هذه فاطمة صلوات الله عليها المجلد 6

هوية الكتاب

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها

اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني

التنضيد: محمد رزاق السعدي

الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن

التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني

المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس

إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2012-2804

الرقم الدولي ISBN: 9789933489502

الحسني، نبيل، 1965 - م.

هذه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها: وهي قلبي وروحي التي بين جنبي (النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة وتحليل نبيل الحسني. ط 1 - كربلاء: العتب - ة الحسينية المقدس - ة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، 1434 ق. = 2013 م.

8 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 100).

المصادر.

1. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. السيرة. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - فضائل. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - في القرآن. 4. واقعة إحراق باب دار فاطمة الزهراء (س)، 11 ق. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. إيذاء وتعقيب. 6. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - الشهادة. 7. الشيعة - أحاديث.

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و هی قلبي و روحي التي بین جنبي

کاتب:نبیل حسنی

المنتج: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة. شعبة الدراسات و البحوث الإسلامیة

عدد المجلدات :8 ج

لسان: العربي

الناشر:العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة - کربلای معلی عراق

سنة النشر: 1434 هجری قمری|2013 میلادی

قانون الكونجرس:/ح5ھ4 27/2 BP

ص: 2

ص: 3

حقوق النشر محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1434 ه - 2013 م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف: 326499

www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 4

الفصل الاول: عبادتها و صلاتها و تسبيحها

اشارة

ص: 5

ص: 6

توطئة

إن مما يقود العقل إلى حقيقة ارتباط بعض الناس بالله تعالى هو عبادتهم له جل شأنه حتى تكاد تكون هذه الصفة، أي العبادة هي أبرز ملاحم تحديد هوية الإنسان في المجتمع.

ولذا:

نجدها صفة ملازمة للأنبياء والمرسلين عليهم السلام ومن سار على نهجهم؛ حتى أن البعض ممن إلتزم هذا الركب الصالح قد بذل قصارى جهده في العبادة والعمل بكل ما فيه تحقيق لهذه الصفة كالصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن وغيرها من المظاهر التي تقود الناظر إلى الاعتقاد بأن هذا الشخص ممن اختاروا الآخرة على الدنيا وكانوا من أهل الله تعالى.

ولعل الرجوع إلى القرآن الكريم يغني الإنسان عن التتبع للأدلة في إثبات أن هذه المظاهر هي مما يرسم هوية الإنسان في الحياة وأنه مرتبطاً بالسماء وشرائعها، ومن تلك الشواهد:

ص: 7

ألف: تفرغ مريم ابنة عمران للعبادة في بيت المقدس ومخاطبة الملائكة لها:

يٰا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ (1) .

باء: تهجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الليل وطول عبادته وذكره لله، فقال سبحانه:

قُمِ اَللَّيْلَ إِلاّٰ قَلِيلاً(2) .

جيم: في وصفه سبحانه للعباد في الليل فقال عزّ وجل:

كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (3) .

دال: وفي وصفه سبحانه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن به وتمسك بهديه.

فقال جلّ شأنه:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّٰارَ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً(4) .

ص: 8


1- سورة آل عمران، الآية: 43.
2- سورة المزمل، الآية: 2.
3- سورة الذاريات، الآيتان: 17 و 18.
4- سورة الفتح، الآية: 29.

وعليه:

يتضح أن المظاهر العبادبة هي من السمات التي تتحد بها هوية الإنسان في المجتمع ليكون قبلة يتوجه إليها السالك إلى الصلاح كي يستسن بهذه السنن ويلتزم هذا النهج الذي يقوده إلى الخير والعدل والإحسان.

أي: أن يتصف بصفات أهل طاعة الله سبحانه وهم الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين.

من هنا:

كانت لفاطمة صلوات الله عليها مظاهراً عبادية عديدة ترشد الناظر إلى أنها من أهل الله وطاعته ومن أولئك الذين ارتبط وجودهم الحياتي بالله عزّ وجل.

وهي كالآتي:

ص: 9

المبحث الأول: مستوى عبادتها لله تعالى

عرفت الزهراء عليها السلام بين الناس بالعبادة وكثرة الصلاة حتى قال في هذا التعبد الحسن البصري (ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورمت قدماها)(1).

وهذا المستوى من العبادة لله تعالى هو أحد من الصفات التي ترافق عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبها يعرفهم الناس وما ذاك إلا لالتزامهم بنهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولا يخفى على أهل المعرفة أن الله تعالى قد عاتب رسوله المصطفى في محكم كتابه على كثرة عبادته وما كان يصنع بنفسه وهي خاصية لم يختص بها مخلوق قط؛ وذلك أن الغرض من خلق الله للجن وللإنس هو العبادة، لكن أن يعاتب الله أحد خلقه على عبادته فهذا محصور بخير خلقه محمد

ص: 10


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 119؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 76؛ ربيع الأبرار للزمخشري: ج 2، ص 274؛ المستطرف للأبشيهي: ج 1، ص 76؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 2، ص 425؛ قادتنا كيف نعرفهم للسيد الميلاني: ج 5، ص 391.

صلى الله عليه وآله وسلم؛ والروايات التي تكشف عن تهجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتهاده في العبادة لكثيرة، منها:

1. عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة، فقالت: يا رسول الله، لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: «يا عائشة، ألا أكون عبداً شكورا؟».

وقال عليه السلام:

«كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى:

طه مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ (1) )(2).

2 - وعن عائشة: (إن نبي الله صلى الله عليه - وآله - وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال:

«أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً»)(3).

3 - قال الإمام الصادق عليه السلام:

«كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من التطوع مثلي الفريضة»(4).

ص: 11


1- سورة طه، الآيتان: 1 و 2.
2- الكافي للكليني: ج 2، ص 95.
3- صحيح البخاري: ج 4، ص 1830، ح 4557.
4- التهذيب للطوسي: ج 2، ص 4، ح 3.

وهذا الحال في العبادة بشتى صورها من الصلاة وقيام الليل وتلاوة القرآن ومداومة الذكر وفي ذلك كله نراه عند علي أمير المؤمنين وفاطمة والأئمة المعصومين من أبنائهما عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ففي عبادة أمير المؤمنين عليه السلام وتهجده يروي لنا الشيخ الصدوق رحمه الله (عن ضرار بن ضمرة النهشلي حينما دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: صف لي علّياً؟

فقال: أو تعفيني ؟

فقال: لا، بل صفه لي.

فقال له ضرار: رحم الله عليّاً، كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا، لا نكلمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم.

فقال معاوية: زدني من صفته.

فقال ضرار: رحم الله عليا، كان والله طويل السهاد، قليل الرقاد، يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، ويجود لله بمهجته، ويبوء إليه بعبرته، لا تغلق له الستور، ولا يدخر عنا البدور، ولا يستلين الاتكاء، ولا يستخشن الجفاء، ولو رأيته إذ مثل في محرابه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول:

«يا دنيا، إليّ تعرضت، أم إليّ تشوقت، هيهات هيهات لا حاجة لي فيك، أبنتك ثلاثا

ص: 12

لا رجعة لي عليك».

ثم يقول:

«واه واه لبعد السفر، وقلة الزاد، وخشونة الطريق»)(1).

إذن: هذه الحالة التعبدية هي من خصوصيات العترة ولم تكن فاطمة عليها السلام بدون هذه المستوى التعبدي الذي كان عليه أبيها وبعلها صلوات الله عليهم أجمعين لاسيما في لزوم المحراب وطول التهجد، وفي ذلك يصف لنا الإمام الحسن عليه السلام حال أمه فاطمة عليها السلام فيقول:

«رأيت أمي فاطمة عليها السلام قائمة في محرابها ليلة الجمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتى انفجر عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت: يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار»(2).

والحديث يظهر بعض الأمور، منها:

1 - لابد للمؤمن من أن يتخذ في بيته محراباً للصلاة والدعاء وتلاوة القرآن وغيرها من الأمور العبادية كما كانت تصنع بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ يكشف الحديث عن وجود محراب خاص بها عليها السلام ولذا، قال عليه السلام:

«في محرابها».

ص: 13


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 724.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 182؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 7، ص 113.

ولم يقل في المحراب كما هو حال مريم حينما كانت في بيت المقدس فقد التجأت إلى محراب بيت المقدس كما هو واضح في قوله تعالى:

كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ (1) .

والظاهر من الرواية أن محراب فاطمة غير محراب علي عليه السلام وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يتخذ من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محلاً للتهجد أما محراب فاطمة فهو في عقر دارها، ولذا فهو خاص بها.

2 - خصوصية ليلة الجمعة في التهجد والدعاء كما تنص الروايات الشريفة في بيان فضل ليلة الجمعة عند الله تعالى وأنها من الليال المخصوصة بالاستجابة؛ ولذا: كانت بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تفعل في ليلة الجمعة.

3 - إنها لم تكن تنام في ليلة الجمع بل تقضي الليلة بالعبادة، لما بعد الليل وطلوع الفجر كما هو واضح في قوله عليه السلام:

«حتى انفجر عمود الصبح».

4 - إن وقت الدعاء في منهج فاطمة صلوات الله عليها يكون بعد طلوع الصبح فتأخذ بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات، أما في الليل فمخصص للصلاة والسجود.

5 - ترشدنا الرواية الشريفة إلى ذكر الأسماء في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات،

ص: 14


1- سورة آل عمران، الآية: 37.

إذ لا يكفي الدعاء بصيغة الجمع وإنما أن يخص الداعي بالاسم لمن أراد أن يدعو له من أخوانه المؤمنين والمؤمنات.

6 - كما ترشدنا الرواية إلى الابتداء بالجار والدعاء لهم ثم لأهل الدار من الأبناء والأخوان والأخوات والأرحام.

ص: 15

المبحث الثاني: نوافلها

اشارة

تفيد الروايات الشريفة بأن بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لها بعض النوافل من الصلوات التي كانت تؤديها في أوقات محددة، فمنها ما علمها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنها ما علمها جبرائيل عليه السلام، وهذه الصلوات تكشف عن مستوى تعبدها لله تعالى والتقرب إليه بأحب الأعمال ألا وهي الصلاة؛ فكانت كالآتي:

المسألة الأولى: نوافلها المخصوصة بالأزمنة

اشارة

لفاطمة صلوات الله عليها بعض الصلوات التي كانت تتنفل بها إلى الله تعالى بحسب الأزمنة خلال الأسبوع، وهي كالآتي:

أولاً: صلواتها في ليلة الأربعاء وما لها من الآثار

روى العلامة المجلسي والمحدث النوري (عن مولاتنا فاطمة البتول صلوات الله عليها، أنها قالت:

«علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة ليلة الأربعاء فقال: من صلى ست ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد و:

ص: 16

قُلِ اَللّٰهُمَّ مٰالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ تُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (1) .

فإذا فرغ من صلاته قال: جزى الله محمّدا ما هو أهله، غفر الله له كل ذنب إلى سبعين سنة وأعطاه من الثواب ما لا يحصى»)(2).

وترشدنا الرواية إلى أمور، منها:

1 - إن هذه النافلة قد علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة صلوات الله عليها وحدد لها الوقت الذي تصلي فيه ويستفاد من هذا التحديد لغفران الذنوب أي: ليلة الأربعاء، بعد صلاة العشاء من يوم الثلاثاء.

2 - يستفاد كذلك من تحديد هذا الوقت أن الإنسان يبتدأ بهذه الليلة كي يستقبل ليلة الجمعة وهي اشرف الليالي في الأسبوع بالصلاة والتقرب إلى الله تعالى، لاسيما بما تحمله هذه الصلاة من آثار أخروية ودنيوية.

3 - وردت بعض الروايات الشريفة في تحديد ما نحس من الأوقات وما سعد منها فكان يوم الأربعاء هو من الأيام النحسة خلال الأسبوع والظاهر أن الإنسان يتحرز من آثار يوم الأربعاء من خلال التقرب إلى الله تعالى بهذه الصلاة.

ص: 17


1- سورة آل عمران، الآيتان: 26 و 27.
2- البحار: ج 87، ص 304؛ مستدرك الوسائل: ج 6، ص 371.

ولعل الرجوع إلى حديث أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما سأله رجل فقال: (يا أمير المؤمنين أخبرنا عن يوم الأربعاء وتطيرنا منه، وأي أربعاء هو؟ فقال:

«آخر أربعاء في الشهر، وهو المحاق، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه، ويوم الأربعاء ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، ويوم الأربعاء أغرق فرعون، ويوم الأربعاء جعل الله قرية لوط عاليها سافلها، ويوم الأربعاء أرسل الريح على قوم عاد، ويوم الأربعاء أصبحت كالصريم، ويوم الأربعاء سلط الله على نمرود البقة، ويوم الأربعاء طلب فرعون موسى ليقتله، ويوم الأربعاء خر عليهم السقف من فوقهم، ويوم الأربعاء أمر فرعون بذبح الغلمان، ويوم الأربعاء خرب بيت المقدس، ويوم الأربعاء أحرق مسجد سليمان بن داود عليه السلام بإصطخر من كورة فارس، ويوم الأربعاء قتل فيه يحيى بن زكريا، ويوم الأربعاء أخذ قوم فرعون أول العذاب، ويوم الأربعاء خسف الله بقارون، ويوم الأربعاء ابتلى الله أيوب بذهاب ماله وولده ويوم الأربعاء دخل يوسف السجن، ويوم الأربعاء قال الله تعالى:

أَنّٰا دَمَّرْنٰاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (1) .

ويوم الأربعاء أخذتهم الصيحة، ويوم الأربعاء عقروا الناقة، ويوم الأربعاء أمطر عليهم حجارة من سجيل، ويوم الأربعاء شج النبي صلى الله عليه وآله»)(2).

4 - قولها عليها السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء بعد الصلاة:

ص: 18


1- سورة النمل، الآية: 51.
2- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 18، ص 151.

«جزى الله محمّداً ما هو أهله».

يرشدنا إلى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكره تدفع عن الإنسان العذاب لقوله سبحانه:

وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1) .

فيكون الإنسان من خلال هذه الصلاة قد استحق الأمان من العذاب ببركة الاعتراف بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدعاء له صلى الله عليه وآله وسلم فيغفر الله تعالى لمن صلى هذه الصلاة ذنوب سبعين سنة.

ثانياً: صلاتها في يوم الجمعة وما لها من الآثار وتسمى ب - (صلاة الأوابين)

من النوافل التي كانت تتنفل بها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله تعالى في يوم الجمعة صلاتين، الأولى: وتسمى ب - (صلاة الأوابين) وقد ورد في كيفيتها ما يلي:

روى العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«من صلى أربع ركعات فقرأ في كل ركعة خمسين مرة قل هو الله أحد كانت صلاة فاطمة عليها السلام وهي صلاة الأوابين»(2).

وقد اشتركت هذه الصلاة من حيث الاسم والكيفية بصلاتين آخرتين وهما:

ص: 19


1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- تفسير العياشي: ج 2، ص 286؛ الوسائل للعاملي: ج 8، ص 113؛ مستدرك الوسائل: ج 6، ص 294.

1 - صلاة الأوابين، وقد نسب هذا الاسم إلى صلاة الزوال أيضاً كما تنص على ذلك بعض الروايات الشريفة:

ألف: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«صل صلاة الزوال فإنها صلاة الأوابين، وأكثر من التطوع يحبك الحفظة»(1).

2 - عن عبد الله بن عطا في حديث له مع الإمام الصادق عليه السلام، أن قال عليه السلام:

«يا ابن عطا أتيت العراق فرأيت القوم يصلون بين تلك السواري في مسجد الكوفة ؟».

قال: قلت نعم، فقال:

«أولئك شيعة أبي علي هذه صلاة الأوابين، إن الله تعالى يقول:

فَإِنَّهُ كٰانَ لِلْأَوّٰابِينَ غَفُوراً(2) )(3).

وهذه الصلاة، أي نافلة صلاة الظهر والتي تسمى بصلاة الزوال وصلاة الأوابين هي ثمان ركعات وقد اشتركت من حيث الاسم مع صلاة فاطمة عليها السلام.

أما ما اشتركت به هذه الصلاة من حيث الكيفية فقد نسبت هذه الصلاة كذاك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي أربع ركعات بالحمد

ص: 20


1- البحار للمجلسي: ج 84، ص 53.
2- سورة الإسراء، الآية: 25.
3- البحار: ج 84، ص 53.

مرة والتوحيد خمسين مرة.

والمستفاد من هذه الروايات أمور:

1 - إن نسب هذه الصلاة إلى فاطمة أو علي عليهما السلام لا يفيد الاختلاف وإنما يدل على أنهما كانا يصليان بهذه الكيفية فنسبت إلى كليهما صلوات الله عليهما.

2 - إن لها من الفضل ما لصلاة الزوال وذلك لاقترانها من حيث الاسم، أي (الأوابين).

3 - إن لها من المغفرة ما لصلاة الزوال.

أما وقتها فقد ورد في صلاة أمير المؤمنين عليه السلام إن (من صلاها في يوم الجمعة واتبعها المصلي بقوله:

«اللهم صلّ على النبي العربي وآله».

فقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان كمن ختم القرآن اثنتي عشرة ختمة، ورفع الله عنه عطش يوم القيامة)(1).

الصلاة الثانية المخصوصة في يوم الجمعة.

أما الصلاة الثانية التي كانت تتنفل بها فاطمة عليها السلام إلى الله تعالى فهي كالآتي:

(روى صفوان قال دخل محمد بن علي الحلبي على أبي عبد الله عليه السلام في يوم الجمعة فقال له: تعلمني أفضل ما أصنع في مثل هذا اليوم، فقال:

ص: 21


1- مفاتيح الجنان للمحدث الشيخ عباس القمي: ص 68، ط الأعلمي.

«يا محمد ما أعلم أن أحداً كان أكثر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة عليها السلام ولا أفضل مما علمها أبوها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال:

من أصبح يوم الجمعة فاغتسل وصف قدميه وصلى أربع ركعات مثنى يقرأ في أول ركعة فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد خمسين مرة وفي الثانية فاتحة الكتاب والعاديات خمسين مرة، وفي الثالثة فاتحة الكتاب وإذا زلزلت خمسين مرة، وفي الرابعة فاتحة الكتاب وإذا جاء نصر الله والفتح خمسين مرة، وهذه سورة النصر وهي آخر سورة نزلت فإذا فرغ منها دعا فقال:

إلهي وسيدي من تهيأ أو تعبأ أو أعد أو استعد لوفادة مخلوق رجاء رفده وفوائده ونائله وفواضله وجوائزه فإليك يا إلهي كانت تهيئتي وتعبئتي يا من لا تخيب عليه مسألة السائل ولا تنقصه عطية نائل فإني لم آتك بعمل صالح قدمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته أتقرب إليك بشفاعته إلا محمداً وأهل بيته صلواتك عليه وعليهم أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عدت به على الخاطئين عند عكوفهم على المحارم فلم يمنعك طول عكوفهم على المحارم أن جدت عليهم بالمغفرة وأنت سيدي العواد بالنعماء وأنا العواد بالخطاء أسألك بحق محمد وآله الطاهرين أن تغفر لي ذنبي العظيم فإنه لا يغفر العظيم إلا العظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم»)(1).

ص: 22


1- مصباح المتهجد: ص 318؛ جمال الأسبوع للسيد ابن طاووس: ص 93؛ وسائل الشيعة: ج 7، ص 371.

المسألة الثانية: نوافلها المخصوصة بالحاجات للدنيا والآخرة

اشارة

لم تقتصر نوافلها العبادية لله تعالى في التقرب إليه في الأوقات المخصوصة بالعبادة كيوم الجمعة وإنما كانت عليها السلام تتقرب إلى الله تعالى بالصلاة فيما يعرض لها من الحاجات للدنيا والآخرة، وهو ما يكشف عن منهج تربوي يرشد المسلم إلى كيفية بنائه لنفسه وقلبه وارتباطه بخالقه سبحانه والالتجاء إليه في كل أموره الحياتية؛ وذلك لما يرسمه القرآن الكريم من طريق للوصول إلى الله تعالى والتقرب إليه في شتى الظروف الحياتية التي يمر بها الإنسان.

كقوله سبحانه وتعالى:

وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِنَّهٰا لَكَبِيرَةٌ إِلاّٰ عَلَى اَلْخٰاشِعِينَ (1) .

وهو ما كانت تعتمده مولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله عليها في جميع أمورها الحياتية فكانت نعم الوسيلة التي يتمسك بها المسلم في بنائه الروحي والإيماني؛ فكانت هذه الصلوات كالآتي:

أولاً: صلاتها لطلب الرزق

من الصلوات التي كانت فاطمة عليها السلام تصليها لقضاء الحوائج، صلاة لطلب الرزق، وهي ركعتان قرأت فيها فاطمة عليها السلام بالأولى سورة الحمد والسجدة، وفي الثانية سورة الحمد والأنعام كما تنص الروايات الآتية:

1 - روى المحدث النوري عن الشيخ أبي الفتوح الرازي في تفسيره، في خبر طويل، ذكر فيه جوع فاطمة وأبيها وزوجها وولديها صلوات الله وسلامه عليهم

ص: 23


1- سورة البقرة، الآية: 45.

أجمعين، وأنها دخلت بيتها، وصلت ركعتين قرأت في أولاهما: الفاتحة، وألم السجدة؛ وفي الثانية: الحمد، وسورة الأنعام، فلما سلمت، دعت فأنزل الله تعالى عليها مائدة(1).

2 - روى القاضي النعمان المغربي (المتوفى 363 ه -) في خبر طويل ذكر فيه خروج أمير المؤمنين علي عليه السلام ليجلب طعاماً إلى عياله وقد أضر بهم الجوع منذ ثلاثة أيام فلقي المقداد فأعطاه الدينار بعد أن وجده منذ أربعة أيام بدون طعام ثم عاد إلى المسجد (فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك اليوم صائماً، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال:

«يا محمد إفطارك الليلة عند علي وفاطمة عليهما السلام».

فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب أخذ بيد علي ومشى معه إلى منزله ودخلا.

فقالت فاطمة:

«وا سوأتاه من رسول الله أما علم أبو الحسن أنه ليس في منزلنا شيء».

ودخلت إلى البيت فصلت ركعتين، ثم قالت:

«اللهم إنك تعلم أن هذا محمد رسولك، وأن هذا صهره علي وليك وأن هذين الحسن والحسين سبطا نبيك، وأني فاطمة بنت نبيك، وقد نزل بي من الأمر ما أنت أعلم به مني، اللهم فأنزل علينا مائدة من السماء كما أنزلتها على بني إسرائيل، اللهم إن بني إسرائيل كفروا بها وإنا لا نكفر بها».

ص: 24


1- مستدركا لوسائل: ج 6، ص 311.

ثم التفتت، فإذا هي بصحفة مملوءة عراق كثير تفور من غير نار، تفوح منها رائحة المسك فحمدت الله وشكرته واحتملتها، فوضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام؛ ودعت الحسن والحسين عليهما السلام، وجلست معهم.

فجعل علي يأكل وينظر إليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا أبا الحسن كل ولا تسأل حبيبتي عن شيء، فالحمد لله الذي رأيت في منزلك مثل مريم بنت عمران:

كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (1) .

هذا يا أبا الحسن بالدينار الذي أعطيته المقداد، قسمه الله عز وجل على خمسة وعشرين جزء، عجل لك منها جزء في الدنيا وأخر لك أربعة وعشرين منها إلى الآخرة»)(2).

ثانياً: صلاتها لقضاء الحوائج التي علمها جبرائيل عليه السلام

وهذه الصلاة رواها السيد ابن طاووس والمحدث النوري:

(عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«كان لأمي فاطمة صلاة تصليها علمها جبرائيل ركعتان يقرأ في الأولى الحمد

ص: 25


1- سورة آل عمران، الآية: 37.
2- شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 3، ص 26-27؛ دلائل الإمامة لابن جرير: ص 321.

مرة وإنا أنزلناه في ليلة القدر مائة مرة وفي الثانية الحمد مرة ومائة مرة قل هو الله أحد فإذا سلمت سبحت تسبيح الطاهرة عليها السلام وهو التسبيح الذي تقدم وتكشف عن ركبتيك وذراعيك على المصلى وتدعو بهذا الدعاء وتسأل حاجتك تعطها إن شاء الله تعالى»)(1).

ورواها مع التسبيح والدعاء الشيخ الكفعمي فقال:

(صلاة فاطمة عليها السلام وهي ركعتان في الأولى بعد الحمد القدر مائة مرة، وفي الثانية بعد الحمد التوحيد كذلك فإذا سلمت فسبح تسبيح الزهراء عليها السلام وقل:

سبحان ذي العز الشامخ المنيف، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذي الملك الفاخر القديم، سبحان من لبس البهجة والجمال، سبحان من تردى بالنور والوقار، سبحان من يرى أثر النمل في الصفا، سبحان من يرى وقع الطير في الهواء، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره.

وروي أنه ينبغي لمن صلى هذه الصلاة وفرغ من التسبيح أن يكشف ركبتيه وذراعيه ويباشر بجميع مساجده الأرض بغير حاجز يحجز بينها وبينه ويدعو ويسأل حاجته ويقول وهو ساجد:

يا من ليس غيره رب يدعى، يا من ليس فوقه إله يخشى، يا من ليس دونه ملك يتقى، يا من ليس له وزير يؤتى، يا من ليس له حاجب يرشى، يا من ليس له بواب يغشى، يا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا كرما وجودا، وعلى كثرة

ص: 26


1- جمال الأسبوع: ص 172؛ وسائل الشيعة: ج 8، ص 114؛ المصباح للكفعمي: ص 410؛ المقنعة: ص 168.

الذنوب إلا عفوا وصفحا، صل على محمد وآله وافعل بي كذا وكذا)(1).

ثالثاً: صلاتها لكل أمر مخوف

ومن الصلوات التي كانت تتقرب بها فاطمة عليها السلام إلى الله تعالى وتفزع إليه في الملمات هي صلاة لكل أمر مخوف، وقد رواها الشيخ الكفعمي عن (إبراهيم بن عمر الصنعاني عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«للأمر المخوف العظيم تصلي ركعتين وهي التي كانت الزهراء عليها السلام تصليها، تقرأ في الأولى الحمد وقل هو الله أحد خمسين مرة وفي الثانية مثل ذلك فإذا سلمت صليت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ترفع يديك وتقول:

اللهم إني أتوجه بهم إليك وأتوسل إليك بحقهم العظيم، الذي لا يعلم كنهه سواك، وبحق من حقه عندك عظيم، وبأسمائك الحسنى، وكلماتك التامات التي أمرتني أن أدعوك بها، وأسألك باسمك العظيم الذي أمرت إبراهيم عليه السلام أن يدعو به الطير فأجابته، وباسمك العظيم الذي قلت للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت، وبأحب أسمائك إليك، وأشرفها عندك، وأعظمها لديك، وأسرعها إجابة، وأنجحها طلبة، وبما أنت أهله، ومستحقه ومستوجبه.

وأتوسل إليك، وأرغب إليك، وأتصدق منك، وأستغفرك، وأستمنحك، وأتضرع إليك، وأخضع بين يديك، وأخشع لك، وأقر لك بسوء صنيعتي، وأتملقك، وألح عليك، وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم أجميع، من التوراة والإنجيل والقرآن العظيم، من أولها إلى آخرها،

ص: 27


1- البلد الأمين للكفعمي: ص 149؛ المصباح للكفعمي: ص 410.

فإن فيها اسمك الأعظم، وبما فيها من أسمائك العظمى، أتقرب إليك.

وأسألك أن تصلي على محمد وآله، وأن تفرج عن محمد وآله، وتجعل فرجي مقرونا بفرجهم، وتبدأ بهم فيه وتفتح أبواب السماء لدعائي في هذا اليوم، وتأذن في هذا اليوم، وهذه الليلة بفرجي وإعطاء سؤلي وأملي في الدنيا والآخرة، فقد مسني الفقر ونالني الضر وسلمتني الخصاصة وألجأتني الحاجة، وتوسمت بالذل، وغلبتني المسكنة، وحقت علي الكلمة، وأحاطت بي الخطيئة، وهذا الوقت الذي وعدت أولياءك فيه الإجابة، فصل على محمد وآله، واسمح ما بي بيمينك الشافية، وأنظر إليّ بعينك الراحمة، وأدخلني في رحمتك الواسعة، وأقبل إليّ بوجهك الذي إذا أقبلت به على أسير فككته، وعلى ضال هديته، وعلى جائز أدنيته، وعلى فقير أغنيته وعلى ضعيف قويته وعلى خائف آمنته ولا تخلني لقا لعدوك وعدوي، يا ذا الجلال والإكرام، يا من لا يعلم كيف هو وحيث هو وقدرته إلا هو، يا من سد الهواء بالسماء وكبس الأرض على الماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، يا من سمى نفسه بالاسم الذي به تقضي حاجة كل طالب يدعوه به.

وأسألك بذلك الاسم فلا شفيع أقوى لي منه وبحق محمد وآل محمد أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تقضي لي حوائجي، وتسمع محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين وعليا ومحمدا وجعفرا وموسى، وعليا ومحمد وعليا والحسن والحجة صلوات الله عليهم وبركاته ورحمته، ليشفعوا لي إليك، وتشفعهم في، ولا تردني خائبا بحق لا إله إلا أنت، وبحق محمد وآل محمد صل على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا يا كريم»)(1).

ص: 28


1- مصباح المتهجد: ص 302-304.
رابعاً: صلاتها لقضاء الحوائج وقد علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تصليها

وهذه الصلاة رواها السيد ابن طاووس (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام ولابنته فاطمة عليها السلام:

«إنني أريد أن أخصكما بشيء من الخير مما علمني الله عزّ وجل، وأطلعني الله عليه، فاحتفظا به».

فقالا عليهما السلام:

«نعم يا رسول الله فما هو؟».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يصلي أحدكما ركعتين يقرأ في كل ركعة (فاتحة الكتاب وآية الكرسي ثلاث مرات، و (قل هو الله أحد) ثلاث مرات، وآخر الحشر ثلاث مرات من قوله:

لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا اَلْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ هُوَ اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1) .

فإذا جلس فليتشهد، وليثنِ على الله عزّ وجل، وليصل على النبي صلى الله عليه وآله

ص: 29


1- سورة الحشر، الآيات: 21 و 22 و 23 و 24.

وسلم وليدع للمؤمنين والمؤمنات، ثم يدعو على أثر ذلك، فيقول:

اللهم إني أسألك بحق كل اسم هو لك يحق عليه فيه إجابة الدعاء إذا دعيت به؛ وأسألك بحق كل ذي حق عليك وأسألك بحقك على جميع ما هو دونك أن تفعل بي كذا وكذا»)(1).

المسألة الثالثة: خشوعها في الصلاة وخوفها من الله

إنّ من الصفات التي ترافق حياة الأنبياء فتكون مظهراً من مظاهر الارتباط بالله تعالى هو الخشوع أثناء الصلاة وذلك أن الصلاة هي وسيلة للعروج إلى حضرة القدس والجلالة؛ ومن ثم فإن الخشوع هو دليل ارتباط المصلي بربه وخطور قلبه عند خالقه سبحانه وقد امتدح القرآن الكريم الخشوع وجعله من صفات المؤمنين فقال عزّ وجل:

قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ خٰاشِعُونَ (2) .

في حين بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته معنى الخشوع في الصلاة وكيفيته فكان منها:

1 - عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في قوله تعالى:

اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ خٰاشِعُونَ .

قال:

ص: 30


1- جمال الأسبوع للسيد ابن طاووس: ص 90؛ البحار: ج 86، ص 365؛ فضائل القرآن للصالحي: ص 138.
2- سورة المؤمنون، الآيتان: 1 و 2.

«الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك»(1).

2 - وعنه عليه السلام قال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(2).

3 - وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«الخشوع الذي لا يعرف عن يمنيه ولا الذي عن يساره، إنما ينظر إلى موضع سجوده»(3).

4 - وعن الباقر عليه السلام قال:

«أخشع ببصرك ولا ترفعه إلى السماء، وليكن حذاء وجهك في موضع سجودك»(4).

وعليه: فإن هذه الصفة الدالة على ارتباط المصلي بالله تعالى فإنها تتعاظم عند الأنبياء والمرسلين والأولياء وفي ذلك (روى أحمد بن محمد بن فهد في عدة الداعي، روي أن إبراهيم عليه لاسلام كان يسمع تأوهه على حد ميل حتى مدحه الله بقوله:

إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّٰاهٌ مُنِيبٌ (5) .

ص: 31


1- الصلاة في الكتاب والسنة للريشهري: ص 84.
2- مسند زيد بن علي: ص 120.
3- الصلاة في الكتاب والسنة: ص 84.
4- الكافي للكليني: ج 3، ص 301.
5- سورة هود، الآية: 75.

وكان في صلاته يسمع له أزيز كأزيز المرجل وكذلك كان يسمع من صدر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك وكانت فاطمة عليها السلام تنهج(1) في الصلاة من خيفة الله)(2).

بل إننا نجد من خلال النصوص أن لفاطمة صلوات الله عليها حالات من الخوف والخشوع والتضرع إلى الله تعالى ما جعلها تمتاز على غيرها من الأولياء لله تعالى فقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حالة الصلاة لربها فقال:

«وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجل لملائكته: يا ملائكتي أنظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها(3) من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار»(4).

ص: 32


1- النهج والنهيج: الربو وتواتر النفس من شدة الحركة أو فعل متعب؛ النهاية لابن الأثير: ج 5، ص 134.
2- مستدرك الوسائل: ج 4، ص 100.
3- الفرائص: جمعه فريصة، وهي لحمة بين الكتب والصدر ترتعد عند الفزع.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 176.

المبحث الثالث: تسبيح فاطمة عليها السلام

اشارة

اشتهر تسبيح فاطمة صلوات الله عليها بين المسلمين لاسيما الإمامية بشكل كبير إذ لم يكد يخلو كتاب من كتب الأدعية والأذكار منه فضلاً عن كتب الحديث والسيرة، بل: إن هذا التسبيح انتشر ذكره في كتب الحديث لدى أبناء العامة وهذا يكشف عن أهميته البالغة.

إلاّ أن الفارق بين إيراده في كتب الإمامية وكتب أبناء العامة هو بيان آثاره الدنيوية والأخروية لدى المسبح به.

ولذا: وجدنا - أولاً - بيان كيفية التسبيح وسبب صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلمه لفاطمة عليها السلام، وثانياً: بيان آثاره الدنيوية والأخروية.

ص: 33

المسألة الأولى: سبب صدور التسبيح

ما رواه رئيس المحدثين الشيخ الصدوق رحمه الله في الفقيه (عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل من بني سعد:

«ألا أحدثكم عني وعن فاطمة عليها السلام، إنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.

فقلت لها لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل.

فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده أحداثاً فاستحيت وانصرفت فعلم عليه السلام أنها جاءت لحاجة فغدا علينا ونحن في لحافنا فقال:

السلام عليكم فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف وقد كان يفعل ذلك، يسلم ثلاثا فإن أذن له وإلا انصرف.

فقلت: وعليك السلام يا رسول الله أدخل فدخل وجلس عند رؤوسنا وقال يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد فخشيت إن لم تجبه أن يقوم فأخرجت رأسي وقلت:

والله أنا أخبرك يا رسول الله أنها استقت بالقبة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل.

ص: 34

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم إذا أخذتما منامكما فكبرا أربعا وثلاثين تكبيرة، وسبحا ثلاثا وثلاثين، وأحمدا ثلاثاً وثلاثين فأخرجت فاطمة عليها السلام رأسها وقالت: رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله»)(1).

ورواه البخاري وغيره مختصراً بهذا اللفظ:

(حدّثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن الحكم سمعت ابن أبي ليلى قال حدثنا علي - عليه السلام:

«إنّ فاطمة - عليها السلام - شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبيٌ ، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة، فأخبرتها فلما جاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم قال: (علا مكانكما).

فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: (ألا أعلمكما خيرا مما سألتني إذا أخذتما مضاجعكما تكبّرا أربعا وثلاثين، وتسبحا ثلاثا وثلاثين، وتحمدا ثلاثة وثلاثين، فهو خير كلما من خادم»)(2).

ص: 35


1- مفتاح الفلاح للبهائي: ص 276؛ علل الشرايع: ج 2، ص 366؛ من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 1، ص 321؛ وسائل الشيعة: ج 12، ص 67؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج 6، ص 312.
2- أخرجه البخاري في أكثر من باب، وهي: باب دعاء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، وباب مناقب المهاجرين والأنصاري، وباب النفقات، وفي كتاب الدعوات؛ وأخرجه أحمد في المسند: من مسند علي بن أبي طالب عليه السلام: ج 1، ص 96؛ صحيح ابن حبان: ج 12؛ شعب الإيمان للبيهقي: ج 1، ص 426، برقم 608؛ الترغيب والترهيب: برقم 5524 و في ص 339، برقم 5529؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 164، برقم 4724؛ عمل اليوم والليلة للنسائي: ص 473، برقم 814 و 815؛

المسألة الثانية: في كيفية التسبيح

لتسبيح فاطمة صلوات الله عليها كيفيتان؛ الأولى في النهار، والثانية عند الاضطجاع للنوم فأما ما يقرأ في النهار، فقد روي عن أئمة العترة صلوات الله عليهم الكيفية الآتية:

أن يبدأ المسبح بالتكبير (34) ويثني بالتحميد (33) ويتبعها بالتسبيح (33) بمعنى: أن يقول (الله أكبر، 34)، و (الحمد لله، 33)، و (سبحان الله، 33)(1).

أما في الاضطجاع وعند النوم فيكون التكبير 34، ومن ثم التسبيح 33، ومن ثم التحميد 33.

ص: 36


1- المحاسن للبرقي: ج 1، ص 36.

المسألة الثالثة: آثار تسبيح فاطمة عليها السلام الأخروية

اشارة

لتسبيح فاطمة صلوات الله عليها مجموعة من الآثار الدينيوية والأخروية وهو ما دلت عليه الروايات الشريفة عن العترة النبوية وهي كالآتي:

أولاً: إن تسبيح فاطمة أحب إلى الله تعالى من ألف ركعة

وهو ما أخرجه الشيخ الكليني والصدوق والحر العاملي (عن أبي خالد القماط قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول:

«تسبيح فاطمة عليها السلام في كل يوم في دبر كل صلاة أحب إلى الله من صلاة ألف ركعة في كل يوم»)(1).

ثانياً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام هو المخصوص بالذكر الكثير الذي نص عليه القرآن

وقد ورد فيه بعض الروايات الشريفة التي أظهرت أن تسبيح فاطمة عليها السلام هو المخصوص بقوله تعالى:

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً(2) .

وذلك لقول الصادقين عليهما السلام، وهي:

1 - عن محمد بن مسلم قال:

سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:

ص: 37


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 343؛ ثواب الأعمال للصدوق: ص 163؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 6، ص 444.
2- سورة الأحزاب، الآية: 46.

«تسبيح فاطمة عليها السلام من ذكر الله الكثير الذي قال الله عزّ وجل:

اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً »(1).

2 - عن إسماعيل بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله - الصادق عليه السلام - قوله عزّ وجل: اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً ، ما هو؟

قال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم فاطمة عليها السلام أن تكبر أربعا وثلاثين تكبيرة، وتسبّح ثلاثا وثلاثين تسبيحة، وتحمد ثلاثا وثلاثين تحميدة، فإذا فعلت ذلك بالليل مرة وبالنهار مرة فقد ذكرت الله كثيرا»(2).

3 - وعن الصادق عليه السلام قال:

«من بات على تسبيح فاطمة عليها السلام كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(3).

ثالثاً: تسبيح فاطمة بعد الفريضة يوجب غفران الذنوب

ما رواه الحر العاملي عن الصادق عليه السلام أنه قال:

«من سبح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يثني رجله من صلاة الفريضة غفر الله له ويبدأ بالتكبير»(4).

ص: 38


1- مستردك الوسائل للنوري: ج 5، ص 36.
2- المصدر السابق.
3- وسائل الشيعة: ج 6، ص 447.
4- الوسائل للحر العاملي: ج 6، ص 442؛ الأمالي للصدوق: ص 643.
رابعاً: تسبيح فاطمة عليها السلام بعد الفريضة يوجب الجنة

من عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

سمعته يقول:

«من سبح تسبيح فاطمة في دبر المكتوبة من قبل أن يبسط رجليه أوجب الله له الجنة»(1).

خامساً: تسبيح فاطمة عليها السلام يطرد الشيطان ويرضي الرحمان

روى الحر العاملي عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (الباقر عليه السلام):

«من سبح تسبيح فاطمة ثم استغفر غفر له وهي مائة باللسان وألف في الميزان وتطرد الشيطان وترضي الرحمن»(2).

سادساً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام أفضل التمجيد

روى الشيخ البهائي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:

«ما عبد الله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام»(3).

ص: 39


1- مستدرك الوسائل: ج 5، ص 34.
2- وسائل الشيعة: ج 6، ص 442.
3- مفتاح الفلاح للشيخ البهائي: ص 65.

المسألة الرابعة: آثار تسبيح فاطمة الدنيوية

اشارة

لتسبيح فاطمة صلوات الله عليها آثار دنيوية تضاف إلى تلك الآثار الأخروية، بمعنى يقرأ هذا التسبيح لغرض الحصول على بعض الآثار الدنيوية التي يحتاج إليها الإنسان، وهي كالآتي:

أولاً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام يحفظ النفس والمتاع في السفر

أخرج البرقي رحمه الله عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«أتى إخوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: إنا نريد الشام في تجارة فعلمنا ما نقول ؟

فقال: نعم، إذا أوتيتما إلى المنزل فصليا العشاء الآخرة فإذا وضع أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة فليسبح بتسبيح فاطمة عليها السلام ثم ليقرأ آية الكرسي فإنه محفوظ من كل شيء حتى يصبح».

وإن لصوصا تبعوهما حتى إذا نزلوا بعثوا غلاما لهم ينظر كيف حالتهما نائمان أم مستيقظان فانتهى الغلام إليهما، وقد وضع أحدهما جنبه على فراشه وقرأ آية الكرسي وسبح تسبيح فاطمة عليها السلام.

قال فإذا عليهما حائطان مبنيان فجاء الغلام فطاف بهما فكلما دار لم ير إلا حائطين مبنيين فرجع إلى أصحابه فقال: لا والله ما رأيت إلا حائطين مبنيين.

فقالوا: له أخزاك الله لقد كذبت بل ضعفت وجبنت فقاموا فنظروا فلم يروا إلا حائطين مبنيين فداروا بالحائطين مبنيين فلم يروا إنساناً فانصرفوا إلى منزلهم.

ص: 40

فلما كان من الغد جاءوا إليهم فقالوا أين كنتم فقالوا: ما كنا إلا هاهنا وما برحنا قالوا: والله لقد جئنا وما رأينا إلا حائطين مبنيين فحدثونا ما قصتكم فقالوا إنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألناه أن يعلمنا فعلمنا آية الكرسي وتسبيح فاطمة عليها السلام فقلنا ذلك قالوا انطلقوا لا والله لا نتبعكم أبداً ولا يقدر عليكم لص بعد هذا الكلام»(1).

ثانياً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام يطرد مردة الشياطين في الليل والنهار

وقد دل عليه الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام الذي رواه السيد ابن طاووس رحمه الله فقال:

«إذا أوى أحدكم إلى فراشه ابتدره ملك كريم وشيطان مريد فيقول له الملك اختم يومك بخير وافتح ليلك بخير، ويقول الشيطان اختم يومك بإثم وافتح ليلك بإثم.

قال فإن أطاع الملك الكريم وختم يومه بذكر الله وفتح ليله بذكر الله إذا أخذ مضجعه وكبر الله أربعا وثلاثين مرة وسبح الله ثلاثا وثلاثين مرة وحمد الله ثلاثا وثلاثين مرة، زجر الشيطان عنه فتنحى وكلأه الملك حتى ينتبه من رقدته، فإذا انتبه ابتدر شيطانه فقال له مثل مقالته قبل أن يرقد ويقول له الملك مثل ما قال له قبل أن يرقد فإن ذكر الله عزّ وجل العبد بمثل ما ذكره أولا طرد الملك شيطانه عنه فتنحى وكتب الله عزّ وجل له بذلك قنوت ليلة»(2).

ص: 41


1- المحاسن للبرقي: ج 2، ص 368؛ مستدرك الوسائل: ج 5، ص 40.
2- فلاح السائل للسيد ابن طاووس: ص 279؛ مستدرك الوسائل: ج 5، ص 40؛ البحار: ج 73، ص 209.
ثالثاً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام ينفع لمن أراد أن يرى ميت له في المنام

ومن الآثار التي أظهرتها الروايات الشريفة عن العترة النبوية صلوات الله عليها أن المؤمن إذا أراد أن يرى حال ميت له من أهله أو خاصة فليعمل بما رواه السيد ابن طاووس بسنده عن بعض الأئمة عليهم السلام أنه قال:

«إذا أردت أن ترى ميتك فبت على طهر واضطجع على يمينك وسبح تسبيح فاطمة عليها السلام ثم قل:

اللهم أنت الحد الذي لا يوصف، والإيمان يعرف منه، منك بدت الأشياء، وإليك تعود، فما أقبل منها كنت ملجأ ومنجاه، وما أدبر منها لم يكن له ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، فأسألك بلا إله إلا أنت، وأسألك بسم الله الرحمن الرحيم بحق محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد النبيين، وبحق علي خير الوصيين، وبحق فاطمة سيدة نساء العالمين، وبحق الحسن والحسين الذي جعلتهما سيدي شباب أهل الجنة عليهم أجمعين السلام أن تصلي على محمد وأهل بيته، وأن تريني ميتي في الحال التي هو فيها فإنك تراه إنشاء الله»(1).

المسألة الخامسة: آثار تسبيح فاطمة عليها السلام العلاجية

اشارة

لم تقتصر آثار تسبيح فاطمة صلوات الله عليها على الآثار الأخروية والدنيوية وإنما له آثاراً علاجية، فقد دلت الروايات الشريفة على فوائد تسبيح فاطمة في العلاج من بعض الأمراض وهو كالآتي:

ص: 42


1- فلاح السائل للسيد ابن طاووس: ص 286؛ البحار: ج 53، ص 329.
أولاً: تسبيح فاطمة ينفع لعلاج ضعف القلب والبدن

روى الحر العاملي مسنداً عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال:

«من أصابه ضعف في قلبه أو بدنه فليأكل لحم الضأن باللبن فإنه يخرج من أوصاله كل داء وغائلة ويقوي جسمه ويشد لثته ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت، ويميت ويحيي وهو حي لا يموت؛ يرددها عشر مرات قبل نومه ويسبح بتسبيح فاطمة عليها السلام ويقرأ آية الكرسي وقل هو الله أحد»(1).

ثانياً: يستخدم تسبيح فاطمة عليها السلام لعلاج قلة السمع

روى الطبرسي أنه: (دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام وكلمه فلم يسمع كلام أبي عبد الله وشكا إليه ثقلا في أذنيه فقال - عليه السلام - له:

«ما يمنعك أو أين أنت من تسبيح فاطمة عليها السلام ؟».

فقال له: جعلت فداك وما تسبيح فاطمة ؟

فقال - عليه السلام -:

«تكبر الله أربعاً وثلاثين وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين وتسبح الله ثلاثاً وثلاثين تمام المائة».

قال: فما فعلت ذلك إلا يسيرا حتى ذهب عني ما كنت أجده)(2).

وعليه:

ص: 43


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي: ج 3، ص 168؛ البحار للمجلسي: ج 73، ص 194.
2- مشكاة الأنوار للطبرسي: ص 483؛ الحدائق الناظرة للمحقق البحراني: ج 8، ص 518؛ مصباح الفقيه للهمداني: ج 2، ص 398؛ مستدرك الوسائل للطبرسي: ج 5، ص 37؛ البحار: ج 82، ص 334.

فإن هذه الأحاديث الشريفة التي كشفت عن أهمية هذا التسبيح وحجم آثاره التي تنوعت فكان منها للآخرة ومنها للدنيا، ومنها للعلاج؛ فإن كل هذا وغيره يكشف كذلك عن تمسك الأئمة عليهم السلام بهذا التسبيح وحث شيعتهم عليه والتزامهم به وتعليم صبيانهم وبناتهم عليه إلى المستوى الذي يظهر فيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حجم هذا التمسك بتسبيح فاطمة عليها السلام فلم يدعه حتى في ليلة صفين.

فقال عليه السلام:

«فو الله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم».

فقال له ابن الكواء الناصبي ولا ليلة صفين ؟ فقال عليه السلام:

«قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة صفين»(1).

وحديثه عليه السلام كان في بيان سبب صدور تسبيح فاطمة عليها السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن هذه الكلمات قد علمها جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وفاطمة صلوات الله عليهما ولعلم الإمام علي عليه السلام بفضل هذه الكلمات وآثارها الدنيوية والأخروية لم يدعها منذ أن علمها له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى في أشد الأوقات انشغالاً كليلة صفين التي كان يقاتل فيها عليه السلام جيش الشام وقد اشتدت ضراوة القتال(2).

ص: 44


1- الغارات للثقفي: ج 2، ص 739؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 107؛ صحيح البخاري، كتاب النفقات: ج 6، ص 193.
2- أما قوله لابن الكواء الناصبي الذي أنكر عليه قوله فقال عليه السلام: «قاتلكم الله يا أهل العراق»،

فضلاً عن ذلك:

فقد دخل أبو هارون المكفوف على الإمام الصادق عليه السلام فقال له:

«إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة، فألزمه، فإنه لم يلزمه عبد فشقي»(1).

وكي يكتمل الأجر والثواب ويزداد المؤمن نفعاً في الدنيا والآخرة، فقد أرشد أئمة الهدى المؤمنين إلى اتخاذ سبحة من طين قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام بعدد هذه التسبيحات كما فعلت فاطمة صلوات الله عليها حينما علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا التسبيح.

فعن الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«من سبّح بسبحة من طين قبر الحسين عليه السلام تسبيحة كتب الله له أربعمائة حسنة ومحا عنه أربعمائة سيئة وقضيت له أربعمائة حاجة، ورفع له أربعمائة درجة».

ثم قال:

«وتكون السبحة بخيوط زرق أربعاً وثلاثين خرزة وهي سبحة مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام لما قتل حمزة عملت من طين قبره سبحة تسبح بها بعد كل صلاة»(2).

ص: 45


1- الأمالي للصدوق: ص 579.
2- جواهر الكلام للعلامة الجواهري: ج 10، ص 406؛ مستدرك الوسائل: ج 5، ص 56.
ثالثاً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء في الأمر العظيم الفادح وكشف الهم والغم وغيرها

ورد في نفس المهموم عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال:

«ضمني والدي عليه السلام إلى صدره - يوم قتل، والدماء تغلي - وهو يقول: يا بنيَّ ! احفظ عنّي دعاءً علّمتنيه فاطمة عليها السلام، وعلّمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلمّه جبرئيل عليه السلام في الحاجة والهم والغم والنازلة إذا نزلت، والأمر العظيم الفادح.

قال عليه السلام: أدع بحقّ يس والقرآن الكريم (الحكيم)، وبحق طه والقرآن العظيم، يا من يقدر على حوائج السائلين، يا من يعلم ما في الضمير، يا منفّس عن المكروبين، يا مفرّج عن المغمومين، يا راحم الشيخ الكبير، يا رازق الطفل الصغير، يا من لا يحتاج إلى التفسير، صلّ على محمد وآل محمد وافعل بي....»(1).

رابعاً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء عند النوم

روى ابن السنّي في كتاب (عمل اليوم والليلة) بإسناده عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت:

«علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات، وقال: إذا أخذت مضجعك، فقولي: الحمد لله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى، سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ، ولا وراء الله ملتجأ، توكلت على الله

ص: 46


1- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 217، باب دعواتها، برقم 157 (4).

ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا»(1).

خامساً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء لقضاء الدين، والغنى من الفقر

جاء في بحار الأنوار عن أبي المفضل محمد بن عبد الله رحمه الله، قال: كتب إليّ محمد بن الأشعث الكوفي - من مصر - عن موسى بن عمران بن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال:

«إنّ فاطمة عليها السلام شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأرق، فقال لها: قولي يا بنية: يا مشبع البطون الجائعة، ويا كاسي الجسوم العارية، ويا ساكن العروق الضاربة، ويا منوم العيون الساهرة، سكن عروقي الضاربة وأذن لعيني نوماً عاجلاً.

قال عليه السلام: فقالته، فذهب عنها، ما كان تجده»(2).

سادساً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء عند نزول المصيبة، والخوف من السلطان

ورد في كتاب مكارم الأخلاق، عن جابر بن عبد الله الأنصاري: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلّم عليا وفاطمة عليهما السلام، هذا الدّعاء فقال لهما:

ص: 47


1- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 217، باب دعواتها، برقم 158 (5).
2- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 218، باب دعواتها، برقم 160 (7).

«إن نزلت بكما مصيبة، أو خفتما جور السلطان، أو ضلّت لكما ضالة، فأحسنا الوضوء، وصلّيا ركعتين، ورافعا أيديكما إلى السماء، وقولا: (يا عالم الغيب والسرائر، يا مطاع، يا عليم، يا الله يا الله يا الله، يا هازم الأحزاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، يا كائد فرعون لموسى، يا منجي عيسى من أيدي الظلمة، يا مخلّص قوم نوح مِنَ الغرق، يا راحمَ عبده يعقوب، يا كاشفَ ضرّ أيّوب، يا منجي ذي النون من الظلمات، يا فاعل كل خير، يا هادياً إلى كل خير، يا دالاً على كلّ خير، يا آمراً بكل خير، يا خالق الخير، ويا أهل الخيرات، أنت الله رغبت إليك فيما قد علمت، وأنت علام الغيوب، أسألك إن تصلي على محمد وآل محمد)، ثم اسألا الحاجة تجاب إن شاء الله تعالى»(1).

سابعاً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء لدفع الحمى والنجاة منها، وهو المعروف بدعاء النور

في مهج الدعوات: عن الشيخ علي بن محمد بن علي بن عبد الصمد، عن جدّه، عن الفقيه أبي الحسن، عن أبي البركات علي بن الحسين الجوزي، عن الصدوق، عن الحسن بن محمد بن سعيد، عن فرات بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد بن بشرويه، عن محمد بن إدريس بن سعيد الأنصاري، عن داود بن رشيد، والوليد بن شجاع بن مروان، عن عاصم، عن عبد الله بن سلمان الفارسي، عن أبيه، قال:

(خرجت من منزلي يوما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 48


1- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 222، باب دعواتها، برقم 166 (13).

بعشرة أيّام، فلقيني علي بن أبي طالب عليه السلام ابن عمّ الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي:

«يا سلمان! جفوتنا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فقلت: حبيبي أبا الحسن! مثلكم لا يجفى، غير أن حزني على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طال فهو الذي منعني من زيارتكم، فقال عليه السلام لي:

«يا سلمان! ائتِ منزل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّها إليك مشتاقة، (و) تريد أن تتحفك بتحفة قد أتحفت بها من الجنة».

قلت لعلي عليه السلام: قد أتحفت فاطمة عليها السلام بشيء من الجنة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟، قال (عليه السلام):

«نعم، بالأمس».

قال سلمان الفارسي: فهرولت إلى منزل فاطمة عليها السلام بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.... إلى أن قالت:

«ألا أعلمك بكلام علمينه أبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنت أقوله غدوة وعشيّة ؟».

قال سلمان: قلت: علميني الكلام يا سيدتي! فقالت:

«إن سرّك أن لا يمسك أذى الحمى ما عشت في دارا لدنيا، فواظب عليه».

ثم قال سلمان: علمتني هذا الحرز فقالت:

«بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله النور، بسم الله نور النور، بسم الله نور على نور،

ص: 49

بسم الله الذي هو مدبر الأمور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمد لله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، بقدر مقدور، على نبي محبور، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور، وبالفخر مشهور، وعلى السراء والضراء مشكور، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين».

قال سلمان: فتعلمتهن، فو الله لقد علمتهن أكثر من ألف نفس من أهل - المدينة ومكة - ممن بهم الحمى، فكل بريء من مرضه بإذن الله تعالى)(1).

ص: 50


1- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 222-223، باب دعواتها، برقم 167 (14).

المبحث الرابع: أدعيتها المخصوصة بأيام الأسبوع، ولبعض الحوائج

اشارة

لفاطمة صلوات الله عليها مجموعة من الأدعية كانت تخص بها كل يوم من أيام الأسبوع، فضلاً عن بعض الأدعية التي كانت تدعو بها، وأخرى علمتها بعض المؤمنين من خلال الرؤيا، وهي كالآتي:

المسألة الأولى: أدعيتها المخصوصة لأيام الأسبوع

أولاً: دعاء يوم السبت

«اللهمَ افتح لنا خزائن رحمتك، وهب لنا اللهم رحمة لا تعذبنا بعدها في الدنيا والآخرة، وارزقنا من فضلك الواسع رزقاً حلالاً طيباً، ولا تحوجنا ولا تفقرنا إلى أحد سواك، وزدنا لك شكراً، وإليك فقرا وفاقة، وبك عمن سواك غنى وتعففا.

اللهم وسع علينا في الدنيا، اللهم إنا نعوذ بك أن تزوي وجهك عنا في حال،

ص: 51

ونحن نرغب إليك فيه، اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعطنا ما تحب، واجعله لنا قوّة فيما تحبّ يا أرحم الراحمين»(1).

ثانياً: دعاء يوم الأحد

«اللهم اجعل أول يومي هذا فلاحاً، وآخره نجاحا، وأوسطه صلاحاً، اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا ممن أناب إليك فقبلته، وتوكّل عليك فكفيته، وتضرّع إليك فرحمته»(2).

ثالثاً: دعاء يوم الاثنين

«اللهم إنّي أسألك قوة في عبادتك، وتبصراً في كتابك، وفهما في حكمك، اللهم صل على محمد وآل محمد، ولا تجعل القرآن بنا ماحلاً، والصراط زائلاً، ومحمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عنا مولّيا»(3).

رابعاً: دعاء يوم الثلاثاء

«اللهم اجعل غفلة الناس لنا ذكراً، واجعل ذكرهم لنا شكراً، واجعل صالح ما نقول بألسنتنا نية في قلوبنا، اللهم إن مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا، اللهم صل على محمد وآل محمد ووفقنا لصالح الأعمال، والصواب من الفعال»(4).

ص: 52


1- مسند فاطمة: ص 225، باب دعواتها، برقم 171 (18).
2- مسند فاطمة: ص 226، باب دعواتها، برقم 172 (19).
3- مسند فاطمة: ص 226، باب دعواتها، برقم 173 (20).
4- مسند فاطمة: ص 226، باب دعواتها، برقم 174 (21).
خامساً: دعاء يوم الأربعاء

«اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، وركنك الذي لا يرام، وبأسمائك العظام، وصل على محمد وآله، واحفظ علينا ما لز حفظه غيرك ضاع، واستر علينا ما لو ستره غيرك شاع، واجعل كل ذلك لنا مطواعا، إنك سميع الدعاء قريب مجيب»(1).

سادساً: دعاء يوم الخميس

«اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والعمل بما تحب وترضى، اللهم إني أسألك من قوّتك لضعفنا، ومن غناك لفقرنا وفاقتنا، ومن حلمك وعلمك لجهلنا، اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعنا على شكرك وذكرك وطاعتك وعبادتك برحمتك يا أرحم الراحمين»(2).

سابعاً: دعاء يوم الجمعة

«اللهم اجعلنا من اقرب من تقرب إليك، وأوجه من توجه إليك، وانجح من سألك وتضرع إليك، اللهم اجعلنا ممن كأنه يراك إلى يوم القيامة الذي فيه يلقاك، ولا تمتنا إلاّ على رضاك، اللهم واجعلنا ممن اخلص لك بعمله، وأحبك في جميع خلقك، اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا مغفرة جزما حتما لا نقترف بعدها ذنبا، ولا نكتسب خطيئة ولا إثما، اللهم صل على محمد وآل محمد صلاة نامية دائمة زاكية متتابعة متواصلة مترادفة برحمتك يا أرحم الراحمين»(3).

ص: 53


1- مسند فاطمة: ص 226، باب دعواتها، برقم 175 (22).
2- مسند فاطمة: ص 228، باب دعواتها، برقم 176 (23).
3- مسند فاطمة: ص 228، باب دعواتها، برقم 177 (24).

المسألة الثانية: أدعيتها لبعض الحوائج

أولاً: دعائها لخير الدنيا والآخرة

في البحار: عن اختيار بن الباقي: دعاء عن سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام:

«اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك كلمة الإخلاص، وخشيتك في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلمة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين، يا رب العالمين»(1).

ثانياً: دعائها لوالديها والتوفيق للعمل الصالح وتيسير الأمور

وفي مهج الدعوات: دعاء آخر، عن مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام:

«اللهم قنّعني بما رزقتني، واسترني، وعافني أبداً ما أبقيتني، واغفر لي وارحمني إذا توفّيتني، اللهم لا تعيني في طلب ما لم تقدر لي، وما قدرته عليّ ، فاجعله ميسّرا سهلاً.

اللهم كاف عني والديّ ، وكل من له نعمة علي خير مكافاة.

اللهم فرّغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكلفت لي به، ولا تعذبيني وأنا أستغفرك، ولا تحرمني وأنا أسألك.

اللهم ذلل نفسي، وعظم شأنك في نفسي، وألهمني طاعتك، والعمل بما يرضيك، والتجنب لما يسخطك يا أرحم الراحمين»(2).

ص: 54


1- مسند فاطمة: ص 224، باب دعواتها، برقم 169 (16).
2- مسند فاطمة: ص 225، باب دعواتها، برقم 170 (17).

المسألة الثالثة: ما علمته لبعض المؤمنين من الأدعية

أولاً: دعاء علمته لرجل كان محبوساً في الشام

روي أنّ رجلا كان محبوساً بالشام مدة طويلة مضيقا عليه، فرأى في منامه كأن الزهراء عليها السلام أتته، فقالت له:

«أدع بهذا الدعاء».

فتعلمه ودعا به، فتخلص ورجع إلى منزله وهو:

«اللهم بحق العرش ومن علاه، وبحق الوحي ومن أوحاه وبحق النبي ومن نبأه، وبحق البيت ومن بناه، يا سامع كل صوت، يا جامع كل فوت، يا باري النفوس بعد الموت، صل على محمد وأهل بيته، وآتنا وجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها فرجاً من عندك عاجلاً، بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبدك ورسولك صلى الله عليه وآله وسلم على ذريته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما»(1).

ثانياً: الدعاء الجامع الذي علمته لرجل من ذريتها

ورد في كتاب دار السلام: الشيخ الطبرسي في كتاب (كنوز النجاح) عن ابي أحمد بن عبد السلام بن الحسين التجري الكاتب، والمعروف - بقطان المقري - قال: (رأيت أحمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن طاهر العلوي الحسيني - الوالي على المدينة - يتضرّع ويدعو كثيراً، ثم ذهبت إلى سفر، فلم أره مدة مديدة، فلما رجعت منه رأيته قد نقص تضرعه ودعاءه فسألته عن سبب تنقيصه ؟ فقال: كنت

ص: 55


1- مسند فاطمة: ص 219، باب دعواتها، برقم 161 (8).

ليلة في حرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الروضة - وهي ما بين القبر والمنبر - فصليت نافلة الصبح، فغلني النوم قبل أداء فريضة الصبح، وكان من عادتي التضرع والدعاء في هذا الوقت، فرأيت فاطمة الزهراء عليها السلام في النوم وهي تقول لي:

«يا ولدي، يا بن عبد الرحمن! كثرة تضرعك ودعائك قد أقرح قلبي».

فقلت: إنكم قد أمرتمونا بالتضرع والإنابة.

قالت (عليها السلام):

«صدقت، ولكن أين أنت من الدعاء الجامع ولم لا تدعوه ؟».

فقلت: وما الدعاء الجامع ؟

فقالت:

«قل: اللهم قنعني بما رزقتني، واسترني، وعافني أبدا ما أبقتني، واغفر لي، وارحمني إذا توفيتني.

اللهم لا تتعبني في طلب ما لم تقدّره لي، وما قدرت لي فاجعله سهلا يسيراً.

اللهم كاف عني والدي وكل ذي نعمة علي.

اللهم فرغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكلفت لي به، ولا تعذبني وأنا أستغفرك ولا تحمرني وأنا أسألك.

اللهم ذلل نفسي لي في نفسي، وعظم شأنك في قلبي، وألهمني طاعتك، والعمل بما يرضيك، والتجنب لما يسقطك يا أرحم الراحمين»(1).

ص: 56


1- مسند فاطمة: ص 220، باب دعواتها، برقم 162 (9).
ثالثاً: روايتها لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المسجد

الأمالي: عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة، عن جدّته عليها السلام، قالت:

«كأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد صلّى على النبي، وقال:

«اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك.

وإذا خرج صلى على النبي، وقال: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك»(1).

ص: 57


1- مسند فاطمة: ص 225، باب دعواتها، برقم 194 (41)؛ وروى الترمذي كذلك؛ وقال علي بن حجر عن عبد الله بن الحسن قال: كان إذا دخل رسول الله المسجد قال: «رب افتح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرج قال: «رب افتح لي أبواب فضلك»؛ وروى عبد الرزاق عن فاطمة بنت الحسن، عن فاطمة الكبرى قالت: «كان رسول الله إذا دخل المسجد قال: اللهم صل على محمد، اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح ابواب رحمتك»، وإذا خرج قال: مثلها، إلا أنه يقول: «أبواب فضلك»؛ وروى السيوطي في مسند فاطمة أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد يقول: بسم الله، والسلام على رسول الله اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج قال: بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك»؛ وروى الدولابي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام عن فاطمة عليها السلام، أنها قالت: «كان النبي إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: الهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي ابواب رحمتك، واذا خرج صلى على محمد وقال: اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك».

المبحث الخامس: ما تدعو به من الأدعية بعد الصلوات اليومية

اشارة

إن لفاطمة صلوات الله عليها أدعية خاصة للفرائض اليومية كانت تعقب بها هذه الصلوات الخمس وهي كالآتي:

المسألة الأولى: دعاؤها عقيب صلاة الصبح، المسمى ب - (دعاء الحريق)

ومما روي عنها عليها السلام - في تعقيب صلاة الفجر - وهو الدعاء المعروف ب - (دعاء الحريق)، روي عن الصادق عليه السلام أنه قال:

«سمعت ابي محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول: كنت مع أبي علي بن الحسين عليهما السلام ب - (قبا) (وهو) يعود شيخاً من الأنصار، إذ أتى أبي عليه السلام آت، وقال له: ألحق دارك، فقد احترقت.

فقال (عليه السلام): لم تحترق، فذهب، ثم عاد وقال: قد احترقت، فقال أبي (عليه السلام): والله ما احترقت فذهب، ثم عاد ومعه جماعة من أهلنا وموالينا، وهم يبكون ويقولون لأبي: قد احترقت دارك.

ص: 58

فقال (عليه السلام): كلا، والله، ما احترقت، إني بربي أوثق منكم، ثم انكشف الأمر عن احتراق جميع ما حول الدار إلا هي.

فقال أبي الباقر لأبيه زين العابدين عليه السلام ما هذا؟

فقال عليه السلام يا بني! شيء نتوارثه من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أحب إليّ من الدنيا وما فيها من المال والجواهر والأملاك، وأعد من الرجال والسلاح، وهو سرّ أتى به جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعلمه عليا وابنته فاطمة عليهما السلام وتوارثناه نحن، وهو الدعاء الكامل الذي من قدمه أمامه كل يوم، وكل الله تعالى به ألف ملك يحفظونه في نفسه وأهله وولده وحشمه وماله وأهل عنايته من الحرق والغرق والشرق والهدم والردم والخسف والقذف، وآمنه الله تعالى من شر الشيطان والسلطان، ومن شر كل ذي شر، وكان في أمان الله وضمانه، وأعطاه الله تعالى على قراءته - إن كان مخلصاً موقنا - ثواب مائة صديق، وإن مات في يومه دخل الجنة، فاحفظ يا بني! ولا تعلمه إلا بمن تثق به، فإنه لا يسأل محق به شيئا إلا أعطاه الله تعالى».

كما ورد في (مصباح) الشيخ، و (كتاب) الكفعمي، وغيرهما (في باب التعقيب المختص لصلاة الفجر): ثمّ تدعو بدعاء، وإليك نص الدعاء الكامل المعروف.

«بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إني أصبحت أشهدك وكفى بك شهيدا، وأشهد ملائكتك، وحملة عرشك، وسكان سبع سماواتك، أرضيك وأنبيائك ورسلك، وورثة أنبيائك ورسلك، والصالحين من عبادك، وجميع خلقك، فاشهد لي، وكفى بك شهيداً.

ص: 59

إلهي إنّي أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت المعبود، وحدك لا شريك لك، وأنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عدبك ورسولك، وأن كل معبود مما دون عرشك على قرار أرضك السابعة السفلى، باطل مضمحل ماخلا وجهك الكريم، فإنه أعز وأكرم، وأجل وأعظم، من أن يصف الواصفون كنه جلاله، أو تهتدي القلوب إلى كنه عظمته، يا من فاق مدح المادحين مفاخر مدحه، وعلا وصف الواصفين مآثر حمده، وجل عن مقالة الناطقين تعظيم شأنه، صل على محمد وآله، وافعل بنا ما أنت أهله، يا أهل التقوى، وأهل المغفرة».

يقرأ ذلك ثلاثا، ثم يقول: إحدى عشرة مرة:

«لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، ويميت ويحيى، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير».

ويقول: إحدى عشرة مرة - أيضاً -:

«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أستغفر الله وأتوب إليه، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، الحليم الكريم، العلي العظيم، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، الحق المبين، عدد خلقه، وزنة عرشه، وملء سماواته وأرضه، وعدد ما جرى به قلمه، وأحصاه كتابه، ومداد كلماته، ورضا نفسه».

ثم يقول:

«اللهم صل على محمد وأهل بيت محمد المباركين، وصل على جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وحملة عرشك أجمعين، والملائكة المقربين، اللهم صل عليهم جميعا

ص: 60

حتى تبلغهم الرضا، وتزيدهم بعد الرضا مما أنت أهله، يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وصل على ملك الموت وأعوانه، وصل على رضوان وخزنة الجنان، وصل على ما لك وخزنة النيران، اللهم صل عليهم جميعا حتى تبلغهم الرضا وتزيدهم بعد الرضا مما أنت أهله، يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على الكرام الكاتبين، والسفرة الكرام البررة، والحفظة لبني آدم، وصل على ملائكة الهواء، والسماوات العلى، وملائكة الأرضين السفلى، وملائكة الليل والنهار، والأرض والأقطار، والبحار والأنهار، والبراري والفلوات، والقفار والأشجار، وصل على ملائكتك الذين أغنيتهم عن الطعام والشراب بتسبيحك وتقديسك وعبادتك.

اللهم صل عليهم، حتى تبلغهم الرضا، وتزيدهم بعد الرضا مما أنت أهله، يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وصل على أبينا آدم وأمنا حواء، وما ولدا من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.

واللهم صل عليهم حتى تبلغهم الرضا، وتزيدهم بعد الرضا مما أنت أهله يا أرحم الرحمين.

اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين، وعلى أصحابه المنتجبين، وعلى أزواجه المطهرات، وعلى ذرية محمد، وعلى كل نبي بشر بمحمد، وعلى كل نبي ولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى كل امرأة صالحة كفلت محمدا، وعلى كل ملك هبط إلى محمد، وعلى كل من في صلواتك عليه رضى لك ورضى نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 61

اللهم صل عليهم حتى تبلغهم الرضا، وتزيدهم بعد الرضا مما أنت أهله، يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كأفضل ما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم أعط محمدا الوسيلة، والفضل، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وأعطه حتى يرضى، وزده بعد الرضا مما أنت أهله، يا أرحم الراحمين.

الله! صل على محمد وآل محمد، كما أمرتنا أن نصلّي عليه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، كما ينبغي لنا أن نصلي عليه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، بعدد كل حرف في صلاة صليت عليه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، بعدد من صلى عليه، ومن لم يصل عليه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، بعدد كل شعرة ولفظة ولحظة، ونفس وصفة، وسكون وحركة، ممن صلى عليه، وممن لم يصل عليه، وبعدد ساعاتهم، ودقائقهم، وسكونهم، وحركاتهم، وحقائقهم، وميقاتهم، وصفاتهم، وأيّامهم، وشهورهم، وسنّيهم، وأشعارهم، وأبشارهم، وبعدد زنة ذرّ ما عملوا أو يعملون، أو بلغهم أو رأوا أو ظنّوا أو فطنوا أو كان منهم أو يكون إلى يوم القيامة، وكأضعاف ذلك أضعافاً مضاعفة، إلى يوم القيامة، يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، بعدد ما خلقت، وما أنت خالقه إلى يوم القيامة، صلاة ترضيه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، بعدد ما ذرأت وما برأت.

ص: 62

اللهم لك الحمد، والثناء والشكر، والمن، والفضل، والطول، والخير، والحسنى، والنعمة، والعظمة، والجبروت، والملك، والملكوت، والقهر، والسلطان، والفخر، والسؤدد، والامتنان، والكرم، والجلال، والإكرام، والجمال، والكمال، والخير، والتوحيد، والتمجيد، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والتقديس، والرحمة، والمغفرة والكبرياء، والعظمة، ولك ما زكى وطاب، وطهر من الثناء الطيب، والمديح الفاخر، والقول الحسن الجميل، الذي ترضى به عن قائله، وترضي به قائله، وهو رضى لك، حتى يتصل حمدي بحمد أول الحامدين، وثنائي بثناء أول المثنين على رب العالمين، متصلا ذلك بذلك، وتهليلي بتهليل أول المهللين، وتكبيري بتكبير أول المكبرين، وقولي الحسن الجميل بقول أول القائلين، المجملين المثنين على رب العالمين، متصلا ذلك بذلك، من أول الدهر إلى آخره، وبعدد ذر السماوات والأرضين، والرمال، والتلال والجبال، وعدد الثرى والحصى، والنوى المدر، وعدد زنة ذلك كله، وعدد زنة ذر السماوات والأرضين، وما فيهن وما بينهن وماتحتهن وما بين ذلك وما فوقهن إلى يوم القيامة، من لدن العرش، إلى قرار أرضك السابعة السفلى، وبعدد حروف ألفاظ أهلهنّ ، وعدد أرماقهم، ودقائقهم، وشعائرهم، وساعاتهم، وأيّامهم، وشهورهم، وسنيّهم، (سنينهم) وسكونهم، وحركاتهم، وأشعارهم (أسعارهم)، وأبشارهم، وأنفاسهم وبعدد زنة ما عملوا أو يعملون به، أو بلغهم أو رأو أو ظنّوا أو فطنوا أو كان منهم أوي كون ذلك إلى يوم القيامة، وعدد زنة ذرّ ذلك وأضعاف ذلك، وكأضعاف ذلك أضعافاً مضاعفة، لا يعلمها ولا يحصيها غيرك، يا ذا الجلل والإكرام، وأهل ذلك، أنت، ومستحقه ومستوجبه مني ومن جميع خلقك، يا بديع السماوات والأرض.

ص: 63

اللهم إنك لست برب استحدثناك، ولا معك إله فيشركك في ربوبيتك، ولا معك إله أعانك على خلقنا، أنت ربنا كما تقول، وفوق ما يقول القائلون، أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تعطي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل ما سألك، وأفضل ما سئلت له، وأفضل ما أنت مسؤول له إلى يوم القيامة.

أعيذ أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونفسي، وديني، و (ذريتي) ومالي، وولدي، وأهلي، وقراباتي، وأهل بيتي، وكل ذي رحم لي، ودخل في الإسلام أو يدخل إلى يوم القيامة، وحزانتي، وخاصتي، ومن قلدني دعاء، أو أسدى إليّ برّاً (يداً)، أو رد عنّي غيبة، أوقال فيّ خيراً، أو اتّخذت عنده يداً أو صنيعة، وجيراني، وإخواني من المؤمنين والمؤمنات، بالله وبأسمائه التامة العامة، الشاملة الكاملة، الطاهرة الفاضلة، المباركة المتعالية، الزاكية الشريفة، المنيعة الكريمة، العظيمة المخزونة، المكنونة التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، وبأم الكتاب وخاتمته، وما بينهما من سورة شريفة، وآية محكمة، وشفاء، ورحمة، وعوذة، وبركة، وبالتوراة والإنجيل والزبور، والفرقان، وصحف إبراهيم وموسى، وبكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله، وبكل حجة أقامها الله، وبكل برهان أظهره الله، وبكل نور أنارها لله، وبكل آلاء الله وعظمته أعيذ.

وأستعيذ من شر كل ذي شر، ومن شر ما أخاف وأحذر، ومن شر ما ربي منه أكبر، ومن شر فسقة العرب والعجم، ومن شر فسقة الجن والإنس، والشياطين والسلاطين، وإبليس وجنوده، وأشياعه ومن شر ما في النور والظلمة، ومن شر ما دهم أو هجم أو ألم، ومن شر كل غم وهم، وآفة وندم، ونازلة وسقم، ومن شر ما يحدث في الليل والنهار، وتأتي به الأقدام، ومن شر ما في النار، ومن شر ما في

ص: 64

الأرض، والأقطار والفلوات، والقفار، والبحار، والأنهار، ومن شر الفساق والفجار، والكهان والسحار، والحساد، والذعار، والأشرار، ومن شر ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر كل ذي شر، ومن شر كل دابة ربي آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (1) .

وأعوذ بك - اللهم - من الهم والغم، والحزن والعجز، والكسل، والجبن، والبخل، ومن ضلع الدين، وغلبة الرجال، ومن عمل لا ينفع، ونم عين لا تدمع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نصيحة لا تنجع، ومن صحابة لا تردع، ومن اجتمع على نكر، وتودّد على خسر، أو تؤاخذ على خبث، ومما استعاذ منه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والملائكة المقربون، والأنبياء المرسلون، والأئمة المطهرون (الطاهرون)، والشهداء والصالحون، وعبادك المتقون.

وأسألك اللهم أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تعطيني من الخير ما سألوا، وأن تعيذني من شر ما استعاذوا، وأسألك اللهم من الخير كله - عاجله وآجله - ما عملت منه، وما لم أعلم، وأعوذ بك يا رب من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون.

بسم الله على أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على اهلي ومالي، بسم الله على كل شيء أعطاني ربي، بسم الله على أحبتي وولدي وقراباتي، بسم الله على جيراني المؤمنين، وإخواني، ومن قلدني

ص: 65


1- سورة التوبة، الآية: 129.

دعاءً ، أو اتّخذ عندي يداً، أو أسدى إليّ برا من المؤمنين والمؤمنات، بسم الله على ما رزقني ربي ويرزقني، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وصلني بجميع ما سألك عبادك المؤمنون أن تصلهم به من الخير، واصرف عني جميع ما سألك عبادك المؤمنون أن تصرفه عنهم من السوء والردى، وزدني من فضلك ما أنت أهله ووليه، يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على محمد، وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وعجل اللهم فرجهم وفرجي، وفرج عن كل مهموم، من المؤمنين والمؤمنات.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وارزقني نصرهم، واشهدني أيامهم، واجمع بيني وبينهم في الدنيا والآخرة، واجعل منك عليهم واقية، حتى لا يخلص إليهم إلا بسبيل خير، وعليّ معهم، وعلى شيعتهم، ومحبّيهم، وعلى أوليائهم، وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات، فإنك على كل شيء قدير.

بسم الله، وبالله، ومن الله، وإلى الله، ولا غالب إلا الله، ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله، توكّلت على الله، وأفوّض أمري إلى الله، وألتجئ إلى الله، وبالله أحاول وأصاول، وأكاثر، وأفاخر، وأعتزّ، وأعتصم، عليه توكّلت وإليه متاب، لا إله إلاّ هوالحيّ القيوم، عدد الثرى والحصى والنجوم، والملائكة الصفوف، لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا إله إلا الله سبحانه إني كنت من الظالمين».

المسألة الثانية: دعاؤها عقيب صلاة الظهر

ورد في فلاح السائل: ومن المهمات (الدعاء) عقيب الصلوات الخميس

ص: 66

المفروضات بما كانت الزهراء فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام تدعو به، فمن ذلك دعاؤها عليها السلام عقيب فريضة الظهر، وهو:

«سبحان ذي العز الشامخ المنيف، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذي الملك الفاخر القديم، والحمد لله الذي بنعمته بلغت ما بلغت به من العلم، والعمل له، والرغبة إليه، والطاعة لأمره، والحمد لله الذي لم يجعلني جاحداً لشيء من كتابه، ولا متحيرا في شيء من أمره، والحمد لله الذي هداني لدينه، ولم يجعلني أعبد شيئاً غيره.

اللهم إنّي أسألك قول التوابين وعملهم، ونجاة المجاهدين وثوابهم، وتصديق المؤمنين وتوكّلهم، والراحة عند الموت، والأمن عند الحساب، واجعل الموت خير غائب أنتظره، وخير مطلع يطلع عليّ ، وارزقني عند حضور الموت، وعند نزوله، وفي غمراته، وحين تنزل النفس من بين التراقي، وحين تبلغ الحلقوم، وفي حال خروجي من الدنيا، وتلك الساعة التي لا أملك لنفسي فيها ضرّاً ولا نفعاً ولا شدّة ولا رخاء، روحاً من رحمتك، وحظاً من رضوانك، وبشرى من كرامتك قبل أن تتوفّى نفسي، وتقبض روحي، وتسلّط ملك الموت على إخراج نفسي ببشرى منك - يا رب - ليست من أحد غيرك يثلج بها صدري، وتسر بها نفسي، وتقرّ بها عيني، ويتهلّل بها وجهي، ويسفر بها لوني، ويطمئن بها قلبي، ويتباشر بها سائر جسدي، يغبطني بها من حضرني من خلقك ومن سمع بين من عبادك، تهون بها علي سكرات الموت، وتفرج عني بها كربته، وتخفف عني بها شدته، وتكشف عني بها سقمه، وتذهب عني بها همه وحسرته، وتعصمين بها من أسفه وفتنته، وتجيرني بها من شرّه وشر ما يحضر أهله، وترزقني بها خيره وخير ما يحضر

ص: 67

عنده، وخير ما هو كائن بعده.

ثم إذا توفيت نفسي، وقبضت روحي، فاجعل روحي في الأرواح الرابحة، واجعل نفسي في الأنفس الصالحة، واجعل جسدي في الأجساد المطهرة، واجل عملي في الأعمال المتقبلة.

ثم ارزقني في خطتي من الأرض حصتي، وموضع جنبي حيث يرفت لحمي، ويدفن عظمي، واترك وحيدا لا حيلة لي، قد لفظتني البلاد، وتخلى مني العباد، وافتقرت إلى رحمتك، واحتجت إلى صالح عملي، وألقى ما مهدت لنفسي، وقدمت لآخرتي، وعملت في أيام حياتي، فوزاً من رحمتك، وضياء من نورك، وتثبيتا من كرامتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنك تضل الظالمين وتفعل ما تشاء.

ثمّ بارك لي في البعث والحساب إذا انشقت الأرض عنّي، وتخلى العباد مني، وغشيتني الصيحة، وأفزعتني النفخة، ونشرتني بعد الموت، وبعثتني للحساب، فابعث معي يا رب نوراً من رحمتك، يسعى بين يدي، وعن يميني، تؤمني به وتربط به على قلبي، وتظهر به عذرى، وتبيض به وجهي، وتصدق به حديثي، وتفلج به حجتي، وتبلغني به العروة الوثقى من رحمتك، وتحلني الدرجة العليا من جنتك، وترزقني به مرافقة محمد النبي عبدك ورسولك صلى الله عليه وآله وسلم في أعلى الجنة درجة، وأبلغها فضيلة، أبرّها عطية، وأرفعها نفسة، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

اللهم صل على محمد وآل محمد خاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى الملائكة أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أئمة الهدى أجمعين، آمين

ص: 68

رب العالمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد كما هديتنا به، وصل على محمد وآل محمد كما رحمتنا به، وصل على محمد وآل محمد كما عززتنا به، وصل على محمد وآل محمد كما فضلتنا به، وصل على محمد وآل محمد كما شرفتنا به، وصل على محمد وآل محمد كما بصرتنا به، وصل على محمد وآل محمد كما أنقذتنا به من شفا حفرة من النار.

اللهم بيض وجهه، وأعل كعبه، وافلج حجته، وأتمم نوره، وثقل ميزانه، وعظم برهانه، وأفسح له حتى يرضى، وبلغه الدرجة والوسيلة من الجنة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، واجعله أفضل النبيين والمرسلين عندك منزلة ووسيلة، وأقصص بنا أثره واسقنا بكأسه، وأوردنا حوضه، واحشرنا في زمرته، وتوفّنا على ملته، واسلك بنا سبله، واستعملنا بسنته، غير خزايا، ولا نادمين، ولا شاكين، ولا مبدلين (ولا مضلين).

يا من بابه مفتوح لداعيه، وحجابه مرفوع لراجيه، يا ساتر الأمر القبيح، ومداوي القلب الجريح، ولا تفضحني في مشهد القيامة بموبقات الآثام، ولا تعرض بوجهك الكريم عني من بين الأنام، يا غاية المضطر الفقير، ويا جابر العظم الكسير، هب ليس موبقات الجرائر، وأعف عني فاضحات السرائر، واغسل قلبي من وزر الخطايا، وارزقني حسن الاستعداد لنزول المنايا، يا أكرم الأكرمين، ومنتهى منية السائلين.

أنت مولاي فتحت لي باب الدعاء والإنابة، فلا تغلق عني باب القبول والإجابة، ونجني برحمتك منا لنار، وبؤئني غرفات الجنان، واجعلني مستمسكا بالعروة

ص: 69

الوثقى، واختم لي بالسعادة، وأحيني بالسلامة، يا ذا الفضل والكمال، والعزة والجلال، لا تشمت بي عدوّاً ولا حاسداً، ولا تسلط عليّ سلطانا عنيداً، ولا شيطاناً مريداً، برحمتك يا أرحم الراحمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا».

المسألة الثالثة: دعاؤها عقيب صلاة العصر

ورد في كتاب فلاح السائل: ومن المهمات الدعاء عقيب العصر مما كانت الزهراء فاطمة سيدة النساء صلوات الله عليها تدعو به في جملة دعائها للصلوات الخمس، وهو:

«سبحان! مَنْ يَعْلَم خَواطر القلوب، سبحان! من يحصي عدد الذنوب، سبحان! من لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والحمد لله الذي لم يجعلني كافراً لأنعمه، ولا جاحداً لفضله، فالخير فيه وهو أهله.

والحمد لله على حجّته البالغة على جميع من خلق ممن أطاعه، وممن عصاه، فإن رحم فمن منه، وإن عاقب فبما قدمت أيديهم

وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ(1) .

والحمد لله العليّ المكان، والرفيع البنيان، الشديد الأركان، العزيز السلطان، العظيم الشأن، الواضح البرهان، الرحيم الرحمان، المنعم المنان.

الحمد لله الذي احتجب عن كل مخلوق يراه بحقيقة الربوبية، وقدرة الوحدانية، فلم تدركه الأبصار، ولم تحط به الأخبار، ولم يعينه مقدار، ولم يتوهمه اعتبار، لأنه

ص: 70


1- سورة غافر، الآية: 31.

الملك الجبار.

اللهم قد ترى مكاني، وتسمع كلامي، وتطلع على أمري، وتعلم ما في نفسي، وليس يخفى عليك شيءٌ من أمري، وقد سعيت إليك في طلبتي، وطلبت إليك في حاجتي، وتضرّعت إليك في مسألتي، وسألتك لفقر وحاجة وذلة وضيقة وبؤس ومسكنة، وأنت غني عن عذابي.

وأنا فقير إلى رحمتك، فأسألك بفقري إليك وغناك عني، وبقدرتك عليّ وقلة امتناعي منك أن تجعل دعائي هذا دعاءً وافق منك اجابة، ومجلسي هذا مجلسا وافق منك رحمة، وطلبتي هذه طلبة وافقت منك نجاحا، وما خفت عسرته من الأمور فيسره، وما خفت عجزه من الأشياء فوسعه، ومن أرادني بسوء من الخلائق كلهم فأغلبه، آمين يا أرحم الراحمين، وهوّن عليّ ما خشيت شدته، واكشف عني ما خشيت كربته، ويسر لي ما خشيت عسرته آمين رب العالمين.

اللهم أنزع العجب والرياء والكبر والبغي والحسد والضعف والشك والوهن والضر والأسقام والخذلان والمكر والخديعة والبلية والفساد من سمعي وبصري، وجميع جوارحي، وخذ بناصيتي إلى ما تحب وترضى يا ارحم الراحمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر ذنبي، واستر عورتي، وآمن روعتي، واجبر مصيبتي، وأغن فقري، ويسر حاجتي، واقلني عثرتي، واجمع شملي، واكفني ما أهمني، وما غاب عني، وما حضرني، وما أتخوفه منك يا أرحم الراحمين.

اللهم فوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك بما جنيت عليها، فزعا منك وخوفا وطمعا، وأنت الكريم الذي لا يقطع الرجاء، ولا يخيب الدعاء، فأسألك بحق إبراهيم خليلك، وموسى كليمك، وعيسى

ص: 71

روحك، ومحمد صفيك ونبيك صلواتك عليه وآله، أن لا تصرف وجهك الكريم عني حتى تقبل توبتي، وترحم عبرتي وتغفر لي خطيئتي، يا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين.

اللهم اجعل ثاري على من ظلمني، وانصرني على من دعاني، اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا مبلغ علمي.

إلهي! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي من كل خير، واجعل الموت راحة من كل شر.

اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني.

اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، والعدل في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا يبيد، وقرة عين لا ينقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك لذة النظر إلى وجهك.

اللهم إني أستهديك لإرشاد أمري، وأعوذ بك من شر نفسي.

اللهم عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي، أنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك، وصبرا على بليتك، وخروجا من الدنيا إلى رحمتك.

اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك، وأشهد من في السماوات ومن في الأرض إنك أنت الله لا إله إلاّ أنت، وحدك لا شريك لك، وأن حمداً عبدك ورسولك صلى الله عليه وآله وسلم، وأسألك بأن لك

ص: 72

الحمد لا إله إلاّ أنت بديع السماوات والأرض، يا كائنا قبل أني كون شيء، والمكون لكل شيء والكائن بعدما لا يكون شيء.

اللهم إلى رحمتك رفعت بصري، وإلى جودك بسطت كفي، ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذبني وأنا أستغفرك.

اللهم فاغفر لي، فإنك بي عالم، ولا تعذبني فإنك عليّ قادر، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ذا الرحمة الواسعة، والصلاة النافعة الرافعة (الزاكية) صل على أكرم خلقك عليك، وأحبهم إليك، وأوجههم لديك، محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك المخصوص بفضائل الوسائل، اشرف وأكرم وأرفع وأعظم وأكمل ما صليت على مبلغ عنك، ومؤتمن على وحيك.

اللهم كما سددت به العمى، وفتحت به الهدى، فاجعل مناهج سبله لنا سننا، وحجج برهانه لنا سبباً، فأتمّ به إلى القدوم عليك.

اللهم لك الحمد ملأ السماوات السبع، وملأ طباقهن، وملأ الأرضين السبع، وملأ ما بينهما، وملأ عرش ربنا الكريم، وميزان ربنا الغفار ومداد كلمات ربنا القهار، وملأ الجنة وملأ النار، وعدد الثرى والماء، وعدد ما يرى وما لا يرى.

اللهم واجعل صلواتك وبركاتك ومنك ومغفرتك ورحمتك ورضوانك وفضلك وسلامتك وذكرك ونورك وشرفك ونعمتك وخيرتك على محمد وآل محمد، كما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم أعط محمداً الوسيلة العظمى، وكريم جزائك في العقبى، حتى تشرفه يوم

ص: 73

القيامة يا إله الهدى.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وعلى جميع ملائكتك ورسلك، سلام على جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وحملة العرش، وملائكتك القربين، والكرام الكاتبين والكروبين، وسلام على ملائكتك أجمعين، وسلام على أبينا آدم، وأمنا حواء، وسلما على النبيين أجمعين، والصديقن والشهداء والصالحين، وسلام على المرسلين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا»(1).

المسألة الرابعة: دعاؤها عقيب صلاة المغرب

ومن تعقيبها لفريضة المغرب ما روي عنها عليها السلام من الدعاء عقيب الخمس الصلوات وهو:

«الحمد لله الذي لا يحصي مدحه القائلون، والحمد لله الذي لا يحصي نعماءه العادون، والحمد لله الذي لا يؤدي حقه المجتهدون، ولا إله إلا الله الأول والآخر ولا إله إلا الله الظاهر والباطن، ولا إله إلا الله المحيي المميت، والله أكبر ذو الطول، والله أكبر ذو البقاء الدائم، والحمد لله الذي لا يدرك العالمون علمه، ولا يستخف الجاهلون حلمه، ولا يبلغ المادحون مدحته، ولا يصل الواصفون صفته، ولا يحسن الخلق نعته.

والحمد لله ذي الملك والملكوت، والعظمة والجبروت، والعزّ والكبرياء والجلال، والبهاء، والمهابة، والجمال، والعزة، والقدرة، والحول، والقوّة، والمنة، والغلبة، والفضل،

ص: 74


1- مسند فاطمة: ص 230-232، باب دعواتها، برقم 179 (26).

والطول، والعدل، والحق، والخلق، والعلى، والرفعة، والمجد، والفضيلة، والحكمة، والغناء، والسعة، والبسط، والقبض، والحلم، والعلم، والحجة البالغة، والنعمة السابغة، والثناء الحسن الجميل، والآلاء الكريمة، ملك الدنيا والآخرة، والجنة والنار، وما فيهنّ تبارك وتعالى.

والحمد لله الذي علم أسرار الغيوب، واطّلع على ما تجنّ القلوب، فليس عنه مذهب ولا مهرب.

والحمد لله المتكبر في سلطانه، العزيز في مكانه، المتجبّر في ملكه، القوي في بطشه، الرفيع فوق عرشه، المطّلع على خلقه، والبالغ لما أراد من علمه.

والحمد لله الذي بكلماته قامت السماوات الشداد، وثبتت الأرضون المهاد، وانتصبت الجبال الرواسي الأوتاد، وجرت الرياح اللواقح وسارت في جوّ السماء السحاب، ووقفت على حدودها البحار، ووجلت القلوب من مخافته، وأنقمعت الأرباب لربوبيته.

تباركت يا محصي قطر المطر، وورق الشجر، ومحيي أجساد الموتى للحشر، سبحانك! يا ذا الجلال والإكرم، ما فعلت بالغريب الفقير إذا أتاك مستجيراً مستغيثا، ما فعلت بمن أناخ بفنائك وتعرض لرضاك وغدا إليك، فجثا بين يديك يشكو إليك ما لا يخفى عليك، فلا يكونن يا رب حظي من دعائي الحرمان، ولا نصيبي مما أرجو من منك الخذلان، يا من لم يزل ولا يزال ولا يزول، كما لم يزل قائماً على كل نفس بما كسبت، يا من جعل أيام الدنيا تزول، وشهورها تحول، وسنينها تدور، وأنت الدائم لا تبليك الأزمان، ولا تغيرك الدهور، يا من كل يوم عنده جديد، وكل رزق عنده عتيد للضعيف والقوي

ص: 75

والشديد، قسمت الأرزاق بين الخلائق، فسويت بين الذرة والعصفور.

اللهم إذا ضاق المقام بالناس، فنعوذ بك في ضيق المقام، اللهم إذا طال يوم القيامة على المجرمين، فقصر طول ذلك اليوم علينا كما بين الصلاة إلى الصلاة.

اللهم إذا أدنيت الشمس من الجماجم، فكان بينها وبين الجماجم مقدار ميل، وزيد في حرها حر عشر سنين، فإنا نسألك أن تظلنا بالغمام، وتنصب لنا المنابر والكراسي، نجلس عليها، والناس ينطلقون في المقام، آمين رب العالمين.

أسألك اللهم بحق هذه المحامد إذا غفرت لي، تجاوزت عني، وألبستني العافية في بدني، ورزقتني السلامة في ديني، فإني أسألك وأنا واثق بإجابتك إياي في مسألتي، وأدعوك وأنا عالم باستماعك دعوتي، فاستمع دعائي، ولا تقطع رجائي ولا تردّ ثنائي، ولا تخيب دعائي.

أنا محتاج إلى رضوانك، وفقير إلى غفرانك، أسألك ولا آيس من رحمتك، وأدعوك وأنا غير محترز من سخطتك يا رب، فاستجب لي، وامنن عليّ بعفوك، وتوفني مسلما، وألحقني بالصالحين، رب لا تمنعني فضلك يا منان، ولا تكلني إلى نفسي مخذولاً يا حنان.

رب ارحم عند فراق الأحبة صرعتي، وعند سكون القبر وحدتي، وفي مفازة القيامة غربتي، وبين يديك موقوفا للحساب فاقتي رب استجير بك من النار، فأجرني، رب أعوذ بك من النار فأعذني، رب أفرغ إليك من النار فأبعدني، رب أسترحمك مكروبا فارحمني، رب أستغفرك لما جهلت فاغفر لي، رب قد أبرزني الدعاء للحاجة إليك فلا تؤيسني، يا كريم! ذا الآلاء والإحسان والتجاوز.

ص: 76

يا سيدي، يا بر، يا رحيم، استجب بين المتضرعين إليك دعوتي، وارحم بين المنتحبين بالعويل عبرتي، واجعل في لقائك يوم الخروج من الدنيا راحتي، واستر بين الأموات يا عظيم الرجاء عورتي، وأعطف عليّ عند التحول وحيداً إلى حفرتي، إنك أملي، موضع طلبتي، والعارف بما أريد في توجيه مسألتي، فاقض يا قاضي الحاجات حاجتي، فإليك المشتكى وأنت المستعان والمرتجى.

أفر إليك هارباً من الذنوب، فأقبلني، والتجئ، من عدلك إلى مغفرتك فأدركني، وألتاذ بعفوك من بطشك فامنعني، وأستروح رحمتك من عقابك فنجّني، وأطلب القربة منك بالإسلام، فقربني، ومن الفزع الأكبر فآمني، وفي ظل عرشك فظللني، وكفلين من رحمتك فهب لي، ومن الدنيا سالما فنجني، ومن الظلمات إلى النور فأخرجني، ويوم القيامة فبيّض وجهي، وحساباً يسيراً فحاسبني، وبسرائري فلا تفضحني، وعلى بلائك فصبرني، وكما صرفت عن يوسف السوء والفحشاء فاصرفه عني، وما لا طاقة لي به فلا تحملني، وإلى دار السلام فاهدني، وبالقرآن فانفعني، وبالقول الثابت فثبتني، ومن الشيطان الرجيم فاحفظني، وبحولك وقوتك وجبروتك فاعصمني، وبحلمك وعلم واسعة رحمتك من جهنم فنجني، وجنتك الفردوس فاسكني، والنظر إلى وجهك فارزقني، وبنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم فألحقني، ومن الشياطين وأوليائهم ومن شر كل ذي شر فاكفني.

اللهم وأعدائي ومن كادني بسوء إن أتوا برا فجبّن شجعهم، فض جمعهم، ككل سلاحهم، عرقب دوابهم سلط عليهم العواصف والقواصف أبدا حتى تصليهم النار، أنزلهم من صياصيهم وأمكنا من نواصيهم، آمين رب العالمين.

ص: 77

اللهم صل على محمد وآل محمد صلاة يشهد الأولون مع الأبرار، وسيد المتقين، وخاتم النبيين، وقائد الخير، ومفتاح الرحمة.

اللهم رب البيت الحرام، والشهر الحرام، ورب المعشر الحرام، ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، أبلغ روح محمد صلى الله عليه وآله وسلم منا التحية والسلام.

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أمين الله، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فهو - كما وصفته - بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم أعطه أفضل ما سألك وأفضل ما سئلت له، وأفضل ما أنت مسؤول له إلى يوم القيامة آمين رب العالمين»(1).

المسألة الخامسة: دعاؤها عقيب صلاة العشاء

ورد في فلاح السائل: ومن المهمات - أيضاً - بعد صلاة العشاء الآخرة الدعاء المختص بهذه الفريضة من أدعية مولاتنا فاطمة عليها السلام عقيب الخمس المفروضات، وهو:

«سبحان! من تواضع كل شيء لعظمته، سبحان! من ذل كل شيء لعزته، سبحان! من خضع كل شيء لأمره وملكه، سبحان! من انقادت له الأمور بأزمتها، الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، الحمد لله الذي لا يخيب من دعاه، الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، الحمد لله الذي سامك السماء، وساطح الأرض، وحاصر البحار، وناضد الجبال، وبارئ الحيوان، وخالق الشجر، وفاتح ينابيع الأرض، ومدبر الأمور، ومسيّر السحاب، ومجري الريح والماء النار من

ص: 78


1- مسند فاطمة: ص 233-236، باب دعواتها، برقم 180 (28).

أغوار الأرض، متصاعدات في الهواء، ومهبط الحر والبرد الذي بنعمته تتم الصالحات، وبشكره تستوجب الزيادات، وبأمر قامت السماوات، وبعزته استقرت الراسيات، وسبحت الوحوش في الفلوات، والطيور في الوكنات، الحمد لله رفعي الدرجات، منزل الآيات، واسع البركات، ساتر العورات، قابل الحسنات، مقيل العثرات، منفّس الكربات، منزل البركات، مجيب الدعوات، محيي الأموات، إله من في الأرض والسماوات، الحمد لله على كل حمد، وذكر، وشكر، وصبر، وصلاة، وزكاة، وقيام، وعبادة، وسعادة، وبركة، وزيادة، ورحمة، ونعمة، وكرامة، وفريضة، وسراء، وضراء، وشدة، ورخاء، ومصيبة، وبلاء، وعسر، ويسر، وغنى، وفقر، وعلى كل حال، وفي كل أوان وزمان، وكل مثوى ومنقلب ومقام.

اللهم إني عائذ بك فأعذني، ومستجير بك فأجرني، ومستعين بك فأعني ومستغيث بك فأغثني، وداعيك فأجبني، ومستغفرك فاغفر لي، ومستنصرك فانصرني، ومستهديك فاهدني، ومستكفيك فاكفني، وملتجئ إليك فآوني، ومتمسك بحبلك فاعصمني، ومتوكل عليك فاكفني، واجعلني في عبادك، وجوارك، وحرزك، وكنفك، وحياطتك، وحراستك، وكلائتك، وحرمك، وأمنك، وتحت ظلك، وتحت جناحك، واجعل عليّ جنة واقية منك، واجعل حفظك، وحياطتك، وحراستك، وكلائتك من ورائي وأمامي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، ون تحتي، وحوالي حتى لا يصل أحد من المخلوقين إلى مكروهي وأذاي، بحق لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام.

اللهم أكفني حسد الحاسدين، وبغي الباغين، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحيلة المحتالين، وغيلة المغتالين، وغيبة المغتابين، وظلم الظالمين، وجور

ص: 79

الجائرين، واعتداء المعتدين، وسخط المسخطين، وتشجب المتشجبين، وصولة الصائلين، واقتسار المقتسرين، وغشم الغاشمين، وخبط الخابطين، وسعاية الساعين، ونميمة النامين، وسحر السحرة والمردة والشياطين، وجور السلاطين، ومكروه العالمين.

اللهم إني أسألك باسمك المخزون، الطيب، الطاهر، الذي قامت به السماوات والأرض، وأشرقت له الظلم، وسبّحت له الملائكة، ووجلت منه القلوب، وخضعت له الرقاب، وأحييت به الموتى، أن تغفر لي كلّ ذنب أذنبته في ظلم الليل، وضوء النهار، عمداً وخطاً، سراً أو علانية، وأن تهب لي يقينا وهديا ونورا وعلما وفهما، حتى أقيم كتابك، وأحل حلالك، وأحرم حرامك، وأؤدي فرائضك، وأقيم سنة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

اللهم ألحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، واختم لي عملي بأحسنه، إنك غفور رحيم.

اللهم إذا فني عمري، وتصرمت أيام حياتي، وكان لابدّ لي من لقائك، فأسألك يا لطيف أن توجب لي من الجنة منزلا يغبطني به الأولون والآخرون.

اللهم أقبل مدحتي والتهافي، وأرح ضراعتي وهتافي، وإقراري على نفسي واعترافي، فقد أسمعتك صوتي في الداعين، وخشوعي في الضارعين، ومدحتي في القائلين، وتسبيحي في المادحين، وأنت مجيب المضطرين، ومغيث المستغيثين، وغياث الملهوفين، وحرز الهاربين، وصريخ المؤمنين، ومقيل المذنبين، وصلى الله على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى (جميع) الملائكة والنبيين.

اللهم داحي المدحوات، وبارئ المسموكات، وجبّال القلوب على فطرتها شقيّها

ص: 80

وسعيدها، إجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، وروافه تحياتك، وكرائم تحياتك على محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبدك، ورسولك، وأمينك على وحيك، القائم بحجتك، والذاب عن حرمك، والصادع بأمرك، والمشيد بآياتك، والموفي لنذرك.

اللهم فأعطه بكل فضيلة من فضائله، ومنقبة من مناقبه، وحال من أحواله، ومنزلة من منازله، فيما رأيت محمداً لك فيها ناصراً، وعلى مكروه بلائك صابراً، ولمن عاداك معادياً، ولمن والاك مواليا، وعما كرهت نائيا، وإلى ما أحببت داعيا فضائل من جزائك، وخصائص من عطائك وحبائك تسني بها أمره، وتعلي بها درجته مع القوامين بقسطك، والذّابين عن حرمك حتى لا يبقى سناء، ولا بهاء، ولا رحمة، ولاكرامة، إلاّ خصصت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وآتيته منه الذرى، وبلغته المقامات العلى، آمين رب العالمين.

اللهم إني أستودعك ديني ونفسي وجميع نعمتك عليّ ، واجعلني في كنفك، وحفظك، وعزك، ومنعك، عز جارك، وجل ثناؤك، وتقدّست أسماؤك، ولا إله غيرك، حسبي أنت في السراء والضراء والشدة والرخاء، ونعم الوكيل.

رَبَّنٰا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ(1) ، رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اِغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2) ، رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّٰا عَذٰابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذٰابَهٰا كٰانَ غَرٰاماً إِنَّهٰا سٰاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً

ص: 81


1- سورة الممتحنة، الآيتان: 4 و 5.
2- سورة الفرقان، الآيتان: 65 و 66.

اِفْتَحْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفٰاتِحِينَ (1) ، رَبَّنٰا إِنَّنٰا آمَنّٰا(2) ، رَبَّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ كَفِّرْ عَنّٰا سَيِّئٰاتِنٰا وَ تَوَفَّنٰا مَعَ اَلْأَبْرٰارِ رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ وَ لاٰ تُخْزِنٰا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لاٰ تُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ(3) ، رَبَّنٰا لاٰ تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لاٰ تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا وَ لاٰ تُحَمِّلْنٰا مٰا لاٰ طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ وَ اُعْفُ عَنّٰا وَ اِغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا أَنْتَ مَوْلاٰنٰا فَانْصُرْنٰا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ (4) .

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك عذاب النار، وصلى الله عليها سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما»(5).

ص: 82


1- سورة الأعراف، الآية: 89.
2- سورة آل عمران، الآية: 16.
3- سورة آل عمران، الآيتان: 193 و 194.
4- سورة البقرة، الآية: 286.
5- مسند فاطمة: ص 237-240، باب دعواتها، برقم 181 (28).

المبحث السادس: دعاؤها في مصائبها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

من للمظلوم غير الله تعالى، ومن للمريض غير الله تعالى، ومن لمن لا يجد معيناً بعد تكالب الزمان والناس عليه غير الله تعالى، هكذا كان حالها صلوات الله عليها بعد مصابها بفقد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فهي بين ألم المصاب بفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورزية انتهاك حرمتها بكسر ضلعها، وإسقاط جنينها، وسلب مالها، وأرضها؛ وبين ألم إعراض الناس عنها، وعن زوجها، وولديها؛ بين كل هذا وذاك لم تجد سيدة نساء العالمين عليها السلام غير الدعاء إلى الله تعالى، فكانت مما تدعوا به.

المسألة الأولى: ما دعت به حينما قيل لها: ألا تشتكين إلى عمك العباس

روي: أن فاطمة الزهراء عليها السلام لما ضاق قلبها بما كانت تقاسيه من محن الأيام، ونكبات الزمان، قيل لها: أما تشتكين إلى عمّك العباس ؟ فرفعت رأسها إلى السماء وقالت:

«يا من لا يخفى عليه أنباء المتظلمين، ولا يحتاج في قصصهم إلى شهادات الشاهدين، أشكوا إليك ما لا يخفى عليك»(1).

ص: 83


1- مسند فاطمة: ص 247، باب دعواتها، برقم 184 (31).

المسألة الثانية: دعائها حينما اشتد بها المرض والمصاب

ورد في مصباح الأنوار: عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستّين يوما، ثم مرضت فاشتدّت علّتها، فكان من دعائها في شكواها:

(يا حي، يا قيوم! برحمتك أستغيث فأغثني، اللهم زحزحني عن النار، وأدخلني الجنة، وألحقني بأبي، محمد صلى الله عليه وآله وسلم).

فكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول لها: عافاك الله ويبقيك، فتقول عليها السلام: يا أبا الحسن! ما أسرع اللحاق بالله»(1).

المسألة الثالثة: دعاؤها في مرضها للعصاة من أمة أبيها

قالت أسماء: فرأيتها - أي فاطمة - رافعة يديها إلى السماء، وهي تقول:

«اللهم إني أسألك بمحمد المصطفى، وشوقه إليّ ، وببعلي علي المرتضى وحزنه عليّ ، وبالحسن المجتبى وبكائه عليّ ، وبالحسين الشهيد وكآبته عليّ ، وببناتي الفاطميات وتحسرهنّ عليّ ، إنك ترحم وتغفر للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدخلهم الجنّة، إنك أكرم المسؤولين، وأرحم الراحمين»(2).

ص: 84


1- مسند فاطمة: ص 248، باب دعواتها، برقم 185 (32).
2- مسند فاطمة: ص 250، باب دعواتها، برقم 190 (37).

المبحث السابع: خادمتها ودايتها ومولاتها

اشارة

ظهرت بعض النساء في حياة سيدة نساء العالمين عليها السلام ضمن بعض الأدوار التي كانت تمارسها هؤلاء النسوة، وهو أمر يكاد يكون معتاداً في أغلب البيوتات العربية في مكة والمدينة وبتفاوت في عدد هؤلاء النسوة.

فمنهن من كانت تعينها على الخدمة، ومنهن من كانت قد تولت أمر ولادتها لأولادها فعرفت بالداية، ومنهن من كانت تتقرب إليها بالخدمة التماساً للأجر والثواب فعرفت بالمولاة.

وهذه الطبقية تتفاوت في البيوتات العربية من حيث عدد الخدم والجواري والإماء لاسيما تلك البيوت الميسورة الحال، أو التي عرفت بالثراء.

أما التعرف على هذه الشخصيات النسوية التي ظهرت في بيت سيدة النساء، فهو كالآتي:

ص: 85

المسألة الأولى: خادمتها فضة النوبية

اشارة

اشتهر هذا الاسم لدى أتباع أهل البيت عليهم السلام بصورة خاصة وأصبح عنواناً للوصول إلى المراتب السامية والحضوة العالية في القرب من بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما.

وقد آخذ الموالون من حياة هذه الشخصية دروسا عديدة في كيفية بلوغ الإنسان الشأنية لدى الله تعالى ورسوله من خلال المعرفة بأهل البيت والتشرف بخدمتهم فضلاً عن أن الطبقية الاجتماعية ليس لها أي دور في وصول الإنسان إلى تلك المنزلة الأخروية التي أعدها الله تعالى لعباده الصالحين كما أن هذه الطبقية أو اللون أو العرق لم يكن له أي اعتبار في فكر وحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.

ولذا: برزت أسماء لم تكن تمت إلى العرق العربي بشيء كسلمان الفارسي وغيره من الرجال، وفضة النوبية وغيرها من النساء، فهؤلاء رفعهم التقوى والقرب من الله ورسوله وأهل بيته عليهم السلام وما نالوا ذاك إلا من خلال المعرفة بهم والعمل بهذه المعرفة.

أما ما يخص فضة النوبية فقد أشارت الروايات وترجمتها إلى جملة من الخصائص نعرض لها كالآتي:

أولاً: كيف جاءت فضة إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام

تناولنا فيما سبق في المباحث التي شملت زهد فاطمة، ورحى فاطمة، وتسبيحها عليها السلام شكايتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 86

والتماسها خادمة تعينها على العمل في البيت لاسيما وأن ضروب الحياة كانت في السابق على رغم بساطتها لكنها متعبة وذلك لفقدان الوسائل التي تعين المرأة في عمل البيت.

فمن الطحن بالرحى إلى العجين والخبز، إلى استخدام الحطب للطهي ونقل الماء وغيرها مما يشكل عبئاً على المرأة لاسيما وإن فاطمة عليها السلام كانت صغيرة السن إذ انتقلت إلى بيت الزوجية ولها من العمر عشر سنوات.

وعليه: كانت تلتمس من أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخادمة كي تعينها على أداء عملها في المنزل وتهيئت احتياجات الأسرة.

فكانت تعاود السؤال بين الحين والآخرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة يتحفها بأمر يعود عليها بخير الدنيا والآخرة، كتسبيحها، أو بعض الأذكار والأدعية كما مر بيانه سابقاً.

إلاّ أنه صلى الله عليه وآله في هذه المرة جاءته فاطمة عليها السلام تسأله خادمة تعينها؛ فبكى صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

«يا فاطمة، والذي بعثني بالحق إن في المسجد أربعمائة رجل ما لهم طعام ولا ثياب ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت يا فاطمة إني لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية وإني أخاف أن يخصمك علي بن ابي طالب يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجل إذا طلب حقه منك».

ثم علمها صلاة التسبيح فقال أمير المؤمنين:

«مضيت تريدين من رسول الله الدنيا فأعطانا الله ثواب الآخرة».

ص: 87

قال أبو هريرة:

فلما خرج رسول الله من عند فاطمة أنزل الله على رسوله:

وَ إِمّٰا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغٰاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهٰا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً(1) .

يعني: عن قرابتك وابنتك فاطمة (ابتغاء) يعني طلب (رحمة من ربك) يعني رزقا من ربك ترجوها (فقل لهم قولا ميسورا) يعني قولا حسنا فلما نزلت هذه الآية أنفذ رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم جارية إليها للخدمة وسماها فضة(2).

ثانياً: اشتراكها مع علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في سبب نزول سورة هل أتى

ويختار الله تعالى لهذه المرأة القادمة من أثيوبيا ما اختاره لخيرته من خلقه وخاصته من عباده لتنال بفضله وسابق لطفه بها ما لم يناله أحد من النساء اللاتي عاصرن سيدة نساء العالمين باستثناء عقيلة الهاشميين وفخر بنات علي أمير المؤمنين إلى قيام الساعة.

فقد وفقت فضة النوبية (الأثيوبية) لتشترك في سبب نزول سورة هل أتى على الإنسان حين من الدهر؛ وذلك حينما نذرت معهم أن تصوم لله تعالى نذراً على شفاء الحسن والحسين عليهما السلام؛ إلاّ أن الرواية لم تشير إلى أنها تصدقت كذلك بطعامها كما فعل أهل البيت عليهم السلام.

ص: 88


1- سورة الإسراء، الآية: 28.
2- المناقب لابن شهر آشوب المازندراني: ج 3، ص 341، و 342.

وعليه: فنحن نتمسك بظاهر الرواية التي نصت على اشتراكها في الصوم نذراً لشفاء الحسن والحسين عليهما السلام فكانت ممن نالها الحظ الأوفر في نزول:

هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1) .

وفي ذلك روى الشيخ الصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام، إنه قال:

«مرض الحسن والحسين عليهما السلام وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه رجلان، فقال إحداهما: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذراً إن الله عافاهما.

فقال علي عليه السلام: أصوم ثلاثة أيام شكرا لله عزّ وجل، وكذلك قالت فاطمة عليها السلام وقال الصبيان: ونحن أيضا نصوم ثلاثة أيام، وكذلك قالت جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام..... إلى آخر الرواية التي مر ذكرها(2).

ثالثاً: كيفية تعامل الزهراء عليها السلام مع خادمتها فضة

إن المستفاد من الرواية الشريفة التي أخرجها ابن جرير (الشيعي) في الدلائل عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قال سلمان الفارسي:

(خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وأنا أريد الصلاة، فحاذيت باب علي بن أبي طالب عليه السلام فإذا أنا بهاتف من داخل

ص: 89


1- سورة الدهر، الآية: 1.
2- الأمالي للصدوق: ص 329-333؛ وسائل الشيعة: ج 23، ص 305.

الدار وهو يقول:

«اشتد صداع رأسي، وخلا بطني، ودبرت كفاي من طحن الشعير».

فمضني القول مضاً شديداً فدنوت من الباب فقرعته قرعاً خفيفاً، فأجابتني فضة، جارية فاطمة عليها السلام فقالت: من هذا؟

فقلت: أنا سلمان ابن الإسلام.

قالت: ورائك يا أبا عبد الله، فإن ابنة رسول الله من وراء الباب، عليها اليسير من الثياب ؟ فأخذت عباءتي فرميت بها داخل الباب فلبستها فاطمة عليها السلام، ثم قالت:

«يا فضة قولي لسلمان يدخل؛ فإن سلمان منا أهل البيت ورب الكعبة».

فدخلت فإذا أنا بفاطمة جالسة وقدامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل قد أفضى إلى الحجرة فحانت مني التفاته فإذا بالحسن بن علي في ناحية من الدار يتضور من الجوع فقلت جعلني الله فداك يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دبرت كفاك من طحن الشعير وفضة قائمة ؟ فقالت:

«نعم يا أبا عبد الله أوصاني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون الخدمة لها يوم ولي يوم، فكان أمس يوم خدمتها واليوم يوم خدمتي»(1).

فهذا الحديث يكشف بوضوح عن الكيفية التي كانت تتعامل بها فاطمة

ص: 90


1- دلائل الإمامة لابن جرير (الشيعي): ص 140-141؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 531؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 28؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 36.

عليها السلام مع خادمتها فضة وتقسيم الأعمال فيما بينها وبين خادمتها إلى الحد الذي كانت بحاجة كبيرة لمعاونتها لكنها متمسكة بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا يكشف ايضاً عن تقواها في الامتثال للحكم الشرعي، والثبات على الطاعة وصبرها الكبير في تحمل هذه المشاق.

رابعاً: استمرارها في خدمة أمير المؤمنين عليه السلام بعد استشهاد فاطمة عليها السلام

إن من الأمور التي ترشد إلى حسن توفيق هذه المرأة هو مواصلتها بعد وفاة مولاتها الزهراء عليها السلام في القيام بخدمة أمير المؤمنين عليه السلام.

1 - روى المحدث النوري عن سويد بن غفلة، قال: (دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام القصر، فإذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته؛ فإذا في يديه رغيف يرى قشار الشعير على وجهه، وهو يكسره ويستعين أحياناً بركبته، وإذا جارية قائمة فقلت لها:

يا فضة أما تتقون الله في هذا الشيخ ؟

لو نخلتم دقيقه، فقالت: إنا نكره أن يؤجر ونأثم، قد أخذ علينا أن لا ننخل دقيقه ما طبخناه فقال علي عليه السلام:

«ما يقول ؟».

قالت: سله. فقلت له: قلت لها: لو ينخلوا دقيقك، فبكى ثم قال:

«بأبي وأمي من لم يشبع ثلاثاً متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا، ولم ينخل دقيقه».

ص: 91

قال: يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

2 - روى المازندراني في المناقب: إن عمرو بن حريث ترصد غذاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فأتت فضة بجراب مختوم فأخرج منه خبزاً متغيرا خشنا فقال عمرو: يا فضة لو نخلت هذا الدقيق وطيبته ؟

قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاما طيباً فختم جرابه.

ثم أن أمير المؤمنين فتحه في قصعة وصب عليه الماء، ثم ذر عليه الملح وحسر عن ذراعه فلما فرغ قال:

(يا عمرو لقد خابت هذه ومد يده إلى محاسنه، وخسرت هذه أن أدخلها النار من أجل الطعام وهذا يجزيني)(2).

3 - روى القاضي المغربي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام قال:

كانت لفاطمة جارية يقال لها: فضة، فصارت من بعدها إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فزوجها من أبي ثعلبة الحبشي، فأولدها ابناً ثم مات عنها ثعلبة، وتزوجها سليك الغطفاني، ثم توفي ابنها من أبي ثعلبة، فامتنعت من سليك أن يقربها، فشكاها إلى عمر وذلك في أيامه، فقال لها عمر:

ما يشتكي منك سليك، يا فضة ؟

فقالت: أنت تحكم في ذلك، وما يخفي عليك لم منعته من نفسي!

قال عمر: ما أجد لك رخصة.

ص: 92


1- مستدرك الوسائل للمحقق النوري: ج 16، ص 296.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 367؛ بحار الأنوار: ج 40، ص 325.

قالت: يا أبا حفص، ذهبت بك المذاهب أن ابني من غيره مات، فأردت أن استبرئ نفسي بحيضه، فإذا أنا حضت علمت أن ابني مات ولا أخ له.

وإن كنت حاملاً كان الذي في بطني أخوه.

فقال عمر: شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي)(1).

خامساً: ما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضة من الدعاء

ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة ترجمة لها فمما جاء فيها بعد أن ذكر شمولها في نزول سورة (هل أتى على الإنسان حين من الدهر)، أنه قال:

(ذكر ابن صخر في فوائده وابن شكوال في كتاب المستغيثين من طريقه بسند له من طريق الحسين بن العلاء عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضة النوبية وكانت تشاطرها الخدمة، فعلمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاء تدعو به فقالت لها فاطمة:

«أتعجنين أو تخبزين ؟».

فقالت: بل أعجن يا سيدتي واحتطب فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة وأرادت حملها فعجزت فدعت بالدعاء الذي علمها وهو:

(يا واحد ليس ليس كمثله أحد تميت كل أحد، وتفنى كل أحد، وأنت

ص: 93


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 2، ص 328؛ المناقب لابن شهر: ج 2، ص 183؛ البحار: ج 40، ص 227؛ الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية للمحقق البحراني: ج 3، هامش ص 282.

عرشك واحد ولا تأخذه سنة ولا نوم).

فجاء إعرابي كأنه من أزدشنوءة فحمل الحزمة إلى باب فاطمة)(1).

أما وفاتها وقبرها:

فقد ذكر ياقوت الحموي: أن قبرها في مقبرة الباب الصغير في دمشق الشام(2).

المسألة الثانية: دايتها ومولاتها

أولاً: دايتها (سلمى زوجة أبي رافع)

الداية: المولدة، المرأة التي تساعد الوالدة، فتتلقى الجنين عند الولادة(3).

وسلمى كانت إحدى ثلاث إماء مملوكات لرسول الله فاعتقهن(4)، فتزوجها أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

واختلف بينها وبين سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب، فجزم بعضهم بأن سلمى مولاة صفية غير سلمى زوجة أبي رافع(5).

وكانت سلمى مولاة صفية تقبل خديجة بنت خويلد في ولادتها إذا ولدت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعد قبل ذلك ما تحتاج إليه(6).

ص: 94


1- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 281.
2- معجم البلدان: ج 2، ص 468.
3- المصطلحات: ج 1993؛ معجم ألفاظ الفقه الجعفري: ص 186.
4- تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحماد بن إسحاق: ص 110.
5- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 12، ص 376.
6- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 227.

وقد أخرج لها أحمد والترمذي في صحيحه؛ والطبراني في معجمه، والهيثمي في زوائده وغيرهم، وعدها ابن حبان من الثقات(1). وقد سجلت كتب الحديث في مدرسة أهل البيت عليهم السلام حضوراً مميزاً لسلمى امرأة أبي رافع في مرض فاطمة واستشهادها، فقد كانت تتولى تمريضها أثناء مرضها، وكانت قد أعدت لها غسلاً في وصيتها قبل وفاتها(2)، كما سيمر بيانه في آخر الكتاب.

ثانياً: مولاتها

أشارت بعض المصادر إلى وجود ثلاثة اسماء نسائية كلا منها وصفت بأنها مولاة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كالآتي:

1 - فضة النوبية: فقد وردت بلفظ مولاة فاطمة كما في مستدرك الوسائل في مجريات وفاة فاطمة عليها السلام(3).

2 - مرجانة، وقد وردت في كتب الحديث في بيان ساعة استجابة الدعاء من يوم الجمعة كما في رواية الطبراني، والدارقطني، والبيهقي، والشوكاني، واللفظ له: عن زيد بن علي عليه السلام عن مرجانة مولاة فاطمة - عليها السلام - قالت: حدثتني فاطمة عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: أية ساعة هي ؟

ص: 95


1- الثقات لابن حبان: ج 4، ص 352
2- الأمالي للطوسي: ص 400؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 138؛ البحار: ج 43، ص 172؛ مستدرك الوسائل: ج 2، ص 203.
3- مستدرك الوسائل: ج 2، ص 137.

قالت:

«إذا تدلى نصف الشمس للغروب»(1).

ولم يتناولها أصحاب التراجم في مصنفاتهم مما يشير إلى أنها قد تكون فضة النوبية هي نفسها مرجانة.

3 - رقية: وقد ذكرها ابن حجر في الإصابة فقال: رقية مولاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم عمرت حتى جعلها الحسين بن علي مقيمة على قبر سيدتها فاطمة لأنه لم يكن بقي من يعرف القبر غيرها، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة(2).

ص: 96


1- نيل الأوطار للشوكاني: ج 3، ص 299.
2- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 140، برقم 11188.

الفصل الثانى: علم فاطمه عليها السلام و فقهها و بعض نظرياتها

اشارة

ص: 97

ص: 98

المبحث الأول: علم فاطمة عليها السلام

اشارة

قد يكون من البديهي حينما نتحدث عن علم الأنبياء ونسأل من أين لهم هذا العلم فالجواب بديهياً إنه من الله تعالى؛ لكن السؤال الذي يفرض نفسه عند البعض الآخر حينما يكون الحديث عن علم أمرء لا يعتقد البعض بارتباطه بالسماء، أو أنه ينظر إليه نظرة لا تتعدى عن كونها تبعية للغير، ومن ثم لا تجد لنفسها ميزة عن غيرها.

ومثاله كالناظر إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو يراهن في العلم سواء وذلك لعدم ارتباطهن بشكل مباشر بالسماء ومن ثم فهن يتفاوتن من حيث العلم بما لديهن من تحصيل بحسب معاشرتهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن هذه النظرة قطعاً نراها تختلف لدى الناظر حينما ينظر إلى مريم ابنة عمران عليها السلام، فعلمها لا يدفع بالناظر إلى كونها غير مرتبطة بالسماء، لاسيما وإن الملائكة كانت تحدثها كما نص عليه القرآن الكريم:

ص: 99

1 - قال تعالى:

وَ إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ (1) .

2 - وقال عزّ وجل:

يٰا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ (2) .

3 - وقال تبارك وتعالى:

إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (3) .

وعليه:

لا يكون وجود نبي الله عيسى عليه السلام هو المصدر الوحيد لهذا العلم الذي كانت تناله مريم عليها السلام، فلمريم مصدرها العلمي وهم الملائكة لاسيما بأمور غيبة كتبشيرها بعيسى ونبوته.

ومن هنا:

حينما نأتي إلى علم فاطمة صلوات الله عليها فإنا نجده قد تكون لديها من ثلاثة مصادر:

1 - علم لدني من الله تعالى.

ص: 100


1- سورة آل عمران، الآية: 42.
2- سورة آل عمران، الآية: 43.
3- سورة آل عمران، الآية: 45.

2 - علم نبوي من سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - علم ملائكي فهي كانت محدَثة.

وهذه المصادر الثلاثة جعلتها أعلم نساء الأمة وأفقهها.

فمن كانت تنال علمها من هذه المصادر التي تمتاز جميعاً بأنها مرتبطة بالله تعالى لا شك بأنها أعلم من غيرها من نساء الأمة لاسيما نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك إن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنّ يأخذن علمهن من مصدر واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع ملاحظة أن بعضهن قد لا تتوجه إليه صلى الله عليه وآله وسلم بالمسألة، ومنهن من قد تأخر زواجها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهن من قد شغلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرأة والمكحلة كما هو حال عائشة حينما أثار شكوكها أبو هريرة وهو يكثر من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له:

(إنك لتحدث بشيء ما سمعته ؟! قال: طلبتها وشغلك عنها المكحلة والمرآة، فقالت: لعله)(1).

إذن:

فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أعلم نساء الأمة وأفقهها، وهذا إذا اعتمدنا على هذه المصادر التي كونت علم فاطمة عليها

ص: 101


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 509؛ الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 440؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 604.

السلام، أما إذا أخذنا بما أخصها الله تعالى من الاصطفاء والتطهير فيكون لزاماً أننا هنا نسلم لعصمتها، ومن ثم أعلميتها على الأمة بعد أبيها وبعلها، لاسيما وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نص على أن رضاها رضا الله وغضبها غضب الله تعالى؛ وإن ما يريبها يريب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن ما يؤذيها يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وعليه:

فنحن لا نناقش هنا عصمتها وإنما سنورد للقارئ مصادر هذا العلم ضمن المسائل الآتية:

المسألة الأولى: علمها بما كان ويكون ومنشئ ذلك العلم

اشارة

لعل عنوان المسألة بحد ذاته يبعث على التساؤل، وذلك لعدم توفر الإمكانيات التي تخدم الإنسان في طلب العلم آنذك، كاستخدام الشبكة العالمية، أو حتى أعلى درجات التطور في تخزين المعلومات وسرعة جمع المعلومة وعرضها، حتى في هذه الحالة يكون الأمر عسيراً ومقيداً جداً فيما يخص بما كان، وكما قلنا لو تم تخزينه وجمعه وتبويبه؛ لكن يبقى السؤال قائماً مع عدم توفر الإمكانيات سابقاً، كيف لفاطمة صلوات الله عليها معرفة ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، أي أننا هنا نتحدث عن المستقبل المترامي الأطراف الذي لا يحيط به إلاّ الله تعالى ؟!

وجواب ذلك من أمور، منها؟

ص: 102


1- ذهب المقريزي إلى عصمتها عليها السلام مستنداً إلى هذا الحديث الشريف؛ (فضل آل البيت للمقريزي): ج 1، ص 51.
أولاً: العلم اللّدني هو باب خاص من أبواب العلم، وفاطمة عليها السلام ممن اختصت به وبغيره من أبواب العلم.

يستعرض القرآن الكريم بعض الصور الكاشفة عن تفاصيل حياة الأنبياء عليهم السلام في كثير من الصفات كما هو واضح في قوله تعالى:

وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً(1) .

وقوله سبحانه:

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجٰاتٍ وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ (2) .

ولا يدخل هذا التفضيل فيما بينهم في الاعتقاد بنبوتهم أو رسالتهم؛ إذ الإيمان بهم واجب على كل قوم في زمان بعثهم ومحيط تكليفهم؛ أما نحن فواجب علينا أن لا نفرق بين أحد منهم في النبوّة؛ أما تفاضلهم عند الله تعالى فإن القرآن يعرضه في كثير من الصفات، ومن بين الصفات التي تفاضل بها الأنبياء هي أبواب العلم، وذلك إن الله تعالى قد خص بعض الأنبياء بعلم خاص ولم يكن عند البعض الآخر منهم، ومن الشواهد القرآنية على ذلك، أي اختصاص الأنبياء ببعض أبواب العلم واتصافهم به فضلاً عن صفة النبوة، ما يلي:

ص: 103


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- سورة البقرة، الآية: 253.

1 - في علم آدم عليه السلام يعرض لنا القرآن هذه الحقيقة الكاشفة عن أن الله تعالى قد خص خليفته آدم فضلاً عن النبوة بعلم الأسماء، فقال عزّ وجل:

وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (1) .

وجواب الملائكة يظهر بشكل جلي أن مصدر العلم هو الله تعالى على الرغم من أن الملائكة قد أعطاها الله قوة في العلم وجمعه، كطرق السماوات وما فيها، والأرض وما عليها، فضلاً عن سرعة الحركة والإجابة والإحاطة؛ ولكن يبقى الأمر محصوراً في الحصول على ما هو غائب ومخفي بالله تعالى.

2 - في علم التأويل نجد أن الله تعالى قد خصّ به نبيّه يوسف فقال عزّ وجل:

قٰالَ لاٰ يَأْتِيكُمٰا طَعٰامٌ تُرْزَقٰانِهِ إِلاّٰ نَبَّأْتُكُمٰا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمٰا ذٰلِكُمٰا مِمّٰا عَلَّمَنِي رَبِّي(2) .

3 - وفي اختصاص سليمان بعلم منطق الطير، قال تعالى:

وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ وَ قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ (3) .

4 - وفي اختصاص الخضر ببعض علم الغيب قال تعالى:

ص: 104


1- سورة البقرة، الآيتان: 31 و 32.
2- سورة يوسف، الآية: 37.
3- سورة النمل، الآية: 16.

فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً(1) .

والشواهد القرآنية في ذلك لكثيرة إلاّ أننا نشير هنا إلى أن هذه العلوم حينما يختص الله بها نبياً من الأنبياء عليهم السلام فهي تنتقل إلى غيره منهم فتكون من تراث النبوة الذي جمع عند سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.

بمعنى:

أن جميع أبواب العلم وتفرعاته التي اختص بها بعض الأنبياء دون البعض الآخر تنتقل من نبي إلى آخر، فعلم الأسماء الذي اختص به آدم عليه السلام انتقل ضمن ميراث النبوة إلى ولده نبي الله شيث عليه السلام ومنه إلى غيره، وعلم منطق الطير الذي اختص به سليمان وداود عليهما السلام انتقل مع علم الأسماء إلى غيرهما من الأنبياء، وكذا علم التأويل، وعلم الحكمة، والعلم اللدني الذي اختص به الخضر وغيرها من العلوم تنتقل من نبي إلى نبي ضمن تراث النبوة فضلاً عما حوته صحف إبراهيم وزبور داود والإنجيل والتوراة من العلوم لتجتمع جميعاً عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي كتابه الذي أنزله الله تعالى على قلبه.

قال تعالى:

إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (2) .

ص: 105


1- سورة الكهف، الآية: 65.
2- سورة يس، الآية: 12.

وقال سبحانه في صفة القرآن الكريم:

طس تِلْكَ آيٰاتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتٰابٍ مُبِينٍ (1) .

هذا الكتاب المبين هو خزانة العلم فقال سبحانه وتعالى:

1 - وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (2) .

2 - وقال عزّ وجل:

وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (3) .

3 - وقال سبحانه وتعالى:

وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا كُلٌّ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (4) .

4 - وقال تعالى:

مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ (5) .

ص: 106


1- سورة النمل، الآية: 1.
2- سورة يونس، الآية: 61.
3- سورة الأنعام، الآية: 59.
4- سورة هود، الآية: 6.
5- سورة الأنعام، الآية: 38.

5 - وقال تعالى:

وَ مٰا مِنْ غٰائِبَةٍ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1) .

فجميع هذه العلوم هي في القرآن؛ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ ، وفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لَبِإِمٰامٍ مُبِينٍ ، وهذا أعم بكثير من العلم الذي علمه الله تعالى للخضر، فما عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو خزانة العلم؛ قال تعالى مخاطباً رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:

وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (2) .

وعليه:

فمن كانت بضعة من لَبِإِمٰامٍ مُبِينٍ ، الذي اختصه الله ب - اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ ، لا يخفى عليها ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وإن العلم اللدني هو أيسر ما اختصت به الزهراء عليها السلام.

ثانياً: إنها مخلوقة من نور العلم الإلهي

تناولنا في الجزء الأول من الكتاب الروايات الشريفة التي كانت تتحدث عن خلق نور فاطمة عليها السلام وروحها وبيَّنا حينها ما يتعلق بهذا النور حسبما أرشدتنا إليه الروايات.

وهنا - نود أن نورد رواية أخرى تُظهر فيها الزهراء عليها السلام علمها

ص: 107


1- سورة النمل، الآية: 75.
2- سورة النمل، الآية: 6.

الأول وتكشف لنا عن أحد أبواب علومها التي خصها الله تعالى بها، وهو علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة:

عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قال:

(شهدت علي بن أبي طالب عليه السلام وقد ولج على فاطمة عليها السلام فلما أبصرت به نادت:

«أدنُ لأحدّثك بما كان، وبما هو كائن، وبما لم يكن إلى يوم القيامة، حين تقوم الساعة».

قال عمار: فرأيت أمير المؤمنين عليه السلام يرجع القهقري، فرجع برجوعه إذ دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أدن، يا أبا الحسن! فدنا فلما اطمأنّ به المجلس، قال له صلى الله عليه وآله وسلم:

«تحدثني أم أحدثك ؟».

قال علي عليه السلام:

«الحديث منك أحسن يا رسول الله».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«كأني بك وقد دخلت على فاطمة عليها السلام وقالت لك: كيت وكيت فرجعت».

فقال علي عليه السلام:

«نور فاطمة من نورنا؟».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 108

«أولا تعلم ؟».

قال عمار: فخرج أمير المؤمنين عليه السلام وخرجت بخروجه فولج على فاطمة عليها السلام وولجت معه، فقالت:

«كأنك رجعت إلى أبي فأخبرته بما قلته لك ؟».

قال عليه السلام:

«كذلك يا فاطمة».

فقالت عليها السلام:

«اعلم يا أبا الحسن إن الله تعالى خلق نوري، وكان يسبح لله جل جلاله، ثم أودعه بشجرة من شجرة الجنة فأضاء ت، فلما دخل أبي الجنة، أوحى الله تعالى إليه إلهاماً أن اقتطف ثمرة تلك الشجرة، وأدرها في لهواتك، ففعل فأودعني الله سبحانه صلب أبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أودعني خديجة بنت خويلد، فوضعتني وأنا من ذلك النور، أعلم ما كان وما يكون.

يا أبا الحسن! المؤمن ينظر بنور الله»)(1).

والحديث الشريف يكشف عن جملة من الأمور، منها:

1 - إن الغرض من الحديث هو العلم، بمعنى: أن فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أرادت أن تظهر لعلي صلوات الله عليه وعمار بن ياسر مبلغ علمها، ومصدر حصولها على هذا العلم، ومن ثم فإن حقيقة علم فاطمة هو

ص: 109


1- عيون المعجزات لحسين بن عبد الوهاب: ص 47؛ البحار للمجلسي: ج 43، ح 8؛ نفس الرحمان للطبرسي: ص 422.

أنها مخلوقة من نور علم الله، وذلك إن أصل الحديث كان عن العلم وليس أصل الحديث وغرضه إظهار أنها خلقت من ثمار الجنة - كما مرّ سابقاً - وإنما لإظهار أنها خلقت من نور علم الله تعالى، وإن لم تصرح باسم هذا النور وخاصيته، فقد اكتفت بإظهار آثار هذا النور وهو علمها بما كان، وبما هو كائن، وبما لم يكن إلى يوم القيامة، أي إظهار حقيقة أنها مخلوقة من نور الله تعالى.

2 - الظاهر من سياق الرواية أن رجوع أمير المؤمنين عليه السلام عند سماعه لحديث فاطمة صلوات الله عليها هو ليس لعدم معرفته بمنزلة فاطمة وما خصها الله تعالى به من الكرامة لاسيما بالعلم وخاصة إن هناك العديد من الروايات الشريفة التي تشير إلى أن المعصوم عليه عليه السلام قد خصه الله بمعرفة الحقائق وإحاطته بها وفاطمة عليها السلام من أهل العصمة ومن ثم فإن أمير المؤمنين عليه السلام يعلم بذلك؛ لكن الظاهر من رجوعه هو إظهارها لهذه المنزلة أمام عمار بن ياسر.

بمعنى:

أن هذه المقامات هي مستودعة عند أهلها وإن إظهارها مرهون بكثير من الشروط والمقدمات ولعل عمار بن ياسر كان أحد أولئك الذين نالوا شرف الوصول إلى هذه الرتبة فأحرز سماع هذه المفضلية ومن ثم نجده قد خص بها سلمان المحمدي دون غيره فحدثه بما سمع ورأى من علي وفاطمة صلوات الله عليهما؛ بمعنى: لا يستطيع كثير من الناس تصنيف ذلك ولعل بعضهم يشكل فيما سمع ولعل غيرهم يستهزء وينكر.

والشهواد على ذلك كثيرة، نورد منها شاهداً واحداً، وهو قوله صلى الله

ص: 110

عليه وآله وسلم في حق علي عليه السلام:

«لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة»(1).

ولذا فهي كرامة أرادت فاطمة صلوات الله عليها اتحاف الصحابي المنتجب عمار بن ياسر بها، وإلاّ ليس هناك مسوغ لاصطحاب أمير المؤمنين عليه السلام لعمار وذهابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن سمع من فاطمة عليها السلام هذه الفضيلة.

بمعنى:

أن أمير المؤمنين عليه السلام أراد بيان الأمر وتأكيده لعمار بن ياسر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا اصطحبه معه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومما يدل عليه: قول أمير المؤمنين عليه السلام:

«نور فاطمة من نورنا».

بصيغة الاستفهام ليكون الجواب من الحضرة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم:

«أولا تعلم ؟».

وسكوته عن الجواب: يدل على أن المراد هنا في معرفة علم فاطمة هو عمار

ص: 111


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 57؛ الأمالي للصدوق: ص 709.

بن ياسر وأن نور فاطمة من نور محمد وعترته صلوات الله عليهم أجمعين.

3 - إن الذي يستفاد من بعض النصوص إن هذه الشجرة التي أودع الله فيها نور فاطمة فأضاءت هي الشجرة التي ورد ذكرها في آية النور وذلك لتناسب دلالة الرواية مع دلالات الآية الشريفة فضلاً عن احتوائها لبعض المفردات التي تتسق مع العلم؛ ولذا نجد الآية الكريمة ختمت بصفة العليم فقال سبحانه:

وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) .

قال تعالى:

اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (2) .

وهذه الدلالات الجمة التي تسير جنباً إلى جنب مع قول بضعة النبوة، وكونها المشكاة، ونور تلك الشجرة الزيتونة التي أضاءت في الجنة وأضاءت بنور العلم على العالم.

وهو نفس المعنى الذي أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام في حديثه مع المنصور العباسي وقد ملئ غضباً منه وذلك أن الناس كانت تحدث ببعض مناقبه ومقاماته فساء المنصور ما يسمع، فقال له:

ص: 112


1- سورة البقرة، الآية: 282.
2- سورة النور، الآية: 35.

(ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديان، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس: أنك حبر الدهر وناموسه، وحجة المعبود وترجمانه، وعيبة علمه وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور، وإن الله لا يقبل من عامل جهل حقك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزنا، فنسبوك إلى غير حدك، وقالوا فيك ما ليس فيك، فقل فإن أول من قال الحق جدك، وأول من صدقه عليه أبوك، وأنت حري أن تقتص آثارهما وتسلك سبيلهما. فقال الإمام الصادق عليه السلام:

«أنا فرع من فروع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت النبوة، وأديب السفرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر»)(1).

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله في كتابه مصباح الأنوار بإسناده (عن رجاله مرفوعا إلى المفضل بن عمر قال: دخلت على الصادق عليه السلام ذات يوم فقال لي:

«يا مفضل هل عرفت محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام كنه معرفتهم ؟».

قلت: يا سيدي وما كنه معرفتهم ؟ قال:

«يا مفضل تعلم أنهم في طرف عن الخلائق بجنب الروضة الخضرة فمن عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمنا في السنام الأعلى».

ص: 113


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 710؛ البحار للمجلسي: ج 10، ص 217.

قال، قلت: عرفني ذلك يا سيدي ؟ قال:

«يا مفضل تعلم أنهم علموا ما خلق الله عزّ وجل وذرأه وبرأه وأنهم كلمة التقوى وخزناء السماوات والأرضين والجبال والرمال والبحار وعرفوا كم في السماء نجم وملك ووزن الجبال وكيل ماء البحار وأنهارها وعيونها وما تسقط من ورقة إلا علموها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس، إلاّ في كتاب مبين وهو في علمهم وقد علموا ذلك».

فقلت: يا سيدي قد علمت ذلك وأقررت به وآمنت، قال:

«نعم يا مفضل، نعم يا مكرم، نعم يا محبور، نعم يا طيب، طبت وطابت لك الجنة ولكل مؤمن بها»)(1).

فكيف إذا استحضرنا مع هذه المعرفة إن فاطمة عليها السلام سميت بهذا الاسم لأن الله تعالى فطمها بالعلم ؟

المسألة الثانية: علمها الذي أخذته عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلما وما روت عنه

اشارة

لقد مرّ علينا آنفاً أن نور فاطمة عليها السلام وعلمها من نور محمد وعترته صلوات الله عليهم، وعلمهم أجمعين إلاّ أن الله تعالى قد خص رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بعلوم لم يخص بها أحداً من عباده لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل.

ص: 114


1- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة للسيد شرف الدين الاسترآبادي: ص 488؛ تفسير كنز الدقائق للشيخ محمد رضا القمي المشهدي: ج 11، ص 62.

ولذا كان هو السراج المنير الذي أضاء بنوره العوالم التي خلقها الله تعالى، قال سبحانه وتعالى:

يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً(1) .

وهذا العلم المكنون في قلب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فتح أبوابه لوصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه حينما قال:

«علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب».

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنا مدينة العلم وعلي بابها».

ومن هذه المدينة وأبوابها فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة من العلوم ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى والأئمة المعصومين من ولدها؛ إلاّ أن الفارق فيما بينها وبين أمير المؤمنين صلوات الله عليهما إن فاطمة عليها السلام كانت في زمن اثنين من المعصومين وهما أبوها وبعلها؛ ومن ثم فإن البيان والتبليغ كان لهما، وهذا أولاً.

وثانياً: إن الفترة القصيرة التي عاشتها فاطمة بعد وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتتابع المصائب عليها وانصراف الناس إلى شؤون العهد الجديد وتركهم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعهم الاجتهادات ونكرانهم لوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته، كل ذلك وغيره حجب عن التراث الإسلامي ما كان لفاطمة من

ص: 115


1- سورة الأحزاب، الآية: 45.

العلوم وحرم المسلمين من التزود من قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحل نزول الفيض الأقدس الذي:

نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (1) .

ولذا:

نجد أن رواياتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت قليلة وذلك لإعلان الحرب عليها بكل أنواعها الاقتصادية والاعلامية والعسكرية إلى الحد الذي عزموا فيه على الإبادة الجماعية لأهل هذا البيت وحرقه بمن فيه.

فبعد هذا كيف نجد في التراث الإسلامي ظهور علم فاطمة عليها السلام ولكن يأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

إذن:

يُعدّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم المصدر الثاني لعلم فاطمة عليها السلام كما كان لعلي صلوات الله وسلامه عليه؛ ولقد تناولنا سابقاً قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتزويدها في الأمور العبادية كثيراً من الأدعية والصلوات التي لم يخص بها أحداً غيرها.

ونحاول هنا: أن نورد بقية الروايات التي كشفتها فاطمة عليها السلام أو التي رواها الأئمة من بعدها فنقلوا لنا بعضاً مما أخذته فاطمة عليها السلام عن أبيها خلال عمرها القصير الذي عاشته معه فكان ثمانية عشر سنة وهو مبلغ سنها منذ الولادة وحتى الوفاة؛ فكانت هذه الأحاديث كالآتي:

ص: 116


1- سورة الشعراء، الآيتان: 193 و 194.
أولاً: ما روته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أبواب الفقه
ألف: الصلاة الواجبة

1 - روى السيد علي بن طاووس في فلاح السائل، بحذف الإسناد (عن سيدة النساء فاطمة ابنة سيد الأنبياء صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها أنها سألت أباها محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:

«يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء»؟

قال:

«يا فاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة؛ ست منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة، إذا خرج من قبره: فأما اللواتي تصيبه في دار الدنيا فالأولى يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزّ وجل سيماء الصالحين من وجهه، وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين، وأما اللواتي تصيبه عند موته فأولاهن أنه يموت ذليلا، والثانية يموت جائعا، والثالثة يموت عطشانا (عطشان)، فلو سقي من أنهار الدنيا لم يرو عطشه، وأما اللواتي تصيبه في قبره أولاهن يوكل الله به ملكا يزعجه في قبره، والثانية يضيق عليه قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره، وأما اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره فأولاهن أن يوكل الله به ملكا يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية يحاسبه حسابا شديدا، والثالثة لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم»)(1).

ص: 117


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 3، ص 24.

2 - أخرج الخطيب البغدادي (عن عبد الله بن الإمام الحسن عن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«خياركم ألينكم مناكب في الصلاة»)(1).

باء: في العتق

روى الشيخ الطوسي (عن الحكم بن أبي نعيم، قال: سمعت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحدث عن أبيها، قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أعتق رقبة مؤمنة كان له بكل عضو منها فكاك عضو منه من النار»)(2).

جيم: في المسكر

روى المحدث النوري (عن جعفر بن محمد عن آبائه صلوات الله عليهم أجمعين عن فاطمة عليها السلام قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حبيبة أبيها كل مسكر حرام وكل مسكر خمر»)(3).

دال: في التختم

روى الحر العاملي (عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 118


1- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 12، ص 49، برقم 6428.
2- الأمالي للطوسي: ص 390.
3- مستدرك الوسائل: ج 17، ص 58.

قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيرا»)(1).

هاء: الرجل أحق بصدر دابته والصلاة في منزله

روى الدولابي (عن محمد بن علي بن الحسين عليه السلام قال:

«خرجت أمشي مع جدي الحسين بن علي عليهما السلام إلى أرضه فأدركنا النعمان بن بشير على بغلة له، فنزل عنها وقال للحسين عليه السلام: اركب أبا عبد الله فأبى، فلم يزل يقسم عليه، حتى قال: أما إنك قد كلفتني ما أكره، ولكن أحدثك حديثاً حدثتنيه أمي فاطمة صلوات الله عليها: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الرجل أحق بصدر دابته، وفراشه، والصلاة في بيته إلاّ إمام يجمع الناس فاركب أنت على صدر الدابة وأردفني خلفك.

فقال النعمان: صدقت فاطمة حدثني أبي وهو ذا هي بالمدينة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إلاّ أن يأذن.

فلما حدثه النعمان بهذا الحديث ركب الحسين عليه السلام السرج، وركب النعمان خلفه»)(2).

والحديث يكشف عن أن هذه الخاتمة التي ذكرها النعمان عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إلا أن يؤذن) هي من أصل الحديث وأن الإمام الحسين عليه السلام كان يعلم بتمام الحديث الشريف وأن فاطمة عليها السلام حدثته كذلك،

ص: 119


1- وسائل الشيعة: ج 3، ص 401.
2- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 137، ح 171.

ولكن أراد عليه السلام أن لا يكلف النعمان المشقة ولذا: كان عليه السلام من البدء يرفض الركوب حرصاً على راحة النعمان، فضلاً عن التواضع.

فلما أتم للإمام الحديث وجد عليه السلام الاستجابة لطلبه تقريراً منه عليه السلام على هذه الرواية التي أوردها النعمان عن أبيه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا: جلس على السرج.

واو: في أجر المريض عند الله تعالى

روى الدولابي (عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة الكبرى عليها السلام قالت:

«قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مرض العبد أوحى الله إلى ملائكته: أن ارفعوا عن عبدي القلم، ما دام في وثاقي، فإني أنا حبسته، حتى أقبضه أو أخلي سبيله».

قال: فذكرت لبعض ولده فقال: كان أبي يقول:

«أوحى الله إلى ملائكته أكتبوا لعبدي أجر ما كان يعمل في صحته»)(1).

زاي: ما يقرأ من الأذكار قبل النوم

عن فاطمة عليها السلام أنها قالت:

«دخل عليّ أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني قد افترشت الفراش وأردت أن أنام، فقال: يا فاطمة لا تنامي حتى تعمل أربعة أشياء: حتى تختمي القرآن،

ص: 120


1- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 149، برقم 189؛ قوت القلوب لأبي طالب المكي: ص 46.

وتجعلي الأنبياء شفعاءك، وتجعلي المؤمنين راضين عنك، وتعملي حجة وعمرة.

ودخل في الصلاة، فتوقفت في فراشي، حتى أتم الصلاة، فقلت: يا رسول الله أمرتني بأربعة أشياء لا أقدر في هذه الساعة أن أفعلها.

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إذا قرأت قل هو الله أحد(1) ثلاث مرات، فكأنك ختمت القرآن، وإذا صلّيت عليّ وعلى الأنبياء من قبلي، فقد صرنا لك شفعاء يوم القيامة، وإذا استغفرت للمؤمنين فكلهم راضون عنك، وإذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فقد حججت واعتمرت»)(2).

حاء: في ثواب قراءة سورة الرحمن والواقعة والحديد

أخرج البيهقي وعنه السيوطي، (عن محمد بن علي عليهما السلام عن فاطمة عليها السلام قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قارئ الحديد وإذا وقعت والرحمن يدعى في ملكوت السماوات والأرض ساكن الفردوس»)(3).

طاء: في التعامل مع المجذوم

أخرج الحافظ عمر بن شاهين (عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين عليهم السلام، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

ص: 121


1- سورة التوحيد.
2- مسند فاطمة عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلام: ص 173.
3- شعب الإيمان للبيهقي: ج 2، ص 491؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 234؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 1، ص 583؛ فيض القدير للمناوي: ج 4، ص 614.

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم المجذوم ففروا منه كما تفرون من الأسد، وإذا كلمتموه فكلموه وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين»)(1).

ثانيا: ما روته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآداب والسنن
ألف: في النهي عن البخل وبيان مضاره

عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن الحسين بن علي، عن أمه فاطمة عليها السلام قالت:

«قال لي أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياك والبخل فإنه عاهة لا تكون في كريم، إياك والبخل فإنه شجرة في النار وأغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله النار. والسخاء شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الجنة»)(2).

باء: في عاقبة الظلم

عن عبد الله بن الحسن، (عن أبيه الإمام الحسن عليه السلام عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما التقى جندان ظالمان إلا تخلى الله عنهما ولم يبال أيهما غلب، وما التقى جندان ظالمان إلاّ كانت الدبرة على أعتاهما»)(3).

ص: 122


1- ناسخ التواريخ لابن شاهين: ص 518؛ مسند الفردوس للديلمي: ج 1، ص 262، برقم 1017.
2- دلائل الإمام للطبري: ص 4.
3- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 553.
جيم: في إكرام الضيف، وفضل السكوت إلاّ في قول الخير

روى الحر العاملي (عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن إسحاق بن عبد العزيز عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«جاء ت فاطمة عليها السلام تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض أمرها فأعطاها كربة وقال: تعلمي ما فيها فإذا فيها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت»)(1).

دال: أربع صفات من كن فيه كان من شرار الأمة

روى البيهقي والمنذري وابن أبي الدنيا (عن عبد الله بن الحسن المجتبى عن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شرار أمتي الذين غدوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام»)(2).

هاء: في غسل اليدين من الطعام

روى الدولابي (عن الحسين بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن أبيها، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يلومن إلاّ نفسه من بات وفي يده غمر»)(3).

ص: 123


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 12، ص 126.
2- شعب الإيمان للبيهقي: ج 5، ص 33؛ الترغيب والترهيب: ج 3، ص 115، الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا: ج 3، ص 115.
3- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 138، والغمر: الدهن ودسم الطعام.
ثالثا: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفضائل
ألف: في بيان عمر الأنبياء عليهم السلام

روى اسحاق بن راهوية في مسنده، في باب: ما يروى عن فاطمة عليها السلام، عن يحيى بن جعدة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام:

«إنه لم يعمر نبيّ قط إلاّ عمّر الذي بعده نصف عمر صاحبه، عمر عيسى أربعين وأنا عشرين»(1).

ورواه الهيثمي بلفظ آخر:

عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة»(2).

باء: في بيان شدة ابتلاء الأنبياء عليهم السلام

روى الديلمي في مسنده عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الصالحون الذين يلونهم»(3).

ص: 124


1- مسند ابن واهوية: ج 5، ص 10.
2- مجمع الزوائد: ج 8، ص 206؛ مسند الموصلي: ج 12، ص 109.
3- مسند الفردوس للديلمي: ج 1، ص 212، برقم 808؛ كشف الخفاء للعجلوني: ج 1، ص 144.
جيم: روايتها لحديث الكساء

يعد حديث الكساء من الأحاديث المشهورة التي تناولها الرواة بالتحديث والرواية بين الاختصار والتمام فمنها ما أخرجه أحمد في المسند(1)، والترمذي في السنن(2)، و الحاكم النيسابوري(3)؛ وابن أبي شيبة(4)، وابن عاصم(5)، والنسائي(6)، والموصلي(7)، وغيرهم.

إلا انني أحببت ان أورد ما عثرت عليه في مخطوط للحافظ الخركوشي الشافعي وقد روى حديث الكساء عن أم سلمة وعائشة مشتركا وبلفظ جديد ينقل صورة فريدة في كيفية جمع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته من حوله وكيفية تجليلهم بالكساء فكانت صورة فريدة وجديدة لم أعثر عليها في الكتب المطبوعة، وهي كالآتي:

قال: (عن أم سلمة وعايشة أشتمل بالعباء، قالت: سمعناه يقول وقد الصق ظهر علي على صدره صلى الله عليه وآله وسلم وظهر فاطمة الى ظهره، والحسن على يمينه، والحسين على يساره، ثم عمهم ونفسه بالعبا حتى غطاهم.

قالت عائشة: ولقد لفّهم فيه حتى أنه حبل أطرافه تحت قدميه؛ ثم قالت:

ص: 125


1- مسند أحمد: ج 6، ص 292.
2- سنن الترمذي: ج 5، ص 31.
3- مستدرك الحاكم: ج 2، ص 416.
4- المصنف لابن أبي شيبة: ج 7، ص 501.
5- السنة لابن أبي عاصم: ص 589.
6- السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 113.
7- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 12، ص 451.

ورفع طرفه إلى السماء وأشار بسبابتيه وما كاد يبين وجهه: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم، اللهم والي من والاهم، وعادي من عاداهم، وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل حاضر فآمن على الدعاء وقال: وأنا معكم يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم(1).

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمة الله عليهم أجمعين)، قال: سمعت فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنها قالت:

«دخل عليّ أبي رسول الله في بعض الأيام، فقال: السلام عليك يا فاطمة! فقلت: وعليك السلام.

قال: إنّي أجد في بدني ضعفاً، فقلت له: أعيذك بالله يا أبتاه! من الضعف.

فقال: يا فاطمة! إيتيني بالكساء اليماني، فغطيني به، فأتيته بالكساء اليماني فغطيته به، وصرت أنظر إليه، وإذا وجهه يتلألأ كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله.

فما كانت إلاّ ساعةً ، وإذا بولدي الحسن قد أقبل، وقال: السلام عليكِ يا أماه!

فقلت: وعليك السلام، يا قرة عيني، وثمرة فؤادي.

فقال لي: يا أماه! إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله. فقلت: نعم، إن جدك تحت الكساء، فأقبل الحسن نحو الكساء، وقال: السلام عليك يا جداه! يا رسول الله، أتأذن لي أن أدخل معك تحت الكساء؟ فقال: وعليك السلام، يا ولدي، ويا صاحب حوضي، قد أذنت لك، فدخل معه تحت الكساء.

ص: 126


1- شرف المصطفى للخركوشي (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد برقم: (1887).

فما كانت إلا ساعة وإذا بولدي الحسين قد أقبل وقال: السلام عليك يا أماه!

فقلت: وعليك السلام يا ولدي، ويا قرّة عيني، وثمرة فؤادي، فقال لي: يا أماه!

إنّي أشمّ عندك رائحة طيبة كأنّها رائحة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: نعم، يا بني إن جدك وأخاك تحت الكساء، فدنى الحسين نحو الكساء، وقال: السلام عليك، يا جداه! السلام عليك، يا من اختاره الله! أتأذن لي أن أكون معكما تحت الكساء.

فقال: وعليك السلام، يا ولدي، وشافع أمّتي، قد أذنت لك، فدخل معهما تحت الكساء. فأقبل عند ذلك أبو الحسن علي بن أبي طالب، وقال: السلام عليك يا بنت رسول الله.

فقلت: وعليك السلام يا أبا الحسن! ويا أمير المؤمنين!

فقال: يا فاطمة! إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة أخي وابن عمي رسول الله.

فقلت: نعم، ها هو مع ولديك تحت الكساء.

فأقبل علي نحو الكساء، وقال: السلام عليك، يا رسول الله! أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء؟

قال له: وعليك السلام يا أخي، ويا وصيّي، وخليفتي، وصاحب لوائي، قد اذنت لك، فدخل علي تحت الكساء.

ثم أتيت نحو الكساء، وقلت: السلام عليك، يا أبتاه! يا رسول الله! أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء؟

قال: وعليك السلام، يا بنتي، ويا بضعتي، قد أذنت لك، فدخلت تحت الكساء.

فلما اكتملنا جميعاً تحت الكساء، أخذ أبي رسول الله بطرفي الكساء، وأومئ بيده اليمنى إلى السماء، وقال: اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي، وخاصتي وحامتي، لحمهم

ص: 127

لحمي، ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم، ويحزنني ما يحزنهم، أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم، وعدوٌ لمن عاداهم، ومحبّ لمن أحبهم، إنهم منّي وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليّ وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

فقال الله عزّ وجل: يا ملائكتي! ويا سكّان سماواتي! إنّي ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضا مدحية، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة، ولا فلكا يدور، ولا بحرا يجري، ولا فلكا يسري، إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.

فقال الأمين جبرائيل: يا رب! ومن تحت الكساء؟

فقال الله عزّ وجل: هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، هم فاطمة وابوها وبعلها وبنوها. فقال جبرائيل: يا رب! أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون معهم سادسا؟ فقال الله: نعم، قد أذنت لك.

فهبط الأمين جبرائيل وقال: السلام عليك يا رسول الله! العلي الأعلى يقرؤك السلام، ويخصك بالتحية والإكرام، ويقول لك: وعزّتي وجلالي، إني ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضا مدحية، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة، ولا فلكا يدور، ولا بحرا يجري، ولا فلكا يسري، إلا لأجلكم ومحبتكم، وقد أذن لي أن أدخل معكم، فهل تأذن لي يا رسول الله ؟

فقال رسول الله: وعليك السلام، يا أمين وحي الله! إنّه نعم، قد أذنت لك.

فدخل جبرائيل معنا تحت الكساء، فقال لأبي: إن الله قد أوحى إليكم، يقول:

إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1) .

ص: 128


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.

فقال علي لأبي: يا رسول الله! أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله ؟ فقال النبي: والذي بعثني بالحق نبيا، واصطفاني بالرسالة نجيا، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض، وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا إلا ونزلت عليهم الرحمة، وحفت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا.

فقال علي: إذا والله فزنا، وفاز شيعتنا ورب الكعبة.

فقال أبي رسول الله: يا علي! والذي بعثني بالحق نبيا، واصطفاني بالرسالة نجيا، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الارض، وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا، وفيهم مهموم إلا وفرج الله همه، ولا مغموم إلا وكشف الله غمه، ولا طالب حاجة إلا وقضى الله حاجته. فقال علي: إذا والله فزنا وسعدنا، وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة ورب الكعبة»(1).

جيم: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام
1 - روايتها لحديث الغدير

روى العلامة الأميني عن شمس الدين أبو الخير الجزري الشافعي الدمشقي في كتابه أسس المطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، إنه قال: (وألطف طريق وقع لهذا الحديث (يعني الغدير) وأغربه ما حدثنا به شيخنا خاتمة الحفاظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن المحب المقدسي مشافهة، أخبرتنا الشيخة أم محمد زينب ابن أحمد بن عبد الرحيم المقدسية، عن أبي المظفر محمد بن فتيان بن المثنى، أخبرنا أبو موسى محمد بن أبي بكر الحافظ.

ص: 129


1- مسند فاطمة الزهراء للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 18-20.

إلى أن يقول بسنده المتصل: حدثتني عن أم كلثوم بنت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله سلم، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قالت:

«أنسيتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم، من كنت مولاه فعلي مولاه ؟».

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام ؟»)(1).

2 - من كنت وليه فعلي وليه

روى المجلسي عن الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام بسنده إلى الحسين بن علي عليهما السلام عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه»(2).

3 - إن علي عليه السلام نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم

روى علي بن يونس العاملي (المتوفى 877 ه -) والسيد هاشم البحراني (المتوفى 1107 ه -) عن عائشة قالت: قالت فاطمة عليها السلام:

«لما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضل بعض الصحابة لم يقل في علي شيئاً، فقيل له في ذلك فقال: علي نفسي فمن رأيت يقول في نفسه شيئاً»(3).

ص: 130


1- الغدير للعلامة الأميني: ج 1، ص 197؛ موسوعة طبقات الفقهاء، اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: ج 5، ص 151؛ شرح إحقاق الحق: ج 21، ص 28.
2- البحار للمجلسي: ج 38، ص 112.
3- الصراط المستقيم لعلي بن يونس: ج 1، ص 250؛ غاية المرام للبحراني: ج 5، ص 23.
4 - إنك وشيعتك في الجنة

روى الأربلي عن المحدث الحنبلي عن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: أما إنك يا ابن أبي طالب وشيعتك في الجنة»(1).

5 - في حال الملكين الكاتبين الذين صحبا الإمام علي عليه السلام

عن الإمام الحسن بن علي، قال:

أخبرتني فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أخبرني جبرائيل عن كاتبي علي أنهما لم يكتبا على علي ذنباً منذ صحباه»(2).

6 - إن الله تعالى غفر لعلي خاصة في عشية عرفة

روى الشيخ الصدوق رحمه الله والقاضي النعمان المغربي والطبري الشيعي وابن شهر آشوب وغيرهم، عن فاطمة الصغرى بنت الحسين عليه السلام عن الإمام الحسين عليه السلام، عن أمه فاطمة بن محمد صلوات الله عليهم قالت:

«خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية عرفة، فقال: إن الله تبارك وتعالى باهى بكم وغفر لكم عامة، ولعلي خاصة، وإني رسول الله غير محاب لقرابتي، وهذا جبرائيل يخبرني أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب

ص: 131


1- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 137.
2- كنز الفوائد للكركي: ص 162؛ البحار: ج 25، ص 193.

علياً في حياته وبعد موته، وأن الشقي كل الشقي حق الشقي من أبغض علياً عليه السلام في حياته وبعد موته»(1).

7 - إن علياً عليه السلام هو المخصوص بقوله عزّ وجل: وَ قٰالَ اَلْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا

روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن هارون بن خارجة رفعه عن فاطمة عليها السلام قالت:

«أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر ففزع الناس إلى أبي بكر وعمر فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فتبعهما الناس حتى انتهوا إلى باب علي فخرج إليهم علي غير مكترث لما هم فيه ومضى فاتبعه الناس حتى انتهى إلى تلعة فقعد عليها وقعدوا وهم ينظرون إلى حيطان المدينة ترتج جائية وذاهبة فقال علي عليه السلام لهم كأنكم قد هالكم ما ترون قالوا وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قط.

قالت عليها السلام: فحرك شفتيه ثم ضرب الأرض بيده ثم قال: ما لك اسكني فكسنت فعجبوا من لك أكثر من عجبهم أولا حين خرج إليهم فقال إنكم قد عجبتهم من صنيعي قالوا نعم، قال: أنا الرجل الذي قال الله عزّ وجل:

إِذٰا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا وَ قٰالَ اَلْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا .

فأنا الإنسان الذي أقول لها يومئذ تحدث أخبارها إياي تحدث»(2).

ص: 132


1- الأمالي للصدوق: ص 249؛ شرح الأخبار: ج 1، ص 209؛ المسترشد للطبري: ص 464؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 3.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 2، ص 556؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 151؛ دلائل الإمامة للطبري: ص 67.
8 - إن الله تعالى يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإسراء والمعراج بأن علي ولي الله ويشهد على ذلك الملائكة

أخرج فرات الكوفي بسنده عن علي بن عتاب معنعناً عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمت أذانا مثنى مثنى، وإقامة وترا وترا، فسمعت مناديا ينادي: يا ملائكتي، وسكان سماواتي وأرضي، وحملة عرشي، اشهدوا أني لا إله إلاّ أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي، وسكان سماواتي، وأرضي، وحملة عرشي بأن (أن) محمداً عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا، وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي، وسكان سماواتي، وأرضي، وحملة عرشي، بأن (أن) علياً وليّي، وولي رسولي، وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا»(1).

9 - إن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم وشيعة علي عليه السلام يدعون بأسماء آبائهم

روى العلامة المجلسي رحمه الله (عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فإذا انا بقصر من درة بيضاء مجوفة، وعليها باب مكلل بالدر والياقوت، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب (لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي القوم) وإذا مكتوب على الستر بخ بخ من مثل شيعة علي ؟

ص: 133


1- تفسير فرات الكوفي: ص 342.

فدخلته فإذا أنا بقصر من عقيق أحمر مجوف، وعليه باب من فضة مكلل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب (محمد رسول الله علي وصي المصطفى) وإذا على الستر مكتوب: (بشر شيعة علي بطيب المولد).

فدخلته فإذا أنا بقصر من زمرد أخضر مجوف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مكللة باللؤلؤ وعلى الباب ستر فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر شيعة علي هم الفائزون، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذا؟ فقال: يا محمد لابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب عليه السلام يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة إلا شيعة علي ويدعى الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا شيعة علي عليه السلام فإنهم يدعون بأسماء آبائهم فقلت: حبيبي جبرئيل وكيف ذاك ؟ قال: لأنهم أحبوا عليا فطاب مولدهم»(1).

دال: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولديها الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين

1 - أخرج أبو يعلى الموصلي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام عن فاطمة الكبرى بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكل بني أم عصبة ينتمون إليه إلاّ ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم»(2).

ص: 134


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 65، ص 76؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 141؛ مستدرك سفينة البحار: ج 6، ص 115.
2- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 12، ص 109؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 423؛ كشف الخفاء للعجلوني: ج 2، ص 120.

2 - روى الهيثمي وغيره عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها أتت بالحسن والحسين عليهما السلام في شكواه الذي توفي فيها فقالت:

«يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئاً فقال: أما حسن فله هيبتي وسؤددي، وأما حسين فله جرأتي وجودي»(1).

3 - روى الدولابي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام، عن فاطمة الكبرى بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن رسول الله كان يعوذ الحسن والحسين ويعلمهما هؤلاء الصيام كما يعلمها السورة من القرآن، يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)»(2).

أقول: لقد تناولنا خلال الجزء الثالث من الكتاب بعض الأحاديث التي تكشف عن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تنشئة الحسن والحسين عليهما السلام. ولذا: لم نشأ التكرار هنا.

رابعا: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغيبيات

إنّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأمور الواقعة بعد وفاته سواء ما يخص أهل بيته أو أصحابه أو أمته لكثيرة جدا؛ ولذا نقتصر هنا على ما روته بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله

ص: 135


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 185؛ المستجاد من الارشاد للعلامة الحلي: ص 142؛ البحار: ج 23، ص 263.
2- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 149.

وسلم فيما يقع من الأمور بعد وفاته والتي تعد من الأمور الغيبية، والتي تكاد تكون محصورة - أي هذه الرواية - في أمر وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتحاق فاطمة به سريعاً فكان كما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

1 - روى ابن راهوية في مسنده عن عائشة قالت: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرحب بها فأجلسها عن يمينه أو عن يساره فأسر إليها حديثاً فبكت فقلت لها استخصك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحديثه ثم تبكين ؟

ثم أسر إليها فضحكت فقلت: ما رأيت فرحاً أخرج من حزن، أي شيء قال لك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فقالت:

«ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

قالت: فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت:

«إن جبرائيل كان يأتيني كل عام فيعارضني بالقرآن وإنه أتاني العام فعارضني به مرتين ولا أرى أجلي إلاّ قد حضر وإنك لأول أهلي بي لحوقاً، ونعم السلف أنا لك، فبكيت ثم قال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو هذه الأمة»)(1).

2 - وقريب من هذا اللفظ روى الطبراني عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام:

ص: 136


1- مسند راهوية: ج 5، ص 7؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، ص 248؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 179.

(إن عائشة كانت تقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مرضه الذي قبض فيه، قال لفاطمة:

«يا بنيّة احني عليّ ».

فاحنت عليه فناجاها ساعة ثم انكشفت وهي تبكي وعائشة حاضرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بساعة:

«احني عليّ يا بنية».

فأحنت عليه فناجاها ساعة ثم انكشفت عنه فضحكت، قالت عائشة فقلت: أي بنية أخبريني ماذا ناجاك أبوك فقالت فاطمة:

«ناجاني على حال سر ظننت إني أخبر بسره وهو حي».

فشق ذلك على عائشة أن يكون سرا دونها، فلما قبضه الله قالت عائشة لفاطمة: يا بنية ألا تخبريني بذلك الخبر! قالت:

«أما الآن فنعم ناجاني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة وأنه عارضه بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه أخبره أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومئة سنة ولا أراني ذاهبا على رأس الستين فأبكاني ذلك وقال يا بنية إنه ليس من نساء المسلمين امرأة أعظم رزية منك فلا تكوني أدنى من امرأة صبرا وناجاني في المرة الآخرة فأخبرني أني أول أهله لحوقا به وقال إنك سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من البتول مريم بنت عمران فضحكت بذلك»)(1).

ص: 137


1- المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 417؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 147.

2 - حديث النساء المعذبات

قال علي بن عبد الله الوراق: حدثنا محمد بن ابي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد الأدمي، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن محمد بن علي الرضا، عن ابيه الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:

«دخلت أنا وفاطمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدته يبكي بكاءً شديداً، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسل الله ما الذي أبكاك، فقال: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد فأنكرت شأنهن فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن.

ورأيت امرأة علقة بشعرها، يغلى دماغ رأسها، ورأيت امرأة معلقة بلسانها، والحميم يصب في حلقها، ورأيت امرأة معلقة بثدييها، ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها، والنار توقد من تحتها، ورأيت امرأة قد شد رجلاها إلى يديها وقد سلط عليها الحيات والعقارب، ورأيت امرأة صماء عمياء خرساء في تابوت من نار يخرج دماغ رأسها من منخرها وبدنا متقطع من الجذام والبرص، ورأيت امرأة علقة برجليها في تنور من نار، ورأيت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاريض من نار، ورأيت امرأة يحرق وجهها ويداها وهي تأكل أمعاء ها، ورأيت امرأة رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار وعليها ألف ألف لون منا لعذاب، ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار.

ص: 138

فقالت فاطمة عليها السلام: حبيبي وقرة عيني أخبرني ما كان عملهن وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب ؟ فقال: يا بنيتي أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال، وأما المعلقة بلسانها، فإنها كانت تؤذي زوجها، وأما المعلقة بثدييها، فإنها كانت تمتنع من فراش زوجها، وأما المعلقة برجليها، فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها، وأما التي كانت تأكل لحم جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس، وأما التي شد يداها إلى رجليها وسلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف وكانت تستهين بالصلاة، وأما الصماء العمياء الخرساء فإنها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق وزجها، وأما التي كانت تقرض لحمها بالمقاريض فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وهي تأكل أمعاءها فإنها كانت قوادة، وأما التي كان رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار، فإنها كانت نمامة كذابة، وأما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها فإنها كانت قينة نواحة حاسدة.

ثم قال عليه السلام: ويل لامرأة أغضبت زوجها وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها»(1).

ص: 139


1- وسائل الشيعة: ج 20، ص 213؛ عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 10-11.

المبحث الثاني: مصحف فاطمة صلوات الله عليها

اشارة

ما زلنا في بحث مصادر علم فاطمة صلوات الله وسلامه عليها وعلى ابيها وبعلها وبنيها وتناولنا المصدر الأول لهذا العلم وهو أنها مخلوقة من نور العلم الإلهي، وإنها ممن اختصت بالعلم اللّدني، ومن ثم انتقلنا على المصدر الثاني وهو ما علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العلم كما علم علياً صلوات الله عليه من علمه فكان باب مدينة علم النبوة؛ أما المصدر الثالث لعلم فاطمة عليها السلام فهم الملائكة عليهم السلام فقد كانت محدَّثة، تحدثها الملائكة ليصبح مصحف فاطمة عليها السلام هو خلاصة المصدر الثالث لعلمها وهو ما سنتناوله في هذه المسألة.

المسألة الأولى: ما هو مصحف فاطمة عليها السلام

لا يمكن لنا معرفة مصحف فاطمة دون الرجوع إلى الأئمة المعصومين من أبناء فاطمة صلوات الله عليهم أجمعين فأهل البيت عليهم السلام هم أدرى بما لديهم من تراث الأنبياء عليهم السلام، فكانت الروايات الشريفة التي تحدثت عن

ص: 140

هذا المصحف وعرفت به كالآتي:

1 - روى الكليني (عن حماد بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام».

قال، قلت: وما مصحف فاطمة، قال:

«إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عزّ وجل فأرسل الله إليها ملكا يسلي غمها ويحدثها فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك فجعل أمير المؤمنين عليه السلام يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً قال: ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون»)(1).

2 - وروى الكافي أيضاً: (عن أبي عبيدة قال سأل أبا عبد الله عليه السلام بعض أصحابنا عن الجفر، فقال:

«هو جلد ثور مملوء علما».

قال له: فالجامعة ؟ قال:

«تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتى ارش الخدش».

ص: 141


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 239.

قال: فمصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال: فسكت طويلا ثم قال:

«إنكم لتبحثون عما تريدون وعما لا تريدون إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوما وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي عليه السلام يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة عليها السلام»)(1).

3 - روى ابن جرير الطبري (الإمامي) (عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن مصحف فاطمة عليها السلام ؟ فقال:

«أنزل عليها بعد موت أبيها صلى الله عليه وآله وسلم».

قلت: ففيه شيء من القرآن ؟ فقال:

«ما فيه شيء من القرآن».

قلت: فصفه لي ؟ قال عليه السلام:

«له دفتان من زبرجدتين على طول الورق وعرضه، حمراوين».

قلت: جعلت فداك، فصف لي ورقه ؟ قال:

«ورقه من در أبيض، قيل له كن، فكان».

قلت: جعلت فداك فما فيه ؟ قال عليه السلام:

«فيه خبر ما كان، وخبر ما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء، وعدد ما في السماوات من الملائكة وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلاً، وغير

ص: 142


1- الكافي ج 1، ص 240؛ بصائر الدرجات: ص 153.

مرسل، وأسماءهم وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين من الأولين والآخرين، وأسماء البلدان، وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وفيه أسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك واحدا واحدا، وفيه صفة كراتهم، وفيه صفة جميع من تردد في الأدوار من الأولين والآخرين».

قال: قلت: جعلت فداك وكم الأدوار؟ قال:

«خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار، وفيه أسماء جميع من خلق الله من الأولين والآخرين وآجالهم، وصفة أهل الجنة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الإنجيل، والزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد».

قال أبو جعفر عليه السلام:

«فلما أراد الله عز وجل أن ينزله عليها، أمر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوا المصحف فينزلوا به عليها، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل، هبطوا به عليها وهي قائمة تصلي، فما زالوا قياما حتى قعدت، فلما فرغت من صلاتها سلموا عليها، وقالوا لها: السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها، فقالت لهم: الله السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلى السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه، حتى أتت على آخره.

ص: 143

ولقد كانت صلوات الله عليها طاعتها مفروضة على جميع من خلق الله من الجن، والإنس، والطير، والبهائم، والأنبياء، والملائكة».

فقلت: جعلت فداك فلما مضت إلى من صار ذلك المصحف ؟ فقال:

«دفعته إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فلما مضى صار إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر».

فقلت: إن هذا العلم كثير)(1)!

3 - روى الصفار في البصائر عن (علي بن سعيد قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام وعنده محمد بن عبد الله بن علي إلى جنبه جالساً وفي المجلس عبد الملك بن أعين ومحمد الطيار وشهاب بن عبد ربه، فقال رجل من أصحابنا جعلت فداك إن عبد الله بن الحسن يقول لنا في هذا الأمر ما ليس لغيرنا فقال أبو عبد الله عليه السلام بعد كلام:

«أما تعجبون من عبد الله يزعم أن أباه علي لم يكن إماماً ويقول إنه ليس عندنا علم وصدق والله ما عنده علم ولكن والله».

وأهوى بيده إلى صدره:

«إن عندنا سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيفه ودرعه وعندنا والله مصحف فاطمة ما فيه آية من كتاب الله وإنه لإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطه علي عليه السلام بيده وعندنا والله الجفر».

وما يدرون ما هو أمسك شاة أو مسك بعير ثم أقبل إلينا وقال:

ص: 144


1- دلائل الإمامة للطبري: ج 106.

«أبشروا أما ترضون أنكم تجيئون يوم القيامة آخذين بحجزة علي عليه السلام وعلي آخذ بحجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»)(1).

المسألة الثانية: إن دلالة الروايات تكشف عن أن مصحف فاطمة يتكون من ثلاثة أجزاء متخصصة في محتواها

اشارة

إن التأمل في الروايات السابقة ودراسة ما تضمنته من بيان لمصحف فاطمة عليها السلام ووصفه وتعريفه يكشف عن حقيقة مهمة وهي أن هذا المصحف يتكون من ثلاثة أجزاء حمل كل منها العنوان نفسه وهو أشبه ما يكون اليوم في عالم الكتب من تكون بعض العناوين من عدد من الأجزاء يحمل كل جزء منها مضموناً خاصاً به لتشكل هذه الأجزاء في النهاية ما احتواه العنوان من علوم مختلفة.

إلاّ أن الفارق بين مصحف فاطمة عليها السلام وبين ما نجده في عالم الكتب من تعدد للأجزاء ضمن العنوان الواحد هو المصدر الذي زود هذا المصحف بالعلوم والمعلومات.

بمعنى:

أن الكاتب أو الباحث هو من يقوم بكتابة كتابه فيملي فيه ما جمعه من دلائل ومعلومات وأحداث وغيرها مستنداً في ذلك إلى مصادر ومراجع أخرى؛ بينما مصحف فاطمة عليها السلام فهو من جهات معلوماتية ثلاث كانت هي السبب في جعله ضمن أجزاء ثلاثة وهي كالآتي:

ص: 145


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 153.
أولاً: إنّ الجزء الأول من مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها وهو من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام

إن المستفاد من الروايات الشريفة إن مصحف فاطمة عليها السلام ليس فيه آية من آيات كتاب الله تعالى وهذا يدل على أنه ليس بكلام الله تعالى ولا يقاس بكتاب الله المجيد ولقد أكد أهل البيت عليهم السلام على هذه الحقيقة مراراً لغرض قطع الطريق على المنافقين والمبطلين والجهال كي لا ينعقوا مع كل ناعق.

ومن ثم:

فهذا المصحف الفاطمي هو مجموعة من العلوم والمعارف الإلهية والنبوية والملائكية التي لا يعلم عددها إلاّ الله تعالى ورسوله والأئمة من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

من هنا:

فقد تكوّن هذا الصرح العظيم من العلم من أجزاء ثلاثة كانت بحسب مصدرها هي:

1 - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في حياته وبخط علي عليه السلام.

2 - إنه مخلوق في السماء وأنزل الله إليها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - إنه من جبرائيل عليه السلام وقد حدثها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 146

أما الجزء الأول الذي هو من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقد دل عليه حديث الإمام الصادق الذي أخرجه الصفار في البصائر، فقال عليه السلام:

«وعندنا والله مصحف فاطمة، ما فيه آية من كتاب الله، وإنه لإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخص علي عليه السلام بيده»(1).

والحديث يشير بوضوح إلى أن مصحف فاطمة يتكون من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام وهذا قطعاً وقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويظهر من سبب تسميته ب - (مصحف فاطمة) أي هذا الجزء الذي هو من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو خاص بها، بمعنى: قد أملاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل فاطمة عليها السلام.

وهو يؤكد ما عرضناه في بداية البحث في أن المصدر الثاني لعلم فاطمة عليها السلام هو سول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان هذا المصحف المخصوص لفاطمة عليها السلام إنما كان بعضاً من علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويمتاز هذا المصحف كبقية الأجزاء الأخرى بخلوه تماماً من آيات القرآن الكريم على الرغم من اشتماله لعلوم ومعلومات جمة، ولعله كتلك الأبواب التي فتحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي صلوات الله عليه.

ص: 147


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 173؛ البحار للمجلسي: ج 26، ص 41؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 1، ص 135.
ثانياً: إنّ الجزء الثاني خلقه الله تعالى بقدرته وأنزله بواسطة الملائكة المقربين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وهذا الجزء من مصحف فاطمة صلوات الله عليها يمتاز عن الجزئين الأول والثالث ببعض الأمور التي نص عليها حديث الإمام الباقر عليه السلام الذي أخرجه الطبري عن أبي بصير، وهي كالآتي:

1 - إنه لم يكن من إملاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بخط علي عليه السلام ولم يحدثها ملك بما فيه.

2 - إنه أنزل عليها (أو إليها) من السماء في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - إن الله تعالى يأمر جبرائيل وميكائيل وإسرافيل بحمله إليها فوضعوه في حجرها بعد أن فرغت من صلاتها وهي في المحراب.

4 - أما صفة هذا المصحف فله دفتان من زبرجدتين على طول الورق وعرضه؛ وإن لونهما أحمر.

5 - إن صفة ورقه: من در أبيض.

6 - إنه تكون بقدرة الله تعالى فقال له: كن؛ فكان.

7 - أما محتواه، وما يتضمن من المعارف والعلوم، فهي كالآتي:

ألف: خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

باء: خبر كل سماء على حده.

جيم: عدد ما في السماوات من الملائكة، وغير ذلك، وهو أمر لم يفصح

ص: 148

عنه الإمام الباقر عليه السلام فلا ندري ما تضم بين خلجاتها لفظة: (وغير ذلك).

دال: عدد المرسلين والأنبياء وأسماؤهم، وأسماء من أرسلوا إليهم، وأسماء من كذب من الناس ومن أجاب.

هاء: أسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين من الأولين والآخرين.

واو: أسماء البلدان وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها.

زاي: عدد ما في المدن من الكافرين وصفة كل من كذب.

حاء: صفة القرون الأولى وقصصهم.

طاء: من ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم.

ياء: أسماء الأئمة في هذه البلاد، وصفتهم، وما يملك كل واحد واحد، وصفة كبرائهم.

أي الأئمة الذين يدعون إلى الهدى وأولئك الذين يدعون إلى الظلال وهو ما نص عليه قوله تعالى:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ (1) .

كاف: جميع من تردد في الأدوار وهي سبعة أدوار، وكل دور يبلغ خمسون ألف عام.

لام: في المصحف جميع ما خلق الله وآجالهم.

ص: 149


1- سورة الإسراء، ا لآية: 71.

ميم: صفة أهل الجنة وعدد من يدخلها وأسمائهم.

نون: صفة أهل النار وعدد من يدخلها، وأسمائهم.

سين: فيه علم القرآن كما أنزل.

عين: فيه علم التوراة كما أنزلت؛ وعلم الإنجيل كما أنزلت، وعلم الزبور.

فاء: فيه عدد كل شجرة، ومدرة، في جميع البلاد.

فهذا بعض ما يحتويه هذا المصحف من المعارف والعلوم؛ وإن جميع هذا الذي ذكره الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام لفي ورقتين فقط ولم يكشف لأبي بصير ما في الورقة الثالثة فكيف بجميع المصحف ؟!!

ولعل البعض يستغرب من هذا الوصف وكيف تجمع كل هذه المعارف والمعلومات في ورقتين ؟ وجوابه من نقاط:

1 - قد لا يختلف البعض حينما ينظر إلى التقنيات العلمية الحديثة لاسيما في المجال الالكتروني وما توصلت إليه الجهات المختصة في عالم تخزين المعلومات من إمكانيات هائلة في تخزين هذه المعلومات ضمن قطع صغيرة من المعدن أو غيره وهو ما يعرف اليوم ب - (تقنيات النانو) أو (نانو تكنلوجيك)؛ كإمكانية تحميل مكتبة ضخمة على (فلاش ميموري) الذي لا يتجاوز حجمه عقلة أصبع.

2 - إما إذا عرضنا هذا الحديث على القرآن الكريم فإنا نجد له شاهداً عملياً في سيرة نبي الله نوح عليه السلام وذلك حينما أمره الله تعالى بحمل ما دب على الارض من دواب ونبات في السفينة فقال عزّ وجل:

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا وَ فٰارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ

ص: 150

وَ أَهْلَكَ إِلاّٰ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مٰا آمَنَ مَعَهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ (1) .

وهذا يستلزم معرفة كاملة بجميع أجناس الحيوانات والطيور والنباتات والحشرات وأصنافها من الذكور والإناث كي تستمر دورة الحياة الجديدة بعد هلاك الحياة على الأرض بسبب الطوفان.

وعليه:

فهذا الكم الهائل من المعلومات والمعارف والأعداد وأسماء الأشياء وأجناسها وأصنافها وغير ذلك كله عند نبي الله نوح عليه السلام ولو فرضنا أنه عليه السلام كان يجهل أصغر كائن حي على الأرض فهذا يعني وقوع الهلاك والاندثار وهذا محال لتعارضه مع سنة الله تعالى في إقامة العدل والحياة الجديدة.

وهذا الأمر نفسه نجده عند علم فاطمة عليها السلام فهي قد ورثت هذه المعارف النبوية وغيرها من العلوم في هذا المصحف.

3 - فضلاً عما تقدم فإن الإمام الباقر عليه السلام يُظهر حقيقة أخرى مرتبطة بسبب اختصاصها عليها الصلاة والسلام بهذا المصحف وهو كونها كانت (مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله تعالى من الجن والإنس والطيور والوحوش والأنبياء والملائكة) وهذا مقام عظيم له من الشرافة التي لا يعلم شأنها غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الشأنية تقتضي أن تكون فاطمة عليها السلام على رتبة من العلم بهذا الخلق الذي فرضت عليهم طاعتها.

ص: 151


1- سورة هود، الآية: 40.

بمعنى:

إن من اختير لقيادة جيش من الجيوش وجب عليه معرفة صنوف هذا الجيش وعدد فرقه وصفوفه وتعداده وأسماء القادة وأسماء الجند وغير ذلك مما يرتبط بهذا الجيش وإلا فإن القائد بجهله لهذه المعارف والمعلومات سيكون غير قادر على قيادة هذا الجيش في أي أمر كان وإذا فعل فإن مصيره الفشل.

وعليه:

كونها عليها السلام مفروضة الطاعة على الخلق لزم منها الإحاطة بهذا الخلق وهذا يكون بمن أوجب طاعتها على الخلق وهو الله تعالى فهو الذي خصها بفضله ونصبها علماً لعباده وحجة على جميع مخلوقاته.

ثالثاً: إنّ الجزء الثالث من مصحف فاطمة عليها الصلاة والسلام وهو من إملاء جبرائيل عليه السلام وخط علي أمير المؤمنين عليه السلام

هذا الجزء الشريف من مصحف فاطمة كشفت عنه الرواية الشريفة الواردة عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام وقد تناولت هذه الروايات صفة هذا الجزء وإن لم تسميه بجرء وإنما - كما أسلفنا - سمته بمصفح فاطمة إلا أننا من خلال التأمل في هذه الروايات ونتيجة للجمع بينها ومقارنتها وجدنا أن عنوان: (مصحف فاطمة) يتكون من ثلاثة أجزاء.

وعليه:

فإن الجزء الثالث من مصحف فاطمة يمتاز ببعض الأمور عن الجزء الأول والثاني وهي كالآتي:

ص: 152

1 - إنه من إملاء ملكاً من الملائكة وهو جبرائيل عليه السلام وقد أرسله الله إليها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي يسلي غمها ويحدثها.

2 - إنه بخط علي أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن يسمع من فاطمة بما كان يحدثها به الملك.

3 - إن الإمام علي عليه السلام هو الذي سماه ب - (مصحف فاطمة عليها السلام).

أما محتواه فيتضمن:

ألف: أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه في الجنة.

باء: فيه ما يكون من حوادث في ذريتها وقد كانت تحزن لما تسمع من حديث جبرائيل في ذريتها.

كما في الرواية التي أخرجها حسن بن سليمان الحلي: (إنها قالت لأمير المؤمنين عليهما السلام:

«إني لأسمع من يحدثني بأشياء ووقايع تكون في ذريتي».

وقول الإمام الصادق عليه السلام:

«ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي يكتب».

جيم: إن فيه علم ما يكون.

دال: ليس فيه شيء من الحلال والحرام.

فهذه الأجزاء الثلاثة تكوّن في مجموعها (مصحف فاطمة عليها السلام)

ص: 153

والذي يمتاز بعدم وجود آية واحدة من كتاب الله تعالى فيه وإنما يحتوي على مجموعة من العلوم والمعارف التي تجعل الأئمة من آل البيت عليهم السلام في غنى عن الناس وإن الناس هم من يحتاج إلى عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما نتناوله في ثالثاً.

المسألة الثالثة: إن مصحف فاطمة عليها السلام مصدر من مصادر علوم العترة النبوية التي من خلالها لا يحتاجون إلى أحد من الناس

من الحقائق التي دلت عليها الأحاديث الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام إن مصحف فاطمة صلوات الله عليها هو أحد مصادر علومهم، وهذه الأحاديث كالآتي:

1 - روى الشيخ الكليني رحمه الله (عن الحسين بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«إن عندي الجفر الأبيض».

قال: قلت: فأي شيء فيه ؟ قال:

«زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم عليه السلام والحلال والحرام ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلد ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش وعندي الجفر الأحمر».

قال: قلت: وأي شيء في الجفر الأحمر؟ قال:

«السلاح وذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل».

ص: 154

فقال له عبد الله بن يعفور أصلحك الله أيعرف هذا بنو الحسن ؟ فقال:

«إي والله كما يعرفون الليل أنه ليل والنهار أنه نهار ولكنهم يحملهن الحسد وطلب الدنيا على الجحود والإنكار ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم»)(1).

2 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن أبيه، إلى علي بن إسماعيل الميثمي عن حبيب الخثعمي قال: (كتب أبو جعفر الخليفة إلى محمد بن خالد بن عبد الله القسري وكان عامله على المدينة أن اسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكاة من المائتين كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يسأل فيمن يسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد عليه السلام، فسأل أهل المدينة فقالوا: أدركنا من كان قبلها على هذا فبعث إلى عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد عليه السلام.

فسأل عبد الله فقال: كما قال المستفتون من أهل المدينة، قال: فما تقول أنت يا أبا عبد الله فقال:

«إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعفر في كل أربعين أوقية أوقية، فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة».

قال حبيب: فحسبناه فوجدناه كما قال، فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا، فقال عليه السلام:

«قرأته في كتاب أمك فاطمة عليها السلام».

ص: 155


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 240؛ بصائر الدرجات للصفار: ص 150.

ثم انصرف فبعث إليه محمد ابعث إليّ بكتاب فاطمة فأرسل إليه أبو عبد الله الجواب:

«أني إنما أخبرتك أني قرأته ولم أخبرك أنه عندي».

قال حبيب: فجعل محمد يقول: ما رأيت مثل هذا قط)(1).

3 - روى الشيخ الكليني رحمه الله (عن أحمد بن عمر الحلبي، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت له: جعلت فداك إني أسألك عن مسألة ها هنا أحد يسمع كلامي، قال: فرفع أبو عبد الله عليه السلام سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال:

«يا أبا محمد سل عما بدا لك».

قال: قلت: جعلت فداك إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّم عليا عليه السلام بابا يفتح له منه ألف باب، قال: فقال عليه السلام:

«يا أبا محمد علّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام ألف باب يفتح من كل باب ألف باب».

قال: قلت: هذا والله العلم، قال: فنكت ساعة في الأرض ثم قال:

«إنه لعلم وما هو بذاك».

قال: ثم قال:

ص: 156


1- علل الشرايع للصدوق: ج 2، ص 373؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 9، ص 149؛ الكافي للكليني: ج 3، ص 507.

«يا أبا محمد وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة».

قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة ؟ قال:

«صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش».

وضرب بيده إليّ فقال:

«تأذن لي يا أبا محمد؟».

قال: قلت: جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده وقال:

«حتى ارش هذا».

كأنه مغضب، قال: قلت: هذا والله العلم، قال:

«إنه لعلم وما هو بذاك».

ص: 157

ثم سكت ساعة ثم قال:

«وإن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر».

قال: قلت: وما الجفر؟ قال:

«وعاء من آدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل».

قال: قلت: إنّ هذا هو العلم ؟ قال:

«إنه لعلم وليس بذاك».

ثم سكت ساعة ثم قال:

«وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام».

قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال:

«مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد».

قال: قلت: هذا والله العلم، قال:

«إنه لعلم وما هو بذاك».

ثم سكت ساعة، ثم قال:

«إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة».

قال: قلت: جعلت فداك هذا والله هو العلم ؟ قال:

«إنه لعلم وليس بذاك».

قال: قلت: جعلت فداك فأي شيء العلم ؟ قال:

«ما يحدث بالليل والنهار، الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة»)(1).

فهذا هو العلم عند العترة صلوات الله وسلامه عليهم ولذا كان من أسمائهم وصفاتهم (صاحب الأمر).

ص: 158


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 239؛ الإرشاد للمفيد: ج 2، ص 58؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 158.

المسألة الرابعة: إن مصحف فاطمة عليها السلام هو أحد العلامات الدالة على الإمام المعصوم

إنّ من الأحداث التي وقعت في التأريخ الإسلامي ظهور كثير من الناس وهم يدعون الإمامة الشرعية وإنهم الممثلون للحكم الشرعي؛ ومن ثم لابد للناس من إتباعهم والرجوع إليهم والخضوع لهم وتفويض أمورهم بيد هؤلاء الذين يدعون الارتباط بالشريعة، وإنهم المعنيون بالملة والدين.

ولأن هذا الادعاء يشيع الظلال بين الناس ويؤدي إلى الفتنة والفرقة والخسران في الدنيا والآخرة كان لزاما على من ادعى الانتماء والالتصاق بالنص الشرعي وإنه المنصوص عليه من قبل الله تعالى أن يظهر دلائل ترشد السامع وتقنع الناظر بأنه المقصود بالحلال والحرام.

من هنا:

كانت هناك مجموعة من العلامات تلازم كل من اختاره الله تعالى لشرعه ونصبه علماً لخلقه، أي الأئمة المعصومين عليهم السلام، فكانت هذه العلامات كالآتي:

1 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله (عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام قال:

«للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختونا، ويكون مطهّرا، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وإذا وقع على

ص: 159

الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادتين، ولا يحتلم وتنام عينه، ولا ينام قلبه ويكون محدّثا، ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يرى له بول، ولا غائط، لأن الله عزّ وجل قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه، وتكون رائحته أطيب من رائحة المسك، ويكون أولى بالناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من أبائهم، وأمهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعا لله عزّ وجل ذكره، ويكون آخذ الناس بما يأمر به، وأكف الناس عما ينهى عنه، ويكون دعاؤه مستجابا حتى أنه لو دعا على صخرة لانشقت بنصفين، ويكون عنده سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيفه ذوالفقار، ويكون عنده صحيفة يكون فيها أسماء شيعته إلى يوما القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائه إلى يوم القيامة، وتكون عنده الجامعة وهي صحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم، ويكون عنده الجفر الأكبر والأصغر إهاب ما عز وإهاب كبش، فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدش، وحتى الجلد ونصف الجلدة، وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة»(1).

2 - روى الشيخ الكليني عن سليمان بن خالد، قال:

قال أبو عبد الله عليه السلام:

«إنّ في الجفر الذي يذكرونه لما يسوؤهم لأنهم لا يقولون الحق والحق فيه فليخرجوا قضايا علي وفرائضه إن كانوا صادقين وسلوهم عن الخالات والعمات، وليخرجوا مصحف فاطمة عليها السلام فإن فيه وصية فاطمة عليها السلام ومعه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الله عزّ وجل يقول فأتوا

ص: 160


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 418؛ معاني الأخبار للصدوق: ص 102.

بكتاب من قبل هذا وآثاره من علم إن كنتم صادقين»(1).

الروايتان تكشفان عن هذه الحقيقة المهمة وهي أن مصحف فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها هو أحد العلامات الدالة على الإمام المعصوم المنصوص عليه من الله تعالى وأنه صاحب أمر الدين والدنيا وإليه قد فوض الله تعالى شؤون خلقه وهو القائم بأمر الله فيهم.

من هنا:

تظهر أهمية مصحف فاطمة وشرافته وأثره العظيم عند الأئمة المعصومين، وفي الوقت نفسه يظهر هذا المصحف عظمة من خصت به وسمي بها، وأنزل الله عليها فصلوات الله عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم أودعت في روضتها عند أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ويوم تبعث حيا فترد المحشر بتلك التشريفات الإلهية.

ص: 161


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 240؛ بصائر الدرجات للصفار: ص 158.

المبحث الثالث: فقه فاطمة عليها السلام

اشارة

قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال مفاده: ما المراد من فقه فاطمة صلوات الله عليها؟ وللإجابة عليه ينبغي أولاً الوقوف على معنى الفقه لغة واصطلاحاً عند اللغويين والفقهاء.

(الفقه في اللغة فسّر بعدّة تفاسير:

1 - هو العلم بالشيء والفهم له، وهو المعروف لدى اللغويين، قال تعالى:

قٰالُوا يٰا شُعَيْبُ مٰا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمّٰا تَقُولُ (1) .

2 - فهم الشيء الدقيق، قال تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (2) .

فلا يقال: فقهت أن السماء فوقنا، واختار ذلك أبو اسحاق المروزي، وقال القرافي: وهذا أولى، ولهذا خصّصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية، فيشترط كونه في مظنّة الخفاء، فلا يحسن أن يقال: فقهت أنّ الاثنين أكثر من الواحد.

ص: 162


1- سورة هود، الآية: 91.
2- سورة الإسراء، الآية: 44.

ومن ثمّ لم يسمّ العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيهاً.

3 - فهم غرض المتكلّم من كلامه، سواء أكان الغرض واضحاً أم خفيّاً، واختاره الرازي.

والظاهر أنّ أصح هذه الأقوال هو الأوّل.

ثمّ إنّ الأصل فيه الشقّ ، قال الهروي: (الفقه حقيقته الشقّ والفتح، والفقيه الذي يشتقّ الكلام)، وقال ابن الأثير: (الفقه في الأصل الفهم، واشتقاقه من الشق والفتح).

وأمّا الفقه في اصطلاح الفقهاء: فقد أُطلق الفقه أوّلا على ما يرادف لفظ الشرع فكان علم الفقه هو العلم بكل ما جاء من قبل الله سبحانه وتعالى في الدين سواء ما يتعلق بأُصول الدين أو الأخلاق أو أفعال الجوارح أو معرفة النفس أو القرآن وعلومه، وهو الذي أوجبته الآية الشريفة:

فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ (1) .

وقد سمّي بالفقه الأكبر، إلاّ انّه بالتدريج قد دخله تخصيص كثير فاستبعد علم العقائد وجعل علماً مستقلاّ برأسه مسمّى بعلم التوحيد أو علم الكلام، واستبعد علم الأخلاق ومعرفة النفس والسلوك وسمّي بعلم الأخلاق وعلم العرفان والسلوك، واستبعد ما يتعلّق بالقرآن الكريم فسمّي بعلم التفسير وعلوم القرآن، واستبعد ما يتعلّق بأُصول الفقه فجعل علماً مستقلاّ يبحث عن منهج الاستدلال الفقهي أو الأدلّة المشتركة في الفقه.

ص: 163


1- سورة التوبة، الآية: 122.

فاختص تعريف الفقه الاصطلاحي بالعلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة.

والمقصود من الفرعية الأحكام المتعلقة بأفعال المكلّفين وتروكهم - فيخرج أُصول الدين وأُصول الفقه - سواء كانت تكليفية كالوجوب والحرمة أو وضعية كالملكية والطهارة وسواء كانت متعلقة بالفرد في سلوكه الشخصي أو بالأُسرة والعائلة أو بالمجتمع والدولة والسلوك العام.

والمقصود بكونها عن أدلّة تفصيلية اخراج الفقه التقليدي أي علم المقلِّد بفتاوى مقلَّده، فإنّه ليس من الفقه الاصطلاحي، فيختص علم الفقه بالإجتهادي كما يختص عنوان الفقيه بالمجتهد دون المقلِّد)(1).

ويتضح من هذا التعريف أن المراد من فقه فاطمة عليها السلام: ما ورد عنها في التوحيد والمعارف الإلهية والمعارف القرآنية والأخلاقية وغيرها؛ بل: بجميع ما يرتبط بصلاح هذا الإنسان في الدنيا وما ينجيه في الآخرة.

ولأن هذا المعنى فيه سعة، جداً بسعة العصمة والشريعة والدين، فإن كل ما يبدر من المعصوم من قول أو فعل أو تقرير لفعل فهو الفقه، وهو بالمعنى الأخص يعد حكماً شرعياً.

وعليه: تصبح جميع حياة فاطمة صلوات الله عليها هي الفقه بعينه، إلاّ أننا هنا نورد ما يصحب هذه اللفظة من دلالة للحكم الشرعي في الحلال والحرام والواجب والمندوب والمكروه، فنذكر ما روي عنها في بعض أبواب الأحكام وعناوينها.

ص: 164


1- موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام لمؤسسة دائرة المعارف للفقه الإسلامي: ج 1، ص 17-18.

المسألة الأولى: في حثها عليها السلام على التفقه في الدين وبيان آجر العالم وفضله

روي عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، أنه قال:

«حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك.

ثم ثنت، فأجابت، ثم ثلثت (فأجابت) إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت لا أشق عليك يا بنت رسول الله، قالت فاطمة عليها السلام:

هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكرائه مائة ألف دينار، أيثقل عليه فقال له، فقالت اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى أن لا يثقل عليّ ، سمعت أبي (رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع عليهم نم خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجده في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف، خلعة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عزّ وجل أيها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم (كما خلعتموهم) خلع العلوم في الدنيا.

فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم.

ص: 165

ثم إن الله تعالى يقول أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم.

وقالت فاطمة عليها السلام يا أمة الله إن سلكا من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر»(1).

2 - وروي عنه عليه السلام، أنه قال:

«قالت فاطمة عليها السلام: وقد اختصم إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها، فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحا شديداً.

فقالت فاطمة عليها السلام:

«إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله عزّ وجل قال للملائكة أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف، ضعف ما كانت أعددت لها واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين، فيغلب معانداً مثل ألف ألف، ما كان له معدا من الجنان»(2).

ص: 166


1- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 340؛ مستدرك الوسائل للنوري: ج 17، ص 317.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ص 346؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 18؛ الكافي للكليني: ج 4، ص 114.

والحديثان يظهران، منهج البضعة النبوية عليها السلام في نشر علوم الشريعة وضرورة سعي العالم إلى بيان أحكام الله تعالى والحرص على تفريج ما يلتبس على الناس من شبهات في أمور دينهم.

فضلاً عن بيان ما لمن يسعى في نشر علوم الشريعة وتفريج هموم السائلين عن دينهم وتحقيق النصر لهم على المعاندين والمنافقين، من الفضل والأجر العظيم عند الله تعالى.

المسألة الثانية: ما روي عنها في بعض مسائل العبادات

اشارة

إنّ من المسائل البديهية لدى العارف المطلع على حقيقة الإسلام إن القرآن والعترة النبوية هما الركنان الأساسان في فهم الشريعة والوقوف عند أحكامها؛ وفاطمة عليها السلام بما خصها الله تعالى من الفضل والشأن فكانت ممن اختارهم الله لشرعه واجتباهم لدين الإسلام؛ فضلاً عما تداخل من حياتها في حياة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم فإن تخصيص أبواب من الفقه الإسلامي لملئها بما روي عنها هو في الواقع من المحال وذلك لبعض الأسباب:

1 - إن حياة الصديقة الكبرى صلوات الله عليها متداخلة ومتجانسة مع حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تكاد لا تنفك تلك الحياتين عن بعضهما فتجعل لكل منهما منهجاً مستقلاً وطوراً منفرداً؛ ومن ثم فحياتها تبع لحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يمنعها من ابداء أي حكم شرعي مع وجود ناموس الشريعة وسنامها ومنبعها، أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - إن الفترة الزمنية - كما أسلفنا - التي قضتها فاطمة عليها السلام بعد وفاة

ص: 167

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمنعها كذاك من بيان الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية التي يحتاج إليها المسلمون، فجميع ما عاشته عليها السلام هو خمسة وسبعون يوماً.

3 - إن كثرة المصائب والبلايا والخطوب التي أصابتها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ما فرضته السلطة الحاكمة المتمثلة بسلطة السقيفة من حصار ومنع من الوصول إلى بيت فاطمة يجعل الرواية عنها في غاية من العسر، إن لم تكن من المحال في بعض الأوقات العصيبة كالهجوم على الدار وما رافقه.

4 - إن حياة الزهراء صلوات الله عليها كانت محصورة بين معصومين وهما أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجها علي أمير المؤمنين عليه السلام، ومن ثم فإن صدور الحكم الشرعي لا يتعدى عن هذين المصدرين، ومن ثم كان سبباً في قلة الرواية عنها.

5 - لا شك أن قلة الرواية عنها لهذه الأسباب لا يمنع من كونها إحدى أبواب نزول الفيض إلى أبناءها الأئمة المعصومين عليهم السلام وإلى المؤمنين من شيعتها وإلى العالم كله؛ وهذا من أمر الله تعالى وسنته في خلقه، قال تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (1) .

وعليه:

فقد روي عنها صلوات الله عليها بعض العناوين في العبادات فكانت كالآتي:

ص: 168


1- سورة الحجر، الآية: 21.
أولاً: في لباس المصلي للمرأة

روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن الفضيل عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«صلّت فاطمة عليها السلام في درع وخمارها على رأسها ليس عليها أكثر مما وارت به شعرها وأذنيها»(1).

ثانيا: أن المرأة الحائض تقضي ما فاتها من الصوم ولا تقضي الصلاة

روى الشيخ الكليني رحمه الله (عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قضاء الحائض للصلاة ثم تقضي الصوم قال:

«ليس عليها أن تقضي الصلاة وعليها أن تقضي صوم شهر رمضان».

ثم أقبل عليّ وقال:

«إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بذلك فاطمة عليها السلام وكانت تأمر بذلك المؤمنات»)(2).

والحديث يكشف عن دور البضعة النبوية عليها السلام في نقل الأحكام المتعلقة بالنساء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى النساء المؤمنات؛ إذ كانت عليها السلام هي الواسطة بين النساء والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق بالأحكام الشرعية الخاصة بهن، إلا أن يأتي بعضهن مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسألنَّه أو أن يأتين إلى فاطمة عليها السلام فيسألنَّها عن تلك الأحكام كما مرَّ مثاله في أول البحث.

ص: 169


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 257.
2- الكافي للكليني: ج 3، ص 104، و ج 4، ص 136؛ وسائل الشيعة: ج 2، ص 349.
ثالثا: في جواز مضخ الصائم للطعام دون إدخاله إلى جوفه

1 - روى الكليني عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

«إن فاطمة صلى الله عليها كانت تمضغ للحسن ثم للحسين صلوات الله عليهما وهي صائمة في شهر رمضان»(1).

2 - روى المحدث النوري رحمه الله عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت:

«ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه، وسمعه، وبصره، وجوارحه»(2).

رابعاً: في حكم دخول الرجل الأعمى على المرأة الأجنبية عنه

روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن آبائه صلوات الله عليهم أجمعين عن علي عليه السلام:

«إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استأذن عليها أعمى فحجبته، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لم حجبته وهو لا يراك فقالت: يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه وهو يشم الريح.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أشهد أنك بضعة مني»(3).

ص: 170


1- الكافي للكليني: ج 4، ص 114؛ وسائل الشيعة: ج 10، ص 108.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 7، ص 366.
3- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي: ص 289؛ الجعفريات: ص 95؛ العدد القوية: ص 224؛ دعائم الإسلام للقاضي المغربي: ج 2، ص 214؛ مستدرك الوسائل: ج 14، ص 289.
خامساً: في تعظيم ليلة القدر

روى القاضي النعمان المغربي عن علي عليه السلام:

«إن رسول الله كان يطوي فراشه، ويشدّ مئزره في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرش وجوه النيام بالماء في تلك الليلة، وكانت فاطمة عليها السلام لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة، وتداويهم بقلة الطعام، وتتأهب لها من النّهار، وتقول: محروم من حرم خيرها»(1).

سادساً: في جواز صلاة النساء على الجنائز

روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن يزيد بن خليفة، قال:

كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجل من القميين، فقال: يا أبا عبد الله، أتصلي النساء على الجنائز؟

فقال أبو عبد الله عليه السلام:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان هدر دم المغيرة بن أبي العاص، وحدث حديثاً طويلاً، وأن زينب بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفيت وإن فاطمة خرجت في نسائها فصلت على أختها»(2).

ص: 171


1- دعائم الإسلام للمغربي: ج 1، ص 283؛ مستدرك الوسائل: ج 7، ص 470؛ البحار: ج 4، ص 10؛ جامع أحاديث الشيعة: ج 9، ص 39؛ سنن النبي للطباطبائي: ص 297.
2- تهذيب الأحكام للطوسي: ج 3، ص 333؛ الاستبصار: ج 1، ص 485؛ وسائل الشيعة: ج 3، ص 138؛ المستدرك للنوري: ج 2، ص 288.
سابعاً: في استحباب لزوم المرأة دارها

1 - روى الحر العاملي عن الإمام علي عليه السلام قال:

«كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أخبروني أي شيء خير للنساء فعيينا بذلك كلنا حتى تفرقنا فرجعت إلى فاطمة عليها السلام، فأخبرتها بالذي قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس أحد منا علمه ولا عرفه فقالت: ولكني أعرفه خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله سألتنا أي شيء خير للنساء خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال فقال: من أخبرك فلم تعلمه وأنت عندي فقلت فاطمة فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن فاطمة بضعة مني»(1).

2 - روى المحدث النوري عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام:

«أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها علي عليه السلام وبه كآبة شديدة، فقالت: ما هذه الكآبة فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسألة ولم يكن عندنا جواب لها، فقالت: وما المسألة ؟ قال: سألنا عن المرأة ما هي ؟ قلنا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربها، فلم ندر.

ص: 172


1- وسائل الشيعة: ج 20، ص 67؛ مجمع الزوائد: ج 4، ص 255؛ حلية الأبرار لأبي نعيم: ج 2، ص 41، ط دار الكتاب العربي؛ كشف الأستار: ج 2، ص 150-151، برقم 1405؛ إتحاف السائل للمناوي: ج 1، ص 2؛ جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: ج 1، ص 166؛ الدرر واللآل: ص 209؛ المخلاة: ص 153، برقم 45.

قالت: ارجع إليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها فانطلق فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما ذا من تلقاء نفسك يا علي فأخبره أن فاطمة عليها السلام أخبرته، فقال: صدقت إن فاطمة بضعة مني»(1).

ثامناً: زيارتها لقبر عمها حمزة بن عبد المطلب، وقبور شهداء أحد

روى الحر العاملي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«إن فاطمة عليها السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له»(2).

وتفيد الروايات في زيارة فاطمة صلوات الله عليها لقبر حمزة بن عبد المطلب وقبور الشهداء في البقيع إلى أنها كانت تتعاهدها في الأسبوع بزيارتين أو ثلاثة وهي كالآتي:

1 - روي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال:

«عاشت فاطمة عليها السلام بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الإثنين والخميس فتقول ها هنا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ها هنا كان المشركون»(3).

2 - قال الواقدي: (وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 173


1- مستدرك الوسائل: ج 4، ص 14، ح 182؛ الجعفريات: ص 95.
2- وسائل الشيعة: ج 3، ص 224.
3- وسائل الشيعة: ج 3، ص 223.

تأتيهم بين اليومين والثلاثة فتبكي عندهم وتدعو)(1).

3 - روى ابن عبد البر وغيره عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، أنه قال:

«إنّ فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي عنده»(2).

وعند الحافظ بلفظ: (فتصلي وتبكي عنده)(3).

ولم تكتف بضعة الهادي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بالزيارة لقبر عمها حمزة بن عبد المطلب والصلاة عند القبر والدعاء والاستغفار له وإنما كانت تتعاهده بالترميم والإصلاح كي يبقى محافظا على معالمه فلا يندرس بمرور الأيام وكانت كذاك قد وضعت عليه علماً كي يسترشد الزائر إليه ويستدل عليه.

ألف: روى عبد الرزاق الصنعاني، عن الأصبغ بن نباتة، أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تأتي قبر حمزة، وكانت قد وضعت عليه علماً، لو تعرفه(4).

باء: روى ابن عبد البر عن الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام قال:

«كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة»(5).

جيم: روى الحكيم الترمذي، وابن سعد، وابن شيبة النميري:

عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، أنه قال:

ص: 174


1- مغازي الواقدي: ج 1، ص 313.
2- التمهيد لابن عبد البر: ج 3، ص 234.
3- مستدرك الحاكم: ج 1، ص 377، و ج 3، ص 28؛ تلخيص الحبير لابن حجر: ج 5، ص 249 نيل الأوطار للشوكاني: ج 1، ص 166.
4- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 3، ص 574؛ ورواه البيهقي في السنن الصغرى: ج 2، ص 438، ح 1160.
5- التمهيد لابن عبد البر: ج 3، ص 234.

«كانت فاطمة تأتي قبر حمزة ترمه وتصلحه، في كل عام»(1).

وهذه الأحاديث تدل على جواز زيارة القبور وتعاهدها بالبناء والإصلاح والصلاة والبكاء عندها، فضلاً عن تواتر الروايات الواردة عن أئمة العترة في جواز ذلك وهو خلاف مذهب السلف.

الذين ذهبوا إلى حرمة زيارة القبور وبناءها وأن ذلك بدعة عندهم على الرغم من صريح النصوص في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقبور شهداء أحد والاستغفار لهم.

تاسعاً: بكائها على عمها جعفر الطيار وتكفلها بإطعام آل جعفر ثلاثة أيام

إن من المسائل التي أثارها أتباع السلف؛ حرمة البكاء على الميت، واختلفوا فيما بين البكاء والنياحة فجوزوا البكاء وحرموا النياحة، وذهب أعلام مدرسة العترة إلى جواز البكاء مطلقاً وحرموا الجزع على الميت ما خلا الجزع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته، لاسيما الجزع على سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام.

ص: 175


1- نوادر الأصول للترمذي: ج 1، ص 126، ط دار الجيل.

أما ما يخص بضعة النبوة فقد بكت على مقتل عمها جعفر بن أبي طالب الطيار عليه السلام ونادت:

«واعماه».

فقد أخرج الواقدي والسيوطي والمزي، (عن أسماء بنت عميس قالت:

لما أصيب جعفر وأصحابه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد عجنت عجيني ودهنت صبياني وغسلتهم ونظفتهم فقال:

«ائتني ببني جعفر».

فأتيته بهم فشمهم وقبلهم فذرفت عينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقلت: بأبي وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟

قال:

«نعم، أصيبوا في هذا اليوم».

فبكيت، فقال لي:

«يا أسماء لا تضربي صدراً ولا تقولي هجراً».

فدخلت فاطمة وهي تقول:

«واعماه».

فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«على مثل جعفر فلتبك الباكية».

وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:

ص: 176

«لا تغفلوا على آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم»)(1).

2 - روى الشيخ الصدوق، والبقي، والطوسي، والحر العاملي رحمهم الله تعالى، (عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«لما قتل جعفر بن أبي طالب أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام أن تتخذ طعاماً لأسماء بنت عميس ثلاثة أيام وتأتيها ونساءها وتقيم عندها ثلاثة أيام، فجرت بذلك السنة أن يصنع لأهل المصيبة طعاماً ثلاثا»(2).

عاشراً: حجها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع

تناولت مصادر التأريخ والحديث والسيرة النبوية خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة من المدينة قاصداً مكة لأداء فريضة الحج ولقد خرج معه المسلمون إن لم يكن معظمهم قد لحق بهذا الركب المحمدي وكان فيمن خرج معه صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

في حين كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في هذا الوقت في اليمن فأدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بذي الحليفة وقد قدم ببدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 177


1- مغازي الواقدي: ج 2، ص 766، و ج 1، ص 311؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 39، ص 451، برقم 42885؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 5، ص 611؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 790؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 15، ص 70-71؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 2، ص 43.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 182؛ المحاسن للبرقي: ج 2، ص 419؛ الأمالي للطوسي: ص 659؛ وسائل الشيعة: ج 24، ص 364.

فدخل على فاطمة عليها السلام وهي قد أحلت فوجد ريحا طيبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة، فقال:

«ما هذا يا فاطمة».

فقالت:

«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فخرج علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفتيا ومحرشا على فاطمة عليها السلام فقال:

«يا رسول الله إني رأيت فاطمة قد أحلت عليها ثياب مصبوغة».

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنا أمرت الناس بذلك، وأنت يا علي بما أهللت ؟».

قال: قلت:

«يا رسول الله إهلالاً كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم».

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«كن على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي»)(1).

ص: 178


1- الكافي للكليني: ج 4، ص 236؛ أمالي الطوسي: ص 401؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 5، ص 256؛ من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 237؛ وسائل الشيعة: ج 11، ص 215؛ المسند المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم: ج 3، ص 317؛ سنن أبي داود: ج 2، ص 184؛ سنن الدارمي: ج 2، ص 69؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 5، ص 7؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 3، ص 335؛ مسند أبي راهوية: ج 1، ص 4؛ مسند البزار: ج 2، ص 131؛ مسند الروياني: ج 1، ص 223؛ مسند الطياليسي: ج 1، ص 232؛ مسند عبد بن حميد: ج 1، ص 251.

وكان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أمرها بأن تشهد اضحيتها؛ كما في الرواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، أنه قال:

«أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم النّحر حتى دخل على فاطمة عليها السلام فقال: يا فاطمة قومي واشهدي أضحيتك فإن لك بكل قطرة من دمها كفارة كل ذنب أما إنها يؤتى بها يوم القيامة فتوضع في ميزانك مثل ما هي سبعين ضعفا، قال فقال: له المقداد بن الأسود يا رسول الله لآل محمد عليهم السلام هذا خاصة أم لكل مؤمن عائمة، فقال: بل لآل محمد عليهم السلام وللمؤمنين»(1).

في حين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اشرك علياً في بدنته وكان قد نحر صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وستين بدنه(2).

والسبب الذي جعل رسول الله يشرك علياً في بدنته هو أنه وصيه وخليفته ونفسه فلم يفرق بينه في هذا المنسك.

بقي أن نذكر فيما جرى مع فاطمة عليها السلام في هذا الحج هو: قدوم أم هانئ بنت أبي طالب عليه السلام وكانت قد أجارت حموين لها فأراد أمير المؤمنين عليه السلام قتلهما لكونهما من المشركين فذهبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشكو إليه فوجدت فاطمة أشد من علي عليه السلام على المشركين:

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 179


1- مستدرك الوسائل للنوري: ج 10، ص 107؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 9، ص 283؛ نصب الراية للزيلعي: ج 4، ص 219؛ الترغيب والترهيب للمنذري: ج 2، ص 992؛ تفسير القرطبي: ج 7، ص 155.
2- المغني لابن قدامة: ج 3، ص 282.

«ما كان ذلك له قد آمنا من آمنت، وأجرنا من آجرت».

ثم أمر فاطمة عليها السلام فسكبت له غسلاً فاغتسل)(1).

الحادي عشرة: في الآداب والسنن
اشارة

ومما روي عنها صلوات الله عليها في بعض الآداب والأخلاق ما يلي:

ألف: في كيفية تعظيم الوالدة

روى السيوطي، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت قد سألت عن حق الوالدة - أنها قالت للسائل:

«ألزم رجلها، فإن الجنة تحت أقدامها»(2).

باء: في إتحاف المؤمن لأخيه

روى الخطيب البغدادي والحافظ السيوطي عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنها قالت:

«نعم تحفة المؤمن التمر»(3).

ص: 180


1- صحيح مسلم: ج 1، ص 266، برقم 336؛ أخبار مكة للأزرقي: ج 3، ص 68، حديث 880؛ صحيح ابن حبان: ج 3، ص 462، برقم 1189؛ المسند المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم: ج 1، ص 384، برقم 760؛ مسند أبي عوانة الأول: ج 1، ص 238، برقم 806؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 1، ص 8، برقم 19؛ مسند ابن راهوية: ج 1، ص 17؛ سنن سعيد بن منصور: ج 2، ص 275؛ زوائد الهيثمي: ج 1، ص 334؛ برقم 224؛ فتح الباري: ج 3، 53.
2- مسند فاطمة للسيوطي: برقم 271.
3- تاريخ بغداد: ج 8، ص 284؛ كنز العمال: ج 12، ص 339؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 276؛ فيض القدير: ج 6، ص 374.

المبحث الرابع: بعض نظريات الفكر الفاطمي

اشارة

نتناول بعون الله في هذا المبحث بعض أقوالها التي ارتأينا أنها تأسس لكثير من السنن الحياتية والمناهج العملية لسير الإنسان في الحياة، فمنها ما كان يتعلق بالشؤون الدنيوية كالاجتماعية والتربوية والسلوكية، ومنها ما يتعلق بالشؤون الأخروية فكان إتيانها في الحياة الدنيا يقود العامل بها إلى الفوز في الآخرة.

ومن ثم فإن هذه النظرية هي أساس لمنهج حياتي متكامل في المحل الذي أوجدت فيه هذه النظرية وسنرى إنشاء الله تعالى أن هناك جملة من النظريات التي لو اتخذت في قاموس الإنسان الحياتي لوجد نفسه في سكينة واطمئنان وثبات، فضلاً عن أن بعض هذه النظريات كانت تتحدث عن سنن كونية وحقائق حياتية راسخة.

ولكن قبل المضي في المبحث ومسائله سنعرض أولاً بين يدي القارئ الكريم الفرق بين النظرية والفرضية وبما تختلف النظرية عند المعصوم عن غيره من الناس لاسيما العلماء والباحثين.

ص: 181

المسألة الأولى: الفرق بين النظرية والفرضية، وبما تمتاز النظرية عند الزهراء عليها السلام

أولاً: ما هي النظرية ؟
اشارة

(النظرية هي تقرير يوضح قطاعا خاصا من الظواهر، ولها عدة نماذج هي:

ألف/ النظرية الفرضية، الاستنتاجية

تقوم هذه النظرية على التماسك المنطقي، منطلقة من مسلمات صحيحة، وتتألف من:

1 - مجموعة من التعريفات للمصطلحات الحاسمة.

2 - مجموعة من التقريرات الفرضية المتعلقة بالعلاقات المفترضة بين الظواهر التي تمثلها المصطلحات الحاسمة.

3 - مجموعة من الاستنتاجات المشتقة منطقياً من التقريرات الفرضية.

باء/ النظرية الوظيفية

يقول بعض العلماء إن الاهتمام الزائد بترتيب الواقع وبناء النظريات يؤدي إلى إنهاء فعالية التفسير، وما النظرية إلا أداة مؤقتة، لذلك لا يهتمون بالإجراءات الاستنتاجية المنطقية كتركيزهم على الملاحظة القائمة بالأدلة، ويرون أن التفاعل بين الملاحظة والاستنتاجات المنطقية هام لتقدم العلم.

جيم/ النظرية الاستقرائية

تقوم على التفسير التالي: الوقائع أولاً، ثم تنبثق النظرية في تأمل دقيق لهذه الوقائع.

ص: 182

دال/ النموذج

يكون النموذج رسماً أو نسخة مصغرة عن الشيء الواقعي، أو قد يكون شيئا أكثر تجريداً، كالمعادلات الرياضية، أو التقريرات اللفظية، أو الأوصاف الرمزية، أو الخطوط البيانية.

ويرى بعض الباحثين أن النموذج والنظرية هو الشيء ذاته، لكن البعض يميز بينهما كالآتي: إن النظرية والنموذج عبارة عن مخطط مفهومي يفسر العلاقات بين المتحولات المدروسة، ولكن النموذج يتصف بالمماثلة للشيء، هذا الأمر يماثل ذاك، ويستطيع الباحث أن يتسامح في قبول أو رفض بعض الوقائع التي لا تنسجم مع الظواهر الواقعية.

ثانيا: وظائف النظرية

النظرية أداة وهدف، فهي كهدف تساعد في تفسير الظواهر بأكثر ما يمكن من الضبط وهي كأداة توفر إطاراً للملاحظة والاكتشاف، وتساعد النظرية الباحثين في:

1 - تحديد الظواهر المناسبة: تبين النظرية نوع الوقائع التي يدرسها الباحث، لذا تقتضي منه أن يهتم بقطاعات محدودة يركز عليها انتباهه الكامل، لأن لكل موضوع يتناوله الباحث جوانب متعددة، وما لم يقم الباحث ببناء الإطار النظري لمشكلته، فإنه لن يعرف ما الذي يجب عليه أن يلاحظه من وقائع، فالنظرية توضح للباحث أي الوقائع التي ينبغي أن يهتم بها دون غيرها.

2 - صياغة المفهوم المنطقي للموضوع: ينشئ الباحث مفاهيم ذهنية كالتقرير

ص: 183

والتوتر من أجل تفسير السلوك، أو النتيجة التي يلاحظها، وتسمى هذه المفاهيم بناءات منطقية أو بناءات نظرية، ومعلوم أن المفهوم هو نتاج ملاحظة مواقف عديدة، وتجريد وجه الشبه بينها، وإجراء تعميمات حولها، فالنظرية ترشد التفكير النظري والعملي، وتسهل على الباحثين معالجة الوقائع وإيصال المكتشفات.

3 - تصنيف الظواهر: يصعب على الباحث التعامل بكفاية مع وقائع كثيرة ومبعثرة، فهو بحاجة لترتيب الوقائع في ميدان عمله، لذلك يقوم على إعداد إطار نظري لتصنيف الوقائع مع صياغة فرضيات تفسر هذه الوقائع.

4 - تلخيص الوقائع: تتراوح الخلاصات بين التعميمات البسيطة والعلاقات النظرية المعقدة، حيث يصف التلخيص مجالا محددا من الوقائع، لكن التلخيص على مستوى عال، قد يشتمل دون شك على دمج التعميمات الخبرية الأساسية في إطار نظري أكثر شمولا.

5 - التنبؤ بالوقائع: تساعد النظرية الباحث على التنبؤ بما يجب أن يكون قابلا للملاحظة حين لا تتوافر الوقائع، فهي أداة جيدة لإرشاد الباحثين في متابعة الظواهر.

6 - الكشف عن البحث اللازم: النظرية مصدر غني يزود الباحث بالأدلة المؤيدة لبحثه.

ثالثا: الفرق بين النظرية والفرضية

الفرضية بيان ذو صيغة إعلانية يشير إلى العلاقة بين متحولين، أو أكثر، وتعني كلمة بيان أن هناك تقريرا صادرا عن الباحث يدل على وجود علاقة بين

ص: 184

متحولين، وكلمة إعلانية تعني أن الفرضية ليست سؤالاً يطرحه الباحث، وإنما هي حل مؤقت لمشكلة معلن عنها من قبل الباحث، بينما النظرية كما هو معلوم، تعني محاولة تفسير قطاع محدود من الظواهر والفرق بينهما:

1 - الفرق الأول: يشمل اتساع قطاع الظواهر التي تنصب عليه محاولة التفسير، فالفرضية تفسر قطاعاً محدداً يشمل العلاقة بين متحولين، بينما النظرية تتسع لتفسير عدد غير محدد من العلاقات فهي أوسع من الفرضية.

2 - الفرق الثاني: يرتبط بالتحقيق واختبار الصحة، فالفرضية تشمل علاقة بين متحولين لتفسير قطاع صغير محدود، لذلك فالتحقيق التجريبي والصدق كبير جدا فيها، بينما النظرية بسبب اتساعها يبقى صدقها احتماليا مهما بلغ النجاح فيها)(1).

وعلى هذا نجد أن نظرية المعصوم هي عين الواقع فلا وجود للاحتمالات فيها ولا ظنون نافذة إليها فهي عين الصدق، لأنها ترتكز على فيض من سن السنن وأجراها ومن بيده مقاديرها وتصريفها، فكان علم الإمام بها علماً ربانياً (لدنّياً).

رابعا: الفرق بين نظرية المعصوم عليه السلام وغيره من الناس

ترتكز النظرية عند المعصوم عليه السلام على تفسير الظاهرة أو القانون أو القاعدة طبقاً لعين الواقع، ولذا فهي علمية لاستحالة نفوذ الاحتمال أو الظن إليها، بمعنى لا يكون بيان الإمام مستنداً على الظن أو عدم الاحاطة الكاملة والشاملة والدقيقة للسنن والقوانين والظواهر الكونية، ونقصد بالكونية جميع ما

ص: 185


1- أسس البحث في التربية وعلم النفس، د. محمد نجيب ود. محمود ميلاد: ص 40-43.

يمكن أن يدركه الإنسان ويحسه بل وحتى الأشياء التي لم يتمكن من إدراكها ومعرفتها فجميع ذلك علمه عند الإمام المعصوم عليه السلام.

وذلك أن علم المعصوم هو علم حضوري أو لدنّي قال تعالى: في معرض حديثه عن الخضر عليه السلام:

وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً(1) .

وقال عن سيد الأئمة وخازن النبوة أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (2) .

وفي بيانه عزّ شأنه لعلم نوح عليه السلام حينما أمره ببناء السفينة وحمل المخلوقات فيها قال له:

اِحْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّٰ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مٰا آمَنَ مَعَهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ (3) .

وهذا الجمع يستلزم المعرفة التامة والاحاطة الشاملة بجميع ما خلق الله تعالى؛ كي يتمكن نوح عليه السلام من حمل هذه المخلوقات بل يستلزم ذلك معرفته وعلمه بأصناف هذه المخلوقات وأجناسها أي الذكر من الأنشى حتى يتمكن من إعادة دورة الحياة على الأرض، فكم من حيوان ونبات وحشرة خلقها الله تعالى

ص: 186


1- سورة الكهف، الآية: 65.
2- سورة يس، الآية: 12.
3- سورة هود، الآية: 40.

على الأرض، وحملها معه نوح عليه السلام في السفينة.

ولذا لا يمكن أن يكون فعل نوح عليه السلام بغير علم لدنّي علمه الله تعالى إياه:

وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً ، بل كما أسلفنا: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ .

وعليه: تكون نظرية المعصوم عليه السلام هي عين الواقع ونظرية غيره من الخلق تبنى على مجموعة من الظنون تتفاوت في نسبها وقوتها ومرجحاتها فقد يصل هذا العالم أو ذاك من خلال الدراسة والبحث إلى معرفة الحكم بنسبة محدودة تقترب أو تبتعد عن الحكم الواقعي والمطابق لعين الحق، وقد يبتعد كل البعد عن عين الواقع فتكون نظريته واهية سرعان ما يظهر فشلها حينما يأتي عالم آخر يقدم أدلته التي تكتسب أهميتها من خلال قربها من الواقع، ومن ثم إحراز نسبة من الحقيقة التي سنها الله تعالى، من هنا ذهب البعض إلى: (أن النظرية بسبب اتساعها يبقى صدقها احتماليا مهما بلغ النجاح فيها)(1).

ونحن سنتناول ما وجدنا بحسب تلك المعطيات أنه داخل تحت عنوان النظرية، بمعنى: لا يوجد في التراث الفكري لآل البيت عنوان يندرج تحت: نظرياتهم عليهم السلام وإنما هذا ما يتوصل إليه الباحث من خلال دراسته لأقوالهم عليهم السلام؛ فليمس أن هذا القول هو: نظرية بحسب المجال الذي تدور فيه، أي اجتماعي أو تربوي، أو اقتصادي وغير ذلك؛ أو أنه سنة من سنن الحياة

ص: 187


1- أسس البحث العلمي، د. محمد نجيب ود. محمود ميلاد: ص 43.

سواء كان فيما حدث في الأمم السابقة واندرج عليه التابعون والسالكون لهذه القوانين والسنن في الأمم والمجتمعات اللاحقة، وهو ما يعبّر عنه في الدراسات التأريخية (بالسنن).

وعليه:

سيكون البحث هنا ضمن محورين الأول: ما توصلنا إليه من كونه نظرية، والثاني: السنن التأريخية عند فاطمة عليها السلام.

المسألة الثانية: نظريتها في النظام والضبط الاجتماعي

اشارة

قالت عليها السلام:

«وجعل إمامتنا نظاماً للملة وولايتنا حفاظاً من الفرقة».

أن من أهم الأفكار التي تناولها علماء السوسيولوجيا باهتمام بالغ هي فكرة الضبط الاجتماعي، ولذا يجد الباحث في علم الاجتماع أن هذه الفكرة قديمة في الفكر الاجتماعي والفلسفي على حد سواء.

ومعنى ذلك: أن التفكير في مسألة الضبط الاجتماعي، ودور النظم والجماعات باعتبارها ضوابط لسلوك الأعضاء قديم قدم المجتمع الإنساني وقد انشغل كل من أفلاطون وأرسطو بمشكلة النظام الاجتماعي وكيفية تدعيم التماسك في المجتمع، حيث عاصر هذان الفيلسوفان الأيام الأولى من الثقافة اليونانية، ونظرا إلى التفكك الاجتماعي والسياسي في عصرهما على أنه مرحلة انتقال من السلطة القديمة القائمة على علم اللاهوت اليوناني - بما صاحبه من انهيار في النظام الاجتماعي - إلى مرحلة أخرى تقوم على النظام العلماني، كما

ص: 188

اعترفا بحاجة المجتمع في ذلك الوقت إلى أساس جديد للنظام، أي إلى عامل جديد يستطيع أن يدعم التماسك الاجتماعي، وقد وجد أفلاطون هذا الأساس في (الدولة) وأعلى ذلك (الجمهورية) وفي (القوانين) حيث ذهب إلى أن الدولة تمثل تطورا في نمو الطبيعة الإنسانية، وإنها تمارس السلطة الكبرى تجاه النظم الاجتماعية كلها، وبالتالي تجاه الأفراد، فضلاً عن أنها تحقق العدالة باعتبارها جوهر الأخلاق.

ولكن من هي تلك الفئة التي يجب أن تمثل الدولة أو تمثل السلطات العليا فيها، أنها طبقة الحكماء والفلاسفة وقد أطلق عليها أفلاطون (طبقة الصفوة).

ثم جاء الرواقيون في النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد وكانوا متفقين مع أرسطو على أن الإنسان اجتماعي بطبيعته واهتموا بقانون الطبيعة، باعتباره أفضل موجة للسلوك الأخلاقي، ونادوا بالتحرر من المؤثرات الخارجية، وخصوصاً تلك التي تمارسها الدولة وبالخضوع لقانون الطبيعة الذي يعلو فوق كل قانون وضعي.

وأما في العصور الوسطى فقد تميزت فكرة القانون الطبيعي بالطابع الديني، ولذلك أصبح القانون الطبيعي هو ذلك القانون الإلهي الذي يعلو فوق كل قانون آخر.

ثم ظهرت فكرة القانون الوضعي التي تقول: إن المجتمع يعتمد في أساسه على الوعي بالمصلحة الشخصية وقد أدى ذلك بأصحاب هذه الفكرة إلى المطالبة المستمرة بتدعيم النظم الاجتماعية التي تحكم علاقات الأشخاص وذلك بهدف القضاء على تلك الشرور التي تسببت فيها ظروف الحياة التي كانت سائدة من قبل.

ص: 189

ثم حدث بعد ذلك تلازم بين فكرتي القانون الطبيعي والقانون الوضعي وخاصة عند الرومان حيث اعترفوا بأهمية القانون الطبيعي من ناحية ثم بوجود أصل آخر للقانون وهو (الاتفاق) (cuncensus) من الناحية الأخرى، كما هو واضح في كلام أحد المفكرين الرومان وهو (شيشيرون) فقد كان يعتقد بوجود عدل يعلو فوق النظم والقوانين الوضعية وهو عبارة عن قانون ثابت، وأبدي، يوافق الطبيعة والعقل، وينطبق على الناس في كل زمان وكل مكان.

وبذلك يؤكد (شيشيرون) وجود عنصري (العدل المثالي) من ناحية وهي فكرة مثالية أكدها أصحاب مذهب القانون الطبيعي؛ ثم (الاتفاق) من ناحية أخرى وهو ركن أساسي في القانون الوضعي)(1).

ويا ليت علم هذا المفكر الروماني أن العدل المثالي والقانون الثابت الأبدي الذي يوافق الطبيعة والعقل وينطبق على الناس في كل زمان وكل مكان وهو فوق النظم والقوانين الوضعية هو القرآن.

(ثم ظهرت في بداية العصر الحديث بعض المذاهب والنظريات الاجتماعية، السيكولوجية والسياسية: كمذهب العقد الاجتماعي، ونظرية التقدم، ونظريات كونت، وسبنس، التي تركت أثرها على تطوير نظريات الضبط الاجتماعي، وخصوصاً التقليدية منها، وسوف نعرض بشكل سريع هذه المذاهب والنظريات في علم الاجتماع الحديث.

ص: 190


1- الفكر الاجتماعي للدكتورة سامية محمد جابر: ص 233-237، ط دار العلوم العربية - لبنان - (بتصرف).
1 - مذهب العقد الاجتماعي

انشغل المفكرون الاجتماعيون والسياسيون في بداية العصر الحديث بذات المشكلة، وهي: كيفية تدعيم النظام في المجتمع الإنساني وواجهوا مشكلة تشبه تلك التي واجهها أفلاطون وأرسطو، وهي انهيار النظام الخارق للطبيعة في الدولة الرومية، وانهيار البناء الإقطاعي في الدولة العلمانية.

وفي ظل هذه المتغيرات، بدأوا يبحثون عن مصدر جديد للسلطة، أو عامل جديد يفسرون به انضباط السلوك الإنساني، وقد وجدوا هذا المصدر في (العقد الاجتماعي) - أي التعاقد - ولكن أصحاب نظريات العقد الاجتماعي، اختلفوا في تصورهم لهذا العقد، وفي مضمونه، وهم الفيلسوف الانجليزي (توماس هوبز) (Thomas hobes) ، وهو أول من قام بصياغة نظرية في العقد الاجتماعي، ثم جاء بعده (لوك) (J.Lock) ، ثم (جان جاك روسو) وهو آخر من مفكري مدرسة العقد الاجتماعي واختلفوا في آراء أصحاب فكرة العقد الاجتماعي في حالة الفطرة التي كانت سائدة قبل وجود المجتمع المنظم، واختلفوا أيضاً في مصدر السلطة هل هي تأتي من الخارج وتفرض على الفرد أم هي في الفرد ذاته ولا تأتيه من الخارج ولكنهم اتفقوا جميعاً على أمرين:

ألف: إقلاعهم عن التفسيرات الخارق واللاهوتية للحياة وللضبط الاجتماعي.

باء: إن الإنسان حراً في تحديد مصيره طالما أنه يوجه أفعاله الخاصة طبقاً للقانون الذي اشترك في وضعه.

ص: 191

ومن ثم فقد أصبح مصدر السلطة متمثلاً في القوى الاجتماعية وعلى وجه الخصوص في عنصر (التعاقد) بدلا من القوى الخارجة للطبيعة ومن ثم فهي نظرية علمانية، في مقابل النظريات أو التفسيرات الأخرى الدينية واللاهوتية(1).

2 - النظرية التقدم

تتلخص هذه النظرية في أن التقدم البشري يعتبر طبيعياً وتلقائياً، وهو نتيجة لأي جهة جمعي يهدف إلى تحقيق غايته نحو التقدم وقد بدأ هذا المذهب عند مفكرين مثل (برنارد دوفتينل) و (دون سان بيبر) و (كلود هافياس) وهم الذين ذهبوا إلى أن وصول الإنسانية إلى الكمال أمر ممكن، عن طريق التنوير الشامل والتعليم العقلاني وأن التقدم يعتبر حقيقة واقعة.

3 - النظرية الوظيفية

ثم بعد ذلك ظهرت في بداية العصر الحديث نظريات وآراء تهتم بتفسير العوامل المؤثر في النظم الاجتماعية والسياسية، منها التفسيرات الجغرافية، والبيولوجية، والسيكولوجية، والدينية.

فظهرت النظرية الوظيفية على يد عالم الاجتماع (كولانج) فهو أول من وجه الأنظار إلى أهمية تحليل الوظيفي للنظم وذلك بالرغم من أن معظم الباحثين في علم الاجتماع يرجعون أصول الاتجاه الوظيفي إلى (أيل دوركيم).

والمراد بالتحليل الوظيفي للنظم هو الدراسة التكاملية المتبادلة بين العقيدة والعائلة والقانون.

ص: 192


1- الفكر الاجتماعي للدكتورة سامية محمد جابر: ص 239-242 (بتصرف).

وأخيراً ظهور بعض النظريات السياسية والاجتماعية في النظام والضبط الاجتماعي وهي على قسمين:

ألف: نظرية في طبيعة الدولة، وصور الحكومة والسياسة.

باء: أساليب الضبط الاجتماعي غير القانونية وهو ما يسمى اليوم بالعرف فالعرف له أثر فعال في الضبط الاجتماعي.

وقد خلصت الدكتورة سامية محمد في كتابها: (الفكر الاجتماعي نشأته واتجاهاته وقضاياه)(1) بعد أن عرضت هذه النظريات والاتجاهات، خلصت إلى اهتمامها الواضح - أي هذه الاتجاهات والنظريات - بدراسة الدولة، وصور الحكومة، ومفهوم السيادة، الذي انعكس فيما بعد على دراسات الضبط الاجتماعي التقليدية، والحديثة، والمعاصرة، إذ أنه ليست هناك دراسة لم تشر إلى الدولة ودورها في عملية الضبط الاجتماعي المباشر.

وهنا تبرز نظرية سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام في النظام والضبط الاجتماعي، فقد نصت نظريتها: على ضرورة وجود الدولة وضبط المجتمع، وهي العلة في نظام الملة - أي الأمة - كما أقر بهذه الحقيقة علماء السوسيولوجيا والأنثربولوجيا، فما من أحد من الباحثين في علم الاجتماع وقد أراد الوصول إلى المنهج الذي يكفل الضبط الاجتماعي إلا وقد أقر بوجود الدولة في هذا المنهاج الإصلاحي.

ص: 193


1- أستاذة علم الاجتماع بجامعتي الاسكندرية وبيروت العربية: ص 233-251، ط دار العلوم العربية، بيروت.

لكن جميع هؤلاء الباحثين والمفكرين لم يتفقوا على أفراد وعناصر هذه الدولة؛ فأفراد الدولة عند أفلاطون هم: (الصفوة).

وعند الرواقيين الذين كانوا متفقين مع أرسطو، هم: (القانون الطبيعي) وهو ذلك القانون الإلهي الذي يعلو فوق أي قانون آخر.

وعند (الأبيقوريين) الذين تعارض تصورهم للمجتمع مع تصور الرواقين فكانت أفراد الدولة عندهم: (القانون الوضعي).

وعند أصحاب (نظرية العقد الاجتماعي) وهي نظرية علمانية، هم: (القوى الاجتماعية).

وعند أصحاب (نظرية التقدم) فإن أفراد الدولة، هم: (العلم والعقل والتقدم والتطور).

وعند أصحاب (النظرية الوظيفية)، هم: (العقيدة، والعائلة، والقانون).

وعند أصحاب (النظريات الحديثة) ك - (كونت) و (سبنس) فإن أفراد الدولة هم: (الشعب، والأقليم، والقوة الحاكمة) أو (الأقليم، والشعب، والتنظيم الحكومي).

أما عند فاطمة الزهراء عليها السلام البضعة النبوية عليها الصلاة والسلام فإن أفراد الدولة هم: (إمامتنا) - أي الأئمة الإثني عشر وهم الأئمة المعصومين من أهل بيت النبوة عليهم السلام.

وهم: (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والحسن بن علي المجتبى، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر

ص: 194

بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، والحجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، صلوات الله عليهم أجمعين)، فهم الدولة التي بها يقام نظام الأمة المحمدية وبهم يتحقق الضبط الاجتماعي.

وأما مفهوم السيادة عند جميع هؤلاء الباحثين والمفكرين فهو أيضاً مختلف، والذي يبدو أن سبب الاختلاف في أفراد الدولة ومفهوم السيادة عند هؤلاء الباحثين والمفكرين هو: نفس الناس أي - المجتمعات القديمة والحديثة - فالناس بتركهم الالتزام بما جاء به المصلحون وهم الأنبياء وتعديهم على تلك الحدود والنظم التي وضعها الشارع المقدس أدى إلى حالة الفوضى وعدم الاستقرار وانعدام الضوابط الاجتماعية.

هذه الحالة المتجددة في كل عصر ومكان أدت إلى دفع الباحثين والمفكرين في علم السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في البحث عن السبل والمناهج التي تعمل على تقويم السلوك الإنساني المؤدي إلى الضبط الاجتماعي؛ ولكن أنى لهم بذاك فقد ذهبوا بعيداً فلا يصلح الداء إلا الحاذق العارف بالدواء وهما القرآن والعترة، ولذا فإن مفهوم السيادة عند أم الأئمة المعصومين فاطمة عليها السلام هو (ولايتنا) التي بها يتحقق الأمان من الفرقة فقالت:

«وجعل ولايتنا أماناً من الفرقة».

أي: أن بولايتنا يتحقق الضبط الاجتماعي للمسلمين وبإمامتنا يعم النظام في المجتمع.

ص: 195

فما من سيادة في أي مجتمع كان قديماً أو حديثاً استطاعت أن تحقق الأمان من الفرقة؛ ولا تتجرأ على إعطاء الظمان بذلك.

أي ليست هناك في جميع المجتمعات التي تناولها الباحثون في علم الاجتماع سيادة حققت الضبط الاجتماعي وضمنت للناس عدم الفرقة مثلما كانت لسيادة ولاية أهل البيت عليهم السلام إلاّ أن تدخل أصحاب المصالح الشخصية والحكام الذين عملوا في صرفها عن الناس؛ كان هو السبب في حرمان الناس من التنعم بها، وفي هذا المجتمع تقول فاطمة:

«وتالله لو مالوا عن المحجة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها، - أي أمير المؤمنين علي عليه السلام - وحملهم عليها ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا، صافيا، رويا، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطانا، ونصح لهم سرا وإعلانا، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم: الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين»(1).

ولذلك نجد - بل وكل باحث في المجتمع الإسلامي - هذه الحقيقة المرة، وهي افتراق المسلمين إلى ثلاثة وسبعين فرقة، وحدوث الفوضى في كل زمان ومكان والسبب في ذلك هو عدم التزام المسلمين بولاية أهل البيت بفعل السياسات

ص: 196


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 148.

الحاكمة التي جاءت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وهو ما نصت عليه نظرية فاطمة عليها السلام في النظام والضبط الاجتماعي، في قولها عليها السلام:

«وجعل إمامتنا نظاماً للملة وولايتنا أمانا من الفرقة».

المسألة الثالثة: نظريتها في الأبوة الدينية والنسبية

اشارة

قالت عليها السلام لأحدى النساء:

«أرضي أبوي دينك محمداً وعلياً بسخط أبوي نسبك، ولا ترضي أبوي نسبك بسخط أبوي دينك، فإن أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمد وعلي صلوات الله عليهما بثواب جزء من ألف جزء من ساعة من طاعاتهما، وإن أبوي دينك محمداً وعلياً إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما لأن ثواب طاعات أهل الدنيا كلهم لا يفي بسخطهما»(1).

تنطلق بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان علاقة الإنسان بأبويه إلى تقسيم الأبوة إلى قسمين:

1 - أبوة الدين.

2 - أبوة النسب.

وهذه نظرية خاصة في مفهوم الأبوة في الفكر الإسلامي؛ إذ تشير الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيان حقوق الأبوين النسبية للمسلم وما يترتب عليه من برهما والإحسان

ص: 197


1- تفسير الإمام العسكري: ص 344.

إليهما، ولم تشر تلك الآيات والأحاديث إلى الأبوة الدينية فكيف يمكن فهم ما تضمنه الحديث الشريف لبضعة النبوة صلوات الله وسلامه عليها من وجود أبوين لكل منهما حقوق، بل وكما هو واضح في الحديث: أن حق الأبوة الدينية أعظم من حق الأبوة النسبية ؟

وجوابه:

1 - إن فاطمة صلوات الله عليها لم يغب عنها ما نزل به القرآن الكريم من آيات في بر الوالدين، كما لم يفتها ما بيّنه أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيان لتلك الحقوق، ومن ثم فنحن بحاجة إلى فهم ما تنظوي عليه هذه الكلمات من دلالات ومعان ترسم للمسلم طريق التعامل مع الله تعالى.

2 - إن المحور في الحديث هو طاعة الله تعالى، وهذه الطاعة طريق تحصيلها يكون من خلال ما أراده الله لا بما يريده الإنسان.

بمعنى:

إن الدافع على بر الوالدين والإحسان إليهما يندرج تحت محفزين؛ الأول: الغريزة الإنسانية التي تدفع الإنسان إلى الوقوف بجانب والديه.

والثاني: الإيمان بالله تعالى الذي أمر ببرهما وجعل لهما منزلة عظيمة، فإذا جمع هذين المحفزين عند أحد من الناس فإنه سيندفع إلى تقديم رضاهما على رضا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام، وذلك لعدم وجود محفز الغريزة الإنسانية من كونهما والديه في الأبوة الدينية، ولذا يميل الإنسان إلى طاعة الأبوة النسبية على الأبوة الدينية.

ص: 198

من هنا:

فإن بضعة النبوة صلوات الله عليها تنطلق في هذه النظرية من تدعيم الحافز الإيماني اتجاه الأبوة الدينية وتعظيم حقها وبيان حقيقة الطاعة التي يرتظيها الله تعالى وإنها محصورة فيها.

بمعنى: تغليب الجنبة الإيمانية على الجنبة الغريزية ومن ثم إظهار الترجيح بين تعظيم الأبوتين فأظهرت عليها السلام إن أبوة رسول الله وعلي صلوات الله عليهما ليس فوقها حق؛ وذلك أنها تحقق رضا الله تعالى، وإن كان ذاك يجر إلى سخط الوالدين النسبيين؛ لأن سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام يهدم جميع الأعمال ولا يبقي للإنسان حسنة واحدة؛ بل أن ثواب طاعات أهل الدنيا لا تستطيع أن تكفّر ذنب سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي صلوات الله عليها.

ولعل القارئ الكريم يبحث عن العلة في ذلك؛ وعن النصوص في بيان الأبوة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي صلوات الله وسلامه عليه وما معنى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام أبوا هذه الأمة ؟

ونقول:

فلنأتي أولاً إلى بيان النصوص الدالة على أبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام لهذه الأمة ثم نعرّج إلى بيان العلة في تقديم طاعة المسلم للأبوة الدينية على الأبوة النسبية وإن كان فيها سخط الوالدين.

ص: 199

أولاً: النصوص الواردة في أبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام لهذه الأمة

1 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده، عن أبي الجارود، عن ثابت بن أبي صفية، عن سيد العابدين علي بن الحسين، عن سيد الشهداء الحسين بن علي، عن سيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام عن سيد النبيين محمد بن عبد الله خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«إنّ الله تبارك وتعالى فرض عليكم طاعتي ونهاكم عن معصيتي، وواجب عليكم إتباع أمري، وفرض عليكم من طاعة علي بعدي ما فرضه من طاعتي، ونهاكم من معصيته عما نهاكم عنه من معصيتي، وجعله أخي ووزيري ووصيي ووارثي، وهو مني وأنا منه، حبه إيمان وبغضه كفر، ومحبه محبي، ومبغضه مبغضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وإياه أبوا هذه الأمة»(1).

2 - وعنه رحمه الله بسنده، عن سيد الشهداء عليه السلام عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه السلام قال:

«قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، أنت أخي وأنا أخوك، أنا المصطفى للنبوة، وأنت المجتبى للإمامة، وأنا صاحب التنزيل، وأنت صاحب التأويل، وأنا وأنت أبوا هذه الأمة....»(2).

3 - وعنه رحمه الله بسنده، عن سليمان بن مهران، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال:

ص: 200


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 65.
2- الأمالي للصدوق: ص 411.

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، أنت أخي ووارثي ووصيي وخليفتي في أهلي وأمتي في حياتي وبعد مماتي، محبك محبي، ومبغضك مبغضي، يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة، يا علي أنا وأنت والأئمة من ولدك سادة في الدنيا، وملوك في الآخرة، من عرفنا فقد عرفا لله، ومن أنكرنا فقد أنكر الله عزّ وجل»(1).

4 - وعنه رحمه الله، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد من خلق الله جميعاً، وأنا خير من جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وجميع ملائكة الله المقربين، وأنبياء الله المرسلين، وأنا صاحب الشافعة والحوض الشريف، وأنا وعلي أبوا هذه الأمة. من عرفنا فقد عرف الله عزّ وجل، ومن أنكرنا فقد أنكر الله عزّ وجل، ومن علي سبطا أمتي وسيدا شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، ومن ولد الحسين تسعة أئمة طاعتهم طاعتي، معصيتهم معصيتي تاسعهم قائمهم ومهديهم»(2).

ولم يقتصر الحديث على كتب الإمامية أتباع عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أورده بعض علماء أتباع الصحابة؛ فقد أورده الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن(3)، والآلوسي في تفسيره(4)، وابن سيده في المخصص(5)، وغيرهم.

ص: 201


1- الأمالي للصدوق: ص 755.
2- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ص 261.
3- المفردات في غريب القرآن للاصفهاني: ص 72؛ مفردات ألفاظ القرآن: ص 57.
4- تفسير الآلوسي: ج 22، ص 31.
5- المخصص لابن سيدة: ج 4، ق 1 (السفر الثالث عشر)، ص 173؛ رسائل أخوان الصفا: ج 1، ص 213.
ثانيا: معنى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام أبوا هذه الأمة

للوقوف على معنى الأبوة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام فلابد لنا من الرجوع إلى أقوال أئمة أهل البيت عليهم السلام وأقوال المفسرين فيما يتناولون الأبوة في القرآن الكريم.

1 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده، (عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، قال: سألت أبا الحسن - الرضا - عليه السلام، فقلت له: لم كنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي القاسم ؟ فقال:

«لأنه كان له ابن يقال له قاسم فكنى به».

قال، فقلت له: يبن رسول الله فهل تراني أهلاً للزيادة ؟ فقال:

«نعم، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا وعلي أبوا هذه الأمة ؟».

فقلت: بلى، قال:

«أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أب لجميع أمته، وعلي فيهم بمنزلته ؟».

فقلت: بلى. قال:

«أما علمت أن عليا قاسم الجنة والنار؟».

قلت: بلى، قال:

«فقيل له أبو القاسم لأنه أبو قسيم الجنة والنار».

فقلت له: وما معنى ذلك ؟

ص: 202

فقال:

«إن شفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمته شفقة الآباء على الأولاد، وأفضل أمته علي عليه السلام ومن بعده شفقة علي عليه السلام عليهم كشفقته صلى الله عليه وآله وسلم لأنه وصيه وخليفته والإمام بعده، فلذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنا وعلي أبوا هذه الأمة، وصعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال:

من ترك دنيا أو ضياعاً فعلي وألي، ومن ترك مالا فورثته، فصار بذلك أولى بهم من آبائهم وأمهاتهم، وصار أولى بهم منهم بأنفسهم وكذلك أمير المؤمنين عليه السلا بعده جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»)(1).

2 - قال العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف في بيان معنى الأبوة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام:

(الأب أو الوالد هو المبدأ الإنساني لوجود الإنسان والمربي له فمعلم الإنسان ومربيه للكمال أبوه فمثل النبي والولي عليهما أفضل الصلاة والسلام أحق أن يكونا أبا للمهتدي به، المقتبس من أنوار علومه ومعارفه من الأب الجسماني الذي لا شأن له إلا المبدئية والتربية في الجسم، فالنبي والولي - أي الإمام علي عليه السلام - أبوان والآيات القرآنية التي توصي الأولاد بوالديه تشملهما بحسب الباطن وإن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيين)(2).

ص: 203


1- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 127.
2- تفسير الميزان: ج 4، ص 357.

3 - قال الراغب الاصفهاني (المتوفى سنة 425 ه -):

(الأب: الوالد، ويسمى كل من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا، ولذلك يسمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا المؤمنين، قال الله تعالى:

اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ (1) .

وفي بعض القراءات: وهو أب لهم، وروى أنه صلى الله عليه - وآله - وسلم قال لعلي - عليه السلام -:

«أنا وأنت أبوا هذه الأمة».

وإلى هذا أشار بقوله:

«كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي».

وقيل: أبو الأضياف لتفقده إياهم، وأبو الحرب لمهيجها، وأبو عذرتها لمفتضها، ويسمى العم مع الأب أبوين، وكذلك الأم مع الأب، وكذلك الجد مع الأب، قال: تعالى في قصة يعقوب:

مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قٰالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِلٰهاً وٰاحِداً(2) .

وإسماعيل لم يكن من آبائهم وإنما كان عمهم، وسمي معلم الإنسان أباه لما تقدم من ذكره، وقد حمل قوله تعالى:

ص: 204


1- سورة الأحزاب، الآية: 6.
2- سورة البقرة، الآية: 133.

وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ (1) .

على ذلك، أي علماءنا الذين ربونا بالعلم بدلالة قوله تعالى:

رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ(2) .

وقيل في قوله:

أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ (3) .

إنه عنى بالأب الذي ولده، والمعلم الذي علمه، وقوله تعالى:

مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ .

إنما هو نفي الولادة وتنبيه أن التبني لا يجري مجرى البنوة الحقيقة)(4).

3 - قال الآلوسي (المتوفى سنة 1270 ه -) في بيان قوله تعالى:

مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ (5) .

إنّ قوله تعالى (ولكن رسول الله) استدراك من نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا أحد من رجالكم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه أبا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم صلى الله عليه وآله وسلم فإن

ص: 205


1- سورة الزخرف، الآية: 22.
2- سورة الأحزاب، الآية: 67.
3- سورة لقمان، الآية: 14.
4- المفردات في غريب القرآن: ص 7.
5- سورة الأحزاب، الآية: 40.

كان رسول الله أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك، وحاصله أنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقة الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتقتضي التوقير من جانبهم، والشفقة والنصيحة لهم، فإن كان رسول الله أبا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى ذلك.

وحاصله: إنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة من جانبه صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

4 - وأخرج ابن ماجة في السنن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«إنما أنا لكم مثل الوالد لولده أعلمكم»(2).

ثالثا: العلة في تعظيم حق الأبوة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق الأبوة النسبية للمسلم

قد تبين من خلال الأحاديث الشريفة والأقوال السابقة لبعض العلماء والمفسرين حول حقيقة والدية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام لهذه الأمة، فبينت أن المراد بها الأبوة اللغوية المجازية التي تنظوي تحتها

ص: 206


1- تفسير الآلوسي: ج 22، ص 31.
2- سنن ابن ماجة: ج 1، ص 114.

معان متعددة: كإخراجهم من الضلالة إلى الهدى، وتعليمهم وتزكيتهم كما دل قوله تعالى:

وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ (1) .

وغيرها من المعاني والدلالات التي تمنح صاحبها حقوقاً كثيرة على المستفيد منها.

ومثاله من حيث التناسب بين عدد النعم الممنوحة والمستفيد منها كنعمة خلق الله للإنسان وأسباغ نعمه سبحانه عليه فعظم معها حق الباري جل شأنه على عبده.

بمعنى:

أننا لو تتبعنا عدد النعم التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجداً لها وسببا في منحها للإنسان لخرج الموضع عن عنوانه، فيكفي في أنه السبب في خلاص المسلم من النار في الآخرة، وأنه واسطة نزول الفيض أو الخير من الله تعالى إلى الخلائق لقوله تعالى:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (2) .

وقوله سبحانه:

هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (3) .

ص: 207


1- سورة البقرة، الآية: 129.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.
3- سورة ص، الآية: 39.

ولقد أوتي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من العطاء الإلهي ما لم يعط أحداً من الخلق وكيف لا وهو سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، أفيعقل أن يعطى النواب والوزراء من الامتيازات والقوانين والسنن بأكثر مما يعطى رئيسهم ؟!

وعليه: عظم حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين بما عظم لديهم من النعم التي جاءتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن علي بن أبي طالب عليه السلام فهو الهادي لكل قوم بنص محكم التنزيل في قوله تعالى:

إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ(1) )(2).

ص: 208


1- سورة الرعد، الآية: 7.
2- أخرج الحاكم النيسابوري عن علي عليه السلام في قوله تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)، أنه قال: «رسول الله المنذر وأنا الهاد»: ج 3، ص 130؛ وروى ابن حجر عن الطبري بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله يده على صدره وقال: «أنا المنذر»، وأومأ إلى علي وقال: «أنت الهادي، بك يهتدي المهتدون بعدي»، وعقب ابن حجر على الحديث قائلاً: (فإن ثبت هذا فالمراد بالقوم أخص من الذي قبله أي بن هاشم مثلا)؛ وأخرج ابن أبي حاتم، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زيادات المسند، وابن مردويه من طريق السدي، عن عبد خير، عن علي قال: «الهادي رجل من بني هاشم»، قال: بعض رواته هو علي وكأنه أخذه من الحديث الذي قبله، وفي إسناد كل منهما بعض الشيعة ولو كان ذلك ثابتاً ما تخالفت رواته؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 285. وأقول: 1 - عجيب هذه المغالطات من ابن حجر وهو يجد تلك الأحاديث يقوي بعضها بعضاً ويصحح بعضها بعضاً، إلاّ أنه مع ذلك يحاول أن يضلل القارئ عنها، فقبل أن يستفتح حديث الطبري نجده يشتت ذهن القارئ بقوله: (والمستغرب ما أخرجه الطبري بإسناد حسن) ثم يورد الرواية، فكيف يكون مستغرباً وإسناده حسن، إلا أن يكون علياً هو الهادي وليس أحد من الصحابة. 2 - إن الحديث الوارد عن طريق عبد خير عن علي عليه السلام أنه قال: «الهادي رجل من بني هاشم»، أخرجه أحمد في مسنده أيضاً قبل أن يخرجه ولده عبد الله في زيادات المسند؛ أنظر: مسند أحمد: ج 1، ص 126. 3 - وهل في بني هاشم من الفضائل والمناقب والمزايا ما لعلي حتى يتوهم القارئ بأنها في غير علي عليه السلام، أفهل هناك غير علي عليه السلام قسيم الجنة والنار؛ أم في غير حبه وبغضه يفتن المسلمون فيميز الله المؤمنين من المنافقين والفجار. 4 - إن أغرب ما قيل في توجيه الحديث لغير وجهته، قول ابن حجر: (وفي إسناد كل منهما بعض الشيعة، ولو كان ذلك - أي إن علي هو الهادي - ما تخالفت رواته، ونقول: ألف: إما أن في إسناده شيعة فقد ملئت الصحاح الستة من رواة الشيعة ومن أراد الزيادة فعليه بالمراجعات لشرف الدين أعلى الله مقامه فقد أورد في المراجعة رقم (ستة عشر) مئة من روات الصحاح الذين كانوا يدينون الله بحب علي عليه السلام، واشتهروا بالتشيع لعلي. باء: إما اختلاف رواته فهو دليل على الصحة وليس على عدمها؛ وذلك أن الأمة كلها اختلفت وتمايزت في حب علي عليه السلام وبغضه فمن أحب علي عليه السلام أقر بالرواية ومن أبغضه أنكرها، واستغربها.

فعلي عليه السلام له من الحق العظيم على الأمة في كونه الهادي إلى الحق والهدى اللذان بهما يفوز المسلم بالنعيم الأبدي ويحرز رضا الله تعالى؛ فضلاً عن كونه الوصي والخليفة للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فنال ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا النبوة والرسالة جميع الامتيازات من الوساطة في نزول الفيض وحفظ الأمة من الضلال وغير ذلك.

ولعل الروايات الشريفة الواردة عن العترة النبوية فيها من البيان ما يغني القارئ عن البحث في العلة التي جعلت الأبوة الدينية أعظم حقاً عند الله تعالى من الأبوة النسبية، فمنها:

ص: 209

1 - قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام:

«قال علي بن أبي طالب عليه السلام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا وعلي أبوا هذه الأمة، ولحقنا عليهم أعظم من حق أبوي ولادتهم، فإنا ننقذهم - إن أطاعونا - من النار إلى دار القرار، ونلحق من العبودية بخيار الأحرار»(1).

2 - قالت فاطمة صلوات الله عليها:

«أبوا هذه الأمة محمد وعلي يقيمان أودهم، وينقذانهم من العذاب الدائم إن أطاعوهما، ويبيحانهم النعيم الدائم إن وافقوهما»(2).

3 - قال الإمام الحسن بن علي عليهما السلام:

«محمد وعلي أبوا هذه الأمة، فطوبى لمن كان يخصهما عارفاً، ولهما في كل أحواله مطيعاً، يجعله الله من أفضل سكان جنانه، ويسعده بكراماته ورضوانه»(3).

4 - قال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام:

«إن كان الأبوان إنما عظم حقهما على أولادهما لإحسانهما إليهم، فإحسان محمد وعلي عليهما السلام إلى هذه الأمة أجل وأعظم فهما بأن يكونا أبويهم أحق»(4).

ص: 210


1- تفسير الإمام العسكري: ص 330.
2- المصدر السابق.
3- تفسير الإمام العسكري: ص 330-331.
4- المصدر السابق.

5 - وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام:

«من رعى حق أبويه الأفضلين: محمد وعلي عليهما السلام، لم يضره ما أضاع من حق أبوي نفسه وسائر عباد الله، فإنهما صلوات الله عليهما يرضيانهم بسعيهما»(1).

6 - وقال محمد بن علي الباقر عليه السلام:

«من أراد أن يعرف كيف قدره عند الله، فلينظر كيف قدر أبويه الأفضل عنده محمد وعلي عليهما السلام»(2).

7 - وقال الحسن بن علي عليهما السلام:

«من آثر طاعة أبوي دينه محمد وعلي عليهما السلام على طاعة أبوي نسبه قال الله عزّ وجل:

(لأؤثرنك كما آثرتني ولأشرفنك بحضرة أبوي دينك، كما شرفت نفسك بإيثار حبهما على حب أبوي نسبك)»(3).

إذن:

نظريتها عليها السلام في الأبوة ترتكز على إن رضا أبوي الدين وسخطهما مقرون برضا الله تعالى وسخطه فكانا أعظم مسؤولية عند الله تعالى من أبوي النسب، وإن أبوي النسب لاحظ لهما عند تقديم أبوي الدين.

وسخطهما أعظم خطراً واشد مسؤولية عند الله تعالى.

ص: 211


1- تفسير الإمام العسكري: ص 331.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

المسألة الرابعة: نظريتها في حب الدنيا

اشارة

قالت عليها السلام:

«إني أحب من دنياكم ثلاثاً: الإنفاق في سبيل الله، وتلاوة كتاب الله، والنظر إلى وجه أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

وجدت فاطمة صلوات الله عليها في حقيقة الدنيا أموراً ليست مذمومة، بل ترقى إلى ما فوق الممدوح فأحبتها؛ لكن الأشياء التي تُحَب في الدنيا وعند الفكر الفاطمي هي بغير المفهوم المرتكز في أذهان الناس باختلاف مستوياتهم الإدراكية ومعطياتهم الفكرية ومكوناتهم الثقافية.

فالدنيا بما جعل الله تعالى فيها من زينة وزخرف من جهة، وما جعل في النفس الإنسانية من شهوات قد تشهد في كل يوم العشرات من الصراعات فيما بينها وبين الناس وغرائز تدفعها إلى التعايش مع هذه الزينة، والانجذاب إليها، والانقياد لها من جهة أخرى.

فأسر من أسر، وتحرر من تحرر، وحينها لم يجد المأسور والمتحرر غير الذم للدنيا تارة، والتحذير منها تارة أخرى بعد غوض غمار التعايش مع الدنيا.

أما من ارتمس في شهواتها فهو لم يفق حتى تأتيه سكرة الموت، وحينها يقول:

يٰا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيٰاتِي(2) .

ص: 212


1- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلام: ص 161، نقلاُ عن أنيس الواعظين: ج 2، ص 95.
2- سورة الفجر، الآية: 24.

فقد أضاع نفسه وهلك في واد سحيق ليترك آنذاك جرساً يدق في كل حين منبهاً الغافلين من أتباع هذا المسلك؛ فيزداد عند ذاك عدد الذامين للدنيا وعدد الغارقين في ملذاتها.

ولا يدرك السامع أين يكون الخلل أفي الدنيا، أم في غرائزه، أم في ضعف إرادته، أم في حظه منها؟ ولعله لا يجد سوى أن يندب حظه حينما لم ينل من الدنيا بشيء أو حينما يقع على رأسه فلا يجد غير الملامة من الآخرين أو من نفسه أو لعله لا يجد عند ذلك من أحد.

هكذا هي المفاهيم في التعامل مع الدنيا، وهكذا حال الإنسان معها، ولكن بين هذه الرؤى والمعطيات تظهر مفاهيم أخرى وجدت من الدنيا مكسباً عظيماً ووجدت فيها سعادة غامرة وحباً متغللاً حتى الشغف.

إنها الحب في ثلاث:

1 - الإنفاق في سبيل الله.

2 - تلاوة كتاب الله.

3 - النظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

واللافت للانتباه ان ليس في هذه الثلاث غير الله تعالى، فهو المرتكز في نظرية فاطمة صلوات الله عليها في حب الدنيا، وهو ما يميزها حتى عن الثلاثة التي أحبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا، فكانت:

«العطر والنساء وقرة عيني الصلاة»(1).

ص: 213


1- الوافي للفيض الكاشاني: ج 21، ص 29، برقم 20736-7، 20737-7.

فهذه الثلاثة النبوية فيها من الدنيا نصفها، أي المرأة؛ أما تلك الثلاثة الفاطمية ليس فيها من الدنيا نصيب ولو قيد أنملة.

وهذه الثلاثة النبوية فيها أيضاً للنفس شيئين، العطر والنساء، وتلك التي عند فاطمة عليها السلام ليس فيها للنفس أي شيء؛ فهي: تعطي، والإنسان يفرح في الأخذ والاغتنام.

أما تلاوة كتاب الله، والنظر على وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهما للآخرة مطلقاً ولم يحس بجمالهما وحلاوتهما غير فاطمة عليها السلام صاحبة هذا الشعور القلبي في حبها لثلاثة أشياء وجدتها في هذه الدنيا.

على الرغم من أن لدى فاطمة في هذه الدنيا ما لم يكن لامرأة فيها، فلفاطمة الحسن والحسين عليهما السلام بما يحملان من زينة حب البنين، وأي بنين هما؛ وبما يحملان من شأن إلهي، لكنهما لم يرقيا على مصاف حبها في تلاوة كتاب الله والنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعلنا إن تركنا البيان لما فيه هذه الثلاثة من آثار على الإنسان وما يدل سلوكها إلى حقيقة النفس ومستوى رقيها سيجعل القارئ في نقص من اكتمال الصورة لديه أو يجعله في حيرة في فهم شخصية فاطمة صلوات الله عليها وتعاملها مع الحياة الدنيا.

ولذا:

وجدنا ضرورة بيان ما لهذه الثلاثة من دلالة وآثار في الدنيا والآخرة ومن ثم كشفها لشخصية العامل بها وتميزه عن غيره من الناس، وهي كالآتي:

ص: 214

أولاً: دور الإنفاق في بناء شخصية الإنسان وتحديد ملامح هذه الشخصية

يعرض القرآن الكريم قضية الإنفاق في آيات عديدة ضمن مجموعة من السور وهي ترسم للباحث طريق بناء النفس والمجتمع إلى المستوى الذي جعله القرآن، أي الإنفاق ضمن المنجيات والمهلكات الأربعة التي بها يتحقق الفوز أو الخسران في الآخرة كما في قوله تعالى:

قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ اَلْخٰائِضِينَ وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ (1) .

فهذه الآيات الكريمة تظهر ركنية الإنفاق في تلك المهلكات الأربعة التي تدخل الناس النار وذلك لارتكاز هذه الأركان الأربعة على الإيمان بالغيب.

إذ الإنفاق هو في الحقيقة يكشف عن خلاف الإنسان للأنا، لاسيما في المال الذي جبل الإنسان على حبه؛ بمعنى: يكون الدافع النفسي عند الإنسان في التعامل مع المال يرتكز على الإزدياد وبغض الخسران وكره النقصان مما يتطلب إرادة قوية عند المرء تمكنه من مقاومة هذه التجاذبات بين الزيادة والنقصان في التعامل مع المال.

ولذلك: جعله القرآن أحد مقومات الإيمان بالغيب لما يترتب عليه من إصلاح للنفس والمجتمع وسلامتهما من الفساد والإفساد، فلا النفس حينها تغرق في بحر الأنا، فتكون منّاعة للخير مسومة بالبخل والشح مأسورة للشهوات، منقادة إلى الملذات ومن ثم ينتهي بها المطاف في قسوة من القلوب فهي كالحجارة أو أشد قسوة.

ص: 215


1- سورة الدثر، الآيات: 42-46.

وأما في المجتمع فالتمايز بين الطبقية الاجتماعية، وتفشي الفقر وانتشار الجهل بعسر الإنفاق عند الآباء على أبنائهم، يدفع إلى اكتساب العادات السيئة والأخلاق المنحرفة لينتهي الأمر بمحاولات لممارسة الجريمة المنظمة أو المبعثرة كالاتجاء للسرقة أو القتل أو الاتجار بالمخدرات أو الابتزاز وغيرها التي يدفع ثمنها بالدرجة الأولى الأغنياء الذين يظنون أنهم بما لديهم من أموال بمنأى عن هذه الحوادث التي كانوا هم السبب الرئيسي في مكونها بمنعهم الزكاة والخمس والصدقات وتركهم الإنفاق.

ولذا:

(قد تعبد الله سبحانه بالإنفاق في سبيله كما تعبد بالجهاد بالأنفس فقال الله تعالى:

وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ (1) .

فسوى سبحانه بين فرض الإنفاق في سبيله والجهاد بالأنفس، وقال سبحانه:

وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (2) .

فأمر بالإنفاق وتوعد المخل به بالهلاك، وذلك برهان وجوبه في أمثال هذه الآيات)(3).

لما يشكله من آثار كبيرة على النفس والمجتمع، فضلاً عن آثاره في الآخرة، فكان (من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد

ص: 216


1- سورة التوبة، الآية: 41.
2- سورة البقرة، الآية: 195.
3- الكافي في الفقه لأبي صلاح الحلبي: ص 175.

توسل إليه بأنحاء التوسل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفارات والمالية وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكن، والعمري والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الاسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الانسان في العاجل والأجل، ويعيش به الانسان في معارف حقة، واخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة.

ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها

ص: 217

واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه السلام ونفوذ امره.

وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي عليه السلام إذ يقول:

«وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا اقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقرا؟»)(1).

إذن

يتضح لنا أن حب فاطمة عليها السلام للإنفاق في سبيل الله مرتكز على القيمة الإصلاحية للنفس والمجتمع وانعكاساته على بناء حياة طابعها الرحمة وقوامها المأزرة، فالخلق أحباب الله وأقربهم إلى الله أنفعهم لخلقه سبحانه.

وأول المنفعة للخلق تحسين مستواهم المعيشي الذي يؤسس لنشر العلم والتعليم ومحاربة الجهل، فيرقى الإنسان إلى حيث إرادة له الشريعة المقدسة.

ثانياً: دور تلاوة القرآن في بناء شخصية الإنسان

لا شك إن المكانة الكبيرة التي يشغلها القرآن الكريم في الإسلام إنما كانت لكونه عنوان الإسلام وهويته وجوهره وظاهره ودستوره وشريعته، وغيرها مما

ص: 218


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 2، ص 38.

يتعلق بوجود هذا الدين السماوي، الذي جعله الله تعالى خاتمة الديانات السماوية وخير الأديان التي أخرجت للناس.

إلاّ أن القرآن الكريم مع ما أوتي من خصوصية وحدود وقدسية في الإسلام لم ينل من حيث التثقيف على القراءة لآياته وتلاوته القدر المستحق، وذلك لاهتمام معظم الناس بالتكسب والمعيشة أو طلب العلم أو المرابطة على الثغور وغيرها من اللوازم الحياتية التي تفرض على الإنسان التمسك بها والانقياد إليها مما أثر سلباً على تخصيص بعض الوقت لقراءة القرآن وتلاوة آياته.

وهي حقيقة عرضها القرآن وبينها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عزّ وجل:

إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اِتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً(1) .

من هنا:

كانت الروايات الشريفة تحث الإنسان المسلم على بذل بعض الوقت من أجل التفرغ لقراءة القرآن وتلاوته والتدبر في آيات، نورد منها بعض الشواهد القليلة كي لا يخرج البحث عن عنوانه؛ فهذا الشاهد يظهر بوضوح ما لقراءة القرآن وتلاوته من آثار في بناء النفس وتقويم السلوك وهي ما نحن بصدده في بيان نظرية فاطمة في حب الدنيا.

1 - فقد روى الشيخ الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال:

ص: 219


1- سورة المزمّل.

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّها الناس إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والمسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود فأعدوا الجهاز لبعد المجاز».

قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة ؟ قال:

«دار بلاغ وانقطاع فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وقائل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب ويتخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص»)(1).

2 - وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعلموا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل شاحب اللون فيقول له القرآن: أنا الذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك أؤول معك حيثما ألت، وكل تاجر من وراء تجارته وأنا اليوم لك من وراء تجارة

ص: 220


1- الكافي للكليني: ج 2، ص 599، ح 2.

كل تاجر وسيأتيك كرامة (من) الله عز وجل فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه والخلد في الجنان بيساره ويكسى حلتين ثم يقال له: اقرأ وارقه فكلما قرء آية صعد درجة ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن»(1).

3 - وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن لحمه ودمه وجعله الله مع السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول:

يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حليتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له: هل أريناك فيه ؟

فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل منهذا، فيعطى الأمن يمينه والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك ؟ فيقول: نعم.

قال: ومن قرأه كثيراً وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عزّ وجل أجر هذا مرتين»(2).

والأحاديث في ذلك لكثيرة جداً وجميعها تكشف عن تلك الآثار التي تتمخض عن قراءة القرآن وتلاوته والتدبر في آياته ودوره في بناء شخصية الإنسان من خلال التدبر.

ص: 221


1- الكافي للكليني: ج 2، ص 603، ح 3، باب: فضل حامل القرآن.
2- الكافي للكليني: ج 2، ص 603.

إلاّ أن الملفت في ذلك هو الدافع الذي يقود الإنسان لقراءة القرآن إذ الغالب في وجود هذا الدافع والمحرك النفسي هو الثواب والإحساس بالأمان وجلب الخير والبركة وغيرها.

لكنه أي الدافع في قراءة القرآن عند بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حب الله تعالى والأنس بكلامه أفهل يجد الحبيب غير الجلوس بين يدي حبيبه فيستمع إلى حديثه ؟ فهذا الذي أحبته فاطمة من الدنيا.

ثالثا: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره في بناء الشخصية

يقدم القرآن الكريم منهجاً دقيقاً في كيفية التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطورة هذا التعامل في الدنيا والآخرة لما ارتبط به من سنن إلهية أجرها سبحانه وتعالى في هذه الأمة وفي الأمم السابقة في إتباع الأنبياء والإعراض عنهم ومعاداتهم.

ويخصص القرآن في هذا المنهاج حيزاً واسعاً في آثار حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عما بينته الأحاديث الشريفة في هذه المسألة، لما يترتب عليها من بناء للشخصية المسلمة ودليلاً على تحديد هويته الإيمانية ونسبته إلى الإسلام.

ومن الشواهد على ذلك:

1 - قال تعالى:

إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ (1) .

ص: 222


1- سورة آل عمران، الآية: 31.

2 - وقال سبحانه:

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً (1) .

3 - وقال عزّ وجل:

لاٰ تَجْعَلُوا دُعٰاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوٰاذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (2) .

4 - وقال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً(3) .

أما من الشواهد النبوية في بيان آثار حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهي:

1 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته».

قال: فقال رجل من القوم: يا ابا عبد الرحمن، ما تزال تجيء بالحديث يحيي

ص: 223


1- سورة المجادلة، الآية: 12.
2- سورة النور، الآية: 63.
3- سورة الأحزاب، الآية: 57.

الله به القلوب)(1).

2 - روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يكون العبد مؤمنا حتى أكون أحب إليه من نفسه ومن ولده وماله وأهله»(2).

3 - روى البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده»(3).

4 - وعنه أيضاً، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(4).

وغيرها من الشواهد التي ترسم للمسلم طريق التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وماذا يعني له حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأي كاشفية للإيمان متجذرة في هذا الحب الذي من خلاله يكتشف الإنسان نفسه

ص: 224


1- الأمالي للصدوق: ص 414.
2- الأمالي للطوسي: ص 416.
3- صحيح البخاري: باب حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج 1، ص 9.
4- المصدر السابق.

ويتعرف على هويته ونسبته من الإسلام، أهي لقلقة لسان أم حب متجسد في أفعاله وأقواله.

من هنا:

كانت هذه العناوين في الأفعال والأقوال تدفع الإنسان إلى بناء شخصيته وذلك أن من أحب أمرء تأثر به وكلما كان حبه أعمق كلما كان هذا التأثر أمضى وأشمل كالذي كانت عليه بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبحت في هذا التأثر بحبها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صورة له في سمتها وقولها وهديها.

وفي ذلك تقول عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

(ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً، وحديثا، وكلاماً، برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة - عليها السلام)(1).

وفي لفظ آخر قالت في صفة فاطمة عليها السلام:

(ما رأيت أحداً أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم)(2).

فكيف بعد ذلك الحب الذي يكشف عن أعلى درجات الإيمان كما دلت النصوص في أن يكون النظر إلى وجه الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد الثلاثة التي أحبتها فاطمة صلوات الله عليها من الدنيا.

ص: 225


1- سنن ابي داود، باب: في بلة الرجل ولده، ج 2، ص 522.
2- سنن الترمذي: ج 5، ص 316، باب: ما جاء في فضل فاطمة عليها السلام.

مكونة في ذلك نظرية جديدة في مفهوم حب الدنيا ترتكز على حب الله أولاً وفي بناء النفس ثانياً وفي إصلاح المجتمع ثالثاً، فهذه الأركان الثلاثة في النظرية الفاطمية ليس فيها من الدنيا شيء سوى أنها السبيل المؤدي على الله تعالى.

المسألة الرابعة: نظريتها في العبادة

قالت عليها الصلاة والسلام:

«من أصعد إلى الله خالص عبادته، أهبط الله إليه أفضل مصلحته»(1).

يعرض القرآن الكريم مسألة العبادة والتعبد لله تعالى في إطار الغائية في خلق الجن والإنس فقال سبحانه:

وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (2) .

وفي المقابل جعل الإخلاص شرطاً في القبول، فقال سبحانه:

وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ (3) .

والإخلاص في العبادة هو التنزيه في جميع مظاهر الشرك وبواطنه في ممارسة العبادة لله تعالى لاسيما فيما يتعلق بالنفس وأهوائها كما حدث لإبليس الذي كان أول المفلسين في عبادته لله حينما سولت له نفسه فكانت تجد لها الأحقية في اختيار الأصلح أو تقرير الأصوب كقوله في أفضلية الطين على النار فجعل من نفسه

ص: 226


1- تفسير الإمام العسكري: ص 177؛ مجموعة وارم: ج 2، ص 108.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة البينة، الآية: 5.

شريكاً في الحكم الإلهي.

وكذلك اليوم وفي كل يوم منذ أن بعث الله آدم عليه السلام نبياً كانت مقابله أوامر نفسية يصدرها أهل الاجتهادات الباطلة فيضعون أنفسهم مقابل النص الإلهي الصادر من أنبياءه عليهم السلام ورسله ووحيه وكتبه.

فالإخلاص في العبادة يقتضي مجاهدة النفس في الرجوع إلى ما شرعه الله تعالى من أحكام وشرائع من جهة، ومن جهة أخرى عدم إشراك الغير في هذه العبادة كالرياء أو حصول المنفعة أو دفع المضرة.

وبمعنى آخر: أن يكون الإنسان صادقاً في عبادته لله تعالى فلا يقدم نفسه على هذه العبادة فيها القرين لهذا الحكم أو استجلاباً للنفع أو دفعاً للضرر.

قال تعالى:

فَإِذٰا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمّٰا نَجّٰاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذٰا هُمْ يُشْرِكُونَ (1) .

وقال عزّ وجل:

هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهٰا جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ فَلَمّٰا أَنْجٰاهُمْ إِذٰا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ

ص: 227


1- سورة العنكبوت، الآية: 65.

عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1) .

في المقابل نجد القرآن الكريم يعطي بياناً آخراً في الآثار التي تنبثق من الإخلاص في الدين فيقول سبحانه:

1 - قٰالَ رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قٰالَ هٰذٰا صِرٰاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلاّٰ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ (2) .

فكان السبيل مقطوع على إبليس لمن أخلص لله تعالى وصدّق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وقال سبحانه في بيان تلك الآثار المرتبطة في الإخلاص:

قٰالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (3) .

فحصّن عباد الله المخلصين من الغواية والسقوط في شباك عدو الله والإنسان، إبليس عليه لعنة الله.

إذن:

تتكون النظرية الفاطمية من طرفين لهما عمود يتوازنان به، الطرف الأول: هو الإخلاص في العبادة لله تعالى، والطرف الثاني أفضل مصلحة الإنسان،

ص: 228


1- سورة يونس، الآيتان: 22 و 23.
2- سورة الحجر، الآيات:
3- سورة ص، الآية: 82.

وعمودهما هو الإيمان بالغيب وذلك لقولها عليها السلام (من أصعد إلى الله) أي الإيمان بالغيب من خلال صعود العمل وهبوط المصلحة.

أي: أن يكون الدافع والمحرك الأساس في العبادة هو الإيمان بالغيب وكلما ازداد الإنسان اعتقاداً ويقينا بالغيب كلما ارتقى في سلم الإخلاص ليصل إلى رتبة الصدّيق أي المصدق بالغيب الممثل بالملائكة والوحي والكتب والأجر والثواب والجزاء الدنيوي والأخروي.

ولذا: ربطت عليها السلام الأمر بالصعود أي ارتفاع العمل وبالهبوط وهو الجزاء لهذا العمل الذي يقدمه الإنسان؛ فضلاً عن الديمومية أي الارتقاء في رتبة اليقين وتحقق الإجابة والجزاء الآني والفوري لما يقوم به الإنسان حينما بلغ درجة المخلصين لينال أفضل ما يصلح حاله في الدنيا والآخرة، ومن ثم بناء حياة كريمة.

ص: 229

المبحث الخامس: حركة التأريخ عند فاطمة عليها السلام

اشارة

من الروافد التي نمت على منهله جذور علم التاريخ فانتشى واقفاً يلقي بأغصانه على خواص أهل هذا العلم، فأناخوا في ساحته ركابهم وحطوا بجواره قرطاسهم ودواتهم؛ هو رافد كلمات البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها السلام الذي أحدث نقلة نوعية في دفع حركة التاريخ الإسلامي وتدوينه.

إلا أن الفارق الذي يفترق به رواد مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن غيرهم من رواد المدارس الأخرى، أن رواد هذه المدرسة حينما كتبوا الحدث التاريخي كانت كتابتهم محاطة بالوعي والنقد والتحليل والواقعية والأمانة لجميع ما سارت عليه الأمة سواء كان يرضي أصحاب الحدث أم لم يرضهم.

ولذلك نجد أن جهابذة هذا العلم حوربوا أشد المحاربة واضطهدوا وشردوا ونفوا عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 230

فضلاً عن ذلك فإنّ طلاب هذه المدرسة المحمديّة امتازوا - أيضاً - بتدوين الحدث وتصنيفه وتوثيقه قبل غيرهم سواء من التفت من المؤرخين إلى تدوين بعض ما يتعلق بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ك -: (سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري)(1) أم من دوّن التاريخ الحولي كابن جرير الطبري(2) وغيره.

ومن هنا: نجد معظم الكتابات في هذا العلم أو الدراسات التي كتبت عنه تجنبت الخوض في مصنفات طلاب هذه المدرسة ك -: كتاب سليم بن قيس الهلالي أو حتى الإشارة إليه، ناهيك عن اتهامهم بالطائفية والتحزب لعلي عليه الصلاة والسلام، وكأنه لم يكن أحد أركان هذا التاريخ الإسلامي والعربي.

والسبب في ذلك كله يعود إلى كتابتهم التاريخ بوعي وأمانة وعدم انحياز للأهواء والأغراض السياسية، فكانت حياتهم في خطر مستمر وتشريد وغربة.

المسألة الأولى: تشخيصها عليها السلام لبدء حركة التاريخ

تمتاز بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عمن سبقها وعمن لحقها في بيانها لحركة التاريخ بأنها تتفرد بتشخيص نقطة انطلاق النشأة والتكوين للخلق وتحديدها، بمعنى آخر جميع الذين تحدثوا عن تاريخ الأمم والشعوب ولم يتوسعوا في هذا التصنيف ليشمل جميع أنواع المخلوقات الحيوانية والنباتية والجمادات؛ لأن كل هذه الأجناس لها تاريخ في نشوئها

ص: 231


1- تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين: ج 2، ص 65.
2- تاريخ التراث العربي: ج 2، ص 159.

ومواطن خلقها ووجودها.

إلاّ أن سيدة النساء فاطمة عليها السلام حينما قدمت الحركة التاريخية ابتدأت من النقطة الأولى التي خلق الله تعالى فيها الأشياء.

فمن هذه اللحظة تبدأ حركة التاريخ عند البضعة النبوية عليها السلام؛ وهو الأمر الذي لم يرد حتى في ظاهر آيات القرآن الكريم؛ أما باطن القرآن ففيه علم كل شيء.

قال تعالى:

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1) .

وهذا الغيب الذي جمع الله فيه العلوم بحيث لا يعزب عنه - عزّ شأنه - مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، قد جمعه الله تعالى أي هذا العلم في إمام مبين.

قال تعالى:

إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (2) .

ص: 232


1- سورة سبأ، الآية: 3.
2- سورة يس، الآية: 12.

فكيف بمن كانت حجة الله على الأئمة(1).

ولذا:

حينما بدأت بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث عن الحركة التاريخية للوجود بدأتها من الخلق الأول والنشأة الأولى للأشياء.

فقالت عليها السلام:

«ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، تعبدا لبريته وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده من نقمته، وحياشة لهم إلى جنته»(2).

وهنا:

لم تُظهر فاطمة عليها السلام الحركة التاريخية لخلق الأشياء وبدء تكوينها وإنما تلحق هذا البيان بإجراء الله تعالى لسننه التي جعلها في الخلق، والعلة التي لأجلها خلقهم؛ ولذا تضع في هذا البيان الموجز العلة والمقدمة والنتيجة مجموعة

ص: 233


1- قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «نحن حجج الله على الخلائق، وأمنا فاطمة حجة الله علينا». «الأسرار الفاطمية، للمسعودي: ص 17، نقلاً عن تفسير أطيب البيان: ج 13، ص 226.
2- كتاب الاحتجاج للطبرسي، خطبة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها: ج 1، ص 133. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 221، الباب 11. بلاغات النساء لابن طيفور: ص 15.

كلها في بيان هذه الحركة التاريخية لوجود الخلق. فكانت العلة في خلق الله تعالى للخلق هي:

1. تثبيتاً لحكمته.

2. تنبيها على طاعته.

3. إظهاراً لقدرته.

4. تعبداً لبريته.

5. إعزازاً لدعوته.

والحكمة في جعله - عزّ شأنه - الثواب على الطاعة، ووضعه العقاب على المعصية هي:

1. ذيادة، أي دفعاً لعباده تعالى عن نقمته.

2. حياشة، أي يجمعهم ويسوقهم إلى جنته.

أما جعله - عز وجل - للسنن التاريخية في سير هذا الخلق، فكان يرتكز على سنّتين:

السنّة الأولى: طاعة الله تحقق الثواب.

السنّة الثانية: معصية الله تحقق العقاب.

المسألة الثانية: تحديد حركة تاريخ النبوة

مثلما تميزت الحركة التاريخية للخلق عند سيدة نساء العالمين عليها السلام كذلك الحال في بيانها الحركة التاريخية للنبوة، فقد أظهرت عليها السلام النقطة

ص: 234

الأولى لانطلاق النبوة مع بيان العلة في وجودها وما يرافقها من سنن وما يتبعها من نتائج وما سبقها من مقدمات، ظهرت آثارها في الأمم التي بعثت فيها الأنبياء، فتقول عليها السلام:

«وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة؛ علما من الله تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور.

ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه»(1).

وهنا تبدأ سيدة نساء العالمين عليها السلام في تحديد نقطة انطلاق الحركة التاريخية للنبوة، والتي تتميز بميزات منها:

1. إنّ الله تعالى خلق الخليفة قبل الخليقة، بمعنى قدم خلق النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قبل خلق الخلائق بزمن لا يعلم مقداره إلا الله تعالى ورسول الله وعترته عليهم السلام.

وهو ما عبرت عنه بقولها عليها السلام:

«اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه».

2. تقديم الحركة التاريخية للنبوة على الحركة التاريخية للخلق بثلاث مراحل زمنية:

المرحلة الأولى: مرحلة مكنون الغيب، وهي أولى المراحل لحركة تاريخ

ص: 235


1- الاحتجاج للطبرسي، خطبة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها: ج 1، ص 133.

الخلق حيث كانت الخلائق في مكنون الغيب فلا يعلم أين كانت إلاّ الله تعالى.

المرحلة الثانية: مرحلة ستر الأهاويل، أي: أن هذه الخلائق كانت محاطة بستر يمنعها من الظهور، والهول: هو الفزع، فيكون الفزع هو الذي يصونها، أي يحفظها.

المرحلة الثالثة: مرحلة إقران العدم، أي ان هذه الخلائق لولا بعث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لكانت معدومة من نعمة الظهور والفوز بالخلود بالجنة نتيجة للطاعة وتجنباً للمعصية.

3. بيان العلة في تقديم حركة تاريخ الخليفة، - أي: النبوة - على حركة تاريخ الخليقة هو لما يلي:

أ. علم الله تعالى بما تؤول إليه الأمور.

ب. إحاطته عز وجل بحوادث الدهور، أي الأزمنة.

ج. معرفته تعالى بمواقع المقدور، وفي رواية بمواقع الأمور.

فهذه الأسباب كانت وراء تقديم حركة تاريخ النبوة على حركة تاريخ الخلق، أي الخليفة قبل الخليقة.

4. إنّ الحكمة في بعث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كانت فيما يلي:

أ. إتمام لأمر الله تعالى.

ب. عزيمة على إمضاء حكمه الله تعالى.

ص: 236

ج. وإنفاذ لمقادير حتم الله تعالى.

وعليه؛

يظهر مما تقدم فوائد تحديد سيدة النساء عليها السلام لنقطة انطلاق الحركة التاريخية للنبوة.

المسألة الثالثة: وقائع الحركة التاريخية الأممية

ثم تنعطف سيدة النساء عليها السلام بعد بيانها لبدء الحركة التاريخية للنبوة إلى الحركة التاريخية الأممية من خلال سير الرسالة المحمدية في الأمم، فتسجل الحركة التاريخية للنبوة ما رأته من وقائع في الأمم السابقة.

فقالت عليها السلام:

«فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها»(1).

بمعنى:

أن النبي الأعظم عليها السلام في أثناء الحركة التاريخية لنبوته رأى أربع وقائع في الأمم السابقة.

وهي الآتي:

الواقعة التاريخية الأولى: أن هذه الأمم متفرقة في أديانها، بمعنى أن كل أبناء

ص: 237


1- الاحتجاج للطبرسي، خطبة الزهراء عليها السلام: ج 1، ص 133. الانتصار للعاملي: ج 7، ص 368.

ملة واحدة ودين واحد متفرقون في دينهم.

الواقعة التاريخية الثانية: أنّ هذه الأمم عكف على عبادة النيران.

الواقعة التاريخية الثالثة: أنها تعبد الأوثان.

الواقعة التاريخية الرابعة: أنها منكرة لله مع عرفانها بالخالق عز وجل وهذا أعلى مراتب الجحود.

وعليه:

كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح هذه الأمم ؟.

قالت عليها السلام:

«فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلا عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم»(1).

وهنا: بيان لإنجازات النبوّة المحمدية في حركتها التاريخية الأممية؛ بمعنى: أنّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حينما تقدم خلقه على خلق الأمم فكانت حركة تاريخ النبوة أقدم من حركة تاريخ الأمم لزم ذلك أن يكون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد شاهد سلوك تلك الأمم منذ أن قدر الله تعالى لها العيش على هذه الأرض واختلاف أزمانها وتنوع أجناسها وألوانها وألسنتها وأنبيائها الذين بعثهم الله تعالى إليها.

ص: 238


1- الاحتجاج للطبرسي، خطبة الزهراء عليها السلام: ج 1، ص 133.

وهو ما دلّ عليه القرآن الكريم بقوله تعالى:

فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً(1) .

إذن:

اقتضت الحركة التاريخية النبوية أن تكون شاهدة على الحركة التاريخية الأممية ومدونة للوقائع التاريخية التي وقعت في الأمم السابقة.

«فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلا عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه وآله من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي نبيه، وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته».

المسألة الرابعة: حركة تاريخ العرب قبل الإسلام في نظر سيدة النساء عليها السلام

كثرت الدراسات حول تاريخ العرب قبل الإسلام وبيان الجوانب الاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية لهم، وتشابهت هذه الدراسات قديما وحديثا في بيانها للوضع المزري لهم على هذه الأصعدة دون التركيز على دور الرسالة المحمدية

ص: 239


1- سورة النساء، الآية: 43.

وجهد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده في نقل هذه الأمة من الحضيض إلى القمة، ومن الهمجية إلى التمدن والحداثة.

وإذا أرادت بعض هذه الدراسات الحديث عن ذلك فإنها تمرّ عليه مرورا عابرا. في حين أننا نجد أن بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حينما تتحدث عن حركة تاريخ العرب قبل الإسلام وتبين الجوانب الاجتماعية والثقافية والعقائدية لهم تتبعها بالتغير الجذري لسلوك هذه الأمة وحركتها من خلال دور النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في هذا البناء الجديد للأمة.

فتقول عليها السلام:

«وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الاقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد والورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تعالى بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

ورصدها عليها السلام للحياة التي كان عليها العرب قبل الإسلام كان مبنيا على الأسس البنائية للمجتمع العربي بحيث إن هذا البناء المتآكل والمتصدع أوشك على السقوط والانهيار.

ص: 240


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي، خطبة الزهراء عليها السلام: ج 3، ص 35. الاحتجاج للطبرسي، خطبة الزهراء عليها السلام: ج 1، ص 135 و 136. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 236، خ 9.

والزهراء عليها السلام حينما تستعرض الحالة العامة لتاريخ العرب تجمع فيما بين الحياة الدنيوية والأخروية بجعل المقدمات التي كانت سببا في إيجاد الخليقة هي خاضعة ومرتبطة بالنتائج التي سنها الله تبارك وتعالى في سلوك هذه الخليقة، ولذا قالت:

«وكنتم على شفا حفرة من النار».

أي إشارة إلى تحقيق نتيجة هذا السلوك في الآخرة مع تحقق نتيجته في الحياة الدنيا.

ثم تنعطف عليها السلام إلى بيان الوضع النفسي العام لهذه الأمة، وهذه خصوصية خاصة إذ اعتادت الدراسات على تشخيص الحالة النفسية منفردة لكل شخص في المجتمعات، أو انها تهمل دراسة الحالة النفسية للمجتمع ككل، لكن الزهراء عليها السلام تتحدث عن الوضع النفسي العام الذي أصبح عليه العرب قبل الإسلام، وهي بذاك تعطي بيانا للمستوى الذي يشترك فيه الجميع كنتيجة طبيعية لتوحد الجميع في السلوكيات الفردية فأصبح سلوكا جماعيا واحدا عند الجميع. وهو ما أشار إليه قوله تعالى:

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (1) .

أي أصبح الجميع على سلوك واحد، وهو الأمر الذي أشارت إليه عليها السلام في بيانها لصفات هذا السلوك الجماعي، وهي «مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام».

ص: 241


1- سورة الرعد، الآية: 11.

فهنا تحدد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام أربع صفات خاصة بالمستوى النفسي للعرب وهي بمجموعها تدلل على الانهيار والخوف، والمذلة، بحيث أصبحوا بفعل هذه الحالة (مذقة الشارب) أي: استلذاذ الآخرين بهم، لأن المذقة هي (الشربة من اللبن الممزوج بالماء)(1).

و (نهزة الطامع)، أي: أصبحوا من الضعف فرصة لكل طامع وغنيمة يغتنمها الطماع(2).

و (قبسة العجلان) وهنا تعطي صورة أخرى للمستوى الذي بلغ إليه العرب من الضعف بحيث كانوا حتى بالنسبة للشبعان الذي ليس له رغبة في السلب، أن يأخذ منهم أي شيء فذاك أفضل من أن يفوته كل شيء، وما ذاك إلا لشدة ضعفهم وتشتت أمرهم.

وهذه الصفة لها بيان آخر: وهو أنهم أصبحوا نهبا لكل من مرّ بهم، وأن هذا النهب والسلب كان سريعا، لأن القبس هو شعلة من النار، والعجلان اسم سمي به شهر شعبان لقصر الصيام فيه ولانقضائه سريعا(3).

ومن كان هذا حالهم، فهم موطئ الأقدام يسحقون كما تسحق الهوام، أذلة خاسئين يخافون أن يتخطفهم الذين من حولهم من الفرس والروم، وهم الذين

ص: 242


1- مجمع البحرين للطريحي: ج 5، ص 235.
2- أنظر: لسان العرب لابن منظور: ج 5، ص 421، مادة (نهز). كتاب العين للفراهيدي: ج 4، ص 15.
3- أنظر لسان العرب لابن منظور: مادة (عجل) ج 11، ص 426 و 429. وانظر منه مادة (قبس) ج 6، ص 167.

أشارت إليهم بلفظ الناس فيقودونهم عبيدا رجالا ونساءً .

وعليه؛ كيف ستقوم لهم قائمة ؟، بل كيف يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم الذل والمهانة والهوان وهم هذا حالهم ؟!.

وهم مع هذا الضعف والذل كانوا يعيشون بطريقة همجية أقرب ما تكون حيوانية نتيجة لتفشّي الجهل والفقر والذل، فطباعهم ليست طباعاً بشرية، فقد كانوا يأكلون (القَدّ)(1) وهي جلود الحيوانات! ويشربون الطّرْق(2).

أي: ماء السماء الذي يتجمع في حفر صغيرة فتبول به الإبل وتبعر!، بمعنى: أن حتى هذه الحيوانات لا تشرب من هذه الحفر، فأي مستوى من التردي والانحطاط على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية كافة كان حال العرب قبل الإسلام.

ولذلك: بعد هذا البيان لتاريخهم اتبعته عليها السلام ببيان آخر وهو أن الحياة الكريمة التي أصبحوا عليها بعد مرور ثلاث وعشرين سنة، - وهي الفترة الزمنية التي عاشها النبي الأعظم بعد البعثة - كان السبب الأول فيها هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. ولذا قالت:

(فأنقذكم الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن كيف كانت عملية الإنقاذ هذه ؟! سؤال تجيب عليه سيدة النساء فاطمة عليها السلام ببيان آخر تعرض فيه تاريخ حركة السيرة النبوية.

ص: 243


1- انظر لسان العرب لابن منظور: مادة (قدد) ج 3، ص 344.
2- لسان العرب لابن منظور: مادة (طرق).

المسألة الخامسة: بيان إنجازات النبوة في حركتها التاريخية

اشارة

من الملاحظات التي لوحظت في عرض السيدة فاطمة عليها السلام لحركة التاريخ هو تتبعها بشكل دقيق لمراحل تطور البشرية، أي: أنها تمزج في هذا العرض عامل الزمن كمصداق لمفردة الحركة مع عامل التاريخ الذي يكون مصداقا للحدث.

وهنا: تقوم بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعرض الحركة التاريخية للسيرة النبوية في ثلاثة محاور.

المحور الأول لهذه الحركة التاريخية يتمثل في شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

المحور الثاني لهذه الحركة التاريخية يتمثل في عمل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

المحور الثالث لهذه الحركة التاريخية يتمثل في النتائج التي حققها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. محاور حركة تاريخ النبوة:

المحور الأول

تبدأ عليها السلام في بيان هذا المحور بقوله تعالى:

لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (1) .

ص: 244


1- سورة التوبة، الآية: 128.

والآية تبين ثلاثاً من صفات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

الأولى: «علاقته صلى الله عليه وآله وسلم بأمته».

والثانية: «صفاته الشخصية فهو عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم».

والثالثة: «إنه عربي ومن قريش».

وهذا بحد ذاته يعطيهم زخما نفسيا ومعنويا؛ ثم تنطلق بعد هذه الآية فتقول:

«فإن تعزوه وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

لأن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أنقذهم من الهلاك والموت والاندثار، لذا قالت عليها السلام تجدوه أبي دون نساءكم.

هنا:

بيان لحفظ هذا الشخص الذي أنقذهم من خلال حفظ ابنته، وأن لها خصوصية خاصة بهذه الكينونية.

وأن ابن عمها علي بن أبي طالب عليه السلام وهو زوجها له دونهم مثل ما لها من الخصوصية المرتبطة بشخص هذا الرجل الذي أنقذهم من الهلاك والموت والاندثار.

ص: 245


1- الاحتجاج للطبرسي، خطبة الزهراء عليها السلام: ج 1، ص 134 و 135.

لكنها وجدتهم قد أخلوا بهذا الجانب خللاً شديدا؛ ولذا قالت: (ولنعم المعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم) وهي في نفس الوقت قد لوحت في هذا المحور بتحرك السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة كما سيمر بيانه.

المحور الثاني

وفي المحور الثاني في عرضها عليها السلام للحركة التاريخية للسيرة النبوية تقوم ببيان العمل الذي قام به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فتقول:

«فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة(1) المشركين، ضاربا ثبجهم(2)، آخذا بأكظامهم(3)، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف الأصنام(4)، وينكث الهام(5)، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر»(6).

المحور الثالث

ثم بعد إيرادها لما قام به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من عملٍ انعطفت عليها السلام على إيراد النتائج، فقالت:

ص: 246


1- المَدْرَجَةُ ، الطريق: معظمه وسننه. لسان العرب: مادة (درج)، ج 2، ص 267.
2- الثبج، ثبج كل شيء: معظمه، ووسطه، وأعلاه، والجمع أثباج (لسان العرب): مادة (ثبج).
3- الكظيم، المكروب، ويقال: أخذ بكظمه فما يقدر أن يتنفس، أي أخذهم صلى الله عليه وآله وسلم فجعلهم لا يقدرون أن يتنفسوا، أنظر كتاب العين: مادة (كظم)، ج 5، ص 345.
4- جُف الطلعة وعاؤها الذي تكون فيه، وجُف الشيء: شَخْصُه. لسان العرب: مادة (جفف).
5- النكث: هو التفريق، والهام: هو الدماغ، فيكون المعنى: أنه صلى الله عليه وآله وسلم فرق ما عليه فكرهم الضال المنحرف.
6- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 135. بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 29، ص 263.

«حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين وطاح وشيظ(1) النفاق وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(2)»(3).

المسألة السادسة: حركة تاريخ الصحابة وأهل البيت عليهم السلام في حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

بعد ذكرها عليها السلام لبيان الحركة التاريخية للسيرة النبوية وبيان إنجازاتها وجهادها ممثلا في ثلاثة محاور تنتقل بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك لبيان الحركة التاريخية لسير الصحابة وأهل البيت عليهم السلام أثناء حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

وحينما نقف عند معاني هذا البيان، نجد أن الزهراء عليها السلام تحدد مسارين لهذه الحركة التاريخية التي رافقت سير الدعوة النبوية.

المسار الأول: الحركة التاريخية لمسير بعض الصحابة. المسار الثاني: الحركة التاريخية لمسير أهل البيت عليهم السلام ومعهم نفر من الصحابة.

ص: 247


1- الوشيظ، كأمير: الأتباع والخدم والأحلاف. «تاج العروس، الزبيدي: ج 10، ص 497».
2- الخميص، عفيف البطن عن أموال الناس. «لسان العرب: ج 7، ص 30».
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 135. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 263.
أولاً: دلالة تحديد الحركة التاريخية لكلا المسارين

ألف - إن هذا التحديد في مسار الحركة التاريخية لسير بعض الصحابة وأهل البيت عليهم السلام أثناء حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهر أن هذه الفترة الزمنية كانت تشهد تجمعين وأن لكل منهما صفاته وإنجازاته وأهدافه.

باء - إنّ هذين المسارين أخذا بالاستقلال في حركتهما التاريخية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحيث أصبح لكل منهما مدرسته الخاصة به وله أتباعه وتلاميذه الذين ينهلون منه أحكامهم وعقائدهم.

جيم - ظهور بعض الخلافات بين أنصار أعمدة هذين المسارين في هذه الفترة الزمنية بسبب اختلاف الرؤى في فهم الرسالة المحمدية وطريقة التعايش معها.

دال - التباين في إنجازات كلا المسارين في الجهاد الميداني في ساحات الحروب أو الجهاد البنائي في نشوء المجتمع الجديد.

ثانيا: تباين المسارين في الحركة التاريخية

إن من يقرأ التاريخ الإسلامي بعين البصيرة والبحث العلمي والموضوعي ليرى بوضوح هذا التباين لكلا المسارين في الحركة التاريخية للسيرة النبوية في أثناء حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

أما من أناخ في رحاب مدرسة العترة الطاهرة فإنه ليجد الحقائق تتلألأ دون جهد أو عناء. لاسيما وهو ينظر في كلمات بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تتحدث عن سير الحركة التاريخية في هذه الفترة الزمنية من بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم وفاته. فتقول عليها السلام:

ص: 248

«وبعد أن مني - النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ببهم(1) الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان(2) أو فغرت(3) فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها(4)»(5).

قبل أن تُظهر بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم صفات كلا المسارين التاريخيين تبدأ بذكر ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهد وجهاد في نشر الإسلام، ثم تعرض بعد هذه المقدمة حقيقة كلا المسارين في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته التي جاء بها.

فتبدأ بذكر الحركة التاريخية لمسار أهل البيت عليهم السلام في هذه الفترة الزمنية من عمر الرسالة المحمدية، فتقول:

«قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ(6) حتى يطأ صماخها(7) بأخمصه(8).

ص: 249


1- بهم الرجال: شجعانهم. (الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136).
2- نجم: ظهر، وقرن الشيطان: أمته تابعوه. القرن: الروق من الحيوان، موضعه من رأس الإنسان وهو حد الرأس وجانبا. (تاج العروس للزبيدي: ج 18، ص 443).
3- فغرفاه: أي فتحه، والفاغرة من المشركين: الطائفة منهم. (الصحاح للجوهري: ج 2، ص 782).
4- قذف: رمى، واللهوات بالتحريك: جمع لهاة اللحمة في أقصى شفة الفم. (الصحاح للجوهري: ج 6، ص 2487).
5- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 224.
6- ينكفئ: يرجع فانكفؤوا أي رجعوا. (الصحاح للجوهري: ج 1، ص 67).
7- الصماخ: فرق الأذن. (الصحاح للجوهري: ج 1، ص 426).
8- الأخمص ما لا يصيب الأرض من باطن القدم. (تاج العروس للزبيدي: ج 9، ص 275).

ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا(1) في ذات الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، وأنتم....»(2).

ثم بعد بيانها للحركة التاريخية لمسار أهل البيت عليهم السلام ممثلا في هذه الفترة بشخص علي أمير المؤمنين عليه السلام مع توصيف بلاغي دقيق في دلالته وبيانه لكيفية سلوك الإمام علي عليه السلام في هذه الفترة، فتبدأ أولاً ببيان منزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته الإيمانية فتختار من تلك المنازل، منزلة المؤاخاة، فتقول: «فقذف أخاه في لهواتها».

بمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يرى يقدم المشركون أو المنافقون يقدمون على إشعال نار الفتنة أو الحرب فإن أول شيء يقوم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في محاربة هذا الفساد أن يقذف أخاه علياً في عمق فم الحرب، وهو «اللهاة».

ثانياً: تُبين سيدة النساء عليها السلام في عرضها الحركة التاريخية لمسار أهل البيت عليهم السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن الوقائع التاريخية التي سجلتها هذه الحركة تمثلت بما يلي:

1. إنّ الإمام علياً عليه السلام لا يرجع من الحرب «حتى يطأ صماخها بأخمصه»، أي: يطأ وسط رأس هذه الفتنة بباطن قدمه وهو الأخمص.

ص: 250


1- بئر كدود، إذا لم ينل ماؤها إلا بجهد.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 224.

2. يخمد لهب هذه النار بسيفه وهو كناية عن قتل رؤساء الفتنة.

3. مكدوداً، أي مجداً مجتهداً في ذات الله تعالى.

4. قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفارقه مع وجود رتبة القرابة الإيمانية والرحمية.

5. سيداً في أولياء الله تعالى.

هذه الوقائع التاريخية لمسار حركة تاريخ أهل البيت عليهم السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابلها تسجيل للوقائق التاريخية لمسار حركة تاريخ بعض الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فكانت كالآتي:

قالت عليها السلام:

«وأنتم - أي: المهاجرون والأنصار - في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون(1) الأخبار وتنكصون(2) عند النزال، وتفرون من القتال»(3).

فأول هذه الوقائع التاريخية هو: انهم كانوا في رفاهية من العيش، أي لم

ص: 251


1- تتوقعون أخبار المصائب والفتن النازلة بنا، التوكف: التوقع، يقال: مازلت أتوكفه حتى لقيته. (الصحاح للجوهري: ج 4، ص 1441).
2- النكوص: الأحجام عن الشيء، ويقال: نكص على عقبيه، ينكص وينكص، أي رجع. (الصحاح للجوهري: ج 3، ص 1060).
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136.

تشغلهم تلك الفتن التي يثيرها المشركون في المجتمع الإسلامي.

ثانياً: «وادعون» أي أنهم يتركون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته وتلك الثلة من أصحابه التي وصفتها بالنفر البيض الخماص يواجهون الأخطار.

ثالثاً: «فاكهون» قد انصرفوا إلى ملذات المعيشة من الأكل والشراب في حال كان النبي وأهل بيته وأولئك النفر البيض الخماص في جهد وجهاد وزهد وكفاف.

رابعاً: «آمنون» لم يشتركوا في الحروب لا بأنفسهم ولا بأهليهم ولا بأموالهم ولذا هم آمنون بتركهم الجهاد وهم آمنون بفعل اتكالهم على جهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ونفر من أصحابه رضي الله عنهم.

خامساً: من الوقائع التاريخية لمسير بعض الصحابة انهم كانوا يتربصون بأهل البيت عليهم السلام الدوائر وهذا اللفظ من بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يظهره القرآن في بيانه للوقائع التاريخية للمنافقين والأعراب.

فقال تعالى:

إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّٰهِ قٰالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كٰانَ لِلْكٰافِرِينَ نَصِيبٌ قٰالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(1) .

ص: 252


1- سورة النساء، الآية: 140-141.

وقال عز وجل:

وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوٰائِرَ عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) .

سادساً: «وتتوكفون الأخبار»، أي: كانوا يتوقعون الأخبار السيئة بأهل البيت عليهم السلام ليفرحوا بها.

سابعاً: «تنكصون عند النزال»، النكص؛ الإحجام، أو التراجع، أي: كانوا يتراجعون عند النزال فلا يواجهون الخصم بسبب الخوف لكونهم جبناء.

ثامناً: ومن الوقائع التاريخية التي سجلت لأولئك الأعراب انهم كانوا يفرون في القتال، والفرق بين النكوص عند النزال وبين الفرار؛ وان كان السبب في حدوثهما واحداً وهو الخوف والجُبن؛ فان النكوص أو التراجع يكون في المواجهة الفردية شخصاً لشخص والفرار في القتال يكون في الأغلب عند اشتباك القوم جميعاً.

فعندها لا يميز بين من يقاتل بشجاعة في الوهلة الأولى على من اختار الفرار وهي فرصة لمن رغب بذلك كي لا يفتضح أمره ويُشخص.

ولذلك:

يعد الفرار أكبر ضرراً من التراجع لما يحدثه من ضرر على الجماعة أو الجيش.

ولذا: عدّ الفرار من الذنوب الكبائر.

ص: 253


1- سورة التوبة، الآية: 98.

هذا التباين الواضح في الوقائع التاريخية لكلا المسارين ألقى بثقله على الحركة التاريخية للإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مما أدى إلى تقديم التاريخ بوجهين مختلفين تكونت ملامحهما في أروقة المدارس التاريخية الإسلامية في المدينة والكوفة والشام، وقد أخذت السياسة الحاكمة من تحديد هذه الحركة التاريخية مأخذاً كبيراً فغيبت وقائع وغيرت حقائق لا يسعنا ذكرها(1).

بل: قد تدخلت السلطات الحاكمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل جذري في الحركة التاريخية لكلا المسارين.

وجدير بنا ونحن ندرس الحركة التاريخية عند بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نستوفي ما جاء عنها عليها السلام في بيان هذه الحركة ومراحل تنقلها حسبما وضعته الزهراء عليها السلام من محطات زمنية لهذه الحركة التاريخية التي ابتدأتها من نقطة الانطلاق الأولى لتاريخ خلق الوجود وإلى انتهاء عمر الدنيا، وما ارتبط بهذه الحركة التاريخية من سنن إلهية رافقت الأمم السابقة وسترافق هذه الأمة.

المسألة السابعة: الحركة التاريخية للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

من المحطات التي عرضت فيها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحركة التاريخية الكونية، هي الفترة الزمنية التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله

ص: 254


1- أنظر: الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد، للمؤلف. وهي دراسة في نشأة علم السيرة وتطوره خلال القرن الأول والثاني للهجرة.

وسلم والتي توضح فيها حركة تاريخ المسلمين. فتقول عليها السلام:

«فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة(1) النفاق، وسمل جلباب(2) الدين، ونطق كاظم الغاوين(3)، ونبغ خامل الأقلين(4)، وهدر فنيق المبطلين(5)، فخطر في عرصاتكم(6)، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه(7) هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم(8) فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر، ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة.

ص: 255


1- الحسك: ما يعمل من الحديد على مثاله، وهو من آلات العسكر، وقولهم: في صدره، على حسيكة وحساكة، أي منغن وعداوة. (الصحاح للجوهري: ج 4، ص 1579).
2- ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على مدرها. (مجمع البحرين للطريحي: ج 1، ص 384، باب ج).
3- الضالين: غوي، الغي: الضلال والخيبة.
4- الخامل: من خفي ذكره وكان ساقطا لا نباهة له. (الصحاح للجوهري: ج 4، ص 1689).
5- الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته. (الصحاح للجوهري: ج 2، ص 852). الفنيق: النمل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان. (الصحاح للجوهري: ج 4، ص 1545).
6- خطر: خطر البعير بذنبه إذا رفعه مرة بعد مرة ومزب به فخذيه. (تاج العروس للزبيدي: ج 6، ص 357). العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. (الصحاح للجوهري: ج 3، ص 1044).
7- مغرزه: أي ما يختفي فيه تشبيها له بالقنفذ فإنه يطلع رأسه بعد زوال الخوف.
8- أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه.

أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ (1) »(2).

وهذا البيان الذي تعرض فيه الزهراء عليها السلام سير الحركة التاريخية للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تضمن ميزات عدة، وهي كما يلي:

أولاً

فضلاً عن بيانها عليها السلام للحركة التاريخية للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها تخص ضمناً أول السنن التاريخية وقوعاً لهذه الأمة.

ثانياً

إظهار للنتائج التي أعقبت المقدمات وهي الوقائع التاريخية للمسلمين في هذه الفترة الزمنية.

ثالثاً

تحديد دقيق لعامل الزمن الذي بدأت فيه الحركة التاريخية للمسلمين بمرحلة جديدة، أي: من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين مواراته في روضته المقدسة وهي ثمان وأربعون ساعة.

فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين ثم ووريّ الثرى

ص: 256


1- سورة التوبة، الآية: 49.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136 و 137.

ليلة الأربعاء(1).

فعلى رغم قصر هذه الفترة الزمنية إلاّ أنها شهدت من الوقائع التاريخية الشيء كثير؛ فكيف كانت صورة الحركة التاريخية للمسلمين التي بدأت عجلاتها بالدوران وهي تسجل مرحلة جديدة من السير؟

المسألة الثامنة: الوقائع التاريخية التي كانت مقدمات للسنن الأممية

اشارة

تستعرض سيدة النساء فاطمة عليها السلام ما حدث من الوقائع التاريخية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تعد مقدمات لوقوع السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة، فها هي اليوم قد وقعت في أمة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

فكانت نتيجة حتمية لما شهدته المرحلة الأولى من الحركة التاريخية للمسلمين أثناء حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتباين المسارين فيها، أي مسار أهل البيت عليهم السلام مع نفر من الصحابة، يقابلها أصحاب المسار الثاني وهم الأعراب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

والسبب في حدوث هذين المسارين - كما أسلفنا - نردّه إلى اختلاف الرؤى والفهم والاعتقاد بالنبوة.

تستعرض سيدة النساء عليها السلام تكملة هذا المسار الذي ظهرت مكوناته بصورة مموهة من خلال الوقائع التاريخية التي مرّ ذكرها في حياة رسول الله صلى

ص: 257


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، ص 305.

الله عليه وآله وسلم إلى واقع علني يضرب بقوة في حركة تاريخ المسلمين مسجلا فيه عدداً من الوقائع التاريخية المتسارعة الحدوث والتي خلفت آثاراً ونتائج متسارعة أيضاً، وهي كالآتي:

قالت عليها السلام:

«فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم».

فما الذي ظهر في الوقائع التاريخية في المسلمين ؟

الواقعة التاريخية الأولى: (حسكة النفاق، أو حسيكة النفاق)

وهي: الحقد، والعداوة، والضغن، وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«إن الرجل يعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسيكة»(1).

أي: حقد.

أي: أن هؤلاء الأعراب قد بلغ النفاق في قلوبهم أعلى درجاته بحيث تحول إلى حقد وعداوة وبغض وهي حقيقة قرآنية ونبوية.

أما القرآن الكريم فيقول تعالى:

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَهُمُ اَللّٰهُ مَرَضاً(2) .

وأما النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقد أوضح الطبيعة السلوكية

ص: 258


1- المصنف - للصنعاني، باب: غلاء الصداق، ج 6، ص 174.
2- سورة البقرة، الآية: 10.

للنفاق وارتباطها بالقلب من حيث تعلق حالة الحب والبغض به.

أي: ان الحب والبغض حالتان وجدانيتان ونفسيتان من لوازم القلب، فإذا مرض القلب بالبغض بفعل النفاق انعكس ذلك على السلوكيات فيترجم في علاقة المسلم بعلي بن أبي طالب عليه السلام.

قال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»(1).

ولذلك ظهر هذا النفاق بعد أن ملئ القلب وسيطر على المشاعر فانقاد الذهن له أن أدى إلى العداوة والحقد، لان البغض أول مراتب النفاق وهو حاصل من خلال بغض الأعراب والمنافقين للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كما ورد في الحديث النبوي.

إذن؛

أول الوقائع التاريخية ظهوراً في حركة تاريخ المسلمين هي ترجمة النفاق إلى واقع سلوكي شوهد على الأرض من خلال معاداة أهل البيت عليهم السلام.

الواقعة التاريخية الثانية: (سمل جلباب الدين)

وبيان هذه الواقعة التاريخية يحتمل بعض الوجوه، وهي كالآتي:

ألف. إن طبيعة المنافق أن يتظاهر بالإيمان ويبطن الكفر، بمعنى تراه حاضراً في

ص: 259


1- مسند أحمد بن حنبل، مسند علي بن أبي طالب عليه السلام: ج 1، ص 95، سنن الترمذي: ج 5، ص 307.

مواطن المظاهر الإسلامية كالمساجد والصلاة فيها أو الذهاب إلى بيت الله تعالى لأداء فريضة الحج والعمرة وغيرها من المظاهر الإسلامية التي تعد جميعها ثوب الدين وهو الذي عبرت عنه السيدة الزهراء عليها السلام بالجلباب.

الا أن الواقعة التاريخية التي كشفت سلوكيات هؤلاء الأعراب هو تركهم لهذه المظاهر علناً دون أي رادع يردعهم عن ذلك.

وعليه؛ فيكون بيان هذه الواقعة التاريخية: هو انحسار هذه المظاهر الدينية لدرجة التحريف في الثوب.

الوجه الآخر: أن يكون المعنى من هذه الواقعة التاريخية هو منع أهل البيت عليهم السلام من القيام بدورهم من كونهم الستر الذي يستتر به المسلم على دينه، فلا يقع في الضلال والفتن والشبهات، ولذا فهو أصبح اليوم مهتوك الستر ترد عليه الشبهات والفتن فترديه في دينه فيهلك، ويهلك معه دينه.

ومما يدل عليه:

ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان هذا المعنى.

1. قال عليه السلام:

«هُدي من تجلبب بجلباب الدين»(1).

وقطعاً لا يراد بالهدى الذي يهتدي به الإنسان هو هذه المظاهر التي يشترك في أدائها المؤمن والمنافق كالصلاة مثلاً.

وإنما الجلباب الذي يهتدي من تجلبب به هو الولاية لأهل البيت عليهم

ص: 260


1- عيون الحكم والمواعظ: ص 512.

السلام، كما أوصى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أمته بذلك قائلاً:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض؛ وأهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي»(1).

2. في خطبة له عليه السلام يخاطب بها المسلمين لاسيما أولئك الذين تصدوا لتحديد مسار الحركة التاريخية لبعض الصحابة فيقول:

«سترني عنكم جلباب الدين، وبصّرنيكم صدق النية»(2).

قال ابن أبي الحديد في بيان معنى هذا الحديث: إن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني مع علمي بنفاقكم؛ وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصدق نيتي، كما يقال: «المؤمن يبصر بنور الله»(3).

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة عما يجري من بعده، ولاسيما هذه الوقائع التاريخية فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«فأنت أول من تلحقين بي مظلومة مغصوبة، وسوف تظهر بعدي حسيكة النفاق ويسمل جلباب الدين، أنت أول من يرد علي الحوض»(4).

ص: 261


1- مختصر تاريخ دمشق لابن منظور: ج 3، ص 478.
2- الإرشاد، للمفيد: ج 1، ص 254؛ الجمل، لابن شدقم المدني: ص 152؛ البحار: ج 32، ص 237.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 207.
4- البحار للمجلسي: ج 36، ص 288.
الواقعة التاريخية الثالثة: (نطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين)

يمكن أن نستظهر من خلال هذه الواقعة التاريخية المتسارعة في ظهور السنن التاريخية الحقائق التالية:

ألف - هذه العناوين الثلاثة تدل على تشكل ثلاث مجموعات في المجتمع الإسلامي في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأنّ هذه المجموعات لها قادة. إلا أن ظهورها على الساحة كان عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه المجموعات هي:

أولاً: مجموعة الغاوين.

ثانياً: مجموعة الأقلين.

ثالثاً: مجموعة المبطلين.

هذه المجموعات الإسلامية تبلورت على الحيثية العقائدية لا الاجتماعية الخاضعة لضوابط الأحساب والأنساب والفقر والغنى وحدودها، وانما ارتكزت على العقيدة بالنبوة حركة تاريخية لهذه الأمة بدأت منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا فالحديث يدور حول تشكل فرق عقائدية ضمن أنماط وسلوكيات خاضعة لمفاهيم محدودة في التعاطي مع النبوة ومن اعتقد بها.

وأن هذه المجموعات أو الفرق الدينية قد لعبت دوراً مميزاً في توجيه الحركة التاريخية للمسلمين، ناهيك عن امتيازها في وضع حجر الأساس بسريان السنن التاريخية في هذه الأمة.

ص: 262

وهو ما أظهرته سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتيها الاحتجاجيتين العامة والخاصة(1).

باء - إنّ أئمة هذه المجموعات كانوا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأثناء سير الحركة التاريخية للمسلمين في حالة من التخفي والإهمال والانزواء، بل لم يكن لهم ظهور قيادي لهذه المجموعات.

والسبب في ذلك يعود إلى ثلاثة أمور:

1. خوفاً من أن يقدموا على عمل يكشف حقيقة اعتقادهم بالنبوة فلا يستطيعوا بعد ذلك القيام بما يخططون له، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمٰا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اَللّٰهَ مُخْرِجٌ مٰا تَحْذَرُونَ (2) .

وقد أشارت إليه الزهراء عليها السلام في قولها:

«تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار».

أي يتبعون الأخبار ويتوقعون حدوث أمر سيّئ كي يبادروا إلى ما عزموا عليه وترصدوا له.

ص: 263


1- الخطبة الاحتجاجية العامة ألقتها سيدة النساء فاطمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمّا خطبتها الاحتجاجية الخاصة فهي التي كانت مع بعض نساء المهاجرين والأنصار قبل وفاتها صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
2- سورة التوبة، الآية: 64.

2. إن مكوناتهم النفسية لم تسمح لهم من البروز فهم من حيث التنشئة الاجتماعية قد تربوا على الخمول والنبذ، لم يلاقوا أي اهتمام أو عناية إما لكونهم أعراباً وإما لأنهم عبيد عند أشراف قريش ووجهائها فهم بتلك التنشئة الاجتماعية مسرعون في الإغواء يتبعون كل باطل. حتى ظهر فيهم من كان أرذلهم بحيث لا يملك القدرة على الإفصاح وهو ما عبرت عنه بضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقولها:

«ونطق كاظم الغاوين».

وهم بفعل هذه المكونات النفسية والنشوئية التي جعلت منهم أقل الناس شأناً لا يستطيعون الحركة أو التعايش مع الناس، فهم في خمول وركود إلا أن رحيل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مكّن أخمل هذه المجموعة من النبوغ أي الظهور والبروز بعد أن كان طابعه الكسل وشأنه الضمور والانزواء.

3. إنّ الدوافع الشخصية الممثلة في السعي من أجل بلوغ السلطة والجلوس في محل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعايشت الإمبراطوريات المعاصرة كالرومانية والفارسية دفعت بعض النفوس إلى الادعاء والسعي بأحقيتها بمقام الحاكمية التي كانت لهرم السلطة الدينية الممثلة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا أطلق عليها لفظ الخلافة.

فهؤلاء أسمتهم سيدة النساء فاطمة صلى الله عليه وآله وسلم ب - «المبطلين»، ثم شخصت عليها السلام في بيانها لرموز هذه الواقعة التاريخية صفة قائد هذه المجموعة التي لم تكن تظهر نواياها في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 264

إلا أن وفاته كانت سبباً في تجمع هؤلاء ضمن معطيات نفسية واحدة وهي بلوغ السلطة.

إلا أن الذي تمكن البروز منهم هو «الفنيق»، والفنيق: لغة فحل الإبل، والهدر هو صوت البعير الذي يتلجج في عنقه.

ووصفها عليها السلام لقائد المبطلين بهذه الصورة هو لكونه أشدهم حرصاً على بلوغ السلطة والجلوس على سدّة الحكم.

وفي صورة أخرى تتحدث عن هذه المرحلة التاريخية وما أعقبتها من آثار ينقلها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لأقطاب الجمل، قال عليه السلام:

«بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا انفرجتم عن...».

إلى قوله:

«من وثق بماء لم يظمأ»(1).

لتشكل هذه الصورة وتلك اللتين نقلهما إلينا علي وفاطمة عليها السلام حقيقة الحركة التاريخية للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تبعها من وقوع للسنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة.

ص: 265


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 254؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1، ص 207.

المبحث السادس: السنن التاريخية عند فاطمة الزهراء عليها السلام

اشارة

مثلما كانت الحركة التاريخية تحظى باهتمام بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك هو حال السنن التاريخية، فقد ركزت عليها سيدة النساء فاطمة عليها السلام متبعة في ذلك النهج القرآني والنبوي في بيان السنن الإلهية وتوضيحها والتي أجراها الله عزّ وجل في الأمم السابقة.

وحيث أن هذه الأمة ستسير تبعا لما سارت عليه الأمم السابقة، لاسيما السنن التاريخية التي لحقت ببني إسرائيل؛ حسبما أوضحه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذه الأمة ستحذو في سيرها حذو الأمم السابقة؛ بل ستظهر في هذه الأمة بعض السنن التاريخية الجديدة التي لم تقع في الأمم السابقة كسنة قتل أولاد الأنبياء وما أعقبها من نتائج، وغير ذلك من السنن.

ص: 266

المسألة الأولى: سنة الوقوع في الفتنة بين المقدمات والنتائج

حينما تتحدث الزهراء عليها السلام عن هذه السنة التاريخية التي وقع فيها المسلمون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن حديثها مجرد استعراض لهذه السنة أو غيرها، أي لم تكن تتحدث عنها بوصفها حدثاً تاريخياً وقع وانتهى الحال.

وإنما تعطي المقدمات التي تهيأت لهذه السُنّة والنتائج التي أفرزتها فتبدأ أولا بذكر مقدمات الوقوع في الفتنة، فتقول:

«فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم»(1).

هذه المقدمات لتكوّن الفتنة ونشوئها، اتبعتها الزهراء عليها السلام ببيان لتفاعل هذه المقدمات ونموها وتكامل تكوينها، فتقول بعد أن تهيأت المقدمات التي مكنت الشيطان من إخراج رأسه من مخدعه، فتبعه نمو وتكامل ونضوج للفتنة، فتقول عليها السلام:

«وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم»(2).

وهنا مرحلة أخرى من نضوج الفتنة، وهي استظهار للسلوك العام، فتقول عليها السلام:

ص: 267


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136 و 137.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 136 و 137.

«ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا»(1).

أي:

أصبحوا في مرحلة النضوج والتكامل الفتني إلى ما قبل الانفجار، وهو أشبه ما يكون بالبركان الذي تجمع تحت قشرة الأرض ولم يبقَ لظهوره سوى وجود فتحة صغيرة.

وهذا الحال نفسه انعكس على الواقع الإسلامي في هذه الفترة الزمنية، فكانت النتيجة ما يلي:

قالت عليها السلام:

«فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم».

أي الوقوع في التيه بعد فترة قصيرة جدا من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف سيكون حالكم بعد سنين، وأي مستقبل سيكون لكم؛ ولذا قالت:

«هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر، ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة.

أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ (2) ».

أي: انكم جرت فيكم سنة الوقوع في الفتنة كما جرت في الأمم السابقة فهلكوا فيها.

ص: 268


1- المصدر السابق.
2- سورة التوبة، الآية: 49.

المسألة الثانية: سنة تضاعف النتائج

مثلما قدر الله عزّ وجل في الحياة الدنيا سنة مضاعفة نتائج الأفعال كنتيجة تدحرج كرة الثلج، أو سريان الموج في المحيطات، أو سريان النار في الغابات، وغيرها من الشواهد التي تتحدث عن هذه السنة الكونية في مضاعفة النتائج كذلك الحال في السنن التاريخية التي تتحدث عن سلوكيات الأمم والمجتمعات، بل والسلوك الفردي أيضا. وفي هذه السُنة التاريخية تقول الزهراء عليها السلام:

«ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها»(1).

أي: سوف لن يطول الأمر، بل ستتسارعون في مضاعفة نتائج الوقوع في الفتنة بزمن قصير كنفرة الدابة، ثم يسهل قيادة الفتنة في مضاعفة الانحراف فتتضاعف النتائج السلبية.

وتمضي عليها السلام في بيان هذه السُنة التاريخية فتقول:

«ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء، ويصير منكم على مثل حز المدى ووخز السنان في الحشاء، وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا.

أَ فَحُكْمَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (2) »(3).

ص: 269


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1. أعيان الشيعة لسيد محسن الأمين: ج 1، ص 316.
2- سورة المائدة، الآية: 50.
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 137 و 138. بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 29، ص 226.

هذا التسارع في مضاعفة النتيجة واتساع دائرة أضرارها هي من السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة، كقوم لوط الذين تضاعفت نتيجة سلوكهم في الاكتفاء بالرجال إلى تصميمهم على أن يخزوا لوطاً عليها السلام في ضيفيه وهم الملائكة؛ ثم تضاعفت النتيجة فعزموا على إخراج لوط وأهل بيته من قريتهم، قال تعالى:

وَ مٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (1) .

وفي قوم ثمود كانت هذه السنة من أظهر السنن التاريخية؛ إذ منّ الله عزّ وجل عليهم بآية بينة وحجة قطعية في كون صالح عليها السلام هو نبي الله قد أرسله إليهم حينما أخرج لهم من الصخرة ناقة يتبعها فصيلها.

فلما تمادى بعض قومه صلى الله عليه وآله وسلم فكذبوه وأنكروا هذه الآية الإلهية والمعجزة الربانية، بدأت هذه السنة التاريخية بالظهور؛ وهي مضاعفة النتيجة فكان انعكاسها على سلوكهم أن عقروا الناقة وفصيلها، ثم تتضاعف النتيجة وتتسع دائرة أضرارها وانحدارها بأن تحدوا الله ورسوله وطلبوا نزول العذاب، اعتقادا منهم بعدم صدق نبيهم، على الرغم من ظهور الناقة من صخرة صماء ملساء يتبعها فصيلها. قال تعالى:

وَ إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهٰا

ص: 270


1- سورة الأعراف، الآية: 82.

تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1) .

قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صٰالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قٰالُوا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ فَعَقَرُوا اَلنّٰاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قٰالُوا يٰا صٰالِحُ اِئْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ (2) .

فعلى الرغم من ظهور هذه الآية العظيمة إلا أنّهم كانوا ينكرون ويستكبرون في الأرض ويتمادون في الباطل، وهم لا يدركون أنها سنة كونية جرت في الماديات، كما تجري في السلوكيات البشرية.

ولذلك تذكرهم الزهراء عليها السلام بأن عندهم آية الله عزّ وجل ومعجزة النبوة التي تصدهم عن الضلال والتردي، لكن مقدمات الفتنة كانت قد سرت فيهم لتتسارع معها سنة مضاعفة النتائج. قالت عليها السلام:

«فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم. أرغبة عنه تريدون ؟ أم بغيره تحكمون ؟

ص: 271


1- سورة الأعراف، الآية: 73.
2- سورة الأعراف، الآية: 75-78.

بِئْسَ لِلظّٰالِمِينَ بَدَلاً(1) ، وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (2) »(3).

المسألة الثالثة: سنة تعجيل العذاب

هذه السنة التاريخية ترتبط مع سنة مضاعفة النتائج ارتباطا كبيرا؛ إذ يجرّ هذا التسارع في مضاعفة النتائج إلى حلول الدمار ونزول العذاب بصورة متناسقة فيما بين هاتين السنتين ككرة الثلج، كلما كبرت تسارعت وتضاعفت معها الأضرار.

تقول عليها السلام:

«فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة ب -:

نٰارُ اَللّٰهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ (4) .

فبعين الله ما تفعلون.

وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (5) .

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا

ص: 272


1- سورة الكهف، الآية: 50.
2- سورة أل عمران، الآية: 85.
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 137. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 225، الباب 11. دلائل الإمام لمحمد بن جرير الطبري الإمامي: حديث فدك ص 116.
4- سورة الهمزة، الآية: 6-7.
5- سورة الشعراء، الآية: 227.

منتظرون»(1).

ففي الوقت الذي تأخذ فيه السنن التاريخية استحقاقها من المجتمعات البشرية سواء أكانت نتائج الأفعال إيجابية أم سلبية؛ فإن من توابع هذه السنن أن ينتظر المظلوم ما يحل بالظالم من خاتمة لحياته.

كما أن صاحب الحق يكون مطمئناً بما ستؤول إليه عاقبة أمره، ولذا فهو في شوق وترقب لبلوغ نتائج السنن.

المسألة الرابعة: سنة انقلاب الأمم بعد أنبيائها

من السنن التاريخية التي وقعت في الأمم السابقة هي سنة انقلاب الناس بعد غياب أنبيائها أو موتهم؛ ويظهر أن هذه السنة التاريخية كانت قد وقعت في بني إسرائيل قبل موت موسى عليه السلام مما يكشف عن حجم هذه الفتنة وأثر هذه السنة.

ويبدو أن الحكمة في تذكير النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بتاريخ بني إسرائيل وما وقع فيهم من السنن الإلهية كان لأجل أن يحذر أمته من السير على نهج بني إسرائيل؛ إلا أن الأمر الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحقق له.

ولذلك نجد أن هذه الأمة قد حذت حذو بني إسرائيل في انقلابها على أعقابها، غير أن الفارق بين الأمتين أن أمة بني إسرائيل انقلبت في حياة نبيها موسى عليه السلام، وأن هذه الأمة انقلبت بعد موت نبيها صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 273


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 141.

والفارق أيضا: أن موسى عليه السلام لم يكن يعلم ماذا سيجري بعده أثناء غيابه وذهابه لميقات ربه، بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم بما سيؤول إليه أمر أمته من بعده؛ ولطالما صرح بذلك.

أما عدم علم موسى عليه السلام فقد أظهره القرآن.

قال تعالى:

وَ مٰا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يٰا مُوسىٰ قٰالَ هُمْ أُولاٰءِ عَلىٰ أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ قٰالَ فَإِنّٰا قَدْ فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّٰامِرِيُّ (1) .

وأما علم النبي المصطفى بحال قومه من بعده فقد صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى:

وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ (2) .

وأظهرته السنة، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنكم تحشرون حفاة عراة.

- إلى أن يقول -:

وأناسا من أصحابي فيؤخذ بهم ذات الشمال!! فأقول أصحابي أصحابي، فيقال إنهم

ص: 274


1- سورة طه، الآية: 83-85.
2- سورة آل عمران، الآية: 144.

لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم....»(1).

وروى مسلم في صحيحه، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك»(2).

وفي لفظ آخر أخرجه أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«فأقول أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

قال فأقول:

سحقا سحقا لمن بدل بعدي»(3).

أما بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقد كشفت الأمر على حقيقته القرآنية والواقعية، لأنها عاشت هذه اللحظات التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجرت فيها هذه السنة التاريخية، فقالت عليها السلام

ص: 275


1- صحيح البخاري: ج 4، ص 110. مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 53. المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 447.
2- صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ج 7، ص 68. مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 384. كنز العمال للمتقي الهندي: ج 14، ص 418، المبعث والحشر، الحوض.
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 5، ص 333. صحيح البخاري، كتاب الفتن: ج 8، ص 87. الإيضاح لفضل بن شاذان الأزدي: ص 233. إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 14، ص 223.

وقد خصت الأنصار في خطابها فتوجهت إليهم قائلة:

«يا معشر النقيبة(1) وأعضاد الملة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة(2) في حقي والسنة(3) عن ظلامتي ؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي يقول (المرء يحفظ في ولده)؟»(4).

وهنا:

تجمع الزهراء عليها السلام بين حركة التاريخ لمسار الأنصار في حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحركة التاريخ لمسارهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم تنطلق من هذا البيان إلى تحرك السنن التاريخية في أمة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فتقول:

«سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة(5) ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فخطب جليل: استوسع وهنه(6) واستنهر(7) فتقه وانفتق رتقه، واظلمت الأرض لغيبته، وكسفت

ص: 276


1- النقيبة: الفتية.
2- الغميزة: بفتح الغين المعجمة الزاي - ضعفة في العمل.
3- السِنة: النوم الخفيف.
4- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 139. الانتصار للعاملي: ج 7، ص 373.
5- إهالة: بكسر الهمزة: الدسم، وسرعان ذا إهالة: مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته.
6- وهنه الوهن: الخرق.
7- واستنهر: اتسع.

الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال(1)، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة(2) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه، في أفنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في أفنيتكم هتافا، وصراخا، وتلاوة، وألحانا، ولقبله ماحل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حتم:

وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ (3) »(4).

المسألة الخامسة: سنة ظلم آل الأنبياء عليهم السلام وآثارها على الأمة

إن جميع السنن الكونية التي سنها الله تعالى ولاسيما السنن التاريخية تكون مصحوبة بمجموعة من الآثار حال وقوعها، وقد نجد أن بعض هذه السنن لها قابلية الدفع بآثارها إلى أزمنة متعاقبة، بل يظهر أن بعض السنن لها ديمومة هائلة في المحافظة على آثارها ما دامت هناك حياة على الأرض، أي أن هذه الآثار باقية ببقاء الليل والنهار، ومستمرة باستمرار البشرية، وهذا يكشف عن عظم هذه السنة التاريخية الإلهية وخطورة الوقوع فيها.

ص: 277


1- أكدت: قل خيرها.
2- بائقة: داهية.
3- سورة آل عمران، الآية: 144.
4- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 139-140. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 227. أعيان الشيعة لسيد محسن الأمين: ج 1، ص 317.

ومن أبرز هذا النوع من السنن، هي سنة ظلم آل الأنبياء عليهم السلام.

ويختلف نوع الظلم النازل بأنبياء الله تعالى حسب الظروف التي ينشأ فيها الظلم والأفراد والزمان والمكان، إلا أنّ من أكبر ما يقع على الأنبياء من الظلم هو ما يصيب أبناءهم، لما وضعه الله تعالى من عاطفة خاصة وعلاقة حميمة بين الآباء والأبناء.

وحينما يستعرض القرآن أنواع الأذى الذي أصاب الأنبياء عليهم السلام وما تبعه من آثار على الأمم نجده يقدم ثلاثة أنواع من الأذى، وهي (الأذى العقائدي، والأذى الجسدي، والأذى النفسي.

فالنوع الأول انحصر في تكذيبهم والاستهزاء بهم واتهامهم بالجنون.

وفي النوع الثاني انحصر الأذى في التعرض إلى أجساد الأنبياء عليهم السلام من الضرب والجوع والقتل.

وفي النوع الثالث انحصر الأذى في التعرض لآل الأنبياء وأرحامهم ومن آمن بهم.

أما آثار النوع الأول من الأذى فقد أظهره القرآن في قوله تعالى:

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنٰاهُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (1) .

وهم قوم هود عليه السلام، وفي قوم شعيباً عليه السلام وهم أصحاب الأيكة قال عزّ وجل:

ص: 278


1- سورة الشعراء، الآية: 139.

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذٰابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ إِنَّهُ كٰانَ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (1) .

وفي قوم مدين حينما كذبوا شعيب عليه السلام قال تعالى:

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ (2) .

ويلاحظ في هذه الآية وغيرها التي تبين السنن التاريخية الإلهية في الأمم السابقة أن هذا البلاء حينما يقع على الأمم يكون في حياة الأنبياء عليهم السلام فيبيد الله تعالى هذه الأمم الظالمة وينجي أنبياءه عليهم السلام ثم يرسلهم الله تعالى إلى أمة أخرى وقوم آخرين كما تحدثت الآيات عن شعيب عليه السلام أو خروج لوط من قريته أو انتقال إبراهيم عليه السلام من العراق إلى بيت المقدس ثم إلى مكة وهكذا.

وفي صورة النوع الثاني من الأذى، وهو الأذى الجسدي وما يتبعه من آثار على الأمة فقد أظهره القرآن في قوله تعالى:

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ وَ بٰاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كٰانُوا يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ (3) .

وفي صورة النوع الثالث من الأذى الذي ينزل بالأنبياء عليهم السلام وما يتبعه من آثار، قال تعالى:

ص: 279


1- سورة الشعراء، الآية: 189.
2- سورة العنكبوت، الآية: 37.
3- سورة آل عمران، الآية: 112.

فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنٰا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلَيْهٰا بِكُفْرِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً(1) .

فهذه السنة التاريخية وما ارتبط بها من آثار تفاوتت في حجمها وسعتها ودوامها وقوة تأثيرها؛ قد جرت في هذه الأمة الإسلامية بعد وفاة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم بصورها الثلاث.

إلا أن الفارق بين الأمم السابقة وهذه الأمة يكمن في الأمور الآتية:

1 - أن نبي هذه الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وجوده يرفع العذاب عن الخلق، أي ما دام حيا فإن العذاب لا ينزل بأمته وإن كذبوه ورضخوه بالحجارة وأدموه وجوّعوه وهجّروه وآذوا أهل بيته وقتلوا رحمه كحمزة بن عبد المطلب وما قامت به هند زوجة أبي سفيان من التمثيل بجسده، وقتل جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، ناهيك عن الأذى البالغ الذي كان ينزله المنافقون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمور أخرى كثيرة يطول ذكرها.

إذن: وجوده صلى الله عليه وآله وسلم بين أمته كان يرفع عنهم العذاب.

قال تعالى:

وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ (2) .

ص: 280


1- سورة النساء، الآية: 155-156.
2- سورة الأنفال، الآية: 33.

2 - لكونه الرحمة التي أرسلها الله للعالمين، ووجود الرحمة يرفع العذاب وإن وقع الأذى عليه صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (1) .

3 - لكونه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعُ على قومه على الرغم من إيذائهم له، وكان يقول - بأبي وأمي -:

«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»(2).

لكن الأمر بعد موته اختلف كليا، فقد رفعت تلك السنن والقوانين الإلهية التي جعل الله قيامها وحركتها بوجوده صلى الله عليه وآله وسلم، أي: تحرك السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة فيما قدموا على ظلم الأنبياء عليهم السلام وتغلغل آثار هذه السنن ونفوذها في حال وقوعها.

وهو الأمر الذي أظهرته بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حينما توجهت بخطابها إلى الأنصار خاصة، فقالت عليها السلام:

أيْها بني قيلة! أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومبتدأ ومجمع ؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم

ص: 281


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- العقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي: ص 51، ح 37. تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 62، ص 247، برقم 7932. الدر المنثور لجلال الدين السيوطي: ج 3، ص 94. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 21، ص 119، ح 17. ذكر أخبار إصبهان للحافظ الإصبهاني: ج 2، ص 149.

موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنجبة التي انتجبت، والخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الاسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنى حرتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الاقدام، وأشركتم بعد الايمان.

أَ لاٰ تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرٰاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) .

ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم، ف -:

إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللّٰهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(2) »(3).

ويظهر هنا في كلامها عليها السلام: تقديم الحركة التاريخية لمسير الأنصار في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته مع وقوع السنن التاريخية، ولاسيما سنة ظلم الأنبياء عليهم السلام في أنفسهم ممثلا ذلك في آل الأنبياء عليهم

ص: 282


1- سورة التوبة، الآية: 13.
2- سورة إبراهيم، الآية: 8.
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 140. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 228.

السلام؛ وبخاصة أنها ابنته الوحيدة التي خصها بخصائص عديدة تكشف عن مدى قربها من شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فهي قلبه وروحه التي بين جنبيه مع اختصاصها بموصول الأذى والغضب والرضا بشخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كما دلت عليه النصوص المتضافرة، والمشهورة عند المسلمين.

ومع علمهم بما خصها الله تعالى من الكرامة والارتباط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يترتب على إيذاء رسول الله من آثار خاصة تتناسب مع مقامه وكرامته عند الله تعالى، إلا أن ذلك لم يكن بحائل ولا مانع لهم من إيذائها عليها السلام، ليناولوا بذلك ما اقترن بهذه السنة التاريخية من آثار خاصة كشفتها لهم الزهراء عليها السلام فقالت:

«ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة(1) التي خامرتكم(2)، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور(3) القنا(4)، وبثة الصدر، وتقدمة الحجة.

فدونكموها فاحتقبوها(5) دبرة(6) الظهر، نقبة الخف(7)، باقية العار، موسومة بغضب

ص: 283


1- الخذلة: ترك النصر.
2- خامرتكم: خالطتكم.
3- الخور: الضعف.
4- القنا: الرمح؛ والمراد هنا من ضعف القنا، ضعف النفس عن الصبر على الشدة.
5- فاحتقبوها: فاحملوها على ظهوركم.
6- دبرة: دبر البعير، أصابته الدبرة بالتحريك وهي جراحة تحدث من الرجل.
7- نقبة الخف: نقب خف البعير رق وثقب.

الله وشنار الأبد، موصولة ب -:

اَللّٰهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ (1) .

فبعين الله ما تفعلون.

وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (2) »(3).

المسألة السادسة: سنة رين القلوب بين الأسباب والنتائج

من السنن التاريخية التي عرضها القرآن مجملا ومفصلا هي سنة رين القلوب، فمن حيث المجمل يذكر القرآن الأسباب التي تؤدي إلى تكون هذه السنة وآثارها ممثلا ذلك بالنتائج.

قال تعالى:

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ وَ مٰا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاّٰ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا قٰالَ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (4) .

وذكرها القرآن مفصلا في سير حديثه لنتائج تكذيب الأنبياء عليهم السلام ويظهر من العرض المجمل والمفصل لهذه السُنة التاريخية أن الأساس في تكونها هو

ص: 284


1- سورة الهمزة، الآية: 6-7.
2- سورة الشعراء، الآية: 227.
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 141. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 29، ص 229. مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 50.
4- سورة المطففين، الآية: 10-14.

التكذيب بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام إلى أقوامهم فيلحقه التكذيب باليوم الآخر، ليصل إلى ذروته في حجب الأذن عن كل موعظة أو إنذار أو تحذير أو آية أو معجزة فيكون عند ذلك الرين على القلوب أي حجبها وصدأها وموتها عند ذلك فلا حياة لها.

وإذا ما وصلت القلوب إلى تلك المرحلة تمادت في الظلم وظهر منها ما لم يظهر من أشد الوحوش قساوة وشراسة والعياذ بالله.

ولذلك تتوجه صلوات الله وسلامه عليها السلام في بيانها لهذه السنة التاريخية وما يعقبها من نتائج إلى عامة الناس من المهاجرين والأنصار والأعراب، لأن الأمر لم يتعلق بفئة محددة بل بقانون إلهي وسنة ربانية جرت في جميع الأمم السابقة، وقد وقعت في هذه الأمة.

فقالت عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وولدها الصلاة والسلام:

«معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل المغضية على الفعل القبيح الخاسر.

أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا(1) .

كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأولتم، وساء ما به أشرتم، وشر ما منه اغتصبتم، لتجدن والله محمله ثقيلا، وغبه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء، وبان بأورائه الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون»(2).

ص: 285


1- سورة محمد، الآية: 24.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 144.

المسألة السابعة: سنة الاستقامة في السلوك

في الوقت الذي كانت فيه فاطمة الزهراء عليها السلام تحذر المسلمين من الوقوع في فم السنن التاريخية التي توجدها السلوكيات المنحرفة فتقذف بها في الهاوية والخسران المبين، كانت عليها السلام أيضا تذكر بالسنن التاريخية التي تكون وليدة السلوكيات المستقيمة والمنضبطة بضوابط الشريعة المقدسة، وما تثمره من نتائج خيرة تعود على الإنسان بالسرور والخير والبركة في الدنيا والآخرة.

قالت عليها السلام:

«وما الذي نقموا من أبي الحسن عليه السلام ؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وقلة مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال(1) وقعته، وتنمره(2) في ذات الله.

وتالله لو مالوا عن المحجة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيرا سجحا(3)، لا يكلم(4) حشاشه، ولا يكل(5) سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا(6)، صافيا، رويا، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطانا، ونصح لهم سرا وإعلانا، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل(7)، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم: الزاهد من

ص: 286


1- النكال: ما نكلت به غيرك كائنا ما كان.
2- تنمر: عبس وغضب.
3- سجحا: سهلا.
4- يكلم، كلمه: جرحه.
5- يكل: يتعب.
6- النمير: الأبيض.
7- النائل: مثل الذي يعدو وعليه حمل ينهض به، أي لم يكن يحتمل من الدنيا بحمل.

الراغب والصادق من الكاذب.

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (1) . وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هٰؤُلاٰءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا وَ مٰا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (2) »(3).

وقد حددت عليها السلام آثار هذه السنة التاريخية، أي سنة الاستقامة بالعوائد التالية:

1 - الرد إلى الشريعة السمحاء، أي دفع الوقوع في الشبهات.

2 - حمل الأحكام الشرعية فيكون الناس فقهاء عرفاء بشريعتهم فلا وجود للجهل بينهم، أي رفع المستوى التعليمي عند هذه الأمة لتكون كما أراد الله لها خير أمة أخرجت للناس، ولكي تستطيع أن تمارس دورها الإرشادي للأمم. قال تعالى:

وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .

3 - سهولة السير في متطلبات الحياة سواء الدنيوية أو الأخروية. وهو قولها «ولسار بهم سيراً سجحا».

ص: 287


1- سورة الأعراف، الآية: 96.
2- سورة الزمر، الآية: 51.
3- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 147-148. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 43، ص 160.

4 - طبيعة هذا السير وصفاته ثلاث.

ألف. عذوبة الحديث.

باء. لا يتعب السائر من سيره.

جيم. ولا يمل الراكب من ركوبه.

5 - المكان الذي سيصلون إليه في هذا السير الذي يسيرون به مع علي عليه السلام سيأخذهم من خلاله إلى مكان يتصف بصفات عدة، وقد شبهته عليها السلام بالنهر الجاري دلالة على العيش الرغيد ومن صفاته:

أ. العذوبة.

ب. الصفاء.

ج. يروي من العطش.

د. الكثرة.

ه -. تطفح ضفتاه.

و. لا يتجمع الطين على جوانبه.

ز. وأن الشارب من هذا الماء يصدر عنه، أي ينتقل عنه وهو ريّان.

6 - إن هذه السنة التاريخية ومما تقدمه من ثمار وفوائد، مشروطة بأن يكون القائد أو الحاكم ناصحاً لرعيته في السر والعلن.

ثم تنعطف عليها السلام إلى ثمار اتباع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التمسك بوصيه؛ فتذكر لهم صفات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بوصفه إماماً وحاكماً وراعياً لهم - كما مرّ -.

ص: 288

المسألة الثامنة: سنة ترك التمسك بأحكام الله عزّ وجل بين المقدمات والنتائج

حينما بينت الزهراء عليها السلام سنة الاستقامة في السلوكيات البشرية ونتائجها الإيجابية على الإنسان في الدارين، تنتقل عليها السلام بعد ذلك لبيان العكس أي سنة ترك الاستقامة والتمسك بأحكام الله تعالى، وتُظهر أيضا مقدمات هذه السنة التاريخية ونتائجها على مصير المجتمع الذي تجري فيه.

قالت عليها السلام:

«ليت شعري إلى أي أسناد استندوا؟! وإلى أي عماد اعتمدوا؟! وبأية عروة تمسكوا؟! وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا(1) لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا»(2).

حينما سارت هذه الأمة سير الأمم السابقة ووقعت في فم السنن التاريخية التي مر ذكرها فكانت النتائج مضاعفة، والآثار مستمرة فمن البديهي أنها ستسير نحو الهلاك والتمادي في الظلم والضلال.

ولذلك: كانت تتعجب من هذا السلوك المتغير بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل تضع المقدمات لما هو أسوأ آثارا من جميع السنن التاريخية الأخرى.

فتقول عليه السلام:

ص: 289


1- احتنكوا: استولوا عليهم، أنظر: الصحاح للجوهري: ج 4، ص 158.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 148. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 43، ص 160. صحيفة الزهراء عليها السلام، جَمَعَهُ الشيخ جواد القيومي: ص 254.

«استبدلوا الذنابى والله بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لٰكِنْ لاٰ يَشْعُرُونَ (1) . ويحهم.

أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (2) »(3).

أما النتائج المفجعة والفادحة لسلوك الأمة هذه السنة التاريخية، فتظهرها لهم بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فتقول عليها السلام:

«أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملء القعب دما عبيطا وذعافا مبيدا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون، غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن دنياكم أنفسا، واطمئنوا للفتنة جأشا، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا حسرة لكم، وأنى بكم، وقد عميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون»(4).

ص: 290


1- سورة البقرة، الآية: 12.
2- سورة يونس، الآية: 35.
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق رحمه الله: باب معاني قول فاطمة عليها السلام، ص 355. دلائل الإمام لمحمد بن جرير الطبري الإمامي: ص 127. أمالي الطوسي: ص 375. الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 148. بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 43، ص 158.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 43، ص 160-161. الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 148.

هذا الكم الكبير من المفاهيم والرؤى والتشخيص لحركة التاريخ وسننه الذي ورد في القرآن ومن العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام أعطى دفعا قويا لمن تتلمذ في هذه المدرسة على التخصص في هذا الفن والإحاطة به.

بل قد شكل هذا التشخيص والدراسة لحركة التاريخ والسنن التاريخية من قبل القرآن والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام وبضعة النبي فاطمة الزهراء عليها السلام بخلق حالة متميزة من الوعي التاريخي والنقد والفهم والدراسة الدقيقة والمتأنية لما حدث وما يرتبط في كينونته من الزمان والمكان والأفراد والرواة والدوافع والأسباب والنتائج.

تم هذا الجزء بحمد الله تعالى فله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم ويليه الجزء السادس بإذنه تعالى وحوله وقوته.

وهو: مصائب فاطمة عليها السلام ومحنتها بين المأساة والرسالية.

وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (1) .

رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (2) .

وَ سَلاٰمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (3) .

ص: 291


1- سورة هود، الآية: 88.
2- سورة البقرة، الآية: 127.
3- سورة الصافات، الآية: 181.

ص: 292

المحتويات

توطئة 7

المبحث الأول: مستوى عبادتها لله تعالى 10

المبحث الثاني: نوافلها 16

المسألة الأولى: نوافلها المخصوصة بالأزمنة 16

أولاً: صلواتها في ليلة الأربعاء وما لها من الآثار 16

ثانياً: صلاتها في يوم الجمعة وما لها من الآثار وتسمى ب - (صلاة الأوابين) 19

المسألة الثانية: نوافلها المخصوصة بالحاجات للدنيا والآخرة 23

أولاً: صلاتها لطلب الرزق 23

ص: 293

ثانياً: صلاتها لقضاء الحوائج التي علمها جبرائيل عليه السلام 25

ثالثاً: صلاتها لكل أمر مخوف 27

رابعاً: صلاتها لقضاء الحوائج وقد علمها رسول الله أن تصليها 29

المسألة الثالثة: خشوعها في الصلاة وخوفها من الله 30

المبحث الثالث: تسبيح فاطمة عليها السلام 33

المسألة الأولى: سبب صدور التسبيح 34

المسألة الثانية: في كيفية التسبيح 36

المسألة الثالثة: آثار تسبيح فاطمة عليها السلام الأخروية 37

أولاً: إن تسبيح فاطمة أحب إلى الله تعالى من ألف ركعة 37

ثانياً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام هو المخصوص بالذكر الكثير الذي نص عليه القرآن 37

ثالثاً: تسبيح فاطمة بعد الفريضة يوجب غفران الذنوب 38

رابعاً: تسبيح فاطمة عليها السلام بعد الفريضة يوجب الجنة 39

خامساً: تسبيح فاطمة عليها السلام يطرد الشيطان ويرضي الرحمان 39

سادساً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام أفضل التمجيد 39

المسألة الرابعة: آثار تسبيح فاطمة الدنيوية 40

أولاً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام يحفظ النفس والمتاع في السفر 40

ثانياً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام يطرد مردة الشياطين في الليل والنهار 41

ثالثاً: إن تسبيح فاطمة عليها السلام ينفع لمن أراد أن يرى ميت له في المنام 42

المسألة الخامسة: آثار تسبيح فاطمة عليها السلام العلاجية 42

أولاً: تسبيح فاطمة ينفع لعلاج ضعف القلب والبدن 43

ثانياً: يستخدم تسبيح فاطمة عليها السلام لعلاج قلة السمع 43

ثالثاً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء في الأمر العظيم

ص: 294

الفادح وكشف الهم والغم وغيرها 46

رابعاً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء عند النوم 46

خامساً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء لقضاء الدين، والغنى من الفقر 47

سادساً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء عند نزول المصيبة، والخوف من السلطان، أو عند ضياع ضالة 47

سابعاً: ما علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء لدفع الحمى والنجاة منها، وهو المعروف بدعاء النور 48

المبحث الرابع: أدعيتها المخصوصة بأيام الأسبوع، ولبعض الحوائج 51

المسألة الأولى: أدعيتها المخصوصة لأيام الأسبوع 51

أولاً: دعاء يوم السبت 51

ثانياً: دعاء يوم الأحد 52

ثالثاً: دعاء يوم الاثنين 52

رابعاً: دعاء يوم الثلاثاء 52

خامساً: دعاء يوم الأربعاء 53

سادساً: دعاء يوم الخميس 53

سابعاً: دعاء يوم الجمعة 53

المسألة الثانية: أدعيتها لبعض الحوائج 54

أولاً: دعائها لخير الدنيا والآخرة 54

ثانياً: دعائها لوالديها والتوفيق للعمل الصالح وتيسير الأمور 54

المسألة الثالثة: ما علمته لبعض المؤمنين من الأدعية 55

أولاً: دعاء علمته لرجل كان محبوساً في الشام 55

ثانياً: الدعاء الجامع الذي علمته لرجل من ذريتها 55

ثالثاً: روايتها لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المسجد 57

ص: 295

المبحث الخامس: ما تدعو به من الأدعية بعد الصلوات اليومية 58

المسألة الأولى: دعاؤها عقيب صلاة الصبح، المسمى ب - (دعاء الحريق) 58

المسألة الثانية: دعاؤها عقيب صلاة الظهر 66

المسألة الثالثة: دعاؤها عقيب صلاة العصر 70

المسألة الرابعة: دعاؤها عقيب صلاة المغرب 74

المسألة الخامسة: دعاؤها عقيب صلاة العشاء 78

المبحث السادس: دعاؤها في مصائبها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 83

المسألة الأولى: ما دعت به حينما قيل لها: ألا تشتكين إلى عمك العباس 83

المسألة الثانية: دعائها حينما اشتد بها المرض والمصاب 84

المسألة الثالثة: دعاؤها في مرضها للعصاة من أمة أبيها 84

المبحث السابع: خادمتها ودايتها ومولاتها 85

المسألة الأولى: خادمتها فضة النوبية 86

أولاً: كيف جاءت إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام 86

ثانياً: اشتراكها مع علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في سبب نزول سورة هل أتى 88

ثالثاً: كيفية تعامل الزهراء عليها السلام مع خادمتها فضة 89

رابعاً: استمرارها في خدمة أمير المؤمنين عليه السلام بعد استشهاد فاطمة عليها السلام 91

خامساً: ما عرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضة من الدعاء 93

المسألة الثانية: دايتها ومولاتها 94

أولاً: دايتها 94

ثانياً: مولاتها 95

ص: 296

المبحث الأول: علم فاطمة عليها السلام 99

المسألة الأولى: علمها بما كان ويكون ومنشئ ذلك العلم 102

أولاً: العلم اللّدني هو باب خاص من أبواب العلم، وفاطمة عليها السلام ممن اختصت به وبغيره من أبواب العلم. 103

ثانياً: إنها مخلوقة من نور العلم الإلهي 107

المسألة الثانية: علمها الذي أخذته عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلما وما روت عنه 114

أولاً: ما روته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أبواب الفقه 117

ألف: الصلاة الواجبة 117

باء: في العتق 118

جيم: في المسكر 118

دال: في التختم 118

هاء: الرجل أحق بصدر دابته والصلاة في منزله 119

واو: في أجر المريض عند الله تعالى 120

زاي: ما يقرأ من الأذكار قبل النوم 120

حاء: في ثواب قراءة سورة الرحمن والواقعة والحديد 121

طاء: في التعامل مع المجذوم 121

ثانيا: ما روته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآداب والسنن 122

ألف: في النهي عن البخل وبيان مضاره 122

باء: في عاقبة الظلم 122

جيم: في إكرام الضيف، وفضل السكوت إلاّ في قول الخير 123

دال: أربع صفات من كن فيه كان من شرار الأمة 123

هاء: في غسل اليدين من الطعام 123

ص: 297

ثالثا: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفضائل 124

ألف: في بيان عمر الأنبياء عليهم السلام 124

إنّ أشد الناس بلاءً هم الأنبياء 124

باء: روايتها لحديث الكساء 125

جيم: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام 129

1 - روايتها لحديث الغدير 129

2 - من كنت وليه فعلي وليه 130

3 - إن علي عليه السلام نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم 130

4 - إنك وشيعتك في الجنة 131

5 - في حال الملكين الكاتبين الذين صحبا الإمام علي عليه السلام 131

6 - إن الله تعالى غفر لعلي خاصة في عشية عرفة 131

7 - إن علياً عليه السلام هو المخصوص بقوله عزّ وجل: 132

8 - إن الله تعالى يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإسراء والمعراج بأن علي ولي الله ويشهد على ذلك الملائكة 133

9 - إن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم وشيعة علي عليه السلام يدعو بأسماء آبائهم 133

دال: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولديها الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين 134

رابعا: ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغيبيات 135

2 - حديث النساء المعذبات 138

المبحث الثاني: مصحف فاطمة صلوات الله عليها 140

المسألة الأولى: ما هو مصحف فاطمة عليها السلام 140

المسألة الثانية: إن دلالة الروايات تكشف عن أن مصحف فاطمة يتكون من ثلاثة أجزاء متخصصة في محتواها 145

أولاً: إنّ الجزء الأول من مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها وهو من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام 146

ثانياً: إنّ الجزء الثاني خلقه الله تعالى بقدرته وأنزله بواسطة الملائكة

ص: 298

المقربين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 148

ثالثاً: إنّ الجزء الثالث من مصحف فاطمة عليها الصلاة والسلام وهو من إملاء جبرائيل عليه السلام وخط علي أمير المؤمنين عليه السلام 152

المسألة الثالثة: إن مصحف فاطمة عليها السلام مصدر من مصادر علوم العترة النبوية التي من خلالها لا يحتاجون إلى أحد من الناس 154

المسألة الرابعة: إن مصحف فاطمة عليها السلام هو أحد العلامات الدالة على الإمام المعصوم 159

المبحث الثالث: فقه فاطمة عليها السلام 162

المسألة الأولى: في حثها عليها السلام على التفقه في الدين وبيان آجر العالم وفضله 165

المسألة الثانية: ما روي عنها في بعض مسائل العبادات 167

أولاً: في لباس المصلي للمرأة 169

ثانيا: في أن المرأة الحائض تقضي ما فاتها من الصوم ولا تقضي الصلاة 169

ثالثا: في جواز مضخ الصائم للطعام دون إدخاله إلى جوفه 170

رابعاً: في حكم دخول الرجل الأعمى على المرأة الأجنبية عنه 170

خامساً: في تعظيم ليلة القدر 171

سادساً: في جواز صلاة النساء على الجنائز 171

سابعاً: في استحباب لزوم المرأة دارها 172

ثامناً: زيارتها لقبر عمها حمزة بن عبد المطلب، وقبور شهداء أحد 173

تاسعاً: بكائها على عمها جعفر الطيار وتكفلها بإطعام آل جعفر ثلاثة أيام 175

عاشراً: حجها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع 177

الحادي عشرة: في الآداب والسنن 180

ألف: في كيفية تعظيم الوالدة 180

باء: في إتحاف المؤمن لأخيه 180

المبحث الرابع: بعض النظريات من الفكر الفاطمي 181

ص: 299

المسألة الأولى: الفرق بين النظرية والفرضية، وبما تمتاز النظرية عند الزهراء عليها السلام 182

أولاً: ما هي النظرية ؟ 182

ألف/ النظرية الفرضية، الاستنتاجية 182

باء/ النظرية الوظيفية 182

جيم/ النظرية الاستقرائية 182

دال/ النموذج 183

ثانيا: وظائف النظرية 183

ثالثا: الفرق بين النظرية والفرضية 184

رابعا: الفرق بين نظرية المعصوم وغيره من الناس 185

المسألة الثانية: نظريتها في النظام والضبط الاجتماعي 188

1 - مذهب العقد الاجتماعي 191

2 - نظرية التقدم 192

3 - نظرية الوظيفية 192

المسألة الثالثة: نظريتها في الأبوة الدينية والنسبية 197

أولاً: النصوص الواردة في أبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام لهذه الأمة 200

ثانيا: معنى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام أبوا هذه الأمة 202

ثالثا: العلة في تعظيم حق الأبوة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق الأبوة النسبية للمسلم 206

المسألة الرابعة: نظريتها في حب الدنيا 212

أولاً: دور الإنفاق في بناء شخصية الإنسان وتحديد ملامح هذه الشخصية 215

ثانياً: دور تلاوة القرآن في بناء شخصية الإنسان 218

ثالثا: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره في بناء الشخصية 222

المسألة الرابعة: نظريتها في العبادة 226

ص: 300

المبحث الخامس: حركة التأريخ عند فاطمة عليها السلام 230

المسألة الأولى: تشخيصها عليها السلام لبدء حركة التاريخ 231

المسألة الثانية: تحديد حركة تاريخ النبوة 234

المسألة الثالثة: وقائع الحركة التاريخية الأممية 237

المسألة الرابعة: حركة تاريخ العرب قبل الإسلام في نظر سيدة النساء عليها السلام 239

المسألة الخامسة: بيان إنجازات النبوة في حركتها التاريخية 244

المحور الأول 244

المحور الثاني 246

المحور الثالث 246

المسألة السادسة: حركة تاريخ الصحابة وأهل البيت عليهم السلام في حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم 247

أولاً: دلالة تحديد الحركة التاريخية لكلا المسارين 248

ثانيا: تباين المسارين في الحركة التاريخية 248

المسألة السابعة: الحركة التاريخية للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 254

أولاً 256

ثانياً 256

ثالثاً 256

المسألة الثامنة: الوقائع التاريخية التي كانت مقدمات للسنن الأممية 257

الواقعة التاريخية الأولى: (حسكة النفاق، أو حسيكة النفاق) 258

الواقعة التاريخية الثانية: (سمل جلباب الدين) 259

الواقعة التاريخية الثالثة: (نطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين) 262

المبحث السادس: السنن التاريخية عند فاطمة الزهراء عليها السلام 266

ص: 301

المسألة الأولى: سنة الوقوع في الفتنة بين المقدمات والنتائج 267

المسألة الثانية: سنة تضاعف النتائج 269

المسألة الثالثة: سنة تعجيل العذاب 272

المسألة الرابعة: سنة انقلاب الأمم بعد أنبيائها 273

المسألة الخامسة: سنة ظلم آل الأنبياء عليهم السلام وآثارها على الأمة 277

المسألة السادسة: سنة رين القلوب بين الأسباب والنتائج 284

المسألة السابعة: سنة الاستقامة في السلوك 286

المسألة الثامنة: سنة ترك التمسك بأحكام الله عزّ وجل بين المقدمات والنتائج 289

المحتويات 292

ص: 302

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.