُلومِ المُتَماثِلةِ ؛ لأنّ النظَرَ في الدليلِ الواحدِ مِن الوَجهِ الواحدِ لا يُولِّدُ عُلوماً مختلِفةً ، و لا يولِّدُ إلّاالمُتَماثِلَ مِن العُلومِ .

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ ، و يوضِحُ (1) أنّ اختلافَ العبارةِ لا تأثيرَ لها في هذا البابِ : أنّا نَعلَمُ أنّ مَن عَلِمَ شيئاً أنّه يَكونُ في الوقتِ العاشرِ، مَتىٰ بَقيَ عِلمُه إلى الثاني، فلا بُدَّ أن يَكونَ عِلماً بأنّه سَيَكونُ في الوقتِ التاسعِ (2). و كذلكَ إذا بَقِيَ إلى الثالثِ يَكونُ عِلماً بكَونِه في الثامِنِ .

و علىٰ هذا لَو كانَ الأمرُ علىٰ ما ذَكَروه، لَوجبَ أن يَكونَ ما يَتعلَّقُ (3) بكَونِه

ص: 236


1- . في الأصل: «و يوضحه».
2- . فإنّه عند تحقّقه في الوقت الثاني، صار أقرب إلى الوقت العاشر بوقت واحد بالنسبة إلىٰ ماكان عليه في الوقت الأوّل، فأصبح الوقت العاشر بالنسبة إليه - أي للذي في الثاني - وقتاً تاسعاً. و هكذا عندما يصل إلى الوقت الثالث، صار أقرب إلى العاشر بوقتينِ ، و لذلك صار العاشر بالنسبة إليه ثامناً.
3- . مِن العلم.

في العاشرِ لا يَكونُ في الثاني مُتعلِّقاً بكَونِه في (56) التاسعِ ؛ لأنّ العِلمَينِ عندَهم مُختَلِفانِ (1). و في وضوحِ فَسادِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ أنّ اختلافَ العبارةِ علَى العِلمِ - الذي جَعَلَه العِلمُ شُبهتَهم في هذا البابِ - لا يَقتَضي اختلافَ مُتعلَّقِ العِلمِ .

و أمّا(2) وصفُنا له تَعالىٰ بأنّه عالِمٌ فيما لَم يَزَلْ بأنّ الدُّنيا غَيرُ موجودةٍ ، و وصفُه الآنَ بأنّه يَعلَمُها موجودةً : فلا شُبهةَ في مِثلِه إذا تُؤُمِّلَ حَقَّ التأمُّلِ ، و لَم نَصِفْه الآنَ مِن العِلمِ إلّابما وَصَفناه به فيما لَم يَزَلْ ، متىٰ أُضيفَ تَعلُّقُ العِلمِ بالمعلومِ إلى الأوقاتِ أو ما يُقدَّرُ تقديرَها؛ لأنّه تَعالىٰ كانَ عالماً فيما لَم يَزَلْ بأنّ الدُّنيا غَيرُ موجودةٍ في تلكَ الأحوالِ الموصوفةِ بأنّها لَم تَزَلْ ، و هو الآنَ عالِمٌ بأنّ الدُّنيا غَيرُ موجودةٍ في تلكَ الأحوالِ ، كما كانَ . و إذا وَصَفناه الآنَ بأنّه عالِمٌ بوجودِها في هذه الأوقاتِ ، فما وَصَفناه إلّابما كانَ عَلَيه فيما لَم يَزَلْ ؛ لأنّه لَم يَزَل عالِماً بوجودِها في هذه الأوقاتِ .

و كذلكَ القولُ في وَصفِنا له بالعِلمِ بأنّه: غَيرُ فاعلٍ فيما لَم يَزَلْ . و الآنَ فاعلٌ ؛ لأنّه إذا أُضيفَ إلَى الأوقاتِ زالَت الشُّبهةُ مِنه.

و انتفاءُ العِلمِ فيما لَم يَزَلْ غَيرُ انتفائِه في سائرِ الأحوالِ ، كما أنّ ثُبوتَه الآنَ لا يقتضي ثُبوتَه فيما تَقدَّمَ . و هو عالِمٌ [فيما] لَم يَزَلْ و في كُلِّ حالٍ : بانتفاءِ الفِعلِ في الوقتِ الذي انتَفىٰ فيه، و بثُبوتِه في الوقتِ الّذي ثَبَتَ فيه.

ص: 237


1- . في الأصل: «مختلفين».
2- . في الأصل: «ما»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «فلا شبهة».
خلاصة رأي المصنّف حول العلم بأنّ الشيء سيوجد

و قد استَقصَينا الكلامَ في هذا المعنىٰ ، و في أنّ المعدومَ يَصِحُّ تَناوُلُ العِلمِ له؛ سَواءٌ كانَ ممّا قد عُدِمَ بَعدَ وجودٍ، أو ممّا لَم يوجَد في وقتٍ مِن الأوقاتِ ، و

شَرَحناه و بَسَطناه في نَقضِنا علىٰ يَحيى بنِ عَدِيٍّ النَّصرانِيِّ مَقالتَه الموسومةَ ب «الكلامُ في طبيعةِ المُمكِنِ »(1).

و ذَكَرنا أنّ الأظهَرَ عندَنا أن يَكونَ العِلمُ بأنّ الشيءَ سَيوجَدُ، هو مَجموعُ عِلمَينِ ؛ أحَدُهما يَتناوَلُ وجودَه في الوقتِ الذي يوجَدُ فيه، و الآخَرُ: يَتناوَلُ عدمَه قَبلَ ذلكَ ، و أنّه لَم يَكُن مَوجوداً.

و تَجري هذه اللَّفظةُ في أنّها عبارةٌ عَن عِلمَينِ : مَجرَى العِلمِ بأنّ الذاتَ مُتحرِّكةٌ ؛ لأنّ ذلكَ يُنبئُ عن كَونِها في المَكانِ عَقِيبَ كَونِها في غَيرِه. و مَجرَى العِلمِ بالمُعادِ، في أنّه مجموعُ ثَلاثةِ عُلومٍ : أحَدُها يَتناوَلُ وجودَه، و الآخَرُ يَتَناوَلُ عدمَه قَبلَ هذا الوجودِ، و الآخَرُ يَتَناوَلُ وجودَه قَبلَ ذلكَ العدمِ .

و قَوَّينا هذه الطريقةَ بما لا يُحتاجُ إلىٰ تَكرارِه هاهنا. و مَن أراده علىٰ وَجهِه وَقَف عَلَيه مِن هُناكَ .

***

ص: 238


1- . ذكر البُصروي هذا النقض في الفهرس الذي أعدّه لكتب الشريف المرتضىٰ ، و سمّاه: «مسألة في الرّد علىٰ يحيىٰ أيضاً في طبيعة الممكن». (انظر: مجلّه العقيدة، العدد 3، ص 381) كما أنّه قد جاء في قائمة مؤلّفات يحيىٰ بن عديّ رسالة تحمل العنوان التالي: «مقالة في إثبات طبيعة الممكن». (انظر: مقالة في التوحيد، ليحيىٰ بن عديّ ، ص 51) و هذه الرسالة أو المقالة هي التي أشار إليها المصنّف في المتن.
2 فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَختَصُّ في ذاتِه بصفةٍ زائدةٍ على ما ذَكَرناه و الرَّدُّ علىٰ أصحابِ المائيّةِ
اشارة

[2] فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَختَصُّ في ذاتِه بصفةٍ زائدةٍ على ما ذَكَرناه و الرَّدُّ علىٰ أصحابِ المائيّةِ (1)

الدليل الأوّل علىٰ بطلان المائيّة
اشارة

اِعلَمْ (2) أنّ كُلَّ ما لِلعِلمِ به طريقٌ ، فإنّه لا يَجوزُ إثباتُه علىٰ صفةٍ لا يَقتَضيها(3) ذلكَ الطريقُ ؛ إمّا بنفسِه أو بواسطةٍ ، و قد عَلِمنا أنّ طريقَ إثباتِه تَعالىٰ هو الفِعلُ ؛ لأنّه بأفعالِه يُتوصَّلُ إلىٰ إثباتِه، فيَجِبُ أن تَكونَ أوصافُه مُثبَتةً مِن طريقِ الفِعلِ أيضاً؛ إمّا بنفسِه أو بواسطةٍ .

و هذا الكلامُ مَبنِيٌّ علىٰ مَوضِعَين:

أحَدُهما: أنّ كُلَّ شيءٍ ثَبَتَ مِن طريقٍ ، فمِنه تَثبُتُ أحوالُه و صفاتُه.

ص: 239


1- . أو أصحاب الماهيّة، و هم طائفة من المعتزلة تُسمّى بالضراريّة - نسبةً إلى ضرار بن عمرو حسب تصنيف الشهرستاني - و هؤلاء برغم اتّفاقهم مع المعتزلة في نفي الصفات عن اللّٰه تعالىٰ ، لكنّهم تفرّدوا ببعض الآراء، منها أنّ الباري تعالى عالم قادر، بمعنى أنّه ليس بجاهل و لا عاجز لا بمعنى إثبات الصفة له. و أثبتوا له سبحانه و تعالى ماهيةً لا يعلمها إلّاهو. و نُسب هذا الرأي إلى أبي حنيفة و جماعة مِن أصحابه أيضاً، و فسّرها بأنّه تعالى يعلم نفسه شهادة لا بدليلٍ و خبر. الملل و النحل للشهرستاني، ص 37 و 38.
2- . قدّم المصنّف في بداية ردّه على أصحاب المائيّة مقدّمة حول المنهجيّة الصحيحة لإثبات الصفات.
3- . في الأصل: «لا تقتضيها».

و المَوضِعُ الآخَرُ: أنّ الفِعلَ لا يَدُلُّ علىٰ صفةٍ تَزيدُ علىٰ ما أثبتناه؛ لا بنفسِه و لا بواسطةٍ .

و الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ : وجودُنا [و] سائرُ المُدرَكاتِ كالسوادِ و غَيرِه، لمّا ثَبَتَت بالإدراكِ ، لَم يَصِحَّ أن تَثبُتَ (1)(57) لها صفةٌ لا يَقتضيها(2) إدراكٌ بنفسِه أو بواسطةٍ .

و كذلك كَونُ الجسمِ مُتحرِّكاً، لمّا كانَ الطريقَ إلىٰ إثباتِ ذاتِ الحركةِ ، كان هو الطريقَ إلىٰ إثباتِ صفاتِها؛ حتّىٰ لا نُثبِتُ (3) لها شيئاً مِن الصفاتِ إلّاو كَونُ الجسمِ مُتحرِّكاً طريقٌ إليه بنفسِه أو بواسطةٍ .

و القولُ بخِلافِ ما ذَكَرناه يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ ، و إلىٰ إثباتِ أحوالٍ و مَعانٍ له تَعالىٰ و لغَيرِه مِن المُدرَكاتِ سِوىٰ ما عَقَلناه لا نِهايةَ لها، و ذلكَ تشكيكٌ في العِلمِ بتَضادِّ(4) الذَّواتِ و تَماثُلِها، و إيجابِ العِلَلِ و تأثيرِ الأسبابِ .

و الذي يَدُلُّ علَى الأصلِ الثاني: أنّ الفِعلَ بمُجرَّدِه لا يَدُلُّ إلّاعلىٰ كَونِ مَن صَحَّ مِنه قادراً، و وقوعُه علىٰ وَجهِ الإحكامِ لا يَقتَضي إلّاكَونَه عالِماً. و وقوعُه(5) علىٰ وَجهٍ دونَ آخَرَ لا يَدُلُّ علىٰ أكثَرَ مِن كَونِه مُريداً أو كارهاً. و كَونُه علىٰ هذه الصِّفاتِ يَدُلُّ علىٰ كَونِه حَيّاً. و وجوبُ هذه الصفاتِ له يَقتَضي علىٰ رأيِ أبي هاشمٍ إثباتَ صفةٍ له نَفسيّةٍ (6)، لأجلِها وجبَت هذه الصفاتُ . و لَيسَ في الفِعلِ و لا فيما يَرجِعُ إليه ما يَقتَضي ما يَدَّعونَه مِن المائيّةِ ، فيَجِبُ نَفيُها.

فإن قيلَ : أ لَيسَ أثبَتَ أبو هاشمٍ له تَعالىٰ صفةً نفسيّةً أوجَبَت عندَه ما ذَكَرتُموه

ص: 240


1- . في الأصل: «أن يثبت».
2- . في الأصل: «لا تقتضيها».
3- . في الأصل: «لا يثبت».
4- . في الأصل: «لتضادّ»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّ الغرض بيان سبب التشكيك، لا ذكر العلّة.
5- . في الأصل: «و بوقوعه».
6- . في الأصل: «نفسه»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لما يأتي بُعيد هذا من التصريح به.

مِن الصفاتِ؟ و هذا قولٌ بمَذهَبِ ضِرارٍ(1) في المائيّةِ في المعنى!

قُلنا: لَم يُثبِتْ أبو هاشمٍ إلّاما اقتَضاهُ الفِعلُ ؛ لأنّه لمّا ثَبَتَ (2) بالفِعلِ عندَه(3) كَونُه تَعالىٰ علَى الصفاتِ الّتي ذَكَرناها، و وجبَت له هذه الصفاتُ ، و استَحَقَّها علىٰ خِلافِ ما يَستَحِقُّها غَيرُه، أثبَتَه تَعالىٰ علىٰ صفةٍ تَقتَضي ذلكَ ؛ فلَم يُثبِت(4) علىٰ كُلِّ حالٍ إلّاما اقتَضاه الفِعلُ .

فإن كانَ ضِرارٌ إنّما عَنىٰ بالمائيّةِ هذه الحالَ الّتي أثبَتَها أبو هاشمٍ ، فقَد أصابَ المعنىٰ مِن وَجهٍ .

و أخطأَ في قولِه: «إنّ اللّٰهَ تَعالىٰ يَعلَمُ نفسَه عَلَيها، و أنّ غَيرَه لا يَعلَمُه كذلكَ »؛ لأنّا قد عَلِمنا بالدليلِ [عدمَ ](5) كَونِه تَعالىٰ علىٰ هذه الحالِ المخصوصةِ .

و أخطأَ في قولِه: «إنّه يُدرِكُ نفسَه عَلَيها، و نُدرِكُه نَحنُ يَومَ القِيامة أيضاً عَلَيها»؛ لأنّ الإدراكَ مُستَحيلٌ علىٰ ذاتِه تَعالىٰ ، بما سَيأتي في الكتابِ بعَونِ اللّٰهِ (6).

ص: 241


1- . أبو عمرو، ضِرارُ بن عمرو، من رؤوس المعتزلة و منظّريها الكبار في القرن الثالث الهجري ببغداد، حارب الحشويّة و أهل الحديث و على رأسهم إمامهم أحمد بن حنبل، فأثاروا العامّة عليه لقتله، فاحتمى عند يحيى البرمكيّ ، فسَلِمَ من القتل، و لذلك نسبوا إليه - كعادتهم في محاربة من لا يتّفق معهم - أُموراً توجب الكفر و الزندقة و الاستخفاف بالدين و ضرورياته. و له آراء خاصّة في بعض المسائل الكلاميّة تباين ما عليه عامّة المعتزلة، منها قوله بالمائيّة. و ينسب إليه مذهب الضِراريّة، كان لا يزال حيّاً حوالي سنة 180 هجريّة. سير أعلام النبلاء، ج 10، ص 544؛ الفهرست لابن النديم، ص 214؛ الملل و النحل، ص 37 و 38.
2- . في الأصل: «لم يثبت»، و الصحيح ما أثبتناه، و يشهد عليه سياق الكلام، و به يستقيم المعنى.
3- . في الأصل: «عند».
4- . في الأصل: «لم يثبت» بدون الفاء، و الفاء يلزم وجودها في المقام؛ للتفريع على ما سبق.
5- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق؛ فقد تقدّم الدليل علىٰ إبطالِ المائيّة و كونِهِ تعالىٰ علىٰ هذه الحال المخصوصة، فكيف يَعلم تعالىٰ نفسَه عليها و هي لا وجود لها؟!
6- . يأتي في بحث نفي الرؤية و الإدراك، ج 1، ص 404.

و أخطأَ أيضاً في العبارةِ ، و تَسمِيَتِه هذه الصفةَ بأنّها: «مائيّةٌ »؛ لأنّ أحَداً مِن الأُمّةِ لا يَستَعمِلُ هذه اللفظةَ فيه عَزَّ و جَلَّ ، كما لا يَستَعمِلُ الكيفيّةَ و الكمّيّةَ ؛ لأنّ المائيّةَ لا تُستَعمَلُ إلّافيما له نظيرٌ.

الدليل الثاني
اشارة

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ بُطلانِ قولِه بالمائيّةِ : أنّه لا يَصِحُّ إثباتُ الذاتِ علىٰ صفةٍ ثُبوتُها في جميعِ الأحكامِ المعقولةِ كانتفائِها؛ لأنّ ذلك يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ ، و إلىٰ إثباتِ ما لا يَتَناهىٰ مِن الصِّفاتِ ! و لهذا لا يَجوزُ أن يُجعَلَ في المَحَلِّ معنىً يَختَصُّه، إلّاو يَحصُلُ للمَحَلِّ معه حُكمٌ لَولاه لَما حَصَلَ . و قد عَلِمنا أنّ هذه المائيّةَ التي أشاروا إليها لا حُكمَ لها يَقِفُ عَلَيها؛ حتّىٰ إنّها لَو لَم تَثبُتْ لَم يَكُن حاصِلاً، فيَجِبُ نَفيُها.

فإن قيلَ : فأيُّ حُكمٍ لِكَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً؟

قلنا: إنّ كَونَه تَعالىٰ غَنِيّاً لا يَثبُتُ إلّامعه(1)، كما أنّ الحاجةَ تَثبُتُ معه فينا، و هذا حُكمٌ معقولٌ .

و قد قيل: إنّ الذي يَجِبُ في الصفةِ ، أن يَكونَ لها حُكمٌ في مَوضعٍ مِن المَواضِعِ ، و لَيسَ بواجِبٍ ذلكَ في كُلِّ مكانٍ . و علىٰ (2) وَجهٍ مّا لِكَونِه مُدرِكاً حُكمٌ ، و هو عِلمُ المُدرَكاتِ مُفصَّلاً. و المائيّةُ التي ادَّعَوها لا حُكمَ لها علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ (58).

132

و يُمكِنُ أن يُقالَ زائداً علىٰ ذلكَ : إنّ كَونَ المُدرِكِ مُدرِكاً يَقتَضيهِ كَونُه حَيّاً، و إن كانَ مشروطاً. و ما تَقتَضيهِ الصفةُ و يَجِبُ عنها جارٍ مَجرَى الصفةِ و كالجُزءِ منها.

ص: 242


1- . يأتي بيان ذلك في ج 1، ص 247-248.
2- . في الأصل: «لا» بدل «على»، و لا وجه للنفي هنا كما لا يخفى.

و إذا كانَ لِكَونِه حَيّاً حُكمٌ معقولٌ ، فذلكَ الحُكمُ كأنّه حُكمُ كَونِه مُدرِكاً؛ لاقتضاءِ الصفةِ الأُخرىٰ ، و مِثلُ ذلكَ لا يُمكِنُ في المائيّةِ .

إبطال استدلال ضرار علىٰ المائيّة

و تَعلُّقُ ضِرارٍ في هذا البابِ بإطلاقِ الأمرِ أنّه أعلَمُ بنفسِه مِنّا، مِن رَكيكِ الشُّبَهِ ؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ عَلَيه:

أوّلاً: إثباتَ مائيّةٍ له أُخرىٰ لا يَعلَمُها إلّاأنبياؤه عليهم السلام؛ لأنّ مَن أطلَقَ أنّه تَعالىٰ أعلَمُ بنفسِه مِنّا، مُطلِقٌ أنّ أنبياءَه عليهم السلام أعلَمُ به مِنّا.

و يوجِبُ أيضاً أنّ للذّواتِ كُلِّها أيضاً مائيّاتٍ يَنفَرِدُ بعِلمِها دونَنا؛ لأنّهم يُطلِقونَ أنّه أعلَمُ بكُلِّ شيءٍ مِنّا.

على أنّ لِما أُطلِقَ مِن ذلكَ (1) معنىً صحيحاً؛ و هو أنّه تَعالىٰ عَلِمَ (2) مِن كَونِه قادراً علَى الأشياءِ و مُدرِكاً لها علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ، ما لا يَتَناهى(3) إليه عُلومُنا.

و يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يَعلَمُ مِن أفعالِه و أوصافِه ما لا يَعلَمُه غَيرُه، كما يُقالُ في أحَدِنا: «إنّه أعلَمُ بنفسِه مِن غَيرِه»، و المُرادُ بذلكَ ما يَرجِعُ إلىٰ أخلاقِه و أفعالِه و عاداتِه.

و كُلُّ ذلكَ واضحٌ .

***

ص: 243


1- . أي من كونه تعالىٰ أعلم بكلّ شيء منّا. كما سوف يأتي بعد قليل عند قوله: «و يمكن أن يقال:...» توجيهُ ما أُطلق من أنّه تعالىٰ أعلم بنفسه منّا.
2- . في الأصل: «أعلم»، و الصحيح ما أثبتناه، و الفاعل هو الضمير المستتر، و المفعول قوله: «ما لا تتناهى إليه علومنا»، و على ما في الأصل نحتاج إلى مفعول ثان، و هو مفقود في العبارة.
3- . كذا في الأصل، و الأولى: «ما لا تتناهى».
3 فَصلٌ في تَرتيبِ العِلمِ بهذه الأحوالِ
اشارة

[3] فَصلٌ في تَرتيبِ العِلمِ بهذه الأحوالِ (1)

1. القدرة

اِعلَمْ أنّ أوّلَ العُلومِ مِن أحوالِه كَونُه تَعالىٰ قادراً؛ لأنّها الحالُ التي يَقتَضيها مُجرَّدُ الفِعلِ .

2. الحياة و الوجود و القِدَم

فإذا عَلِمَ ذلكَ ، صَحَّ أن يُفَسِّرَ هذا(2) العِلمَ (3) في حالةٍ بالعِلمِ (4) بأنّه حَيٌّ موجودٌ قَديمٌ ؛ بأن يَكونَ قد عَلِمَ مِن قَبلِ ذلكَ أنّ القادرَ لا يَكونُ إلّاحَيّاً موجوداً، و أنّ الحَوادِثَ لا بُدَّ مِن أن تَنتَهِيَ إلىٰ صانعٍ قديمٍ . فإن لَم يَكُن قد تَقدَّم عِلمُه بما ذَكَرناه، صَحَّ أن يَبتَدئَ الاستدلالَ بكَونِه قادراً علىٰ أنّه حَيٌّ موجودٌ.

3. العلم

و يَجوزُ قَبلَ أن يَستَدِلَّ علىٰ أنّه حَيٌّ موجودٌ، الاستدلالُ علىٰ أنّه عالِمٌ ، بما

وَقَعَ مِن أفعالِه المُحكَمةِ . و العِلمُ بهذه الصفةِ - يَعني كَونَه عالِماً - لا بُدَّ من

ص: 244


1- . أي الصفات التي تقدّم إثبات أكثرها.
2- . في الأصل: «يفسرن بهذا» هكذا يقرأ.
3- . في الأصل: + «و في حاله و»، و لا محصّل له.
4- . في الأصل: «العلم»، و به لا يستقيم المعنى، بل يستقيم بما أثبتناه، أي يفسّر العلمَ بكونه تعالى قادراً بالعلم بأنّه سبحانه حيّ موجود قديم.

تَأَخُّرِها عن العِلمِ بكَونِه قادراً. و لا يَجوزُ مِن مُقارَنتِها لها ما [جازَ](1) في كَونِه حَيّاً موجوداً.

4. الإِدراك

و إذا عَلِمَه حَيّاً؛ فإن كانَ قد عَلِمَ مِن قَبلُ أنّ مِن حقِّ الحَيِّ أن يُدرِكَ المُدرَكاتِ إذا تكامَلَت الشُّروطُ، و أن يَكونَ سَميعاً بَصيراً، عَلِمَ أنّه تَعالىٰ سَميعٌ بَصيرٌ مع العِلمِ بأنّه حَيٌّ . و إن لَم يَتقَدَّمْ له ذلكَ ، استَدَلَّ بكَونِه حَيّاً علىٰ أنّه سَميعٌ بَصيرٌ.

5. الصفة الذاتيّة

و أمّا صفتُه تَعالَى الذاتيّةُ فإنّه يَعلَمُها الناظِرُ مع عِلمِه بوجوبِ (2) هذه الصفاتِ التي ذَكَرناها له، أو وجوبِ واحدةٍ منها.

6. الإرادة و الكراهة

و كَونُه مُريداً و كارهاً يُعلَمُ بخِطابِه، و لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ قَبلَ أن يُعلَمَ عالِماً؛ لأنّه إن عَوَّلَ في الاستدلالِ علىٰ ذلكَ علىٰ كَونِه آمِراً و مُخبِراً، فهو(3) مَبنِيٌّ علَى «السَّميعِ » الذي لا يَصِحُّ إلّابَعدَ صحّةِ كَونِه عالِماً. و إنِ استَدَلَّ بأنّ العالِمَ بما فَعَلَه إذا كانَ يَختارُه لغَرَضٍ يَخُصُّ الفِعلَ ، لا بُدَّ أن يُريدَه متىٰ لَم يَكُن ممنوعاً مِن الإرادةِ ، فبِناؤه علىٰ أنّه واضحٌ .

ص: 245


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه هو غاية ما خطر بالبال في المقام، و به يستقيم المعنى.
2- . في الأصل: «مع علم وجوب»، و الأولى ما أثبتناه، و إن يمكن أن يكون لما في الأصل وجه.
3- . في الأصل: «هو» بدون الفاء، و الفاء لازمة في جواب الشرط إذا كان جملة اسميّة كما هاهنا.
7. الحكمة

و كذلك إنِ استَدَلَّ بأنّه لَو لَم يَقصِدْ بخَلقِنا تَعريضاً للنفعِ ، لَم يَكُن حِكمةً و كانَ قبيحاً، فإنّه لا يَتِمُّ إلّابَعدَ أن يَبنِيَ علىٰ أنّه لا يَختارُ القَبيحَ و العَبَثَ (1)، و أنّه لا يَختارُ ذلكَ مَبنِيٌّ على أنّه عالِمٌ لا محالَةَ ؛ فبانَ ما ذكرناه.

***

4 فَصلٌ في أحكامِ هذه الأحوالِ و ما تَقتَضيهِ و تؤَثِّرُه
اشارة

[1.] اِعلْم أنّ حُكمَ كَونِه تَعالىٰ (59) قادراً، صحّةُ إيجادِه ما قَدَرَ عَلَيه. و لا يُحتاجُ إلى التَقيُّدِ فيه بذِكرِ انتفاءِ المَوانِعِ ، و إنِ احتيجَ إلىٰ ذلكَ فينا؛ لاستحالةِ المَوانِعِ عليه.

كما لَم يُحتَج في كَونِه مُدرِكاً إلَى اشتراطِ انتفاءِ الآفاتِ (2)، كما اشتَرَطناه فينا؛ لاستحالةِ الآفاتِ عَلَيه تَعالىٰ .

فإن قيلَ : كيفَ يَكونُ قادراً فيما لَم يَزَلْ ، و الفِعلُ لا يَصِحُّ فيما لَم يَزَلْ؟

قُلنا: الفِعلُ إنّما لا يَصِحُّ وجودُه فيما لم يَزَلْ ، فأمّا صحّةُ إيجادِه علَى الوجهِ الذي يَصِحُّ وجودُه عَلَيه فثابتةٌ لَم تَزَلْ . كما أنّ الفِعلَ و إن لَم يَصِحَّ وجودُه

في حالِ وجودِ القُدرةِ (3) عَلَيه، فإنّ صحّةَ (4) أن يوجَدَ بها علَى الوَجهِ الذي

ص: 246


1- . في الأصل: «الحدث».
2- . في الأصل: «الأوقات»، و هكذا في نظيره القادم، و الصحيح ما أثبتناه في الموضعَين.
3- . في الأصل: «القدر».
4- . في الأصل: «فإنّه يصحّ »، و قوله: «ثابتة لم تزل» يدلّ على صحّة ما أثبتناه.

يَصِحُّ وجودُه عليه ثابتةٌ (1) لَم تَزَلْ ، و يوصَفُ في ابتداءِ حالِ القُدرةِ بأنّه «يَصِحُّ » علىٰ هذا التفسيرِ.

[2.] فأمّا حُكمُ كَونِه تَعالىٰ عالِماً: فهو صحّةُ المُحكَمِ مِن الأفعالِ مِنه؛ إمّا علىٰ سَبيلِ التحقيقِ ، أو التقدير. و لا يَلزَمُ علىٰ هذا الحَدِّ أن لا يَكونَ عالِماً بأفعالِ غَيرِه، و بما(2) لا يَكونُ قادراً عليه، و بما لَيسَ بمقدورٍ في نفسِه؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ لَو قَدَّرناه مقدوراً له، لَصَحَّ أن يَفعَلَه مُحكَماً، فلهذا قُلنا: «تحقيقاً أو تقديراً».

و قد يُؤَثِّرُ أيضاً كَونُه تَعالىٰ عالِماً في غَيرِ ذلكَ (3)؛ لأنّ الاعتقاداتِ التي يَفعَلُها فينا تَكونُ (4) عُلوماً لأجلِ كَونِه عالِماً.

و يؤَثِّرُ أيضاً كَونُه عالِماً بالثَّوابِ ، و أنّه سَيَفعَلُه و يُفيدُ مَن يَستَحِقُّه، في حُسنِ التكليفِ .

[3.] فأمّا حُكمُ كَونِه موجوداً: فهو تَصحيحُ كَونِه عالِماً قادراً.

[4.] و أحكامُ كَونِه قَديماً: هي نَفيُ صفاتِ المُحدَثاتِ عَنه؛ كالجسميّةِ ، و أن يَكونَ مُدرَكاً، و غَيرِ ذلكَ .

[5.] فأمّا كَونُه حَيّاً: فحُكمُه صحّةُ كَونِه تَعالىٰ عالِماً قادراً، و أن يُدرِكَ عندَ وجودِ المُدرَكِ .

[6.] فأمّا كَونُه مُدرِكاً: فقد بيّنّا(5) أنّ حُكمَه ثُبوتُ الغَناءِ و انتفاءُ الحاجةِ ؛ لأنّهما

ص: 247


1- . في الأصل: «فثابتة».
2- . في الأصل: «و لأنّما»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «و بما ليس بمقدور». و يحتمل أن يكون ما في الأصل تصحيفاً عن «لا بما».
3- . أي في غير صحّة الأفعال المحكمة منه تعالىٰ .
4- . في الأصل: «يكون».
5- . تقدم في ص 242.

يَترتَّبانِ علىٰ صحّةِ الإدراكِ ؛ مِن حَيثُ إنّ المُحتاجَ هو الذي يَحتاجُ أن يُدرِكَ ما يَشتَهيهِ ، أو يَحتاجُ أن يَندَفِعَ عنه ما يُدرِكُه و هو نافِرٌ. و الغَنِيُّ هو الذي لا يَحتاجُ إلىٰ ذلكَ . فصحّةُ الإدراكِ مُراعاةُ [ذلكَ ] في هذا البابِ على ما يُرىٰ .

و قد قالَ قومٌ : إنّ حُكمَ هذه الصفةِ أنّ معها يَصِحُّ العِلمُ بالمُدرَكاتِ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ ؛ لأنّ الأكمَهَ لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ ذلكَ ، مِن حَيثُ لَم يَكُن مُدرِكاً.

و هو غَيرُ صحيحٍ ؛ لأنّه غَيرُ ممتَنِعٍ أن يَخلُقَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِ الأعمَى العِلمَ بالمُدرَكاتِ علَى التفصيلِ . و قد تَقدَّمَ في جُملةِ ما قلناه أنّ الصفةَ لا يَجِبُ أن يَكونَ لها حُكمٌ في كُلِّ مكانٍ ، و إنّما يَجِبُ أن تَختَصَّ بحُكمٍ تَبِينُ به مِن غَيرِها، و أن تَثبُتَ في مَوضِعٍ دونَ آخَرَ. و حُكمُ هذه الصفةِ فينا ظاهِرٌ.

و قد بَيَّنّا و ذَكَرنا أيضاً وجهاً آخَرَ(1)، و هو أنّها مِن حَيثُ لَم تَنفَصِلْ (2) عن كَونِه حَيّاً، كانَت أحكامُ (3) كَونِه حَيّاً كأنّها حاصِلةٌ لِكَونِه(4) مُدرِكاً.

[7.] فأمّا حُكمُ كَونِه مُريداً و كارِهاً: فهو وُقوعُ أفعالِه خَبَراً و أمراً و نَهياً، و لمكان

هذه الصفةِ أيضاً يَكونُ مُثيباً و مُعاقِباً إلىٰ غَيرِ ذلك.

[8.] فأمّا حُكمُ الصفةِ الذاتيّةِ : فهو وُجوبُ ما ذَكَرناه مِن كَونِه عالِماً قادراً حيّاً فيما لَم يَزَلْ (5)، علىٰ وجهٍ لا يَكونُ لِغَيرِه.

***

ص: 248


1- . أي حكماً من أحكام كونه مُدرِكاً.
2- . في الأصل: «لم ينفصل»، و الضمير راجع إلى «الصفة».
3- . في الأصل: «أحكامه».
4- . في الأصل: «لكونها».
5- . في الأصل: «فيما يزل».
فَصلٌ استطراديّ في ذِكرِ جُملةٍ مِن الاستدلالِ بالشاهدِ علَى الغائبِ
اشارة

فَصلٌ [استطراديّ ](1)في ذِكرِ جُملةٍ مِن الاستدلالِ بالشاهدِ علَى الغائبِ

(60) اِعلمْ أنّا إنّما أَورَدنا هذه الجُملةَ ، و قَطَعنا بها نِظامَ الكلامِ في الصفاتِ ؛ لأنّ كثيراً ممّا مَضىٰ و يَمضي، بل جَميعُه مَبنِيٌّ عَلَيه، فلا بُدَّ مِن الإشارةِ فيه إلىٰ جُملةٍ كافيةٍ .

بيان قاعدة الاستدلال بالشاهد على الغائب

و اعلَمْ أنّ معنىٰ قَولِنا في الشيءِ : إنّه «شاهِدٌ» أنّه معلومٌ ، و مَعنىٰ قَولِنا: «غائِبٌ » أنّه غَيرُ معلومٍ ؛ لأنّا إنّما نَستَدِلُّ بما يُعلَمُ علىٰ ما لا يُعلَمُ . و لَيسَ الاعتبارُ بكَونِ ما يُستَدَلُّ به مُشاهَداً و لا حاضراً، بل الاعتبارُ بكَونِه معلوماً علَى الوَجهِ الذي له يَدُلُّ ، و بِكَونِ (2) ما استُدِلَّ عَلَيه غَيرَ معلومٍ لنا علَى الوَجهِ الذي نَطلُبُه بالدَّلالةِ .

الاستدلال علىٰ القاعدة
اشارة

و الّذي يُبيِّنُ ذلكَ أنّ كَونَه حاضِراً مُشاهَداً إذا حَصَلَ ، و لَم يُعلَمْ علَى الوَجهِ الذي [له] يَدُلُّ ، و إن كانَ (3) ما استُدِلَّ عَلَيه غَيرَ معلومٍ لنا علَى الوَجهِ الذي نَطلُبُه بالدَّلالةِ (4)،

ص: 249


1- . قطع المصنّف هنا سلسلة الكلام عن الصفات - كما سوف يصرّح بذلك بعد قليل - و قام بالحديث عن منهجيّة البحث المتّبعة بصورة عامّة في البحث عن الصفات، و هي القاعدة المسمّاة ب: «الاستدلال بالشاهد على الغائب» أو «قياس الغائب علىٰ الشاهد».
2- . في الأصل: «و يكون».
3- . في الأصل: «و يكون»، و الصحيح ما أثبتناه لمقتضى السياق.
4- . تكرّر هنا في الأصل قوله: «و الذي يبيّن ذلك أنّ كونه حاضراً مشاهداً إذا حصل، و لم يعلم على الوجه الذي يدلّ »، و هو من سهو النسّاخ.

لَم يُمكِنِ الاستدلالُ به. و متىٰ عَلِمَه مِن الوَجهِ الذي ذَكَرناه، أمكَنَه أن يَستَدِلَّ به، و إن كانَ غائباً غَيرَ حاضرٍ و لا مُشاهَدٍ. و لهذا يُستَدَلُّ بوُقوعِ تَصَرُّفِ زَيدٍ مِن جهتِه - و هو معلومٌ لنا - على أنّه قادِرٌ، مِن حَيثُ لَم يَكُن معلوماً لنا.

و قد قُسِمَ الاستدلالُ إلىٰ أربعة أقسامٍ (1):

أوّلُها: مَبنيٌّ علَى الاتّفاقِ في طريقةِ إثباتِ الحُكمِ و معرفتِه.

و ثانيها: طريقةُ التعليلِ ، إذا وَقَعَ الاشتراكُ في العِلّةِ .

و ثالثُها: وُقوعُ الاشتراكِ في أحكامٍ قد عُلِمَ استنادُها إلىٰ صفاتٍ مخصوصةٍ .

و رابعُها: إثباتُ الحُكمِ بالمَزيّةِ و الترجيحِ ، و إن لَم تَظهَرِ العِلّةُ .

فمِثالُ الأوّلِ : أن نُثبِتَ (2) أحَدَنا قادراً بطريقةِ صحّةِ الفعلِ ، ثُمّ نُثبِتُ القَديمَ تَعالىٰ و كُلَّ مَن صَحَّ مِنه الفِعلُ قادراً؛ لأنّ الطريقةَ في الكُلِّ واحدةٌ غَيرُ مختلِفةٍ . و لا نَحتاجُ

فيها إلَى استعمالِ القياسِ (3).

و مِثالُ الثاني: أن نَعلَمَ (4) أنّ المُحدَثَ يَتعلَّقُ بنا، و يَحتاجُ إلينا في حُدوثِه، فنَقيسُ الغائبَ علىٰ أفعالِنا؛ للاشتراكِ في العِلّةِ .

و كذلكَ نَعلَمُ أنّ عِلّةَ قُبحِ الكَذِبِ العاري مِن نَفعٍ أو دَفعِ ضَرَرٍ، هي كَونُهُ كَذِباً، فنَقيسُ علىٰ ذلكَ الكَذِبَ الذي فيه نَفعٌ أو دَفعُ ضَرَرٍ في بابِ القُبحِ .

و مِثالُ الثالثِ : أن نَعلَمَ كَونَ أحَدِنا آمِراً أو مُخبِراً، فإنّ المُؤَثِّرَ في صحّةِ ذلكَ مِنه

ص: 250


1- . يريد المصنّف هنا بيان أقسام الاستدلال بالشاهد على الغائب، و سوف يذكر أنّ القسم الأوّل لا يحتاج إلى هذا الاستدلال، خلافاً للأقسام الثلاثة الأُخرىٰ .
2- . في الأصل: «أن يثبت».
3- . أي قياس الغائب على الشاهد.
4- . في الأصل: «يعلم»، و الأولى ما أثبتناه بقرينة قوله: «فنقيس». و هكذا البيان في قوله: «و كذلك نعلم» و «مثال الثالث أن نعلم» و «مثال الرابع أن نعلم».

كَونُه مُريداً قادراً، [فإذا] عَلِمناه تَعالىٰ آمِراً و مُخبِراً، عَلِمناه مُريداً.

و مِثالُ الرابِعِ : أن نَعلَمَ في الشاهِدِ أنّ أفعالاً مَخصوصَةً تَحسُنُ (1) مع الظَّنِّ ، فَنُعلَمُ (2)أنّها بأن تَحسُنَ عندَ العِلمِ - و له المَزيّةُ علَى الظَّنِّ - أَولىٰ .

أقسام الدلالة

و اعلَمْ أنّ الدَّلالةَ لا بُدَّ أن تَكونَ : فِعلاً و حادثةً في الأصلِ ، أو ممّا يَتقدَّرُ بقَدرِ الفِعلِ .

و مِثالُ ما يُستَدَلُّ به مِن الأفعالِ أوسَعُ ممّا يُذكَرُ.

فأمّا ما يَتقدَّرُ بتقديرِ الفِعلِ : فكالاستدلالِ بجَوازِ العدمِ في العَرَضِ على حُدوثِه؛ لأنّ العدمَ و تَجدُّدَه يُقَدَّرُ تقديرَ الحُدوثِ ، و يُنَزَّلُ في بابِ الاستدلالِ جَوازُه بمنزلةِ وقوعِه.

و إن كان رُبَّما قيلَ في هذا الوَجهِ و ما أشبَهَه: إنّ النظَرَ غَيرُ واقعٍ في دليلٍ علَى الحقيقةِ ، بل يُسمّىٰ ما يَقَعُ العِلمُ عندَه هاهنا: «طريقةَ النظَرِ». هذا إذا كانَ النظَرُ في بعضِ (3) أحوالِ الذاتِ ، ليُعلَمَ بها(4) حالٌ أُخرىٰ ، فأمّا إذا كانَ المعلومُ غَيرَ المنظورِ فيه، فلا شُبهةَ في التسمِيَةِ ب: «الدليلِ » و «الاستدلالِ »(5).

ص: 251


1- . في الأصل: «يحسن». و هكذا في نظيره الآتي.
2- . في الأصل: «فيعلم».
3- . في الأصل: «نقص»، و لا محصّل له في المقام.
4- . في الأصل: «لها».
5- . جاء في كتاب «الفروق اللغويّة» عن بعض المتكلّمين أنّ دلالة العقل ضربان: أحدهما ما أدّى النظر فيه إلى العلم بغير المنظور فيه أو بصفة لغيره، و الآخر ما يُستدلّ به علىٰ صفة له أُخرىٰ ، و يسمّىٰ : «طريقة النظر». الفروق اللغوية، ص 233.

و كُلُّ هذا خِلافٌ في عبارةٍ ، [و غَيرُ مؤَثِرٍ](1) في المَعاني.

أقسام دلالة الدليل

و مِن (61) حَقِّ الدليلِ أن يَدُلَّ علىٰ أحَدِ وَجهَينِ :

إمّا علىٰ ما لَولاه لَم يَصِحَّ ؛ كدَلالةِ الفِعلِ علىٰ كَونِ فاعلِه قادراً و ما أشبَهَه.

أو علىٰ ما لَولاه لم يَحسُنْ أو لَم يَجُز؛ كدَلالةِ المُعجِزِ علىٰ صِدقِ النبيِّ صلّى اللّٰه عليه و آله(2)؛ مِن حَيثُ لَولا صِدقُه لَما [حَسُنَ إعجازُه](3)، و ما أشبَهَ ذلكَ ممّا يَرجِعُ إلَى الدَّواعي.

شرائط ما يصحّ الاستدلال عليه

و اعلَمْ أنّ شَرائطَ ما يَصِحُّ الاستدلالُ عَلَيه ثلاثةٌ :

أوّلُها: أن يَكونَ في نفسِه معقولاً؛ لأنّه إذا لم يكُن بهذه الصفةِ ، لَم يُمكِنِ اعتقادُه، و ما لا يُمكِنُ اعتقادُه لا يَصِحُّ أن يُطلَبَ بالدّليلِ .

و ثانيها: أن لا يَكونَ معلوماً للناظرِ فيه علَى الوَجهِ الذي يَطلُبُه بالدَّلالةِ ؛ لأنّ العِلمَ بالشيءِ يَمنَعُ مِن الاستدلالِ عليه.

و ثالثُها: أن يَكونَ الدليلُ [مُثبتاً له](4) و مُتعلِّقاً به.

ص: 252


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «المؤثّر»، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
2- . في الأصل: «النبيّ ص»، و يبدو أنّ حرف الصاد من اضافات النسّاخ؛ فإنّ المتكلّمين لا يتحدّثون في هذهِ الموارد عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله خاصّة، بل يتحدّثون عن مطلق النبيّ .
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «أحسن إخباره»، و الصحيح ما أثبتناه؛ و يعلم ذلك بالتأمّل في العبارة. و للمزيد راجع: الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، ص 39؛ المنقذ من التقليد، ج 1، ص 407 و 412.
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «منّا ينافيه»، و لا محصّل له.
ما يسوغ التعليل به و ما لا يسوغ

و اعلمْ أنّ الدليلَ لكُلِّ حالٍ أو حُكمٍ غَفَلنا عنه، يَجِبُ أن يَكونَ سائِغاً متىٰ أمكَنَ ؛ لأنّ التعليلَ هو نظَرٌ و طَلَبُ المعرفةِ ، و الأصلُ جَوازُ مِثلِ ذلكَ ، إلّاأن يكونَ مؤَدّياً إلىٰ فَسادٍ فيُمنَعُ منه.

و إنّما يؤَدّي إلَى الفَسادِ علىٰ أحَدِ وَجهَينِ :

أحَدُهما: أن يَكونَ بأيِّ شيءٍ عُلِّلَ كانَ فاسداً؛ مِثلُ تعليلِ اختصاصِ المَحَلِّ بذاتٍ دونَ ذاتٍ أُخرىٰ مِن جنسِها، و ما أشبَهَ ذلكَ .

الوَجهُ الآخَرُ المانِعُ مِن التعليلِ : أن يَكونَ فيه عَودٌ علَى الحُكمِ أو الصفةِ بالنقضِ ؛ و مِثالُه تعليلُ صفةِ الذاتِ و أن يَلتَمِسَ ما له كان السَّوادُ سَواداً وجهةَ اختصاصِه بذلكَ دونَ البَياضِ ؛ لأنّ تعليلَ ذلكَ يُخرِجُ الصفةَ مِن أن تكونَ ذاتيّةً و يُبطِلُ حُكمَها، و يؤَدّي إلىٰ أنّه لا غايةَ للتعليلِ و لا انقطاعَ .

فأمّا ما يَصِحُّ التعليلُ به، فأحسَنُ ما خُصَّ به أن يُقالَ : إنّ التعليلَ يَقَعُ إمّا بالذاتِ و ما يَرجِعُ إليها، أو بالفاعلِ و ما يَتبَعُه، أو بأمرٍ موجَبٍ و ما يَعودُ إليه.

فمِثالُ الأوّلِ : نَحوُ كَونِ الجوهرِ مُتحيِّزاً، و ما يُدرِكُ عَينُه لذَواتِ المُدرَكاتِ مِن الصفاتِ .

و مثالُ الثاني: الذي يُعلَّلُ بالفاعلِ و بكَونِه قادراً.

و مثالُ الثالثِ : كَونُ المَحَلِّ في جهةٍ من الجِهاتِ ؛ فإنّه مُعلَّلٌ بالكَونِ . و كَونُ أحَدِنا مُعتَقِداً و مُريداً؛ لأنّه يَجِبُ عن مَعانٍ أَوجَبَت له هذه الصفاتِ .

ص: 253

و لهذه الجُملةِ التي ذَكَرناها شَرحٌ يَطولُ ، و تَفصيلٌ نَخرُجُ (1) بإيرادِه عن الغَرَضِ في هذا الكتابِ ، و فيما أوردناه كفايةٌ .

***

5 فَصلٌ في كيفيّةِ استحقاقِه تَعالىٰ ما تَقدَّم ذِكرُه مِن الصفاتِ و أنّه يَستَحِقُّها لِذاتِه لا لِمَعانٍ
اشارة

لَيسَ يَخلو تَعالىٰ مِن أن يَكونَ مُستَحِقّاً لهذه الصفاتِ : لِمَعانٍ ، أو لا لِمَعانٍ .

فإن استحقّها لِمَعانٍ ، لم تَخلُ تلكَ المَعاني مِن أن تَكونَ : موجودةً ، أو معدومةً ، أو لا توصَفَ بشيءٍ مِن ذلكَ .

فإن كانَت موجودةً ، لَم تَخلُ من أن تَكونَ قَديمةً ، أو مُحدَثةً ، أو لا توصَفَ (2) بكُلِّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ .

و إذا بَطَلَت أقسامُ المعاني كُلُّها(3)، لَم يَبقَ إلّاأن يَكونَ مُستَحِقّاً لها لِذاتِه، أو لِما هو عَلَيه(4) في ذاتِه؛ لأنّ ما يَنقَسِمُ إليه ما يُستَحَقُّ (5) لا لِمعنىً مِن الصفاتِ ، هو الذّاتُ ، و ما رَجَعَ إليها(6)، و الفاعلُ ، و لا شُبهةَ في أنّ الفاعلَ هاهنا لا يَصِحُّ الاعتراضُ به؛

ص: 254


1- . في الأصل: «يخرج»، و المناسب ما أثبتناه بقرينة قوله: «ذكرناها» و «أوردناه».
2- . في الأصل: «لا يوصف»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفعل إلى «المعاني».
3- . لِما سوف يأتي من بحوث هذا الكتاب.
4- . في الأصل: «علّة».
5- . في الأصل: «لا يستحقّ »، و «لا» لغو في المقام؛ فإنّ البحث في استحقاق الصفات، لا في عدم استحقاقها.
6- . و هو الذي عبّر عنه قبل قليل بقوله: «أو لِما هو عليه في ذاته».

لأنّا قد بيّنّا ثُبوتَ هذه الصفاتِ فيما لَم يَزَلْ ، و الفاعلُ لا يَجوزُ (62) أن يَتَعلَّقَ به ما يَثبُتُ فيما لَم يَزَلْ ، و إنّما تَتعلَّقُ (1) به الأُمورُ المُتجدِّدةُ (2).

أ فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ معدومةٍ
ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يعلم بِعلم معدوم

فأمّا ما يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَجوزُ أن يَستَحِقَّ هذه الصفاتِ لِمَعانٍ معدومةٍ ، هو أنّه لَو كانَ عالِماً بعِلمٍ معدومٍ - و قد ثَبَتَ أنّ لِلعِلمِ ضِدّاً يُنافيه و هو الجهلُ ، و هذا الضِّدُّ معدومٌ بعدمِ (3) العِلمِ - فَيَجِبُ أن يَكونَ عالِماً جاهلاً في حالٍ واحدةٍ (4)؛ لأنّه لَيسَ لأحَدِ الأمرَينِ مِن الاِختصاصِ به إلّاما لِلآخَرِ. و في استحالةِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ فَسادِ ما أدّىٰ إليهِ .

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ العِلمَ لا يَكونُ عِلماً لجنسِه، و إنّما يحصُلُ بهذه الصفةِ لوقوعِه علىٰ وَجهٍ ، و هذا ممّا يُستَدَلُّ عَلَيه فيما يأتي مِن الكتابِ بعَونِ اللّٰهِ (5).

و إذا كانَ المعدومُ لا يَتأتّىٰ فيه ما له يَكونُ العِلمُ عِلماً، مِن وقوعِه علىٰ وَجهٍ ،

ص: 255


1- . في الأصل: «يتعلّق».
2- . فبقي أنّه مستحقّ للصفات، لذاته أو لما رجع إليها.
3- . في الأصل: «لعدم»، و الأولى ما أثبتناه.
4- . مفاد هذا الدليل هو أنّه لو جاز أن يكون تعالى عالماً بعلم معدوم، لجاز أن يكون جاهلاً بجهل معدوم، فيكون عالماً و جاهلاً في حال واحدة. شرح الأُصول الخمسة، ص 120.
5- . يأتي في ج 1، ص 268.

لَم يَصِحَّ أن يَكونَ تَعالىٰ عالِماً بعِلمٍ مَعدُومٍ .

و ممّا يدُلُّ علىٰ ذلكَ أيضاً: ما قَدَّمنا ذِكرَه؛ مِن أنّ المُتعلِّقاتِ بأغيارِها لأنفُسِها يُخرِجُها العَدَمُ مِن التعلُّقِ (1).

ما يدلّ على أنّه تعالى لا يجوز أن يقدر بقدرة معدومة

و هذه الطريقةُ (2) تَدُلُّ علَى استحالةِ كَونِه قادراً بقُدرةٍ معدومةٍ ، كما تَدُلُّ (3) في العِلمِ .

و الذي يَدُلُّ على أنّه لا يَجوزُ أن يَقدِرَ بقُدرةٍ معدومةٍ : هو(4) أنّ القُدرةَ مِن حُكمِها صحّةُ الفِعلِ ، و لا يَصِحُّ الفِعلُ بها إلّابَعدَ أن يُستَعمَلَ مَحَلُّها في الفِعلِ أو في سَبَبِه.

و إذا كان هذا الحُكمُ لا يَصِحُّ فيها و هي معدومةٌ ، ثَبَتَ أنّها لا توجِبُ كَونَ القادرِ قادراً إلّامع الوجودِ.

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ ما ادَّعَيتُموه في حُكمِ القُدرةِ؟

قُلنا: الدليلُ عليه أنّ أحَدَنا قد يَخِفُّ عَلَيه حَملُ الشيءِ الذي يَستَعينُ علىٰ حَملِه بيَمينِه و شِمالِه، عمّا كانَ عَلَيه لَو حَمَلَه بإحدىٰ يَدَيهِ . و رُبَّما تأتّىٰ (5) مِنه مع الاستعانةِ باليَدَينِ حَملُ ما يَتعذَّرُ بإحداهما، مع أنّ قُدَرَ كِلتا(6) يَدَيه بمنزلةٍ واحدةٍ في إيجابِها كَونَه قادراً، فلو لا صحّةُ ما ذَكَرناه مِن حُكمِ القُدرَةِ ، لَم يَجِبْ هذا الذي

ص: 256


1- . تقدّم في ص 181.
2- . أي الدليل الثالث المتقدّم.
3- . في الأصل: «يدلّ ».
4- . في الأصل: «و هو» مع الواو، و هي لغو؛ لأنّ «هو» مع ما بعده خبر ل «الذي»، و هو مبتدأ، و هذالا يلائم وجود الواو.
5- . في الأصل: «يأتي».
6- . في الأصل: «كلتي»، و هو خطأ؛ لأنّ كلا و كلتا يعربان إعراب المثنّى إن اُضيفا إلى الضمير، و إن اُضيفا إلى الظاهر اُعربا إعراب المقصور.

قَضَينا بوجودِه علىٰ كُلِّ حالٍ . و في عِلمِنا بوجوبِه دلالةٌ على أنّ مِنْ حُكمِ القُدرةِ ما بيّنّاه، و أنّ الفِعلَ بقُدَرِ اليَسارِ في اليمينِ إنّما يَتعذَّرُ مِن حيثُ لَم تَكُن موجودةً في اليَمينِ ؛ لأنّه قادرٌ بالجَميعِ .

و الذي يُبَيِّنُ أنّ هذا الحُكمَ إنّما وَجَبَ في القُدرةِ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ أنّها قُدرةٌ ، و كَونِها ممّا يَصِحُّ الفِعلُ بها: أنّا وَجَدنا العِلمَ و الإرادةَ يُشارِكانِها في شأنيّةِ الصفاتِ المعقولةِ ، سِوَى اقتضاءِ صحّةِ الفعلِ ، و لا يُشارِكانِها في هذا الحُكمِ الذي ذَكَرناه؛ ألا تَرىٰ أنّا نَفعَلُ الكتابةَ بأيدينا لِمَكانِ العِلمِ الحالِّ في القَلبِ ، و كذلكَ نَفعَلُ الخَبَرَ خَبَراً لِمَكانِ الإرادةِ الموجودةِ في القَلبِ؟ و لا يَقِفُ ذلكَ علَى استعمالِ مَحَلِّ العِلمِ أو الإرادةِ في الفعلِ و لا في سَبَبِه، و مِثلُ هذا لا يَسوغُ في القُدرةِ . فثَبَتَ أنّ هذا الحُكمَ يَختَصُّها لِما هي [عَلَيه] مِن اقتضاءِ صِحّةِ الفِعلِ ، فوجبَ استحالةُ الفِعلِ بها و هي معدومةٌ .

فإن قيلَ : و لِمَ لا يَجوزُ أن يَكونَ المَعدومُ حالاًّ في غَيرِه ؟

قُلنا: لَو صَحَّ ذلكَ ، لَوجبَ أن يَتَضادَّ السَّوادُ و البَياضُ علَى المَحَلِّ في حالِ

عدمِهما، و هذا يقتضي استحالةَ عدمِهما عن المَحَلِّ في حالٍ واحدةٍ ، كما وجبَ لمّا (63) تَضادّا في الوجودِ استحالةُ وجودِهما في المَحَلِّ في حالةٍ واحدةٍ .

و نحنُ نَعلَمُ خِلافَ ذلك؛ لأنّ الجسمَ الآخَرَ قد انتفىٰ عنه السَّوادُ و البَياضُ معاً في حالةٍ واحدةٍ .

ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة معدومة

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ حَيّاً بحَياةٍ معدومةٍ : أنّ الحياةَ لها تأثيرٌ في محَلِّها؛ لأنّها تُصَيِّرُه بعضاً للحَيِّ . و ممّا يَصِحُّ به الإدراكُ لأجلِها.

و هذا الحُكمُ الذي ذَكَرناه يَجِبُ لِما هي عَلَيه في نفسِها، و وجودُها مِن غَيرِ أن

ص: 257

توجِبَ الحُكمَ الذي ذَكَرناه للمَحَلِّ ، كوجودِها مِن غَيرِ إيجابِ صفةٍ للحَيِّ في أنّه يَقتَضي قَلبَ جنسِها و حَرفَها(1) عن صفتِها الذاتيّةِ ، و قد عَلِمنا أنّ هذا الحُكمَ لا يَتأتّىٰ في الحَياةِ و هي معدومةٌ ، فيَجِبُ أن يُقضىٰ على استحالةِ كونِ الحَيِّ بها حَيّاً في هذه الحالِ .

و أيضاً: فإنّ الحياةَ لجنسِها تؤَثِّرُ في تَصييرِ(2) الأجزاءِ الكثيرةِ في حُكمِ الشيءِ الواحدِ، و لا تَكونُ (3) كذلكَ إلّاإذا كانَت موجودةً في مَحَلٍّ ، و كانَت الأجزاءُ المُنضَمّةُ (4) إلىٰ مَحَلِّها، فيها أجزاءٌ مِن الحَياةِ . و لهذا لا يَجوزُ وجودُها في الجُزءِ المُنفَرِدِ، و لا في الجُزءِ المَضمومِ إلىٰ أجزاءٍ لا حَياةَ فيها. و كلُّ هذا يَستَحيلُ مع العدمِ .

علىٰ أنّه تَعالىٰ شَيءٌ واحدٌ، و كَونُه شيئاً واحداً يُحيلُ عَلَيه حُكمَ الحَياةِ الذي هو تصييرُها(5) الأشياءَ الكثيرةَ في حُكمِ الشيءِ الواحدِ.

ب فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ لا توصَفُ

فأمّا الكلامُ علىٰ مَنِ امتَنَعَ مِن الوصفِ لِما به كانَ عالِماً و حَيّاً و قادراً،

ص: 258


1- . في الأصل: «حروفها».
2- . في الأصل: «تصير».
3- . في الأصل: «و لا يكون»، و رجوع ضمير اسم «يكون» إلى «الحياة» يؤيّد صحّة ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «المتضمّنة»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لمكان «إلى».
5- . في الأصل: «تصيرها».

بالوجودِ أو العدمِ و الحُدوثِ أو القِدَمِ ، فلَم يُدخِلْه في جُملةِ الأقسامِ ؛ لأنّه مفهومٌ معقولٌ ، لكِن الآنَ بعضُ الناسِ تَعلَّقَ به و جَعَلَه شُبهةً ، فلا بُدّ مِن بيانِ ما فيه:

و خِلافُ هؤلاءِ لا يَخلُو مِن أن يَكونَ في المعنىٰ ، أو العبارةِ (1).

و الخِلافُ في المعنىٰ هو أن يَقولوا: إنّه مُمكِنٌ ، و أمرٌ معلومٌ أن يَخرُجَ مِن كَونِه ثابتاً و غَيرَ ثابتٍ . و شيءٌ جائزٌ(2) أنّه يَعرىٰ مِن أن يَكونَ مُتقدِّمَ الوجودِ و لا ابتدِاءَ لثُبوتِه، و مِن(3) أن يكونَ وُجِدَ بَعدَ أن لَم يَكُن موجوداً.

و هذا لا يَصِحُّ مِن كاملِ العقلِ ؛ للعِلمِ (4) بأنّ كُلَّ صفتَينِ اقتَضَت إحداهما نَفيَ ما أثبَتَته الأُخرىٰ ، فمُحالٌ أن يَعرىٰ شيءٌ مِن المعلوماتِ مِنهما، و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ علىٰ إحداهما.

و الذي بَنَينا عَلَيه الكلامَ هو(5) المعنىٰ دونَ العبارةِ و الأسماءِ . و إذا كانَ معنَى الوجُودِ أو العدمِ (6)، و الحُدوثِ أو القِدَمِ ، لا بُدَّ مِن أن يَكونَ حاصِلاً لهذه المعاني، فلا ضَرَرَ في الامتناعِ مِن العبارةِ ؛ لأنّه غَيرُ مُخِلٍّ بما قَصَدناه.

و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : كيفَ يَكونُ ما قُلتم(7) معلوماً ضرورةً ، و قد خالَفَ فيه

ص: 259


1- . في الأصل: «أو عبارة»، و المناسب ما أثبتناه بقرينة «المعنى»، و بقرينة قوله فيما يأتي: «و أمّا الخلاف في العبارة».
2- . في الأصل: «ثابت»، و الأولى ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «و بين»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «أنّه يعرى من أن يكون».
4- . في الأصل: «العلم»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لكونه علّة لما سبق.
5- . في الأصل: «و هو» مع الواو، و هي لغو.
6- . في الأصل: «و العدم».
7- . في الأصل: «دلّهم»، و لا محصّل له في المقام.

ابنُ كُلّابٍ (1) و سُلَيمانُ بنُ جَريرٍ(2) و مَن تابَعَهما؟

و ذلكَ : أنّ خِلافَ هؤلاء عندَ التحقيقِ يَرجِعُ إلَى العبارةِ دونَ المعنىٰ .

و أمّا الخِلافُ في العبارةِ و الامتناعُ مِن إجراءِ الوَصفِ علىٰ ما هو ثابِتٌ و أنّه(3) موجودٌ علىٰ ما هو موجودٌ [عَلَيه] فيما لم يَزَلْ بأنّه «قَديمٌ » فالذي يُسقِطُه الرُّجوعُ إلَى اللُّغةِ و أوضاعِها(4)، و قد عَلِمنا أنّ أهلَ اللُّغةِ وَضَعوا قولَهم:

«موجودٌ» للتفرِقةِ بَينَ الثابتِ و المُنتَفي، و قولَهم: «قَديمٌ » للأزَليِّ (5) الوجودِ؛ ليُفرِّقوا (64) بَينَه و بَينَ المُتجدِّدِ الوجودِ، مِن غَيرِ أن يَخطُرَ ببالِهم كَونُ «ما يوصَفُ بذلكَ و يُفرَّقُ بَينَه و بَينَ غَيرِه» صفةً أو موصوفاً، فيَجِبُ علىٰ مُقتَضَى اللُّغةِ أن نُجرِيَ

ص: 260


1- . أبو محمّد، عبد اللّٰه بن سعيد بن كُلَّاب القَطَّان البصري كان حيّاً قبل سنة 240 للهجرة. متكلّمٌ سنّي سلفيّ معارضٌ للمعتزلة و ممّن كانوا يثبتون الصفات للّٰه تَعالىٰ على نحو تعدّ جزءاً في ذاته. وصفه ابن النديم بقوله: «ابن كلّاب من نابتة الحشويّة، له مع عَبّاد بن سلمان مناظرات، فيقول: كلام اللّٰه هو اللّٰه». كان يقول بأن القرآن قائم بالذات بلا قدرة و مشيئة معارضة للمعتزلة القائلين بخلق القرآن. له كتاب: الصفات، و خلق الأفعال، و كتاب الردّ على المعتزلة. الفهرست، لابن النديم، ص 230؛ طبقات الشافعية للسبكي، ج 2، ص 299؛ سير أعلام النبلاء، ج 11، ص 174؛ الملل و النحل، ص 10 و 39.
2- . سليمان [أوسليم] بن جرير، من الزيديّة و إليه تنسب فرقة السليمانيّة الزيديّة. كان يقول بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، و أنّها شورى فيما بين الخلق، و لذلك أثبت خلافة أبي بكر و عمر برغم أنّ الاُمّة أخطأت في البيعة لهما مع وجود عليّ (عليه السلام)، لكنّه خطأ اجتهادي لا يبلغ درجة الفسق، و كان يطعن في عثمان و يكفّر كلّ من عادى عليّاً و حاربه من عائشة و طلحة و الزبير و معاوية و غيرهم، و الرجل متّهمٌ بأنّه دبّر بأمرٍ من الرشيد مكيدةً ، فقتل إدريس بن عبد اللّٰه بن الحسن - مؤسّس دولة الأدارسة بالمغرب - بالسّم. الملل و النحل، ص 68؛ الخطط للمقريزي، ج 4، ص 423؛ فرهنگ فرق اسلامى، ص 234.
3- . في الأصل: «فإنّه».
4- . في الأصل: «و موضوعها»، و لا محصّل له في المقام.
5- . في الأصل: «الأزليّ »، و قوله: «للتفرقة» قرينة على صحّة ما أثبتناه.

ما أجرَوا مِن الأوصافِ في كُلِّ مَوضِعٍ عَقَلنا ما عَقَلوا فيما أجرَوا مِن أجلِه

الاسمَ و أفادوه به؛ لأنّ الامتناعَ مِن ذلكَ نَقضٌ (1) للّغةِ ، و خُروجٌ عنها، فلا فَرقَ بَينَ مَن خَصَّ بهذه الأوصافِ بعضَ الذَّواتِ دونَ بعضٍ مع الاشتراكِ في الفائدةِ ، و بَينَ مَن خَصَّ بذلكَ بعضَ الأوقاتِ أو بعضَ الأماكنِ . و كُلُّ هذا نقضٌ لِلغةِ .

فإن قالوا: معنىٰ قولِنا: «إنّ الصفاتِ لا توصَفُ » أنّه لا يَجري عَلَيها مِن الأوصافِ ما يُفيدُ قيامَ المَعاني بها، فلا(2) تَستَحِقُّ الأحوالَ لِلمعاني ؟!

قيلَ لهم: إذا كانَ هذا مُرادَكم فهو صحيحٌ في المعنىٰ ، إلّاأنّه لا يَقتَضي الامتناعَ مِن الوَصفِ بأنّها موجودةٌ أو قَديمةٌ ؛ لأنّ ذلكَ لا يَقتَضي قيامَ المَعاني، بل يُفيدُ التفرِقةَ التي قَدَّمنا(3) ذِكرَها.

فإن قالوا: بل «الموجودُ» عِندَنا موجودٌ بوجودٍ، و «القَديمُ » قَديمٌ بقِدَمٍ ، فلهذا مَنَعنا مِن وَصفِ الصفاتِ بذلكَ .

قُلنا: الذي يُبطِلُ ذلكَ ما تَقدَّمَ مِن أنّ أهلَ اللُّغةِ لَم يُفيدوا ب «قَديمٍ » و «موجودٍ»، إلّا الأحوالَ و الفُروقَ التي ذَكَرناها؛ بدَلالةِ أنّهم يُجرونَ ذلكَ علىٰ ما عَقَلوا له الحُكمَ الذي ذَكَرناه، و إن لَم يَعتَقِدوا معنىً هو وجودٌ أو قِدَمٌ ؛ لا علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تفصيلٍ . و لهذا يَصِفونَ العَرَضَ بأنّه موجودٌ كما يَصِفونَ الجسمَ بذلكَ ، و إن لَم يُجيزوا علَى العَرَضِ قيامَ المَعاني.

ص: 261


1- . في الأصل: «نقص»، و لا معنى له؛ لأنّ المراد نقض اللغة لا نقصها، و هو واضح. و هكذا البيان في قوله: «هذا نقض للّغة».
2- . في الأصل: «لا» بدون الفاء.
3- . في الأصل: «قدّمناها».

و أنّه(1) لَو كانَ الموجودُ موجوداً بوجودٍ، و كانَ القَديمُ قَديماً بقِدَمٍ ، لَأدّىٰ إلى أنّ الذاتَ لا توجَدُ حتّىٰ يوجَدَ ما لا نِهايةَ له مِن الذواتِ . و ذلك ما قد بُيِّنَ فَسادُه في غَيرِ مَوضِعٍ .

هذا علىٰ تَجاوزٍ مِنّا لِما ادَّعَوه مِن أنّ العِلمَ و القُدرةَ و ما أشبَهَهما صفاتٌ علَى الحَقيقةِ ، و ذلكَ عندَنا باطلٌ ؛ لأنّ الصفةَ و الوَصفَ عندَ أهلِ اللُّغةِ واحِدٌ لا فَصلَ بَينَهما، كما لا فَصلَ بَينَ قولِهم: «وَعدٌ» و «عِدةٌ »، و «وَجهٌ » و «جهةٌ »، و «وَزنُ » و «زِنةٌ »، و إنّما يُجرونَ ذلكَ علَى الأقوالِ دونَ ما لَيسَ بقَولٍ مِن المَعاني، و لهذا يَقولونَ : «وَصَفَ فُلانٌ فُلاناً بوَصفٍ حَسَنٍ ، و صفةٍ حَسَنةٍ »، و يُسَمّونَه علَى الوَجهَينِ واصفاً. و لَولا أنّ ذلكَ الوَصفَ هو الصفةُ ما جازَ ذلكَ .

علىٰ أنّ الصفةَ لَو كانَت هي المعنىٰ دونَ القولِ ، لَكانَ مَن فَعَلَ الحركةَ في نفسِه أو غَيرِه يُقالُ : «وَصَفَ نفسَه أو غَيرَه بأنّه مُتحرِّكٌ »، و لَوجبَ أن يَكونَ الخَرَسُ (2)

لا يَمنَعُ مِن الوَصفِ ، كما لا يَمنَعُ مِن فِعلِ المعنىٰ . و هذا ظاهرُ الفَسادِ.

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ «واصفاً» مُشتَقٌّ مِن فِعلِ الوصفِ ، لا مِن فِعلِ الصفةِ ، و مَن فَعَلَ الحركةَ ، فقَد فَعَلَ (3) الصفةَ دونَ الوصفِ .

و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا أنّ أهلَ اللُّغةِ لا يُفرِّقونَ بَينَ الوصفِ و الصفةِ .

علىٰ أنّ «واصفاً»(4) إذا كانَ اسماً لفاعلِ (5) الوصفِ ، فما المُشتَقُّ مِن

ص: 262


1- . في الأصل: «لأنّه»، و هو خطأ؛ لأنّ قوله: «و أنّه لو كان» معطوف على قوله: «أنّ أهل اللغة»، أي: «الذي يبطل ذلك ما تقدّم من أنّه لو كان» إلى آخره، لا علّة لما سبق.
2- . في الأصل: «للحرس»، و هو غير مفهوم في المقام، و بما أثبتناه يتمّ المعنى.
3- . في الأصل: «جعل».
4- . في الأصل: «واصف»، و هو خطأ؛ لنصب اسم «أنّ ».
5- . في الأصل: «للفاعل».

الصفة للفاعلِ؟ و مِن شأنِهم أن يَشتَقّوا(1) مِن كُلِّ الحَوادِثِ الظاهِرةِ لهم المُستَمِرّةِ (2)أسماءَ الفاعِلينَ !

علىٰ أنّ هؤلاءِ قد ناقَضوا مُناقَضةً ظاهرةً ؛ لأنّهم يُجرونَ علىٰ هذه المَعاني أوصافاً كثيرةً ؛ مِثلَ قولِهم: «معلومٌ »، و «شيءٌ »، و «عِلمٌ »، و «قُدرَةٌ »، و «حَياةٌ » و غَيرِ ذلكَ . و ليس [ابنُ ] كُلّابٍ (3) يَصِفُها (65) مع ذلكَ بالوجودِ. و إذا جازَ أن توصَفَ بما ذَكَرناه، و لا يُمنَعُ كَونُها صِفاتٍ مِنها، جازَ أن توصَفَ بما امتَنَعوا مِنه؛ مِن القِدَمِ و غَيرِه.

ج فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ مُحدَثةٍ
الدليل الأوّل

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَستَحِقُّ الصفاتِ التي ذَكَرناها لِمَعانٍ مُحدَثةٍ : فهو أنّه لَو كانَ قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، لَوجبَ أن يَكونَ هو الفاعِلَ لها. و مِن حَقِّ الفاعلِ أن يَكونَ قادراً قَبلَ أن يَفعَلَ . و إذا كانَ لا يَقدِرُ إلّابقُدرةٍ يَفعَلُها، و لا يَصِحُّ أن يَفعَلَها إلّابَعدَ أن يَكونَ قادراً، لَتَعلَّقَ كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه، و استَحالا معاً.

ص: 263


1- . في الأصل: «أن يستقوا».
2- . في الأصل: «المثمرة»، و لا معنى له في المقام.
3- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، صرّح به المصنّف في ص 259-260 من هذاالكتاب، و هو أبو عبد اللّٰه سعيد بن كلّاب، و تكلّمنا عنه هناك.

فإن قيلَ : دُلُّوا علىٰ أنّه لَو قَدَرَ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، لَكانَ هو المُحدِثَ لها.

قيلَ : لَو فَعَلَ تلكَ القُدرةَ غَيرُه تَعالىٰ ، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ : قادراً لنفسِه، أو بقُدرةٍ . و لَيسَ يَجوزُ إثباتُ قادرٍ لنفسِه سِواهُ تَعالىٰ ؛ لِما نَذكُرُه في بابِ التوحيدِ(1). و القادرُ بقُدرةٍ لا يَتَأتّىٰ مِنه فِعلُ القُدرَةِ . علىٰ أنّ ذلكَ القادرَ بقُدرةٍ لا بُدَّ أن يَكونَ الفاعِلُ لِقُدرتِه غَيرَه، فإمّا أن يؤَدِّيَ إلىٰ ما لا نِهايةَ له مِن الفاعِلينَ ، أو الاستنادِ إلىٰ مُحدِثٍ قادرٍ لنفسِه يَفعَلُ القُدرةَ ، و هو المطلوبُ في هذا المَوضِعِ .

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَتأتّىٰ مِنه فِعلُ القُدرةِ؟

قُلنا: لوُجوهٍ :

أوّلُها: أنّا قد بيّنّا أنّ القُدرةَ و إنِ اختَلَفَت بمقدورِها، لا تَختَلِفُ (2) في الجنسِ ، و إذا تَعذَّرَ علىٰ أحَدِنا فِعلُ القُدرةِ بما فيه مِن القُدرةِ ، دَلَّ علىٰ [أنّ ] القُدرةَ خارجةٌ مِن مقدورِ القُدَرِ علىٰ كُلِّ حالٍ .

و الذي يُبيِّنُ ما ذَكَرناه أنّ أحَدَنا قد تَدعُو الدَّواعي إلىٰ زيادةِ حالِه في كَونِه(3)قادراً، فلَو كانَت قُدَرُه(4) مُتعلِّقةً بالقُدَرِ، لَصَحَّ أنْ يَفعَلَها و أن يَتبيَّنَ مِن حالِه الزيادةُ في كَونِه قادراً، و هذا يَتبيَّنُ بالقُدَرِ لا بفِعلِ القُدَرِ.

و ثانيها: أنّ القُدرةَ لا تَتعلَّقُ به تَعالىٰ ، إلّاإذا وُجِدَت في غَيرِ مَحَلٍّ علىٰ حَسَبِ وجودِ إرادتِه. و مَن كانَ قادراً بقُدرةٍ ، لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ إلّامُباشَراً أو مُتولِّداً. و لَيسَ يَصِحُّ أن يَتولَّدَ الشيءُ عن السببِ في غَيرِ مَحَلِّهِ ، إلّاإذا كانَ ذلك السببُ ممّا

ص: 264


1- . يأتي في ج 2، ص 9.
2- . في الأصل: «لا يختلف».
3- . في الأصل: «كونها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «أحدنا».
4- . في الأصل: «قدرة».

يَختَصُّ بجهةٍ كالاعتمادِ. و ليسَ يَجوزُ أن يُولِّدَ الاعتمادُ قُدرةً في غَيرِ مَحَلٍّ ، و لا شَيئاً ممّا يُولِّدُه علىٰ هذا الوَجهِ ؛ لأنّه لا يُولِّدُ إلّافي جهتِه، فلذلك(1) يَجِبُ علىٰ هذا أن تَكونَ (2) القُدرةُ أو غَيرُها ممّا يُولِّدُهُ الاعتمادُ موجوداً في الجهةِ التي هي جهةُ الاعتمادِ. و كُلُّ شيءٍ يوجَدُ في جهةٍ لا علىٰ سَبيلِ التَّبَعِ لغَيرِه، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ذا حَجمٍ و حَيِّزٍ. و لا يَصِحُّ علىٰ هذه المَعاني ذلكَ ، ففَسَدَ أن يَكونَ الاعتمادُ مُولِّداً لها.

و ثالثُها: أنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَكونُ إلّاجسماً، و الجسمُ - علىٰ ما بيّنّاه - لا يَكونُ إلّا مِن فِعلِ القَديمِ تَعالىٰ (3)، [و] علىٰ فَرضِ [عدمِ كونِ ] هذا الفاعلِ (4) قادراً و لا حَيّاً، فكيفَ فَعَلَ هذا الجسمَ؟

الدليل الثاني

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّ القَديمَ تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ : أنّ تلكَ القُدرةَ لا تَخلُو مِن أن تَكونَ : حالّةً فيه تَعالىٰ ، أو في غَيرِه، أو موجودةً لا في مَحَلٍّ .

و وجودُها فيه مُحالٌ ؛ لأنّ القُدرةَ تَحتاجُ في وجودِها إلىٰ وجودِ الحَياةِ في مَحَلِّها، و الحَياةُ تَحتاجُ (5) إلى بِنيةٍ مخصوصةٍ ، و البِنيةُ لا تَصِحُّ علىٰ (66) ما لَيسَ [بجسمٍ ].

و لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ تَحُلُّ في غَيرِه؛ لأنّ ذلكَ الغَيرَ لا بُدَّ أن يَكونَ حَيّاً،

ص: 265


1- . في الأصل: «فذاك».
2- . في الأصل: «يكون».
3- . يبدو أنّه قد سقطت من هذا الموضع أسطر من كلام المصنّف؛ فإنّ العبارة فيها ما لا يخفى على المتأمّل في البحث.
4- . في الأصل «السايل» بدل «الفاعل»، و ما أثبتناه هو المناسب للمقام.
5- . في الأصل: «محتاج».

و لَو جازَ أن يَقدِرَ بقُدرةٍ تَحُلُّ سِواه، لَجازَ أن يَعلَمَ بعِلمٍ في غَيرِه، و يَجهَلَ بجَهلٍ في غَيرِه. و هذا يَقتَضي كَونَه عالِماً جاهِلاً بالشيءِ الواحدِ علَى الوَجهِ الواحدِ، إذا عَلِمَه عالِمٌ و جَهِلَه جاهِلٌ .

علىٰ أنّ القُدرةَ الموجودةَ في مَحَلٍّ فيه حَياةٌ ، يَجِبُ أن تَكونَ قُدرةً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، و يُؤَدّي ذلكَ إلىٰ إثباتِ مقدورٍ واحدٍ في(1) قادرينَ ، و فَسادُ ذلكَ يأتي بعَونِ اللّٰهِ (2).

و لا يَجوزُ أن تَكونَ (3) القُدرةُ موجودةً لا في مَحَلٍّ ؛ لِما قد بيّنّاه في إبطالِ كَونِه قادراً بقُدرةٍ معدومةٍ (4)، مِن أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ الفِعلُ بها إلّابأن يُستَعمَلَ مَحَلُّها [في الفعل](5) أو في سببِه. و هذا يَقتَضي أنّ وُجودَها لا في مَحَلٍّ يُبطِلُ حُكمَها و صحّةَ الفِعلِ بها!

في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة مَحدَثة

و بمِثلِ ما قُلناه يُعلَمُ أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ حَيّاً بحَياةٍ مُحدَثةٍ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ هو المُحدِثَ لحَياتِه، و مَن لَيسَ بحَيٍّ لا يَصِحُّ أن يُحدِثَ شَيئاً.

و جميعُ ما أورَدناهُ في القَديمِ ، إذا أُورِدَ علىٰ هذا الكلامِ ، كانَ الجوابُ عنه ما بيّنّاه؛ فإنّ الطريقةَ واحدةٌ .

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ إبطالِ كَونِه حَيّاً بحَياةٍ توجَدُ لا في مَحَلٍّ : ما قَدَّمناه في إبطالِ

ص: 266


1- . في الأصل: «إمّا» بدل «في».
2- . يأتي في ج 2، ص 12 و 326.
3- . في الأصل: «يكون».
4- . تقدّم في ص 256.
5- . ما بين المعقوفين استفدناه ممّا تقدّم في بحث أنّه تعالىٰ ليس قادراً بقدرة معدومة.

كَونِ الحياةِ التي يَحيا بها معدومةً (1) مِن الوَجهَينِ معاً، المُتضمَّنَينِ باعتبارِ تأثيرِ الحياةِ ، و أنّه يَقتَضي وجودَها في المَحَلِّ .

في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون عالماً بعلم محدَث

و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ : فهو أنّ القولَ ذلكَ يوجِبُ أن يَكونَ الذي عَلِمَ به مِن فِعلِه، و قد ثَبَتَ أنّ العِلمَ لا يَقَعُ عِلماً إلّا ممّن هو عالِمٌ قَبلَ إيجادِه، فلَو لَم يَكُن عالِماً إلّابعِلمٍ يُحدِثه و كانَ لا يُحدِثه إلّا و هو عالِمٌ ، لَتعلَّقَ كُلُّ واحدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه، و لَم يَصِحَّ لا كَونُه عالِماً و لا وجودُ علمٍ .

[و] هذه الجُملةُ مَبنيّةٌ علىٰ أصلَينِ :

أحَدُهما: أنّ العِلمَ يَجِبُ أن يَكونَ مِن فِعلِه.

و الآخَرُ: أنّ فِعلَ العِلمِ لا يَصِحُّ إلّامِن عالِمٍ .

و الذي يَدُلُّ علَى الأوّلِ : أنّه لَو لَم يَكُن هو فاعِلَ ذلكَ العِلمِ ، لَم يَخلُ فاعِلُه مِن أن يَكونَ قادراً لنفسِه، أو قادراً بقُدرةٍ .

و قد أبطَلنا كَونَه قادراً لنفسِه، بما دَلَّ علىٰ نَفيِ ثانٍ له تَعالىٰ (2).

و كَونُه قادراً بقُدرةٍ يَمنَعُ مِن فِعلِ العِلمِ لا في مَحَلٍّ ، و هو الوجهُ الذي يَتعلَّقُ معه بالقَديمِ تَعالىٰ (3)؛ لأنّ القُدرةَ لا يَقَعُ العِلمُ بها(4) إلّامُتولِّداً في مَحَلِّ القُدرةِ أو مُبتَدَأً

ص: 267


1- . تقدم في ص 257.
2- . يأتي في ج 2، ص 9.
3- . أي لو كان القادر بقدرة هو فاعلَ ذلك العلم، لَلزِم أن يَقدر علىٰ فعل العلم لا في محلّ ؛ لأنّقدرته على ذلك هي التي تصحِّح تعلّق ذلك العلم بالقديم تعالىٰ .
4- . أي بواسطتها، فالجار و المجرور متعلّق ب «يقع»، لا ب «العلم».

في مَحَلِّها؛ لأنّه لا جهةَ للنظَرِ، حَيثُ يَصِحُّ أن يُولَّدَ في غَيرِ مَحَلِّه(1).

و لَيسَ يَجوزُ أن يَعلَمَ تَعالىٰ بما يوجَدُ في المَحَلِّ ؛ لأنّ مِن حقِّ العِلمِ أن يوجَدَ في مَحَلِّه الحياةُ ، و يَجِبُ أن يَكونَ عالِماً لِمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، و قد شَرَحنا ذلكَ قَبلَ هذا المَوضِعِ ، فلَم يَبقَ بَعدَ ذلكَ إلّاأن يَكونَ العِلمُ مِن فِعلِه.

و الذي يَدُلُّ علَى الأصلِ الثاني: أنّ العِلمَ قد ثَبَتَ أنّه لا يَكونُ عِلماً لجنسِهِ (2)، و إنّما يَكونُ كذلكَ لَو وَقَعَ (3) مِنه علىٰ وَجهٍ ، و أنّ كُلَّ وَجهٍ يَقَعُ عَلَيه فيَكونُ عِلماً، يَقتَضي كَونَ فاعلِه(4) عالِماً.

و إنّما قُلنا: إنّه لَم َيكُن عِلماً لجنسِه [ل] أنّا قد نَجِدُ مِن جنسِه ما لَيسَ بعِلمٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ اعتقادَ كَونِ زيدٍ في الدارِ في وقتٍ مخصوصٍ تَقليداً، مِن جنسِ [العلم] بأنّه في الدارِ؟ بدَلالةِ أنّ ما يَنفي أحَدَهما يَنفي الآخَرَ، و لأنّ كُلَّ واحدٍ مِنهما يوجِبُ مِثلَ ما يُوجِبُه الآخرُ(5)، و لأنّهما (67) قد اشتَرَكا في تَعَلُّقٍ بما يَتَعَلَّقانِ به علىٰ أخَصِّ الوجوهِ . و كلُّ ذلكَ يوجِبُ التماثُلَ .

فإذاً لَم يَكُن عِلماً لجنسِه، و لَم يَجُز أن يَكونَ عِلماً لحُدوثِه، و لا لوجودِه، و لا لشيءٍ يُشاركُه التقليدُ فيه(6).

ص: 268


1- . كذا في الأصل، و الظاهر أنّ الصحيح: «محلِّها»، فإنّ البحث عن إيجاد العلم في محلّ القدرة أو في غير محلّها، و ذلك بواسطة «النظر» ولكن لا وجه للنظر في بحثنا كما جاء في المتن.
2- . في الأصل: «بجنسه»، و ما أثبتناه استفدناه ممّا سيأتي بعد قليل. ثمّ إنّ القائل بأنّ العلم يكون علماً لجنسه هو أبوالقاسم البلخي. انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 124.
3- . في الأصل بدل «وقع» كلمة لا تقرأ، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
4- . في الأصل: «فعليه».
5- . في الأصل: «إلّا لآخر».
6- . الوجوه الثلاثة الأخيرة تَبطُل بنفس ما بَطَل به «أن يكون علماً لجنسه»، انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 124.

و لا أن يكونَ كذلك لعِلّةٍ (1)، و لا بالفاعلِ مَتىٰ لَم يَمتَنِعْ (2) بالفاعلِ أنّه يُحدِثُه على بعضِ الوجوهِ التي نَذكُرها؛ لأنّه كانَ [لا] يَمتَنِعُ أن يَقَعَ علىٰ بعضِ الوجوهِ التي نَذكُرُها. ثُمّ لا يَكونَ عِلماً؛ لعدمِ (3) ما يَدَّعيهِ مِن العِلّةِ ، أو لأنّ الفاعلَ أبىٰ (4) كَونَه عالِماً بالفِعلِ (5). أو وجودِ العِلّةِ مِن غَيرِ أن تَكونَ (6) علىٰ بعضِ ما نَذكُرُه. علىٰ أنّ العِلّةَ التي تُدَّعىٰ (7) مع التقليدِ الذي يوجَدُ(8) فينا لشيءٍ مخصوصٍ ، كحالِها مع العِلمِ الموجودِ فينا لغَيرِه؛ لعدمِ اختصاصِ أحَدِهما دونَ الآخَرِ، فلَيسَ بأن توجِبَ كَونَ أحَدِهما عِلماً أَولىٰ مِن الآخَرِ.

و إذا استَحالَ ذلكَ ، ثَبَتَ أنّه لا يَكونُ عِلماً إلّالحُدوثِه علىٰ بعضِ الوجوهِ .

في بيان الوجوه التي تجعل الاعتقاد علماً

و أمّا الوجوهُ التي إذا وَقَعَ عَلَيها الاعتقادُ كانَ عِلماً، فالذي ذَكَره أبو هاشمٍ و أبوعليٍّ (9) ثلاثةُ أوجُهٍ :

أحَدُها: أن يَقَعَ العِلمُ مُتولِّداً عن النظَرِ(10).

و الأمرُ [الثاني]: أن يَقَعَ بأن نَذكُرَ كيفيّةَ النظَرِ؛ نَحوَ ما يَفعَلُه المُتنبِّهُ مِن نَومِه.

ص: 269


1- . أي لمعنىٰ .
2- . في الأصل بدل «يمتنع» كلمة لا تقرأ، و قوله: «لأنّه كان [لا] يمتنع» قرينة على صحّة ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «للعدم».
4- . في الأصل: «إلى».
5- . في الأصل: «بالفاعل».
6- . في الأصل: «يكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «العلّة»، لا إلى «الوجود».
7- . في الأصل: «يدّعى».
8- . في الأصل: «توجد».
9- . شرح الأُصول الخمسة، ص 124-125.
10- . في الأصل: «على النظر».

و الثالثُ : أن يَكونَ مِن فِعلِ العالِمِ بمُعتَقَدِه؛ نَحوَ ما يَفعَلُه القَديمُ تَعالىٰ فينا مِن العُلومِ الضروريّةِ (1).

و أضافَ مَن تَأخَّرَ عنهما(2) إلىٰ ذلك وَجهَينِ آخَرَينِ :

أحَدُهما: أن نَعلَمَ في الجُملةِ أنّ مِن حَقِّ الموصوفِ بصفةٍ ، أن يَكونَ بصفةٍ أُخرىٰ ، أو حُكمٍ آخَرَ، فمَتَى عَلِمنا(3) شيئاً يَستَحِقُّ الصفةَ الأُولىٰ علَى التفصيلِ ، فلا بُدَّ مِن أن نَفعَلَ (4) اعتقاداً لكَونِه علَى الصفةِ الثانيةِ و الحُكمِ ، فيَكونَ هذا الاعتقادُ عِلماً؛ لتَقدُّمِ العِلمِ الأوّلِ .

و مِثالُه: العِلمُ في الجُملةِ بقُبحِ الظُّلمِ مُفصَّلاً(5)، و أنّ مِن حَقِّ المُحدَثِ أن يَكونَ له مُحدِثٌ (6)، و أنّه مَتىٰ عَلِمنا(7) ظُلماً بعَينِه، و مُحدَثاً مُعيَّناً، فَعَلنا(8) العلمَ بقُبحِ الظلمِ مُفصَّلاً، و حاجَةَ المُحدَثِ إلَى المُحدِثِ مُفصَّلاً.

و الوجهُ الآخَرُ: أن يَكونَ الاعتقادُ عِلماً بوقوعِه مِن مُتذكِّرٍ كَونَه عالماً. وأُجريَ ذلكَ العِلمُ بالمعتَقَدِ مَجرَى(9) العِلمِ بالمُعتَقَدَ؛ كما أُجريَ الذِّكرُ [مَجرَى] النظَرِ.

و قد زِيدَ علىٰ ذِكرِ هذه الوجوهِ الخمسةِ وَجهٌ سادسٌ علىٰ مَذهَبٍ لأبي هاشمٍ

ص: 270


1- . في الأصل: «الضرورة».
2- . و هو أبو عبد اللّٰه البصري. انظر: شرح الأُصول الخمسة، ص 125.
3- . في الأصل: «علما».
4- . في الأصل: «يفعل».
5- . كذا في الأصل، و الظاهر زيادة: «مفصّلاً».
6- . في الأصل: «محدثاً».
7- . في الأصل: «علما».
8- . في الأصل: «فعل».
9- . في الأصل: «المجرى».

خاصّةً ، و هو: أن يَكونَ الاعتقادُ(1) عِلماً لأنّه اعتقادٌ لمَن هو عالِمٌ بالمعتَقَدِ، و إن كانَ لمّا فَعَلَه لَم يَكُن عالِماً بالمُعتَقَدِ(2).

و مِثالُه: أن يَعتَقِدَ تقليداً بكَونِ (3) زَيدٍ في الدارِ، ثُمّ يُشاهِدَه، فيَصيرَ الاعتقادُ أوّلاً عِلماً بِكَونِ (4) [المعتَقِدِ] الأوّلِ عالِماً(5).

فإن قيلَ : مِن أينَ أنّ الاعتقادَ لا يَكونُ عِلماً إلّالما حَصَرتُم مِن الوجوهِ؟

قُلنا: [مِن عدم تعقُّلِنا] لوجهٍ يُعقَلُ سِوىٰ ما ذَكَرناه، و لَو جَوَّزنا(6) وَجهاً واحداً، لَصحَّ أن يَبتَدِئَ أحَدُنا فيَفعَلَ العِلمَ مِن غَيرِ أن يوقِعَه علىٰ أحَدِ الوجوهِ التي ذَكَرناها.

نفي أن يكون الإدراك مؤثّراً في كون الاعتقاد علماً

و لا يَجوزُ أن تَكونَ (7) مُشاهَدةُ الأدلّةِ وَجهاً لكَونِ الاعتقادِ عِلماً؛ فإنّ أحَدَنا قد يُشاهِدُ الأدلّةَ التي علَى اللّٰهِ تَعالىٰ و أحوالِه، و لَو اعتَقَدَ ابتداءً في حالِ مُشاهَدتِها

كَونَه تَعالىٰ قادراً مَثَلاً، لَم يَكُن هذا الاعتقادُ عِلماً؛ لتَعلُّقِه بما يُدرِكُه المعتَقِدُ؛ لأنّ الصغيرَ و المجنونَ يُدرِكانِ و لا يَعلَمانِ ، و لأنّه قد يُدرِكُ المُلتَبِسَ و يَعتَقِدُه و لا يَكونُ عالِماً.

ص: 271


1- . في الأصل: «لاعتقاد».
2- . في الأصل: «للمعتقد»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لتعدّي «الاعتقاد» بالباء.
3- . في الأصل: «ككون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لتعدّي «الاعتقاد» بالباء.
4- . في الأصل: «لكون»، و تعدّي «العلم» بالباء يؤيّد صحّة ما أثبتناه.
5- . في الأصل: «علماً».
6- . في الأصل: «جوّزناه»، و ضمير المفعول زائد.
7- . في الأصل: «يكون»، و الأولى ما أثبتناه كما لا يخفى.

و لَيسَ يُمكنُ أن يُقالَ : إنّ الإدراكَ يُؤَثِّرُ (68) في كَونِ الاعتقادِ عِلماً، بشَرطِ كمالِ العقلِ .

لأنّ : هذا جَعلٌ للشيءِ شَرطاً في نفسِه؛ إذ مِن كمالِ العقلِ العِلمُ بالمُدرَكاتِ .

و إنّما قُلنا: إنّ الاعتقادَ إذا وَقَعَ علىٰ أحدِ هذه الوجوهِ كانَ عِلماً؛ مِن حيثُ اقتَضىٰ بوُقوعِه علىٰ كُلِّ وَجهٍ منها سُكونَ النفسِ إلىٰ مُعتَقَدِه.

و الكلامُ في «تفصيلِ الوجوهِ التي ذَكَرنا(1) أنّ الاعتقادَ عَلَيها يَكونُ عِلماً، و تمييزِ(2) بعضِها مِن بعضٍ ، و الردِّ علىٰ مَن ذَهَب فيها إلَى التداخُلِ » يَطولُ ، و فيما ذَكَرناه كفايةٌ .

و قد ثَبَتَ بجُملةِ ما أَورَدناه أنّ العِلمَ لا يَقَعُ إلّامِن عالِمٍ ؛ لأنّ ما يَفعَلُه عن النظَرِ لا بُدَّ أن يَكونَ فاعلُه عالِماً بالدليلِ علَى الوَجهِ الذي يَدُلُّ . و المُتذكِّرُ للنظَرِ و الاستدلالِ هو عالِمٌ ؛ لأنّ الذِّكرَ للشيءِ هو العِلمُ به. و العالِمُ بالمعتَقَدِ الأمرُ فيه أوضَحُ ، و كذلك العالِمُ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، بأنّ مَن كانَ علىٰ صفةٍ فلا بُدّ أن يكونَ على أُخرىٰ ، و كذلك المُتذكِّرُ لِكَونِه عالِماً. فصَحَّ ما أرَدناه و قَصَدنا بالكلامِ إليه.

***

مَسائِلُ تتعَلَّقُ بعِلمِ اللّٰهِ تَعالىٰ و قُدرتِه
اشارة

و اعلَم أنّ الكلامَ في أنّه تَعالىٰ عالِمٌ بعلمٍ مُحدَثٍ ، و قادرٌ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ ، يَدخُلُ فيه ثَلاثُ مَسائلَ :

أُولاهنّ أن يُقالَ : لا يَعلَمُ شيئاً إلّابعِلمٍ مُحدَثٍ ، و لا يَقدِرُ إلّابقُدرةٍ مُحدَثةٍ .

و المسألةُ الثانيةُ أن يُقالَ : إنّه يَعلَمُ بعضَ المعلوماتِ لنفسِه، و بعضَها بعِلمٍ

ص: 272


1- . في الأصل: «ذكرناها».
2- . في الأصل: «يتميّز».

مُحدَثٍ ، و كذلكَ في القُدرةِ .

و المسألةُ الثالثةُ أن يُقالَ : إنّه يَعلَمُ بعضَ ما يَعلَمُه لنفسِه بعِلمٍ مُحدَثٍ ، حتّىٰ يَكونَ عالماً به مِن الوَجهَينِ ، و كذلك في القُدرةِ .

و هذه المسائلُ لا يُمكِنُ كُلُّها في الحَياةِ ؛ لأنّها ممّا تَتعلَّقُ (1) بغَيرِها، كتَعلُّقِ (2) العِلمِ و القُدرةِ .

و قد تَقدَّمَ الجوابُ عن المسألةِ الأُولى في العِلمِ و القُدرةِ .(3)

فأمّا المسألةُ الثانيةُ فالجوابُ عنها: أنّه(4) إذا بَطَلَ كَونُه تَعالىٰ عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ

- علىٰ ما سَنَذكُرُه(5) - مُضافاً إلىٰ ما بيّنّاه مِن إبطالِ كَونِه عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ (6) أو معدومٍ (7)، وجبَ أن يَكونَ عالِماً لنفسِه. و مِن حقِّ العالِمِ لنفسِه أن يَعلَمَ جميعَ المعلوماتِ ، و لا يَصِحُّ أن يَكونَ فيها ما لا يَجِبُ كَونُه عالِماً به.

و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّ تَعلُّقَه بالمعلوماتِ تَعلُّقُ العالِمينَ ، لا تَعلُّقُ العلومِ (8) و العالِمِ (9)؛ مِن(10) صحّةِ كَونِه عالِماً بكُلِّ معلومٍ بغَيرِ(11) اختصاصٍ . و إذا كانَ عالِماً

ص: 273


1- . في الأصل: «يتعلّق».
2- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «لا كتعلّق العلم و القدرة»، و ذلك للتمييز بين تعلّق الحياة، و تعلّق العلم و القدرة.
3- . تقدّم في ص 263 و 267.
4- . في الأصل: «أنّها».
5- . في الفصل القادم.
6- . تقدم في ص 267.
7- . تقدم في ص 255.
8- . في الأصل: «المعلوم»، و ما أثبتناه موافق لِمٰا سوف يأتي بعد قليل.
9- . كذا في الأصل.
10- . في الأصل: + «كونه»، و هو زائد.
11- . في الأصل: «لغير».

لنفسِه، وجبَ في كُلِّ ما صَحَّ أن يَعلَمَه ثُبوتُ كَونِه عالِماً به؛ لأنّ صفةَ النفسِ متىٰ صَحَّت وجبَت.

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ تَعلُّقَه تَعلُّقُ العالمينَ أشياءُ :

مِنها: أنّ الأفعالَ المُحكَمةَ إنّما صَحَّت مِنه لأجلِ هذا التعلُّقِ ، و هذا الحُكمُ يَختَصُّ العالِمَ دونَ العِلمِ ؛ لاستحالةِ الفِعلِ المُحكَمِ مِن العلمِ .

و مِنها: أنّه لأجلِ هذا التعلُّقِ يَجِبُ كَونُه حَيّاً، و تَعلُّقُ العِلمِ بمعلومِه لا يَجِبُ فيه ذلكَ ، بل يَستحيلُ فيه.

و منها: أنّه لو تَعلَّقَ تَعلُّقَ العُلومِ ، لَوجبَ كَونُه مِن جنسِ العِلمِ ؛ لأنّ العُلومَ إنّما تَتَماثَلُ (1) بالمُشارَكةِ في التعلُّقِ بالمعلومِ الواحدِ، علَى الوَجهِ الواحدِ، في الوقتِ الواحدِ.

و منها: أنّه قد وَقَعَت مِنه تَعالىٰ أفعالٌ كثيرةٌ تَدُلُّ (2) علىٰ كَونِه عالِماً بمعلوماتٍ كثيرةٍ ، و العِلمُ لا يَصِحُّ أن يَتعلَّقَ علىٰ سَبيلِ التفصيلِ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ؛ فثَبَتَ أنّ تَعلُّقَه تَعالىٰ يُخالِفُ تَعلُّقَ العُلومِ .

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المعلوماتِ لا اختصاصَ فيها، و أنّ كُلَّ عالِمٍ يَصِحُّ أن يَعلَمَ كُلَّ معلومٍ ، فظاهرٌ؛ لأنّه لا معلومَ يُشارُ إليه إلّايَصِحُّ أن يَعلَمَه كُلُّ حَيٍّ ، كما أنّه لا مُدرَكَ إلّا و يَصِحُّ أن يُدرِكَه كُلُّ مُدرِكٍ ؛ و [لا] مُرادَ إلّاو يَصِحُّ أن يُريدَه كُلُّ مُريدٍ. و إنّما جازَ الاشتراكُ (69) في المعلومات(3) و لم يَجُز في المقدوراتِ ؛ لأنّ العالِمَ يَعلَمُ

ص: 274


1- . في الأصل: «يتماثل».
2- . في الأصل: «يدلّ ».
3- . في الأصل: «المعلوم».

الشيءَ علىٰ ما هو عَلَيه، و لا يَصيرُ علىٰ بعضِ الصفاتِ كالعالِمِ (1) و القادرِ بجَعلِ الشيءِ علىٰ صفةٍ ، فلهذا لَم يَصِحَّ فيه الاشتراكُ .

و إذا ثَبَتَت(2) الجُملةُ التي ذكرناها، و كانَ تَعالىٰ عالِماً، وجبَ لنفسِه أن يَعلَمَ الجميعَ ؛ لأنّ الصحّةَ لا تُفارِقُ الوجوبَ في صفاتِ النفسِ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَدَّعِيَ في المعلوماتِ ما لا يَصِحُّ أن يَعلَمَه؛ لِما بيّنّا،(3) و لأنّ ما(4) لَم يَصِحَّ أن يَعلَمَه لنفسِه، لَم يَصِحَّ أن يَعلَمَه أيضاً بعِلمٍ مُحدَثٍ . و لَيسَ هو بأن يَعلَمَ بعضَ المعلوماتِ لنفسِه بأَولى مِن سائرِها، مع صحّةِ كَونِه(5) عالِماً بالجميعِ ، و عدمِ (6) الاختصاصِ بَينَها و بَينَ بعضِها دونَ بعضٍ . و إذا وجبَ كَونُه عالِماً بنفسِه لشيءٍ مِنها، فإنّما وجبَ مِن حَيثُ صَحَّ أن يَكونَ معلوماً له، و حالُ الكُلِّ (7) في هذه القضيّةِ واحدةٌ ، فيَجِبُ أن يَكونَ عالِماً بجميعِ المعلوماتِ لنفسِه. و إذا وجبَ ذلكَ لَم يَبقَ ما يُقالُ : إنّه يَعلَمُه بعِلمٍ مُحدَثٍ .

و أمّا الجوابُ عن هذه المسألةِ (8) إذا سُئلنا عنها في كَونِه تَعالىٰ قادراً: فهو أنّه قد ثَبَتَ أنّ تَعلُّقَه بمقدوراتِه تَعلُّقُ القادرينَ لا تَعلُّقُ القُدَرِ؛ للوجوهِ التي ذَكَرناها في أنّ تَعلُّقَه بالمعلوماتِ يُخالِفُ تَعلُّقَ العُلومِ (9)، سِوَى الوَجهِ الواحدِ الذي اعتَمَدنا فيه

ص: 275


1- . في الأصل: «بالعالم».
2- . في الأصل: «ثبت».
3- . تقدّم آنفاً.
4- . في الأصل: «لأنّه» بدل «لأن ما».
5- . في الأصل: «كونها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «أحد» في قوله: «و ليس لأحد».
6- . في الأصل: «هذا» بدل «عدم»، و لا محصّل له في المقام، و قوله: «بالجميع» قرينة على ما قلناه.
7- . في الأصل: «جالساً لكلّ »، هكذا يقرأ، و يقرأ أيضا: «حال لكلّ »، و كيف كان، فالصحيح ما أثبتناه.
8- . أي المسألة الثانية المتقدّمة.
9- . تقدّمت هذه الوجوه في ص 274.

علىٰ وُجوبِ كَونِه مِن جنسِ العِلمِ ؛ لأنّ ذلكَ لا يَتَأتّى في القُدرةِ ؛ لأنّه تَعالىٰ لا يَتعلَّقُ بنَفسِ ما تَتعلَّقُ (1) به القُدَرُ.

و إذا ثَبَتَ ذلك، وجبَ في كُلِّ ما صَحَّ أن يَكونَ مقدوراً له، كَونُه قادراً عَلَيه؛ مِن حَيثُ كانَ قادراً للنفسِ ، و كانَت صفةُ النفسِ متىٰ صَحَّت وجبَت، و إذا كانَ قادراً علَى الكُلِّ لنفسِه، لَم يَبقَ ما يُقالُ : إنّه يَقدِرُ عليه بقُدرةٍ مُحدَثةٍ .

و إنّما خَصَّصنا الكلامَ في المقدوراتِ ، و قُلنا: يَجِبُ أن يَكونَ قادراً علىٰ كُلِّ ما صَحَّ أن يَكونَ مقدوراً له، و لَم نَقُل مِثلَ ذلك في المعلوماتِ ؛ لأنّ في المقدوراتِ ما يَستَحيلُ كَونُه تَعالىٰ قادراً عَلَيه مِن حَيثُ كانَ مقدوراً لغَيرِه، و لَيسَ كذلكَ المعلوماتُ ؛ لأنّ الاختصاصَ لا يَتأتّىٰ فيها.

و ما قَدَّمناه مِن قَبلُ (2) - مِن أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ (3) الفِعلُ بها إلّاإذا كانَت في مَحَلٍّ ؛ مِن حَيثُ كانَ مِن حُكمِها استعمالُ مَحَلِّها في الفِعلِ أو سببِه - يُبطِلُ كَونَه قادراً بقُدرةٍ مُحدَثةٍ لا في مَحَلٍّ علىٰ كُلِّ حالٍ .

فأمّا الجَوابُ عن المسألةِ الثالثةِ : فهو(4) أنّه لَو كانَ عالِماً بعِلمٍ مُحدَثٍ بعضَ ما يَعلَمُه لنفسِه، فوجبَ أن يَكونَ ذلكَ العِلمُ موجوداً لا في مَحَلٍّ حتّىٰ يَصِحَّ اختصاصُه به دونَ غَيرِه، و لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ العِلمَ في غَيرِ مَحَلٍّ إلّاهو تَعالىٰ ،

فَيَجِبُ أن يَكونَ قادراً على ضِدِّه في الجنسِ ، و ذلكَ يَقتَضي كَونَه قادراً علَى

ص: 276


1- . في الأصل: «يتعلّق».
2- . تقدم في ص 266.
3- . في الأصل: «لا تصحّ ».
4- . هذا الدليل الأوّل على بطلان أن يعلم تعالىٰ بعلم محدث بعضَ ما يعلمه لنفسه، و الدليل الثاني سيأتي في نهاية الفصل.

الجهلِ أن يَفعَلَه لا في محلٍّ ، و لَو قَدَرَ عَلَيه لَصَحَّ أن يَفعَلَه، و لَو فَعَلَه لَم يَخلُ حالُه مِن وجوهٍ (1):

إمّا أن يوجِبَ كَونَه تَعالىٰ جاهلاً و يَخرُجَ عن كَونِه عالِماً!

أو تَجتَمِعَ (2) له الصفَتانِ .

أو يوجِبَ كونَ غَيرِه جاهلاً.

أو يَكونَ جَهلاً لا يَجهَلُ به أحَدٌ(3).

و كلُّ ذلك مُخِلٌّ .

لأنّ الأوّلَ يَقتضي خُروجَه تَعالىٰ عن صفتِه الذاتيّةِ مع صحّتِها عَلَيه، و ذلكَ يَستَحيلُ ، كاستحالةِ وجودِ ما يَنفي ذاتَه و يُخرِجُه عن الوجودِ؛ مِن حَيثُ كانَ موجوداً لنفسِه.

و اجتماعُ الصفتَينِ له تَعالىٰ مَعلومٌ استحالتُه.

و إيجابُ الجَهلِ كَونَ غَيرِه جاهلاً باطلٌ ؛ لأنّه(4) إذا وُجِدَ علَى الوَجهِ الذي توجَدُ(5) عَلَيه إرادةُ القَديمِ تَعالىٰ ، فلا يَجوزُ أن يوجِبَ الحالَ لغَيرِه.

و وجودُ جَهلٍ (70) لا يَتعلَّقُ بأحَدٍ، يَقتَضي [وجودَ] جنسِه.

و كُلُّ قولٍ يؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه و فصّلناه(6) مِن الوجوهِ (7) فهو فاسِدٌ.

ص: 277


1- . في الأصل: «وجوب»، و هو خطأ.
2- . في الأصل: «يجتمع»، و الأولى ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «لا يجهلانه أحد»، و لا محصّل له.
4- . في الأصل: «لأنّها»، و هو خطأ.
5- . في الأصل: «يوجد»، و الأولى ما أثبتناه.
6- . في الأصل: «فصّلاه»، و هو خطأ.
7- . في الأصل بدل «الوجوه» كلمة لا تقرأ، و المناسب للمقام ما أثبتناه.

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّ ذلكَ العِلمَ الموجودَ لا في مَحَلٍّ يَجِبُ أن يَكونَ مِن فِعلِه ؟

قُلنا: لأنّ القادرَ بقُدرةٍ لا يَصِحُّ أن يَفعَلَ العِلمَ في غَيرِ مَحَلٍّ ؛ لِما تَقدَّمَ (1) مِن أنّ العِلمَ : إمّا أن يُفعَلَ ابتداءً في مَحَلِّ القُدرةِ ، أو مُتولِّداً عن سببٍ [في محل القدرة؛ لأنّه] لا جهةَ [للنظر]،(2) فيُولِّدُه(3) في غَيرِ مَحَلِّهِ . علىٰ أنّ غَيرَه لَو صَحَّ أن يَفعَلَه بالقُدرةِ في غَيرِ مَحَلٍّ ، لَوجبَ كَونُه قادراً علىٰ ضِدِّه الذي يُنافيهِ ، و لو فَعَلَه لَأدّىٰ إلَى الفَسادِ الذي ذَكَرناه، فلَيسَ يَختَلِفُ الحُكمُ المقصودُ علىٰ كُلِّ حالٍ .

إثبات أنّ للعلم ضدّاً

فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ لِلعِلمِ (4) ضِدّاً.

قُلنا: قد عَلِمنا استحالةَ اجتماعِ : اعتقادِ كَونِ الشيءِ علىٰ صفةٍ في بعضِ

الأحوالِ ، و اعتقادِ أنّه لَيسَ عَلَيها في تلكَ الأحوالِ ؛ لا لوَجهٍ معقولٍ سِوَى التضادِّ، فيَجِبُ تَضادُّهما و تَنافيهِما علَى الحَيِّ ، و هذا واجبٌ في كُلِّ اعتقادَينِ جَرَيا هذا المَجرىٰ . فظَهَرَ بذلكَ أنّ الاعتقادَ المُتَعلِّقَ (5) بالعَكسِ مِن مُتعلَّقِ العِلمِ ، يَجِبُ أن يُضادَّه و يُنافِيَه.

ص: 278


1- . تقدم في ص 267-268.
2- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه في هذا الموضع و فيما قبله، استفدناه ممّاتقدّم في ص 267-268.
3- . في الأصل: «فتولّده»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «النظر».
4- . في الأصل: «العلم».
5- . في الأصل: «يتعلّق»، و ما أثبتناه مقتضى السياق، و قوله فيما سيأتي بُعَيد هذا: «للاعتقاد المتعلّق بالعكس من متعلّقه» قرينة عليه.
بطلان أن يكون تعذّر اجتماع اعتقادَين متعاكسَين بسبب الداعي، لا لتضادّهما

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ما أَنكَرتُم أنّ اجتماعَ هذَينِ الاعتقادَينِ إنّما تَعذَّرَ لا للتضادِّ، لكِن لِما يَجري مَجرَى الداعي؛ و هو العِلمُ باستحالةِ كَونِ الذاتِ على صفةٍ ، و أنْ لا تَكونَ عَلَيها؟ و يَجري امتناعُ ذلكَ - و إن لَم يَكُن للتضادِّ - مَجرَى(1) اعتقادِ الضِّدَّينِ و إرادةِ الضِّدَّينِ ، في أنّ اجتماعَهما يَتعذَّرُ لِما يَرجِعُ إلَى الداعي.

و ذلكَ : أنّ كُلَّ شَيئَينِ (2) تَعَلَّقا بغَيرِهما، و عَلِمنا أنّ أحَدَهما قد تَعَلَّق بالعكسِ مِن مُتَعَلَّقِ الآخَرِ، فلا بُدَّ مِن الحُكمِ بتَضادِّهما، و لذلكَ حَكَمنا بتَضادِّ الإرادةِ و الكَراهةِ ، و القُدرةِ و العَجزِ، لَو ثَبَتَ أنّ ذلكَ معنىً ، و بذلكَ فَرَّقنا بَينَ إرادةِ الضِّدَّينِ ، و الإرادةِ و الكَراهةِ إذا تَعَلَّقَتا بالشيءِ الواحدِ علَى الوَجهِ الواحدِ.

علىٰ أنّ العِلمَ الذي أشاروا إليه، و ادَّعَوا [أنّه] يَمنَعُ مِن اجتِماعِ هذَينِ الاعتقادَينِ علىٰ سَبيلِ الداعي؛ و هو العِلمُ بأنّ الذاتَ لا يَجوزُ أن تَكونَ (3) علىٰ صفةٍ و أن لا تَكونَ عَلَيها، لا يَخلو مِن أن يَكونَ مُضادّاً للاعتقادِ المُتعلِّقِ بالعكسِ مِن مُتعلَّقِه، أو غَيرَ مُضادٍّ له، و إنّما لا يَجتَمِعُ معه لِداعٍ آخَرَ.

فإن كانَ الأوّلُ ، فما(4) يَقتَضي في هذَينِ الاعتقادَينِ التَّضادَّ، و إن تَعَذَّرَ اجتماعُهما، لَم يَكُن الداعي(5) يَقتَضي مِثلَه في الاعتقادَينِ اللَّذَينِ ذَكَرناهما.

ص: 279


1- . في الأصل: «مجرّد»، و لا محصّل له.
2- . في الأصل: «شيء»، و هو خطأ.
3- . في الأصل: «يكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الذات». و هكذا الكلام في قوله: «أن لا تكون عليها»، و هو في الأصل: «أن لا يكون عليها».
4- . في الأصل: «فبما»، هكذا يقرأ، و قد يقرأ: «فيما»، و الصحيح ما أثبتناه.
5- . في الأصل: «للداعي»، و هو لا يلائم السياق.

و إن كانَ الثاني، وجبَ إثباتُ ما لا يَتَناهىٰ مِن الاعتقاداتِ .

و لَيسَ [يَجِبُ ] هذا(1) ممّا قُلناه(2) في اعتقادِ الضِّدَّينِ و إرادةِ الضِّدَّينِ ، [من] أنّ الصارِفَ عنهما هو العِلمُ بتَضادِّ مُتعلَّقِهما؛ لأنّا قَد نَنتَهي إلَى اعتقادَينِ نَحكُمُ باستحالةِ اجتماعِهما للتضادِّ لا لِداعٍ آخَرَ، و هما: اعتقادُ تَضادِّ الضِّدَّينِ ، و اعتقادُ أنّهما غَيرُ مُتَضادَّينِ . و لا يُمكِنُ مَن خالَفَنا مِثلُ ذلكَ ؛ لأنّه لا يَقِفُ في بابِ الدَّواعي علىٰ حَدٍّ، فلَزِمَه إثباتُ ما لا يَتَناهىٰ دونَنا.

علىٰ أنّ الجَهلَ لَو ثَبَتَ تَعذُّرُ اجتماعِه مع العِلمِ المُتعلِّقِ بعكسِه لا للتضادِّ، كانَ

كما ذَكَروا لَم يُخِلَّ بما أرَدناه؛ و ذلكَ : أنّ القَديمَ تَعالىٰ إذا كانَ قادراً علَى العِلمِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً علَى الجَهلِ ؛ لأنّ مِن حَقِّ القادرِ علىٰ نفسِه(3) أن يَقدِرَ علىٰ كُلِّ جنسٍ يُقدَرُ عَلَيه بالقُدرةِ ؛ لأنّ حالَه في المقدوراتِ أزيَدُ مِن أحوالِ القُدَرِ - علىٰ ما سنُبَيِّنُه مِن بعدُ(4) -، فكانَ (71) يَجِبُ علىٰ هذا أن يَكونَ قادراً علىٰ فِعلِ الجَهلِ علَى الوَجهِ الذي فَعَلَ عَلَيه العِلمَ ؛ و إن لَم يَكُن ضِدّاً، و لَأدّىٰ صحّةُ وجودِه إلىٰ وجوهِ الفَسادِ الذي قَدَّمناه.

فإن قيلَ : بأيِّ شيءٍ تُنكِرونَ أن يَكونَ لِذلكَ (5) العِلمِ ضِدٌّ في الجنسِ ، و إن لم يَكُن ضِدّاً مُنافياً علَى الحقيقةِ؟

قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ لِعِلمِنا(6) ضِدّاً في الحقيقةِ مُنافياً، فإذا ثَبَتَ ذلكَ [الذي] فيه تبيانٌ

ص: 280


1- . أي وجوب إثبات ما لا يتناهىٰ من الاعتقادات.
2- . أي: فيما قلناه.
3- . أي: القادر لنفسه.
4- . يأتي في ج 2، ص 116-118.
5- . في الأصل: «كذلك».
6- . في الأصل: «يعلمنا»، و هو سهو.

لذلكَ العِلمِ الذي هو مِن جنسِه، [وَجَبَ ] أن يَشتَرِكا(1) فيه.

و أيضاً فإنّ تجويزَ ذلكَ يؤَدّي إلىٰ تَجويزِه في الألوانِ (2)، [و] أن يَكونَ له ضِدٌّ في الجنسِ ، و إن لَم يَكُن مُنافياً، و هذا يوجِبُ أن يَكونَ في الجَواهرِ ما يَستَحيلُ انتقالُه مِن جهتِه.

و أيضاً فإنّ التضادَّ في الجنسِ متىٰ لَم يَبتَنِ (3) علَى التضادِّ الحقيقيِّ ، لَم يُعقَلْ و لَم يَصِحَّ إثباتُه، و هذا يُبطِلُ أن يَكونَ لبعضِ المَعاني ضِدٌّ في الجنسِ ، و لا يَكونُ ضِدّاً علَى الحقيقةِ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ القادرَ علَى الشيءِ يَجِبُ أن يَكونَ قادراً على ضِدِّه، يأتي مِن الكتابِ في مَوضِعِه إن شاءَ اللّٰهُ تَعالىٰ .(4)

في بيان قدرة القادر على الشيء و ضدّه من الوجه الذي يتنافيان فيه

فإن قيلَ : مِن أينَ إذا كانَ للعِلمِ ضِدٌّ، و كانَ قادراً علىٰ (5) ضِدِّه، أنّه يَصِحُّ مِنه إيجادُه(6) لا في مَحَلٍّ (7)؛ لأنّ الذي يَقتَضيه كَونُه قادراً علَى الشيءِ ، أن يَكونَ قادراً علىٰ ضِدِّه، و لا يَقتَضي ذلكَ صحّةَ إيجادِه ضِدَّه على كُلِّ وَجهٍ صَحَّ إيجادُه(8)

ص: 281


1- . في الأصل: «شركا».
2- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «الأكوان».
3- . في الأصل: «لم يبتني»، و هو خطأ.
4- . يأتي شيءٌ منه في ج 2، ص 15-16.
5- . في الأصل: «عليه».
6- . أي الضدّ.
7- . هذا الإشكال ناظر إلىٰ ما تقدّم في بداية الجواب عن المسألة الثالثة.
8- . أي ذلك الشيء.

عَلَيه؛ أوَ لَيسَ أحَدُكم قادراً علىٰ أن يَبتَدِئَ الجَهلَ ، و لا يَقدِرُ علىٰ فِعلٍ ابتَدَأَ به لا مِن الجَهلِ؟

قُلنا: إذا ثَبَتَ أنّ العِلمَ [له] ضِدٌّ يُنافيهِ ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ القادرُ عَلَيه قادراً علىٰ أن يَفعَلَه علَى الوَجهِ الذي يُنافيهِ . و إذا كانَ العِلمُ مَوجوداً لا في مَحَلٍّ ، وجبَ فيما

يُضادُّه و يُنافيهِ أن يوجَدَ علىٰ هذا الوجهِ . و لذلكَ لمّا كان أحَدُنا يَصِحُّ أن يَفعَلَ العِلمَ في قلبِه، و كانَ قادراً على الجَهلِ الذي هو ضِدُّه، صَحَّ أن يَفعَلَه في قلبِه، علَى الوجهِ الذي يُنافيهِ عَلَيه العِلمُ .

و ممّا(1) يَكشِفُ عن ذلكَ : أنّ الطريقَ الذي يُعلم [به أنّ ] القادِرَ عَلَى الشيءِ قادرٌ علىٰ ضِدِّه، إنّما يَظهَرُ في المُنافي دونَ المُتَضادِّ في الجنسِ ، و إنّا نَحمِلُ ما لا يَتَنافىٰ في وجوبِ كَونِه قادراً عَلَيه علَى المُتَنافي. فالأَصلُ في كَونِ القادرِ قادراً، أن يَقدِرَ على الضِّدَّينِ المُتَنافِيَينِ ، و ما عَدا ذلك فَرعٌ له و تابِعٌ .

الفرق بين ابتداء العلم و ابتداء الجهل

و إنّما قُلنا:(2) إنّ العِلمَ لا يُبتَدأُ علىٰ بعضِ الأحوالِ ، علىٰ حَدِّ ما يُبتَدَأُ الجَهلُ ؛ لأنّ العِلمَ لَم يَكُن عِلماً لجنسِه(3)، و إنّما يَكونُ كذلكَ لِوُقوعِه علىٰ وجوهٍ مخصوصةٍ يَجِبُ أن تُراعىٰ . و الجَهلُ لَيسَ يُراعىٰ فيه مِن الوجوهِ ما يُراعىٰ في العِلمِ ، فلذلكَ جازَ ابتداؤه علىٰ كلِّ حالٍ .

و بَعدُ، فإنّ العِلمَ لا يُضادُّ الجَهلَ مِن حَيثُ كانَ عِلماً، و إنّما يُضادُّه مِن حَيثُ

ص: 282


1- . في الأصل: «بما».
2- . تقدّم هذا القول في ذيل الإشكال المتقدّم، عند قوله: «أَوَ ليس أحدُكم قادراً علىٰ أن يبتدئ الجهل...»، و قد وافق عليه المصنّف، و لذلك نسبه إلىٰ نفسه.
3- . تقدم إثبات ذلك في ص 268.

كانَ اعتقاداً للشيءِ علىٰ ما هو به. و يَصِحُّ مِن القادرِ ابتداءُ هذا(1) الاعتقادِ الذي يَرجِعُ التضادُّ في الحقيقةِ إليه علىٰ كُلِّ حالٍ ، كما يَصِحُّ أنْ يَبتَدِئَ (2) بالجَهلِ .

نفي أن يكون الجهل مقدوراً له

فإن قيلَ : ألا كانَ هذا الجَهلُ مقدوراً له، و يَكونُ ما هو عَلَيه في كَونِه عالِماً لنفسِه كالمانعِ مِن وجودِه ؟

قُلنا: هذا يَبطُلُ مِن وجوهٍ أربعةٍ :

أوّلُها: أنّ ما أحالَ (3) وجودَ الشيءِ علىٰ كُلِّ وجهٍ ، يُحيلُ كَونَه مقدوراً؛ لأنّ كَونَه مقدوراً لا بُدَّ معه مِن صحّةِ وجودِه علىٰ (4) وجهٍ ما، و كُلُّ شَيءٍ يَتعذَّرُ لمانعٍ فلا بُدَّ من صحّةِ زَوالِه علىٰ بعضِ الوجوهِ ، و لولا صحّةُ (72) هذه الجُملةِ لَالتَبَسَ المُتعذِّرُ(5) بالمُستَحيلِ .

ثانيها: أن يَكونَ عالِماً لنفسِه، لَيسَ بأن يَمنَعَ مِن فِعلِ الجَهلِ ، أَولىٰ مِن أن يُقالَ :

إنّ كَونَه قادراً لنفسِه عَلَيه(6) يَقتَضي صحّتَه؛ لأنّ المَنعَ لا يَجوزُ علَى القادرِ لنفسِه.

و ثالثُها: أنّ ما يَستَحيلُ وجودُه علىٰ كُلِّ حالٍ ، لا يَكونُ ضِدّاً لغَيرِه في الحقيقةِ ، و قد بيّنّا أنّ لذلكَ (7) العِلمِ ضِدَّاً علَى التحقيقِ .(8)

ص: 283


1- . في الأصل: «هذه»، و هو خطأ.
2- . في الأصل: «يُبتدأَ».
3- . في الأصل: «حال»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «يحيل».
4- . في الأصل: + «كلّ »، و هو زائد.
5- . في الأصل: «المعذور»، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ مقابل «المستحيل» هو «المتعذّر» لا «المعذور».
6- . أي قادراً لنفسه علىٰ فعل الجهل.
7- . في الأصل: «ذلك»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّ الغرض بيانُ أنّ للعلم ضدّاً، لا أنّه ضدّ لغيره.
8- . تقدّم بيانه في ص 278.

و رابعُها: أنّ هذا القولَ يوجِبُ أنّ في الأجناسِ ما يَستَحيلُ عَلَيه الوجودُ؛ لأنّ

ذلكَ الجَهلَ إذا كانَ إنّما يَمنَعُ مِن وجودِه كَونُه تَعالىٰ عالِماً لنفسِه، و القَديمُ تَعالىٰ يَستَحيلُ خُروجُه عن هذه الصفةِ ، فيَجِبُ علىٰ هذا استحالةُ وجودِ ذلك الجَهلِ . و يُحالُ أن تَكونَ ذاتٌ معدومةٌ يَستَحيلُ عَلَيها الوجودُ علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ لِما قد بُيِّنَ في مَواضِعَ كَثيرةٍ .

إبطال صحّة وجود الجهل بلا جاهل

فإن قيلَ : ما أنكَرتُم مِن صحّةِ وجودِ ذلك الجَهلِ ، و إن لم يَجهَلْ به أحَدٌ، و يَمنَعُ مِن تَعلُّقِه به تَعالىٰ كَونُه عالِماً لنفسِه، و مِن تَعلُّقِه بغَيرِه وجودُه علىٰ غَيرِ الوَجهِ الّذي معه يَثبُتُ التعلُّقُ؟

قُلنا: الجَهلُ لنفسِه يوجِبُ كَونَ الجاهلِ جاهلاً، فما(1) يَمنَعُ مِن إيجابِه يَمنَعُ مِن وجودِه، كما أنّ ما مَنَعَ مِن كَونِ الميِّتِ عالِماً يُحيلُ وجودَ العِلمِ في قَلبِه، و ما مَنَعَ مِن كَونِ الجَوهرِ كائناً ببعضِ الأكوانِ يُحيِلُ وجودَه.

علىٰ أنّ تَعلُّقَ الجَهلِ بغَيرِه في رُجوعِه إلىٰ ذاتِه، كإيجابِه كَونَ الجاهلِ جاهلاً، فلَو جازَ وجودُه مِن غَيرِ أن يَجهَلَ (2) به جاهلٌ ، لَجازَ وجودُه غَيرَ مُتعلِّقٍ بما يَتعلَّقُ به، و هذا يؤَدّي إلىٰ فَسادِ وجودِه و قَلبِ جنسِه.

فإن قيلَ : ألَيسَ قد جازَ عندَكم وجودُ عِلمٍ لا معلومَ [يتعلَّق] به ؟ فألّا جازَ في الجَهلِ بما(3) ألزَمناكُموه(4)؟

ص: 284


1- . في الأصل: «ممّا».
2- . في الأصل: «يحيل».
3- . كذا في الأصل، و الأنسب: «ما».
4- . و هو صحّة وجود الجهل و إن لم يَجهل به أحد.

قيل: الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ أنّ العِلمَ و إن لَم يَتعلَّقْ في بعضِ المَواضعِ بمعلومٍ ، فلَيسَ (1) يَخرُجُ مِن أن يوجِبَ الصفةَ المخصوصةَ بالغَيرِ، و بذلكَ يَظهَرُ حُكمُ صفتِه النفسِيّةِ ، و يَكونُ لوجودِه(2) مَزيّةٌ علىٰ عدمِه.

و الجَهلُ إذا لَم يوجِبْ كَونَ أحَدٍ جاهلاً لَم يَتعلَّقْ بمجهولٍ ، و إذا لَم يَتعلَّقْ بِمُتعلَّقٍ ، و لا أَوجَبَ صفتَه بموصوفٍ ، لَم يَكُن لوجودِه مَزيّةٌ علىٰ عدمِه.

فإن قيلَ : ألَيسَ قد أجازَ عندَكُم بعضٌ (3) خُروجَ كَونِه تَعالىٰ قادراً علَى المقدورِ عندَ وجودِه، و إن كان قادراً لنفسِه؛ مِن حَيثُ أحالَ وجودُ المقدورِ كَونَه قادراً بقَلبِه(4)؟ فألَّا(5) جازَ خُروجُه عندَ وجودِ الجَهلِ مِن كَونِه عالِماً؛ لِاستحالةِ كَونِه عالِماً مع وجودِ هذا الجَهلِ؟

قُلنا: لَيسَ يَخرُجُ القَديمُ تَعالىٰ عندَ وجودِ مقدورِه مِن كَونِه قادراً، و لا يَزولُ التعلُّقُ أيضاً متىٰ كانَ المقدورُ ممّا تَجوزُ عَلَيه الإعادةُ ؛ لأنّه علىٰ هذا لا يَصِحُّ مِنه

إيجادُه في الثالثِ ، إن لَم يَجُز في الثاني. كما أنّ القُدرةَ تَتعلَّقُ (6) بإيجادِه في المقدورِ في العاشرِ، و إن لَم يَجُز لها(7) أن توجِدَ في الثاني. و مَتىٰ نَقَصَ

ص: 285


1- . في الأصل: «و ليس»، و الأنسب ما أثبتناه؛ للتفريع على ما سبق.
2- . في الأصل: + «على»، و هو زائد.
3- . أي: أ ليس قد أجاز بعضُكم، أو: أ ليس قد جاز عند بعضِكم، و المعنىٰ واضح.
4- . هكذا تقرأ هذهِ الكلمة، و لعلّه يمكن قراءتها بهذهِ الصورة: «بتلبُّسه» اي: بتلبُّسه بالوجود، وبذلك تكون العبارة واضحة، و يكون معناها: أنّ وجود المقدور منع من كونه قادراً بسبب تلبُّس المقدور بالوجود. و بناء عليه ينبغي إضافة كلمة «بالوجود» إلى المتن.
5- . في الأصل: «وَ أَلَا».
6- . في الأصل: «يتعلّق».
7- . في الأصل: «و إن لم يجزها».

وَقتُ المقدورِ في العاشرِ، فلا بُدَّ مِن القولِ بأنّ التعلُّقَ قد زالَ . غَيرَ أنّ الصفةَ التي [له] تَعالىٰ لَم يَزَل [عَلَيها] مِن حَيثُ كانَت(1) له بكَونِه قادراً علَى المقدوراتِ كُلِّها صفةٌ واحِدةٌ .

و بهذا يَسقُطُ الاعتراضُ عمّن ذَهَبَ إلَى المَذهَبِ الذي سُئلَ عَلَيه السؤالُ الذي أَورَدناه، يَقولُ :(2)

وجودُ المقدورِ مُحيلٌ لكونِهِ مقدُوراً في نفسِه، و لهذا استَحالَ كَونُه تَعالىٰ قادراً عَلَيه. و كَونُ الشيءِ مَجهولاً بجَهلٍ لا يُحيلُ كَونَه مَعلوماً في نفسِه؛ ألا تَرىٰ أنّ غَيرَ هذا الجاهلِ يَصِحُّ أن يَعلَمَه ؟ (73) فلَو خَرَجَ [عن] كَونِه عالِماً، لَأدّىٰ إلى خُروجِه عَمّا يَستَحِقُّه لنفسِه مع صحّتِه.

علىٰ أنّه قد حَصَلَ ما يؤَثِّرُ في كَونِه عالِماً؛ مِنْ صحّةِ (3) كَونِ الشيءِ معلوماً في نفسِه ثانيةً ، و ما يؤَثِّرُ في كَونِه جاهلاً مِن وجودِ الجَهلِ ، فلَيسَ قَولُ مَن قالَ : إنّ كَونَه تَعالىٰ عالِماً يَجِبُ لِما عَلَيه في ذاتِه بِشَرطِ أن لا يَطرَأَ عَلَيه هذا الجَهلُ ، بأَولى مِن قولِ القائلِ : إنّ الجَهلَ إنّما يوجِبُ كَونَه جاهلاً، بشرطِ أن لا يَكونَ الواجبُ لِكَونِه عالِماً حاصلاً، و هذا يوجِبُ إمّا انتفاءَ تأثيرِ الأمرَينِ ، أو اجتماعَ التأثيرَينِ ، و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ.

فإن قيلَ : ألا جازَ وجودُ الجَهلِ الذي ذَكَرتُموه، و استحالةُ قولِ مَن قالَ : إنّه يوجِبُ كَونَه جاهلاً، أو يَكونُ غَيرُه كذلكَ ، أو لا يوجِبُ شيئاً مِن ذلكَ ، كما جازَ(4)

ص: 286


1- . في الأصل: «كان».
2- . كذا في الأصل.
3- . في الأصل: «و صحّة» بدل «من صحّة».
4- . في الأصل: «كما أخبر»، و لا محصّل له.

الجوابُ بالنفيِ و الإثباتِ عن سؤالِ مَن سأَلَ فقالَ : لَو فَعَلَ الظُّلمَ هَل كانَ يَدُلُّ علىٰ جَهلِه و حاجتِه ؟ و إثباتُ الموجِبِ و المَنعُ مِن الموجَبِ نَقضٌ . و لَيسَ كذلكَ العِلمُ ؛ لأنّه لا يوجِبُ كَونَ فاعلِه جاهلاً و لا مُحتاجاً. و لا يُدَلُّ علىٰ ذلكَ مِن حالِ فاعِلِه لجنسِه، فالتقديرُ لوجودِه و الامتناعُ مِن القولِ بأنّه يَدُلُّ أو لا يَدُلُّ ، لا يَكونُ نَقضاً و لا امتناعاً مِنَ المُوجَبِ مع ثُبوتِ المُوجِبِ .

و ممّا يُجابُ به عن ذلك أن يُقالَ : إنّما جازَ أن نَمتَنِعَ مِن الجوابِ في بابِ الظُّلمِ بأنّه يَدُلُّ أو لا يَدُلُّ ؛ لصحّةِ أُصولٍ تَقرَّرَت بالأدلّةِ :

منها: أنّه قادرٌ علَى الظُّلمِ كقُدرَتِه علَى العَدلِ .

و منها: أنّه عالِمٌ غَنيٌّ .

و منها: أنّ القَبيحَ فيما بَينَنا لا يَختارُه إلّا: جاهِلٌ بقُبحِه، أو مُعتَقِدٌ للحاجةِ (1) إليه.

فإذا كانَ الجوابُ بالإثباتِ أو بالنفيِ يَنقُضُ بعضَ هذه الأُصولِ المُقرَّرةِ ، و كذلكَ إن نَفَينا كَونَه قادراً علَى الظُّلمِ هَرَباً مِن لُزومِ عُهدةِ هذا السؤالِ ، وجبَ الامتناعُ مِن الجوابِ بما يَنقُضُ المَعلومَ (2) بالأدلّةِ . و لَم يَثبُتْ للسائل بدَليلٍ صحيحٍ أنّه قادرٌ علىٰ فِعلٍ يَفعَلُه لا في مَحَلٍّ فيُجوِّزَ وجودَه، و يَمنَعَ ممّا يؤَدّي إليه؛ لأنّا علَى اعتبارِ ذلكَ و تأمُّلِهِ ، و لهذا الاعتبارِ و لِما يؤَدّي إليه يُحكَمُ بفَسادِه.

و لو ساغَ (3) مِثلُ هذا الاعتراضِ ، لَساغَ لكُلِّ مُبطِلٍ أن يَتمسَّكَ بالباطلِ و يَمتَنِعَ

ص: 287


1- . اللام في قوله: «للحاجة» للتقوية، لا للعلّة.
2- . في الأصل: «العلوم»
3- . في الأصل: «شاع».

ممّا(1) يؤَدّي إليه، فيَقولَ : «إنّه تَعالىٰ جسمٌ »، فإذا ألزَمناه أن يَكونَ مُحدَثاً، امتَنَعَ مِن ذلكَ و قالَ : «دَلالَةُ قِدَمِه تُوَقّيني مِن ذلكَ ، فأنا أُثبِتُه جسماً، و أمتَنِعُ مِن حُدوثِه؛ قياساً علَى امتناعِكم في الظُّلمِ ». و هذا ظاهِرُ الفَسادِ؛ لِما ذَكَرناه.

و ممّا يَدُلُّ (2) علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ بعِلمٍ مُحدَثٍ : أنّ العِلمَ يَمنَعُ مِن قَبيلِ ضِدِّه؛ لِما عَلَيه في ذاتِه، كما أنّ إيجابَه للحالةِ المخصوصةِ راجعٌ أيضاً إلىٰ ذاتِه، و وجودَه غَيرُ مانعٍ مِن ضِدِّه. فوجودُه غَيرُ موجِبٍ للحالِ التي تَحصُلُ (3) للعالِمِ به في إيجابِ خُروجِه عمّا هو عَلَيه في ذاتِه. و كَونُه تَعالىٰ عالِماً بذاتِه لِجَميعِ المعلوماتِ ، يَقتضِي استحالةَ وجودِ ضِدِّ هذا العِلمِ . و هذا يَقتَضي كَونَ ذلكَ العِلمِ غَيرَ مانعٍ مِن قبيلِ ضِدِّه، و قد بَيَّنّا فَسادَ ذلك.(4)

و علىٰ مِثلِ هذه الطريقةِ اعتَمَدنا فيما مَضىٰ مِنَ الكتابِ علىٰ أنّ القَديمَ لا ضِدَّ له.(5)

و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَقدِرُ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ علىٰ بعضِ ما يَقدِرُ عَلَيه لنفسِه: فهو أنّ ذلكَ يَقتَضي أنّ وجودَ تلكَ القُدرةِ كقُدرتِه في جميعِ الأحكامِ المعقولةِ ، و مِثلُ ذلكَ معلومٌ فَسادُه.

و الذي يَدُلُّ علىٰ ما ذَكَرناه: هو أنّه لا يُمكِنُ أن يُقالَ : مع وجودِها يَصِحُّ حُدوثُ

ص: 288


1- . في الأصل: «بما»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «و يمنع ممّا يؤدّي إليه».
2- . هذا هو الدليل الثاني على أنّه تعالى لا يعلم بعلم محدَث بعضَ ما يعلمه لنفسه، و قد تقدّم الدليل الأوّل قبل صفحات، و أشرنا إليه في الهامش.
3- . في الأصل: «يحصل»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «الحال»، و «التي» قرينة عليه.
4- . تقدّم في صدر هذا الدليل.
5- . تقدّم في ص 58.

مقدورِها؛ لأنّه مِن حَيثُ كانَ (74) قادراً لنفسِه يَجِبُ أن يَقدِرَ علىٰ كُلِّ ما يَصِحُّ أن

يَكونَ مقدوراً له، و مقدورُ هذه القُدرةِ يَصِحُّ كَونُه مقدوراً له، فيَجِبُ أن يَكونَ قادراً عليه. و لا يَكونُ لحُدوثِ هذه القُدرةِ تأثيرٌ في صحّةِ وجودِه.

و لا يَصِحُّ أن يقالَ : إنّما يَمنَعُ وجودُها مِن وجودِ ضِدِّها؛ لأنّ الدليلَ قد دَلَّ علىٰ أنّه لا ضِدَّ لها، و لهذا لَم نَعتَمِدْ في نَفيِ القُدرةِ المُحدَثةِ هاهنا علىٰ ما اعتَمَدنا عليه في نَفيِ العِلمِ ؛ مِن اعتبارِ القُدرةِ علىٰ ضِدِّه. علىٰ أنّه لَو ثَبَتَ للقُدرةِ ضِدٌّ لَكانَ وجودُه مُمتَنِعاً، لا لِمَكانِها بل لكَونِه قادراً لذاتِه.

و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّها تَتعلَّقُ مع الوجودِ؛ لأنّه: لا يَصِحُّ أن تَتعلَّقَ و لا تأثيرَ لها في صحّةِ وجودِ المقدورِ.

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ فَسادِ ذلكَ : أنّ فيه إيجاباً لِكَونِ المقدورِ الواحدِ مقدوراً مِن وَجهَينِ ، و ذلك يَبطُلُ بما يَبطُلُ به كَونُ المقدورِ مِن الواحدِ مقدوراً بقُدرتَينِ .

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَقدِرُ بقُدرةٍ مُحدَثةٍ : ما تَقدَّمَ مِن اعتبارِ(1) حُكمِ القُدرةِ ،(2)و أنّ الفِعلَ لا يَصِحُّ بها إلّابَعدَ استعمالِ مَحَلِّها في الفِعلِ أو سببِه، و ذلكَ يَمنَعُ مِن وجودِها لا في مَحَلٍّ ، و هو الوَجهُ الذي تعلَّقت [به] بالقَديمِ تَعالىٰ لَو تَعلَّقت عَلَيه.

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يَصِحُّ أن يَحيا بحَياةٍ مُحدَثةٍ و إن كانَ حَيّاً لنفسِه: فهو ما تَقدَّمَ مِن اعتبارِ حُكمِ الحَياةِ ، و أنّ وجودَها في غَيرِ مَحَلٍّ لا يَصِحُّ ، فلا معنىٰ لإعادتِه.(3)

***

ص: 289


1- . في الأصل: + «كون»، و هو زائد.
2- . تقدّم في ص 256، و حكم القدرة هو صحّة الفعل.
3- . راجع: ص 257-258 و 266-267.
د فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّ هذه الأحوالَ لِمَعانٍ قَديمةٍ
الدليل الأوّل
اشارة

[الدليل الأوّل](1)

الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أنّه كانَ يَجِبُ في هذه المَعاني القَديمةِ أن تَكونَ (2) مِثلَه، و أن تَستَحِقَّ مِثلَ ما يَستَحِقُّه تَعالىٰ مِن الصفاتِ الراجعةِ إلىٰ ذاتِه. و أنّه يَستَحِقُّ هو تَعالىٰ مِثلَ ما تَستَحِقُّه هي مِن الصفاتِ الراجعةِ إلىٰ ذَواتِها، و هذا يَقتَضي أن يَكونَ في نفسِه علىٰ صفة العِلمِ و القُدرةِ و الحَياةِ ، فيَكونَ عِلماً عالِماً، و قُدرةً قادراً. و كذلكَ تَكونُ هذه الصفاتُ علىٰ مِثلِ ما هو عَلَيه، فتَكونَ عالمةً قادرةً ، و أن تَكونَ

لبعضِها صفةُ بعضٍ ؛ لاشتراكِ الكُلِّ في القِدَمِ المُستَحَقِّ للنفسِ ، و يَقتضي ذلكَ الاستغناءَ بمعنىً واحدٍ مِنها عن جميعِها. و هذا إن جازَ جازَ الاستغناءُ بذاتِه عن جميعِ المعاني.

و هذا الكلامُ لا بُدَّ فيه مِن بَيانِ أُصولٍ :
اشارة

أوّلُها: أنّه تَعالىٰ مُخالِفٌ لغَيرِه.

و ثانيها: أنّه إنّما يُخالِفُ ما يُخالِفُه بكَونِه قَديماً.

ص: 290


1- . سوف يأتي الدليل الثاني في ج 1، ص 309. ثمّ إنّ المصنّف سوف يذكر في هذا الفصل المطوَّل عشرة أدلّة علىٰ بطلان المعاني القديمة، و بعض هذهِ الأدلة عام، و بعضها الآخر خاصّ بصفة معيّنة كالعلم أو القدرة أو الحياة.
2- . في الأصل: «يكون». و هكذا الكلام في قوله: «و أن تستحقّ » و «مثل ما تستحقّه هي».

و ثالثُها: أنّ ما شارَكَه في هذه الصفةِ يَجِبُ أن يَكونَ مِثلاً له و مُشارِكاً في سائرِ صفاتِ نفسِه، و أنّه يَستَحيلُ علَى الذاتَينِ أن يَتَّفِقا مِن وَجهٍ و يَختَلِفا مِن آخَرَ.

و رابعُها: كيفيّةُ لُزومِ ما ذَكَرناه مِنَ الكَلامِ لهم.

الأصل الأوّل: في أنّه تعالىٰ مخالفٌ لغيره

فأمّا الكلامُ على الأصلِ الأوّلِ ، فإنّه تَعالىٰ مُخالِفٌ لغَيرِه ظاهرٌ.(1) [و] معلومٌ (2) أنّ كُلَّ ذاتَينِ لا بُدَّ فيهما(3) مِن أحَدِ أمرَينِ : إمّا أن يَكونَ كُلُّ واحدةٍ (4) مِنهما تَسُدُّ(5) مَسَدّ الأُخرىٰ فيما يَرجِعُ إليها، أو لا يَكونَ كذلكَ . و الأوّلُ : هو الحُكمُ الذي يُعَبَّرُ عنه ب «التماثُلِ ». و الثاني: هو الذي نُسَمّيهِ : «المُخالَفَةَ ».

و قد ثَبَتَ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يَجِبُ له مِن الصفاتِ - كَكَونِه(6) قَديماً و عالِماً و قادراً و حَيّاً - ما لا يَجِبُ لغَيرِه، و يَستَحيلُ عَلَيه مِن الصفاتِ - كالتحيُّزِ و الحُلولِ [و] أن يَكونَ في جهةٍ إلىٰ غَيرِ ذلكَ - ما(7) لا يَستَحيلُ علىٰ غَيرِه. فيَجِبُ أن يَكونَ مُخالِفاً لغَيرِه؛ لأنّه لَيسَ معنَى الخِلافِ أكثَرَ ممّا ذَكَرناه.

الأصل الثاني: في أنّه تعالىٰ إنّما يخالِف ما يخالِفه بكونه قديماً
اشارة

و أمّا (75) الكلامُ علَى الأصلِ الثاني، فهو أنّه إذا ثَبَتَ كَونُه تَعالىٰ مُخالِفاً لغَيرِه،

ص: 291


1- . في الأصل: «و ظاهر» بالواو.
2- . في الأصل: + «أنّه معلوم».
3- . في الأصل: «فيها».
4- . في الأصل: «واحد».
5- . في الأصل: «يسدّه».
6- . في الأصل: «لكونه».
7- . في الأصل: «ممّا».

لَم يَخلُ مِن أن يُخالِفَه بكَونِه ذاتاً، أو لوجودِ معنىً و إن لَم توجَدْ له صفةٌ ، أو لاختصاصِه بصفةٍ .(1)

و إنّما قُلنا ذلكَ لأنّه لا بُدَّ ممّا ذَكَرناه؛ مِن حَيثُ لا يَصِحُّ أن يُخالِفَ ما يُخالِفُه لا لِوَجهٍ ؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي أنّه لَيسَ بأن يَكونَ مُخالِفاً أَولىٰ مِن أن يَكونَ مُماثِلاً.

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لَم يُخالِفْ بكَونهِ ذاتاً: أنّ مُخالِفَه أيضاً ذاتٌ ، و لَيسَ يَجوزُ

أن يُخالِفَه و يَتميَّزَ مِنه بما(2) يَشتَرِكانِ فيه.

و لا يَجوزُ أن يُخالِفَه لوجودِ معنىً ؛ لأنّ الكلامَ في ذلك المعنى كالكلامِ فيه، في أنّه لا بُدَّ أن يَكونَ مُخالِفاً لغَيرِه أو مُماثِلاً، فكانَ (3) يَجِبُ مِن إثباتِ المَعاني ما لا يَتَناهىٰ .

و أيضاً فكانَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَه مُخالِفاً لِما لَيسَ بقَديمٍ ، إلّامَن عَلِمَ ذلكَ المَعنَى الذي أُسنِدَ الخِلافُ إليه؛ لأنّ ما(4) يؤَثِّرُ في الخِلافِ يَجري مَجرىٰ ما يؤَثِّرُ في الحُسنِ و القُبحِ (5) و الوُجوبِ ، فكما أنّه لا يَصِحُّ أن يَعلَمَ كَونَ الشيءِ حَسَناً أو قَبيحاً أو واجباً، إلّامَن عَلِمَ الوَجهَ المؤَثِّرَ في ذلكَ إمّا علىٰ جُملةٍ أو تَفصيلٍ ، فكذلكَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَ كَونَ الشيءِ مُخالِفاً إلّامَن عَلِمَ المؤَثِّرَ في ذلكَ . و قد عَلِمنا فَسادَ ذلكَ ، و أنّ أحَدَنا يَعلَمُ مُخالَفةَ الذاتِ لغَيرِها، مِن غَيرِ أن يَعلَمَ معنىً آخَرَ.

فلَم يَبقَ إلّاأنّه إنّما يُخالِفُ لاختصاصِه بصفةٍ .

و لَم تَخلُ تلكَ الصفةُ مِن أحَدِ أُمورٍ:

ص: 292


1- . فهذه ثلاثة شقوق، و الأخير هو المطلوب.
2- . في الأصل: «ممّا».
3- . في الأصل: «و كان».
4- . في الأصل: «ما لا»، و الظاهر زيادة: «لا».
5- . في الأصل: «الحسن و القبيح».

إمّا أن تَكونَ (1) من صِفاتِ الأفعالِ .

و إمّا أن تَكونَ مِن الصفاتِ الراجعةِ إلى المَعاني الواجبةِ عنها؛ نَحوَ كَونِه مُريداً أو كارِهاً.

و إمّا أن تَكونَ مِن الصفاتِ التي تُستَحَقُّ (2) لا للنفسِ و لا للعِلَلِ ؛(3) نَحوَ كَونِه مُدرِكاً.

و إمّا أن تَكونَ ممّا يرجِعُ إلَى النفيِ ؛ نَحوَ كَونِه غَنيّاً و واحِداً.

و إمّا أن تَكونَ مِن الصفاتِ التي تَختَصُّه و تَجِبُ له في كُلِّ حالٍ ؛ نَحوَ كَونِه موجوداً قادراً عالِماً حَيّاً، علَى الوَجهِ الذي استَحقَّها عَلَيه مِن الوجوبِ ؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يُخالِفُ مِن حَيثُ كانَ إلهاً؛ لأنّ المُستَفادَ بهذه الصفةِ كَونُه قادراً على النِّعَمِ المخصوصةِ التي يَستَحِقُّ مِن أجلِها العبادةَ ، و هذا يَدخُلُ فيما قُلناه مِن كَونِه قادراً.(4)

و الّذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يُخالِفُ ما خالَفَه بصفاتِ الأفعالِ : أنّ الدليلَ قد دَلَّ على أنّه لا حالَ للفاعلِ بكَونِه فاعلاً، و ما لا يوجِبُ حالاً للذاتِ ، لا يَجوزُ أن يؤَثِّرَ في الخِلافِ علىٰ ما ذَكَرناه.

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لا حالَ للفاعلِ بكَونِه فاعلاً:

[1.] [أنّه كانَ يجبُ أن يَستحيلَ الفعلُ ](5) للضِدَّينِ في مَحَلَّينِ في حالٍ واحدةٍ ،

ص: 293


1- . في الأصل: «يكون».
2- . في الأصل: «يستحقّ ».
3- . أي المعاني.
4- . فهذهِ خمسة شقوق، و الأخير هو المطلوب.
5- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و بدونه لا يستقيم المعنى. و للمزيد راجع: المغني، ج 6، ص 47-50.

كاللَّونَينِ (1) و السَّوادِ و البَياضِ مِنه تَعالىٰ . كما يَستَحيلُ وجودُ العِلمِ في جُزءٍ [مِن أجزائِهِ و الجَهلِ في جُزءٍ ](2) آخَرَ في حالٍ واحدةٍ ؛ لاقتضاءِ ذلكَ كَونَه على صفتَينِ مُتَضادّتَينِ .

[2.] و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَستَحِيلَ أن يَفعَلَ الفاعلُ في غَيرِه؛ لأنّ ما يوجِبُ الحالَ للذاتِ لا يُجيزُ(3) غَيرَها.

[3.] و [كانَ ] يَصِحُّ أيضاً أن يُعلَمَ الفاعلُ فاعلاً و إن لَم يُعلَم فِعلُه، لا علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تَفصيلٍ ، كما أنّ المُريدَ و العالِمَ لمّا كانَ لهما حالانِ ، جازَ أن يُعلَمَ العالِمُ عالِماً و المُريدُ مُريداً و إن [لَم](4) يُعلَمِ العِلمُ و لا الإرادةُ علَى الجُملةِ و التفصيلِ .

علىٰ أنّ القولَ بأنّ الفاعلَ مُخالِفٌ بكَونِه فاعلاً باطلٌ ، لَو سَلَّمنا أنّ له بذلكَ حالاً؛ مِن حَيثُ يؤَدّي إلىٰ تَجدُّدِ كَونِه مُخالِفاً؛ لأنّ الفِعلَ مُتجدِّدٌ، و قد عَلِمنا أنّ الخِلافَ و الوِفاقَ (76) لا يَتجدَّدُ في الذَّواتِ .

علىٰ أنّ ذلكَ يوجِبُ أن يَكونَ ما يَستَحيلُ عَلَيه الفِعلُ مِنَ الأعراضِ و غَيرِها غَيرَ مُوافِقٍ و لا مُخالِفٍ ، و يؤَدّي إلىٰ أن تَكونَ (5) مُخالَفةُ الشيءِ لغَيرِه [راجعةً ] إلىٰ جُملةِ الفاعلِ دونَ أجزائه، و كُلُّ ذلكَ فاسِدٌ.

و بَعدُ فقَد دَلَّتِ الأدلّةُ علىٰ جَوازِ خُلُوِّ الفاعلِ مِن فِعلِه عندَ عدمِ (6) الدَّواعي المُلجِئةِ ، فيَجِبُ جَوازُ خُلُوِّه مِن أن يَكونَ مُوافِقاً أو مُخالِفاً لغَيرِه.

ص: 294


1- . كذا في الأصل.
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و به يتمّ معنى العبارة.
3- . في الأصل: «لا يحيل».
4- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه بقرينة قوله: «و لا الإرادة على الجملة و التفصيل».
5- . في الأصل: «يكون».
6- . في الأصل: «عدد» بدل «عدم».

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ ما قُلناه مِن «أنّ ما به يَقَعُ الخِلافُ لا يَتجدَّدُ»، بما يَقولُه(1)، مِن «أنّ الجَوهرَ يُخالِفُ غَيرَه بتحيُّزِه، و هو مُتجدِّدٌ، و الخِلافُ غَيرُ مُتجدِّدٍ».

و ذلكَ : أنّا إنّما أنكَرنا أن يَكونَ الخِلافُ مقصوراً على الصفةِ المُتجدِّدةِ ، و ما يَقولُه في تَحيُّزِ الجَوهرِ بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّ خِلافَه لغَيرِه لَيسَ مقصوراً علَى التحَيُّزِ، بل يُخالِفُ أيضاً بكَونِه جَوهراً. و لَيسَ يَمتَنِعُ أن تؤَثِّرَ الصفتانِ معاً في الخِلافِ ، و يَثبُتَ بثُبوتِ كُلِّ واحدةٍ منهما. و لا يَقِفُ حُكمُه علَى اجتماعِهما؛ مِن حَيثُ كانَت كُلُّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ تَنوبُ في التأثيرِ مَنابَ الأُخرىٰ .

فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يُخالِفُ غَيرَه بالصفاتِ المُستَحَقّةِ عَن العِلَلِ (2)؛ نَحوَ كَونِه مُريداً و كارهاً: فهو ما تَقدَّمَ ؛ مِن أنّ الخِلافَ غَيرُ مُتجدِّدٍ، و هذه الصفاتُ مُتجدِّدةٌ .

و أيضاً: فإنّه قد يُشارِكُه في الصفاتِ و في كيفيّةِ استحقاقِها مَن لَيسَ مِثلاً له؛ نَحوَ مُشارَكةِ أحَدِنا له في كَونِه مُريداً لِما يُريدُه علَى الوَجهِ الذي أرادَه.

علىٰ أنّ الخِلافَ لَو كانَ واقعاً بصفاتِ المَعاني، لَاستحالَ في الأعراضِ أن تَكونَ مُخالِفةً بعضُها لبعضٍ ؛ لاستحالةِ ذلكَ فيها.

و قولُهم: «إنّ الأعراضَ خِلافٌ ، فلا يَجوزُ أن تَكونَ مُختلِفةً في نُفوسِها، كما أنّ ما به تَحرَّكَ الجسمُ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُتحرِّكاً» تَعلُّقٌ بعبارةٍ لا يُجدي شَيئاً؛ لأنّ الأعراضَ تُشارِكُ الأجسامَ في معنَى الاختلافِ و الاتِّفاقِ ، و لَيسَ تُشارِكُ (3)

ص: 295


1- . في الأصل: «بما هو له»، و هو لا محصّل له في المقام، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله بعدقليل: «و ما يقوله». و الظاهر أنّ الصحيح في كلا الموردين: «نقوله».
2- . أي المعاني.
3- . في الأصل: «يشارك».

الحركةُ المُتحرِّكَ (1) فيما كانَ له مُتحرِّكاً.

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ صِفاتِ العِلَلِ لا يَقَعُ بها الاختلافُ : أنّ القولَ بذلك يؤَدّي إلىٰ كَونِ الذاتِ مُخالِفةً لغَيرِها و موافِقةً لها، إذا تَعَلَّقَ بها مَعنَيانِ مُختَلِفانِ و مَعنَيانِ مُتَماثِلانِ ، و ذلكَ يَقتَضي أن لَو وَجَدنا ما يَنفيهما أن يَنتَفيا مِن حَيثُ كانا مِثلَينِ ، و لا يَنتَفيا مِن حَيثُ كانا مُختَلِفَينِ . و فَسادُ ذلكَ يَقتَضي فَسادَ ما أدّىٰ إليه.

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ بُطلانِ ذلكَ : أنّه يؤَدّي إلىٰ كَونِ الجَوهرِ مُخالِفاً لنفسِه إذا اسوَدَّ بَعدَ بَياضٍ ؛ لأنّه إنّما يُخالِفُ لكَونِه أسوَدَ ما كانَ أبيَضَ . فيَجِبُ إذا اجتَمَعَ له الوَصفانِ في وَقتَينِ ، أن يَكونَ في أحَدِ الوَقتَينِ مُخالِفاً لنفسِه في الوَقتِ الآخَرِ. و يَجِبُ أيضاً متىٰ حَصَلَ فيه السَّوادُ و الحُموضةُ في وَقتٍ واحدٍ، أن يَكونَ مُختَلِفاً في نفسِه؛ مِن حَيثُ حَصَلَ علَى الصفتَينِ اللّتَينِ بحُصولِ الذاتَينِ عَلَيهما يَختَلِفانِ .

و لا يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ القَديمُ تَعالىٰ مُختَلِفاً في نفسِه، مِن حَيثُ استَحَقَّ صفاتٍ مُختَلِفةً لنفسِه؛ لأنّ المُخالِفَ عندَنا لَم يَكُن مُخالِفاً لغَيرِه مِن حَيثُ اختَصَّ بصفةٍ تُخالِفُ صفةَ مُخالِفِه، و إنّما يُخالِفُه(2) لاختصاصِه بصفةٍ لَيسَ مُخالِفُه عَلَيها.(3) فما قُلناه لا يَتَأتّىٰ في الذاتِ الواحدةِ ؛ لأنّها مُحالٌ أن تَكونَ علىٰ صفةٍ لَيسَت هي عَلَيها.

ص: 296


1- . في الأصل: «التحرّك». و للمزيد راجع: المغني، ج 11، ص 458.
2- . في الأصل: «تخالفه»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «المخالف».
3- . نقل المقري النيسابوري هذه العبارة من كتاب الملخّص، حيث قال: «و قد قال المرتضىٰ (رضي اللّٰه عنه و أرضاه) في الكتاب الملخّص: إنّ المخالف عندنا لم يكن مخالفاً لغيره من حيث اختصَّ هو بصفة تخالف صفة مخالفه، و إنّما يخالفه لاختصاصه لصفة ليس مخالفه عليها». (الحدود، ص 28-29).

و يَلزَمُ مَن رَجَعَ بالخِلافِ إلى استحقاقِ الصفاتِ (77) المُختَلِفةِ ، أن تَكونَ الذاتُ الواحِدةُ مُختَلِفةً ؛ لحُصولِها علىٰ ما لَو حَصَلَت عليه الذاتانِ لَاختَلَفَتا.

و الذي يُبيِّنُ أنّه لا يَجوزُ أن يُخالِفَ بما يَستَحِقُّه لا لنفسِه و لا لمعنىً ؛ كنَحوِ كَونِه مُدرِكاً، فما ذَكَرناه، مِن أنّ الخِلافَ إذا كانَ لا يَتجدّدُ بل هو مُستَمِرٌّ، فمُحالٌ كَونُ مُقتَضيهِ مُتجدِّداً، و كَونُه مُدرِكاً مُتجدِّدٌ(1).

و لأنّا نُشارِكُه في هذه الصفةِ و كيفيّةِ استحقاقِها، و إن لَم نَكُن(2) مُماثِلينَ له.

فأمّا ما يُفيدُ النفيَ (3)؛ مِثلُ كَونِه غَنيّاً و واحِداً: فلا يَجوزُ أن يَكونَ مُؤَثِّراً في الخِلافِ ؛ لأنّ المؤَثِّرَ في ذلكَ يَجِبُ فيه الاختصاصُ ، و النفيُ لا يَختَصُّ ، و لهذا يَشتَرِكُ فيه المُختَلِفانِ .

فلَم يَبقَ بَعدَ ما أبطَلناه إلّاأن يَكونَ مُخالِفاً بالصفاتِ التي يَستَحِقُّها علىٰ سَبيلِ الوجوبِ ؛ نَحوَ كَونِه قَديماً عالِماً قادراً حَيّاً.

بيان كيفيّة مخالفته تعالىٰ لغيره بواسطة صفاته الواجبة

و لَيسَ يَخلو مِن أن يُخالِفَ ما يُخالِفُه بمَجموعِها(4)، أو بكُلِّ واحدةٍ منها. و ما اقتَضىٰ كَونَه مُخالِفاً بمَجموعِها(5)، يَقتَضي كَونَه مُخالِفاً بكُلِّ واحدةٍ مِنها؛ لأنّ استحقاقَه لكُلِّ واحدةٍ علىٰ حَدِّ استحقاقِه للجَميعِ ، فلَو خالَفَ بالجَميعِ ، لَم يَكُن ذلكَ إلّالوجوبِها له. و هذا قائمٌ في كُلِّ واحدةٍ .

ص: 297


1- . في الأصل: «يتجدّد».
2- . في الأصل: «لم يكن».
3- . مِن الصفات.
4- . في الأصل: «لمجموعها».
5- . في الأصل: «لمجموعها».

و بمِثلِ ذلك يُعلَمُ أنّه لا يَجوزُ أن يُخالِفَ بواحدةٍ دونَ غَيرِها؛ لِتَساوي الكُلِّ ، و استحالةِ كَونِ بعضِه مؤَثِّراً دونَ بعضٍ ؛ و لأنّه لا يَجوزُ أن يَستَحِقَّ بعضَها إلّامَن(1)استَحَقَّ سائرَها، علىٰ ما سَنَذكُرُه.

وجه مخالفته تعالىٰ لغيره، مع اشتراكه معه في الصفات
اشارة

فإن قيلَ : كيفَ يُخالِفُ بهذه(2) الأحوالِ التي ذَكَرتُم، و أحَدُنا(3) يَستَحِقُّ هذه الأحوالَ ، و يُشارِكُ القَديمَ تَعالىٰ فيها أجمَعَ ؛ و مِن شأنِ ما خالَفَ به الشيءُ غَيرَه أن لا يُشارِكَه فيه المُخالِفُ؟

و لَيسَ لكُم أن تَقولوا: إنّنا(4) لا نشاركه في كَونِه قَديماً؛ لأنّكم أوّلاً قد سَوَّيتُم في الخِلافِ بَينَ كَونِه قَديماً و سائرِ الصفاتِ . و لأنّ ما يَرجِعُ إلى الإثباتِ في هذه الصفةِ هو الوجودُ، و نَحنُ مُشارِكونَ فيه، و ما يُفيدُ النفيَ مِن أنّه لا ابتداءَ لوجودِه، فإنّه لا(5) اعتبارَ به في الخِلافِ .

أوّلاً: بيان المصنّف

قُلنا: إنّ القَديمَ و إن استَحَقَّ مِن هذه الصفاتِ ما يَستَحِقُّها غَيرُه، فقَد استَحَقَّها علىٰ خِلافِ الوَجهِ الذي استَحَقَّها كُلُّ مُستَحِقٍّ عَلَيه. و لا فَصلَ بَينَ أن يُخالِفَ غَيرَه و يَتميَّزَ مِنه باستحقاقِ صفاتٍ علىٰ وجوهٍ يَستَحيلُ (6) استحقاقُ غَيرِه لها علىٰ تلكَ

ص: 298


1- . في الأصل: «ما».
2- . في الأصل: «هذه».
3- . في الأصل: «واحداً».
4- . في الأصل: «إن».
5- . في الأصل: «و لا» بدل «فإنّه لا».
6- . في الأصل: «تستحيل»، و هو خطأ؛ لأنّ الفاعل هو «استحقاق غيره لها».

الوجوهِ ، و بَينَ أن يَتميَّزَ بصفةٍ (1) لا يُشارِكُه فيها؛ لأنّه متىٰ بانَ مِن غَيرِه بصفةٍ ، كانَ وجهُ إبانَتِه و مُخالَفتِه أنّه اختَصَّ (2) لذاتِه بما لَم يُشارِكْه فيه، فكذلكَ يَجِبُ إذا اختَصَّ لذاتِه بأن يَستَحِقَّ (3) صفاتٍ علىٰ وجوهٍ يَستَحيلُ في كُلِّ مُستَحِقٍّ أن يَستَحِقَّها عليها، أن يَحصُلَ الإبانةُ و التميُّزُ.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إذا لَم يُخالِف بنفسِ الصفاتِ ، كيفَ يُخالِفُ بكيفيّةِ

استِحقاقِها، و الخِلافُ في الذواتِ [لا بدّ](4) أن يَعودَ إلى الصفاتِ؟(5)

و ذلكَ : أنّه يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الخِلافَ في الحقيقةِ يَحصُلُ بهذه الصفاتِ مِن حيثُ استُحِقَّت علىٰ هذه الوجوهِ المخصوصةِ ، فلَم يَعُدِ الخِلافُ إلّاإلى الصفاتِ .

و أمّا كونُه قَديماً، و أنّ معناه أنّه لا ابتداءَ لوجودِه: فإنّ ذلكَ و إن كانَ لفظُه لفظَ النفيِ ، فلَيسَ بنَفيٍ علَى الحقيقةِ ، بل يَقتَضي استمرارَ الوجودِ في كُلِّ حالٍ فيما [لَم] يَزَلْ .

ثانياً: بيان أبي هاشم الجبّائي

فأمّا أبو هاشمٍ ، (78) فإنّه لهذا المعنىٰ أثبَتَ له تَعالىٰ صفةً ذاتيّةً ، تَقتَضي(6) كَونَه علىٰ هذه الأحوالِ ، و جَعَلَ الخِلافَ مُستَنِداً إليها. و كانَ يَقولُ :

إذا لم يَصِحَّ أن يُخالِفَ الشيءُ غَيرَه بما يُشارِكُه فيه، لَم يَجُز أن يُخالِفَ

ص: 299


1- . في الأصل: «لصفة».
2- . في الأصل: «أخصّ »، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «بما»، و «إذا اختصّ لذاته».
3- . في الأصل: «لا يستحقّ »، و الصحيح ما أثبتناه بشهادة السياق.
4- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «فلم يعد الخلاف إلّاإلى الصفات» قرينة عليه.
5- . لا إلىٰ كيفيّة استحقاقها فقط.
6- . في الأصل: «يقتضي».

القَديمُ تَعالىٰ مَن(1) خالَفَه بهذه الصفاتِ ؛ لوقوعِ الاشتراكِ فيها. و كذلك لا يَجوزُ أن يُخالِفَ [بجهةِ ] استِحقاقِها(2)؛ لأنّ معنىٰ ذلكَ يَقولُ إلَى النفيِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ قولَنا: «لا أوّلَ لوُجودِه، و إنّه لا يَحتاجُ في وجودِه إلىٰ موجِدٍ، [و] إنّ العدمَ يَستَحيلُ عَلَيه»، كُلُّه نفيٌ؟ و بالنفيِ لا تَختَلِفُ (3) الذواتُ . و أمّا جهةُ استحقاقِ الصفةِ ، فالمَرجِعُ فيه عندَ التحقيقِ إلَى النفيِ ؛ لأنّ معناه أنّه يَستَغني في استحقاقِها عن عِلّةٍ و فاعلٍ .

و يُمكِنُ أن يُقالَ : لَو خالَفَ تَعالىٰ غَيرَه بكَونِه قادراً علىٰ ما قَدَرَ عليه، مِن حَيثُ لَم يَصِحَّ أن يُشارِكَه في هذه الصفةِ (4)، لَوجبَ في زَيدٍ إذا كانَ قادراً علىٰ ما لَم يَصِحَّ أن يَقدِرَ عليه عَمرٌو أن يَكونَ مُخالِفاً له، و كانَ يَنبَغي أن تؤَثِّرَ هذه الصفةُ في الخِلافِ فينا كما أثَّرَت فيه تَعالىٰ .

علىٰ أنّ ما [به] تُخالِفُ (5) الذاتُ غَيرَها، لا يَجوزُ أن يَكونَ مشروطاً و لا مُتعلِّقاً في الثُّبوتِ أو الصحّةِ بغَيرِه. و كونُ القادرِ قادراً يَترتَّبُ علىٰ كَونِه موجوداً و حَيّاً.

و ممّا يُقالُ في نُصرةِ طريقةِ أبي هاشِمٍ : إنّ كُلَّ ذاتٍ فلا بُدَّ أن تَختَصَّ بصفةٍ ، لَو كانَت مَرئيَّةً لَرُئيَت(6) عليها، و لَفُصِلَ عندَ الإدراكِ بَينَها و بَينَ ما خالَفَها لأجل تلكَ الصفةِ . و هذا الحُكمُ واجبٌ في كُلِّ ذاتٍ ؛ سَواءً كانَت مَرئيّةً ، أو ممّا يَستَحيلُ عليه

ص: 300


1- . في الأصل: «ما».
2- . في الأصل: «يخالف استحقاقها»، و ما أثبتناه استفدناه ممّا سوف يأتي بعد قليل من كلام أبي هاشم.
3- . في الأصل: «لا يختلف».
4- . في الأصل: «الصفات».
5- . في الأصل: «يخالف».
6- . في الأصل: «لرأيت».

الرؤيةُ ؛ لأنّ الأصلَ في اختلافِ الذواتِ و تَماثُلِها هو الإدراكُ ، و ما عدا الذواتِ المُدرَكاتِ محمولٌ في ذلكَ علَى المُدرَكاتِ .

و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، و لَم يَجُز أن يَكونَ القَديمُ (1) تَعالىٰ لَو كانَ مُدرَكاً يُدرَكُ

مِن حَيثُ كانَ موجوداً أو عالِماً أو حَيّاً أو قادراً؛ لأنّ غَيرَه يُشارِكُه في هذه الصفاتِ ، فلا يَجوزُ(2) أن يَكونَ مُدرَكاً عليها. و لا يُمكِنُ أن يُجعَلَ الإدراكُ مُتعلّقاً بكيفيّةِ الصفةِ دونَ نَفسِ الصفةِ ؛ لأنّ ذلكَ [لا](3) يُعقَلُ . فثَبَتَ أنّه لا بُدَّ مِن صفةٍ ، بها يُخالِفُ غَيرَه، لو أُدرِكَ (4) لَأُدرِكَ عليها.

و ممّا يَجِبُ أن يُعتَمَدَ أيضاً في ذلك:(5) أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ تَعالىٰ موجوداً لِذاتِه؛(6)لوجوبِ مُماثَلةِ ما شارَكَه في الوجودِ له، و قد عُلِمَ أنّ (7) مُخالِفَه يُشارِكُه في الوجودِ.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ عالِماً قادراً حَيّاً لذاتِه؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي كَونَه موجوداً لِما هو عليه في ذاتِه، و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّ المؤَثِّرَ في وجودِه كَونُه قادراً، مع أنّ كَونَه قادراً مشروطٌ بالوجودِ(8) و مُفتَقِرٌ إليه. و في هذا تَعلُّقُ كُلِّ واحِدٍ مِن الأمرَينِ بصاحبِه و افتقارُه إليه، فوجبَ إثباتُ صفةٍ ذاتيّةٍ غَيرِ هذه الصفاتِ ، تَستَنِدُ هذه الصفاتُ إليها.

ص: 301


1- . في الأصل: «قديماً».
2- . في الأصل: «و لا يجوز» بالواو، و التفريع على ما سبق يشهد على صحّة ما أثبتناه.
3- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «ولا يمكن» قرينة عليه.
4- . في الأصل: + «غيره لي»، و لا محصّل له.
5- . أي في نصرة طريقة أبي هاشم.
6- . بل لِما هو عليه في ذاته.
7- . في الأصل: «أنّه».
8- . في الأصل: «في الوجود».
الأصل الثالث: في أنّ ما شاركه تعالىٰ في القِدَم يجب أن يكون مِثلاً له
اشارة

و أمّا الكَلامُ علَى الأصلِ الثالثِ - و هو أنّ ما شارَكَه في هذه الصفةِ ، يَجِبُ أن يَكونَ مِثلاً له، و مُستَحِقّاً لكُلِّ ما يَستَحِقُّه لنفسِه -: فهو [أنّه] إذا ثَبَتَ بما ذَكَرناه أنّه مُخالِفٌ لغَيرِه [بكَونِه](1) قَديماً و ما جَرىٰ مَجراه، أو بالصفةِ التي اقتَضَت فيه هذه الصفاتِ ، وجبَ فيما شارَكَه في كَونِه قديماً أن يَكونَ مِثلاً له؛ لأنّ ما تُخالِفُ (2) به الذاتُ غَيرَها، فمَتىٰ شارَكَها فيه مُشارِكٌ كانَ مِثلاً لها؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ و الجَوهرَ لمّا خالَفا ما خالَفَهما (79) بهاتَينِ الصفتَينِ ، كانَ ما شارَكَهما فيها مِثلاً لهما؟ و كذلك إن كانَ الخِلافُ في التحقيقِ يَرجِعُ إلى الصفةِ الذاتيّةِ التي تَقتَضي(3) هذه الصفاتِ ، يَجِبُ فيما شارَكَه في هذه الصفات أن يَكونَ (4) في ذاتِه علىٰ مِثلِ تلكَ الصفةِ ، فيَكونَ مِثلاً له.

في بيان عدم اختلاف صفة الوجود في الذوات

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : ما أنكَرتُم أن تَكونَ صفةُ الوجودِ تَختَلِفُ في الذواتِ ، فلا نَمنَعُ أن يُشارِكَ القَديمُ في كَونِه قَديماً ما لَيسَ بمِثلٍ له، إذا لَم يَعُدِ الاتّفاقُ إلىٰ صفةٍ مُتَماثِلةٍ؟

و ذلك: أنّ الجِهاتِ التي يُعلَمُ منها اختلافُ الصفاتِ ، مفقودةٌ في صفةِ الوجودِ؛ لأنّ الصفتَينِ إنّما نَعلَمُ اختلافَهما بالإدراكِ ، أو بما يَجرِي مَجراه؛ نَحو الفَصلِ

ص: 302


1- . ما بين المعقوفين منّا، و به يستقيم المعنى، و قوله: «في كونه قديماً» قرينة عليه.
2- . في الأصل: «يحدث»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما بعده.
3- . في الأصل: «يقتضي».
4- . في الأصل: «تكون»، و رجوع الضمير إلى «ما» يؤيّد ما أثبتناه.

بَينَ كَونِ أحَدِنا مُريداً و ناظراً و مُعتَقِداً، أو نَعلَمُ اختلافَهما باختلافِ أحكامِهما؛ كعِلمِنا بمُخالَفةِ كَونِ القادرِ قادراً لكَونِه حَيّاً؛ لِاختلافِ الأحكامِ . و هذا كُلُّه

مفقودٌ في صفةِ الوجودِ، فيَجِبُ أن تَكونَ واحِدةً ؛ لأنّها لو كانَت كذلكَ لَم تَرِد علىٰ هذه الحالِ .

و أيضاً: فإنّ حُكمَ صفةِ الوجودِ هو ظُهورُ حُكمِ صفةِ النفسِ ، و هذا حُكمٌ واحِدٌ غَيرُ مُختَلِفٍ ، و تَتَّفِقُ (1) فيه الذواتُ الموجودةُ ، فيَجِبُ أن تَكونَ صفةً واحدةً .(2)

الوجوه الدالّة علَى أنّ الاشتراكَ في صفةٍ مِن صفاتِ النفسِ يقتضي الاشتراك في سائر الصفات النفسيّة

(80) و أمّا(3) الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الاشتراكَ في صفةٍ مِن صفاتِ النفسِ يَقتَضي الاشتراكَ في سائرِ الصفاتِ النفسيّةِ ، و أنّه لا يَجوزُ أن يَشتَرِكا في صفةٍ ذاتيّةٍ و يَفتَرِقا في أُخرىٰ حتّىٰ يَكونا مُختَلِفَينِ مِن وَجهٍ ، مُتَماثِلَينِ مِن آخَرَ؛ فوجوهٌ :

مِنها: أنّ المُقتَضيَ للصفةِ كالموجِبِ لها، فإذا كانَ ما أَوجَبَ صفةً أو صفاتٍ متىٰ حَصَلَ مِثلُه أوجَبَ ذلكَ . و كذلكَ المُقتَضي للصفاتِ ؛ فكما أنّ إثباتَ «ما تُشارِكُه(4)

ص: 303


1- . في الأصل: «و يتّفق».
2- . جاء في الأصل بعد هذا الكلام مايلي: «تَمَّ الجزء الأوّلُ مِنَ «الكتابِ المُلَخَّصِ في أصولِ الدِّينِ » و يَتلوه في الجُزءِ الثاني: «و أمّا الذي يَدُلُّ على [أنّ ] الاشتراكَ في صفةٍ مِن صفاتِ النفسِ ». وَقَعَ الفَراغُ مِن تَسويدِ هذا الجُزءِ ، و الحَمدُ للّٰهِِ رَبِّ العالَمينَ ، و صَلَّى اللّٰهُ عَلىٰ مُحمّدٍ و آلِه، و سَلَّمَ تسلِيماً كثيراً كثيراً كثيراً.» و هو تقطيع غير علمي، فإنّ البحث في الأصل الثالث المتقدّم لم ينته بعدُ، كما أنّ الأصل الرابع لم يأتِ بعدُ. و هذا يدلّ علىٰ أنّ تجزئة الكتاب لم تتمّ من قِبَل المصنّف، و ربّما قام بها بعض النسّاخ.
3- . جاء في الأصل قبل هذا: «بِسم اللّٰه الرحمنِ الرحيمِ ، رَبِّ وَفِّقْ لإتمامِه، و أمّا...» و قد حذفناه من المتن لِمَا تقدّم من أنّ هذا البحث هو استمرارٌ للفصل السابق، و ليس بداية لجزء أو فصل جديد.
4- . في الأصل: «يشاركه».

العِلّةُ فيما هي عليه في ذاتِها، ثُمّ لا يوجِبُ ما توجِبُه(1)» نَقضٌ لإيجابها، كذلكَ إثباتُ «ما يُشارِكُ الذاتَ فيما هي عليه، ثُمّ لا يَستَحِقُّ ما تَستَحِقُّه» نَقضٌ لاقتضائها و إيجابِها. إنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلىٰ أنّ الذاتَينِ يَتَّفِقانِ بنفسِ ما يَختَلِفانِ ، و إلىٰ أنّ الخِلافَ نفسَه وِفاقٌ ، و ذلكَ مُتَناقِضٌ .

و إنّما قُلنا ذلكَ لأنّ الذاتَ إذا اختَصَّت بصفتَينِ لِذاتِها، وَجبَ أن تُخالِفَ مُخالِفَها بكُلِّ واحدةٍ مِنهما مِن حَيثُ كانَتا ذاتيّتَين(2)؛ إذ الخِلافُ موقوفٌ علىٰ صفةٍ للذاتِ . و لَيسَ هي بأن تُخالِفَ ما خالَفَها بإحدَى الصفتَينِ بأَولىٰ مِن أن تُخالِفَه [بالصِّفةِ ] الأُخرىٰ ، فمَتىٰ شارَكَها مُشارِكٌ في إحدَى الصفتَينِ ، وجبَ أن يَكونَ

مُماثِلاً مِن حَيثُ يَجِبُ أن يَكونَ مُخالِفاً؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ كُلَّ واحدةٍ مِن الصفتَينِ إذا كانَتا ذاتيّتَينِ لا بُدَّ مِن أن تؤَثِّرَ في المُخالَفةِ .

و لَيسَ هذا مِن قولِنا في الشيءِ : «إنّه يَصِحُّ أن يَكونَ مَعلوماً مَجهولاً مِن وَجهَينِ ، و كذلكَ يَكونُ مُراداً مكروهاً» علىٰ هذا الوَجهِ [مِن] سَبيلٍ (3).

لأنّ الخِلافَ و الوِفاقَ يَرجِعُ إلىٰ أمرٍ واحدٍ و هو الذاتُ ، و العِلمُ يَتعلَّقُ بالشيءِ علىٰ وجهٍ و الجَهلُ علىٰ وَجهٍ آخَرَ، و كذلكَ الإرادةُ و الكَراهةُ . و لَيسَ يَجِبُ إذا كانَ معلوماً مِن وَجهٍ ، أن يَكونَ معلوماً مِن كُلِّ وَجهٍ . و قد بيّنّا أنّه إذا خالَفَ بصفةٍ ذاتيّةٍ ، و كانت هُناكَ أُخرىٰ تَجري مَجراها، فلا بُدَّ مِن أن يُخالِفَ (4) أيضاً بها.

ص: 304


1- . في الأصل: «يوجبه»، و رجوع ضمير الفاعل إلى «العلّة» يؤيّد صحّة ما أثبتناه.
2- . يمكن أن تقرأ هذهِ الكلمة بهذهِ الصورة، كما يمكن أن تُقرأ: «ذاتَين»، و الأنسب ما أثبتناه، ويدلّ عليه ما يأتي بعد قليل.
3- . في الأصل: «لسبيل»، و الصحيح ما أثبتناه، و قوله: «من وجهين» قرينة عليه.
4- . في الأصل: «تخالف»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «الشيء» في أوّل البحث.

و مِنها: أنّ هاتَينِ الذاتَينِ لَو كانَتا(1) مُدرَكَتَينِ ، لَوجبَ : التِباسُ إحداهما بالأُخرىٰ مِن حَيثُ التماثُلِ (2)، و أن يَفصِلَ المُدرِكُ بَينَهما، و لا يَلتَبِسا(3) عليه مِن حَيثُ التَّخالُفِ . و ذلكَ يَتَنافىٰ و يَتَناقَضُ .

و مِنها: أنّ الذاتَينِ لَو تَماثَلَتا مِن وَجهٍ و اختَلَفَتا مِن آخَرَ، لَوجبَ : إذا كانَتا مُحدَثَتَينِ و طَرَأَ ضِدٌّ عليهما أن يَنفِيَهما مِن وَجهٍ دونَ وَجهٍ ، و إن كانَتا قَديمَتَينِ أن يُذكَرَ(4) ذلكَ فيهما بالتقديرِ، فيُقالَ : «كانَ يَجِبُ لَو قُدِّرَ ضِدٌّ لهما أن يَنتَفِيا مِن وَجهٍ دونَ آخَرَ» و يَصِحُّ هذا التقديرُ و إنِ استَحالَ أن يَكونَ للقَديمِ ؛ لأنّه يُثمِرُ عِلماً بأنّ الشيئَينِ لا يَختَلِفانِ مِن وَجهٍ و يَتَّفِقانِ مِن آخَرَ. و كُلُّ تَقديرٍ يَجري هذا المَجرىٰ فهو صحيحٌ .

و مِنها: أنّ الذاتَ إنّما تُخالِفُ غَيرَها بالصفةِ التي تَدخُلُ بها في أن تَكونَ ذاتاً، و لَيسَ تَستَحِقُّ علىٰ هذا الوَجهِ إلّاصفةً واحدةً (5)، و ما عَدا هذه الصفاتِ ممّا يُقالُ : إنّه رُبَّما أثَّرَ في الخِلافِ ، فمُقتَضىً عن هذه الصفةِ و موجَبٌ عنها. و إذا ثَبَتَ ذلكَ فيَجِبُ فيما يُماثِلُ الذاتَ أن يُشارِكَه(6) في الصفةِ الذاتيّةِ و يُشارِكَه في مُقتَضاها؛ لأنّ

ص: 305


1- . في الأصل: «كانا».
2- . في الأصل: «التفاضل»، و الصحيح ما أثبتناه؛ إذ به يقع الالتباس، لا بالتفاضل، و هو واضح.
3- . في الأصل: «لا يلتبسان».
4- . في الأصل: «لذكر».
5- . نَقَل المقري النيسابوري هذه العبارة من كتاب الملخّص مع شي من الاختلاف، حيث قال: «وقد قال المرتضىٰ علمُ الهدىٰ (رضي اللّٰه عنه و أرضاه) في الكتاب الملخّص: الشيُ إنّما يخالف غيره بالصفة التي يدخل بها في كونه معلوماً، و ليس يستحقّ علىٰ هذا الوجه إلّاوصفاً واحداً» التعليق، ص 49.
6- . في الأصل: «شاركه»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «ويشاركه في مقتضاها».

المُشارَكةَ في المُقتَضي توجِبُ المشارَكةَ في المُقتَضىٰ ، فلا يَصِحُّ علىٰ هذا أن يَكونَ مِثلَينِ مِن وَجهٍ ، مُختَلِفَينِ مِن وَجهٍ آخَرَ.

و يَجِبُ (81) علىٰ هذه الجُملةِ أن لَو كانَ له تَعالىٰ عِلمٌ قَديمٌ - و هو تَعالىٰ إنّما استَحَقَّ كَونَه قَديماً لِما هو عليه في ذاتِه -، أن يَكونَ ذلكَ العِلمُ القَديمُ مِن حيثُ

شارَكَه في القِدَمِ مُشارِكاً له في تلكَ الصفةِ الذاتيّةِ في جَميعِ ما تَقتَضيهِ (1)، و هي كالعِلّةِ فيه، و ذلكَ يؤَدّي إلىٰ ما ذَكَرناه.

و إنّما قُلنا: إنّ الذاتَ لا تَختَصُّ بأكثَرَ مِن صفةٍ واحدةٍ في نفسِها مِن حَيثُ كانَ الطريقُ إلى إثباتِ صفةٍ للذاتِ ، هو(2) أنّ الذاتَ لأجلِها تَكونُ ذاتاً، و يَصِحُّ العِلمُ بها و الخَبَرُ عنها، و تَميُّزُها مِن غَيرِها. و هذه الأحكامُ تَتِمُّ بالصفةِ الواحدةِ ، فلا وَجهَ لإثباتِ ما دَلَّ عليها؛ لأنّه يؤَدّي إلىٰ إثباتِ الذاتِ ما لا طَريقَ [إلَى] العِلمِ به، و ذلكَ (3)يُفضي(4) إلَى الجَهالاتِ .

و مِنها: أنّ القولَ بخِلافِ ما ذَكَرناه يؤَدّي إلىٰ تَجويزِ ثانٍ له عاجِزٍ، و إن كانَ مُشارِكاً في القِدَمِ ؛ لأنّه لا فَرقَ بَينَ [إثباتِ قادرَينِ أحَدُهما قَديمٌ و الآخَرُ مُحدَثٌ و بَينَ ](5) إثباتِ قَديمَينِ أحَدُهما قادرٌ و الآخَرُ عاجِزٌ.

و لا اعتصامَ مِن ذلكَ إلّابما سَلَكناه مِن الطريقِ .

ص: 306


1- . في الأصل: «يقتضيه».
2- . في الأصل: «فهو»، و المناسب ما أثبتناه؛ لأنّ «هو» و ما بعده خبر «كان»، و لا معنى للتفريع على ما سبق.
3- . في الأصل: «في ذلك» بدل: «و ذلك»، و لا محصّل له في المقام.
4- . في الأصل: «يفض».
5- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه لمقتضى السياق، و به يستقيم المعنى. و للمزيد راجع: المغني، ج 8، ص 114.
الأصل الرابع: في بيان لزوم ما تقدّم من الكلام لهم

[الأصل الرابع: في بيان لزوم ما تقدّم من الكلام لهم](1)

فأمّا الكلامُ في صحّةِ ما ألزمناهُم إيّاه، مِن استحقاقِه تَعالىٰ لكُلِّ ما تَستَحِقُّه هذه المَعاني(2) مِن الصفاتِ الذاتيّةِ ، و استحقاقِ هذه المَعاني جميعَ ما يَستَحِقُّه مِن الصفاتِ ، و أن يَكونَ لبعضِها حُكمُ بعضٍ حتّىٰ يُغنِيَ وجودُ أحَدِها عن جميعِها:

فواضِحٌ لا إشكالَ فيه؛ لأنّ الكُلَّ إذا اشتَرَكَ في القِدَمِ الذي هو الصفةُ النفسيّةُ ، أو المُقتَضىٰ عن الصفةِ النفسيّةِ ، وجبَ ما ذَكَرناه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الاشتراكَ في بعضِ هذه الصفاتِ يَقتَضي الاشتراكَ في صفةِ النفسِ .

و لَيسَ لأحدٍ أن يَقولَ : كيفَ يَصِحُّ ما ألزَمتُموهُ ؛ مِن كَونِ العِلمِ عالِماً، و القُدرةِ قادرةً [فيَتَّحِدانِ ](3)؛ للاشتراكِ في القِدَمِ ، و لَم يَثبُتْ أنّه تَعالىٰ عالِمٌ قادرٌ لنفسِه. فيَكونَ ما شارَكَه [متّحداً معه](4) في ذلكَ ، بل الكلامُ مَبنِيٌّ علىٰ أنّه مُستَحِقٌّ لأجلِ المَعاني، و المُشارَكةُ في صفةِ النفسِ لا توجِبُ المُشارَكةَ في صِفاتِ العِلَلِ (5)؟ و كيفَ يَلزَمُ أن تَكونَ ذاتُه تَعالىٰ بصفةِ العِلمِ و القُدرةِ ، و أن يَكونا بهذه الصفةِ لنفسِهما(6)، و إنّما يَتِمُّ ذلكَ في الحَياةِ دونَهما؛ لأنّ الحَياةَ حَياةٌ لنفسِها؟

و ذلكَ : أنّ القَديمَ تَعالىٰ لَو كانَ عالِماً أو قادراً لمعنىً علىٰ ما يَدَّعونَ ، لَوجبَ أن

ص: 307


1- . تقدّمت الإشارة إلىٰ هذا الأصل في بداية الفصل، ص 290.
2- . القديمة، فإنّ الكلام مازال دائراً حول إبطال المعاني القديمة.
3- . في الأصل مكان ما بين المعقوفين بياض، و ما أضفناه هو غاية ما يمكن أن يدرج في المقام، و قد استفدناه ممّا سبق.
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «له». و الكلام فيه كالكلام في السابق.
5- . أي صفات المعاني.
6- . في الأصل: «لجنسهما»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «لأنّ الحياة حياة لنفسها».

يَكونَ في نفسِه علىٰ ما يُصَحِّحُ كَونَه كذلكَ . كما أنّ الجَوهرَ و إن كانَ مُتحرِّكاً لمعنىً ، فصحّةُ كَونِه مُتحرِّكاً يَرجِعُ إلىٰ ما هو عليه في نفسِه. و العِلمُ و القُدرةُ

يُشارِكانِه - علىٰ قولِهم - في القِدَمِ ، فيَجِبُ أن يُشارِكاه في صحّةِ كَونِه عالِماً قادراً. و متىٰ صَحَّ ذلك فيهما وجبَ لهما؛ لأنّ العِلمَ لَو صَحَّ كَونُه عالِماً لَم يَحصُلْ بهذهِ [الصِّفة] إلّالِصحّةِ [ما](1) هو عليهِ في ذاتِه، لِاستحالةِ استحقاقِه لها لعِلّةٍ أو بالفاعلِ .

و هذا يَقتَضي كَونَ العِلمِ عالِماً لَم يَحصُلْ بهذه [الصِّفة] إلّالِصحَّتِهِ (2) في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ ما هو عليه في ذاتِه حاصِلٌ في كُلِّ حالٍ . و كذلكَ القولُ في القُدرةِ و مِن وَجهٍ آخَرَ، و هو: أنّ ذاتَه تَعالىٰ يَجِبُ أن تَكونَ عِلماً مِن حَيثُ شارَكَها العِلمُ في القِدَمِ . و إذا وَجَبَ فيه تَعالىٰ أن يَكونَ عالِماً مع أنّ ذاتَه عِلمٌ أو بصفةِ العِلمِ ، وجبَ أن يَكونَ العِلمُ أيضاً عالِماً؛ لأنّ ما يُحيلُ أحَدَ الأمرَينِ يُحيلُ الآخَرَ، و ما يُصحِّحُ أحَدَهما يُصحِّحُ الآخَرَ.

و أمّا القُدرةُ و إن لم تَكُن قُدرةً علَى الإطلاقِ لنفسِها، فهي قُدرةٌ علىٰ مقدوراتٍ مخصوصةٍ لنفسِها. و بهذه الإضافةِ تَبِينُ مِن غَيرِها، فما كانَ مِثلاً لها و (82) مُشارِكاً لها في القِدَمِ - و هو صفةٌ نَفسيّهٌ (3) - يَجِبُ أن يُشارِكَها في التعلُّقِ المخصوصِ . و العِلمُ و إن لَم يَكُن عِلماً لنفسِه، فإنّه اعتقادٌ لمُعتَقَدٍ مخصوصٍ لنفسِه، فَيَجِبُ فيه مِثلُ ما ذَكَرناه في القُدرةِ . و كُلُّ ذلكَ واضِحٌ .

ص: 308


1- . ما بين المعقوفين منّا، و ما جاء في الأصل كالتالي: «بهذه إلّالصحّة إلّالمن (كذا، و قد تقرأ: إلّاممن) هو عليه في ذاته».
2- . في الأصل: «لصفة».
3- . في الأصل: «نفسه».
الدليل الثاني: علىٰ بطلان المعاني القديمة
اشارة

[الدليل الثاني: علىٰ بطلان المعاني القديمة](1)

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على أنّه لا يَجوزُ أن يَكونَ تَعالىٰ عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ - و كذلكَ (2) القولُ في قادرٍ [و] حَيٍّ - وجوبُ هذه الأحوالِ له في كُلِّ حالٍ . و الصفةُ إذا وجبَت استَغنَت عن عِلّةٍ (3)؛ لأنّ وجوبَها لَو لَم يُغنِ عن العِلّةِ ، لَكانَ وجوبُها عن العِلّةِ لا يُغني عن عِلّةٍ ثانيةٍ ، و لأَدّىٰ ذلكَ إلىٰ أنّ التعليلَ لا يَنقَطِعُ و لا يَتَناهىٰ .

و إذا عَلِمنا أنّ وجوبَ الصفةِ عندَ العِلّةِ يُغني عن أُخرىٰ مِن حَيثُ الوجوبِ ، قَضَينا في كُلِّ صفةٍ عَلِمنا وجوبَها في كُلٍّ حالٍ - و إن لم نَعلَم أمراً سِواها - بأنّها مُستَغنِيةٌ عن عِلّةٍ .

و يُبيِّنُ ذلكَ : أنّ السوادَ لمّا وجبَ كَونُه سَواداً في كُلِّ حالٍ ، و كذلكَ الجَوهرُ و نَفسُ العِلّةِ الموجِبةِ للصفةِ ، استَغنى كُلُّ (4) ذلكَ بوجوبِه عن العِلَلِ ؛ ألا تَرى أنّ هذه الصفاتِ لَو لَم تَكُن واجبةً ، بل كانَت ثَبَتَت مع جَوازِ أن لا تَثبُتَ ، لَوجبَ أن تَحتاجَ (5)إلىٰ معنىً أو فاعلٍ ، و هذا يُبيِّنُ صحّةَ ما ذَكَرناه مِن أنّ الوجوبَ يَمنَعُ مِن التعليلِ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ الصفةَ إنّما استَغنَت - متىٰ وجبَت عن العِلّةِ - عن علّةٍ ثانيةٍ ، لأجلِ أنّ العِلّةَ تؤثِّرُ في الصفةِ و توجِبُها، فلا حاجةَ إلىٰ أمرٍ آخَرَ. و لَم يَثبُتْ لكُم أنّ «كَونَه تَعالىٰ عالِماً» يَقتَضيهِ ما هو عليه في ذاتِه، فيَستَغنيَ عن عِلّةٍ .

و ذلكَ : أنّ العِلّةَ لَو أنّها ممّا يَجوزُ أن توجَدَ تارةً فتوجِبَ الصفةَ ، و أُخرىٰ فلا توجِبَها، لَكانَتِ الصفةُ الواجبةُ عنها لا تَستَغني عن أمرٍ آخَرَ. فثَبَتَ بذلكَ أنّ

ص: 309


1- . تقدم الدليل الأوّل في بداية الفصل.
2- . في الأصل: «ذلك».
3- . أي: عن معنىٰ .
4- . في الأصل: «عن» بدل «كلّ »، و لا محصّل له في المقام.
5- . في الأصل: «يحتاج».

وجوبَ الصفةِ عنها(1) هو المُغني عن عِلّةٍ أُخرىٰ ؛ لأنّ العِلّةَ أَوجَبَتِ الصفةَ دَلالةً علىٰ نَفيِ المعنىٰ ، و الصفةُ لَو وجبَت عن معنىً قَديمٍ لَكانَ حالُها في الوجوبِ كحالِها إذا وجبَت عن الذاتِ ؛ و ذلك أنّا متىٰ عَلِمنا وجوبَ الصفةِ مِن غَيرِ أن نَعلَمَ أمراً زائداً علَى الذاتِ ، عَلِمنا بذلكَ نفيَ المعنىٰ ، و أنّ الصفةَ تَجِبُ لِما(2) الذاتُ عليه، كما أنّا إذا عَلِمنا وجوبَ الصفةِ عن(3) معنىً مِن المَعاني - و إن لم نَكُن(4) نَعلَمُ سِواه - نَقَعُ (5) علىٰ أنّه لا موجِبَ سِواه.

استلزام تجويز المعاني القديمة نفيَ الصفات الذاتية

علىٰ أنّ التشكّكَ في هذا البابِ ، و تَجويزَنا «أن تَكونَ الصفاتُ الواجبةُ التي نَعلَمُ وجودَها مِن غَيرِ أن نَعلَمَ معنىً سِواها، تَجِبُ (6) لمعنىً قَديمٍ »، يؤَدّي إلىٰ نفيِ صِفاتِ الذاتِ جُملةً ؛ لأنّا لا نَأمَنُ «في كُلِّ صفةٍ وجبَت للذواتِ ؛ مِن نَحوِ كَونِ الجَوهرِ جَوهراً و السوادِ سَواداً، و صِفاتِ العِلَلِ الموجِباتِ نفسَها» أن تَكونَ ذلك لِمَعانٍ قَديمةٍ . و هذا يَقتضي رَفعَ صفاتِ الذاتِ .

و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ السوادَ أو العِلمَ أو ما أشبَهَهما مِن المَعاني، إنّما وجبَ أن يَكونَ علىٰ ما هو عليه لغَيرِ علّةٍ ، لاستحالةِ قيامِ المَعاني [به](7) لا لوجوبِ الصفةِ له.

ص: 310


1- . في الأصل: «عندها»، و الأولى - بل الصحيح - ما أثبتناه بقرينة قوله: «متى وجبت عن العلّة».
2- . في الأصل بدل «لما» كلمة لا تقرأ.
3- . في الأصل: «عند»، و الأولى ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «لم يكن».
5- . في الأصل: «يقع».
6- . في الأصل: «يجب»، و رجوع الضمير إلى «الصفات» يؤيّد ما أثبتناه.
7- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين كلمة لا تقرأ، و ما أثبتناه هو غاية ما يمكن أن يدرج في المقام.

[و] ذلكَ : أنّ فيما تَجِبُ (1) له الصفاتُ النفسيّةُ ، ما لا يَستَحيلُ فيه قيامُ المَعاني به؛ نَحوُ كَونِ الجَوهرِ جَوهراً و مُتحيِّزاً، و مع ذلكَ فأثبَتنا صفاتِه الواجباتَ نفسيّةً ؛ لوجوبِها، لا لاستحالةِ قيامِ المَعاني بها.(2)

على أنّ المفهومَ مِن قيامِ المَعاني هو الحُلولُ ، و الباري تَعالىٰ يَستَحيلُ [عليه] ذلكَ ، و لئن جازَ ارتكابُه فيه تَعالىٰ ، لَيَجُوزَنَّ مِثلُه في قيامِ المَعاني بالمَعاني؛ فلَيسَ أحَدُهما بأبعَدَ مِن الآخَرِ.

الدليل الثالث

(83) دليلٌ آخَرُ: و أحَدُ ما يَدُلُّ علىٰ ذلكَ - و إن كانَ يُقارِبُ ما تَقدَّمَ -: أنّ المُراعىٰ في المُقتَضي للصفةِ ، الاشتراكُ في كيفيّةِ استحقاقِها؛ سَواءٌ اختَلَفَت الصفةُ

أو اتَّفَقَت؛ ألا تَرىٰ أنّ المُحدَثاتِ لمّا اشتَرَكَت كُلُّها في كيفيّةِ الوجودِ، احتاجَ جَميعُها إلىٰ فاعلٍ ، فاشتَرَكَت كُلُّها في المُقتَضي ؟ و القَديمُ تَعالىٰ لمّا لَم يُشارِكْها في كيفيّةِ هذه الصفةِ ، استَغنىٰ مِن موجِدٍ، و كانَ موجوداً لذاتِه. و لمّا كانَ تَعالىٰ مُشارِكاً للمُريدينَ مِنَّا في استحقاقِ كَونِه مُريداً، و أنّه يُريدُ مع جَوازِ أن لا يَكونَ مُريداً، كانَ كذلكَ مُريداً بإرادةٍ كالواحِدِ مِنّا.

و إنّما قُلنا: إنّه لا اعتبارَ باختلافِ الصفةِ و اتّفاقِها، مع الاتّفاقِ في وَجهِ الاستحقاقِ و كيفيّتِه.

لأنّا(3) وَجَدناه تَعالىٰ لمّا استَحَقَّ كَونَه موجوداً على الحَدِّ و الوَجهِ الذي يَستَحِقُّ

ص: 311


1- . في الأصل: «يجب».
2- . في الأصل: «به».
3- . في الأصل: «إنّا».

السوادُ عليه كَونَه سواداً، و الجَوهرُ كَونَه جَوهراً، استَحَقَّ ذلك لِما هو عليه في ذاتِه، كما استَحَقَّ السوادُ و الجَوهرُ ذلكَ علىٰ هذا الوجهِ . و لمّا استَحَقَّ كَونَه مُريداً علَى الحَدِّ الذي يَستَحِقُّ الجَوهرُ عليه كَونَه مُتحرِّكاً، استَحَقَّ ذلكَ لِمعنىً ، و هذه قضيّةٌ عامّةٌ في جَميعِ الصفاتِ المُستَحَقّةِ ؛ لَو تُؤُمِّلَت و قوبِلَ بَينَ وجوهِ استحقاقِها.

و إذا ثَبَتَت(1) هذه الجُملةُ التي ذَكَرناها، و وَجَدناه تَعالىٰ يَستَحِقُّ كَونَه عالِماً و قادِراً و حَيّاً: علَى الوجهِ الذي يَستَحِقُّ عليه كَونَه قَديماً، و علَى الوجهِ الذي يَستَحِقُّ السوادُ عليه كَونَه سَواداً، أو الجوهرُ كَونَه جَوهراً، وجبَ أن يَستَغنيَ عن المَعاني، و أن يكونَ مُستَحِقّاً لهذه الصفاتِ لِما هو عليه في ذاتِه، كما ثَبَتَ ذلكَ فيما شارَكَه في كيفيّةِ استحقاقِ صفتِه.

الدليل الرابع
اشارة

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ ، أنّه لَو كانَ تَعالىٰ عالِماً بِ [عِلمٍ ] قديم(2)، لَوجبَ أن يَكونَ عِلمُه مِن جنسِ عُلومِنا؛ مِن حَيثُ تَعلَّقَ بما يَتعلَّقُ به عِلمُ أحَدِنا علىٰ وَجهِه و في وَقتِه علىٰ سبيلِ التفصيلِ ، و هذا يَقتَضي قِدَمَ عُلومِنا و حُدوثَ عِلمِه!

في بيان أنّ المشاركة في تعلّق خاصّ تقتضي التماثل

فإن قيلَ : دُلّوا على أنّ المُشارَكةَ في التعلُّقِ الذي ذَكَرتُم تَقتَضي(3) التماثُلَ .

قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلكَ أنّ العِلمَ إنّما يَبينُ مِن غَيرِه بهذا التعلُّقِ المخصوصِ ، و هو أخَصُّ صفاتِ ذاتِه، و لهذا وجبَ فيما شارَكَه في ذلكَ أن يَسُدَّ مَسَدَّه؛

ص: 312


1- . في الأصل: «ثبت».
2- . في الأصل: «بقديم»، و لا محصّل له.
3- . في الأصل: «يقتضي».

حتّىٰ أنّ أحَدَنا متىٰ صَحَّ مِنه الفِعلُ المُحكَمُ بعِلمٍ مخصوصٍ ، فمعلومٌ أنّ ذلكَ يَصِحُّ مِنه بكُلِّ ما شارَكَ العِلمَ الذي ذَكَرناه في صفتِه و تَعلُّقِه.

و لأنّهما(1) أيضاً يوجِبانِ صفتَينِ مُتَماثِلتَينِ ، و تَماثُلُ المُوجَبِ يَدُلُّ علىٰ تَماثُلِ المُوجِبِ .

و لأنّهما أيضاً يَنتَفيانِ بضِدٍّ واحِدٍ؛ ألا تَرىٰ أنّا لَو قَدَّرنا حُصولَ هذَينِ العِلمَينِ لِعالِمٍ واحدٍ، و وُجِدَ الجَهلُ المُتعلِّقُ بالعكسِ مِن مُتعلَّقِهما، لَوجبَ انتفاؤهما معاً به ؟ و الشيءُ الواحِدُ لا يَجوزُ أن يَنفِيَ شَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرَ مُتَضادَّينِ ، و إنّما يَنفي المِثلَينِ أو الضِّدَّينِ . و إذا لم يَجُز أن يَكونَ هذانِ العِلمانِ ضِدَّينِ ، وجبَ أن يَكونا مِثلَينِ .

في بيان تماثُل علمه تعالىٰ و عِلمنا

فإن قيلَ : و مِن أينَ صحّةُ ما ذَكَرتُم مِن أنّهما يوجِبانِ صفتَينِ مُتَماثِلتَينِ؟

قلنا: لأنّ هاتَينِ الصفتَينِ لَو اختَلَفَتا، لَم يَكُن إلَى اختلافِهما طريقٌ إلّااختلافُ حُكمِهما، و كانَ الحَيُّ يَفصِلُ بَينَهما كما يَفصِلُ بَينَ صفاتِه المُختَلِفةِ ، ككَونِه مُريداً و مُعتَقِداً. و لا شُبهةَ في أنّ حُكمَهما غَيرُ مُختَلِفٍ ، و لذلكَ [فإنّ ] أحَدَنا يَجِدُ نفسَه إذا كانَ عالِماً بأحَدِ هذَينِ العِلمَينِ علىٰ مِثلِ ما يَجِدُ غَيرَ نفسِه إذا كانَ عالِماً بالعِلمِ الآخَرِ، و لا نَجِدُ مِثلَ ذلكَ (84) إذا كانَ مُريداً و غَيرُه مُعتَقِداً.

فإن قيلَ : ألا اعتَبَرتُم في تَماثُلِ هذَينِ العِلمَينِ أن يَتعلَّقا بعالِمٍ (2) واحِدٍ؟

قُلنا: لَو كانَ لِمِثلِ ذلكَ اعتبارٌ، لَوجبَ أنْ لا يَتَماثَلَ السوادانِ مع تَغايُرِ مَحَلِّهما،

ص: 313


1- . أي علمه تعالىٰ و علومنا.
2- . في الأصل: «بعلم».

و قد عَلِمنا أن لا فَرقَ في وُجوبِ تَماثُلِهما بَينَ أن يَكونَ مَحَلُّهما واحِداً أو مُتَغايِراً؛ ألا تَرىٰ أنّ الالتباسَ علَى المُدرِكِ الذي كانَ طريقاً لنا إلىٰ تَماثُلِ السوادَينِ حاصِلٌ في الوَجهَينِ؟ لأنّ السوادَينِ يَلتَبِسانِ و المَحَلُّ واحِدٌ. و إذا ثَبَتَ أنّ تَغايُرَ المَحَلَّينِ لا يؤَثِّرُ في التماثُلِ ، ثَبَتَ ذلكَ في تَغايُرِ العالِمَينِ ؛ لأنّ حُكمَ القَوابلِ (1) مع المَعاني المُختَصّةِ بها، حُكمُ المَحالِّ مع المعاني المُختَصّةِ بها.

علىٰ أنّ العلِمَينِ إذا لَم يَتعلَّقا بعالِمٍ واحِدٍ، فإنّما افتَرَقَا في كيفيّةِ الوجودِ، و مِثلُ ذلكَ لا يُؤثِّرُ على الحقيقةِ في الاختلافِ ، بَل يَجري مَجرىٰ أن يَكونا موجودَينِ في وقتَينِ . و معلومٌ أنّ ذلك لا يَقتَضي اختلافَهما؛ لأنّه لَو اقتَضاه لوَجبَ أن يَكونَ الشيءُ مُخالِفاً لنفسِه إذا لَم يُوجَدْ في وقتٍ و وُجِدَ في غَيرِه. علىٰ أنّ الأجناسَ المُختَلِفةَ قد تَشتَرِكُ في كيفيّةِ الوجودِ، و لا يوجِبُ ذلكَ تَماثُلَها.

فوجبَ صحّةُ ما ذَكَرناه مِن تَماثُلِ هذَينِ العِلمَينِ ، و إن تَعلَّقا بعالِمَينِ .

في بيان أنّ الشيء الواحد لا ينفي شيئَين مختلفَين غير متضادَّين

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ صحّةِ ما ادَّعَيتُموه في جُملةِ كلامِكُم؛ مِن أنّ الشيءَ الواحِدَ لا يَنفي شَيئَينِ مُختَلِفَينِ غَيرَ مُتَضادَّينِ؟

قُلنا: الدليلُ علىٰ ذلكَ : أنّ مِن حَقِّ ما يُنافي غَيرَه أن يَخلُفَه علىٰ مَحَلِّهِ ، و علَى الجُملةِ التي يَتعلَّقُ بِها، و تَحصُلَ (2) له صفةٌ بالعكسِ مِن صفةِ ما نافاه، فلَو نَفَى الشيءُ الواحدُ ذاتَينِ مُختَلِفتَينِ ، لَوجبَ أن تَكونَ صفتُه بالعكسِ [مِن] صفةِ كُلِّ واحِدٍ منهما، و هذا يَقتَضي كَونَ الذّاتِ علىٰ صفتَينِ مُختَلِفتَينِ للنفسِ ، و ذلكَ

ص: 314


1- . في الأصل: «الحمل»، و الأنسب - و لعلّ الصحيح - ما أثبتناه بقرينة قوله: «حكم المحالّ ».
2- . في الأصل: «يحصل».

لا يَجوزُ في الذواتِ المُختَلِفةِ ؛ لِما دَلَّلنا عليه في صَدرِ هذا الكتابِ عندَ الكلامِ علىٰ أنّ الجَوهَرَ لا يَكونُ مُتحيِّزاً بالفاعلِ .(1)

و ممّا يَدُلُّ أيضاً على ذلك: أنّ الشيءَ الواحِدَ لَو نَفَى المُختَلِفَينِ ، لَوجبَ أن يَنفيَ كُلَّ مُختَلِفَينِ حَصَلا في مَحَلِّه؛ لأنّه لَيسَ له ببعضِ ما خالَفه مِن الاختصاصِ ما لَيسَ له بغيرِه؛ ألا تَرىٰ أنّ الشيءَ الواحدَ لمّا نَفَى المِثلَينِ علَى الجَمعِ ، و الضِّدَّينِ علَى البَدَلِ ، نَفىٰ كُلَّ مِثلَينِ و كُلَّ ضِدَّينِ و لَو نَفىٰ كُلَّ ما يُخالِفُه لَأدّىٰ إلى أنّ السوادَ يَنفي البياضَ و الحَلاوةَ (2) عن المَحَلِّ ، و قد عَلِمنا فَسادَ ذلك.

و ممّا يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ السوادَ إذا عَلِمنا أنّه لا يُضادُّ البياضَ و الطَّعمَ ، و أنّه [إنّما] يُضادُّ البياضَ و الحُمرةَ ، و يُضادُّ بياضَتَينِ (3) و حُمرتَينِ ، فيَجِبُ أن نقضِيَ (4) أنّه(5) إنّما (لا) يُضادُّ(6) البياضَ و الطَّعمَ لأجلِ أنّهما مُختَلِفانِ لَيسا بضِدَّينِ ، و نَحكُمَ بأنّ كُلَّ مُختَلِفَينِ لَيسا بضِدَّينِ يَجرِيانِ هذا المجرى في أنّ شيئاً واحداً لا يَجوزُ أن يَنفِيَهما.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : هذا الّذي ذَكَرتُم يَقتَضي أنّ ذاتَه تَعالىٰ مُماثِلةٌ لِعُلومِنا؛ مِن حَيثُ المُشارَكةِ في التعلُّقِ المخصوصِ .

و ذلكَ : أنّ تَعلُّقَه تَعالىٰ بالمعلوماتِ ، يُخالِفُ تَعلُّقَ العُلومِ ؛ لأنّ تَعلُّقَه تَعلُّقُ العالِمينَ . و إنّما كانَ يَلزَمُ ذلكَ لَو كانَ التعلُّقُ واحداً؛ ألا تَرىٰ أنّ العِلمَ و الإرادةَ معاً

ص: 315


1- . تقدّم في ص 66.
2- . في الأصل: «الخلافة». راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 123.
3- . كذا في الأصل، و الأنسب: «بياضَين».
4- . في الأصل: «يقضي»، و المناسب ما أثبتناه بقرينة قوله: «و نحكم».
5- . في الأصل: «و أنّه».
6- . في الأصل: «يضادّ» بدون «لا»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «أنّ السواد إذا علمنا أنّه لا يضادّ البياض و الطعم».

قد يَتعلَّقانِ بحُدوثِ الشيءِ و لا يَتَماثَلانِ ؛ لاختلافِ التعلُّقِ؟

و لَيسَ له أن يَقولَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ عِلمُه مِن حَيثُ كانَ قَديماً يُخالِفُ عُلومَنا، أو مِن حَيثُ يَتعلَّقُ بمعلوماتٍ كثيرةٍ علَى التفصيلِ ، و إن شارَكَ عُلومَنا في التعلُّقِ الذي (85) ذَكَرتُم ؟!

و ذلكَ : أنّ هذا اعتراضٌ علَى الدليلِ (1)، لمّا اقتضى الدليلُ نفسُه فَسادَه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ اشتراكَ العِلمَينِ في التعَلُّقِ المخصوصِ يَقتَضي تَماثُلَهما، و ذلك يَقتَضي

استحالةَ قِدَمِ عِلمِه أو تَعلُّقِه بمعلوماتٍ كثيرةٍ ، كما يَقتَضي استحالةَ ذلكَ في عُلومِنا التي هي مِثلُ ذلكَ العِلمِ .

على أنّ هذا يَقتَضي كَونَ عِلمِه مُماثِلاً لعُلومِنا و مُخالِفاً، و ذلكَ مُحالٌ .

و لا فرقَ بَينَ هذا الاعتراضِ ، و بَينَ َمن قالَ مِن المُشَبِّهةِ إذا أَلزَمناه(2) أن يَكونَ مِثلاً لنا إذا كانَ جَوهراً أو جسماً: إنّه و إن كانَ جسماً، فمِن حَيثُ كانَ قَديماً لا يَكونُ مِثلاً لنا.

و الطريقُ إلىٰ إبطالِ ذلكَ هو ما ذَكَرناه.

الدليل الخامس

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على ذلك: أنّ (3) الطريقَ إلى إثباتِ العِلمِ (4)، هو تَجدُّدُ الصفةِ على الذاتِ ، مع جَوازِ أن لا تَتجدَّدَ(5) و الحالُ واحِدةٌ ، و هذا الطريقُ غَيرُ مُتَأَتٍّ فيه

ص: 316


1- . أي الدليل الرابع المتقدّم.
2- . في الأصل: «ألزمنا».
3- . لهذا الدليل تقريران، و هذا هو التقرير الأوّل، و سوف يأتي التقرير الثاني فيما بعد.
4- . يريد إثبات العلم بعنوانه معنىً قديم مغاير للذات.
5- . في الأصل: «لا يتجدّد».

تَعالىٰ . و إثباتُ معنىً لا طريقَ إلىٰ إثباتِه يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ .

فوجبَ لهذه الجُملةِ القَطعُ علىٰ أنّه لا يَجوزُ كَونُه عالِماً بعِلمٍ ، بل لِما هو عليه في ذاتِه.

و هذا الكَلامُ يَشتَمِلُ علىٰ مَوضِعَينِ ، لا بُدَّ مِن الدَّلالةِ عليهما:

أوّلُهما: أنّه لا طريقَ إلىٰ إثباتِ العِلمِ سوىٰ ما ذَكَرناه.(1)

و الثاني: أنّ إثباتَ معنىً لا دليلَ عليه لا يَصِحُّ .

فأمّا الدليلُ على الأوّلِ : فهو أنّه لَيسَ يَجوزُ أن يَدُلَّ علَى الشيءِ إلّاما له تَعلُّقٌ به، و إذا لَم يَدُلَّ إلّاما ذَكَرناه علىٰ إثباتِ العِلمِ (2)، فلَيسَ [بَعَده](3)إلّاأن يُقالَ : إنّ الدالَّ علَى العِلمِ كَونُه عالِماً، أو صحّةُ وقوعِ الفِعلِ المُحكَمِ ؛ لأنّ غَيرَ ما ذَكَرناه مِن الصفاتِ و الأحكامِ لا تَعلُّقَ لها بالعِلمِ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ كَونِه عالِماً لا يَدُلُّ علَى العِلمِ ؛ لأنّ (4) الصفةَ بمُجرَّدِها إذا اقتَضَتِ المعنىٰ ، لَوجبَ أن تَكونَ كُلُّ صفةٍ مُعَلَّلةً بمعنىً ، و يَقتَضي كذلكَ وجودَ ما لا يَتَناهىٰ مِنَ المَعاني.

و أيضاً: فإنّ الصفةَ يَنقسِمُ في العقلِ استحقَاقُها إلَى المعنىٰ و إلىٰ غَيرِه؛ فكيفَ يُقالُ : إنّها لِمُجرَّدِها تَقتَضي المعنىٰ؟

ص: 317


1- . في الدليل الخامس المتقدّم آنِفاً.
2- . الظاهر زيادة «إلّا» في هذهِ الجملة، لأنّ مراد المصنّف أنّه «إذا لم يدلّ ما ذكرناه من الدليل علىٰ إثبات العلم الزائد على الذات...؛ فليس يبقىٰ بعده إلّاأن يقال:...» و ذكر دليلَين لإثبات العلم الزائد ثمّ ناقشهما.
3- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين كلمة لا تقرأ، و بما أثبتناه يستقيم المعنى. و يُحتمل أن تقرأ الكلمة: «نجد».
4- . في الأصل: «إنّ ».

و علىٰ هذا يَجِبُ أن يُكتفىٰ في إثباتِ الأكوانِ بإثباتِ صفةِ الجَوهرِ و تَنقُّلِه في الجِهاتِ ، مِن غَيرِ أن نُبيِّنَ كَونَه مُسَتَحِقّاً لذلكَ علىٰ وَجهٍ مخصوصٍ .

و أيضاً لَو كانَ كَونُه عالِماً يَقتَضي وجودَ العِلمِ - و قد ثَبَتَ أنّ العِلمَ يَقتضي كَونَ

الذاتِ عالِمةً - لَوجبَ أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ مِن الأمرَينِ مُقتَضِياً لصاحِبِه.

و أمّا الذي له قُلنا: «إنّ الفِعلَ المُحكَمَ لا يَدُلُّ علَى العِلمِ »، فهو أنّ الفِعلَ المُحكَمَ إنّما يَقَعُ في الشاهِدِ مِن الجُملةِ دونَ أبعاضِها، فيَجِبُ [أن يَدُلَّ ] علىٰ أمرٍ تَختَصُّ (1)به الجُملةُ ، و لَيسَ واقعاً(2) مِن العِلمِ و لا مِن مَحَلِّ العِلمِ فيَدُلَّ عليهِ ، و إذا كانَ وجودُ العِلمِ مقصوراً علىٰ بعضِ الجُملةِ ، لَم يَكُنِ الفِعلُ دالاًّ عليه.

و أيضاً: فإنّ الفِعلَ (3) دالٌّ علىٰ أنّ مَن صَحَّ مِنه يَختَصُّ بمُفارَقةٍ لَيسَت لِمَن تَعذَّرَ مِنه، و المُفارَقاتُ : قد تَكونُ للمَعاني، و قد تَكونُ لغَيرِها؛ فكَيفَ يُجعَلُ (4) ما يَقتَضي المُفارَقةَ المُطلقةَ مُقتَضياً لكيفيّةٍ فيها؟

و أيضاً: فإنّ الفِعلَ المُحكَمَ إذا كانَ دالاًّ علىٰ كَونِ مَن صَحَّ مِنه عالِماً، لَم يَجُز أن يَدُلَّ مع ذلكَ على العِلمِ ؛ لأنّ الدليلَ إنّما يَدُلُّ علىٰ أمرَينِ مُختَلِفَينِ مِن وَجهَينِ . و إذا كانَ وجهُه واحِداً، لَم يَجُز أن يَدُلَّ إلّاعلىٰ أمرٍ واحِدٍ. و لذلِكَ [يَدُلُّ ] الفِعلُ بمُجرَّدِه علىٰ أنّ فاعِلَه قادرٌ، و بإحكامه له يَدُلُّ علىٰ أنّه عالِمٌ .

و أمّا الدليلُ علَى الأصلِ (86) الثاني: فهو أنّ القولَ بخِلافِ ذلكَ يؤَدّي: إلىٰ كُلِّ

ص: 318


1- . في الأصل: «يختصّ ».
2- . في الأصل: «واقع».
3- . في الأصل: «العقل»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله فيما يأتي: «فإنّ الفعل المحكم إذا كان دالاًّ» إلى آخره.
4- . في الأصل: «تجعل».

جَهالةٍ ، و إلىٰ أن يُجَوَّزَ أن يَكونَ في الجسمِ مَعانٍ كثيرةٌ سِوىٰ ما عَقَلناه بالدليلِ ، و إلىٰ أنْ لا يُنفىٰ بالعِلَلِ و لا بالأسبابِ و لا بالتَّضادِّ بَينَ المُتَضادّاتِ ، و فَسادُ ذلكَ ظاهرٌ.

و لَيسَ هذا ممّا عِبْنَاهُ علَى البَغدادييّنَ ، لمّا استَدلّوا علىٰ نَفيِ قَديمٍ ثانٍ ، بأنّه لَو كانَ موجوداً لَكانَ في الفِعلِ دَلالةٌ عليه، و إنّما لمّا لَم يَكُن في الفِعلِ ما يَدُلُّ علىٰ ثانٍ ، وجبَ نَفيُه.

و الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ : أنّ الفِعلَ يَقَعُ باختيارِ الفاعِلِ ، و قد يَجوزُ أن لا يَختارَه، فلا يَدُلَّ عليه، و لا يَجِبُ أن يُحكَمَ بنَفيِ العالِمِ (1) مِن حَيثُ انتَفَى الفِعلُ . و العِلمُ موجِبٌ لكَونِ الذاتِ عالِمةً ، و إثباتُه إنّما يَكونُ بما يَصدُرُ عنه مِن الصفةِ أو الحُكمِ ، فلا يَجوزُ أن يَنفَكَّ ممّا يَدُلُّ علىٰ إثباتِه؛ لأنّه لا يَتعلَّقُ باختيارِ مُختارٍ. فمَتىٰ فَقَدنا ما يَدُلُّ عليه وجبَ القضاءُ بنَفيِه.

و قد تَرتَّب هذا الدليلُ علىٰ وَجهٍ آخَرَ(2)، فيُقالُ : قد ثَبَتَ أنّ تَجدُّدَ الصفةِ مع جَوازِ

أن لا تَتجدَّدَ و الحالُ واحدةٌ ، دَلالةٌ علىٰ إثباتِ المعنىٰ . و لَيسَ يجوزُ ثُبوتُ المعنىٰ مع نَقيضِ الشرطِ في الدَّلالةِ عليه؛ لأنّ ذلكَ يَقدَحُ في كَونِه شرطاً في الدَّلالةِ .

يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ وجوبَ وقوعِ تَصرُّفِ الإنسانِ بحَسَبِ قَصدِه و دَواعيهِ ، [و] وجوبَ انتفائه بحَسَبِ كَراهَتِه و صَوارِفِه، لمّا دَلَّ علَى احتياجِه إليه، لَم يَجُز أن نُثبِتَ (3) مُحدِثاً لفِعلٍ يَجِبُ وقوعُه عندَ كَراهَتِه، و انتفاؤه عندَ قَصدِه. و إنّما لَم يَجُز ذلكَ مِن حَيثُ كانَ ما ذَكَرناه شرطاً في الدَّلالةِ ، فلَم يُمكِنْ ثُبوتُ المَدلولِ مع نَقيضِه. و إذا وجبَ كَونُه تَعالىٰ عالِماً في كُلِّ حالٍ ، ثَبَتَ أنّه لَم يَكُن كذلكَ بمعنىً .

ص: 319


1- . في الأصل: «العادل»، و لا محصّل له.
2- . هذا هو التقرير الثاني للدليل الخامس.
3- . في الأصل: «يثبت».

و لَيسَ هذا الذي ذَكَرناهُ مَنعاً مِن إثباتِ المدلولِ مع فَقدِ الدَّلالةِ ، و إنّما مَنَعنا مِن إثباتِ المدلولِ مع نقيضِ الشرطِ في الدَّلالةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا نُثبِتُ تَصرُّفَنا مُحتاجاً إلينا، و مُحدَثاً بنا؛ مِن حَيثُ وَقَعَ بحَسَبِ قُصودِنا، و انتَفىٰ بحَسَبِ صَوارِفِنا و كَراهَتِنا؟ و لا يَمتَنِعُ إثباتُ فِعلٍ لا يَتأتّىٰ هذا المعنىٰ فيه، و هو فِعلُ الساهي، إذا كانَ بدليلٍ آخَرَ.

و لا يَجوزُ قياساً علىٰ ذلكَ أن يَثبُتَ الفِعلُ لمَن يَجِبُ انتفاؤه و صَوارِفُه. و الفَرقُ بَينَ (1) الأمرَينِ هو ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ ذلكَ إثباتُ المدلولِ مع نقيضِ الشرط في الدَّلالةِ .

و هذه الدَّلالةُ (2) علَى الوجهَينِ اللَّذَينِ رَتَّبناهما(3) معاً، تَدُلُّ (4) علىٰ أنّه تعالى لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ، و لا حَيّاً بحَياةٍ ، و لا قَديماً بقِدَمٍ .

الدليل السادس

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ علىٰ هذه الأحوالِ لمَعانٍ قَديمةٍ ، أنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلىٰ إثباتِ ذاتَينِ ، بل ذَواتٍ يَستَحيلُ (5) وجودُ كُلِّ واحدةٍ مِنها دونَ الأُخرى، و ذلكَ محالٌ ؛ لأنّه يَقتضي تَجويزَ مَعانٍ زائدةٍ علىٰ ما قد عَقَلناه، و نَدَّعي أنّ بعضَها يُفارِق بعضَها.

الدليل السابع

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ على أنّه تعالى لا يَجوزُ أن يَكونَ عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ أنّ القولَ بذلكَ يؤَدّي إلىٰ أحَدِ أُمورٍ كُلُّها فاسدةٌ :

ص: 320


1- . في الأصل: «بأنّ ».
2- . أي الدليل الخامس.
3- . في الأصل: «رتّبناها».
4- . في الأصل: «يدلّ ».
5- . في الأصل: «تستحيل».

مِنها: أن يَكونَ عالِماً بمعلومٍ واحدٍ، أو معلوماتٍ مُنحَصِرةٍ .

و مِنها: أن يَكونَ عالِماً بمعلومٍ لا نِهايةَ له.(1)

و مِنها: أن يكونَ عِلمُه مُتعلِّقاً بمعلوماتٍ لا تَتَناهىٰ علىٰ سَبيل التفصيلِ .

فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ فَسادِ القِسمِ الأخيرِ.

قُلنا: قد ثَبَتَ أنّه لا مَعلوماتٌ إلّاو يَصِحُّ أن يُعلَمَ أحدُها(2) دونَ الآخَرِ، و إن لَم يُعلَمِ الآخَرُ. و هذا الحُكمُ معلومٌ في أكثرِ المعلوماتِ باضطرارٍ؛ كالعِلمِ بزَيدٍ و عَمرٍو و ما أشبَهَهما (87) مِن المعلوماتِ . كما نَعلَمُ ضرورةً في أكثرِ الأجسامِ أنّنا نُجوِّزُ أن نُحَرِّكَ بعضَها مع سُكونِ بعضٍ ، و ما لا يُعلَمُ ذلك فيه مِنَ المعلوماتِ باضطرارٍ، و يَشتَبِهُ أمرُه، نَحمِلُه بالاستدلالِ علىٰ ما عَلِمناه في الحُكمِ ؛ لأنّا إذا تَأمَّلنا حالَ العِلمِ المُتعلِّقِ بأحَدِ المعلومَينِ ، فوَجَدناه مُخالِفاً للمُتعلَّقِ ، وجبَ أن نَحكُمَ بأنّ العِلمَ الواحدَ لَو تَعلَّقَ بمَعلومَينِ علَى التفصيلِ ، لَكانَ مُختَلِفاً(3) في نفسِه؛ لاختصاصِه بصفتَينِ اقتَضَتا اختلافَ العِلمَينِ .

و لَيسَ يَلزَمُ علىٰ هذا أن تَكونَ (4) القُدرةُ مُختَلِفةً في نفسِها؛ لِتعلُّقِها بمقدوراتٍ كثيرةٍ .

و ذلكَ : أنّه لا شيءَ مِن القُدَرِ يَختَصُّ بمقدورٍ واحدٍ، بل الجَميعُ يَتعلَّقُ بالكثيرِ مِنَ المقدوراتِ ، فلَم يَقتَضِ ذلكَ في القُدَرِ اختلافاً، و إن ثَبَتَ بعضُها بصفةِ ما خالَفَه. و قد ثَبَتَ أنّ في العُلومِ ما يَختَصُّ بمعلومٍ واحدٍ، و أنّه يُخالِفُ ما تَعلَّقَ

ص: 321


1- . في الأصل: «لا نهاية لها».
2- . في الأصل: «أحدهما».
3- . في الأصل: «مخالفاً».
4- . في الأصل: «يكون».

بمعلومٍ آخَرَ، فافتَرَقَ الأمرانِ .

و ممّا يَدُلُّ علىٰ فَسادِ تَعلُّقِ العِلمِ الواحِدِ بأكثَرَ مِن المعلومِ الواحدِ علَى التفصيلِ :(1) أنّه لَو تَعلَّقَ بمعلومَينِ ، لَوجبَ إذا طَرَأَ جَهلٌ يَتعلَّقُ بأحَدِ المعلومَينِ دونَ الآخَرِ، أن يَنتَفِيَ مِن وَجهٍ دونَ آخَرَ، و ذلك باطلٌ .

فإن قيلَ : هذا يَلزَمُكُم في القُدرةِ ؛ إذ(2) قد يَطرَأُ العَجزُ عليها(3) مع تَعلُّقِه بأحَدِ مَقدوراتِها. و لَئِن جازَ لَكُم أن تَدَّعوا أنّ العَجزَ لا يَتعلَّقُ إلّابجَميعِ ما تَتعلَّقُ به القُدرةُ ، قيلَ : الجَهلُ الذي قَدَّرتُموه مِثلُه، و يَبطُلُ استدلالُكُم.

قُلنا: القُدرةُ لَو اختَصَّت بمقدورٍ واحدٍ بَطَلَ حُكمُها، و لَكانَ مَن أَوجَبَت له حالَ القادرِ، لا يَجِدُ فَرقاً بَينَه و بَينَ المُضطَرِّ، فلا بُدَّ مِن أن تَتعلَّقَ بالكَثيرِ مِن المقدورِ. و العَجزُ إذا كانَ ضِدّاً لها، فحُكمُه في التعلُّقِ حُكمُها. و هذا لا يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ في العِلمِ حَتّىٰ يُقالَ : إنّه لا يَتميَّزُ مِن غَيرِه مَتىٰ تَعلَّقَ بمعلومٍ واحدٍ، و إنّه واجبٌ فيه التعلُّقُ بأكثَرَ مِن معلومٍ ! فإذَن لا يَجِبُ في الجَهلِ المُضادِّ له أن يَتعلَّقَ بأكثَرَ مِن

مجهولٍ واحدٍ، و صَحَّ التقديرُ الذي ذَكَرناه و استقامَ الاستدلالُ .

و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّ العِلمَ لَو تَعلَّقَ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ مُفَصَّلاً، لَم يَقِفْ علىٰ عددٍ محصورٍ، و لا حَدٍّ مُعيَّنٍ ، و كانَ يَجِبُ أن يَتعلَّقَ بما لا يَتَناهى مِن المعلوماتِ ؛ لأنّه لا حاصِرَ و لا مُخصِّصَ . و هذا يَقتَضي أن يَكونَ كُلُّ عالِمٍ مِنّا عالِماً بكُلِّ شيءٍ ، و يَجِبُ أن يَكونَ الصبيُّ الصغيرُ عالِماً بجميعِ ما يَعلَمُهُ القَديمُ تَعالىٰ . و إذا عَلِمنا استحالةَ ذلكَ في عُلومِنا، عَلِمنا استحالتَه في كُلِّ عالِمٍ ؛ لأنّه إنّما

ص: 322


1- . بعد أن قدّم المصنّف مقدّمة، شرع في إبطال القسم الثالث المتقدّم.
2- . في الأصل: «إذا».
3- . في الأصل: «عليهما».

وجبَ لِعُلومِنا هذا الحُكمُ مع اختلافِها؛ لكَونِها عُلوماً... يَرجِعُ (1) إلىٰ أنّها مِن قَبيلِ الاعتقاداتِ . و لا يُمكِنُ أن يُعلَّقَ ذلكَ بالحُدوثِ ؛ لأنّ الحُدوثَ لا تأثيرَ له في التعلُّقِ . علىٰ أنّ ما بيّنّاه مِن قبلُ ، مِن كَونِ ما يَتعلَّقُ بمعلومَينِ مِن العلومِ مُختَلِفاً في نفسِه، يَقتَضي علىٰ كُلِّ عِلمٍ بهذا الحُكمِ .

و لأنّه لو جازَ في الغائبِ إثباتُ عِلمٍ يَتعلَّقُ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ على التفصيلِ ، لَوجبَ أن يَكونَ مِثلاً لِعُلومِنا و مُخالِفاً لها، و ذلكَ مُحالٌ .

و ممّا قِيلَ في ذلكَ أيضاً: أنّه لو جازَ في الغائبِ إثباتُ عِلمٍ واحدٍ بصفةِ عِلمَينِ مِن عُلُومِنا مُختَلِفَينِ ، جازَ إثباتُه بصفةِ العِلمِ و القُدرةِ ؛ لأنّ اختلافَ العِلمَينِ بالمعلومَينِ في الشاهدِ، كاختلافِ العِلمِ و القُدرةِ ، و هذا يؤدّيهم إلى الاستغناءِ بالعِلمِ عن سائرِ المعاني الّتي يُثبِتونَها.(2)

فأمّا القِسمانِ اللذانِ ذَكَرناهما في (88) صَدرِ الدليلِ فظاهرا(3) الفَسادِ؛ لأنّ وجودَ ما لا يَتَناهىٰ قد بيّنّا - فيما مَضى مِنَ البابِ - فَسادَه(4) [و] استحالتَه(5)، و دلَّلنا علىٰ أنّ ما حَصَرَه الوجودُ لا يَكونُ إلّامُتَناهِياً.

و أمّا كونُه تَعالىٰ عالِماً بمعلومٍ واحدٍ، أو معلوماتٍ مُنحَصِرةٍ ففاسِدٌ أيضاً؛ لأنّه قد فَعَلَ أفعالاً مُحكَمةً تَدُلُّ (6) علىٰ أنّه عالِمٌ بها أجمَعَ ، و خَلَقَ فينا العُلومَ الضروريّةَ ، و تلكَ

ص: 323


1- . في الأصل: «لكونها علوماً و لا من يرجع»، و لا محصّل له، و الظاهر أنّ في النسخة سقطاً.
2- . في الأصل: «يثبتوها»، و هو خطأ؛ لعدم الدليل على حذف نون الإعراب.
3- . في الأصل: «فظاهر».
4- . تقدّم في ص 93.
5- . في الأصل: «فساد استحالته»، و لا محصّل له.
6- . في الأصل: «يدلّ ».

الاعتقاداتُ لا تَكونُ (1) عُلوماً إلّامِن فِعلِ العالِمِ بمُتعلَّقاتِها، و هذا يَدُلُّ علىٰ أنّه(2)تَعالىٰ عالِمٌ بأكثَرَ مِن معلومٍ واحدٍ.

و الذي يُبطِلُ كَونَه عالِماً بمحصوراتٍ : أنّ ما عَدا تلكَ المعلوماتِ لا تَخلو مِن أن

تَكونَ : يَصِحُّ أن يَعلَمَها، أو لا يَصِحُّ . فإن لَم يَصِحَّ أن يَعلَمَها، بَطَلَ كَونُها معلوماتٍ في نفوسِها؛ لأنّ المعلومَ في نفسِه لا يَختَصُّ في صحّةِ (3) كَونِه مَعلوماً بعالِمٍ دونَ عالِمٍ .

و إن صَحَّ أن يَعلَم ما عَدا تلكَ المعلوماتِ ، لَم يَخلُ مِن أن: يَعلَمَها لنفسِه، أو بعِلمٍ معدومٍ ، أو قَديمٍ ، أو مُحدَثٍ .

فإن كانَ يَعلَمُها لِنَفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ عالِماً بكُلِّ المعلومات لِنفسِه؛ لأنّ ما هو عليه في ذاتِه: لَيسَ بأن يَقتَضيَ كَونَه عالِماً ببعضِ ما يَصِحُّ أن يَعلَمَه، بأولىٰ مِن أن يَقتَضيَ كَونَه عالِماً بالكُلِّ ؛ ألا تَرىٰ أنّ القُدرةَ لمّا كانت لِما هي عليه تَتعلَّقُ (4)بالمقدورِ، وجبَ تَعلُّقُها بكُلِّ ما يَصِحُّ أن تَتعلَّقَ [به]؟

و لا يَجوزُ أن يَعلَم ذلكَ بعلِمٍ معدومٍ ؛ لِما مَضىٰ في الكتابِ (5).

و لا بعُلومٍ قَديمةٍ ؛ لأنّه يوجِبُ وجودَ ما لا يَتَناهى، مِن حَيثُ كانَت المعلوماتُ لا تَتَناهى.

ص: 324


1- . في الأصل: «لا يكون».
2- . في الأصل: «أنّ ».
3- . في الأصل - بعد قوله: «صحّة» - بياض، و في وسطه شيء غير مقروء، و الظاهر أنّ عدمه لا يخلّ بالمعنىٰ .
4- . في الأصل: «يتعلّق»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «القدرة». و هكذا الكلام في قوله رحمه اللّٰه: «أن تتعلّق».
5- . تقدّم في ص 255.

و لا يَجوزُ أن يَعلَمَ ذلك بعُلومٍ مُحدَثةٍ ؛ لأنّه يوجِبُ (1) أيضاً وجودَ ما لا يَتَناهى مِنَ العُلومِ المُحْدَثةِ .

و لأنّ تلكَ العلومَ يَجِبُ أن تَكونَ مِن فِعلِه، و لَيسَ يَجوزُ أن تَقَعَ مُتولِّدةً عن النظَرِ؛ لأنّ النظَرَ لا يَكونُ إلّافي دليلٍ . و لَيسَ [علىٰ ] ما يَحدُثُ في المُستَقبَلِ دليلٌ عَقلِيٌّ ؛ لفَقدِ التعلُّقِ الذي لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُراعىً فيما تَدُلُّ (2) عليه الأدلّةُ .

و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّه يَقَعُ عِلماً، لعِلمِه بأنّه كانَ ناظراً؛ لأنّ ذلكَ مَبنيٌّ علىٰ أنّه بالنظَرِ يَحصُلُ العِلمُ بالحَوادثِ المُستَقبَلةِ ، و قد بيّنّا أنّ ذلكَ لا يُمكِنُ أن يَكونَ عليه دليلٌ عَقلِيٌّ .

فلَم يَبقَ وَجهٌ يَجوزُ أن يَكونَ جهةً لوقوعِ العِلمِ عِلماً، إلّاكَونَ الفاعلِ عالِماً بالمُعتَقَدِ، و ذلكَ ممّا الكلامُ مفروضٌ علَى انتفائه؛ لأنّا [إنّما نَتكلَّمُ علىٰ أنّه لا يَعلَمُ ](3) باقيَ المعلُوماتِ إلّابعِلمٍ مُحدَثٍ . و هذه جُملةٌ كافيةٌ .

الدليل الثامن

دليل آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالى لا يَجوزُ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ

قَديمةٍ أنّ قُدرتَه كانَ يَجِبُ أن تَكونَ موجودةً لا في مَحَلٍّ حتّى تَتعلَّقَ به؛ لأنّ وجودَها فيه يَستحيلُ ، و وجودَها في مَحَلٍّ لا حَياةَ فيه كذلكَ ، و وجودُها(4)

ص: 325


1- . في الأصل: «وجب»، و الصحيح ما أثبتناه، بقرينة قوله قبل قليل: «لأنّه يوجب وجود مالا يتناهى».
2- . في الأصل: «يدلّ ».
3- . في الأصل: «إنّما يتكلّم على أنّه لا يتكلّم على أنّه لا يعلم لا بعلمٍ ». و هو مضطرب، و فيه تكرار، و الصحيح ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «فوجودها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّه لا معنى للتفريع هنا على ما سبق.

في مَحَلٍّ مع الحياةِ يَقتَضي تعلُّقَها بمَن تلكَ الحَياةُ حَياةٌ له، علىٰ ما تَقدَّمَ في الكتابِ . و قد بيّنّا أنّ مِن حُكمِ القُدرةِ لأمرٍ يَرجِعُ إلىٰ صحّةِ الفِعلِ بها، استعمالَ مَحَلِّها في الفِعلِ . و دَلَّلنا علىٰ أنّ الفِعلَ لا يَصِحُّ أن يَقَعَ بها إلّابأن يُبتَدَأ هو أو ما [هو] سببُه في مَحَلِّها، و متى وُجِدَت لا في مَحَلٍّ ، بَطَلَ حُكمُها، و لَم يَصِحَّ الفِعلُ بها.

الدليل التاسع

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ أيضاً، أنّا قد بيّنّا - فيما تَقدَّمَ مِن الكتابِ - أنّ قُدَرَنا مع اختلافِها لا يَصِحُّ أن يُفعَلَ بها الأجسامُ و الألوانُ و ما أشبَهَهما مِن الأجناسِ المخصوصةِ ، و بيّنّا أنّ اختلافَ القُدَرِ (89) لا يقتضِي اختلافَ المقدوراتِ ، و أنّ مِن حَقِّ كُلِّ قُدرةٍ أن يُقدَرَ بها علىٰ كُلِّ جنسٍ يُقدَرُ بغَيرِها(1) عليه، و أنّ هذا الحُكمَ يَجِبُ في القُدَرِ مِن حَيثُ كانَت قُدَراً و يَصِحُّ الفِعلُ بها. و هذا يَقتَضي تَعَذُّرَ الأجسامِ و الألوانِ عليه تَعالىٰ ، لو كانَ قادراً بقدرةٍ . و في عِلمِنا أنّه تَعالىٰ هو الفاعلُ لها دَلالةٌ علىٰ نفيِ كَونِه قادراً بقُدرةٍ .

الدليل العاشر

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علَى استحالةِ كَونِه حَيّاً بحياةٍ قَديمةٍ : ما قد بيّنّاه مِن اعتبارِ حُكمِ الحَياةِ و تأثيرِها في المَحَلِّ ، و أنّ وجودَها في غَيرِ مَحَلٍّ مُستحيلٌ . و الحَياةُ القَديمةُ لَو كانَت ثابتةً لم يَجُز حُلولُها المَحَلَّ ، و إنّما كانَت توجَدُ لا في مَحَلٍّ ، و ذلك باطِلٌ بما ذَكَرناه.

***

ص: 326


1- . في الأصل: «لغيرها»، و قوله: «أن يقدر بها» قرينة عليه.
6 فَصلٌ في الإشارةِ إلىٰ قَويِّ شُبَهِ أصحابِ الذات و الصفاتِ و الكلامِ عليها
فقد تَعَلَّقَ هؤلاءِ بأشياءَ
اشارة

[1.] مِنها: قولُهم: لَو كانَ عالِماً لذاتِه، وَجَب(1) أن تَكونَ (2) ذاتُه عِلماً، و إذا(3)لَم يَكُن عالِماً لذاتِه فهو عالِمٌ بعِلمٍ .

[2.] و مِنها: أنّ كونَه عالِماً أو(4) قادراً إذا رَجَع إلىٰ ذاتِه، وجبَ أن يَكونَ قادراً علىٰ كُلِّ ما يَعلَمُه.

[3.] و مِنها: أنّ الفعلَ المُحكَمَ يَدُلُّ علَى العِلمِ ، كما يَدُلُّ علىٰ كَونِ الفاعلِ عالِماً.

[4.] و مِنها: أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ لا يَخلو مِن أن يَكونَ عِلماً بذاتِه، [أو عِلماً بعِلمِه، و لَو كانَ عِلماً بذاتِه](5) لَكانَ (6) الجَهلُ بأنّه عالِمٌ جَهلاً بذاتِه، و لَوجبَ في كُلِّ مَن عَلِمَ ذاتَه أن يَعلَمَه عالِماً. و فَسادُ ذلكَ يَقتَضي أنّه عِلمٌ بعِلمِه.

[5.] و مِنها: أنّ قولَهم: إنّ وَصْفَنا العالِمَ بأنّه عالِمٌ اشتقاقٌ مِنَ العِلمِ ، فلا سَبيلَ إلىٰ نفيِه مع إثباتِ العالِمِ عالماً.

ص: 327


1- . في الأصل: «أوجب»، و الصحيح ما أثبتناه؛ بقرينة قوله بعد قليل: «وجب أن يكون قادراً».
2- . في الأصل: «يكون».
3- . في الأصل: «أو إذا»، و لا محصّل له في المقام.
4- . كذا في الأصل، و لعلّ الأنسب: «و قادراً».
5- . ما بين المعقوفين منّا، و به يرتفع اضطراب العبارة، و قد استفدناه ممّا يأتي من المباحث.
6- . في الأصل: «كان»، و الصحيح ما أثبتناه بعد ما أثبتناه بين المعقوفين.

[6.] و مِنها: أنّ وَصفَنا العالِمَ بأنّه عالِمٌ إثباتٌ ، و إذا لَم يَكُن إثباتاً لذاتِه، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ إثباتاً لعِلمِه.

[7.] و مِنها: أنّه قد يَحسُنُ أن يأمُرَ أحَدُنا [غيرَه] بأن يَعلَمَ و يَمدَحَه على ذلكَ ، و لا يَجوزُ أن يَتعلَّقَ الأمرُ و المَدحُ إلّالمعنىً يَفعَلُه، و إذا صَحَّ ذلكَ فينا حُمِلَ الغائبُ عليه. علىٰ أنّ مُتعلَّقَ الأمرِ - إذا كانَ - هو المعنىٰ ، و كذلكَ (1) الخبر(2)و الدَّلالةُ .

و الجوابُ عن الشُّبهةِ الأُولىٰ :

أنّه إنّما(3) كانَ يَلزَمُنا أن تَكونَ (4) ذاتُه عِلماً، لَو جَعَلنا كَونَه عالِماً موجَباً عن الذاتِ علَى التحقيقِ ؛ و كَما توجِبُ (5) العِلّةُ المعلولَ . و هذا لم نُرِدْهُ (6) و لا هو مفهومٌ مِن كلامِنا.

و(7) معنىٰ قولِنا: «إنّه تَعالىٰ عالِمٌ لنفسِه»، أنّه اختَصَّ بهذه الصفةِ علىٰ وَجهٍ بانَ بها مِن سائرِ العالِمينَ ، و أنّه استَغنىٰ فيها عن معنىً . و إضافةُ الصفةِ إلَى النفسِ لَيسَ يُفيدُ التعليلَ ، و إنّما يُفيدُ غايةَ التَخصيص و التميُّزِ. و الأصلُ في ذلكَ قَولُ أهلِ اللُّغةِ : «فَعَلَ زَيدٌ كذا بنفسِه» إذا أرادوا التأكيدَ في الاختصاصِ .

ص: 328


1- . اي «فكذلك».
2- . تقرأ هذهِ الكلمة في الأصل: «الحذر»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما سوف يأتي في نهاية الجواب عن الشبهة السابعة.
3- . في الأصل: «لما» بدل «إنّما».
4- . في الأصل: «أنّ كون».
5- . في الأصل: «يوجب».
6- . في الأصل: «لم يرده».
7- . في الأصل: «أو».

على أنّ السوادَ لمّا كانَ سَواداً(1) لنفسِه، كانَت نفسُه سَواداً، فكذلكَ (2) يَجِبُ في العالِمِ لنفسِه أن تَكونَ (3) ذاتُه عالِمةً ، و هكذا نقول [في القدرةِ و الحياةِ ](4).

و الجوابُ عن الشُّبهةِ الثانيةِ :

أنّ وَصفَه بأنّه «عالِمٌ » و «قادِرٌ»، و إن رَجَعَ إلىٰ ذاتٍ واحدةٍ ، فالفائدةُ فيه مُختَلِفةٌ ، و إذا اختَلَفَت وجبَ أن يُراعىٰ ما يَصِحُّ فيه.

و قولُنا: «موجودةٌ » و «قُدرةٌ » يَرجِعُ إلىٰ ذاتٍ واحدةٍ ، فإن(5) تَعلَّقَت موجِبةً [فقد تَعلَّقَت مِن حَيثُ ](6) كانَت قُدرةً ، و لَم تَتعلَّقْ مِن حَيثُ كانَت موجودةً ؛ لاختلافِ

الفائدةِ . و الحَيُّ منّا قادِرٌ(7) علىٰ كُلِّ ما كانَ عالِماً به.

و الجوابُ عن الشُّبهةِ (90) الثالثةِ :

[1.] أنّا قد بيّنّا فيما تَقدَّمَ أنّ الفِعلَ المُحكَمَ لا يَدُلُّ علَى العِلمِ (8)، و أنّه إنّما(9) يَدُلُّ علىٰ كَونِ فاعلِه مُفارِقاً لِما يَتعذَّرُ ذلكَ مِنه. و أنّ المُفارَقاتِ قد تَختَلِفُ فتَكونُ تارةً للمَعاني، و تارةً لغَيرِها. فإذا عَلِمنا في أحَدِنا أنّ المُفارَقةَ إنّما حَصَلَت له عن معنىً

ص: 329


1- . في الأصل: «سواد».
2- . في الأصل: «فلذلك»، و الصحيح ما أثبتناه؛ فإنّ الغرض ذكر النظير، لا التعليل.
3- . في الأصل: «يكون».
4- . ما بين المعقوفين منّا، و به يستقيم المعنى.
5- . في الأصل: «و إن تعلّقت موجبة كانت»، و الصحيح ما أثبتناه؛ للتفريع على ما سبق.
6- . ما بين المعقوفين أضفناه بقرينة ما بعده.
7- . في الأصل: + «عالم»، و هو زائد بشهادة ذيل العبارة.
8- . تقدّم في ص 318.
9- . في الأصل: «لمّا».

بدليلٍ يَختَصُّه(1)، لَم يَجِبْ أن يَثبُتَ المعنىٰ في كُلِّ مَوضعٍ حَصَلَت فيه المُفارَقةُ ؛ لأنّ اشتراكَ المَوصوفَينِ في الصفةِ لا يَمتَنِعُ ، و إن استَحَقَّها أحدُهما لعِلّةٍ و الآخَرُ لا لعِلّةٍ ، بَعدَ أن يَختَلِفا في كيفيّةِ الاستحقاقِ ، و لهذا كانَ المَوجودُ مِنّا مَوجوداً بفاعلٍ ، و هو تَعالىٰ موجودٌ لِنفسِه.

[2.] على أنّ مَن أَوجَبَ عليه القولَ بأنّه تَعالىٰ عالِمٌ بعِلمٍ ، قياساً علَى العالِمِ مِنّا، مِن حَيثُ شارَكَه في مُطلَقِ الصفةِ ، مِن غَيرِ مُراعاةٍ لكيفيّةِ الاستحقاقِ ، و لا الوَجهِ الذي مِنه ثَبَتَ العِلمُ لأحَدِنا، يَلزَمُه أن يَكونَ عِلمُه تَعالىٰ مُحدَثاً و غَيراً له، و أن يَكونَ له عِلمٌ مُفرَدٌ بكُلِّ معلومٍ ، كما أنّ كُلَّ ذلكَ واجِبٌ في العالِمِ مِنّا، و يَلزَمُه أن يَكونَ مُشارِكاً للعالِمِ مِنّا في الجسميّةِ و البِنيةِ ، و سائِرِ ما لا يَكونُ عالِماً(2) إلّامع حُصولِه. و متَى امتَنَعَ مِن التزامِ ذلكَ بوَجهٍ ، حَصَلَ بعَينِه العِلّةُ في الامتناعِ عن كونِه عالِماً بعِلمٍ ، و حَملِه على أحوالِ العالِمينَ مِنّا.

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ :

أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ ، هو عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ ، و لَيسَ يَتعلَّقُ بمُجرَّدِ الذاتِ ، و لا بمعنىً فيها، علىٰ ما بَنَوا عليه السؤالَ .

فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ العالِمَ بكَونِه عالِماً حالٌ (3)، ثُمّ دُلُّوا علىٰ أنّ العِلمَ بأنّه عالِمٌ يَتعلَّقُ بكَونِه عليها.

قُلنا: الدليلُ علَى الفصلِ الأوّلِ : أنّ الفِعلَ المُحكَمَ إذا صَحَّ مِن زَيدٍ و تَعذَّرَ علىٰ

ص: 330


1- . في الأصل: «تختصّه».
2- . اسم «يكون»، ضمير يرجع إلىٰ «العالِم مِنّا».
3- . في الأصل: «حالاً».

عَمرٍو، فلا بُدَّ مِن كَونِه دالاًّ علَى اختصاصِ مَن صَحَّ [مِنه] بأمرٍ فارَقَ به مَن تَعذَّرَ عليه. و لا بُدَّ مِن أن يَكونَ ذلكَ الأمرُ مُختَصّاً بِمَن(1) صَحَّ مِنه الفِعلُ ، و هو الجُملةُ دون أبعاضِها، فيَجِبُ علىٰ هذا أن يَكونَ الفِعلُ المُحكَمُ دالاًّ على اختصاصِ الجُملةِ بحالٍ .

و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الفِعلَ دالٌّ علىٰ أنّ العِلمَ الذي به كانَ أحَدُنا عالِماً(2)، و إنّ

المُفارَقةَ إلىٰ ذلكَ تَرجِعُ (3)؛ لأنّا قد بَيّنّا فَسادَ ذلكَ مِن قَبلُ مِن وجوهٍ .

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّا قد عَلِمنا امتناعَ وجودِ عِلمٍ في جُزءٍ مِن قَلبِ زيدٍ، و وجودِ جَهلٍ يُضادُّ ذلكَ العِلمَ في جُزءٍ آخَرَ مِن قَلبِه في حالةٍ واحدةٍ ، فلَو لَم يَكُنِ العِلمُ يوجِبُ للجُملةِ (4) حالاً، لَما وجبَ ذلكَ . كما لَم يَستَحِلْ وجودُ السوادِ و البياضِ في جُزءَينِ مِن قَلبِه، لمّا لَم يُوجِبا للجُملةِ حالتَين مُتَضادّتين(5).

فأمّا الذي يُدَلُّ به علَى القِسم الثاني(6) - و هو أنّ العِلمَ (7) بأنّه عالِمٌ يَتعلَّقُ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ - فهو(8) أنّ أحَدَنا يَجِدُ نفسَه مُعتَقِداً باضطرارٍ، و يَتأمَّلُ حالَه في سُكونِ نَفسِه إلى المُعتَقَدِ، فيَعلَمُ أنّه عالِمٌ . و ما يَجِدُ نَفسَه عليه هو ما يَختَصُّ به مِن الحالِ الراجعةِ إليه.

ص: 331


1- . في الأصل: «لمن».
2- . كذا في الأصل، و الظاهر أنّ في العبارة سقطاً.
3- . في الأصل: «يرجع».
4- . في الأصل: «الجملة»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «لم يوجبا للجملة حالين متضادّتين».
5- . في الأصل: «متضادّين».
6- . يريد «الفصل الثاني».
7- . في الأصل: «العالم»، و ما أثبتناه هو ما نصّ عليه السيّد المصنّف قُبيل هذا.
8- . في الأصل: «و هو».

و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ ذلكَ يَتعلَّقُ بالعِلمِ الحالِّ في قَلبِه.

علىٰ أنّ (1) حُكمَ ذلكَ العِلمِ مِن حَيثُ حَلَّ قَلَبَه، حُكمُ سائرِ المَعاني الحالّةِ ؛ مِن سَوادٍ و بَياضٍ و غَيرِهما، و إن خالَفَ العِلمُ هذه المَعانِيَ مِن حَيثُ كانَ موجِباً للجُملةِ حالاً.

فثَبَتَ بذلكَ أنّ عِلمَه تَعلَّقَ بما هو عليه مِنَ الحالِ ، و هذا يَقتَضي أنّ معلومَ العِلمِ بأنّ العالِمَ عالِمٌ في كُلِّ مَوضِعٍ ، كَونُه علىٰ هذه الحالِ المخصوصةِ ؛ لأنّ معلومَ العِلمِ لا يَختَلِفُ باختلافِ (91) العالِمينَ .

و ممّا يَدُلُّ على ذلك: أنّ العِلمَ يَتعلَّقُ بالمعلومِ علىٰ حَدِّ تَعَلُّقِ الدَّلالةِ ، و قد بَيَّنّا(2)أنّ الفِعلَ المُحكَمَ إنّما يَدُلُّ علىٰ كَونِ مَن صَحَّ مِنه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ ، و أنّه(3) لا يَدُلُّ علَى العِلمِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ العِلمُ بأنّه عالِمٌ مُطابِقاً(4) لهذا الوجهِ ؛ لوُقوعِ العِلمِ مَوقِعَ الدَّلالةِ في هذا البابِ .

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ ، لا يَخلو مِن أن يَكونَ : مُتعلِّقاً بعِلمِه، أو مُتعلِّقاً بأنّه على حالٍ مخصوصةٍ ، أو مُتعلِّقاً بمُجرَّدِ ذاتِه.(5)

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ مُتعلِّقاً بعِلمِه؛ لِما تَقدَّمَ (6) مِن أنّا نَستَدِلُّ و نَتوصَّلُ إلىٰ كونِه عالِماً بالفِعلِ المُحكَمِ الذي يَقَعُ مِن الجُملةِ دونَ أبعاضِها، فيَجِبُ أن يَكونَ

ص: 332


1- . كذا في الأصل، و الظاهر أنّ في العبارة سقطاً.
2- . تقدّم في الفصل الأوّل الآنف الذكر.
3- . في الأصل: «إنّما»، و الأنسب ما أثبتناه عطفاً على «أنّ الفعل المحكم».
4- . في الأصل: «مطابق»، و الصحيح ما أثبتناه، و هو خبر «يكون».
5- . فهذه ثلاثة شقوق، و الثاني هو المطلوب.
6- . تقدّم في الفصل الأوّل الآنف الذكر.

دالاًّ علَى اختصاصِ الجُملةِ بما لَيسَ لِمَن يَتَعذَّرُ(1) ذلكَ عليه. و لَيسَ الفِعلُ واقعاً مِن العِلمِ ، و لا مِن مَحَلِّهِ ، و لا تَعلُّقَ بَينَه و بَينَ الفِعلِ المُحكَمِ الذي به يُستَدَلُّ و مِن جهتِه يُعلَمُ . و إذا لَم يَدُلَّ الفِعلُ علَى العِلمِ ، فكذلكَ العِلمُ بأنّه عالِمٌ لا يَتعلَّقُ بالعلمِ ؛ لوجوبِ تَطابُقِ الأمرَينِ .

و أيضاً: فكيفَ يكونُ العِلمُ بأنّه عالِمٌ مُتعلِّقاً بالعِلمِ ، و قد يَعلمُهُ (2) عالِماً مَن لا يَعلَمُ عِلمَه؛ لا علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تفصيلٍ ، كالنظّامِ (3)، و جَميعِ مَن نَفَى الأعراضَ؟

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : مِثلُ هذا يَلزَمُكُم إذا قُلتُم: إنّ العِلمَ بأنّ الأسوَدَ أسوَدُ عِلمٌ بسَوادِه.

ص: 333


1- . في الأصل بدل «يتعذّر» كلمة لعلّها تُقرأ: «نقدر»، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
2- . في الأصل: «نعلمه».
3- . أبو إسحاق، إبراهيم بن سيّار النظّام، البصري، المتكلّم، من رؤوس المعتزلة و منظّريها و هوالذي عبّر عنه الشيخ المفيد ب «إمام المعتزلة و شيخها»، فالرجل أشهر من أن يُعرّف. ولد بالبصرة حدود سنة 160 ه، و درس عند أبي هذيل العلّاف، فصاغ نظامه الفكري على مذهب معتزلة البصرة، ثمّ هاجر إلى بغداد فأصبح الوجه البارز لمدرسة الاعتزال ببغداد، ارتبط بهشام بن الحكم و تأثّر به كثيراً في قضايا مهمّة كانت مَثار الجدال آنذاك و لا زالت، مثل إنكاره الجزء الذي لا يتجزّأ، و القياس و الرأي و الإجماع، و القول بالطفرة، و الطعن بجماعة من الصحابة و محدّثي أهل السّنة، لكن كلّ ذلك لم يدخله في عِداد الشيعة، و الشاهد على ذلك نقده لأميرالمؤمنين عليه السلام! و لم يشفع له ذلك فقد طعن أهل السنّة و أهل الحديث فيه و اتّهموه بالكفر و الزندقة و سائر الموبقات. يعدّ الجاحظ من أبرز تلاميذه و له تأليفات كثيرة. توفّي ببغداد حدود سنة 230 ه. طبقات المعتزلة، ص 49-52؛ الفهرست لابن النديم، ص 205؛ تاريخ بغداد، ج 6، ص 97، سير أعلام النبلاء، ج 10، ص 541؛ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 2، ص 172؛ مذاهب الإسلاميّين، ج 1، ص 201؛ الإفصاح: 47.

و ذلكَ : أنّ السواد مُدرَكٌ ، و كُلُّ مَن شاهَدَ الأسوَدَ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُدرِكاً لسَوادِه، و عالِماً به علىٰ جهةِ الجُملةِ . و نُفاةُ الأَعراضِ يَعلَمونَ السوادَ علَى الجُملةِ ، و إنّما يَجهَلونَ كَونَه غَيراً لِلمَحَلِّ ، و هذا يَرجِعُ إلى التفصيلِ . و مِثلُ هذا لا يُمكِنُ [في] العِلمِ ؛ لأنّه غَيرُ مُدرَكٍ . فلا وَجهَ يوجِبُ القولَ بأنّ مَن عَلِمَ العالِمَ عالِماً، لا بُدَّ مِن أن يَعلَمَ عِلمَه على جُملةٍ ، لا(1) على تفصيلٍ .

على أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ لو كانَ مُتعلَّقُه العِلمَ الذي به كانَ [العالِمُ ] عالِماً، لاستَحالَ أن يُعلَمَ عالِماً مَن لا عِلمَ له يَعلَمُ به الأشياءَ . و كانَ يَجِبُ استحالةُ العِلمِ بالقَديمِ تَعالىٰ عالِماً، و في صحّةِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ فَسادِ هذا القولِ .

و ليسَ يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ أنّ العِلمَ بأنّ العالِمَ عالِمٌ يَتعلَّقُ بما له كانَ عالِماً، فمتىٰ عُلِم أحَدُنا عالِماً تَعلَّقَ العِلمُ بعِلمِه. و إذا عُلِمَ القَديمُ تَعالىٰ عالِماً كانَ العِلمُ مُتعلِّقاً بذاتِه.

لأنّ هذا يوجِبُ أنّ مدلولَ الدَّلالةِ يَختَلِفُ ، و هذا يؤَدّي مِن الفَسادِ إلىٰ ما لا خَفاءَ به.

فإن قيلَ : و لِمَ أنكَرتُم أن يَكونَ مُتعلَّقُ العِلمِ بأنّ العالِمَ عالِمٌ ، هو أنّ له معلوماً، و العِلمِ بأنّه قادرٌ(2) أنّ له مقدوراً؟

قُلنا: هذا يَبطُلُ بالعِلمِ بأنّه حَيٌّ موجودٌ؛ لأنّ هاتَينِ الصفتَينِ لا تَعلُّقَ لهما فيُقالَ فيهما ما قيلَ في عالمٍ و قادرٍ.

و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ العِلمَ بأنّه حَيٌّ موجودٌ عِلمٌ بذاتِه؛ لأنّه قَد يَعلَمُ ذاتَه مَن

ص: 334


1- . في الأصل: «و لا».
2- . في الأصل: + «و معلوم»، و هو زائد.

لا يَعلَمُه(1) كذلكَ .

فلاُ بدَّ مِن الرجوعِ إلىٰ أنّ ذلكَ عِلمٌ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ ، بانَ (2) بها ممّن لَيسَ كذلك.

و إذا صَحَّ ما ذَكَرناه في كونِه حَيّاً موجوداً، صَحَّ في كونِه عالِماً و قادِراً؛ لأنّا قد دَلَّلنا على أنّ له بهذه الصفاتِ كُلِّها أحوالاً. و إذا صَحَّ تَعلُّقُ العِلمِ بكَونِ الذاتِ علىٰ بعضِها، صَحَّ العِلمُ بكونِه علَى الجميعِ ؛ لأنّ مَن خالَفَ في الأحوالِ و تَعلُّقِ العِلمِ ب [كَونِ ] الذاتِ عليها، خالَفَ (3) في البعضِ و الكُلِّ .

علىٰ أنّ «العِلمَ بأنّه عالِمٌ » لَو لَم يَكُن عِلماً(4) باختصاصِه (92) بحالٍ ، لَم يَكُنِ المعلومُ بأن يَكونَ معلوماً له أَولى مِن غَيرِه، و كذلكَ المقدورُ. و لا كُنَّا بأن نَعلَمَه(5)معلوماً له أَولى مِن أن نَعلَمَه معلوماً لغَيرِه؛ [إذ](6) كانَ الرُّجوعُ في ذلكَ إنّما هو إلى ذاتِ العالِمِ و المعلومِ .

علىٰ أنّ القولَ بذلكَ يوجِبُ إذا عَلِمناهُ تَعالىٰ عالِماً بكُلِّ المعلوماتِ علَى التفصيلِ ، أن نَكونَ (7) عالِمينَ بمعلوماتٍ لا نِهايةَ لها علىٰ هذا الوجهِ ، و ذلكَ مُحالٌ .

علىٰ أنّا قد نَعلَمُ المقدوراتِ و المعلوماتِ ، و لا نَعلَمُه عالِماً قادراً، فكيفَ يَكونُ العِلمُ بالمعلومِ و المقدورِ عِلماً بأنّه عالِمٌ قادرٌ؟

ص: 335


1- . في الأصل: «لا يعلم»، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
2- . في الأصل: «فإنّ ».
3- . في الأصل: «لحالف».
4- . في الأصل: «عالماً».
5- . في الأصل: «يعلمه».
6- . في الأصل: «إن».
7- . في الأصل: «يكونا».

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : قد أسقَطتُم الإضافةَ المراعاةَ ؛ لأنّا إنّما قُلنا: إنّ العِلمَ بأنّه عالِمٌ ، عِلمٌ بأنّ له معلوماً، و كذلكَ في المقدورِ.

و ذلكَ : أنّ هذه الإضافةَ بقَولِهم له لا تُعقَلُ (1) إذا لَم يَرجِعْ إلّاإلىٰ وجودِ ذاتِه و ذاتِ المعلومِ ، و إنّما يكونُ لها فائدةٌ إذا أثبَتوا صفةً أو حالاً، و لهذا قيلَ : إنّه لو ثَبَتَ فيه تَعالىٰ أنّه عالِمٌ بعِلمٍ ، لَوجبَ أن يَكونَ «العِلمُ بأنّه عالِمٌ بهذا العِلمِ » عِلماً باختصاصِه لأجلِ هذا العِلمِ بما لَم يَحصُل لغَيرِه؛ لأنّا إن لَم نَرجِعْ إلّاإلىٰ وجودِ العِلمِ و وجودِ ذاتِه تَعالىٰ ، بَطَلَ الاِختصاصُ ، و أنّه بهذا العِلمِ عالِمٌ دونَ غيرِه.

على أنّ من أجرىٰ بهذا الكلامِ إلىٰ إبطالِ تَعلُّقِ العِلمِ بالذاتِ علَى الأحوالِ ، لا يَجِدُ حيلةً إذا قيلَ له: قد تَعلَمُ السوادَ سواداً و موجوداً(2) و مُحدَثاً و باقياً و حَيّاً، و قد عَلِمنا اختلافَ هذه العلومِ ، و أنّ بعضَها لا يَسُدُّ مَسَدَّ بعضٍ .

و لا يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّها عُلومٌ بمُجرَّدِ ذاتِه أنّها ذاتٌ ، و لا أنّها عُلومٌ بمتعلَّقِ (3) هذه الصفاتِ .

لأَنَّه لا تَعلُّقَ لها، فيَجِبُ أن تَكونَ (4) عُلوماً ب [كَونِ ] الذاتِ علىٰ هذه الأحوالِ .

و إذا صَحَّ ذلك في السوادِ و الجَوهرِ و غَيرِها مِن الذواتِ ، صَحَّ في القَديمِ

تَعالىٰ ، و في كُلِّ المَعلوماتِ المُختَصّةِ بالأحوالِ و الصفاتِ .

و لا يَجوزُ أن يَكونَ «العِلمُ بأنّ العالِمَ عالِمٌ » عِلماً بمُجرَّدِ ذاتِه؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ القولَ بأنّ كُلَّ مَن عَلِمَ ذاتَه فقَد عَلِمَه عالِماً، و يوجِبُ أنّ الجَهلَ بأنّه عالِمٌ جَهلٌ بذاتِه.

ص: 336


1- . في الأصل: «لا يعقل».
2- . في الأصل: «أو موجوداً».
3- . في الأصل: «لمتعلّق»، و الأولى ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «يكون».

و كانَ يجِبُ أن لا تَختَلِفَ (1) العُلومُ المُتعلِّقةُ بأنّه عالِمٌ قادرٌ حَيٌّ ؛ لأنّ التعلُّقَ على هذا القولِ لا يَختَلِفُ .

و كانَ يَجِبُ أن يَسُدَّ بعضُها مَسَدَّ بعضٍ .

و كُلُّ ذلك ظاهرُ الفَسادِ.

فثَبَتَ صحّةُ ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ العِلمَ بذلك مُتعلِّقٌ بكَونِه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ .

و الجَوابُ عن الشبهةِ الخامسةِ :

[1.] أنّ مِن شأنِ الوَصفِ المُشتَقِّ مِن حادثٍ مِن الحَوادثِ أن(2) لا يُخبِرَ به(3) و لا يَعلَمَه إلّامَن عَلِم ذلكَ الأمرَ الذي هو مُشتَقٌّ مِنه؛ إمّا علىٰ جُملةٍ أو تفصيلٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّ وَصفَ الفاعلِ بأنّه فاعلٌ ، لمّا كانَ مُشتَقّاً مِن الفِعلِ ، لَم يَجُز أن يَعلَمَه و يُجريَ هذا الوَصفَ إلّامَن عَلِمَ الفعلَ علَى الجُملةِ أو علَى التفصيلِ . و كذلك وَصفُ الأسوَدِ بأنّه أسوَدُ لمّا كانَ مُشتَقّاً مِن السوادِ. و قد عَلِمنا أنّه قد يَعلَمُ العالِمَ عالِماً مَن لا يَعلَمُ العِلمَ علىٰ جُملةٍ و لا علىٰ تَفصيلٍ ، بل قد يَعلَمُ ذلكَ مَن يَنفِي العُلومَ ، بل كُلَّ المعاني!

[2.] علىٰ أنّ الوَصفَ المُشتَقَّ هو إفادةُ المعنَى المُشتَقِّ مِنه، حتّىٰ تَكونَ حقيقتُه إفادةَ ذلكَ دونَ غَيرِه، علىٰ حدِّ ما ذَكَرناه في الأسوَدِ و الفاعِلِ ، و قد بيّنّا(4) أنّ حقيقةَ كَونِ العالِمِ عالِماً و فائدتَه لَيسَت وجودَ العِلمِ ، بل الفائدةُ كَونُه علىٰ حالٍ مخصوصةٍ لأجلِها صَحَّ منه المُحكَمُ مِن الفِعلِ .

ص: 337


1- . في الأصل: «يختلف».
2- . في الأصل: «ما» بدل «أن».
3- . في الأصل: «لا يحربه». هكذا تقرأ الكلمة، و هي غير مفهومة، و لعلّها تصحيف لما أثبتناه.
4- . تقدّم آنفاً في جواب الشبهة الرابعة، ص 334-335.

[3.] على أنّ مِن حَقِّ الوَصفِ المُشتَقِّ مِن غَيرِه (93) أن يَتقدَّمَه العِلمُ بما هو مُشتَقٌّ مِنه، ثُمّ يَتبَعَه(1) الوَصفُ المُشتَقُّ بذلكَ علىٰ سائرِ الأوصافِ المُشتَقّةِ ؛ كقَولِنا:

«أسوَدُ» و «فاعلٌ » و غَيرِهما. فكانَ (2) يَجِبُ أن يَعلَمَ العِلمَ أوّلاً، ثُمّ يَعلَمَ أنّه عالِمٌ و يَصِفَه بذلكَ ، و هذا عَكسُ الأمرِ؛ لأنّا نَعلَمُ أوّلاً كَونَه عالِماً ثُمّ نَستَدِلُّ علَى العِلمِ ، على ما تَقدَّمَ ذِكرُه.

[4.] و بَعدُ، فمَن رَجَعَ في اشتقاقِ «عالِم» مِن «عِلم» إلىٰ ظاهرِ اللُّغةِ ، يَلزَمُه أن يَكونَ كُلُّ مَوجودٍ مَوجوداً(3) بوجودٍ؛ لأنّ اسمَ «المَوجود» عندَهم مُشتَقٌّ من «الوجود»، و ما نَقولُه في ذلكَ يُقالُ له في «العِلم».

علىٰ أنّ لقَولِهم: «عالِمٌ مُشتَقٌّ مِن العِلمِ » معنىً صحيحاً؛ لأنّهم يُريدونَ هاهنا

بالعِلمِ المُفارَقةَ التي عَقَلوها(4)، و دَلَّ الدليلُ عليها، و هي التي تَتبَعُها(5) أجزاءُ الوَصفِ ؛ لأنّهم لا يَعرِفونَ المعنَى الحالَّ في القَلبِ و لا يَعقِلونَه و لا يَظهَرُ لهم؛ فكَيفَ يَشتَقّونَ ، و يَجعَلونَ الوَصفَ بالعِلمِ تابعاً له ؟

و كذلكَ القولُ في المُتحرِّكِ ؛ و الحركةُ عندَهم عبارةٌ عن المُفارَقةِ ، و الحالِ المعقولةِ دونَ الذاتِ الحالّةِ في الجَوهرِ المعلومةِ بالدليلِ .

و علىٰ هذا يَجري مَجرىٰ قولِهم: «إنّ المَوجودَ مُشتَقٌّ مِنَ الوُجودِ»، و إنّما يَعنونَ المُفارَقةَ بَينَ الثابِتِ و المُنتَفي، و لهذا يَقولونَ : «فلانٌ لا عِلمَ له بكذا»، و «لا قُدرَةَ

ص: 338


1- . في الأصل: «يتبع».
2- . في الأصل: «و كان» بالواو.
3- . في الأصل: «كلّ موجوده وجوداً»، و معلوم أنّه لا محصّل له.
4- . أي الفرق بين مَن يصحّ منه العلم و مَن يتعذّر منه.
5- . في الأصل: «يتبعها».

له عليه»، و «له عِلمٌ بكذا»، و إنّما يَعنونَ إثباتَ المُفارَقةِ ، و الحالِ دونَ الذاتِ .

و نَحنُ لا نُنكِرُ حُصولَ هذا المعنىٰ و هذه الفائدةِ في كُلِّ عالِمٍ اُجرِيَ عليه هذا الوصفُ و استَحَقَّه.

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ :

[1.] أنّ المَعانيَ لا يَصِحُّ (1) التوصُّلُ إليها بإطلاقِ العباراتِ ، بل الواجِبُ أن تَثبُتَ (2)المَعاني بالأدلّةِ ، ثُمّ تُجرَى العِباراتُ . و المَرجِعُ في أنّ «وَصفَ العالِمِ بأنّه عالِمٌ إثباتٌ » إلىٰ أهلِ اللُّغةِ ، و لا حُجّةَ في قولِهم(3) متىٰ لَم يَصدُرْ عن عِلمٍ ؛ فإن كانوا عَلِموا معنىً أثبَتوه ضَرورةً ، فكانَ (4) يَجِبُ أن نُشارِكَهم فيه، و إن كانوا(5) أثبَتوه بدَليلٍ ، فيَجِبُ أن تُذكَرَ تِلك الطريقةُ الدالّةُ ، و لا نَعتَمِدُ علىٰ عبارتِهم التي لا حُجّةَ فيها.

[2.] علىٰ أنّ الإثباتَ في أصلِ اللُّغةِ هو «الإيجادُ»، و لهذا يُسَمّونَ الموجودَ بأنّه «ثابِتٌ »، و المَعدومَ بأنّه «مُنتَفٍ ». و هو يَجري عندَهم - في أنّه عبارةٌ عمّا يَكونُ الشيءُ به ثابتاً - مَجرَى التحريكِ الذي يَكونُ به الشيءُ مُتحرِّكاً، و التسويدِ الذي يَكونُ (6) الشيءُ به أسوَدَ، ثُمّ تُجُوِّزَ(7) باستعمالِه في الخَبَرِ عن ثُبوتِ الشيءِ

ص: 339


1- . في الأصل: + «إليها»، و هو زائد.
2- . في الأصل: «أن يثبت».
3- . اختلف الأصوليّون في حجّيّة دلالة قول اللغوي على المعنى الحقيقي الموضوع له: فذهب بعضهم إلى القول بحجّيّته مطلقاً، و اشترط بعضهم لقبول قولهم حصولَ العلم من قوله، فيما شرط بعضهم التعدّد. راجع تفصيل ذلك: فرائد الأُصول، ج 1، ص 173.
4- . في الأصل: «و كان»، و الصحيح ما أثبتناه؛ للتفريع على ما قبله.
5- . في الأصل: «كان»، و قوله: «أثبتوا» قرينة على صحّة ما أثبتناه.
6- . في الأصل: «كون»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما قبله.
7- . في الأصل: «يجوز».

و وُجودِه(1)، كما استَعملوا قولَهم: «نَفيٌ » في الخَبرِ عن انتفاءِ الشيءِ ، و علىٰ هذا يَقولونَ : «هؤلاءِ نُفاةُ الأعراضِ ، و هؤلاءِ مُثبِتوها».

و إذا كانَ قَولُنا: «عالِمٌ » ليسَ بإيجادٍ، و لا خَبَرٍ عن إيجادٍ، لَم يَكُن إثباتاً.

[3.] و ليسَ يَمتَنِعُ أن يَكونَ قَولُنا: «عالِمٌ » إثباتاً(2) - مِن طريقِ المعنىٰ - لذاتِ العالِمِ ؛ مِن حَيثُ عَلِمنا بالدليلِ أنّه لا يَكونُ علىٰ هذه الصفةِ إلّاو هو موجودٌ، إلّاأنّه

لا يَلزَمُ علىٰ ذلك أن يَكونَ قَولُنا: «لَيسَ بعالِمٍ » نفياً لذاتِه مِن طريقِ المعنىٰ ؛ لأنّه لا يَمتَنِعُ وجودُه و إن لم يَكُن عالِماً، ففارَقَ الأوَّلَ .

[4.] علىٰ أنّا إن تابَعنا أهلَ اللُّغةِ في أنّ هذا الوَصفَ إثباتٌ ، و صَحَّحنا هذه الحكايةَ عَنهم، جازَ أن نَحمِلَ ذلكَ علىٰ أنّه إثباتٌ لكَونِ الذاتِ علَى الحالِ المخصوصةِ ، و النفيُ لِكَونِه(3) عالِماً يَكونُ نفياً لحُصولِه علىٰ هذه الحالِ .

[5.] علىٰ أنّ مَن حَكَوا عنه مِن أهلِ اللُّغةِ في «عالِمٍ » أنّه إثباتٌ ، يَقولُ في قولِنا:

«عِلمٌ » و «سَوادٌ» و «قُدرةٌ » مِثلَ ذلك، فيَجِبُ أن يُثبِتوا علىٰ هذا مَعانِيَ لا تَتَناهىٰ ، و قد بُيِّنَ في غَيرِ موضِعٍ أنّه لا مُعتَبَرَ برُتبةِ الألفاظِ و صُوَرِها.

و الجوابُ عن الشُّبهة السابعةِ :

(94)

[1.] أنّ التوصُّلَ (4) بالأمرِ إلىٰ إثباتِ معنىً إذا كانَ صحيحاً، وجبَ أن يَختَصَّ بمَن يَصِحُّ أن يؤمَرَ، و القَديمُ تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يؤمَرَ بأن يَعلَمَ ، فيَجِبُ أن لا يَكونَ عالِماً

ص: 340


1- . في الأصل: «و وجود» بدون الضمير.
2- . في الأصل: «إثبات».
3- . في الأصل: «بكونه»، و لا موقع للسببيّة هاهنا.
4- . في الأصل: «التواصل».

بعِلمٍ ؛ لأنّ الطريقةَ التي أثبَتوا بها العِلمَ لا تَتَأتّىٰ (1) فيه.

و لَيسَ لهم أن يَقولُوا: معنَى الأمرِ يَصِحُّ فيه تَعالى، و إن امتَنَعَ مِن اللفظِ لأجلِ اعتبارِ الرُّتبةِ ؛ لأنّا قد نَسألُه و نَدعوه، و في الدُّعاءِ و السؤالِ معنَى الأمرِ.

و ذلكَ : أنّه لا يَجوزُ أن نَسألَه أن يَعلَمَ ؛ لأنّ السؤالَ لا يَحسُنُ في أمرٍ حاصلٍ واجِبٍ ، و إنّما يَحسُنُ فيما لَيسَ بحاصلٍ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَحسُنُ أن نأمُرَ(2) غَيرَنا بأن يَعلَمَ (3) وجودَ نفسِه و ما أشبَهَ ذلكَ ممّا نَعلَمُ (4) كَونَه عالِماً به ؟

[2.] علىٰ أنّ أمرَنا غَيرَنا بأن يَعلَمَ ، كما يَدُلُّ علىٰ أنّه عالِمٌ بعِلمٍ ، فهو أيضاً يَدُلُّ علىٰ أنّ عِلمَه فِعلُه و حادثٌ مِن جهتِه، فيَجِبُ أن يُثبِتوا مِثلَ ذلكَ في كُلِّ عالِمٍ !

[3.] علىٰ أنّ الأمرَ إذا كانَ لا يَتعلَّقُ إلّابالأحداثِ ، فأمرُ المأمورِ أن يَعلَمَ مَبنيٌّ علىٰ أنّه عالِمٌ بعِلمٍ يُحدِثُه، فيَجِبُ علىٰ هذا أن لا نَأمُرَ بأن يَعلَمَ (5) إلّامَن عَلِمناه عالِماً بعِلمٍ حادثٍ . و كَيفَ يَكونُ الأمرُ دَلالةً علَى العِلمِ و مُتوصَّلاً به إلىٰ إثباتِه، و مِن شرطِ حُسنِه(6) تَقدُّمُ العِلمِ بأنّ المأمورَ عالِمٌ بعِلمٍ؟!

[4.] و قد أَجَببُ عن هذه الشُّبهةِ بأنّ الأمرَ أو الإرادةَ لا يَجِبُ تَعلُّقُها بذاتٍ حادثةٍ ، بَل يَكفي في حُسنِ الأمرِ أن نَعلَمَ أنّ هُناكَ حالاً مُتجدِّدةً يَتَناوَلُها(7)

ص: 341


1- . في الأصل: «لا يتأتّى».
2- . في الأصل: «يأمر».
3- . في الأصل: «نعلم».
4- . في الأصل: «يعلم».
5- . في الأصل: «نعلم».
6- . في الأصل: «جنسه»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله فيما يأتي: «بل يكفي في حسن الأمر».
7- . في الأصل: «فتناولها».

الأمرُ، و لهذا نأمُرُ نُفاةَ الأعراضِ بالحركةِ و الضربِ ، و إن لَم يُثبِتوا المَعانيَ فيما ذَكَرناه كتَجدُّدِ الذاتِ . و علىٰ هذا لا يَكونُ حُسنُ الأمرِ دَلالةً علَى العِلمِ في شاهدٍ و لا غائبٍ .

فأمّا المَدحُ فهو علىٰ ضَربَينِ :

أحَدُهما: يَجري مَجرَى الثوابِ .

و الآخَرُ: يَتضمَّنُ الإعظامَ و لا يَجري مَجرَى الثوابِ .

و الأوّلُ : لا يَتعلَّقُ إلّابما يَفعَلُه الممدوحُ ، و علىٰ هذا الوَجهِ لا يُمدَحُ أحَدُنا بأنّه عالِمٌ ، إلّابَعدَ أنْ يُعلَم أنّه فَعَلَ العِلمَ .

و الوجهُ الثاني: لا يَجِبُ أن يَتعلَّقَ بالأفعالِ ؛ ألا تَرىٰ أنّا نَمدَحُ العاقِلَ بأنّه عاقِلٌ و إن لَم يَكُن عاقلاً بفِعلِه، و نَمدَحُه تَعالىٰ بأنّه عالِمٌ و إن لَم يَكُن فاعلاً لشَيءٍ كانَ به عالِماً؟!

فأمّا حَملُ الخَبَرِ عن كَونِه عالِماً علَى الأمرِ فباطلٌ ؛ لأنّ الأمرَ لا يَتعلَّقُ إلّابالأحداثِ ، و الخَبَرُ يَتَناوَلُ الحادِثَ و غَيرَ الحادِثِ . و الخَبَرُ عن كَونِ العالِمِ عالِماً إنّما يَتعلَّقُ باختصاصِه بحالٍ ، و يَجرِي الخَبَرُ إذا كانَ صِدقاً في تَعلُّقِه مَجرَى الدَّلالةِ .

و العِلمُ لا يَجري مَجرَى الأمرِ، و هو إن كانَ ، يَحتاجُ إلى الإرادةِ ، كما يَحتاجُ الأمرُ إليها، فبَينَهما فَصلٌ : مِن حيثُ كانَ الأمرُ يَحتاجُ إلى إرادةِ المأمورِ به، و الخَبَرُ يحتاجُ إلى إرادةٍ تَتعلَّقُ (1) بكَونِه خَبَراً، و لا تَتعلَّقُ بالمُخبَرِ عنه. و هذا بَيِّنٌ لِمَن تَأمَّلَه.

ص: 342


1- . في الأصل: «يتعلّق». و هكذا في قوله: «و لا تتعلّق»، و هو في الأصل: «و لا يتعلّق».
7 فَصلٌ في بَيانِ استحالةِ خُروجِه تَعالىٰ عن الصفاتِ الّتي ذَكَرناها، و أنّ أضدادَها لا يَصِحُّ عليه
اشارة

قد دَلّلنا(1) علىٰ وُجوبِ هذه الصفاتِ له تَعالىٰ ، و رُجوعِها إلىٰ ذاتِه(2)، و الصفاتُ الذاتيّةُ لا يَجوزُ خُروجُ الموصوفِ عنها؛ لأنّ المُقتَضيَ لها لَيسَ بأن يَقتَضيَها في حالٍ بأَولىٰ مِن أن يَقتَضيَها في كُلِّ حالٍ .

على أنّ الصفةَ الذاتيّةَ لَو حَصَلَت في حالٍ دونَ أُخرىٰ ، لَوجبَ أن تَكونَ (3) الذاتُ في الحالِ التي حَصَلَت لها تِلكَ (95) الصفةُ ، مُخالِفةً لنفسِها في الحالِ التي

[لَم] تَحصُلْ (4) لها تلك الصفةُ ؛ لأنّ ما لا يَستَحِقُّ الصفةَ الذاتيّةَ [إنّما كانَ ] مُخالِفاً لِما يَستَحِقُّها مِن حَيثُ نَفيِ الاستِحقاقِ ، لا مِن حَيثُ كانَ غَيراً له؛ لأنّ الغَيريّةَ تَثبُتُ بالمُماثلةِ و المُخالَفةِ .

و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه، و كانَ كَونُه موجوداً تَقتَضيهِ (5) صفةُ ذاتِه، وجبَ في كُلِّ حالٍ ؛ لأنّه لا يُمكِنُ أن يُعلَّقَ بشرطٍ كما يُعلَّقُ غَيرُه به. و ما عَدا الوجودِ(6)مِن صفاتِه المُقتَضاةِ عن ذاتِه، لا يتعلّقُ حُصولُه إلّابالوجودِ، لا الشرطِ في

ص: 343


1- . في الأصل: «دلّنا».
2- . تقدّم إثبات هذين الأمرين في ص 227 و 254.
3- . في الأصل: «يكون».
4- . في الأصل: «يحصل» بدون «لم» و على صيغة الغائب، و هو خطأ؛ لأنّه بدون «لم» يحصل تناقض بين الصدر و الذيل، و فاعل الفعل قوله: «تلك الصفة».
5- . في الأصل: «يقتضيه». 6. في الأصل: «الوجوه».
6-

مُقتَضىٰ (1) صفةِ الذاتِ . و قد بيّنّا أنّ الوجودَ واجِبٌ في كُلِّ حالٍ ، فَيَجِبُ أن يَكونَ كونُه قادِراً عالِماً حيّاً، واجباً في كُلِّ حالٍ .

علىٰ أنّ العِلمَ بصحّةِ نَقلِ الجَوهرِ في الجِهاتِ مع تَحيُّزِه ضَروريٌّ ، و ما أدّىٰ إلَى المَنعِ مِن ذلكَ يَجِبُ القَضاءُ بفَسادِه. و في تَجويزِ خُروجِه عن كَونِه قادِراً ما يُؤدّي إلىٰ ذلكَ ؛ لأنّ غَيرَه من القادِرينَ لا شُبهةَ في صحّةِ خُروجِهم مِن كَونِهم قادِرينَ ، فلَو لَم يَجِبْ كَونُه قادِراً في كُلِّ حالٍ ، ما صَحَّ تَنقُّلُ الجَوهرِ في الجِهاتِ - إذا كان مُتحيِّزاً - في كُلِّ حالٍ .

و لَيسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّ الجواهرَ تَنتَهي بها الحالُ إلىٰ وجوبِ عدمِها، فلا يَحصُلُ التحيُّزُ المُصَحِّحُ لِلتنقُّلِ .

و ذلكَ : أنّ ما تَعَدّىٰ وجودُه الوَقتَ الواحدَ لَم تَنحَصِرْ أوقاتُ صحّةِ وجودِه؛ لأنّه لا مُقتَضيَ للحَصرِ، و الجَوهرُ يوجَدُ [في] الأوقاتِ الكثيرةِ ، فلا يُمكِنُ أن يُدّعىٰ وجوبُ عدمِه.

و إذا ثَبَتَ ما ذَكَرناه مِن وُجوبِ كَونِه قادراً في كُلِّ حالٍ ، وجبَ كَونُه حَيّاً موجوداً؛ لِتَعلُّقِ تلكَ الصفةِ بهاتَينِ الصفتَينِ .

في بيان استحالة خروجه تعالى عن صفة العلم

و يُمكِنُ أن يُقالَ في استحالةِ خُروجِه مِن كَونِه عالِماً مِثلُ ما قُلناه في كَونِه قادراً؛ لأنّ العِلمَ بصحّةِ وقوعِ الحركةِ مُترتِّبةً في كُلِّ حالٍ يُشارُ إليها، كالعِلمِ بصحّةِ تَنقُّلِ الجَواهرِ إذا كانَت مُتحيِّزةً ، فيَجِبُ القَضاءُ باستحالةِ خُروجِه مِن كَونِه عالِماً بمِثلِ ما ذَكَرناه.

ص: 344


1- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «المنتفي بمقتضىٰ »؛ بقرينة قوله فيما سبق: «لأنّه لا يمكن أن يعلّق بشرط كما يعلّق غيره به».
نفي كونه تعالىٰ جاهلاً ببعض المعلومات أو عاجزاً عن بعض المقدورات

فإن قيلَ : ألّاجَوَّزتُم كَونَه جاهلاً ببعضِ المعلوماتِ ممّا لَم يَكُن قَطُّ عالِماً به ؟ و كذلكَ [أن] يَكونَ (1) عاجزاً عن بَعضِ الأُمورِ ممّا لَم يَكُن قادراً عليه ؟ و هذا لا يَفسُدُ بما ذَكَرتُموه.

قُلنا: لَيسَ يَخلُو ذلكَ الأمرُ الذي ادُّعيَ أنّه عاجِزٌ عنه، مِن أن يَكونَ : ممّا يَصِحُّ

كَونُه مقدوراً له، أو ممّا(2) لا يَصِحُّ ذلكَ فيه:

فإن كانَ الأوّلَ : وجبَ كونُه قادراً عليه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه مِن حَيثُ كان قادراً لنفسِه، [وَجَبَ ] أن يَكونَ قادراً على كُلِّ ما صَحَّ كَونُه مقدوراً له، و أنّ صفةَ النفسِ تَجِبُ عندَ الصحّةِ ، فلَو جازَ عليه العَجزُ مع ذلكَ ، لَوجبَ أن يَكونَ قادراً علَى الشيءِ عاجِزاً عنه في حالٍ واحدةٍ .

و إن كانَ ذلكَ ممّا لا يَصِحُّ كَونُه قادراً عليه فما لا يَصِحُّ القُدرةُ عليه لا يَصِحُّ العَجزُ عنه؛ ألا تَرىٰ أنّا لا نَصِفُ أحَدَنا بأنّه عاجزٌ عن الجمعِ بين الضِّدَّينِ ، و لا عاجِزٌ عن مقدورِ غَيرِه ؟ و لهذا لَم نَصِفِ الأعراضَ و المعدوماتِ بأنّها عاجزةٌ ؛ مِن حَيثُ استَحالَ كَونُها قادرةً .

و القولُ في كَونِه جاهلاً يَجري علىٰ هذا؛ لأنّه إن كانَ ذلك الأمرُ ممّا يَصِحُّ كَونُه معلوماً لَه، وجبَ أن يَكونَ عالِماً به؛ لِما بيّنّاه مِن كَونِه عالِماً لِما هو عليه في نفسِه، و أنّ ما صَحَّ أن يَعلَمَه(3) يَجِبُ أن يَعلَمَه، و إذا وجبَ أن يَعلَمَه لَم يَجُز الجَهلُ عليه.

ص: 345


1- . في الأصل: «يكون» بدون «أن»، و الصحيح ما أثبتناه، بقرينة قوله: «كونه جاهلاً»، أي: و ألاجوّزتم كونه عاجزاً.
2- . في الأصل: «ما».
3- . في الأصل: «نعلمه».

و إن كانَ ما(1) لا يَصِحُّ أن يَكونَ معلوماً، لَم يَجُز أن يَكونَ مجهولاً؛ لأنّ ما لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ لا يَصِحُّ أن يُجهَلَ ، على النحوِ الذي ذَكَرناه في صفةِ القادرِ، و بيّنّا أنّه يؤَدّي (96) إليه.

علىٰ أنّه لو جازَ عليه - تَعالىٰ عن ذلكَ عُلُوّاً كَبيراً - الجَهلُ ببعضِ المعلوماتِ :

لَم يَخلُ [من] أن يَكونَ جاهلاً به لنفسِه(2)؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَعلَمَ شيئاً مِن المعلوماتِ ، و لا يَصِحَّ مِنه المُحكَمُ مِن الفِعلِ و لا العلومُ .

و لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ جاهلاً بكُلِّ ما يَصِحُّ أن يُجهَلَ علىٰ كُلِّ وَجهٍ يَصِحُّ أن يُجهَلَ عليه.

و كانَ يَجِبُ أن يَكونَ مُعتَقِداً كَونَ الحُمرةِ سَواداً حُموضةً ، و هذا جَهلٌ ، مع كَونِه مُعتَقدِاً لأنّ الحُموضةَ تُضادُّ السوادَ، و هذا جَهلٌ ثاني(3)، و قد عَلِمنا استحالةَ اعتقادِ ذلكَ .

و كانَ يَجِبُ أن يَعتَقِدَ في البَقاءِ أنّه باقٍ ؛ لأنّ ذلك جَهلٌ ، و يَعتَقِدَ فيه أنّه لَيسَ بباقٍ ، و ذلك أيضاً جَهلٌ ! و هذا يَقتَضي كَونَه علىٰ صفتَينِ مُتَضادَّتَينِ .

و لا يَجوزُ أن يَكونَ جاهلاً بجَهلٍ قَديمٍ ؛ لِما بَيّنّاه في فَسادِ كَونِه عالِماً بعِلمٍ قَديمٍ (4)، و لا بجَهلٍ مُحدَثٍ مع كَونِه عالِماً بنفسِهِ ؛ لأنّه يَقتَضي أن يكونَ جاهلاً بنَفسِ ما يَعلَمُه، و ذلكَ مُحالٌ .

ص: 346


1- . في الأصل: «ممّا».
2- . الظاهر أنّ في العبارة سقطاً، و كمالُها كالتالي: «لم يخلُ مِن أن يكون جاهلاً به لنفسه، أو بجهل قديم أو حادث. و الأوّل باطل؛ لأنّه كان يجب...».
3- . هكذا قد تُقرأ الكلمة في الأصل، كما لعلّها تُقرأ: «تالي». و الصحيح: ثانٍ ، أو: تالٍ .
4- . تقدّم في ص 312.

القسم الثاني الصفاتُ السلبيّة

اشارة

ص: 347

ص: 348

ال فَصلُ الأوّل في نَفيِ الحاجَةِ عنه تَعالىٰ و إثباتِه غَنيّاً
اشارة

اعلَمْ أنّ الحاجةَ إنّما تَتَعلَّقُ باجتلابِ المَنافعِ أو دَفعِ المَضارِّ. و «المَنافِعُ » هي اللَّذّاتُ و السُّرورُ و ما أدّىٰ إليهما أو إلىٰ أحَدِهما، إذا لَم يُعَقِّبْ ضَرراً يوفي علىٰ ذلكَ . و «المَضارُّ» هي الآلامُ أو الغُمومُ و ما يُؤَدّي إليهما أو إلىٰ أحَدِهما، إذا لَم يُعَقّبْ نَفعاً أعظَمَ منه. و «المُلتَذُّ» إنّما يَكونُ مُلتَذّاً بإدراكِ ما يَشتَهيه، و «الآلِمُ » يَكونُ (1) آلِماً بإدراكِ ما يَنفِرُ عنه.

و «المَسرورُ» إنّما يُسَرُّ بأن يَعلَمَ أو يَعتَقِدَ أو يَظُنَّ وصولَ نفعٍ إليه، أو اندفاعَ ضررٍ عنه، و أنّ (2) ذلكَ سَيَكونُ . و «المُغتَمُّ » يوصَفُ بذلكَ إذا عَلِمَ أو اعتَقَدَ أو ظَنَّ وصولَ ضررٍ إليه، أو فَوتَ نفعٍ حاصلٍ ، و أنّ ذلكَ سَيَكونُ .

فمَن لا يَجوزُ عليه الشَّهوَةُ و النِّفارُ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُلتَذّاً و لا آلِماً، و مَن لا يَجوزُ عليه اللَّذّةُ و الألمُ لا يَجوزُ عليه المَنافِعُ و المَضارُّ، و ما يَجري مَجراها

ص: 349


1- . في الأصل: «يكن»، و لا عامل للجزم، فالصحيح ما أثبتناه.
2- . كذا في الأصل، و الظاهر أنّ الصحيح: «أو أنّ »، لأنّ حقيقة السرور هي العلم أو الظنّ بوصول المنافع في الحال أو في المستقبل (انظر: المغني، ج 4، ص 16). و ترِدُ نفس الملاحظة على ما سيأتي في تعريف «المغتمّ ».

مِن السُّرورِ و الغَمِّ . و مَن لا يَجوزُ عليه المَنافِعُ و المَضارُّ، انتَفَتِ الحاجةُ عنه و كان غَنيّاً؛ لأنّ الغَنيَّ هو الحَيُّ الذي(1) لَيسَ بمُحتاجٍ .

أدلّة نفي الشهوة و النِفار عنه تعالى
الدليل الأوّل

و الذي يَدُلُّ على أنّ الشَّهوَةَ لا تَجوزُ علَى القَديمِ تَعالىٰ ، أنّها لَو جازَت، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ مُشتَهِياً بنفسِه، أو بشَهوةٍ قَديمةٍ ، أو مُحدَثةٍ .

فلو كانَ كذلكَ لنفسِه أو لمعنىً قَديمٍ ، لَوجبَ أن يَكونَ مُلجَأً(2) إلىٰ خَلقِ المُشتَهىٰ ، فكانَ يَجِبُ مِن ذلكَ أن يَكونَ فاعلاً لِأزيَدَ مِن كُلِّ قَدرٍ فَعَلَه. و يَجِبُ أيضاً أن يَكونَ فاعلاً قَبلَ أن فَعَلَ ، و كانَت أفعالُه مِن المُشتَهَياتِ لا تَستَقِرُّ(3) علىٰ قَدرٍ بعَينِه، و لا وَقتٍ بعَينِه.

و لَو كانَ مُشتَهِياً بشَهوةٍ مُحدَثةٍ ، لَوجبَ أن تَكونَ (4) [شَهوَتُه](5) مِن فِعلِه، و أن يكونَ في حُكمِ المُلجَإ إلىٰ فِعلِها و فِعلِ (6) المُشَتهىٰ جميعاً.

و ليسَ يَجوزُ أن يَكونَ نافِراً؛ [إذ](7) لا يَخلو لَو جازَ ذلكَ مِن أن يَستَحِقَّ تلك الصفةَ لنفسِه، أو لمعنىً قديمٍ ، أو لمعنىً مُحدَثٍ .

ص: 350


1- . في الأصل: «هو الذي الحيّ ».
2- . في الأصل: «الملجئ».
3- . في الأصل: «لا يستقرّ».
4- . في الأصل: «أن يكون».
5- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و به يتمّ الكلام. راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 142.
6- . في الأصل: «أو فعل»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «جميعاً».
7- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه لاقتضاء السياق. و للمزيد راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 142؛ الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، ص 74.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ نافِراً لنفسِه؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ نافِراً عن جميعِ

المُدرَكاتِ ، و كان يَجِبُ أن لا يَخلُقَ مِنها شيئاً، و قَد عَلِمنا خِلافَ ذلك.

و أن(1) يَجوزَ أن يَكونَ [نِفارُه] مِن جنسِ ما فينا مِن النِّفارِ؛ لأنّ تَعلُّقَها واحِدٌ، و ذلكَ يَقتَضي التَّماثُلَ ، و المِثلانِ لا يَكونُ أحَدُهما قَديماً و الآخَرُ مُحدَثاً.

علىٰ أنّا قَد بيّنّا أنّه لا يَجوزُ إثباتُ قَديمٍ تُخالِفُ صفتُه صفةَ اللّٰهِ تَعالىٰ ، في بابِ الرَّدِّ علىٰ أصحابِ الصفاتِ (2)، و فيه إفسادٌ لهذا القولِ .

و لا يَجوزُ أن يَكونَ نافِراً بنِفارٍ مُحدَثٍ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَصِحَّ مِنه فِعلُ ضِدِّه؛ لأنّ القادرَ على الشيءِ ، يَجِبُ أن يَكونَ قادراً (97) علىٰ جِنسِ ضِدِّه، إذا كانَ له ضِدٌّ. و هذا يَرُدُّنا إلىٰ كَونِه مُشتَهياً، و قد بيّنّا فَسادَ ذلكَ .(3)

فإن قيلَ : و ما الدليلُ علىٰ أنّه لَو كانَ مُشتَهياً لنفسِه أو بشَهوَةٍ قَديمةٍ ، لَكانَ في حُكمِ المُلجَإ(4) إلىٰ فِعلِ المُشتَهىٰ ؛ [و لَو كانَ مُشتَهياً بشَهوَةٍ مُحدَثةٍ ، لَكانَ كالمُلجَإ إلىٰ فِعلِها و فِعلِ المُشتَهىٰ ](5) معاً؟

قُلنا: الدليلُ علَى الأوّلِ أنّا نَعلَمُ ضَرورةً في أحَدِنا، أنّه مَتىٰ عَلِمَ أنّ له في بَعضِ الأفعالِ نَفعاً عظيماً حاضراً خالصاً مِن وجوهِ المَضارِّ، فإنّه مُلجَأٌ(6) إلىٰ فِعلِه، و لهذا

ص: 351


1- . لقد سقط الشقّ الثاني من العبارة، و هو أن يكون نافراً بنفار قديم، و يمكن تعديل العبارة كمايلي: «و لا يجوز أن يكون نافراً بنفار قديم؛ لأنّه يلزم منه أن يجوز أن يكون [نفاره]...».
2- . تقدّم في ص 302.
3- . تقدّم آنفاً في ص 350.
4- . في الأصل: «الملجئ».
5- . ما بين المعقوفين استفدناه ممّا تقدّم من نظيره من السيّد المصنّف قُبيل هذا و ممّا سوف يأتي بعد قليل، و به يتمّ الكلام.
6- . في الأصل: «ملجئ».

يَكونُ هذا الفِعلُ - مَتىٰ كانَ بهذه الصفةِ - واجِبَ الوقوعِ ، و لَخَرَجَ مِن أن يَكونَ ممّا يُستَحَقُّ عليه المَدحُ أو الذَّمُّ . و إنّما كانَ فاعلُ هذا الفِعلِ مُلجأً إليه، مِن حَيثُ عَلِمَ النَّفعَ الحاضرَ العظيمَ الخالصَ ؛ بدَلالةِ أنّ دَواعِيَه مَتىٰ تَعزُبُ (1) حتّىٰ يَعتَقِدَ أنّ عليه فيه ضَرَراً عظيماً، خَرَجَ مِن أن يَكونَ مُلجَأً. و هذا يَقتَضي ما ذَكَرناه؛ مِن حُصولِ الإلجاءِ عندَ تَكامُلِ ما ذَكَرناه. [و لا فَرقَ بَينَ مَن نَفىٰ كَونَ الفاعلِ عندَ تَكامُلِ ما ذَكَرناه](2) مُلجَأً، و بَينَ مَن نَفىٰ كَونَ المُعتَقِدِ في الفِعلِ الضَّرَرَ العظيمَ الخالصَ الحاضرَ مُلجَأً إلىٰ تَركِه و الهَرَبِ مِنه.

فأمّا الدليلُ علىٰ أنّه لَو كانَ مُشتَهِياً بشَهوَةٍ مُحدَثةٍ ، لَكانَ كالمُلجَإ إلى فِعلِها و فِعلِ المُشتَهىٰ معاً، فواضحٌ أيضاً؛ لأنّه لا فَرقَ عند العقلاءِ بَينَ أن يَعلَموا في الفِعلِ نفسِه النَّفعَ العظيمَ الخالصَ (3)، و بَينَ أن يَعلَموا أنّه يوصِلُ إلىٰ نَفعٍ بهذه الصفةِ مع انتفاءِ سائرِ(4) المَضارِّ في بابِ الإلجاءِ . و لهذا يَكونُ أحَدُنا مُلجَأً إلىٰ فِعلِ تَحريكِ إصبَعِه علىٰ وَجهٍ لا مَشقّةَ فيه علىٰ وَجهٍ و لا سببٍ (5)، مَتىٰ عَلِمَ أنّه يَنالُ بذلكَ المَنافِعَ

ص: 352


1- . هكذا تُقرأ هذهِ الكلمة في الأصل، و لعلّها تُقرأ بهذهِ الصورة: «تقرب».
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و استفدناه من كلام السيّد المصنّف، و به يستقيم المعنى كما لا يخفى.
3- . سقطت من نسخة الأصل ص 97 س 7 عدّة سطور، تبدأ من قوله: «الحاصر مُلجأ إلىٰ تركه» إلىٰ قوله: «النفع العظيم الخالص»، ولكن وقع تكرار في نسخة الأصل يبلغ حوالي صفحتين و نصف، و قد عثرنا علىٰ تلك السطور الساقطة هناك، فقمنا باضافتها إلىٰ المتن، و هي موجودة في نسخة الأصل، في ص 99 س 9-11.
4- . في الأصل: «سار»، و لا محصّل له في المقام.
5- . قوله: «على وجه و لا سبب»، أي لا مشقّة فيه بوجه من الوجوه، و لا هو سبب للمشقّة، أي لامشقّة فيه مطلقاً، و هذه العبارة كثيراً ما يستعملها السيّد المصنّف في بعض مصنّفاته. راجع: الأمالي للسيّد المرتضى رحمه اللّٰه، ج 2، ص 307 و 374؛ الذخيرة، ص 292 و 565؛ رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 44.

العظيمةَ الخالصةَ ، و يَستَولي به علَى المَنازِلِ السَّنيّةِ و المَمالِكِ الواسِعةِ .

فقَد ثَبَتَ أنّه لا فَرقَ بَينَ الأمرَينِ (1) مِن الوَجهِ الذي هو المقصودُ، و إن كانَ في أحَدِهما يَكونُ مُلجَأً إلىٰ فِعلِ المُشتَهىٰ ، و في الآخَرِ يَكونُ مُلجَأً إلىٰ فِعلِ الشَّهوَةِ و المُشتَهىٰ معاً.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : إنّ مَن عَلِمَ أنّ بتَحَرُّكِ (2) إصبَعِهِ يَنالُ المَنافِعَ العَظيمةَ ، إنّما يَكونُ مُلجَأً إلىٰ ذلكَ ؛ لأنّه في الحالِ مُشتَهٍ (3) لتلكَ المَنافعِ ، فلهذا كانَ مُلجَأً إلَى التوصُّلِ إليها. و هذا بخِلافِ مَن فَرَضناه أنّه غَيرُ مُشتَهٍ لشيءٍ و لا مُحتاجٍ إليه.

و ذلكَ أنّه لا فَرقَ فيما ذَكَرنا حالَه: بَينَ أن يَكونَ في الحالِ مُشتَهياً، و بَينَ أن لا يَكونَ كذلكَ ؛ لأنّا نَعلَمُ أنّ العاقلَ المُميِّزَ مِنّا إذا فَرَضنا أنّه غَيرُ مُشتَهٍ ، لَو خُيِّرَ(4) بينَ أن تُفعَلَ (5) له الشَّهَواتُ و يُعطَى المُشتَهَياتِ حتّىٰ تَحصُلَ (6) له المَنافعُ الخالصةُ العظيمةُ ، الخالِصةُ مِن وجوه الضَّرَرِ كُلِّه، و بَينَ أن لا يُفعَلَ ذلكَ له، لَكانَ لا مَحالةَ كالمُلجَإ إلَى اختيارِ ذلكَ ، و إن كانَ في الحالِ غَيرَ مُحتاجٍ إليه.

و لهذا لَو عَلِمَ المَريضُ المُدنِفُ الذي لا شَهوةَ [له] في الأطعمةِ ، أنّه «مَتىٰ حَرَّكَ إصبَعَه علىٰ وَجهٍ لا يَشُقُّ (7)، لَعادَت شَهَواتُه، و لَنالَ ما يَشتَهيهِ علىٰ ألَذِّ الوجوهِ

ص: 353


1- . أي بين أن يكون تعالىٰ مشتهياً لنفسه أو لشهوة قديمة، و بين أن يكون مشتهياً بشهوة مُحدَثة.
2- . في الأصل: «إن يتحرّك».
3- . في الأصل: «مشتبه»، و الظاهر أنّه تصحيف عمّا أثبتناه.
4- . في الأصل: «ضرّ»، هكذا تقرأ الكلمة، و هو خطأ قطعاً.
5- . في الأصل: «يفعل».
6- . في الأصل: «يحصل».
7- . قد تُقرأ هذهِ الكلمة في الأصل: «لا يسبق» أو «لا شبق»، و الأنسب بالسياق ما أثبتناه، بقرينة قوله: «على وجه لا مشقّة فيه».

و أنفَعِها، و أبعَدِها مِن الضَّرَرِ»، لَكانَ مُلجَأً إلىٰ تحريكِ إصبَعِه. و كذلكَ الشيخُ الهَرِمُ الذي فَقَدَ شَهَواتِ الباهِ (1)، إذا فَرَضنا حالَه هذا الفرضَ . و هذا يُبيِّنُ أنّ فَقْدَ الشَّهوَةِ في الحالِ لا تأثيرَ له فيما قَصَدناه.

الدليل الثاني
اشارة

دليلٌ آخَرُ: و ممّا استُدِلَّ به علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُشتَهِياً و لا نافِراً: أنّه لَو صَحَّ ذلكَ عليه، لَكانَ في الفِعلِ - إمّا بنفسِه، أو بواسطةٍ - دَلالةٌ عليه؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ إثباتِ ذاتِه و أوصافِه هو: الفِعلُ ، أو ما يَقتَضيه الفِعلُ . و هذا الأصلُ قد دَلَّلنا علىٰ صحّتِه في بابِ نفيِ المائيّةِ مِن هذا الكتابِ (2)، و إذا لَم يَكُن في الفِعلِ دَلالةٌ علىٰ كَونِه مُشتَهِياً و لا نافِراً، وجبَ الحُكمُ باستحالةِ ذلكَ عليه.

نفي دلالة الفعل علىٰ كونه تعالىٰ مشتهياً أو نافراً

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه لَيسَ في الفِعلِ - لا بنفسِه، و لا بواسطةٍ - دَلالةٌ علىٰ ذلكَ : أنّا إذا اعتَبرنا صفاتِ الأفعالِ ، لَم نَجِدْ فيها ما يَستَنِدُ إلىٰ كَونِه مُشتَهِياً، حتّىٰ لَولا كَونُه كذلكَ لَم يَصِحَّ ، و قد تَقدَّمَ بيانُ ما يَدُلُّ عليه مُجرَّدُ صحّةِ الفعلِ (3)(98) و وقوعِه علىٰ بعضِ الوجوهِ ؛ مِثلُ كَونِه خَبَراً أو أمراً. و لَيسَ لكُلِّ ذلكَ تَعلُّقٌ بكَونِه مُشتَهِياً؛ لأمرَينِ :

أحَدُهما: أنّ كَونَه حَيّاً لَيسَ بأن يَقتَضيَ كَونَه مُشتَهِياً، أولىٰ مِن أن يَقتَضيَ كَونَه

نافِراً، و مَتَى(4) اقتَضَى الأمرَينِ وجبَ حُصولُه علىٰ صفتَينِ مُتَضادَّتَينِ .

ص: 354


1- . الباه و الباهة: النكاح. لسان العرب، ج 13، ص 479.
2- . تقدّم في ص 239.
3- . تقدّم في ص 240.
4- . في الأصل: «أو متى»، و لا موقع ل «أو» في المقام، و هو واضح.

و الأمرُ الآخَرُ: أنّه كانَ يَجِبُ مِثلُ ذلكَ فينا؛ لأنّ مِثلَ المُقتَضي للصفةِ لا بُدَّ مِن أن يَقتَضيَ تلكَ الصفةَ ، و هذا يَقتَضي استغناءَنا عن الشَّهوَةِ ، و يَقتَضي استحالةَ كَونِ أحدِنا نافِراً مع كَونِه حَيّاً، و كانَ يَجِبُ أيضاً أن يَقتَضيَ كَونَه مُشتَهِياً لجميعِ المُشتَهَياتِ ؛ لأنّه لَيسَ البعضُ مِن ذلكَ بأَولىٰ مِن البعضِ ، و تَعلُّقُ (1)(100) الجميعِ بكونِه حَيّاً تَعلُّقٌ واحِدٌ.

و فَسادُ جميعِ ذلكَ دَلالةٌ علىٰ صحّةِ ما ذَكَرناه؛ مِن أنّه لا دَلالةَ في الفِعلِ و لا فيما يَرجِعُ إليه علىٰ كَونِه مُشتَهِياً، و أنّ ما هذه(2) حالُه يَجِبُ نفيُه عنه تَعالىٰ ، على ما تَقدَّمَ به القولُ .

الدليل الثالث
اشارة

دليلٌ آخَرُ: و قد استَدَلَّ أبو هاشمٍ علىٰ ذلكَ (3)، بأنّ الشَّهوَةَ مِن حَقِّها أن تَتعلَّقَ (4)بما إذا نالَه المُشتَهي خالصاً ممّا لا يَشتَهيهِ ، اغتَذىٰ جسمُه و زادَ و صَلُحَ عليه، و كذلكَ النِّفارُ لا يَتعلَّقُ إلّابما إذا نالَه النافِرُ، فَسَدَ به جسمُه و تَناقَصَ . و إذا استحالَ علَى اللّٰهِ تَعالَى الصَّلاحُ و الفَسادُ - اللَّذانِ هما حُكمُ الشَّهوَةِ و النِّفارِ - مِن حَيثُ لَم يَكُن جسماً، استَحالَتِ الشَّهوَةُ عليه و النِّفارُ معاً.

و الذي يُبَيِّنُ ما ذَكَرناه: أنّ الشَّهَواتِ مع اختِلافِ أجناسِها لا تَتعلَّقُ إلّابما يَصِحُّ أن يَغتَذيَ به جسمُ المُشتهي و يَزدادَ عليه، و المُشتَهونَ على

ص: 355


1- . وقع في الأصل بين كلمة «تعلّق» و كلمة «الجميع» تكرار للأبحاث السابقة من قوله: «على كلّوجه يصحّ أن يجهل» في الصفحة 346 إلى هنا؛ يعني إلى قوله: «بأولى من البعض، و تعلّق».
2- . في الأصل: «هذا».
3- . انظر: المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 26.
4- . في الأصل: «يتعلّق».

اختِلافِ أحوالِهم يَجري أمرُهم علىٰ هذه الطريقةِ . و لذلكَ يَتَناوَلُ كُلُّ نَوعٍ مِن الحَيَوانِ ما يَغتَذي به و يَنتَفِعُ بنَيلِه، و إن أضَرَّ تَناوُلُه بغَيرِه،(1) ممّن(2) لا شَهوَةَ له فيه.

و قد يُسأَلُ علىٰ هذا الدليلِ أسئلةٌ :

أوّلُها: أن يُقالَ : كيفَ يَصِحُّ ما ذَكَرتُم(3)، و قد يَشتَهي الإنسانُ ما يَضُرُّه تَناوُلُه؛ كمُشتَهي الطينِ و ما جَرىٰ مَجراه، و العَليلِ الذي يَشتَهي كثيراً مِن الأغذِيَةِ المُضِرّةِ به، و قد يَنتَفِعُ الإنسانُ بما يَنفِرُ عنه مِن الأدوِيَةِ الكَريهةِ؟

و ثانيها: أن يُقالَ : إنَّ تَعلُّقَ (4) الشَّهوَةِ و النِّفارِ بزيادةِ الجسمِ و نُقصانِه، و الزيادةُ إنّما هي جَواهرُ يَبتَدئُ اللّٰهُ تَعالىٰ فِعلَها عندَ إدراكِ المُشتَهي، و هو قادرٌ علىٰ أن يَفعَلَها مِن دونِ إدراكِ المُشتَهي، بل عندَ إدراكِه ما يَنفِرُ عنه. و إنّما كانَ يَصِحُّ ما

ذَكَرتُم لَو كانَت: الزيادةُ موجَبةً عن الشَّهوَةِ ، و النُّقصانُ موجَباً عن النِّفارِ. و إذا كانَ هذا فاسداً(5)، فلا مَعنىٰ لِكَلامِكُم.

و هذا مِن أقوَى (101) الأسئلةِ علىٰ هذا [الدليلِ ](6).

ص: 356


1- . في الأصل: «لغيره»، و المناسب ما أثبتناه؛ لتعدّي «أضرّ» بالباء.
2- . في الأصل: «فمن»، و عليه يكون الكلام ناقصاً؛ لعدم وجود جواب للشرط في المقام، فالصحيح ما أثبتناه، و هو بيان ل «غيره».
3- . من أنّ الشهوة لا تتعلّق إلّابما فيه صلاح الجسم و زيادته.
4- . كذا في الأصل، و الأنسب أن يقال: «كيف تتعلَّقُ الشهوة...».
5- . في الأصل: «فاسد».
6- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضىٰ السياق، و قوله فيما سبق: «و قد يسأل على هذا الدليل أسئلة» قرينة عليه.

و ثالثُها: أن يُقالَ : كونُ المُشتَهي مُشتَهِياً حالٌ يَرجِعُ إلى الجُملةِ ، و الزيادةُ التي ذَكَرتُموها لا تَعلُّقَ لها بالجُملةِ ؛(1) فكيفَ تَتعلَّقُ (2) بما يَرجِعُ إليها؟

و رابُعها: أن يُقالَ : قد نَجِدُ أحَدَنا يَشتَهي إدراكَ الأصواتِ و الأَراييحِ ، و إن كانَ متىٰ أدرَكَ ذلكَ لَم يَصلُحْ عليه جسمُه و لا اغتَذىٰ به علَى الحَدِّ الذي يَحصُلُ في المأكولاتِ و المشروباتِ ، و هذا يُبطِلُ قَضيّتَكم.

و الجَواب عن السؤالِ الأوّلِ : أنّا شَرَطنا فيما يَشتَهيه أن يَتناوَلَه(3) خالصاً ممّا لا يَشتَهيه، و لَيسَ بمُمتَنِعٍ علىٰ هذا أن يَكونَ إنّما يَستَضِرُّ في بعضِ الأوقاتِ بتَناوُلِ ما يَشتَهيه؛ مِن حَيثُ يُخالِطُه آخَرُ [ممّا لا](4) تَتعلَّقُ (5) شَهوَتُه به،(6) و لا سَبيلَ إلىٰ تَمَيُّزِه(7) عمّا يَشتَهيه، فلذلكَ يَستَضِرُّ بالطينِ و ما جَرىٰ مَجراه.

و أقوىٰ مِن ذلكَ أن يُقالَ : لَيسَ يَمتَنِعُ أن يَكونَ [الاستضرارُ بتَناوُلِ ](8) بعضِ المُشتَهَياتِ مِن حَيثُ العاقبةِ -؛ إمّا بأن تَفسُدَ المَعدةُ أو بعضُ الأعضاءِ الّتي لا يُثمِرُ الانتفاعُ بالمأكولاتِ إلّابصَلاحِها، و هذا ظاهرٌ في مَضَرّةِ الطينِ ، فإنّه - فيما يُقالُ -

ص: 357


1- . في الأصل: «في الجملة».
2- . في الأصل: «يتعلّق».
3- . كذا في الأصل، و الأنسب: «يَنالَه».
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «إلّا»، و لا موقع للاستثناء في المقام، و بما أثبتناه يستقيم المعنى.
5- . في الأصل: «بتعلّق».
6- . في الأصل: «بها».
7- . في الأصل: «تميّزها».
8- . في الأصل: «إلّا مستضرّاً و يتناول»، و هو لا يلائم السياق، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق، و به يستقيم المعنى.

يورِثُ الحَصاةَ و السَّدَرَ، و إلّافهو مِن حَيثُ كانَ مُشتَهىً (1) نافِعٌ ، فتَصيرُ(2)المَضَرّةُ التي تَحصُلُ في العاقبةِ غامرةً (3) للصلاحِ و الانتفاعِ ، اللذَينِ يَحصُلانِ مِن حيثُ الإدراكِ و الحُكمِ الغالبِ ، فلهذا ظَهَرَت مَضَرّةُ بعضِ المُشتَهَياتِ .

و بهذا بعَينِه يُجابُ عن الانتفاعِ بالأدوِيَةِ ، مع أنّ النفسَ تَنفِرُ عنها؛ لأنّ الدَّواءَ إنّما يَنفَعُ في العاقبةِ ؛ بأن يُزيلَ فُضولاً عن المَعِدةِ ، و يَفتَحَ مَجاريَ و أوراداً لا يَتِمُّ صَلاحُ الجسمِ و انتفاعُه إلّابها، فمِن هذا الوَجهِ كانَ نافعاً، [و] مِن حَيثُ أدرَكَ بعضَ النِّفارِ فهو مُفسِدٌ ضارٌّ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن أدمَنَ تَناوُلَ الأدويةِ ، نُهِكَ جسمُه، و ضَعُفَت قُوّتُه، و فَسَدَ عليه غايةَ الفَسادِ؟

و الجَوابُ عن السؤالِ الثاني: أنّ الزيادةَ في جسمِ مَن أدرَكَ ما يَشتَهيه و يَلتَذُّه، و إن كانَت مِن فِعلِ اللّٰهِ تَعالىٰ و غَيرَ موجَبةٍ عن الشَّهوةِ ، فلها تَعلُّقٌ بالشَّهوةِ ؛ لأنّها لا

تَصِحُّ علىٰ طريقِ الاغتذاءِ إلّاعندَ الشَّهوةِ (4)، و إن كانَت ممّا يَجوزُ أن يَحصُلَ مع فَقدِ الشَّهوةِ لا علىٰ سَبيلِ الاغتذاءِ . كما أنّ كَونَ الاعتقادِ عِلماً له تعلُّقٌ بالنظَرِ، و إن صَحَّ حُصولُه عِلماً مِن غَير نظَرٍ. و لَم يَمنَعْ ذلكَ مِن أن يَكونَ للنظَرِ تأثيرٌ في العِلمِ .

و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ ، فكُلُّ مَن لا تَصِحُّ (5) عليه الزيادةُ ، لا يَصِحُّ عليه ما يُصَحِّحُ هذه الزيادةَ ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن استَحالَ عليه موجَبُ أمرٍ مِن الأُمورِ، فلا بُدَّ مِن

ص: 358


1- . في الأصل: «مشتهياً».
2- . في الأصل: «فيصير».
3- . في الأصل: «عامرة»، و هو لا يلائم «المضرّة»، و هو واضح.
4- . أي أنّ الزيادة الناشئة من الاغتذاء لا تحصل إلّاعند الشهوة، و إن كانت الزيادة قد تحصل من طريق آخر غير الاغتذاء مع فقد الشهوة.
5- . في الأصل: «يصحّ ».

استحالةِ ذلك الأمرِ المُوجِبِ عليه ؟ و القولُ [في] المُصَحِّحِ (1) كالقولِ في الموجِبِ في هذا البابِ . و لهذا كانَ مَن يَستحيلُ وقوعُ الفِعلِ مِنه، يَستَحيلُ اختصاصُ القُدرةِ به، كاستحالتِها علىٰ مَن يَستَحيلُ كَونُه قادِراً، و إن كانَت في أحَدِ الأمرَينِ موجِبةً و في الآخَرِ مُصَحِّحةً .

و الجَوابُ عن الثالثِ : أنّ الصلاحَ الذي يَتبَعُ إدراكَ المُشتَهىٰ يَتعلَّقُ بالجُملةِ ؛ لأنّها هي المُنتَفِعةُ به، فهو يَجري مَجرى كَونِه فائدةً في رجوعِه إليها.

و الجَوابُ عن الرابعِ : أنّ إدراكَ الأراييحِ و الأصواتِ لا بُدَّ مِن تَعلُّقِ الصلاحِ و الانتفاعِ به، و إن لَم تَظهَر الحالُ فيه ظُهورَها في المأكولِ و المَشروبِ ، و لهذا نَجِدُ مَن نالَ (2) «مِنَ الأصواتِ المُطرِبةِ ، و الروائحِ الطيّبةِ ، و الصُّوَرِ المونِقةِ ، ما يَشتَهيه(3)علَى الاستمرارِ، يَصلُحُ عليه و يَنتَفِعُ به، حتّىٰ رُبَّما كانَ (102) ذلكَ أبلَغَ في زيادةِ قُوّتِه و نَشاطِه مِنَ المأكولِ و المشروبِ ، و لَيسَ هذا ظاهراً(4). و لَيسَ إذا خَفِيَ تأثيرُ ذلكَ في بعضِ المَواضِعِ ، وجبَ أن نَنفيَ تأثيرَه. كما لا يَجِبُ مِثلُه في نفيِ تأثيرِ المأكولاتِ ؛ فإنّ تأثيرَها أيضاً يَخفىٰ في بعضِ المواضِعِ ، و يَظهَرُ في آخَرَ.

الدليل الرابع

دليلٌ آخَرُ: و ممّا استُدِلَّ به(5) علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَكونَ مُشتَهِياً مُحتاجاً، السَّمعُ و الإجماعُ .

ص: 359


1- . في الأصل: «و المصحّح».
2- . في الأصل: «قال».
3- . في الأصل: «تشتهيه».
4- . في الأصل: «ظاهر».
5- . في الأصل: «عليه».

و قيل: إنّ دليلَ صحّةِ السَّمعِ لا يَفتَقِرُ إلىٰ نَفيِ كَونِه مُحتاجاً، و إنّما يَفتَقِرُ إلىٰ أنّه لا يَفعَلُ القبحَ .(1) و قد يُمكِنُ مَعرفةُ ذلكَ مع تجويزِ الشَّهوةِ عليه؛ لأنّ مَن يَشتَهي أمراً، [و] يَتمكَّنُ مِن الوُصولِ إليه بالقَبيحِ و الحَسَنِ معاً، لا يَجوزُ أن يَختارَ القَبيحَ علَى الحَسَنِ . فلَو جازَت عليه تَعالَى الشَّهوَةُ و الحاجةُ ، لَكانَ لا شيءَ يَفعَلُه مِن

القَبيحِ لأجلِ الشَّهوَةِ ، إلّاو هو قادرٌ علىٰ أمثالِه مِن الحَسَنِ ، حتّىٰ (2) يَقومَ في تَناوُلِ الشَّهوَةِ له مَقامَه. و لا يَجوزُ علىٰ هذا أن يَختارَ شيئاً مِن القَبائحِ . و هذا القَدرُ كافٍ في صحّةِ مَعرفةِ السَّمعِ .

ص: 360


1- . كذا في الأصل، و الأولى: «القبيح». راجع: تلخيص المحصّل، ص 452.
2- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «بحيث» بدل «حتّى».
الفصلُ الثاني في نَفي الجسميّةِ عنه تَعالىٰ
1 فصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ الأجسامَ و الجَواهرَ
اشارة

اعلمْ أنّ الخِلافَ في هذا البابِ رُبَّما تعلَّقَ بالعبارةِ (1)؛ لأنّ مَن نَفى عنه شَبَهَ الأجسامِ و الجَواهرِ علَى التحقيقِ ، فأجرىٰ (2) عليه الوَصفَ بالجسمِ أو الجَوهرِ مِن حَيثُ كانَ قائماً بنفسِه، فهو غَيرُ مُشَبِّهٍ في الحقيقةِ ، و خِلافُه يَؤولُ إلَى العبارةِ .

و المُشَبِّهُ هو الذي يُخالِفُ في المعنىٰ ، و يُثبِتُه بصفةِ الجسمِ المؤلَّفِ ، أو بصفةِ الجَوهرِ المُتَحيِّزِ.

و نَحنُ نُقدِّمُ الكلامَ في المعنىٰ ؛ لأنّه أهَمُّ ، و نَعودُ إلَى العبارةِ .(3)

ص: 361


1- . أي أنّ الخلاف لفظيّ و ليس بجوهريّ .
2- . كذا في الأصل، و الأنسب بالسياق: «و أجرىٰ ».
3- . يأتي المبحث الثاني الذي يدور حول العبارة في ص 394 عند قوله: «فصل فيما يتعلّق بالعبارة في هذا الباب».
ادلّة نفي الجسميّة عنه تعالىٰ

الذي يَدُلُّ (1) علَى استحالةِ كَونِه تَعالىٰ بصفةِ الجَواهرِ و الأجسامِ : أنّ الجَواهرَ مُتماثِلةٌ ، فلَو كانَ جَوهراً لَوجبَ كَونُه مُماثِلاً(2) لها و مِن جِنسِها، و ذلكَ يَقتَضي استحالةَ قِدَمِه مِن حيثُ استَحالَ قِدَمُ الجَواهرِ و الأجسامِ ، أو كونَ الأجسامِ قَديمةً مِن حَيثُ وجبَ له القِدَمُ . و كُلُّ ذلكَ مُستَحيلٌ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ تَماثُلِ الجَواهرِ: أنّا نُدرِكُ الجَوهرَينِ (3) أو الجسمَينِ المُنتَفِيَي(4)اللَّونِ ، فيَلتَبِسُ أحَدُهما علينا بالآخَرِ؛ ألا تَرىٰ أنّ مَن أدرَكَهما ثُمّ أعرَضَ عنهما و أدرَكَهما مِن بَعدُ، يُجَوِّزُ في كُلِّ واحدٍ مِنهما أن يَكونَ هو الآخَرَ، بأن نُقِلَ إلىٰ مَكانِه ؟ وَ لَم يَلتَبِسْ عليه الإدراكُ إلّالاشتراكِهما في صفةٍ تَناوَلَها الإدراكُ ، و رُبَّما يَتَناوَلُ الإدراكُ مِن الصفاتِ ما يَرجِعُ إلَى الذواتِ ، و إذا كانا مُشتَرِكَينِ فيما يَرجِعُ إلىٰ ذَواتِهما فهما مُتَماثلانِ ؛ لأنّ ذلكَ هو المُستَفادُ بالتماثُلِ .

فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّهما لَم يَلتَبِسا إلّاللاشتراكِ في صفةٍ ، و قد عَلِمتُم أنّ الشيئَينِ رُبَّما اشتَبَها لغَيرِ ذلك. ثُمَّ دُلّوا علىٰ أنّ تلكَ الصفةَ ممّا تَناوَلَها الإدراكُ . ثُمّ علىٰ أنّ

الإدراكَ يَتَناوَلُ أخَصَّ صِفاتِ الذواتِ . و بَعدُ، فيَلزَمُكم علىٰ هذا الدليلِ أن يَكونَ الجسمُ الأبيَضُ مُخالِفاً للأسوَدِ؛ لأنّه لا يَلتَبِسُ به.(5)

ص: 362


1- . هذا هو الدليل الأوّل على نفي الجسميّة عنه تعالى، و سيأتي الدليل الثاني في ص 371.
2- . في الأصل: «متماثلاً»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «لها»؛ فإنّ «فاعَلَ » للمشاركة بين الاثنين في الفاعليّة و المفعوليّة معنىً فقط دون لفظه، بخلاف «تَفاعَلَ »؛ فإنّه للاشتراك في الفاعليّة لفظاً، و فيها و في المفعوليّة معنى.
3- . في الأصل: «الجوهر».
4- . في الأصل: «المنتفي».
5- . فهذهِ أربعة أسئلة و إشكالات، و سوف يجيب المصنّف عنها فيما يلي من بحوث.

قُلنا: الوجوهُ التي يَقَعُ فيها الاِلتباسُ معقولةٌ ، و هي: المُجاوَرةُ ، كالتباسِ خِضابِ اللِّحيةِ بالشَّعرِ. أو الحُلولُ ، كما التَبَسَ علىٰ قَومٍ فظَنّوا أنّ صفةَ المَحَلِّ للحالِّ ، حتّى اعتَقَدوا أنّ السوادَ حَيِّزٌ! و كُلُّ هذا مُنتَفٍ في التباسِ الجسمَينِ أحَدِهما بالآخَرِ؛ لأنّه لا حُلولَ بَينَهما و لا مُجاوَرةَ ، بل الالتباسُ يَحصُلُ بَينَهما مع العِلمِ بتَغايُرِهما، فدَلَّ علىٰ أنّ وَجهَ الالتباسِ ما ذَكَرناه(1).

و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الصفةَ التي اقتَضَت التباسَهما ممّا تَناوَلَها(2) الإدراكُ : أنّ الأمرَ لَو كانَ بخِلافِ ذلكَ لَما التَبَسا علَى الإدراكِ ، و في التباسِهما عليه دَلالةٌ علىٰ تَعلُّقِ الإدراكِ (103) بما التَبَسا لأجلِه، و أنّ المُشارَكةَ فيما لا يَتعلَّقُ الإدراكُ به لا تَقتَضي الاشتباهَ علَى المُدرِكِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ لا يَشتَبِهُ (3) [مع] البياضِ ، و يَلتَبِسُ به عندَ المُدرِكِ و إنِ اشتَرَكا في الوجودِ؛ مِن حيثُ كانَ الإدراكُ لا يَتعلَّقُ بالوجودِ؟

و لأنّ الصفةَ التي تَقتَضي التباسَ الجسمَينِ أو الجَوهَرينِ المُدرَكَينِ على المُدرِكِ لا بُدَّ أن تَكونَ صفةً عَلِمَها المُدرِكُ . و ما يَعلَمُه في حالِ الإدراكِ مِن صِفات الجَوهرِ هو: الوجودُ، و كَونُه في جهةٍ و تَحيُّزُه. و قد مَضىٰ أنّ المُشارَكةَ في الوجودِ لا تَقتضي(4) الالتباسَ . و لَيسَ يَشتَرِكُ الجَوهرانِ في أن يَكونا في جهةٍ واحدةٍ فيَلتَبِسا مِن هذا الوَجهِ ، فلَم يَبقَ إلّاأنّهما التَبَسا مِن حَيثُ اشتَرَكا في التحَيُّزِ،

ص: 363


1- . و هو الاشتراك في صفة.
2- . في الأصل: «تناولهما».
3- . في الأصل: «لا يسلبه»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لاقتضاء السياق، و قوله: «و يلتبس به» قرينة عليه.
4- . في الأصل: «لا يقتضي»، و الأولى ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «المشاركة».

و ممّا يُدرَكانِ على هذه الصفةِ .(1)

و أيضاً: فمَتىٰ صَحَّ أنْ يَلتَبِسا لأجلِ صفةٍ لَم يَتَناوَلْها الإدراكُ ، لَم يَكُن بعضُ الصفاتِ التي(2) لا تَدخُلُ تَحتَ الإدراكِ بأن تَقتَضيَ (3) اللَّبسَ أولىٰ مِن بعضٍ ، و هذا يوجِبُ أن تَكونَ المُشارَكةُ في سائرِ الصفاتِ تَقتَضي(4) الالتباسَ .

و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الإدراكَ يَتعلَّقُ بأخَصِّ صفاتِ الذواتِ : أنّه لا يَخلو مِن أن يَتعلَّقَ بالصفةِ الراجعةِ إلَى الفاعلِ ، أو الراجعةِ إلَى العِلَلِ ، و(5) الراجعةِ إلَى الذاتِ .

و الذي يَتعلَّقُ (6) بالفاعلِ و يَرجِعُ إليه مِنَ الصفاتِ هو الوجودُ. و لَو تَناوَلَه الإدراكُ لَاقتَضىٰ أن يَتعلَّقَ بكُلِّ موجودٍ؛ لأنّ مِن حَقِّ الإدراكِ إذا تَناوَلَ صفةً أن يَشيعَ في كُلِّ مُختَصٍّ بها؛ ألا تَرىٰ أنّه لمّا تَناوَلَ التحَيُّزَ شاعَ في كُلِّ مُتحيِّزٍ؟ و كذلكَ في كَونِ السَّوادِ [مُدرَكاً، دليلٌ ](7) علىٰ [تَناوُلِ الإدراكِ كُلَّ ] ما يَختَصُّ به. و فَسادُ كَونِ جميعِ الموجوداتِ مُدرَكةً ظاهرٌ.

علىٰ أنّ الإدراكَ لَو تَناوَلَ الوجودَ، لَم يَخلُ مِن أن يَتَعدّاه إلَى الذاتِ ، أو لا يتعدّاه.

فإن لَم يَتَعَدَّ(8) وجبَ أن لا يَحصُلَ الفَصلُ - بَينَ المُختَلِفَينِ - بالإدراكِ ؛ لأنّ

ص: 364


1- . كذا في الأصل، و الظاهر أنّ الصحيح أن يُقال: «و ما يُدرَكان إلّاعلىٰ هذه الصفة».
2- . في الأصل: «أن» بدل «التي»، و هو خلاف مقتضى السياق.
3- . في الأصل: «بأن يقتضي»، و الأولى ما أثبتناه؛ لعود الضمير إلى «بعض الصفات».
4- . في الأصل: «يقتضي»، و الأولى ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى لفظة «المشاركة».
5- . كذا في الأصل، و الأنسب: «أو».
6- . في الأصل: «تتعلّق»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الذي». و هكذا الكلام في قوله: «و يرجع إليه».
7- . ما بين المعقوفين استفدناه من سياق الكلام، و هكذا بالنسبة لما يأتي.
8- . كذا في الأصل، و الأنسب: «لم يتعدّه»؛ لأنّ عدم التقدير أولى من التقدير.

الإدراكَ لَم يَتَناوَلْ ما به اختَلَفا، و إنّما تَناوَلَ علىٰ هذا القولِ الوجودَ الذي هما يَشتَرِكانِ فيه، فكانَ يَجِبُ أن يَجرِيَ عندَ المُدرِكِ إدراكُ المُختَلِفَينِ مَجرىٰ إدراكِ المِثلَينِ ، و كانَ (1) يَجِبُ أيضاً أن لا يَفصِلَ بالإدراكِ بَينَ الكَبيرِ و الصغيرِ، و الطويلِ و القصيرِ.

فَلَم يَبقَ إلّاأنّه يَتعدّاه إلَى الصفةِ العائدةِ إلَى الذاتِ ، و هذا يَقتَضي أن يُفصَلَ بَينَ المُختَلِفَينِ بالإدراكِ مِن حَيثُ افتَرَقا في الصفةِ التي يَتعلَّقُ بها الإدراكُ ، و أن يَلتَبِسَ أحَدُهما علينا بالآخَرِ مِن حَيثُ اشتَرَكا في الوجودِ الذي يَتعلَّقُ به - علىٰ هذا القولِ أيضاً - الإدراكُ ، و ذلكَ باطلٌ .

فأمّا ما يَرجِعُ إلَى العِلَلِ مِن صفاتِ الجَوهرِ: فالذي يُمكِنُ أن يُدخِلَ شُبهةً في تَناوُلِ الإدراكِ له، كَونُه كائناً في جهةٍ ؛ مِن حَيثُ فُصِلَ بالإدراكِ - علىٰ بعضِ الوجوهِ - بَينَ الكائنَينِ في جهتَينِ .

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الإدراكَ لا يَتَناوَلُ ذلكَ ، أنّه لَو تَناوَلَه لَفُصِّلَ بالإدراكِ بَينَ كُلِّ صفتَينِ ضِدَّينِ مِنه، و قد عَلِمنا أنّ ذلكَ لا يَستَمِرُّ؛ فإنّ أحَدَنا لَو أدرَكَ جَوهراً في بعضِ الجِهاتِ ، ثُمّ أعرَضَ عنه، جَوَّز أن يَكونَ انتَقَلَ إلىٰ أقرَبِ الأماكنِ إليه، و التَبَسَ عليه الأمرُ فيه، و لا يَلتَبِسُ أمرُه لَو اسوَدَّ بَعدَ بَياضٍ .

علىٰ أنّا إنّما نَطلُبُ صفةً تَناوَلَها الإدراكُ فاقتَضَى التِباسَ أحَدِ الجَوهرَينِ بالآخَرِ، و هذا لا يَصِحُّ في اختصاصِ الجَوهرِ بالمُحاذاةِ (2)؛ لأنّ الجَوهرَينِ لا يَصِحُّ اشتراكُهما في الكَونِ في جهةٍ واحدةٍ ، و أن يَستَحِقّا مِن هذا القَبيلِ صفتَينِ مُتَماثِلتَينِ .

ص: 365


1- . في الأصل: «فكان»، و الصحيح ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «بالمحماذات»، و هو سهو واضح.

علىٰ أنّ كَونَه في جهةٍ قد يَتَزايَدُ في أحَدِ الجَوهرَينِ دونَ (104) الآخَرِ، و لا يُفصَلُ (1) بَينَهما بالإدراكِ .

فعُلِمَ أنّ الإدراكَ إنّما يَتَناوَلُ الصفةَ الراجعةَ [إلَى الذاتِ ،](2) و هي التحيُّزُ.

و أمّا الجوابُ عن الاعتراضِ بالجسمَينِ اللذَينِ يَختَلِفُ لَوناهما، و أنّ أحَدَهما لا يَلتَبِسُ بالآخَرِ: فلَيسَ فيه أكثَرُ مِن إثباتِ المدلولِ مع ارتفاعِ الدليلِ ، و هذا غَيرُ مُمتَنِعٍ ؛ فإنّ الدليلَ غَيرُ موجِبٍ للمدلولِ ، و إنّما يَكشِفُ عنه، و لهذا يَدُلُّ علَى الحُكمِ الواحدِ الدليلانِ المُختَلِفانِ . و إنّما المُنكَرُ ثُبوتُ الدليلِ و ارتفاعُ المدلولِ .

علىٰ أنّ الالتباسَ هاهنا أيضاً حاصلٌ ؛ لأنّ المُدرِكَ لهذَينِ الجسمَينِ يُجَوِّزُ أن يَكونَ أحَدُهما هو الآخَرَ و إنّما تَغيَّرَ لَونُه، و قد يَلتَبِسان أيضاً لَمساً.

فالذي اعتَمَدناه صحيحٌ علىٰ كُلِّ حالٍ .

دليلٌ آخَرُ علىٰ تَماثُلِ الجَواهرِ: و يَدُلُّ علىٰ ذلك أيضاً: أنّ كُلَّ جَوهرٍ يُشارُ إليه، جنسٌ (3) يَحتَمِلُ جنسَ ما تَحتَمِلُه سائرُ الجَواهرِ مِن الأعراضِ . و احتمالُه لذلكَ يَرجِعُ إلىٰ ذلكَ ، فلَولا أنّها مُتَّفِقةٌ في الجنسِ ، لَم يَجِبْ ذلكَ ؛ لأنّ الذواتِ المُختَلِفةَ لا تَتَّفِقُ فيما يَرجِعُ إلىٰ ذَواتِها.

و قد يُستَدَلُّ بهذه الطريقةِ علىٰ وجهٍ آخَرَ، فيُقالُ : لَو اختَلَفَتِ الجَواهرُ لَم يَظهَر اختلافُها إلّابأن(4) يَحتَمِلَ بعضُها ما لا يَحتَمِلُه غَيرُه؛ لأنّ الوجودَ الذي(5) يَظهَرُ به(6)

ص: 366


1- . في الأصل: «و لا نفصل»، هكذا تقرأ الكلمة، و ما أثبتناه هو الأوفق للسياق.
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و استفدناه ممّا سبق من الكلام.
3- . في الأصل: «جنس إليه».
4- . في الأصل: «للآنات» بدل «إلّا بأن»، هكذا تقرأ الكلمة، و لا وجه له في المقام.
5- . في الأصل: «التي».
6- . في الأصل: «بها».

اختلافُ (1) الذواتِ لا يَتَأتّىٰ فيه(2)؛ ألا تَرىٰ أنّه ممّا لا يوجِبُ الأحوالَ ، فيَظهَرَ اختلافُها باختلافِ ما يُوجِبُهُ (3) و لا يَتعلَّقُ (4) بغَيرِها، فيُراعىٰ في اختلافِها تَغايُرُ مُتعلَّقِها،(5) أو ما يَجري مَجرَى التغايُرِ.

و لَيسَ يُفصَلُ بَينَ الجَوهرَينِ بالإدراكِ ، فيوصَلُ (6) بذلكَ إلَى اختلافِهما، كما نَقولُ في السوادِ و البياضِ . و لَيسَ يُمكِنُ العِلمُ بأنّ بعضَها يَنتَفي بما لا يَنتَفي به بعضٌ آخَرُ، فيَكونَ ذلكَ طريقاً إلَى الاختلافِ . فلَم يَبقَ إلّاما ذَكَرناه مِن احتمالِ الأعراضِ ، و هي مُشتَرَكةٌ (7) فيها(8)، فيَجِبُ تَماثُلُها.

فإن قيلَ : ألا اختَلَفَت مِن حَيثُ لَم يَصِحَّ أن يَحُلَّ كُلَّ واحدٍ منها عَينُ (9) ما يَحِلُّ الآخَرَ، كما اختَلَفَتِ القُدَرُ، لِتَعلُّقِ كُلِّ واحدةٍ بعَينٍ لا تَتَعلَّقُ (10) بها الأُخرىٰ ، و إن صَحَّ

ص: 367


1- . في الأصل: «آلاف»، و هو خطأ، و الصحيح ما أثبتناه. و للمزيد راجع: الملخّص، ج 1، ص 302 و 303؛ الكامل للعجاليّ ، ص 218 و 219 و 259؛ كشف المراد، ص 37.
2- . في الأصل: «فيها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الوجود». و هكذا الكلام في قوله: «أنّه».
3- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «يوجبُها»؛ لرجوع الضمير إلى «الأحوال».
4- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «تتعلّق»؛ لرجوع الضمير إلى لفظة «الجواهر».
5- . في الأصل: «متعلّقهما»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الجواهر».
6- . في الأصل: «فتوصل».
7- . كذا في الأصل، و الأولى: «مشترك»؛ لخلوّه عن الضمير، و نائب الفاعل هو الجارّ و المجرور.
8- . في الأصل: «فيه»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الأعراض»، و قوله: «و هي» قرينة عليه.
9- . في الأصل: «غير»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لاقتضاء السياق. و قوله: «لتعلّق كلّ واحدة بعين لاتتعلّق بها الاُخرى» يؤيّده، و كذلك قوله فيما يأتي: «و إنّما لم يصحّ أن يحلّه نفس ما يحلّ غيره».
10- . في الأصل: «لا يتعلّق».

أن تَفعَلَ (1) بها مِثلَ ما تَفعَلُ (2) الأُخرىٰ؟

قُلنا: الفرقُ بينَ الأمرَينِ (3): أنّ الجَوهرَينِ لَو صَحَّ أن يَحُلَّ كُلَّ واحدٍ مِنهما عَينُ (4)ما يَحُلُّ الآخَرَ، لَكانَت(5) حالُه فيما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه كحالِه(6) الآنَ (7). و إنّما لَم يَصِحَّ أن

يَحُلَّهُ نفسُ ما يَحُلُّ غَيرَه، لِشيءٍ يَرجِعُ إلىٰ الحالِّ لا إليه، و إلّافهو في نَفسِه علىٰ ما كانَ يَكونُ عليه لَو صَحَّ أن يَحُلَّهُ . و إذا كانَ لَو قَدَّرنا أنّه يَحُلُّه(8) ما يَحُلُّ غَيرَه - مَثَلاً - لِتَحيُّزِه، و هو الآنَ فيما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه علىٰ تلكَ الصفةِ ، فيَجِبُ أن يَكونَ مُماثِلاً له.

و لَيسَ كذلكَ القُدرَتانِ ؛ لأنّه لَو صَحَّ أن يُفعَلَ بكُلِّ واحدةٍ عَينُ (9) ما يَصِحُّ بالأُخرىٰ ، لَكانَت كُلُّ واحدةٍ في نفسِها بخِلافِ ما هي عليه الآنَ .

و قد بيّنّا أنّ الجَوهرَ إنّما يَحتَمِلُ جميعَ الأعراضِ لِتحيُّزِه، و لا حُكمَ للتحيُّزِ مع بعضِ الأعراضِ دونَ بعضٍ ، و إنّما امتَنَعَ أن يوجَدَ فيه عَينُ (10) ما يوجَدُ(11) في غَيرِه

ص: 368


1- . في الأصل: «يفعل»، و هو خطأ؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «كلّ واحدة»، و ضمير التأنيث في قوله: «بها» يعود إلى «عين» في قوله: «بعين».
2- . في الأصل: «يفعل».
3- . أي بين الجواهر و القُدَر.
4- . في الأصل: «غير»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لعين ما قلناه في نظيره.
5- . في الأصل: «أكانت»، و لعلّه تصحيف لما أثبتناه، و قوله فيما يأتي بُعَيد هذا: «لكانت كلّواحدة» قرينة عليه.
6- . في الأصل: «لحاله».
7- . المقصود ب «حاله الآن»، هو أنّه الآن لا يصحّ أن يحلّه عينُ ما يحلّ الآخر. و المراد أنّ حال الجوهر واحدة لا تتغيّر، سواء صحّ عليه ذلك أم لم يصحّ .
8- . في الأصل: «يحلّ »، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
9- . في الأصل: «غير»، و يظهر صحّة ما أثبتناه بالتأمّل فيما سبق و فيما يأتي من المباحث.
10- . في الأصل: «غير»، و الكلام فيه كما في السابق.
11- . كذا في الأصل، و لعلّ كلمة: «معه» زائدة.

لا لأمرٍ يَرجِعُ إليه، بل الأمرُ إلىٰ ذلكَ الحالِّ . فافتَرَقَ الأمرانِ .

و بمِثلِ هذا نُجِيبُ (1) مَن اعتَرَضَ دليلَنا، بأنّ بعضَ الجواهرِ لا يَحتَمِلُ العِلمَ و الإرادةَ و القدرةَ (2)، و ذلك لاختلافِ (3) الجَواهرِ، فنَقولُ :

إنّما امتَنَعَ حُلولُ العِلمِ و الإرادةِ و القُدرةِ في الجَوهرِ المُنفَرِدِ لِحاجةِ هذه المَعاني إلىٰ أغيارِها، فلِشيءٍ يَرجِعُ إليها لَم تَحُلَّ (4) الجُزءَ المُنفرِدَ(5)، لا إلى المَحَلِّ ؛ ألا تَرىٰ أنّ المَحَلَّ علَى الصفةِ التي حُكمُها مع جَميعِ الأعراضِ واحدٌ؟ و لهذا (105) لو جُعِلَ ذلك الأمرُ في تَضاعِيفِ القَلبِ لَجازَ(6) أن يَحُلَّه العِلمُ (7) و الإرادةُ . و لَو كانَ لا يَحتَمِلُ هذه المَعانيَ لشيءٍ يَرجِعُ إلى ذاتِهِ (8)، لَكانَ لا يَصِحُّ حُلولُها فيه علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ ، و يَجري ذلكَ مَجرَى الأعراضِ .

وَ ممّا يُبَيِّنُ أنّه لا اعتبارَ في تَماثُلِ الجَوهرَينِ ، بأن يَصِحَّ أن يَحُلَّ (9) أحَدَهما نَفسُ ما يَحُلُّ الآخَرَ، أنّ ذلكَ يَقتَضي كَونَ الجَوهرَينِ مُتَماثِلَينِ مُختَلِفَينِ معاً؛ لأنّه إذا لَم يَصِحَّ

ص: 369


1- . في الأصل بدل «نجيب» كلمة لا تقرأ، و ما أثبتناه هو مقتضى السياق.
2- . في الأصل: «و الطرف»، و ما أثبتناه استفدناه من قوله: «إنّما امتنع حلول العلم و الإرادة و القدرة في الجوهر المنفرد».
3- . في الأصل: «تلك الاختلاف» بدل «و ذلك لاختلاف»، و لا محصّل له في المقام.
4- . في الأصل: «لم يحلّ »، و الأنسب ما أثبتناه؛ لعود ضمير الفاعل إلى «هذه المعاني».
5- . في الأصل: «و المنفرد» بالواو.
6- . في الأصل: «لحاز».
7- . في الأصل: «الحكم»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما سبق.
8- . في الأصل: «ادته»، و هو مهمل، و من المحتمل أنّ الصحيح ما أثبتناه، أو شيء آخر مثل كلمة: «مادّية».
9- . في الأصل: «يجعل»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما سبق، و بقرينة قوله بُعيد هذا: «و إذا حلّ أحدهما».

أن يَحُلَّ (1) كُلَّ واحدٍ عَينُ (2) ما يَحُلُّ الآخَرَ مِن الأكوانِ ، يَجِبُ أن يَكونا مُختَلِفَينِ (3). و إذا حَلَّ أحدَهُما نَفسُ ما يَحُلُّ الآخَرَ مِن التأليفِ ، يَجِبُ أن يَكونا مُتَماثِلَينِ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فيَجِبُ علىٰ هذا أن تَكونَ (4) الأعراضُ كُلُّها مُتَماثِلةً ؛ لأنّ كُلَّ مَحلٍّ احتَمَلَ بعضَها فهو يَحتَمِلُ الجميعَ .

و ذلك: أنّ الأعراضَ لا يَقتَضي احتِمالُ المَحَلِّ لها اشتراكَها(5) في صفةٍ ذاتيّةٍ ، و قد بيّنّا أنّ الجواهرَ إذا اشتَرَكَت(6) في احتمالِ الأعراضِ ، فإنّ ذلكَ يَرجِعُ إلىٰ صفةٍ

ذاتيّةٍ يَشتَرِكُ الجميعُ فيها.

علىٰ أنّ لنا طُرُقاً(7) نَتوصَّلُ بها إلى اختلافِ الأعراضِ ؛ مِثلُ الفَصلِ بَينَهما بالإدراكِ ، و نَحوُ اختلافِ ما يَجِبُ عنها مِن الأحوالِ ، و نَحوُ تَغايُرِ التعلُّقِ ، و نَحوُ أن لا تَنتَفيَ (8) بضِدٍّ واحدٍ. و أمّا الجَواهرُ(9)، فقد بيّنّا أنّه لا طريقَ إلَى اختلافِها إلّا ما ذَكَرناه.

ص: 370


1- . في الأصل: «يجعل»، و الكلام فيه كالكلام في السابق.
2- . في الأصل: «غير»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «بأن يصحّ أن يحلّ أحدهما نفس ما يحلّ الآخر»، و قوله: «و إذا حلّ أحدهما نفس ما يحلّ الآخر».
3- . في الأصل: + «و إذا حلّ أحدهما نفس ما يحلّ الآخر من الأكوان، يجب أن يكونا مختلفين»، و هو زائد و مكرّر.
4- . في الأصل: «يكون»، و الأولى ما أثبتناه كما هو واضح. و زيدت في الأصل بعد «تكون» كلمة «الأمرين»، و هي زائدة.
5- . في الأصل: «اشتراكهما»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى لفظة «الأعراض».
6- . في الأصل: «اشترك».
7- . في الأصل: «ظرفاً».
8- . في الأصل: «ينتفي»، و الأولى ما أثبتناه؛ لعود الضمير إلى «الأعراض».
9- . في الأصل: «أعراض الجواهر»، و السياق يشهد بزيادة لفظة «أعراض».

دليلٌ آخَرُ على تَماثُلِ الجَواهرِ: قد ثَبَتَ أنّ الجَواهرَ تُخالِفُ (1) الأعراضَ . و ثَبَتَ أنّ المُخالِفَ لِغَيرِه إنّما يُخالِفُه بصفةٍ تَرجِعُ إلىٰ ذاتِه. و أنّ صفاتِ العِلَلِ و الفاعلِ لا مَدخَلَ لها في هذا البابِ ؛ مِن حَيثُ تؤَدّي(2) إلىٰ تَحدُّد(3) المُخالَفةِ ، و اختصاصِها ببعضِ الأحوالِ دونَ بعضٍ .

فلَم يَبقَ بعدَ ذلك إلّاأنّ الجَواهرَ تخالِفُ الأعراضَ إمّا بالتحيُّزِ، أو ما اقتَضى فيها التحيُّزَ مِن كَونِها جَواهرَ؛ لأنّ ما عَدا هاتَينِ الصفتَينِ يَرجِعُ استحقاقُه إلىٰ عِلّةٍ أو فاعلٍ ، أو يَكونُ حُكماً مِن أحكامِ التحيُّزِ؛ مِثلُ احتمالِ الأعراضِ و امتناعِ التداخُل(4).

و بأيّ الأمرَينِ كانَ الخِلافُ ؛ مِن التحيُّزِ أو كونِها جَواهرَ، فقَد تَمَّ ما أرَدناه مِن تَماثُلِ جَميعِ الجواهرِ؛ لاشتراكِها في ذلك. و ما به تُخالِفُ (5) الذاتُ غَيرَها، به تُماثِلُ ما شارَكَها فيه. و إذا خالَفَتِ الجَواهرُ الأعراضَ بالتحيُّزِ أو بكونِها جَواهرَ أو بالأمرَينِ ، فيَجِبُ أن يَتَماثَلَ جميعُها؛ لاشتراكِها في هاتَينِ الصفتَينِ .

دليلٌ آخَرُ علىٰ أنّه لا يُشبِهُ الجَواهرَ و الأجسامَ : ما دَلَّ علىٰ حُدوثِ الجَواهرِ و الأجسامِ لا يَختَصُّ ، بَل هو شائعٌ في كُلِّ ما كانَ بهذه الصفةِ ، فلَو كانَ تَعالىٰ جَوهراً أو جسماً لَكانَ مُحدَثاً.

يُبيِّنُ هذه الجُملةَ : أنّه لَو كانَ كذلكَ لكانَ مُتَحيِّزاً، و كَونُه مُتَحيّزاً يَقتَضي كَونَه في جهةٍ ، مع جَوازِ كَونِه في غَيرِها، و ذلكَ يَقتَضي وجودَ مَعانٍ لا يَنفَكُّ مِنها

ص: 371


1- . في الأصل: «يخالف»، و الأولى ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «يؤدّي»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «صفات العلل».
3- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «تحديد».
4- . في الأصل: «المداخِل»، و الصحيح ما أثبتناه. راجع: المواقف، ج 1، ص 554.
5- . في الأصل: «يخالف»، و الصحيح ما أثبتناه، و ضمير التأنيث في «غيرها» قرينة عليه. و هكذاالكلام في قوله: «تماثل».

و لا تَبعُدُ مِنه(1)، و قد مَضَى الكلامُ في حُدوثِ جميعِ المَعاني،(2) و أنّ ما لَم يَتقدَّمِ المُحدَثَ فلا بُدَّ مِن كَونِه مُحدَثاً(3).

و لَيسَ لأحدٍ أن يُثبِتَه جَوهراً، و يَنفيَ كَونَه مُتَحيِّزاً؛ لأنّ ذلكَ خِلافٌ في العبارةِ التي كلامُنا الآنَ علىٰ غَيرِها(4).

و لا له أن يُثبِتَه مُتَحيِّزاً، و يَنفيَ كَونَه في جهةٍ ، أو يَنفيَ صحّةَ كَونِه في الجهاتِ علَى البَدَلِ ؛ لأنّ المُقتَضيَ لكَونِه في جهةٍ مّا هو التحيُّزُ، و متىٰ حَصَلَ فلا بُدَّ مِن حُصولِ مُقتَضاه.

فأمّا(5) صحّةُ كَونِه (106) في الجهاتِ علَى البَدَلِ ، فالتحيُّزُ أيضاً يَقتَضيهِ ؛ لأنّا عندَ

دُخولِ الذاتِ في كَونِها مُتحيِّزةً نَعلَمُ (6) صحّةَ ذلكَ فيها.

و لا يَصِحُّ أن يُشتَرَطَ ذلكَ (7) بكَونِه في الجهاتِ لِمَعانٍ مُحدَثةٍ ؛ لأنّ وجودَ المعنىٰ يوجِبُ كَونَه في جهةٍ مخصوصةٍ و يُحيلُ كَونَه في غَيرِها، فمُحالٌ أن يصحَّ (8) كَونَه في الجهاتِ الباقيةِ مع أنّه مُحيلٌ لذلكَ .

ص: 372


1- . في الأصل: «منها»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إليه تعالى.
2- . تقدّم في بداية الكتاب ص 53 عند الحديث عن الدعوى الثانية من دعاوىٰ إثبات حدوث الأجسام.
3- . تقدّم أيضاً في بداية الكتاب ص 82 عند الحديث عن الدعوى الرابعة من دعاوىٰ إثبات حدوث الأجسام.
4- . سوف يأتي الكلام في العبارة في ج 1، ص 394.
5- . كذا في الأصل، و الأنسب بالسياق: «و أمّا».
6- . في الأصل: «يعلم».
7- . أي كونه في الجهات على البدل.
8- . كذا في الأصل، و الأنسب بالسياق: «يُصحِّح».

و لا يَصِحُّ أيضاً أن يُشتَرَطَ ذلكَ بصحّةِ (1) عدمِ ما به يَكونُ في الجهاتِ المُعيَّنةِ ؛ لأنّ ذلكَ لا يَرجِعُ إلى الجِسمِ ، و ما صَحَّحَ صفةَ الذاتِ يَجِبُ أن يَكونَ ما يَرجِعُ إليها.

دليلٌ آخَرُ علىٰ ذلكَ : لَو كانَ تَعالىٰ جسماً لَوجبَ أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ؛ لأنّ مِن شأنِ الأجسامِ أن لا تَكونَ قادرةً [إلّا] علىٰ هذا الوَجهِ ، و قد مَضىٰ طَرَفٌ مِن الكلامِ في ذلكَ فيما سَلَفَ مِن الكتابِ . و لَو كانَ قادراً بقُدرةٍ ، لَما(2) تَأَتّىٰ (3) مِنه فِعلُ الجَواهرِ و الأجسامِ ؛ لأنّا قد دَلَّلنا مِن قَبلُ علىٰ أنّ القُدَرَ علَى اختلافِها لا يَصِحُّ فِعلُ الجَواهرِ و الأجسامِ بها(4). و في عِلمِنا بأنّه تَعالىٰ هو الفاعِلُ للأجسامِ دَلالةٌ علىٰ أنّه لَيسَ بجسمٍ .

دليلٌ آخَرُ: لَو كانَ تَعالىٰ جسماً، لَوجبَ - علىٰ ما بيّنّاه - أن يَكونَ قادراً بقُدرةٍ ، و قد بيّنّا أنّ القُدرةَ لا يَصِحُّ الاختراعُ بها(5)، و أنّ الفِعلَ لا يَقَعُ بها في غَيرِ مَحَلِّها إلّابَعدَ أن يَكونَ بَينَه و بَينَ مَحَلِّها وُصلةٌ و مُماسّةٌ . و هذه الجُملةُ تَقتَضي(6) فيه تَعالىٰ لَو كانَ جسماً أن يَفعَلَ فيما ماسَّه، و لا يَصِحَّ أن يَفعَلَ في الأماكنِ المُتَباعِدةِ . و نَحنُ نَعلَمُ أنّه تَعالىٰ يَفعَلُ في داخِلِ البَيضةِ ، و في المَشرِقِ و المَغرِبِ في الحالةِ الواحدةِ مع فَقدِ المُماسّةِ و الاِتِّصالِ .

علىٰ أنّ فيما يَفعَلُه تَعالىٰ ما يُعلَمُ أنّه لا سببَ له يوَلِّدُه؛ مِثلُ الألوانِ و الأراييحِ

ص: 373


1- . في الأصل: «لصحّة»، و هو يوهم أن تكون اللام للعلّة، و ليس كذلك، بل العلّة قوله: «لأنّذلك» إلى آخره، و الجارّ متعلّق ب «يشترط» و قوله: «و لا يصحّ أن يشترط ذلك بكونه في الجهات» إلى آخره قرينة على ما قلناه.
2- . تُقرأ هذهِ الكلمة في الأصل بصورة: «لا»، كما قد تُقرأ بصورة: «لما»، و الصورة الأخيرة أنسب بالسياق.
3- . في الأصل: «يأتي».
4- . تقدّم في ص 196-197.
5- . تقدّم في ص 198.
6- . في الأصل: «يقتضي».

و الطُّعومِ . و إذ أحدَثَ ذلكَ في الأجسامِ مِن غَيرِ توليدٍ، و لَم يَكُن في مَحَلِّ القُدرةِ عليه، فهو المُختَرِعُ الذي لا يَكونُ مِن جِسمٍ .

دليلٌ آخَرُ: و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلك: أنّه لَو كانَ تَعالىٰ جسماً، لَوجبَ كَونُه أشياءَ مؤتَلِفةً ؛ لأنّ الشيءَ الواحدَ لا يَكونُ جِسماً. و هذا يَقتَضي أن يَكونَ كُلُّ جُزءٍ مِنه قَديماً و مُستَحِقّاً لجميعِ ما يَستَحِقُّه مِن الصفاتِ التي أثبَتناها له؛ لأنّ مِن حقِّ صفةِ النفسِ أن يَختَصَّ بها الآحادُ دونَ الجميعِ . و هذا يَقتَضي إثباتَ قُدَماءَ (1) لهم مِثل صفتِه. و أدلَّةُ (2) التَّوحيدِ - التي يأتي بِعَونِ اللّٰهِ ذِكرُها(3) - تُبطِلُ (4) ذاكَ .

***

2 فَصلٌ في أنّ احتمالَ الأعراضِ و الكَونَ في الجهاتِ و الحركةَ و السُّكونَ و القُربَ و البُعدَ مُستَحيلٌ عليه
اشارة

[2] فَصلٌ في أنّ احتمالَ الأعراضِ و الكَونَ (5) في الجهاتِ و الحركةَ و السُّكونَ و القُربَ و البُعدَ مُستَحيلٌ عليه

كُلُّ صفةٍ أو حُكمٍ رَجَعَ إلَى التحيُّزِ، يَجِبُ نَفيُه عمّن يَستَحيلُ عليه التحيُّزُ. و كُلُّ ما ذَكَرناه مِن الصفاتِ و الأحكامِ إنّما يُصَحِّحُها و يَقتَضيها التحيُّزُ، و قد بيّنّا أنّه تَعالىٰ يَستَحيلُ عليه التحيُّزُ(6)، فيَجِبُ استحالةُ هذه الأحكامِ عليه.

ص: 374


1- . في الأصل: «قدما».
2- . في الأصل: «أداله».
3- . يأتي في ج 2، ص 9.
4- . في الأصل: «يبطل».
5- . في الأصل: «اللون»، و الصحيح ما أثبتناه، و هو معلوم من السياق، مع تصريح السيّد المصنّف به فيما يأتي في الصفحة الآتية.
6- . تقدّم في الفصل السابق.
في بيان أنّ التحيّز يقتضى احتمال الأعراض

فإن قيلَ : دُلّوا علىٰ أنّ التحيُّزَ هو المُصَحِّحُ لهذه الأحكامِ .

قُلنا: أمّا احتمالُ الأعراضِ فراجعٌ إلَى التحيُّزِ؛ بدَلالةِ أنّ الجَواهرَ المعدومةَ لا تَحتَمِلُ (1) الأعراضَ ، و يَستحيلُ حُلولُها فيها. و لَيسَ يَخلُو المؤَثِّرُ في امتناعِ ذلكَ فيها مِن أن يَكونَ هو عدمَها و أنّها لَيسَت بموجودةٍ ، و(2) كَونَها غَيرَ مُتَحيِّزَةٍ .

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ امتناعُ ذلكَ مِن حَيثُ لَم تَكُن موجودةً ؛ لأنّها لَو دَخَلَت في الوجودِ، فلَم(3) يَحصُلْ لها التحيُّزُ، لَم تَحتَمِلِ (4) الأعراضَ ؛ ألا (107) تَرىٰ أنّ الأعراضَ مع وجودِها لا تَحتَمِلُ (5) الأعراضَ؟

فوَضَحَ أنّ المؤَثِّرَ هو انتفاءُ التحيُّزِ، و لهذا وجبَ عند التحيُّزِ احتمالُ الأعراضِ و وجودُ الكونِ . و جَرَى احتمالُ الأعراضِ في ثُبوتِه مع التحيُّزِ و انتفائِه مع فَقدِه، مَجرَى التعلُّقِ في الذواتِ المُتعلِّقةِ التي تَبطُلُ مع العدمِ و تَثبُتُ مع الوجودِ.

و أقوى ما يُسأَلُ عن هذا أن يُقالَ : فيَجِبُ بهذا الاعتبارِ أن تَقولوا(6): إنّ فَقدَ العِلمِ هو المؤثِّرُ في خُروجِ الحَيِّ مِن أن يَكونَ عالِماً؛ لأنّ الطريقةَ فيه كالطريقةِ

ص: 375


1- . في الأصل: «لا يحتمل».
2- . كذا في الأصل، و الأنسب: «أو».
3- . كذا في الأصل، و الأنسب: «و لم».
4- . في الأصل: «لم يحتمل»، و المناسب ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الجواهر المعدومة» و الأفعال المؤنّثة و الضمائر المؤنّثة مؤيّدات.
5- . في الأصل: «لا يحتمل»، و تأنيث الضمير في «وجودها» قرينة عليه.
6- . في الأصل: «أن يقولوا»، و المناسب ما أثبتناه بقرينة قوله: «فيما ذكرتم». و هكذا الكلام في قوله: «أن تنفوا».

فيما ذَكَرتم، و يَجِبُ [علىٰ هذا] أن تَنفوا كَونَ مَن لَيسَ بذي عِلمٍ عالِماً(1). و كذلك القولُ في القُدرةِ و الحَياةِ .

و الجَوابُ عن ذلكَ : أنّ فَقدَ العِلمِ إنّما أثَّرَ في خُروجِ أحَدِنا مِن كَونِه عالِماً، بشَرطِ صحّةِ كَونِه عالِماً و غَيرَ عالِمٍ ، فيَجِبُ أن يُجعَلَ فَقدُه مؤَثِّراً فيمَن كانَ الشرطُ الذي ذَكَرناه تامّاً فيه(2).

و لَيسَ يُمكِنُ أن يُدَّعىٰ في احتمالِ الأعراضِ شرطٌ تَفتَرِقُ به الذواتُ .

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ أنّ احتمالَ الأعراضِ لا يَصِحُّ إلّامع التحيُّزِ: أنّ المَرجِعَ بالحُلولِ و المُستفادَ به حُصولُ الحالِّ بحَيثُ المَحَلِّ ، و تَعلُّقُه به علىٰ حَدٍّ لو انتَقَلَ

المَحَلُّ لَكانَ الحالُّ كأنّه قد انتَقَلَ .

و لا يَصِحُّ أن يَكونَ المُستفادُ مِن الحُلولِ وجودَ الذاتِ بحَيثُ وُجِدَ غَيرُها؛ لأنّ الأعراضَ الكثيرةَ توجَدُ في المَحَلِّ الواحِدِ. و لَيسَ بعضُها حالاًّ في بعضٍ . و المَحَلُّ موجودٌ أيضاً بحَيثُ العَرَضِ و إن لَم يَكُن حالّاً فيه.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ المرادُ وجودَ الشيءِ بحيثُ وُجِدَ غَيرُه و تَعلُّقَه به، حتّىٰ أنّه مَتىٰ عُدِمَ ذلك عُدِمَ هذا؛ لأنّ الحَياةَ موجودةٌ فيه بحَيثُ العِلمُ موجودٌ، و لَو عُدِمَت لَعُدِمَ العِلمُ ، و مع ذلكَ فالعِلمُ حالٌّ في الحياةِ . فصَحَّ أنّ المعنىٰ في الحُلولِ ما ذَكَرناه.

و إذا كانَ لا يَتِمُّ كَونُ الحالِّ كأنّه المُنتَقِلُ بانتقالِ المَحَلِّ إلّامع تَحيُّزِ المَحَلِّ ، ثَبَتَ أنّ الحُلولَ لا يَصِحُّ إلّافي المُتحيِّزِ، و صَحَّ أنّ القَديمَ تَعالىٰ يَستحيلُ عليه الحُلولُ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن مُتحيِّزاً.

ص: 376


1- . و إنْ لم يصحّ أن يتّصف بالعلم.
2- . و هكذا القول في القدرة و الحياة.
في بيان أنّ التحيّز يقتضي الكون في الجهات

فأمّا الكَونُ في الجِهاتِ : فلا شُبهةَ في أنّ التحيُّزَ يُصَحِّحُه؛ لأنّه إذا كان المُصَحِّحُ لاحتمالِ الأعراضِ هو التحيُّزَ، و كانَتِ (1) الصفةُ التي تَحصُلُ للكائنِ في جهةٍ موجَبةً عن الكَونِ الذي إنّما احتَمَلَه الجَوهرُ و سائرَ الأعراضِ لِتحيُّزِه، فقَد عادَ الأمرُ إلى أنّ التحيُّزَ يُصَحِّحُ ذلكَ بواسطةٍ ؛ فما استَحالَ تَحيُّزُه، استَحالَ كَونُه في الجهةِ ، و استَحالَ عليه أيضاً الحركةُ و السُّكونُ و القُربُ و البُعدُ؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ يَرجِعُ إلَى الكَونِ في الجهاتِ علىٰ وجوهٍ مخصوصةٍ .

علىٰ أنّه لَو صَحَّ كَونُه تَعالىٰ في جهةٍ مِنَ الجِهاتِ ، لم يَخلُ أن يَكونَ كذلكَ لِنفسِه، أو لِمعنىً .

و لا يَجوزُ أن يَكونَ عليها لنفسِه؛ لأنّه لَيسَ بأن يَختَصَّ بجهةٍ بأَولى مِن أن يختَصَّ بغيرِها، و هذا يُؤَدّي إلىٰ أن يَكونَ في جميعِ الجهاتِ ، و ذلك مُتَضادٌّ. و على هذا ألزَمنا مَن يَقولُ : إنّه تَعالىٰ مُريدٌ لنفسِه، أن يَكونَ مُريداً لسائرِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مُراداً. و إنّما يَختَصُّ الجَوهرُ أن يَكونَ في جهةٍ دونَ أُخرىٰ ، بأن يوجَدَ ما فيه اختصاصُه بتلكَ الجهةِ ، و هذا الاختصاصُ مفقودٌ فيمن يَكونُ كذلكَ لنفسِه.

علىٰ أنّه لَو اختَصَّ بالجهةِ لنفسِه - و ذلكَ لا يَحصُلُ [إلّا] مع التحيُّزِ؛ ألا تَرىٰ أنّ العَرَضَ يُدرَكُ في جهةِ الجَوهرِ، و لا يَحصُلُ له مِن الصفةِ ما يَحصُلُ للجَوهرِ؛ مِن

حَيثُ لَم يَكُن مُتَحيِّزاً؟ - فلَو كانَ لنفسِه في الجهاتِ ، لَوَجَبَ (2) في كُلِّ ما شارَكَه مِنَ الجَواهرِ في هذه الصفةِ العائدةِ إلَى النفسِ - أعني التحيُّزَ - أن يُشارِكَه في

ص: 377


1- . في الأصل: «فكانت»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّ ما في الأصل يوهم أن يكون «فكانت» جواب الشرط، و ليس كذلك، و الجواب قوله: «فقد عاد الأمر» إلى آخره.
2- . في الأصل: «يوجب»، و الأنسب بالسياق ما أثبتناه.

الاختصاصِ بجهةٍ إذا كانَ يَختَصُّ بها لنفسِه.

فلَم يَبقَ إلّاأنّه كذلكَ لمعنىً . و لا يَجوزُ أن يَكونَ ذلكَ المعنىٰ (108) قَديماً - لِما تَقدَّمَ مِن كلامِنا في هذا الباب(1) - و لا مُحدَثاً؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن لا يَنفَكَّ منه، و ذلك يَقتَضي حُدوثَه و بُطلانَ قِدَمِه.

في بيان استحالة حلول الأعراض فيه تعالىٰ

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَحتَمِلُ الأعراضَ ، و لا يَصِحُّ أن تَحُلَّه: أنّ المَعقولَ مِن الحالِّ وجودُه بحسَب(2) المَحَلِّ ، و قد دَلَّلنا علىٰ أنّه تَعالىٰ لا تَصِحُّ (3)عليه الجهاتُ .

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ [ذلك]: أنّه لو احتَمَلَ الأعراضَ ، لم يَخلُ مِن أن يرجِعَ احتمالُها إلىٰ كَونِه موجوداً، أو إلى كَونِه عالِماً واجِباً و ما أشبَهَ ذلكَ مِن الصفاتِ التي تَرجِعُ (4)فينا إلَى الجُملِ ، أو يَكونَ راجعاً(5) إلىٰ صفتهِ الذاتيّةِ التي بها يُخالَفُ .

و لا يَجوزُ رُجوعُ ذلكَ إلَى الوجودِ؛ لمشارَكةِ ما يَحُلُّه في الوجودِ له، فلَيسَ وُجودُه بأن يَقتضيَ حُلولَ ذلكَ فيه بأَولىٰ مِن أن يَكونَ وجودُ ذلكَ يَقتَضي حُلولَه هو فيه.

و لا يَجوزُ أن يَرجِعَ الاحتمالُ إلَى الصفاتِ الراجعةِ فينا إلَى الجُمَلِ ؛ لأنّ ذلك يوجِبُ

ص: 378


1- . الظاهر أنّه يعني: ما تقدّم في هذا الموضوع. و قد تقدّم إبطال المعاني القديمة في ص 290.
2- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «بحيث» بقرينة قوله فيما سبق: «أنّ المرجع بالحلول و المستفادبه حصول الحالّ بحيث المحلّ ».
3- . في الأصل: «لا يصحّ ».
4- . في الأصل: «يرجع».
5- . في الأصل: «راجعة»، و هي سهو؛ لرجوع الضمير في «راجعاً» إلى قوله: «احتمالها».

أن يكونَ كُلُّ ما اختَصَّ بهذه الصفاتِ مُحتَمِلاً للأعراضِ ، فكان(1) يَجِبُ فينا احتمالُ الأعراضِ ، و الاحتمالُ يَرجِعُ إلَى المَحَلِّ ؛ فكيفَ (2) يَتعلَّقُ بصفةٍ تَرجِعُ (3) إلَى الجُملةِ؟

و لَيسَ يَجوزُ رُجوعُ ذلكَ إلىٰ صفتِه الذاتيّةِ التي بها يُخالَفُ ؛ لأنّه يَقتَضي أنّ المَحالَّ مُشارِكةٌ له في تلكَ الصفةِ ؛ مِن حَيثُ شارَكَته في مُقتَضىٰ صفةِ ذاتِه، و استَحَقَّتها علَى الوَجهِ الذي يَستَحِقُّها؛ ألَاتَرىٰ أنّ الاحتمالَ مع الوجودِ يكونُ واجباً فيها كما يَجِبُ فيه ؟ و لا يَلزَمُ علىٰ ذلكَ المُشارَكةُ في كَونِه عالِماً و حَيّاً؛ لأنّ الوَجهَ يَختَلِفُ فينا و فيه؛ مِن حَيثُ كانَ واجباً فيه تَعالىٰ و جائزاً فينا.

و ممّا يُمكِنُ أن يُقالَ في ذلك أيضاً: أنّ صحّةَ الحُلولِ هو حُكمٌ و لَيسَ بصفةٍ ، و ما عليه الذاتُ لا يَصِحُّ أن يوجِبَ حُكماً، و إنّما يوجِبُ صفةً ؛ ألا تَرىٰ أنّ جميعَ صفاتِ الذواتِ في الشاهدِ لا توجِبُ إلّاالصفاتِ دونَ الأحكامِ؟ و إنّما كانَت كذلكَ مِن حَيثُ كانَ ما اقتَضىٰ فيها الإيجابَ يَقتَضي أن تَكونَ (4)موجِبةً لصفاتٍ ؛ لأنّ المُقتَضيَ لإيجابِها هو أن يَتمَيَّزَ جنسٌ في الوجودِ مِن جنسٍ ،

و هذا يَحصُلُ بالصفاتِ دونَ الأحكامِ . فعُلِمَ بذلكَ أنّ صفاتِه الذاتيّةَ لا يَجوزُ أن تَقتضيَ (5) احتمالَ الأعراضِ .

***

ص: 379


1- . في الأصل: «و كان»، و الأنسب ما أثبتناه.
2- . في الأصل: «و كيف»، و الأنسب ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «يرجع».
4- . في الأصل: «يكون»، و الضمير راجع إلى «جميع صفات الذوات».
5- . في الأصل: «يقتضي».
3 فَصلٌ في استحالةِ كَونِه تَعالىٰ في جهةٍ مِن غَيرِ أن يَكونَ شاغِلاً لها
اشارة

ممّا يدُلُّ علَى استحالةِ ذلكَ : أنّه مؤَدٍّ إلىٰ تَعدُّدِ الفِعلِ في الغَربِ و الشَّرقِ في الحالةِ الواحدةِ عليه، و قد عَلِمنا خِلافَه.

و أيضاً: فلَو كانَ في جهةٍ ، لَم يَمتَنِعْ حُصولُ جَوهرٍ بحَيثُ هو؛ لأنّه لا وَجهَ يَمنَعُ مِن ذلكَ ؛ مِن تَضادٍّ و لا غَيرِه. و مَتىٰ حَصَلَ بحَيثُ هو، فلا بُدَّ مِن كَونِه حالاًّ فيه؛ لأنّ حالَه لا يَنفَصِلُ عن حالِ (1) سائرِ الأعراضِ الحالّةِ في ذلكَ الجَوهرِ. و سَنَدُلُّ (2)علَى استحالةِ كَونِه تَعالىٰ حالاًّ(3).

و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ ما طريقُ إثباتِه الفِعلُ ، لا يَصِحُّ إثباتُه إلّاعلىٰ ما يَقتَضيهِ الفِعلُ مِن الصفاتِ ؛ إمّا بنفسِه أو بواسطةٍ ، فهذه الطريقُ قد بيّنّاها في بابِ نَفيِ المائيّةِ (4)، و قد عَلِمنا أنّ طريقَ إثباتِه تَعالىٰ هو الفِعلُ دونَ غَيرِه، فيَجِبُ إثباتُ صفاتِه مِن هذا الوَجهِ . و لَيسَ في الفِعلِ ما يَقتَضي كَونَه علىٰ صفةٍ سِوىٰ ما أثبَتناه له، و لا يَقتَضي كَونَه في جهةٍ علىٰ وَجهٍ مِنَ الوجوهِ ، فيَجِبُ نَفيُ ذلكَ .

في بيان بطلان المعنى الظاهري لكونه تعالىٰ فوق العرش

و قد سَقَطَ بما أوردناه جَهالةُ مَن اعتَقَدَ أنّه تَعالىٰ فَوقَ العَرشِ و إن لم يَكُن مُتَحيِّزاً.

ص: 380


1- . في الأصل: «حاله».
2- . في الأصل: «و سدل»، و هو لا محصّل له في المقام، و الظاهر أنّه تصحيف عمّا أثبتناه.
3- . يأتي في ج 1، ص 386.4. تقدّم في ص 239.
4-

و قولُه تَعالىٰ : «اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ »(1) و في مَوضِعٍ آخَرَ: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ »،(2). في الأصل: «حميرد». راجع: التوحيد للماتريديّ ، ص 56؛ تصحيح اعتقادات الإماميّة، ص 75؛ شرح الاُصول الخمسة، ص 151؛ كنز الفوائد، ج 2، ص 105. و أمّا قوله: «ثُلّت» يعني: هُدمت. يقال: ثللتُ البيت أثلُّه: هدمته. و يقال: ثلّ اللّٰه عرشهم، أي هدم مُلكهم (الصحاح، ج 4، ص 1648). و قوله: «و أودوا» يعني: هلكوا (لسان العرب، ج 14، ص 25).(3) * المُرادُ به الاستيلاءُ ؛ كما يُقالُ : «استَوىٰ فُلانٌ علىٰ كذا» أي استَولىٰ عليه؛ قالَ الشاعرُ:

فلَمّا عَلَونا و استَوَينا عليهِمُ (4) *** تَرَكناهُمُ صَرعىٰ لنسرٍ(5) و كاسِرِ

(109) و قيلَ : إنّ العَرشَ هاهُنا المُلكُ ، و استُشهِدَ بقولِ الشاعرِ:

إذا ما بَنُو مَروانَ ثُلَّت عُروشُهُم(6) *** و أودوا كَما أودَت(7) إيادٌ و حِميَرُ(7)

و قيلَ : بل هو [عَرشُ ] اللّٰهِ ، الذي أخبَرَ اللّٰهُ تَعالىٰ بأنّ المَلائكةَ تَحمِلُه، و إنّما خَصَّه بالذِّكرِ مع استيلائه تَعالىٰ علىٰ كُلِّ شيءٍ ؛ مِن حَيثُ كانَ العَرشُ أعظَمَ شَيءٍ خَلَقَه. و إذا كانَ مُستَولياً علَى الأعظَمِ ، فبأن يَكونَ مُستَولياً علَى الأصغَرِ أَولىٰ ، كما

ص: 381


1- . طه (20):5.
2- . الأعراف
3- :54؛ يونس (10):3؛ الرعد (13):2؛ الفرقان (25):59؛ السجدة (32):4؛ الحديد (57):4.
4- . في الأصل: «عليه»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «تركناهم»، و هو مطابق لما في المصادر التي نُقل الشعر فيها. راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 151؛ المغني، ج 5، ص 214؛ التوحيد للصدوق، ص 199؛ التبيان، ج 1، ص 125، ذيل الآية 29 من البقرة (2).
5- . في الأصل: «كسيرٍ» و الصحيح ما أثبتناه (راجع المصادر المتقدّمة). و أمّا الكاسر فهو العُقاب. راجع: مجمع البحرين، ج 4، ص 41 (كسر).
6- . في الأصل: «عروسهم»، و ما أثبتناه هو المطابق لما في المصادر.
7- . في الأصل: «أوذوا كما أوذت»، و الصحيح ما أثبتناه طبقاً لما في المصادر.

خَصَّ العالَمينَ بقَولِه تَعالىٰ : «رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ »(1) ؛ مِن حَيثُ كانوا أعظَمَ الخَلقِ و أشرَفَه، و إن كانَ رَبَّ كُلِّ شَيءٍ .

و قولُه: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ » * المُرادُ به: ثُمّ خَلَقَ العَرشَ و هو مُستَوٍ عليه، أي مُستَولٍ ، كما قالَ تَعالىٰ : «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ »(2) أي: حتّىٰ تُجاهِدوا و نَحنُ نَعلَمُ ذلكَ ، و مَجازُ هذا مشهورٌ في اللُّغةِ .

و قيلَ أيضاً: لا يَمتَنِعُ أن يُريدَ بقَولِه - جَلَّ و عَزَّ -: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ ، يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ»(3) أي: ثُمّ يُدَبِّرُ الأمرَ و هو مُستَولٍ علَى العرشِ ؛ لأنّ التدبيرَ حادِثٌ ، فيَصِحُّ أن يُعَلَّقَ به لفظُ الاستقبالِ .

و قولُه تَعالىٰ : «أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ »(4) معناه: مَن في السَّماءِ عذابُه، و ملائكتُه الموَكَّلونَ بانتقامه(5).

و قولُه تَعالىٰ : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ »(6) و معناه: أنّه يَتقبَّلُه و يُجازي عليه، كما يَقولُ أحَدُنا [لتابعٍ له: «إنّ ](7) فُلاناً، واصلٌ إليّ ، و لاحِقٌ بي» و ما أشبَهَ ذلكَ . و معنىٰ ذِكرِ الصُّعودِ، ارتفاعُ قَدرِه و مَنزلتِه عندَه.

ص: 382


1- . جاء ضمن آيات كثيرة، نخصّ واحدة منها بالذكر تيمّناً و تبرّكاً، و هي الآية 2 من سورة الفاتحة (1).
2- . محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله (47):31.
3- . يونس (10):3.
4- . الملك (67):16.
5- . هذهِ الكلمة تصعب قراءتها، و قد تُقرأ بما أثبتناه، كما قد تُقرأ: «بانتفائه» أو «بانتقالها».
6- . فاطر (35):10.
7- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين كلمتان غير مقروءتين؛ لرداءة الخطّ.

و معنىٰ قولِه: «إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ »(1) في الخبرِ عن الملائكةِ عليهم السلام: أنّه اصطَفاهم و اختارَهم، و عَلىٰ هذا سَمّاهم في القرآنِ : «المُقرَّبينَ »(2). في الأصل: «بينه»، و لعلّه تصحيف عمّا أثبتناه.(3) مِن قُربِ المَنزلةِ لا المَسافةِ .

و قيلَ : إنّه أرادَ: في مُلكِه؛ كما يُقالُ : «عندَ فُلانٍ مِن الأموالِ كَذا» و كما يُقالُ :

«عندَه مِن الرِّزقِ كَذا»، أي يَملِكُه.

و قيلَ : عندَ عَرشِه.

و قيلَ : الموضِعُ الذي لا يَملِكُ الحُكمَ فيه سِواه؛ كما يُقالُ : «عندَ مَلِكِ العَرَبِ خِصبٌ أو قَحطٌ» أي: في بِلادِه التي(4) يَملِكُ التصرُّفَ فيها. و هذه جُملةٌ بيِّنةٌ (4) علىٰ ما سِواها.

***

4 فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ شَيئاً مِن الأعراضِ
اشارة

قد عَلِمنا أنّه لا جنسَ مِن أجناسِ الأعراضِ ممّا(5) عُلِمَ باضطرارٍ و استدلالٍ إلّاو

هو مُحدَثٌ ، فلَو أشبَهَ تَعالىٰ شيئاً منها لَاستحالَ كَونُه قَديماً، كما استَحالَ فيما هو مِن جنسِه.

ص: 383


1- . الأعراف (7):206.
2- . إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ : «لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّٰهِ وَ لاَ اَلْمَلاٰئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ »؛ النساء
3- :172.
4- . في الأصل: «الذي».
5- . في الأصل: «ما».

و أيضاً: فقَد ثَبَتَ في كُلِّ عَرَضٍ يُشارُ إليه و يُعقَلُ ، استحالةُ كَونِ قَبيلِه قادراً عالِماً حَيّاً، فلَو كانَ مِن قبيلِ (1) بعضِ الأعراضِ ، لَاستَحالَت هذه الصفاتُ عليه، و قد عَلِمنا وجوبَها له.

و ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ الأعراضَ علىٰ ضَربَينِ :

فضَربٌ يَستَحيلُ وجودُه إلّافي مَحَلٍّ .

و ضَربٌ يَستَغني عن المَحَلِّ ؛ كإرادتِه تَعالىٰ ، و كَراهَتِه، و الفَناءِ المُضادِّ للجَواهرِ.

و كَونُه مِن قَبيلِ الضَّربِ الأوّلِ ، يَقتَضي قِدَمَ الجَواهرِ(2) أو حُدوثَه؛ لوجوبِ حُدوثِ ما لا يَستَغني عنه مِن المَحَلِّ . و كِلا الأمرَينِ فاسدٌ.

و كَونُه مِن قَبيلِ الضَّربِ الثاني باطلٌ ؛ لأنّه إن كانَ مِن قَبيلِ الإرادةِ أو الكراهةِ ، استَحالَ عليه التفرُّدُ بالقِدَمِ ؛ لأنّه لا حَيَّ فيما لَم يَزَلْ سِواهُ ، فيوجِبَ له حالَ المُريدِ أو الكارهِ . و مُحالٌ وجودُ ما له صفةُ الإرادةِ مِن غَيرِ أن يوجَبَ [له](3) حالُ المُريدِ.

علىٰ أنّ كَونَه بصفةِ الإرادةِ و الكراهةِ يُحيلُ بقاءَه، كما يَستَحيلُ البقاءُ عليهما.

و هذا الوَجهُ أيضاً يُبطِلُ كَونَه بصفةٍ ، و يُبطلُه زائداً علىٰ ذلكَ : أنّه لَو كانَ بصفةٍ لَاستحالَ مع وجودِ الجَواهرِ، و لَوجبَ أن يَصِحَّ وجودُه بَدَلاً مِن وجودِ ضِدِّه؛ لأنّ هذا حُكمُ كُلِّ ضِدَّينِ . و ذلك يُحيلُ كَونَهما أو كَونَ أحَدِهما قَديماً. فبَطَلَ (110) أن يَكونَ مُشبِهاً لشَيءٍ (4) مِن الأعراضِ .

ص: 384


1- . في الأصل: «قبل».
2- . التي صارت محلاًّ له.
3- . ما بين المعقوفين أضفناه بقرينة قوله: «فيوجب له حال المريد أو الكاره».
4- . في الأصل: «مشتهياً بشيء».

[و ممّا يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : أنّ الأعراضَ ](1) علىٰ ضَربَينِ :

إمّا ما يَختَصُّ المَحَلَّ مِن حَيثُ أوجَبَ له حالاً، كالكَونِ . أو يَختَصُّه(2) و لا يوجِبُ حالاً، كالألوانِ و غَيرِها.

و الضَّربُ الثّاني: ما أَوجَبَ للحَيِّ حالاً؛ كالعِلمِ و الإرادةِ و ما أشبَهَهما.

و قد أبطَلنا أن يَكونَ علىٰ صِفةِ الضَّربِ الأوّلِ .

و كَونُه علىٰ صفةِ الثاني يَقتَضي صحّةَ مُنافاةِ ضِدِّ هذه المَعاني له علىٰ بَعضِ الوجوهِ ؛ لأنّ ما يُماثِلُ الشيءَ لا يَجوزُ أن يَستحيلَ عدمُه علىٰ كُلِّ حالٍ ، ممّا يَصِحُّ عدمُ ذلكَ الشيءِ به في الجنسِ . فيَقتَضي أيضاً ما قَدَّمناه مِن استحالةِ تَفرُّدِه بالقِدَمِ ؛ مِن حيثُ وجَبَ أن يَكونَ هُناكَ ما يوجِبُ له الحالَ المخصوصةَ .

نفي أن يُشبِهَ تعالىٰ عرضاً غيرَ معقول:

فإن قيلَ : كُلُّ الذي ذَكَرتُموه إنّما يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ الأعراضَ المعقولةَ ؛ فمِن أينَ أنّه لا يُشبِهُ عَرَضاً لا تَعقِلونَه ؟ أوَلَيسَ قد قالَ بعضُكم: «إنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ أن يَكونَ في مقدورِ اللّٰهِ تَعالىٰ لَونٌ يُخالِفُ ما يُعقَلُ مِنَ الألوانِ »؟ فألَاجازَ قياساً علىٰ ذلكَ نَوعٌ يُخالِفُ هذه الأنواعَ؟!

قُلنا: إثباتُ ما لا يُعقَلُ و لا يَقتَضيهِ الدليلُ باطلٌ ؛ لأنّه يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ التي قد تَقدَّمَ ذِكرُها.

و لَيسَ إثباتُ لَونٍ يُخالِفُ هذه الألوانَ ، بجارٍ مَجرىٰ إثباتِ عَرَضٍ يُخالِفُ جَميعَ الأعراضِ المعقولةِ ؛ لأنّ مَن أجازَ ذلكَ أجازَه علىٰ وجهٍ معقولٍ ، و بأن يَحصُلَ للمَحَلِّ به هيئةٌ ، كما يَحصُلُ بالألوانِ المعقولةِ ، فلَم يَخرُجْ بقَولِه هذا

ص: 385


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و به يتمّ الكلام و يستقيم المعنى.
2- . في الأصل: «مختصّة».

عمّا يُعقَلُ . و لَيسَ هذا بمَنزلةِ إثباتِ عَرَضٍ لا يُعقَلُ ، و لا يَجري مَجرَى المعقولِ مِن الأعراضِ في شيءٍ مِن الصفاتِ و الأحكامِ .

علىٰ أنّ ذلكَ لَو ساغَ ، و جازَ لِمُثبِتٍ أن يُثبِتَ ما يُخالِفُ الأعراضَ المعقولةَ ، لَاستَحالَ كَونُه تَعالىٰ مِن جنسِ ذلكَ ؛ لأنّه لا بُدَّ في ذلكَ الذي أُثبِتَ مِن أن يَكونَ ممّا إذا وُجِدَ كان مُحدَثاً؛ فكيفَ يُشبِهُ (1) القَديمَ؟

و لا يَسوغُ إثباتُ عَرَضٍ يُخالفُ ما نَعقِلُه(2) مِن الأعراضِ ، و يَستَحيلُ وجودُه علىٰ كُلِّ وجهٍ ؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ معرفةِ كَونِ الذاتِ معلومةً ، صحّةُ وجودِ ما هو مِن جنسِها، فما لَم يَصِحَّ ذلكَ عليه، لا يَصِحُّ أن يُعلَمَ ؛ فكيفَ (3) يُثبَتُ؟

علىٰ أنّ الفِعلَ و ما يَقتَضيه الفِعلُ لا يَدُلُّ علىٰ كَونِه بصفةِ بعضِ الأعراضِ ، فيَجِبُ نَفيُ ذلكَ عنه علىٰ ما تَقدَّمَ .(4)

***

5 فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَحُلَّ غَيرَه
اشارة

ممّا يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ الحُلولَ كيفيّةٌ في الوجودِ(5)، و الوجودُ(6) لا يَنفَصِلُ

ص: 386


1- . في الأصل: «و كيف يشتبه». 2. في الأصل: «يعقله».
2-
3- . في الأصل: «و كيف».
4- . تقدّم في فصل الردّ علىٰ أصحاب المائيّة في ص 239.
5- . في الأصل: «الحدوث»، و الصحيح ما أثبتناه. و للمزيد راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 199؛ كشف المراد، ص 293؛ شوارق الإلهام، ج 3، ص 456؛ شرح المنظومة، ج 2، ص 127.
6- . في الأصل: «فالوجود»، و لا وجه للتفريع على ما سبق.

منها(1)، و لَيسَ بجارٍ مَجرَى الصفاتِ التي يَنفصِلُ بعضُها مِن بعضٍ . و إذا صَحَّ ذلك استحالَ عليه تَعالَى الحُلولُ ؛ لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ حُلولُه غَيرَ مُنفَصِلٍ مِن وجودِه، و هذا يَقتَضي حُلولَه فيما لَم يَزَلْ ، و يوجِبُ قِدَمَ المَحالِّ .

و أيضاً: فمِن شأنِ ما حَلَّ المَحَلَّ أن يَتعلَّقَ وجودُه به و يَختَصَّ به، و لا بُدَّ مِن بُطلانِه ببُطلانِه؛ ألا تَرىٰ أنّ السوادَ الحالَّ في بَعضِ المَحالِّ ، يَبطُلُ ببُطلانِ مَحَلِّه دونَ بُطلانِ ما لَم يَحُلَّه؛ للعِلّةِ (2) التي ذَكَرناها؟ و هذا يَقتَضي جَوازَ البُطلانِ عليه تَعالىٰ مَتىٰ بَطَلَت المَحالُّ . و في استحالةِ العدمِ (3) عليه دليلٌ علَى استحالةِ الحُلولِ .

و أيضاً: فلَو حَلَّ بَعضَ المَحالِّ ، لَم يَصِحَّ أن يَفعَلَ في الحالةِ الواحدةِ في المَشرِقِ و المَغرِبِ .

و ليسَ يُمكِنُ أن يُقالَ : «إنّه يَحُلُّ جميعَ المَحالِّ » فِراراً مِن ذلكَ ؛ (111) لأنّه كانَ يَجِبُ أن يَكونَ مِن جنسِ التأليفِ حَيثُ حَلَّ (4) المَحَلَّينِ ، و مِن حَيثُ حَلَّ أكثَرَ مِن ذلكَ يَجِبُ أن يُخالِفَه. و يَجرِي مَجرَى العِلمَينِ اللّذَينِ يَتعلَّقانِ بمعلومٍ واحدٍ علَى الشُّروطِ المُراعاةِ ، و يَتعلَّقُ أحَدُهما بمعلومٍ آخَرَ لا يَتعلَّقُ به صاحبُه، في أنّهما يَجِبُ أن يَكونا مُتَماثِلَينِ مُختَلِفَينِ .

و أيضاً: فلَيسَ يَصِحُّ حُلولُ ذاتٍ في مَحَلٍّ مِن غَيرِ أن يؤَثِّرَ ضَرباً مِن التأثيرِ، حتّىٰ يَكونَ لوجودِها(5) حالّةً مِن الحُكمِ ما لَيسَ لِفَقدِها؛ لأنّها لَو لَم تَكُن حالّةً ، ما زادَ علىٰ ذلكَ . و لا حُكمَ معقولاً يُمكِنُ أن يُشارَ إليه، فيُقالَ : إنّه يَحصُلُ

ص: 387


1- . في الأصل: «منهما»، و الضمير راجع إلى لفظة «كيفيّة».
2- . في الأصل: «العلّة».
3- . في الأصل: «العامّ ».
4- . في الأصل: «حالّ ».
5- . في الأصل: + «تأثير»، و هو زائد بشهادة قوله: «لأنّها لو لم تكن حالّة».

عند حُلولِ القديمِ سُبحانَه، و لَولاه ما حَصَلَ ؛ لأنّ سائرَ الأحكامِ المعقولةِ مُستَنِدةٌ إلىٰ جهاتٍ مخصوصةٍ ، لَيسَ مِنها كَونُه حالّاً، فيَجِبُ الفَصلُ باستحالةِ حُلولِ القَديمِ (1).

و أيضاً: فلَو صَحَّ عليه الحُلولُ ، لَم يَخلُ مِن: أن يَكونَ حالّاً فيما لَم يَزَلْ و في كُلِّ حالٍ ، و هذا يَقتَضي كَونَ الجَواهرِ قَديمةً ، أو يَكونَ حالّاً بَعدَ أن لَم يَكُن كذلكَ . ثُمّ لا يَخلُو مِن أن يَحُلَّ (2) مع جَوازِ أن لا يَحُلَّ ، أو يَكونَ حالّاً علىٰ سَبيلِ الوجوبِ مَتىٰ وُجِدَتِ المَحالُّ .

و في الوَجهِ الأوّلِ [يَلزم] كَونُه حالّاً(3) لمعنىً . و لا يَلزَمُ أن يَكونَ السوادُ حالاًّ لمعنىً ؛ لأنّ السوادَ يَحُلُّ المَحَلَّ لحُدوثِه، فيَستَغني عن أمرٍ سِواه، و لَيسَ كذلكَ القَديمُ و علىٰ قولِهم(4)؛ لأنّه وُجِدَ غَيرَ حالٍّ ثُمّ حَلَّ ، فلا بُدَّ مِن معنىً . كما أنّ السوادَ لَو صَحَّ أن يَحدُثَ و لا يَكونَ حالّاً ثُمّ يَحُلَّ ، أو يَحدُثَ غَيرَ حالٍّ ، لَاحتاجَ إلىٰ معنىً .

فساد كونه تعالىٰ حالاًّ لمعنىٰ

فإن قيلَ : فبأيِّ شيءٍ يَفسُدُ كَونُه حالاًّ لمعنىٰ؟

قُلنا: لَو حَلَّ لمعنىً لَوجبَ أن يَختَصَّ به ضَرباً مِن الاختصاصِ ؛ ليَصِحَّ أن يوجِبَ كَونَه حالاًّ. و لا يَخلو أن يكونَ اختصاصُ ذلكَ المعنىٰ به مِن حَيثُ حَلَّه أو جَاوَرَه(5)، أو مِن حَيثُ حَلَّ مَحَلَّه.

ص: 388


1- . في الأصل: «حلوله قديمه»، و هو غير مفهوم.
2- . في الأصل: «تحلّ »، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى القديم سبحانه، و تذكير الأفعال السابقة و اللاحقة يشهد لذلك.
3- . في الأصل: «دالاًّ»، و واضح أنّ البحث في المقام في الحلول، لا في الدلالة.
4- . كذا في الأصل.
5- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «و جاوَرَه».

و لا يَجوزُ أن يَحُلَّه و لا(1) يُجاوِرَه؛ لأنّ ذلكَ يوجِبُ كَونَه مُتَحيِّزاً، و كَونُه كذلكَ يُحيلُ حُلولَه. علىٰ أنّا قد دَلَّلنا علَى استحالةِ كَونِه بهذه الصفةِ (2).

و لا يَجوزُ أن يَحُلَّ مَحَلَّه؛ لأنّه لَيسَ بأن يَقتَضيَ حُلولَه أَولىٰ مِن أن يَقتَضيَ حُلولَه كُلُّ ما يَصِحُّ حُلولُه في ذلكَ المَحَلِّ ممّا يَحُلُّه، و هذا يَقتَضي أن لا يَنحَصِرَ ما حَلَّ المَحَلَّ ؛ لأنّ ما يَصِحُّ حُلولُه فيه لا يَنحَصِرُ. و بهذا يَبطُلُ أن يَكونَ ذلكَ المعنىٰ موجوداً لا(3) في مَحَلٍّ .

علىٰ أنّ العِلّةَ الموجِبةَ للصفةِ (4) لا يَصِحُّ أن يُجعَلَ لها(5) مِثلُ تلكَ الصفةِ التي توجِبُها(6) لغَيرِها؛ ألا ترىٰ أنّ العِلمَ لمّا(7) أَوجَبَ كَونَ العالِمِ [عالِماً]، لَم يَجُز عليه أن يَكونَ بصفةِ العالِمِ؟ و كذلكَ سائِرُ العِلَلِ . و قد عَلِمنا أنّ المعنىٰ يَحُلُّ المَحَلَّ كحُلولِه تَعالىٰ ، لَو كانَ مِمّا يَحُلُّ المَحَلَّ ؛ فكيفَ (8) يَصِحُّ إيجابُه كَونَه حالاًّ؟

و بَعدُ، إذا اشتَرَكا في الحُلولِ ، فلَيسَ أحَدُهما بأن يوجِبَ [كَونَ ] صاحبِه حالاًّ بأَولىٰ مِنَ الآخَرِ، و هذا يؤَدّي إلىٰ أنّ كُلَّ واحدٍ منهما عِلّةُ الآخَرِ في الحُلولِ ، و ذلك يوجِبُ [كَونَ الشيءِ ] عِلّةً لنفسِه!

ص: 389


1- . كذا في الأصل، و الظاهر زيادة: «لا».
2- . أي صفة التحيّز، و قد تقدّم إبطالها في فصل إبطال الشبه بالأجسام و الجواهر، ص 361.
3- . كذا في الأصل، و الظاهر زيادة: «لا».
4- . يعني المعنىٰ الموجِب للحلول.
5- . في الأصل: + «ذلك»، و هو زائد.
6- . في الأصل: «يوجبها»، و الضمير راجع إلى «العلة الموجبة».
7- . يمكن قراءة هذه الكلمة بصورة: «لمّا» و «لا»، و الأنسب بالسياق ما أثبتناه.
8- . في الأصل: «و كيف».

فإن قيلَ : و بأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يَكونَ حالاًّ على سَبيلِ الوجوبِ (1)، إذا وُجِدَت المَحالُّ؟

قلنا: يَفسُدُ ذلكَ مِن حَيثُ إنّه لا يَخلُو مِن أن يكونَ المُقتَضي لوجوبِ حُلولِه وجودَ المَحلِّ ، أو صفةً هو عليها في نفسِه(2).

و لا يَجوزُ أن يَكونَ المَحَلُّ يَقتَضي ذلكَ ؛ لأنّ مِن شأنِ المَحَلِّ أن يُصحِّح(3)حُلولَ ما يَحِلُّ فيه و لا يوجِبُه(4)؛ لأنّه إنّما يَصِحُّ حُلولُ (112) الأشياءِ فيه لِكَونِه مُتَحيِّزاً، و هذه الصفةُ تُصَحِّحُ الحُلولَ و لا تُوجِبُه.

فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ المُقتَضي لذلكَ صفةً تَرجِعُ إليه - و إن جازَ أن يُقالَ : إنّ وجودَ المَحَلِّ شرطٌ في حُلولِه، كما نَقولُه في كَونِه تَعالىٰ مُدرِكاً -، و الّذي يُفسِدُ ذلكَ أنّ

تلكَ الصفةَ المُقتَضيةَ لحلُولِه، لا بُدَّ مِن أن تَكونَ معقولةً (5)، و جميعُ صِفاتِه تعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَقتَضيَ ذلكَ .

أمّا كَونُه موجوداً قادراً عالِماً حَيّاً مُدرِكاً، فلَو اقتَضىٰ كَونَه حالاًّ لَاقتَضىٰ فينا مِثلَه و أَوجَبَه؛ لأنّا نُشارِكُ في هذه الصفاتِ أجمَعَ ، و مِثلُ المُقتَضي لا بُدّ مِن اقتضائِه حَيثُ حَصَلَ ؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَه تَعالىٰ حَيّاً، لمّا أوجَبَ (6) فيه كَونَه مُدرِكاً، بشَرطِ(7) وجودِ المُدرَكاتِ ، أوجَبَ ذلكَ فينا؟

ص: 390


1- . هذا هو الوجه الثاني، و قد تقدّم الكلام عن الوجه الأوّل في كلام المصنّف آنفاً.
2- . في الأصل: «في نفسي».
3- . في الأصل: «يصحّ ».
4- . في الأصل: «لا يوجه».
5- . في الأصل: «أن يكون معقولاً».
6- . في الأصل: «أوجبت»، و الضمير راجع إلى قوله: «كونه».
7- . في الأصل: «يشترط».

و لَيسَ لأحدٍ أن يقولَ : إنّ هذه الصفاتِ تَقتَضي فيه تَعالَى الحُلولَ ؛ لصحَّتِه عليه، و لا تَقتَضيه فينا؛ لاستحالتِه علينا؛ مِن حَيثُ كُنّا أجساماً.

و ذلكَ : أنّ ما أحالَ الحُكمَ في بعضِ الذواتِ ، يُحيلُ اختصاصَها بما يُصَحِّحُه أو يوجِبُه. و لهذا كانَ العدمُ لمّا أحالَ كَونَ الجَوهرِ مُحتَمِلاً للأعراضِ ، أحالَ كَونَه مُتَحيِّزاً. و عدمُ القُدرةِ لمّا أحالَ صحّةَ الفِعلِ بها، أحالَ تَعلُّقَها. فلَو كانَ المُصحِّحُ أو الموجِبُ لكَونِه تَعالىٰ حالّاً بعضَ (1) هذه الصفاتِ ، لَوجبَ أن يَستحيلَ ذلكَ علىٰ ما يَستَحيلُ حُلولُه. و في حُصولِها لنا مع استحالةِ الحُلولِ علينا دَلالةٌ علىٰ بُطلانِ تأثيرِها في الحُلولِ .

و لَيسَ له أن يَقولَ : إنّ كَونَه قَديماً(2)، أو وجوبَ كَونِه مُستَحِقّاً لهذه الصفاتِ ، [هو المُقتَضي لحُلولِه]، و نَحنُ لا نُشارِكُه في كَونِه قَديماً، و لا في وجوبِ استحقاقِ الصفاتِ .

و ذلكَ : أنّ كَونَه قَديماً إنّما يَرجِعُ به إلىٰ وجودِه، و إن كانَ يَجِبُ فيه الاستغناءُ عن موجِدٍ، و وجوبُ الوجودِ له في كُلِّ حالٍ . فما يَرجِعُ مِن هذه الصفةِ إلى الإثباتِ نَحنُ نشارِكُ فيه، و ما يَرجِعُ إلَى النفيِ ، مِن الاستغناءِ عن موجِدٍ و ما يَجري مَجراه، لا اعتبارَ به و لا تأثيرَ لمِثلِه.

و لأنّ مِن شأنِ كُلِّ صفةٍ اقتَضَت حُكماً أن تَقتضيَه(3) في كُلِّ موصوفٍ ؛ كانَت

ص: 391


1- . خبر «كان».
2- . في الأصل: + «هو المقتضي لحلوله»، و هذه العبارة ليست في محلّها، بل محلّها بعد قوله: «لهذه الصفات»، و نحن أثبتناها هناك بين المعقوفين، و به يستقيم المعنى.
3- . في الأصل: «أن يقتضيه»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «كلّ صفة»، و قوله: «اقتضت» قرينة عليه.

واجبةً فيه أو جائزةً ؛ ألا تَرىٰ أنّ كَونَ القادرِ قادراً لمّا اقتَضىٰ صحّةَ الفِعلِ مع ارتفاعِ الموانعِ ، اقتَضاه في كُلّ قادرٍ؛ وجبَ له ذلك(1) أو جازَ عليه ؟ و كذلكَ كَونُ الحَيِّ حَيّاً لا آفةَ به، لمّا اقتَضىٰ كَونَه مُدرِكاً بشرطِ وجودِ المُدرَكِ ، اقتَضاه في كُلِّ حَيٍّ ؛ وجبَ كَونُه كذلكَ أو لَم يَجِبْ .

و هذا هو الجوابُ عن قولِهم(2): «إنّما وجبَ كَونُه حالّاً عندَ وجودِ المَحَلِّ ؛ لوجوبِ كَونِه عالِماً قادراً حَيّاً».

فساد اقتضاء الصفة الذاتيّة لحلوله تعالى

فإن قيلَ : فبأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يَكونَ ما هو عليه في ذاتِه مِن الصفةِ التي يُخالِفُ (3)بها جميعَ الذواتِ ، هو المقتَضيَ لحُلولِه و المُصَحِّحَ ذلكَ عليه ؟

قُلنا: يَفسُدُ ذلكَ مِن جهةِ أنّ ما عليه الذاتُ متَى اقتَضىٰ حُكماً، وجبَ أن يَقتضِيَه مَتىٰ وُجِدَ. و لا يَجوزُ مع الوجودِ أن لا يَقتضِيَه؛ كالجَوهرِ لمّا اقتَضىٰ ما هو عليه في ذاتِه تَحيُّزَه، اقتَضاه مع الوجودِ، و لَم يَقِفْ علىٰ أمرٍ زائدٍ علَى الوجودِ. فلَو كانَ ما هو تَعالىٰ عليه في نفسِه يَقتَضي الحُلولَ ، لَاستَحالَ وجودُه و هو(4) غَيرُ حالٍّ ، و قد بيّنّا أنّ ذلكَ يَقتَضي قِدَمَ الجَوهرِ(5).

و أيضاً: فإنّ ما يَجِبُ للموصوفِ مِنَ الأحكامِ لِما هو عليه في ذاتِه، يَجِبُ أن

ص: 392


1- . في الأصل: «لذلك» بدل «له ذلك».
2- . أي كلامهم المذكور في الإشكال الأخير عند قوله: «أو وجوب كونه مستحقّاً لهذه الصفات».
3- . في الأصل: «تخالف».
4- . في الأصل: «فهو»، و الصحيح ما أثبتناه، و الواو للحال، و لا معنى للتفريع على ما سبق، و يعلم ذلك بالتأمّل في العبارة.
5- . تقدّم في ص 388.

يَبِينَ به مِن غَيرِه، و لا يُشارِكَه فيه ما خالَفَه، أو لا يُشارِكَه في كيفيّةِ استحقاقِه، و لهذا لا يَصِحُّ أن يُشارِكَ الجَوهرَ في التحيُّزِ ما خالَفَه، و لا يُشارِكَ القَديمَ تَعالىٰ في كيفيّةِ كَونِه عالِماً و قادراً (113) ما خالَفَه. و قد عَلِمنا أنّه لَو صَحَّ الحُلولُ عليه لَكانَت حالُه كحالِ جميعِ ما يَحُلُّ المَحالَّ ، في أنّه مَتىٰ صَحَّ أن يَحُلَّ و وُجِدَ المَحَلُّ وجبَ حُلولُه. فلَو رَجَعَ صحّةُ حُلولِه إلىٰ ما هو عليه في ذاتِه، لَاستَحالَ أن يُشارِكَه في هذا الحُكمِ علَى الوَجهِ الذي استَحقَّه ما يُخالِفُه مِنَ الأعراضِ .

في بيان أنّ حلوله تعالىٰ لو صحَّ ، لكان لصفةٍ ترجع إلىٰ نفسه، لا كالأعراض

فإن قيلَ : ألا جازَ أن يَجِبَ كَونُه حالّاً في المَحَلِّ عندَ وجودِ المَحَلِّ لا لعِلّةٍ و لا لِبعضِ ما هو عليه مِن الصفاتِ ، كما أنّ العَرَضَ يَحُلُّ المَحَلَّ لا لعِلّةٍ و لا لشيءٍ هو عليه مِن صفاتِه ؟

قُلنا: إنّما يَصِحُّ ذلكَ في الأعراضِ ؛ لأنّ حُلولَها(1) في المَحَلِّ تابعٌ لحُدوثِها و كيفيَّةٌ لوجودِها، فجَرىٰ مَجرَى الأحكامِ التابعةِ للحُدوثِ - مِن حُسنٍ و قُبحٍ - في الاستغناءِ عن العللِ ، و [في] أنّها(2) ممّا لا يَرجِعُ إلَى الذاتِ . و لَيسَ كذلكَ حالُه تَعالىٰ لَو صَحَّ عليه الحُلولُ ؛ لأنّه كانَ يَحُلُّ المَحَلَّ بَعدَ أن لَم يَكُن حالّاً مع وجودِه في الحالَينِ . و كُلُّ صفةٍ وجبَت للموجودِ بَعدَ أن لَم تَكُن واجبةً ، و لَم نَقِفْ (3) علىٰ عِلّةٍ توجِبُها، فلا بُدَّ مِن أن يَقتَضيَها(4) ما(5) الذاتُ عليه، و إن تَعلَّقَ ذلكَ بشرطٍ، كما

ص: 393


1- . في الأصل: «حلوله»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الأعراض». و هكذا الكلام في لفظة «لحدوثها» و «لوجودها».
2- . في الأصل: «أنّهما»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «الأحكام التابعة».
3- . في الأصل: «يقف».
4- . في الأصل: «يقتضيه»، و الضمير راجع إلى «كلّ صفة».
5- . في الأصل: «أما»، و هو خطأ كما لا يخفى.

يَقولونَه في كَونِه مُدرِكاً. و هذا واضحٌ لِمَن تأمَّلَه.

***

6 فَصلٌ فيما يَتعلَّقُ بالعبارةِ في هذا البابِ
اشارة

[6] فَصلٌ فيما يَتعلَّقُ بالعبارةِ (1) في هذا البابِ (2)

اعلَمْ أنّ كُلَّ لَفظةٍ (3) أفادَت معنىً مِن المَعاني، و عُلِمَ استحالةُ ذلك المعنىٰ في

ذاتٍ مِن الذواتِ ، لَم يَجُز إجراؤها عليه إلّاعلىٰ وجه اللَّقَبِ (4) دون الإفادةِ . و قد ثَبَتَ أنّ المعنَى المُستَفادَ مِن وَصفِنا الجسمَ بأنّه جسمٌ لا يَصِحُّ علَى اللّٰهِ تَعالىٰ (5)، و تَلقيبُه أيضاً به لا يَحسُنُ ، فيَجِبُ أن لا يوصَفَ بأنّه جسمٌ علىٰ وجهٍ مِنَ الوجوهِ .

البحث الأوّل: استحالة معنى الجسم عليه تعالى
اشارة

و الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ معنَى الجسمِ لا يَجوزُ عليه(6) أنّهم وَضَعوا هذه اللَّفظةَ لِما جَمَعَ الطُّولَ و العَرْضَ و العُمقَ .

يُبيِّنُ (7) ذلكَ أنّهم يَصِفونَ ما زادَ ذَهابُه في جهةِ الطُّولِ و العَرْضِ [و العُمقِ ] بأنّه:

«أجسَمُ مِن غَيرِه». و لا يَصِفونَه بأنّه «أجسَمُ » متىٰ زادَ لونُه أو بعضُ صفاتِه. و هذه

ص: 394


1- . تقدّم المبحث الأوّل الذي كان يدور حول نفي الجسمية من حيث المعنىٰ في ص 361.
2- . أي باب نفي الجسميّة.
3- . في الأصل: «لفظ»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «أفادت».
4- . اللقب: ما لا يفيد وصفاً للمسمّىٰ ، و هو بدل من الإشارة. الحدود، ص 51.
5- . تقدَّم في المبحث الأوّل في ص 361.
6- . في الأصل: «عليهم»، و الضمير راجع إليه تعالى.
7- . في الأصل: «يتبيّن»، هكذا تقرأ الكلمة، و الصحيح ما أثبتناه.

اللَّفظةُ - يَعني لَفظَ «أفعَلُ » - تُنبِئُ (1) في موضوعِهم عن الزائدِ، و لا تَدخُلُ عندَهم إلّا بَينَ شَيئَينِ اشتَرَكا في صفةٍ فيها(2) التَّزايُدُ و المُبالَغةُ ، و استَعمَلوها في كُلِّ صفةٍ أمكَنَ فيها التَّزايُدُ، علَى الوَجهِ الذي ذَكَرنا. فدَلَّ قولُهم: «أجسَمُ » فيما زادَ طُولُه و عَرْضُه و عُمقُه، علىٰ أنّ قولَهم «جسمٌ » يُفيدُ الطُّولَ و العَرْضَ [و العُمقَ ].

و لا يَقدَحُ فيما ذَكَرناه قولُه تَعالىٰ : «أَ ذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ»(3) ، و أنّه أَدخَلَ لَفظةَ «أفعَلُ » فيما لَم يَشتَركا في الصفةِ ؛ و ذلكَ أنّ الكلامَ قَد يَخرُجُ كثيراً في لِسانِ العَرَبِ علىٰ حَسَبِ اعتيادِ المُخاطَبِ ، و إذا كانَ العامِلُ أعمالَ أهلِ النارِ و المؤْثِرُ لها علىٰ ما تَعقُبُه الجَنّةُ ، كأنّه قد اعتَقَدَ أنّ الذي عَمِلَ له خَيرٌ ممّا لَم يَعمَلْ له، جازَ أن يُقالَ [له]: الذي اعتَقَدتَه و عَمِلتَ له خَيرٌ، أم(4) كَذا و كَذا؟

و قد قيلَ في ذلك: إنّ لَفظةَ «أفعَلُ » تَقتَضي(5) ما ذَكَرناه إذا كانَت خَيراً، فأمّا إذا خَرَجَت مَخرَجَ التَّقريعِ و التَّهديدِ، جازَ أن يُرادَ بها خِلافُ ذلكَ علىٰ جهةِ المَجازِ.

في بيان ورود لفظة «أجسَم» في كلام العرب

فإن قيلَ : و مِن أينَ لَفظةُ «أجسَمُ » مِن كلامِ العَرَبِ الذين يُحتَجُّ بِلُغَتِهم ؟

قُلنا: لا شُبهةَ في ذلكَ علىٰ مَن تأمَّلَ خِطابَهم، و قد قالَ عامِرُ بنُ الطُّفَيلِ (6):

ص: 395


1- . في الأصل: «ينبئ»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضمير إلى «اللفظة». و هكذا الكلام في قوله: «و لا تدخل».
2- . في الأصل: «فيهما».
3- . الفرقان (25):15.
4- . في الأصل: «خيراً أنّ ».
5- . في الأصل: «يقتضي».
6- . أبو عليّ عامر بن الطُفيل بن مالك بن جعفر من بني عامر بن صعصعة، من شخصيّات العرب في

و قد عَلِمَ الحَيُّ مِن عامِرٍ *** بأنَّ لَنا ذِروَةَ الأَجسَمِ (1)

و الشاعرُ و إن لَم يَقصِدْ بقولِه هذا إلىٰ ما ذَكَرناه مِن معنَى الزائدِ في الطولِ و العَرْضِ و العُمقِ ، فقولُه شاهدٌ لنا علىٰ أنّ هذه اللَّفظةَ مُستَعمَلةٌ عندَهم، معروفةٌ في

خِطابِهم. و لَيسَ يُمكِنُ بَعدَ استعمالِها أن تَكونَ حقيقتُها (114) إلّاما ذَكَرناه؛ لأنّ ما عَداه لا شُبهةَ في أنّها لَم توضَعْ له، و إنّما استَعمَلَها الشاعِرُ تَشبيهاً بالحقيقةِ ؛ لأنّه جَعَلَ الزائدَ في الفَخرِ و المَجدِ كالزائدِ(2) في الطُّولِ و العَرْضِ و العُمقِ ، كما جَعَلَ الذِّروَةَ التي تُستَعمَلُ في أعلَى الجَبَلِ و ما أشبَهَه، مُستَعمَلةً في غَيرِه.

علىٰ أنّه لا شُبهةَ (3) في قولِهم(4): «جَسُمَ فهو جَسيمٌ (5)»(6)، و لا يُمكِنُ رَفعُ ذلكَ مِن استعمالِهم. و كُلُّ ما جاءَ مِنه «فَعيلٌ » صَحَّ مِنه «أفعَلُ »، علىٰ مُقتَضى لُغَتِهم، [و هذا] قياسٌ مُطَّرِدٌ، و لهذا يَقولونَ : «ظَريفٌ و أَظرَفُ »، و «كَرُمَ الرَّجُلُ فهو كَريمٌ و أكرَمُ ».

و يُمكِنُ أيضاً أن يُقالَ : لَفظةُ «فَعيل» تَقتَضي المُبالَغةَ عندَهم بغَيرِ شَكٍّ ، و قد وَجَدناهم يَقولونَ : «جَسيمٌ »(7) لِما زادَ ذَهابُه في الجهاتِ . فيَجِبُ أن يَكونَ قولُنا:

ص: 396


1- . ديوان عامر بن الطفيل، ص 121.
2- . قد تُقرأ هذهِ الكلمة في الأصل كما أثبتناه، كما قد تُقرأ: «كالتزايد»، و الأنسب بالسياق ما أثبتناه.
3- . في الأصل: «في شبهة» بدل «لا شبهة»، و هو خطأ.
4- . في الأصل: «في شبهة في قوله».
5- . في الأصل: «و هو جسم».
6- . راجع: الصحاح، ج 5، ص 1887؛ المحكم و المحيط الأعظم، ج 7، ص 282 (جسم).
7- . في الأصل: «جسم»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّ المعنى الذي ذُكر هو معنى الجسيم لا الجسم.

«جَسيمٌ »(1) موضوعاً لِما عند الزيادةِ فيه يُقالُ : «أجسَمُ (2)»؛ لأنّ حُكمَ الجَسيمِ في بابِ المُبالَغةِ حُكمُ أجسَمَ .

في بيان بطلان بعض التعريفات المذكورة للجسم

و هذه الجُملةُ التي ذَكَرناها، تُبطِلُ قولَ مَن ذَهَبَ في الجسمِ إلىٰ أنّه هو «القائمُ بنفسِه»؛ لأنّ هذه الصفةَ لا يَصِحُّ فيها التَّزايُدُ و التَّفاضُلُ ، و قد بيّنّا أنّ وَصفَ الجسمِ بأنّه جسمٌ يَدخُلُه التَّزايُدُ.

و تُبطِلُ (3) أيضاً قولَ مَن ذَهَبَ إلىٰ [أنّ ] وَصفَ الجسمِ بأنّه جسمٌ ، يُفيدُ: أنّه «مؤَلَّفٌ »، أو أنّه «موضوعٌ للجَوهرِ»؛ علىٰ ما يُحكىٰ عن الصّالِحيِّ (4)؛ لأنّ كُلَّ ذلكَ لا يَصِحُّ فيه معنَى التَّزايُدِ. و إن كانَ لَو ثَبَتَ أنّه يُفيدُ المؤَلَّفَ أو الجَوهرَ، لَكانَ يَجِبُ مِن نَفيِه عنِ اللّٰهِ تَعالىٰ - مِن حَيثُ لَم يَكُن بهذه الصفةِ - مِثلُ ما يَجِبُ مِن نَفيِه إذا كان مُفيداً [لقيامِه بنفسِه]؛ لِما ذَكَرناه مِن أنّ مَن وَصَفَه تَعالىٰ بأنّه جسمٌ مِن حَيثُ كانَ قائماً بنفسِه، يَلزَمُه أن يَصِفَه بأنّه جَوهرٌ؛ لأنّه قائمٌ بنفسِه، و إنّما توصَفُ (5)جُملةُ الجسمِ بذلكَ ؛ لاختصاصِ كُلِّ جَوهرٍ مِنه بهذه الصفةِ .

و لَيسَ يَخلو أيضاً قولُه: «قائمٌ بنفسِه»، مِن أن يُريدَ به استغناءَه عن مَحَلٍّ و مكانٍ ، أو يُريدَ أنّه ممّا يَبقىٰ و يَدومُ وجودُه، و لا يُحَدِّدُه الفاعلُ في كُلِّ حالٍ .

ص: 397


1- . في الأصل: «جسم».
2- . في الأصل: «جسم»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما بعده.
3- . في الأصل: «يبطل»، و رجوع الضمير إلى «هذه الجملة».
4- . لعلّ المراد منه صالح بن عمر الصالحي، رأس الفرقة الصالحيّة، و له آراء خاصّة في الصفات و الأسماء، عدّها الشهرستاني مِن فِرق المرجئة، و ذكر بعض آرائه و جعله في عِداد محمّد بن شبيب و أبي شمر و غيلان ممّن جمعوا بين القَدَر و الإرجاء. الملل و النحل، ص 62.
5- . في الأصل: «يوصف».

فإن أرادَ الأوّلَ ، لَزِمَه أن يُسَمّيَ إرادةَ القَديمِ تَعالىٰ و كَراهتَه، و فَناءَ الجَواهرِ

بذلكَ ، و يُسَمّيَ المعدومَ أيضاً به.

و إن أرادَ الثانيَ ، لَزِمَه أن يَصِفَ جميعَ الأعراضِ الباقياتِ بأنّها «أجسامٌ ».

البحث الثاني: بطلان إطلاق لفظة «جسم» عليه تعالىٰ ، علىٰ نحو اللقب
اشارة

فإن قيلَ : و بأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يُسَمّىٰ بأنّه «جسمٌ » علىٰ جهةِ التَّلقيبِ؟

قُلنا: مِن حَيثُ (1) كانَ الوَجهُ في إجراءِ (2) الألقابِ هو ليُمكِنَ الإخبارُ عن الذواتِ في حال الغَيبةِ كما يُمكِنُ الإشارةُ إليها في حالِ الحُضورِ، فأُقِيمَ اللقَبُ مقامَ الإشارةِ ، فيَجِبُ أن لا يَحسُنَ استعمالُه إلّافيمَن يَصِحُّ عليه الغَيبةُ و الحُضورُ، و ذلك لا يَصِحُّ عليه تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ كانَ في كُلِّ حالٍ بمَنزلةِ الحاضرِ الذي لا تَتعذَّرُ(3) الإشارةُ إليه؛ لأنّ ذِكرَه و الإخبارَ عنه بصِفاتِه التي يَنفَرِدُ بها؛ نَحوَ كَونِه قَديماً عالِماً قادراً لنفسِه، يُمكِنُ في كُلِّ حالٍ و لا يَتعذَّرُ، فجَرىٰ مَجرَى الشاهدِ لَو كانَ ممّا يُمكِنُ الإشارةُ إليه في كُلِّ حالٍ ، و يَتعذَّرُ خُروجُه عن كَونِه مُشاهَداً، فكما أنّا لَو فَرَضنا ذلكَ ، لَقَبُحَ تلقيبُه و لَكانَ عَيباً، فكذلكَ تَلقيبُ القَديمِ تَعالىٰ .

و لا يَلزَمُ علىٰ ما ذَكَرناه في(4) الغَرَضِ باللقَبِ [نفسُ الكلام عند الإتيان] بكُنيةِ الشخصِ بَعدَ تَلقيبِه؛ لأنّ ذلكَ لَم يُفعَلْ للتعريفِ بل للتعظيمِ (5)، و كانَ المقصَدُ بالكُنيةِ في الأصلِ عندَ القومِ التفاؤلَ .

ص: 398


1- . في الأصل: «إن حيث».
2- . في الأصل: «آخر». راجع: الذخيرة، ص 573.
3- . في الأصل: «لا يتعدّ»، و سياق الكلام يشهد بصحّة ما أثبتناه. و كذلك الكلام في قوله: «و لايتعذّر»، و هو في الأصل: «لا يتعدّد».
4- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «من» بدل «في».
5- . في الأصل: «التعريف بل التعظيم».

و لا يَلزَمُ عليه تَرادُفُ الألقابِ ؛ لأنّ الغَرَضَ في كَثرَةِ الألقابِ يَختَلِفُ ، و لَيسَ المَقصَدُ بالجميعِ إلَى التعريفِ ؛ بدَلالةِ استِقباحِهم تَلقيبَ الشخصِ بالألقابِ الكثيرةِ في الحالِ الواحدةِ ، إذا كانَ غَرَضُهم التعريفَ دونَ غَيرِه.

و لا يَلزَمُ عليه تَلقيبُ الحاضرِ، و إن كانَتِ الإشارةُ إليه (115) مُمكِنةً ؛ لأنّ حُضورَه لا يَمنَعُ مِن جَوازِ غَيبَتِه. و الحاجةِ مع الغَيبةِ إلَى الإخبارِ عنه.

[فإن قيلَ : أوَ لستُم تُخبِرونَ عن اللّٰهِ تَعالىٰ بصفاتِه التي يَنفَرِدُ بها؛ نَحوُ كَونِه قَديماً عالِماً قادراً لنفسِه، فلِمَ لا تُجيزونَ الإخبارَ عنه تَعالىٰ بلقَبٍ تُلقِّبونه به ؟ و ما الفَرقُ بَينَ الأمرَينِ؟

قُلنا:] (1) إنّ لأوصافِه التي يَنفَرِدُ بها مِن المَزيّةِ في هذا البابِ ما لَيسَ لِلَّقَبِ ؛ لأنّ الاشتراكَ في الصفاتِ التي يَختَصُّ بها لا يَصِحُّ . و لو جَرىٰ عليه اللقَبُ لَصَحَّت مُشارَكتُه فيه، و كانَ يَحتاجُ عندَ المُشارَكةِ إلىٰ ضَمِّ ما يَبِينُ به مِنَ الأوصافِ إلَى اللقَبِ ؛ لِيَنفَعَ الإبانةَ و التعريفَ . فوَضَحَ بما ذَكَرناه أنّ اللقَبَ فيه تَعالىٰ لا معنىٰ له، و أنّ الإخبارَ عنه بما يَبِينُ به مِن الصفاتِ أَولىٰ .

نفي أن يكون لفظ الجلالة لقباً

و لَيسَ تَسمِيَتُنا(2) له تعالى ب «اللّٰه» لَقَباً - علىٰ ما ظَنَّه قَومٌ -.

و ذلكَ أنّه قد قيلَ : إنّ أصلَ هذه اللَّفظةِ «لاهٌ »، ثُمّ أُدخلت(3) الألِفُ و اللامُ . و «إلهٌ »

ص: 399


1- . ما بين المعقوفين منّا، أضفناه لمقتضى السياق، و به يستقيم المعنى. و للمزيد راجع: المغني، ج 5 (الفرق غير الإسلاميّة)، ص 198-201.
2- . في الأصل: «لتسميتنا».
3- . في الأصل: «أُدخل»، و قوله رحمه اللّٰه: «فأُدخلت الألف و اللام للتعريف» قرينة عليه.

عندَهم و «لاهٌ » واحدٌ؛ قالَ الأعشىٰ (1):

كحَلفَةٍ مِن أبي رِياحٍ *** يَسمَعُها لاهُهُ الكُبارُ(2)

و قيلَ أيضاً: إنّ أصلَ ذلكَ «إلهٌ » فأُدخِلَتِ الألِفُ و اللامُ للتعريفِ ، فصارَ: «الإلهُ »، فحُذِفَتِ الهمزةُ التي بَينَ اللامَينِ ، و أُلقِيَت حركتُها علَى اللامِ الأُولىٰ ، و كانَت ساكنةً ، ثُمّ سُكِّنَت هذه اللامُ و أُدغِمَت في اللامِ الثانيةِ .(3)

نفيُ أن يكونَ لفظُ «شيء» لقباً

فأمّا تَسمِيَتُه تَعالىٰ ب: «شيءٍ »(4) فلَيسَ أيضاً بلَقَبٍ ؛ لأنّ هذه اللَّفظةَ و إن لَم تُفِدْ في المُسَمّىٰ بعضَ الصفاتِ التي يَتميَّزُ بها، فهي في الأصلِ ممّا وُضِعَ للفائدةِ ، و إنّما خَرَجَت عن بابِ التمييزِ مِن حَيثُ اشتراكِ جميعِ ما تُستَعمَلُ (5) فيه في فائدتِها؛ ألَا تَرىٰ أنّ جميعَ ما يُسمّىٰ [ب «شيءٍ »] يَصِحُّ أن يُعلَمَ و يُخبَرَ عنه ؟ فلَيسَ يَرجِعُ إلى غيره(6) [ما] لَم يُفِدْ. و اللقَبُ في نفسِه لا يُفيدُ؛ مِن حيثُ لَم يوضَعْ في الأصلِ للإفادةِ .

ص: 400


1- . أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، اشتهر بالأعشىٰ الكبير، و أعشى بكر بن وائل، من أشهر شعراء العرب في الجاهليّة و أكثرهم شعراً، و أحد أصحاب المعلّقات، كان يُغنّى بشعره فسمّاه العرب ب: «صنّاجة العرب». كان يفد على ملوك فارس، و لذلك كثرت الألفاظ الفارسيّة في شعره. أدرك الإسلام في آخر عمره لكنّه لم يعتنقه، و مات سنة 3 و قيل 7 ه في اليمامة. معجم الشعراء الجاهليّين، ص 24؛ الأعلام للزركلي، ج 7، ص 341.
2- . ديوان الأعشى، ص 164. و الحلفة: القَسَم. و أبو رياح: رجل من بني ضبيعة، قَتل جاراً لبني سعد، فسألوه ديته، فحَلف أن لا يفعل، ثم قُتل بعد حَلفته. و لاهُهُ : إلهُهُ . و الكُبار: العظيم.
3- . راجع: الكتاب لسيبويه، ج 2، ص 197، ج 3، ص 554؛ المقتضب للمبرّد، ج 4، ص 240 الهامش 2.
4- . في الأصل: «شيء» بدل «بشيء».
5- . في الأصل: «يستعمل»، و الضمير المستتر راجع إلى «هذه اللفظة».
6- . في الأصل: «غيرها».

و الذي يُبَيِّنُ أنّ لَفظةَ «شَيءٍ » في الأصلِ مُفِيدةٌ مُفارِقةُ اللقَبِ (1)، أنّ تَبديلَها - و اللُّغةُ علىٰ ما هي عليه - لا يَصِحُّ ، و إن صَحَّ في الألقابِ - مع ثَباتِ اللُّغةِ - التبديلُ .

و لَيسَ قولُنا: «إنّه تَعالىٰ شيءٌ لا كالأشياءِ » كقولِنا: «إنّه جسمٌ لا كالأجسامِ »؛ لأنّ قولَنا: «شيءٌ » لا يُفيدُ التَّجنيسَ و لا التَّماثُلَ فيما يَقَعُ عليه، و قولَنا:

«جسمٌ » يُفيدُ التَّماثُلَ و التَّجنيسَ فيما يوصَفُ به. فإذا قلنا: إنّه «شيءٌ لا كالأشياءِ » لَم يَنقُضْ آخِرُ الكلامِ ما أثبَتناه بأوّلِه، و إذا قُلنا: «جسمٌ لا كالأجسامِ » فقد نَقَضنا بآخِرِ الكلامِ ما أثبَتناه في صَدرِه، و جَرىٰ مَجرىٰ قولِنا: «إنّه جِسمٌ و لَيسَ بجسمٍ »، و القائلُ بذلكَ لا يَجِدُ فَرقاً بَينَه و بَينَ مَن قالَ : «إنّه مؤلَّفٌ لا كالمؤلَّفِينَ »، و «إنسانٌ لا كالنّاسِ ».

حقيقة بعض الصفات الخَبَريّة

فأمّا مَن أثبَتَ له تَعالىٰ عَيناً و وَجهاً و يَداً، و لَم يَرجِعْ بذلكَ إلىٰ ما تُفيدُه

هذه الألفاظُ مِن الجَوارحِ ، أو ما تُستَعمَلُ (2) لَفظةُ «اليَدِ» فيه مِنَ النِّعمةِ أو القُوّةِ ، و لَفظةُ «الوَجهِ » مِن الإخبارِ عن ذاتِ الشيءِ ، و لَفظةُ «العَينِ » مِن العِلمِ بالشيءِ ، و ادَّعىٰ في كُلِّ ذلكَ أنّه مِن صفاتِ ذاتِه، فإنّه لَيسَ يَخلو مِن أن يُشيرَ بقولِه: «إنّها صفاتُ ذاتِه» إلَى الصفاتِ التي بيّنّاها له تَعالىٰ بدليلِ الفِعلِ ، كنَحوِ كَونِه تَعالىٰ عالِماً قادراً قَديماً إلىٰ ما شاكَلَ ذلكَ ، أو يُشيرَ إلىٰ غَيرِ ذلكَ .

فإن أرادَ الثاني، فقَد أخطَأَ في المعنىٰ و العِبارةِ ، و سَمّىٰ ما لَيسَ بمعقولٍ بِاسمٍ غَيرِ موضوعٍ لِمِثلِه لَو كانَ معقولاً. و قد تَقدَّمَ أنّ إثباتَه تَعالىٰ علىٰ صفةٍ لا يَدُلُّ

ص: 401


1- . كذا في الأصل، و الأنسب: «و مفارِقةٌ لِلّقب».
2- . في الأصل: «يُستعمل».

عليها(1) الفِعلُ بنفسِه أو بواسطةٍ لا يَصِحُّ (2). و لَيسَ في الفعلِ ما يَقتَضي إثباتَه علىٰ أكثَرَ مِن صفاتِه التي أثبَتناها. و تَسميةُ الشيءِ و تَلقيبُه فَرعٌ علىٰ إثباتِه.

و إنْ أرادَ الأوّلَ ، فهو مُخطئٌ مِن طريقِ العِبارةِ ؛ لأنّ «اليَدَ» و «الوَجهَ » لَم يُستَعمَلا في حقيقةِ اللُّغةِ و لا مَجازِها و لا في شيءٍ مِن عُرفِ أهلِها في صفاتِ الحَيِّ ، فلا فَرقَ بَينَ مَن يُطلِقُ ذلكَ فيه تَعالىٰ علىٰ (116) هذا الوَجهِ و بَينَ مَن أطلَقَ أنّه جسمٌ و أرادَ بعضَ ما هو عليه مِن الصفاتِ الثابتةِ بدليلٍ .

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّا إنّما رَجَعنا في ذلكَ إلىٰ قولِه تَعالىٰ : «بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ »(3). في الأصل: «جوّزنا».(4) ، و «مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »(5) و ما أشبَهَ ذلكَ .

لأنّ خِطابَه تَعالىٰ لا يَجوزُ - و هو نازلٌ بلُغةِ العَرَبِ - أن يُحمَلَ علىٰ ما [لا] يُستَعمَلُ في لُغتِهم حقيقةً و لا مَجازاً؛ لأنّ تَجويزَ مِثلِ ذلكَ يوجِبُ الشَّكَّ في جميعِ مُرادِه بخِطابِه.

و لَيسَ هذا ممّا جَوَّزناه،(5) مِن خِطابِه لهم بالأسماءِ الشرعيّةِ التي أرادَ اللّٰهُ تَعالىٰ بها خِلافَ ما تَقتَضيهِ (6) اللُّغةُ ، في شيءٍ ؛ لأنّ ذلكَ إنّما ساغَ بَعدَ أن دَلَّ علىٰ مُرادِه بها، و صارَ ما قَرَّرَه و دَلَّ عليه مِن مُرادِه كالمُواضَعةِ المُبتَدأةِ الناقِلةِ عن طريقةِ اللُّغةِ .

و كُلُّ هذا غَيرُ ثابتٍ فيما ادَّعَوه.

علىٰ أنّهم إذا عَوَّلوا في ذلكَ علَى الظاهرِ، و لَم يَعتَبِروا المَعانيَ ، فيَجِبُ أن يَقولوا:

ص: 402


1- . في الأصل: «عليه».
2- . تقدّم عند الرّد على أصحاب المائيّة في ص 239.
3- . المائدة
4- :64.
5- . ص (38):75.
6- . في الأصل: «يقتضيه».

إنّ له أعيُناً؛ لِقوله(1) تَعالىٰ : «تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا»(2) ، و أَيدِياً(3)؛ لقولِه: «مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا»(4) ،

و كانَ يَنبَغي أيضاً أن يُثبِتوه نوراً؛ لقولِه تَعالىٰ : «اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ »(5) ، و يَدَّعوا(6) أنّ ذلكَ مِن صفاتِ ذاتِه، كما قالوا في غَيرِه.

تأويل بعض الآيات المتشابهات الدالّة على الصفات الخبريّة

فأمّا تأويلُ هذه الآياتِ المُتَشابهاتِ ، فقد بَيَّنه عُلَماءُ أهلِ التأويلِ ، و ذَكَروا أنّ معنىٰ قولِه تَعالىٰ : «بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ »(7) أي: نِعَمُه مبسوطةٌ ، و رِزقُه دارٌّ نازِلٌ ، كما تَقولُ العَرَبُ : «يَدُ فُلانٍ مبسوطةٌ » إذا أرادوا وَصفَه بِالجُودِ(8) و كَثرةِ العَطاءِ . و مِثلُه قولُه تَعالىٰ : «وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ»(9) . و هذا القولُ رَدٌّ علَى اليهودِ الذينَ ادَّعَوا أنّه قد أمسَكَ عنهم رِزقَه و حَبَسَ خَيرَه(10)، و لَم يُدَّعُوا أنّ له جارِحةً مقبوضةً .

و قيلَ : إنّ الوَجهَ في تَثنيةِ «اليَدَينِ »، أنّه أرادَ نِعمةَ الدُّنيا و الدِّينِ ، أو النِّعمةَ الظاهرةَ و الباطنةَ .

ص: 403


1- . في الأصل: «بقوله».
2- . القمر (54):14.
3- . في الأصل: «أيدي».
4- . يس (36):71.
5- . النور (24):35.
6- . في الأصل: «يدّعون». و هو معطوف على قوله: «يثبتوه».
7- . المائدة (5):64.
8- . في الأصل: «بالجوهر».
9- . الإسراء (17):29.
10- . قد تقرأ هذهِ الكلمة في الأصل كما أثبتناه، كما قد تُقرأ «ضرّه».

فأمّا قولُه تَعالىٰ : «لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »(1) ، فمَعناه: لِما خَلَقتُ أنا، و أكَّدَ بذِكرِ اليَدِ. و هذا كقَولِه تَعالىٰ : «ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ يَدٰاكَ »(2).

و قَولُه تَعالىٰ : «وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ »(3) أي: بمِلكِه و قُدرَتِه، كما قالَ تَعالىٰ : «مِمّٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ »(4) ، و قولِهم(5): «فُلانٌ يَطَأُ جارِيَتَه بمِلكِ اليَمينِ ». و إنّما يُضيفونَ كُلَّ ذلك إلَى اليَمينِ : تَفخيماً للأمرِ، و تأكيداً للمِلكِ ؛ لأنّ اليَمينَ أشرَفُ مِن غَيرِها و أقوىٰ حَظّاً.

و يَقرُبُ مِن ذلكَ في المعنىٰ قولُه تَعالىٰ : «وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ »(6) ؛ لأنّ فائدتَه أنّه يُصرِّفُها و يُدَبِّرُها كيفَ شاءَ .

و قولُه تَعالىٰ : «يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ »(7) معناه أنّه أقوىٰ مِنهم و أقهَرُ.

و قولُه تَعالىٰ : «تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا»(8) أنّها تَجري و نَحنُ نَعلَمُها، كما تَقولُ العَرَبُ :

«هذا الشيءُ بعَيني» أي: لا يَخفىٰ عَلَيَّ .

و أمّا قولُه تَعالىٰ : «وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ »(9) فالمُرادُ: أنّه يَبقىٰ رَبُّكَ ، و قَد يُعَبَّرُ عن الذاتِ بالوجهِ ؛ كقَولِهم: «فَعَلتُ هذا لوَجهِكَ »، و «هذا وَجهُ الصَّوابِ ».

و قولُه تَعالىٰ : «فِي جَنْبِ اَللّٰهِ »(10) أي في طاعَتِه و رِضاه؛ كما يُقالُ : «أَحتَمِلُ كُلَّ شيءٍ في جَنبِ فُلانٍ » أي في مَحبَّتِه.

و هذه جُملةٌ كافيةٌ ، و شَرحُها يَطولُ .

***

ص: 404


1- . ص (38):75.
2- . الحجّ (22):10.
3- . الزمر (39):67.
4- . النور (24):33.
5- . أي: «و كقولِهم» عطفاً علىٰ «ما» الموصولة.
6- . الزمر (39):67.
7- . الفتح (48):10.
8- . القمر (54):14.
9- . الرحمن (55):27.
10- الزمر (39):56.
الفصلُ الثالث الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ
اشارة

[الفصلُ الثالث](1)الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ

تمهيد

اعلَمْ أنّه لا كلامَ لنا في هذه المسألةِ مع المُشَبِّهةِ ؛ لأنّهم إذا قالوا: «إنّه يُدرَكُ بالحَواسِّ »، فقَد قاسوا قولَهم و ذَهَبوا إلىٰ ما يَقتَضيهِ ، و نَحنُ لا نُنكِرُ رؤيةَ الأجسامِ و لا لَمسَها، و إنّما كلامُنا الآنَ مع مَن نَفَى التشبيهَ عنه تَعالىٰ ، و أثبَتَ الرؤيةَ أو غَيرَها مِن ضُروبِ الإدراكِ ؛ لأنّ ما يُبنىٰ مِن ذلكَ علَى التشبيهِ قد أبطَلناه بإبطالِ التشبيهِ .

***

1 فَصلٌ في أنّه (117) تَعالىٰ يَستَحيلُ رؤيَتُه
اشارة

المُعتَمَدُ في هذا البابِ علىٰ أنّ الرائيَ مَتىٰ (2) حَصَلَ علَى الصفةِ التي لِكَونِه عليها

ص: 405


1- . في الأصل: «بابُ الكلام في نفي الرؤية عنه»، و هذا في الحقيقة ليس باباً في عرض باب إثبات الصانع، و باب الصفات، و باب العدل، و إنّما هو فصل من فصول باب الصفات، و هو يتحدّث عن إحدى الصفات السلبيّة، فالأرجح أن يسمّىٰ فصلاً، كما أثبتناه.
2- . في الأصل: «متل».

يَرَى المَرئيّاتِ ، و حَصَلَ المَرئيُّ بالصفةِ التي لِكَونِه عليها يَراهُ الراؤُونَ ، و ارتَفَعَتِ الموانعُ المعقولةُ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه رائياً له؛ و لهذا نَقولُ : إنّ الرؤيةَ إذا صَحَّت وَجَبَت، و إذا لَم تَجِبْ فهي مُستَحيلةٌ .

و هذه الجُملةُ نَحتاجُ فيها إلىٰ بيانِ أشياءَ :
اشارة

[1.] مِنها: أنّ أحَدَنا علَى الصفةِ التي لِكَونِه عليها يَرَى المَرئيّاتِ ، و يَدخُلُ (1) في ذلك الكلامُ في نفيِ : كونِ الإدراكِ معنىً ، و الحاسّةِ السادسةِ ، و ما أشبَهَ ذلكَ مِن ضُروبِ الشُّبَهِ .

[2.] و مِنها: أنّ المَوانعَ التي تَمنَعُ مِن الرؤيةِ مُرتَفِعةٌ عنه تَعالىٰ .

[3.] و مِنها: أنّه لَو كانَ مَرئيّاً في نفسِه، لَوَجَبَ (2) أن يَكونَ علَى الصفةِ التي لَو رُئيَ ،(3) لَم يُرَ إلّاعليها.

[4.] و مِنها: أنّ ما كانَت [هذه] سَبيلُه، فرؤيَتُه واجبةٌ ، و أنّ الرؤيةَ مَتىٰ صَحَّت وجبَت.

[5.] و مِنها: أنّنا غَيرُ رائينَ لَه تَعالىٰ .

و نَحنُ نَدُلُّ علىٰ ذلكَ أجمَعَ بعَونِ اللّٰهِ :

أوّلاً: في أنّ الرائي إنّما يَرَى الوجود صفةً هو عليها
اشارة

أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ صحّةِ الفَصلِ الأوّلِ : فهو أنّ الواحِدَ منّا إنّما يَرَى المَرئيّاتِ أجمَعَ ، لِكَونِه حَيّاً، بشرطِ وجودِ المَرئيِّ ، و ارتفاعِ الآفاتِ عنه و المَوانِعِ (4)، و قد

ص: 406


1- . بياض في الأصل بعد كلمة: «و يدخل».
2- . في الأصل: «أوجب».
3- . في الأصل: «رأى».
4- . راجع: التعليق، ص 61.

دَلَّلنا(1) علىٰ ذلكَ في بابِ الصفاتِ في هذا الكتابِ و شَرَحناه.(2) و هذا يَقتَضي صحّةَ ما ذَكَرناه؛ مِن أنّ أحَدَنا مَتىٰ كانَ حَيّاً، لا آفَةَ به، فهو فيما يَرجِعُ عليه، علَى الصفة التي معها يُدرِكُ ، و إنِ اعتُبِرَ وجودُ المُدرَكِ و ارتفاعُ المَوانعِ .

أدلّة بطلان أن تكون الرؤية لمعنىٰ

فإن قيلَ : و أينَ أنتُم عمّا يَذهَبُ إليه خُصومُكم؛ مِن أنّ الرائيَ إنّما يَرىٰ برؤيةٍ توجَدُ في عَينِه، و أنّ ذلكَ [هو] المؤَثِّرُ في كَونِه رائياً دونَ ما ذَكَرتم ؟

قُلنا: الذي يَدُلُّ علىٰ فَسادِ كَونِ أحَدِنا رائياً لِمَعنىً ، أشياءُ :

منها: أنّه لَو كانَ كذلكَ ، لَوجبَ أن تَثبُتَ (3) فيه طريقةُ إثباتِ المعاني، و قد عَلِمنا خلافَ ذلك؛ لأنّ المُصَحِّحَ لهذه الصفةِ مَتىٰ ثَبَتَ و حَصَلَ الشَّرطُ، فلا بُدَّ مِن ثُبوتِ الصفةِ و الحالُ مُستَمِرّةٌ فيما ذَكَرناه غَيرُ مُختَلِفةٍ . و ما يَجري هذا المَجرىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مِن(4) المَعاني؛ لأنّ مِن شأنِ ما يجِبُ عنها أن يَحصُلَ تارةً و لا يَحصُلَ أُخرىٰ ، مع ثُبوتِ المُصَحِّحِ و الشَّرطِ.

و هذه الطريقةُ إنّما تَتوجَّهُ (5) علىٰ مَذهبِ أبي عَليٍّ (6) و مَن قالَ بقَولِه في أنّ البَصَرَ إذا كانَ صحيحاً و وُجِدَ المُدرَكُ ، فلا بُدَّ مِن وجودِ الرؤيةِ فيه(7)، و علَى البَغداديّينَ

ص: 407


1- . في الأصل: «دلّنا».
2- . تقدّم في ص 164.
3- . في الأصل: «يثبت».
4- . في الأصل: «عن».
5- . في الأصل: «يتوجّه».
6- . المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 51.
7- . فلو كانت الرؤية لمعنىٰ ، لَمَا تحقّقت مع عدم حصول المعنىٰ ، و إنْ كان البصر صحيحاً ووُجِد المدرَك.

الذين يَقولونَ : إنّ الرؤيةَ تَتولَّدُ عن الفَتحةِ (1) و ما أشبَهَها.

فأمّا مَن أثبَتَ الرؤيةَ ، و جَوَّزَ أن تَتَكامَلَ كُلُّ الشرائطِ التي ذَكَرناها، و مع ذلكَ لا تَحصُلُ (2)، فإنّ ذلكَ و إن لَم يَلزَمْه، فقَولُه يَفسُدُ بالوجوهِ المُتأخِّرةِ .

و مِنها: أنّه قد ثَبَتَ أنّ القَديمَ تَعالىٰ إنّما يَكونُ رائياً لِكَونِه حَيّاً بشرطِ وجودِ المُدرَكِ ، فيَجِبُ علىٰ هذا مَتىٰ حَصَلَ أحَدُنا حَيّاً، و وُجِدَ المُدرَكُ و ارتَفَعَتِ الموانِعُ و الآفاتُ ، أن يَكونَ رائياً(3)؛ لأنّ المُقتَضيَ لا يَجوزُ أن يَختَلِفَ اقتضاؤه [باختلافِ الموارد](4) و المَواضِعِ ، بَل لا بُدَّ مِن وجودِ المُقتَضىٰ مَتىٰ ثَبَتَ المُقتَضي

و تَكامَلَ الشَّرطُ؛ ألَاتَرىٰ أنّ الفِعلَ لمّا صَحَّ مِنه تَعالىٰ لِكَونِه قادراً، و المُحكَمَ لِكَونِه عالِماً، وجبَ مِثلُه في أحدِنا، و لم يُعتَبَرِ الاختلافُ فيما به كُنّا قادرينَ أو عالِمينَ ، و أنّه تعالىٰ كذلكَ بنَفسِه دونَنا(5)؟

و لا تَقدَحُ في ذلكَ حاجتُنا في الرؤيةِ إلَى الآلةِ دونَه تَعالىٰ ؛ و ذلكَ أنّ الآلةَ لَيسَت بموجِبةٍ لِكَونِ أحَدِنا رائياً، و إنّما هي شرطٌ في ذلكَ . و لَيسَ يَمتَنِعُ أن يُخَصَّ (6) الشَّرطُ بمَوضِعٍ دونَ آخَرَ بحَسَبِ قيامِ الدليلِ . و ما يَقتَضي أو يوجِبُ بخِلافِ ذلكَ ؛ (118) لأنّه حَيثُما حَصَلَ ، [وُجِدَ ما حَصَلَ ] مِن اقتضائه أو إيجابِه، و لا يَجوزُ اختلافُ الحالِ فيه.

ص: 408


1- . أي فتح أجفان العين.
2- . في الأصل: «لا يحصل»، و ضمير الفاعل راجع إلى «الرؤية».
3- . من دون حاجة إلىٰ إثبات معنىٰ .
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض.
5- . هذا بيان لأحد موارد الاختلاف بيننا و بينه تعالىٰ ، و هو أنّه تعالىٰ قادر و عالم بنفسه دوننا، و الهدف بيان أنّ هذا الاختلاف غير معتبر في محلّ بحثنا.
6- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «أن يختصّ ».

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فلَعلَّ المؤَثِّرَ في كَونِه تَعالىٰ رائياً، هو ما يَستَحِقُّه عن الصفةِ النفسيّةِ ؛ و ذلكَ لأنّ ما عليه الذاتُ لا يَصِحُّ أن يَقتَضيَ صفةً بشرطِ ثُبوتِ أمرٍ مُنفَصِلٍ عنها؛ ألا تَرىٰ أنّ تَحيُّزَ الجَوهرِ لمّا كانَ مُقتَضىً عمّا هو عليه في ذاتِه، لَم يَجُز أن يَكونَ مشروطاً بوجودِ أمرٍ مُنفَصِلٍ ، بل كانَ موقوفاً علىٰ وجودِ الجَوهرِ؟ و إنّما كانَ كذلكَ مِن حَيثُ كانَ مُقتَضىً عمّا الذاتُ (1) عليه؛ ألا تَرىٰ أنّ مُنافاةَ الشيءِ لغيرِه، لمّا(2) لَم يَكُن مُقتَضىً عمّا عليه الذاتُ ، بل كانَ مُقتَضىً عمّا تَقتَضيهِ (3) صفةُ الذاتِ ، لَم يَمتَنِعْ أن يَكونَ مشروطاً بأمرٍ مُنفَصِلٍ ، و هو(4) مُصادَفَتُه لوجودِ ما يُنافيهِ؟

و إذا صَحَّت هذه الجُملةُ [و] وَجَدنا كَونَه مُدرِكاً مشروطاً بأمرٍ مُنفَصِلٍ ، لَم يَجُزْ أن يَكونَ مُقتَضىً عمّا عليه الذاتُ .

فإن قيلَ : و بأيِّ شيءٍ يَفسُدُ أن يَكونَ مقتضىٰ [كونِهِ ] تَعالىٰ رائياً لوجودِ(5) معنىً؟

قُلنا: لأنّ ذلكَ المعنىٰ لا يَخلُو مِن أن يَكونَ موجوداً، أو معدوماً:

فإن كانَ موجوداً، لَم يَخلُ مِن أن يَكونَ قَديماً، أو مُحدَثاً.

و لا يَصِحُّ كَونُه معدوماً؛ لأنّ المعدومَ لا يَصِحُّ اختصاصُه بإيجابِ صفةٍ لِذاتٍ دونَ غَيرِها، و لأنّ العدمَ يُحيلُ إيجابَ المَعاني لأغيارِها.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ قَديماً؛ لِما دَلَّلنا به علىٰ فَسادِ وجودِ عِلمٍ قَديمٍ و قُدرةٍ (6).

ص: 409


1- . في الأصل: «للذات»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله فيما سبق: «عمّا هو عليه في ذاته»، وقوله فيما يأتي: «عمّا عليه الذات».
2- . في الأصل: «لغيرها» بدل «لغيره لمّا».
3- . في الأصل: «يقتضيه».
4- . في الأصل: «فهو».
5- . كذا في الأصل، و الأنسب: «وجودَ».
6- . تقدّم في ص 290.

و لا يَجوزُ أن يَكونَ مُحدَثاً؛ لأنّه لا يَخلو مِن: أن يَحُلَّه، أو يَحُلَّ غَيرَه، أو يُوجَدَ لا في مَحَلٍّ .

و لا يَجوزُ حُلولُه فيه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه تَعالىٰ لا يَجوزُ أن يَحُلَّه شيءٌ مِن الأعراضِ (1).

و لا يَجوزُ أن يَحُلَّ غَيرَه؛ لأنّ ذلكَ المَحَلَّ لا بُدَّ مِن وجودِ الحَياةِ فيه، و لا بُدَّ مِن

أن يَكونَ حُكمُ ذلكَ الإدراكِ راجعاً إلىٰ مَن نُرجِعُ حُكمَ الحَياةِ إليه؛ لأنّ العَرَضَينِ (2)إذا وُجِدا علىٰ وَجهٍ ، و كانا ممّا يوجِبانِ (3) الصفةَ ، فإنّ أحَدَهُما يوجِبُ الصفةَ لِما يُوجِبُها له المعنَى الآخَرُ، و لهذا نَقطَعُ علىٰ أنّ جميعَ ما فينا مِنَ القُدَرِ و العُلومِ توجِبُ الصفاتِ لنا دونَ غَيرِنا.

و لا يَجوزُ وجودُ ذلكَ المعنىٰ في غَيرِ مَحَلٍّ ؛ لأنّ الإدراكَ لَو كانَ معنىً لَوجبَ أن يَكونَ له تأثيرٌ في المحلِّ . و يَجري في ذلكَ مَجرىٰ ما قُلناه في الحَياةِ ؛ و ما دَلَّلنا به علَى استحالةِ وجودِها لا في مَحَلٍّ ، يَدُلُّ في الإدراكِ علىٰ مِثلِه.

و مِنها: أنّ أحَدَنا لَو كانَ رائياً لمعنىً (4)، لَما امتَنَعَ أن يَرَى المَحجوبَ و الغائبَ ؛ لأنّ الحِجابَ و الغَيبةَ لا يُخرِجانِ (5) العَينَ مِن احتمالِها لوجودِ الرؤيةِ فيها.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : فكيفَ لا يَلزَمُكُم مِثلُ ذلكَ ؛ بأن نَفَيتُم أن تَكونَ الرؤيةُ معنىٰ؟

ص: 410


1- . تقدّم في ص 374.
2- . و هما الإدراك و الحياة في محلّ كلامنا.
3- . في الأصل: «يوجب أن».
4- . في الأصل: «بمعنى».
5- . في الأصل: «لا نحوجان»، هكذا تقرأ الكلمة في الأصل، و لا محصّل لها في المقام.

و ذلكَ أنّ أحَدَنا لمّا كانَ [لا] يَرى المَرئيّاتِ إلّابحاسّةٍ صحيحةٍ علىٰ صفةٍ ، وجبَ اعتبارُ تكامُلِ ذلكَ ، و قد عَلِمنا أنّه لا يَرىٰ بحاسَّتِه إلّابأن يَنفَصِلَ منها شُعاعٌ علىٰ وجهٍ مخصوصٍ ؛(1) فما أثَّرَ في هذا الشُّعاعِ وجبَ أن يُخِلَّ بالرؤيةِ . و قد عَلِمنا أنّ الحِجابَ يَقطَعُه عن الاتّصالِ ، و كذلك البُعدُ يُفَرِّقُه و يُبَدِّدُه، و لهذا نَرَى القَريبَ دونَ البَعيدِ، و الظاهرَ دونَ المَحجوبِ . و ما قالَه الخَصمُ بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّه أَثبَتَ معنىً يوجِبُ كَونَه رائياً، فمتىٰ كانَ المَحَلُّ مُحتَمِلاً له، فلا بُدَّ مِن صحّةِ وجودِه؛ [سواءً ] كانَ المَرئِيُّ مَحجوباً أو ظاهراً، أو حاضراً أو غائباً.

و مِنها: أنّ الرؤيةَ لَو كانَت معنىً يَفعَلُه اللّٰهُ تَعالىٰ و هو مُختارٌ لأفعالِه، (119) غَيرُ مُلجَإٍ إليها، لَصَحَّ - مع كَونِ أحَدِنا حَيّاً، و صحّةِ حَواسِّه، و حُضورِ المَرئيِّ ، و ارتفاعِ المَوانِعِ - أن لا يَفعَلَه، أو يَفعَلَه لبعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ مع تَساويها في الأحكامِ ، و هذا يؤَدّي إلَى الشَّكِّ في المُشاهَداتِ ، و إلَى الجَهالاتِ التي سَنَشرَحُها فيما بَعدُ(2).

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَعتَرِضَ ما ذَكَرناه، بأن يَقولَ : إنّ مع الشُّروطِ التي ذَكَرتُم، لا بُدَّ مِن وجودِ الرؤيةِ ؛ إمّا(3) مِن حَيثُ احتَمَلَها المَحَلُّ و لا بُدَّ مِن وجوبِ ما احتَمَلَه(4)المَحَلُّ ، أو مِن حَيثُ أنّ الفَتحةَ (5) - أو بعضَ الأُمورِ التي شَرَطتُم - توَلِّدُ الرؤيةَ .

و ذلكَ أنّ غَرَضَنا يَتِمُّ مع التجاوُزِ عن إبطالِ هذه المَذاهِبِ ؛ لأنّا إنّما نُحاوِلُ

[إثباتَ ] أنّ أحَدَنا إذا كانَ حَيّاً صَحيحَ الحَواسِّ و ارتَفَعَتِ المَوانعُ [و]

ص: 411


1- . كان الاعتقاد السائد عند القدماء أنّ الرؤية تتحقّق بخروج شعاع مِن عين الرائي و وصوله إلى الجسم المرئيّ .
2- . يأتي في ج 1، ص 419.
3- . في الأصل: «و إمّا».
4- . في الأصل: «احتملها».
5- . تقدّم في ص 407-408 نقلُ هذا القول عن البغداديّين من المعتزلة.

وُجدَ(1) المَرئيُّ ، فلا بُدَّ مِن كَونِه رائياً له. فإذا سَلَّم لنا ذلكَ ، لَم يَضُرَّنا أن يُسنَدَ إلىٰ وجودِ رؤيةٍ يَجِبُ وجودُها. و الذي نَقصدُ إلىٰ رَفعِه الآنَ أنّ الرؤيةَ لا يَجوزُ(2) أن تَكونَ ممّا يَصِحُّ ثُبوتُها و انتفاؤها معاً، مع الشُّروطِ التي ذَكَرناها. و إذا صَحَّ ذلكَ ، فقَد تَمَّ ما أرَدنا(3).

و لَعلَّنا أن نَتكلَّمَ علىٰ أنّ الرؤيةَ : لا تَكونُ مُتولِّدةً ، و لا ممّا يَجِبُ وجودُه عندَ احتمالِ المَحَلِّ لَو كانَت معنىً ، فيما يأتي مِنَ الكتابِ ، إن عَرَضَ ما يَقتَضيهِ ؛ بمَشيئةِ اللّٰهِ و عَونِه.

في بطلان أن يُرىٰ تعالىٰ بحاسّة سادسة

فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أن يَكونَ أحَدُنا يَحتاجُ في رؤيةِ القَديمِ تَعالىٰ إلىٰ حاسّةٍ سادسةٍ ، فلَيسَ يَجِبُ إذا كانَ صحيحَ (4) الحاسّةِ - علىٰ ما ذَكَرتُم - أن يَكونَ (5) علَى الصفةِ التي معها يَصِحُّ أن يَرى جميعَ المَرئيّاتِ؟

قُلنا: فلَيسَ يَخلو مِن أن يَكونَ يَرىٰ بتلكَ الحاسّةِ الرؤيةَ المعقولةَ التي تَحصُلُ بهذه العُيونِ ، أو أن يَرىٰ بها علىٰ طريقةٍ أُخرىٰ لا تُعقَلُ .

و الوجهُ الأوّلُ يَقتَضي أن نَراه بهذه العُيونِ ؛ لأنّ اختلافَ صفاتِ حاسّةِ الرؤيةِ لا يَمنَعُ مِن الاشتراكِ في الرؤيةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ العُيونَ قد تَختَلِفُ في السَّعةِ و الضِّيقِ ، و الزُّرقةِ و الكُحلِ ، و ما أشبَهَ ذلكَ مِن الصفاتِ ، مع اتّفاقِها في أنّ ما يَصِحُّ أن يُرىٰ

ص: 412


1- . في الأصل: «وحد».
2- . في الأصل: «تجوز».
3- . كذا في الأصل، و الأولى: «أردناه».
4- . في الأصل: «صحيحاً».
5- . في الأصل: «تكون»، و الضمير المستتر راجع إلى «أحدنا».

ببعضِها، يُرىٰ بسائرِها(1)، و جَرَت حاسّةُ الرؤيةِ مَجرَى القُدَرِ في أنّها و إن اختَلَفَت، فجنسُ ما يُفعَلُ بالجميعِ لا يَختَلِفُ .

و أمّا الوَجهُ الثاني فهو خارجٌ عمّا نَحنُ بسَبيلِه؛ لأنّ كلامَنا إنّما هو في نفيِ الرؤيةِ المعقولةِ عنه تعالى.

على أنّ ما لا يُعقَلُ (2) لا يَصِحُّ إثباتُه و لا الكلامُ عليه؛ لأنّ ذلكَ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ . و لا فَرقَ بَينَ مَن أثبَتَ رؤيةً علىٰ خِلافِ ما يُعقَلُ ، و بَينَ مَن أثبَتَ ذلكَ في العِلمِ و غَيرِه مِن الأجناسِ .

و ممّا يُقالُ علىٰ هذا الوَجهِ : إنّه لَو كان في المقدورِ حاسّةٌ سادسةٌ يُدرَكُ بها ما لا يُدرَكُ بهذه الحَواسِّ ، لَوجبَ أن نَجِدَ النقصَ لفَقدِ هذه الحاسّةِ ، و نُحِسَّ بالحالِ الداخلِ علينا لارتفاعِها، كما يَجِدُ الضَّريرُ ذلكَ عندَ فَقدِ حاسّةِ العينِ ، و الأكمَهُ الذي لَم يَرَ قَطُّ، و لَم يَعرِفْ كيفيّةَ الإدراكِ بهذه الحاسّةِ .

[3.] علىٰ أنّ الذاهبَ إلَى الحاسّةِ السادسةِ يَلزَمُهُ ما لا [مَفَرَّ] له مِنه؛(3) مِن تَجويزِ إدراكِ جميعِ الذواتِ الموجوداتِ بتلكَ الحاسّةِ ، و إدراكِ المعدوماتِ أيضاً. و يَلزَمُ

أيضاً تَجويزُ أن يَرىٰ بتلكَ الحاسّةِ الأشياءَ علىٰ خِلافِ ما هي عليه.

ثانياً: في بيان ارتفاع الموانع التي تمنع من الرؤية عنه تعالىٰ

[فأمّا] الكَلامُ في الفَصلِ الثاني مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ :(4) (120) فهو أنّ المَوانِعَ

ص: 413


1- . في الأصل: «يسارها».
2- . في الأصل: «لا يفعل».
3- . قد تُقرأ هذه الكلمة في الأصل كما أثبتناه، و قد تُقرأ: «به».
4- . في الأصل: + «فأمّا الكلام في أنّ الموانع المعقولة المؤثّرة في الرؤية هي القرب المفرطنفسه»، و هو مكرّر.

المعقولةَ المؤَثِّرةَ في الرؤيةِ هي القُربُ المُفرِطُ، و البُعدُ المُفرِطُ، و الحِجابُ ، و الرِّقّةُ (1)، و اللَّطافةُ (2)، و كَونُ المَرئيِّ في غَيرِ جهةِ مُحاذاةِ الرائي، أو كَونُ مَحَلِّه ببعضِ هذه الأوصافِ . و قد عَلِمنا أنّ جميعَ هذه المَوانِعِ لا تَجوزُ عليه تَعالىٰ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُن جسماً، و لا جَوهراً، و لا ممّا يَحُلُّ الأجسامَ و الجَواهرَ.

فإن قيلَ : دُلّوا أوّلاً علىٰ كَونِ ما ذَكَرتُموه مِن الوجوهِ مَوانِعَ ، ثُمّ بَيِّنوا جهةَ تأثيرِها في المَنعِ ، ثُمّ دُلّوا علىٰ أنّه لا مانِعَ سِواها(3).

قُلنا: لا شيءَ أبلَغُ في كَونِها مَوانِعَ ، مِن وجودِنا(4) الرؤيةَ تَصِحُّ عندَ ارتفاعِ جميعِها، و لا تَصِحُّ عندَ ثُبوتِ كُلِّ واحدٍ مِنها(5) علىٰ طريقةٍ واحدةٍ . و بهذه الطريقةِ و علىٰ هذا الوَجهِ مِنَ الاعتبارِ يُعلَمُ (6) المَوانِعُ مِنَ الأفعالِ . لكنّ هذه المَوانِعَ علىٰ ضربَينِ :

أحَدُهما: يَمنَعُ بمُجرَّدِه(7) كالحِجابِ ، و يَجوزُ أن يَلحَقَ بذلكَ القُربُ المُفرِطُ.

و الضربُ الآخَرُ: يَمنَعُ بشرطِ كَونِ المرئيّ (8) علىٰ بعضِ الصفاتِ ؛ كالرِّقّةِ و اللَّطافةِ ، و البُعدِ أيضاً علىٰ بعضِ الوجوهِ ، و كَونِ المَرئيِّ في خِلافِ جهةِ مُحاذاةِ الرائي(9)؛ لأنّ اللَّطافةَ و الرِّقّةَ إنّما يَمنَعانِ مِن ضَعفِ شُعاعِه و قِلّتِه، وَ لَو قَوِيَ الشُّعاعُ لَم يَمنَعا. و كذلكَ البُعدُ علىٰ بعضِ الوجوهِ . فأمّا كَونُ المَرئيِّ في خِلافِ

ص: 414


1- . كما في الملائكة.
2- . كما في الجزء الواحد. المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 117.
3- . فهذه ثلاثة بحوث سوف يستعرضها المصنّف فيما يأتي.
4- . أي من وِجْداننا، و لعلّ الأولى: «من وجود أنّ ».
5- . في الأصل: «منهما»، و الضمير راجع إلى «موانع».
6- . كذا في الأصل، و الأولى: «تُعلم».
7- . في الأصل: «لمجرّده»، هكذا تقرأ الكلمة في الأصل، و الصحيح ما أثبتناه.
8- و 9. في الأصل: «المرائي».
9-

جهةِ (1) المُحاذاةِ ، فإنّما يَمنَعُ (2) مع فَقدِ الآلةِ التي تَجعَلُه(3) في حُكمِ المُقابِلِ ، كالمِرآةِ ، و إذا حَضَرَت فيه هذه الآلةُ لَم يَكُن ذلكَ منعاً.(4)

و تَجري المَوانِعُ مِن الرؤيةِ في هذه القِسمةِ مَجرَى المَوانِعِ مِنَ الأفعالِ ؛ لأنّها أيضاً تَنقَسِمُ إلىٰ ما يَمنَعُ الأفعالَ بنفسِه؛ كالعُلومِ الضَّروريّةِ و القَيدِ، و إلىٰ ما يَمنَعُ بشرطٍ؛ كالثِّقَلِ (5)؛ لأنّه يَمنَعُ بشرطِ قِلّةِ القُدَرِ، و لهذا قَد يُحَرِّكُ الجسمَ الثقيلَ مَن امتَنَعَ عليه تَحريكُه مَتىٰ (6) زِيدَ قُدَراً.

فأمّا الكلامُ في كيفيّةِ تأثيرِ هذه الأُمورِ التي ذَكَرناها في المَنع: فهو أنّ مِن شَرطِ صحّةِ البَصَرِ، و كَونِه آلةً في الرؤيةِ ، أن يَنفَصِلَ مِنه شُعاعٌ علىٰ سَمتٍ مخصوصٍ ، و له قَدرٌ و نِظامٌ مخصوصٌ ، فما أثَّرَ في ذلِكَ كانَ مَنعاً(7). و لهذا كانَ ما قَطَعَه أو التَبَسَ به أو

فَرَّقَه أو غَيَّرَ السَّمتَ الذي يَنفُذُ فيه، مؤثّراً فيه؛ فالقُربُ المُفرِطُ الذي يَصيرُ به القَريبُ مُماسّاً للعَينِ ، أو في حُكمِ المُماسِّ لها، يؤَثِّرُ؛ مِن حَيثُ يَمتَنِعُ معه خُروجُ الشُّعاعِ و نُفوذُه في سَمتِه. و الحِجابُ يَقطَعُه عن الاِتّصالِ . و البُعدُ يُفَرِّقُه عن نِظامِه و يُبَدِّدُه. و الرِّقّةُ و اللَّطافةُ يَقتَضيانِ التِباسَه. و كَونُ المَرئيِّ في غَيرِ جهةِ المُحاذاةِ مُخِلٌّ بسَمتِ الشُّعاعِ . فقَد بانَ جهةُ تأثيرِ هذه الأُمورِ.

ص: 415


1- . في الأصل: + «القبلة»، و هو زائد.
2- . في الأصل: «يمتنع».
3- . في الأصل: «يجعله».
4- . كذا في الأصل و الأولى: «مانعاً»؛ لأنّ البحث في الموانع.
5- . في الأصل: «كالنقل»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «و لهذا قد يحرّك الجسمَ الثقيل». والظاهر أنّ ما في الأصل تصحيف عمّا أثبتناه.
6- . في الأصل: «تحريك حتّى».
7- . أي مانِعاً.

فأمّا الدَّلالةُ علىٰ أنّه لا مانِعَ سِوىٰ ما عَدَّدناه: فهو أنّه لَيسَ يُعقَلُ سِوىٰ ما ذَكَرناه. و تَجويزُ مانِعٍ لا يُعقَلُ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ ، و إلىٰ أن يَجوزَ أن يَكونَ بحَضرَتِنا مِنَ الأشخاصِ ما له صفةُ ما نُشاهِدُه، و إن لَم نَرَه لِمانِعٍ غَيرِ معقولٍ . و هذا يَقتَضي الشَّكَّ في المُشاهَداتِ ، و ارتفاعَ الثِّقةِ بها، و التباسَ ما يَصِحُّ أن يُرىٰ بما لا يَصِحُّ ذلكَ عليه.

و يُمكنُ أن يُقالَ : إنّ المعدومَ مَرئيٌّ في نفسِه، و إن لَم نَرَه لمانعٍ غَيرِ معقولٍ .

و يؤَدّي أيضاً إلَى التباسِ ما يَجوزُ أن يَكونَ مقدوراً لنا بما يَستَحِيلُ ذلكَ فيه، فيُقالَ في كُلِّ أمرٍ تَعذَّرَ علينا - مِن الجَمعِ بَينَ الضِّدَّينِ ، و فِعلِ الأجسامِ ، و قَلبِ الأجناسِ ، إلىٰ غَيرِ ذلكَ -: إنّه إنّما امتَنَعَ لِمانِعٍ مجهولٍ . و كما يجب القَطعُ علىٰ أنّ كُلَّ ما تَعذَّرَ علينا فِعلُه مع ارتفاعِ المَوانِعِ المعقولةِ ، فهو غَيرُ مقدورٍ لنا و لا ممّا يَجوزُ أن نَكونَ قادرينَ عليه، فكذلك(1) ما لا نَراهُ مع السَّلامةِ و ارتفاعِ المَوانِعِ المعقولةِ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : (121) ما أَنكَرتُم أن يَكونَ المانِعُ مِن رؤيَتِه تَعالىٰ ضَعفَ شُعاعِ أبصارِنا، و مَتىٰ قَوِيَ رَأَيناه، و هذا مانِعٌ معقولٌ؟

و ذلكَ أنّ ضَعفَ الشُّعاعِ إنّما يَمنَعُ علىٰ وَجهٍ معقولٍ ؛ و هو أن يَكونَ المَرئيُّ رَقيقاً أو بَعيداً أو لَطيفاً، و لهذا يَجري تَقويةُ الشُّعاعِ في هذا البابِ مَجرىٰ : تَغيُّرِ المَرئيِّ في نفسِه، و خُروجِه من الرِّقّةِ إلَى الكَثافةِ ، و مِن البُعدِ إلَى القُربِ . فالوَجهُ الذي يَصِحُّ أن يَكونَ ضَعفُ الشُّعاعِ مانِعاً معه لا يَصِحُّ علَى القَديمِ تَعالىٰ ، فلا يَصِحُّ أن يَثبُتَ مانِعاً مِن رؤيَتِه. و لا فَرقَ بَينَ أن نُثبِتَه مانِعاً مِن رؤيَتِه علىٰ وَجهٍ غَيرِ

ص: 416


1- . في الأصل: «و ذلك».

معقولٍ ، و بَينَ أن نُثبِتَ مانعاً غَيرَ معقولٍ .

علىٰ أنّ قِلّةَ الشُّعاعِ لا يَخلو مِن أن تَكونَ مانِعةً مِن الرؤيةِ : بنفسِها، أو بشرطِ كَونِ المَرئيِّ علىٰ صفةٍ .

و قد عَلِمنا أنّها لا تَكونُ (1) مانِعةً بنفسِها؛ بدَلالةِ أنّ رؤيةَ الكَثيفِ و القَريبِ تَصِحُّ (2) معها، و لَو كانَت تَمنَعُ بنفسِها لَامتَنَعت معها رؤيةُ جميعِ المَرئيّاتِ .

فثَبَتَ أنّها مانِعةٌ بشرطِ كَونِ المَرئيِّ علىٰ صفةٍ ، فلا بُدَّ إن كانَ ضَعفُ الشُّعاعِ

مانِعاً مِن رؤيَتِه تَعالىٰ أن يَكونَ مشروطاً بصفةٍ هو تَعالىٰ عليها، و لا تَخلو(3) تلكَ الصفةُ مِن أن يَصِحَّ خُروجُه عنها، أو لا يَصِحَّ .

فإن صَحَّ خُروجُه عنها، فلَيسَ يُعلَمُ للّٰهِ تَعالىٰ صفةٌ يُمكِنُ أن يُقالَ : إنّها مانِعةٌ مع ضَعفِ الشُّعاعِ مِن رؤيَتِه، [و] يَصِحُّ خُروجُه عنها.

و إن كانَت(4) تلكَ الصفةُ لا يَصِحُّ خُروجُه عنها، فذلكَ يَقتَضي التِباسَ الجائزِ بالمُستَحيلِ ؛ لأنّ مِن حُكمِ المنع(5) أن يَصِحَّ زَوالُه؛ ليَنفَصِلَ حالُ ما يَمتَنِعُ للاستحالةِ ممّا(6) يَمتَنِعُ للمانِعِ .

علىٰ أنّه كيفَ يَصِحُّ أن يَكونَ المانعُ مِن رؤيَتِه صفةً هو عليها، [و] لا يَصِحُّ زَوالُها عنه ؟ و قد عَلِمنا أنّ ما هذه صفتُه، إمّا أن تَكونَ (7) مِن صفاتِ نفسِه، أو لِما هُو

ص: 417


1- . في الأصل: «أنّه لا يكون»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع الضميرين إلى «قلّة الشعاع»، و قوله: «مانعة بنفسها» قرينة واضحة عليه.
2- . في الأصل: «يصحّ ».
3- . في الأصل: «و لا يخلو».
4- . في الأصل: «كان».
5- . كذا في الأصل، و الأنسب: «المانع».
6- . في الأصل: «ما».
7- . في الأصل: «يكون».

عليه في نفسِه، و ما هو عليه مِن صفاتِه تَقتَضي صحّةَ إدراكِه إن كانَ ممّا يَجوزُ الإدراكُ عليه، و ما يُصَحِّحُ الرؤيةَ أو الإدراكَ كيفَ يَكونُ هو المانِعَ مِنه ؟!

فبَطَلَت هذه الشُّبهةُ .

ثالثاً: نفي أن يكون تعالىٰ مرئيّاً في نفسه

[فأمّا] الكَلامُ في الفَصلِ الثالثِ مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ : فهو أنّه لَو كانَ مَرئيّاً(1) في نفسِه، لَكانَ في كُلِّ حالٍ حاصلاً علَى الصفةِ التي يَصِحُ رؤيَتُه معها.

و الّذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ الصفاتِ التي تَتَجدَّدُ(2) له تَعالىٰ ، لا يَجوزُ أن تَكونَ مؤَثِّرةً في صحّةِ إدراكِه؛ لأنّ الذي يَتجدَّدُ له مِن الصفاتِ هو كَونُه مُدرِكاً و مُريداً أو كارِهاً، و معلومٌ أنّه لا تأثيرَ لشيءٍ مِن ذلكَ في كَونِه مُدرَكاً.

علىٰ أنّ الإدراكَ لا يَتعلَّقُ بالذاتِ إلّاعلىٰ أخَصِّ أوصافِها، و ما هذا سَبيلُه لا يَجوزُ أن يَتجدَّدَ للقَديمِ (3) تَعالىٰ .

فوَضَحَ أنّه لَو كانَ مَرئِيّاً في نفسِه، لَوجبَ أن يَكونَ الآنَ علَى الصفةِ التي لَو رُئيَ (4) لَم يُرَ إلّالِكَونِه عليها.

رابعاً: في بيان أنّ الرؤية متىٰ صحّت وجبت
اشارة

فأمّا الكلامُ على الفَصلِ الرابِعِ مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ : فهو(5) أنّه لَو جازَ مع حُضورِ المَرئيِّ و ارتفاعِ المَوانعِ عن رؤيَتِه، و كَونِ الرائي علَى الصفةِ التي معها يُدرِكُ

ص: 418


1- . في الأصل: «قريباً».
2- . في الأصل: «يتجدّد».
3- . في الأصل: «القديم».
4- . في الأصل: «رأى».
5- . في الأصل: «و هو».

المُدرَكاتِ ، أن تَكونَ الرؤيةُ غَيرَ واجبةٍ ، و كانَت مع الصحّةِ ممّا يَجوزُ أن يَحصُلَ و أن لا يَحصُلَ ، لَأدّى ذلكَ إلىٰ ما قد أكثَرَ أصحابُنا تَعدادَه مِن الجَهالاتِ ، و ارتفاعِ الثِّقةِ بالمُشاهَداتِ ، و كُنّا لا نَأمَنُ أن يَكونَ بحَضرَتِنا أنهارٌ جاريةٌ ، و قُصورٌ عاليةٌ ، و ألوانٌ رائعةٌ ، و نحنُ مع ذلكَ لا نُدرِكُها. و كُنّا لا نَثِقُ بكيفيّةِ ما نُدرِكُه؛ فيَجوزُ في الصغيرِ أن يَكونَ كبيراً، و القَصيرِ أن يَكونَ طويلاً، و الأمرَدِ (122) ذا لِحيةٍ ، و الشابِّ كَهْلاً، و الكَلامِ مِن الكَلامِ مُستَثنىً ، و الموجَبِ مَنفيّاً؛ بأن يَكونَ الإدراكُ تَناوَلَ بعضَ ذلكَ دونَ بعضٍ ! و هذا يُؤَدّي إلَى ارتفاعِ الثِّقةِ بالمُدرَكاتِ نَفياً

و إثباتاً، و مُخرِجٌ مِن كَمالِ العقلِ الذي لا بُدَّ مِن ثُبوتِ الثِّقةِ بالمُدرَكاتِ في النفيِ و الإثباتِ معه.

و بَعدُ، فإنّ القولَ بخِلافِ ما ذَكَرناه يؤَدّي إلَى التِباسِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً في نفسِه بما يَستَحِيلُ (1) الرؤيةُ عليه، و ذلكَ مؤَدٍّ إلَى التِباسِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مقدوراً له بما يَستَحِيلُ كَونُه بهذه الصفةِ .

و إنّما قُلنا ذلكَ ؛ لأنّ الطريقَ إلىٰ تمييزِ المقدورِ مِن غَيرِه هو بأن ننظُرَ، فما(2)تَعَذَّرَ علىٰ أحَدِنا - مع كَونِه قادراً، و حُصولِ الدَّواعي و ارتفاعِ المَوانِعِ - قَضَينا عليه(3) أنّه يَستَحيلُ كَونُه مقدوراً له و مفعولاً مِن جهتِه، و ما تَعذَّرَ علىٰ خِلافِ هذه الوجوهِ لَم يُقضَ بذلكَ فيه.

و هذا بعَينِه هو الطريقُ إلىٰ تمييزِ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً في نفسِه ممّا تَستَحيلُ الرؤيةُ عليه؛ لأنّا متىٰ لَم نَقضِ بأنّ ما لا نَراهُ - و نَحنُ علَى الصفةِ التي معها نَرَى

ص: 419


1- . كذا في الأصل، و الأولى: «تستحيل».
2- . في الأصل: «فيما»، لكنّه صُحِّح في الهامش كما أثبتناه.
3- . في الأصل: «على»، و الصحيح ما أثبتناه، و هو ما استظهره الناسخ في هامش الأصل.

المَرئيّاتِ ، و المَوانِعُ المعقولةُ مُرتَفِعةٌ - غَيرُ مَرئيٍّ في نفسِه، التَبَسَ ما يَصِحُّ (1) رؤيَتُه بما يَستَحيلُ رؤيَتُه، و لَم نأمَنْ أن يَكونَ جميعُ الموجوداتِ - بَلِ المعدوماتُ التي لا شُبهةَ فيها - مَرئيّةً في نُفوسِها، و إن كُنّا الآنَ لا نَراها.

في بيان أنّ العلم بانتفاء المدرَك مستند إلى العلم بأنّه إذا حضر وجب إدراكه

فإن قيلَ : كُلُّ الذي أَورَدتُموه مِن إلزامِ الجَهالاتِ ، إنّما يَلزَمُ لَو لَم نَكُن عالِمينَ ضَرورةً بانتفاءِ ما ذَكَرتُموه مِن المُدرَكاتِ ، و هذا العِلمُ قد حَصَّلَ الثِّقةَ بكيفيّةِ ما نُدرِكُه، و انتفاءِ ما لا نُدرِكُه. و إن كُنّا نُجَوِّزُ(2) قَبلَ حُصولِه فينا حُضورَ ما عَدَّدتُموه مِنَ المُدرَكاتِ ، و إن لَم نُدرِكْه و نَعلَمْه.

قُلنا: إنّ العِلمَ بانتفاءِ المُدرَكِ مِن حَضرَتِنا، مَتى كانَ طريقُه الإدراكَ ، مُستَنِدٌ إلَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ وجبَ أن نُدرِكَه. و لا يَجوزُ حُصولُه لِمَن جَوَّزَ كَونَ ذلكَ بحَضرَتِه و هو لا يُدرِكُه و لا يَعلَمُه؛ لأنّ العِلمَ الأوّلَ مُستَنِدٌ إلَى الثاني، و العِلمَ الثاني طريقٌ له، و لا يَصِحُّ حُصولُه مِن دونِه.

يُبَيِّنُ ذلك: أنّ الضَّريرَ و المُغمِضَ لمّا جَوَّزا أن يَكونَ (3) بحَضرَتِهما أجسامٌ كِثافٌ و هما لا يُدرِكانِها، لَم يَعلَما أنّه لا جِسمَ بحَضرَتِهما. و كذلكَ البَصيرُ لمّا جَوَّزَ أن يَكونَ بحَضرَتِه مَلَكٌ و جِنّيٌّ و ما أشبَهَهما مِنَ الأجسامِ اللِّطافِ ، لَم يَعلَمْ أنّ ذلكَ لَيسَ بحَضرَتِه.

فثَبَتَ أنّ العِلمَ بانتفاءِ المُدرَكِ مُستَنِدٌ إلَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ وجبَ إدراكُه

ص: 420


1- . كذا في الأصل، و الأولى: «تصحّ ». و هكذا الكلام في قوله: «يستحيل».
2- . في الأصل: «لا نجوّز»، و الصحيح ما أثبتناه، و هو ما استظهره الناسخ في الهامش.
3- . كذا في الأصل، و الأولى: «أن تكون».

و العِلمُ به، و أنّ مَن جَوَّزَ خِلافَ ذلكَ لا يَثِقُ بانتفاءِ المُدرَكاتِ .

في أنّ العلم الأوّل إنّما يستند إلى العلم الثاني فيما إذا كان طريقه الإدراك، لا مطلقاً

فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ دعواكم بأنّ العِلمَ بأنّه لا جسمَ بحَضرَتِنا مُستَنِدٌ إلىٰ أنّه لَو

كانَ أدرَكناه، و عندَكم أنّ الضَّريرَ مع أنّه مُجوِّزٌ لأن يَكونَ ذلكَ بحَضرَتِه و لا يُدرِكَه، يَجوزُ أن يَفعَلَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِه العِلمَ بأنّه لا جسمَ بحَضرَتِه ؟ و كذلكَ حُكمُ البَصيرِ في الأجسامِ اللِّطافِ ، و أنّه يَجوزُ أن يَفعَلَ اللّٰهُ تَعالىٰ في قَلبِه العِلمَ بأنّه لا مَلَكَ و لا جِنّيَّ بَينَ يَدَيه.

و قد يَعلَمُ أيضاً الضَّريرُ بخبرٍ صادقٍ أنّه لا جسمَ بحَضرَتِه. و مَن غَمَّضَ عَينَيهِ يَعلَمُ أنّ مَلِكَ الرُّومِ لَم يَحضُرْه، و إن كانَ التجويزُ الذي ادَّعَيتُموه(1) أنّه مانِعٌ مِن العِلمِ ثابتاً في كُلِّ ذلكَ .

قُلنا: ما ادَّعَينا أنّ أحَدَ العِلمَينِ (2) مُستَنِدٌ إلَى الآخَرِ على كُلِّ حالٍ ، و إنّما قُلنا: إنّ العِلمَ (123) بانتفاءِ المُدرَكِ إذا كان عَن طريقِ (3) الإدراكِ ، فهو مُستَنِدٌ إلَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ وجبَ إدراكُه، فلَيسَ يَقدَحُ شيءٌ ممّا ذَكَرتَه فيما اعتَمَدناه؛ لأنّا و إن جَوَّزنا أن يُفعَلَ في قَلبِ الضَّريرِ العِلمُ بأنّه لا جسمَ بحَضرَتِه، و في البَصيرِ مِثلُ ذلكَ في الجِنّيِّ و المَلَكِ ، فإنّما يَجوزُ ذلكَ لا عن طريقِ الإدراكِ ، بَل علىٰ سَبيلِ الابتداءِ . و إذا لَم يَكُن هذا العِلمُ علىٰ هذا الوَجهِ مُستَنِداً إلَى الإدراكِ ، لَم يَمتَنِعْ حُصولُه لِمَن جَوَّزَ أن يَكونَ بحَضرَتِه ما لا يُدرِكُه، و مَن لَم يَكُن عالِماً بأنّ ما

ص: 421


1- . كذا في الأصل، و لعلّ الأنسب: «ادّعيتم».
2- . أي العلم بانتفاء المدرَك من حضرتنا، و العلم بأنّه إذا حضر وجب أن ندركه.
3- . في الأصل: «طريقه».

بحَضرَتِه لا بُدَّ أن يُدرِكَه و يَعلَمَه(1).

و لَيسَ يَمتَنِعُ أن يكونَ أحَدُ العِلمَينِ أصلاً لِلآخَرِ مَتىٰ كانَ عن طريقٍ مخصُوصٍ (2)، و إن لَم يَكُن أصلاً له علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ كنَحوِ تَعلُّقِ عِلمِنا بأنّه تَعالىٰ حَيٌّ بعِلمِنا [بِ](3) أنّه قادرٌ، و عِلمِنا بإثباتِ ذاتِه تَعالىٰ بعِلمِنا بحُدوثِ الأجسامِ أو ما يَجرِي مَجراها(4) مِنَ الأعراضِ التي لا يَقدِرُ عليها سِواه؛ لأنّ تَعلُّقَ بعضِ هذه العُلومِ ببعضٍ و استنادَهُ إليه، مَتىٰ كانَ عن الاستدلالِ و الاكتسابِ كانَ كذلكَ ، و لَو كانَ ضَروريّاً لَم يَجِب ذلكَ فيه؛ ألا تَرىٰ أنّه جائزٌ أن يَفعَلَ تَعالىٰ فينا العِلمَ بأنّه حَيٌّ ضَرورةً ، و إن لَم نكُن عالِمينَ بأنّه قادرٌ. و كذلكَ يَفعَلُ فينا العِلمَ بذاتِه و صفاتِه قَبلَ العِلمِ بحُدوثِ الأجسامِ و ما يَجري مجراها ممّا يَدُلُّ عليه ؟! و إنّما العِلمُ الذي يَستَنِدُ إلىٰ غَيرِه علىٰ كُلِّ حالٍ ، هو العِلمُ بالحالِ و الذاتِ ؛ لأنّه لا يَجوزُ العِلمُ بحالِ الذاتِ علىٰ وَجهٍ مِن الوجوهِ ، إلّابَعدَ تَقدُّمِ العِلمِ بها.

فأمّا عِلمُ الضَّريرِ [بخَبَرٍ صادقٍ ] أنّه [لا] جسمَ (5) بحَضرَتِه، فهو أيضاً خارِجٌ عمّا أثبَتناه؛ لأنّه إنّما يَعلَمُ ذلكَ مِن طريقِ الاستدلالِ لا الإدراكِ . و كذلك عِلمُ (6) مَن غَمَّضَ [عَينيه](7) بأنّه(8) لَيسَ بَينَ يَدَيه مَلِكُ الرُّومِ ؛ لأنّه أيضاً يَستَدِلُّ علَى انتفاءِ ذلكَ

ص: 422


1- . في الأصل: «يعلم».
2- . و هو الإدراك في مقامنا.
3- . في الأصل: «لعلمنا». و هكذا في نظيره الآتي.
4- . في الأصل: «مجراهما».
5- . ما بين المعقوفين في الموضعين أضفناهما لمقتضى السياق، صرّح بهما المصنّف في الصفحة السابقة.
6- . في الأصل: «على» بدل «علم»، و الصحيح ما أثبتناه؛ للتصريح به فيما سبق.
7- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و هو أيضاً ممّا صرّح به فيما سبق.
8- . في الأصل: «فإنّه»، و السياق يؤيّد صحّة ما أثبتناه.

مِن حَيثُ لَو كانَ لَتَفشَّى(1) الخَبرُ بورودِه، و لَتقدَّمَت لذلكَ مُقَدِّماتٌ لَم تَحصُلْ . و كُلُّ هذا خارجٌ عمّا مَنَعْنا منه.

في بيان أنّ علمنا بالمدرَكات طريقُهُ الإدراك، و أنّه ليس مُبتدأً بلا طريق

فإن قيلَ : قد اعتَرَفتُم بجَوازِ فِعلِ العِلمِ بأنّ الشيءَ لَيسَ بحاضرٍ لِمَن يُجَوِّز حُضورَه و إن لَم يَعلَمْه، و ادَّعَيتُم أنّ ذلكَ إنّما يَسوغُ إذا لَم يَكُن العِلمُ حاصلاً عن طريقِ (2) الإدراكِ ، و بَقيَ الآنَ أن تَدُلّوا علىٰ أنّ العِلمَ الحاصلَ فينا بأنّه لا فِيلَ بحَضرَتِنا طريقُه الإدراكُ ، و أنّه لَيسَ بعِلمٍ مُبتَدَإٍ مِن غَيرِ طريقٍ ؛ لأنّه إذا جازَ أن يَكون مُبتَدأً عن غَيرِ طريقٍ ، جازَ حُصولُه مَع التجويزِ الذي ذَكَرناه.

قُلنا: الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ العِلمَ الحاصِلَ فينا بالمُدرَكاتِ - نفياً و إثباتاً - طريقُه الإدراكُ ، و أنّه لَيسَ مُبتَدَأً مِن غَيرِ طريقٍ ، أنّا وَجَدنا أوّلاً العِلمَ بالمُدرَكِ يَترتَّبُ علَى الإدراكِ و يُطابِقُه(3)؛ ألا تَرىٰ أنّا نَعلَمُ ما نُدرِكُه علَى الوَجهِ الذي يَتعلَّقُ الإدراكُ به دونَ غَيرِه ؟ فلَولا أنّه يَتعلَّقُ به، و الإدراكُ طريقٌ إليه، لَم تَجِبْ فيه هذه المُطابَقةُ ؛ ألا تَرىٰ أنّ العُلومَ التي تَحصُلُ (4) فينا لا عن طريقِ الإدراكِ [لا يَجِبُ تَعلُّقُها بالمُدرَكاتِ ]، و لا مُطابَقتُها له ؟ فعَلِمنا بذلكَ أنّ الإدراكَ طريقٌ إلَى العِلمِ بما نُدرِكُه.

ص: 423


1- . في الأصل: «لا نفشي»، و لا تساعده اللغة.
2- . في الأصل: «طريقه».
3- . في هامش الأصل: «فيه بيان أنّ العلم الحاصل فينا بالمدركات نفياً و إثباتاً، طريقه الإدراك، وأنّه ليس بعلمٍ مبتدإٍ من غير طريقٍ ، كأن يفعل اللّٰه تعالى في قلبنا العلم بأن لا جسم بحضرتنا عندما يحكم هذا الحكم».
4- . في الأصل: «يحصل».

و بمِثلِ هذا الاعتبارِ بعَينِه نعلمُ (1) أنّه طريقٌ إلىٰ نَفيِ ما نُدرِكُه؛ لأنّا(2) إذا أدرَكنا بَينَ أيدينا جسماً، عَلِمنا أنّه لا جسمَ يَجري مَجراه بحَضرَتِنا(3)، و إن لَم نَكُن عالِمينَ بذلكَ فيما لا يَجري (124) مَجراه؛ مِنَ المُتَناهي في اللَّطافةِ و الرِّقّةِ . و لهذا نَجِدُ كُلَّ واحدٍ مِن الأخفَشِ و الأعمَشِ (4) و مَن جَرىٰ مَجراهما في ضعفِ البَصَرِ و قِلّةِ الشُّعاعِ ، لا يَعلَمُ مِن انتفاءِ المُدرَكاتِ بحَضرَتِه ما يَعلَمُه القَوِيُّ البَصَرِ، و إنّما يَعلَمُ انتفاءَ ما يُدرِكُ أمثالَه.

فلَو لَم يَكُن الإدراكُ طريقاً إلَى الأمرَينِ (5)، لَما وجبَ فيهما مِن المُطابَقةِ للإدراكِ ما ذَكَرناه، و لَما امتَنَعَ أن نُدرِكَ شيئاً و نَعلَمَه علىٰ خِلافِ ما أدرَكناه عليه، و أن نُدرِكَه(6) مع كَمالِ العَقلِ و لا [نَثِقَ بما] نُدرِكُه. و كذلكَ كانَ لا يَمتَنِعُ أن نَعلَمَ (7) انتفاءَ ما لَو كانَ لَوجَب(8) أن نُدرِكَه، و أن لا نَعلَمَ انتفاءَ ما لو كانَ لوجب أن نُدرِكَه(9)، و أن لا نَعلَمَ انتفاءَ ما لَو كانَ لَأدرَكناه و عَلِمناه.

ص: 424


1- . في الأصل: «يعلم»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «ممّا ندركه» و بقرينة الأفعال الآتية. وهكذا في قوله: «ندركه»، فهو في الأصل: «يدركه».
2- . في الأصل: «لا ما»، و هو خطأ، و لعلّه تصحيف عمّا أثبتناه.
3- . في الأصل: «لحضرتنا».
4- . الخَفَش: ضعف في البصر وضيق في العين. و قيل: هو فساد في جفن العين و احمرار تضيق له العيون من غير وجع و لا قرح. و العَمَش: أن لا تزال العين تسيل الدمع، و لا يكاد الأعمش يبصر بها. لسان العرب، ج 6، ص 298 (خفش)؛ و ج 6، ص 320 (عمش).
5- . أي النفي و الاثبات.
6- . في الأصل: «يدركه».
7- . في الأصل: «يعلم». و هكذا قوله: «أن ندركه» و «أن لا نعلم»، و هما في الأصل بصيغة الغائب.
8- . في الأصل: «يجب». و هكذا في نظيره الآتي.
9- . يبدو أن قولَه: «و أن لا نعلم انتفاء ما لو كان لوجب أن ندركه» زائد.

و في عِلمِنا بفَسادِ كُلِّ ذلكَ ، دليلٌ علىٰ أنّ الإدراكَ هو الطريقُ إلَى العِلمِ بالمُدرَكاتِ في النفيِ و الإثباتِ معاً، و أنّ ما قَدَحَ في طريقِ العِلمِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ قادحاً في العِلمِ و مُخِلاًّ به.

و يُبيِّنُ ما ذَكَرناه في أنّ أحَدَ العلِمَينِ طريقٌ إلَى الآخَرِ، أنّ كُلَّ عاقلٍ يَفزَعُ إليه بعَينِه(1)؛ لأنّا لَو اعتَرَضنا كُلَّ واحدٍ مِن العُقلاءِ الصَّحِيحِي الأبصارِ، فقُلنا له: بَينَ يَدَيك فيلٌ ، لَما فَزِعَ (2)؛ إلىٰ أن يَقولَ : لَو كانَ لَرَأَيتُه(3). قيل: فذلكَ (4) الطريقُ بعَينِه.

بيان حال المخالفين في المسألة

فإن قيلَ : فأنتُم علىٰ هذا الكلامِ الذي قَدَّرتموه بَينَ أمرينِ :

إمّا أن تَقُولوا: إنّ جميعَ مُخالِفيكم في هذه المسألةِ لا يَعلَمونَ ابتداءً أنّه لا فِيَلةَ بحَضرَتِهم، و هذا ممّا قد عُلِمَ ضَرورةً بُطلانُه؛ لأنّكم تَعلَمونَ أنّهم عالِمونَ بذلكَ .

أو تقولوا: إنّهم يَعلَمُونَ مع التجويزِ الذي ذَكَرتُم أنّه يَمنَعُ (5) مِن العِلمِ ، فَيُنْقَضُ (6)ما أصَّلتمُوه!

ص: 425


1- . في الأصل: «بعينيه».
2- . كذا في الأصل، و الأنسب بالسياق: «لَفَزع».
3- . المراد بيان أنّ العلمَ بأنّه ليس بحضرتنا شيء، يستند إلى أنّه لو كان لرأيناه، فنحن ننفي كون فيل - مثلاً - بحضرتنا من حيث لو كان حاضراً لرأيناه فعلمناه، فإذا لم نره دلّ ذلك على نفي حضوره، فمَن شكّ في ذلك لا يجوز أن يحصل له العلم بأنّه لا فيل بحضرتنا. راجع: شرح الاُصول الخمسة، ص 171 و 172؛ المغني، ج 4، ص 43 و 45؛ رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 102.
4- . في الأصل: «كذلك».
5- . كذا في هامش الأصل، و في المتن: «يعلم».
6- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «فينتقض».

قُلنا: لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُخالِفونا في هذا البابِ عالِمينَ بانتفاءِ ما ذُكِرَ في السؤالِ ، واثِقينَ بأنّه لَيسَ بحَضرَتِهم إلّاما قد أدرَكوه و عَلِموه، إلّاأنّهم مع ذلكَ غَيرُ مُجَوِّزينَ لحُضورِ ما ذَكَرناه مِن غَيرِ أن يُدرِكوه(1). و لا بُدّ مِن أن يَكونُوا عالِمينَ بأنّه لَو حَضَرَ لَأدرَكوه.

و لَيسَ تُخبِرُ بخِلافِ (2) ذلكَ عن نفسِه(3) جَماعةٌ لا يَجوزُ أن تُخبِرَ بخِلافِ ما هي عليه. بل لا نَجِدُ مَن يَبلُغُ إلىٰ هذا الحَدِّ في هذه المسألةِ ، إلّانَفَراً نُجَوِّزُ علىٰ مِثلِهم دَفعَ ما يَجِدونَه و الإخبارَ بخِلافِه، كما أنّهم يُخبِرونَ عن أنفُسِهم في باب الكَسبِ الّذي لا يَعقِلُه أحَدٌ بخِلافِ ما يَجِدونَه.

و لَيسَ يَمتَنِعُ مِثلُ هذا علىٰ مِثلِ [مَنْ ] قَلَّ عَددُه مِن أصحابِ المَذاهِبِ الباطلةِ ، و لا فَرقَ بَينَهُم في هذه الدعوَى الباطلةِ ، و بَينَ مَن خَبَّرَنا بأنّه يَعلَمُ حالَ الجسمِ و إن لَم يَعلَمْ ذاتَه، و يَعلَمُ المُدرَكاتِ و إن لَم يُدرِكْها، و لَم يُخبِرْهُ صادقٌ عنها، في أنّا نَعلَمُ كَذِبَه؛ مِن حيثُ ادّعاءِ حُصولِ الفَرعِ (4) و انتفاءِ الأصلِ . علىٰ أنّ هؤلاءِ إنّما يُجوِّزونَ حُضورَ ما لا يُدرِكونَه؛ بأن(5) يَحصُلَ في أبصارِهم ضِدُّ الإدراكِ الذي هو كالآفةِ للبَصَرِ، و المُخرِجِ له عن تَكامُلِ صحّتِه، و لَيسَ يُجوِّزونَ أن لا يُدرِكوه(6) و البَصَرُ خالٍ مِن الآفاتِ و ما جَرىٰ مجراها، فقَد آلَ الأمرُ إلىٰ ما قُلناه.

ص: 426


1- . في الأصل: «يدركونه»، و المناسب ما أثبتناه؛ لوجوب حذف نون الإعراب عند النصب.
2- . في الأصل: «بخلافه».
3- . كذا في الأصل، و الأنسب: «نفسها».
4- . في الأصل: «الفزع»، و هو تصحيف عمّا أثبتناه في المتن.
5- . في الأصل: «كأن».
6- . في الأصل: «يدركونه».
في بيان أنّ بعض العلوم طريقها الضرورة على سبيل الابتداء، أو الاستدلال

فإن قيلَ : ألَستُم تُجوِّزونَ أن يَخلُقَ اللّٰهُ تَعالىٰ مِثلَ مَن تَعرِفونَه مِن أولادِكم أو إخوانِكُم حَتّىٰ لا يُغادِرَ مِنه شيئاً؟ و مع هذا التجويزِ مَتىٰ غابَ عنكم أحَدٌ ممّن ذَكَرناه، ثُمّ شاهَدتُموه ثانياً، عَلِمتُم أنّه الذي شاهَدتُموه أوّلاً و لَم تَشُكُّوا فيه.

و كذلكَ أنتم مُجَوِّزونَ لِأَن يُقيمَ اللّٰهُ تَعالىٰ أهلَ القُبورِ مِن قُبورِهم، و أن يَقلِبَ (125) ماءَ دِجلةَ زَيتاً، و رَملَ عالِجَ ذهباً، و أنتمُ الآنَ قاطعونَ علىٰ أنّ شيئاً مِن ذلكَ لَم يَكُن، فلَم يَمنَعِ التجويزُ في جميعِ ما ذَكَرناه مِنَ العِلمِ و الثِّقةِ ، و هذا يَنقُضُ ما تَقدَّم مِن كلامِكم.

قُلنا: إنّا لم نَقُل: إنّ التجويزَ لشيءٍ يَمنَعُ مِن حُصولِ العِلمِ بخِلافِه(1)، و إنّما مَنَعنا

مِن حُصولِ العِلمِ الذي مِن شَأنِه أن يَحصُلَ فينا مِن طريقٍ مخصوصٍ (2) مع فَسادِ ذلك الطريقِ .

فأمّا العِلمُ بأنّ مَن نُشاهِدُه ثانياً هو الذي شاهَدناه أوّلاً، فهو عِلمٌ ضَروريٌّ يَحصُلُ بالعادةِ علىٰ سَبيلِ الابتداءِ ، مِن غَيرِ أن تكونَ (3) له طريقةٌ مخصوصةٌ يؤَثِّرُ فيها تَجويزُنا في المقدورِ أن يُخلَقَ مِثلُه. و قد دَلَّلنا(4) علىٰ أنّ العِلمَ بأنّه لا مُدرَكَ بحَضرَتِنا، يَستَنِدُ إلَى العِلمِ بأنّه مَتىٰ حَضَرَ أدرَكناه، و لَيسَ إذا ثَبَتَ في بعضِ العُلومِ أنّ لها طريقةً مخصوصةً ، وجبَ مِثلُ ذلك في جميعِها.

فأمّا قيامُ المَوتىٰ و انقلابُ الماءِ زَيتاً و ما أشبَهَهما، فخارجٌ عن هذا البابِ ؛ لأنّ

ص: 427


1- . في هامش الأصل: «فيه [بيان] أنّ التجويز لشيء لا يمنع من حصول العلم بخلافه».
2- . و هو الإدراك.
3- . في الأصل: «يكون».
4- . تقدّم آنفاً في ص 420.

مَن يُجوِّزُ ذلكَ في المَقدورِ، و يَعلَمُ أنّه لَم يَكُن، إنّما يُعوِّلُ فيه علىٰ طريقةِ الاستدلالِ لا الضرورةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّ كُلَّ المُوحِّدينَ يُجوِّزونَ ذلكَ ، و لا يَقطَعونَ علىٰ خِلافِه في أزمانِ الأنبياءِ عليهم السلام(1) و مَن لا يُجِيزُ ظُهورَ الأعلامِ إلّاعلىٰ نَبيٍّ ، يَمنَعُ مِنه في هذا الوقتِ ؛ مِن حَيثُ عُلِمَ بالدليلِ أنّه لا نَبِيَّ بَعدَ نَبيِّنا عليه السلام.(2) و مَن يُجيزُ(3) ظُهورَ الأعلامِ علىٰ غَيرِ نَبيٍّ ، مِن الشيعةِ و أصحابِ الحَديثِ (4)، يُجوِّزونَ ذلكَ في كُلِّ حالٍ . و لايُقطَعُ علىٰ أنّه لَم يَكُن. فأمّا المُلحِدونَ و أصحابُ الطبائِعِ ، فعندَهُم أنّ ذلكَ مُستَحيلٌ في كُلِّ حالٍ ؛ لأمرٍ يَرجِعُ إلَى الطبعِ أو ما أشبَهَه، و يُعوِّلونَ أيضاً فيه علىٰ ضَربٍ مِن الاستدلالِ ، و إن كانوا فيه مُخطِئينَ . فقد زالَ أن يَكونَ هذا العِلمُ ضَروريّاً(5) علىٰ كُلِّ حالٍ ، و بَطَلَ الاعتراضُ به علىٰ ما ذَكَرناه.

في بيان عدم انفكاك العلمَين المبحوث عنهما فيما سبق

فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ ما ادَّعَيتموه مِن أنّ العِلمَ بأنّه لا مُدرَكَ بحَضرَتِنا، فَرعٌ علَى العِلمِ بأنّه إذا حَضَرَ أدرَكناه؛ و مِن حَقِّ الأصلِ مِن العُلومِ أن يَصِحَّ حُصولُه مِن غَيرِ حُصولِ الفَرعِ ، و أنتُم لا تُجيزونَ انفكاكَ أحَدِ هذَينِ العِلمَينِ مِن صاحبِه ؟

ص: 428


1- . لأنّ الموحِّدين يجوّزون أن يأتي الأنبياء بمعجزات من قبيل قيام الموتى، و انقلاب الماءزيتاً.
2- . في الأصل: «عليهم السلام».
3- . في الأصل: «لا يجيز».
4- . راجع الذخيرة (فصل في جواز ظهور المعجزات على أيدي غير الأنبياء).
5- . في الأصل: «ضرورة يا».

علىٰ أنّ البَهيمةَ تَعلَمُ أنّ العَلَفَ لَيسَ بحَضرَتِها، و إن لَم تَعلَمْ (1) أنّه لَو حَضَرَ لَرَأَتهُ .

قُلنا: إنّما يَصِحُّ حُصولُ العِلمِ الذي هو أصلٌ و إن لَم يَحصُلِ الفَرعُ ، مَتىٰ لَم يَجتَمِعْ - مع كَونِه أصلاً - أن يَكون طَريقاً إليه و مُقتَضِياً له. فأمّا إذا كانَ بهذه الصفةِ ، لَم يَصِحَّ أن يَفتَرِقا. و العِلمُ بأنّه لَو حَضَرَ المُدرَكُ لَأدرَكناه، طريقٌ إلَى العِلمِ بأنّه لَيسَ بحاضرٍ متىٰ لَم نُدرِكْه، فلا يَجوزُ انفكاكُه منه.

فأمّا البَهِيمةُ ، فلا بُدَّ مَتىٰ كانَت عالِمةً بانتفاءِ المُدرَكِ مِن بَينَ يَدَيها، أن تَكونَ عالمةً بأنّه لَو حَضَرَ لَأدرَكَته؛ لأنّ أحَدَ العِلمَينِ إذا كانَ أصلاً للآخَرِ لَم يَجُز حُصولُ الفَرعِ مِن دونِ أصلِه، و استبعادُ ذلكَ في البَهيمةِ لا مَعنىٰ له.

نفي أن يكون العلم بالمدرَكات ناشئاً من فعل العلم في القلب

و يُقالُ (2) لِمَنِ ادَّعىٰ أنّه مُجوِّزٌ لحُضورِ الأجسامِ العِظامِ بَينَ يَدَيه، و إن لَم يُدرِكْها، مع السلامةِ و ارتفاعِ المَوانِعِ ، و عَوَّلَ في الثِّقةِ بما يُدرِكُه و انتفاءِ ما لا يُدرِكُه علىٰ حُصولِ العِلمِ في قَلبِه: ألَيسَ هذا العِلمُ الذي تَدَّعي حُصولَه لكَ غَيرَ واجبٍ ، بَل هو مُستَنِدٌ إلَى اختيارِ مُختارٍ؛ إن شاءَ فَعَلَه و إن لَم يَشَأ لَم يَفعَله ؟ و لا بُدَّ مِن الاعترافِ بذلكَ ؛ لأنّه لا سَبَبَ علىٰ مَذهبِه يوجِبُ حُصولَ هذا العِلمِ للعاقلِ في كُلِّ حالٍ .

فيُقالُ له: فمَن الّذي يُؤمِنُكَ مِن أن يَكونَ كَثيرٌ(3) مِن العُقلاءِ لَم يَعلَموا ذلكَ (4)؛ مِن حَيثُ لَم يُفعَل لهم هذا العِلمُ؟ و علىٰ هذا (126) فيَجِبُ أن تُصَدِّقَ مَن خَبَّرَكَ عن

ص: 429


1- . في الأصل: «يعلم».
2- . في هامش الأصل: «فيه بيان ما يمكن استخراج الجواب عمّا قيل من أنّ العلم بصدق الشيءيحصل بخلق العلم الضروريّ عند المعجزة».
3- . في الأصل: «كثيراً»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّه اسم «يكون»، و هو مرفوع.
4- . أي لم يعلموا بوجود الأجسام العِظام بين يديهم.

نفسِه بأنّه لا يَعلَمُ أنّه لا فيلَ بحَضرَتِه.

فإن قال: يُؤْمِنُني(1) مِن ذلكَ أنّني باختيارِ نفسي و حالِ غَيري، قد عَلِمتُ أنّ هذا العِلمَ ممّا جَرَتِ العادةُ بحُصولِه للعُقلاءِ ، كسائرِ ما تَجرِي العاداتُ ، فلا أُجوِّزُ صِدقَ مَن خَبَّرَني بخِلافِه.

قيلَ له: أوّلُ ما في هذا أنّ العاداتِ لا يَجِبُ (2) أن تَتَساوىٰ فيها جميعُ البلادِ و الأقطارِ، و اختلافُ العاداتِ باختلافِ الأماكنِ ظاهرٌ؛ فأَجِزْ أن يَكونَ بأقاصي خُراسانَ و الصينِ عقلاءُ لا يَعلَمُونَ ما ذَكَرناه مع السلامةِ . كما أنّا كُلَّنا نُجيزُ أن يُخالِفَ (3) عادةُ مَن بَعُدَ عنّا لِعادَتِنا.

و بَعدُ، فإنّ العِلمَ بما ذَكَرناه نَجِدُ استِمرارَه في العقلاءِ بالشُّروطِ التي راعَيناها، علىٰ حَدٍّ لَو كان واجباً و غَيرَ مُستَنِدٍ إلَى اختيارِ مُختارٍ(4) لَم يَزِد عليه. فلَو جازَ أن نَدَّعيَ حُصولَه بالعادةِ ، لَجازَ حُصولُه في جميعِ ما جرىٰ مَجراه؛ مِن انتفاءِ السوادِ و البياضِ ، و إيجابِ العِلّةِ للمعلولِ ، و انتفاءِ الحَياةِ عندَ قَطعِ الرأسِ . و هذه طريقةٌ تؤَدّي إلىٰ خَلط العاداتِ بالواجباتِ ، و كُلُّ شيءٍ يَفصِلُ بَينَ واجبٍ و مُعتادٍ هو قائِمٌ في العِلمِ الذي ذَكَرناه.

في بيان دور الشعاع الخارج من البصر في الرؤية

فإن قيلَ : إن كان الشكُّ في المُشاهَداتِ ، و تَجويزُ حُضورِ ما لا نُدرِكُه و إن أدرَكنا أمثالَه، يلزَمُنا علىٰ ما نَذهَبُ (5) إليه بما في البابِ ، فهو أيضاً لازمٌ لكم مِن وَجهٍ آخَرَ؛

ص: 430


1- . في الأصل: «لم يؤمنني».
2- . في الأصل: «لا تجب»، و الفاعل هو قوله: «أن تتساوى».
3- . كذا في الأصل، و الأولى: «تخالف».
4- . في هامش الأصل: «و على هذا لم يكن من العاديات».
5- . في الأصل: «ما يذهب».

لأنّكم تَذهَبونَ إلىٰ أنّ الرائيَ يَحتاجُ في معنَى المَرئيّاتِ إلىٰ أن يَنبَثَّ مِن بَصَرِه شُعاعٌ يَتَّصِلُ بالمَرئيِّ أو بمَحَلِّه؛ أفرَأَيتُم لَو لَم يَنبَثَّ هذا الشُّعاعُ علَى الوَجهِ الذي تَدَّعونَه، ألَيسَ كانَتِ الرؤيةُ مُتصوَّرةً مع حُصولِ المَرئيِّ و السلامةِ مِن سائرِ الشُّروطِ؟ فما المؤمِنُ لكم مِن ذلكَ؟

ثُمّ ماذا الذي يُؤْمِنُكم أيضاً مِن أن [يُسَكِّرَ تعالىٰ ](1) طَرَفَ الشُّعاعِ ، أو يَعدِلَ به عن جهةِ المَرئيِّ و يَمنَعَه مِن الاتّصالِ به ؟ لأنّ الشُّعاعَ جسمٌ يَجوزُ عليه مِثلُ ذلكَ ، و هذا يؤَدّيكم إلىٰ تَجويزِ ما عَنَيتموه!

قُلنا: إنّ البَصَرَ مَتىٰ كان سَليماً صحيحاً، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ ذا شُعاعٍ ، و لا بُدَّ مِن انبِثاثِه و نفُوذِه و اتّصالِه بالمَرئيّاتِ مع ارتفاعِ المَوانِعِ . فما أخرَجَ البَصَرَ مِن أن يَكونَ ذا شُعاعٍ يَنبَثُّ ، يُخرِجُه عن الصحّةِ . و لَيسَ يُحتاجُ في رؤيةِ المَرئيّاتِ إلَى اتّصالِ الشُّعاعِ بالمَرئيِّ علىٰ كُلِّ حالٍ . و يَكفي في إدراكِ المَرئيِّ أن يَنفَصِلَ الشُّعاعُ و يَكونَ بَينَه و بَينَ المَرئيِّ ضياءٌ ، و إن لَم يَتَّصِلْ نفسُ الشُّعاعِ بالمَرئيِّ ؛ ألا تَرىٰ أنّا حينَ نَفتَحُ أعيُنَنا نُدرِكُ الكَواكِبَ علىٰ بُعدِها؛ مِن حَيثُ اتَّصَلَ شُعاعُ أبصارِنا بشُعاعِ الكَواكِبِ؟ فَأَغنىٰ ذلكَ عنِ اتّصالِ شُعاعِنا بنَفسِ الكَواكِبِ . و لَيسَ يَجوزُ - مع بُعدِ المَسافةِ ، و استحالةِ الظفر(2) - أن يَكونَ شُعاعُ أبصارِنا في مِثلِ هذا الزمانِ القَصيرِ مُتَّصِلاً بالكَواكِبِ .

فلَو سَكَّرَ(3) اللّٰهُ تَعالىٰ طَرَفَ شُعاعِنا، و مَنَعَه مِن الاتّصالِ بالمَرئيِّ ، لَرَأَيناه علىٰ كُلِّ حالٍ إذا كانَ الضياءُ بَينَنا و بينَه. اللّهُمَّ إلّاأن يَحولَ بَينَنا و بينَه بظُلمةٍ ، فكانَ (4)

ص: 431


1- . في الأصل: «نشكّ ».
2- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «النظر».
3- . يقال: سكرت النهر - من باب قتل - سَكْراً، أي سددته. المصباح المنير، ص 281 (سكر).
4- . في الأصل: «و كان».

يَجِبُ أن نَرى تلكَ الظُّلمةَ الحائلةَ . و لَو عَدَلَ بطَرَفِ الشُّعاعِ عن جهةِ المَرئيِّ إلىٰ غَيرِه لَأَخَلَّ ذلكَ بفَتحةِ العَينِ ، و أَوجَبَ اختلافاً في النظَرِ، حتّىٰ يَصيرَ بمَنزلةِ الحَوَلِ الذي يُرى معه الشيءُ كأنّه شَيئانِ . و مَتىٰ لَم يَجِدِ الإنسانُ ذلكَ مِن نفسِه، و كان بَصَرُه صحيحاً، فلا بُدَّ مِن نفيِه بما شاهَدَه، و أن يَكونَ غَيرَ مُجوِّزٍ لشيءٍ ممّا سُئِلنا عنه.

خامساً: في أنّنا غير رائين له تعالىٰ
اشارة

فأمّا الكلامُ علَى الفَصلِ الخامِسِ مِن القِسمةِ المُتقدِّمةِ (127): فهو أنّا لَو كُنّا مُدرِكينَ لَه تَعالىٰ لَوجبَ أن نَعلَمَه؛ لأنّ مِن شأنِ العاقِلِ إذا أدرَكَ شيئاً مع ارتفاعِ اللَّبسِ أن يَعلَمَه، و لا يَجوزُ مع كَمالِ عَقلِه [أن] يُدرِكَه و لا يَعلَمَه. و اللَّبسُ الذي يَجوزُ أن يَعرِضَ في المُدرَكاتِ لا يَصِحُّ عليه تَعالىٰ ؛ لأنّه [ناشئٌ إمّا مِن] الحُلولِ ،

أو المُجاوَرةِ ، أو كَونِ المَرئيِّ نَظيراً لغَيرِه و شِبْهاً(1) له، و كُلُّ ذلك يَستَحيلُ عليه تَعالىٰ .

و [إذا ثَبَتَ أنّا لا يجب أن نَعلَمَه تَعالىٰ ؛ بدليل] نَفيِ العِلمِ عن نُفوسِنا بالشُّبَهِ ، و فينا مَن يَعتَقِدُ نَفيَه، و يَعتَقِدُه عَلىٰ ما لَيسَ هو عليه، فقَد ثَبَتَ أنّا غَيرُ مُدرِكينَ له. و هذه جُملةٌ كافيةٌ .

دليلٌ آخَرُ:

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه لا يُرىٰ بالأبصارِ، أنّ مِن شَرطِ الرؤيةِ بالبَصَرِ أن يَكونَ المَرئيُّ مُقابِلاً أو في حُكمِ المُقابِلِ ، أو يَكونَ مَحَلُّه بهذه الصفةِ . و إذا استَحالَ عليه تَعالىٰ رؤيةُ

ص: 432


1- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «شبيهاً».

البَصَرِ مِن حَيثُ كانَ يَقتَضي كَونَه جَوهراً أو عَرَضاً، استحالَت رؤيَتُه بالبَصَرِ.

و الذي يَدُلُّ علىٰ [أنّ ] ما ذَكَرناه شَرطٌ: أنّ الرؤيةَ تَحصُلُ عندَ تَكامُلِه، و تَرتَفِعُ (1)عندَ اختِلالِه؛ ألا تَرىٰ أنّا لا نَرىٰ ما وَراءَنا و لا ما عن يَمينِنا و شِمالِنا مَتىٰ لَم نَنحَرِفْ (2) إليه، و نَرىٰ ما نُقابِلُه، علىٰ طريقةٍ واحدةٍ؟ فجَرَت هذه الشُّروطُ في الإدراكِ بالبَصَرِ مَجرىٰ نَفسِ البَصَرِ و صحّتِه، في أنّ ذلكَ شَرطٌ في صحّةِ إدراكِنا لِما نُدرِكُه.

و بَعدُ، فإنّه لَيسَ يَجوزُ حُصولُ الشيءِ علىٰ وجهٍ لَو(3) كانَ واجباً لَم يَزِدْ(4) عليه، ثُمّ لا يَكونَ واجباً؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي التأثيرَ الواجبَ المُعتادَ. و قد عَلِمنا أنّ الشُّروطَ التي ذَكَرناها، لَو كانَت واجبةً لم يَزِدِ الحالُ علىٰ ما ذَكَرناه. و لا [فَرقَ ] بينَ مَن ادَّعى تَعلُّقَ ذلكَ بالعادةِ ، و بَينَ مَن ادَّعاهُ في أمثالِه، مِنِ انتفاءِ الضِّدِّ بضِدِّه، و إيجابِ العِلّةِ لِمَعلولِها، إلىٰ سائرِ الأُمورِ الواجِبةِ .

و قولُ مَنِ اعتَرَضَ عَلىٰ هذا: بأنّا نُدرِكُ وُجوهَنا في المِرآةِ و إن لَم تَكُن مُقابِلةً لِحاسّةِ الرؤيةِ ؛ ليسَ بشيءٍ ؛ لأنّها و إن لَم تَكُن مُقابِلةً لعُيونِنا، فهي في حُكمِ المُقابِلةِ لها؛ لأنّ المِرآةَ تَجعَلُها(5) بهذه الصفةِ مِن حَيثُ تَعكِسُ الشُّعاعَ إليها، و تَصيرُ المِرآةُ علىٰ هذا الوَجهِ في أنّها آلةٌ للرؤيةِ بمَنزِلةِ العَينِ ، فمُقابَلَتُها في هذه الحالةِ تَجري مَجرىٰ مُقابَلةِ العَينِ نفسَها.

ص: 433


1- . في الأصل: «يرتفع».
2- . في الأصل: «لم ينحرف». و هكذا في الفعلين الآتيين، و هما «نرى» و «نقابله»، فهما في الأصل: «يرى» و «يقابله».
3- . في الأصل: «ولو» بالواو، و هو لا يلائم السياق.
4- . في الأصل: «لم يزاد».
5- . في الأصل: «يجعلها».

و أمّا سؤالُ مَن يَسألُ فيَقولُ : فيَجِبُ عَلىٰ هذا أن يَكونَ السوادُ - لَو قَدَّرنا أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ أحدَثَه في غَيرِ مَحَلٍّ - غَيرَ مَرئيٍّ ؛ لأنّ الشُّروطَ التي اعتَبَرتُموها لا تَصِحُّ فيه!

فالجوابُ عنه: أنّ مَنِ اعتَبَرَ في رؤيةِ المَرئيّاتِ ما ذَكَرناه مِن الشُّروطِ، و جَمَعَ بَينَ هذا القولِ و القَولِ برؤيةِ السوادِ لَو وُجِدَ لا في مَحَلٍّ ، يَقولُ : السوادُ مَتىٰ وُجِدَ في غَيرِ مَحَلٍّ ، لابُدَّ مِن أن يَكونَ بحَيثُ لَو وُجِدَ مَحَلٌّ لَكانَ ذلكَ المَحَلُّ في جهةٍ دونَ جهةٍ ، و هو علىٰ هذا كأنّه في جهةٍ ، و يَصيرُ في حُكمِ المُقابِلِ .

و أمّا اعتراضُ مَنِ اعتَرَضَ هذه الطريقةَ (1) بقَولِه: إذا جازَ أن يَرَى القَديمُ تَعالَى المَرئيّاتِ مِن غَيرِ مُقابَلةٍ ، و إن كانَ أحَدُنا يَحتاجُ في ذلكَ إلَى المُقابَلةِ ، فألا جازَ أن

يُرىٰ مِن غَيرِ مقابلةٍ ، و إن كانَتِ المَرئيّاتُ في الشاهدِ تَفتَقِرُ(2) إلَى المُقابَلةِ؟

فالجوابُ عنه: أنّ المُقابَلةَ و ما جَرىٰ مَجراها إنّما تَكونُ شرطاً في رؤيةِ ما يُرى بحاسّةٍ ، و كذلكَ هي(3) شرطٌ في رؤيةِ مَن يَرىٰ بحاسّةٍ . و عندَنا أنّ القَديمَ لا يَرىٰ بحاسّةٍ ، فيُراعىٰ فيه الشَّرطُ المخصوصُ بالحاسّةِ . و عندَكم أنّه تَعالىٰ يُرى بالحَواسِّ ، فلا بُدّ مِن أن تُثبِتُوا له شَرطَ المَرئيّاتِ بالحَواسِّ ، فافتَرَقَ الأَمرانِ .

دليلٌ آخَرُ:

و ممّا يَدُلُّ علىٰ أنّه [لا يُرىٰ بالأبصارِ، قولُه] تَعالىٰ «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ»(4) فنَفىٰ إدراكَ الأبصارِ - الذي هو رُؤيَتُها -

ص: 434


1- . أي الدليل الثاني المتقدّم، عند قوله: «دليل آخر: و ممّا يدلّ على أنّه لا يُرىٰ بالأبصار...».
2- . في الأصل: «يفتقر».
3- . في الأصل: «هو»، و الضمير راجع إلى لفظة «المقابلة»، و قوله: «و ما جرى مجراها إنّما تكون» قرينة عليه.
4- . الأنعام (6):103 و سوف يستمرّ البحث عن هذه الآية إلىٰ نهاية الفصل.

عنه علىٰ وجهِ التَّمَدُّحِ ، (128) فوجبَ القَطعُ علىٰ أنّ الرؤيةَ لا تَتَناوَلُه في حالٍ مِنَ الأحوالِ ؛ لأنّ ما تَمَدَّحَ تَعالى بنفيِه و إثباته(1) و لَم يَكُن مُتفضِّلاً(2) به، فلا يَكونُ إثباتُ المَنفيِّ مِنه أو نَفيُ المُثبَتِ إلّانَقصاً. و إذا كانَ النقصُ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ، وجبَ نَفيُ الرؤية(3) علىٰ جميعِ الأحوالِ .

فإن قيلَ : دُلّوا علَى الجُملةِ الّتي ادَّعَيتُم.

قُلنا:

[1.] أمّا(4) الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ الآيةَ تَتضمَّنُ (5) نفيَ الرؤيةِ بالأبصارِ: فهو أنّ لَفظةَ «الإدراكِ » و إن كانَت مَتىٰ أُطلِقَت في اللُّغةِ احتَمَلَت أشياءَ كثيرةً ؛ كاللُّحوقِ و النُّصحِ و إدراكِ الحَرارةِ و الصَّوتِ و غَيرِ ذلكَ ، فإنّها إذا قُيِّدَت بنفْسِ البَصَرِ اختَصَّت و زالَ عنها الاحتمالُ ، و اختَصَّت بما يَكونُ البَصَرُ آلةً فيه، و هو الرُّؤيةُ دونَ غَيرِها.

و الّذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّ أهلَ اللُّغةِ العَرَبيّةِ لا يَفصِلونَ بَينَ قولِ أحَدِهم:

«أدركتُ ببَصَري»، و «رَأَيتُ ببَصَري»، و «أَحسَستُ ببَصَري». و لأنّهم يَصِفونَ كُلَّ ما أطلَقوا عليه أنّه «مُدرَكٌ بالبَصَرِ» بأنّه «مَرئيٌّ بالبَصَرِ»، و هذا واضحٌ في تَساوي معنَى اللفظَينِ .

و بَعدُ، فلَو كانَتِ الرؤيةُ غَيرَ الإدراكِ لَوجبَ انفصالُهما، فلَو كانَ أحَدُنا لا يَعقِلُ

ص: 435


1- . في الأصل: «و إثبات».
2- . في الأصل: «منفصلاً»، و لا معنى له في المقام.
3- . في الأصل: «الهويّة»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّ البحث في وجوب نفي رؤيته تعالى بالأبصار، لا في نفي الهويّة عنه تعالى.
4- . في الأصل: «ما» بدل «أمّا».
5- . في الأصل: «متضمّن».

لنفسِه متىٰ أدرَكَ ببَصَرِه الشيءَ [ورَآه إلّا](1) حالةً واحدةً ، و استَحالَ أن يَكونَ مُدرِكاً له ببَصَرِه و هو غَيرُ راءٍ له، و أن يَكونَ رائياً له و هو غَيرُ مدرِكٍ له ببَصَرِه، دَلَّ على أنّ المعنىٰ في اللفظَينِ واحدٌ.

إبطال تفسير الإدراك المنفيّ في الآية بالإحاطة

فإن قيلَ : ما أنكَرتُم أنّ الإدراكَ المَنفيَّ في الآيةِ ، إنّما هو الإحاطةُ التي لا تَجوزُ إلّا علَى الأجسامِ ، دونَ الرؤيةِ؟

قُلنا: هذا [التفسيرُ لمَعاني هذه](2) الألفاظِ يَبطُلُ مِن وُجوهٍ :

أوّلُها: ما قَدَّمناه مِن أنّ أهلَ اللُّغةِ الّذين إليهم نَرجِعُ في مَعاني هذه الألفاظِ، لا يُفَرِّقونَ بَينَ قولِ القائلِ : «أدرَكتُ ببَصَري» و «رَأَيتُ » و «أحسَستُ »؛ فمَن ادَّعىٰ أنّ الإدراكَ بمعنَى الإحاطةِ ، كمَنِ ادَّعىٰ ذلكَ في الرؤيةِ و الإحساسِ .

و ثانيها: أنّ الإدراكَ لا يُستَعمَلُ في مَوضِعٍ مِنَ المواضعِ بمعنَى الإحاطةِ ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لا يَقولونَ : «أدرَكَ السُّورُ المَدينةَ »، و «أدرَكَ الجِرابُ الدَّقيقَ ». و إذا كانَ مع الإطلاقِ لا يُريدونَ بلَفظةِ «الإدراكِ » الإحاطةَ ، فأَحرىٰ أن لا يُريدوا ذلكَ مع التقييدِ بالبَصَرِ.

و ثالثُها: أنّ الذي نَفاه تَعالىٰ عن نفسِه مِن الإدراكِ في الآية الكريمةِ ، هو الذي أثبَتَه لها، و قد عَلِمنا أنّه لَم يُرِدْ بقَولِه تَعالىٰ : «وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ»(3) الإحاطةَ ، بل أرادَ الرؤيةَ ، فيَجِبُ أن يَكونَ ما نَفاه كذلكَ .

ص: 436


1- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين: «وراء»، و لا معنى له في المقام.
2- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق؛ لأنّه لا معنى لنفي الألفاظ، بل البحث في تفسيرها.
3- . الأنعام (6):103.
نفي أن يكون الإدراك بالبصر بمعنىٰ رؤية مخصوصة

فإن قالوا: فلِمَ أَنكَرتُم أن يَكونَ الإدراكُ بالبَصَرِ رؤيةً مخصوصةً ، و هي المُتَناوِلةُ للمَرئيِّ مِن جميعِ جهاتِه(1)، و أن يَكونَ إنّما نَفىٰ هذه الرؤيةَ عن نفسِه دونَ الرؤيةِ المُطلَقةِ؟

قُلنا: قد ثَبَتَ أنّ أهلَ اللُّغةِ لا يُفَرِّقونَ بَينَ معنىٰ قَولِهم: «أدرَكتُ ببَصَري»، و «رَأَيتُ ». و مَنِ ادَّعىٰ فَرقاً بَينَ الأمرَينِ [فهو] مُدَّعٍ لِما لَيسَ بمعروفٍ عندَهم، و هو بمَنزلةِ مَن عَكَسَ كذلكَ و ادَّعىٰ أنّ المُتَناوِلةَ للشَّيءِ مِن جميعِ جهاتِه هي الرؤيةُ ، و الإدراكُ بخِلافِها في هذا المعنىٰ .

علىٰ أنّ هذا القولَ يوجِبُ أن لا يوصَفَ أحَدٌ منّا بأنّه مُدرِكٌ لشيءٍ مِنَ الأجسامِ في الحالةِ الواحدةِ ؛ لأنّه لا يَراها مِن جميعِ جهاتِها. و كذلكَ كانَ يَجِبُ أن لا يوصَفَ بأنّه يَرَى السوادَ؛ لأنّه لا جِهاتَ له. و في عِلمِنا بخِلافِ ذلك دليلٌ علىٰ فَسادِ هذا القولِ .

نفي أن يكون الإدراك المنفيّ بالآية معنىً خاصّاً غير الرؤية، و بيان معنيَين للإدراك

فإن قيلَ : كيفَ يَصِحُّ ما ادَّعَيتُموه مِن أنّ الإدراكَ إذا قُيِّدَ بالبَصَرِ، لَم يُفِدْ إلّاالرؤيةَ ، و نَحنُ نَجِدُهُم يَقولونَ : «أدرَكتُ حَرارةَ المِيلِ ببَصَري». و إذا صَحَّ هذا جازَ أن يَكونَ (129) النفيُ بالآيةِ هو هذا الضربَ مِن الإدراكِ؟(2)

قُلنا: أوَّلُ ما في هذا السؤالِ أنّا لا نَعرِفُ ما تَضمَّنَه مُستَعمَلاً في لُغة العَرَبِ ، و لا يَقدِرُ المُعتَرِضُ به أن يُنشِدَ فيه شِعراً لهم، أو يَرويَ به خَبَراً عنهم، فعلىٰ

ص: 437


1- . فيرجع معناها إلى «الإحاطة» المتقدّمة في الإشكال السابق.
2- . فيكون الإدراك المنفيّ بمعنى الإحساس، كما في إحساس حرارة المِيل.

مُعتَمَدِهم أن يُصَحِّحَ روايَتَه حتّىٰ يَلزَمَنا الكلامُ علىٰ مَعناه.

علىٰ أنّ ذلكَ لَو كانَ مُستَعمَلاً معروفاً، لَم يَقدَحْ فيما اعتَمَدناه؛ لأنّ الإدراكَ الحاصلَ بالبَصَرِ علىٰ ضَربَينِ :

أحَدُهما: يَختَصُّ البَصَرُ بأنّه آلةٌ فيه، و هو الرؤيةُ .

و الضربُ الآخَرُ: حُكمُ البَصَرِ فيه و كُلُّ مَحَلٍّ للحياةِ حُكمٌ واحدٌ، و هو إدراكُ الحَرارةِ و ما يَجري مَجراها.

فالإدراكُ مَتىٰ أُضيفَ إلَى البَصَرِ [و](1) أُطلِقَ ، لَم يُعقَلْ مِنه إلّاالرؤيةُ التي يَختَصُّ البَصَرُ بأنّه آلةٌ فيها، كما أنّ الإدراكَ إذا أُضيفَ إلَى الأنفِ (2) أو الأُذُنِ و أُطلِقَ ، لَم يُعقَلْ مِنه إلّاما تَختَصُّ هاتانِ الجارِحتان بكونِهما آلةً في إدراكِه. و ما سُئِلنا عنه بخِلافِ ذلكَ ؛ لأنّ القائلَ إذا قالَ : «أدرَكتُ حَرارةَ المِيلِ ببَصَري» فقَد عَلَّقَ الإدراكَ بالحَرارةِ التي لا يَكونُ البَصَرُ آلةً في إدراكِها مِن جهةِ الرؤيةِ ، و صارَ هذا التقييدُ مُزيلاً لِما يَقتَضيهِ ظاهرُ إضافةِ الإدراكِ إلَى البَصَرِ مَع الإطلاقِ ، و جَرىٰ مَجرى أن تَقولَ :

«أدرَكتُ حَرارةَ كذا بأنفي أو أُذُني» في أنّه يؤَيِّدُ ما يَقتَضيهِ ظاهِرُ تَعلُّقِ الإدراكِ بالأنفِ و الأُذُنِ مع الإطلاقِ .

علىٰ أنّ الآيةَ إذا اقتَضَت نَفيَ إدراكِ الأبصارِ عنه تَعالىٰ ، فيَجِبُ أن يُنفىٰ ذلكَ علىٰ كُلِّ وجهٍ يُضافُ إلَى البَصَرِ، فيُنفىٰ (3) أن يَكونَ مَرئيّاً بالبَصَرِ، و مُدرَكاً به علىٰ سَبيلِ إدراكِ الحَرارةِ و غَيرِها، و هذا بَيِّنٌ في سُقوطِ السؤالِ .

[2.] و أمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ عن نفسِه: فهو إجماعُ الأُمّةِ ؛

ص: 438


1- . في الأصل: «أو أُطلق».
2- . في الأصل: «البصر»، و هو تكرار، كما أنّه سوف تأتي الإشارة إلى «الأنف».
3- . في الأصل: «فبقي».

لأنّه لا خِلافَ بَينَها في ذلكَ ، و إنّما اختَلَفوا في كيفيّةِ تَمدُّحِه:

فقالَ قومٌ : إنّه تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ عن نفسِه، و الإدراكُ غَيرُ الرؤيةِ .

و قالَ آخَرونَ : إنّما تَمدَّحَ بنفيِ الرؤيةِ عنه في الدُّنيا دونَ الآخِرةِ .

و قالَ آخَرونَ : إنّه تَمدَّحَ بنفيِ إدراكِ هذه الحاسّةِ له، و إن صَحَّ أن يُرى بحاسّةٍ سادسةٍ .

و قالَ أهلُ الحَقِّ : إنّه تَمدَّحَ بنفيِ الإدراكِ الذي هو الرؤيةُ عن نفسِه، علىٰ كُلِّ وجهٍ و في كُلِّ حالٍ .

و هذا إجماعٌ لا يَقدَحُ فيه خِلافُ مَن لَعلَّه أن يُخالِفَ فيه حادِثاً؛ لأنّ ذلكَ يَقتَضي أن لا يَستَقِرَّ إجماعٌ علىٰ شيءٍ مِن الأشياءِ .

علىٰ أنّ سياقَ الكلامِ ، و تَرتيبَ الآياتِ الثَّلاثِ إلىٰ قولِه تَعالىٰ : «وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ»(1). ما بين المعقوفين منّا، و هو لازم؛ لأنّ المستثنى - و هو ما يقع بعد أداة الاستثناء - لا بدّ و أن يكون اسماً.(2) ، يَقتَضي كَونَ جميعِ ما تَضمَّنَه الكلامُ مِن نفيٍ و إثباتٍ مَدحاً؛ لأنّ العادةَ لَم تَجرِ للعَرَبِ الذينَ خُوطِبنا بلِسانِهم، أن يَتمدَّحُوا بخِطابٍ علىٰ هذا النَّسَقِ ، و يُخَلّلوا(3) بَينَه و بَينَه(4) بما لا يَقتَضي المَدحَ و لا له مَدخَلٌ فيه!

[3.] فأمّا الذي يَدُلُّ علىٰ أنّه تَعالىٰ تَمدَّح(5) بما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، دونَ ما يَجوزُ(6) أن يَكونَ مُتَفضِّلاً به، فهو أنّ الإدراكَ لَيسَ بمعنىً - علىٰ ما دَلَّلنا عليه - فيَصِحَّ أن يُقالَ :

إنّه تَمدَّحَ بأن لا يَفعَلَه علىٰ سَبيلِ التفضُّلِ ، و لَم يَبقَ بَعدَ ذلكَ إلّا [أن](6) يَكونَ

ص: 439


1- . الأنعام
2- :103.
3- . في الأصل: «يحلّلوا» بالحاء المهملة، و لا محصّل له في المقام.
4- . في الأصل: «و بين».
5- . في الأصل: «بمدح».
6- . في الأصل: «يكون» بدل «يجوز».

التوجيهُ (1) أنّه في نفسِه علىٰ صفةٍ يَستَحيلُ معها إدراكُه. و ما تَقتَضيه ذاتُه لا يَصِحُّ تغيُّرُه، و لا خُروجُه تَعالىٰ عنه. فصَحَّ بذلكَ ما ذَهَبنا إليه مِن استحالةِ الرؤيةِ عليه علىٰ كُلِّ حالٍ .

أقسام ما تمدّح به تعالىٰ بنفيه و إثباته

و اعلم أنّ ما تَمدَّحَ القَديمُ تَعالىٰ بنفيِه و إثباتِه علىٰ ضَربينِ :

أحَدُهما: يَرجِعُ إلىٰ فِعلِه.

و الآخَرُ: إلىٰ ذاتِه.

فأمّا الضربُ الأوّلُ : فهو علىٰ قِسمَينِ :

أحدُهما: أن يَتمدَّحَ بالفِعلِ علىٰ سَبيلِ الإثباتِ .

و الآخَرُ: أن يَتمدَّحَ به علىٰ طريقِ النفيِ .

و القِسمُ الأوّلُ : علىٰ ضَربَينِ :

أحدُهما: يَقتَضي انتفاؤه (130) النقصَ و الذَّمَّ ، و هو التمدُّحُ بفِعلِ الواجبِ .

و الآخَرُ: لا يَقتَضي ذلكَ ، و هو كُلُّ ما كانَ مُتَفضِّلاً بفِعلِه؛ مِنَ الإحسانِ و الإنعامِ .

و أمّا القسمُ (2) الثاني مِن أقسامِ الفعلِ - و هو التمَدُّحُ بنفيِ الفِعلِ - فهو أيضاً علىٰ ضَربَينِ :

أحَدُهما: يَقتَضي إثباتُه النقصَ و الذَّمَّ ، و هو التمَدُّحُ بأن لا يَفعَلَ القَبائِحَ .

و الضربُ الثاني: لا يَقتَضي إثباتُه ذَمّاً، و هو التمَدُّحُ بأن لا يَفعَلَ ما يَكونُ مُتَفضِّلاً بأن لا يَفعَلَه؛ كنَحوِ تَمدُّحِه بأنّه لا يُعاقِبُ الكافرَ لَو تَمدَّحَ بذلكَ ؛ لأنّ إثباتَ

ص: 440


1- . في الأصل: «التوجّه».
2- . في الأصل: «الضرب».

ذلكَ يَجري مَجرىٰ نفيِ ما يَتفضَّلُ بفِعلِه(1) مِن ضُروبِ الإحسانِ ، في أنّه لا يوجِبُ ذَمّاً؛ مِن حَيثُ كان للمُتَفضِّل أن لا يَتفضَّلَ و له أن يَتفضَّلَ ، و لا فَرقَ في ذلكَ بَينَ النفيِ و الإثباتِ .

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : كيفَ يَصِحُّ أن يَتمدَّحَ بأنّه يَفعَلُ الإحسانَ ثُمّ لا يَفعَلُه ؟ و كذلكَ فكيفَ يَتمدَّحُ بأنّه لا يُعاقِبُ الكافِرَ ثُمّ يُعاقِبُه ؟ و كُلُّ ذلك يَقتَضي الذَّمَّ ، بخِلافِ ما قُلتُم!

و ذلكَ أنّ الوَعدَ بالتَّفَضُّلِ لا يُدخِلُه في أن يَكونَ واجباً؛ فمَتىٰ وَعَدَ بما يَجري مَجرَى التفضُّلِ - سواءً كانَ نفياً أو إثباتاً - كانَ له أن لا يَفعَلَه مِن حَيثُ كان تَفضُّلاً. و إنّما يَقبُحُ أن لا يَفعَلَه مِن وجهٍ آخَرَ؛ لأنّه يَكونُ كاذباً مع تَقدُّمِ الوَعدِ، و هذا خارجٌ عمّا نَحنُ بسَبيلِه.

علىٰ أنّا نَفرِضُ المِثالَ بحَيثُ لا يَشتَبِهُ ، فنَقولُ : مَتىٰ وَعَدَ بأنّه يَتفضَّلُ علىٰ زَيدٍ

بالإحسانِ ، جازَ أن لا يَتفضَّلَ علىٰ عَمرٍو بمِثلِ ذلكَ ، و لا يَكونُ مذموماً. و كذلكَ إذا وَعَدَ بأنّه لا يُعاقِبُ أحَداً مِنَ الكُفّارِ، جازَ أن يُعاقِبَ الجميعَ . و مِثلُ هذا لا يَجوزُ في الفعلِ الواجِبِ ؛ لا علىٰ طريقِ النفيِ و لا الإثباتِ ؛ ألا تَرىٰ أنّه لا يَجوزُ أن يَتمدَّحَ بأنّه يَفعَلُ بزَيدٍ ما استَحَقَّه مِن الثَّوابِ ، و لا يَفعَلُ مِثلَ ذلكَ بسائرِ المُستَحِقّينَ؟ فكذلكَ لا يَجوزُ أن يَتمدَّحَ بأنّه لا يَظلِمُ زَيداً و يَظلِمُ غَيرَه، فقَد تَمَّ غَرَضُنا علىٰ كُلِّ حالٍ في الفَرقِ بَينَ الأمرَينِ .

فأمّا [الضرب الثاني - و هو]

ما يَتمدَّحُ به تَعالىٰ فيما يَرجِعُ إلى ذاتِه - فهو على ضُروبٍ ثلاثةٍ :

تَمَدُّحٍ بإثباتٍ علَى الحَقيقةِ .

ص: 441


1- . في الأصل: «بفعل».

و تَمدُّحٍ بما يَجري مَجرَى الإثباتِ .

و تَمدُّحٍ بما جَرىٰ مَجرَى النفيِ .

و علىٰ كُلِّ الوُجوهِ لا يَجوزُ انتِفاءُ المُثبَتِ ، و لا إثباتُ المَنفيِّ ، و لا تَغَيُّرُ الحالِ في ذلكَ . فالإثباتُ الحَقيقيُّ كالوصفِ له بأنّه موجودٌ باقٍ ، [و ما يَجري مَجرَى الإثباتِ كنَحوِ تَمدُّحِه تَعالىٰ بأنّه عالم قادر حيّ سميع بصير](1)، و ما يَجري مَجرَى النَّفيِ كنَحوِ تَمدُّحِه تَعالىٰ بأنّه «لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ »(2) ، و بنَفيِ الصاحِبةِ و الوَلَدِ.

و يَجري مَجرىٰ ذلكَ تَمدُّحُه بأنّه لا يُدرَكُ بالأبصارِ، فلا فَرقَ علىٰ ما ذَكَرناه بَينَ مَن جَوَّز أن يُرىٰ في الآخِرةِ ، و بَينَ مَن جَوَّزَ أن تَأخُذَه سِنةٌ أو نَومٌ ، أو يَتَّخِذَ وَلَداً في بعضِ الأحوالِ .

بيان وجهٍ إجمالي و آخر تفصيلي لصحّة التمدّح بنفي الرؤية

فإن قيلَ : كُلُّ شيءٍ أشَرتُم إليه - فيما يَقتَضي انتفاؤه و إثباتُه النقصَ له - معقولٌ يَقتَضي ذلكَ فيه، و لَيسَ في إثباتِ رؤيَتِه تَعالىٰ وَجهٌ معقولٌ يَقتَضِي النقصَ ؛ فكيفَ (3) يَصِحُّ التمَدُّحُ بنَفيِ الرؤيةِ؟ و كيفَ يَصِحُّ حَملُها علىٰ ما قد عُقِلَ وَجهُ التمَدُّحِ بنَفيِه ؟

قُلنا: إذا ثَبَتَ أنّه تَعالىٰ مُتمدِّحٌ بالآيةِ ، فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ في نفيِ الرؤيةِ عنه وَجهٌ يَقتَضي المِدحةَ ؛ لأنّه تَعالىٰ لا يَتمدَّحُ بما لا وَجهَ له في المِدحةِ . فهذا القَدرُ كافٍ في عِلمِنا بأنّه لا بُدَّ مِن وَجهِ المِدحةِ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ ، و يَنتَظِمُ

ص: 442


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و للمزيد راجع: المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 156.
2- . البقرة (2):255.
3- . في الأصل: «و كيف».

معه الاستدلالُ بالآيةِ ، و إن لَم نَعلَمِ الوَجهَ بعَينِه علىٰ سَبيلِ التفصيلِ (1). كما أنّ العِلمَ بوَجهِ وجوبِ الشيءِ علَى الجُملةِ كافٍ في العِلمِ بوجوبِه، و غَيرُ مُخِلٍّ به، و إن كانَ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ هناكَ وجهٌ للوجوبِ مُفصَّلٌ .

و الوَجهُ المُفصَّلُ في كَونِ نفيِ الرؤيةِ عنه تَعالىٰ مَدحاً، هو أنّ مِن شَأنِ ما يُرىٰ أن يَكونَ هو (131) أو مَحَلُّه في جهةٍ مِن الجِهاتِ ، و ذلكَ يَقتَضي حُدوثَه.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : متىٰ عُلِمَ هذا الوَجهُ ، و أنّ المِدحةَ تَعلَّقَت به، استُغنيَ

عن الاستدلالِ بالآيةِ ، و خَرَجَت مِن أن تكونَ دليلاً.

و ذلكَ : أنّا قد بيّنّا أنّ العِلمَ بتفصيلِ وَجهِ المِدحةِ غَيرُ واجبٍ ، و أنّ الاِستدلالَ بالآيةِ لا يَفتَقِرُ إليه، و أنّ العِلمَ بأنّه لا بُدَّ مِن وَجهٍ علىٰ سَبيلِ الجُملةِ كافٍ ، فسَقَطَ هذا السؤالُ .

بيان وجه تمدّحه تعالىٰ بنفي الإدراك، مع مشاركة غيره - ممّا لا يصحّ عليه المدح - له في ذلك

فإن قيلَ :(2) كيفَ يَتمدَّحُ تَعالىٰ بنفيِ الإدراكِ عنه، و قد شارَكَه في ذلكَ ما لَيسَ بممدوحٍ (3) مِن المعدوماتِ و كثيرٍ مِن الأعراضِ الموجوداتِ؟

قُلنا: قد أجابَ أهلُ الحَقِّ عن هذا السؤالِ :

ص: 443


1- . استخدم المصنّف هذا الأُسلوب في البحث - أي الاكتفاء بعلم الجُملة دون الحاجة إلى التفصيل - أيضاً في موضع آخر، و هو العلم بعلّة غيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام، فقال: إنّه إذا ثبت أنّ الحجّة بن الحسن عليه السلام إمام، و ثبت أنّه معصوم، فلابدّ من وجود وجهٍ صحيح لغيبته، و إن لم نعلمه على التفصيل. (راجع: المقنع في الغيبة، ص 41).
2- . من هذا الموضع من المتن فما بعد، مشتركٌ مع مسألةٍ حول نفي الرؤية مذكورة في نهاية المجلس الثاني من أمالي الشريف المرتضىٰ .
3- . في الأصل: «بمُندرِج»، و ما بين المعقوفين استفدناه من أمالى المرتضىٰ .

فقالَ بعضُهم: إنّه لَم يَتمدَّح بمُجرَّدِ نَفيِ الإدراكِ عنه، بَل بكَونِه يَرىٰ و لا يُرىٰ ؛ لأنّ ما عَداه مِن الذواتِ علىٰ ضُروبٍ :

مِنها: ما يُرىٰ و لا يَرىٰ ؛ كالألوانِ .

و مِنها: ما يُرىٰ و يَرىٰ ؛ كالإنسانِ و ما جَرىٰ مَجراه مِنَ الأحياءِ .

و لَيسَ مِنها ما يَرىٰ و لا يُرىٰ . فإذا اختَصَّ هو تَعالىٰ بذلكَ ، وجبَت له المِدحةُ .

و قال آخَرونَ (1): إنّه لَم يَتمدَّحْ تَعالىٰ بنفيِ الرؤيةِ عنه في الحقيقةِ ، و إنّما تَمدَّحَ بصفتِه الذاتيّةِ التي اقتَضَت له نَفيَ الإدراكِ عنه و إثباتَه فيه، كما أنّه تَعالىٰ لمّا تَمدَّحَ بنَفيِ الشبيهِ و الوَلَدِ و الصاحبةِ ، لَم يَتمدَّحْ بالنفيِ علَى الحقيقةِ ، و إنّما تَمدَّحَ بما اقتَضىٰ له مِن صفتِه الذاتيّةِ .

و قد اعتَرَضَ المُخالِفون [على] الوجهِ الأوّلِ : فقالوا: كيفَ يَصِحُّ أن يَتمدَّحَ بمجموعِ (2) أمرَينِ ؛ كُلُّ واحدٍ منهما بانفرادِه لا يَقتَضي(3) المَدحَ؟ و لَئن جازَ هذا لَيَجوزَنَّ أن يَتمدَّحَ بأنّه شيءٌ عالِمٌ ، أو ذاتٌ قادرةٌ ، فيُفيدَ المَدحَ بمجموعه، و إن كانَ الانفرادُ بخِلافِه(4).

و قد أُجيبَ عن هذا: أنّه غَيرُ مُمتَنِعٍ في الصفةِ التي لا تَقتَضي مَدحاً علَى الانفرادِ، أن تَكونَ مؤَثِّرةً في المَدحِ عندَ الانضمامِ إلىٰ غَيرِها، أو وقوعِها علىٰ بعضِ [الوجوهِ ]؛ و مَثَّلوا ذلكَ بتَمدُّحِه تَعالىٰ بنَفيِ الشبيهِ و الوَلَدِ، و أنّه لَم يَكُن مَدحاً لمُجرَّدِ النفيِ ؛ مِن حَيثُ قد يَنتَفي ذلكَ عن ذَواتٍ كثيرةٍ غَيرِ ممدوحةٍ ، و إنّما كانَ مَدحاً مِن حَيثُ انتَفىٰ

ص: 444


1- . سوف يأتي في نهاية الفصل اختيارُ المصنّف لهذا الجواب.
2- . في الأصل: «لمجموع».
3- . في الأصل: «و لا يقتضي» بالواو، و هي زائدة.
4- . أي أنّ «شيء» و «ذات» لا يدلّان بانفرادهما على التمدّح، لكن إذا اجتمعا مع «عالم» و «قادر» أفاد المجموع التمدّح.

مِن حَيٍّ له صفاتُ مَن يَجوزُ مِثلُ ذلكَ عليه في الشاهدِ. و مَثَّلوه أيضاً بمَدحِنا(1) له تَعالىٰ بأنّه «موجودٌ لَم يَزَلْ »؛ إذ(2) كانَ لا مَدحَ في مُجرَّدِ كَونِه موجوداً.

و قالوا: إن لَزِمَ علىٰ ما ذَكَرناه في التَمدُّحِ بنَفيِ الإدراكِ في الآيةِ ، أن نَتمدَّحَ بأنّه

شيءٌ عالِمٌ ، لَزِمَ المُخالِفَ مِثلُه إذا مَدَحَه بنفيِ السِّنةِ و النَّومِ و غَيرِ ذلكَ ممّا أَورَدناه.

و الذي يَجِبُ أن يُحَصَّلَ في هذا المَوضِعِ : أنّ الصفةَ المَنفيّةَ لا يَمتَنِعُ أن تَقتَضيَ المَدحَ بشرطٍ مَتىٰ لَم يَحصُل لَم يَكُن مَدحاً، بل لا بُدَّ في كُلِّ مَدحٍ تَعلَّقَ بالنفيِ دونَ الإثباتِ مِن أن يَكونَ مشروطاً، فلا بُدَّ في شرطِه أيضاً مِن أن يَكونَ إثباتاً. و لَيسَ ذلكَ واجِباً في المَدحِ بالإثباتِ ؛ ألَاتَرىٰ أنّا إذا مَدَحنا بنفيِ الجَهلِ و العَجزِ و الظُّلمِ ، فلا بُدَّ مِنِ اشتراطِ كَونِ مَن نَمدَحُه بذلكَ حَيّاً له صفاتٌ مخصوصةٌ ، و في الظُّلمِ لا بُدَّ أن يَكونَ قادراً عليه و له دَواعٍ إليه ؟

و قد استَقصَينا هذا الكلامَ في مسألةٍ أملَيناها مُتقدِّماً، و بَسَطنا الكلامَ فيها(3)، و بيّنّا أنّ النفيَ إنّما فارَقَ الإثباتَ في الافتقارِ إلى الشرطِ؛ مِن حَيثُ كانَ النفيُ أعمَّ مِنَ الإثباتِ ، فلعُمومِه يَتَناوَلُ المَمدوحَ و غَيرَ المَمدوحِ . و الإثباتُ أخَصُّ مِنه،

ص: 445


1- . في الأصل: «فمدحنا»، و لعلّه تصحيف عمّا أثبتناه.
2- . في الأصل: «فإن» بدل «إذ»، و لا معنى للشرط في المقام، و عدم ذكر الجواب قرينة على ما أثبتناه.
3- . لم يذكر أحدٌ ممّن أعدَّ فهرساً لمصنّفات الشريف المرتضىٰ - أعني البُصروي و النجاشي والطوسي و ابن شهر آشوب - أَنّ له مسألة مستقلّة حول الرؤية، ولكن توجد في نهاية المجلس الثاني من أمالي المرتضىٰ مسألةٌ حول نفي الرؤية، و أبحاثُها تدور حول نفس الإبحاث المطروحة هنا في المتن، ممّا يدلّ علىٰ أنّ المسألةَ التي أشار إليها المصنّف في المتن هي هذه المسألة. و الجدير بالذكر أنّ لهذه المسألة نُسخاً مستقلّة عن أمالي المرتضى، و قد طبعت مستقلّةً في ضمن مسائل المرتضىٰ ، ص 111، و هو يقوّي احتمال أن تكون هذه المسألة مسألة مستقلّة في البداية، ثمّ أُلحقت بعد ذلك بالأمالي.

فيَستَغني عن الشرطِ؛ لأنّه لا يَتَناولُ إلّاالممدوحَ . و لهذه العِلّةِ وجبَ في الشرطِ المُراعىٰ في النفيِ أن يَكونَ أيضاً إثباتاً، (132) أو جارياً مَجرَى الإثباتِ . و مَن تأمَّلَ ما وَقَعَ التمَدُّحُ فيه بالنفيِ و الإثباتِ ، عَلِمَ أنّ الأمرَ فيه علىٰ ما ذَكَرنا.

بيان عدم الفرق بين نفي إدراك الأبصار أو المبصرين في محلّ بحثنا

فإن قيلَ : ظاهرُ الآيةِ إنّما يَقتَضي نَفيَ إدراكِ الأبصارِ عنه، و هذا ممّا لا يُخالِفُ فيه أحَدٌ، و إنّما الخِلافُ في إدراكِ المُبصِرينَ الذين لَم تَتناوَلْهم(1) الآيةُ .

قُلنا: لَيسَ يَخلو ذِكرُ الأبصارِ أو المُبصِرينَ (2)، فإن أُريدَت(3) به الرؤيةُ دونَ حاسّتِها، فذلكَ باطلٌ بما دَلَّلنا به مِن قَبلُ علىٰ أنّ الرؤيةَ لَيسَت بمعنىً (4).

و إن أُريدَت الحاسّةُ ، بَطَلَ أن تَكونَ الآيةُ موجِبةً لِمَدحِه تَعالىٰ ؛ لأنّ الحاسّةَ كما يَستَحيلُ أن تَرىٰ (5) هي القَديمَ تَعالىٰ ، فكذلكَ (6) يَستَحيلُ أن تَرىٰ غَيرَه مِن جَميعِ الموجوداتِ ، فلا اختصاصَ هاهُنا لِلقَديمِ تَعالىٰ بما لَيسَ لغَيرِه.

و لَيسَ لأحَدٍ أن يُراعيَ في ذلكَ كَونَه رائياً، و يَشتَرِطَ النَّفيَ به؛ لأنّ كُلَّ سَليمٍ مِنَ الأحياءِ يُشارِكُ في ذلكَ ؛ مِن حَيثُ كانَ البَصَرُ لا يَراه علَى الحقيقةِ ، و إن كانَ هو رائياً له.

علىٰ أنّ مَن تَلبَّسَ أدنىٰ تَلبُّسٍ (7) بالعربيّةِ ، لا يَعتَرِضُ بمِثلِ هذا الاعتراضِ ؛ لأنّهم

ص: 446


1- . في الأصل: «لم يتناولهم».
2- . في الأصل: «المبصرون».
3- . في الأصل: «أُريد» و هكذا قوله بعد ذلك: «و إن أُريدت الحاسّة»، فهو في الأصل «أُريد».
4- . تقدّم في ص 407.
5- . في الأصل: «يرى»، و هكذا في نظيره القادم.
6- . في الأصل: «و كذلك» بالواو.
7- . في الأصل: «لبس أدنى ليس».

لا يُفرِّقونَ - إذا أرادوا النفيَ - بَينَ أن يُعلِّقوه بالآلةِ أو بذي الآلةِ ، و لهذا يَقولونَ : «يَدُ فلانٍ لا تَبطِشُ »، و «رِجلُه لا تَسعىٰ »، و «عَينُه لا تُبصِرُ»، و إنّما يُريدونَ أنّه في نَفسِه لا يَبطِشُ و لا يَسعىٰ و لا يُبصِرُ، فالمعنىٰ واحدٌ، و إن كانَ اللفظُ الأوّلُ الذي يُعلَّقُ

النفيُ فيه بالآلةِ (1) أفصَحَ و أبلَغَ .

بيان دلالة الآية علىٰ نفي الإدراك عن بعض المدرِكين

فإن قيلَ : مِن أينَ لكم عُمومُ الآيةِ علىٰ وَجهٍ يَتضمَّنُ نفيَ إدراكِ البَعضِ (2)، كما يَتضمَّنُ نفيَ إدراكِ الكُلِّ . [و] ظاهرُ الآية إنّما يَقتَضي أنّ جميعَ المُبصِرينَ أيضاً(3)لا يُدرِكونَه - و هذا ممّا لا خِلافَ فيه - فما الذي يَدُلُّ مِنها علىٰ أنّ بعضَ المُبصِرينَ أيضاً لا يُدرِكونَه ؟(4)

قُلنا: قد أُجيبَ عن هذا السؤالِ بأنّ نَفيَ إدراكِ الكُلِّ يُقتَضي نَفيَ إدراكِ البَعضِ ، كما أنّ الإثباتَ يَقتَضي ذلكَ .

و لَيسَ هذا بمَرضيٍّ (5)؛ لأنّ الإثباتَ في هذا البابِ يُخالِفُ النفيَ ؛ لأنّ القائلَ إذا قالَ : «لا أُكَلِّمُ جميعَ الأحداثِ (6)» و «لا آكُلُ جميعَ هذا الطعامِ » مَتىٰ كَلَّمَ بعضَهم

ص: 447


1- . في الأصل: «بالآية».
2- . و هم المؤمنون الذين يدّعي المخالف أنّهم يرونه تعالىٰ يوم القيامة. راجع: المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 149.
3- . كذا في الأصل، و الظاهر زيادة «أيضاً».
4- . يوجد في الأصل بعد ذلك تكرار لعين العبارة السابقة.
5- . في الأصل: + «لأنّ الإثبات يقتضي ذلك، و ليس هذا بمرضيّ »، و هو مكرّر لا داعيَ له، نشأمن سهو قلم الناسخ.
6- . في الأصل: «الحَدَث»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة كلمة «جميع»، إلّاأن يراد ب «الحَدَث» الجنس، أي جنس ما حَدَثَ .

و أكَلَ بعضَ الطعامِ ، لا يَكونُ كاذباً. و في الإثباتِ ، إذا قالَ : «أنا آكُلُ جميعَ الطعامِ » و «أُكَلِّمُ جميعَ الناسِ » متىٰ أَخَلَّ (1) بالبعضِ يَكونُ كاذِباً.

و الجَوابُ عن ذلكَ : هو أنّا قد بيّنّا(2) أنّه تَعالىٰ لَم يَتمدَّحْ في الآيةِ بانتفاءِ فِعلٍ أو إثباتِ فِعلٍ ، و إنّما تَمدَّحَ بما يَرجِعُ إلىٰ ذاتِه، و هذا القَدرُ كافٍ في إسقاطِ هذا السؤالِ ؛ لأنّ تَمدُّحَه إذا كانَ راجعاً إلىٰ ما يَختَصُّ في ذاتِه، كانَ انتفاءُ إدراكِ البعضِ كانتفاءِ إدراكِ الكُلِّ .

و إنّما يَصِحُّ معنَى السُّؤالِ لَو كانَ الإدراكُ معنىً ، ثُمّ كانَ ممّا يَصِحُّ انتِفاؤه عَن بعضِ المُدرِكينَ دونَ بَعضهِم و حالُهم واحدةٌ ، و إذا كُنّا قد دَلَّلنا علىٰ فَسادِ كُلِّ ذلكَ (3)، فلا شُبهةَ في السؤالِ .

***

2 فَصلٌ في أنّه غَيرُ مَرئيٍّ في نَفسِه
اشارة

إن سألَ سائلٌ فقالَ : لَيسَ فيما تَقدَّمَ مِن كلامِكُم أكثَرُ مِن أنّه تَعالىٰ لا يُدرَكُ بالأبصارِ؛ فمِن أينَ أنّه لَيسَ بمُدرَكٍ في نفسِه(4)؟ و لعلَّ الأبصارَ و إن لَم يُدرَكْ بها،

ص: 448


1- . في الأصل: «اختلّ »، و يقال: اختلّ الشيء، إذا تغيّر و اضطراب. و أَخلّ بالشيء، إذا قصّر فيه. راجع: المصباح المنير، ص 180 (خلل).
2- . تقدّم آنفاً في ص 444.
3- . تقدّم إبطال أن يكون الإدراك معنىٰ في ص 227 و ما بعدها.
4- . في الأصل: + «يصحّ »، و هو زائد.

فإنّه يُدرِكُ نفسَه.(1)

قيلَ له: لَو كانَ تَعالىٰ مرئيّاً في نفسِه، لَصَحَّ أن نَراهُ مَع حُصولِنا (133) علَى الصفةِ التي معها نَرَى المَرئيّاتِ (2) و زوالِ الآفاتِ و ارتفاعِ الموانعِ ؛ لأنّه لا مُنتَظَرَ بَعدَ ما ذَكَرناه في حُصولِ رؤيةِ ما يَصِحُّ رؤيتُه في نفسِه. و لو لا صحّةُ هذه الطريقةِ ، لالتَبَسَ ما يَستَحيلُ رؤيتُه بما يَصِحُّ رؤيتُه، و لَم نأمَنْ أن يَكونَ الطَّعمُ مَرئيّاً في نفسِه و إن كُنّا لا نَراهُ ، و نَرى السَّوادَ في مَحَلِّه. و كذلك كما لا نَأمَنُ أن تَكونَ المعدوماتُ مَرئيّةً في نُفوسِها، و إن كُنّا مع صحّةِ حَواسِّنا و تَكامُلِ شرائطِنا لا نَراها.

و هذا يؤَدّي إلَى التجاهُلِ .

و ممّا يُبَيِّنُ صحّةَ ما ذَكَرناه أنّ المَرئيَّ لا يَختَصُّ بصحّةِ رؤيتِه بعضُ الرائينَ دونَ بعضٍ ، بل كُلُّ ما يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً لبعضِهم، صَحَّ أن يراه الجميعُ . كما أنّ المعلومَ لا يَختَصُّ في صحّةِ العِلمِ به بعالمٍ دونَ عالمٍ ، أو حَيٍّ دونَ آخَرَ. و كذلكَ المظنونُ و المُعتَقَدُ و المرادُ و المُشتَهىٰ . و إنّما وَجَب ذلك فيما عَدَّدناه مِن المعلوماتِ و المعتَقَداتِ و غيرِها؛ مِن حَيثُ كانَ التعلُّقُ الذي يَختَصُّ بها لا يؤَثِّرُ فيها، و إنّما يَتَناوَلُها علىٰ ما هي عليه، و كذلك المَرئيُّ ؛ لأنّه لا يَحصُلُ علىٰ صفةٍ بالرائي، و إنّما تَتَناوَلُه(3) الرؤيةُ علىٰ ما هو عليه مِن غَيرِ تأثيرٍ فيه. و فارَقَ تعلُّقُ سائرِ ما ذَكَرناه لِتَعلُّقِ القادرِ بالمقدورِ؛ مِن حَيثُ حُصولِ التأثيرِ في المقدورِ، و لهذا اختَصَّ المقدورَ، و زالَ الاختصاصُ في جميعِ ما ذكرناه. فلَو جازَ إثباتُ مَرئيٍّ يَختَصُّ بصحّةِ رؤيتِه بعضُ الرائينَ دونَ بعضٍ ، لَجازَ مِثلُ ذلك في المعلومِ و جَميعِ ما عَدَّدناه.

ص: 449


1- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «يُدرَك [في] نفسِهِ ».
2- . و هي الحياة، كما تقدّم في ص 164، 406.
3- . في الأصل: «يتناوله».
نفي إمكان أن يَرىٰ تعالىٰ نفسَه، مع استحالة رؤيتنا له

فإن قيلَ : ما أَنكَرتُم أنّ كونَ الوَجهِ الذي له امتَنَعَت رؤيةُ القَديمِ علينا، حاجَتُنا في الرؤيةِ إلَى الحاسّةِ ، التي مِن شرطِها أن يَكونَ المَرئيُّ مُقابِلاً لها، أو في حُكمِ المقابِلِ ؛ و لمّا استَحالَتِ المُقابَلةُ عليه، تَعذَّرَت علينا رؤيتُه، و لَم يَمتَنِعْ مع ذلكَ أن يَرىٰ نفسَه؛ لأنّه يَستغني فيما يَراهُ عن الحواسِّ و عن شُروطِها!

قلنا: إذا ثَبَتَ أنّ رؤيَتَنا له لا تَصِحُّ (1) علىٰ كُلِّ حالٍ ، ثَبَتَ أنّه غَيرُ مَرئيٍّ في نفسِه.

كما أنّ كُلَّ شيءٍ لا يَصِحُّ أن نَعلَمَه علىٰ كُلِّ حالٍ ، يَجِبُ القطعُ علىٰ أنّه غَيرُ معلومٍ (2)في نفسِه.

و كيفَ يَصِحُّ إثباتُ مانِعٍ مِن رؤيتِه يَستَحيلُ ارتفاعُه ؟! أوَ لَيسَ هذا يَقتَضي التباسَ حالِ ما تَعذَّرَ لِمانعٍ (3) بحالِ ما تَعذَّر لاستحالةٍ؟

علىٰ أنّ هذا بعَينِه يوجِبُ الشكَّ في أنّه يَرَى المعدوماتِ ؛ لأنّه لقائلٍ أن يَقولَ :

إنّا إنّما لا نَراها لافتقارِنا إلَى الحَواسِّ ، و مِن شَرطِ ما نَراهُ أن يَكونَ موجوداً؛ لِيَصِحَّ مُقابَلَتُه، فالمُستَغني عن الحَواسِّ على هذا لا يَمتَنِعُ أن يُدرِكَ المعدوماتِ (4).

علىٰ أنّه غَيرُ مُسَلّمٍ أنّ المُقابَلةَ و ما في معناها شرطٌ في رؤيَتِنا المَرئيّاتِ ؛ لأنّ الشرطَ في إدراكِ ما يُدرَكُ بحاسّةٍ واحدةٍ ، يَجِبُ أن لا يَختَلِفَ و أن يَكونَ واحداً،(5)

ص: 450


1- . في الأصل: «لا يصحّ ».
2- . في الأصل: «غير مرئيّ ».
3- . في الأصل: «المنع».
4- . في الأصل: «المعدودات»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «يرى المعدومات».
5- . في الأصل: «واحد»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لأنّه خبر «يكون»، و الاسم الضمير المستتر الراجع إلى «ما».

فلَو جَعَلنا الشرطَ المُقابَلةَ و ما في معناها أو الاتّصالَ بالمَرئيِّ ، لَخرجَ العَرَضُ مِن أن يَكونَ مَرئيّاً. و إن جَعَلنا الشرطَ مُقابَلةَ المَحَلِّ أو الاتّصالَ بالمَحَلِّ ،

خَرَجَ الجَوهرُ مِن أن يَكونَ مَرئيّاً. فيَجِبُ أن يَكونَ الشرطُ ما لا يَختَلِفُ ، و هو حُصولُ قاعدةِ الشُّعاعِ ، بحيثُ لا ساتِرَ بَينَه و بَينَ المَرئيِّ ، و لا مكانَ يَجوزُ أن يَكونَ فيه ساترٌ.

و إنّما أوجَبنا أن يَكونَ الشرطُ لا يَختَلِفُ ؛ لأنّ الشرطَ في إدراكِ ما يُدرَكُ بكُلِّ حاسّةٍ (134) مِن باقي الحَواسِّ غَيرُ مُختَلِفٍ ؛ ألا تَرى أنّ الشرطَ في إدراكِ ما يُدرَكُ بالسمعِ واحدٌ؛ مِن حَيثُ رَجَعَ إلى طريق(1) واحدةٍ ، و حاسّةٍ واحدةٍ؟ فكذلك يَجِبُ (2) في الرؤيةِ .

و بَعدُ، فإنّ ما هو مِن تمامِ الآلةِ و كمالِها، يَجري مَجرىٰ نفسِ الآلةِ ، فإذا كانَتِ الآلةُ في إدراكِ المَرئيّاتِ واحدةً ، فكذلك(3) ما هو مِن تَمامِها يَجِبُ أن يَكونَ واحداً غَيرَ مُختَلِفٍ .

فإنِ اعتَرَضَ مُعتَرِضٌ - علىٰ ما قَدَّمناه مِن أنّ المَرئيّاتِ (4) لا يَقَعُ فيها اختصاصٌ (5) - بفَناءِ الأجسامِ ، و أنّا نُجوِّزُ(6) كَونَه تَعالىٰ رائياً له و إن استَحالَت رؤيتُه مِنّا.

فالجوابُ عنه: إنّما أوجَبنا أن يُرىٰ ما هو مَرئيٌّ في نفسِه، متىٰ كُنّا علَى الصفةِ

ص: 451


1- . الطريق يذكّر في لغة نجد، و به جاء القرآن في قوله تعالى: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً» [طه (20):77]، و يؤنّث في لغة الحجاز. المصباح المنير، ص 372 (طرق).
2- . في الأصل: «تجب».
3- . في الأصل: «و كذلك» بالواو.
4- . في الأصل: «المريات»، و هو تصحيف عمّا أثبتناه.
5- . تقدّم آنفاً في ص 449.
6- . في الأصل: «لا نجوّز».

التي معها تُرَى(1) المَرئيّاتُ ، و الفناءُ لا يَلزَمُ علىٰ هذا الكلامِ ؛ لأنّ وجودَه يُضادُّنا، و يَستَحيلُ أن يوجَدَ معه، فَضلاً عن أن يَختَصَّ بصفةِ الرائينَ . و لَو لَم يَكُن كذلكَ ، و جازَ أن يوجَدَ معه، لَرَأَيناه. و إذا لَم يَكُن بُعدُ رؤيَتِنا للفَناءِ مِن حَيثُ اختصاصِ بَعضِ الرائينَ ببعضِ المَرئيّاتِ ، بل مِنَ الوجهِ الّذي ذَكَرناه، فلا اعتراضَ علىٰ كلامِنا.

و يُمكِنُ أن يُستَدَلَّ علىٰ أنّه تَعالىٰ لا يَرىٰ نفسَه، و إن استَحالَت رؤيتُه مِنّا(2) بالإجماعِ ؛ لأنّ الأُمّةَ بَينَ مَن جَوَّزَ عليه الرؤيةَ و لَم يَخُصَّها في بابِ الصحّةِ برأيٍ دونَ غَيرِه(3)، و بَينَ مَن أحالَها عليه علىٰ كُلِّ وجهٍ . فالقَولُ بأنّه يَرىٰ نفسَه مع استحالةِ رؤيَتِنا له، يَمنَعُ مِنه الإجماعُ ، و لَيسَ بقَولٍ (4) لأحَدٍ مِن المُسلِمينَ .

و نَفيُ الرؤيةِ علىٰ وَجهٍ يوجبُ التشبيهَ ، ممّا يَصِحُّ الاستدلالُ بالسّمعِ عليه؛ لأنّ الشكَّ في جَوازِ الرؤيةِ علىٰ هذا الوَجهِ ، يُسَلِّمُ معه المُسلِمُ بأنّه تَعالىٰ عالِمٌ بقُبحِ القَبيحِ ، و بأنّه غَنيٌّ (5) عنه، و كُلُّ ما سُلِّم - مع الشكِّ - فيه العِلمُ بما ذَكَرناه، صَحَّ أن يَثبُتَ بالسمعِ . و على هذا يَجوزُ أن يَكونَ السمعُ دليلاً علىٰ نفيِ شأنٍ له تَعالىٰ في القِدَمِ .

***

ص: 452


1- . في الأصل: «يُرى».
2- . أي أن يُستدلّ علىٰ بطلان القول بأنه تعالىٰ يَرىٰ نفسه، و أنّه تستحيل رؤيته منّا، فهذا قول واحد مركّب من جزءين.
3- . كذا في الأصل، و لعلّ الصحيح: «برؤية دون غيرها».
4- . في الأصل: «يقول».
5- . في الأصل: «ما به عنى» بدل «بأنّه غنيّ »، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة ما قبله. و للمزيد راجع: الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، ص 88.
3 فَصلٌ في أنّ الإدراكَ بسائرِ الحَواسِّ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ
اشارة

[3] فَصلٌ في أنّ الإدراكَ بسائرِ(1) الحَواسِّ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ

الأصلُ في نفيِ كَونِه تَعالىٰ مُدرَكاً بسائرِ الحَواسِّ ، ما ذَكَرناه في نَفيِ الرؤيةِ عَنه تعالى(2)؛ لأنّه لَو كانَ مُدرَكاً لنا(3) في الحَواسِّ ، لَوجبَ أن نُدرِكَه مع صحّةِ حَواسِّنا، و كَونِنا علَى الصفةِ التي نُدرِكُ معها المُدرَكاتِ و ارتفاعِ المَوانِعِ ؛ لأنّ ما هو مُدرَكٌ في نفسِه لا يَقِفُ إدراكُه علىٰ أكثَرَ ممّا ذَكَرناه. و قد بَيَّنّا أنّ ادّعاءَ (4) مانعٍ غَيرِ معقولٍ يؤَدّي إلَى الجَهالاتِ (5)، و إثباتَ مانعٍ لا يَجوزُ ارتفاعُه يؤَدّي أيضاً إلىٰ ذلك، و يوجِبُ الشكَّ في أنّ الموجوداتِ كُلَّها تُدرَكُ (6) بكُلِّ الحواسِّ ، بل المعدوماتِ .

و لا يَجوزُ أن يَكونَ هو تَعالىٰ يُدرِكُ نفسَه علىٰ حَدِّ إدراكِ الصَّوتِ و غَيرِه مِنَ المُدرَكاتِ بسائرِ(7) الحَواسِّ و إن لم يَجُزْ مِنّا إدراكُه؛ لِما بيّنّاه أيضاً مِن قَبلُ في بابِ الرؤيةِ ؛ مِن أنّ الإدراكَ لا يَقَعُ فيه اختصاصٌ (8)، و أنّه لَو كانَ مُدرَكاً في نفسِه، لَصَحَّ أن يُدرِكَه غَيرُه مِنَ المُدرِكينَ ، كما وجبَ مِثلُ ذلكَ في المعلوماتِ و غَيرِها.

ص: 453


1- . في الأصل: «لسائر»، و هكذا في نظيره القادم.
2- . تقدّم في ص 404.
3- . هذه الكلمة تُقرأ في الأصل: «منّا»، و الأنسب ما أثبتناه.
4- . في الأصل: «دعا».
5- . تقدّم في ص 416.
6- . في الأصل: «يُدرَك».
7- . في الأصل: «لسائر».
8- . تقدّم في ص 449.
أقسام الحواسّ الخمس، و كيفيّة الإدراك بها، و شروط ذلك

و اعلَمْ أنّ الحَواسَّ خَمسٌ :(1) فأربَعٌ منها لا بُدَّ مِن اختصاصِها بضَربٍ مِن البِنيةِ يَزيدُ علىٰ بِنيةِ الحَياةِ ، و الحاسّةُ الأُخرى تَكفي فيها بِنيةُ الحَياةِ . فالأربَعُ : حاسّةُ السمعِ ، و الذَّوقِ ، و الشَّمِّ ، و الرؤيةِ . و الخامسةُ : كُلُّ مَحَلٍّ فيه(2) بِنيةُ حياةٍ .

ثُمّ هي(3) علىٰ ضَربَينِ :

فضَربٌ : يَختَصُّ بإدراكِ النوعِ الواحدِ دونَ ما خالَفَه، و هو حاسّةُ السمعِ و الشَّمِّ و الذَّوقِ ؛ لأنّ السمعَ يَختَصُّ الأصواتَ ، و الشَّمَّ يَختَصُّ الأراييحَ ، و الذَّوقَ يَختَصُّ الطُّعومَ .

و الضربُ الآخَرُ: يُدرَكُ به الأنواعُ المُختَلِفةُ ، كحاسّةِ الرؤيةِ ؛ لأنّه يُدرَكُ بها الجَواهرُ، و الحَرارةُ و البُرودةُ ، (135) و اللذّاتُ و الآلامُ ؛ و إنِ اختَلَفَت كيفيّةُ إدراكِ ذلكَ .

فأمّا كيفيّةُ الإدراكِ بهذه الحَواسِّ و شُروطُها: فهي في الأصلِ علىٰ ضَربَينِ :

أحَدُهما: يُدرَكُ معه المُدرَكُ مِن غَيرِ إدراكِ مَحَلِّه.

و الضربُ الآخَرُ: يُدرَكُ المُدرَكُ مع مَحَلِّه.(4)

فمثالُ الأوّلِ : إدراكُ الأصواتِ و إدراكُ الآلامِ و اللذّاتِ ؛ لأنّ الصَّوتَ عندَنا يُدرَكُ في مَحَلِّه مِن غَيرِ أن يُدرَكَ المَحَلُّ نفسُه.

ص: 454


1- . يريد هنا بيان الدليل المتقدّم آنفاً على أنّه لا يجوز إدراكه تعالىٰ بسائر الحواسّ ، و ذلك من خلال بيان تفصيليّ لأقسام الحواسّ و شروط الإدراك بها.
2- . في الأصل: + «فيه»، و هو زائد.
3- . أي الحواسّ الخمس.
4- . عبارة الأصل فيها تكرار، و هي كما يلي: «و الضرب الآخر يدرِك المدرَك مع غيره محلّه. و الضرب الآخر يدرِك المدرَك مع محلّه». و قد أثبتنا العبارة الأخيرة، و أما العبارة الأولىٰ ففيها خلل، و هو كلمة: «غيره».

و الذي يَدُلُّ علىٰ ذلكَ : أنّا نُفَرِّقُ بَينَ جهةِ الصَّوتِ التي حَدَثَ فيها مع السلامةِ ،

و لا نُفَرِّقُ بين جهةِ [المُدرَكاتِ ] كلِّها [إلّا بأن] تُدرَكَ بمباشَرةِ مَحَلِّها(1)، و انتقالِه إلىٰ حَواسِّنا - كالطُّعومِ و غَيرِها - حَتّىٰ نَعلَمَ الجهةَ التي حَدَثَ فيها، و انتَقَلَ مَحَلُّه إلينا مِنها.

و لأنّه لَو احتيجَ في إدراكِ الصَّوتِ إلَى انتقالِ مَحَلِّه، لَم يَمتَنِعْ أن يَسمَعَ الصَّوتَ بعضُ الحاضرينَ دونَ بَعضٍ ، مع اختصاصِهم بالقُربِ ، أو أن يَسمَعَه أحَدُهم علىٰ خِلافِ ما يَسمَعُهُ الآخَرُ. و كانَ يَجِبُ أن يَكونَ إدراكُهم له مُتأخِّراً عن حالِ وجودِه.

و كلُّ ذلكَ ظاهرُ الفَسادِ.

و الشرطُ في إدراكِ الصَّوتِ صحّةُ الأُذُنِ ، و ارتفاعُ السَّدِّ عنها أو ما جَرىٰ مَجراه.

فأمّا الألَمُ و اللذّةُ فيُدرَكانِ لِمَحَلِّ (2) الحَياةِ فيه، و لا يَتعلَّقُ الإدراكُ لهما بإدراكِ مَحَلِّهما، و إن كانَ في الأغلبِ قد يُعلَمُ مَحَلُّهما عند إدراكِهما(3) و يُفرَّقُ بَينَه و بَينَ غَيرِه.

و أمّا ما يُدرَكُ مع إدراكِ مَحَلِّه، فهو علىٰ ضَربَينِ :

أحَدُهما: يُدرَكُ و يُدرَكُ مَحَلُّه بحاسّةٍ واحدةٍ ؛ كالألوانِ و الحَرارةِ و البُرودةِ .

و الضربُ الثاني: يُدرَكُ الحالُّ مِن جهةٍ و المَحَلُّ مِن جهةٍ أُخرىٰ ؛ و ذلكَ نَحوُ(4) الأراييحِ و الطُّعومِ ؛ لأنّهما يُدرَكانِ بحاسّةِ الشَّمِّ و الذَّوقِ ، و يُدرَكُ مَحَلُّهما بحاسّةِ اللَّمسِ .

ص: 455


1- . في الأصل: «محلّه».
2- . في الأصل: «بمحلّ ».
3- . في الأصل: «محلّها».
4- . في الأصل: «يجوز»، و لا محصّل له في المقام.

و الشرطُ في إدراكِ الألوانِ و الحَرارةِ و الأراييحِ و الطُّعومِ : أن يَكونَ مَحَلُّ الحَياةِ بحَيثُ لا ساتِرَ بَينَه و بَينَ المُدرَكِ ، و لا مكانَ يَجوزُ أن يَكونَ فيه ساتِرٌ.

فلَو كانَ القَديمُ تَعالىٰ مُدرَكاً علىٰ بعضِ هذه الوجوهِ ، لَوجبَ أن نُدرِكَه؛ لِما ذَكَرناه مِن تَكامُلِ الشرطِ، و كَونِه علَى الصفةِ التي نُدرِكُ عليها. و هذا واضحٌ لا إشكالَ فيه.

***

4 فَصلٌ في ذِكرِ أقوىٰ ما يَتعلَّقُ به المُخالِفُ بالرؤيةِ ، و الكلامِ عليه
اشارة

اعلَمْ أنّا لَو اطَّرَحنا ذِكرَ شُبَهِهم لضَعفِها و بُعدِها، لَاقتَضانا ذلكَ أن لا نَذكُرَ شيئاً منها، لكِنّا ذَكَرنا ما هو الأمثَلُ و الأشبَهُ بالإضافةِ (1) إلىٰ غَيرِه:

[1.] فممّا(2) تَعلَّقوا به أن قالوا: لمّا كان القولُ بصحّةِ رؤيتِه لا يوجبُ تَشبيهَه بغَيرِه، و لا تَجويرَه في حُكمِه، و لا تَكذيبَه في خَبَرِه، و لا قَلبَ حقيقتِه، وجبَ أن تَكونَ الرؤيةُ جائزةً عليه، و كانَ القَطعُ علىٰ ثُبوتِها موقوفاً علَى السمعِ .

[2.] و تَعلَّقوا أيضاً: بأنّه إذا ثَبَتَ كَونُه رائياً لغَيرِه، فيَجِبُ أن يَكونَ رائياً لنفسِه؛

لأنّ أحَدَنا مَتىٰ خَرَجَ مِن صحّةِ كَونِه رائياً لغَيرِه، خَرَجَ مِن كَونِه رائياً لنفسِه. و إذا صَحَّ أحَدُ الأمرَينِ صَحَّ الآخَرُ، فوجبَ أن يَثبُتا(3) معاً لكُلِّ مَن ثَبَتَ له أحَدُهما.

ص: 456


1- . في الأصل: «بالإضافيّة».
2- . في الأصل: «فما».
3- . في الأصل بدل «يثبتا» كلمة لا تقرأ.

و أكَّدوا ذلك: بأنّه لمّا كانَ عالِماً بنفسِه، لَم يَجُز أن يَعلَمَ غَيرَه إلّاو يَعلَمَ نفسَه. و كذلكَ إذا كان رائياً لنفسِه و رأىٰ غَيرَه، وجبَ أن يَرىٰ نفسَه.

[3.] و تَعلَّقوا أيضاً: بأنّ الجسمَ و الجَوهرَ إنّما أُدرِكا مِن حَيثُ كانا قائِمَينِ بأنفُسِهما، و القَديمُ قائمٌ بنفسِه، فيَجِبُ أن يَكونَ مَرئِيّاً.

[4.] و تَعلَّقوا: بأنّ الجَوهرَ يَمتَنِعُ رؤيتُه مع العدمِ ، و يَصِحُّ مع الوجودِ، فيَجِبُ أن يَكونَ المُصَحِّحُ للرؤيةِ هو الوجودَ، و هو تَعالىٰ موجودٌ، فيَجِبُ (136) أن يَكونَ مَرئيّاً.

[5.] و تَعلَّقوا مِن طريقِ السمعِ : بقَولِه: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ * إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ »(1) قالوا: و النّظَرُ إذا عُدِّيَ ب «إلىٰ » اختَصَّ بالرؤيةِ ، و زالَ عنه الاحتمالُ .

و رُبَّما زادوا في ذلكَ بأن يكونَ مُتَعلِّقاً بالوَجهِ (2).

[6.] و تَعلَّقوا أيضاً: بقَولِه تَعالىٰ حِكايةً عن موسىٰ : «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »(3).

قالوا: و لَيسَ يَجوزُ أن يَسأَلَ مِثلُ موسىٰ رَبَّه ما يَستَحيلُ عليه. و أيضاً فلَو لَم تَكُن رؤيتُه(4) جائزةً لَما عَلَّقَها بأمرٍ جائزٍ مقدورٍ، و هو استقرارُ الجَبَلِ ، و لوجبَ أن يُعلِّقَها - لَو كانَت مُستَحيلةً - بما يَستَحيلُ .

[7.] و تَعلَّقوا: بما رَواه إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قَيسِ بنِ أبي حازمٍ ، عن جَريرٍ(5)، عن رَسولِ اللّٰهِ صلّى اللّٰه عليه و آله قالَ : «تَرَونَ رَبَّكُم كَما تَرَونَ القَمَرَ لَيلَةَ

ص: 457


1- . القيامة (75):22 و 23.
2- . كذا في الأصل، و الأنسب: «بالوجوه». و مفاد هذه الشبهة: أنّ اقتران النظر بالوجوه في الآية و تعديته ب «إلىٰ » يدلّ علىٰ الرؤية، و ذلك كما يقال: «وجهٌ ناظرٌ إلىٰ كذا»، فإنّه يدلّ على الرؤية.
3- . الأعراف (7):143.
4- . في الأصل: «رؤية».
5- . في الأصل: «حريز»، و ما أثبتناه هو المطابق لما في المصادر. راجع: السنن الكبرى للنسائيّ ، ج 4، ص 419، ح 7761؛ المعجم الكبير للطبرانيّ ، ج 2، ص 295؛ المغني، ج 4، ص 224.

البَدرِ؛ لا تضامون(1) في رؤيَتِه»(2).

الجَوابُ عن الشُّبهةِ الأُولى:

أنّ القَدرَ الذي اعتَمَدوه، لَيسَ بأن يَدُلَّ علىٰ إثباتِ الرؤيةِ بأَولىٰ مِن أن يَدُلَّ علىٰ نفيِها؛ لأنّا نَعلَمُ أنّ نفيَ الرؤيةِ عنه، [و] القولَ باستِحالتِها عليه، لا يوجِبُ شيئاً ممّا عَدَّدوه؛ مِنَ التشبيهِ و التجويرِ(3) و التكذيبِ .

و بَعدُ، فإنّ ذلكَ أيضاً يوجِبُ عليهم القولَ بأنّه عالِمٌ لِذاتِه؛ لأنّ القولَ به لا يؤَدّي إلىٰ شيءٍ ممّا ذَكَروه. و يوجِبُ أيضاً إثباتَ كُلِّ ما عَلِمنا نفيَه، ممّا لَيسَ في إثباتِه تشبيهٌ و لا تجويرٌ(4) و لا تكذيبٌ ، و هو كثيرٌ.

علىٰ أنّا لا نُسَلِّمُ ما(5) اقتَرَحوه، بل نَقولُ : إنّ في إثباتِ الرؤيةِ ما يَقتَضي التشبيهَ ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ المَرئيَّ بالأبصارِ لا بُدَّ مِن أن يَكونَ مُقابِلاً أو في حُكمِ المُقابِلِ ، و ذلك يَقتَضي كَونَه جِسماً أو عَرَضاً، و هذا هو التشبيهُ . و يَقتَضي أيضاً تَكذيبَه في خَبَرِه؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ قولَه تَعالىٰ : «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ»(6) [دالٌّ ] علىٰ نفيِ الرؤيةِ عنه.

فأمّا قَلبُ الحقيقةِ : فإنّ الرؤيةَ و إن كانَت لا تَقتَضيه، فنفيُها و الحُكمُ باستحالتِها لا يَقتَضيه [أيضاً]، فيَجِبُ نَفيُ الرؤيةِ لهذه العِلّةِ ، علىٰ ما ذَكَرناه. علىٰ أنّ الرؤيةَ و إن لَم تَقلِبْ حقيقةَ المَرئيِّ ، فإنّها تَدُلُّ علىٰ أنّها بصفةٍ مخصوصةٍ ، و لا بُدَّ

ص: 458


1- . في الأصل: «لا يصاور»، و هو خطأ، و ما أثبتناه هو المطابق لما في المصادر.
2- . صحيح البخاري، ج 1، ص 139؛ مسند أحمد، ج 4، ص 365.
3- . في الأصل: «التجويز»، و الصحيح ما أثبتناه، و قد تقدّم نظيره.
4- . في الأصل: «و لا تجويز».
5- . في الأصل: «ممّا».
6- . الأنعام (6):103.

من نفيِها عمّن تَستَحيلُ تلك الصفةُ عليه. كما أنّ كَونَ القادرِ قادراً علَى الشيءِ لا يَقلِبُ (1) حقيقتَه، لكِن يَدُلُّ علىٰ أنّه معدومٌ يَصِحُّ حُدوثُه. فما استَحالَ عليه العدمُ و الحُدوثُ لا بُدَّ مِن نَفيِ كَونِ القادرِ قادراً عليه، و إن لم يَكُن ذلكَ قالِباً لحقيقتِه(2).

و الجَوابُ عن الشُّبهة الثانية:

أنّ أحَدَنا إنّما يَرىٰ نفسَه إذا كانَ رائياً لغَيرِه؛ مِن حَيثُ كانَت نفسُه في أنّها يَصِحُّ أن تَكونَ مَرئيةً لغَيرِه؛ فإنّما يَجِبُ في كُلِّ مَن رأىٰ غَيرَه أن يَرىٰ نفسَه متىٰ كانت نفسُه يَصِحُّ أن تَكونَ مَرئيّةً . و لهذا لمّا لَم تُشارِكْ (3) نفسُه غَيرَه في صحّةِ أن تَكونَ مسموعةً ، جازَ أن يَسمَعَ أحَدُنا غَيرَه، و إن لَم يَصِحَّ أن يَسمَعَ نفسَه.

علىٰ أنّه لا فَرقَ بَينَ مَن جَعَلَ كَونَه رائياً لغَيرِه عِلّةً في كَونِه رائياً نفسَه،(4) و بَينَ مَن عَكَسَ ذلك فجَعَلَ كَونَ أحَدِنا رائياً لنفسِه هو العِلّةَ في كَونِه رائياً لغَيرِه، و هذا يَقضي بكَونِ (5) كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأمرَينِ عِلّةً لِصاحبِه(6).

علىٰ أن كَونَ (7) الرائي مِنّا رائياً، لا يَجوزُ أن يَقتَضيَ كَونَه مَرئيّاً؛ لأنّ كَونَه رائياً يَرجِعُ إلىٰ جُملتِه، و كَونَه مَرئيّاً يَرجِعُ إلىٰ كُلِّ جُزءٍ منه. و الصفةُ لا تَقتَضي أُخرىٰ

ص: 459


1- . في الأصل: «لا تقلّب»، و الصحيح ما أثبتناه؛ لرجوع ضمير الفاعل إلى «كون القادر». و كذلك الكلام في قوله: «يدلّ »، و هو في الأصل: «تدلّ ».
2- . في الأصل: «لحقيقة».
3- . في الأصل: «لم يشارك»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «كانت نفسه».
4- . كذا في الأصل، و الأولى: «لنفسه» حفظاً لوحدة السياق.
5- . في الأصل: «لكون».
6- . في الأصل: «على صاحبه».
7- . في الأصل: «يكون».

إلّا و الموصوفُ بهما واحدٌ؛ علىٰ ما دَلَّلنا عليه مِن قَبلُ .(1)

علىٰ أنّ أحَدَنا لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُحَرِّكاً لِغَيرِه، و لا يَصِحُّ أن يُحَرِّكَ نفسَه، و لَم يَلزَمْ أن يَكونَ تَعالىٰ مِن حَيثُ صَحَّ أن يُحرِّكَ غَيرَه يَصِحُّ أن يُحَرِّكَ نفسَه، و كذلك القولُ في الرؤيةِ .

و الذي ذَكَرناه يُسقِطُ حَملَه(2) الرؤيةَ علَى العِلمِ ؛ لأنّه إنّما عَلِمَ نفسَه كما عَلِمَ غَيرَه؛ لأنّه عالِمٌ لنفسِه، و ذاتُه (137) يَصِحُّ (3) أن تَكونَ معلومةً ، و لَيسَ [يَجري] ذلكَ في الرؤيةِ .

و يَلزَمُ علىٰ هذا الاعتلالِ أن يَكونَ سامِعاً ذاتَه كما كانَ سامِعاً غَيرَه.

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ :

أنّا لا نُسَلِّمُ أنّ الجَوهَرَ إنّما أُدرِكَ مِن حَيثُ كانَ قائماً بنفسِه؛ لأنّ المُستَفادَ بذلكَ استِغناؤُه عن المَحَلِّ و المكانِ . و قد يُدرِكُه ما لا يَعلَمُه كذلكَ مِن طريقِ الإدراكِ ، بل يَحتاجُ فيه إلَى الاستدلالِ . و إنّما أُدرِكَ الجَوهرُ مِن حَيثُ كانَ مُتحيِّزاً، و لهذا يَعلَمُه علىٰ هذه الصفةِ كُلُّ مَن أَدرَكَه.

علىٰ أنّ كَونَه مُستَغنياً عن المَحَلِّ و المكانِ نفيٌ ، و لا يَصِحُّ أن يَكونَ عِلّةً - في صحّةِ رؤيةِ الشيءِ - مِثلُ ذلكَ ، بل لا بُدَّ مِنِ استنادِ كَونِه مُدرَكاً إلىٰ صفةٍ يَختَصُّ بها.

و يَلزَمُ علىٰ هذا أن يَكونَ المعدومُ مَرئيّاً؛ لاستغنائه عن المَحَلِّ .

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ العِلّةَ في رؤيتِه كَونُه موجوداً، و أن لا يَفتَقِرَ إلَى المَحَلِّ و المكانِ .

ص: 460


1- . تقدّم في ص 140.
2- . في الأصل: + «على»، و هو زائد. ثمّ إنّ الأنسب بالسياق أن يقال: «حَمْلَهم».
3- . في الأصل: «تصحّ »، و الصحيح ما أثبتناه، و هو واضح.

لأنّ : ذلكَ هو ضَمُّ ما لَيسَ بعِلّةٍ إلَى العِلّةِ ؛ مِن حَيثُ عُلِمَ أنّ الوجودَ لا تأثيرَ له في رؤيةِ المَرئيّاتِ ، فلا يَجوزُ أن(1) يُضَمَّ في الاعتلالِ إلىٰ غَيرِه.

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ :

أنّ العدمَ إنّما أخرَجَ الجَوهرَ مِن كَونِه مَرئِيّاً؛ لخُروجِه عن الصفةِ التي يَتَناوَلُه الإدراكُ عليها(2)، و إنّما أُدرِكَ مع الوجودِ بثُبوتِ هذه الصفةِ (3) له عندَ الوجودِ. و لَو كانَ الوجودُ هو العِلّةَ في رؤيتِه لَرَأَينا جميعَ الموجوداتِ .

علىٰ أنّا نَعلَمُ أنّ العدمَ يُحيلُ علَى الجَوهرِ الحركةَ ، و تَصِحُّ (4) عليه عندَ الوجودِ، و لا يَجِبُ أن يَكونَ المُصَحِّحُ لِكَونِه مُتحرِّكاً هو الوجودَ. و كذلكَ القولُ في الرؤيةِ .

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ الخامسةِ :
اشارة

أنّ الآيةَ التي تَعلَّقوا بها إنّما تَتضمَّنُ (5) ذِكرَ النظرِ دونَ الرؤيةِ ، و لَيسَ النظَرُ مُحتَمِلاً للرؤيةِ ، و لا هي ممّا يُستفادُ بهذه اللَّفظةِ في اللّغةِ .

و الذي يَدلُّ علىٰ ذلكَ : جَعلُهم الرؤيةَ غايةً للنظَرِ؛ فيَقولونَ : «ما زِلتُ أنظُرُ إليه حَتّىٰ رَأَيتُه»، و يَقولُ أحَدُهم لغَيرِه و قد شاهَدَ شيئاً ادّعىٰ صاحِبُه أنّه لَم يُشارِكْه في رؤيتِه: [انظُر إليه حتّىٰ تَراه].(6)

ص: 461


1- . في الأصل: «إلى» بدل «أن».
2- . و هي صفة «التحيّز» كما تقدّم آنفاً في جواب الشبهة الثالثة.
3- . في الأصل: «الصفات».
4- . في الأصل: «يصحّ »، و ضمير الفاعل راجع إلى لفظة «الحركة».
5- . في الأصل: «يتضمّن».
6- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض، و ما أثبتناه هو غاية ما يمكن أن يدرج في المقام، و قد استفدناه من السياق.

و الشيءُ لا يَكونُ غايةً لنفسِه، فلَولا أنّ النظَرَ غيرُ الرؤيةِ لَما ساغَ هذا الكلامُ .

و دَعوىٰ مَنِ ادَّعىٰ منهم أنّ ذلكَ و إنِ استُعمِلَ فعلىٰ سَبيلِ المَجازِ، لا يُلتَفَتُ إليها؛ لأنّه تَحكُّمٌ و اقتراحٌ بغَيرِ حُجّةٍ ، و الظاهرُ مِن الاستعمالِ الحقيقةُ ، و إنّما يُنتَقَلُ

إلَى المَجازِ بالأدلّةِ .

و يَدُلُّ أيضاً علىٰ ذلكَ : قولُهم: «نَظَرتُ إلَى الهِلالِ فَلم أرَه»، و «نَظَرتُ كَذا فما رَأَيتُه»، كما يَقولونَ : «أصغَيتُ إليه فلَم أسمَعْه» و «ذُقتُه فلَم أجِدْ له طَعماً». فلَو كانَ النظَرُ هو الرؤيةَ ، لَكانَ هذا الكلامُ يَتضمَّنُ النفيَ و الإثباتَ للشيءِ الواحدِ.

و يُقوِّي أيضاً ما ذَكَرناه: أنّا نَعلَمُ بالمُشاهَدةِ كَونَ الناظرِ ناظِراً إذا كانَ مُحَدِّقاً نَحوَ الشيءِ ، و لا نَعلَمُه رائياً له إذا كانَ المَرئيُّ خَفيّاً مُلتَبِساً، و لهذا يُحتاجُ في أنّه راءٍ (1) له إلَى الرُّجوعِ إلىٰ قولِه، و لا يُحتاجُ إلىٰ ذلكَ في كَونِه ناظراً، و لهذا يَقولونَ : «رَأَيتُه يَنظُرُ إلىٰ كَذا» و لا يَقولونَ : «رَأَيتُه يَرىٰ كَذا».

و يَدُلُّ أيضاً عليه: أنّ أهلَ اللُّغةِ جَعَلوا للنظَرِ أصنافاً مِن حَيثُ عَرَّفوه، و جَرىٰ في الحُكمِ مَجرىٰ ما يُشاهِدونَه، فقالوا: «نَظَرُ غَضبانَ » و «نَظَرُ راضٍ » و «نَظَرُ شَزَرٍ(2)» و «نَظَرُ مُتعةٍ » و «نَظَرُ بِغضةٍ » و لَم نَجِدْهم صَنَّفوا للرؤيةِ أصنافاً، و لا جَعَلوها ضُروباً، فيَجِبُ أن يَكونَ المُختَلِفُ الضُّروبِ عندَهم غَيرَ ما هو شيءٌ واحدٌ. و لهذا لا يُسمَعُ مِن أحَدٍ مِنهم: «رؤيةُ مُحِبٍّ » و «رؤيةُ راضٍ »، و لا أن يُبَدِّلوا لَفظةَ «النظَرِ» في المواضِعِ التي ذَكَرناها (138) بلَفظِ الرؤيةِ . فدَلَّ علىٰ أنّ الفائدةَ فيهما مختلفةٌ .

و «النظَرُ» عندَنا هو تَقليبُ الحَدَقةِ الصحيحةِ نَحوَ المَرئيِّ أو مكانِه طالباً لرؤيتِه،

ص: 462


1- . في الأصل: «رأى».
2- . في الأصل: «شَرَر»، و الأنسب ما أثبتناه. يقال: «نظر إليه شَزْراً»، و هو نظر الغضبان بمؤخّرالعين. لسان العرب، ج 4، ص 404 (شزر).

و هذه الفائدةُ لا تَصِحُّ فيه تَعالىٰ ، فيَنبَغي أن تُنفىٰ (1) عن الآيةِ فائدةُ النظَرِ المُختَصّةِ بالغَيرِ، و يُحمَلَ ذلكَ علىٰ ما يَصِحُّ ؛ مِنَ «الانتظارِ» أو غَيرِه.

علىٰ أنّا لَو سَلَّمنا لهم أنّ النظَرَ يُفيدُ الرؤيةَ ، و أنّها إحدىٰ فوائدِه، لم يَسلَمِ استدلالُهم أيضاً بالآيةِ ؛ لأنّ لفظةَ (2) «النظَرِ» لها فوائِدُ كثيرةٌ ؛ مِن:

«الذِّكرِ» و «الاعتبارِ»، و «التعَطُّفِ »، و «الانتظارِ»؛ فما المُنكَرُ مِن أن يُريدَ بها في الآيةِ «الانتظارَ».

تأويل «النظر» الوارد في الآية: ب «الانتظار»
اشارة

و لا شُبهةَ في أنّ «الانتظارَ» ممّا يُفادُ بهذه اللفظةِ ؛ قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنٰاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ »(3) . و يَقولُ القائلُ : «إنّما أنظُرُ إلَى اللّٰهِ و إليكَ » و لا يريدُ إلّا «الانتظارَ». و قالَ الشاعِرُ(4):

إنّي إليكِ لِما وَعَدتِ لَناظِرٌ *** نَظَرَ الفقيرِ إلَى الغَنيِّ المُوسِرِ(5)

و قالَ آخَرُ:

كُلُّ الخَلائقِ يَنظُرونَ سِجالَهُ *** نَظَرَ الحَجيجِ إلىٰ طُلوعِ هِلالِ (6)

و احتمالُ لفظةِ «النظَرِ» للانتظارِ، أوضَحُ مِن أن يُستَشهَدَ عليه و أظهَرُ.

ص: 463


1- . في الأصل: «يُنفى»، و المناسب ما أثبتناه؛ لتأنيث الفاعل، و هو «الفائدة».
2- . في الأصل: «لفظ»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «لها».
3- . النمل (27):35.
4- . و هو جميل بُثَينة، الشاعر العاشق.
5- . ديوان جميل بثينة، ص 103 و قد جاء البيت في الديوان مع اختلاف طفيف، و ذلك كما يلي: إنّي اليكِ بما وعدتِ لناظرٌ نظرَ الفقيرِ إلى الغنيِّ المُكثِرِ
6- . لم نقف على قائله في المصادر المتاحة بأيدينا. و المراد ب «ينظرون سجاله» أي: ينتظرون عطاياه. شرح المواقف، ج 8، ص 132.

و كُلُّ ما استُشهِدَ بأنّه ممّا عُدّيَ النظَرُ فيه ب «إلىٰ » [لَم] يُرَدْ(1) به الرؤيةُ ، و يَسقُطُ تَعلُّقُهم(2) بالتعديةِ .

فأمّا ضَمُّهم إلىٰ ذلكَ (3) ذِكرَ الوجوهِ : فأوّلُ ما نَقولُ لهم فيه: مِن أينَ لكم أنّ «النظَرَ» إذا قُرِنَ بالوجهِ ، و عُدّيَ ب «إلىٰ »، لَم يَحتَمِل إلّاالرؤيةَ؟ و ما الشاهِدُ علىٰ ذلك ؟ فلَيسَ هذا ممّا يُقبَلُ فيه مَحضُ الاقتراحِ . و مَتىٰ طَلَبوا علىٰ ذلكَ شاهداً معروفاً عَجَزوا عنه.

فأمّا استشهادُ بعضِهم علىٰ هذه الدَّعوىٰ بأنّهم يَقولونَ : «انظُرْ إليَّ بوَجهِكَ »، فخَلْفٌ مِن الكلامِ غَيرُ مُستَعمَلٍ و لا معروفٍ ، و إنّما المعروفُ : «أقبِلْ عَليَّ بوَجهِكَ » و «انظُرْ إليَّ بعَينِكَ » مِن حَيثُ كانَتِ العَينُ آلةً في الرؤيةِ .

علىٰ أنّ هذا لَو كانَ معروفاً، لَم يَكُن نَظيراً للآيةِ ؛ لأنّ «النظَرَ» في قولِهم: «انظُرْ إليَّ بوَجهِكَ » لَو صَحَّ ، مُعَلَّقٌ بالوَجهِ علىٰ حَدٍّ يَقتَضي كَونَه آلةً فيه، و الوَجهُ لَيسَ يَكونُ كالآلةِ إلّافي النظَرِ الذي هو الرؤيةُ . و الآيةُ أُضيفَ النظَرُ فيها إلَى الوجوهِ إضافةً لا يَقتَضي(4) كَونَها آلةً ، فجازَ أن يُحمَلَ على الانتظارِ؛ لأنّه لا مانعَ مِن ذلكَ كما مُنِعَ فيما أورَدوه.

نفي المعنى الظاهري للفظة «وجوه» الواردة في الآية

و لَيسَ لأحَدٍ أن يقولَ : كيف يَصِحُّ أن تَكونَ (5) الوجوهُ مُنتَظِرةً؟

ص: 464


1- . في الأصل: «و لم يرد».
2- . يعني أصحاب الشبهة الخامسة.
3- . أي إلىٰ تعدية النظر ب «إلىٰ ».
4- . كذا في الأصل، و الأولى: «لا تقتضي»؛ لرجوع الضمير المستتر إلى لفظة «الإضافة».
5- . في الأصل: «يكون». و هكذا الكلام في قوله: «أن تكون رائية»، و هو في الأصل: «أن يكون رائية».

لأنّها كما لا تَكونُ مُنتَظِرةً ، كذلكَ لا يَصِحُّ أن تَكونَ رائيةً علَى الحقيقةِ ، فما لقائلِ ذلك إلّامِثلُ ما عليه. و هذا هو الذي يَدُلُّ علىٰ أنّ المُرادَ بالوجوهِ غَيرُ الجَوارِحِ . و قد استَقصَينا هذا الكلامَ في مسألةٍ كُنّا أملَيناها قَديماً، نَقَضنا بها كلامَ بعضِ مَن نَظَرَ طريقةَ الأشعَريِّ في هذه الآيةِ .(1)

علىٰ أنّ في أصحابِنا مَن أنشَدَ أبياتاً(2) تَتضمَّنُ تَعليقَ النظَرِ بالوجوهِ مع التعديةِ ب «إلىٰ »، و المرادُ بها الانتظارُ؛ فمِن ذلكَ قولُ الشاعرِ:

و يوماً بذِي قارٍ رأيتُ وجوهَهم *** إلَى المَوتِ مِن وَقْعِ السُّيوفِ نَواظِرا(3)

و قَولُ الآخَرِ:

وجوهٌ يَومَ بدرٍ ناظِراتٌ *** إلى الرَّحمٰنِ يأتي بالفَلاحِ (4)

بيان الفرق بين مدلول تعليق الإدراك بالبصر، و مدلول تعليق النظر بالوجه

فإن قيلَ : كما أنّ تعليقَ الإدراكِ بالبَصَرِ يَقتَضي أن يَكونَ [مُفيداً] الرؤيةَ دونَ سائرِ ما تَحتَمِلُه هذه اللفظةُ ، فكذلك(5) النظَرُ إذا عُلِّقَ بالوَجهِ ، يَجِبُ أن يَكونَ مُفيداً للرؤيةِ .

ص: 465


1- . للمصنّف مسألة مختصرة منقولة في نهاية المجلس الثالث من أماليه، ناقش فيها الاستدلال بالآية على الرؤية، لعلّها تكون نفس المسألة المشار إليها في المتن. و الجدير بالذكر أنّ المسألة المنقولة في أمالي المرتضىٰ لها نسخ مستقلّة عن الأمالي، و قد طبعت بصورة مستقلّة في ضمن مسائل المرتضىٰ ، ص 115، فيظهر أنّها كانت مسألة مستقلّة ثمّ ألحقت بالأماليّ . و لو كانت المسألة المشار إليها في المتن هي هذه المسألة فسوف يكون ذلك شاهداً مهمّاً على استقلالها عن الأمالي، و قد تقدّم نظير هذه المسألة في ص 445 من هذا الكتاب.
2- . في الأصل بدل «أنشد أبياتاً» كلمتان لا يمكن قراءتهما علىٰ وجه الدقّة، لكنّهما قريبتان ممّاأثبتناه.
3- . لم نعثر على قائله في المصادر المتاحة بأيدينا.
4- . نسبه العلّامة الحلّي إلىٰ حسّان بن ثابت. أنوار الملكوت، ص 85.
5- . في الأصل: «و كذلك» بالواو، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «كما أنّ تعليق الإدراك».

قُلنا: الفَرقُ بَينَ الأمرَين أنّ الإدراكَ إنّما وجبَ فيه، متىٰ عُلِّقَ بالبَصَرِ، أن يَكونَ محمولاً علَى الرؤيةِ ؛ مِن حَيثُ عُلِّقَ بما يَختَصُّ بكَونِه آلةً في الرؤيةِ دونَ غَيرِها، و لَيسَ كذلكَ الآيةُ ؛ لأنّ النظَرَ لَم يُعَلَّقْ فيها بما يَختَصُّ بكَونِه آلةً في الرؤيةِ ؛ مِن حَيثُ لَم يَكُنِ الوَجهُ آلةً في الرؤيةِ ، و لَيسَ مِن حَيثُ كانَت(1) العَينُ - و هي آلةُ الرؤيةِ - في الوجهِ تَلحَقُه هذه التسميةُ ، (139) كما لَم يَجِبْ أن يَكونَ آلةً في الشَّمِّ لِكَونِ آلةِ الشَّمِّ فيه.

و لأنّ «الوجوهَ » المذكورةَ فيها لَم يُرَدْ بها الجَوارِحُ ، و إنّما كُنّيَ بها عن الجُمَلِ (2).

و لأنّا لمّا ادَّعَينا ذلكَ في الإدراكِ استَشهَدنا عليه بالمُتَعارَفِ في الخِطابِ ، و لَيسَ في شيءٍ مِن الخِطابِ تعليقُ النظَرِ علَى الوجوهِ .

ثُمّ يُقالُ لهم: أَ يَجِبُ حَملُ النظَرِ المقرونِ بذِكرِ الوجوهِ علَى الرؤيةِ ، مَتىٰ أُريدَ بالوجوهِ الجَوارحُ ، أو إذا أُريدَ بذلكَ ذَوو الوجوهِ (3)؟

فإن قالوا: علَى الوَجهَينِ يَجِبُ أن يُحمَلَ علَى الرؤيةِ كما يروا(4)، و بَطَلَ استشهادُهُم بقَولِ القائلِ : «انظُرْ إليَّ بوَجهِكَ »، و بما نَقولُه في الإدراكِ إذا عُلِّقَ بالبَصَرِ؛ لأنّ كُلَّ ذلك إنّما هو في الوجوهِ التي هي الجَوارِحُ .

فإن قالوا: يَجِبُ حَملُ ذلكَ علَى الرؤيةِ متىٰ أُريدَ بالوجوهِ الجَوارِحُ .

قُلنا لهم: فدُلّوا علىٰ أنّ المُرادَ بالوجوهِ في الآيةِ الجَوارِحُ ؛ فإنّا لا نُسَلِّمُ ذلكَ

ص: 466


1- . في الأصل: «كان».
2- . في الأصل: «الحمل». و المقصود ب «الجُمَل» جملة الإنسان، أي أنّ الوجوه لا يراد بها هناالعضو المخصوص، و إنّما يراد بها ذات الإنسان و هي المعبّر عنها ب «الجملة». راجع: المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 203.
3- . في الأصل: «الوجوب». و المراد بذوي الوجوه، الذوات أو الجُمَل المشار إليها آنفاً.
4- . كذا في الأصل، و لعلّ في العبارة بعد ذلك سقطاً.

لهم، و نَقولُ : إنّ المرادَ بها ذَوو الوجوهِ ، و بهذا جَرَت عادةُ العَرَبِ ؛ لأنّهم يَقولونَ : هذا «وَجهُ الرأيِ »(1) و «وَجهُ الأمرِ». و قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ (26(1)

إِلاّٰ وَجْهَهُ »(2) ، «وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ »(3) ، و قالَ تَعالىٰ :

«وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ »(4) ، و قَولُه تَعالىٰ : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ * لِسَعْيِهٰا رٰاضِيَةٌ »(5) . و لا شُبهةَ في أنّ المُرادَ بكُلِّ ذلك الذَّواتُ دونَ غيرِها.

و قد قيل: إنّه إنّما جازَ أن يُعبَّرَ عن الجُملةِ بالوَجهِ ؛ مِن حَيثُ كانَ التمييزُ يَقَعُ بَينَ الجُمَلِ بالوجوهِ ، و المعرفةُ بها تَتعلَّقُ (6)، فأُجرِيَت مَجراها.

بيان وجه وصف الوجوه بالنضارة في الآية

فإن قيلَ : كيفَ يَكونُ المُرادُ بالوجوهِ في الآية الجُمَلَ ، و قد وَصَفَها بصفةٍ لا تَليقُ إلّا بالأعضاءِ ، و هي النَّضارةُ؟

قُلنا: مِن شأنِ العربِ أن تَبنيَ الكلامَ تارةً علىٰ ألفاظِه، و أُخرىٰ علىٰ مَعانيه؛ و البناءُ علَى الألفاظِ أحسَنُ . و إذا كانَ تَعالىٰ قد كَنّىٰ عن الجُمَلِ بلفظِ الوجوهِ ، أجرَى(7) الوصفَ علَى اللفظِ، و النَّضارةُ مِن صفةِ الوجوهِ . كما قالَ تَعالىٰ : «وَ سْئَلِ

ص: 467


1- . في الأصل: «الرائي»، و الصحيح ما أثبتناه. راجع: المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 204؛ المنقذمن التقليد، ج 1، ص 108. ثمّ إنّ المقصود ب «وجه الرأي» هو «نفس الرأي».
2- . القصص (28):88.
3- . الرحمن (55):27. و في الأصل: + «وجوه»، و هو زائد.
4- . القيامة (75):24-25.
5- . الغاشية (88):8-9.
6- . في الأصل: «يتعلّق»، و الصحيح ما أثبتناه؛ و قوله: «فاُجريت» قرينة عليه.
7- . في الأصل: «اُخرى في»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «فأجرى الوصف على اللفظ».

اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّٰا فِيهٰا»(1) ، و إنّما أراد أهلَها و لَم يَقُلْ : فيهم(2). و كذلكَ قولُه تَعالىٰ : «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا» ، فأجرَى الوَصفَ علَى اللفظِ، ثُمّ قالَ : «أَوْ هُمْ قٰائِلُونَ »(3). ما بين المعقوفين أضفناه من المصحف الشريف لمقتضىٰ السياق.(4) فعادَ إلَى المعنىٰ .

علىٰ أنّ البَسارةَ (5) أيضاً مِن صفاتِ الوجوهِ التي هي الجَوارحُ ، و كذلكَ النَّعمةُ ، و لَم يَقتَضِ ذلكَ (6) حَملَ قولِه تَعالىٰ : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ »(7) ، و قولِه: «[وُجُوهٌ ](7)يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ »(8) علَى الجَوارحِ التي تَليقُ بها هذه الصفاتُ (9).

علىٰ أنّه لا بُدَّ مِن حَملِ ذِكرِ الوجوهِ في الآيةِ [علىٰ أنّ ] المُرادَ به الجُمَلُ دونَ الجَوارحِ علىٰ كُلِّ حالٍ ؛ لأنّ الجَوارحَ لا يَصِحُّ (10) أن تَكونَ ناظرةً بمعنىٰ رائيةٍ ، و لا بمعنىٰ مُنتَظِرَةٍ ، و لا يَصِحُّ إضافةُ شيءٍ مِن فوائدِ هذه اللفظةِ إليها علَى الحقيقةِ .

عدم التلازم بين اتّحاد معنى اللفظين و بين اتّحاد تصرّفهما

فإن قالوا: لَو كانَ النظَرُ يَحتَمِلُ الانتظارَ، لَصَحَّ أن يُقالَ : «أنا مُنتَظِرٌ إلىٰ فُلانٍ »، كما يُقالُ : «أنا ناظِرٌ إليه»؛ لأنّ معناهما إذا كانَ واحداً،(11) فيَنبَغي أن لا يَختَلِفَ تَصرُّفُهما.

ص: 468


1- . يوسف (12):82.
2- . في الأصل: «فيها».
3- . الاعراف
4- :4.
5- . في الأصل: «البشارة». و الصحيح ما أثبتناه. راجع: المغني، ج 4، ص 204.
6- . في الأصل: + «في»، و هي زائدة.
7- . القيامة (75):24.
8- . الغاشية (88):8.
9- . و إنّما تُحمل على الذوات كما تقدّم قبل قليل.
10- . في الأصل: «لا تصحّ ».
11- . في الأصل: «واحد».

قيلَ لهم: لَو مَنَعَ هذا مِن أن يَكونَ النظَرُ يَحتَمِلُ الانتظارَ، لَمَنَعَ مِن احتمالِه

للرؤيةِ ، لأنّ الرؤيةَ لا تُعدّىٰ ب «إلىٰ » كما يُعَدَّى النظَرُ؛ ألا تَرىٰ أنّهم لا يَقولونَ :

«رَأَيتُ [إلى](1) فُلانٍ » كما يَقولونَ : «نَظَرتُ إليه»؟

علىٰ أنّ ما هو معروفٌ ضَرورةً مِن اللُّغةِ ، لا يَقدَحُ (2) فيه الاستنباطُ و الاستخراجُ ، و أنّ [كونَ ] النظَرِ يَحتَمِلُ الانتظارَ، و يُعَبَّرُ به عنه، أظهَرُ(3) مِن أن يَبطُلَ بمِثلِ هذا الكلامِ .

علىٰ أنّ اللفظتَينِ و إنِ اتَّفَقَتا في المعنىٰ و الفائدةِ ، فغَيرُ مُنكَرٍ أن يَختَلِفَ تَصرُّفُهما، و لهذا نَظائرُ كثيرةٌ في اللُّغةِ ، و منه قولُهم: «فُلانٌ يُحِبُّ فُلاناً» معناه أنّه يُريدُ مَنافِعَه؛ لأنّ المَحَبّةَ هي الإرادةُ ، و لا يَسوغُ (140) أن يُبْدَلَ (4) - علىٰ هذا الوجهِ - لفظُ المحبّةِ بلفظِ الإرادةِ ، حتّىٰ يَقولَ : «فُلانٌ يُريدُ فُلاناً»، فصارَ في إحدَى اللفظَتَينِ مِن التعارُفِ ما لَيسَ في الأُخرىٰ ، و إن كانَ معناهما واحِداً.

و قد رُويَ هذا الوَجهُ (5) في الآيةِ ، عن جماعةٍ مِن الصَّحابةِ و التابعينَ مِن غيرِ طريقٍ (6).

جواز التأويل مع اقتضاء الضرورة

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: متىٰ حَمَلناها علَى الانتظارِ، احتَجنا أن نُقَدِّرَ محذوفاً؛

ص: 469


1- . ما بين المعقوفين أضفناه لمقتضى السياق، و قوله: «نظرت إليه» قرينة عليه. راجع: المغني، ج 4، ص 208.
2- . قوله: «لا يقدح» صفة ل «ما».
3- . قوله: «أظهر» خبر «أنّ » في قوله: «على أنّ ما هو معروف».
4- . هكذا تقرأ هذه الكلمة في الأصل، و يمكن أن تقرأ: «يَدلّ ».
5- . في الأصل: + «عن جماعة عن جماعة من غير طريق»، و هو زائد.
6- . روي تفسير النظر بالانتظار عن أميرالمؤمنين عليه السلام و سعيد بن جُبَير و مجاهد و الحسن و الضحّاك (مجمع البيان، ج 10، ص 199)، و عِكْرِمة. (فتح القدير، ج 5 ص 338).

لأنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ مُنتَظَراً في نفسِه، و إنّما مُنتَظَرٌ ثَوابُه و عَطاؤه. و إذا حَمَلناها علَى الرؤيةِ ، لَم نَحتَجْ إلىٰ تقديرِ محذوفٍ ، فتأويلُكم يَقتَضي كَونَ الآيةِ مَجازاً، و تأويلُنا لا يَقتَضي ذلكَ .

و الجوابُ عنه: أنّ العُدولَ عن ظاهرِ الكلامِ واجبٌ إذا اقتَضَى الدليلُ ذلك، و لمّا كانَ تَعالىٰ في نفسِه لا يَصِحُّ أن يَكونَ مَرئيّاً و لا مُنتَظَراً، وجبَ أن نُقَدِّرَ ما يَصِحُّ ذلكَ فيه، و ما عَدَلنا كُلُّنا(1) عن ظاهرِه مِن القُرآنِ أكثَرُ مِن أن يُحصىٰ .

علىٰ أنّا لا نُسَلِّمُ أنّ ذلكَ مَجازٌ؛ لأنّ تَعارُفَ الخِطابِ في هذه اللفظةِ و استعمالَها في الغالِبِ مع الحَذفِ يَجعَلُ المَفهومَ منها هو الحقيقةَ ؛ لأنّهم يَقولونَ : «انتَظَرتُ زَيداً»، و «أنا مُنتَظِرٌ فُلاناً» فيَستَعمِلونَ لفظَ الانتظارِ مع حَذفِ ما يَتعلَّقُ بِه علَى الحقيقةِ مِن الأفعالِ ؛ لأنّ الانتظارَ لا يَصِحُّ علىٰ ذاتِ زيدٍ، و إنّما يَصِحُّ علىٰ أفعالِه. و جَرىٰ مَجرىٰ لفظِ المِلكِ في قولِهم: «فُلانٌ يَملِكُ (2) دارَه و عَبدَه»، في أنّه و إن تَعلَّقَ بمحذوفٍ (3) فهو الحقيقةُ بالعُرفِ ، و هذا الاستعمالُ مَع الحَذفِ أظهَرُ و أشهَرُ مِن قولِهم: «يَملِكُ التصرُّفَ في دارِه و عَبدِه».

في بيان التأويل الثاني للآية
اشارة

و قد رُويَ عن أميرِ المؤمِنينَ عليه السلام(4) و عن جَماعةٍ مِن الصَّحابةِ (5) و التابعينَ ، كابنِ عبّاسٍ و مُجاهِدٍ، في هذه الآيةِ وجهٌ آخَرُ؛ و هو أن يَكونَ المُرادُ

ص: 470


1- . تُقرأ هذه الكلمة في الأصل بصورة: «كلتا»، و ربّما بصورة: «كلمتا» كما يمكن قراءتها بما أثبتناه، و هو أنسب بالسياق.
2- . في الأصل: «ملك».
3- . في الأصل: «محذوف».
4- . تفسير السمعاني، ج 6، ص 108؛ مجمع البيان، ج 10، ص 198؛ شرح المقاصد، ج 2، ص 116.
5- . في الأصل: «أصحابه».

أنّها ناظرةٌ إلى ثَوابِ رَبِّها؛ لأنّ الثَّوابَ ممّا يَصِحُّ (1) عليه الرؤيةُ ، فحُذِفَ ذِكرُ الثوابِ كما حُذِفَ في قولِه تَعالىٰ : «وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ اَلْغَفّٰارِ»(2) و قولِه: «وَ جٰاءَ رَبُّكَ »(3) و ما أشبَهَ ذلكَ .

و ليسَ يَمتَنِعُ أن يُريدَ تَعالىٰ بالآيةِ الوَجهَينِ معاً، فيُريدَ أنَّها تَنتَظِرُ(4) ثَوابَه، و تَنظُرُ إليه و تُعايِنُه مُستَبشِرةً به.

بيان جواز اجتماع الانتظار مع السرور و النعمة

فإن قالوا: فكيفَ يوصَفُ أهلُ الجَنّةِ بالانتظارِ، و المُنتَظِرُ(5) لا يَكونُ مُنَعَّماً(6)خالصاً، بل لا بُدَّ أن يَكونَ مغموماً مُنتَقَصاً؟

قُلنا لهم: إنّما يَلحَقُ الغَمُّ و التنقيصُ المُنتَظِرَ مَتىٰ كانَ ما يَنتَظِرُه يَحتاجُ إليه في الحالِ ، و تَلحَقُه بفَقدِه(7) مَضَرّةٌ ، و هو غَيرُ قاطعٍ علَى الوصولِ إليه؛ فأمّا مَن يَنتَظِرُ شَيئاً هو غَيرُ مُحتاجٍ إليه في الحالِ ، و هو واثِقٌ بوصولِه(8) إليه عند حاجتِه، فهو غَيرُ مغمومٍ و لا مُنتَقَصٍ ، بل ذلكَ زائدٌ في سُرورِه و نَعيمِه.

ص: 471


1- . كذا في الأصل، و الأولى: «تصحّ ».
2- . غافر (40):42.
3- . الفجر (89):22.
4- . في الأصل: «منتظر»، هكذا تقرأ الكلمة، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة «أنّها». و هكذا الكلام في قوله: «تنظر»، و هو في الأصل تُقرأ: «منتظر».
5- . في الأصل: «و المنتظره»، و هو خطأ.
6- . في الأصل: «نعمة»، و قوله: «يكون مغموماً منتقصاً» قرينة عليه.
7- . في الأصل: «لقومه»، هكذا تقرأ الكلمة، و الصحيح ما أثبتناه. راجع: المغني، ج 4 (رؤية الباري)، ص 210.
8- . في الأصل: «بوصول».
بيان جواز اجتماع الانتظار مع القطع و العلم

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: إنّ مَن قَطَعَ علىٰ حُصولِ الشيءِ ، لا يوصَفُ بأنّه مُنتَظِرٌ له؛ و ذلكَ أنّ الانتظارَ هو تَوقُّعُ ما يُعلَمُ أو يُظَنُّ حُصولُه في المُستَقبَلِ ، و لا فَرقَ فيه بَينَ العِلمِ و الظنِّ . و كيفَ يَكونُ كذلكَ و قد حَمَلَ جَماعةٌ مِن الصَّحابةِ الآيةَ علىٰ الانتظارِ؟ و لَيسَ هُم ممّن يَخفىٰ عليه حقيقةُ الانتظارِ، و قد قالَ اللّٰهُ تَعالىٰ : «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّٰهُ »(1). التعبير في هذهِ السطور فيه نوع من الضعف، و قد جاءت عبارة شبيهة به في نهاية المجلس الثالث من أمالي الشريف المرتضىٰ ، و هي عبارة تامّة من حيث المعنىٰ ، و هي كما يلي: «و هاهنا وجه غريب في الآية حُكي عن بعض المتأخّرين، لا يفتفر معتمِدُه إلى العدول عن الظاهر، أو إلىٰ تقدير محذوف، و لا يحتاج إلىٰ منازعتهم في أنّ النظر يَحتمل الرؤية أو لا يَحتملها، بل يصحّ الاعتماد عليه، سواء كان النظر المذكور في الآية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين». و قد جاء في هامش الأمالي أنّ صاحب هذا الوجه الجديد هو الصاحب بن عبّاد.(2) ، و إنّما أرادَ به الانتظارَ الذي يُصاحِبُ العِلمَ لا مَحالةَ .

في بيان التأويل الثالث للآية
اشارة

و قد يُمكِنُ في الآيةِ - علىٰ تَسليمِ أنّ النظَرَ فيها هو الرؤيةُ - وَجهٌ آخَرُ لا يُفتَقَرُ فيه إلىٰ تقديرِ محذوفٍ يَتعلَّقُ بالرؤيةِ ، إذا حَمَلناه علَى الرؤيةِ ، و إن حَمَلنا النظَرَ في الآيةِ علَى الانتظارِ لَم نَحتَجْ أيضاً إلىٰ تقديرِ محذوفٍ (2)، و هو أن نَحمِلَ قولَه: «إِلىٰ رَبِّهٰا»(3) علىٰ أنّ المُرادَ به نِعمةُ رَبِّها؛ لأنّ الآلاءَ النِّعَمُ ، و في واحِدِها لُغاتٌ أربَعُ ؛ يُقالُ : «أَلْيٌ » مثل «رَمْيٌ »، و «إِلىً » مثل «مِعىً »، و «إِلْيٌ » مثل «حِسْيٌ »، [«و أُلْيٌ » مثلُ

«طُبْيٌ »](4)؛ قال أعشىٰ بَكرِ بنِ وائلٍ :

ص: 472


1- . البقرة
2- :210.
3- . القيامة (75):23.
4- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض قدر كلمة. و ما أثبتناه هو ممّا لا بدّ منه في المقام؛ لأنّ

أبيَضُ لا يَرهَبُ الهُزالَ ، و لا *** يَقطَعُ رِحْماً، و لا يَخونُ إِلَى(1)

(141) أرادَ: لا يَخونُ نِعمةَ مَن أنعَمَ عليه.

و إنّما أسقَطَ التنوينَ مِن «إِلىٰ رَبِّهٰا» للإضافةِ ، و هذا وَجهٌ قاطعٌ (2).

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَطعَنَ علىٰ هذا الوجهِ أنّه مُبتَدَعٌ لَم يَسبِقْ إليه أحَدٌ مِن المُفسِّرينَ و أهلِ التأويلِ (3).

و ذلك: أنّ ما طريقُه الاستنباطُ و الاستخراجُ ، يَجوزُ أن يَقَعَ للمتأخِّرِ فيه ما لا يَقَعُ للمتقدِّمِ . و إنْ كانَ الوجهُ جائزاً صحيحاً، لَم يَضُرَّه أن لا يُسبَقَ إليه.

علىٰ أنّه غَيرُ مُسَلَّمٍ أنّه لَم يُسْبَقْ إليه؛ لأنّ التأويلَينِ المَرويَّينِ عن الصَّحابةِ و التابعينَ جميعاً يَجوزُ أن يُطابِقا هذا التأويلَ ؛ لأنّ مَن حَمَلَ الآيةَ علىٰ أنّ المُرادَ بها انتظارُ الثوابِ ، و مَن حَمَلَ المُرادَ بها(4) علىٰ نَظَرِ الثوابِ ، لَم يُفصِحْ بأنّ لفظةَ «إلَى» في الآيةِ هي اسمٌ أو حَرفٌ ، و جائزٌ علىٰ تأويلِه أن تَكونَ (5) اسماً، و إذا كانَت اسماً فهو التأويلُ الذي ذَكَرناه أخيراً بعَينِه.

جواز حمل النظر علىٰ الرؤية تجوّزاً

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: كيفَ يَصِحُّ الجمعُ بَينَ قولِكم: «إنّ النظَرَ لا يَحتَمِلُ الرؤيةَ

ص: 473


1- . ديوان الأعشى، ص 71.
2- . بعد ذلك كلمة غير مقروءة.
3- . لأنّه كما تقدّم للصاحب بن عبّاد، و هو يعدّ من المتأخّرين في ذلك الوقت.
4- . في الأصل: «بهما».
5- . في الأصل: «يكون».

جُملةً »، و بَينَ ما رَوَيتُموه مِن تأويلِ مَن حَمَلَ الآيةَ على رؤيةِ الثوابِ ؛ أوَ لَيسَ هذا يوجِبُ أنّ النظرَ يَحتَمِلُ الرؤيةَ؟

و ذلكَ أنّ النظَرَ و إن لَم يَحتَمِلِ الرؤيةَ علىٰ سَبيلِ الحقيقةِ ، فقد يُعَبَّرُ به عنها علىٰ سَبيلِ التجَوُّزِ؛ مِن حَيثُ كانَ طريقاً إليها، و العَرَبُ قد تُعَبِّرُ بالشيءِ عمّا يُقارِبُه، و يَكونُ طريقاً إليه، فلَيسَ فيما قُلناه اختلافٌ و لا تَناقضٌ بحَمدِ اللّٰهِ .

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ :
اشارة

أنّ موسىٰ عليه السلام لَم يَسأَل الرؤيةَ لنفسِه، و لا علىٰ وَجهِ الشكِّ في جَوازِها عليه تَعالىٰ ، و إنّما سألَها لقَومِه؛ لأنّهم شَكّوا فيها و لَم يَقنَعوا ببيانِه عليه السلام، و أحَبّوا أن يَكونَ الجوابُ مِن قِبَلِ اللّٰه تَعالىٰ ، فسألَ علىٰ هذا الوجهِ لِيَرِدَ الجَوابُ فيه، فتَزولَ (1) الشُّبهةُ .

و الدليلُ علىٰ ذلكَ : قولُه تَعالىٰ : «يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَقٰالُوا أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً »(2). الأعراف (7):155.(3).

و قولُه تَعالىٰ : «وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً »(4).

و يُقوّي ذلكَ : قولُ موسىٰ لمّا أخَذَتهُم الرَّجفةُ : «أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا»(4) فلَولا أنّ السُّفَهاءَ [سألوا] في ذلكَ ما لَيسَ له و لِمَن حَضَرَ معه ممّن اختارَ، لَم يَكُن لهذا القولِ معنىً .

ص: 474


1- . في الأصل: «فيزول».
2- . النساء
3- :153.
4- . البقرة (2):55.

و إضافتُه السؤالَ إلىٰ نفسِه، بقَولِه: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »(1) - و إن كانَ السؤالُ مِن أجلِ قَومِه - غَيرُ مُنكَرٍ، كما أنّ الشافعَ (2) مِنّا في غَيرِه يَقولُ للمشفوعِ إليه: «افعَلْ بي كَذا» و «أعطِني كَذا» و إن كان السؤالُ لغَيرِه، و يَقولُ المشفوعُ (3) إليه أيضاً في جَوابِه:

«قد أجَبتُكَ و أعطَيتُك»، و هذا معروفٌ .

الفرق بين سؤال رؤيته تعالىٰ ، و سؤال أن يكون جسماً و ما شابه ذلك

فإن قيلَ : كيفَ يَسأَلُ لقومِه ما عَلِمَ استحالتَه عليه ؟ و لئن جازَ ذلكَ لِيَجُوزَنَّ أن يَسألَه أن يَكونَ جسماً، و ذا وَلَدٍ و صاحبةٍ ، متىٰ (4) شَكَّ قَومُه في ذلكَ و أرادوا أن يَكونَ الجَوابُ صادراً مِن جهتِه تَعالىٰ .

قُلنا: بَينَ الأمرَينِ فَرقٌ واضحٌ ؛ لأنّه إنّما يَصِحُّ أن يَسأَلَ لقَومِه ما إذا وَرَدَ الجَوابُ عنه، صَحَّ أن يَستَدِلُّوا به، و يَقَعَ لهم العِلمُ عندَه. و هذا يَصِحُّ في الرؤيةِ ؛ لأنّ مع الجَهلِ بأنّ الرؤيةَ لا تَجوزُ عليه، يَصِحُّ (5) معرفةُ السمعِ . و لَيسَ كذلكَ كَونُه جسماً و ما أشبَهَه؛ لأنّ مع الشكِّ في ذلكَ لا يَصِحُّ معرفةُ السمعِ ، فلا يُنتَفَعُ بالجَوابِ الواردِ مِنه، و لا يَصِحُّ الاستدلالُ به.

و قد أجَبتُ (6) عن هذا السؤالِ بأنّ ذلكَ لا يَمتَنِعُ ، إذا عُلِمَ أنّ في ورودِ الجَوابِ عنه مصلحةً في الدِّينِ ، و بَعثاً علَى الاستدلالِ و النظَرِ.

ص: 475


1- . الأعراف (7):143.
2- . في الأصل: «السامع».
3- . في الأصل: «للمشفوع».
4- . في الأصل: «و متى» بالواو، و هي زائدة.
5- . كذا في الأصل، و الأولى: «تصحّ ». و هكذا الكلام في نظيره الآتي.
6- . كذا في الأصل، و لعلّ الأولى: «اُجيب». راجع: أمالي المرتضى، ج 3، ص 218، المجلس 70.
بيان الوجه في توبة موسىٰ عليه السلام

فإن قيلَ : فإذا كانَ إنّما سألَ الرؤيةَ لقَومِه لا لنفسِه، فلِمَ تابَ [عن] ذلكَ؟ علىٰ أنّه إذا كانَ شاكّاً في جَوازِ الرؤيةِ - علىٰ ما أجابَ به بعضُ أهلِ التَّوحيدِ -؛ فإنّ (1) الشكَّ في ذلكَ لا يَقتَضي الجَهلَ به تَعالىٰ ، و لا يَمتَنِعُ أن (142) يَكونَ صغيراً(2).

قُلنا: قد ذَهَبَ قَومٌ مِمّن أجازَ الصغائرَ علَى الأنبياءِ في تَوبةِ مُوسىٰ ، إلىٰ أنّها وقعَت مِن مسألتِه لِما لَم يُؤذَنْ له فيه؛ لأنّه إذا لَم يُجَبْ إلىٰ مسألتِه فلا بُدَّ مِن أن يُنَفِّرَ

عنه ذلكَ مَن عَلِمَ هذا مِن حالِه.

و لَيسَ يَجوزُ أن يَكونَ موسىٰ شاكّاً في جوازِ الرؤيةِ عليه تَعالىٰ ؛ لأنّ مِثلَ الأنبياءِ لا يَجوزُ أن يَجهَلَ مِثلَ هذا، و لأنّ فيه غايةَ التنفيرِ.

و أمّا [مَن] لَم يُجَوِّزْ(3) عليهم الصغائرَ، فإنّه يَجعَلُ تلفّظَه(4) [بذكر] التَّوبةِ علىٰ وَجهِ (5) الخُشوعِ و العِبادةِ ، و الانقطاعِ إلَى اللّٰهِ تَعالىٰ ، و الرجوعِ إليه، و إن لَم يَتعلَّقْ ذلكَ بذَنبٍ عَرَفَه مِن نفسِه.

و قد ذَكَرَ قَومٌ في هذه الآيةِ وَجهاً آخرَ: و هو أن يَكونَ موسىٰ إنّما سألَ أن يَظهَرَ له بابٌ يَعرِفُ اللّٰهَ تَعالىٰ عندَه(6) ضَرورةً ؛ كالآياتِ التي تَظهَرُ في الآخِرةِ ، و تَزولُ عنه بها مَشَقّةُ التكليفِ .

ص: 476


1- . في الأصل: «لأنّ ».
2- . أي ذنباً صغيراً، و ذلك بناء علىٰ تجويز الصغائر علىٰ الأنبياء. و للمزيد راجع: أمالي المرتضىٰ ، المجلس 70.
3- . في الأصل: «لم يجب»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «قد ذهب قوم ممّن أجاز الصغائر».
4- . في الأصل: «بلفظه»، و لا محصّل له في المقام.
5- . الجارّ متعلّق ب «يجعل».
6- . في الأصل: «عندها».

و الجَوابُ الأوّلُ أوضَحُ و أسلَمُ ؛ لأنّ الكلامَ علَى الوَجهِ الأوّلِ لا يَقتَضي محذوفاً، بل يَكونُ قولُه: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ »(1) علىٰ ظاهرِه. و علَى الوَجهِ الثاني لا بُدَّ مِن إضمارِ ذِكرِ الآياتِ (2) التي تَقَعُ المعرفةُ عندَها ضَرورةً .

و قولُه: «أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ »(3) يَدُلُّ أيضاً علىٰ صحّةِ الجَوابِ الأوّلِ دونَ الثاني.

علىٰ أنّ موسىٰ لا يَصِحُّ أن يَكونَ شاكّاً في أنّ معرفةَ اللّٰهِ تَعالىٰ ضَرورةً ، لا يَجوزُ أن تقعَ في دارِ التكليفِ ؛ لأنّه معلومٌ بأدلّةِ العُقولِ ؛ فكيف يَسألُ ذلكَ؟

فإن قيلَ : إنّه سألَ ذلكَ و لَم يَكُن هو شاكّاً فيه؛ فهو رُجوعٌ إلىٰ معنَى الجَوابِ الأوّلِ ، و لَأن يُجعَلَ سؤالُه لِقَومِه الرؤيةَ أَولىٰ ؛ لشهادةِ الظاهرِ و غَيرِه ممّا ذَكَرناه.

بيان وجه تعليق الرؤية باستقرار الجبل

فأمّا تَعليقُه تَعالَى الرؤيةَ باستقرارِ الجَبَلِ فَجارٍ علىٰ مَنهَجِ كلامِ العَرَبِ ، في أنّهم إذا أرادوا تَبعيدَ الشيءِ و نَفيَه علىٰ كُلِّ حالٍ ، عَلَّقوه بما المعلومُ أنّه لا يَقَعُ ؛ سَواء كان جائزاً أو مُحالاً؛ لأنّهم يَقولونَ : «لا كَلَّمتُكَ ما لاحَ كوكبٌ ، و ما أضاءَ فَجرٌ»، و «هذا لا يَكونُ حَتّىٰ يَشيبَ الغُرابُ »، و إن كانَ ما عَلَّقوا به النفيَ جائزاً، و غَرَضُهم بالنفيِ غايةُ التبعيدِ.

علىٰ أنّ استقرارَ الجَبَلِ في حالِ جَعلِه إيّاه دَكّاً مُحالٌ ؛ لِما فيه مِنِ اجتماعِ الضِّدَّينِ ، فما تَعلَّقَ وجودُ الرؤيةِ إلّابأمرٍ مُحالٍ .

ص: 477


1- . الأعراف (7):143.
2- . أي العلامات.
3- . الأعراف (7):155.

و قولُه تَعالىٰ : «فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ »(1) معناه؛ فلمّا عَرَّفَ مَن عندَ الجَبَلِ ، و أظهَرَ لهم مِنَ الآياتِ ما يَقتَضي أنّ الرؤيةَ لا تَجوزُ(2) عليه؛ لأنّ التَجلّيَ هو

التعريفُ و الإظهارُ؛ و مِنه قولُه تَعالىٰ : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ»(3) أرادَ به: لا يُعرِّفُكم وقتَها سِواه، و «تَجَلّىٰ » و «جَلَّىٰ » بمعنىً واحدٍ، كما يُقالُ : «تَصدَّقَ علىٰ فُلانٍ » و «صَدَّقَ »، و «تَحدَّثَ » و «حَدَّثَ ».

و الجَوابُ عن الشُّبهَةِ السابعةِ :
اشارة

أنّ مِثلَ الكلامِ في الرُّؤيةِ - و هو أصلٌ مِن أصولِ الدِّينِ - طريقُه العِلمُ ؛ لا يُرجَعُ فيه إلىٰ أخبارِ الآحادِ التي أحسَنُ أحوالِها أن تَقتَضيَ الظنَّ .

هذا لو كانَ الخَبَرُ سَليماً مِنَ الطَّعنِ ، بريئاً مِنَ القَدْحِ ؛ فكيفَ و هو مطعونٌ عليه، مقدوحٌ في روايتِه؛ لأنّ راويه(4) قَيسُ بنُ أبي حازِمٍ (5)، و قد كانَ فَقَدَ عَقلَه في

ص: 478


1- . الأعراف (7):143.
2- . في الأصل: «يجوز».
3- . الأعراف (7):187.
4- . في الأصل: «رواية».
5- . أبو عبد اللّٰه قيس بن أبي حازم البَجلي الأحمسي، ترجم له ابن حجر العسقلاني في «الإصابة» و في «هدي الساري» و قال عنه ما خلاصته: «أسلم في عهد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و هاجر إلى المدينة، فقُبض النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله قبل أن يلقاه، فروى عن كبار الصحابة. و قال ابن حِبّان في الثقات: ما بالكوفة أحدٌ أروىٰ عن الصحابة من قيس. و المشهور عند الجمهور أنّه لم ير النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله. و قال يعقوب بن شيبة: تكلّم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره و منهم من حمل عليه، و قال: له أحاديث مناكير، و منهم مَن حمل عليه في مذهبه، و أنّه كان يحمل على عليّ عليه السلام، و لذلك كان يجتنب كثير من

آخِرِ عُمُرِه و اختَلَّ ، مع استمرارِه في روايةِ الأخبارِ، و قد يَجوزُ أن يَكونَ هذا الخبرُ ممّا رواه في حالِ التغيُّرِ.

علىٰ أنّ المشهورَ عنه الانحرافُ عن أميرِ المؤمنينَ و العَداوةُ له و الوَقيعةُ فيه، و هو الذي قالَ : «رَأَيتُ عَليَّ بنَ أبي [طالبٍ ] علىٰ مِنبَرِ الكوفةِ ، يَقولُ : اِنفِروا إلىٰ بَقيّةِ الأحزابِ ، فبُغضُه حَتَّى اليَومِ في قَلبي»!(1) إلىٰ غَيرِ ذلكَ مِن تَصريحِه بالبَغضاءِ و العَداوةِ ، و هذا ممّا يَقدَحُ في عَدالتِه.(2)

و لَو جازَ الإصغاءُ في الرؤيةِ إلىٰ أخبارِ الآحادِ، (143) لَوجبَ قَبولُ أخبارِ المُشَبِّهةِ (3)؛ فانّهم يَروونَ في ذلكَ ما هو أظهَرُ مِن أخبارِ الرؤيةِ و أشهَرُ(4).

علىٰ أنّ بإزاءِ هذا الخبرِ، مِن الأخبارِ الصحيحةِ السليمةِ ، المُتضمِّنةِ لنفيِ الرؤيةِ ؛ ما لا يُحصىٰ كَثرةً ، لَولا كَراهةُ التطويلِ لَذَكَرنا شطراً منها(5)، و هي مذكورةٌ في الكتبِ ، معروفةٌ في أماكنِها(6)، و في بعضِها ما يُعارِضُ هذا الخَبَرَ و يُسقِطُ.(7)

ص: 479


1- . شرح الأخبار، ج 2، ص 4؛ الملل و النحل، ج 1، ص 138؛ شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 194-195، ج 4، ص 101. و المصدران الأوّلان نقلا الكلام مع شيء من الاختلاف.
2- . راجع: تنزيه الأنبياء و الأئمة، ص 258.
3- . أي أخبارهم المثبتة لأُمور غير الرؤية، كالأخبار المثبّتة للوجه و اليد و القَدَم.
4- . راجع علىٰ سبيل المثال كتاب التوحيد لابن خزيمة، فإنّ فيه الكثير من روايات التشبيه.
5- . في الأصل: «صدراً» فيها.
6- . راجع: كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، ص 107.
7- . كذا في الأصل، و الأولى: «و يُسقطه».

علىٰ أنّا لَو عَدَلنا عن كُلِّ ذلكَ ، لكَانَ للخبرِ وَجهٌ (1) صحيحٌ يَجوزُ أن يُحمَلَ عليه؛ لأنّ الرؤيةَ قَد تَكونُ بمعنَى العِلمِ ، و هذا ظاهرٌ في اللّغةِ ، و يَدُلُّ عليه قولُه تَعالىٰ :

«أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعٰادٍ»(2) ، و «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحٰابِ اَلْفِيلِ »(3) ، «أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ نُطْفَةٍ »(4).

و قال الشاعِرُ:

رَأَيتُ اللّٰهَ إذ سَمّىٰ نِزاراً *** و أسكَنَهم بِمكّةَ قاطِنينا(5)

وَ عَلى هذا يكونُ معنى الخَبَرِ: أنّكم تَعلَمونَ رَبَّكم ضَرورةً كما تَعلَمُونَ القَمَرَ، مِن غَيرِ مشقّةٍ و لا كَدِّ نَظَرٍ و استدلالٍ . و هذه بِشارةٌ لهم [بخلوص](6) نَعيمِهم، و زَوالِ الكَدَرِ و الشَّوبِ عنه.

في بيان عدم حاجة الرؤية - بمعنىٰ العلم - إلىٰ مفعولَين

و لَيسَ لأحَدٍ أن يَقولَ : لَو كانتِ الرؤيةُ في الخَبَرِ بمعنَى العِلمِ ، لَتَعدَّت إلىٰ مفعولَينِ ؛ لأنّ هذا هو حُكمُ العِلمِ عندَهم، و الرؤيةُ بالبصرِ لا(7) تَتَعدّىٰ إلّاإلىٰ مفعولٍ واحدٍ، فيَجِبُ أن يُحمَلُ الخَبَرُ مع فقدِ المفعولِ الثاني على الرؤيةِ بالبَصَرِ.

ص: 480


1- . في الأصل: «وجهه».
2- . الفجر (89):1.
3- . الفيل (105):1.
4- . يس (36):77.
5- . البيت للكُميت، و هو من قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه، و يكثر فيها من تفضيلهم، و يطنب في وصفهم، و أنّهم أفضل من قحطان. راجع: مروج الذهب، ج 3، ص 230 و 231؛ شرح الاُصول الخمسة، ص 181؛ تنزيه الأنبياء و الأئمّة، ص 78 و 129.
6- . في الأصل بدل ما بين المعقوفين بياض.
7- . في الأصل: «و لا» بالواو، و هي زائدة.

و ذلك أنّ العِلمَ عند أهلِ اللُّغةِ على ضَربَينِ :

عِلمُ يقينٍ و معرفةٍ ، و الضربُ الآخَرُ بمعنى الظنِّ .

فالذي هو بمعنى اليقينِ ، لا يَتعدّى إلىٰ أكثَرَ مِن مفعولٍ واحدٍ، و لهذا يَقولونَ :

«عَلِمتُ زَيداً»، إذا كانَ بمعنى عَرَفتُه و تَيقَّنتُه، و لا يأتون بمفعولٍ (1) ثانٍ . و إذا كانَ بمعنَى الظنّ ، يَحتاجُ إلَى المفعولِ الثاني؛ لأنّ الظنَّ لا بُدَّ فيه مِن مفعولٍ ثانٍ ، و هذا ممّا قد نَصَّ عليه القَومُ .

و قد قيلَ : لَيسَ يَمتَنِعُ أن يَكونَ المفعولُ الثاني في الخبرِ محذوفاً يَدُلُّ الكلامُ عليه، و إن لم يَكُن مُصَرَّحاً فيه.

فرق العلم الضروري عند أهل الجنّة و أهل النار

و لَيسَ لهم أن يَقولوا: يَجِبُ علىٰ هذا التأويلِ أن يُساويَ أهلُ النارِ أهلَ الجَنّةِ في هذه البِشارةِ ؛ لأنّ الجَميعَ يَعلَمونَ اللّٰهَ تَعالىٰ في الآخرةِ ضَرورةً .

و ذلكَ أنّ الخبرَ بزَوالِ اليَسيرِ مِن الأذىٰ (2) لِمَن نَعيمُه خالصٌ صافٍ يُعَدُّ بِشارةً ، و مِثلُ ذلك لا يُعَدُّ بِشارةً فيمَن هو في غايةِ المكروهِ و نِهايةِ الألَمِ و العذابِ .

و أيضاً: فإنّ عِلمَ أهلِ الجَنّةِ باللّٰهِ تَعالىٰ ضَرورةً يَزيدُ في نَعيمِهم و سُرورِهم؛ لأنّهم يَعلَمونَ بذلكَ أنّه يَقصِدُ بما يَفعَلُه بهم مِن النعيمِ ، التعظيمَ و التبجيلَ ، و أنّه يُديمُ ذلكَ و لا يَقطَعُه. و أهلُ النارِ إذا عَلِموه - جَلَّ و عَزَّ - ضَرورةً ، عَلِموا

ص: 481


1- . في الأصل: «بمعنى».
2- . في الأصل: «الأدنى»، و الصحيح ما أثبتناه بقرينة قوله: «في غاية المكروه و نهاية الألم والعذاب».

قَصدَه إلىٰ إهانتِهم و الاستخفافِ بهم، و إدامةِ مكروهِهم و عذابِهم؛ فاختَلَفَ

العِلمانِ في بابِ المَنفعةِ و المَضَرّةِ ، و إنِ اتَّفقا في أنّهما ضَروريّانِ . و هذا بَيِّنٌ لا إشكالَ فيه.

ص: 482

فهرس المطالب

الفهرس الإجمالي... 5

مقدّمة التحقيق... 7

منهجية البحث عند الشريف المرتضى... 8

علاقة الشريف المرتضى بالمعتزلة... 11

هذا الكتاب... 17

فهرسة أبحاث الكتاب... 21

عنوان الكتاب... 22

الوجه في تسميته ب «الملخّص»... 23

نسبة الكتاب إلىٰ مصنّفه... 24

تاريخ تأليف الكتاب... 25

جهود حول الكتاب... 27

مَن اقتنى الكتاب و اهتمّ به... 31

نسخة الكتاب... 34

العمل في الكتاب... 38

كلمة الشكر... 41

نماذج من تصاوير النسخة... 43

ص: 483

الملخّص في أُصول الدين

الباب الأوّل: الكلام في إثبات الصانع

الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ حدوثِ الأَجسامِ ... 53

الكلام على الدعوى الأُولىٰ ... 53

الكلام على الدعوى الثانية... 53

في الدلالة علىٰ أنّ القديم لا يجوز عليه العدم... 53

في الدلالة علىٰ أنّ القديم قديم لنفسه... 53

الدليل الأوّل... 53

الدليل الثاني... 55

في الدلالة علىٰ عدم انفكاك الصفة النفسيّة عن الموصوف... 56

دليل آخر علىٰ نفي جواز العدم عن القديم... 58

نفي الضدّ عن القديم... 58

الدليل الأوّل... 58

الدليل الثاني... 60

الكلامُ علَى الدعوَى الثالثةِ ... 61

عدم خلوّ الجسم من الكون في الجهات... 61

وجوب تحيّز الجوهر بذاته... 62

وجوب كون المتحيّز في جهةٍ ... 72

إبطال الشقّ الأوّل... 76

إبطال الشقّ الثاني... 80

الكلام على الدعوى الرابعة... 82

في بيان حقيقة العلم بأنّ عدم تقدّم الأجسام على...... 83

ذهاب ابن الراوندي إلى قِدَم الأجسام مع...... 86

بيان كيفيّة دلالة «عدم تقدّم المحدَث» على الحدوث... 87

ص: 484

عدم خلوّ الجوهر من الأكوان... 90

تناهي الحوادث الماضية و المستقبلة، و بيان الفرق بينها... 93

الفصل الثاني: في الدَّلالةِ علىٰ إثباتِ المُحدِثِ ... 99

البحث الأوّل: حاجة تصرّفاتنا إلينا، و تعلّقها بنا... 99

البحث الثاني: في حاجة تصرّفاتنا إلينا في حدوثها... 109

البحث الثالث: حاجة كل مُحدَث إلىٰ مُحدِث... 111

الباب الثاني: الكلام في الصفات

القسم الأوّل: الصفات الثبوتيّة

الفصلُ الأوّل: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُحدِثَ الأجسامِ قادِرٌ... 117

الدليل الأوّل... 117

الدليل الثاني... 119

الدليل الثالث... 119

نفي أن يكون تأتّي الفعل للطبع لا لحال القادِر... 119

دلالة تعذّر الفعل على انتفاء القدرة، و شرط ذلك... 121

نفي أن يكون تعذّر الفعل ناشئاً من ثبوت حالٍ ... 122

كيفيّة دلالة صحّة الفعل على القدرة... 124

اختصاص دلالة حدوث الفعل على القدرة فقط، لا أكثر... 124

الدليل الأوّل... 125

الدليل الثاني... 125

الفصلُ الثاني: في الدلالَة على أنّ مُحكِم الأفعالِ عالِمٌ ... 127

نقل أدلّة أبي هاشم حول مقدار دلالة الفعل، و مناقشتها... 128

عدم قيام الاعتقاد و الظنّ مقام العلم في صحّة الفعل المحكم... 130

أدلّة إثبات أنّه تعالىٰ عالِم... 132

ص: 485

الدليل الأوّل... 132

الدليل الثاني... 133

الدليل الثالث... 134

الدليل الرابع... 134

الدليل الخامس... 134

الفصل الثالث: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ الأجسامِ حَيٌّ ... 137

عدم كون المفارقة ناشئة من حصول العلم و القدرة... 138

عدم صحّة إثبات صفة أُخرىٰ غير الحياة... 139

كيفيّة اقتضاء القدرة للوجود... 141

عدم استلزام الدليل على الحياة إثباتَ البِنية و التأليف للقديم... 142

عدم صحّة الاستدلال بالعجز على الحياة... 150

الفَصلُ الرابع: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ مُدرِكٌ للمُدرَكاتِ سَميعٌ بَصيرٌ... 155

البحث الأوّل... 156

ألف. إثبات صفة الإدراك فينا... 156

ب. إثبات امتياز صفة الإدراك عن غيرها من الصفات... 156

أوّلاً: امتيار صفة الإدراك عن العلم... 157

1. إثبات العلم مع فَقْد الإدراك... 157

2. إثبات الإدراك مع فَقْد العلم... 158

عدم رجوع اختلاف حال المتألِّم و غيره إلىٰ اختلاف طرق العلم... 160

ثانياً: امتياز صفة الإدراك عن الحياة... 162

ثالثاً: امتياز صفة الإدراك عن القدرة... 163

رابعاً: امتياز صفة الإدراك عن الإرادة و الكراهة و الشهوة و النفرة... 164

البحث الثاني... 164

ألف. اقتضاء الحياة لصفة الإدراك بشروطه... 164

ص: 486

ب. عدم اقتضاء صحّة الحواسّ للإدراك... 167

البحث الثالث... 169

ألف. إثبات كونه تعالىٰ مُدْرِكاً عند وجود المدرَكات... 169

ب. نفي أن يكون للسميع و البصير حال زائدة علىٰ كونه حيّاً لا آفة به... 172

بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه شامٌّ و ذائقٌ ... 174

بطلان وصفه تعالىٰ بأنّه آلِمٌ وَ مُلتذٌّ و مُحِسٌّ ... 175

الفصلُ الخامس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ اللّٰهَ تَعالىٰ موجودٌ... 179

إثبات أنّ العدم يَمنع من تعلُّق ما يتعلّق بغيره لنفسه... 179

الدليل الأوّل... 179

الدليل الثاني... 188

الفصلُ السادس: في الدَّلالةِ علىٰ أنّ صانِعَ العالَمِ قَديمٌ ... 191

إبطال كونِ صانع العالَم محدَثاً... 193

أوّلاً: إبطال كونِ المحدَث قادراً لنفسه... 194

الدليل الأوّل... 194

الدليل الثاني... 196

الدليل الثالث... 196

ثانياً: إبطال كونِ صانِعِ العالَمِ قادراً بقُدرةٍ ... 196

الدليل الأوّل... 196

انحصار قدرتنا في الأفعال المباشرة و المتولّدة، دون المخترَعة... 198

عدم وقوع الجسم منّا، لا بصورة مباشرة و لا متولّدة... 199

الدليل الأوّل علىٰ عدم وقوع الجسم و الجوهر منّا متولّداً... 199

مناقشة موانع القدرة علىٰ فعل الأجسام و الجواهر... 201

المانع الأوّل و الثاني: فَقْدُ العلم و الآلة... 201

المانع الثالث: فَقْدُ البِنية... 203

ص: 487

المانع الرابع: عدم وجود الخلأ في العالَم... 203

أدلّة وجود الخلأ في العالَم... 204

الدليل الأوّل... 204

الدليل الثاني... 204

الدليل الثالث... 204

الدليل الرابع... 205

الدليل الخامس... 205

أدلّة عدم وجود الخلأ في العالَم و مناقشتها... 206

المانع الخامس: تعدُّد القُدرَ في الجارحة الواحدة... 210

الجواب الأوّل... 212

اختلاف أجناس القُدَر... 212

تغاير مقدور القُدَر... 213

اتّفاق مقدور القُدَر في الجنس... 214

الجواب الثاني... 214

الدليل الثاني علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً... 218

الدليل الثالث علىٰ أنّ الجسم و الجوهر لا يقع منّا متولّداً... 219

الدليل الثاني علىٰ إبطال كون صانع العالم قادراً بقدرة... 221

إبطال أن يكون القادرُ الذي لا تجبُ له هذه الصفة قادراً بالفاعل... 222

ما يدلّ على نفي وجود قادر محدَث ليس بجوهر... 224

الفصلُ السابع: في بيانِ أحكامِ الصفاتِ الثبوتيّةِ الذاتيّةِ ... 227

1. فصلٌ في الدَّلالةِ علىٰ أنّ مُستَحِقَّ الصفاتِ التي ذَكَرناها يَجِبُ أن يَستَحِقَّها... 227

البحث الأوّل: في أنّه تعالىٰ قادر فيما لم يزل... 227

في بيان أنّ القدرة الممكنة لا تكون إلّابقدرة حادثة... 227

نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة وجود المقدور... 228

ص: 488

نفي أن يكون شرط تجدّد الصفة هو صحّة الفعل في الوقت الثاني... 229

البحث الثاني: في بيان أنّه تعالىٰ حيّ و موجود فيما لم يزل... 230

البحث الثالث: في بيان أنّه تعالىٰ عالِم فيما لم يزل... 230

1. نفي أن يكون شرط تجدّد كونه عالِماً هو وجود المعلوم... 231

أدلّة صحّة تعلّق العلم بالمعدوم... 231

2. بيان حقيقة العلم الأزلي بالموجودات الحادثة... 233

في بيان أنّ العلم بوجود الشيء في المستقبل هو علمٌ بوجوده... 234

خلاصة رأي المصنّف حول العلم بأنّ الشيء سيوجد... 238

2. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَختَصُّ في ذاتِه بصفةٍ زائدةٍ على ما ذَكَرناه و...... 239

الدليل الأوّل علىٰ بطلان المائيّة... 239

الدليل الثاني... 242

إبطال استدلال ضرار علىٰ المائيّة... 243

3. فَصلٌ في تَرتيبِ العِلمِ بهذه الأحوالِ ... 244

1. القدرة... 244

2. الحياة و الوجود و القِدَم... 244

3. العلم... 244

4. الإِدراك... 245

5. الصفة الذاتيّة... 245

6. الإرادة و الكراهة... 245

7. الحكمة... 246

4. فَصلٌ في أحكامِ هذه الأحوالِ و ما تَقتَضيهِ و تؤَثِّرُه... 246

فَصلٌ استطراديّ : في ذِكرِ جُملةٍ مِن الاستدلالِ بالشاهدِ علَى الغائبِ ... 249

بيان قاعدة الاستدلال بالشاهد على الغائب... 249

الاستدلال علىٰ القاعدة... 249

ص: 489

أقسام الدلالة... 251

أقسام دلالة الدليل... 252

شرائط ما يصحّ الاستدلال عليه... 252

ما يسوغ التعليل به و ما لا يسوغ... 253

5. فَصلٌ في كيفيّةِ استحقاقِه تَعالىٰ ما تَقدَّم ذِكرُه مِن الصفاتِ و...... 254

أ. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ معدومةٍ ... 255

ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يعلم بِعلم معدوم... 255

ما يدلّ على أنّه تعالى لا يجوز أن يقدر بقدرة معدومة... 256

ما يدلّ على أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة معدومة... 257

ب. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ لا توصَفُ ... 258

ج. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّها لِمَعانٍ مُحدَثةٍ ... 263

الدليل الأوّل... 263

الدليل الثاني... 265

في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون حيّاً بحياة مَحدَثة... 266

في أنّه تعالىٰ لا يجوز أن يكون عالماً بعلم محدَث... 267

في بيان الوجوه التي تجعل الاعتقاد علماً... 269

نفي أن يكون الإدراك مؤثّراً في كون الاعتقاد علماً... 271

مَسائِلُ تتعَلَّقُ بعِلمِ اللّٰهِ تَعالىٰ و قُدرتِه... 272

إثبات أنّ للعلم ضدّاً... 278

بطلان أن يكون تعذّر اجتماع اعتقادَين متعاكسَين بسبب الداعي...... 279

في بيان قدرة القادر على الشيء و ضدّه من الوجه الذي يتنافيان فيه... 281

الفرق بين ابتداء العلم و ابتداء الجهل... 282

نفي أن يكون الجهل مقدوراً له... 283

إبطال صحّة وجود الجهل بلا جاهل... 284

ص: 490

د. فَصلٌ في أنّه لا يَستَحِقُّ هذه الأحوالَ لِمَعانٍ قَديمةٍ ... 290

الدليل الأوّل... 290

و هذا الكلامُ لا بُدَّ فيه مِن بَيانِ أُصولٍ ... 290

الأصل الأوّل: في أنّه تعالىٰ مخالفٌ لغيره... 291

الأصل الثاني: في أنّه تعالىٰ إنّما يخالِف ما يخالِفه بكونه قديماً... 291

بيان كيفيّة مخالفته تعالىٰ لغيره بواسطة صفاته الواجبة... 297

وجه مخالفته تعالىٰ لغيره، مع اشتراكه معه في الصفات... 298

أوّلاً: بيان المصنّف... 298

ثانياً: بيان أبي هاشم الجبّائي... 299

الأصل الثالث: في أنّ ماشاركه تعالىٰ في القِدَم يجب أن...... 302

في بيان عدم اختلاف صفة الوجود في الذوات... 302

الوجوه الدالّة علَى أنّ الاشتراكَ في صفةٍ مِن...... 303

الأصل الرابع: في بيان لزوم ما تقدّم من الكلام لهم... 307

الدليل الثاني: علىٰ بطلان المعاني القديمة... 309

استلزام تجويز المعاني القديمة نفي الصفات الذاتية... 310

الدليل الثالث... 311

الدليل الرابع... 312

في بيان أنّ المشاركة في تعلّق خاصّ تقتضي التماثل... 312

في بيان تماثُل علمه تعالىٰ و عِلمنا... 313

في بيان أنّ الشيء الواحد لا ينفي شيئَين مختلفَين غير متضادَّينٍ ... 314

الدليل الخامس... 316

الدليل السادس... 320

الدليل السابع... 320

الدليل الثامن... 325

ص: 491

الدليل التاسع... 326

الدليل العاشر... 326

6. فَصلٌ في الإشارةِ إلىٰ قَويِّ شُبَهِ أصحابِ الذات و الصفاتِ و الكلامِ عليها... 327

فقد تَعَلَّقَ هؤلاءِ بأشياءَ ... 327

الجوابُ عن الشُّبهةِ الأُولىٰ ... 328

الجوابُ عن الشُّبهةِ الثانيةِ ... 329

الجوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 329

الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ ... 330

الجَوابُ عن الشبهةِ الخامسةِ ... 337

الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ ... 339

الجوابُ عن الشُّبهة السابعةِ ... 340

7. فَصلٌ في بَيانِ استحالةِ خُروجِه تَعالىٰ عن الصفاتِ الّتي ذَكَرناها...... 343

في بيان استحالة خروجه تعالى عن صفة العلم... 344

نفي كونه تعالىٰ جاهلاً ببعض المعلومات أو عاجزاً عن بعض المقدورات... 345

القسم الثاني: الصفات السلبيّة

الفَصلُ الأوّل: في نَفيِ الحاجَةِ عنه تَعالىٰ و إثباتِه غَنيّاً... 349

أدلّة نفي الشهوة و النِفار عنه تعالى... 350

الدليل الأوّل... 350

الدليل الثاني... 354

نفى دلالة الفعل علىٰ كونه تعالىٰ مشتهياً أو نافراً... 354

الدليل الثالث... 355

الدليل الرابع... 359

الفصلُ الثاني: في نَفي الجسميّةِ عنه تَعالىٰ ... 361

ص: 492

1. فصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ الأجسامَ و الجَواهرَ... 361

ادلّة نفي الجسميّة عنه تعالىٰ ... 362

2. فَصلٌ في أنّ احتمالَ الأعراضِ و الكَونَ في الجهاتِ و... مُستَحيلٌ عليه... 374

في بيان أنّ التحيّز يقتضي احتمال الأعراض... 375

في بيان أنّ التحيّز يقتضي الكون في الجهات... 377

في بيان استحالة حلول الأعراض فيه تعالىٰ ... 378

3. فَصلٌ في استحالةِ كَونِه تَعالىٰ في جهةٍ مِن غَيرِ أن يَكونَ شاغِلاً لها... 380

في بيان بطلان المعنى الظاهري لكونه تعالىٰ فوق العرش... 380

4. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يُشبِهُ شَيئاً مِن الأعراضِ ... 383

نفي أن يُشبِهَ تعالىٰ عرضاً غيرَ معقول... 385

5. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ لا يَصِحُّ أن يَحُلَّ غَيرَه... 386

فساد كونه تعالىٰ حالاًّ لمعنىٰ ... 388

فساد اقتضاء الصفة الذاتيّة لحلوله تعالى... 392

في بيان أنّ حلوله تعالىٰ لو صحَّ ، لكان لصفةٍ ترجع إلىٰ نفسه، لا كالأعراض... 393

6. فَصلٌ فيما يَتعلَّقُ بالعبارةِ في هذا البابِ ... 394

البحث الأوّل: استحالة معنى الجسم عليه تعالى... 394

في بيان ورود لفظة «أجسَم» في كلام العرب... 395

في بيان بطلان بعض التعريفات المذكورة للجسم... 397

البحث الثاني: بطلان إطلاق لفظة «جسم» عليه تعالىٰ ، علىٰ نحو اللقب... 398

نفي أن يكون لفظ الجلالة لقباً... 399

نفيُ أن يكونَ لفظُ «شيء» لقباً... 400

حقيقة بعض الصفات الخَبَريّة... 401

تأويل بعض الآيات المتشابهات الدالّة على الصفات الخبريّة... 403

الفصلُ الثالث: الكلامُ في نَفيِ الرّؤيَةِ عنه و جميعِ ضُروبِ الإدراكِ ... 405

ص: 493

تمهيد... 405

1. فَصلٌ في أنّه تَعالىٰ يَستَحيلُ رؤيَتُه... 405

و هذه الجُملةُ نَحتاجُ فيها إلىٰ بيانِ أشياءَ ... 406

أوّلاً: في أنّ الرائي إنّما يَرَى الوجود صفةً هو عليها... 406

أدلّة بطلان أن تكون الرؤية لمعنىٰ ... 407

في بطلان أن يُرىٰ تعالىٰ بحاسّة سادسة... 412

ثانياً: في بيان ارتفاع الموانع التي تمنع من الرؤية عنه تعالىٰ ... 413

ثالثاً: نفي أن يكون تعالىٰ مرئيّاً في نفسه... 418

رابعاً: في بيان أنّ الرؤية متىٰ صحّت وجبت... 418

في بيان أنّ العلم بانتفاء المدرَك مستند إلى العلم...... 420

في أنّ العلم الأوّل إنّما يستند إلى العلم الثاني فيما إذا كان...... 421

في بيان أنّ علمنا بالمدرَكات طريقُهُ الإدراك، و أنّه ليس مُبتدأً بلا طريق... 423

بيان حال المخالفين في المسألة... 425

في بيان أنّ بعض العلوم طريقها الضرورة...... 427

في بيان عدم انفكاك العلمَين المبحوث عنهما فيما سبق... 428

نفي أن يكون العلم بالمدرَكات ناشئاً من فعل العلم في القلب... 429

في بيان دور الشعاع الخارج من البصر في الرؤية... 430

خامساً: في أنّنا غير رائين له تعالىٰ ... 432

دليلٌ آخَرُ... 432

دليلٌ آخَرُ... 434

إبطال تفسير الإدراك المنفيّ في الآية بالإحاطة... 436

نفي أن يكون الإدراك بالبصر بمعنىٰ رؤية مخصوصة... 437

نفي أن يكون الإدراك المنفيّ بالآية معنىً خاصّاً غير الرؤية، و...... 437

أقسام ما تمدّح به تعالىٰ بنفيه و إثباته... 440

ص: 494

بيان وجهٍ إجمالي و آخر تفصيلي لصحّة التمدّح بنفي الرؤية... 442

بيان وجه تمدّحه تعالىٰ بنفي الإدراك، مع مشاركة غيره... له في ذلك... 443

بيان عدم الفرق بين نفي إدراك الأبصار أو المبصرين في محلّ بحثنا... 446

بيان دلالة الآية علىٰ نفي الإدراك عن بعض المدرِكين... 447

2. فَصلٌ في أنّه غَيرُ مَرئيٍّ في نَفسِه... 448

نفي إمكان أن يَرىٰ تعالىٰ نفسَه، مع استحالة رؤيتنا له... 450

3. فَصلٌ في أنّ الإدراكَ بسائرِ الحَواسِّ لا يَجوزُ عليه تَعالىٰ ... 453

أقسام الحواسّ الخمس، و كيفيّة الإدراك بها، و شروط ذلك... 454

4. فَصلٌ في ذِكرِ أقوىٰ ما يَتعلَّقُ به المُخالِفُ بالرؤيةِ ، و الكلامِ عليه... 456

الجَوابُ عن الشُّبهةِ الأُولى... 458

الجَوابُ عن الشُّبهة الثانية... 459

الجَوابُ عن الشُّبهةِ الثالثةِ ... 460

الجَوابُ عن الشُّبهةِ الرابعةِ ... 461

الجَوابُ عن الشُّبهةِ الخامسةِ ... 461

تأويل «النظر» الوارد في الآية: ب «الانتظار»... 463

نفي المعنى الظاهري للفظة «وجوه» الواردة في الآية... 464

بيان الفرق بين مدلول تعليق الإدراك بالبصر، و...... 465

بيان وجه وصف الوجوه بالنضارة في الآية... 467

عدم التلازم بين اتّحاد معنى اللفظين و بين اتّحاد تصرّفهما... 468

جواز التأويل مع اقتضاء الضرورة... 469

في بيان التأويل الثاني للآية... 470

بيان جواز اجتماع الانتظار مع السرور و النعمة... 471

بيان جواز اجتماع الانتظار مع القطع و العلم... 472

في بيان التأويل الثالث للآية... 472

ص: 495

جواز حمل النظر علىٰ الرؤية تجوّزاً... 473

و الجَوابُ عن الشُّبهةِ السادسةِ ... 474

الفرق بين سؤال رؤيته تعالىٰ ، و سؤال أن يكون جسماً و ما شابه ذلك... 475

بيان الوجه في توبة موسىٰ عليه السلام... 476

بيان وجه تعليق الرؤية باستقرار الجبل... 477

و الجَوابُ عن الشُّبهَةِ السابعةِ ... 478

في بيان عدم حاجة الرؤية - بمعنىٰ العلم - إلىٰ مفعولَين... 480

فرق العلم الضروري عند أهل الجنّة و أهل النار... 481

ص: 496

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.